نيل المارب بشرح دليل الطالب

ابن أبي تغلب

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م مكتبة الفلاح - الكويت ص. ب 4848 - الكويت - شارع بيروت - عمارة الحساوي مقابل بريد حولي - تليفون 547784

نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام المؤمنين، الذي أقام الله به الدين، وأثبت به حجّته على العالمين، وأظهر به الحق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فصلى الله عليه وعلى إخوانه النبيين وعلى آله وصحبه الهداة المهديين، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد، فإن الفقه الإسلامي وهو ثمرة أدلة الأحكام الشرعية الفرعية، وثمرة اجتهاد النخبة من علماء الملة، جمعه الجهابذة الأعلام في مؤلفات بين مطوّلات ومختصرات، ذكروا فيها ما علموه أو غلب على ظنهم من أحكام الله تعالى من أفعال العباد، تيسيراً للعمل بشريعة الله، وتعليماً للناس، وإبلاغاً لهم. واستقرّت تلك المؤلفات على أوضاع معينة. وإن كان اختلاف العصور يستدعي تغييراً في الأساليب والتعبير، وتغييراً في طرق التأليف، وتعديلاً في موضوعات المسائل، حتى يهمل ما لم يعد الناس بحاجة إليه، ويدخل ما هم بحاجة إليه مما استدعته التطورات الاقتصادية والسياسية وغيرها، وتيسيراً في طرق العرض تستفيد من الأوضاع الجديدة في علوم التربية والمناهج، من كل ما يسهّل قبول أحكام الله تعالى والعمل بها. بالإِضافة إلى حاجتها إلى تنقيح جملة كثيرة من مسائل الفقه اتبع بعض الفقهاء فيها بعضاً، ولعل مبنى كثير منها حديث ضعيف، أو قياس باطل، أو مصلحة موقوتة، أو وهم عابر.

فما أحوج الفقه الإِسلامي إذن إلى ثورة جديدة تعيده إلى قمة الحيوية والنشاط، وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون في تراثنا الفقهي ثروة وأي ثروة، هي كنوز من المعرفة لا تعدلها الكنوز. وإن إخراج تلك الكنوز إلى حيز النور، على وضع يليق بها، لهو من خير مما ييسّر السبيل لثورة الفقه المنشودة. وهذا الكتاب الذي نضعه بين يديك قارئي العزيز، هو خلاصة ما استقر عليه العمل في المذهب الحنبلي، وهو المذهب الذي تميز بمزيد قربه من الكتاب والسنة، إذ إنه في أصله قام على كراهية القول بالرأي في مسائل الدين، وعلى الاعتماد على الآيات والأحاديث والآثار. نقدمه لك، ونحن نبين لك -إن كنت من أهل العلم والنظر- أن واجبك الأخذ بدلالة الكتاب والسنة، والعود إليهما في كل ما تعتقد من أحكام الدين، وأنه ليس لك أن تأخذ بقول مما في هذا الكتاب ولا غيره ما لم يتبين لك أنه الحق بدليله. وإنما هذا الكتاب وأمثاله يبصّرك بالطريق، ويفرّع لك المسائل، ويعطيك فيها حكماً. وعليك أن تنظر وتقارن، وتستدل وتستوضح. والله الهادي إلى أقوم طريق. ونقدم لك بين يدي الكتاب ترجمة لصاحب المتن وصاحب الشرحِ ونقدم أيضاً بيانات عن العملين، ثم نقدم ترجمة للمحقق بقلمه، وبيانًا لنهجه في التحقيق.

الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي صاحب متن دليل الطالب (1033هـ)

الشيخ مرعي بن يوسف الكَرمي صَاحِب مَتنِ دَليلِ الطَّالب (1033هـ) هو مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد، الكرمي ثم المقدسي. نسبته إلى "طُوركَرْم" وهي قرية من قرى نابلس، تقع غربيها إلى جهة البحر، تبعد عنها قريباً من 16 كيلو متراً. وهي الآن مدينة، ومركز قضاء. وتسمى في لسان أهل فلسطين الآن "طولْكرمْ ". ويظهر من كلام الذين ترجموا له أنه ولد في طولكرم، ثم انتقل إلى القدس، ثم إلى القاهرة واستوطنها. وبها توفي ودفن بتربة المجاورين. أخذ في بلاده عن الشيخ محمد المرداوي، والقاضي يحيى بن موسى الحجاوي. وفي مصر عن الشيخ محمد حجازي، والشيخ أحمد الغنيمي، وغيرهم كثير. قال فيه المحبّي: "أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر. كان إماماً محدثاً فقيهاً، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفةٍ تامة بالعلوم المتداولة. وتصدر للإِقراء والتدريس بالجامع الأزهر، ثم تولّى المشيخة بجامع السلطان حسن. وكان منهمكاً على العلوم انهماكاً كلِّيًّا، فقطع زمانَهُ بالِإفتاء والتدريس، والتحقيق والتصنيف. فسارت بتآليفه الركبان وتحدث بها الناس زماناً بعد زمان. ومع كثرة أعدائه وأضداده ما أمكن أن يطعن فيها أحد، ولا أن ينظر فيها بعين الِإزراء". ويتبين من قائمة مؤلفاته أنه كان مفسراً أيضاً وأديباً ومؤرِّخاً. وله في التصوف ضلع.

من مؤلفاته "غاية المنتهى في الجمع بين الإِقناع والمنتهى" طبع حديثاً على نفقة حاكم قطر. ومنزلة هذا الكتاب عالية بين كتب المذهب أثنى عليه الشيخ عبد القادر بن بدران في المدخل وقال: "سلك فيه مؤلفه مسالك المجتهدين -أي في التصحيح والترجيح- ولكنه جاء على حين فترة من علماء هذا المذهب، فلم ينتشر انتشار غيره". وعليه شرحه المشهور "مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى" في خمسة مجلدات. وهو مطبوع متداول. وقد أورد المحبّيّ قائمة مؤلفاته فزادت عن السبعين، ونقلها عنه صاحب "مختصر طبقات الحنابلة" ص 99، وأوردها كذلك صاحب "هدية العارفين" مرتبة على الحروف. فليرجع إليها من شاء. إلا أننا نودّ الإِشارة إلى أن تنوعها يدلّ على طول باع المترجم، وحسن تصرفه في كثير من العلوم والآداب. رحمه الله.

دليل الطالب لنيل المطالب

دليل الطالب لنيل المطالب هو متنٌ مختصر مشهور عند الحنابلة. عني به المتأخرون منهم دراسة وشرحاً وتحشية ونظماً، كما تراه في ما يلي. "وذلك لما عرفوه من غزارة علمه وكثرة فوائده ... وما عنوا به إلا لجلالة قدره عندهم ومعرفتهم بما تضمنه من التحقيق، ولهذا قال مؤلفه: لم أذكر فيه إلا ما جزم بصحته أهل التصحيح والعرفان، وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح والإتقان" (¬1). وهو يكاد يكون مختصراً للكتاب المشهور (منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح وزيادات) من تأليف الشيخ أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المصري المشهور بابن النجار (- 972 هـ)، و (المنتهى) كان عمدة المتأخرين في المذهب الحنبلي وقد حُرِّرتْ مسائله على ما هو الراجح في المذهب. بل قد صرح الشيخ محمد بن مانع بأن (دليل الطالب) اختصره مؤلفه من شرح المنتهى، وكذلك صرح به الشيخ صالح البهوتي شارحه، حيث قال في مقدمة شرحه: "لما رأيت مختصر منتهى الِإرادات الموسوم بدليلِ الطالب إلخ" وفي افتتاحية (دليل الطالب) ما لعلّه يشير به إلى هذا إشارةً خفيةً حيث قال: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ... الفائز بمنتهى الإِرادات من ربّه". ¬

_ (¬1) من كلام الشيخ ابن مانع (مقدمة منار السبيل 19/ 1).

شروح دليل الطالب وحواشيه وما خدم به

شروح دليل الطالب وحواشيه وما خُدِم به: 1 - عليه حاشية لابن عوض ينقل منها اللبدي في حاشيته على "نيل المآرب". وذكرها ابن بدران. وهو أحمد بن عوض بن محمد المرداوي المقدسي، تلميذ الشيخ عثمان النجدي. وكان موجوداً سنة 1101 هـ. وقال ابن بدران: إنها في مجلّدين. 2 - وعليه حاشية لطيفة للشيخ مصطفى الدومي الصالحي مفتي رواق الحنابلة في مصر. ذكرها ابن بدران أيضاً. 3 - وعليه حاشية للشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع من أهل عنيزة بالقصيم. وقد طبعت الحاشية المذكورة مع متن الدليل بإشراف الشيخ قاسم بن درويش فخرو. 4 - وعليه شرحٌ للجراعي، وهو إسماعيل بن عبد الكريم بن محيي الدين الدمشقي (1134 - 1202هـ). ذكره ابن بدران أيضاً. وقال: ولم يتمّ الكتاب. 5 - وعليه شرحه للسفاريني، وهو محمد بن أحمد السفاريني (1114 - 1188هـ)، ذكره ابن بدران أيضاً. قلتُ: في "سلك الدرر" (4/ 32): إن هذا الشرح لم يتمّ. 6 - وعليه شرحه للشيخ عبد الله المقدسي، ذكره ابن عوض في حاشيته، على ما في كلام الشيخ محمد بن مانع. 7 - وعليه شرحه المسمى "مسلك الرّاغب شرح دليل الطالب" لمؤلفه الشيخ صالح البهوتي. اطلعت على نسخة بدار الكتب المصرية برقم (62 - فقه حنبلي) من نصفه الأول انتهى فيه إلى باب الوكالة. والنسخة المذكورة كتبت سنة 1234 هـ. وذكرها بروكلمان. 8 - "منار السبيل بشرح الدليل" لمؤلفه الشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويّان (1275 - 1353هـ) وهو مطبوع بإشراف الشيخ

قاسم بن درويش فخرو من أهل قطر، في مجلدين. وامتاز هذا الشرح بكثرة إيراد أحاديث الأحكام عند الاستدلال على مسائلها، إلا أن تفريعاته قليلة بالنسبة إلى ما حواه "نيل المآرب". وقد خرّج أحاديثه تخريجاً فريداً أخونا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" في ثمانية مجلدات فأجاد وأفاد ووفى بالمراد، جزاه الله خيراً. 9 - "نيل المآرب بشرح دليل الطالب". وهو هذا الكتاب الذي نعيد نشره اليوم بفضل الله تعالى. 10 - ونَظَمه محمد بن إبراهيم بن عريكان من أهل القصيم من بلد الخَبْرا. ذكر ذلك الشيخ ابن مانع. 11 - ونظمه أيضاً أحد علماء حلب كما ذكر ذلك الشيخ محمد راغب الطباخ المتوفى بحلب 1370 هـ. على ما ذكره الشيخ ابن مانع أيضاً.

المراجع

المراجع 1 - المحبّي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 358/ 4 2 - محمد جميل الشطي ومحمد زهير الشاويش: تقديم كتاب "غاية المنتهى في الجمع بين الإِقناع والمنتهى" للشيخ مرعي الحنبلي، دمشق، المكتب الإِسلامي، 1378 هـ. 3 - عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 218/ 12 4 - إسماعيل باشا البغدادي: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين. استانبول، مطبعة وكالة المعارف، 1955م 1/ 426 وفيها قائمة كتب مصنّف الدليل. 5 - أسعد طلس: الكشاف عن مخطوطات خزائن كتب الأوقاف، بغداد، 1372 هـ، ص 19 6 - إسماعيل باشا البغدادي: "إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون" 7/ 1 ومواضع منه كثيرة تنظر في "معجم المؤلفين" 219/ 12 7 - عبد القادر بدران: "المدخل إلى مذهب الإِمام أحمد بن حنبل" ص 226، 227

ابن أبي تغلب (صاحب نيل المآرب) (1057هـ - وفي هدية العارفين: 1052 - 1135هـ)

ابن أبي تغلب (صاحب نيل المآرب) (1057هـ - وفي هدية العارفين: 1052 - 1135هـ) هو عبد القادر بن عمر بن عبد القادر بن عمر بن أبي تغلب بن سالم، أبو التُّقى، التغلبيّ، الشيباني، من فقهاء الحنابلة. قال عبد القادر ابن بدران في المدخل: "رأيت في بعض المجاميع نسبته إلى دوما". يغلب على ظنّنا أن شهرته كانت "ابن أبي تغلب" تبعاً لما ذكره البغدادي في "هدية العارفين" حيث قال: "المعروف بابن أبي تغلب" ويكون هذا أولى مما شهره به صاحب "معجم المؤلفين" وصاحب "الأعلام" من أنه "التغلبي". ثم هذه النسبة "التغلبي" يظهر أنها نسبة إلى جدّ جده "أبي تغلب" لا إلى القبيلة العربية المشهورة، فإن نسبته إلى "شيبان"، إن كانت نسبة إلى الجدّ الجاهلي، تنفي ذلك، إذ إن "شيبان" من "بكر بن وائل" وبكر أخت "تغلب" إذ هما ابنا وائل، وهو شعب من ربيعة. والمترجم فقيه حنبلي، صوفي، كان له معرفة بالفرائض. مولده بدمشق، وبها كانت وفاته في 18 من ربيع الآخر ودفن بها بمقبرة مرج الدحداح. ترجم له صاحب سلك الدرر (58/ 3) فقال: "قرأ القرآن العظيم في صغره، ولزم الشيخ عبد الباقي الحنبلي، وولده أبا المواهب. وقرأ عليهما كتباً كثيرة في عدة فنون. وأعاد للثاني درسه. ولازم الشيخ محمد البلباني وأجازه بمروياته". ثم عدّ من شيوخه محمد

مؤلفاته

بن يحيى الخباز البطنيني، وإبراهيم الكوراني المدني، وعثمان القطان، ومحمد بن محمد العيتاوي، وسعودي الغزّي، ومحمد الدلجموني المصري، ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي، وغيرهم ممن ضمّنهم ثَبْتَهُ. وكان يرتزق من عمله في تجليد الكتب ومن ملك له في قرية "دوما". قال المحبي: "وكان ديّناً صالحاً ناسكاً بَشُوشاً، ولا يخالط الحكام". مؤلفاته: لم تذكر المراجعِ التي بين أيدينا لابن أبي تغلب من المؤلفات إلا (نيل المآرب) وإلا "ثبتاً"، ذكره صاحب معجم المؤلفين.

نيل المآرب شرح دليل الطالب

نَيْل المآرب شرح دليل الطالب هذا الكتاب لمؤلفه "ابن أبي تغلب" هو أحد شروح دليل الطالب. وهو في غالبه مستخلص من المنتهى وشرحه للشيخ منصور بن يونس البهوتي. غير أنه ينقل قليلاً عن الفروع والإِنصاف والمغني والمحرر وكشاف القناع وغيرها من كتب الحنابلة. وللشارح المذكور آراء خاصة أدخلها في شرحه، إلا أنها قليلة، والغالب عليه النقل. قال الشيخ عبد القادر بن بدران في "المدخل إلى مذهب الِإمام أحمد بن حنبل" ص 227: "وشرحه هذا متداول مطبوع، ولكنه غير محرر، وليس بواف بمقصود المتن". وأثبت هذا الحكم على هذا الكتاب -الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع رحمه الله في مقدمته لمنار السبيل، فقال أيضاً: "يعوزه التحقيق، وعلى هذا الشرح حاشية للشيخ عبد الغني اللبدي، وهي حاشية مفيدة جدًا تَحَررَ بها شرح التغلبي". ولعل مما يشفع لمؤلِّفه أنه ألَّفه في ريعان الشباب. ففي خاتمته أنه فرغ من تأليفه سنة (1091هـ) ومعنى ذلك أن سنّه إذ ذاك كانت لا تزيد عن 34 عاماً. ولعله شرع فيه ولا يزيد سنه عن الثلاثين.

نسخ هذا الكتاب

وقد يسّر الله تعالى تحرير كثير من مسائله ضمن تحقيقنا هذا كما ستراه إن شاء الله. وإن أمكنت طباعة حاشيته للشيخ اللبدي حصل بها تمام تحرير هذا الشرح إن شاء الله. نسخ هذا الكتاب: أولاً: الطبعات: 1 - طبع نيل المآرب بالمطبعة البولاقية بمصر سنة 1288هـ، في جزأين في مجلد واحد صفحاتهما 316 صفحة، على نفقة رجل من أهالي الكويت اسمه "علي بن محمد بن إبراهيم". وهذه الطبعة وإن كانت جيدة، إلا أنها لا ترقى إلى المستوى الذي عهد من المطبعة البولاقية، من التحقيق والإِتقان. وسوف ترى في تحقيقنا إشارات إلى مواضع كثيرة من الخطأ في الطبعة البولاقية تبيّنت عند المقابلة بنسخة الأوقاف الكويتية، وعند عملنا في تحقيق الكتاب. 2 - وقد أعيد إصدار الكتاب في الكويت سنة 1397 هـ، أعادته مطابع مؤسسة فهد المرزوق الصحفية، بالتصوير عن إحدى نسخ الطبعة البولاقية. إلا أن في هوامشها زيادة تعليقات يسيرة في الصفحات العشرين الأولى منها. وهي تعليقات ليست ذات بال، إذ هي غالباً من بابِ توضيح الواضحات. وقد نقلنا منها في تحقيقنا شيئاً يسيراً. 3 - وأعيد طبع الكتاب في مصر أيضاً في مجلد واحد من جزأين في 385 صفحة بالمطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1324 هـ، وبهامشها "الروض المربع شرح زاد المستقنع" للشيخ منصور بن يونس البهوتي. ومع كل جزء فهرس. ذكر ذلك في فهرس الأزهرية. (جزء 2 - الفقه، ص 651). 4 - ثم أعادت طبعه بمصر أيضاً مطبعة محمد علي صبيح سنة 1374 هـ، في مجلد واحد من جزأين كذلك في 396 صفحة. بتصحيح وإشراف الشيخ رشدي محمد سليمان. ويظهر أن طابعها اعتمد

ثانيا: مخطوطات الكتاب

النسخة البولاقية، إذ إنها حوت أخطاءها كلها وزادت عليها، كما يتبين من التحقيق الذي قمنا به. ثانياً: مخطوطات الكتاب: 1 - نسخة مخطوطة بمكتبة الأوقاف الكويتية (برقم 182خ)، في مجلّد واحد من 397 ورقة ومسطرتها 19 سطراً. وهي نسخة كثيرة الخطأ والتحريف. وهي بقلم كاظم بن الحاج عبد الله طعمة (؟) "الشافعي مذهباً، والبغدادي منبتاً ومسكناً" فرغ منها سنة 1235 هـ. وقد اعتمدنا عليها في التحقيق كثيراً. 2 - نسخة أخرى بمكتبة الأزهر في مجلّد بقلم معتاد بخط مصطفى بن عبد الله السفاريني الحنبلي، كتبت سنة 1209هـ، بهامشها حواشٍ وبها تلويث وأكل أرضة في 227 ورقة. ومسطرتها 24 سطراً (فهرس الأزهرية جـ2 - فقه حنبلي [69]، 15701) 3 - نسخة أخرى بمكتبة الأزهر في مجلد بقلم معتاد بخط حسن بن عبد العليم صالح، كتبت سنة 1285 هـ، بها أكل أرضة. في 271 ورقة ومسطرتها 21 سطراً. (فهرس الأزهرية جـ2 - الفقه الحنبلي ص 652 برقم [86] 22636) 4 - نسخة أخرى بمكتبة الأزهر في مجلد بقلم معتاد بخط محمود بن ياسين بن طه بن أحمد اللبدي الحنبلي، كتبت سنة 1192هـ. بهامشها حواش وبها تلويث في 260 ورقة ومسطرتها 25 سطراً (فهرس الأزهرية جـ2 - الفقه الحنبلي ص 652 برقم [615] 47853) 5 - نسخة بمكتبة الأوقاف ببغداد برقم 7413 ذكرها السيد عبد الله الجبوري في (فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد - مطبعة الإِرشاد، 1393 هـ 666/ 1) وقال: خطه حديث، فيه 161 ورقة. وذكرها الدكتور أسعد طلس في الكشاف ص 93

ما خدم به هذا الكتاب

6 - نسخة بدار الكتب المصرية اطلعت عليها وهي برقم (136 فقه حنبلي) مكتوبة بقلم أسعد بن إسماعيل الحمدان الزيتاوي. فرغ منها سنة 1276هـ , وهي بخط معتاد قريب من 150 ورقة. ما خدم به هذا الكتاب: لم نطلع على أحد خدم هذا الشرح إلا ما صنعه الشيخ عبد الغني ابن ياسين اللبدي. وحاشيته جيدة. قال فيها الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع: "مفيدة جدًّا تحرّر بها شرح التغلبي" وهي شهادة قيمة. وقد اطلعت على نسخة من الحاشية المذكورة. واستفدت منها في تحقيق الكتاب. أما الحواشي التي ذكرت على هوامش النسخ الأزهرية فلم نطّلع على حال أصحابها ولعل الله أن ييسر ذلك، فلعل منها ما يحسن التنويه به. هذا وإن صاحب "منار السبيل" لا شك اطلع على (نيل المآرب) وأدخل كثيراً من مسائله في كتابه. تنبيه: أرجو ممن لديه اطلاع على مكان وجود النسخة الأصلية المخطوطة من حاشية الشيخ عبد الغني اللبدي أن يتفضل بإفادتي عنها لعلها أن تنشر مع هذا الكتاب في طبعته الثانية والله يتولى حسن الجزاء لكل من سعى في إحياء جهود العلماء. المحقق

المَرَاجع 1 - المرادي: سلك الدرر 3/ 58 2 - عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 296/ 5 3 - إسماعيل باشا البغدادي: هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، ط. استانبول 1951م. 1/ 603 4 - إسماعيل باشا البغدادي: إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون. ط. ثالثة، طهران 1378هـ، 2/ 698هـ 5 - سركيس: معجم المطبوعات العربية والمعربة. القاهرة، مطبعة سركيس، ص 1162، 1290 6 - أسعد طلس: الكشاف عن مخطوطات خزائن كتب الأوقاف، بغداد، مطبعة العاني، 1372 هـ، ص 93 7 - عبد الله الجبوري: فهرس المخطوطات العربية بمكتبة الأوقاف العامة ببغداد 666/ 1. 8 - فهرس المكتبة الأزهرية. القاهرة 2/ 651 9 - خير الدين الزركلي: الأعلام. 10 - عبد القادر بدران: المدخل ص 227

محمد سليمان الأشقر محقق الكتاب

محَمَّد سُليَمان الأَشقَر محُقِّق الكِتَاب محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد (وهو الأشقر) بن سليمان دغلس. من أهل (بُرْقة) (¬1) بفلسطين ردّها الله إلى أحضان المسلمين. وبرقة قرية من قرى نابلس تبعد عنها إلى الشمال مسافة 16 كيلومتراً تقريباً. تقع في منطقة جبليّة على سفح جبلين أحدهما شرقيها وآخر شماليها، وتحيط بها بساتين الزيتون والتين وبها من سائر الأشجار المثمرة. وتمتاز ببرودة الهواء وطيبه. وبها عيون كثيرة طيبة عذبة الماء. قال فيها مصطفى الدباغ: "ومن يشرف عليها ير منظراً من أجمل المناظر في الوطن الحبيب ... ". وأهلها في أغلبهم من (الحفاة) وهم فرع من (الروقة) من قبيلة (عتيبة) على ما ذكرته دائرة معارف البستاني في مادة (أحفاة). وذكره (إحسان النمر) في كتابه "تاريخ جبل نابلس"، وذكره أيضاً مصطفى الدباغ في كتابه المذكور آنفاً. ومن الحفاة آل دغلس الذين أنتمي إليهم. وقد مرّ ببرقة الشيخ عبد الغني النابلسي سنة (1101هـ) وقال فيها: ضفنا ببرقةَ من أعمالِ نابُلُسٍ ..... أهلَ المكارمِ والأخلاقِ والشِّيَمِ ¬

_ (¬1) هي بضم الباء، وقد تحدث عنها السيد مصطفى مراد الدباغ في كتابه القيم "بلادنا فلسطين" في القسم الأول من الجزء الخاص بالديار النابلسية ص 413 - 421

قوماً لقد جمع الله الكريم لهم ..... بين القرينين بَشِّ الوجه والكرمِ ولدت ببرقة في 16 من أيلول سنة 1930م، ونشأت في كنف والديّ، وكان والدي رحمه الله أمّيًّا، إلا أنه كان يحب أهل العلم والإيمان ويبرّهم. وحرص على تعليم أولاده وحملهم على مكارم الأخلاق. وكان أكثر عمله في الزراعة. ووالدتي حفظها الله كذلك في حرصها على تربية بنيها على حب العلم والدين. وقد قرأت القرآن دون معلم. التحقت بالدراسة الابتدائية بقريتنا، وتخرجت منها عام 1944م ثم التحقت بالدراسة الثانوية بالمدرسة الصلاحية بنابلس حيث مكثت بها أربع سنين، ذهبت بعدها إلى المملكة العربية السعودية فعملت في التدريس الابتدائي سنةً في مدينة بريدة (سنة 1369هـ) وعملت في التجارة بالرياض (سنة 1370هـ) وعندما افتتح معهد الرياض الديني الثانوي (سنة 1371هـ) بادرت إلى الالتحاق به إلى أن تخرجت من كلية الشريعة بالرياض (1376هـ) في الفوج الأول، وأخذت فيها العلم عن مشايخ أجلّاء، فأخذت التفسير وأصوله وأصول الفقه على الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والفقه والعقيدة على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والفرائض على الشيخ عبد العزيز بن رشيد، والحديث على الشيخ عبد الرحمن الإِفريقي، والنحو على الشيخ عبد اللطيف سرحان والشيخ إبراهيم الضبع، وغيرهم. رحم الله الموتى منهم وحفظ الأحياء وجزاهم عنا أحسن الجزاء. ثم عملت في التدريس بمعهد (شقراء) العلمي، وأسندت إليّ إدارته عام (1377هـ) نقلت بعدها للتدريس بكلية الشريعة بالرياض، وكنت أول من درَّس بها من خريجيها. فبقيت كذلك من (1378 - 1383هـ) ثم التحقت بالتدريس في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة فبقيت فيها سنتين إلى أن أراد الله تعالى لي النقلة إلى أرض الكويت حيث أسندت إليّ أمانة مكتبة وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية اثني عشر عاماً من سنة (1385 - 1397هـ) حصلت في أثناء ذلك على درجتي الماجستير والدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة الأزهر.

مؤلفاتي المطبوعة

وكانت رسالتي للدكتوراه بعنوان (أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية). وهي في ما يتعلّق من علم أصول الفقه بالسنن الفعلية. وكانت بإشراف الشيخ عبد الغني عبد الخالق حفظه الله. وقد يسّر الله تعالى فيها كشف كثير من غوامض هذا العلم والحمد لله على فضله. ولما أن استأنفت وزارة الأوقاف بالكويت (مشروع الموسوعة الفقهية) نُقِلت للعمل مع العاملين فيه. والله المسؤول أن يأخذ بيد القائمين عليه حتى يكمل على خير الوجوه. وشاركتُ في لجنة الفتوى الشرعية بالكويت كعضو من أعضائها منذ سنة 1969م. والله المستعان أن يتم علينا نعمته بالهداية والسداد ويوفقنا لصالح القول والعمل ويختم لنا عليهما. مؤلفاتي المطبوعة: 1 - رسالة (أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية). 2 - الواضح في علم الأصول للمبتدئين. 3 - الفتيا ومناهج الإِفتاء. 4 - فهرس المغني لابن قدامة. 5 - الفهرسة الهجائية والترتيب المعجمي. مؤلفاتي المخطوطة: 6 - معجم النحو والبلاغة وسائر علوم العربية (عن الأئمة). 7 - ديوان خطب منبرية. 8 - مجموعة فتاوى وإجابات في مهمات الدين.

أعمال أخرى

9 - فهرس هجائي لتاريخ ابن كثير (البداية والنهاية؛ ونهاية البداية). أعمال أخرى 10 - وقد قمت بمراجعة (معجم الفقه الحنبلي) المستخلص من كتاب المغني الذي أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالكويت، وقمت على ترتيبه وتصحيحه حتى يسّر الله إخراجه نموذجاً للمعاجم الفقهية كوسيلة مهمة من وسائل تسهيل الرجوع إلى فقهنا الإِسلامي العظيم. 11 - وقد كتبت أبحاثاً كثيرة ظهرت في المجلدات التي صدرت في موسوعة الفقه الإِسلامي، وأبحاثاً أخرى ستظهر في المجلدات اللاحقة إن شاء الله. 12 - وأقدم اليوم هذا التحقيق لكتاب "نيل المآرب".

عملي في تحقيق "نيل المآرب"

عَملي في تحقيق "نيل المآرب" اعتمدتُ على النسخة البولاقية كأصل، وذلك لما عُهِد عن هذه المطبعة من التدقيق والضبط والاتقان، ورجعت في تحقيق النص أيضاً إلى طبعة محمد علي صبيح. وقد وجدت في الطبعتين من التحريف والأخطاء شيئاً كثيراً. وقد أعانني على اكتشاف كثير من ذلك مراجعة النص كله على نسخة مكتبة وزارة الأوقاف المخطوطة، وهي وإن كانت كثيرة التحريف أيضاً إلا أن اجتماع النسختين أفادني كثيراً. وكم وددت أن أكون حصلت على صورة النسخة التي كتبها الشيخ محمود بن ياسين اللبدي والمحفوظة بالمكتبة الأزهرية إذ هي أقدم النسخ الموجودة وأقربها بالمؤلف عهداً، وكاتبها يبدو أنه من أهل العلم. ولكن لم تتح الفرصة لذلك. ولعل الله تعالى ييسّر للمكتبة الأزهرية وسائل النسخ والتصوير الحديثة ليمكنها من إمداد الباحثين بصور لما عندها من الذخائر. وأكثرتُ الرجوع كذلك إلى (شرح منتهى الإِرادات) للشيخ منصور البهوتي، إذ المنتهى أصل الدليل، وشرح المنتهى أصل النيل. ورجعت أيضاً في المسائل المشكلة إلى حاشية الشيخ اللبدي رحمه الله. وبقي الإِشكال في أشياء يسيرة رجعت لتحقيقها إلى المغني لابن قدامة والإِنصاف والفروع وغيرها، وإلى كتب اللغة. وقد قمت بالإِضافة إلى تحقيق النص بحلّ بعض غوامض تعبيرات الشارح، وإضافة بعض البيان للخلاف في بعض المسائل حيث يقوى

الدليل. وأضفت أحياناً قليلةً ذكر بعض الأمور المكملة لما في الشرح. وخرّجت الأحاديث الواردة في المتن معتمداً كثيراً على (إرواء الغليل) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وعلى غيره من كتب الحديث. على أن مما أريده أن يكون معلوماً لدى القارئ أن كثيراً من المسائل التي في هذا الشرح قد يكون رأيي فيها خلاف ما ذكره الشارح. فأذكر ذلك أحياناً قليلة، والغالب أنني لا أذكره، إذ إن ذلك مما يحتاج إلى استدلال وإفاضة ويطول به الكتاب، فأعرضتُ عنه إيثاراً للاختصار، فلا يؤخذنّ علي أنه منّي لكل ما في الكتاب إقرار. والله تعالى المسؤول أن ينفع بهذا الكتاب، ويجعل عملي فيه له خالصاً. إنه جواد كريم وهو نعم المولى ونعم النصير. الكويت - الفروانية غرة المحرم من السنة الأولى من القرن الخامس عشر من الهجرة النبوية

رموز هذا الكتاب

رُمُوز هَذا الكِتاب إلخ: إلى آخره. ب: نسخة طبعة بولاق من نيل المآرب. ص: نسخة طبعة صبيح. ف: النسخة المخطوطة بمكتبة وزارة الأوقاف بالكويت. الأصول: عبارة عن النسخ الثلاث إذا اتفقت. كـ: حواشٍ على الطبعة التي أخرجتها بالكويت مطبعة مؤسسة المرزوَق مصورة عن الطبعة البولاقية. م: لسنوات التقويم الميلادي. هـ: لسنوات التقويم الهجري.

نيل المآرب بشرح دليل الطالب للشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني المشهور بابن أبي تغلب على مذهب الإمام المبجّل أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - الجزء الأول حققه الدكتور محمد سليمان عبد الله الأشقر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المنفرد بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال والجمال، المتحبّب إلى خلقه بالإِنعام والإِفضال، والعطاء والنوال، المحسن على ممر الأيام والليال. أحمده حمداً لا تغيّر له ولا زوال، وأشكره شكراً لا تحوّل له ولا انفصال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مِثْلَ له ولا مثال، شهادةً أدّخرها ليومٍ لا بيعٌ فيه ولا خلال. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى أصح الأقوال وأسدّ الأفعال، اُلمحْكِمِ للأحكام، والمميِّز بين الحرام والحلال. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، صلاةً دائمة بالغدوّ والآصال. (أما بعدُ)، فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القربات، وأجلّ الطاعات، وآكد العبادات، خصوصاً علم الحلال والحرام، الذي به قوام الأنام، وُيتَوصَّل به إلى العلم بالأولى والأخرى، وتحصل به السعادة في الأولى والعقبى. ولما رأيت الكتاب الموسوم بـ "دليل الطالب لنيل المطالب" تأليف الشيخ الإِمام، والحبر البحر الهُمام، مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي

تغمده الله برحمته، ورضوانه وأسكنه فسيح جنانه - في غاية الوقع، وأعظم النفع، من سائر المختصرات. لم يأت أحد بمثاله ولا نسج على منواله، غير أنه يحتاج إلى شرح يُسْفِرُ عن وجوه مخدراته النقاب، ويُبْرِزُ من خفيّ مكنونه ما وراء الحجاب، فاستخرت الله تعالى، وطلبت منه المعونة والرشاد والسداد، وسألته أن يُمِدَّني بمدده. وأسأل من وقف عليه أن يَسْتُرَ زَلَلِي، فإنَ بضاعتي مزجاة، ولست من أهل هذا الميدان. ولكن علقته لنفسي، ولمن شاء الله تعالى من بعدي. وسميته (نيل المآرب بشرح دليل الطالب) (¬1) والله أسأل أن ينفع به من اشتغل به وأن يجعله خالصاً لوجْهه الكريم، مقرباً لديه في جنات النعيم. إنه رؤوف رحيم. (بسم الله الرحمن الرحيم) ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، وعملاً بحديث "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبْدَأ فيه بِبِسْمِ الله الرحمنِ الرحيم فهو أبتر" (¬2) أي ناقص البركة. و"الله" عَلَمٌ على الذات الواجبِ الوجود، المستحِقّ لجميع المحامد. و"الرحمن الرحيم" وصفان لله تعالى، مشتقان من الرحمة. ومعنى "الرحمن" المفيض لجلائل النعم، و"الرحيم" المفيض لدقائقها. (الحمد لله) أي الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم والتبجيل ثابت لله تعالى. و"الحمد" عُرْفاً فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الحامد أو غيره. (ربِّ العالمين) أي مالك جميع ¬

_ (¬1) في ف: "نيل المطالب ... " والصواب ما أثبتناه. (¬2) الحديث بلفظ "كل أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع" رواه عبد القادر الرّهَاوي في الأربعين من رواية أبي هريرة. وضعفه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ضعيف الجامع الصغير) وبلفظ "أبتر" رواه الخطيب في الجامع (عبد الغني).

الخلق، من الإِنس والجنّ والملائكة والدواب وغيرهم. وكل منها يطلق عليه "عالمٌ" يقَال: عالَم الإِنس، وعالَم الجن، إلى غير ذلك. وهو من العلامة، لأنه علامة على موجِدِه. (وأشهد) أي أعْلَمُ (أن لا إله) أي معبود بحق في الوجود (إلا اللهُ وحده لا شريك له) في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (مالك يوم الدين) أي يوم الجزاء، وهو يوم القيامة. وخُصَّ بالذكر لأنه لا مُلْك (¬1) ظاهر لأحد إلا لله سبحانه وتعالى. (وأشهد) أي أعلم (أن محمداً) سمي به لكثرة خصاله الحميدة (¬2) (عبدُه) قال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرفَ ولا أتمَّ للمؤمن من الوصف بالعبودية (¬3) (ورسولهُ) إلى الخلق أجمعين. والرسول إنسان أٌوحِيَ إليه بشرع وأُمِر بتبليغه، أخصُّ (¬4) من النبي (المبيِّن) الموضِّح الأحكام شرائع الدين) من حلالٍ وحرامٍ ومكروه ومباحٍ ومندوب [وواجب] (¬5) (الفائزُ بمنتهى الإِرادات من ربه) من النظر إلى ربه بعينيْ رأسه الشريف (¬6)، والشفاعة العظمى، وغيرهما مما لا يحصى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (فمن تمسَّك بشريعته) باتباع الأوامر، واجتناب المناهي (فهو من ¬

_ (¬1) أي لا ملك في ذلك اليوم ظاهر .. أما في الدنيا فيدعيه أناس. (¬2) أي تفاؤلاً بأن يكون كذلك، على العادة في تسمية الأطفال. (¬3) ولهذا وصف الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وقال {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقال الشاعر: لا تدعُني إلا بيا عَبْدَها ......... فإنه أشرف أسمائي اهـ (كـ) (¬4) في ف: فهو أخصّ. (¬5) زيادة يقتضيها التقسيم. (¬6) على أحد قولين للعلماء. والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه بقلبه. قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية. ويشهد لهذا قول الله تعالى لموسى {قَالَ لَنْ تَرَانِي} أي في هذه الدنيا.

الفائزين) دنيا وأخرى (صلى الله وسلم عليه) الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن غيرهم التضرع والدعاء. وقال بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - كلما ذُكِرَ اسمُة جماعة، منهم ابن بطة من الحنابلة، وشيخنا البَلْبَانيُّ، والحُلَيْمِى من الشافعية، واللَّخْمِيّ من المالكية، والطَّحَاوِيُّ من الحنفية (¬1) (وعلى جميع الأنبياء والمرسلين) عدد ما كان، وعدد ما يكون، وعدد ما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم الدين (وعلى آل كلٍّ) من جميع الأنبياء والمرسلين (وصحبه) نقل الخطيبُ عن الإِمام أحمد، رحمه الله، قال: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صَحِبَه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه فهو من أصحابه" وهذا مذهب أهل الحديث، نقله عنهم البخاري وغيره (¬2) (أجمعين) تأكيد للآل والصحب، لإِفادة الإِحاطة والشمول. (وبعد) يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، أي من كلامٍ إلى كلامٍ آخر، استحباباً في الخطب والمكاتبات. (فهذا) إشارةٌ إلى ما استحضره في ذهنه، وأقامه مقام الملفوظ المقروء الموجود بالعيان، سواء كانت الخطبة قبل التأليف أو بعده، بناء على أن مسمى الكتاب الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني. (مختصر) أي كتابٌ مختصر اللفظ تامُّ المعنى، (في الفقه) وهو لغةً: الفهم، وعُرْفاً: معرفة الأحكام الشرعيّة الفرعية (¬3)، بالفعل أو بالقوّة القريبة. والفقيه: من عَرَف جملةً غالبةً منها كذلك، (على المذهب الأحمد) أي المرضيّ، (مذهب) بفتح الميم، ¬

_ (¬1) وأما السلام فهو بمعنى التحية، أو السلامة من الرذائل والنقائص، أو الأمان له ولأمته - صلى الله عليه وسلم - (كـ). (¬2) يعني من رآه مؤمناً ومات على ذلك. وقيل: لا يكون صحابيا إلا من طالت صحبته. وقيل غير ذلك. وانظر فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي 4/ 28 - 31 (¬3) أي خلاف الأصولية، فليست معرفة القواعد الأصولية -في الاصطلاح- من الفقه.

هو الطريق. يقال: ذهب مذهباً حقاً، وذهاباً، وذُهُوباً. وجمعه مذاهب. (الإِمام أحمد) بن محمد بن حنبل الشيباني (¬1)، والصديق الثاني، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلَّبه ومثواه، وجمعنا به في دار كرامته آمين. (بالغت في إيضاحه رجاء الغفران) من الله جل وعلا، (وبَيّنْتُ فيه الأحكام) جمع حكم، وهو: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير (¬2)، أو الوضع (¬3). (أحسنَ بيان. لم أذكر فيه) أي في هذا المختصر (إلا ما جزم بصحته أهلُ التصحيح والعرفان) من أئمة المذهب، منهم العلامة القاضي علاءُ الدين علي المَرْدَاوِيّ (¬4) (وعليه الفتوى فيما بين أهل الترجيح) من أئمة المذهب (والإتقان/ وسميته بـ (دليل الطالب لنيل المطالب). (واللهَ أسألُ) لا غيرَه (أن ينفع به) كل (من اشتغل به، و) الله أسألُ (أن يرحمني والمسلمين إنه أرحم الراحمين). ¬

_ (¬1) وشيبان حيٌّ من بكر بن وائل (كـ) (¬2) الاقتضاء الطلب. والأحكام الاقتضائية: الايجاب والتحريم والاستحباب والكراهة. أما الحكم التخييري فهو الإباحة. (¬3) الوضع جعل الشيء علامة لشيء. والأحكام الوضعية: السببية، والشرطية، والمانعية. كسببية الزوال لوجوب صلاة الظهر، وشرطية الطهارة لصحة الصلاة، ومانعية الأمومة لصحة عقد النكاح. وبعضهم يضيف الصحة والفساد. (¬4) هو صاحب "الإِنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" و"تصحيح الفروع" وكلاهما مطبوع متداول.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة أي مكتوب جامع لأحكام المسائل التي تتعلق بالطهارة. وبدأ الفقهاء بالطهارة لأن آكد أركان الدين بعد الشهادتين الصلاة المشترط لها الطهارة. والشرط مقدّم على المشروط. ثم الطهارة، معناها لغة: النزاهة والنظافة عن الأقذار. (وهي) شرعاً (رفع الحدث)، وهو زوال الوصف الحاصل بالبدن، المانع من الصلاة والطواف ومس المصحف. وينقسم الحدث إلى أصغر وأكبر، فما أوجب الغسل يسمى أكبر، وما أوجب الوضوء يسمى أصغر. (وزوال الخَبَث) أي النجاسة الطارئة على محل طاهر. (وأقسام الماء) باعتبار ما يتنوع إليه في الشرع (ثلاثة) لأنه إما أن يجوز به الوضوء، أوْ لا، الأوّل الطهور. والثاني: إمّا أن يجوز شربه، أوْ لا، الأوّل الطاهر، والثاني النجس. (أحدها: طهور) أي مطهر لغيره، وغيرُه من الماء والمائعات لا يطهّر، (وهو) أي الماء الطهور في الحكم (الباقي على خلقته) التي خلق عليها، مطلقاً، فلا يُقَيد بوصف دون وصف. وهو ما نزل من السماء، أو نبع من الأرض، سواء كان عذباً أو ملحاً، بارداً أو حاراً (يرفع) وحده

(الحدث) نص عليه (¬1)، (ويزيل الخَبَث) الطارئ على محل طاهر قبل طروّه، لأنَّ نَجِسَ العينِ لا يَطهُر. (وهو) أي الماء الطهور (أربعة أنواع): أشار للأوّل بقوله: (ما) أي نوع (يحرم استعماله) مطلقاً، (ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث) مع حرمة استعماله (وهو ما ليس مباحاً) كمسروق ومنهوب، بخلاف ما إذا غصب إناء ووضع فيه ماء مباحاً، فإن الطهارة به صحيحة، مع حرمة استعمال الإِناء. وأشار إلى الثاني بقوله: (وما) أي نوع من الطهور (يرفع حدث الأنثى، لا الرجل البالغ (¬2) والخنثى، وهو ما خَلَتْ به المرأة المكلفة) ولو كافرة (لطهارةٍ كاملةٍ) لا بعضِها (عن حدث) لا خَبَثٍ وطهرٍ مستحبّ. والمراد بالخلوة بأن لا يشاهدها مميّز. ولا فرق بين الحرّ والعبد، والمرأة والرجل، والكافر والمسلم، في المشاهدة. وظاهره أنها إذا خَلَتْ بالتراب للتيمم لا تؤثر خلوتها، وأنه يجوز للرجل إزالة الخبث بما خلت به، وأنه لا تأثير لخلوة الخنثى بالماء القليل. ويشترط كون الماء أقل من قلتين. وأشار للثالث بقوله: (وما) أي نوع (يكره استعماله) في حق ¬

_ (¬1) أي نصّ عليه الإمام أحمد. وعن أبي حنيفة جواز التوضّي بالنبيذ. (¬2) "لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" رواه أبو داود وغيره. وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. قال أحمد في رواية أبي طالب "أكثر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون ذلك." وهو تعبديٌّ لا تعقل حكمته (كـ)

الرجل والمرأة والخنثى، وظاهره الكراهة في أكل وشرب وطهارة وغير ذلك (مع عدم الاحتياج إليه) لأن كراهته من طريق الورع. ومع الحاجة إليه يتعين وجوباً (¬1) استعماله. (وهو ماء بئرٍ بمقبرة) بتثليث الباء، وكره أحمد شوكها. (و) كره منه أيضاً (ما اشتدّ حره أو بَرْدُه) ووجهه ظاهر (¬2). (أو سُخِّن بنجاسة) فإنه يكره ولو بَرَد، لأنه لا يسلم غالباً من صعود أجزاءٍ لطيفةٍ من النجاسة إليه. (أو سخِّن بمغصوب) فإنه يكره. (أو استعمِل في طهارة لم تجب) فإنه يكره، كتجديد وضوء، وغسلة ثانية وثالثة، أو في غسلٍ من الستةَ عشَرَ غسلاً. وتأتي إن شاء الله تعالى (¬3) (أو) استعمل (في غسلِ كافرٍ) لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يُزِلْ نَجَساً. وشمل الذمية التي تغتسل من الحيض والنفاس لحلِّ وطئها لزوجها المسلم، لأنه لا يسلبه الطهورية. (أو تغير) ريحه أو طعمه أو لونه (بملحٍ مائيّ) فطهورٌ مكروه، لأن المتغيّر به منعقد من الماء، فأشبه الثلج. واقتضى ذلك أنّ الملح المائيّ لو انعقد من ماء طاهر فحكمه كباقي الطاهرات (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (ب) وفي (ف): وجوب استعماله. قلت كلاهما فيه نظر. ولعل الصواب "جواز استعماله " أي من غير كراهة. (¬2) أي لأذاه ومنعه كمال الطهارة. (¬3) انظر الصفحة 82 من هذا الجزء. (¬4) في (ب، ص): الطهارات، والتصويب من ف.

وعلم منه أن الماء إن تغير بالملح المعدني سَلَبَهُ الطهورية. (أو) تغير (بما لا يمازجه) من الطاهرات (¬1) (كتغيره بالعود القَمَارِيّ) (¬2) بفتح/ القاف (وقطع الكافور والدهن) فطهورٌ مكروه. (ولا يكره ماء زمزم إلا في إزالة الخَبَثِ) فقط، تشريفاً له. ولا يكره استعماله في الطهارة من الحدث. وأشار للرابع بقوله: (وما) أيْ نوع (لا يكره استعماله) مطلقاً (كماء البحر والآبار (¬3) والعيون والأنهار والحمام) وظاهره ولو كان وقوده نجساً، لأن الصحابة رضي الله عنهم دخلوه ورخّصوا فيه. (ولا يكره المسخَّن بالشمس) سواء سُخِّنَ بإناءٍ منطبعٍ (¬4) أو غيره، في بلاد حارة أو باردة. وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها- وقد سخنت ماء في الشمس: "لا تفعلي فإنه يورِثُ البَرَصَ" قال النووي: هو حديث ضعيف باتفاق المحدّثين. ومنهم من يقول: هو موضوع. وكذا حديث أنس "لا تغتسلوا بالماء الذي سُخِّنَ بالشمس فإنه يعدي من البَرَص" قال ابن المنجا. غير صحيح (¬5). (و) لا يكره (المتغير بطول المكث، أو بالريح، من نحو ميتة) كمجاورة محل القاذورات (أو بما يشق صونُ الماء عنه) مما يغيره (كطحلب) وهو خضرة تعلو على وجه الماء المزمن. ولا يكره ما تغير ¬

_ (¬1) في (ب، ص): الطهارات، والتصويب من ف كذلك. (¬2) العود القَماريّ منسوب إلى موضع ببلاد الهند (لسان العرب). (¬3) إلاَّ آبار ديار ثمود غير بئر الناقة، فظاهر كلامهم عدم صحة التطهر منها لتحريم استعمالها (كـ وشرح المنتهى). (¬4) أي نحاس وحديد ونحوهما (عبد الغني). (¬5) ولكن روى ابن حَبَّان في "الثقات" من قول عمر رضي الله عنه "لا تغتسلوا بالماء المشَمّس فإنه يورث البَرَص" (كنز العمّال، ط دمشق 9/ 572).

بسَمَكٍ وجراد، وبما لا نفس له سائلة كالخنفساء والعقرب والصراصير إن لم تكن من كنُفٍ ونحوها، لمشقة الاحتراز عن ذلك. (وورق شجر، ما لم يوضعا) أي الطحلب وورق الشجر. وشرط الوضع أن يكون قَصْداً من آدميٍّ عاقلٍ، فلو كان الوضع من بهيمة أو صغير أو مجنون لا يسلب الماء الطهورية. (الثاني) من المياه: (طاهرٌ) غير مطهِّر، (يجوز استعماله في غير رفع الحدث وزوال الخبث (¬1)) كالأكل والشرب والطبخ وغير ذلك من العادات (وهو) أي الطاهر (ما تغير كثيرٌ من لونه أو طعمه أو ريحه) بمخالطة (شيء طاهر) من غير جنس الماء، لا يشق صون الماء عنه (¬2)، سواء طُبِخَ فيه، كمرق الباقلا (¬3)، أوْ لا، كما لو سقط فيه زعفران بقصد أو غيره. ولا يسلبه التغيرُ اليسيرُ من صفَةٍ من صفاته. وعلم من كلامه أنه لو كان التغير اليسيرُ من صفاته الثلاثة أثَّر، وكذلك من صفتين. (فإن زال تغيره) أي الماء المتغير بالطاهر (بنفسه، عاد إلى طهوريته). (ومن الطاهر ما كان قليلاً) أي أقل من قلتين (واستُعمِل في رفع حدث) لأنه أزالَ مانعاً من الصلاة، فأشبه ما لو أزال به نجاسة. (أو انغمست فيه) أي في الماء القليل (كل يد المسلم المكلف ¬

_ (¬1) ونحوهما كتجديد الوضوء وغسل الجمعة وغسل الميت (عبد الغني). (¬2) فلو تغير بما يشقّ صون الماء عنه، كالمتغيّر في ممرِّه أو مَقَرِّه بطاهر لم يسلبه الطهورية، كما لو تغيّر بالجص الذي قُصرت به البئر (عبد الغني). (¬3) الباقلاء كلمة سَوَاديَّة (نسبة إلى سوادَ العراق) وهي القول. كذا في لسان العرب.

النائم ليلاً نوماً ينقض الوضوء) أو كان (قبل غسلها ثلاثاً) وكل واحدة منهن واجبة (بنية وتسمية) عند أوّل الغسل. (وذلك) أي الغسل ثلاثاً بعد النية والتسمية (واجب) ولو باتت مكتوفة، أو في جراب ونحوه. فتلخص من ذلك: أنّ غسل يد القائم من نوم الليل لا يسلبه الطهورية إلا إذا استوفى جميع هذه الشروط السبعة: أشار للأوّل بقوله: "كل"، وللثاني بقوله: "يد"، وللثالث بقوله: "المسلم"، وللرابع بقوله: "المكلف"، وللخامس بقوله: "النائم ليلاً"، وللسادس بقوله: "ينقض الوضوء"، وللسابع بقوله: "قبل غسلها ثلاثاً بالصفة المذكورة". تنبيه: إذا غَمَسَ بعضَها بنيةٍ سَلَبَ الماء الطهورية. (الثالث) من أنواع المياه: (نجس يحرم استعماله، إلا لضرورةٍ) كدفع لقمةٍ غصَّ بها، وليس عنده طهور ولا طاهر. (ولا يرفع الحدث) وهو ما أوجب وضوءاً أو غسلاً (ولا يزيل الخَبَثَ) الطارئ. (وهو) أي الماء النجس (ما وقعت فيه نجاسة، وهو قليل) تغيَّر أوْ لا، مضى زمن تسري فيه النجاسة أوْ لا، ولو لم يدركها الطرْف. (أو كان كثيراً) أكثر من قلتين، (وتغيّر بها) أي بالنجاسة الواقعة فيه (أحد أوصافه) طعمِه أو لونِه أو ريِحه، قَلَّ التغير أو كثر. (فإن زال تغيره) أي الكثير (بنفسه، طهر، أو بإضافة طهورٍ) كثير (¬1) (إليه، أو بنزحٍ منه) أي الكثير (ويبقى بعده) أي بعد النزح (كثير)، أي ¬

_ (¬1) الأصحّ لا يشترط أن يكون المضاف كثيراً، لأنه لو زال تغير الكثير بنفسه طهر، فبالمضاف القليل أولى (عبد الغني).

قلَّتان فأكثر، (طهر) أي صار طهوراً. (والكثير قلَّتان/ تقريباً) لا تحديداً، فيعفى عن نقصٍ يسيرٍ، كرطلٍ أو رطلين عراقية. (واليسير ما دونهما) أي القُلَّتين. (وهما) أي: القلتان (¬1) (خمسمائة رطل بالعراقي، وثمانون رطلاً وسُبُعانِ ونصف سُبُعٍ رطلٍ بالقدسيّ) وما وافقه، ومائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل دمشقي. (ومساحتهما) أي: مساحة ما يسع القلتين من الماء حال كونه مربعاً (ذراعٌ وربعٌ طولاً، و) ذراع وربع (عرضاً، و) ذراع وربع (عمقاً). وحال كونه مدوّراً ذراع طولاً، وذراعان ونصف عمقاً. والمراد بالذراع هنا ذراع اليد (¬2) من الآدمي المعتدل. وهو أربع وعشرون أصبعاً معترضةً معتدلة. والأصبع ست شعيرات. والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون، بطون بعضها إلى بعض (¬3). (فإذا كان الماء الطهور كثيراً، ولم يتغير بالنجاسة، فهو طهور). وله استعماله (ولو مع بقائها) أي النجاسة (فيه) أي: في الماء ¬

_ (¬1) إنما حدّوا الماء الكثير الذي لا تضره النجاسة الواقعة فيه ولم تغيّره، بقُلّتين فما زاد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا كان الماء قُلّتين لم يحمل الخَبَثَ" رواه الشافعي في القديم والحاكم عن ابن عمر (كنز العمال 9/ 398) والقُلّة الجَرّة، وجمعها قِلال. واختلف الفقهاء واللغويون في مقدار القلة. وروي عن الإمام أحمد أن القُلّة قربتان. وفي "لسان العرب" تقديرات أخرى. قال الأزهري في الزاهر (ط الكويت ص 60): كأنَّما سُمِّيَتْ قُلَّةً لأن الرجل القويّ يُقِلُّها: أي يحملها. (¬2) ذراع اليد من المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. وهو 54 سم تقريباً. (¬3) ليس للشعرة بطن ولا ظهر. ولكن هكذا (ب، ص). أما (ف) فأسقط (بطون بعضها إلي بعض) وألحقه بعضهم بالهامش. والصواب أن هذه العبارة متعلّقة بالشعيرات لا بالشَّعَرات، فإن للشعيرة بطناً وظهراً. وكذلك هي في (شرح المنتهى) في باب قصر الصلاة 1/ 275

الكثير الذي لم يتغير بسقوطها فيه، ولو كان بينه وبينها قليل. (وإن شك في كثرته) أي الماء الذي وقعت فيه نجاسة، ولم تغيره (فهو نجس ... وإن اشتبه ما تجوز به الطهارهَ، بما لا تجوز به الطهارة، لم يتحرّ) (¬1)، ولو زاد عدد ما تجوز به الطهارة. أما للشرب والأكل فيلزمه التحرّي، كما لو اشتبه محرم بمباح، أو طهور بنجس (ويتيمَّم بلا إراقة) للماء، وَوَجَبَ عليه الكف عنهما كما لو اشتبهت عليه أخته بأجنبية. لكن إن أمْكَنَ تطهيرُ أحدهما بالآخر، بأن يكون الطهور قلتين فأكثر، وكان عنده إناء يسعهما، لزمه الخلط. وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ منهما وضوءاً واحداً، من هذا غَرْفة، ومن هذا غرفة، ولو مع طهور بيقين. (ويلزم من) أي: إنساناً (علم بنجاسة شيء) من الماء أو غيره (إعلام من أراد أن يستعمله) في طهارة أو شرب أو غيرهما. وظاهره أنه يلزمه الإِعلام سواء كانت إزالتها شرطاً للصلاة أم لا. ¬

_ (¬1) في (ب، ص). لم يتحرّ "به الطهارة" وقد سقط ذلك من (ف) وهو الصواب.

باب الآنية

باب الآنيَة الآنية لغة وعرفاً: الأوعية , جمع إناء. ويذكر فيه المؤلف أحكام الآنية، وثيابِ الكفار، وأجزاءِ الميتة. (يباح اتخاذ كلِّ إناءٍ طاهر، واستعماله، ولو) كان الإِناء (ثميناً) كجوهر، وبلّوْر، وياقوت، وزمرذ (¬1) (إلا آنيةَ الذهب والفضة، و) إلا (المموّه بهما). وكيفية التمويه أن يُذَاب الذهب أو الفضة، ويلقى فيه الإِناء من الحديد ونحوه. تنبيه: عظم الآدميّ، وجلده، والمغصوب يحرم اتخاذها واستعمالها. (وتصحّ الطهارة بها) أي بآنية الذهب والفضة، وفيها، ومنها، وإليها. (و) تصح الطهارة أيضاً (بالإِناء المغصوب) وبالإِناء الذي ثمنه المعيَّن حرام. ¬

_ (¬1) في (ب): ذمرذ، وفي (ص): ذمرّد، وفي (ف): زمرّد، وهو المشهور على الألسنة، ولكن صاحب اللسان ضبطه (زمرّذ) بزاي في أوله وآخره ذال معجمة.

ويحرم استعمال إناء الذهب والفضة، ولو ميلاً، أو مَبْخَرة، أو قُمْقُماً (¬1) (ويباح إناء ضُبِّبَ) بأربعة شروط: الأول: ما أشار إليه بقوله: (بضبة) احترز به عما لو وضع الفضة عليه لغيرها، فإنها تكون كالمُطَعَّم. الثاني: ما أشار إليه بقوله: (يسيرة) عُرْفاً، لا كبيرة، فإنها محرمة. الثالث: ما أشار إليه بقوله: (من فضة) لا من ذهب، فإنها محرمة مطلقاً. الرابع: ما أشار إليه بقوله: (لغير زينة) لما روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه "أن قَدَحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَرَ، فاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً من فِضَّة" رواه البخاري. وتجوز الضبَّة لحاجة. والحاجة أن يتعلق بها غرضٌ غيرُ زينةٍ، وليس المراد أن لا تندفع بغيره. (وآنية الكفار) كلهم (وثيابهم) ولو لم تَحِلَّ ذبائحهُم، ولو وَليَتْ عوراتِهِم (طاهرة). ثم ذكر قاعدة (و) هي أنه (لا ينجس شيء) من ماءٍ أو غيرِه (بالشك ما لم تُعْلَمْ نجاسته) يعني: إذا فارقنا شيئاً طاهراً، ثم شككنا في نجاسته، فالأصل الطهارة. كما أننا لا نوجب بالشك، ولا نحرِّم بالشّكّ. (وعَظْمُ الميتة، وقَرْنُها، وظُفُرها، وحافِرُها، وعَصَبُها، وجِلْدُها، نجس) / لأنها من أجزاءِ الميتة. (ولا يطهر) الجلد مطلقاً (بالدباغ) لكن يباح دبغ جلد نجُس ¬

_ (¬1) القمقم إناء ضيق الرأس، من حديد أو نحاس غالبا، يستعمل لتسخين الماء.

بموت، واستعماله بعده في يابس لا في مائع. (والشعر والصوف والوبر والريش طاهر إذا كان من ميتةٍ طاهرةٍ في الحياة) فإنه لا ينجس بالموت، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} والآية في سياق الامتنان. فالظاهر شمولها الحالتين: الحياة والموت. والريش مقيسٌ على الثلاثة. (ولو كانت غير مأكولةٍ، كالهرِّ والفَأر). (وَسُنَّ تغطيةُ الآنية) ولو بِعَرْضِ عودٍ. ويتوجَّه أنَّ العودَ عند عدم ما يخمِّر به، لرواية مسلم "فَإنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ أنْ يَعْرِضَ على إنائه عُوداً ... " (¬1) (وإيكاءُ) أي: رَبْطُ (الأسقية) والسقاء جِلْدُ السخلة إذا أجذع يكون للماء [واللبَن]، (¬2) وظاهره، كالمنتهى، أن التغطية والإِيكاء سُنَّةٌ سواء كان الوقت ليلاً أو نهاراً. وقال في الإِقناع: إذا أمسى. ¬

_ (¬1) الحديث بتمامه: عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "غَطُّوا الإِناءَ، وأوْكُوا السّقاء، وأغلقوا البابَ، وأطفئوا السِّراجَ، فإن الشيطان لا يَحُلُّ سقَاءً، ولا يفتَحُ باباً، ولا يَكْشِفُ إناءً. فإن لم يجدْ أحدُكم إلا أن يعرُضَ على إنائِهِ عوداً، ويذكر اسم الله فليفعَلْ" (صحيح مسلم بتحقيق فؤاد عبد الباقي 3/ 1594) (¬2) الزيادة من القاموس.

باب الاستنجاء وآداب التخلي

بابُ الاسْتِنجَاءِ وَآدَابُ التَّخَلِي (الاستنجاءُ هو إزالة ما خرج من السبيلين بماءٍ) متعلق بإزالة (طهورٍ) ولو لم يُبَحْ (أو) رفع حكمه بما يقوم مقام الماءِ من (حَجَر) أو خِرَقٍ أو خَزَفٍ، أو نحوها، بشروط للمستجمرِ به. منها: أن يكون بـ (طاهِر) فلا يكفي المتنجس. ومنها: أن يكون بـ (مباح) فلو كان بمغصوبٍ ونحوه لا يكفي، لأن الاستجمار بالحجر رخصة، والرخصة لا تباح بالمعصية. ومنها: أن يكون بـ (مُنَقٍّ) احترز به عن الأملس، كالزجاج والرخام. ومنها: أن يكون جامداً، فلا يكفي الطين. (فالإِنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى) بعد استكمال الشروط (أثرٌ لا يزيله إلا الماء) فإن بقي ما يزال بغيره لا يكفي. ثم أخذ في شروط الفعل فقال: (ولا يجزئ أقلُّ من ثلاث مَسَحَاتٍ) ولو أنقى. وهو الشرط الأول (تَعُمُّ كل مسحةٍ المحلّ) أي: المَسْرُبة والصفحتين. وهو الشرط الثاني. ذكر في المتن ثمانية شروط، ويستفاد من الإِقناع بقيةُ اثني عشر. قال: "ولا يجزئ الاستجمار في

قُبُلَيْ خنثى مشكلٍ، ولا في مخرجٍ غيرِ فرج، كتنجس مخرج (¬1) بغير خارج، ولا إن خرجتْ أجزاء الحقنة. فهذه أربعة شروط. وتقدَّم ستة. وتأتي البقية. (والإِنقاء بالماء عَوْدُ خشونةِ المحلّ) بأن يدلُكه حتى يرجع خَشِناً. (كما كان) قبل خروج الخارج. ويواصِل صَبَّ الماء، ويسترخي قليلاً. قال في المُبْدِع: "الأولى أنْ يُقال: عود المحلّ إلى ما كان، لئلا ينتقض بالأمْرَدِ ونحوه". (وظنه) أي: الإِنقاء (كافٍ) فلا يشترط التحقّق. قال في الإِنصاف: "لو أتى بالعدد المعتبر اكتفي في زوالها بغلبة الظن". فتلخَّص أن شروط الاستنجاء أربعة: الأول: كونه بماء. الثاني: كون الماء طهوراً. الثالث: أن يغسل سبع غسلات. الرابع: الإِنقاء. (وسنّ الاستنجاء بالحجر) أو نحوه كالخرق (ثم) بعده (بالماء). (فإن عكس) بأن بدأ بالماء، ثم ثَنّى بالحجر، (كُرِهَ) له ذلك. (ويجزئ أحدهما) أي الاستنجاء بالماء فقط، أو بالحجر فقط، وإن كان على نهر جارٍ. (والماء) وحده (أفضل) من الحجر وحده. (ويكره استقبال القبلة، واستدبارها)، في حال الاستنجاء أو الاستجمار بفضاء. (ويحرم) الاستجمار (بِرَوْثٍ)، ولو كان لمأكولٍ، (وعظم) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم فإنه زاد إخوانكم من الجن" رواه مسلم. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): كتنجُّس مخرج فرج بغير خارج. وقد حذفنا، على ما في (ف) وشرح المنتهى.

[في آداب الخلاء]

(و) يحرم الاستجمار بـ (طعامٍ، ولو) كان (لبهيمة. فإن فعل) أي استجمر بما نهى الشارع عنه لحرمته (لم يجزئه بعد ذلك إلا الماء) هذا سابع الشروط في المتن كما لو استجمر بمتنجِّس. أما لو استجمر بما لا ينقي (¬1) لملاسته فيكفي الحجر ونحوه بعده. و (كما لو تعدى الخارج موضع العادة) فلا يجزئ في المتعدّي وحده غيرُ الماء. وهذا الثامن في المتن. (ويجب الاستنجاء لكل خارج) من سبيلٍ ولو نادراً كالدود (إلا الطاهر) كالمنيّ وإلا/ الريح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استنجى من الريح فليس منا" (¬2) (و) إلا (النجس الذي لم يلوِّث المحل) كالبَعَرِ الناشف والحصا. فصل [في آداب الخلاء] (يُسَنُّ لداخلِ الخلاء) بالمدّ، وهو المكان المُعَدُّ لقضاء الحاجة، ومريدٍ لقضاءِ حاجةٍ بالصحراء (تقديمُ اليسرى) دخولاً، لأن اليسرى تُقَدَّمُ للأذى، واليمنى لما سواه (وقول (¬3): "بِسْمِ الله. أعُوذُ مِنَ الُخبْثِ والَخبَائِثِ" لأن التسمية يبدأ بها للتبرك، ثم يستعيذ، وإنما قدَّم التعوُّذ في القراءة على البسملة لأنها من القرآن، والاستعاذة من أجل القراءة. والخُبْثُ الشَّرُّ، والخَبَائِثُ ¬

_ (¬1) في (ب): بما لا يكفي لملاسَتِهِ، وفي (ص) بما يكفي لملاسَتِهِ، وفي (ف): أما لملاسته. وما ذكرناه هو الصواب. (¬2) حديث "من استنجى من الريح فليس منَّا" رواه الطبراني في الكبير وقال أحمد: ليس في الريح استنجاء. (شرح المنتهى) وابن عساكر. والحديث ضعيف (ضعيف الجامع الصغير). (¬3) للحديث الوارد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء يتعوذ بهذا اللفظ. متفق عليه (المغني ط 3، 1/ 167)

الشياطين. وقيل: الخبْثُ الكفر والخبائث الشياطين" (¬1). (وإذا خرج) المتخلي (قدم) رجله (اليمنى)، لأنها أحق بالتقديم إلى الأماكن الطيبة (وقال: غفرانك) نصب على المفعولية. أي: أسألك غفرانك، مأخوذٌ من الغَفْر، وهو الستر (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني") لما روى أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: الحَمْدُ لله الّذِي أذْهبَ عَنِّي الأذَى وَعَافَانِي" رواه ابن ماجه (¬2). (ويكره في حال التخلّي) لقضاء الحاجة (استقبال الشمس والقمر) بلا حائل، لما فيهما من نور الله عز وجل (ومَهَبّ الريح) بلا حائل، خشيةَ أن تَرُدَّ عليه البول فينجّسه. (و) يكره (الكلام) في الخلاء، ولو سلاماً أو ردَّ سلامٍ. ويكره الكلام في مواضع المهن المستقذرة كالخلاءِ والحمّام (¬3) وما أشبه ذلك. نقله في الغنية. (و) يكره (البول في إناء) بلا حاجة. (و) يكره البول في (شَقّ) بفتح الشين. (و) يكره البول في (نارٍ) لأنه يورث السقم. (و) يكره البول في (رماد) ذكره في الرعاية. ¬

_ (¬1) وقيل في تفسير (الخبث والخبائث) الخُبث بضم الباء ذُكران الشياطن، جمع خبيث. والخبائث إناثهم، جمع خبيثة. (¬2) قول (غفرانَك) وحده رواه أحمد والأربعة. وهو حسن (صحيح الجامع الصغير)، وأما حديث ابن ماجه فقد رواه أيضاً النسائي عن أبي ذر. وهو ضعيف (ضعيف الجامع الصغير). (¬3) كذا في الأصول. وهو مشكل، لما فيه من التكرار، ولأن الخلاء ليس موضع مهنة. ولعله محرّف من (موضع الحذّاء والحجّام). (3) لا يعرف في النهي عن البول في النار والرماد دليل قويم، ولا تعليل مستقيم.

(ولا يكره البول قائماً) ولو لغير حاجة، بشرطين: أن يأمن تلويثاً. والثاني: أن يأمن ناظراً. (ويحرم استقبال القبلة واستدبارها) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَتَيْتُم الغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرَبُوا" رواه الشيخان. وإنما يحرم بشرطين: الأول: أن يكون (في الصحراء). والثاني: أن يكون (بلا حائل). (ويكفي إرخاء ذيله) والاستتار بدابة، وجدارٍ، وجَبَل ولو كَمُؤْخِرَةِ رَحلٍ. (و) يحرم (أن يبول أو يتغوَّط بطريقٍ مسلوكٍ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقُوا الملاعِنَ الثَّلَاثَ: البَرَازَ في المَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، والظَلِّ النافع" (¬1). (و) يحرم أن يبول أو يتغوَّطَ (بظلٍّ نافع) ومثله مُتَشَمَّس (¬2) الناس زمن الشتاء، ومتحدَّثُ الناس، إلا أن يكون حديثهم غِيبَةً أو نميمة (وتحت شجرة عليها ثَمَرٌ يُقصَد) مأكولٌ أوْ لا، لأنه يفسدها وتعافها النفس. (و) يحرم أن يبول أو يتغوّط (بين قبور المسلمين،) وعليها. (و) يحرم (أن يلبث في الخلاء (فوق) قدر (حاجته.) ولا فرق بين أن يكون في ظلمة، أو حمام، بحضرة مَلَكٍ أو جنّيّ أو حيوان، أوْ لا، ذكره في الرعاية. ¬

_ (¬1) حديث "اتقوا البراز ... " رواه أبو داود وابن ماجه. وليس فيه "النافع". (¬2) في الأصول "مُشَمَّس" زمن الشتاء والتصويب من (شرح المنتهى 1/ 32)

باب السواك

باب السِّوَاك السِّواكُ والمِسْوَاكُ اسم للعودِ (¬1) الذي يُتَسَوَّكُ به. (يُسَنُّ) السواك (بعودٍ) لينٍ (رطب) يُنَقَّي الفَمَ ولا يَجْرَح، و (لا يتَفَّتَتُ) في الفم. ويكره بما يجرحه أو يضره كعود رمان، أو يتفتت، لأنه مضاد لغرض السواك. (وهو) أي السواك (مسنونٌ مطلقاً) أي في جميع الأوقات (إلا بعد الزوال للصائم) (¬2) برطب أو يابس (فيكره). (ويسن) السواك (له) أي للصائم (قبله) أي قبل الزوال (بعود يابس). (ويباح) السواك للصائم (قبله) أي الزوال (بـ) عود (رطب). (ولم يصب السنة من استاك بغير عود) كمن استاك بأصبعه، أو خرقة. وسواء كانت أصبعه متصلةً أو منفصلة، وسواء كانت خشنة أو لا. (ويتأكد) السواك في عشرة مواضع: أشار إلى الأول بقوله: (عند وضوء) لحديث أبي هريرة/ رضي الله عنه مرفوعاً "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل ¬

_ (¬1) ويكون أيضاً اسماً للاستياك. وهو المراد هنا، كما لا يخفى (عبد الغني). (¬2) وقيل: يسنّ حتي للصائم بعد الزوال. وهو أولى (عبد الغني).

وضوء" (¬1) أي أمر إيجاب. وأشار للثاني بقوله: (وصلاة) قال في المبدع: "وهو عام في الفرض والنفل، حتى صلاة المتيمم وفاقد الطهورين، وصلاة جنازة. والظاهر أنه لا يدخل فيه الطواف، وسجدة الشكر، والتلاوة." اهـ وأشار للثالث بقوله: (وقراءة القرآن) تَطْيِيباً للفم، لئلا يتأذى الملك حين يضع فاه على فيه، لتلقُّف القرآن. وأشار للرابع بقوله: (وانتباهٍ من نوم) ليلاً أو نهاراً. وظاهره: ولو لم يَنْقُضِ الوضوء، لتسميتهم له نوماً. وأشار للخامس بقوله: (وتغيُّر رائحة فم) بأكْلٍ أو غيرِه، لأن السواك مشروع لتطيب الفم وإزالة رائحته. فتأكد عند تغيره. وأشار للسادس بقوله: (وكذا عند دخول مسجد) (¬2) جزم به الزركشي. وأشار للسابع بقوله: (ومنزل) اختاره المجد، لِقول عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: "كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ يَبْتَدِئُ بالسِّواكِ" (¬3). وَأشَارَ للثامن بقوله: (وإطالة سكوتٍ) لأنه مَظِنَّةُ تغير رائحةِ الفم. وأشار للتاسع بقوله: (وَصُفْرَة أسنانٍ) لِإزالتها. والعاشر: خلوّ المعدة من الطعام. والسنة أن يكون المِسْواك في اليسرى، ويبتدئُ بالشق الأيمن. ¬

_ (¬1) حديث (لولا أن اشقْ .. ) رواه الجماعة (شرح المنتهى 1/ 38). (¬2) هذا لم يذكره الموفق في المغني. ولا يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يفعله في المسجد أصلاً، لما يصحبه من إخراج البصاق عادة. وكذا لم يذكر تأكُّد استحبابه عند دخول المنزل، وإطالة السكوت، وخلو المعدة من الطعام، واصفرار الأسنان. وفي شرح المنتهى 1/ 39 أن الذي زادها الزركشي وتبعه في الإِقناع. فينظر أدلتها. (¬3) رواه مسلم، كما في المغني.

[في سنن الفطرة ونحوها]

ويكون عَرْضاً بالنسبة إلى الأسنان. ومن أعظم فوائده أنه يذكر الشهادة عند الموت، ويرضي الربّ، ويهضم الطعام، ويغذّي الجائع. (ولا بأس أنْ يتسوّك بالعود الواحد اثنان فصاعداً) (¬4) لحديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها. فصل [في سنن الفطرة ونحوها] (يُسَنُّ حلق العانة) وهو الاستحداد. وله قَصُّه، وإزالته بما شاء من تَنْويرٍ وغيره. وتكره كثرة التنوير. قال الغزالي: "قيل إن النورة في كل شهر مرةً تُطْفِئُ الحرارة وتنقّي البدن، وفي نسخة: اللون، وتزيد في الجماع". ولم يذكروا الأنف. فظاهره إبقاؤه. ويتوجّه أخذُه إذا فحش. قاله في الفروع. (و) يسن (نتف الإِبط) فإن شقَّ حَلَقَهُ أو تنوَّر. (و) يسن (تقليم الأظفار) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتَانُ، والاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَار، وَنَتْفُ الإِبِط" متفق عليه. ويسن مُخَالَفاً، فيبدأُ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإِبهام، ثم البنصر، ثم السبابة؛ ثم إبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السبابة، ثم البنصر. صححه في الإِنصاف. وروي: "مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفاً لَمْ يَرَ في عينيه رَمَداً" وَفَسَّر الحديثَ ابنُ بَطَّةَ بما ذُكر. ¬

_ (¬4) لعله: بعد غسله من أثر الأول. لئلا ينقل مرضاً.

ويستحب غسلها بعده. ويكون ذلك يوم الجمعة، زاد في الإِقناع: قبل الصلاة. (و) يسن (النظر في المرآة) وقول: "اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي، وحرِّمْ وجهي على النار" (¬1). (و) يسن (التطيّب بالطيب) فللرجل: بما يظهر ريحه ويخفى لونُه، كالعود والمسك والعنبر، وللمرأة في بيتها بما شاءت، وفي غيره بما يظهر لونه (¬2) كالياسمين والورد والحناء. (و) يسن (الاكتحال كل ليلة) قبل النوم (في كل عين ثلاثاً) بإِثْمِدٍ مُطَيَّب. (و) يسن (حف الشارب) قال في النهاية: إحفاء الشوارب أن تبالِغَ في قصّها. (و) يسن (إعفاء اللحية) بأن لا يأخذ منها شيئاً. قال في المذهب: ما لم يُسْتَهْجَن طولها (وحَرُمَ حلقها) ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى. (ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها) هكذا نَصُّ الإِمامِ أحمد. (والختانُ واجبٌ على الذَّكر) بأخذ جِلْدَة الحَشَفَة (و) واجب على (الأنثى) (¬3) بأخذ جلدةٍ فوق محل الإِيلاج، تشبه عُرْفَ الديك، ويستحب ¬

_ (¬1) لما في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً. وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير) وليس فيه "وحرّم وجهي على النار" ولكن لا بأس في مثل هذا بأن يدعو بما شاء. (¬2) أي عند نسائها ومحارمها. لما في الحديث (طيب الرجال ما خفيَ لونه وظهر ريحه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه". وفي تمثيله بالياسمين والورد لما خفي ريحه نظر، فإنهما من أقوى الطيوب ريحاً. والتمثيل السديد بالأصباغ النسائية التي تخفى رائحتها، كما في شرح المنتهى 1/ 42 "وللمرأة حفّ وجهها وتحسينه بتحميرٍ ونحوه". (¬3) وفي قول: هو للأنثى مستحب غير واجب، وعليه اقتصر صاحب المغني (1/ 86)

أن لا تؤخذ كلّها منها. وخنثى في فرجيها (عند البلوغ) لأنه ليس أهلاً للتكليف قبله، مالم يَخَفْ على نَفْسِه فيباح (¬1). (و) الختان (قبله) أي البلوغ (أفضل) فيعايا بها (¬2). والأفضل أن يختتن يوم حادي وعشرين، فإن فات تُرِكَ حتى يشتد ويقوى. قاله في "المستوعب" في العقيقة. ¬

_ (¬1) إن خاف على نفسه فالذي تقتضيه قواعد الشرع تحريمه، لقول الله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. (¬2) أي يقال: في أي موضع تكون السنة أفضل من الواجب؟ فيقال: هنا. وكذا رد السلام واجب، وبدؤه سنة، وهو أفضل (عبد الغني).

باب الوضوء

باب الوضُوء أي هذا بابٌ يذكر فيه فروض الوضوء، وشروطه، وواجباته (¬1). (تجب فيه) أي الوضوء (التسمية) وتجب أيضاً في الغسل، والتيمم، وغسل يديْ قائمٍ من نوم ليلٍ ناقض لوضوءٍ. أي قول "بسم الله". (و) على الوجوب (تسقط سهواً وجهلاً) قال شيخنا البلباني: كغسل وغيره مما تجب له التسمية. (وإن ذكرها) أي التسمية (في أثنائه) أي في أثناء الوضوء والغسل (ابتدأ) لأنه أمكنه أن يأتي بها على جميعه، فوجب، كما لو ذكرها في أوله. وعُلِمَ منه أنه إذا لم يذكرها حتى فرغ لم تلزمْه الإِعادة. وقال في الإِقناع: سمّى وبَنَى. (وفروضه) أي الوضوء ولو مستحبًّا (ستة): الأول: (غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق). (و) الثاني: (غسل اليدين مع المرفقين). (و) الثالث: (مسح الرأس كله، ومنه الأذنان). ¬

_ (¬1) صوابه "وواجبه" لأنه ليس فيه إلا واجب واحد، وهو التسمية (عبد الغني).

(و) الرابع: (غسل الرجلين مع الكعبين). (و) الخامس: (الترتيب) بين الأعضاء المذكورة، كما ذكر الله تعالى. وأما الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين فلا يجب، حكى ابن المنذر الإِجماع على ذلك. فإن نكَّس وضوءه، بأن بدأ بشيء قبل غسل الوجه، فلا يحتسب. (و) السادس: (الموالاة) وهي أن لا يؤخّر غسل عضو حتى يجفَّ ما قبله بزمن معتدل. فلو لم تجب لأجزأ غسل اللمعة (¬1) فقط. وإنما لم يشترط في الغسل لأن المغسول فيه بمنزلة العضو الواحد. (وشروطه) أي الوضوء (ثمانية) ولو مستحبًّا: الأول: (انقطاع ما يوجبه) من حيض ونفاس ونحوهما. (و) الثاني: (النية) لخبر "إنما الأعمال بالنيات" أي لا عمل جائزٌ إلا بالنّيّة. فإن قيل: الإِسلام عبادة، ولا يفتقر إلى نية، [والنية عبادة ولا تفتقر إلى نية] (¬2) فقال أبو البقاء: "ليس بعبادة، لصدوره من الكافر. سلَّمْنا، لكن للضرورة. وأما النية فلقطع التسلسل". (و) الثالث: (الإِسلام). (و) الرابع: (العقل). (و) الخامس: (التمييز لأن سنّ التمييز) أدنى سنٍّ يعتبر قصد الصغير فيه شرعاً. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما روي أن رجلاً توضأ وفي رجله لمعةٌ قَدْرُ الدِّرهم لم يُصِبْها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء، وفي رواية: والصلاة. فهذا يدل على اشتراط الموالاة وإلا لأمره بغسل اللمعة فقط (عبد الغني) والحديث المذكور رواه أحمد وأبو داود من حديث خالد بن معدان مرفوعاً، ولفظة (الصلاة) من رواية أبي داود وحده (شرح المنتهى 1/ 46) وقال: فيه بقيَّة، وهو ثقة. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

[في النية]

(و) السادس: (الماء الطهور المباح). (و) السابع: (إزالة ما يمنع وصوله) أي الماء الطهور المباح من شمع أو عَجينٍ ونحوهما. (و) الثامن: (الاستنجاء أو الاستجمار). فصل [في النية] (فالنّية هنا) في الوضوء (قصد (¬1) رفع الحدث) بذلك الوضوء، (أو قصد) استباحة (ما) أي: فعلٍ (تجب له الطهارة، كـ) استباحة (صلاةٍ و) استباحةِ (طوافٍ و) استباحةِ (مَسِّ مصحف.) وتتعيّن نية الاستباحة لمن حدثه دائم، كمستحاضة، ومن به سلس بول، ونحو ذلك. ويرتفع حدثه. ولا يحتاج إلى تعيين نية الفرض، (أو قصد ما) أي قولٍ أو فعلٍ (تُسَنّ لَهُ) الطهارة، كأن ينوي الوضوء (لِقِراءةٍ، وذكرٍ، وأذانٍ، ونومٍ، ورفعِ شكٍّ، وغضبٍ) لأنه من الشيطان، والشيطان من النار، والماء يطفئ النار، (وكلامٍ محرّم) كغيبة ونحوها، (وجلوسٍ بمسجد، وتدريسِ عِلْم) قدَّمَهُ في الرعاية. (وأكلٍ) وزيارةِ قبرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. (فمتى نوى شيئاً من ذلك ارتفع حدثُهُ). أما إذا نوى التجديد المسنون، بأن صلى بالأوَّل، ناسياً حدثه (¬2)، فإنه يرتفع حدثه، فلو لم يصلّ بالأول، أو كان ذاكراً لحدثه، لم يرتفع. ¬

_ (¬1) والتلفظ بها أي النية وبما نواه من وضوء وغسل وتيمم، وفي سائر العبادات، بدعة قاله ابن تيمية في الفتاوى المصرية، وقال: لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه. وفي الهدي لابن القيم: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في أول الوضوء: نويت استباحة الصلاة، هو ولا أحد من أصحابه ولم يرد عنه في ذلك حرف بسند صحيح ولا ضعيف (كـ). (¬2) أي وكان عند التجديد ناسياً حدثه.

في صفة الوضوء الكامل

(ولا يضرّ سَبْقُ لسانِه بغير ما نوى) كما لو أراد أن يقول: نويت أصلي الظهر، فقال نويت صيامَ غدٍ. (ولا) يضر (شكّه في النية، أو في فرضٍ، بعد فراغ كل عبادةٍ) من العبادات، سواءٌ كانت صلاة، أو صياماً، أو غيرهما. (وإن شك فيها) أي في النية (في الأثناءِ استأنَفَ) لأن الأصل أنه لم يأت بها، كما لو شك في غسلِ عضوٍ، أو مسح رأسِهِ في الأثناء. فصل (في صفة الوضوء) الكامل (وهي أنْ ينويَ) الوضوءَ للصَّلاةِ ونحوها، أو ينوي رفع الحدث. (ثم يسمّي) أي يقولُ: بسم الله، لا يكفيه غيرها. وكذا كلُّ موضعٍ وجبت فيه. ظاهر ترتيبه بِثُمَّ أنه لو قدم التسميةَ على النيةِ لم يصحّ وضوؤه. أفاده شيخنا البلباني. (ويغسل كفهِ ثلاثاً). (ثم يتمضمض) ثلاثاً (ويستنشق) ثلاثاً، إن شاء من غَرْفَةٍ، وهو أفضل (¬1)، وإن شاء من ثلاثٍ، وإن شاء من ستٍّ. (ثم يغسل وجهه) ثلاثاً (من منابِتِ شعر الرأس المعتاد) غالباً، فلا عبرة بالأفْرَعِ -بالفاء- وهو الذي ينبت شعره في بعضِ جبهته، ولا بالأجلح الذي انحسر شعرُه عن مقدّم رأسه. مع ما انحدر من اللحيين والذَّقَنَ طولَاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. ¬

_ (¬1) بل الأفضل من ثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل غرفة. لحديث عليٍّ "أنه تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات" متفق عليه. وأما الواحدة فهي من الشارح وهم على ما في المنتهى وشرحه (1/ 51)

(ولا يجزئ) غسل ظاهر شعر اللحية، إلا أن لا يصف البشرة) فإنه يجزئ غسل ظاهره. وحكم عنفقةٍ، وشاربٍ، وحاجبٍ، ولحيةٍ امرأة، وخنثى إذا كانت كثيفة أو خفيفة، حكم اللحية. (ثم يغسل يديه مع مرفقيه) وأصبعٍ زائدةٍ، ويدٍ أصلها بمحل فرضٍ أو بغيره، ولم تتميز (ولا يضرُّ وسخٌ يسيرٌ تحت ظفر ونحوه) كالوسخ داخل أنفه، يشق التحرز منه أوْ لا، قال في حاشية المنتهى: قلت: ومثله ما يَعْلَقُ بأصول الشعر من قملٍ ونحوه، وما يكون بشقوقِ الرجل من الوسخ. وألحق به الشَّيخُ كلَّ يسيرٍ مَنَع، حيث كان من البدن، كدمٍ وعجينٍ ونحوهما، واختاره. (ثم) إذا غسل يديه (يمسح جميعَ ظاهرِ رأسه) بالماء، فلو مسح من له شعرٌ البشرةَ لم يجزِه، كما لو غسل باطن اللحية. ولو حلق البعضَ فنزل عليه شَعَرُ ما لم يحلقْ أجزأه المسح عليه (من حد الوجه إلى ما يسمى قفاً (¬1). والبياض فوق الأذنين منه) يُمِرُّ يديهِ من مقدَّمه إلى قفاه، ثم يردّهما إلى الموضع الذي بدأ منه (ويدخل سَبَّابَتَيْهِ في صماخِ أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما) وهذه هي الصفة المسنونة. وكيف مَسَحَ كَفَى. (ثم) بعد مسح رأسِهِ وأذنيه (يغسل رجليه مع كعبيه، وهم العظمان الناتئان) اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم، ويغسل الأقْطَعُ من مفصل مرفِقٍ وكعبٍ طرف (¬2) عضد وساق. ¬

_ (¬1) في الأصول (ف، ب، ص): قَفاءً, بالمدّ، والتصويب مما ضبطه في شرح المنتهى. (¬2) في الأصول (ف، ب، ص): وطرف. وذكر الواو خطأ، فحذفناها.

[في سنن الوضوء]

فصل [في سنن الوضوء] (وسننه) أي الوضوء (ثمانَ عَشْرَة) سُنَّةً: الأول (¬1): (استقبال القبلة). (و) الثاني: (السواك) عند المضمضمة. (و) الثالث: (غسل الكفين ثلاثاً) لغير قائم من نوم ليل ناقض لوضوء، وتقدم. (و) الرابع: (البداءة قبل غسل الوجه بالمضمضة و) بعده (الاستنشاق). (و) الخامس: (المبالغة فيهما) أي في المضمضة والاستنشاق (لغير الصائم). (و) السادس: (المبالغة في سائر الأعضاء مطلقاً) لصائم وغيره، وهي دَلْكُ ما ينبو عنه الماء وَعَرْكُهُ به. (و) السابع: (الزيادة في ماء الوجه) لأساريره ودواخله وخوارجه وشعوره. قاله أحمد. (و) الثامن: (تخليل اللحية الكثيفة) عند غسلها، وإن شاء إذا مسح رأسه، نصًّا. (و) التاسع: (تخليل الأصابع) من اليدين والرجلين، فيخلِّل أصابع رجليه بخنصره اليسرى، من باطن رجله. فيبدأ بخنصر يمنى إلى إبهامها، ويسرى يبدأ من إبهامها إلى خنصرها، ليحصل التيامن في التخليل، وتخليل أصابع يديه إحداهما بالأخرى. (و) العاشر: (أخذ ماء جديدٍ للأذنين) بعد مسح رأس. ¬

_ (¬1) الأولى أن يقول: الأولى، الثانية، الثالثة الخ ..

(و) الحادي عشر: (تقديم اليمنى على اليسرى) حتى للقائم من نوم الليل، وبين الأذنين. (و) الثاني عشر: (مجاوزة محل الفرض) في الأعضاء الأربعة. (و) الثالث عشر: (الغَسْلة الثانية والثالثة) قال القاضي وغيره: الأولى فريضة، والثانية فضيلة، والثالثة سنة. قال في "المستوعب": وإذا قيل لك: أي موضعٍ تقدَّم فيه الفضيلة على السنة؟ فقل: هنا. (و) الرابع عشر: (استصحاب ذكر النية إلى آخر الوضوء) بقلبه، بأن يكون مستحضراً لها في جميع الطهارة، لتكون أفعاله كلها مقترنة بالنّية. (و) الخامس عشر: (الإِتيانُ بها) أي: النيّة (عند غسلِ الكفين)، فإن غَسَلَهما بغير نية فكمن لم يغسلهما. (و) السادس عشر: (النطق بها) أي النية (¬1)./ (سراً) أي ليوافق اللسان القلب. (و) السابع عشر: (قول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" مع رفع بصرِهِ إلى السماء بعد فراغه) لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَا مِنْكًمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ الوُضوءَ، أو: يسْبغُ الوُضوءَ، ثُمّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ الله، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأشْهَدُ أن مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلاَّ فُتِحَت لَهُ أبْوَابُ الجَنَةِ الثَّمانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيِّها شَاءَ" رواه مسلم. وفي رواية "فَأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى السَّماءِ". وَسَاقَ الحديث. (و) الثامن عشر: (أن يتولّى وضوءَه بنفسِه من غيرِ معاونةٍ). وتباح المعَاوَنَةُ وتنشيف أعضائه. وتركهما أفضل. ¬

_ (¬1) انظر خلافه فيما تقدم آنفاً عن ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.

باب مسح الخفين

باب مَسحِ الخُفَّين وما في معناهما كالجرمُوقين والجورَبين وهو رخصة (يجوز بشروط سبعة): أشار للأول بقوله: (لبسُهما) أي لبس زوجَي الخُفِّ (بعد كمال الطهارة) فلو أدخل اليمنى في الخف بعد غسلها وقبل غسل اليسرى، ثم غَسَل اليسرى وأدخلها فيه، وأراد المسح، لزمه نزع اليمنى ولبسها قبل الحدث، (بالماء) فلو لبسهما على طهارةِ تَيَمُّمٍ لم يصحّ المسح. وأشار للثاني بقوله: (وسَتْرُهما لمحل الفرضِ ولو) كان الستر لمحل الفرض (بربطهما) كالزربول الذي له ساق وَعُرى. وأشار للثالث بقوله: (وإمكان المشي بهما عُرْفاً) لا كونه يمنع نفوذ الماء، ولا كونه معتاداً، فيصح على الخفِّ من الجلود واللبود، والخشب والحديد، والزجاج الذي لا يصف البشرة. ونحو ذلك، حيث أمكن المشيُ فيه. وأشار للرابع بقوله: (وثبوتهما بنفسهما) أو بنعلين إلى خلعهما، لا بربطهما أو شَدِّهما. وأشار للخامِسِ بقوله: (وإباحتُهما) سواءٌ كانَتْ هناك ضرورة تدعو إلى لبسه كَخَوفِ سقُوط أصابعه من شدة البرد، أو لم تكنْ. فلا يصحُّ على مغصوبٍ، ولا لرجل على حريرٍ، بخلاف المرأة.

وأشار للسادس بقوله: (وطهارةُ عينِهما) ولو لضرورةٍ. ويتيمَّمُ مِع الضرورة لمستورٍ بالنجسٍ، ويعيد ما صلى به. فإن كان النجس خُفَّا تيمَّمَ مع خوفِ نزعهِ لغسل الرجلين. وإن كان عمامةً تيمَّمَ مع خوفِ نزعِهَا لِمَسْحِ الرأس. وإن كان جبيرة تيمم مع خوف نزعها لغسل ذلك العضو المشدود. وأشار للسابع بقوله: (وعدُم وصفِهما البشرة) لصفائه كالزجاج الرقيق، أو خِفَّتِه كالجورب الذي يصف القدم. (فيمسحُ المقيم، والعاصي بسفره، من الحدث بعد اللبس يوماً وليلة) أي من ابتداء حدثِهِ. فلو مضى من الحدث يومٌ وليلةٌ لمقيمٍ أو ثلاث إن كان لمسافرٍ، ولم يمسحْ، انقضتِ المدة. (و) يمسح (المسافر) سفرَ قَصْرٍ لم يعصِ بِهِ (ثلاثَةَ أيامٍ بلياليهن. فلو مَسَحَ في السفر ثم أقام) قبل مضيّ يومٍ وليلةٍ (أو في الحضر ثم سافر) قبل مضيِّ يومٍ وليلةٍ (أو شكَّ في ابتداءِ المَسْحِ) بأن شك هل ابتدأ بعد أن شرع في السفر، أو قبل أن يشرع فيه، فالحكم في هذه المسألة أنه (لم يَزِدْ على مسح مقيمٍ) لأنّ المسحَ عبادةٌ يختلف حكمُهَا بالسفر والحضر، فلا بد من تحقق وجود جميعها بالسفر حتى يحكم عليها بحكم السَّفر. (ويجب مسح أكثر أعلى الخف) ونحوه. وسُنَّ أن يكون بأصابع يده، مبتدئاً من أصابع رجليه إلى ساقيه. (ولا يجزئ مسح أسفله) أي الخلف (وعَقبِهِ. ولا يُسَنُّ) مسحهما مع الخف. (ومتى حصل) شيء (مما يوجب الغُسْلَ) من جماعٍ أو غَيرِهِ (أوْ ظَهَرَ بعضُ محلّ الفرض) أو خرج قدم أو بعضه إلى ساق خفه، (أو انقضت المدة) وهي اليوم والليلة للمقيم، والثلاثة للمسافر (بطل الوضوء) وبطلت الصلاة.

[في المسح على الجبيرة]

فصل [في المسح على الجبيرة] (وصاحب الجبيرة) وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكِسر أو نحوه، سميت بذلك تفاؤلاً، (إن وضَعَها على طهارةٍ، ولم تتجاوز محل الحاجة، غسل الصحيحَ، ومسح عليها بالماء، وأجزأ) من غير تيمُّمٍ، كمسحِ الخفِّ، بل أولى، للضرورة. (وإلا) بأن وضعها على غير طهارة، وخاف الضَّرَرَ بنزعها (وجب مع الغَسْل) أي غسل الصحيح (أن يتيمَّمَ لها) لأنه موضعٌ يخاف الضرر باستعمال الماء فيه، فجاز التيمم له، كجرحٍ غير مشدودٍ. (ولا مَسْحَ) مع تيمُّمٍ (ما لم توضع) أَي الجبيرة (على طهارة، وتتجاوز المحلّ، فيغسل ويمسح ويتيمم لها). فائدة: إعلم أن الجبيرةَ تخالف الخف في مسائل عديدة، منها: عدم التوقيت بمدة، ومنها: وجوب المسح على جميعها، ومنها: دخولها في الطهارة الكبرى، ومنها: أنّ شدها مخصوص بحال الضرورة، ومنها: أن المسح عليها عزيمة، ومنها: أنه لا يشترط سترها لمحل الفرض، ومنها: أنه يتعّين مسحها. نبّه على ذلك في "الإِنصاف".

باب نواقض الوضوء

باب نَواقِض الوُضُوء جمع ناقضةٍ (وهي) مفسداته. أنواعها (ثمانية): (أحدها: الخارج من السبيلين، قليلاً كان أو كثيراً، طاهراً) كولدٍ بلا دم (أو نجساً) كالبول وغيره، ولو ريحاً من قُبُلٍ، نادراً كان الخارج كالدود، أو معتاداً كالبول. (الثاني) من الثمانِيَةِ: (خروج النجاسة من بقية البدن) وفيها تفصيل (فإن كان الخارج بولَاً أو غائطاً نقض مطلقاً) أي سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً، من تحت المعدة أو من فوقها، وسواء كان السبيلان مفتوحين أو مسدودين. لكن لو انسد المخرج، وانفتح غيره، فاحكام المخرج باقية. (وإن كان) الخارج (غيرَهما) أي غير البول والغائط (كالدم والقيء نقض إن فَحُشَ في نفس كل أحدٍ بحسَبِه) لأنّ اعتبارَ حالِ الإِنسان بما يستفحشه غيرُه حرج، فيكون منفياً. (الثالث) من الثمانية: (زوال العقل) كحدوث جنون، أو برسام، كثيراً كان أو قليلاً، (أو تغطيتُهُ) بِسُكْرٍ، أو (بإغماءٍ، أو نومِ) وهو غَشْيَةٌ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، إلا نومَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (ما لم يكن النوم يسيراً عرفاً من جالس وقائم).

فإن شك في كثرةِ نومِهِ لم يلتفتْ للشك. وينقض اليسيرُ من راكعٍ وساجد ومضطجعٍ ومستندٍ ومتكئٍ ومحتبٍ. قال شَيخنا البلبانيّ رحمه الله تعالى: وماشٍ. (الرابع) من الثمانية: (مسُّه) أي الماسّ (بيده) ولو زائدةً (لا ظُفرِه) فلا ينقض المسُّ به، لأنه في حكم المنفصل، فينقضُ اللَّمسُ بحرفِ الكف، وظهرِهِ وبطنِهِ (فرجَ الآدميّ) سواء كان ذكرَ رجلٍ أو قُبُلَ امرأةٍ، وهو فرجُها الذي بين إسْكَتَيْها. وسواء كان صغيراً أو كبيراً (المتّصلَ) فلا ينقض المنفصل لذهاب الحرمة بالقطع. ويشترط أن يكون الفَرْجُ أصليًّا، فلا نَقْضَ بمسِّ أحد فرجَيْ خُنثى مشكلٍ، إلاَّ أنْ يَمَسَّ الرجل ذَكَرَه بشهوةٍ أو تَمَسَّ المرأة فرجَها بها. (بلا حائل) فإنْ مَسَّهُ مِنْ وراء حائلٍ لم ينقضْ، لأنه مسّ الحائل (أو مَسَّ حلقةَ دُبُره) أي الآدميّ، فـ (لا) ينقض (مسُّ الخصيتين، ولا) ينقضُ (مَسُّ محل الفرج البائن) لذهاب الاسم. وينقض مس الذكر بفرجٍ غير ذكرٍ، فينقضُ مسُّ الذَكَرِ بِقُبُلِ أنثى، أو دبرٍ مطلقاً بلا حائل، لأنه أفحشَ من مسَّه باليد. ولا ينقض مسُّ ذكرٍ بذكرٍ، ولا قبلٍ بقبلٍ أو دُبُرٍ، وعكسه. (الخامس) من الثمانية: (لَمْسُ بشرةِ الذكَرِ الأنثى، أو الأنثى الذكَر لشهوةٍ) لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وأما كون اللمس لا ينقضُ إلاَّ إذا كان لشهوةٍ فللجمعِ بين الآيةِ والأخبار (من غير حائلٍ، ولو كان الملموسُ ميتاً) كما يجب الغُسْلُ بوطءِ الميّت، (أو) كان الملموسُ (عَجُوزاً) جزَمَ به في "المستوعِبِ والمغني والكافي وغيرهم" (أو) كان الملموسُ (مَحْرَماً، لا) نقض بـ (لمس من دون سبعٍ) ولا المرأةِ للطفل/ ومن ولد فهو طفل أو طفلة إلى سن التمييز، وهو تمام السبع سنين (¬1). ¬

_ (¬1) ف: سبع سنين، بغير تعريف. وهو أصوب من حيث اللغة.

ولا نقض بلمس امرأة امرأة قاله في "شرح المنتهى". (ولا) نقض بـ (لمس سن وظفر وشعر، ولا ينقض المس بذلك) أي بالسن والشعر والظفر، لأنه في حكم المنفصل. وإذا لم ينقض مس أنثى استُحِبَّ الوضوء. نص عليه الإِمام أحمد ذكره في الفروع (¬1). (ولا ينتقض وضوء الممسوس فرجُه، أو الملموس بدنُه، ولو وَجَدَ شهوة) أما الممسوس فرجه فقال في الإِنصاف: لا ينتقض وضوؤه ذكراً كان أو أنثى، رواية واحدة. وأما الملموس لشهوة فصحَّحَ المجد والأزجي (¬2) في النهاية وابن هبيرة وغيرهم عدم النقض. ونقله والذي قبله في المنتهى. ولا نقض بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر. (السادس) من الثمانية: (غسل الميت) مسلماً كان أو كافراً، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى. وهو من المفردات (¬3) (أو) غسل (بعضه) أي بعض الميت، ولو في قميص. ومفهومه أنه لو غسل يد السارق بعد قطعها لا ينتقض وضوؤه، لأنه بعضُ حيٍّ، ولا إن يَمَّمَهُ. صرح بالثانية في الإِقناع والمنتهى. (والغاسل هو من يقلب الميت ويباشره لا من يصب الماء) ونحوه. (السابع) من الثمانية: (أكل لحم الإِبل) سواء علمه، أو جهله، وسواء كان عالماً بالحديث (¬4) الوارد في ذلك أو لا (ولو) أكله (نيئاً أو ¬

_ (¬1) ف: نص عليه في الفروع. (¬2) ص: والآدجي. (¬3) أي مفردات المذهب الحنبلي، وهي الأحكام التي لم يوافقه عليها أي من سائر المذاهب الأربعة. (¬4) الحديث المراد "من أكل لحم جزور فليتوضأ" وحديث البراء بن عازب، سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال:" نعم" رواه أحمد وأبو داود. وروى مسلم عن جابر بن سمرة مثله (شرح المنتهى 1/ 69).

مطبوخاً) تعبُّداً (¬1) (فلا نقض ببقية أجزائها، ككبد وقلب وطحال وكرش وشحم وكلية) بضم الكاف (ولسان ورأس وسنامٍ وكوارع ومُصرانٍ ومرق ولحم. ولا يحنث بـ) أكل (ذلك من حلف: لا يأكل لحمًا) لأنه لا يسمى لحمًا، وينفرد عنه باسمه وصفته. ولو أمر وكيله بشراء لحمٍ، فاشترى شيئاً من ذلك لم يكن ممتثلاً، ولا ينفذ الشراء. فإن كان الحالف أراد اجتناب الدسم، أو اقتضاة السبب، حنث لما فيه من الدسم. (الثامن) من النواقض: (الردة) عن الإسلام أعاذنا الله منها. قال القاضي: لا معنى لجعلها من النواقض، مع وجوب الطهارة الكبرى، يعني إذا عاد إلى الإسلام. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: له فائدة، تظهر بما إذا عاد إلى الإسلام فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل. فإن نواهما بالغسل أجزأه، وإن قلنا لم ينتقض وضوؤه لم يجب عليه إلا الغسل. وحكى ابن حمدان وجهاً بأن الوضوء لا يجب بالإسلام. (وكلُّ ما أوجب الغسلَ، أوجب الوضوء، غيرَ الموت) فإنه يوجب الغسل ولا يوجب الوضوء. ولا نقض بإزالة شعرٍ، وكشط جلدة، ونحوهما. هذه النواقض المشتركة بين الماسح وغيره، وأما المخصوصة به، كبطلان طهارة المسح على الخفين ونحوهما بفراغ مدته، وخلع حائله، ونقض طهارة المستحاضة ونحوها بخروج الوقت، فمذكور في أبوابه. ¬

_ (¬1) التعبدي من الأحكام ما لم يكن له علة معقولة. ومن أجل ذلك فلا يقاس عليه غير المنصوص إذ القياس يتبع معرفة العلة. وينظر وجه الفرق بين هذا وبين لحم الخنزير لم ألحقوا به كتحريم جمع أجزاء الخنزير. ذكره في المغني (1/ 191) وسائر أجزائه في التحريم ولم يلحقوها هنا. وفي قول: النقض بجميع أجزاء الإبل.

[فيما يحرم على المحدث]

فصل [فيما يحرم على المحدث] (من تيقَّن الطهارة وشك في الحدث، وتيقَّن الحدث وشك في الطهارة، عمل بما تيقن) وهو الطهارة في الأولى، والحدث في الثانية، لحديث عبد الله بن زيد قال شُكِيَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرجلُ يخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينصرف حتى يسمَعَ صوتاً أو يجدَ ريحاً" متفق عليه. ولو عارضه ظن. (ويحرم على المحدث) حدثاً أصغر أو أكبر (الصلاة) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله تعالى صلاةً بغير طهور، ولا صدقةً من غلول" رواه الجماعة إلا البخاري، والصلاة شاملة للفرض والنفل، والسجود المجرد كسجود التلاوة والشكر، والقيام المجرد كصلاة الجنازة. ولا يكفر من صلى محدثا. (و) يحرم عليه أيضاً (الطواف) ولو نفلاً، لأن الطهارة شرط فيه. (و) يحرم عليه أيضاً (مس المصحف) لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهو خبر معناه النهي، وبعضِهِ وحواشيهِ (ببشرته بلا حائل) ولو بغير يد حتى الورق الأبيض المتصل به ولو كان الماسُّ صغيراً إلا بطهارة كاملة، ولو تيمماً، سواء مسَ صغير لوحاً فيه قرآن، فلا يحرم مسُّه للوح من المحل الخالي من الكتابة. ولا يجوز تمكين الصغير من المحل المكتوب فيه. أما مسُّه بحائلٍ فلا يضرّ، كتصفحه بكمِّه، أو عودٍ، وحمله بعِلاقَة، وفي كيس. ولا يحرم مسُّ التفسير، ومنسوخ التلاوة، وإن بقي حكمه، ومسّ المأثورِ عن الله تعالى، كالأحاديث القدسية، والتوراة، والإنجيل. (ويزيد من عليه غسلُ) على من هو محدث حدثاً أصغر (بـ) شيئين

(قراءة القرآن) أي قراءة آية فصاعداً. رويت (¬1) كراهة ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، لا بعضِ آية ولو كرره، ما لم يتحيّل على قراءةٍ تحرم عليه. وله تهجّيهِ، والذكر، وقراءةٌ لا تجزئ في الصلاة لإِسرارها (¬2). وله قول ما وافق قرآناً ولم يقصده، كالبسملة، والتحميد، وآية الاسترجاع، وآية الركوب (واللُّبث في المسجد بلا وضوء) ولو مصلَّى عيدٍ. قال الشيخ: وحينئذ فيجوز أن ينام فيه حيث ينام غيره، وإن كان النوم الكثير ينقض الوضوء، فلو تعذر الوضوء، واحتيج إليه جاز من غير تيمم نصًّا. واللبث بالتيمم أولى. ويتيمَّمُ للبثه فيه لغسل إذا تعذر الوضوء عليه (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب، ص) "رواية"، والتصويب من (ف). (¬2) أي يجوز له القراءة التي لا يخرج فيها صوتاً، لأن أقلّ ما يجزئ في الصلاة عندهم أن تكون قراءة الفاتحة بصوت يسمعه بنفسه. أي لأن ما دون ذلك ليس بقراءة في الحقيقة. (¬3) أي إذا أراد أن يلبث في المسجد ليغتسل فيه، فليتمَّمُ لأجل اللبث.

الغسل

باب مَا يُوجبُ الغسْل بالضم: الاغتسال، والماء يغتسل به، وبالفتح: مصدر غَسَل (وهو) أي موجبه (سبعة) أشياء: (أحدها): (انتقال المني) يعني أن الغسل يجب بمجرد إحساس الرجل بانتقال المنيّ من صلبه، والمرأة بانتقاله عن ترائبها، وهي عظام الصدر. (فلو أحسّ بانتقاله، فحبسه فلم يخرج، وجب) عليه (الغسل) كخروجه. ويثبت به حكم بلوغٍ وفطر وغيرهما. (فلو اغتسل له) أي للانتقال (ثم خرج بعده) أي بعد الغسل (بلا لذة. لم يُعِدِ الغسل) كما لو خرج دفعة واحدة، لأنه خارج بلا شهوةٍ، أشبه الخارج لِبَرْدٍ. وبه علل أحمد رضي الله تعالى عنه. (الثاني) من موجبات الغسل: (خروجه) أي المنيّ (من مخرجه) المعتاد (¬4)، فلو خرج من غير مخرجه، لم يجب غسل (ولو دما) أي أحمر، لقصور الشهوة عن قصره (¬5) (ويشترط) لوجوب الغسل بخروجه (أن يكون ¬

_ (¬4) استشكل (عبد الغني) جعل خروج المني من مخرجه المعتاد سببا للغسل، مع جعلهم انتقاله سببا. فإنه إذا انتقل وجب الغسل، فما معنى أن يكون خروجه من غير مخرجه المعتاد غير موجب. فانه لا يخرج إلا وقد انتقل. (¬5) كذا في الأصول، ولم يظهر لنا المراد به ..

بلذة، ما لم يكن) الخارج منه المني (نائماً، ونحوه) كمغمىً عليه. ويلزم من وجود اللذة أن يكون دفقاً فلهذا استغني عن ذكره. (الثالث): من موجبات الغسل (تغييب الحشفة كلها) أي حشفة الذكر، وهي ما تحت الجلدة المقطوعة من الذكر في الختان، بشرط كونها أصلية (أو) تغييب (قدرها من مقطوعها). ويترتب على تغييب الحشفة أحكام (¬1): منها تحريم الصلاة، والطواف، وسجود الشكر، والتلاوة، ومس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد إلا بوضوء، ويفسد الصلاة، وعلى مُغَيبِها في الحيض أو في النفاس الكفارة، وُيبطِل الاعتكاف، وُيفسِد الحج والعمرة، وتحليل المبتوتة، وتقرير المسمى، أو مهر المثل، ويوجب العدة، والاستبراء، والجلد، والتغريب، والرجم، ولحوق الولد، وإزالة الإِجبار عن الكبيرة، وتحصين الزوجين، والفيئة في الإِيلاء، وتحريم بنت الزوجة، وإحضار الماء للغسل، ويفسد الصوم الواجب، والتطوع، ويقطع التتابع في النذر المتتابع، نهاراً، وفي الظهار مطلقاً (¬2) للمظاهر منها، ويوجب الكفارة في الصوم، والكفارة على الحالف على عدم الوطء، والعقوبة في نكاح المتعة، ودفع العنت، وتحصل به الرجعة للحر والعبد والمبعض، وسقوط خيار المعتقة تحت عبده. وتغييبها الذي يوجب الغسل يشترط أن يكون (بلا حائل) لانتفاء التقاء الختانين مع الحائل، لأن الحائل هو الملاقي لختان كل من المغيِّب والمغيَّب فيه، (في فرجٍ) أصلي، فلا غسل بتغيب حشفةٍ أصليةٍ في قُبُل ¬

_ (¬1) في تحفة الودود لابن القيم أن بعضهم جمع أحكام تغييب الحشفة، فكانت 392 حكما (عبد الغني). (¬2) أي أن الجماع يقطع تتابع صوم النذر ان وقع نهاراً، بخلاف الصوم في كفارة الظهار، فينقطع تتابعه سواء وقع الجماع ليلاً أو نهاراً لقوله تعالى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.

[شروط صحة الغسل وواجباته وسننه]

خنثى مشكلٍ (ولو) كان الفرج الأصليُّ (دُبراً) لوجود الفرج الأصلي, ولو (لميّت) لأنه إيلاج في فرج (أو) كان (لبهيمة أو طيرٍ) لأنه إيلاج في فرج، أشبه الآدمية (لكن لا يجب الغسل إلاَّ عَلَى ابن عشر وبنت تسع.) فيلزم الغسل من ذُكِر إذا أراد ما يتوقف على غسلٍ أو وضوءٍ، كصلاة، وطواف، ومس مصحف. ولا يلزمه الوضوء إذا أراد اللبث في المسجد. وإن مات شهيداً قبل غَسْلِهِ غُسِلَ. (الرابع): من موجبات الغسل: (إسلام الكافر ولو مرتداً) أو مميزاً، سواءٌ وُجِد في كفره ما يوجبه أو لا، وسواء اغتسل قبل إسلامه أو لا. (الخامس): من موجبات الغسل: (خروج دم الحيض.) وانقطاعه شرط لصحة الغسل له. (السادس): من موجبات الغسل: (خروج دم النِّفاس) فلا يجب بولادة عرت عنه (¬1)، كما لو ألقت علقة. (السابع): من موجبات الغسل: (الموت، تعبداً) لأنه لو كان عن حدث لم يرتفع، لبقاء سببه، كالحائض. ولو كان عن نَجَسٍ لم يطهر مع بقاء سبب التنجيس وهو الموت. ويستثنى من ذلك الشهيد، والمقتول ظلماً. فصل [شروط صحة الغسل وواجباته وسننه] (وشروط) صحة (الغسل سبعة) الأول: (انقطاع ما يوجبه) كفراغ جماع، وانقطاعِ حيضٍ. (و) الثاني: (النية) للخبر السابق. (و) الثالث: (الإِسلام. و) الرابع: (العقل. و) الخامس: (التمييز، و) ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. والصواب (عَرِيَتْ).

[سنن الغسل:]

السادس: (الماء الطهور المباح، و) السابع: (إزالة ما يمنع وصوله) ولا تشترط إزالة النجاسة التي لا تمنع وصول الماء. (وواجبه) واحد، وهو (التسمية. وتسقط سهواً) وجهلاً كالوضوء. (وفرضه) واحد وهو (أن يعمّ بالماءِ جميع بدنه، وداخلَ فمِهِ وأنفِهِ) كوضوء، لأنهما في حكم الظاهر (حتى ما يظهرُ من فرج المرأة عند القعود) على رجليها (لـ) قضاء (حاجتها) لأنه في حكم الظاهر، لا ما أمكن من داخله، ولا غَسْل داخل عينٍ، ويجب غسل ما تحت خاتمٍ ونحوه (وحتى باطنَ شعرها) أي المرأة، وكذلك الرجل، مسترسلاً كان أو غيره. (ويجب نقضه) أي الشعر (في الحيض والنفاس، لا الجنابة) أي لا يجب نقضه للجنابة، إن روَّتْ أصوله، وحتى حشفةَ أقلف (¬1) مفتوقة. (ويكفي الظن) أي ظن المغتسل (في الإِسباغ) أي في وصول الماء إلى البشرة. [سنن الغسل:] (وسننه) أي الغسل: (الوضوءُ قبله) وصفته كالوضوءِ المنفرد عن الغسل. (وإزالة ما لوّثه من أذًى) أي لطَّخه من منيٍّ أو غيره بفرجه أو غيره. (وإفراغه) أي المغتسل (الماءَ على رأسه ثلاثاً) يحثي الماء عليه ثلاث حَثَيَات. (و) إفراغُه الماء (على بقية جسده) بإفاضة الماء عليه (ثلاثاً) لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتَسَلَ من الجنابَة غَسَلَ يَدَيْهِ ثلاثاً، وتوضّأَ وضوءَه للصلاة، ثم يخلّل شعره بِيَدَيهِ، حتّى إذا ظنَّ أنَّه ¬

_ (¬1) الأقلف غير المختون.

قَدْ روّى بَشَرَتَهُ أفاضَ الماءَ عليهِ ثلاثَ مراتٍ، ثمّ غَسَلَ سائِرَ جَسَدَهِ" متفق عليه. (والتيامن) بأن يغسل شِقَّه الأيمن قبل شِقّه الأيسر. (والموالاة) وهي أن لا يؤخَّر غسل بعض جسده حتى يجفّ ما غسله. (وإمرار اليد على الجسد) لأنه أنقى، وبه يتيقّن وصول الماء إلى مَغَابِنِه (¬1) وجميع بدنه، وبه يخرج من الخلاف (¬2). قال في الشرح: "يستحب إمرار يده على جسده في الغسل والوضوء، ولا يجب إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده". (وإعادة غسل رجليه بمكان آخر) ولو في حمّامٍ ونحوه مما لا طين فيه. وإن أخر غسل قدميه في وضوئهِ، فغسلهما آخَر غُسْلِهَ فلا بأس (¬3). (ومن نوى غسلاً مسنوناً) كغسل الجمعة، والعيدين، أجزأ عن الغسل الواجب لجنابةٍ أو غيرِها إن كان ناسياً للحديث الذي أوجبه، ذكره في الوجيز، وهو مقتضى قولهم: أو نوى التجديد ناسياً حدثه، خصوصاً وقد جعلوا تلك أصلاً لهذه فقاسوها عليها (¬4)، كذا في شرح الإِقناع. (أو) نوى غسلاً (واجباً أجزأ عن الآخر) أي عن المسنون بطريق الأولى. وإن نواهما حَصَلا. والمستحبّ أن يغتسل للواجب غسلاً، ثم للمسنون آخر (¬5). (وإن نوى) أي المغتسل بغسله (رفع الحدثين) الأكبر والأصغر أجزأ ¬

_ (¬1) المغابن أماكن انطواء الجلد، كالإِبط والعُكَنِ، وما تحت الألية، وباطن الرّكبة. (¬2) أي خلاف المالكية فانهم يوجبون الدَّلك. (¬3) أي بأن قدم من الوضوء غسل الوجه واليدين ومسح الرأس. ولم يغسل رجليه إلا بعد إفاضة الماء. (¬4) يعني ما تقدم في تجديد الوضوء. (¬5) في هذا الاستحباب نظر، إذ لا دليل عليه. ولم يذكره في شرح المنتهى.

عنهما، ولم يلزمه ترتيب ولا موالاة، لأن الله تعالى أمرَ الجُنُبَ بالتطهير، ولم يأمره معه بوضوء. ولأنهما عبادتان، فتداخَلَتَا في الفعل، كالعمرة في الحج. قال في شرح الإِقناع: "وظاهره كالشرح والمبدع وغيرهما: يسقط مسح الرأس اكتفاءً عنه بغسله، وإن لم يمر يده" (أو) نوى رفع (الحدث وأطلق) فلم يقيده بالأكبر ولا بالأصغر، أجزأ عنهما، لشمول الحدث لهما، (أو) نوى بغسله (أمراً لا يباح إلا بوضوء وغسل،) كمسّ مصحفٍ، وطوافٍ (أجزأ) هذا الغسل (عنهما) أي عن الطهارتين منفردتين، ويسقط الترتيب والموالاة، فلو اغتسل إلا أعضاءَ الوضوءِ، لم يجب الترتيب في غسلها, لأن حكم الجنابة باقٍ. وإن نوى قراءة القرآن ارتفع الأكبر فقط. (ويسن) للمتوضِّئ (الوضوء بمدٍّ،) أي بزنة مدّ من الماء (¬1). (وهو رطل وثلث (¬2) بالعراقي). وزِنَةُ المد بالدراهم مائة وأحَدٌ وسبعون درهماً إسلاميًّا وثلاثة أسباع درهم. (وأوقيّتان وأربعة أسباع أوقية بالقدسيّ)، وثلاثُ أواقٍ وثلاثة أسباعِ أوقيّةٍ دمشقية. (و) يسن الاغتسال بصاعٍ، وهو) أي الصاعُ (خمسة أرطالٍ وثلثُ رطل بالعراقي) نقله الجماعة (¬3) عن أحمد، وفاقاً لمالك والشافعيّ. ¬

_ (¬1) قال في شرح المنتهى "بمد من الماء" وهو الأوجه، لأن المد كيل. فتوضؤه بما كيله مُدّ، لا بما زنته مُدّ. وبينهما فرق. ومثل هذا يقال في الصاع .. (¬2) المُدُّ مكيالٌ مقداره ربع صاعٍ. ولأجل تحديده قدروه بما يَسَع من البُرِّ الرزين ما وزنه رطل وثلث بالعراقي. وهكذا قلْ في التقديرات الآتية بالدراهم وغيرها في كلام المصنف والشارح. ومثل البرّ الرزين العدس. أما لو قُدِّر بالشعير فإنه يتسع لأقلّ من رطل، لأن الشعير أخف. وانظر شرح المنتهى 1/ 82 (¬3) أي رواة أحمد وهم: صالح، وعبد الله، وحنْبَلٌ، والمرُّوذي، وإبراهيم الحربيّ، =

(وعشر أواقٍ وسبعان بالقدسيّ). وزنة الصاع بالدراهم الإِسلامية ستُّمائة وخمسة وثمانون درهماً، وخمسة أسباع درهم. ورطلٌ وأوقية وخمسة أسباع أوقية بالدمشقي. وبيان المدّ والصاع ينفعك هنا، وفي الفُطرة، والفدية، والكفارة بأنواعها، وغير ذلك كما لو نذر الصدقة بمدٍّ أو صاع. (ويكره الإِسراف) في الماء، ولو على نهر جارٍ، في الوضوء والغسل (لا الإِسباغ بدونِ ما ذُكِر) من الوضوء بالمدّ، والغسلِ بالصّاع. والإِسباغ فيهما تعميم العضو بالماء بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحاً. (ويباح الغسل) والوضوء (في المسجد ما لم يؤذ به) أحداً، أو يؤذ المسجد (¬1). ولا يغسل فيه ميت. قاله (¬2) الشيخ. ويكره إراقة ماء الوضوء وماء الغسل في المسجد، أو في مكان يداس فيه، كالطريق، تنزيهاً للماء لأنه أثر عبادة. (و) يباح الغسل في (الحمّام) فإنه روي أن ابن عباس دخل حمّاماً بالجحفة، (إن أمِنَ الوقوع في المحرّم) بأن يَسْلَمَ من النظر إلى عوراتِ الناس، ومسّها، ويسلَم من نظرهم إلى عورته ومسّها. (فإن خيف) الوقوع في المحرّم بدخوله (كُره) له ذلك. (وإن علم) الوقوع في محرّم بدخوله (حَرم) عليه دخوله. كل ذلك في حق الرجل. أما المرأة فلها دخوله بشروط، منها: أن تسلم من النظر إلى عورات الناس ومسّها، ومنها: أن يسلم الناس من النظر إلى عورتها ومسّها. ¬

_ = والميموني (عبد الغني) وقال: هذا ما كان في حفظي قديماً. (¬1) فيجوز جعل مكان في المسجد لأجل الوضوء، أو لأجل الغسل، ولكن لا تزال فيه نجاسة (عبد الغني). (¬2) في (ف): "قال الشيخ .. "

في الأغسال المستحبة

ومنها: أن يوجد لها عذر من حيض أو نفاس أو جنابة أو مرض أو حاجة إلى الغسل. ومن آدابه أن يقدِّم رجلَه اليسرى في الدخول، والمغتسلِ، ونحوهما. والأوْلى أن يغسل قدميه وإبطيه بماء بارد عند الدخول. ويلزمُ الحائط. ويقصدُ موضعاً خالياً. ولا يدخلُ البيتَ الحارّ حتى يعرق في الأول. ويقلّل الالتفات. ولا يطيلُ المقام إلا بقدر الحاجة. ويغسل قدميه عند خروجه بماء بارد، فإنه يُذْهب الصداع. ولا يكَره دخولُه قُرْبَ الغروبِ، ولا بينَ العشاءَيْن. ويحرم أن يغتسل عُرْياناً بين الناس، فإن سَتَرَهُ إنسانٌ بِثوبٍ، أو اغتسل عرياناً خالياً عن الناس فَلا بأس. والتستر أفضل. وتكره القراءة فيه، ولو خَفَض صوته. وكذا السلامُ، لا الذِّكْر. فصل في الأغْسال المستحبة (وهي ستة عشر) غُسْلاً: (آكدها) الغسل (لصلاة جمعةٍ في يومها) أي الجمعة. وأوّله من طلوع الفجر، فلا يجزئ قبله (لذَكَر) لا لمرأةٍ نصًّا، (حَضَرَها) أي الجمعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدُكم إلى الجُمُعةِ فِليغتسل" (¬1) رواه ابن عمر. ولو لم تجب عليه كالمسافر والعبد. والأفضل عند مضي (¬2) إليها، وعن جماع، فإن اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء. ¬

_ (¬1) حديث "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة ... " لم نجده بهذا اللفظ، وهو عند أحمد والشيخين والترمذي بلفظ "من أتى الجمعة فليغتسل". (¬2) (ب، ص) بدون قوله (إليها).

ومفهوم قولِهِ: لصلاةِ جمعة، أنه إذا اغتسل بعد الصلاة لم يصب السنة. (ثم) يلي غسل الجمعة في الآكدية الغسل (لغسلِ ميتٍ) مسلمٍ أو كافرٍ. (ثم) الثالث من الأغسال المستحبة: الغسل (لـ) صلاة (عيدٍ في يوميه) أي العيد، لحاضرها إن صلى. وأوله من الفجر. وقال ابن عقيل: المنصوص عن الإِمام أحمد أنه قبل الفجر وبعده، لأنّ زمنَه أضيق من الجمعة. (و) الرابع: (لـ) صلاة (كسوفٍ). (و) الخامس: لصلاة (استسقاء) لأنهما صلاتان تجتمع لهما الناس، فاستُحِبّ الغسلُ لهما، كصلاة الجمعة والعيدين. (و) السادس والسابع: الغسل لـ (جنونٍ وإغماءٍ) بلا إنزال. والجنون مرضٌ يصير به العقل مسلوباً، لعدم تمييزِه بين الحدثِ وغيره. والإِغماء هو ما يكون به العقل مغلوباً، لأنه فوق النوم (¬1). (و) الثامن: الغسل (لاستحاضة لكل صلاة). (و) التاسع: الغسل (لِإحرامٍ) بحج أو عمرة أو بهما، حتى لحائض ونفساء. قاله في المنتهى. (و) العاشر: الغسل (لدخول مكة) ولو مع حيضٍ، قاله في المستوعب. قال الفتوحي في شرحه على المنتهى: وظاهره ولو (¬2) كان بالحرم، كالذي بمنًى إذا أراد دخول مكة، فإنه يستحب له الغسل كذلك. (و) الحادي عشر: الغسل لدخول (حرمها) أي مكة. (و) الثاني عشر: الغسل لِـ (وقوفٍ بعرفة) رواه مالك عن نافع عن ¬

_ (¬1) أي فيغتسل لاحتمال أن يكون احتلم فيهما ولم يشعر (ش المنتهى). (¬2) في ف: لو (بدون واو).

ابن عمر. وهذا السند يسمى بسلسلة الذهب عند المحدثين. (و) الثالث عشر: الغسل لـ (طواف زيارةٍ). (و) الرابع عشر: الغسل لـ (طواف وداعٍ). (و) الخامس عشر: الغسل لـ (مبيت بمزدلفة). (و) السادس عشر: الغسل لـ (رمي جمارٍ) ظاهره في كل يوم. ولم أرَ من تعرَّضَ لذلك. وإنما يؤخذ من التعليل. فإنهم قالوا: لأن هذه أنساكٌ تجتمع لها الناس ويزدحمون، فيعرقون، فيؤذي بعضهم بعضاً، فاسْتُحِبّ كالجمعة. وفي منسك ابن الزاغوني: وَلسَعْيٍ. قال في المبدع: ونصَّ أحمد: ولزيارة قبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: لكل اجتماع مستحب. ولا يستحبُّ الغسل لدخول طيبة (¬1) ولا للحجامة. (ويتيمَّم) استحباباً (للكل) أي لكلِّ الأغسال المستحبة (لحاجةٍ) أي عند حاجة الصحيح إلى الماء، إما لعدمه، أو لعدوٍّ يحول بينه وبين الماء، أو يكون الماء يسيراً، أو يكون الماء ببئرٍ ولا يجد آلة يستقي بها، أو نحو ذلك. (و) يستحب التيمم (لما يُسَنُّ له الوضوء) كقراءة قرآنٍ وذكرٍ (إن تعذر) كالمريض والجريح العاجز عن أن يمسَّ الماءُ بَشَرَتَهُ. قال في المبدع: وظاهر ما قدمه في الرعاية: لا لغير عذر. تذنيب: وقت الغسل للاستسقاء عند إرادة الخروج للصلاة، وللكسوف عند وقوعه، وفي الحج عند إرادة النسك الذي يريد أن يفعله قريباً، قاله في الإِنصاف. ¬

_ (¬1) وهي المدينة المنورة.

باب التيمم

باب التَّيَمُّم التيمم في اللغة: القصد، وفي عرف الفقهاء: استعمالُ ترابٍ مخصوصٍ، في أعضاءٍ مخصوصة، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص. (يصح) أي التيمم (بشروط ثمانية: الأول: (النية). (و) الثاني: (الإِسلام) فلا يصح من كافر. (و) الثالث: (العقل) فلا يصح من غير عاقل. (و) الرابع: (التمييز) فلا يصح قبله. (و) الخامس: (الاستنجاء أو الاستجمار) المستوفيان للشروط. (والسادس: دخول وقت الصلاة) التي يريد أن يتيمم لها، من فرضٍ، أو راتبةٍ، أو صلاة ضحًى. ويصح لفائتةٍ إذا ذكرهها وأراد فعلها، (فلا يصح التيمم لصلاةٍ قبل وقتها) وإنما جاز الوضوء قبل الوقت لكونه رافعاً للحدث، بخلاف التيمم فإنه طهارة ضرورة، فلا يجزئ (¬1) قبل الوقت، كطهارة المستحاضة. (ولا) يصح التيمم (لنافلةٍ وقتَ نهي) لأنه ليس وقتاً له. ويصح ¬

_ (¬1) في ف: فلم يُجَزْ.

لركعتي طوافٍ كلَّ وقتٍ لِإباحتهما إذن. (السابع): من شروط صحة التيمم (تعذّر استعمال الماء، إما لعدمهِ) أي الماء، إما بحبس الماء عنه، أو حبسِهِ عن الماء، أو قطعِ عدوٍّ ماءَ بلده، أو عجزٍ عن تناول الماء من بئر أو غيره ولو بفم، لفقد آلةٍ يتناول بها، كمقطوع اليدين، والصحيح الذي لا يجد ما يستقي به من حبلٍ أو دلوٍ أو غيرِهما. ولا فرق في ذلك بين كونه مقيماً أو مسافراً سفراً طويلاً أو قصيراً. فمن اتصف بصفة من هذه الصفاتِ جاز له أن يتيمم. (أو لخوفِهِ) أي المتيمم (باستعمالِهِ) أي الماء (الضررَ) من بردٍ شديدٍ، أو فوتِ رفقةٍ، أو مالٍ، أو خافَ عطَشَ نفسِهِ أو غيرِه من آدميٍّ أو بهيمةٍ محترمين، أو احتياجِهِ لطبخٍ أو عجن. فمن خاف شيئاً من ذلك أبيح له التيمم. أو لا يجده إلا بزيادةٍ كثيرةٍ عادةً على ثمنِ مثلٍ في ذلك المكان الذي هما به. (ويجب) على من معه ماء يستغني عن شربه (بَذْلُهُ للعطشانِ) ولو كان الماءُ نجساً، لأنه إنقاذٌ من مهلكةٍ، كإنقاذ الغريق، وعُلِمَ منه أن الطاهرَ يجبُ بذْلُهُ بالأولى (من آدميٍّ، أو بهيمة) محترمين. (ومن وَجَدَ ماء) وهو محدِثٌ أو جُنبٌ (لا يكفي لطهارته استعمله فيما يكفي وجوباً، ثم تيمّم) للباقي من أعضاءِ طهارته الذي لم يجدْ له ماءً. ولا يصح تيمُّمُه قبل استعماله إذا لم يحتج إليه كما تقدم. وإنما لزمه استعماله لأنه قدر على بعض الشرط، فلزمه فعله، كبعض السترة (¬1). وكما لو كان بعض بدنه جريحاً وبعضُه صحيحاً، فإنه يلزمه ¬

_ (¬1) أي فكذلك إن وجد بعض اللباس لستر العورة وجب استعماله ولو لم يستر كل العورة.

غسل الصحيح. قاله في شرح المنتهى لمؤلفه. وإن وجد تراباً لا يكفيه للتيمم استعمله وصلى. قاله في شرح الإِقناع. قلت: ولا يزيد على ما يجزئ على ما يأتي. وظاهره: ولا إعادة. وفي الرعاية: ثم يعيد الصلاة إن وجد ما يكفيه من ماء أو تراب، انتهى. (وإن وصل المسافر إلى الماء وقد ضاق الوقت) عن طهارته به، (أو) لم يضق الوقت عن الطهارة به، ولكن (علم أن النَّوْبَةَ) أي نوبة استقائه منه (لا تصل إليه إلا بعد خروجِهِ) أي بعد خروج الوقت، أو علمه المسافر العادم للماء قريباً عُرْفاً، أو دلَّه عليه ثقةٌ قريباً عُرْفاً، وخافَ بطلبِهِ فوتَ الوقتِ، أو دخولَ وقتِ الضرورةِ، أو فوتَ غرضِهِ المباح (عَدَل إلى التيمم) لأنه غير قادرٍ على استعماله في الوقت، أشبه العادم له. (وغيره) أي غير المسافر فيما ذكر (لا) يَعدِلُ إلى التيمم (ولو فاتَهُ الوقت) كمن خاف فوت جنازة، وعيد إذا توضأ، فلا يجوز له التيمم. (ومن في الوقت) أي وقت الصلاة الحاضرة (أراق الماء، أو مرَّ به وأمكنه الوضوء منه، ويعلم أنه لا يجد غيرَهُ) ولم يتوضأ منه، أو باعَهُ، أو وهَبَهُ، وقد دخل الوقت، ولم يترك منه ما يتطهر به (حَرُم) عليه ذلك، ولم يصح البيع ولا الهبة، لتعلُّقِ حق الله تعالى به، كالأضحية المعينة. (ثم إن) لم يجد غيره، و (تيمَّم وصلَّى لم يُعِدْ) لأنها صلاة بتيمم صحيح، لعدم القدرة على الماء حينئذ، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت. (وإن وجد محدِثٌ ببدنه أو ثوبه نجاسةٌ) لا يُعفى عنها (ماءً) مفعول وجد (لا يكفي) للحديث والنجاسة (وجب غَسْلُ ثوبِهِ) أوَّلاً، لأنه

لا يصح التيمم عنه. ظاهره أنَّ شرطه أن يكون يكفي للسبعِ غَسَلاتٍ في نجاسة الثوب أو البدن. وإلاَّ فحكمه حكم عادمه. انتهى. (ثم إنْ فَضَلَ) بعد إزالة النجاسة عن ثوبه (شيء غَسَل بدنه). (ثم إن فضل) بعد ذلك (شيءٌ تطهَّر به. وإلا) بأن لم يفضلْ شيء (تيمَّمَ) وجوباً. وإن كان على بدنه نجاسة، وهو محدث، والماءُ يكفي أحَدَهما غَسَل النجاسة ثم تيممَ عن الحدث، إلا أن تكون النجاسة في محلٍّ يصحُّ تطهيره من الحدث، فيستعمله فيه عنهما. (ويصحّ التيمم لكل حدثٍ) أما للحدث الأصغر فبالاتفاق، وأما للأكبر ففي قول أكثر العلماء. وحكم الحائض والنفساء إذا انقطع دمهما حكم الجنب. (و) يصح التيمم (للنجاسة) إذا كانت (على البدن). قال أحمد: هو بمنزلة الجنب، يتيمم. (بعد تخفيفها) عن بدنه (ما أمكن) بمسحِ رَطْبِهِ، وحكِّ يابِسِهِ لزوماً. ولا إعادة عليه. ولا فرق بين كون النجاسةِ على موضعٍ صحيحٍ أو جريحٍ. قاله في شرح المنتهى. (فإن تيمم لها قبل تخفيفها لم يصحّ). قال في شرح المنتهى: وعلم مما تقدم أنه لا يتيمم للنجاسة على الثوب، ولا على المكان. الشرط (الثامن: أن يكون) التيمم (بترابٍ) فلا يجوز بالرمل والنورة والجِصِّ ونَحِيتِ الحجارة وما في معنى ذلك. (طهورٍ) فلا يجوز التيمم بترابٍ تيُمِّمَ به، لزوال طهوريته باستعماله، وذلك هو التراب المتناثر عن الوجه واليدين بعد مسحهما به، والباقي عليهما.

[صلاة عادم الماء والتراب]

(مباحٍ) لا يجزئ التيمم بترابٍ مغصوبٍ. (غيرِ محترقٍ) فلا يجوز بما دُقَّ من خزفٍ، أو آجُرٍّ، ونحوهما، لأن الطبخَ أخرجَه عن أن يقع عليه اسم التراب. (له غبارٌ يَعْلَقُ باليد) أو غيرها. وخرج بِذلك السَّبِخَةُ وغيرها مما ليس له غبار يَعْلَقُ باليد، فإنه لا يصح التيمم به. وشمل كلامُة ما لو ضرب على لِبَدٍ، أو بساطٍ، أو صخرةٍ، أو حيوانٍ، أو بَرْذَعَةِ حمارٍ أو شجرٍ، أو خشب، أو عِدْلِ شعيرٍ، أو نحوِهِ مما عليه غبار يعلق باليد، فإنه يصح التيمم به. وإن خالط الترابَ ذو غبار كالجصّ والنورة، فإن كانت الغلبة للتراب جاز التيمم، وإن كانت الغلبة للمُخالِطِ لم يجز التيمُّم به، قياساً على الماء. قاله في شرح المنتهى. [صلاة عادم الماء والتراب] (فإن لم يجد ذلك) أي الماء والتراب، كمن حُبِسَ بمحلٍّ لا ماءَ به ولا تراب، أو ببدنه قروحٌ أو جراحاتٌ لا يستطيع معها مسَّ البشرةِ لا بماءٍ ولا تراب، (صلَّى الفَرْضَ فقط) دون النوافل (على حَسَب حالِهِ) لأن العجز عن الشرط لا يوجب ترك المشروط، كما لو عَجَز عن السترة والاستقبال. (ولا يزيد في صلاته على ما يجزئ) في الصلاة، فلا يقرأ زائداً على الفاتحة، ولا يُسَبِّح زائداً على المرَّة، ولا يزيد على ما يجزئ في طمأنينة ركوعٍ أو سجودٍ أو جلوسٍ بين السجدتين. وإذا فرغ من الفاتحة ركع في الحال. وإذا فَرَغ مما يجزئ في التشهد الأول نهض في الحال. وإذا فرغ مما يجزئ في التشهد الأخير سلَّم في الحال.

[فروض التيمم وواجباته]

(ولا إعادة) عليه، لأنه أتى بما أُمِرَ به. وتبطل بحدثٍ ونحوه فيها. وإن وجد ثلجاً، وتعذَّر تذويبه، مَسَحَ به أعضاءه لزوماً، وصلَّى ولم يُعِدْ إن جَرَى بِمسٍّ. فإن لم يَجْرِ أعادَ. ومثله لو صلى بلا تيمم، مع وجود طين يابس عنده، لعدم وجود ما يدقه به. فصل [فروض التيمم وواجباته] (واجب التيمم التسمية) ظاهره. ولو عن نجاسةٍ ببدنٍ. (وتسقط سهواً). (وفروضه) أي التيمم (خمسة): الأول من فروض التيمم: (مسحُ الوجه) سوى ما تحت شعره، ولو خفيفاً، وداخِلِ فمٍ وأنفٍ، ويكره إدخالُ الترابِ في الفمِ والأنف. (و) الثاني من فروض التيمم: (مسح اليدين إلى الكوعين) للآية الكريمة (¬1). وإذا عُلِّق حكمٌ بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذراع، كقطع يد السارق، ومسّ الفرج. ولو أَمَرَّ المحلَّ الذي يجب مسحه في التيمم على ترابٍ، ومَسَحَه به، أو نَصَبَ المحلَّ الذي يجب مسحه لريح فعمَّه التراب، ومَسَحَه به، صحّ التيمم. لا إن سَفَتْهُ بغير قصد. (الثالث) من فروض التيمم: (الترتيب في الطهارة الصغرى) لا ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.

الكبرى، (فيلزم مَنْ جُرْحُه ببعض أعضاءِ وضوئِه إذا توضأ أن يتيمم له عند غَسْلِهِ لو كان صحيحاً) فلو كان الجرح في الوجه، بحيث لا يمكنه غسل شيء منه, تيمم أوّلاً، ثم أتمّ الوضوء. وإن كان في بعض وجهِهِ خُير بين غسل الصحيح منه ثم يتيمَّمُ للجرح منه، وبين التيمم، ثم يغسل صحيحَ وجهِهِ وُيتِمُّ الوضوءَ. وإن كان الجرح في عضو آخر لزمه غسل ما قبله، ثم كان الحكم فيه على ما ذكرنا في الوجه. وإن كان في وجهه ويديه ورجليه احتاجَ في كلّ عضوٍ إلى تيمّم في محلِّ غَسْلِهِ، ليحصل الترتيب. ولو غسل صحيح وجهه، ثم تيمم له وليديه تيمماً واحداً، لم يجزئه، لأنه يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزءٍ من الوجه واليدينِ في حال واحدة. فإن قيل: هذا يَبْطُل بالتيمم عن جملة الطهارة، حيث يسقط الفرض عن جميع الأعضاء بالتيمم جملةً واحدة؟ قلنا: إذا كان عن جملة الطهارة فالحكم له دونها، وإن كان عن بعضها ناب عن ذلك البعض، فاعتُبر فيه ما يُعْتَبَرُ فيما ينوب عنه من الترتيب. قاله في الشرح. (الرابع) من فروض التيمم: (الموالاة) في الطهارة الصغرى (فيلزمه) أن يعيد (غسل الصحيح عند كل تيمم) فلو كان الجرح في رِجْلٍ، فتيمَّمَ له، عند غسلها، ثم بعد زمنٍ لا تمكن فيه الموالاة خَرَجَ الوقت، بَطَلَ تيممه، وبطلت طهارته بالماء أيضاً، لفوات الموالاة، فيعيد غسل الصحيح ثم يتيمم له عقبه. وعُلِمَ مما تقدم أن التيمم عن جرح لو (¬1) كان في غسل جنابة لم تبطل طهارته بالماء بخروج الوقت، لعدم وجوب الترتيب والموالاة فيه. ¬

_ (¬1) في (ف): "ولو" لصواب ما في (ب، ص) بدون واو.

[مبطلات التيمم]

(الخامس) من فروض التيمم: (تعيين النية لما يتيمم له) كصلاةٍ، وطوافٍ، ومسِّ مصحفٍ (من حدثٍ) أكبر أو أصغر (أو نجاسةٍ) على بدنه، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة، فلم يكن بدٌّ من التعيين، تقويةً لضَعْفِهِ. وصفة التعيين أن ينوي استباحةَ صلاةِ الظهر مثلاً، من الجنابة إن كان جُنباً، أو من الحدث إن كان محدثاً، أو منهما إن كان جنباً محدثاً، وما أشبه ذلك (فلا تكفي نية أحدهما عن الآخر). ولو اجتمع حدثٌ ونجاسة على بدنٍ، وعيَّنَ بتيمُّمِه أحدَهما دون الآخرِ، لم يكتَفِ بهذا التيمم، ولا أحد المحدثين عن الآخر. (وإن نواهما) أي الحدثين بتيممه الواحد، أو أحَدَ أسباب أَحَدِهما، كما لو بالَ، ومسَّ ذكره، ولَمَسَ امرأة لشهوةٍ، ونوى بتيممه أحد هذه الأسباب (أجزأ) هذا التيمم عن الجميع. وكذا إذا وجد منه موجباتٌ للغسل، ونوى بتيممه أحدها (¬1)، فإنه يجزئ عن جميعها. [مبطلات التيمم] (ومبطلاته) أي التيمم، حتى تيمم جنبٍ لقراءة قرآن، ولُبْث بمسجد، وتيممِ حائضٍ لوطءٍ، ولنجاسة ببدن، وجنازة، ونافلة، ونحوها (خمسة): أشار للأوّل بقوله: (ما أبطل الوضوء) كخروج شيء من سبيلٍ، ومسِّ فرجٍ ونحو ذلك من نواقض الوضوء المتقدمة. هذا إذا كان تيممه عن حدثٍ أصغر، لأنه بدل الوضوء، فيبطله ما أبطله. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "أحدهما" والتصويب من (ف).

ويبطل تيممٌ عن حدثٍ أكبرَ بما يوجبه كالجماع وخروج المنيِّ بلذةٍ، إلا غُسْلَ حيضٍ ونفاس، إذا تيممتْ له، فلا يبطل بمبطلاتِ غسلٍ ووضوءٍ، بل بوجود حيضٍ ونفاس. فلو تيممتْ بعد طُهْرِها من حيضٍ، له، ثم أجنبت، فله الوطء، لبقاءِ حكمِ تيممِ الحيضِ. والوطء إنما يوجبُ حدثَ الجنابةِ. وأشار للثاني بقوله: (ووجود الماء) لعادمِهِ إذا قدر على استعماله بلا ضرر، قال في الفروع: وإن قدر عليه في تيممه (¬1) بَطَلَ. وكذا بعده قبل الصلاة. وأشار للثالث بقوله: (وخروج الوقت) ما لم يكن في صلاةِ جُمعةٍ، ويخرج الوقت فيها، فلا يبطل ما دام فيها، ويتمُّها لأنها لا تقضى. جزم به في الإِقناع والمنتهى. قال في شرحه: قلت: فَيُعايا بها. فيلزم من تيممَ لقراءةٍ ووطءٍ ونحوهِ كلبثٍ، التركُ حتى يعيد التيمم. لكن لو نوى الجمع في وقت الثانية، ثم تيمم للمجموعة أو الفائتة في وقت الأولى لم يبطل التيمم بخروج وقت الأولى، لأنّ نية الجمع صيرت الوقتين كالوقت الواحد. وأشار للرابع بقوله: (وزوالُ المبيحِ له) أي للتيمم، كما لو تيمم لمرض فعوفي، أو لبردٍ فزال. ثم إن زالَ بعد صلاته، أو طوافه، لم تجب إعادته. قال في شرح الإِقناع: قلت: فتستحب الإِعادة. انتهى. وأشار للخامس بقوله: (وخلع ما مسح عليه) (¬2) كخفٍّ وعمامةٍ، إن تيمَّم وهو عليه. قال في الإِقناع: وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خَلَعَهُ بطل تيممه، نصًّا. قال في شرحه: وظاهره: ولا فرق بين أن ¬

_ (¬1) أي في أثناء تيممه. (¬2) في هذا من الحرج ما فيه. ولم نطلع على تعليلهم لذلك. وقال الشيخ عبد الغني اللبدي "لي فيه وقفة، فلْيُحَرَّر.".

[صفة التيمم]

يكون مَسَحَ عليه قبل التيمم أوْ لا. وكذا إذا انقضت مدة المسح. جزم بالثانية في شرح المنتهى. (وإن وجد الماء) من تيمم لعدمه (وهو في الصلاة، بطلت) صلاته، فيتوضأ إن كان محدثاً. ويغتسل إن كان جنباً، ويبتدئ الصلاة. (وإن انقضت) الصلاة (لم تجب الإِعادة) ولو لم يخرج الوقت، قاله في شرح المنتهى. والطواف كالصلاة. [صفة التيمم] (وصفته) أي التيمم (أن ينوي) بالتيمم استباحةَ ما تيمم له، مع تعيين الحدث الذي تيمم عنه. (ثم يسمّي) أي يقول: "بسم الله" لا يقوم غيرها مقامها. (ويضرب الترابَ بيديه مفرَّجتي الأصابع) ليصل الترابُ إلى ما بينها (ضربةً واحدةً). ولو كان التراب ناعماً فوضع يديه على التراب وضعاً من غيرِ ضربٍ، فعلِقَ التراب بيديه، أجزأه. (والأحوط اثنتان) أي ضربتان: واحدة للوجه، وأخرى لليدين. قال في المبدع: قال القاضي والشيرازي وابن الزغوني، وهو رواية: المسنونُ ضربتان، يمسح بإحداهما وجهَة، وبالأخرى يديه إلى المرفقين. (بعد نزع خاتَمٍ ونحوه) ليصل التراب إلى ما تحته. فإن علق بيديه ترابٌ كثير نفخه إن شاء. وإن كان خفيفاً كُره نفخه لئلا يذهب فيحتاج إلى إعادة الضرب. (فيمسح وجهَهُ بباطنِ أصابِعِه وكفيه براحتيه) قال في الإِنصاف: الصحيح من المذهب أن المسنونَ والواجب ضربةٌ واحدة. نص عليه.

[تأخير التيمم لمن يرجو الماء]

وعليه جمهور الأصحاب. انتهى. [تأخير التيمم لمن يرجو الماء] (ويسن لمن يرجو وجود الماء) وعالمِ وجودهِ، ومستوٍ عنده الوجود والعدم (تأخيرُ التيمُّم إلى آخر الوقت المختار) بحيث يدرك الصلاة كلها قبل خروجه، لأنه يستحب تأخير الصلاة لِإدراك الجماعة، فتأخيرها لِإدراك الطهارة أولى. قال في شرح المنتهى: وعُلم مما تقدم أنه لو تيمَّم وصلى أوّل الوقتِ أجزأه، ولو وجد الماء بعد ذلك في الوقت، كمن صلى عريَاناً ثم قدر على سترة في أول الوقت. وكمن صلَّى جالساً ثم بَرَأ (¬1) في الوقت. انتهى. (وله أن يصلِّيَ بتيممٍ واحدٍ ما شاء من الفرضِ والنفل) إن تيمم للفرض، (لكن لو تيمم للنفل لم يستبح الفرض) لأنه تيمم للأدنى، فلا يجوز له الأعلى. [ما يستباح بالتيمم] تنبيه: مَنْ نوى بتيممه استباحةَ شيءٍ تشترط له الطهارة استباحَهُ، لأنه منويٌّ، واستباح مثله ودونه، فمن نوى بتيممه صلاة الظهر مثلاً فله فعلها وفعلُ مثلِها، كفائته، لأنهما في حكم صلاة واحدةٍ، واستباح دونَهُ كالنَّفْلِ في المثال. ولا يستبيحُ أعلى مما نواه، فمن نوى النفل لا يستبيح الفرضَ، فإن نوى نفلاً، أو أطلق النية للصلاة، بأن نوى استباحةَ الصلاة، ولم ينو ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "بَرئ" وأصوب منه "بَرَأ" يقال: بريء من الحق، وبَرَأ من اَلمرَض.

فرضاً ولا نفلاً لم يصل إلاَّ نفلاً. فأعلى (¬1) ما يباح بالتيمم فرضُ عينٍ، فنذرُ صلاةٍ، ففرضُ كفايةٍ، فنافلة، فطواف نفلٍ، فمسُّ مصحفٍ، فقراءةٌ، فلُبْثٌ. قال في الشرح: وإن نوى نافلةً أبيح له قراءة القرآن، ومسُّ المصحف، والطواف، لأن النافلة آكد من ذلك كله، لكون الطهارةِ مشترطةً لها، بالإِجماع. قال: وإن نوى فرضَ الطوافِ استباحَ نَفْلَه، ولا يستبيح الفرضَ منه بنية النفلِ، كالصلاة. وقال في المبدع: ويباح الطواف بنية النافلة في الأشهر، كمسّ المصحف. قال الشيخ تقي الدين: ولو كان الطواف فرضاً. انتهى. ¬

_ (¬1) لو قال (وأعلى) لكان أفضل.

باب إزالة النجاسة الحكمية

باب إزَالَة النَّجَاسَة الحكميَّة أي الطارئة على الأعيان الطاهرة، وحكمْ زُوَالِها، وذِكْرُ النجاسات، وذكرُ ما يعفى عن يسيره. (يشترط لـ) تطهير (كل متنجّسٍ) حتى ذيلِ امرأةٍ وأسفلِ خفٍّ وحذاء (سبعُ غَسَلاتٍ) إن أنقتْ، وإلاَّ فحتّى تُنْقى، مع حتٍّ وقَرْصٍ لحاجةٍ. (و) يشترط (أن تكون إحداهما) أي الغَسَلات السبع (بترابٍ طاهر طهور (¬1)) ومحل هذا أن كانت النجاسة على غير الأرض. ويشترط كون التراب يستوعب المحل المتنجس، إلا فيما يضر، فِيكفي مسمّاه. ويعتبر ماءٌ طهور يوصل التراب إلى المحلّ، فلا يكفي ذَرُّه. والأُولى من الغَسَلات أولى بالتراب (أو صابونٍ ونحوه) كالنُّخالة، وكل ما له قوة في الإِزالة. (ولا يشترط استعمال التراب إلا في متنجَّسٍ بكلبٍ أو) متنجس (بخنزيرٍ) وبمتولّد من أحدهما. (ويضرُّ بقاء طعم النجاسة) فلا يحكم بطهارة المحل المغسول مع ¬

_ (¬1) في ف "بتراب طهور" ولعله أولى لأن ذكر الطهور يغني عن ذكر الطاهر.

بقاء طعم النجاسة فيه، لدلالته على بقاء العين، ولسهولة إزالته. (لا) يضر بقاء (لونها) أي النجاسة (أو ريحها، أو هما) أي اللون والريح (عجزاً) عن إزالتهما فإن ذلك لا يضرّ. وإن لم تزل النجاسة إلا بملحٍ وأُشْنَانٍ ونحوِهما مع الماء لم يجب. قال في شرح المنتهى: ويتوجه احتمال الوجوب. ويحتَمِلُه كلام أحمد. فعلى هذا يلطخ أثر الحبر بخردل مسحوقٍ مجبولٍ بماء، ثم يغسل بماء وصابون. (ويجزئ في بولِ) لا غائطِ (غلامٍ) احترز به عن بول الجارية والخنثى (لم يأكل الطعام بشهوةٍ) قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى: الصبيُّ إذا طَعِمَ الطعامَ وأراده واشتهاه غُسِل بوله، وليس إذا أُطْعِمَ، لأنه قد يلعَقُ العسَلَ ساعةَ يولدَ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حَنَّكَ بالتمر (نَضْحُه، وهو غَمْرُهُ بالماء) (¬1) وإن لم ينفصل الماء عن المحل. ويطهر بالنضح. وكذا قيئه، وهو أخفُّ من بوله، فيكفي نضحه بالأوْلى. والحكمة فيه أن بول الغلام يخرج بقوَّةٍ فينتشر، أو أنه يكثر حمله على الأيدي، فتعظُمُ المشقةُ بغسله، أو أن مزاجَهُ حارٌّ فبوله رقيق، بخلاف الجارية. وقال الشافعي: لم يظهر لي فرقٌ من السُّنَّة بينهما. وأفاد ابن ماجة في سننه: أن الغلام أصله من الماء والتراب، والجارية من اللحم والدم (¬2). (ويجزئ في تطهير صخرٍ) وأَجْرِنَة حَمَّامٍ ونحوه، صغارٍ مبنية، أو كبارٍ مطلقاً، قاله في الرعاية، وحيطانٍ، (وأحواضٍ، وأرضٍ تنجست بمائع،) كبول (ولو من كلبٍ أو خنزيرٍ مكاثَرَتُها بالماءِ) ولو من مطرٍ أو سيلٍ (بحيثُ يَذْهَبُ لون النجاسة وريحُها) لأن بقاءهما، أو بقاء ¬

_ (¬1) أيْ رشُّه به رشًّا يبلُّه بَلَلاً كاملاً. (¬2) هذا يستقيم في شأن حواء لا في شأن بناتها!!

أحدهما، يدل على بقاء النجاسة، ما لم يعجزْ عن إذهابهما أو إذهاب أحدهما. قال في المبدع: وإن كان مما لا تزال إلا بمشقة سقط، كالثوب، ذكره في الشرح. (ولا تطهر الأرض) المتنجّسة (بالشَّمس، و) لا بـ (الريح)، ولا بـ (الجفاف، و) لا تطهر (النجاسة بالنار) فرمادها نجس، ولا بالاستحالة، فالمتولد منها كدودِ جُرْحٍ: وصراصِرِ كُنُفٍ، أو كلابٍ تُلقى في الملاَّحة فتصيرُ ملحاً، نجس. (وتطهر الخمرة بإنائِها) كمحتفر من الأرض فيه ماء كثير حُكِمَ بنجاسته بتغيّرها بها، ثم زال تغيره بنفسه، فإنه يُحْكَم بطهارةِ محله من الأرض تَبعاً له. (إن انقلبت خلاً بنفسها.) فعلم منه أنها لو خُلِّلتْ، أو نُقِلَتْ (¬1) لقصد التخليل أنها لا تطهر. وهو المذهب. كذا في شرح المنتهى. قال شيخنا الشيخ عبد الباقي مفتي الحنابلة بالديار الشامية: إن الإِناء يطهر إذا كان تنجُّسُه بالخمرة التي خُلِّلتْ، فإن كان متنجساً بغيرها من خمرٍ أو غيره لم يطهر بتخللها فيه. (وإذا خفي موضع النجاسة) في بدنٍ أو ثوبٍ (غُسِلَ) كل محلٍّ احتمل أن النجاسة أصابته من البدن والثوب (حتى يتيقَّن غَسْلها) فإن لم يعلم جهتها من البدن أو الثوب، بأن لم يعلم هل كانت مما يقع عليه نظره من ذلك أوْ لا، غَسَلَهُ كلَّه. وإن علمها في أحد الكمَّين ونسيه، غسلهما. وإن رآها في بدنِهِ أو ثوبه الذي عليه غَسَل كل ما يدركُه بصرُه من بدنِهِ، أو ثوبِه، لا إن خفيت النجاسة في صحراء، أو حَوْشٍ واسع، ونحوهما، فإنه لا يجب غسل جميعه، ويصلَّى فيهما بلا تحرٍّ. ¬

_ (¬1) في (ب، ص) "انقلبت" والتصويب من (ف).

[في النجاسات]

فصل [في النجاسات] (المسكر المائع) نجس سواء كان خمراً أو غيرَه مما فيه شِدَّةٌ مُطربَة. (وكذا الحشيشة) المسكرة نجسة، قاله: في شرح المنتهى، وكذا في الإِقناع. ظاهره، أميعت أوْ لا. (وما لا يؤكل من الطير والبهائم مما فوقَ الهر خِلقةً) أي في الخلقة (نجس) فدخل فيما لا يؤكل من الطير سِباعُها: كالعُقَاب، والصَّقْر، والحِدَأةِ، والبُومة، وما يأكل الجِيفَ منها كنَسْرٍ، ورَخَمٍ، وعقْعَقٍ، وغُرابِ بَيْنٍ، وأبْقَعَ. (¬1) ودخل فيما لا يؤكل من البهائم: الفيلُ، والبغل، والحمار، وسباعُها مما فوق الهرّ: كالأسد، والنمر، والذئب، والفهد، والكلب، وابن آوى، والدّبّ، والقرد؛ وما تولد بين مأكول وغيره كالسِّمْعِ ولد الضَّبْعِ من الذّئب؛ (وما دونها) أي الهرة أو مثلها (¬2) (في الخلقة) طاهر وذلك (كا) لنِّمْسِ، والنَسْنَاسِ، وابن عِرْسِ، والقُنْفذِ، و (الحيّة) ولم أرها لغيره (¬3) (والفأر) صرح بذلك كلِّه، إلا الحيّة، في شرح المنتهى. (والمسكر غير المائع) كجوزة الطيب (فطاهر). (وكلُّ ميتةٍ نجسِةٌ) طاهرةً في الحياة أوْ لا (غيرَ ميتةِ الآدميّ) فإنها طاهرة، لأنه إذا نَجُسَ بالموت لم يطهر بالغَسْل كالحيوانات التي تَنْجُس بالموت. ¬

_ (¬1) غراب البين الأبقع، أو الأحمر المنقار والرجلين. وأما الأسود فإنه الحاتِم لأنه يحتِمُ بالفراق (القاموس - بين) ومقصوده أن هذا كان اعتقاد أهل الجاهلية. (¬2) (أو مثلها) ساقط من (ف). (¬3) أي لم يَرَ غير صاحب (دليل الطالب) من الحنابلة، ذكر الحية في الطاهرات.

وحكم أجزاء الآدمي وأبعاضِهِ حكمُ جُمْلَتِهِ. (و) غيرَ ميتةِ (السمك) وسائر حيواناتِ البحر مما لا يعيش إلا في الماء، لأنها لو كانت نجسة لم يُبَحْ أكلها. (و) كذا الجرادُ (وما لا نفْسَ) أي لا دَمَ (له سائلةٌ كالعقربِ، والخُنْفُساء، والبَقّ، والقَمْل، والبَرَاغيث،) والعنكبوت، والصراصر، إن لم تكن متولِّدة من النجاسة، طاهر. (وما أُكِلَ لحمه، ولم يكن أكثر علفه النجاسة فبوله، ورَوْثُهُ، وقَيْئُه، ومَذْيُهُ، وَمنيُّه،، وَوَدْيُهُ، ولبنه، طاهر.) وأما ما كان أكثر عَلَفِه النجاسة، قَبْل حَبْسِهِ ثلاثاً، فبوله ولبنه وبيضه نجس. (وما) ذكر من البول وغيره، إذا كان مما (لا يؤكل) كالهر والفأر (نَجسٌ). ولا يُعْفَى عن يسير شيءٍ منها، لأن الأصل، عدم العفو عن النجاسة إلا ما خَصَّه الدليل. (إلا منيَّ الآدميّ) فطاهر. قال في الإِقناع: "ولو خرجَ بعد استجمارٍ" انتهى. والمراد بالاستجمار ما استوفى الشروط، (ولَبَنَهُ) أي الآدميّ (فطاهرٌ). (والقيح) نجس (والدم) نجس، إلاَّ دَمَ الشهيد عليه (¬1)، فإنه طاهر. (والصديد نجس). (ولكن يعفى في الصلاة عن يسيرٍ) لا كثيرٍ (منه) أي من الدم والقيح والصديد، ولو من غير مصلٍّ، لأن الإِنسانَ غالباً لا يَسْلمُ منه. وهو قول جماعةٍ من الصحابةِ والتابعينَ فمن بعدهم، ولأنَّهُ يشقّ التحرُّز ¬

_ (¬1) أي ما دام على الشهيد. فإن انفصل عنه فنجس (شرح النتهى).

منه، فعفي عن يسيره، كأثر الاستجمار. وفُهِمَ من قوله: في الصلاة، أنه لا يعفى في المائع والمطعوم عن شيء منه، ولو لم يدركْهُ الطَّرْف، كالذي يَعْلَقُ بأرجل الذباب. صرح به في الإِقناع. وقدْرُ المعفوّ عنه الذي (لم ينقض) الوضوء (إذا كان من حيوانٍ طاهرٍ في الحياةِ) آدميًّا كان، أو غيرَه يؤكَلُ، كالإِبل، والبقرَ أوْ لا كالهرّ، بخلافِ الحيوان النجسِ كالكلبِ، والبغل، والحمار، فلا يعفى عن شيء مما ذكر منه (ولو) كان (من دَمِ حائضٍ) أو نفساءَ أو مستحاضةٍ. (وُيضَمُّ يسيرٌ) نجسٌ يعفى عن يسيره (متفرقٌ بثوب) واحد، كما لو كان بثوبٍ بقعٌ من دمٍ أو قيحٍ. فإن كان يصير بضمّه كثيراً مُنِع من الصلاة فيه (لا) إن كان في (أكثر) من ثوبٍ، فإنه لا يضم، ويكون لكل ثوبٍ حكمٌ بنفسه. قال في شرح الإِقناع: "ولو كانت النجاسة في شيء صفيقٍ قد نَفَذَتْ فيه من الجانبين، فهي نجاسة واحدة. وإن لم تتصل، بل كان بينهما شيء لم يصبه الدم، فهما نجاستان إذا بَلَغا لو جمعا (¬1) قدراً لا يعفى عنه لم يعف عنها، كجانبي الثوب" انتهى ويعفى عن نجاسةٍ بعينٍ. والبلغَمُ ولو أزرقَ طاهر. (وطينُ شارع ظُنَّتْ نجاسَتُهُ) طاهرٌ. قال في الرعاية: "وطينُ الشوارعِ طاهرٌ إن جُهِلَ حالُه. أومأ إليه أحمد" انتهى. قال في الإِقناع: "ويعفى عن يسيرِ طينِ شارعٍ تحققت نجاست". ويعفى عن يسيرِ سَلَسِ بَوْلٍ، مع كمال التحفُّظ. ¬

_ (¬1) (ب، ص): "لِوَجْهِهَا" والصواب "لو جِمُعَا" كما في (ف).

(وعَرَقٌ ورِيقٌ من) حيوان (طاهر) مأكولٍ أو غير مأكولٍ (طاهرٌ). (ولو أكلِ هرٌّ ونحوه) من الحيوانات الطاهرة كالنَّمس والفأْرِ والقُنْفُذِ (أو) أكل (طفلٌ نجاسةً، ثم شَرِبَ من مائِعٍ لم يَضُرَّه) (¬1) ولو قَبْلَ أن يغيب. قال في المبدع: "ودَلَّ أنه لا يُعفى عن نجاسةٍ بيدها أو رِجْلها. نص عليه أحمد". (ولا يكره) استعمال (سُؤْرِ) بضم السين والهمزة (¬2) (حيوان طاهر. وهو فضلةُ طعامِهِ وشرابِهِ.) تتمّة: إذا وقع في المائع هرٌّ ونحوه مما ينضمّ دُبُرُه، وخرج حيًّا، لم يؤثٍّر ذلك. وكذا لو وقع في جامدٍ، وهو أي الجامِد، ما يمنع انتقال النجاسة فيه لكثافته. وإن مات حيوان ينجس بالموت، أو وَقَع ميتاً رطباً في دقيق، ألقي وما حولَه واستُعْمِل الباقي. وإن اختلط ولم ينضبط حرم الكلّ. نقله صالح وغيره. ¬

_ (¬1) ف: "لم يضُرّ". (¬2) أي: وبالهمزة. وهمزته ساكنة.

باب الحيض

باب الحَيْض هو دمُ طبيعةٍ وجِبِلَّةٍ، يخرج مع الصحة، من غير سبب ولادةٍ، في أوقات معلومة. (لا حيض قبل تمامِ تسعِ سنين) فمن رأت دماً قبل بلوغ هذا السن لا يكون حيضاً. قال في الشرح: "لا نعلم في ذلك خلافاً". (ولا) حيض (بعد خمسين سنة) لقول عائشة رضي الله عنها: "إذا بلغت المرأةُ خمسينَ سنةً خرجتْ من حد الحيض". وروي عنها رضي الله عنها أنها قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين. (ولا) حيض (مع حملٍ) فلا تترك الصلاة لما تراه. ولا يُمْنَعُ وطؤها، إن خاف العنت. وتغتسل عند انقطاعه، استحباباً. [أقل الحيض وأكثره وغالبه] (وأقل الحيض يومٌ وليلةٌ)، قال في شرح الإِقناع: "والمراد: مقدار يوم وليلة، أي أربع وعشرون ساعةً، فلو انقطع الدم لأقل منه فهو دم فساد". (وأكثره خمسةَ عشرَ يوماً) بلياليهن.

[ما يحرم بالحيض]

(وغالِبُهُ) أي الحيض (ستٌّ) من الأيام (أو سبع) من الأيام (¬1) (وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً) لما روى الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، واحتجّ به، (عن عليٍّ رضي الله عنه، أن امرأة جاءته، وقد طلّقها زوجها، فزعمت أنها حاضت في شهرٍ ثلاثَ حِيَضٍ، فقال عليٌّ لِشُرَيْحٍ: قُلْ فيها. فقال شريح: إن جاءت ببيِّنَةٍ من بِطَانَةِ أهلِها، ممن يُرْضَى دينه وأمانَتُه، فشهدت بذلك، وإلا فهي كاذبة. فقال عليّ: قالُونْ" (¬2) أي: جَيّدٌ، بالروميّة. وهذا لا يقوله إلا توقيفاً. وهو قول صحابيٍّ انتشر، ولم يُعلَمْ خلافُه. قال الإِمام أحمد: لا يُخْتَلَفُ أن العدَّة يصحُّ أن تنقضي في شهر، إذا قامَتْ بِهِ البيّنة. (وغالِبُهُ) أي الطُّهْرُ بين الحيضتين (بقيَّةُ الشهر) بعد القدر الذي تجلسه، فمن كانت تَحيض في كل شهرٍ ستًّا أو سبعاً فالغالب أن طُهْرَها ثلاثةٌ وعشرون يوماً، أو أربعة وعشرون يوماً، لأنَّ غالب النِّساءِ يَحِضْنَ في كل شهر حيضةً. (ولا حدّ لأكثره) أي لأكثرِ الطهر بين الحيضتين، لأنه لم يَرِدْ لأكثره تحديدٌ من الشرع، ولأنَ من النساءِ من تطهرُ الشهرَ والثلاثةَ والسنةَ وأكثرَ من ذلك، ومنهن من لا تحيضُ أصلاً. [ما يحرم بالحيض] (ويحرم بالحيضِ) أي بوجوده (أشياءٌ): (منها) وهو الأول: (الوطء في الفَرْجِ) لقولِهِ تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} إلا لمن به شَبَقٌ، ¬

_ (¬1) لو قال في الموضعين: "من الليالي" لكان أولى من حيث اللغة. والمراد الأيام بلياليها. (¬2) هكذا ذكر هنا وفي المغني وشرح المنتهى دون عَزْوٍ إلى مصدر معين.

بشرط أن لا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، ويخافَ تَشَقُّقَ أُنْثَيَيْهِ إن لم يَطأْ، وأنْ لا يجد غيرَ زوجتِهِ الحائضِ، بأن لا يقدرَ على مَهْرِ حرَّةٍ، ولا ثمنِ أمةٍ. (و) منها (الطلاق) وهو الثاني: وهو طلاقُ بِدْعَةٍ، لما فيه من تَطْويلِ العدّة. ويقع. (و) منها (الصلاة) وهو الثالث: أي فِعْلُها، فلا يجوز لها فعل شيءٍ منها فرضاً ولا نفلاً. (ومنها) (الصوم) وهو الرابع: أي فعلُ الصوم. لكن تقضي الصومَ، إجماعاً، كذا في شرح المنتهى. (و) منها (الطواف) وهو الخامس: أي صحةُ فعله، لقيام المانع بها. والفرضُ والنفلُ في ذلك سواء. (و) منها (قراءة القرآن) وهو السادس: لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:"لا تقرأ الحائضُ، ولا الجُنُبُ، شيئاً من القرآن" رواه أبو داود (¬1). وقال الشيخ: إذا ظنَّتْ نسيانَه وجبتْ. (و) منها (مسُّ المصحف) وهو السابع: وفاقاً، لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. (و) منها (اللبثُ في المسجد) وهو الثامن: لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا لجُنُبِ" (¬2) رواهُ أبو داود. وكذا تُمْنَعُ من (المرور فيه) أي المسجد (إن خافت تلويثَه.) قال في رواية ابن إبراهيم: تَمُرُّ ولا تَقْعُد. وهو التاسع. ¬

_ (¬1) والترمذي. كما في شرح المنتهى. وهو حديث ضعيف. لكن صحّ عن عمر من قوله (إرواء الغليل 1/ 206) (¬2) حديث "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" رواه أبو داود والبيهقي، وصححه ابن خزيمة والشوكاني. وضعفه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (الإرواء 1/ 212)

[ما يوجبه الحيض]

[ما يوجبه الحيض] (ويوجب الحيض) خمسة أشياء: الأول: (الغسل) عند انقطاع دم الحيض، كذا في شرح المنتهى. (و) الثاني مما يوجبه الحيض: (البلوغُ) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقْبَلُ الله صلاةَ حائضٍ إلا بِخمارٍ" (¬1) رواه أحمد. (و) الثالث مما يوجبه الحيض: (الكفارةُ بالوطءِ فيه، ولو) كان الواطئُ (مكرهاً) على الوطء، (أو ناسياً) للحيض، (أو جاهلَ الحيضِ والتحريمَ). وتجزئ الكفارةُ إن أعطاها إلى مسكينٍ واحد، كنذرٍ مطلقٍ، وتسقط بعجزه. (وهي) أي كفارة الوطء في الحيض (دينارٌ، أو نصفهُ، على التخيير) فإن أخرج ديناراً فهو المقدار الواجب. قال في شرح المنتهى: فإنْ قيل: كيف يخيَّر بين شيءٍ ونصفِه؟ قلنا: كما يخيَّر المسافر بين القصر والإِتمام. انتهى. ولا فرق بين كون الوطء في أوله أو آخره. (وكذا هي) أي وكالرجل المرأةُ في وجوب الكفارة عليها (إن طاوعت) الواطئَ على الوطء. والرابع: الاعتداد به. والخامس: الحكم ببراءَةِ الرَّحِمِ في الاعتداد به، إذ العلة في مشروعية العدة في الأصل العلمُ ببراءة الرحم. (ولا يباح بعد انقطاعه) أي دمِ الحيض (وقبل غُسلِها، أو تيمُّمِها ¬

_ (¬1) حديث "لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين (إرواء 1/ 214).

[في المبتدأة]

غير الصوم) لأن وجوبَ الغسل لا يَمْنَعُ فعله، كالجنب (و) غيرُ (الطلاقِ) لأن تحريمه لتطويلِ العدة بالحيض، وقد زال ذلك. (و) غيرُ (اللبثِ بوضوءٍ في المسجد.) وفي الكافي: يزول بانقطاعه أربعة أشياء: سقوط فرض الصلاة، ومنع صحة الطهارة له، وتحريمُ الصلاة، والطلاق. (وانقطاعُ مبتدأُ (الدَّمِ) مضافٌ إليه أي دَمُ الحيض والنفاس (بأنْ لا تتغيَّر قطنةٌ احتشت بها في زمنِ) متعلق بانقطاع (الحيضِ) مضاف إليه (طهرٌ) خبر المبتدأ. والمعنى: وإن طهرتْ أثناءَ عادَتِها طهراً خالصاً لا تتغير معه القطنةُ إذا احتَشَتْها، ولو أقلَّ مدةٍ، فهي طاهرٌ، تغتسل وتصلي وتفعل ما تفعلُهُ الطاهرات، لأن الله تعالى وَصَفَ الحيض بكونه أذًى، فإذا ذَهَب الأذى وجب زوال الحيض. (وتقضي الحائض و) كذلك (النفساءُ الصومَ، لا الصلاةَ) لأنَّه يَشُقُّ لتكرُّرِهِ وطول مُدَّته. فإن أحبت القضاء فظاهرُ نقلِ الأثرمِ المنعُ. قال في الفروع: "ويتوجه احتمالٌ: يكره، لكونه (¬1) بدعةً". كما رواه الأثرم عن عكرمة. ولعل المراد: إلاَّ ركعتي الطواف، لأنها نسكٌ لا آخِرَ لوقته. فيعايا بها. كذا قال في المبدع. فصل [في المبتدأة] المبتدأة بصفرةٍ أو كدرةٍ تجلس بمجرّد ما تراه أقلَّ الحيض، ثم تغتسل، وتصلي. فإذا انقطع ولم يجاوزْ أكثَرَه اغتسلت أيضاً. تفعلُه ¬

_ (¬1) (ب، ص): لكنه بدعة. والتصويب من (ف).

[المستحاضة ومن حدثه دائم]

ثلاثاً. فإن لم يختلف صار عادة. وتعيد صوم فرض ونحوه كالطواف والاعتكاف الواجبين إذا وقعا فيه، لا إن أَيِستْ قبل تكراره، أو لم يعد. ويحرم وطؤها قبل تكراره زَمَنَ الدم الزائد على اليوم والليلة. [المستحاضة ومن حَدَثُه دائم] (ومن جاوز دمها خمسة عشر يوماً فهي مستحاضة) لأن دمها لا يصلح أن يكون حيضاً، لمجاوزته أكثره، فتجلس أقلّ الحيض من كل شهرٍ حتى يتكرر في ثلاثة أشهرٍ فتجلسُ من مثل أولِ وقتِ ابتدائِها من كل شهر ستًّا أو سبعاً، بِتَحَرٍّ إن علمت وقت ابتداءِ الدَّمِ بها، أو (تجلس من) أول (كل شهرٍ) هلاليٍّ إن جهلت وقت ابتداءِ الدم بها (ستًّا أو سبعاً) بتحرٍّ. هذا كله (حيث لا تمييز) فإن كان هناك تمييزٌ بأن كان بعضُه ثخيناً، أو أسودَ، أو مُنْتِناً، وصلح حيضاً، بأن لم ينقص عن يومٍ وليلةٍ، ولم يزد على خمسةَ عَشَرَ يوماً، تجلسُه، أي تَدَعُ زمنه الصومَ ونَحْوَهُ مما تشترط له الطهارة، (ثم تغتسلُ وتصومُ وتصلِّي بعد غَسْلِ المحلِّ) لِإزالةِ ما عليه من الدم (وتعصيبِهِ) تعصيباً يمنع الخارجَ حسب الإِمكانِ، من حشوٍ بقطنٍ، وتشدُّهُ بخرقةٍ طاهرةٍ. وتَسْتَثْفِر المستحاضةُ إن كان دمها كثيراً، بخرقةٍ مشقوقةِ الطرفين، تشدهما على جنبها ووسطها على الفرج. ولا يلزمها إعادة الغُسْلِ والعَصْبِ لكل صلاة إن لم تفرط. (وتتوضأ في وقت كل صلاةٍ) إن خرج شيء. قال في شرح المنتهى: "وعُلِمَ مما تقدم أنه إذا لم يخرج شيء لم يجب وضوء". (وتنوي بوضوئها الاستباحةَ) دون رفع الحدث، لمنافاة وجودِهِ نية رفعِهِ (¬1). وسواء انتقضت طهارتها بخروج الوقت، أو طُرُوءِ حدَثٍ آخر. ¬

_ (¬1) في الأصول: لمنافاة وجود نية رفعه. والصواب بإثبات الضمير.

[النفاس]

ويرتفع الحدَثُ عمن حدثه دائم بنية الاستباحة. (وكذا يَفْعَلً) مِنْ غَسْلِ المحلِّ، وعصْبِهِ، والوضوء في وقت كل صلاةٍ (كلُّ مَنْ حدثُه دائمٌ) كمن به سَلَسُ بولٍ، أو مذيٍ، أو ريحٍ، أو جرحٌ لا يرقأُ دمه، ومن به رعافٌ دائمٌ. وإن اعتيدَ انقطاعُ الحدثِ زمناً يتَّسع للصلاةِ المفروضَةِ، والطهارةِ، تعيَّنَ للعبادة. وإن عَرَضَ هذا الانقطاع، لمن عادتُهُ الاتصال، بَطَلَ وضوؤه. ومن تمتنع قراءتُه أو يلحقه السلس قائماً، صلى قاعداً. ومن لم يلحقْهُ إلا راكعاً، أو ساجداً، ركع وسجد، كالمكان النجس. (ويحرم) على زوجٍ وسيّدٍ (وطء المستحاضة) من غير خوفِ العَنَتِ منه أو منها. فإن كان أبيح، ولو وجد الطول لنكاح غيرها. (ولا كفارة) فيه. [النفاس] (والنفاسُ لا حدّ لأقلِّه.) وبه قال الثوريّ والشافعيُّ. وهو دمٌ ترخيه الرَّحِمُ، مَعَ ولادةٍ، أو قبلها بيومين أو ثلاثة. بأمارة، وبعدها إلى تمام الأربعين من ابتداءِ خروجِ بعضِ الولدِ. (وأكثرُهُ أربعون يوماً.) فإن جاوزها، وصادف عادةَ حيضها، ولم يزد عن العادة، فالمجاوزُ حيضٌ. أو زادَ، وتكرر، ولم يجاوز أكثر الحيض فالزائد حيض، لأنه دمٌ متكرر في زمن يصلح أن يكون حيضاً، أشبه ما لو لم يكن قبلِهِ نفاسٌ. (ويثبثُ حكمُه) أي النفاسُ (بوضعِ ما يتبين فيه خلقُ إنسانٍ) فلو وضعت عَلَقَةً، أو مضغةً لا تخطيط فيها، لم يثبتْ لها بذلك حكم النفاس.

[قطع الجماع والحيض بالدواء]

(فإن تخلَّلَ الأربعين نَقَاءٌ فهو طُهْرٌ) ولو كان أقل من يومٍ كالنقاءِ زمن عادة الحيض، (لكن يُكْرَهُ وطؤها فيه) لأنه لا يؤمن من العود في زمن الوطء، فيكون وطؤُها في نفاسٍ. (ومن ولدت ولدين فأكثر فأول مدة النفاس من الأول) لأنه دمٌ خرج عقب الولادة، فكان نفاساً. (فـ) ــــعلى هذا (لو كان بينهما أربعون يوماً) فأكثر (فلا نفاسَ للثاني) نصّ عليه، لأن الولد الثاني تبعٌ للأول، فلم يعتبر في آخر النفاس، كما لم يعتبر في أوله. (وفي وطء النفساءِ ما في وطء الحائض) من وجوب الكفارة بالوطء فيه. [قطع الجماع والحيض بالدواء] (ويجوز للرجلِ شُرْبُ دواءٍ مباح) لا محرّم (يمنع الجماعَ) ككافور ونحوِه. (وللأنثى شربه) أي الدواءِ المباح لِإلقاء نطفةٍ و (لحصولِ الحيضِ، ولقطعِهِ) أي الحيض. قال في الإِقناع: "مع أمن الضرر". ولا يجوز ما يقطع الحمل. وليس لأحد أن يسقيها دواءً مباحاً لقطع الحيض بلا علمها لِإسقاط حقها مطلقاً من النسل المقصود.

كتاب الصلاة

باب الأذَان والإقَامة الأذان لغةً: الإِعلام، وشرعاً: إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، أو قربِهِ لفَجْرٍ فقط. والإِقامة في الأصل مصدرُ أقامَ. وحقيقته إقامة القاعِدِ. وفي الشرعِ إعلامٌ بالقيام إلى الصلاة، بذكرٍ مخصوص فيهما (¬1). والأذانُ أفضل من الإِقامة والإِمامة. (وهما) أي الأذان والإِقامة (فرضُ كفايةٍ) لأنهما من شعائر الإسلام (¬2) الظاهرة، فكانا فرضَ كفايةٍ كالجهاد (في الحضَر) في القرى والأمصار (على الرجال) متعلق بقوله: "فرض كفاية" وعنه (¬3): والرجلِ الواحدِ (الأحرارِ) فلا يجبان على الأرِقَّاءِ. (ويسنَّانِ للمنفرد) لما روى عُقْبَةُ بن عامر، قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يَعْجَبُ ربُّكَ من راعي غَنَمٍ في رأسِ الشَّظِيَّة لِلْجَبَل، يؤذِّنُ بالصلاة، ويصلّي. فيقولُ الله عز وجل: انظُروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة، يخافُ منّي، قد غفرت لعبدي، وأدخلته ¬

_ (¬1) (ب، ص): "فيها" والتصويب من (ف). (¬2) (ب، ص): "من شعائر أعلام الإِسلام .. " والصواب ما في (ف) بحذف "أعلام" لأن الشعائر هي الأعلام. (¬3) أي في الرواية عن الإِمام أحمد.

[شروط الأذان وسننه وآدابه]

الجنة. " رواه النسائي (¬1). (و) يسنَّانِ (في السفر). (ويكرهان) أي الأذانُ والإِقامة (للنساءِ) والخناثى. (ولو) كان الأذان والإِقامة من النساء والخناثى (بلا رفعِ صوت). قال في الفروع: ويتوجَّهُ في التحريم (¬2) جهراً الخلافُ في قراءةٍ وتلبيةٍ. انتهى. (ولا يصحّانِ) أي الأذان والإِقامة (إلا مرتَّبَيْنِ) لأنَّهما ذكرٌ مُعْتَدٌ به، فلا يجوز الإِخلال بِنَظْمِهِ كأركان الصلاة. (متواليين عرفاً) لأن المقصود منهما الإِعلام، ولا يحصل إلا بالموالاة. (وأن يكونا) أي الأذان والإِقامة (من واحدٍ) فلو أتى واحد ببعضِهِ، وكَمَّله آخر، لم يُعتدَّ به، ولو كان ذلك لعذرٍ، بأن مات أو جن أو نحوه، من شَرَعَ في الأذان أو الإِقامة فكمّله الثاني. وإن نكَّسهما، أو فرَّق بينهما بسكوتٍ طويلٍ، ولو بنومٍ أو إغماء أو جنونٍ أو بكلامٍ محرَّمٍ وإن كان يسيراً، أو كثيراً مباحاً، لم يعتدّ به. (بنيةٍ منه) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات". [شروط الأذان وسننه وآدابه] (وشُرِطَ) بالبناء للمفعول، في المؤذّن الذي يعتدّ بأذانه، ستة شروط: الأول: (كونه مسلماً) لاشتراط النية فيه، وهي لا تصحُّ من كافرٍ. ¬

_ (¬1) رواه أيضاً أبو داود في كتاب السفر من سننه، وأحمد. وإسناده صحيح. (¬2) المراد بالتحريم تكبيرة الإحرام.

الثاني: كونه (ذكراً) قال في الفروع: ولا يعتدّ بأذان امرأةٍ اتفاقاً، وخنثى. الثالث: كونه (عاقلاً) فلا يصح من مجنون، كسائر العبادات. الرابع: كونه (مميزاً) فلا يشترط أن يكون المؤذن بالغاً. الخامس: كونه (ناطقاً). السادس: كونه (عدلاً ولو ظاهراً) فلا يعتدّ بأذان ظاهرِ الفسقِ، لأنه - صلى الله عليه وسلم -: "وصف المؤذنين بالأمانة" (¬1) والفاسق غير أمينٍ. قال في الشرح: "فأما مستور الحال فيصح أذانه بغير خلاف علمناه". (ولا يصحّان) أي الأذانُ والإِقامةُ (قبلَ الوقت) لأن الأذان شُرِع للِإعلام بدخول الوقت، وهو حث على الصلاة، فلم يصحّ في وقتٍ لا تصحُّ فيه الصلاة. والإِقامةُ شرعتُ للإِعلام بالقيامِ للصلاةِ، فلم تصحّ في وقت لا تصح فيه الصلاة (إلا أذانَ الفجر، فيصحُّ بعد نصف الليل) لأن وقتَ الفجر يدخلُ على الناس، وفيهم الجُنبُ والنائم، فاستُحِبَّ تقديمُ أذانِهِ حتّى يتهيأوا لها، فيدركوا فضيلة أول الوقت. (ورفعُ الصوتِ) بالأذان (ركنٌ) ليحصل السماعُ (ما لم يؤذِّن لحاضِرٍ) فبقدْرِ ما يُسْمِعُه. قال أبو المعالي: رفعُ الصوت بحيث يسمَعُ من تقومُ به الجماعَةُ ركن. (وسُنَّ) بالبناء للمفعول (كونًهُ) أي المؤذن (صَيِّتاً) أي رفيعَ الصوت، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار أبا محذورة للأذان لكونِهِ صَيِّتاً، ولأنه أبلغ في الإِعلام المقصودِ بالأذان. وَسُنَّ أيضاً كونه (أميناً) لأنه يؤذن على موضع عالٍ فلا يُؤْمَنُ منه النظر إلى العورات. ¬

_ (¬1) بقوله "الإِمام ضامن، والمؤذن مؤتمن" رواه الشافعي والترمذي من حديث أبي هريرة. وهو صحيح (الإِرواء 1/ 232)

وسُنَّ أيضاً كونُهُ (عالماً بالوقت) ليتحرّاه، فيؤذَنَ في أوله. ولأنه إذا لم يكن عالماً بالوقت لا يُؤْمَن منه الخطأ. واشترطه أبو المعالي. وسُنَّ أيضاً كونه (متطهراً) من الحدثين الأكبر والأصغر. والإِقامة آكدُ من الأذان، لأنها أقرب إلى الصلاة. وسن أيضاً كونه (قائماً فيهما) أي في الأذان والإِقامة، أما في الأذان فَلِمَا رَوَى أبو قتادةَ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ لبلالٍ قُمْ فأذّن" (¬1) وكان مؤذنو رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذنونَ قياماً. وأمَّا في الإِقامة، فلأن المقيمَ يدعو الناس إلى القيامِ إلى الصلاة، والداعي إلى شيءٍ أوْلى بالمبادرة إلى ما يدعو إليه غيرَه، ولأنها أحَدُ الأذانَيْنِ، فشُرِع لها القيام كالآخر. فيكرهان قاعداً لِغَيْرِ مسافرٍ ومعذور. (ولكن لا يكره أذانُ المُحْدِث) حدثاً أصغرَ كقراءَةِ القرآن. ويكره أذان جُنُبِ للخلافِ في صحته. (بل) تُكْرَهَ (إقامته) أي المحدث حدثاً أصغر، لَلفصل بينها وبين الصلاة (وُيسَنُّ الأذانُ أوَّلَ الوقتِ) ليصلي المستعجل (¬2). (و) يسن (الترسّل فيه) أي في الأذان، أي يتمهل المؤذّن، ويتأنَّى فيهِ، مِنْ قولِهِم: جاء فلانٌ على رِسْلِه، أيْ على مَهْلِهِ. ويسن أن يَحْدُرَ الإِقامة. (و) يسن (أن يكون) الأذان (على عُلوٍ) أي على موضعٍ عالٍ، كالمنارة، ونحوِها، لأنه أبلغ في الإِعلام. ويسنُّ أن يكون المؤذن (رافعاً وجْهَهُ) إلى السماءِ في حال أذانِهِ. ¬

_ (¬1) حديث "قُمْ فأذِّن" رواه البخارى ومسلم (الإِرواء 1/ 241). (¬2) (ف): "المتعجل".

قال في الإِنصاف: يرفع وجهَهُ إلى السماء في الأذان كله على الصحيح من المذهب. انتهى. وقيل: عند الشهادتين. وقيل: عند كلمة الإِخلاص. ويسن أن يكون (جاعلاً سَبَّابَتَيْهِ في) صماخ (أُذُنَيْهِ) لأمره - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يجعل إصبَعَيْهِ في أذنيه. ويسن أن يكون (مستقبلَ القبلة)، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من السنّة أن يستقبل القبلة بالأذان كله. وذلك لأنّ مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة. فإنْ أخلَّ باستقبال القبلة كره له ذلك وصح. انتهى. و (يلتفت) برأسِهِ وعُنقِهِ وصدره (يميناً لحيَّ على الصلاة، وشمالاً لحيَّ على الفلاح). (ولا يزيل قدميه). قال في حاشية المنتهى: قوله: ولا يزيل قدميه، أي سواء كان على منارةٍ أو غيرِها، أو على الأرض. قال في الإِنصاف: وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به أكثرهم. وقال القاضي والمَجْدُ وَجَمْعٌ: (ما لم يكن بمنارةٍ) ونحوِها. (و) يسن (أن يقول بعد حَيْعَلَةِ أذان الفجر) وفاقاً لمالكٍ والشافعيِّ، والحيعلة قولُ: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح: (الصلاةُ خيرٌ من النوم. مرتين). (ويسمَّى) قول: الصلاة خيرٌ من النوم (التثويبَ) لأنه من ثاب -بالمثلثة - إذا رجع، لأن المؤذن دعا إلى الصلاة بالحيعلتين، ثم دعا إليها بالتثويب. وقيل: سمّي به لما فيه من الدعاء. وظاهره أنه يقوله ولو أذّن قبل الفجر. ويكره في غيرها، وبين الأذان والإِقامة.

[إجابة المؤذن]

(ويسن أن يتولى الأذانَ والإِقامةَ واحدٌ) أي أن يتولى الإِقامة من يتولى الأذان (ما لم يشقَّ) ذلك على المؤذن، مثلَ أن يؤذن في منارة، أو مكان بعيد عن المسجد، فإنه يقيم في المسجد، لئلا تفوته بعض الصلاة. لكن لا يقيم إلا بإذن الإِمام. قال في الإِنصاف: وهو المذهب، وهو من المفردات. (ومَنْ جمَع) بين الصلاتين (أو قضَى فوائتَ، أذَّن للأولى) من المجموعتين أو الفوائت (وأقام للكل) أي لكل صلاة. ولا فرق في ذلك بين كون الجمع تقديماً أو تأخيراً. [إجابة المؤذن] (وسنَّ) للمؤذن، و (لمن سمع المؤذنَ، أو) سمع (المقيمَ) وللمقيمِ (أن يقول مثلَهُ) ولو ثانياً، وثالثاً (¬1)، ولو كان السامعُ في طوافٍ أو قراءةٍ، أو كان السامع امرأةً (إلا في الحيعلة، فيقولُ) مجيب المؤذن والمقيم: (لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله) هذا مستثنًى من قوله: مثلَه، يعني أنّ السامعَ يجيب المؤذنَ والمقيمَ، والمؤذَنُ والمقيمُ (¬2) يجيبُ نفسَه، بأن يقول مثل ما يقول، إلا إذا قال المؤذن أو المقيم: حيَّ على الصلاة. حيَّ على الفلاح. فإنه هُوَ والسامعُ يقولان: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليّ العظيم. (و) إلا (في التثويب) وهو قول المؤذن في أذأن الفجر: الصلاة خير من النوم، فإن سامعه يقول: (صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ) بكسر الراء، (وفي لفظ الإِقامة) فإنّ سامع المقيم يقول عند ذلك: (أَقَامَهَا الله وَأَدَامَهَا.) ¬

_ (¬1) أي ولو سمع أذانا ثانياً وأذاناً ثالثاً، فتستحب إجابتهما أيضاً. (¬2) سقط من (ص): "والمؤذِّنُ والمقيمُ".

وتكون الإِجابة عَقِبَ كلّ كلمة. ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله: إظهارُ العجزِ، وطلبُ المعونة منه في كل الأمور. وهو حقيقة العبودية. وقال الهيثم: أصْلُ: لا حولَ، من حال الشيءُ إذا تحرّك. تقول: لا حركةَ ولا استطاعةَ إلا بالله. وقال ابن مسعود: معناه لا حولَ عن معصيةِ الله إلا بِعِصْمَةِ الله، ولا قوةَ على طاعَتِهِ إلا بمعونته. قال الخطّابي: هذا أَحْسَنُ ما جاء فيه. وعبَّر عنها الجوهريُّ بالحَوْقَلَة. أَخَذَ الحاءَ من حول، والقافَ من قوة، واللامَ من اسم الله تعالى، وعَبَّرَ عن: حيَّ على الصلاة، وحيَّ على الفلاح، بالحيعلة، أَخَذَ الحاءَ والياء من حيّ، والعينَ واللامَ من عَلَى. (ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا فرغ، ويقول: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوةِ التامَّةِ والصلاةِ القائمةِ آتِ محمداً (¬1) الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدتَه) لِما روى عبد الله بن عمر مرفوعاً: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عَلَيَّ، فإنَّ مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليهِ بها عشراً. ثُمَّ سَلُوا الله ليَ الوسيلة، فإنّها منزلةٌ في الجنة، لا ينبغي أن تكونَ إلا لِعَبْدٍ مِنْ عبادِ الله، وَأَرْجُو أنْ أكُونَ أَنَا هُوَ. فمَنْ سَألَ الله لي الوسيلةَ حَلَّتْ لَهُ الشفاعة" رواه مسلم (¬2). والحكمةُ في سؤالِ ذلكَ، مع كونه واجِبَ الوقوع بوعد الله تعالى، إظهارُ كَرامَتِهِ وعِظَمِ منزلته. ¬

_ (¬1) في (ص): "آت سيّدَنَا محمداً". وقد حذفنا الزائد تَبَعاً لـ (ف، ب)، إذ ليس هذا اللفظ في الأدعية المأثورة. (¬2) وأما نصّ ما يقوله سامع الأذان، فقد رواه البخاري ومسلم "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة .. الخ".

(ثم يدعو هنا) قال عليه الصلاة والسلام: "الدعاء لا يرد بين الأذان والإِقامة" (¬1) (وعند الإِقامة) فَعَلَهُ الإِمام أحمدُ، ورفَعَ يديه. (ويحرم بعد الأذان الخروج من المسجد، بلا عذر أو نية رجوع) إلى المسجد. قال الشيخ: إلاَّ أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت، فلا يكره الخروج. قال في شرح المنتهى، عن الإِنصاف: قلت: الظاهر أن هذا مراد من أطلق. انتهى. ¬

_ (¬1) حديث "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" رواه أحمد وغيره، وحسنه الترمذي (شرح المنتهى 1/ 131).

باب [شروط الصلاة]

باب [شُروط الصَّلَاة] شروط الصلاة ما تتوقف عليه صحة الصلاة. وكذا سائر العبادات والعقود، فإن صحتها تتوقف على شروطها. ومحل ذلك في العبادات إن لم يكن عذر، وليست منها. بل تجب لها قبلها وتَستمر فيها. قال المنقح: إلا النية (¬1). (وهي) أي شروط الصلاة (تسعة)، فرضاً كانت الصلاة أو نفلاً. الأول: (الإِسلام). (و) الثاني: (العقل). (و) الثالث: (التمييز). وهذه الثلاثة مشروطةٌ في كلّ عبادة، إلا التمييز في الحج، فإنه يصحّ ممن لم يميّز، ولو أنه ابن ساعة. وُيحْرِمُ عنه وليّه. والرابع: ما أشار إليه بقوله (وكذا الطهارة مع القدرة) عليها. (الخامس: دخول الوقت) للصلاة المؤقتة. قال عمر رضي الله ¬

_ (¬1) المنقح: هو صاحب التنقيح المشبع، وهو علاء الدين المرداوي كما في المدخل لابن بدران ص 225. وقوله: إلا النية أي فإنها شرط ولا تجب قبل الصلاة بل يستحب قرنها بالتكبير. أما الأركان فتتوقف عليها صحة الصلاة، ولكنها من أجزائها (عبد الغني).

[مواقيت الصلاة]

عنه: الصلاة لها وقت شَرَطَهُ الله تعالى لها، لا تصح إلا به (¬1). [مواقيت الصلاة] (فوقت الظهر من الزوال) يعني أن ابتداءَ وقت صلاة الظهر من الزوال (إلى أن يصير ظلُّ كل شيءٍ مثلَه سوى ظلَّ الزوال)، بأن يُنْظَر ظلُّ المنتصبِ الذي زالت عليه الشمس، ويزادَ عليه بقدر طول المنتصب، فإذا بلغ الظلُّ ذلك المقدارَ فقد خرج وقت الظهر نصًّا (¬2). والأفضل تعجبلُها، إلاَّ مع حرٍّ، مطلقاً، حتّى ينكسر الحرّ، وإلاّ" مع غيمٍ لمصلٍّ جماعةً، لقرب وقت العصر (¬3). (ثم يليه) أي يلي وقتَ الظهر (الوقتُ المختارُ للعصر) وهي الوسطى (حتى يصيرَ ظلُّ كل شيءٍ مثليه، سوى ظلِّ الزوال) أي غيرَ ظلِّ الشاخِصِ الذي زالتْ عليه الشمس إن كانَ. (ثم هو) أي وقتُ العصر بعد خروج وقت الاختيار (وقتُ ضرورةٍ إلى الغروب) وهو سقوط قرصِ الشمس. وتعجيلها (¬4) أفضلُ مع غيمٍ ودونَه. (ثم يليه) أي يلي وقتَ الضرورةِ للعصرِ (وقتُ المغربِ حتى يغيبَ الشفقُ الأحمرُ). والأفضلُ تعجيلُها، أي المغرب، إلا ليلةَ جمعٍ لمحرمٍ قَصَدَها، إن لم يوافِها وقتَ الغروب (¬5)، وفي غيمٍ لمصلٍّ جماعةً فيسن ¬

_ (¬1) قول عمر: "الصلاة لها وقت .. الخ" جاء في المغني (1/ 388) ان الأموي رواه في المغازي. (¬2) أي هذا منقول بنصه عن الإِمام أحمد. (¬3) أي فتؤخر إلى قريبٍ من وقت العصر، ليخرج إليهما خروجاً واحداً، خشية المطر والريح (شرح المنتهى). (¬4) أي العصر. (¬5) أي الأفضل تعجيل المغرب إلا لمتلبّس بإحرام الحج، نَفَر من عرفة وقصد جمعاً، وجمع هي =

تأخيرها، وإلّا في جَمْعٍ إن كان أرفق. (ثم يليه) أي وقتَ المغربِ (الوقتُ المختارُ للعشاء). ويمتدُّ وقتُها المختارُ (إلى ثلث الليل) الأوّل. وصلاتها آخرَ الثلثِ الأولِ من الليلِ أفضلُ. ومحلُّ ذلك ما لم يؤخِّر المغرب. قاله في الفروع. ويكره إن شقَّ على المأمومين أو بعضهم. والنوم قبلها، والحديث بعدَها إلا يسيراً، وإلا لشغلٍ، ومع أهلٍ. (ثم هو وقتُ ضرورةٍ إلى طلوع الفجر) الثاني، وهو البياض المعترض، بالمشرق، ولا ظلمةَ بعدَه، وهو الفجر الصادق. (ثم يليه) أي يلي وقتَ العشاء (وقتُ الفجر). ويمتدّ (إلى شروق الشمس). وتعجيلها مطلقاً أفضل، لأنه قد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ أنهم كانوا يغلّسون بالفجر (¬1). ومحالٌ أن يتركوا الأفضل، وهم النهاية في إتيان الفضائل. (ويدرَك الوقتُ بـ) وجودِ (تكبيرةِ الإِحرام) يأتي بها في وقت تلك الصلاة، ولو آخرَ وقتِ ثانيةٍ في جمع تأخيرٍ. (ويحرُم تأخير الصلاة عن وقت الجَوَاز. ويجوز تأخيرُ فعلِها في الوقت، مع العزمِ عليه) قال في الإِقناع ¬

_ = المزدلفة، فيسن حينئذ تأخيرها ليصليها مع العشاء، ما لم يصل مزدلفة وقت غروب الشمس، فيصليها لوقتها ولا يؤخرها (شرح المنتهى 134/ 1). (¬1) في مصنف عبد الرزاق: قالت أم سلمة "كنَّ نساءً يشهدن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فينصرفن متلفعاتٍ بمروطهنَّ ما يعرفن من الغَلَس" وروته عائشة أيضاً مثله عند سعيد بن منصور وروى عبد الرزاق عن ابن الزبير تغليس عمر. (كنز العمال 8/ 85) وأما تغليس أبي بكر وعثمان فلم نجد أحداً أشار إليه، إلا ما نقله في المغني (1/ 394) من قول ابن المنذر.

[ترتيب الصلاة المقضية]

وشرحِهِ: وله، أي لمن وجبت عليه صلاة، تأخيرُها عن أوَّلِ وقتِ وجوبها، لفعله عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني من فرض الصلاة، بشرط العَزْمِ على فعلِها فيهِ، أي في الوقتِ كقضاءِ رمضانَ ونحوهِ مما وقْتُه موسَّعٌ، ما لمْ يظنَّ مانعاً منه، كموتٍ وقتلٍ وحيضٍ، فيجب عليه أن يبادر بالصلاة قبل ذلك. وكذا من عَدِمَ سترةً إذا أعيرَ سترةً أوّلَ الوقتِ فقط. انتهى. (والصلاة أولَ الوقت أفضل) فيما يسنُّ تعجيلُه. (وتَحْصُل الفضيلة) أي فضيلةُ التعجيل، لما يَتَعَجَّلُ له (بالتأهُّب أولَ الوقت)، بأن يشتغِل بأسبابِ الصلاةِ، من طهارةٍ ونحوها، إذا دَخَلَ الوقت. [ترتيب الصلاة المقضية] (ويجب قَضاءُ الصلاةِ الفائتةِ) قليلةً أو كثيرةً (مرتَّبَةً) نصّ عليه الإِمام أحمدُ في مواضع، لما روي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الأحزابِ صلَّى المغربَ، فلما فرغَ قال: هلْ عَلِم أحدٌ مِنكُمْ أني صليتُ العَصرَ؟ قالوا: يا رسول الله ما صليتَها. فأمَرَ المؤذنَ فأقام الصلاةَ. فصلَّى العصر. ثم أعاد المغرب" رواه الإِمام أحمد (¬1). (فوراً) إلا إذا حضر من عليه فائتةٌ لصلاة عيدٍ، فيؤخر الفائِتَةَ، حتى ينصرفَ من مصلاَّهُ لئلا يقتدي به غيره. وإنما يجب فوراً ما لم يتضرر في بدنِهِ، أو مالِهِ، أو معيشةٍ يحتاجها. (ولا يصح النفل المطلق) ممن عليه فائتةٌ (إذَنْ) أي في الوقتِ ¬

_ (¬1) رواية أحمد هذه من طريق ابن الهيعة، وهو ضعيف لسوء حفظه (الإِرواء).

[ستر العورة]

الذي أبيح له فيه تأخيرُ الفائتةِ، ككونه حَضَر لصلاة عيدٍ، أو يتضرَّرُ في بدنِهِ، أو نحوِه، لتحريمِهِ إذَنْ. ومفهومه أنه يصح النفل المقيَّدُ كالرواتِبِ والوتر، لأنها تَتْبَعُ الفرائضَ، فلَها شَبَهٌ بها. (ويسقط الترتيبُ بالنسيانِ) قالَ في الإِقناع وشرحه: وإن نسي الترتيبَ بين الفوائِتِ حالَ قضائِها، بأن كان عليه ظهرٌ وعصرٌ مثلاً، فنسي الظهر حتى فَرَغَ من العَصْرِ، أو نسيَ الترتيب بين حاضرةٍ وفائتةٍ، حتى فرغ من الحاضرة، سقط وجوبه، أي الترتيب. وما تقدَّم في الحديث إعادتُهُ محمولةٌ على أنه ذكر صلاةَ العَصْرِ في أثنائِها، بدليل أنَّهُ عقبَ سلامِهِ، كما تدلُّ عليه الفاء وجمعاً بين الأخْبار. (و) يسقط الترتيبُ (بضيق الوقتِ، ولو للاختيار) قال في الإِقناع وشرحه: فإن خشي فَوَاتَ الحاضرةِ، أو خروجَ وقتِ الاختيار، سقَطَ وجوبُه، أي ما ذكر من الفور والترتيب، فيصلي الحاضرة إذا بقي من الوقت قدرُ فعلها، ثم يقضي الفائتَةَ. وتصح البُدَاءَةُ بغير الحاضرة مع ضيق الوقتِ. ويأثَمُ ولا تصحُّ نافلةٌ ولو راتبةً، مع ضيق الوقت، فلا تنعقد، لتحريمها، كوقت النهي. [ستر العورة] (السادس) من شروط الصلاة: (ستر العورة مع القدرة)، ويجبُ، حتى في خلوةٍ، وظلمةٍ، وعن نفسِهِ، لا من أسْفَلَ (بشيءٍ لا يصف البشرة) أي لونَها من بياضٍ، أو حمرة، أو سوادٍ، لا أنْ لا يَصِفَ حَجْمَ العُضْوِ لأنه لا يمكن التحرّز عنه. ويكفي الستر بغير منسوجٍ، كورَقٍ، وجِلْدٍ، ونبات، ولو مع وجود ثوب.

(فعورةُ الذكرِ البالغِ عشراً) أي تمّ له عشرُ سنين (و) عورة (الحرة المميِّزة) أي التي تمّ لها سبعُ سنين (و) عورة الأمَةِ ولو مُبَعَّضَةً) وهي التي بعضُها حرٌّ وبعضها رقيق، وأُمَّ الولد (ما بين السرة والركبة). قال في حاشية المنتهى: وعُلِمَ منه أن السرة والركبة ليستا من العورة. (وعورة ابن سبعٍ إلى عشْرٍ الفَرْجانِ). ولا فرق في حكم عورةِ الذَّكَرِ بين أن يكونَ حرًّا أو عبداً أو مبغَّضاً أو مكاتباً. وعلم مما تقدم أن من دونَ السبع ليس لعورته حُكْم، لأن حكم الطفوليّةِ منجرٌّ على المولود إلى أن يتمَّ له سبعُ سنين، فينتقل حكمها إلى حكم التمييز (والحرة البالغة كلها عورةٌ في الصلاةِ) حتى ظفرُها وشعرُها (إلا وجهَهَا) والوجْهُ والكفّانِ من الحرةِ البالغةِ عورةٌ خارج الصلاةِ باعتبار النظر كبقية بدنها (¬1). (وشُرِطَ في فَرْضِ الرجل البالغِ سترُ) جميعِ (أَحدِ عاتِقَيْهِ) مع سَتْرِ العورةَ (بشيءٍ من اللباس) (¬2) سواء كان من الثوب الذي سَتَر عورتَه به، أم من غيره، إذا كان قادراً على ذلك، ولو وَصَفَ البشرة. (ومن صلَّى في مغصوب) ولو بعضُه، ثوباً أو بقعةً (أو) صلى في ثوبِ (حرير) كلُّه أو غالِبُة، حيث حَرُمَ الحرير (عالماً) بأن ما صلى به أو فيه مغصوب، (ذاكراً) لذلك وقت العبادة (لم تصحّ) صلاتُه. (ويصلِّي) من لم يقدر على سترةٍ مباحةً (عرياناً مع) وجود ثوبِ (غصبٍ) ووجهه أنّ الثوبَ المغصوبَ يحرُم استعماله بكلِّ حالٍ في حال الضرورة وغيرها. ¬

_ (¬1) ظاهر كلامه في المنتهى وشرحه أن الوجه والكفين ليسا بعورة في الصلاة ولا خارجها. (¬2) لحديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" رواه الشيخان.

(و) يصلي (في) ثوب (حريرٍ لعدمٍ) أي لعدمِ غيرِهِ إذا كان يملك التصرفَ فيه، ولو عاريةً، لأنه مأذونٌ في لبسِهِ في بعض الأحوال، كالحكَّةِ، والجَرَبِ، وضرورةِ البَرْد، أو عدمِ سترةٍ غيرِه، (ولا يعيدُ) لإِباحةِ لُبْسِهِ إذنْ. (و) يصلي (في) ثوبِ (نجسٍ لعدمٍ) أي لعدمِ غَيْرِهِ، وذلك لأنَّ سترَ العورَةِ آكدُ من إزالةِ اَلنجاسَةِ لتعلق حقِّ الآدميّ به في سَتْر عورتِهِ ووجوبِ السَّتْرِ في الصلاةِ وغيرِها، فكان تقديمُ السَّتْرِ أولى من أن يصلي عرياناً. (ويعيد) لأنه قادرٌ على كلِّ من حالتي الصلاة عرياناً ولبس الثوبِ النَّجِسِ فيها على تقديرِ تَرْكَ الحالة الأخرى، وقد قَدم حالةَ التزاحُمِ آكَدَهُما، فإذا زال التزاحُمُ بوجوده ثوباً طاهراً، أَوْجَبْنا (¬1) عليه الإِعادةَ استدراكاً للخَلَلِ الحاصِلِ بتركِ الشَّرطِ الذي كان مقدوراً عليه من وجهٍ. ويفارق من حُبِسَ في المكانِ النجسِ في عدمِ الإِعادة لأن المحبوسَ عاجزٌ عن الانتقال عن الحالة التي هو عليهَا من كل وجهٍ، كمن عدم السترَةَ بكل حالٍ، فإنه يصلّي عُرْياناً، ولا إعادة عليه. ولا يصح نفلُ آبقٍ (¬2). (ويحرم على الذكورِ) والخناثى (لا الإِناث، لُبْسُ منسوجٍ ومُمَوّهٍ بذهبٍ أو فضّةٍ). قال في الرعاية: وما نُسِج بذهبِ، أو فضة، أو مُوِّهَ، أو طُلِيَ، أو كُفِّتَ، أو طُعِّمَ بأحدهما، حرم مطلقاً. انتهى. إلا أن يستحيلَ لونُه ولم يحصُلْ مِنْة شيء بعرضه على النار. (و) يحرم على غير أنثى، حتى كافر (لُبْس ما كلُّهُ أو غالبه حريرٌ) ¬

_ (¬1) في (ب، ص، ف): "أو جنباً" وهو خطأ واضح. (¬2) الآبق العبد الهارب من سَيِّده. وإنما لم يصحّ نفله لأن زمنه مغصوب بخلاف الفرض فإن زمنه مستثنًى شرعاً (شرح المنتهى).

بلا ضرورة، ولو بطانة، وافتراشهُ، واستنادهُ إليه، وتعليقُه، وسَتْرُ جدُرٍ بِهِ، غيرَ الكعبةِ زادها الله تعظيماً. قال ابن عبد القويّ: وَيدْخُلُ في ذلك الدَّواةُ وَسِلْكُ المَسْبَحَةِ، كما يفعَلُهُ بعض جَهَلَةِ المُتَعَبِّدَة. انتهى. (ويباحُ ما سدِّيَ بالحرير وأُلِحْمَ بِغَيْرِهِ) كوبَرٍ وصوفٍ وكَتّانٍ ونحوه (أو كان الحريرُ وغَيْرُه في الظهورِ سيان) (¬1) فإنه لا يحرم لأن الحرير ليس بأغلبَ. ويباح من الحريرِ كيسُ مصحَفٍ، وأزْرارٌ، وخياطةٌ به، وحَشْوُ جِبابٍ وفُرْشٍ به، وعَلَمُ ثوبٍ، ولبَنَةُ جَيْبٍ، وهو الزِّيقُ، ورقاعٌ، وسجف فراءٍ لا فوق أربعِ أصابعَ مضمومةٍ. (السابع) من شروط صحة الصلاة: (اجتناب النجاسة) حيث لم يُعْفَ عنها (لبدنه وثوبِهِ وبقعتِهِ مع القدرة) فتصحُّ من حاملٍ مستجمراً، أو حيواناً طاهراً كالهرّ. (فإن حُبِسَ ببقعة نجسةٍ) لا يمكنه الخروج منها (وصلى، صحّتْ) صلاتُهُ، (لكن يومئ، بالنجاسة الرطبة غايةَ ما يمكنه، ويجلس على قدميه) ويسجدُ بالأرض، وجوباً إن كانت النجاسة يابسةً، تقديماً لركن السجودِ، لأنه مقصود في نفسه، ومُجْمَعٌ على فرضيّته، وعلى عدم سقوطِهِ، بخلاف ملاقاةِ النجاسة. (وإن مسّ ثوبُه ثَوباً نجساً أو حائطاً) نجساً (لم يستند إليه، أو صلَّى على) محلٍّ (طاهر) من بساطٍ أو حصيرٍ أو نحوِهما (طرفُهُ متنجِّسٌ) ولو تحرَّكَ بحركته من غير متعلّقٍ يَنْجَرُّ به، أو كانَ تحت قدمِهِ حبلٌ مشدودٌ في نجاسةٍ، وما يصلي عليه منه طاهر، (أو سقطتْ عليه النجاسة) التي لم يُعْفَ عنها (فزالتْ) سريعاً (أو أزالها سريعاً صحت) الصلاة. ¬

_ (¬1) كذا الأصول. والصواب لغة أن يقول (سِيّين) لأنه مثنّى واقع خبراً لِكانَ.

[المواضع المنهي عنها]

(وتبطل) الصلاة (إن عَجَزَ عن إزالتها في الحال) لإِفضاء ذلك إلى أحد أمرين: إما استصحابِ النجاسة في الصلاة زمناً طويلاً، وإمّا أن يعمل فيها عملاً كثيراً. وكل من ذلك مبطل للصلاة، (أو نسيَها) أو جَهِلَ عينها أو حكمها (ثم عَلِمَ) أنها كانت في الصلاة بعد أن صلَّاها جاهلاً وجودَها في الصلاة، فإن صلاتَه لا تصحُّ في هذه الصور كلها، لأنّ اجتناب النجاسة في الصلاة شَرْط، فلم يسقط بالنِّسيانِ ولا بالجهلِ، كطهارة الحدث. [المواضع المنهي عنها] (ولا تصح الصلاة) فرضاً ولا نفلاً (في الأرضِ المغصوبة). (وكذا) لا تصحُّ الصلاة في (المقبَرَةِ) قديمةً كانت أو حديثة، تكرَّرَ نبشها أوْ لا. ولا يضرُّ قبرانِ، ولا ما دُفِنَ بدارِهِ، ولو زادَ على ثلاثة قبور. وتصحُّ صلاة جنازة فيها. (و) لا تصح الصلاة أيضاً في (المَجْزَرَةِ) وهي المكان المًعَدُّ للذبح. (والمزبلة) أي مَرْمَى الزبالة، ولو طاهرة. (والحشِّ) وهو ما أُعِدَّ لقضاء الحاجة، فيُمْنع من الصلاة داخلَ بابِهِ، وموضع الكنيفِ وغيرِه سواءٌ. (وأعطانِ الإِبل) وهي ما تقيم فيها وتأوي إليها. (وقارِعَةِ الطريق) وهو ما كثر سلوكه، سواء كان فيه سالكٌ أوْ لَا. ولا بأس بطريق الأبيات القليلة ولا بما علا عن جادة الطريق يمنةً ويسرةً، نصًّا.

[استقبال القبلة]

(والحمامِ) وما يتبعه في البيع، فداخلُه وخارجُه وأَتُّونُهُ، ونحوهم (¬1) سواء. (وأسطحة هذه) الأماكن (مثلُها)، فإن أسطحة مواضعِ النهي كهي عند أحمد، لأن الهواء تابعٌ لِلْقَرارِ، بدليل أن الجُنُبَ يمنع من اللبث على سطح المسجد، ويَحْنَثُ بدخول سطح الدار التي حلف لا يدخلها. (ولا يصح الفرْضُ في الكعبةِ). (والحِجْرُ منها) وقدره سِتَّةُ أذرعٍ وشيء. (ولا على ظهرِهَا، إلا إذا) وقف على منْتَهاها بحيث (لم يبق وراءه شيءٌ) منها، أو خارِجَها وسجد فيها، فإن صلاة الفرض كذلك صحيحة. (ويصح النذر فيها، وعليها) إذا كان بين يديه شيء منها. كذا في الإِقناع. (وكذا) يصح (النفل، بل يُسَنُّ) التنفّل (فيها). والأفضلُ وِجاهَه إذا دخل. ولو صلى لغير وِجاهِهِ إذا دخل جاز. [استقبال القبلة] (الثامن) من شروط صحة الصلاة: (استقبالُ القبلة مع القدرة) فلا يجب في حالِ الْتِحَامِ الحَرْبِ، وهَرَبِ من سيلٍ، أو نارٍ، أو سَبُعٍ، أو صُلِبَ لغير القبلة (¬2)، ونحو ذلك. (فإن لم يجدْ) المصلي (من يخبره عنها) أي عن القبلة (بقينٍ صلَّى بالاجتهاد). (فإن أخطأ) اجتهادُه (فلا إعادة). ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وصوابه لغةً "ونحوها". (¬2) (ب، ص): "لغير استقبالِ القبلة" فحذفتُ استئناسا بـ (ف).

[النية]

ومن صلى بالاجتهاد فأخبره فيها ثقةٌ بالخطأ يقيناً لزمه أن يترك اجتهاده ويعملَ بالخبر. [النية] (التاسع) من شروط صحة الصلاة: (النَيّةُ) وهي لغةً: القصدُ، وشَرْعاً: العَزْم على فعلِ الشيء. ويزاد في عبادة: تقرُّباً إلى الله تعالى. (ولا تسقط بحالٍ) لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإِخلاص عمل القلب، وهو مَحْضُ النية، وذلك بأن يقصد بعمله أنه لله تعالى وحده. قال سيدي عبد القادر رضي الله عنه: هي قبل الصلاة شرطٌ، وفيها ركنٌ، ولا يمنعُ صحتَها قَصْدُ تعليمها، أو خلاصٍ من خصمٍ، أو إدمانُ سَهَرٍ. (ومحلها) أي النية (القلبُ) لأنها من عمله. (وحقيقتُها العزم على فعلٍ الشيء). (وشرطها) أي النية: (الإِسلام، والعقل، والتمييز). (وزَمَنُها) أي النية: (أوّلُ العبادة، أو قبلَها بيسير) لا قبلَ دخولِ وقتِ أداءِ المكتوبة، أو راتبة. (والأفضل قَرْنُها) أي النية (بالتكبير) أي تكبيرةِ الإِحرام، لتكونَ النية مقارنةً للعبادة، ولأن في ذلك خروجاً من الخلاف. (وشُرِطَ مع نية الصلاة) أي نية كون العبادة صلاةً (تعيينُ ما يصليه من ظهرٍ، أو عصرٍ،) أو جمعةٍ، أو مغربٍ، أو عشاءٍ، أو صبحٍ، أو منذورةٍ، (أو) نفلٍ مؤقَّتٍ، وذلك كـ (ــوتر)، وتراويحَ، (أو راتبةٍ)، أو غيرِ راتبةٍ كاستخارةٍ. فلا بدّ من التعيينِ في هذا كلِّه لتتميز تلك الصلاة عن غيرها. (وإلّا) أي وإن لم تكن الصلاة معيَّنة، كالنفلِ المطلقِ، وصلاةِ

الليل (أجزأته نية الصلاة) لعدم التعيين فيها. (ولا يشترط تعيينُ كونِ الصلاة حاضرةً) لأنه لا يختلف المذهبُ أنه لو صلاّها ينويها أداءً فبان وقتُها قد خَرَجَ أنَّ صلاتَه صحيحةٌ. وتقع قضاء (أو) نواها (قضاءً) فبانَ فِعْلُها في الوقت، وقعتْ أداءً، (أو فرضاً) في فرضٍ، فلا يُعتبر أن يقول: أصلي الظهر فرضاً، ولا معادةً في المعادة، كما في مختصر المقنع. و (يشترط نية الإِمامة للِإمام، والائتمام للمأموم) فإن اعتقد كلٌّ أنه إمامُ الآخر أو مأمومُه، فصلاتهما فاسدة، أوْ شكَّ في كونه إماماً أو مأموماً لم تصحّ صلاة واحِد منهما. (وتصح نية المفارقة من كلٍّ منهما) أي من الإِمام والمأموم (لـ) وجود (عذر) له (يبيح تركَ الجماعة) كتطويل إمامٍ، ومرضٍ، وغلَبَةِ نُعاسٍ، أو غلبةِ شيءٍ يفسد صلاته، أو خوفٍ على أهلٍ أو مالٍ، أو خوفِ فوتِ رفقة، أو خَرَجَ من الصف مغلوباً، صحّ انفراده. فيتمّ صلاتَه منفرداً إن استفادَ بمفارقَتِهِ تعجيلَ لُحوقِهِ لحاجتِهِ قبل فراغ إمامِهِ. فإن زالَ العُذْرُ وهو في الصلاةِ، فله الدخولُ مع الإِمام فيما بقي. قال في الفروع: وإن انتقل مأمومٌ أو إمامٌ منفرداً جاز لعذرٍ، خلافاً لأبي حنيفة. (ويقرأ مأمومٌ فارَقَ) إمامَه (في قيامٍ) قبلَ أن يقرَأَ الفاتِحَةَ، (أو يُكْمِلُ) على قراءة إمامه إن كان قرأ بعضَ الفاتحة (وبعدَ) قراءةِ (الفاتحةِ) كلِّها (له) أي المأموم (الركوعُ في الحالِ) لأنّ قراءةَ الإِمام قراءةٌ للمأموم. فإنْ ظنَّ المأمومُ المفارِقُ لِإمامِهِ في صلاةِ سِرٍّ أنَّ إمامَه قرأ الفاتحة، لم يجب عليه أن يقرأ.

وإن فارَقَهُ في ثانيةِ جمعةٍ أتمَّ جمعةً. وإن فارَقَهُ في الأولى يتمُّها نفلاً". ثم يصلي الظهر. (ومن أحرم بفرض) كظهرٍ (ثم قَلَبَهُ نفلاً) بِأن فسخَ نية الفرضية، دون نية الصلاة (صحّ) سواء صلى الأكثرَ، كثلاثٍ من ظهرٍ، أو اثنتين من مغربِ، أوْ لا، وسواءٌ كان انتقالُهُ لغرضٍ صحيحٍ مثلَ أنْ يُحْرِمَ منفرداً، ثَم تقامَ الجماعةُ ويريدَ الصلاةَ جماعةً، أو لم يكن له غرض صحيح ووجه ذلكَ أن النفلَ يدخُلُ في نيّةِ الفرْضِ، أَشْبَهَ ما لو أَحرَمَ بفرض فبان قبل وقته. وكره لغير غرض صحيح. (إن اتَّسَعَ الوقتُ) له ولغيره. (وإلاَّ) يَتَّسِع الوقت للنفل والفرض (لم يصحّ) النفل (وبطل فرضه).

كتَاب الصَّلَاة وهي أقوالٌ وأفعالٌ مفتَتَحةٌ بالتكبير، مختَتَمةٌ بالتسليم. (تجب) الصلاة لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (عَلَى كلّ مسلمٍ مكلفٍ) ولو لم يبلغه الشرع، كمن أسلم بدارِ حَرْبٍ ونحوه (غيرَ الحائضِ والنفساءِ) فلا تجب عليهما. ولا يقضيانها، كما مَرّ. (وتصحُّ من المميِّز) لا ممنْ هو أصغر منه سنًّا. (وهو أي المميز (من بَلَغَ سبعاً). ويشترط لصحة صلاته ما يشترط لصحة صلاة البالغ إلاَّ في السترة. (والثواب له) أي ثواب صلاة المميز له، لأنه العامل، فهو داخل في عموم {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وكذا أعمالُ البِرِّ كلها، فهو يُكْتَبُ لَه، ولا يُكْتَبُ عليه. (ويلزم وليَّهُ) أي المميّز (أمرُهُ بها لـ) تمام (سَبْعٍ) وتعليمه إياها والطهارةَ، فإن احتاجَ لأُجْرَةٍ فمنْ مال الصبيّ، فإن لم يكنْ فَعَلَى من تلزمه نفقته. (و) يلزم وليَّه (ضربُه على تركِها لِعَشْرٍ) أي عند بلوغِهِ عشراً تامة.

[أركان الصلاة]

(ومن تَرَكَهَا) أيُ الصلاة (جحوداً فقد ارتدّ، وجَرَتْ عليه أحكام المرتدين،) إن كان ممن لا يجهلُهُ مثلُهُ، كمن نشأ بدار الإِسلامُ. [أركان الصلاة] (وأركانُ الصلاةِ) المفروضةِ (أربعةُ عَشَر) ركناً، للاستقراء. (و) هي ما كان فيها (لا تسقط) أي الأركان (عمداً، ولا سهواً، ولا جهلاً). أحدها: (القيامُ في الفرْضِ) لا النفل (على القادر)، سوى عُرْيانٍ وخائفٍ بقيامٍ، ولمداواةٍ، وقِصَر سَقْفٍ لعاجزٍ عن الخروج، ومأمومِ خلفَ إمامِ الحيِّ بشرطه. (منتصباً. فإن وقفَ منحنياً، أو مائلاً بحيث لاَ يسمى قائماً، لغير عذر، لم تصح. ولا يضرُّ خفضُ رأسِهِ) على هيئة الإِطراق، لأنه لا يخرجه عن كونِهِ يسمّى قائماً. (وكره قيامه على رجلٍ واحدةٍ لغير عذر) وأجزأه. (الثاني: تكبيرةُ الإِحرام) لحديث "تحريمُها التكبير" (¬1)، قال في المغني: والتكبير من الصلاة. (وهي الله أكبر) مرتَّباً وجوباً (لا يجزئه غيرها) من الذكر. (يقولها قائماً، فإن ابتدأها) غير قائم (أو أتمها غير قائم، صحت نفلاً) إن اتَّسعَ الوقت لِإتمام النفل ولفِعْلِ صلاة الفرض كلِّها بعده في الوقت. (وتنعقد إن مدّ اللام) لأنها إشباع، لأن اللام ممدودةٌ، فغايته أنه زاد في مَدَّةِ الّلام، ولم يأت بحروف زائدة. و (لا) تنعقد صلاته (إن مدّ همزة "ألله" أو) مدّ (همزة "أكبر" ¬

_ (¬1) حديث "تحريمها التكبير .. " رواه أبو داود والترمذي وأحمد. وأوله: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها الخ. وهو حديث صحيح لشواهده (الإرواء 2/ 9)

وقال: أكْبَار) لأنه اسم "للطبل" (¬1)، (أو) قال: (الأكبر). وكره تمطيطهُ. فشروط تكبيرة الإِحرام اثنا عشر شرطاً: الأول: إيقاعها بعد الانتصاب للفرض، الثاني: أن يقولها بعد الاستقبال حيث شُرِطَ. الثالث: لفظ الجلالة. الرابع: أن تكون بالعربيّة للقادر. الخامس: لفظ أكبر. السادس: عدم مدّ همزة الجلالة. السابع: عدم مد همزة أكبر. الثامن: عدم واوٍ قبل الجلالة. التاسع: الترتيب بين الجلالة وأكبر. العاشر: أن يُسْمِعَ نفسَه جميعَ حروفِها إذا لم يكن مانع. الحادي عشر: دخول وقت الصلاة وإباحةُ النافلة. الثاني عشر: تكبيرة المأموم بعد فراغ إمامه من الراء من أكبر. (وجهره) أي المصلي، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً (بها) أي بتكبيرة الإِحرام (وبكلِّ ركنٍ) قوليٍّ كقراءة الفاتحة (وواجبٍ) قوليٍّ، كتكبيرةِ انتقالٍ، وتشهّدٍ أوّل، وتسميعٍ وتحميدٍ (بقدر ما يُسْمِعُ نَفْسَه فرضٌ) لأنه لا يكون آتياً بشيء من ذلك بدون صوت. والصوت يتأتَّى سماعُه. وأقرب السامعينَ إليه نَفْسُه. واختار الشيخُ الاكتفاءَ بالحروف وإن لم يَسْمَعْهَا. قال في الفروع: ويتوجَّه مثلُه في كل ما تعلَّق بالنطق، كطلاقٍ وغيرِهِ. انتهى. وشُرِطَ إسماعُ نفسه إن لم يكن به مانع من السماعِ كَصَمَمٍ، فإنْ كان مانعٌ فإنه يجب الجهر بالفرضِ والواجبِ بحيث يَحْصُلُ (¬2) السماع مع عدمه. (الثالث) من أركان الصلاة: (قراءةُ الفاتِحَةِ مرتَّبَةً تامة) وهي ركن في كل ركعةٍ. ¬

_ (¬1) الكَبَرُ بالتحريك الطبل وجمعه أكبارُ. كذا في القاموس. فما في الشرح سبق قلم. (¬2) (ب، ص): "يَحْسُنُ والتصويب من "ف"

(وفيها إحدى عشرة تَشْدِيدَةً) أوّلها اللام في "الله" وآخرها التشديدتان في "ولا الضالين" (فإن تَرَكَ) تشديدةً (واحدةً، أو) ترك (حرفاً) عمداً (ولم يأتِ بما تَرَكَ) منها (لم تصحّ) صلاته إن انتقل عن محلِّها، بأن رَكَعَ ولم يأت بما ترك، عمداً. أما لو تَرَكُه سهواً لَغَتِ الركعةُ، وقامت التي بعدها مقامها، كما يُعلم مما يأتي. ويلزم جاهلاً تعلُّمُها، كبقية الأركان. فإن ضاقَ الوقت عن تعلُّمِها لزمه قراءة قدرِها من غيرِها في عدة الحروف والآيات، من أيّ سورة شاء. (فإن لم يعرف إلاَّ آيةً) من الفاتحة (كرَّرها) أي الآية (بقدرها) أي الفاتحة. وإن كان يُحْسِنُ آيةً فأكثر من غير الفاتحة، وآيةً فأكثر منها، كرَّرَ الذي من الفاتحة بقدرها، لا يجزئه غير ذلك. ذكره القاضي. قال الحَجَّاوِيّ (¬1): فإن لم يُحْسِنْ إلا بعض آيةٍ لم يكرِّرْهُ، وعَدَلَ إلى غيرِهِ، سواء كان بعضُ الآية من الفاتحة، أو من غيرها. (ومن امتنعت قراءته قائماً صلى قاعداً وقَرَأ) لأن للقيامِ بدلاً، وهو القعود، بخلاف القراءة. (الرابع) من الأركان: (الركوع). (وأقلُّه) وهو المجزئ من القائم (أن ينحنيَ بحيث يمكنه) أي المصلي إذا كان وَسَطاً في الخِلْقة (مسُّ ركبتيه بكفيه)، وذلك لأنه لا يسمَّى راكعاً بدون ذلك. وقدر الإِجزاء من قاعدٍ مقابَلَةُ وجهِهِ ما وراءَ ركبتيه من الأرضِ أدنى مقابلةٍ. ¬

_ (¬1) (ب، ص): "الجحاوي". والصواب "الحجاوي" نسبة إلى قربة (حجّة) من قضاء نابلس والحجاوي هو صاحب الإقناع.

(وأكمله) أي الركوع (أن يَمُدَّ) المصلي (ظهرَه مستوياً، ويجعلَ رأسَه حِيَالَهُ) أي حيالَ ظهره، يعني أنه لا يَرْفَعُ رأسه عن ظهره ولا يخفضه. (الخامسُ) من الأركان: (الرفعُ منه) أي الركوع. (ولا يقصد) برفعِه منه (غيرَه، فـ) يتفرَّعُ على ذلك أنه (لو رفعَ فَزَعاً من شيءٍ لم يكفِ) فيحتاجُ إلى أن يرجعَ للركوع، ثُمّ يرفع. (السادسُ) من الأركان: (الاعتدال قائماً) (¬1). (ولا تبطُلُ) الصلاة (إن طال) الاعتدال. (السابع) من الأركان: (السجود) وهو فرضٌ بالإِجماع. (وأكمله) أي السجود (تمكينُ جبهته، وأنفه، وكفيه، وركبتيه، وأطرافِ أصابع قدميه، من محل سجوده). (وأقلُّه) أي السجود (وضع جزءٍ من كلِّ عضوٍ). قال أحمد: إن وَضَعَ من اليدينِ بقدرِ الجبهة أجزأه. وإن جعل ظهورَ كفيه إلى الأرض، أو سجدَ على أطرافِ أصابعِ يديه، فظاهرُ الخبرِ (¬2) أنه يجزئه، لأنه قد سجد على يديه. وهكذا لو سجد على ظهور قدميه. انتهى. (وُيعْتَبَرُ المَقَرُّ لأعضاءِ السجود، فلو وضع جبهته على نحو قطنٍ منفوشٍ) كثلجٍ وحشيشٍ، (ولم ينكبِسْ) أي لم يجد حجمه (¬3) (لم تصح) صلاته لعدم الاستقرار. ¬

_ (¬1) قوله "الاعتدال قائماً" هذا الأسلوب غيرُ فصيحٍ عربيّةً، لأن صاحب الحال لم يذكر، والفصيح أن يقول "أن يعتدل قائماً" إذ صاحب الحال هنا ضمير مستتر في الفعل تقديره "هو" أي المعتدل. أما المصدر "الاعتدال" فإنه لا يتحمل ضميراً. (¬2) أي الحديث الوارد في السجود، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمرتُ أن أسجُدُ على سبعة أعظم الجبهةُ -وأشار بيده على أنفه- واليدين، والركبتين، والقدمين" رواه الشيخان. (¬3) كذا في الأصول والمراد أنه إن لم يِحُسَّ الساجد على القطن ونحو صلابة عند انضغاطه لم يصح سجوده.

(ويصح سجوده على كمِّهِ) وكورِ عمامتِهِ (وذيلِهِ) ونحوه. (ويكره) السجود على ذلك (بلا عذرٍ)، ومعه لا يكره، كحرٍّ أو بردٍ أو نحوِهما. (ومن عَجَز) عن السجود (بالجبهة لم يلزمه) أن يسجد (بغيرها) من بقية أعضاء السجود، لأن الجبهة هي الأصلُ في السجود، وغيرُهَا تبعٌ. وليسَ المرادُ أنَّ اليدين يوضعان بعد وضعِ الجبهة، وإنما المراد أنّ السجودَ بهما تبعٌ للسجود بالوَجْهِ. وإذا ثبتَ ذلكَ في اليدينِ فبقيةُ أعضاءِ السجود مثلُهما في ذلك، لعدم الفارق، ولأنه لما لم يمكنه وضعُ الوجهِ على الأرض بدون بعضِ هذه الأعضاء، دلّ ذلك على إيجاب السجود بها، لتكميل السجود به، لا لذاتها، فتكون تَبَعاً له وتكميلاً، فتتبعه وجوداً وعدماً. (ويومئ ما يُمْكِنُهُ) وسقط لزوم باقي الأعضاء. (الثامن) من الأركان: (الرفع من السجود). (التاسع) من الأركان: (الجلوس بين السجدتين). (وكيفَ جَلَسَ): متربِّعاً، أو واضعاً رجليه عن يمينِه، أو شمالِهِ، أو مُقْعِياً (كَفَى). (والسنّة أن يجلسَ مفترشاً)، وهو أن يَجْلِسَ (على رجلِهِ اليسرى، وينصبَ اليمنى، ويوجِّهَهَا إلى القبلة) بأن يجعل بطونَ أصابِعِها على الأرض، مفرَّقَةً، معتمداً عليها. (العاشر) من الأركان: (الطُّمَأْنِينَةُ، وهي السكون، وإن قلَّ) أي، وإن كان قليلاً بقدر الإِتيان بالواجب، (في كل ركنٍ فعليٍّ) كالركوع، والاعتدالِ عنه، والسجود والجلوس بين السجدتين.

[في واجبات الصلاة]

(الحادي عشر): التشهد الأخير، وهو " اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ" بعد الإِتيان بما يجزئ من التشهد الأول. (والمجزئ منه) أي من التشهد الأول "التَّحِيَّاتُ لله سَلَامٌ عَلَيْكَ أُيها النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللُهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلى عِبَادِ اللهِ الصالِحِينَ أشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله"، والكامل مشهور (¬1). (الثاني عشر) من الأركان: (الجلوس له) أي للتشهد الأخير (و) الجلوس (للتسليمتين، فلو تشهد غير جالس، أو سلم الأولى جالساً والثانية غير جالسٍ لم تصح) صلاته. (الثالث عشر) من الأركان: (التسليمتان) والمراد السلام الذي يخرج به من الصلاة، (وهو أن يقول مرتين: السلامُ عليكم ورحمة الله) مرتَّباً، معرَّفاً وُجُوباً، مبتدئاً ندباً عن يمينه. (والأوْلى أن لا يزيد "وبركاته"). (ويكفي في النفل) وسجودِ تلاوةٍ وشكرٍ ونحوِهما (تسليمةٌ واحدةٌ. وكذا) يكفي (في الجنازة) تسليمةٌ واحدةٌ. (الرابعَ عَشَرَ) من الأركان: (ترتيبُ الأركانِ كما ذَكَرْنَا) هنا (فلو سَجَدَ مثلاً قبل ركوعِهِ عمداً بطلتْ) صلاتُه، (وسهواً لَزِمَهُ الرجوع) للقيامِ (لـ) ـيأتي بالترتيب و (يركع، ثم يسجد). فصل [في واجبات الصلاة] (وواجباتُها) أي الصلاة (ثمانية)، وهي ما كان فيها (وتبطل الصلاة ¬

_ (¬1) أي التشهد على صفته الكاملة، معلوم عند الكافة وهو "التحيات لله والصلوات والطيبات .. إلى قوله عبده ورسوله".

بتركها) أي ترك واحدٍ منها (عمداً، وتسقط سهواً و) يسجدُ لَهُ، وتَسْقُطُ (جَهْلاً) نصًّا. ويسجد له (¬1). وخرج به الشرط والركن. (الأول: التكبير لغير الإِحرام) وتقدم أنَّ تكبيرة الإِحرام ركن (لكن تكبيرةُ المسبوقِ) الّذي أدركَ إمامَه راكعاً (التي بعد تكبيرة الإِحرام سنّة) للاجتزاء بتكبيرةِ الإِحرام عنها في تلك الحالة. مفهومه أنّ تكبيرةَ الانتقالِ لا تكون سنَّةً إلا في هذه المسألة. (و) الثاني: (قولُ: "سَمِعَ الله لمن حَمِدَه" للإمام والمنفرد) مرتباً وجوباً (لا للمأموم) وهو المذهب. (و) الثالث: (قول: ربنا ولك الحمد للكلّ) أي للِإمام والمأموم والمنفرد. فيقول الإِمام والمنفرد في رفعه: "سمع الله لمن حمده" فإذا استتمَّ قائماً قال: ربَّنَا ولَكَ الحَمْدُ. (و) الرابع: (قول: "سُبْحَانَ رَبِّي العظيمِ" مرةً في الركوع). (و) الخامس: قول: ("سبْحَانَ رَبَيَ الأعْلى" مرّةً في السجود). (و) السادس: قول: ("رَبِّ اغفِرْ لي" بين السجدتين) مرة. (و) السابع: (التشهد الأول على غيرِ من قام إمامُه) إلى ثالثةٍ (سهواً) عن التشهد، لوجوبِ متابعته. (و) الثامن: (الجلوسُ لَهُ) أي للتشهد الأول، على غيرِ من قامَ إمامُه عَنْهُ سهواً. ومحل ما ذُكِرَ من التكبير الواجب، والتسميع، والتحميد، والتسبيح، وسؤال المغفرة، بين ابتداءِ انتقالٍ وانتهائِهِ، فلو شَرَع في ذكرِ ذلك المحلِّ قبل أن ينتقل إليه، كما لو كَبَّر لسجودهِ قبل هُوِيِّهِ إليه، أو كمّله بعد أن انتهى هُويُّه لم يجزئه ذلك التكبيرُ كتكميلِ واجبِ قراءةٍ ¬

_ (¬1) "ويسجُدُ له" ساقط من (ف).

[سنن الصلاة]

راكعاً، أو شروعٍ في تشهُّدٍ قبل قعوده. [سنن الصلاة] (وسُنَنُها) أي الصلاةِ، (أقوالٌ وأفعالٌ). وهي ما كان فيها (ولا تبطل) الصلاة (بترك شيءٍ منها، ولو عمداً. ويباحُ السجودُ لسَهْوِهِ) أي لتركه سهواً، فلا يكونُ واجباً ولا مُسْتَحبًّا. وهي على قسمين: قوليةٍ وفعليةٍ. (فسنن الأقوالِ إحدى عَشْرةَ) سُنَّةً. قال في الإِقناع: فسنن الأقوال سبعَ عشْرَة: (قولُهُ بعد تكبيرةِ الإِحرام: سبحانَكَ) أي أُنَزِّهُكَ تنزيهَكَ اللائقَ بجلالك (اللهُمَّ) أي يا الله (وبحمدكَ.) قال ثَعْلَبٌ: سَبَّحْتُكَ بِحَمْدِكَ (وتَبَارَكَ) فِعْلٌ لا يَتَصَرَّفُ، فلا يُستعمل منه غيرُ الماضي (اسمُكَ) أي دام خيرُه. والبركةُ النَّماءُ والزيادة (وتعَالَى جَدُّكَ) بفتح الجيم، أي عَلاَ جلالُك، وارتفعت عَظمَتُكَ. (ولا إلهَ غيرُك). (والتعوّذ) قبل القراءة. (والبسملة) أي بسم الله الرحمن الرحيم. (وقولُ آمين). (وقراءةُ سورةٍ بعد الفاتحة) لا قبلها، في فجرٍ، وجمعةٍ، وعيدٍ، وتطوّعٍ وأوَّلتي مغربٍ ورباعيّة. (والجهرُ بالقراءة للإِمام) فيما يجهر فيه. (ويكره الجهرُ) بالقراءة (للمأموم. ويخيّر المنفرد) بين الجهر والإِخفاتِ بالقراءة. (وقولُ غيرِ المأموم) وهو الإِمام والمنفرد (بعد التحميد "ملءَ السماءِ، وملءَ الأرضِ، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعد"). وما زاد على المرّة في تسبيح الركوع والسجود). وما زاد على مَرَّةٍ في قول "ربِّ اغفرْ لي".

(والصلاة في التشهد الأخير على آله عليه السلام (¬1) والبركة عليه وعليهم والدعاء بعده) أي بعد التشهد الأخير. (وسنن الأفعال وتسمى الهيئات) لأنها صفة في غيرها، وهي خمسٌ (¬2) وأربعون، وقيل خمسٌ وخمسون، وقيل غيرُ ذلك. فهاكَ ما تيسر منها، الأولى: منها (رفع اليدين مع تكبيرةِ الإِحْرام). والثانية: كونهما مبسوطتين. والثالثة: كونهما مضمومتي الأصابع عند الإِحرام بالصلاة. (و) الرابعة: رفعهما كذلك (عند الركوع). (و) الخامسة: كونهما كذلك (عند الرفع منه) أي الرفع من الركوع. (و) السادسة: (حطّهما عقب ذلك). (و) السابِعَة: (وضعُ اليمينِ على الشمال). (و) الثامنة: (جعلهما) أي يديه (تحت سرته). (و) التاسعة: (نظره إلى موضع سجودِهِ). (و) العاشرة: (الجهر بتكبيرةِ الإِحرام). (و) الحادية عشرة: (ترتيل القرآن) (¬3). (و) الثانية عشرة: (تخفيفُ الصلاةِ) إن كان إماماً. (و) الثالثة عشرة: (الإِطالة في الأولى). (و) الرابعة عشرة: (التقصير في الثانية). (و) الخامسة عشرة: (تفرقته بين قدميه قائماً) يسيراً. ¬

_ (¬1) النص في (ب، ص) هكذا "والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير على آله عليه السلام .. " فحذفنا عبارة "على النبي - صلى الله عليه وسلم -" تبعاً لـ (ف) لأنه تقدم أنها ركنُ لا سنة. (¬2) في (ب، ص): "خمسة" والصواب "خمس" لأن المعدود (سنة) وهي مؤنثة. (¬3) في (ف): ترتيب القراءة. والذي في المطبوعتين أصوب، وهو المذكور في شرح المنتهى.

(و) السادسة عشرة: (قبض ركبتيه بيديه). (و) السابعة عشرة: (كون يديه مفرَّجَتي الأصابع في ركوعه). (و) الثامنة عشرة: (مَدُّ ظهرِه فيه) أي في ركوعِهِ مستَوياً. (و) التاسعة عشرة: (جعله) أي المصلي (رأسه حِيَالَه) فلا يخفِضُه ولا يرفَعُه. (و) العشرون: (مجافاةُ عضديه) عن جنبيه. (و) الحادية والعشرون: (البُدَاءَةُ في سجوده بوضع ركبتيه) قبل يديه. والثانية والعشرون، والثالثة والعشرون: ما أشار إليهما بقوله: (ثم يديه، ثم جبهته، وأنفه). (و) الرابعة والعشرون: (تمكينُ أعضاءِ السجودِ من الأرض) أي تمكين كلِّ جبهته، وكلِّ أنْفِهِ، وكلِّ بقية أعضاء السجود، من الأرضِ، في سجوده. (و) الخامسة والعشرون: (مباشَرَتُهُما) أي اليدين والجبهة، بأن لا يكون ثَم حائل متصلٌ به (بمحلِّ السجودِ، سوى الركبتين، فيكره) في حقه أن يباشر بهما. (و) السادسة والعشرون مجافاة (عَضُدَيْه عن جنبيه). (و) السابعة والعشرون: مجافاة (بطنه عن فخذيه). (و) الثامنة والعشرون: مجافاة (فَخِذَيْهِ عن ساقيه). (و) التاسعة والعشرون: (تفريقه بين ركبتيه). (و) الثلاثون. (إقامة قدميه). (و) الحادية والثلاثون: (جعل بطون أصابعهما على الأرض). والثانية والثلاثون: كون أصَابعهما في السجود (مفرَّقة).

(و) الثالثة والثلاثون: (وضع يديه حذو منكبيه). والرابعة والثلاثون: كون كل واحدةٍ من يديه (مبسوطَةً). والخامسة والثلاثون: كونِ كلّ واحدةٍ من يديه (مضمومةَ الأصابع). (و) السادسة والثلاثون: كون أصابعهما موجهاتٍ إلى القبلة. (و) السابعة والثلاثون: (رفْعُ يديْهِ أوَّلاً في قيامهِ) من السجود (إلى الركعة). (و) الثامنة والثلاثون: (قيامه على صدور قدميه) للركعة الثانية. (و) التاسعة والثلاثون: (قيامه كذلك للركعة الثالثة). (و) الأربعون قيامه كذلك للركعة الرابعة. (و) الحادية والأربعون: (اعتماده على ركبتيه بيديه في نهوضه) لبقية صلاته. (و) الثانية والأربعون: (الافتراش في الجلوس بين السجدتين) (و) الثالثة والأربعون: الافتراش (في التشهد الأول). (و) الرابعة والأربعون: (التورّك في التشهد الثاني). (و) الخامسة والأربعون: (وضع اليدين على الفخذين) أي وضع كلِّ يدٍ على فخذها: اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى (¬1) في التشهد الأول. (و) والسادسة والأربعون: كونهما (مبسوطتينِ) أي: الأصابع. (و) السابعة والأربعون: كونهما (مضمومتي الأصابع) في الجلوس (بين السجدتين، وكذا) أي يضع يديه على فخذيه مبسوطتين مضمومتي الأصابع (في التشهد) الأوّل والثاني (إلا أنه) يسنّ في حقه أن (يقبضَ ¬

_ (¬1) في الأصول "على الأيسر" ولا يصح ذلك لغة، لأن الفخذ مؤنثة.

من) يده (اليمنى الخنصرَ والبنصرَ، ويحلِّقَ إبهامها مع الوسطى). وهذه الثامنة والأربعون. (و) التاسعة والأربعون: كونه (يشيرُ بسبَّابَتِهَا) أي اليمنى (عند ذكر الله) تعالى. (و) الخمسون: (كون اليسرى مضمومةَ الأصابع). (و) الحادية والخمسون: (كونُ أطرافِ أصابِعِها نحو القبلة). (و) والثانية والخمسون: (الإِشارة بوجهه نحو القبلة في ابتداء السلام. (و) الثالثة والخمسون: (التفاتُهُ يميناً وشمالاً في تسليمهِ). (و) الرابعة والخمسون: (نيَّتُهُ به) أي السلام (الخروجَ من الصلاة). (و) الخامسة والخمسون: (تفضيل الشمالِ على اليمينِ في الالتفات). (و) السادسة والخمسون: (الخشوع) وهو معنًى يقومُ بالنَّفسِ يظهرُ منه سكون الأطراف. تنبيه: إن اعتقد المصلي الفرضَ سُنَّةً، أو السُّنَّةَ فرضاً، أو لم يعتقد شيئاً، لا فرضاً ولا سنةً، وأدّاها مشتملةً على الشروط والأركان والواجبات، وهو يعلم أن ذلك كلَّه من الصلاة، أو لم يعرف الشَّرْطَ من الرًّكْن، فصلاته صحيحة. خاتمة: إذا ترك شيئاً، ولم يدر أفرضٌ هو أم سُنَّةٌ، لم يسقطْ فرضه للشكِّ في صحته.

[فيما يكره في الصلاة]

فصل (فيما يكره في الصلاة) يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي اقتصارهُ على الفاتحةِ) فيما تسنّ فيه السورة بعدها. (وتكرارُها) أي الفاتحة، لأنها ركنٌ. وفي إبطال الصلاة بتكرارِها خلافٌ، فَكُرِهَ لذلك. (والتفاتُهُ) في الصلاة. ومحلُّ الكَرَاهَةِ إذا كان الالتفاتُ (بلا حاجَةٍ) كخوفٍ ومرضٍ. والمراد بالالتفات الذي يكره ولا تبطل بهِ الصلاة: إذا لم يَسْتَدِرْ بجملته، ويستدبِرِ القبلة. (و) يكره للمصلي (تغميضُ عينيه)، لأنه مَظِنَّةُ النَّوْمِ. (وحمل مُشْغِلٍ لَهُ) عن الصلاة، لأن ذلك يُذْهِبُ الخشوع. (وافتراشُ ذراعيهِ) حال كونِهِ (ساجداً). (والعبثُ، والتخصُّرُ) وهو أن يَضَعَ يديه على خاصرتِهِ. (والتمطّي) لأن ذلك يخرجه عن هيئة الخشوع. (وفتح فَمِهِ، ووضْعُهُ فيه شيئاً)، لا في يده، نص عليه. (واستقبال صورَةٍ) منصوبَةٍ، لأنه يُشْبِهُ سجودَ الكفارِ لها. وفي الفصول: يُكْرَه أن يصلي إلى جدارٍ فيه صورةٌ وتماثيلُ، لما فيه من التشبيه بعبادة الأوثان والأصنام. وظاهره: ولو كانت صغيرةً لا تبدو للناظر إليها، خلافاً لأبي حنيفة، وأنه (¬1) لا يكره إلى غير منصوبة خلافاً لأبي حنيفة، ولا سجود على صورة خلافاً لأبي حنيفة، ولا صورة خلفه (¬2) في البيت خلافاً لأبي حنيفة في إحدى روايتيه. ولا فوق رأسه، أو عن أحد جانبيه، خلافاً لأبي حنيفة. انتهى. (و) استقبالُ (وجهِ آدميً). وفي الرّعاية: أو حيوانٍ غيره. والأول أصحّ. ¬

_ (¬1) (ب، ص) "فإنه" والصواب "وأنَّه" كما في شرح المنتهى 1/ 196. أي: والظاهر أنه. (¬2) ف: خافيةٍ. وما اعتمدناه أصوبُ، كما في شرح المنتهى أيضاً.

(و) استقبالُ (متحدِّثٍ) لأن ذلك يَشْغَله عن حضور قلبه في الصلاة. (و) استقبالُ (نائم) في الفرض والنفل، (ونارٍ) مطلقاً (¬1). (و) استقبال (ما يلهيه) أو [أن] ينظر في كتابٍ. واستقبال كافرٍ. وتعليقُ شيءٍ في قبلته، لا وضعه في الأرض. وأن يصلي وبين يديه نجاسة، أو باب مفتوح، قاله في المبدع. (ومس الحصى) لقوله عليه السلام في حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً: "إذا قامَ أحدُكم إلى الصلاةِ فلا يَمْسَح الحصى فإن الرَّحْمَةَ تواجهه" رواه أبو داود (¬2)، بلا عذرٍ. (وتسويةُ الترابِ بلا عذرٍ). ويكره له (تروُّحٌ بمروحة) ونحوِها، بلا حاجة، لأنه من العبث. (وفرقعة أصابعه) وهو في الصلاة. (وتشبيكُها) وهو في الصلاة. (ومس لحيته) وعقصُ شعره (وكفُّ ثوبه) ونحوه. (ومتى كثر ذلك) أي مسُّ الحصى، وتسوية التراب، والتروُّح ونحوها (عرفاً) أي في العُرْفِ، فلا عبرة بالثلاث (¬3)، (بطلت) صلاته. (و) يكره له (أن يخصّ جبهته بما يسجد عليهِ) لأنَّه من شعائر الرافضة. ¬

_ (¬1) أي ولو كانت نار سراج أو حطب أو غير ذلك (عبد الغني) قلتُ: وأما مدفأة الكهرباء، فإن كانت ذات لهب أو تتوهج كالجمر فالظاهر عندي الكراهة. وإن كانت تسخِّن زيتا أو ماء أو نحوها دون أًن يبدو وهجها فالظاهر عدم الكراهة. والله أعلم. (¬2) هذا الحديث ساقط من (ف). (¬3) أي لا عبرة بثلاث حركات، فإنَّ بعض المذاهب أبطلت بها الصلاة إذا توالت.

[فيما يبطل الصلاة]

وأن يمسح فيها) أي في الصلاة أثرَ سجوده. (وأن يستندَ) إلى جدارٍ ونحوِهِ، لأنه يزيل مشقَّةَ القيامِ. وإنما يكره إذا كان (بلا حاجة إليه، فإن استند) المصلي (بحيث يقعُ لو أزيلَ ما استندَ إليه بطلت) صلاته إن لم يكن عذر. (وحمدُهُ) أي حمد المصلي إذا عَطَسَ أو وَجَدَ (ما يسرُّه). ويكره (استرجاعه) أي أن يقول: "إنَّا لله وإنّا إليه راجعون" (إذا وجد ما يَغُمُّهُ) قال في الإِنصاف: لو عطس فقال: الحمد لله، أو لَسَعَهُ شيء فقال: بسم الله، أو سمع أو رأى ما يَغُمُّهُ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو ما يعجبه فقال: سبحان الله، ونحوه، كره ذلك. فصل (فيما يبطل الصلاة) (يبطلها) كل (ما أبطل الطَّهارة) وهو ثمانية. (وكشفُ العورة عمداً) ولو كان المكشوف منها يسيراً، لأن التحرّز منه ممكن من غير مشقةٍ، أشبه سائر العورة (لا) تبطل (إن كشفها) أي كلَّ عورتِهِ أو ما لم يُعْفَ عنه منها (نَحْوُ ريحٍ فَسَتَرَهَا في الحال) بلا عملٍ كثير، (أوْ لا) أي بأن لم يَسْتُرْهَا في الحال، وكان كشْفُها بلا قصدٍ (وكان المكشوف) يسيراً، واليسيرُ هو الذي (لا يَفْحُشُ في النظر) عرفاً، ويختلف الفُحْشُ بِحَسَبِ المنكشف، فَيَفْحُشُ من السوأة ما لا يفحش من غيرِهَا. فإن صلاتَهُ لا تبطل. (و) يبطل الصلاةَ (استدبار القِبْلَةِ حيثُ شُرِطَ استقبالُها) وتقدَّم. ويبطلها (اتصال النجاسة) التي لا يعفى عنها (به) أي المصلي (إن

لم يُزِلْها في الحال) فإِن أزالها سريعاً، بحيث لم يَطُلِ الزمن، فصلاته صحيحة. (و) يبطلها (العمل) المتوالي (الكثير) لا القليل (في العادة من غيرِ جنسها) أي الصلاة، كفتح بابِ ومشيٍ، ولفِّ عمامةٍ، وكتابةٍ، وخياطةٍ. وعَمْدُهْ وسهوُه وجهلُه سواءٌ لقطعه الموالاةَ بين الأركان، (لغيرِ ضرورةٍ) فلو كان لضرورةٍ كخوفٍ وهربٍ من عدوٍّ أو سيلٍ، أو سَبُعٍ، فلا تبطل به. ويبطلها (الاستناد قويًّا) وتقدَّم حدَّه. ولا يبطلها إلا إذا كان (لغيرِ عذرٍ) ويأتي. (و) يبطلها (رجوعُه عالماً) لا جاهلاً تحريمَ رجوعه (ذاكراً) لا إن كان ناسياً (للتشهد) الأول (بعد الشروع في القراءة) أي وإن ذكرَ التشهُّدَ من نَسِيَهُ بعد أن شَرَعَ في القراءة، لم يجز له الرجوع إليه، لأنه تلبس بركن مقصود. فإن رَجَعَ بعد شروعه فيها بطلت صلاته، إلا أن يكونَ ناسياً أو جاهلاً، فلا تبطل. ومتى علم تحريمَ ذلك وهو في التشهُّدِ نَهَضَ ولم يُتِمَّ الجلوس. قاله في الشرح. وكذا حالُ المأمومينَ إن تبعوه. وإن سبّحوا له قبل أن يعتدل، فلم يرجع، تَشَهَّدوا لأنْفسِهِمْ وتبعوه. وقيل: يفارقونه ويتمّون صلاتهم. قاله في المبدع. تتمة: قال في الشرح وغيرِه: فإن مَضَى في موضعٍ يلزمه الرجوع، أو رجع في موضع يلزمه المضيّ، عالماً تحريمه، بَطَلَتْ صلاته، كتركِ الواجبِ عمداً. وإنْ فَعَلَه يعتقد جوازه لم تبطل، لأنه تركه غير متعمِّد. لكن إذا مضى في موضعٍ يلزمه الرجوع، فَسَدَتْ الركعة التي ترك

ركنها، كما لو لم يذكره إلا بعد الشروع في القراءة. وإن رجع في موضع المضيِّ ناسياً لم يعْتدّ بما يفعله في الركعة التي تركه منها، لأنها فسدت بشروعه في قراءةِ غيرِها، فلم تَعُدْ إلى الصحة بحال. (و) يبطلها (تعمُّد زيادةِ ركنٍ فعليٌّ) كقيام وقعود وركوع وسجود (و) تبطل (بتعمد تقديم بعض الأركان على بعض) كتعمد السجود قبل الركوع. (و) تبطل (بتعمُّد السلام قبل إتمامها). (و) تبطل (بتعمُّد إحالة المعنى في القراءة) كفتح همزة "إهدنا" وضم تاء "أنعمت" وكسرها، (¬1) وكسر كاف إياك. (و) تبطل (بوجودِ سترةٍ بعيدة) عرفاً بحيث يحتاجُ إلى زمنٍ طويلٍ، أو عملِ كثيرٍ، كالمشي (وهو عريانٌ. و) تبطل (بفسخ النية) في أثنائها، لأن النية شرط في جميعها، وقد قَطَعَها. (و) تبطل الصلاة (بالتردُّد في الفسخ) لأنَّ استدامة النية شرط لصحَّتها. ومع التردّد تَبْطُل الاستدامة. (و) تبطل الصلاة (بالعزم عليه) أي على الفسخ. (و) تبطل (بشكّه) في أثناء الصلاة (هل نَوَى، فعمل مع الشكِّ عملاً) من أعمال الصلاة، كركوع، وسجودٍ ورفع منهما، ثم ذكر أنه نوى. وإن شكَّ في تكبيرةِ الإحرامِ وجب عليه استئنافُ الصلاة. (و) تبطل (بالدعاءِ بملاذِّ الدنيا) كقوله: اللهمَّ ارزقني جاريةً حسناءَ، وحُلَّةً خضراء، ودابَّةً هِمْلاَجَةً. (و) تبطل (بالإتيان بكافِ الخطابِ لغيرِ الله وَرَسُولهِ أحْمَدَ) قال في ¬

_ (¬1) سقط من (ب , ص): (وكسرها)

الإقناع وشرحه: وظاهرُه لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو "السلام عليك أيها النبي" فلا تبطل به، فيكون من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم -. (و) تبطل (بالقهقهة). (و) تبطل (بالكلام ولو) كان الكلام (سهواً) إماماً كان أو مأموماً، عمداً أو جَهْلاً، طائعاً أو مكرَهاً، واجباً كتحذير معصومٍ عن مهلكة، أوْ لا، فرضاً كانت الصلاة أو نفلاً. (و) تبطل (بِتَقَدُّمِ (¬1) المأمومِ على إمامِهِ.) والاعتبار في القيام بمؤْخِرِ القدم، وهو العقب. ولا يضرُّ طول المأموم عن إمامه، ولا تقدم رأسه في السجود (¬2). فلو استويا في العقِبِ، وتقدمت أصابعُ المأموم لم يضرَّ. فإن صلى قاعداً فالاعتبار بمحلّ القُعُودِ وهو الألية، حتى لو مدَّ رِجْليه، وقدمَهُمَا على الإمام لم يضرَّ. (و) تبطل صلاة مأموم بـ (بطلان صلاةِ إمامهِ). (و) تبطل (بسلامهِ) أي المأموم (عمداً قبل إمامِهِ، أو سهواً قبله، (ولم يُعِدْهُ) أي السلام (بعدَه) أي بعد إمامه. (و) تبطل (بالأكل والشرب سوى اليسير) منهما (عرفاً لِناسٍ وجاهل). (ولا تبطل) الصلاة (إن بلع) المصلي (ما بين أسنانِهِ بلا مضغٍ) ولو لم يَجْرِ بِه الريقُ، نصًّا. ولا نفلٌ بيسيرِ شربٍ عمداً، وبلعِ ذوبِ سُكَّرٍ ونحوه مما يذوب بفمٍ، كأكلٍ. (وكالكلامِ) في الحكمِ (إن تَنَحْنَحَ بلا حاجةٍ) فبان حرفانِ (أو ¬

_ (¬1) في (ب، ص) بتقديم والتصويب من (ف). (¬2) في الأصول "لأنه يتقدم رأسه في السجود" وقد استظهر التصويب مما في شرح المنتهى (1/ 263) من قوله: ولا يضر تقدمُ أصابع المأموم لطول قدمه ولا تقدم رأسه في السجود لطوله.

انتحبَ، لا خشيةً، أو نَفَخَ فبانَ حرفانِ). أما إذا انتحبَ المصلّي خشيةَ من الله تعالى فصلاته صحيحة. (ولا) تبطل (إن نامَ) المصلي، وهو قائم أو جالسٌ نوماً يسيراً (فتكلَّمَ) في ذلك النومِ (أو سَبَقَ على لسانِهِ) كلامٌ (حال قراءَتِه) فلا تبطل، لأنه مغلوبٌ على الكلام في الحالتين، أشبه ما لو غلط في القراءة، فأتى بكلمة من غيرِها. ولأنّ النائم مرفوعٌ عنه القَلَمُ. (أو غَلَبَهُ سعالٌ أو عُطاسٌ أو تثاؤُبٌ) فبانَ حرفانِ، فلا تبطل صلاتُه (أو) غلبه (بكاءٌ) فبان حرفان. قال في المغني والنهاية: إنه إذا غلبَ صاحِبَهُ لم يضرَّه، لكونه غيرَ داخلٍ في وُسْعِهِ. ولم يحكيا فيه خلافاً. قاله في المبدع.

باب سجود السهو

باب سُجُود السَّهْو (يسن إذا أتى) المصلي (بقولٍ مشروعٍ في غير محله) غيرَ سلامٍ، كالقراءةِ في السجود، والقعود، وكالتشهد في القيام، وقراءةِ السورة في الركعتين الأخيرتين، ونحوه (سهواً) وعلم منه أنه إذا أتى بذكر أو دعاءٍ لم يرد الشرع به فيها، كقوله: "آمينَ ربَّ العالمينَ" وفي التكبير "الله أكبرُ كبيراً" أنه لا يُشرع له سجود، وجزَم به في المغني والشرح وغيرهما. (ويباح) سجود السهو (إذا ترك مسنوناً) سهواً. قال في المقنع، بعد سياقه سنن الأقوال: "فهذه لا تبطل الصلاة بتركِهَا. ولا يجبُ السجودُ لها. وهل يُشْرَع؟ على روايتين". وما سوى هذا من سُنَنِ الأفعال لا تَبْطُلُ بتركها، ولا يُشْرَع السجود لها. قال في المبدع: نَصَرَهُ واختارَه الأكثر، لأنه لا يمكن التحرُّز من تركها، لكثرتها، فلو شُرِع السجود لم تخلُ صلاةٌ من سجودٍ في الغالب. وبه يفرّق بينها وبين سنن الأقوال. وقال: إذا قلنا: لا يسجد، فسجد، لم تبطل صلاته. نص عليه. (ويجب) سجود السهو (إذا زادَ ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً، ولو) كان القعود (قدْرَ جَلْسَةِ الاستراحة) سهواً. وتقدم في مبطلات الصلاة أن الصلاة تبطل بتعمُّد زيادة ركنٍ فعليّ، (أو سلَّم قبل إتمامها)

سهواً. وتقدم أن عَمْدَهُ يبطلها، (أو لَحَن لحناً يحيل المعنى) سهواً (أو تَرَكَ واجباً) سهواً، كتسبيح ركوعٍ، وتشهدٍ أوَّلَ، (أوْ شكَّ في زيادةٍ وقت فعلِها) بأنْ شكَّ في الأخيرة: هل هي زائدةٌ أوْ لا؟ أو وهو ساجدٌ: هل سجوده زائد أوْ لا؟ فيسجد لذلك، جبراً للنقص الحاصل فيه بالشكّ. ولا يسجد لشكِّه إذا زالَ وتبينَ أنه مصيبٌ فيما فعل. قال في الإِقناع: ولا يسجد لشكِّهِ في تركِ واجبِ، ولا لشكه: هل سَهَا؟ أو في زيادةٍ إلا إذا شكَّ فيها وقتَ فعلِها. (وتبطل الصلاة بتعمُّدِ تركِ سجود السَّهوِ الواجِبِ) الذي محلُّه قبل السلام، لأنه ترك واجباً في الصلاة عمداً. ولا يُشرَع سجود لترك سجود السهو سهواً (¬1) (إلا إن ترك ما وجب بسلامِهِ قبل إتمامها) فلا تبطل، كما إذا سلم عن نقصٍ، أما كونها لا تبطل بتعمّد ترك ما مَحَلُّه بعد السلام فلأنه خارج عنها، فلم يؤثِّر في إبطالها، وإن كان مشروعاً لها، كالأذان. (وإن شاءَ سَجَدَ سجدتي السهو قبل السلام أو بعده) قال القاضي: لا خلاف في جواز الأمرين، أي السجود قبلَ السلام أو بعده، وإنما الكلام في الأوْلى والأفْضل انتهى. قال في الإِقناع: ومحله ندباً قبل السلام، إلا في السلام قبل إتمام صلاتِهِ إذا سلم عن نقصِ ركعةٍ فأكثر. انتهى. (لكن إن سَجَدَهما بَعْدَهُ) أي السلام سواء كان محلُّه قبلَه أو بعدهَ، كَبَّر، ثم سجد سجدتين، ثم جلس مفترشاً في الثنائية (¬2) ومتوركاً في غيرها (تشهد وجوباً) (¬3) التشهدَ الأخير (وسلم). ¬

_ (¬1) (ب، ص) سقط منهما "سهوًا" وهي ثابتة في ف. (¬2) (ف): الثانية. والصواب ما أثبتناه كما في (ب، ص). (¬3) وقيل لا يتشهّد، واختاره ابن تيمية، كسجوده قبل السلام. ذكره في الخلاف إجماعاً. اهـ من الفروع (عبد الغني).

وسجود السهو، وما يقول فيه، وما يقول بعد الرفع منه، كسجود صُلْبِ الصلاة. (وإن نسي السجودَ حتى طال الفصلُ عرفاً) سقط، (أو أحْدَث) سقط، (أو خرج من المسجد سقط) سجود السهو، وصحت صلاته، لأنه جابرٌ للعبادة كجبرانات الحج، فلم تبطل بفواته. (ولا سجودَ على مأمومٍ دخلَ أول الصلاة، إذا سَهَا) المأموم (في صلاته.) ويأتي. قال في شرح الإِقناع: وظاهره ولو كان أتى بما محل سجوده بعد السلام. (وإذا سَهَا إمامه لزمه متابعتُه في سجود السهو) سواءٌ سهَا المأمومُ أوْ لا، ولو لم يُتِمَّ المأمومُ ما عليه من تشهُّدٍ، ثم يتمِّمُه بعد سجوده مع الإِمام ولو مسبوقاً، أو كان سَهْوُ الإِمام فيما لم يُدْرِكْهُ المأموم فيه، فلو قام بعد سلام إمامه رَجَعَ فسجد مَعَهُ، لا إن شرع في القراءة. وإن أدركه في آخر سجدتي السهو سجدها معه، فإذا سلَّم الإِمامُ أتى المأموم بالسجدة الثانية، ثم قضى صلاته. وإن أدركه بعدهما وقبل السلام لم يسجدْ، ويسجد إنْ سلَّم معه سهواً بعد إتمام صلاتِهِ، ولسهوه معه، وفيما انفرد به. (فإن لم يسجد إمامه وجب عليه) أي المأموم (هو) مسبوقاً كان أو غير مسبوق، فيسجُدُ المسبوق إذا فرغ من قضاءِ ما فاته مع الإِمام، وغيرُ المسبوق بعد إياسه من سجود الإِمام، ولو كان الإِمام لا يعتقد وجوب سجود السهو. (ومن قام لركعة زائدةٍ جَلَسَ متى ذكر)، ولا يتشهدُ إن كان تشهّد، وسجد للسهو وسلم. ومن نوى ركعتين نفلاً، فقام إلى ثالثة نهاراً فالأفضل أن يتمَّها

أربعاً، ولا يسجد للسهو. وإن شاء أن لا يتمَّها رجع، وسجد للسهو. وإن نوى ركعتين ليلاً، فقام إلى ثالثةٍ، فكقيامه إلى ثالثةٍ بفجرٍ. (وإن نهض) المصلي إلى الركعة الثالثة (عن تركِ التشهُّد الأوَّل) مع تركِ جلوسِهِ أو دونَه (ناسياً) لما تركه منهما، أو من أحدِهِما (لزمه الرجوع) قبل أن يستتمَّ قائماً (ليتشهَّدَ، وكُرِهَ) رجوعه (إن استتم قائماً). (ويلزَمُ المأمومَ متابعتُه) أي متابعة إمامه في قيامه ناسياً. (ولا يرجع إن شرع في القراءة) لأنه شرع في ركن. وتقدم في المبطلات حكم رجوعه. (ومن شك في ترك ركنٍ أو) شك في (عددِ ركعاتٍ، وهو في الصلاةِ بني على اليقين، وهو الأقل) في العدد، وتركُ الركن في شكِّه في ترْكِه، (وسجد للسهو). (وبعد فراغها لا أثر للشك.) وتقدم.

باب صلاة التطوع

باب صلَاة التَّطوُّع قال في "الاختيارات": التطوُّع تُكَمَّل به صلاة الفرائض يوم القيامة إن لم يكن المصلي أتمَّها. وفيه حديث مرفوعٌ رواه أحمد. وكذلك الزكاةُ وبقية الأعمال (¬1) أهـ. وهو شرعاً طاعةٌ غيرِ واجبة. (وهي) أي صلاة التطوع (أفضلُ تطوُّعِ البدن بعد الجهادِ) وهو قتالُ الكفار، وبعد توابعِ الجهاد، وهي النفقة فيه (و) بعد (العِلْمِ) من تعليمٍ وتعلُّمٍ. وترتيبها في الفضيلة أن تقول: أفضلُ التطوعِ الجهادُ ثم توابِعُه، ثمَّ عِلْمٌ، ثم صلاةٌ. ونَصَّ (¬2) أن الطواف لغريبٍ أفضلُ منها، أي الصلاةِ بالمسجد الحرام. ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود، وابن ماجه والحاكم عن تميم الدّاريّ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتَّمَّهَا كتبت له تامة. وإن لم يكن أتمّها قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوّع، فتكمّلون بها فريضته. ثم الزكاة كذلك. ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك. "الفتح الكبير وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. (¬2) أي نصُّ الإِمام أحمد.

[الوتر]

(وأفضلها) أي أفضل صلاة التطوع (ما سُنَّ) أن يُصلَّى (جماعةً) لأنه أشْبَهُ بالفرائض. (وآكدها الكسوفُ) أي آكدُ ما تسن له الجماعةُ من الصلوات المسنونة صلاةُ الكسوف؛ (فالاستسقاء) يعني أن صلاة الاستسقاء تلي صلاة الكسوفِ في الأكدية، (فالتراويحُ) ذكره في "المذهب" وغيرِه، لأنها تسنّ لها الجماعة؛ (فالوتر) يعني أنه يلي التراويح في الآكدية. [الوتر] (وأقله) أي الوتر (ركعة.) ولا يُكْرَه الوتر بها، ولو بلا عذرٍ من مرضٍ أو سفر ونحوهما. (وأكثره) أي أكثر الوتر (إحدى عشرة) ركعةً، يسلم من كل اثنتين، ويوتر بركعة. وسن فعلُها عَقِبَ الشفع بلا تأخيرٍ، نصًّا. وإن صلاَّها كلَّها بسلامٍ واحد، بأن سَرَد عشراً، وتشهّد، ثم قام فأتى بالركعة، جاز؛ أو سرد الأحَدَ عَشَرَ، ولم يجلس إلاَّ في الأخيرة، جاز، لكنِ الأُولى أوْلى. وكذا إن أوتر بثلاثٍ، أو خمسٍ، أو سبعٍ، أو تسعٍ. وإن أوتر بتسع سَرَدَ ثمانياً وجلس وتشهد ولم يسلِّمْ، ثم يصلي التاسعة ويتشهَّدُ ويسلم. وإن أوتر بسبعٍ أو خمسٍ سَرَدَهُنَّ ولم يجلس إلا في آخرهن، وهو أفضل فيما إذا أوتر بسبعٍ أو خمسٍ. (وأدنى الكمال ثلاثُ) ركعاتٍ (بسلامين.) وهو أفضل. (ويجوز) أن يصلي الثلاث (بـ) سلامٍ (واحدٍ) لأنه ورد (سَرْداً) من

[قنوت الوتر]

غير جلوسٍ عقب الثانية، لتُخَالِفَ المغرب. (ووقته) أي الوتر (ما بين صلاة العشاء) ولو مع جمعِ تقديم (وطلوعِ الفجر.) فمن صلى الوتر قبل العشاء لم تصحّ. ومن صلاةُ بعد الفجر كان قضاءً. [قنوت الوتر] (ويقنت فيه) أي في الوتر في الركعة الأخيرة جميع السَّنَةِ (بعد الركوعِ ندباً، فلو كبَّر ورفع يديه) بعد الفراغ من القراءة (ثم قَنَتَ قبل الركوع جاز) نص عليه. (ولا بأس أن يدعو في قنوته بما شاء) ما لم يكن من أمر الدنيا، فيرفع يديه إلى صدره يبسطهما، وبطونُهما نحو السماء، ولو مأموماً. (ومن) بعض (ما وَرَدَ: اللهُمّ اهدنا فيمن هديتَ) أصل الهدى الرشاد والبيان، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والهداية من الله التوفيق والإِرشاد. وطلبُ الهداية من جهة المؤمنين مع كونهم مهتدين بمعنى طلب التثبيت عليها، أو بمعنى المزيد منها. (وعافِنَا فيمن عافيت) المراد بها العافية من الأسقام والبلايا. والعافية أن يعافِيَكَ الله من الناس، ويعافِيَهُمْ منك (وتولَّنا فيمن تولَّيْتَ) الولي ضد العدوّ، مأخوذ من تَلَيْتُ الشيءَ إذا اعتنيتَ به ونظرت فيه، كما ينظر الولي في حال اليتيم. لأنه سبحانه وتعالى ينظر في أمر موليِّه بالعناية (¬1). ويجوز أن يكون من وَليتُ الشيءَ إذا لم يكن بينك وبينه واسطة، بمعنى أنّ الوليّ يقطع الوسائط بينه وبين الله تعالى، حتى يصيرَ في مقام المراقَبَةِ والمُشَاهَدَةِ، وهو الإِحسان (وبارِكْ لنا فيما أعطيت) البركةُ ¬

_ (¬1) جعله من (تلا) لا تساعِدُ عليه اللغة، لأن فَاءَ (تَوَلَّى) واو، وفاء (تلا) تاء. فهما مادّتان متغايرتان. ولذا يتعين الوجه التالى.

الزيادة. وقيل: هي حِلول الخير الإِلهيّ في الشيء. والعطية: الهبة. والمراد بها هنا ما أنعم الله به (وَقِنَا شَرّ ما قضيتَ. إنَّك تقضي، ولا يقضى عليك) سبحانه لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه، فإنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد (إنه لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزّ من عاديتَ. تباركتَ) تنزهت عن صفات المحدثين (ربَّنا وتعالَيْتَ.) رواه أحمد (¬1) (اللُّهم إنا نعوذُ برضاك من سَخَطِكَ، وبعفوِكَ من عُقُوبَتِك وبِكَ مِنْكَ) قال الخطّابي: في هذا معنًى لطيف، وذلك أنه سأل اللَهَ تعالى أن يجيره برضاه من سَخَطِهِ، وهما ضدَّان متقابلان. وكذلك المعافاة والمؤاخذة (¬2) بالعقوبة، لجأ إلى ما لا ضدّ له وهو الله سبحانه وتعالى: أظهر العجز والانقطاع، وفزع منه إليه، فاستعاذ به منه (لا نحصي ثناءً عليك) أي لا نطيقه، ولا نبلُغُه، ولا تنتهي غايته، لقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي تطيقوه (أنْتَ كما أثنيت على نفسك) (¬3) اعترافٌ بالعجز عن الثناء، وردُّه إلى المحيطِ علمه بكل شيء جملةً وتفصيلاً. فكما أنه تعالى لا نهاية لسلطانه وعظمته، لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع لِلْمُثْنى عليه. (ثم يصلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم -) نصّ عليه. (ويؤمّن مأموم) على قنوت إمامه بأن يقول: "آمين" (¬4) إن سمع قنوت إمامه، وإلّا دَعَا. ¬

_ (¬1) ورواه أبو داود وتكلم فيه. ورواه الترمذي وحسّنَه من حديث الحسن بن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه ذلك (شرح المنتهى). (¬2) (ب، ص) "والمؤاخذة لكم بالعقوبة" فحذفنا "لكم" تبعاً لـ (ف) ولأنها لا معنى لها. (¬3) روى الخمسة عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخطك" الحديث كما هو في المتن. ورواته ثقات (شرح المنتهى). (¬4) أيْ اللهم أجب. والشافعية يرون القنوت في الفجر دائماً لحديث "أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" وفيه محمد بن جعفر الرازي متكلَّمُ فيه. قال في شرح المنتهى "ويحتمل أنه أراد به طول القيام، فإنه يسمى قنوتاً".

[القنوت في غير الوتر]

وكذلك إذا اقتدى بشافعيٍّ في الصبح يؤمّن. (ثم يمسح وجْهَهُ بيديه، هنا) أي في القنوت (وخارجَ الصلاة) إذا دَعَا. [القنوت في غير الوتر] (وكُرِهَ القنوت في غير الوتر) رويت (¬1) كراهة ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهم، وعنّا بهم. ومحل الكراهة إلاَّ أن ينزل بالمسلمين نازلة، غير الطاعون، فيسن لِإمام الوقت خاصَّةً القنوت في غير الجُمُعة. [السنن الراتبة] (وأفضل الرواتبِ) المؤكدهَ (سنة الفجر، ثم سنة المغرب، ثم) سنة الظهر والعشاء (سواءٌ) في الفضيلة. (والرواتب المؤكدة عشر) ركعات: (ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر) فيخيَّر في السفر في فعل غيرِ سُنَّة فجرٍ ووتر لتأكدهما (¬2). (ويسن قضاء الرواتب والوتر، إلاَّ ما فات) من الرواتب (مع فرضِهِ وكثر، فالأوْلى تركه) أي تركُ قضائها، لحصول المشقة به، إلا سُنَّةَ الفجر فيقضيها لتأكّدها. (وفعله الكلّ) أي السنن كلها (ببيتٍ أفضلُ) من فعلها بالمسجد. (ويسن الفصل بين الفرض وسنّتِهِ) سواء كانت قبله أو بعده (بقيامٍ) أي انتقال (أو كلامٍ). ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "رواية كراهة ذلك" والتصحيح من (ف). (¬2) فأمَّا الوتر وركعتا الفجر فيحافظ عليهما سفراً وحضراً (ش المنتهى).

[التراويح]

[التراويح] (والتراويح) سنة مؤكدة، وهي (عشرون ركعةً) عند أكثر أهل العلم. وقال مالك: الاختيار ستٌّ وثلاثون ركعة. (برمضانَ) جماعةً، نصًّا. والأصل في مسنونيتها الإِجماع، يسلِّم من كل اثنتين بنيَّةٍ أوَّلَ كل ركعتين أنّهما من التراويح. (ووقتها) أي التراويح (ما بين) فرضِ (العشاءِ و) سنة (الوتر) وعلم مما تقدم أنها لا تصح قبل صلاة العشاء، فمن صلى التراويح، ثم ذكر أنه صلى العشاء محدثاً، فإنه يعيد التراويح، لأنها سنة تفعل بعد مكتوبة، فلم تصح قبلها، كسنة العشاء والسنة التي بعد الظهر. فصل [قيام الليل] (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار) قال أحمد: ليس بعدَ المكتوبة عندي أفضلُ من قيام الليل. انتهى. (والنصفُ الأخيرُ) منه (أفضلُ من) النصفِ (الأوَّلِ). وبعد النوم أفضل، لأن الناشِئة لا تكون إلاَّ بعد رَقْدةٍ، ومن لم يرقدْ فلا ناشئةَ له. قاله أحمد. وقال: "هِيَ أَشدُّ وَطْأً أي تَثْبِيتاً: تَفْهمُ ما تَقْرأ وَتَعِي أُذُنُك" (والتهجُّد ما كان بعد النوم). قال البهوتي: وظاهره ولو يسيراً. (ويُسَنُّ قيامُ الليلِ) فإذا استيقظَ من نومِهِ ذَكَرَ الله تعالى، وقال ما ورد بعد الاستيقاظ، ومنه "لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شَرِيكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ. الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله العلي العظيم. ثم إن شاء

قال: "اللهمَّ اغفرْ لي" أو دَعَا استجيب له، فإن توضأ أو صلَّى قبلت صلاته" (¬1). (و) يسن (افتتاحه) أي قيام الليل (بركعتين خفيفتين) لما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا قام أحدكم من الليل فليفْتتح صلاته بركعتين خفيفتين" رواه أحمد ومسلم وأبو داود. (و) يسن (نِيَّتُه) أي نية قيام الليلِ (عند النومِ) ليفوز بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام ونيَّتُهُ أن يقوم، كُتِب له ما نواه وكان نومه صدقة عليه" (¬2). (ويصح التطوع بركعةٍ) ونحوها كثلاثٍ وخمسٍ. (وأَجْرُ) المصلي (القاعد) أي المصلي قاعداً (غيرِ المعذورِ نصفُ أَجْرِ القائِمِ) قال في الإِنصاف: فأما إن كان معذوراً، لمَرَضٍ ونحوه، فإنها كصلاة القائم في الأجر. قال في الفروع: ويتوجه فيه فرضاً ونفلاً. انتهى. وسن تربُّعه بمحل قيامٍ، وثَنْيُ رجليهِ بركوعٍ وسجودٍ. قال في الإِنصاف: فائدة: يجوز له القيام إذا ابتدأ الصلاة جالساً، وعكسه في النفل لا غير. (وكثرة الركوعِ والسجودِ أفضلُ من طول القيام) لأن السجودَ في نفسِهِ أفضلُ وآكَدُ، بدليل أنه يجب في الفرض والنفل، ولا يباح بحالٍ إلا لله تعالى. والقيامُ يَسْقُطُ في النفل، ويباح في غير الصلاة، للوالدين، والعالِم، وسيد القوم. والاستكثار مما هو آكَدُ وأفضل أولى. ¬

_ (¬1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي، ولفظ البخاري: مَنْ تَعَارَّ من الليل فقال "لا إله إلا الله .. إلى قوله: قُبلت صلاته" فكان على الشارح التنبيه عند قوله "ثم إن شاء .. " لئلا يظن أن آخر الحديث من كلامه هو. (¬2) حديث "من نام ونيته أن يقوم .. " حسن. رواه أبو داود والنسائي (ش المنتهى).

[صلاة الضحى]

[صلاة الضحى] (وتسن صلاة الضحى غِبًّا) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها. (وأقلُّها ركعتان. وأكثرها ثمانٍ) أي ثمان ركعاتٍ. (ووقتُها) أي وقت صلاة الضحى (من خروجِ وقت النَّهيِ) وهو إذا عَلَتِ الشمسُ، ويستمرُّ (إلى قبيلِ الزوال) يعني إلى دخول وقت النهي، بقيامِ الشمس. كذا في شرح المنتهى. (وأفضله) أي أفضل وقتٍ تصلَّى فيه صلاة الضحى (إذا اشتدَّ الحَرُّ). [تحية المسجد] (وتسن تحية المسجد) ركعتان فأكثر، لمن دَخَلَهُ قَصْدَ الجلوسِ به، أوْ لا، غيرَ خطيبِ دخلَ للخُطْبَةِ، وَقَيِّمِهِ، وداخلِهِ لصلاةِ عيد، وداخِلِهِ والإِمامُ في مكتوَبةٍ، أو بعد الشروعِ في الإِقامةِ، وداخلِ المسجدِ الحرام، لأن تحيَّتَهُ الطوافُ. وَتجزئُ راتبةٌ، وفريضةٌ، ولو فائتتين، عنها. وإن نوى التحيةَ والفرضَ فظاهر كلامِهِمْ حصولُهما له. قَطَع به في المنتهى وغيره. فإن جَلَس قبل فعلها قام فأتى بها إن لم يَطُلِ الفَصْلُ. ولا تَحْصُلُ بأقلّ من ركعتينِ، ولا بصلاة جنازةٍ، وسجود تلاوةٍ، وشكر. [سنة الوضوء وتطوعات أخرى] (و) تُسن (سنةُ الوضوء) أي ركعتانِ عَقِبَهُ. (و) يسن (إحياء ما بين العشاءَيْنِ. وهو من قيام الليلِ) لأن الليلَ

[في سجود التلاوة]

من المَغْرِبِ إلى طلوعِ الفجر الثاني. ويستحبُّ أن يكون له تطوّعاتٌ يداوِمُ عليهَا وإن فاتَتْ يقضيها. فصل [في سجود التلاوة] (ويسن) بتأكُّدٍ (سجود التلاوةِ مَعَ قِصَرِ الفصل) بين السجودِ وسَبَبِهِ، فإن طال الفصل لم يسجدْ، لفوات محله، ويكرره بتكرارِها، كتكرار ركعتي الطواف بتكراره (للقارئ) متعلق بيسن، (والمستمِعِ) وهو الذي يَقْصِدُ السماعَ. ولا يسنُّ للسامِعِ وهو الذي لا يقصِدُ الاستماع. (وهو كالنافلةِ فيما يعتبر لها) من عدم وجوب ستر أحد العاتقين والقيام (يكبِّر) تكبيرتين: تكبيرةً (إذا سجد، بلا تكبيرةِ إحرامٍ) ولو خارج الصلاة، (و) تكبيرةً (إذا رفع) من السجود، لأنه سجودٌ مفرد، فشُرِعَ التكبير في ابتدائه وفي الرفع منه، كسجود السهو. (و) إن كان خارجَ الصلاةِ فإنه (يجلسُ) إذا رفع رأسه. وإنما يُشْرَعُ جلوسُه إذا كان خارج الصلاةِ، لأن السلام يَعْقُبُه، فشرع، ليكون سلامُه في حال جلوسه، (ويسلِّم) تسليمةً واحدةً عن يمينه. فتبطلُ بتركِها عمداً وسهواً. وسجودُه لها والتسليمُ رُكنان. (لا تشهدٍ) لأنها صلاةٌ لا ركوع فيها، فلم يُشْرَعْ فيها التشهد، كصلاة الجنازةِ، بلْ ولا يُسَنُّ. نصّ عليه الإِمام أحمد. ويقول في سجوده: "سبحانَ ربِّي الأعلى" وجوباً. قاله في المبدع. (وإن سجدَ المأمومُ لقراءةِ نفسه، أو) سجد (لقراءةِ غيرِ إمامِهِ عمداً بطلت صلاته) لأنه زاد فيها سجوداً.

[سجود الشكر]

(ويلزمُ المأمومَ متابعة إمامِه في صلاةِ الجهرِ إذا سجدَ) للتلاوة. (فلو تَرَكَ) المأمومُ (متابعتَه) أي إمامه في الصلاة الجهرية (عمداً بطلت) صلاتُه لتعمُّدهِ ترك الواجب، ولو كان هناك مانعٌ من السماعِ، كبعدٍ وطَرَشٍ، لأنه لا يمنَعُ وجوبَ المتابَعَةِ. ويكرَهُ لِإمامٍ قراءةُ سجدةٍ في صلاة سرٍّ، وسجودُه لها. فإنْ فَعَلَ خُير المأمومُ بين المتابعة وتركها، والأوْلى السجودُ، متابعةً لإمامه. (ويعتبر) لاستحباب السجودِ في حقّ المستمع (كونُ القارئِ يصلحُ إماماً للمستمع) ولو في نفلٍ فقط. (فلا يسجد) المستمعُ (إن لم يسجدِ القارئُ). (ولا) يسجدُ المستمع (قُدَّامَهُ) أي قدامَ القارئ. ولا يسجد المستمع (عن يسارِهِ) أي عن يسارِ القارئ (مع خُلُوِّ يمينه) ما لم يكن عن يمينِهِ مَنْ يسجدُ لقراءَتِهِ لعدمِ صحةِ الائتمام حينئذ. (ولا يسجد رجلٌ) مستمعٌ (لتلاوة امرأةٍ و) تلاوة (خنثى، ويسجد) مستمعٌ من (رجلٍ وخنثى وأنثى لتلاوة) رجلٍ (أمّيٍّ و) لتلاوة (زَمِنٍ) لأن قراءة الفاتحةِ، والقيام، ليس واحدٌ منهما بركنٍ في السجود، (و) لتلاوةِ (مميِّزٍ) لصحةِ إمامتِهِ في النفل. وسجودُ سجدةِ التلاوةِ من النوافلِ. والسجدات أربع عشرة: في الحج اثنتنان. وسجدة "ص" سجدة شكر. [سجود الشكر] (ويسن سجودُ الشُّكرِ) لله تعالى (عند تجدُّدِ النِّعَمِ) مطلقاً

[في أوقات النهي]

(واندفاعِ النَّقَمِ) مطلقاً، أي سواءٌ كانت النعمُ أو اندفاع النقم لَه أو (¬1) للناس. (وإن سجد له) أي للشكرِ (عالماً ذاكراً) لا جاهلاً وناسياً (في صلاةٍ، بطلتْ) لأن سببَ الشُّكرِ ليس له تعلُّقٌ بالصلاةِ، بخلاف سجودِ التلاوة. (وصفتُهُ وأحكامُهُ كسجودِ التلاوةِ.) (¬2) ومَنْ رأَى مبتلًى في دينِه، سَجَدَ بحضورِهِ، أو مبتلًى في بدنه سجدَ بغير حضوره. فصل (في أوقات النهي) (وهي) ثلاثة: الوقت الأوّل: (من طلوعِ الفجر) الثاني (إلى ارتفاع الشمس قَيْدَ رُمْحٍ) أي قدر رمح في رأي العين. (و) الوقت الثاني: (من صلاة العصر) يعني أن النَّهيَ متعلق بنفس صلاة العصر، ولو مجموعةً وقْتَ الظهرِ (إلى غروبِ الشمس) أي حتى يتم غروبها. وتُفْعَلُ سنةُ الظهر بعدها ولو في جمعِ تأخيرٍ. (و) الوقت الثالث: (عند قيامها) أي قيام الشمس ولو يومَ جمعة (حتى تزولَ) أي حتى تميل. ¬

_ (¬1) (ف): "له أو له وللناس". (¬2) فيقول فيه: "سبحان ربي الأعلى" وجوباً وان زاد غيره فحسن، كأن يقول "سجد وجهي للْه الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره".

(فتحرم صلاة التطوُّع في هذه الأوقات. ولا تنعقد) صلاة التطوّع إن ابتدأها المصلي فيها، أو كان شَرَعَ فيها فدخل وقت النهي وهو فيها، فَيَحْرُم عليه الاستدامة. كذا في الإِقناع وشرحه. (ولو) كان المصلِّي (جاهلاً للوقتِ أو التحريم) حتى ما لَهُ سببٌ كسجودِ تلاوةٍ، وصلاة كسوفٍ، وقضاءِ سُنَّةٍ راتبةٍ، وتحيةِ مسجدٍ، سوى تحيةِ مسجدٍ حالَ خطبةِ جمعةٍ، سواء كان ذلك شتاءً أو صيفاً، وسواءٌ عَلِمَ أن ذلك الوقتَ وقتُ نهيٍ، أو جهله، فإن التحية تجوز وتنعقد (¬1). (سوى سنّةِ الفجر قبلها) أي قبل صلاة الفجر، قال في حاشية المنتهى: لا بعدَها، لأنّها تكون قضاءً، (و) سوى (ركعتي الطواف،) فرضاً كان الطواف أو نفلاً، في كلِّ وقت منها، (و) سوى (سنةِ الظهر بعد العَصْرِ إذا جَمَعَ) تقديماً كان أو تأخيراً، (و) سوى (إعادةِ جماعةٍ) إذا (أقيمت وهو بالمسجد،) ولو معَ غيرِ إمامِ الحيّ، وسواءٌ كان صلَّى جماعةً أو وحدَهُ، في كل وقت من الأوقات. وعلم منه أن من دخل المسجدَ وقت نهي فوجد الإِمام يصلي فلا يُعِيدُ معه. (ويجوز فيها) كلِّها (قضاءُ الفرائضِ). (و) يجوز فيها كلِّها (فعلُ) الصلاة (المنذورةِ) مطلقاً، بأن لم يقيِّد بوقتٍ، في أيّ وقتٍ من أوقات النهي، (ولو نذرها فيها) أي مقيَّداً بوقتٍ من أوقاتِ النَّهْيَ، بأن يقول: لله تعالى عليَّ أن أصليَ ركعتينِ عِنْدَ طلوع الشمس، مثلَاَ. تنبيه: لو نذر الصلاةَ في مكانِ غصبِ، ففي مفردات أبي يعلَى: ينعقد، فقيل له: يصلي في غيرها؟ فقالَ: فلم يف بنذره. قال في ¬

_ (¬1) أي تنعقد تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب، لحديث أبي سعيد مرفوعاً "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة نصف النهار إلاَّ يوم الجمعة" رواه أبو داود (ش المنتهى).

[آداب قراءة القرآن]

الفروع: ويتوجه جوابه (¬1) كصوم يوم العيد. (والاعتبار في التحريم بعد العصر بفراغ صلاةِ نفسه، لا بشروعِهِ فيها، فلم أحرم بها ثم قَلَبَها نفلاً) أو قطعَها (لم يُمنَعْ من التطوّع) حتى يصليها. [آداب قراءة القرآن] (وتباحُ قراءة القرآن) قائماً، وقاعداً، وراكباً، وماشياً، و (في الطريق) نَقَلَهُ ابن منصور وغيرُه، (ومع حدثٍ أصغرَ، ونجاسةِ ثوبٍ وبدنٍ وفمٍ) قال في الفروع: ولا تَمْنَعُ نجاسةُ الفمِ القراءةَ. ذكره القَاضي. وقال ابن تميم: الأوْلى المنع. (وحفظ القرآنِ) العظيم (فرضُ كفايةٍ) إجماعاً. (ويتعيّنُ حفظُ ما يجب في الصلاةِ) فقط. ثم الواجب عليه بعد ذلك ما يحتاج إليه من العلمِ من أمورِ دينِه، ثمّ إن علم ذلكَ فهل الأفضلُ في حقه حفظُ بقية القرآن، أو الاشتغال بنوافل العلم النافع؟ فيه احتمالان. وتسن القراءةُ في المُصْحَف، والخَتْمُ في كلَّ أسبوع، ولا بأس به كلَّ ثلاثٍ، وكُرِهَ فوقَ أربعين. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول بلفظ "جوابه". ورجعنا إلى (الفروع 1/ 575) فوجدنا النص وليست فيه هذه الكلمة أصلاً. وانعقاده لأنه نذر معصية. فينعقد، ويصلي بغيرها ويكفّر، على ما يأتي في باب النذر.

باب صلاة الجماعة

باب صَلَاة الجَمَاعَة (تجب) للخمسِ المؤداة، على الأعيان (على الرِّجالِ الأحرارِ القادرين) عليها، فلا تجب على غيرِ مكلفٍ، كصغيرٍ، لأنه لم يجب عليه ما تجب له الجماعة، وهي الصلاة. ولا على من فيه رِقّ، لملك سيده نفعَه، أو بعضَ نفعِهِ، رفقاً بسيده. ولا على امرأةٍ، ولا على خنثى، ولا على ذي عذر من الأعذار المذكورةِ في بابها (حضراً وسفراً) حتى في شدَّةِ خوفٍ، لا شرطٌ، خلافاً لابن عقيل. فتصحّ من منفردٍ لا عذرَ له (¬1). (وأقلها إمام ومأمومٌ) في غير جمعةٍ وعيدٍ (ولو) كان المأموم (أنثى) والإِمام رجلٌ أو أنثى أو عبدٌ. (ولا تنعقدُ بالمميِّز في الفرض. وتُسَنُّ الجماعة بالمسجد) لأن المسجد يشتمل على الشَّرَفِ، والطهارة (¬2) وإظهار الشعار، وكثرة الجماعة، وغير ذلك. ولو دار الأمر بين فعل الصلاة في المسجد فذًّا، وبين فعلها في بيتِهِ جماعةً، تعين فعلُها في بيته، تحصيلاً للواجب. ¬

_ (¬1) أي تصحّ، مع الإثم. وهذا على قول الوجوب. ولم يقل الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي بوجوبها (المغني). (¬2) ذكر الطهارة هنا مشكل، لأن الطهارة تتحقق في غير المسجد أيضاً.

ولو دارَ الأمر بين فعلها في المسجد في جماعةٍ يسيرةٍ وفعلِها في بيتِهِ في جماعةٍ كثيرة، كان فعلُها في المسجد أَوْلى. قال بعض أصحابنا: وإقامتُها في الرُّبُطِ والمدارِس ونحوِها قريب من إقامتها بالمساجد. (و) تسن الجماعة (للنساءِ منفرداتٍ عن الرّجال) لأنهن من أهل الفرض، أشبَهْنَ الرجال. ويكره لحسناءَ حضورُها مع الرجال. ويباحُ لغيرِ الحسناءِ حضورُ الجماعةِ مع الرجال. (وحَرُمَ أن يؤمّ بمسجدٍ له إمام راتبٌ) لأن الراتبَ للمسجِدِ بمنزلة صاحبِ البيتِ. وهو، أي صاحب البيت، أحقُّ بالإِمامة ممن سواه، (فلا تصحُّ إلاَّ مع إذنه) أي إذن الإِمام الراتب (إن كَرِهَ ذلك) أي إمامةَ غيرِهِ (ما لم يَضِقِ الوقتُ) لأنّ تحصيل الصلاة إذاً فرضٌ متعين، وانتظار الإِمام مستَحَبٌّ، فمراعاة تحصيلِ الواجِبِ أَوْلى، وَيُرَاسَل إذا تأخَّر عن وقته المعتاد مع قُرْبِ مَحَلِّه، وعدم مشقةٍ. وإن بَعُدَ محلُّه، أو لم يُظَنَ حضورُه، أو ظُنَّ ولا يَكْرَهُ ذلك، صَلَّوْا. (ومن كبَّر قبل تسليمةِ الإِمام الأُولى أدرك الجماعة) ولو لم يجلس، لأنه أدرك جزءاً، من صلاة الإِمام، أشبه ما لو أدرك ركعة. (ومن أدرك الركوعَ) مع الإِمام قبل رفع رأسِهِ من الركوع، بحيث يَصِلُ المأموم إلى الركوعِ المجزئ، قبل أن يرول الإِمام عن قدر الإِجزاء منه (غَيْرَ شاكٍّ) في إدراك الإِمام راكعاً (أدرك الركعة) ولو لم يدركْ معه الطمأنينة، (واطمأنَّ) المسبوقُ (ثم تابَعَ) إمامَه. وعُلِمَ منه أنه لو شك هل أدركه راكعاً أوْلا، لم يَعْتَدَّ بها، ويسجد للسهو. (ويسن دخولُ المأمومِ مع إمامِهِ كيف أدرَكَهُ) وإن لي يَعْتَدّ بما أدركه فيه.

وينحط المأموم، إذ أدرك الإِمامَ جالساً، بلا تكبير (¬1)، لأنه لا يُعْتَدُّ له به، وقد فات محل التكبير. ويقوم مسبوقٌ به وجوباً. (وإن قام المسبوقُ) لقضاءِ ما فاتَهُ (قبل تسليمةِ إمامهِ) التسليمةَ (الثانيةَ ولم يرجع) المسبوقُ ثم يقومَ بعد تسليمةِ الإِمام الثانية (انقلبتْ) صلاتُه (نفلاً). (وإذا أقيمت الصلاة التي يريد أن يصلي مع إمامها لم تنعقد نافلته). (وإن أقيمت وهو فيها) أي النافلة (أتمها خفيفة). ومن صلى ثم أقيمت الجماعة سُنَّ أن يعيد، والأوْلى فَرْضُه). وفي الإِقناع وغيره: إلا في المغرب [كذا] في شرح المنتهى (¬2) (ويتحمل الإِمام عن المأموم) ثمانية أشياء: الأول: (القراءة) للفاتحة. (و) الثاني: (سجودُ السهو) إذا كان دَخل معه في الركعة الأولى. (و) الثالث: (سجود التلاوة) إذا أتى بها المأموم في الصلاة خلفه. (و) الرابع: (السُّتْرَةُ) قُدَّامَه، لأن سترةَ الإِمام سترةٌ لمن خَلْفَهُ. (و) الخامس: (دعاءُ القنوت) فإن المأمومَ لا يُسَنَّ له عند قنوتِ إمامِهِ غيرُ التأمين. (و) السادس: (التشهد الأوَّلُ إذا سُبِقَ) المأموم (بركعة في) صلاةٍ (رُبَاعِيَّة) فقط. والسابع: سجود التلاوةِ في الصلاة السرّيّة إذا قرأ الإِمام سرًّا. ¬

_ (¬1) يعني تكبير السجود، أما تكبيرة الأحرام فركن ولا بدّ منها. (¬2) قولة الإِقناع هذه سقطت من (ب، ص). واستدركناها من (ف). وإنما استثنوا المغرب لأن الصلاة المعادة تطوع، ولا تطوّع بوتر.

[سكتات الإمام]

ويسجد، لأن المأموم يُخَير بين السجود وعدمه. والثامن: قول "سمع الله لمن حمده" وقول "ملء السماء ... إلى آخره". (وسن للمأموم أن يستفتح) بأن يقول: "سبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ ... إلخ" (و) أن (يتعوَّذ) بأن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" (في) الصلاة (الجهريّة). (و) يسن للمأموم أيضاً أن (يقرأ الفاتحة وسورةً) أيضاً (حيث شرعت) السورة (في سَكَتَاتِ إمامه) أي سكتات الإِمام في الصلاة الجهريّة، ولو كان سكوتُهُ لتنفُّسٍ. ولا يضرُّ تفريق الفاتحة. [سكتات الإِمام] (وهي) أي السَّكَتَاتُ الثلاث: الأولى: (قبل) قراءة (الفاتحة.) قال في الإِقناع: ومواضعُ سكتاتِهِ ثلاثة: بعد تكبيرة الإِحرام. قال في الإِنصاف والمبدع: إحداها مختصٌّ بأوَّل ركعةٍ، للاستفتاح، انتهى. (و) الثانية: (بعدها) أي بعد الفاتحة. وسن أن تكون سَكْتَتُهُ هنا بقدر الفاتحة، ليقرأها المأموم فيها. (و) الثالثة: (بعد فراغ القراءةِ) ليتمكَّن المأمومُ من قراءة سورةٍ فيها. [قراءة المأموم خلف الإِمام] (ويقرأ) المأمومُ استحباباً الفاتحةَ وسورةً (فيما لا يجهر فيه الإِمام متى شاء) أو كان، لا يسمعه، لبُعْدٍ، أو طَرَشٍ، إن لم يشغل من بِجَنْبِهِ، فإن سمع همهمَةَ الإِمام ولم يفهم قراءته لم يقرأ. نصَّ عليه.

[في متابعة الإمام للمأموم]

فصل [في متابعة الإِمام للمأموم] (ومن أحرم مع إمامه، أو قبل إتمامه) أي الإِمام (لتكبيرة الإِحرام لم تنعقد صلاته.) قال في الإِنصاف: أما تكبيرةُ الإِحرامِ فإنه يشترط أن يأتي بها بعد إمامه. (والأوْلى للمأمومِ أن يَشْرَعَ في أفعالِ الصلاةِ بعد إمامه.) قال في شرح المغني، والمقنع، وابن رزين، وابن الجوزي في "المذهب"، وغيره: يستحب أن يشرَعَ المأمومُ في أفعالِ الصلاةِ بعد فراغ الإِمام مما كان فيه. (فإن وافَقَهُ فيها) أي في أفعال الصلاة، (أو) وافقه (في السلام، كُرِهَ) وصحتْ، لأنه اجتمع معه في الركن. (وإن سبقه) بشيءٍ من أفعال الصلاة (حَرُمَ. فمن ركع أو سجد أو رفع) من ركوعٍ أو سجودٍ (قبل إمامه عمداً لزمه أن يرجع) إلى المحلِّ الذي كان مع الإِمام فيه قبل أن يفعل ما فعله من ركوعٍ أو سجودٍ أو غيرِهِما قبل الإِمام (ليأتي به) أي بما فعله قبل الإِمام (مع إمامهِ) ليكون مؤتمًّا بإمامه. (فإن أبى) الرجوعَ (عالماً) بوجوبه، (عمدًا) أي غير ساهٍ وناسٍ، واستمر على الإِباء حتى أدركه الإِمام فيما سبقه من ركوعٍ أو سجودٍ أو نحوِهما (بطلت صلاته. لا) تبطل (صلاة ناسٍ) أي غيرِ متعمِّدٍ، (و) لا صلاة (جاهِلٍ) أي: وجوبَ الرجوع (¬1). [تخفيف القراءة] (ويسن للِإمام التخفيفُ) أي تخفيف الصلاة (مع الإِتمام.) أي إتمام الصلاة. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): أبى وجوب الرجوع.

[في الإمامة]

وتكره لِإمامٍ سرعةٌ تمنَعُ مأموماً فعلَ ما يُسَنَّ له فعله من مسنونات الصلاة. ومحل استحباب التخفيف (ما لم يؤْثِرِ المأمومُ التطويلَ) لأنه إنما استُحِبَّ التخفيفُ لأن توفُّرَ الجماعةِ بِهِ أقربُ، ولأن التطويل ينفِّرهم، فأما إذا اختاروه لم يُكْرَهُ لزوال علة الكراهة. (و) يسن للِإمام (انتظارُ داخلٍ) في ركوعٍ وغيره. ومحل استحبابِ ذلك (إن لم يشقَّ) انتظار الإِمام الداخل (على المأمومِ) لأن حرمَةَ المأمومِ الذي معه في الصلاة أعظَمُ حرمةً من الذي لم يدخلْ معه في الصلاة، فلا يَشُقُّ على من معه لنفع الداخل معه. (ومن استأذنته امرأته) إلى المضى إلى المسجد، (أو) استأذنَتْهُ (أَمّتُهُ إلى المسجدِ كُرِهَ) له (مَنْعُها). (وبيتُها خيرٌ لها). ولأبِ ثم وليٍّ مَحْرَمٍ مَنْعُ موليَّتِهِ من الخروجِ من بيتِها إن خَشِيَ به فتنةً أو ضَرراً، ومن الانفرادِ عنه. فصل (في الإِمامة) (الأوْلى بها) أي الإِمامة (الأجودُ قراءةً الأفْقَهُ)، ثم الأجودُ قراءةً الفقيهُ، (ويقدَّم قارئٌ لا يعلم فِقْهَ صلاتِهِ على فقيهٍ أمّيٍّ، ثم) مع استوائِهِما في القراءة والفقهِ الأوْلى بالإِمامة (الأسَنُّ) الأكْبَرُ سنًّا، (ثمَّ) مع استوائِهِما في السنّ الأولى بالإِمامة (الأشرف) من الرجلين وهو القرشي. (ثم) مع استوائهما فيما تقدَّمَ الَأوْلى بالإِمامَةِ (الأتْقى والأوْرَع) لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} هو (ثم يُقْرَعُ) وهذا إنما يكونُ مع التشاحّ في الإِمامة، فمن خرجت له القرعةُ كان هو الأحقَّ بالإِمامة.

(وصاحبُ البيتِ) إذا أقيمت الجماعةُ فيهِ وهو حاضرٌ صالحٌ للِإمامةِ، (وإمامُ المسجدِ) الراتبُ (ولو) كان (عبداً، أحقُّ) بالإِمامة ممن حضر، ولو كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقهُ منه. (والحرُّ أولى) بالإِمامة (من العبد). (والحاضرُ) أي المقيمُ أولى من المسافرِ سَفرَ قصرٍ، لأنه ربما قَصَرَ فيفوتُ المأمومينَ بعضُ الصلاةِ في جماعةٍ. (والبصيرُ) أوْلى من الأعمى، لأن البصير أقْدَرُ على توقِّي النجاسة واستقبال القبلة. والناشئُ في المدن أو القرى، ويسمى حَضَريًّا أوى من بدويٍّ، وهو الناشئُ بالبادية. (والمتوضئ أولى من ضدهم). (وتكره إمامةُ غير الأوْلى) بالإِمامة (بلا إذنه) أي إذن الأولى. وإمامةُ المفضولِ بدون إذن الفاضل مكروهة (¬1). (ولا تصح إمامةُ الفاسِقِ) مطلقاً (¬2) أي سواءٌ كان فسقُهُ من جهة الأفعال، أو من جهة الاعتقاد، ولو مستوراً، ولو بمثلِهِ، وعلى المذهب يستثنى من ذلك ما أشار إليه بقوله (إلا في جمعةٍ وعيدٍ)، ومحل ذلك إن (تعذرَا خَلْفَ غيرِهِ) أي تعذر فعلُهُمَا خلفَ غيرِ الفاسق، بأن تُعْدَمَ جمعةٌ أخرى خلف عدل، لأن الجمعةَ والعيدَ من شعائِرِ الإِسلام الظاهرة. وتليها الأئمة دون غيرهم، فتركُهُمَا خلفهم يفضي إلى تركهما بالكلية. ولا يعيد الجمعة. (وتصحُّ إمامةُ الأعمى والأصمِّ) لأن العمى والصَّمَمَ فَقْدُ حاسَّتين لا ¬

_ (¬1) هذه الجملة تكرار معنوي للتي قبلها فلم يكن لها داعٍ. (¬2) وفي رواية ذكرها في المغني (2/ 187): هي جائزة.

يُخِلّانِ بشىءٍ من أفعالِ الصلاةِ، ولا شروطِها، فصحَّتْ مع ذلك الإِمامة، كما لو كان أعمى فاقِدَ الشّمّ. (و) تصح خلف (الأقلف) وهو الذي لم يختتن، لأنه ذكرٌ مسلم عدل قارئ، فصحَّتْ إمامته، كالمختتن. والنجاسة تحت القلفة بمحلٍّ لا تمكن إزالتها منه معفوٌّ عنها لعدم إمكان إزالتها. وكل نجاسةٍ معفوٍّ عنها لا تؤثر في إبطال الصلاة. هذا كله إذا كانتْ غير مفتوقةٍ، أما المفتوقة، أو التي يمكنه فَتْقهَا وغَسْل ما تحتها، فهذا إن ترك غَسْلَ ما تحت القُلْفَةِ، مما يمكنه غَسْلُه، لم تصحَّ صلاته، فضلاً عن إمامته، كحمله نجاسةً لا يعفى عنها مع القدرة على إزالتها. (و) تصح الصلاة خلفَ (كثيرِ لحنٍ لم يُحِلِ المعنى) كجرِّ دالِ (الحمدُ)، ونصب هاء (لِلَّهِ) ونصب باء (ربِّ) ونحو ذلك، سواءٌ كان المؤتم مثلَهُ أو كانَ لا يلحَنُ، لأن مدلولَ اللفظ باقٍ، وهو مفهومُ كلام الرب سبحانه وتعالى، لكن مع الكراهة. (و) تصح الصلاةُ خلفَ الفأفاءِ الذي يكرِّر الفاءَ، وخلفَ (التَّمتامِ الّذي يكرر التاءَ)، وخلف من لا يُفْصِحُ ببعضِ الحروفِ، كالقاف والضاد، أو يُصْرَعُ، (مع الكراهة) في الجميع. قال جماعة: ومن يُضْحِكُ صوتُه أو رؤيته. قال في الفروِع: وقيل: والأمرد. (ولا تصحُّ إمامة العاجزِ عن شرطٍ) كمن بثوبِهِ نجاسةً لا يعفى عنها، ولم يجد ماءً يغسلها به، ولا يجدُ ثوباً غيره، وكالمتطهِّرِ بأحَدِ الطهورَيْنِ بِعَادِمِهِمَا، إلا بمثله، (أو) عاجزٍ عن (ركنٍ) كقيامٍ أو ركوعٍ أو سجودٍ أو قعودٍ (إلا بمثله). ويستثنى من ذلك صورةٌ أشار إليها بقوله: (إلاّ الإِمامَ الراتبَ) أي إمامَ الحيِّ الراتبَ العاجزَ عن القيامِ فقط، (بمسِجدٍ) لأن إمام الحي

يُحْتَاجُ إلى تقديمِهِ، بخلاف غيرهِ، والقيام أخفُّ الأركان، بدليل سقوطِهِ في النَفْل (المرجوَّ زوال عِلَّتِهِ) لئلا يفضي عدم اشتراط ذلك إلى ترك القيام على الدوام. (فيصلّي) الإِمامُ (جالساً، ويجلِسون) أي يجلس المأمومون القادرون على القيام (خلفه) أي خلف إمام الحيّ إذا صلَّى بهم جالساً. وهو من المفردات. (وتصحُّ) الصلاةُ خَلْفَه (قياماً). والأفضلُ لإمام الحيّ أن يَسْتَخْلِفَ إذا مرض والحالة هذه. (وإن تَرَكَ الإِمَام ركناً أو شرطاً مُخْتَلَفاً فيه مقلِّداً) لإِمام (صحَّتْ) صلاتُه. وإن تركه من غير تقليد أعادَ الإِمامُ والمؤتمُّ به. (ومن صلَّى خلفَهُ) أي خلف من ترك ركناً أو شرطاً (معتقداً بطلانَ صلاتِهِ، أعاد) المأموم. قال في الإِقناع وشرْحِهِ: وإن ترَكَ الإِمامُ ركناً، أو واجباً، أو شرطاً، عنده وحده، أو عنده وعند المأموم، عالماً، أعادَ. وإن كان عند المأموم وحده، كالحنبليّ اقتدى بمن مسّ ذكَرَهُ أوْ تركَ سَتْر إحدى العاتِقَيْنِ أو الطمأنينةَ في الركوع، ونحوه، أو تكبيرةَ الانتقالِ، مقلِّداً من لا يرى ذلك مفسداً، فلا إعادة على الإِمام ولا على المأموم. ومثله لو صلى شافعيٌّ قبلَ الإِمام الراتِبِ، فتصحُّ صلاة الحنبليّ خلفه. انتهى. (ولا إنكار في مسائل الاجتهاد) أي المسائل التي ليس فيها دليل يجبُ العملُ به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا مُعارِض (¬1) له من جنسه. (ولا تصحُّ إمامة المرأةِ بالرجالِ) ولا بالخناثى. ولا فرق في ذلك بين الفرضِ والنفل على الصحيح، وإنه إذا صلى خَلفَها ثم علم لزمه الإِعادة. ذكره السامريّ وغيره. ¬

_ (¬1) (ب، ص) لا تَعَارُض له.

وعُلِمَ منه صحةُ إمامةِ المرأةِ والخنثى بالنساء. (ولا) تصح (إمامة المميز بالبالغ في الفرض). (وتصح إمامته) أي الصبيّ المميز بالبالغِ (في النفلِ) كالتراويح، والوتر، والكسوف، والاستسقاء، لأنه متنفل يؤم متنفلين. (و) تصح إمامة الصبيُّ (في الفرض) كالظهرِ والعصرِ (بـ) صبيٍّ (مثله). (ولا تصح إمامةُ محدثٍ) حدثاً أصغر أو أكبر، (ولا) إمامةُ (نَجِسٍ) أي مَنْ ببَدَنِهِ أو ثوبِهِ نجاسة غير معفوٍّ عنها (يعلم ذلك) أي وهو يعلم بِحَدَثِهِ، أوَ نجاسته، لأنه أخلّ بشرطِ الصلاة مع القدرةِ أشبَهَ المتلاعِبَ لكونهِ لا صلاةَ له في نفسه. (فإن جَهِلَ هو) أي الإِمام، حدثَه أو نجاستَه (والمأمومُ) معاً، واستمرّ جَهْلُهُمَا (حتى انقضت الصلاة، صحَّتْ صلاة المأموم وحده) أي دون الإِمام. (ولا تصحّ إمامة الأمِّيّ) (¬1) نسبة إلى الأم، كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها، (و) في عرف الفقهاء: (هو من لا يحسن الفاتحة) أي يحفظها، أو يُدْغِمُ فيها ما لا يُدْغَمُ، أو يبدل حرفاً لا يُبْدَل؛ بمأمومٍ ليس بأمّيٍّ مثلِهِ، إِلاَّ ضادَ "المغضوب" وضاد "الضالين" بظاءٍ، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى عجزاً عن إصلاحه (إلا بمثله). (ويصح النفلُ خلف الفرضِ. ولا عكس) أي لا يصح الفَرْضُ خلف النفل. (تصحُّ المقضيّةُ خلفَ الحاضرةِ. وعكسه) أي الحاضِرةُ خلف ¬

_ (¬1) الأمّيّ لغةً هو من لا يكتُب.

[في وقوف الإمام]

المقضيّة، وقاضيها من يوْمٍ (¬1) بقاضيها من غيره (حيث تساوَتَا في الاسم) فلا يصح عَصْرٌ خلف ظهرٍ، ولا عكسه. فصل [في وقوف الإِمام] (يصح وقوفُ الإِمامِ وسط المأمومين، والسنةُ وقوفه متقدماً عليهم) ووقوفهم خلفه، إلا العراةَ فوسَطا وجوباً، وامرأةً أمّتْ نساءً فوسطاً ندباً. (ويقف الرجل الواحدُ) والخنثى (عن يمينه) أي يمين الإِمام (محاذياً له، ولا تصح) الصلاة (خلفه) (¬2) أي الإِمام لأنه يكون فذًا، (ولا) تصحُّ (عن يسارِه) أي الإِمام (مع خُلوِّ يمينه) قال في الفروع: ومن صلى عن يسارِه ركعةً فأكْثَر مع خُلُوِّ يمينه، لم تصح. نص عليه. (وتقفُ المرأةُ خلفَه) وإن وقفتْ بجانبه، أي جانب إمامِها الرجلِ، فكرجلٍ، يعني أن المرأة إذا أئتمت برجلٍ ووقفت عن يمينه، فإن صلاتها تصح كما تصح صلاة الرجل عن يمين إمامه. (وإن صلى الرجلُ ركعةً خلفَ الصفّ منفرداً فصلاتُهُ باطلة). (وإن أمكن المأمومَ الاقتداءُ بإمامه) ولو لم يكنِ بالمسجد، بأن كان خارِجَه، والإمام بالمسجدِ (ولو كان بينهما) أي بين الإِمام والمأموم (فوقُ ثلثمائَةِ ذراعٍ صح) الاقتداءُ (إن رأى الإمامَ أو رأى من وراءَه) ولو كانت رؤيتُه في بعضها فقط، أو كانت مما لا يمكن الاستطراقُ منه كشبّاكٍ ونحوه. ¬

_ (¬1) في (ب، ص) وشرح المنتهى: يؤم. والتصويب من (ف). والمراد كمن يقضي ظهر الخميس مقتدياً بمن يقضي ظهر الأربعاء. مثلا. (¬2) أي لا تصح صلاة الرجل والخنثى المنفرد خلف إمامه.

في ذكر الأعذار المبيحة لترك الجمعة والجماعة

(وإن كان الإِمام والمأمومُ في المسجدِ لم تُشترط الرؤية) أي رؤيةُ الإِمام، ولا رؤيةُ من وراءَه (وكفى سماعُ التكبير) في الفرض والنفل. (وإن كان بينهما) أي بين الإِمامِ والمأمومِ (نهرٌ تجري فيه السفُن، أو طريق) ولم تتصل فيه الصفوفُ حيثُ صحّتْ تلك الصلاة في الطريق بأن كانتْ على جنازةٍ ونحوها، أو كان في غيرِ شدّةِ خوفٍ بسفينةٍ وإمامُه بأخرى غيرِ مقرونةٍ بها (لم يصحّ) الاقتداء. وألْحَقَ الآمديُّ بالنهر: النارَ، والبئر. وقيل: والسَّبُع، وقاله أبو المعالي في الشوك والنار. (وكُرِه علوُّ الإِمام عن المأموم) ما لم يكن كدرجةِ منبرٍ فلا يكره. وتصحُّ ولو كان كثيراً، وهو ذراعٌ فأكثر. و (لا) يكره (عكسُه) أي علوّ المأموم عن الإِمام ولو كان كثيراً. (وكُرِهَ لمن أكل بصلاً أو فجلاً ونحوَه) كثومٍ وكراثٍ (حضورُ المسجدِ) وإن لم يكن به أحد. وكذا حضور الجماعةِ. قال في الفروع: ويتوجه: مثلُه من بِهِ رائحةٌ كريهة. قال في الإِقناع وشرحه: فإن دخله آكِلُ ذلك، أي من له رائحة كريهة من ثومٍ وبصل ونحوهما، أو دخله من له صُنَانٌ أو بَخَرٌ (¬1) قَوِيَ إِخراجُهُ، أي استحباب إخراجه، إزالةً للأذى. انتهى. فصل في ذكر الأعذار المبيحة لترك الجمعة والجماعة (يُعْذَرُ بترك الجمعة والجماعة المريضُ والخائِفُ حدوثَ المرض.) ¬

_ (¬1) الصُّنَانَ نتن الإِبط، والبَخَر نتن الفم.

ومحل ذلك إذا كان المريض والخائف حدوثَ المرض ليسَا بالمسجدِ. فإن كانا بالمسجد لزمتهما الجمعةُ والجماعةُ، لعدم المشقّة. وتلزم الجمعة دونَ الجماعةِ من لم يتضرر بإتيان الجمعةِ راكباً، أو محمولاً، أو تبرَّع أحدٌ بذلك، أو بِقَوْدِ أعمى. (و) يعذر بترك الجمعة والجماعة (المَدافعُ احَدَ الأخْبَثينِ) البولِ والغائِط. (و) يعذر بذلك (من له ضائعٌ يرجوه) كما لو دَلَّهُ عليه إنسان بمكانٍ، ويخاف إن لم يمضِ إليه سريعاً ينتقل عن ذلك المكان، أو قَدِمَ له بضائعُ من سفرٍ ويخافُ إن لم يتلقَّه أن يفوتَه. لكن قال المجْدُ: الأفضل تركُ ما يرجو وجوده، ويصلَّيَ الجمعةَ والجماعةَ. (أو يخافُ ضياعَ مالِهِ أو فواتَه) أي ذوات مالِهِ، كشرودِ دابّتِهِ، وإباقِ عبده، وسفرِ من له عندَه وديعةٌ، ونحو ذلك، (أو) يخافُ (ضرراً فيه) أي في ماله، كاحتراق خبزه، أو طبخه، أو إطلاق الماء على زرعه، بغيبته عنه، (أو) يخاف ضرراً (على مالٍ استؤجر لحفظه، كنِطارةٍ) بكسر النون (بِبُسْتانٍ (¬1)، أو) كان يحصل له (أذىً بمطرٍ ووَحَلٍ) بفتحِ الحاء المهملة، وتسكينها لغةٌ رديئة (وثلجٍ، وجليدٍ، وريحٍ باردةٍ بليلةٍ مظلمة) ويأتي في باب الجَمْعِ أنه لا يشترط لصحة الجمع بين العشاءين كون الليلة مظلمة (أو) كان يضرُّه (تطويل إمامٍ) لا إن كان بطريقه إلى المسجد منكر. ولا يُعْذَرُ بتركِ الجُمُعةِ والجماعةِ مَنْ جَهِلَ الطريقَ إذا وَجَدَ من يهديه. ¬

_ (¬1) النّطارة بالطاء المهملة، حرفة الناطر، أو الناطور، وهو من يَحْرُسُ الكرم أو البستان من السرقة.

باب صلاة أهل الأعذار

باب صَلاَة أهل الأَعْذار جَمْعُ عذرٍ، وهم المريضُ، والمسافر، والخائف ونحوهم. (يلزم المريضَ) القادرَ على القيام (أن يصلي المكتوبة) أي المفروضة (قائماً، ولو مستنداً) إلى شيء، ولو بأجرةٍ يقدر عليها. (فإن لم يستطع) لعجز، أو شَقَّ لضررٍ يلحقه بقيامه، أو زيادةَ مرضٍ (ف) يصلي (قاعداً) متربِّعاً، ندباً. ويثني رجليه في ركوعِهِ وسجودهِ كمتنفِّل. (فإن لم يستطع) القعودَ، أو شقَّ عليه (فـ) يصلي (على جنبِهِ. و) الجنب (الأيمن أفضل.) وتكره للمريضِ الصلاةُ على ظَهْرِهِ ورجلاه إلى القبلة، مع قدرةٍ على جنبه. وتصح. وإن لم يقدرِ المريضُ أن يصليَ على أحد جنبيه تعيّن عليهِ أن يصلي على ظهرِه ورجلاه إلى القبلة، وجهاً واحداً. (ويومئ بالركوعِ وبالسجودِ) من عَجَزَ عنهما ما أمكَنَهُ. (ويجعله) أي يجعل السجودَ (أخفضَ) من الركوع. (فإن عَجَزَ) عن جميع ما تقدم (أومأ بطرْفِهِ) أي بعينه، (واستحضَرَ) الفعلَ (بقلبِهِ) عند إيمائه له. (وكذا) يستحضرُ (القولَ) عند

إيمائه له (إن عجز عَنْه) أي عن القول (بلسَانِهِ) كأسيٍر خائف أن يعلموا بصلاتِهِ. (ولا تسقط) الصلاة عن المريضِ (ما دام عقلُه ثابتاً) لقدرته على أن ينوي بقلبه مع الإِيماءِ بطرفه. (ومن قَدِرَ على القيام) وكان يصلي قاعداً، (أو القعودِ) وكان يصلي عن جنبِهِ أو مستلقياً (في أثنائِها) أي أثناءِ الصلاة (انتقلَ إليه) أي إلى ما قدر عليه بعد أن كان عاجزاً عنه، وأتمَّها به، فيقومُ أو يقعدُ من كان عاجزاً عنه وجوباً، لأن المبيحَ العجزُ، وقد زال. ويركع بلا قراءة من كان قَرَأَ في حال العجز، وإلاَّ قَرَأ بعد قيامِهِ. ومن قدر على قيامٍ أو قعودٍ دون ركوعٍ وسجودٍ أومأ بركوعٍ قائماً، وبسجودٍ قاعداً. (ومن قَدِر أن يقوم) أي يصلي قائماً (منفرداً، أو) قدر أن (يجلسَ) أن صلى (في الجماعةِ، خُيِّر) بين أن يصلي قائماً منفرداً، وبين أن يصلي جالساً في جماعةٍ، لأنه في كل منهما يفعل واجباً، ويترك واجباً. وقيلَ: يلزمه أن يصلِّي قائماً منفرداً لأن القيامَ ركنٌ بخلاف الجماعة. (وتصح) المكتوبةُ (على الراحلةِ) واقفةً وسائرةً (لمن يتأذَّى بنحو مطرٍ ووحْلٍ) وثلجٍ وبَرَدٍ (أو يخافُ على نفسه من نزولِه) من سيل، أو سَبُعٍ، أو عَجْزٍ عن ركوبِ إن نزل. (و) يجب (عليه) أي على من يصلِّي الفرضَ على الراحلةِ لعذرٍ مما ذُكِر (الاستقبالُ وما يقدِرُ عليه) من ركوعٍ وغيره. ولا تصحُّ صلاةُ الفَرْضِ على الراحلةِ لمرضٍ، لأنه لا يزول ضرره (¬1) بالصلاةِ عليها، بخلاف المطر ونحوه. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): مَرَضُه، وفي (ف): ضرره. وهو أصح معنًى.

[في صلاة المسافر]

(ويومئُ) بركوع وسجودٍ (من) كان (بالماءِ والطينِ) ولا يمكنُه خروجٌ، كمصلوبٍ، ومربوطٍ. ويسجد غريقٌ على متن الماء. ولا إعادة على واحد من هؤلاء. فصل (في صلاة المسافر) (قَصْرُ الصلاةِ الرباعيّة) لا الثُّنائيّة والثُّلاثية، فإنه لا يجوز قصرُهما (أفضلُ) من الإِتمام. ولا يكره الإِتمام (لمن نوى سفراً). هذه عبارةُ المنتهى، والمحرَّر، والتنقيح، وهي أوْلى من قولِ المقنع "مَنْ سَافَرَ" لأنه يَرِدُ عليها من خرج في طلب ضالَّةٍ، أو آبقٍ، حتى جاوز المسافة، فإنه ليس له القصر حيث لم ينوِ. وقال الحَجَّاويّ: ولو قال: "من ابتداءِ السفر" كما في الفروع وغيرها (¬1)، لكان أجود، لأنه قد يَنْوي ولا يسافر، فإن قيل: قولُهُ بعد ذلك: "إذا جاوزَ بيوتَ قريتِهِ العامِرَة" يدلُّ عليه. قيل: لا بد فيه من إضمارٍ، وهو أن يقال: القَصْرُ إذا جاوزَها مسافراً وإلاَّ فقد يجاوزُ بيوت قريَتِهِ بعد النّية من غَيْرِ سَفَرٍ. (مباحاً) (¬2) فيدخُلُ فيه الواجبُ كالحجِّ والجهادِ وقضاءِ الدين، والمسنونُ كزيارةِ الرَّحمِ، والمباحُ كالتجارةِ ولو نزْهةً وفُرْجَةً. (لمحلٍّ معيَّنٍ) فلا قصرَ لِهائِمٍ، وتائِهٍ، وسائحٍ، لا يقصد مكاناً معيناً (يبلغ) سفرُه ذهاباً (ستَّةَ عَشَرَ فرسخاً) تقريباً، برًّا أو بحراً. ¬

_ (¬1) لو قال (وغيرِه) لكان أجود، لأن الضمير يعود على مذكر وهو كتاب الفروع. (¬2) أما غير المباح وهو سفر المعصية، أو المكروه فلا يقصر ولا يستفيد من الرخص، لأن الرخصة إعانة، فلا يعان على معصية.

(وهي) أي الستةَ عشرَ فرسخاً (يومانِ) أي مسيرةً يومَيْنِ لا رجوعَ في أَثْنائِهما (قاصِدَانِ) أي معتدلان طولاً وقصَراً (¬1). (في زمنٍ معتدلِ) الحرِّ والبردِ (بسير الأثقالِ ودبيبِ الأقدامِ) وذلكَ أربعةُ بُرُدٍ. والبريدُ أربعة فراسخ. والفرسخ ثلاثةُ أميالٍ هاشميَّةٍ، وبأميالِ بني أميّة ميلانِ ونصفٌ. والهاشِميُّ اثنا عشرَ ألفَ قدمِ، وهي ستةُ آلاف ذراعٍ (¬2). والذراع أربعٌ وعشرونَ إصبعَاً معترضةً معتدلةً، كل إصبعٍ ستُّ شعيراتٍ بطونُ بعضِها إلى بعضٍ عَرْضُ كل شعيرةٍ ستُّ شعراتِ برذون. قال ابن حجر في شرح البخاري: والذراعُ الذي ذُكِرَ قد حُرِّرَ بذراعِ الحديدِ المستعملِ الآن في مصر والحجازِ في هذه الأعصارِ، فنقص عن ذراع الحديدِ بقدر الثمن. فائدة: من مكة إلى عسفان أربعةُ بُرُدٍ. وذكر صاحب "المسالك" أن من دمشقَ إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلاً، ومن دمشق إلى الكُسْوَة اثنيْ عشرَ ميلاً. (إذا فارقَ) متعلقٌ بقوله: "قَصْرُ الرباعية" (بيوتَ قريتِهِ العامرةِ) سواءٌ كانت داخِلَ السورِ أو خارِجَهُ، وسواءٌ وليتْها بيوتٌ خاربة أو البرّيّة. لكن لو وليتها بيوتٌ خاربةٌ، ثم بيوت عامرةٌ فلا بدّ من مفارقة البيوت العامرةِ التي تلي الخاربة. ¬

_ (¬1) في القاموس: ليلةٌ قاصدةٌ: هيِّنة السير. فهذا الصحيح في تفسير القصد هنا. (¬2) الذراع 54 سنتمتراً، فعلى هذا يكون الميل الهاشمي (3240) مترا؛ والفرسخ (9720) متراً؛ والبريد (38880) متراً؛ ومسافة القَصْر (154) كيلومتراً تقريباً. ولكنْ في القاموس: الميلِ أربعة آلاف ذراع. قلت: فتكون مسافة القصر أقلّ بالثلث، أي (103) كيلومتراً تقريباً. وهذا أقربُ، لقوله في ما يلي: من مكة إلى عسفان أربعة بُرُدٍ، وعسفان على مرحلتين من مكة، وفي المغني: قدر ابن عباس الأربعة البرد من جدة إلى مكة. وهي لا تزيد على ثمانين كيلومتراً.

[الصور التي يتم فيها المسافر]

ولو بَرَزُوا لِمَكانٍ لقصدِ الاجتماعِ، ثم بعدَ اجتماعهم يُنْشِئُونَ السفر من ذلك المكان، فلهم القصر قبل مفارَقَتِهِ في ظاهر كلامهم. (ولا يعيدُ من قَصَرَ،) بشرطِهِ، (ثم رجع قبل استكمالِ المسافةِ) لأن المعتبر نِيَّةُ المسافة لا حقيقتها. [الصور التي يتم فيها المسافر] إذا تقرَّرَ هذا، فإنه يُستثنى من حالة السفر إحدى وعشرون صورةً يلزمه فيها الإِتمام: الأولى: إذا مرّ بِوَطَنِهِ، ولو لم يكن له به حاجة. الثانية: إذا مرّ ببلدٍ له به امرأةٌ، ولو لم يكن وطنَه. الثالثة: ما أشار إليها بقوله (ويلزمه إتمامُ الصلاةِ إن دخل وقتُها وهو) أي مريد السفر (في الحضر.) الرابعة: إذا مرّ ببلدٍ تزوَّجَ فيه، ولو بعدَ مفارَقَتِهِ الزوجة (¬1). الخامسة: إذا وقع بعض الصلاة في الحضر، وهي مصوَّرة في راكبِ السفينة إذَا أَحْرَمَ بالصلاةِ مقصورَةً، ثم وصلت إلى وطنه في أثناء الصلاة (¬2). السادسة: إذا ذكر صلاةَ حضرٍ بسفر. السابعة: إذا ذَكَرَ صلاةَ سفرٍ في حضر. الثامنة: ما أشار إليها بقوله (أو صلّى خلفَ من يُتِمَّ.) التاسعة: إذا ائتم بمن يَشُكُّ فيه هل هو مقيمٌ أو مسافر، فيتمُّ ولو بانَ مسافراً. ويكفي علمُه بسفرِهِ بعلامةٍ من لباس ونحوه. العاشرة: إذا شكَّ إمامٌ في أثنائها أنه نوى القصرَ عندَ إحرامِها، ¬

_ (¬1) اعترضه (عبد الغني) بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصَرَ بمكة وقد تزوّج فيها، أي تزوّج أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها. (¬2) أقول ومثلها الطائرة والقطار.

كما لو نَوَى الصلاة مطلقاً فإنَّ نِيّتَهُ تنصرف إلى الإِتمام (¬1). الحادية عشرة: إذا أعاد صلاةً فاسدةً يلزمُهُ إتمامها (¬2). الثانية عشرة: ما أشار إليها بقوله: أوْ لم ينوِ القصر عند الإِحرام). الثالثة عشرة: إذا نوى القصرَ ثم رفَضَهُ بعد أن نواه. الرابعة عشرة: إذا جَهِلَ أن إمامه نواه. الخامسة عشرة: ما أشار إليها بقوله: (أو نوى إقامة مطلقة) أي غير مقيدة بزمن مخصوص. السادسة عشرة: ما أشار إليها بقوله: (أو أكثر من أربعةِ أيام) أي أكثر من عشرين صلاة. ولا فرق بين كون ما نوى الإِقامة فيه موضع لبث وقرار في العادة، كالقُرى، أو لا يقام فيه عادةً، كالمفاوز. السابعة عشرة: ما أشار إليها بقوله: (أو أقام) المسافر (لـ) قضاء (حاجته وظن أنَّها لا تنقضي) الحاجَةُ (إلا بعد) مضيِّ (الأربعة.) الثامنة عشرة: إذا شكَّ المسافر في نية المدة، أي هل نَوَى إقامةَ عشرينَ صلاةً، أو أكثر؟ التاسعة عشرة: إذا عزم في صلاته على قطع الطريق ونحوه. العشرون: إذا تاب المسافِرُ من المعصية في أثناء الصلاة، وكان نوى القصر، فيتمّ. الحادية والعشرون: ما أشار إليها بقوله: (أو أخّر الصلاة بلا عُذْرٍ) له في التأخير (حتى ضاقَ وَقْتُها عنها) أي عن فعلِها كلِّها مقصورةً في الوقت، لزمه أن يتمّ الصلاة التي ضاق وقتها عنها (¬3). ¬

_ (¬1) (ف): إلى الإِفراد. (¬2) أي ابتداء. كما لو صلّى خلف مقيم ففسدت لزمه الإِتمام عند الإعادة، لأنها وجبت تامة فيعيدها على التمام، بخلاف ما إذا أداها مقصورة ففسدت لكونه أحَدث فيها مثلاً، فيعيدها مقصورة. (¬3) أي لأنه بذلك أصبح عاصياً بالتأخير، فلا يترخّص بالقصر (شرح النتهى).

في حكم (الجمع) بين الصلاتين

(ويقصر إن أقامَ لحاجةٍ بلا نِيّةِ الإِقامة فوق الأربعة، ولا يدري متى تنقضي) يعني أنه يقصر ما دام كذلك. (أو حبِسَ ظلماً، أو) حُبِسَ (بِمَطَرٍ،) أو بِمرَضٍ، أو ثلجٍ، أو بَرْدٍ (ولو أقام سنين.) فصل في حكم (الجمع) بين الصلاتين يباح الجمعُ مطلقاً في ثمانِ حالات: الأولى: ما أشار إليها بقوله: (يباحُ بِسَفرِ القَصرِ) فليسَ بمكروهٍ ولا مستحبّ (الجمعُ بين الظهرِ والعصر) بوقتِ إحداهما (و) بينَ (العشاءَينِ) وهما المغرب والعشاءُ (بوقتِ إحداهما) أي إحدى الصلاتين. الثانية: ما أشار إليها بقوله: (ويباحُ لمقيمٍ مريضٍ يلحقُه) أي المريضَ المقيمَ (بتركِهِ) أي بترك الجمع (مشقَّةٌ.) الثالثة: ما أشار إليها بقوله: (ولمرضعٍ لمشقةِ كثرةِ النجاسة) أي مشقَّةِ تطهيرها لكلِّ صلاةٍ. الرابعة: المستحاضة ونحوها. الخامسة: ما أشار إليه بقوله: (ولعاجزٍ عن الطهارة) بالماء أو التيمُّمِ (لكل صلاة). السادسة: لِعاجزٍ عن معرفةِ الوقتِ كأعمى، ونحوه، كالمطمور. السابعة: ما أشار إليها بقوله: (ولعذرٍ) يعني يبيح تركَ الجمعَةِ والجماعَةِ، كخوفِهِ على نفسه، أو حُرْمَتِهِ، أو مالِهِ. الحالة الثامنة: ما أشار إليها بقوله: (أو) لِـ (شغلٍ يبيح ترك الجمعة والجماعَةِ) كما لو كان ترك الجمع يُعِيقُهُ عن معيشةٍ يحتاجها، فإنه يباح

[شروط جمع التقديم وجمع التأخير]

له الجمع في هذه الحالة. (ويختصّ بجوازِ جمعِ العشاءَيْنِ ولو صلَّى ببيتِهِ) أو في مسجدٍ طريقُه تحتَ ساباطٍ، ولمقيمٍ في المسجد ونحوه ولو لم يَنَلْهُ إلا يسيرٌ: (ثلجٌ) وبَرَدٌ، لأنهما في حكم المطر (وجليدٌ) لأنه من شدة البرد، (ووحَلٌ) بتحريك الحاء، وإسكانُهَا لغة رديئة، (وريحٌ شديدةٌ باردةٌ) لا ليلة مظلمةً (ومطرٌ يُبلُّ الثياب، وتوجد معه مشقَّةٌ.) لكنّ المرادَ وجودُ المشقّةِ في الجملةٍ، لا لكلِّ فردٍ من أفرادِ المصلِّينَ. (والأفضلُ) لمن يريد الجمعَ (فعلُ الأرفقِ) به (من تقديمِ الجمعِ) أي تقديم العصرِ في وقت الظهر، وتقديمِ العشاءِ في وقتِ المغربِ (أو تأخيرِهِ) أي تأخيرِ الظهرِ إلى وقتِ العصرِ، وتأخير المغرب إلى وقَتِ العَشاءِ. فإن استويا فتأخيرُهُ أفضل. [شروط جمع التقديم وجمع التأخير] (فإن جمع تقديماً اشترِطَ لصحة الجمع) خمسة شروط: الأول: الترتيبُ سواءٌ نَسِيَهُ أو ذكره، بخلاف سقوطِهِ مع النِّسيان في قضاء الفوائت. الثاني: (نيته) أي نية الجمعِ (عندَ إحرامِ الأولى.) ولا تشترط نية الجمع عند إحرام الثانية. (و) الثالث: (أن لا يفرّق بينهما) أي بين الصلاتين (بنحو نافِلَةٍ بل بقدر إقامةٍ ووضوءٍ خفيف،) لأن معنى الجمع المتابَعةُ والمقارنة، ولا يحصل ذلك مع تفريقٍ بأكثر مما ذكر. (و) الرابع: (أن يُوجَد العُذْرَ عِنْدَ افتتاحِهِمَا) أي افتتاحِ الصلاتين المجموعتين، وسلامِ الأولى.

(و) الخامس: (يستمر) العذر المبيح للجمع في غير جمع مطرٍ ونحوه (إلى فراغ الثانيةِ. فلو أحرم بالأولى ناوياً الجمعَ لمطرٍ، ثم انقطع ولم يَعُدْ، فإن حصل وَحْلٌ لم يبطل الجمع، وإلاَّ بَطَل، لزوال العذر المبيح. (وإن جَمَعَ تأخيراً) أي في وقت الثانيةِ من الصَّلاتينِ المجموعيتن (اشتُرِط له) ثلاثة شروط: الأول: (الترتيب). (و) الثاني: (نية الجمع بوقت الأُولى) من الصلاتين المجموعتين، مع وجود العذر المبيح له (قبل أن يضيق وقْتُها عنها) أي عن فِعْلِها، لأنّ تأخيرَها عنه حرام، وهو ينافي الرخصة التي هي إباحة الجمع. (و) الشرط الثالث: (بقاءُ العُذْرِ) من حين نِيّةِ الجمع عند وجوده بوقت الأولى (إلى دخولِ وقت الثانية) لأن المجوِّز للجمع العذرُ، فإذا لم يستمرّ إلى دخول وقت الثانية وَجَبَ أن لا يجوز الجمع لزوال المقتضى، كالمريض يَبْرَأُ والمُسَافِرِ يقدَم. (لا غير) ما تقدم من الشروط، فلا يشترط استمراره في وقت الثانية، لأنهما صارتا واجبتين في ذمته، فلا بد من فِعْلِهما. (ولا يُشْتَرَطَ للصِحَّةِ) أي لصحةِ الجمعِ مطلقاً (اتحادُ الإمام والمأموم، فلو صلاَّهما) أي المجموعتين (خلف إمامَيْنِ) كلَّ واحدةٍ خلفَ إمامٍ (أو) صلاهَما (بمأمومِ الأُولى، وبـ) مأمومٍ (آخَرَ الثانيةَ، أو) صلاّهما (خلف من لم يَجْمَعْ، أَو) صلى (إحداهما) أي المجموعين (منفرداً، و) صلى (الأُخْرى في جماعة، أو صلَّى) إماماً (بمن لم يجمع، صحَّ) ذلك كله، لكن متى ذكر أنه نَسِيَ من الأُولى ركناً، أو إحداهُمَا ونسيها، أعادَهُما إن بقي الوقتُ، وإلا قضاهما مرتَّباً. وإن بان

[في صفة صلاة الخوف] وأحكامها

أنه من الثانية أعادها فقط. والله تعالى أعلم. فصل (في صفة صلاة الخوف) وأحكامها (تصح صلاة الخوفِ إن كان القتال مباحاً) ولو (حَضَراً و) تصحّ (سفراً). (ولا تأثيرَ للخوفِ في تغييرِ عددِ ركعاتِ الصلاة، بل) يؤثّر الخوف (في صفتها وبعض شروطها). (وإذا اشتدَّ الخوف) بِأن تواصَل الضَّرْبُ والطَّعْنُ، والكرُّ والفرُّ، ولم يمكن تفريقُ القومِ صفَّيْنِ، ولا صلاتُهم على وجهٍ من وجوهِهَا، وحضرَ وقتُ الصلاةِ، لم تؤخَّر و (صلوا رجالاً أو ركباناً) متوجِّهين (للقبلةِ وغيرِها) لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا}. (ولا يلزم) المصلّيَ في هذه الحالة (افتتاحُها) أي الصلاة (إليها) أي إلى القبلة، (ولو أمكنَ) المصليَ ذلك، كبقية أجزاءِ الصلاة، (يومِئُون) بالركوعِ والسجودِ (طاقتَهم) أي بقدر ما يطيقونه، لأنهم لو أتمُّوا الركوعَ والسجودَ لكانوا هدفاً لأسلحةِ الكفّار. ويكونُ سجودُهُمْ أخفضَ من ركوعِهم. ولا يجب سجودٌ على ظهر الدابة. (وكذا) أي وكحالةِ شدةِ الخوفِ عند المسايَفَةِ (في) فعلِ الصلاةِ وحكمِها (حالةُ الهربِ من عدوٍّ) هرباً مباحاً، بأن تكون الكفَّارُ أكثَرَ من مِثْلي المسلمين، (أو) هربِ من (سَيْلٍ، أو) هربٍ من (سَبُعٍ) وهو الحيوانُ المعروف. وقد يطلَق على كل حيوان مفترسٍ، كما هُنَا، (أو) هربٍ من (نارٍ، أو) هربٍ من (غريمٍ ظالمٍ،) فلو كان بحقٍّ وهو قادر

على وفائِهِ لم يجز (أو) لم يكن هارباً ولكن صلَّى كالصلاة السابقة لـ (خوفِ فوتِ وقت الوقوفِ بعرفةَ) يعني أنه إذا قَصَدَ المحرمُ عرفاتِ ليلاً، وبقي من وقتِ الوقوفِ مقدارُ ما إن صلاَّها فيه على الأرض فاتَهُ الوقوفُ، فإنه يصليها صلاة خائِفٍ وهو ماشٍ، حرصاً على إدراك الحجّ، لأن الحجَّ في حقِّ المحرِم كالشيء الحاصِلِ، والفواتُ طارٍ عليه، ولأن الضَّرَرَ الذي يلحقه بفوات الحجّ لا ينقصُ عن الضَّررِ الحاصِلِ من الغريمِ الظالمِ في حق المدينِ المُعْسِر، بخوفِهِ من حبسه إياه أياماً، (أو خافَ على نفسِهِ أو أهلِهِ أو مالِهِ) يعني أن من خافَ على نفسِهِ أو أهلِهِ أو مالِهِ إنْ ترَكَ الصلاةَ على هيئتِها في شدةِ الخوفِ جازَ لَهُ أن يصلي صلاةَ شدةِ الخوفِ من أجلِ ذلك (¬1) (أو ذبٍّ عن ذلك) أي عن نفسِهِ أو أهلِهِ أو مالِهِ (وعنْ نفسِ غيرِه) يعني أن له أن يصلّي صلاةَ شِدَّةِ الخوفِ من أجلِ ردّ الصائل عن نفسِهِ أو أهلِهِ أو مالِهِ أو نفسِ غيره بقتالِ الصائلِ على شيءٍ من ذلك. (وإن خافَ) شخصٌ (عدوًّا إن تخلَّف عن رُفْقَتِهِ، فصلّى صلاة خائفٍ ثم بانَ) له (أمْنُ الطريق لم يُعِدْ) صلاته. (ومن خافَ أو آمِنَ في صلاته انتقلَ، وبنى) يعني أن من دخل في صلاته وهو آمنٌ، ثم طرأ له في أثنائِها خوفٌ كمّلها على هيئةِ الخائفِ وبنى على هيئةِ صلاة الآمن، وإن دخل فيها وهو خائفٌ ثم أَمِنَ فيها كَمَّلَها على هيئةِ صلاةِ الآمن وبنى على ما مضى منها على هيئةِ صلاةِ الخائفِ، لأن بناءَهُ في الصورتين على صلاةٍ صحيحةٍ، كما لو ابتدأها صحيحاً فمرض في أثنائِها، أو ابتدأها مريضاً فعوفي في أثنائها. (ولمصلٍّ كرٌّ وفرٌّ لمصلحةٍ) وكذا التقدُّمُ والتأخُّر والطعنُ والضربُ. ¬

_ (¬1) (ب، ص) "من أجل رد الصائل ذلك" فحذفنا تبعاً لـ (ف).

(ولا تبطُلُ) الصلاةُ (بطولِهِ) أي الكرّ والفرّ، (وجازَ لحاجةٍ) في صلاة الخوفِ (حملُ نَجِسٍ) غيرِ معفو عنه في غيرها، (ولا يعيدُ) أيْ ولا تلزَمُهُ الإِعادة.

باب صلاة الجمعة

باب صَلاَة الجُمْعَة [شروط وجوب الجمعة] (تجب على كل ذكرٍ مسلمٍ مكلَّفٍ عاقلٍ) لأن الإِسلامَ والعقلَ شرطانِ للتكليفِ وصحَّةِ العبادةِ، فلا تجب على مجنونٍ ولا على صبيّ؛ (حرٍّ) لأن العبد مملوكُ المنفعةِ، محبوسٌ على سيده؛ (لا عُذْرَ لَه) مما تقدم. (وكذا) تجب (على مسافرٍ لا يباحُ له القصر) كَقِصَرِ سفرِه، أو لِعِصْيانِهِ بِسَفَرِهِ. (و) تجب (على مقيمٍ خارجَ البلدِ إذا كان بينهما) أي المسافر والمقيم خارج البلد (وبين الجمعة) أي بينه وبين موضعها من المنارةِ، نصًّا، (وقتَ فعلِهَا (¬1) فَرْسَخٌ فأقلُّ) تقريباً. (ولا تَجِبُ) صلاة الجمعة (على من يباحُ له القصْر). وكما لا تجب عليه بنفسِهِ لا تلزَمُه بغيرِهِ. نصَّ عليه. (ولا) تجب (على عبدٍ، و) لا (مبعَّضٍ، و) لا (امرأةٍ)، ولا خنثى. ¬

_ (¬1) لم يظهر لي المراد بقوله "وقت فعلها" ولم أرها لغير الشارح (عبد الغني) ولا لي كذلك (المحقق).

[شروط صحة الجمعة]

(ومن حضرها) أي الجمعة (منهم) أي من العبد والمبعض والمرأة والخنثى (أجزأته) عن صلاة الظهر، لأنّ إسقاط الجمعةِ عنهم تخفيفٌ، فإذا حضرها أحدٌ منهم أجزأتْهُ (ولم يحسب هو) أي مَنْ ذُكِرَ، من العبد وما عطف عليه. (ولا) يُحْسَبُ (من ليس من أهل البلد من الأربعين). (ولا تصح إمامتهم) أي العبد وما عطف عليه والغريب (فيها) أي الجمعة (¬1). [شروط صحة الجمعة] (وشُرِطَ لصحةِ الجمعةِ أربعةُ شروط) ليس منها إذن الإِمام: (أحدها: الوقت) لأنها صلاةٌ مفروضةٌ، فاشتُرِطَ لها الوقْتُ، كبقيّةِ المفروضات. (وهو) أي وَقْتُ الجُمُعَةِ (مِنْ أوَّلِ وقت العيدِ) نصَّ عليه، (إلى آخر وقت الظهر،) لأن الجمعة واقعةٌ موقع الظُّهْرِ، فوجَبَ إلحاقُها بالظهر لما بينهما من المشابهة. (وتجب) الجمعة (بالزوال) لأن ما قبله وقت جوازٍ. (و) فعلها (بعده) أي الزوال (أفضلُ) من فعلها قبل الزوال، خروجاً من الخلاف. ولأنَ الناس يجتمعونَ إليها عند الزوال، فلو انتظروا الإِبرادَ شَقَّ عليهم. (الثاني): من شروط صحة الجمعة (أن تكون بِقَرْيَةٍ) مبنيّةٍ بما جرت عادةُ أهلِها به، (ولو من قَصَبٍ) أو حجر أو خشب (يستوطنها أربعون) رجلاً ولو بالإِمام، من أهلِ وجوبها (استيطانَ إقامةٍ لا يظعَنُونَ) ¬

_ (¬1) وفي وجه تصح، وهو ظاهر كلام أحمد كما في تصحيح الفروع.

[شروط الخطبتين]

أي لا يرحلون عنها (صيفاً ولا شتاءً) لأن ذلك هو الاستيطان. (وتصح) صلاة الجمعة (فيما قاربَ البنيانَ من الصحراءِ) ولو بلا عذرٍ، لا فيما بعد عن البنيان، لشبههم إذاً بالمسافرين. ولا يتمّمُ عددٌ من مكانين متقاربين. ولا يصحُّ تجميع كاملٍ في ناقص مع القربِ الموجبِ للسعي (¬1). ولا يشترط للجمعة المِصْرُ. (الثالث): من شروط صحة الجمعة: (حضورُ أربعينَ) ممن تجب عليهم الجمعةُ صلاتَها وخُطبتَها، ولو كان فيهم خَرَسٌ أو صَمَمٌ، لا كلُّهم. (فإن نقصوا) أي نقصَ الأربعون (قبل إتمامها) أي الجمعة (استأنفوا ظهراً)، لأن العدد شرطٌ فاعتبِرَ، في جميعِها، كالطهارة، إن لم تمكن إعادتها جمعةً بشروطِها. وإن بقي العدد، ولو ممن لم يسمع الخُطْبة، ولحقوا بهم قبل نقصهم، أتمّ بهم الإِمام جمعة. (الرابع) من شروط صحة الجمعة: (تقدم خطبتين) على الصلاة، بدل ركعتين، لا مِنَ الظهر، لأن الجمعة ليست بدلاً عن الظهر، وإنما هيَ فرضٌ مستقل. [شروط الخطبتين] (من شَرْطِ صحتهما) أي الخطبتين (خمسة أشياء): الأوّل: (الوقت) فلا تصحّ واحدةٌ منهما قبل الوقت، لما تقدم أنهما بدل ركعتين. ¬

_ (¬1) أي: ولا يصح بجميع أهلِ بلدٍ كاملٍ فيه العدد إذا صلَّوا ببلدٍ ناقصٍ فيه العدد. ويلزم التجميع في الكامل لئلا يصير التابعُ متبوعاً (ش المنتهى 1/ 294).

(و) الثاني: (النية) قاله في "الفنون"، قال في الفروع: وهو ظاهر كلام غيرِه. انتهى. (و) الثالث: (وقوعهما) أي الخطبتين (حضراً) فلو كان بسفينةٍ أربعونَ رجلاً من أهل وجوبها مسافِرِين من قريةٍ واحدةٍ، فلما قربوا من قريتهم في وقت الجمعة خطبَهم أَحَدُهُمْ ولم يَصِلُوا إلى القرية حتى فرغ من الخطبتين، استأنفهما، لِوقوعهما (¬1) في السفر. (و) الرابع: (حضورُ الأربعين) فأكثرَ من أهلِ القريةِ بالإِمام. (و) الخامس: (أن يكون) أي الخطيب (ممن تصحُّ إمامته فيهما) لما تقدم من أنهما بدل عن ركعتين. (وأركانهما) أي أركان الخطبتين (ستة): الأول: (حمد الله تعالى) وهو قول الخاطب "الحمد لله". (و) الثاني: (الصلاةُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لأن كلّ عبادة افتقرتْ إلى ذكرِ الله سبحانه وتعالى افتقرتْ إلى ذكر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كالأذان. ويتعين لفظ الصلاة. قال في المبدع: أو يشهد أنه عبدُ الله ورسولُه. (و) الثالث: (قراءة آيةٍ) كاملةٍ (من كتاب الله) تعالى. قال أحمد: يقرأُ ما شاء. قال أبو المعالي: لو قرأ آية لا تستقلُّ بمعنًى أو حكم، كقوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} و {مُدْهَامَّتَانِ}، لم يكفِ. (و) الرابع: (الوصية بتقوى الله) عز وجل، لأنه المقصود. ولا يتعين لفظ الوصيةِ. وأقلها "اتقوا الله" و"أطيعوا الله" ونحوه. قال الشيخ: لا بدّ أن يحرّك القلوب. ويبعثَ بها إلى الخير. فلو اقتصر على "أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه" فالأظهر لا يكفي. قاله في المبدع. ¬

_ (¬1) (ب، ص): "كوقوعهما".

[سنن الخطبتين]

(و) الخامس: (موالاتُهما) أي جميعُ الخطبتين (مع الصلاةِ) فلا يَفْصِلُ بين أجزاء الخطبتين، ولا بين إحداهما وبين الأخرى، ولا بينَ الخطبتين وبين الصلاة. (و) السادس: (الجهرُ) بالخطبتين (بحيث يسمعُ) الخطيبَ (العددُ المعتبرُ) للجمعة، وهو أربعون من أهل وجوبِها، (حيثُ لا مانع) يمنعهم سماعَه من نومِ، أو غفلةٍ، أو صممِ بعضِهم لا كلِّهم. فإن لم يسمعوا لخفضِ صوتِه، َ أو بُعْدِهم عنه لم تصح. وتستحب البُداءة بالحمد لله، ثم بالثناءِ، ثم بالصلاةِ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم بالموعظة. فإن نَكَّسَ أجْزَأ. ويبطلهما كلامٌ محرَّمٌ في أثنائِهما، ولو كان يسيراً. وهي بغير العربية كقراءةٍ (¬1). [سنن الخطبتين] (وسننهما) أي سننُ الخطبتين (الطهارةُ) من الحدَثِ، فتجزئ خطبةُ الجُنُبِ، نصًّا، لأنّ تحريم لُبْثِه بالمسجد لا تعلُّق له بواجب العبادة؛ (وسترُ العورة، وإزالةُ النجاسةِ، والدعاءُ للمسلمين، وأن يتولاَّهما مع الصلاة واحدٌ،) فلو خطبَ الثانيةَ غيرُ الذي خطبَ الأُولى أجزأتا، كالأذان، والإِقامة. (و) مما يسنُّ للخطيبِ (رفعُ الصوتِ بهما) أي الخطبتين (حسبَ الطاقةِ) أي طاقتِهِ، لأنه أبلغ في الإِعلام. (و) يسن (أن يخطب قائماً،) وأن يكونَ (على مرتَفِعٍ) منبرٍ، أو ¬

_ (¬1) أي الخطبة بغير العربية، مع القدرة عليها بالعربية، حكمها حكم القراءة في الصلاة بغير العربية، فلا تجوز (ش المنتهى 1/ 298) فلا بد أن يخطب القدر الواجب من الخطبتين بالعربية.

[إنصات المأمومين للخطبة]

غيرِه. وأن يكون عن يمينِ مستقبلِ القبلةِ بالمحرابِ. ويسن أن يكونَ (معتمداً على سيفٍ) أو قوسٍ (أو عصاً) لأنه أمكنُ له، وإشارةٌ إلى أن الدينَ فُتِحَ به (¬1). قالَ في الفروع: ويتوجَّهُ باليسرى (¬2)، والأخرى بحرف المنبر. (و) يسنُّ (أن يجلسَ بينهما) أي بين الخطبتين شيئاً (قليلاً). قال في التلخيص: بقدر سورة الإِخلاص، وجلوسُه حتى يؤذَّن، (فإن أبى) أن يجلسَ فَصَل بينهما بسكتةٍ قدرِ جلوسه (أو خطبَ جالساً فَصَل بينهما بسكتةٍ) لأنه ليس في الجلسةِ ذكرٌ مشروع. (وسُنَّ) للخطيب (قِصَرُهما) أي الخطبتين (و) كونُ (الثانية أقصَر) لأن قِصَر الخطبة أقربُ إلى قبولِها وعدم السآمة لها. (ولا بأس أن يخطب من صحيفة.) ودعاؤه عقب صعوده لا أصل له. فصل [إنصات المأمومين للخطبة] يحرم الكلامُ والإِمام يخطب، (وهو) أي المتكلم قريب (¬3) (منه) أي من الإِمام (بحيث يسمعه) أي يسمع الإِمام، ولو في حالِ تنفُّسِهِ، بخلافِ البعيد الذي لا يسمعه، لأن وجوب الإِنصات للاستماع، وهذا ¬

_ (¬1) في هذا نظر فإن الدين فتح بالوحي لا بالسيف، والسيف لمحق أهل الفساد. ولابن القيم في هذا الموضع كلام حسن جهل به من قال بهذا فليُرجَعْ إليه في كتابه "الهدي النبوي". (¬2) أي المتجه أن يمسك السيف أو نحوه باليُسرى، والأخرى وهي اليمنى يضعها على حرف المنبر. (¬3) "قريب" ساقطة من (ف).

[تعدد صلاة الجمعة في البلد]

ليسَ بمستمِعٍ. وتباح الصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم - سرًّا، كالدعاء (¬1). ولا يسلِّم من دَخَل. ويجوزُ تأمينُه على الدعاء، وحمدُه خِفيةً إذا عَطَسَ، نصًّا، وتَشْمِيتُ عاطسٍ، وردُّ سلامٍ نطقاً. ويجوز لمن بَعُدَ عن الخطيبِ، ولم يسمعه، الاشتغالُ بالقرآنِ والذِّكر والصلاةِ والسلامِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - خِفْيَةً. وفعلُه أفضَلُ نصًّا. (ويباح) الكلام (إذا سكتَ) الخطيبُ (بينَهما) أي بين الخطبتين. (أو) إذا (شرع في دعاءٍ) لأنه حينئذ يكون قد فرِغَ من أركانِ الخطبة (¬2). والإِنصاتُ للدعاءِ غير واجب. [تعدد صلاة الجمعة في البلد] (وتحرم إقامة) صلاة (الجمعةِ وإقامةُ) صلاةِ (العيدِ في أكثرَ من موضعٍ) واحد (من البلدِ إلا لحاجةٍ كضيقٍ) قال في شرح المنتهى: أي ضيقِ مسجدِ البلدِ عن أهله. اهـ. قال في حاشيته: قلت: الإِطلاق في الأهل شاملٌ لكل من تصحّ منه وإن لم يصلِّ، وإنْ لم تجبْ عليه، وحينئذ فالتعدد في مصرٍ للحاجة (وبعدٍ) أي بعد المسجدِ عن بعضِ أهلِ البلدِ بأن يكون البلد واسعاً، وتتباعَدَ أقطارُه، فيشقُّ على من منزله بعيدٌ عن محل الجمعة مجيئه إلى محلها، (وخوفِ فتنةٍ) فأن يكون بين بعضٍ وبعضٍ من أهل البلد عداوة، ويخشى إثارةُ الفتنة بصلاة الجمعةِ في مسجدٍ واحدٍ. وعُلم مما تقدم أنها لو كانت تُقام في موضعين، أو ثلاثةٍ أو أكثر ¬

_ (¬1) "كالدعاء" أيضاً ساقطة من (ف). (¬2) في هذا التعليل نظر، فإن النهي عن الكلام والإِمام يخطب مطلق، فينطبق على الأركان وغيرها.

[المسبوق]

من ذلك، وعَت الحاجة إلى إقامتها فيما يزيد على ذلك، كان لهم ذلك. (فإن تعددت لغير ذلك) فالصحيحةُ ما باشرها الإِمامُ، أو أَذِنَ فيها لهم، فإن لم يكن باشَرَ شيئاً منهن، أو استوتا في الإِذن أو عدمه (فالسابقة بالإِحرام هي الصحيحة) منهنّ، حتى ولو كانت إحداهنّ بالمسجد الأعظم، والأخرى في مكانٍ لا يقدرون عليه، لاختصاص السلطانِ وجندِه بهِ. [المسبوق] (ومن أحْرَمَ بـ) صلاةِ (الجمعة في وقتِها، وأدرك مع الإِمام) منها (ركعةً, أتمّ) صلاته على كونها (جمعة). (وإن أدرك) المأمومُ مع إمامِهِ (أقلّ من ركعةٍ نَوَى ظهراً) عند إحرامه إن كان دخل وقتُ الظهرِ، وإلا بأن لم يكن دخل وقت الظهر عند إحرامه، أو نوى الجمعة وقد فاته ركوع الركعة الثانية مع الإِمام، فإنه يتم صلاته نفلاً. وعنه يكون مدركاً للجمعة بإحرامِهِ بها في وقتها، ولو لم يدرك مع الإِمام ركعة. [الرواتب يوم الجمعة] (وأقل السنّة الراتبة) للجمعة (بعدها ركعتان) نص عليه. (وأكثرها) أي وأكثر السنّةُ الرِاتبة بعد الجمعة (سِتٌّ) أي سِتُّ ركعاتٍ (¬1). وليس لها قبلها سنة راتبة، بل يستحبُّ أربع ركعات. ¬

_ (¬1) قالوا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إذا صلى أحدكم الجمعة فليُصلِّ بعدها أربعاً" رواه الجماعة إلا البخاري، وصلى هو بعد الجمعة ركعتين في بيته. متفق عليه. قالوا: فركعتان من فعله، وأربع من قوله، تكون ستًّا (منار السبيل).

(وسن قراءةُ سورةِ الكهفِ في يومها) أي الجمعة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الكهفِ في يومِ الجمعةِ أو ليلتها وُقي فتنة الدجال" (¬1) وفي رواية "من قرأ سورةَ الكهفِ في يوم الجمعةِ أضاءَ له من النور ما بين الجمعتين" (¬2). (و) يسن (أن يقرأ في فجرِها) في الركعةِ الأولى بعد الفاتِحَةِ (آلم السّجْدة، وفي) الركعة (الثانية: هَلْ أَتَى) عَلَى الإِنْسَانِ حينٌ مِنَ الدّهْر، بعد الفاتحة. قال الشيخ: لتضمنهما (¬3) ابتداءَ خلق السموات والأرض، وخَلْقِ الإِنسانِ، إلى أن يدخل الجنةَ أو النار. (وتكره مداومتُه عليهما) أي على هاتين السورتين في فجر يوم الجمعة، قال جماعة: لئلا يُظَنُّ الوجوب. قال الشيخ: ويكره تحرّيهِ قراءة سجدةٍ غيرِها. والسنة إكمالها. وتكره القراءةُ في عشاءِ ليلةِ الجمعةِ بسورة الجمعةِ. زاد في الرعاية: والمنافقين. ¬

_ (¬1) حديث، من قرأ سورة الكهف .. وُقي فتنة الدجال" لم نجده بهذا اللفظ. وفي الإرواء تصحيح إسناد حديث "من قرأ عشر آيات من آخرها -يعني آخر سورة الكهف- ثم خرج الدجال لم يسلط عليه". (¬2) وحديث "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ... " رواه البيهقي بإسناد حسن من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعاً. (¬3) (ف): "لتضمنها".

باب صلاة العيدين وصفتها

باب صَلَاة العيدَيْن وَصفتهَا وسُمِّي عِيداً لأنه يعودُ ويتكرّر. (وهي) أي صلاة العيدين (فرضُ كفاية)، إذا اتّفق أهل بلدٍ على تركِها قاتَلَهُم الإِمام، لأنها من شعائِرِ الإِسلام الظاهرة. (وشروطها) أي صلاة العيدين (كـ) شروط (الجمعة،) من استيطانٍ، وعَدَدٍ، (ما عدا الخطبتين) فإنهما في العيد سنّة. (وتسن بالصحراء) (¬1) إذا كانت قريبةً عرفاً. وكُرِهَ أن تصلَّى بالجامِعِ داخلَ البَلَدِ بغيرِ مكّةَ، إلا لعذرٍ، كمرضٍ ونحوه. (ويكره النَّفْلُ قبلَها وبعدَها) في موضِعِها، وقضاء فائتةٍ (قبل مفارقَةِ المصلَّى) إماماً كان أو مأموماً، في صحراءَ فُعِلَتْ أو في مسجد. ولا بأسَ بالتنفّل إذا خَرَجَ أو فارقَهُ ثم عاد إليه. وقضاء الفائتة أَوْلى، لوجوبها. (ووقتها) أي وقت صلاة العيد (كـ) وقت (صلاة الضّحى)، وهو من خروجِ وقتِ النهي إلى قُبَيْلِ الزوال. (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوالِ صلَّوا) العيد (من الغد)، ¬

_ (¬1) (ب، ص): "وتسن بالصحراء صلاة" فحذفنا تبعاً لـ (ف) ولمنار السبيل.

وتكون (قضاءً)، وكذا لو مضى أيامٌ. (وسُنَّ تبكير المأموم) إلى صلاة العيد، ليحصل له الدنوّ من الإِمام، وانتظارُ الصلاة، فيكثرُ ثوابه، بعد صلاة الصبح (¬1). (و) سنّ (تأخيرُ الإِمام إلى) دخول (وقتِ الصلاةِ) لأن الإِمام ينتظره الناسُ، ولا ينتظر هو أحداً. (و) سن لمن صلى العيد (إذا ذهب في طريق يرجع من أخرى) غيرِ طريق غدوّه، ليشهد له الطريقان، أو لمساواتِهِ لهما في التبرك بمروره، أو سرورِهما برؤيته، أو لزيادةِ الأجرِ بالسلام على أهل الطريق الأخرى، أو لتحصل الصدقَة على الفقراء من أهل الطريقين. (وكذا الجمعة) قال في شرح المنتهى: فينبغي طرده في غير العيدين. (وصلاة العيدين ركعتان: يكبّر في) الركعة (الأولى بعد تكبير الإِحرام) وبعد الاستفتاح (وقبل التعوّذ، ستًّا) أي ستَّ تكبيرات زوائد، (وفي) الركعة (الثانية) بعد القيامِ من سجوده (قبلَ القراءةِ خمساً) أي خمسَ تكبيراتٍ زوائد، (يرفَعُ) المصلي (يديه مع كل تكبيرة، ويقول بينهما) أي بين كل تكبيرتين: ("الله أكبرُ كبيراً. والحمدُ لله كثيراً، وسُبْحَانَ الله) وبحمدِهِ (بكرةً وأصيلا. وصلَّى اللهُ على محمدٍ النبيِّ الأمّيّ وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً"). وإن أحب قال غير ذلك من الأذكار، لأنّ الغَرَضَ الذكرُ بعد التَّكَبير، لا ذكرٌ مخصوص. (ثم يستعيذ) عقب السادِسَةِ بلا ذكرٍ بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين، لأن الذِّكْرَ إنما هو بين التكبيرتين. ¬

_ (¬1) "بعد صلاة الصبح" متعلقٌ بقوله: تبكير.

[خطبتا العيد]

(ثم يقرأ جهراً الفاتحةَ، ثم سبحِ) اسمَ ربكَ الأعلى (في) الركعة (الأُولى، و) سورة (الغاشيةِ) بعد الفاتحة (في) الركعة (الثانية). [خطبتا العيد] (فإذا سلم) الإِمام من الصلاة (خطبَ خطبتين). (وأحكامهما) أي أحكام هاتين الخطبتين (كخطبتي الجمعة) في جميعِ ما تقدم في خطبتي الجمعة، حتى في تحريم الكلامِ حالَ الخطبة. (لكن يسنُّ) للخطيب (أن يستفتح) الخطبةَ (الأُولى بتسعِ تكبيراتٍ) نَسَقاً، (و) الخطبةَ (الثانيةَ بِسَبْعٍ) نَسَقاً، قائماً كسائِرِ أذكار الخطبة. (وإن صلى العيدَ كالنافلة صحّ، لأن التكبيراتِ الزوائدَ والذكر بينهما) والخطبتين سنّة، لأنّه ذكر مشروعٌ بين التحريمِ والقراءةِ، أشبهَ دعاءَ الاستفتاح. فعلى هذا لو نَسِيَهُ. فلا سجودَ للسهوِ في الأصحّ، (و) لأن (الخطبتين سُنَّةٌ) ولو وجَبَتَا لوجبَ حضورُهما. [قضاء صلاة العيد] (وسُنَّ لمن فاتَتْهُ) صلاةُ العيدِ مع الإِمام (قضاؤُها) في يومها على صفتِها (ولو بعدَ الزوال) كمُدْرِكِ الإِمام في التشهد. فصل [في التكبير في أيام العيدين] (يسن التكبير المطلق) وهو الذي لم يُقَيَد بكونه عَقِبَ المكتوبات، (والجهرُ به) [لـ] غير أنثى (في ليلتي العيدين) في البيوتِ والأسواقِ والمساجدِ وغير ذلك.

[التهنئة في العيدين]

وتكبيرٌ في عيد فطر آكَدُ. للآية (¬1) (إلى فراغِ الخطبةِ). (و) سن التكبير المطلقُ أيضاً (في كلِّ عشر (¬2) ذي الحجة). (والتكبيرُ المقيَّد في الأضحى عقبَ كلِّ فريضةٍ صلاها في جماعةٍ) حتّى الفائِتَةِ في عامِ ذلكَ العيدِ، إذا صلاّها جماعةً (من صلاة فجرِ عرفَةَ إلى عصرِ آخِرِ أيامِ التشريق) ويستثنى من ذلك صورةٌ أشار إليها بقوله (إلا المُحْرِمَ فـ) إنه (يكبِّر) بعد المكتوباتِ (من صلاةِ ظُهرِ يَوْمِ النَّحْر) إلى آخر أيامِ التشريق، لأن التلبية تُقْطَعُ برمي جمرة العقبة. وأيامُ التشريقِ هي حادي عشر ذي الحجةِ، وثاني عشره، وثالث عشره. ومسافرٌ ومميّزٌ كمقيمٍ وبالغٍ، وخنثى كذكر (¬3). (ويكبر الإِمام مستقبلَ الناسِ) يعني أن الإِمامَ إذا سلّم من المكتوبة التفت إلى المأمومين، ثم كبَّر. ومن نسيه بعد سلامِه قضاه إذا ذكره مكانه. فإذا قام وذَهَبَ عادَ فَجَلَسَ، ما لم يُحْدِثْ، أو يخرجْ من المسجد، أو يَطُلِ الفصل بين سلامِهِ وتذكُّرِه. (وصفته) أي صفة التكبير (شفعاً: الله أكْبر اللهُ أكْبرُ، لا إله. إلا الله. والله أكبرُ الله أكبر ولله الحمد) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله كذلك (¬4). [التهنئة في العيدين] (ولا بأس بقوله) أي قول المصلي (لغيره) من المصلين (تقبَّل اللهُ منَّا ومنكَ.) ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. (¬2) (ب، ص): في عشر. والزيادة من (ف) ومنار السبيل. (¬3) فتكبّر المرأة إذا صلت في جماعة، وتخفض صوتها (ش المنتهى). (¬4) رواه الدارقطني، من حديث جابر (المنار).

[الأيام العشر]

[الأيام العشر] ويستحبُّ الاجتهاد في عملِ الخيرِ أيامَ عشر ذي الحجة، من الذكر والصيامِ والصدقةِ وسائرِ أعمالِ البرّ، لأنها أفضلُ الأيام، لحديث "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله تعالى من عشرِ ذي الحجة." (¬1) ¬

_ (¬1) حديث "ما من أيام .. " رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه.

باب صلاة الكسوف

باب صَلَاة الكُسُوف وهو ذهاب ضوء (¬1) أحد النيِّريْنِ أو بعضِهِ. (وهي) أي صلاةُ الكسوف، (سنَّة) مؤكدة حتى سفراً. والكسوفُ والخسوفُ بمعنى واحدٍ. وقيل: الكسوفُ للشمسِ والخسوفُ للقمر. وقيل: الكسوف تغيّرهما والخسوف تغيُّبُهمَا. (من غير خطبة.) قال في الفروع: ولا تُشْرَعُ خطبةٌ وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. (ووقتُها) أي وقت صلاة الكسوفِ (من ابتداءِ الكسوفِ إلى ذهابِهِ) أي الكسوف. (ولا تقضى) صلاةُ الكسوف (إن فاتت) لأن القصد عَوْدُ نورِ المكسوف، وقد عاد كاملاً، ولأنها سنةٌ غير راتبة، ولا تابعةٌ لفرض فلم تقض كاستسقاءٍ، وتحيةِ مسجدِ، وسجود شكر، لفوات محله. وفعلها جماعةً بمسجدٍ أفضلُ. وللصبيان حضورُهَا. (وهي) أي صلاة الكسوف (ركعتان: يقرأ في الركعة الأولى) منها ¬

_ (¬1) كلمة "ضوء" سقطت من (ب، ص).

[صلاة الآيات]

(جهراً الفاتحةَ وسورةً طويلةً،) من غيرِ تعيين، (ثم يركع) ركوعاً (طويلاً،) فيسبّح، قال جماعةٌ: نحوَ مائةِ آيةٍ، (ثم يرفع فيسمِّع)، أي يقول: "سمع الله لمن حمده" (ويحمِّد) أي يقول: "ربّنا ولك الحمد" (ولا يسجد، بل يقرأ الفاتحةَ) أيضاً، (وسورةً طويلة) دون الطول الأوّل في القيام، (ثم يركعُ) فيطيلُ، وهو دونَ الركوعِ الأول، (ثم يرفع) فيسمِّع ويحمِّد (ثم يسجد سجدتين طويلتين). (ثم يصلّي) الركعةَ (الثانيةَ كـ) الركعةِ (الأولى) في كونها بركوعين طويلين، وسجدتينِ طويلتين، لكن دون الأولى في كلِّ ما يفعل. (ثم يتشهَّد ويسلّم.) ولا تعادُ إن فرغَتْ قبل التجلّي، بل يذكر ويدعو. وإن تجلَّى فيها أتمَّها خفيفة. (وإن أتى) في صلاة الكسوف (في كل ركعةٍ بثلاثة ركوعات أو أربعة أو خمسة (¬1) فلا بأس) أي لا حرج في ذلك لا يزيد على خمسة ركوعاتٍ في كلِّ ركعةٍ، ولا على سجدتين فيها، لأنه لم يرد به نص والقياس لا يقتضيه (¬2). (وما بعد) الركوع (الأول) من كل ركعةٍ (سنّةٌ) كتكبيرات العيد (لا تُدرَكُ به الركعة) ولا تبطل الصلاة بتركِهِ. (ويصح أن يصليها كالنافلة)، ويحمل النصُّ بالركوع الزائد على الفضيلة. [صلاة الآيات] ولا يصلَّى لآيةٍ غيرِ الكسوف. كظلمةٍ نهاراً وضياءٍ ليلاً، وريحٍ شديدة، وصواعقَ، إلاَّ لزلزلةٍ دائمةٍ. ¬

_ (¬1) في الأصول "بثلاث ركوعات، أو أربعٍ أو خمس". (¬2) (ب، ص): "لا يقتضيه الشرع" فحذفنا تبعا لـ (ف) وهو الصواب.

باب صلاة الاستسقاء

باب صَلَاة الاستسقاء وهو الدعاءُ بطلبِ السُّقْيَا على صفةٍ مخصوصة. (وهي) أي صلاة الاستسقاء (سنَّةٌ) مؤكدةٌ حتى سفراً إذا أضرَّ الناسَ إجدابُ أرضٍ، أو قحطُ مطرٍ، أو غورُ ماءِ عيونٍ أو أنهارٍ. (ووقتُها) أي وقت صلاة الاستسقاءِ (وصفتُها) في موضِعها (وأحكامِها كصلاةِ العيدِ.) فعُلِمَ منه أنها تُفعل في وقتِ صلاةِ العيد. (وإذا أراد الإِمامُ الخروجَ لها) أي لصلاةِ الاستسقاءِ (وَعَظَ الناسَ) أي ذكرهم بما يلين قلوبَهُمْ من الثَّوابِ والعِقابِ، وخوَّفهم بالعواقِب، (وأمرَهُمْ بالتوبةِ) من المعاصي، أي الرجوع عنها (والخروجِ من المظالمِ) بأن يردَّ من عندَه مظلمةٌ لمستحقِّها، وذلك واجبٌ في كل وقتٍ، ولأنّ المعاصي سَببٌ القحطِ، والتقوى سببُ البركاتِ. وأَمرَهُمْ بتركِ التَّشاحُنِ، والصدقةِ، والصوم. ولا يلزَمان بأمرِهِ. ويَعِدُهم يوماً يخرجون فيه. (ويتنَظَّفُ لها) أي لصلاةِ الاستسقاء بإزالةِ الرائحةِ الكريهةِ، وتقليمِ الأظفار، لئلا يؤذي الناسَ يوم يجتمعون. (ولا يتطيبُ) لأنه يوم استكانةٍ وخضوع. (ويخرج) الإِمام كغيرِهِ (متواضعاً متخشّعاً) أيْ خاضِعاً (متذلِّلاً)

والذلّ: الهوانُ (متضرّعاً) أي مستكيناً (¬1) (ومعه أهلُ الدينِ والصَّلاحِ، والشيوخُ،) لأنه أسرع لإِجابةِ دعائِهِمْ. وسُنَّ خروجُ صبي مميّزٍ (ويباحُ خروج (¬2) الأطفالِ) الذين لم يميّزوا (والعجائِزِ والبهائِمِ) لأنَّ الرِّزْقَ مشتَرَكٌ بينَ الكُلِّ. (و) يباحُ (التوسُّل بالصالحينَ) (¬3) وقد استسقى عمرُ بالعباسِ، ومعاويةُ بيزيدَ بنِ الأسود. قال في المبدعِ: يستحبُّ الاستسقاءُ بمنْ ظَهَرَ صلاحُه لأنه أقرب إلى الإِجابة. (فيصلي) ركعتين، يأتي فيهما بالتكبيرات الزوائِدِ كصلاة (¬4) العيد. (ثم يخطبُ خطبةً واحدةً) على الأصحّ، (يفتَتِحُهَا بالتكبير، كخطبةِ العيدِ) وعنه يفتتحُها بالحَمْدِ. (ويكثِر فيها الاستغفارَ) لأنَّه سبَبٌ لنزولِ الغيث (و) يكثر فيها أيضاً (قراءةَ آياتِ فيها الأمْرُ به) أي بالاستغفار، كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}. (ويرفعُ يديهِ) في الدعاءِ (وظهورُهما نحوَ السَّماءِ) لحديثٍ رواه مسلم (فيدعُو بدعاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم -) وهو "اللهُم اسْقِنَا غيثاً مُغيثاً هنيئاً مريئاً غَدَقاً مجلِّلاً سحًّا عامًّا طبقاً دائماً. اللَّهُم اسقِنا الغَيْثَ ولا تجعلْنا من القانِطِين. اللهم سُقْيَا رحمةٍ لا سُقْيَا عذابِ ولا بلاءٍ ولا هدْمِ ولا غرقٍ. اللهُمَّ إنَّ بِالعِبَادِ والبلادِ من اللأواءِ والجُهْدِ والضَّنْكِ ما لاَ نشكوه إلا إليك. اللهُمَّ أَنبِتْ لنا الزرعَ، وأَدِرَّ لنا الضَّرْعَ، وأَسْقِنَا من بركاتِ السماءِ، وأَنْزِلْ علينا من بركاتِك. اللهُمَّ ارفعْ عنا الجَهْدَ والجُوعَ والعُرْيَ، واكشِفْ عنا من البَلَاءِ ما لا يكشِفُة أحدٌ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ إنّا ¬

_ (¬1) في الأصول "مستكنًّا" والتصويب من شرح المنتهى. (¬2) لو قال "اخراجُ" بدل "خروج" لكان هو الأصوب، لعدم التكليف. (¬3) أي بدعاء الأحياء منهم كما يظهر في الأمثلة التي ذكرها. (¬4) في (ب، ص): لصلاة العيد والتصويب من (ف).

[قلب الرداء]

نستغفرك إنَّكَ كنتَ غفّاراً، فأرسْلِ السماءَ علينا مدراراً" ويكثر من الدعاء. (ويؤمِّن المأمومُ) على دعاءِ الإِمام. ولا يكره قوله: "اللهُمَّ أَمطِرْنَا" (¬1) ذكره أبو المعالي. [قلب الرداء] (ثم يستقبل الإِمامُ القِبْلَةَ) استحباباً (في أثناءِ الخطبة) قال النووي: فيه استحبابُ استقبالِها للدعاء. وُيلْحَقُ به الوضوء، والغُسلُ، والتيمُّمُ، والقرآنُ، وسائرُ الطاعات إلا ما خرج بدليلٍ، كالخطبة (¬2) (فيقول سراً: "اللهُمَّ إنَّكَ أمرْتَنَا بدعائِك، ووعدتنا إجابَتَكَ. وقد دعونَاكَ كما أَمرْتَنَا فاستجبْ لنا كما وعدتنا") لأن في ذلك استنجازاً لما وَعَدَ من فضلِه، حيث قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وإن دعا بغيرِ ذلك فلا بأس. (ثم يحوِّل) الإمام (رداءَهُ فيجعلُ الأيمنَ على الأيْسَرِ والأيْسَرَ على الأيْمن). (وكذا الناس) يُسَنُّ لهم أن يحوْلُوا أرْدِيَتَهمْ كالإِمام. (ويتركونَهُ حتى ينزعوهُ مع ثيابهمْ) لأنه لم ينقَلْ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحدٍ من أصحابهِ أنه غَيّر رداءَه. [تكرار صلاة الاستسقاء] (فإن سُقُوا) في أول مرة فذلك فضلٌ من الله ونعمة، (وإلا) أي ¬

_ (¬1) أي وإن ورد عن أبي عبيدة أن (أمطر) تقال في العذاب. (¬2) بل ينبغي أن يقال: لا يشرع تحرّي استقبال القبلة إلا حيث ثبت بالدليل، كما في الصلاة، والدعاء، ودفن الميت.

[ما يسن لنزول المطر]

وإنْ لم يُسْقُوا في أوّلِ مرة (عادوا ثانياً و) كذا يعودون (ثالثاً) إن لم يُسْقُوا ثانياً، لأن ذلك أبلغُ في التضرُّع. وإن سُقُوا قبل خروجِهم فإن كانوا تأهَّبُوا للخروجِ خَرجُوا وصلَّوْا صلاةَ الاستسقاءِ شكراً، وإنْ لم يكونوا تأهّبوا للخروج لم يخرجُوا، وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله. [ما يسن لنزول المطر] (ويسنُّ الوقوف في أوّل المَطَرِ، والوضوءُ) منه (والاغتسالُ منه، واخراجُ رحله) وهو ما يَسْتَصْحِبُ من الأثاث (وثيابِهِ، ليصيبها) الماء، لما رُوِيَ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا سال الوادي: "اخرُجوا بنا إلى هذا الذي جعلَهُ الله لنا طهوراً فنتطهَّرَ به" (¬1) (وإن كثُر المطر حتى خيفَ منه سُنَّ قول: "اللهُمَّ حوالَيْنَا ولا عَلَيْنَا اللهُم على الآكامِ) بفتح الهمزة (¬2) وهي ما علا من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلاً، وكان أكثرَ ارتفاعاً مما حوله. وقال مالك: الآكامُ الجبال الصغار. وقال الخليل: وهي حجرٌ واحد (¬3) (والظّرابِ) هي الرابية الصغيرة (وبطونِ الأودية) الأماكنُ المنخفضة (ومنابِتِ الشجر) أصولُها لأنه أنفعُ لها (ربنَا ولا تحمِّلْنا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق. وقيل: هو حديثُ النَّفْسِ والوسوسة. وقيل: العِشْقُ. وقيل: شماتة الأعداء. وقيل: هي الفِرقةُ والقطيعة، نعوذ باللهِ من جميع ذلك ¬

_ (¬1) حديث "كان يقول إذا سأل الوادي: أخرجوا بنا .. الخ" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي (إرواء 3/ 144) (¬2) الأولى أن يقول: بمدّ الهمزة. لأن جمع الأكَمَةِ إكامُ وآكام. (¬3) المشهور عند أهل اللغة أن الأكمة حجارة مجتمعة، أو مرتفع غليظ لا يبلغ أن يكون حجراً. وانظر (اللسان).

(الآية {وَاعْفُ عَنَّا} أي تجاوز وامحُ عنا ذنوبنا {وَاغْفِرْ لَنَا} أي استُرْ علينا ذنوبَنَا ولا تفضحنا {وَارْحَمْنَا} فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك، ولا نتركُ معاصيَك إلا برحتمك إيانا {أَنْتَ مَوْلَانَا} وسيدنا ومتولي أمورنا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} بإقامةِ الحجةِ والغلبةِ في قتالِهِمْ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء. (وسن) لمن أغيثَ بالمطر (قول: "مُطِرْنَا بفضل الله وَرَحْمَتِهِ" ويحرم) أن يقول: "مطرنا (بنوءِ) أي كوكب (كذا") لما روى مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً "ألم تَرَوْا إلى ما قال ربُّكم؟ قال: ما أنْعَمْتُ على عبدي من نعمةٍ إلا أصبحَ فريقٌ بها كافرين، يقولون: الكواكَبُ كَذَا وكذا" والنَّوْءُ النجم مال للغروب. قاله في القاموس (¬1). (ويباح) أن يقول: مُطِرْنَا (في نوء كذا) خلافاً للآمدي. ومن رأى سحاباً، وهبَّتْ ريحٌ، فليسأل الله تعالى خيرَهُ، ويتعوذْ به من شره. ولا يسبُّ الريحَ إذا عصفتْ، بل يسألُ الله تعالى خيرَها وخير ما أُرْسِلَتْ به، ويتعوذ به من شرها وشر ما أرسلت به. فائدة: روى أبو نعيم في الحلية بسنده عن أبي زكريا، قال: "من قال: سبحان الله وبحمده، عند البرق، لم تصبه صاعقة". ¬

_ (¬1) وتمام قوله: أو هو سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق اهـ. وهذا أوضح في تفسيره.

كتاب الجنائز

كتَاب الجَنَائز بفتح الجيم جمع جِنازة، بكسرها، والفتح لغة. وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر اسم للنعش عليه ميت. ويقال عكسه. فإن لم يكن ميتٌ فلا يقال: نعشٌ، ولا جنازة، إنما يقال: سرير. (يسن الاستعداد للموت) بالتوبةِ من المعاصي والخروجِ من المظالم (والإِكثار من ذكره) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أكْثِروا من ذِكْرِ هَاذِمِ اللذّاتِ" (¬1). (ويكره الأنين) لأنه يترجِمُ عن الشكوى المنهيّ عنها (¬2)، ما لم يغلبه. ويستحب للمريض الصبرُ على المرض، والرضا بقضاء الله تعالى. [تمني الموت] (و) يكره (تمنِّي الموت) نزل به ضُرّ، أو لم ينزل، ويستثنى من ¬

_ (¬1) حديث "أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت" حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر (الفتح الكبير وصحيح الجامع الصغير). (¬2) النهي عن الشكوى. قال البعض: دليله الأمر بالصبر الجميل. فتكره الشكوى إلى المخلوقين. والشكوى إلى الله عبادة. والأنين يُنَفِّسُ بعض الألم، كما قال الشاعر: لعل انحدار الدمع يُعْقَب راحةً ... من الوجد أو يشفي شجيَّ البلابلِ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه لعائشة: "بل أنا وا رأساه".

[عيادة المريض]

ذلك حالتان لا يكره تمنيه فيهما: أشار للأولى بقوله: (إلا لخوفِ فتنةٍ) في دينِهِ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أردْتَ بقومٍ فتنةً فاقبضني إليك غيرَ مفتونٍ" (¬1). الحالة الثانية: تمنّي الشهادة، لا سيّما عند حضور أسبابها، فتستحبّ، لما في الصحيح "مَنْ تمنَّى الشهادةَ خالصاً من قلبِه أعطاه الله منازلَ الشهداءِ" (¬2). [عيادة المريض] (وتسنّ عيادَةُ المريضِ المسْلِمِ) ونصه "غير المبتدع" كرافضيّ، ومن يَجْهَرُ بالمعصية، من أوّل مرضِه. قال في الإِقناع: وظاهره: ولو من وجع ضرسٍ، ورمَدٍ، ودُمَّلٍ، خلافاً لأبي المعالي وابن المَنْجَا. قال: ثلاثةٌ لا تعاد ولا يسمّى صاحبها مريضاً: الضَّرس، والرمَد، والدُّمَّل. وتحرُم عيادة الذميّ. ولا يجبُ التَّداوي، ولو ظُنَّ نَفْعُهُ، وتركُه أَفْضَل (¬3). [تلقين المحتضر وما يصنع به] (و) سنّ (تلقينه) أي المريض المنزول به (عند موته) قول (لا إله إلا الله) لما روى مسلمٌ عن أبي سعيد مرفوعاً "لقِّنُوا مَوْتَاكُم: لا إله إلا ¬

_ (¬1) حديث "وإذا أردت بقوم فتنة ... " رواه الترمذي وقال حسن صحيح. (¬2) حديث "تمنّى الشهادة بصدق .. " رواه مسلم وأبو داود والترمذي. (¬3) علل في شرح المنتهى بأن ترك التداوي أقرب إلى التوكُّل. قُلْتُ: النُّصوص بالأمر بالتداوي تدلّ على الاستحباب. وهي كثيرة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتداوى. وهذا هو الصحيح إن شاء الله. وربما وجب في بعض الأحوال لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

الله"، وعن معاذٍ مرفوعاً "من كان آخرُ كلامِهِ: لا إله إلا اللهُ، دَخَلَ الجنة" رواه أحمد (¬1). ويلقَّنُ (مَرةً) نقله مُهنَّا. واختار الأكثر: ثلاثاً (ولم يَزِدْ إلاَّ أنْ يتكلّم) قال في الإِنصاف: قال في مجمع البحرين: المنصوص أنه لا يزيد على مرة، ما لم يتكلمْ. وإنما استُحِبَّ تكرار الثلاثِ إذا لم يُجِبْ أوّلاً، لجوازِ أن يكون ساهياً، أو غافلاً. وإذا كرر الثلاثَ عُلِمَ أن ثَمَّ مانعاً. انتهى. (و) سنَّ (قراءةُ الفاتحةِ، و) قراءةُ سورة (يس) عند من نُزِلَ به، لأن قراءةَ ذلك تُسَهِّل خروج الروح. (و) سن (توجيهُهُ) إلى القبلة على جنبه الأيمنِ مع سِعةِ المكانِ، وإلا) أي وإن لم يمكنْ توجيهُهُ لضيقِ المكان (فعلى ظهرِهِ) أي فيلقى على قفاه، وأخْمَصاهُ إلى القبلة، كالموضوعِ على المُغْتَسَل. زاد جماعة: وُيرفعُ رأسَه قليلاً ليصيرَ وجهه إلى القبلة. فائدة: ينبغي للمريض أن يستحضرَ في نفسِهِ أنه حقيرٌ من مخلوقاتِ الله تعالى، والله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عباداتِه، وطاعاتِه، وأنّه لا يطلبُ العفوَ والإِحسانَ إلا منه، وأنه أكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، وأن يكثرَ ما دامَ حاضرَ الذهنِ من قراءةِ القرآنِ، ويشكرَ الله تعالى بقلبِه ولسانِه، وأن يبادِرَ إلى أداء الحقوق إلى أهلها، بردّ المظالم، والودائع، والعواري، واستحلالُ أهلِهِ من والدٍ، وزوجةٍ، وأولادٍ، وغلمانٍ، وجيرانٍ، وأصحابٍ، وكلِّ من كان بينُهُ وبينه معاملة أو تعلُّقٌ في شيء، ويحافظَ على الصلواتِ الخمسِ واجتنابِ النجاساتِ، ويصبر ¬

_ (¬1) حديث "من كان آخر كلامه ... " حديث صحيح. ورواه أيضاً أبو داود والحاكم (صحيح الجامع).

في غسل الميت

على مشقة ذلك، ويحذِّر نفسَهُ من التساهُل في ذلك، فإنّ من أقبح الأمورِ أن يكونَ آخِرُ عمرهِ وخروجِه من الدنيا التي هي مزرعةٌ للآخرةِ مفرّطاً فيما وجب عليه، أو نُدِبَ إليه، وأن يتعاهد نفسَهُ بتقليم أظفاره، وأخذِ شعرِ شاربِه، وإبطِهِ، وعانَتِهِ، وأن يعتمدَ على اللهِ تعالى فيمن يحب من بنيه وغيرِهم، ويوصي للأرْجَحِ في نظره. (فإذا ماتَ سُنَّ تغميضُ عينيهِ) ويباحُ من مَحْرمٍ ذكرٍ أو أنثى. ويكرَهُ من حائضٍ وجُنُبِ وأن يَقْرَباهُ. (و) سنّ (قولَ: "بسم الله وعلى وفاةِ رسولِ اللهِ) - صلى الله عليه وسلم - "لما روى البيهقيّ عن بكرِ بن عبد الله المزنيّ، ولفظه: "وعلى ملّةِ رسولِ الله". وسنَّ شَدُّ لَحْيَيْهِ بعصابة، وتليينُ مفاصله، بأن يردّ ذراعيِه إلى عَضُدَيْهِ، ثم يردهما، ويردّ أصابعَ يديهِ إلى كفَّيْهِ، ثم يبسطهما، ويردُّ فخذيه إلى بطنِه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدُّهما. والمقصود منه السهولةُ في الغسلِ. (ولا بأسَ بتقبيلِهِ والنظر إليه) ممن يباحُ له ذلك حال حياته (ولو بعدَ تكفينه.) فصل في غسل الميت (وغَسْل الميتِ) مرةً واحدةً، أو تيممُه لعذرٍ، كخوفٍ عليه من تقطع وتهرٍّ، كالمحترقِ والمسمومِ، ونحوهم (فرضُ كفايةٍ) إجماعاً، على كلِّ من عُرِفَ به وأمكنَهُ. وهو من حقوق الله تعالى الواجبةِ للِإنسان المسلم بعدِ موتِهِ، حتى ولو وصّى بإسقاطه. قال في التنقيح: وغسلُه فرضُ كفايةٍ، ويتعيّن مع

جنابةٍ أو حيضٍ. ويسقطانِ به. انتهى. فيحمل كلام المنقّح على أن الغسلَ تعيَّنَ على الميِّتِ قبل موتِهِ ثم مات. وأنَّ الذي يتولى غسلَه يقومُ مقامَه في ذلك، ويكونُ ثوابُهُ كثوابِهِ. (وشُرِطَ) بالبناء للمفعولِ، لصحةِ غسلِهِ (في الماء الطهوريَّةُ) كسائر الطهاراتِ (والإِباحةُ) كباقي الأغسال. (و) شُرِطَ (في الغاسِلِ الإِسلام) فلا يصح من كافرٍ، والمرادُ: غيرَ نائبِ مسلمٍ نَوَاه، (والعقلُ) لأن غير العاقلِ ليس أهلاً للنية، (والتمييزُ) لا البلوغُ، لصحةِ غسلِ المميِّز لنفسِهِ. (والأفضل) أن يُخْتارَ لغسل الميت (ثقةٌ عارفٌ بأحكامِ الغَسْل) ونَقَل حنبلٌ: لا ينبغي إلا ذلك، وأوجبَهُ أبو المعالي ولو جُنُباً أو حائضاً. (والأوْلى به) أي الغسل (وصيُّهُ العدلُ،) عمومُهُ يتناول ما لو وصّى لامرأتِهِ. وهو مقتضى استدلالِهِم بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وصَّى لامرأتِهِ، فغسّلته. وكذا لو وصَّتْ لزوجها. ولعل المرادَ الاكتفاءُ بالعدالةِ الظاهرة. وتعتبر العدالة أيضاً في غير الوصيّ، لعدم الفرق، أو فيه وحدَه. والأوْلى بعد وصيِّه العدلِ أبوهُ وإن علا، ثم الأقربُ فالأقربُ، كالميراث. (وإذا شَرَع) الغاسل (في غسله سَتَر عورتَهُ وجوباً) وهي ما بين سرَّةٍ وركبةٍ إلا منْ دونَ سبعٍ، ثم جَرَّدهُ من ثيابِه ندباً. (ثم يلفُّ على يدِه خرقةٌ فينجِّيهِ) أي يمسح مخرجَه (بها) أي بالخرقة. (ويجبُ غسلُ ما بِهِ) أي الميت (من نجاسةٍ) لأن المقصودَ بالغَسْلِ تطهيرُه حَسَبَ الإِمكان. (ويحرم مسُّ عورةِ من بلغَ سبعَ سنينَ) لأن التطهيرُ يمكنُ بدونِ مسٍّ، فأشْبَهَ حال الحياةِ.

(وسُنَّ أن لا يمسَّ) الغاسلُ (سائرَ) أي باقيَ (بدنه إلا بخرقةٍ) فحينئذ يُعِدُّ الغاسل خِرّقَتَينِ: إحداهما للسبيلين، والأخرى لبقيّة بدنه. (وللرجلِ أن يغسلَ زوجتَهُ) إن لم تكن ذمّيّةً، ولو قَبلَ الدخولِ. (و) للسَّيِّدِ أن يغسِلَ (أمَتَهُ) وَطئَها أَوْ لا، وأُمَّ ولدِهِ، ومكاتَبَتَهْ، ولو لم يشترطْ وطأَها. ولا يغسل سيُّدٌ أَمتَهُ المزوَّجة، ولا المعتدَّةَ من زوجٍ، ولا المعتَقَ بعضُها، ولا من هي في استبراءٍ واجبٍ، ولا تَغْسِلُه. (و) للرجلِ أن يغسلَ (بنتَ دونِ سبعِ سنينَ). (وللمرأةِ غَسْلُ زوجِها) ولو قبلَ الدخولِ. ولو وضعتْ عقبَ موتِهِ أو طلاقٍ رجعيٍّ ما لم تتزوّجْ أو تكنْ ذمّيّة، (وسيّدِها، وابنِ دونِ سبعِ) سنين. (وحُكْمُ غسلِ الميِّت فيما يَجِبُ وُيسَنُّ كغَسْلِ الجَنَابَةِ، لكنْ لا يُدْخِلُ) الغاسِلُ (الماءَ في فمهِ) أي الميّت (و) لا في (أَنْفِهِ) خشيةَ تحريكِ النجاسة، (بل يأخذُ خرقةً مبلولةً) بماءٍ (فيمسَحُ بها) أي بالخرقة (أسنانَه ومِنْخَريِهِ) وينظّفها ثم يَغسِلُ شِقَّهُ الأيمنَ، ثم شِقَّه الأيسرَ، ثم يفيضُ الماء على جميع بدنِهِ، ليعُمَّه بالغسل. ويثلَّثُ ذلك. (ويكره الاقتصارُ في غسلِه) أي الميت (على مرّةٍ) واحدةٍ (إن لم يخرجْ منه شيء. فإن خرج) منه شئ (وجب إعادةُ الغسلِ إلى سبعِ) مراتٍ. قال في شرح الإِقناع: لأن المقصود من غسلِ الميتِ أن يكون خاتمةُ أمرِهِ الطهارةَ الكاملةَ، ألا ترى أنّ الموت جرى مجرى زوال العقل؟ ولا فرقَ بين الخارجِ من السبيلين، وغيرهما. (فإن خرج منه) شيءٌ (بعدها) أي السبع غسلاتٍ (حُشِيَ) محلُّ الخارج (بقطنٍ) ليمنع الخارجَ. (فإن لم يستمسكْ) الخارجُ بعد حشوِ

[الشهيد]

محله بالقطن (فـ) إنه يُحشى (بطينٍ حرٍّ) أي خالصٍ، لأن فيه قوةً تمنع الخارج. (ثم يُغْسَل المحل) أي محل النجاسةِ (ويُوَضَّأ) الميتُ (وجوباً)، كالجُنُبِ إذا أحدث بعد غسلِهِ، لتكون طهارةً كاملة (ولا غسلَ) أي لا غسل بعدَ السبعِ واجبٌ. (وإن خرجَ) منه شيء قليلٌ أو كثيرٌ (بعد تكفينه لم يُعِدِ الوضوءَ ولا الغسلَ،) لما في ذلك من المشقة، بالاحتياجِ إلى إخراجِهِ من الكفن، وإعادةِ غسلِه وتطهيرِ أكفانِهِ وتجفيفِها أو إبدالِها، ثمّ لا يؤْمَن أن يخرجَ شيء بعد ذلك. [الشهيد] (وشهيدُ المعركة المقتولُ ظلماً لا يغسلُ) وجوباً (ولا يكفَّنُ، ولا يصلَّى عليه، ويجب بقاء دَمِهِ عليه) إلا أن تخالطه نجاسة، فيغسلا. (ودفْنُهُ في ثيابه) التي قتِل فيها بعد نزعِ آلة الحرب، ونحوِ خفٍّ وفَرْوٍ. (وإن حُمِلَ فأَكَلَ أو شرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطس، أو طال بقاؤه عرفاً، أو قتل وعليه ما يوجب الغسل من نحو جنابةٍ) كغسل حيضٍ ونفاسٍ وإسلامٍ (فهو كغيره) في أنه يغْسَل ويكفَّن ويصلَّى عليه. وإن قتل وعليه حدثٌ أصغرُ لم يوضّأ. (وسِقْطٌ لأربعة أشهرٍ) فأكثر (كالمولود حيًّا) يعني أنه يغسل ويصلى عليه. فائدة: يحرُم سوءُ الظنَّ بمسلمٍ ظاهرِ العدالةِ. قال القاضي وغيره: ويستحبُّ ظنُّ الخير، بالأخِ المسلم. وفي "نهاية المبتدئين" حُسْنُ الظنِّ بأهل الدين حَسَنٌ. وذكر المهدويّ والقرطبيّ عن أكثرِ العلماء: أنه يحرم ظنُّ السوءِ بمن ظاهرُهُ الخير. وأنه لا حرج بظنِّ السوءِ لمن ظاهره

في الكلام على الكفن

الشر. وأما ما روي من حديث "إياكم والظنَّ فإِن الظنَّ أكذب الحديث" (¬1) محمولٌ والله أعلم على الظن المجرّد الذي لم يعضده قرينةٌ تدل على صدقِهِ. (ولا يغسِل مسلمٌ كافراً ولو ذمّياً) سواء كان قريباً أو أجنبيًّا، (ولا يكفِّنُه ولا يصلي عليه) أما تكفينُه فإنه تَوَلٍّ، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وأما الصلاةُ عليه فهي شفاعةٌ للميّت، والكافرُ ليس من أهلها. (ولا يتَّبعُ جنازَتَه) لأن في ذلك تعظيماً له. (بل يُوَارَى لعدم من يواريه) من الكفّار. ولا فرقَ في ذلك بين الذمّيّ، والحربيّ، والمرتدّ، والمستأمِن، لأنّ في تركِهِ سبباً للمُثْلَةِ به، وهي ممنوعةٌ في حقّه، بدليل عموماتِ النهيِ عنها. فصل في الكلام على الكفن (وتكفينُه) أي الميت (فرضُ كفايةٍ) على كل من علم به (والواجب) لحق الله تعالى وحقّه (سترُ جميعِهِ سوى رأسِ المُحْرِمِ، (ووجهِ المحرِمَةِ بثوب) واحدٍ، متعلقٌ بتكفينِهِ إلا يَصِفُ البشَرَةَ) أي سوادَها وبياضَها. (ويجب أن يكون من ملبوسِ مثلِهِ) أي مثل الميت (ما لم يوصِ الميت بدونه) أي بدونِ ملبوسِ مثلِهِ. وُيكْرَه في أعلى من ملبوس مثله. وتكونُ مؤنةُ تجهيزِه من رأسِ ماله مقدَّماً حتى على دينٍ بِرَهْنٍ وأرشِ جنايتِهِ ونحوهما. ¬

_ (¬1) حديث "إياكم والظن ... " رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم (الفتح الكبير).

فإنْ لم يكن له مال فممن تلزَمُه، إلا الزوجَ. إنه لا يلزمه كفَنُ زوجته، ولا مُؤْنَة تجهيزها. ثم من بيت المال، إنْ كان الميِّت مسلماً. ثمَّ إن لم يكن بيتُ مالٍ، أو كانَ وتعذَّر، فَعَلَى كلِّ مسلم عالم به. (والسنّة تكفينُ الرجل في ثلاثِ لفائِفَ بِيضٍ من قطن.) وكره تكفين الرجل في أكثر من ثلاثةِ أثوابٍ، وتعميمُه (¬1)، ظاهرُهُ: وإن وَرِثَهُ غيرُ مكلّف، أو كان عليه دين. (تُبْسَطُ) اللفائفُ الثلاثُ (على بعضها) (¬2) بأن تُبْسَطَ واحدةٌ، ثم أخرى فوقها، ليوضع الميت عليها مرة واحدةً، ولا يُحتاجُ إلى حملِه ووضعِه على واحدةٍ بعدِ واحدة. بعد تَبْخيرها، ويجعل الظاهرة أحسنَها، والحنوطَ فيما بينها. (ويوضع) الميتُ (عليها) أي على اللفائفِ الثلاثِ المبسوطات (مستلقياً) لأنه أمكن لإِدراجِهِ. (ثم يُرَدُّ طرفُ) اللفافَةِ (العليا من الجانبِ الأيسر) أي جانب الميت الأيسَرِ (على شِقِّهِ الأيمنِ، ثم) يرد (طرفها) أي طرف اللفافة (الأيمنَ على) شق الميت (الأيسَرِ، ثم الثانية) تُرَدُّ كذلك، (ثُمَّ الثالثة) ترد (كذلك،) فَيُدْرِجُه فيها إدراجاً. ويجعل أكثر الفاضلِ عند رأسِهِ. ثم تعقدُ. وتُحَلُّ في القبر. (و) تكفَّن (الأنثى) والخنثى (في خمسة أثوابٍ بيضٍ من قطنٍ) استحباباً: (إزارٍ، وخمارٍ، وقميصٍ، ولفافتين) قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهلِ العلم يرى أن تكفين المرأة في خمسة أثواب. (و) يكفَّن (الصبيُّ في ثوب واحد. ويباحُ) أن يكفن الصبيّ (في ¬

_ (¬1) تعميمُه: أي أن يجعل على رأسه عمامة. (¬2) كذا في (ب، ص) وفي (ف):"بعضها على بعض" وهو أصحّ لغةً.

في الصلاة على الميت

ثلاثةٍ) من الثياب، ما لم يرثْهُ غيرُ مكلفٍ من صغيرٍ أو مجنونٍ. (و) تكفَّنُ (الصغيرةُ في قميصٍ ولفافتينِ) استحباباً نصاً، لا خمارَ فيه. فائدة: قال في الإِقناع: قال ابن عقيل: ومن أخرجَ فوقَ العادةِ، فأكثَرَ الطيبَ والحوائجَ، وأعطا المُقْرِئينَ بين يدي الجنازة (¬1)، وأعطى الحمَّالين والحفّارين زيادةً على العادة، على طريق المروءة، لا بقدر الواجب، فمتبرِّع. فإن كان من التَّرِكَةِ فمن نصيبِه. انتهى. قال في شرحه: وكذا ما يعطى لمن يرفع صوتَهُ بالذِّكرِ، وما يُصْرَفُ من طعام ونحوه لياليَ جُمَعٍ، وما يُصْنَعُ في أيامها من البِدَعِ المستحدثة، خصوصاً إذا كان في الورثة قاصِرٌ. انتهى. (ويكره التكفين بشعَرٍ وصوفٍ) لأنه خلاف فعل السلفِ. (و) يكره التكفين (بـ) مُزَعْفَرٍ ومُعَصْفَرٍ (ومنقوشٍ) ولو لامرأة، لأنه غير لائقٍ بحال الميّتِ. (ويحرم) التكفين (بجلْدٍ) لأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بنزع الجلود عن الشهداء، وأن يدفنوهم في ثيابهم. (و) يحرم التكفين (بحريرٍ ومُذَهَّب) في حق الذَّكَرِ والأنثى والخنثى. ويجوز التكفين بالحرير عند عدمِ ثوبٍ واحدٍ يستر جميعَه، لِوجوِبهِ، ولأنّ الضرورة تندفع به. فصل في الصلاةِ على الميّت (والصلاةُ عليه) أي على الميّت حيثُ قلنا يُشرَعُ تغسيلُه (فرضُ ¬

_ (¬1) إعطاء المقرئين لا يكون واجباً. فما أعطاه لهم ينبغي أن يكون المعطي متبرعاً به على كل حال. فقوله لا بقدر الواجب راجع إلى الحمالين والحفارين. ولا تشرع القراءة بين يدي الجنازة عالياً.

كفايةٍ) بقوله - صلى الله عليه وسلم -:"صلُّوا على من قال لا إله إلا الله" (¬1). والأمْرُ للوجوب. وإنما يجب على العالم بالميِّتِ من المسلمين، لأن من لم يعلم معذور. (ويسقط) فرضُ الصلاة على الميت (بـ) صلاةِ واحدٍ (مكلفٍ ولو أنثى) أو خنثى، لأن الصلاةَ على الميت فرضٌ تعلَّق بالواحِدِ، كغسله وتكفينه، ودفنه. (وشروطُها) أي الصلاة على الميت (ثمانية): الأول: (النية؛ و) الثاني: (التكليف؛ و) الثالث: (استقبال القبلة؛ و) الرابع: (ستر العورة؛ و) الخامس: (اجتناب النجاسة) في ثوب المصلي وبدنِهِ وبُقْعَتِهِ؛ (و) السادس: (حضور الميّت) بين يدي المصلي، فلا تصحّ على جنازةٍ محمولةٍ، ولو صلى وهي من وراءِ جدارٍ لم تصح (إن كان بالبلد؛ و) السابع: (إسلام المصلّي والمصلِّى عليه، لأن الصلاة على الميت شفاعةٌ، والكافر لا يستجابُ فيه دعاءٌ؛ (و) الثامن: (طهارتهما) أي المصلي والمصلَّى عليه (ولو بترابِ، لعذر) مثلِ فقدِ الماء. (وأركانُها سبعة) أشياء، قال في المنتهى: "وواجباتها" (¬2): الأول: (القيام) من قادرٍ (في فرضِها)، فلا تصح من قاعد، ولا ممن على راحلة، إلا لعذرٍ فيهما، كبقية الصلواتِ المفروضة. قال في شرح المنتهى: وعلم من قوله: "فرضها" أن الصلاة لو تكررتْ لم يَجبِ القيامُ على من صلَّى على الجنازةِ، بعد أن صلَّى عليها غيْرُه، لسقوط الفرض بالصلاة الأولى. (و) الثاني: (التكبيراتُ الأربعُ) فإن ترك منها غيرُ مسبوقٍ ولو ¬

_ (¬1) حديث "صلوا على من قال لا إله إلا الله .... " رواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم (الفتح الكبير) والدارقطني. وسند الحديث ضعيف جداً (الإرواء 2/ 304) (¬2) أي سماها صاحب المنتهى: واجبات، وهي أركان.

تكبيرةً واحدةً عمداً بطلت صلاتُه، وسهواً يكبر وجوباً، ما لم يطل الفصل. وصحَّتْ. فإن طال، أو وُجِد منافٍ للصلاة استأنف. (و) الثالث: (قراءة الفاتحة) لإِمامٍ ومنفردٍ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ" (¬1) ولأنها صلاةٌ مفروضة، فوجبت القراءة فيها، كالمكتوبة، وُيسَنُّ إسرارُها، ولو ليلاً. (و) الرابع: (الصلاة على) النبيّ (محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -) زاد الأثرم: والسنةُ أن يفعلَ من وراءَ الإِمام مثلَ ما يفعل إمامهم. (و) الخامس: (الدعاءُ للميت.) ويكفي أدنى دعاءٍ له. (و) السادس: (السلام). (و) السابع: (الترتيب) للأركان، فتتعين القراءة في الأُولى، والصلاةُ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في الثانية. صرح به في المستوعِبِ والكافي والتلخيص والبُلْغة. (لكن لا يتعيَّن كونُ الدعاءِ) للميت (في) التكبيرةِ (الثالثةِ) أي بعدها، (بل يجوز) الدعاء للميت (بعد) التكبيرةِ (الرابعة،) نقله الزركشي عن الأصحابِ. (وصفتُها) أي صفة الصلاة على الجِنازة، أن يقومَ إمامٌ عند صدرِ رجلٍ، ووسطِ امرأةٍ، وبين ذلك من خنثى. و (أن ينوي) والأوْلى معرفةُ ذكوريّته وأنوثيّته. ولا يعتبر ذلك. (ثم يكبّر،) ويضَعُ يمينَه على شمالِه، ويتعوّذ، ويبسمل، ولا يستفتح، (ويقرأُ الفاتحةَ) كما سبق (ثم يكبر، ويصلي على محمد) - صلى الله عليه وسلم - (كَفِي التشهُّدِ) ولا يزيد عليه، (ثم يكبِّر، ويدعو للميت) في الثالثةِ سرًّا (بنحو: اللَّهم ارحمه) لأنه لا تحديدَ فيه. ويسنُّ بالمأثور، فيقول: "اللهمّ اغفرْ لحيِّنا، وميِّتنا، وشاهِدِنا، ¬

_ (¬1) حديث "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" متفق عليه (منار السبيل).

وغائِبِنا، وصغيرِنا، وكبيرِنا، وذكرِنا، وأنثانا، إنك تعلم مُتَقَلَّبَنَا، ومثْوانا، وأنت على كل شيء قدير. اللهمّ من أحييته منّا فأحْيِهِ على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفَّهُ على الإيمان. اللهم اغفرْ له، وارحمه، وعافِهِ، واعفُ عنه، وأكرمْ نُزُلَهُ، ووسِّع مُدْخَلَهُ بالماءِ والثلجِ والبَرَدِ، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَسِ، وأبدلْهُ داراً خيراً من دارِهِ، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخْله الجنةَ، وأعِذْهُ من عذابِ القبرِ وعذابِ النارِ، وافسحْ له في قبرِهِ، ونَوِّر ْلَهُ فيه. اللهم إنه عبدك [وابن عبدك] (¬1) وابنُ أَمتِكَ، نَزَلَ بِكَ، وأنْتَ خيرُ منزولٍ به، ولا نعلم إلا خيراً" (¬2). (ثم يكبر) الرابعة، (ويقفُ) بعدها (قليلاً، ويسلم). (وتجزئُ) تسليمةٌ (واحدةٌ، ولو لم يقل ورحمةُ الله). (ويجوز أن يصلِّي على الميت) من فاتته الصلاةُ قبلُ الدفن (مِنْ دَفْنِهِ إلى شهرٍ وشيء) قال القاضي: كاليومِ واليومين. (وتحرم الصلاةُ بعد ذلك) أي بعد الزيادة اليسيرة على الشهر نصَّ عليه، لأنه لم يُتحقَّق بقاؤه بعدَ المدةِ المذكورة. ¬

_ (¬1) زيادة من شرح المنتهى. (¬2) هذا الدعاء للميت في صلاة الجنازة ورد أوله من حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه. وفيه ابن إسحاق. وآخره، من قوله: اللهم اغفر له .. من رواية مسلم من حديث عوف بن مالك. وفي كلا الطرفين زيادة واختلاف (شرح المنتهى).

في حمل الميت ودفنه

فصل في حمل الميت ودفنه (وحملُهُ ودفنُه فرضُ كفايةٍ) وهو إكرام الميت، فإنه لو تُرِكَ لأنْتَنَ وتأَذَّى الناسُ برائحتِهِ، واستُقذِرَ، وربما أكلته الوحوش. (لكن يسقطُ الحملُ والدفنُ والتكفينُ بالكافِر) لأن فاعلَ كلٌّ من ذلك لا يختصُّ أن يكون من أهلِ القربة. (ويكره أخْذُ الأجرةِ على ذلك) أي الحمل والدفن، لأنه يُذْهِبُ الأجر. (و) كذا يكره أخذ الأجرة (على الغسلِ) والتكفينِ. (ويسن كونُ الماشي أمامَ الجنازةِ) قال ابن المنذر: ثبتَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ كانوا يمشونَ أمام الجنازةِ: رواهُ أحمد عن ابن عُمَرَ، ولأنهم شفعاء، والشفيعُ يتقدمُ على المشفوعِ له، ولا يكره خلفَها. (و) سُنَّ كون (الراكبِ) ولو في سفينة (خلفَها) أي الجنازة، بل قال الأوزاعى: إنه أفضل، لأنها متبوعة. ويكره الركوب هنا إلا لحاجة. ولا يكره لِعَوْدٍ (¬1). (والقربُ منها أفضلُ) من البُعْدِ عنها. (ويكره القيامُ لها) إذا جاءتْ أو مرتْ به وهو جالس. (و) يكره (رفع الصوتِ) والصيحةُ (معها) وعند رفعِها، (ولو بالذِّكر والقرآنِ) بل يسن الذكر والقرآن سرًّا. ويسن لمتبعها أن يكون متخشعاً متفكراً في مآله. متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميّت. وقول القائل مع الجنازة: "استغفِروا له" ونحوه، بدعة، عند الإمام أحمد. وكرِهَهُ وحرمه أبو حفصٍ. ويحرم أن يتَّبعها من منكَرٍ وهو عاجزٌ عن إزالته. ¬

_ (¬1) أي عند الرجوع من المقبرة بعد الدفن.

(ويسن أن يعمَّقُ القبرُ ويوسِّع بلا حدّ) لأن تعميقَ القبر أنفى لظهور الرائحة التي يستضِرّ بها الأحياء، وأبعدُ لقدرةِ الوحشِ على نبشه. والتوسعةُ هي الزيادة في الطول والعرضِ، والعُمقُ هو الزيادة في النزول. وهو بالعين المهملة. (ويكفي ما يمنَعُ من السباع والرائِحة) فمتى حصل ذلك حصل المقصود. ولا فرق في ذلك بين قبرِ الرجلِ وقبر المرأةِ. (وكُرِه إدخال القبرِ خشباً) إلا لضرورة. (وما) أي شيء (مسَّه نار) كالآجر، ودفنٌ في تابوتٍ، ولو امرأةً. (و) كره (وضعُ فراشٍ تحته. و) كره (جعلُ مِخَدًةٍ تحت رأسِهِ) نص عليه الإِمام أحمد، لأنه لم ينقل عن أحد من السلف. (وسُنّ قول مُدْخِلِه القبرَ "بسم اللهِ وعلى ملَّة رسولِ اللهِ) - صلى الله عليه وسلم -. (ويجب أن يستقبلَ به) أي بالميت (القبلةَ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة (¬1): "قبلتكم أحياءً وأمواتاً" ولأن ذلك طريقةُ المسلمين بنقل الخلَفِ عن السلَفِ. (ويسن على جنبه الأيمنِ) لأنه يشبه النائمَ، والنائمُ سنّته النوم على جنبه الأيمن، وأن يجعلَ تحتَ رأسِهِ لَبِنةً. (ويحرم دفَنُ غيرِه عليهِ أو معَهُ إلا لضرورةٍ) أو حاجةٍ لكثرةِ الموتى وقلةِ من يدفنهم، خوفَ الفسادِ عليهم. ومتى ظنّ أنه بَلِيَ، وصار رميماً جاز نبشُه ودفن غيرِهِ فيهِ. وإن شكَّ في ذلك رُجِعَ إلى قولِ أهلِ الخبرةِ. فإن حَفَرَ فوجد فيها عظاماً دفنَها مكانَها وأعادَ الترابَ كما كان، ¬

_ (¬1) (ب، ص): بحذف "في"، وإثباتها الصواب كما في (ف)، ولأن لفظ "الكعبة" ليس في الحديث. المشار إليه ونصّه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: "الكبائر تسع: الإشراك بالله ...... واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً" رواه أبو داود والنسائي. وهو حديث حسن (الإِرواء 3/ 155)

[تلقين الميت]

ولم يجزْ دفنُ ميتٍ آخرَ عليه نصًّا. (وسُنَّ) لكل من حضر (أن يحثوَ الترابَ عليهِ) أي على الميت (ثلاثاً) أي ثلاث حَثَيَاتٍ باليد، (ثم يهالُ) عليه التراب، لأنّ مواراتَهُ فرضٌ. وبالحثْيِ يصيرُ ممن شارك فيه، وفي ذلك أقوى عبرةٍ وتذكارٍ، فاستُحب لذلك. [تلقين الميت] (واستَحَبَّ الأكثرُ تلقينَهُ (¬1) بعدَ الدفنِ) فيقوم الملقن عند رأسه بعد تسوية التراب عليه فيقول: "يا فلانُ بن فلانة" ثلاثاً، فإن لم يعرف اسم أُمِّه نَسَبَهُ إلى حوّاء، ثم يقول: "اذكُرْ ما خرجتَ عليهِ من الدنيا: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وأنك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآنِ إماماً، وبالكعبةِ قبلةً، وبالمؤمنين إخواناً، وأنّ الجنة حقّ، وأنّ النار حقّ، وأن البعثَ حقّ، وأن الساعة آتيةُ لا ريبَ فيها، وأن الله يبعثُ من في القبور" (¬2). [صفة القبر وصيانة القبور] (وسن رشُّ القبرِ بالماءِ) ووضع حصاً صغارٍ عليه، ليحفَظَ ترابَه. (و) سن (رفعُه قدرَ شِبرٍ) ليُعْرَفُ أنه قبر فَيُتَوقَّى ويترحَّمُ على صاحبه. ويكره رفعُه فوقَ شبرٍ. ¬

_ (¬1) ذكر ابن تيمية في الاختيارات (ط حامد الفقي ص 88) أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: الاستحباب، والكراهة لأنه بدعة، والإباحة. والقائلون بالكراهة: يقولون: لم يثبت في فعله دليل. والصحيح مما ورد أنه يُدْعى له بالتثبيت عند السؤال. (¬2) لحديث ورد في ذلك عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً. أخرجه أبو بكر عبد العزيز في "الشافي" ولا يعرف عند غيره (شرح المنتهى 1/ 351 والتعليق عليه) وهو ضعيف. كذا (في الإرواء). وفيه: ورواه الطبراني أيضاً.

(ويكره تزويقُهُ، وتجصيصُه، وتبخيرُه، وتقبيلُه، والطوافُ به، والاتِّكاءُ إليه، والمبيتُ) عنده، (والضحكُ عنده) وكتابةُ الرقاعِ إليه، ودسها في الأنقاب، (والحديثُ في أمر الدُّنْيَا. والكتابةُ عليهِ (¬1)، و) يكره (الجلوسُ) عليه، ويكره الوطء عليه (والبناءُ) سواء لاصَقَ البناءُ الأرضَ أوْ لا، ولو في ملكِهِ، من قُبَّةٍ أو غيرها، للنهْيِ عن ذلك. (و) يكره (المشي بالنعلِ، إلا لخوفِ شوكٍ ونحوه) مما يُتَأذّى به، كحرارةِ الأرض. (ويحرم إسراجُ المقابر) لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لعنَ الله زوَّاراتِ القبورِ، والمتخذين عليها المساجد والسرج" (¬2) رواه أبو داود والنسائي بمعناه، ولأنّ في ذلك تضييعاً للمالِ من غير فائدةٍ، ومغالاةً في تعظيمِ الأموات. (و) يحرم (الدفن بالمساجِدِ) ونحوها كَرُبُطٍ. (و) يحرم الدفن (في ملك الغير) ما لم يأذَنْ رَبذُ المِلْكِ في دفنه. (وُينْبَشُ) من دُفِنَ في المسجد نحوِه نصًّا، ومن دُفِنَ في ملكِ الغيرِ بغيرِ إذنِهِ، والأوْلى تركهُ في الثانية. (والدفنُ بالصحراءِ أفضلُ) من الدفن بالعُمْرانِ، لأنه أقلُّ ضرراً على الأحياء من الوَرَثَةِ، وأشْبَهُ بمساكنِ (¬3) الآخرةِ، وأكثرُ للدُّعاءِ له، والترحُّمَ عليه. ¬

_ (¬1) حديث جابر "نهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه" رواه مسلم. وأبو داود والترمذي والحاكم وأحمد. زاد الترمذي والحاكم "وأن يكتب عليه" وصححه في الإرواء بزيادته هذه. قلت: يعارضه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضعه الحجر على قبر عثمان بن مظعون "أُعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي" فإن الكتابة إعلام. (¬2) رواه أبو داود والنسائي. وهو ضعيف (الإرواء ح 761) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه. (¬3) (ب، ص): "مساكن" بحذف الباء، والصواب إثباتها، كما في شرح المنتهى.

[من ماتت وجنينها حي]

[من ماتت وجنينها حي] (وإن ماتت) المرأةُ (الحاملُ) بمن ترجى حياته (حَرُمَ شقُّ بطنِها) من أجل الحمل، مسلمةً كانت أو ذمّيةً، على الأصحّ، لما في ذلك من هَتْكِ حرمةٍ متيقَّنةٍ، لإبقاءِ حياةٍ موهومةٍ، لأن الغالبَ والظاهرَ أنّ الولدَ لا يعيشُ، (وأخْرَجَ (¬1) النساءُ من ترجى حياتُهُ) وهو ما إذا كان يتحرَّكُ حركةً قويّةً، وانتفَخَتِ المَخَارجُ، بعد تمامِ ستَّةِ أشهرٍ، (فإن تعذّر) عليهنَّ إخراجُه (لم تدفنْ) وتُرِكَ حتّى يموت، ولا تدفَنُ قبلَهُ، ولا يوضَعُ عليه ما يموّته، ولو قَدر الرِّجالُ على إخراجه (¬2) (وإن خرج بعضه) أي الحمل (حيًّا شُقَّ) بطنها (للباقي)، لتيقُّنِ حياتِهِ، بعد أن كانت موهومة. فصل في أحكام المصاب والتعزية (تسن تعزيةُ المسلم) ولو صغيراً، قبلَ الدفنِ وبعدَه، وتُكرَهُ لشابةٍ أجنبيةٍ، (إلى ثلاثةِ أيام) بلياليهن، فلا تعزيةَ بعدَها. (فيقال) في التعزية (له) أي لمسلم مصابٍ بمسلم: (أعظمَ اللهُ أجرَكَ، وأحْسَنَ عزاءَكَ، وغَفَرَ لميتك. ويقول هو) أي المصاب: (استجابَ اللهُ دعاءَك، ورَحِمَنَا وإياك.) ¬

_ (¬1) في الأصول "وإخراج" ولا يستقيم الكلام بذلك، فصححناه من المنتهى ومنار السبيل. والمراد: يخرجنه دون شق. (¬2) أي لما فيه من هتك الحرمة. وفي هذا الاجتهاد نظر، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه، في شأن تركِ تكفينه بجديد الثياب "الحيُّ أول بالجديد من الميت." فكيف لا يكون الحيُّ أولى بالإبقاء على حياته من المحافظة على حرمة الميتة؟ ولذلك فشقّ بطنِها عند الضرورة، وإخراج الرجالِ له، جائز إن شاء الله، بل واجب. وإخراجه حينئذ مذهبُ الشافعي، وذكره صاحبُ المغني (2/ 551) احتمالاً.

[البكاء والندب والنياحة]

وكُرِهَ تكرارُها، فلا يعزِّي عند القبر من عزَّى. وإذا رأى الرجلَ قد شقَّ ثوبه على المصيبةِ عزّاه، ولم يتركْ حقًّا لباطلٍ. وإن نهاه فحسَنٌ. [البكاء والندب والنياحة] (ولا بأسَ بالبكاءِ على الميت) قبلَ الموتِ وبعدَهُ لكثرة الأخبارِ بذلك. (ويحرُم النَّدْبُ وهو البكاءُ مع تعدادِ محاسِنِ الميت) بلفظ النداءِ، بـ (وا) مع زيادة الأَلِفِ والهاءِ في آخرِه، كَوَاسَيِّدَاهْ. واخليلاهْ. واانقطاعَ ظهراهْ (¬1). (و) تحرمُ (النياحة)، وهي رفع الصوتِ بذلك بِرَنَّةٍ. ويحرُم شقُّ الثوبِ، ولطمُ الخدّ، والصراخُ، ونتقُ الشعَر، ونَشرُه، وحلْقُه) وفي الفصولِ: يحرم النَّحيبُ، والتَّعْدَادُ، وإظهار الجزَعِ، لأن ذلك يشبه التظلُّم من الظالم، وهو عدْلٌ من الله تعالى. [زيارة القبور] (وتسن زيارة القبورِ للرجالِ.) وأن يقف زائرٌ أمامَه قريباً منه. وتباح زيارة المسلم لقبر كافر. (وتكره) زيارة القبور (للنساءِ،) وإن علمْنَ أنَّه يقعُ منهن محرَّم حرمتْ زيارتهن القبور، قولاً واحداً. (وإن اجتازَتْ المرأةُ بقبرٍ في طريقِها) ولم تكنْ خرجتْ له (فسلمتْ عليه ودعتْ له فحسَنٌ) لأنها لم تخرج لذلك. (وسنّ لمنِ زارَ القبورَ) إذا كان للمسلمين (أو مرّ بها أن يقول) ¬

_ (¬1) في الأصول "بواه .. وانقطاع" فصححناه كما تقتضيه اللغة.

[ابتداء السلام ورده]

معرفاً: (السلامُ عليكُمْ دارَ قومٍ مؤمنينَ إن شاءَ اللهُ بكم للاحقون. ويرحَمُ الله المستقدمينَ منكم والمستأخرين. نسألُ الله لنا ولكم العافيةَ اللهم لا تحرمْنا أجرَهم، ولا تفتِنّا بعدهم، واغفرْ لنا ولهم) فقوله للاحقون للتبرك (¬1). [ابتداء السلام ورده] (وابتداءُ السلامِ على الحيّ سُنّة) ومن جماعةٍ سنة كفايةٍ. والأفضلُ السلامُ من جميعِهِمْ، فلو سلم عليه جماعةٌ، فقال: وعليكم السلام، وقَصَد الرد على الذين سلَّموا عليه جميعاً، جاز ذلك، وسقط الفرضُ في حقٌّ الجميع. ويكرهُ الانحناء. ورفعُ الصوتِ بابتداءِ السلام سنة، ليسمعه المسلَّم عليهم سماعاً محقَّقاً. وإن سلَّم على أيقاظٍ عندهم نيامٌ، أو على من لم يعلم هل هم أيقاظٌ أو نيامٌ، خفَضَ صوته بحيثُ يُسْمِعُ الأيْقاظ ولا يوقظُ النيام. ولو سلم على إنسانٍ، ثم لَقِيَهُ على قربٍ سُنَّ أن يسلّم عليهِ ثانياً وثالثاً وأكثرَ. وسُنَّ أن يبدأ بالسلام قبل كل ّكلامٍ. ولا يتركُ السلامَ إذا كان يغلبُ على ظنِّهِ أن المسلم عليهِ لا يردُّ عليه. وإن دخل على جماعةٍ فيهم علماءُ سلَّم على الكلِّ، ثم يسلم على العلماءِ ثانياً. ¬

_ (¬1) في شرح المنتهى (1/ 360) "وقوله إن شاء الله للتبرك".

[تشميت العاطس]

(وردُّه) فرضُ عينٍ على المسلم عليهِ المنفرد، و (فرضُ كفايةٍ) على الجماعة المسلَّمِ عليهم، فيسقُطُ بردِّ واحدٍ منهم. ويجب الرد فوراً بحيثُ يُعَدُّ جواباً للسلام، وإلا لم يكن ردًّا. ورفع الصوتِ بالردِّ واجبٌ قدر الإبلاغ. وتُزادُ الواو في ردّ السلام وجوباً. ويخيَّر بين تعريفِهِ وتنكيرِه في سلامِه على الحيّ. ويكره أن يسلّم على امرأةٍ أجنبيةٍ إلا أن تكونَ عجوزاً أو بَرْزَةً. ويكره في الحمّام، وعلى آكلٍ، وتالٍ، ومقاتلٍ، وذاكرٍ، وملبٍّ، ومحدِّثٍ، وخطيبٍ، وواعظٍ، وعلى من يسمَعُ لهمْ، ومكرِّرِ فقهٍ، ومدرسٍ، ومن يبحث في العِلْم، وعلى من يؤذّن، أو يقيمُ، وعلى من هو على حاجَتِه، أو يتمتّع بأهْلِهِ، أو مشتغلٍ بالقضاءِ، ونحوهم. ومن سلّم في حالةٍ لا يستحبُّ فيها السّلامُ لم يستحقَّ جواباً. [تشميت العاطس] (وتشميتُ العاطسِ إذا حَمِدَ فرضُ كفاية) فيقولُ له: يرحمك الله، أو: يرحمكم الله. (وردُّه) أي العاطسِ على من شَمَّتَهُ (فرضُ عينٍ) فيقول: "يهديكم الله ويصلحُ بالَكُم". ويكرَهُ أن يشمِّت من لم يحمِدَ، وإن نسيَ لم يذكّره، لكن يعلِّم الصغيرَ ونحوَهُ أن يَحمد. قال الشيخ عبد القادر: ويقال للصبيّ إذا عطَسَ: بورك فيكَ، وجبرك الله (¬1). فإن عَطَسَ ثانياً وحَمِدَ شمَّتَهُ، وإن ¬

_ (¬1) لم يرد في التفريق بين تشميت الصغير وتشميت الكبير نصٌّ مذكور، ولا يقتضيه قياس ولا غيره.

[الميت وعمل الأحياء]

عطس ثالثاً وحَمِدَ شمَّته، وإن عطس رابعاً دَعَا لَه بالعافيةِ، ولا يشمِّت للرابعةِ إلا إذا لم يكن شمَّته قبلها ثلاثاً. فالاعتبار بالتشميتِ، لا بعدَدِ العَطَسات. فلو عطس أكثر من ثلاثٍ متواليات شمّته بعددها (¬1) إذا لم يتقدَّم تشميت. قال في شرح المنظومة: قولاً واحداً. [الميت وعمل الأحياء] (ويعرف الميت زائرَهُ يومِ الجمعةِ قبلَ طلوعِ الشمسِ) وفي الغُنْية: يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد (¬2). (ويتأذى بالمنكرِ عندَه وينتفع بالخير) عنده. ويجب الإيمان بتعذيب الموتى في قبورِهم. ويسنُّ لزائرِ الميتِ فعلُ ما يخفّفُ عن الميت، ولو بجعل جريدةٍ رطبةٍ في القبر. وكلَّ قربةٍ فَعَلَها مسلمٌ وجعَلَ ثوابَها لمسلمٍ حيٍّ أو ميّتٍ حصَل له ثوابُها، ولو جهلَ الجاعلُ من جعلَه لهُ، كالدعاءِ إجماعاً، والاستغفارِ، وواجبٍ تدخله النيابَةُ كالحجِّ، وصدَقةِ التطوّع، وكذا العتقُ، والقراءةُ والصلاةُ، والصيام (¬3). وهل يُشتَرَطُ في إهداءِ القُرْبَةِ إلى الميّتِ أن ينويَه قبل فعلِها؟ به جزم الحلواني، في التبصرة. وإهداءُ القُرَبِ مستَحبٌّ. قال في الفنون: ويستحبُّ إهداؤُها حتَّى للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذا قال صاحب المحرر. ¬

_ (¬1) (ب، ص) بعدها. والتصويب من (ف). (¬2) ورد بذلك حديث واهٍ رواه الضحّاك، ولا يثبت بمثله شرع ولا اعتقاد. (¬3) في ذلك نظر، فإن الأخبار الصحيحة، وردت في الأفعال المتعدية كالحج عن الميت والصدقة عنه، وورد الدعاء له والاستغفار بنص القرآن. أما الصلاة والصيام عنه ونحو ذلك، فلم يرد فيه قرآن أو حديث صحيح فيما نعلم.

[كتاب الزكاة]

باب الزَّكَاة [الزكاة] أحد أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"بُني الإسلامُ على خمسٍ" فذكَرَ منها "وإيتاءُ الزكاة." (¬1) وهي حقٌّ واجبٌ في مالٍ خاص لطائفةٍ مخصوصةٍ بوقتٍ مخصوصٍ. (شرطُ وجوبها) أي الزكاة (خمسةُ أشياءَ): أحدها: الإِسلام، فلا تجبُ على الكافِر، ولو كان) الكافر (مُرْتدًّا) سواءٌ حكَمْنَا ببقاءِ المِلكِ مع الرَّدّة أو زوالِهِ. الثاني: من شروط وجوب الزكاة (الحريّة، فلا تجب) الزكاة (على الرقيق) ولو قلنا: إنه يملك بالتمليك، (ولو) كان (مكاتباً) لأن مِلكَهُ ضعيفٌ لا يحتمِل المواسَاةَ، ولأنّ تعلُّق حاجة المكاتَب إلى فكِّ رقبته من الرَّقِّ بمالِهِ أشدُّ من تعلُّق حاجةِ الحُرّ المفلِسِ بمسكنِهِ وثياب بَذْلَتِهِ، فكان بإسقاط الزكاة منه أولى وأحرى (لكن تجب) الزكاة (على المبعَّض بقدرِ مِلْكِهِ) من مالٍ زكويّ، لأن ملكه عليه تامٌّ، أشبهَ الحرّ. (الثالث) من شروط وجوب الزكاة: (مِلكُ النَّصابٍ) لمسلم حرٍّ. ولا فرق بين بهيمةِ الأنعامِ وغيرها. ولا يشترط كون النصاب تحديداً مطلقاً بل يكون (تقريباً في الأثمانِ) وهي الذهبُ والفِضّةُ وقِيَمُ عُروضِ ¬

_ (¬1) حديثاً بني الإسلام على خمس ... " متفق عليه.

التِّجارة. فتجبُ مع نقصٍ يسيرٍ في النصابِ كالحبّةِ والحبتين، لأن هذا لا ينضَبِطُ غالباً، وكنقصِ الحولِ ساعةً أو ساعتين (و) يشترط كون النصاب (تحديداً في غيرِها) أي غير الأثمان وعروضِ التجارةِ، فلو نقص نصابُ الحبِّ والتمر يسيراً لم تجبْ. وشُرِطَ كونَ النصابِ لغيرِ محجورٍ عليه لِفَلَسٍ. (الرابع) من شروط وجوبِ الزكاة: (الملكُ التامُّ) ولو في غلة موقوفٍ على معيَّنٍ من سائمةٍ سواء كانت من غنمٍ أو غيرِها. (فلا زكاة على السيِّد في دينِ الكتابةِ) لنقصِ مِلكِهِ فيه. ودليل نقصِهِ أنَّه لا يستقرُّ في الذمّةِ بحالٍ لِعدَمِ صِحَّةِ الحَوَالَةِ عليه، وعدم صحة ضمانِهِ. (ولا) زكاةَ أيضاً (في حصَّةِ المضارب قبل القسمةِ) أي قسمةِ المالِ ولو مُلِكَتْ بالظهور، لنقصانِ مِلْكِهِ بعدم استقرارِه، لأنَّهُ وقايةٌ لرأسِ المال، بدليل أنه لو خسرَ المالُ بقدر ما ربح لم يكن للمضاربِ شيءٌ. ويزكِّي رب المال حصَّتَهُ من الربح، كالأصلِ، تبعاً له. (الخامس) من شروط وجوبِ الزكاة: (تمامُ الحول) لأثمانٍ وماشيةٍ وعروضِ تجارةٍ (ولا يضرُّ لو نَقَصَ نصفَ يومٍ) لكن يُسْتَقْبَلُ لصداقٍ وأجرةٍ وعوضِ خُلْعٍ معيَّنينِ، ولو قبلَ قبضٍ، حولٌ مِن عقدٍ. (وتجب) الزكاة (في مال الصغيرِ والمجنونِ.) ولا تجبُ في المال الذي وُقِفَ للجنينِ في إرثٍ أو وصيةٍ وانفصلَ حيًّا، لأنه لا مالَ له ما دام حملاً. واختار ابن حمدانَ الوجوبَ. (وهي) أي الزكاة واجبةٌ (في خمسة أشياء): الأول: (في سائمة بهيمةِ الأنعام) وهي الإِبلُ والبقرُ والغنمُ. سميت بذلك لأنها لا تتكلم.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: (وفي الخارجِ من الأرض). الثالث: ما أشار إليه بقوله: (وفي العسل.) الرابع: ما أشار إليه بقوله: (وفي الأثمان) التي هي الذَّهبُ والفضة. الخامس: ما أشار إليه بقوله: (وفي عروض التجارة) وتأتي. (ويمنع وجوبها) أي الزكاة (دينٌ ينقص النصاب) سواءٌ, كان النصابُ من الأموال الباطنة، كالأثمانِ، وقيمِ عُروضِ التجارةِ، أو من الأموالِ الظاهرةِ كالمواشي والحبوب والثمار، ولو كان الدين كفارةً ونحوَها، أو زكاةَ غنمٍ عن إبلٍ أو غير ذلك من ديون الله تعالى. (ومن مات وعليه زكاةٌ أُخذَتْ من تركته) ولو لم يوصِ بها، كالعشر، لأنها حقٌّ واجب تصح الوصية به، فلم يسقط بالموت، كدين الآدمي.

باب زكاة السائمة

باب زَكاة السَّائمَة وخُصَّتْ السائمةُ بالذّكْرِ للاحتراز عن المعلوفَةِ، فإنها لا زكاةَ فيها عند أكثرِ أهل العلم (تجب فيها) أي السائمة (بثلاثةِ شروط: أحدُها: أن تُتَّخَذَ للدرّ والنَّسْل والتسمين، لا للعمل) فلا زكاة في سائمةٍ للانتفاع بظهرِها، كلالإبل التي تُكرى وتُؤْجَر. (الثاني: أن تَسُومَ أي ترعى المباحَ أكثَرَ الحول.) (الثالث: أن تبلغ نصاباً) ولا شيء فيما دونه إلا إذا كان عروضاً. [نصاب الإبل وزكاتها] (فأقلّ نصابِ الإبل خمسٌ، وفيها شاةٌ) بصفة إبلٍ غيرِ معيبةٍ، وفي المعيبة شاة صحيحةٌ تنقص قيمتُها بقدرِ نقصِ الإبِلِ. (ثم) إن زاد عدد الإبلِ على خمسٍ فإنه يجب (في كل خمسٍ شاةٌ إلى خمس وعشرين فتجبُ بنتُ مخاضٍ، وهي ما تمّ لها سنة) سميت بذلك لأن أُمَّها قد حملت. والماخِضُ الحامل. وليس كونُ أمِّها ماخِضاً شرطاً، وإنما ذُكِرَ للتعريف. (وفي ستٍّ وثلاثين بنتُ لبونٍ، لها سنتان) سميتْ بذلك لأن أمَّها وضعَتْ غالباً فهي ذاتُ لبن.

في نصاب البقر وزكاتها

(وفي ستٍّ وأربعين حِقَّة، لها ثلاث سنين) ودخلتْ في الرابعة، سميتْ بذلك لأنها استحَقَّتْ أن تُرْكَبَ ويُحمَل عليها، وَيطْرقَها الفَحْلُ. (وفي إحدى وستين جَذَعَةٌ) وهي التي (لها أربعُ سنين) سميت بذلك لإسقاط سِنِّها. (و) يجب (في ستٍّ وسبعين بنتاً لَبونٍ) إجماعاً. (وفي إحدى وتسعين حِقتان). (وفي مائةٍ وإحدى وعشرينَ ثلاث بناتِ لبونٍ) لظاهر خبر الصديق (1) (إلى مائةٍ وثلاثينَ، فيستقرُّ في كل أربعينَ بنتُ لبون، وفي كلِّ خمسين حِقّةٌ). (¬1) فصل في نصابِ البقر وزَكاتها و (أقلُّ نصاب البقرِ أهليةً كانَتْ أو وحشيةً) على الأصحِّ من الروايتين في وجوبهَا في الوحشية (ثلاثونَ). (وفيها) أي في الثلاثين (تَبِيعٌ) أو تبيعَةٌ (وهو) أي التبيع (ما له) أي ما تمَّ له (سنةٌ) وكذلك التبيعة. (و) تجب في (أربعينَ) من البقر (مُسِنَّةٌ لها سنتان). (و) يجب (في ستين) من البقر (تبيعانِ). ¬

_ (¬1) وهو حديث طويل فيه عن أنس أن أبا بكر الصديق كتب له حين وجّهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصَّدَقَةِ التي فرضها رسول - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، التي أمر الله بها رسوله، فمنْ سئلها من المسلمين على وجهها فليُعْطِها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربعٍ وعشرين .. الخ. والحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبخاري، وقطعه في مواضع (منار السبيل).

[زكاة الغنم]

(ثم) فيما زاد على ذلك (في كل ثلاثينَ تبيعٌ وفي كل أربعين مُسِنَّةٌ). [زكاة الغنم] وأقلُّ نصابِ الغنم، أهليةً كانت أو وحشيةً، كالظباء (أربعون، وفيها شاةٌ تمَّ لها سنة، أو جذعةُ ضأنٍ) تَمَّ (لها سِتَّةُ أشهر). (و) يجب (في مائةٍ وإحدى وعشرين شاتان، و) يجب (في مائتين وواحدةٍ ثلاثُ شياهٍ، وفي أربعمائةٍ أربع شياهٍ، ثم) فيما زاد على ذلك (في كل مائةٍ شاةٍ شاةٌ) ففي خمسمائةٍ خمسُ شياهٍ، وهكذا. فصل في حكم الخلطة وهي مؤثّرة في الزكاة، ولو لم يبلغ مالُ كل خليطٍ بمفرده نصاباً. (إذا اختلطَ اثنانِ فأكثرُ من أهل الزكاةِ) فلا أثرَ لخلطةِ من ليسَ من أهل الزكاة (في نصاب) فلا أثر لخلطةِ دونِ نصابٍ (ماشيةٍ لهم) أي لأهلِ الزكاةِ اختلاطاً يستغرق (جميع الحوْلِ) سواءٌ كان خلطةَ أعيانٍ، بأن يملكا نصاباً من الماشيةِ مُشَاعاً بإرثٍ أو شراءٍ أو هبةٍ أو جُعالةٍ أو صَداقٍ أو مُخالَعَةٍ أو غيره؛ أو خلطةَ أوصافٍ، بأن يكونُ مال كل منهما متميزاً (واشتركا في المبيتِ والمَسْرحِ) وهو ما تجتَمِعُ فيه الماشيةُ لِتذهبَ إلى المرعى (والمَحْلَبِ) الموضعُ الذي تُحْلَبُ فيه، لا الإناء، (والفحلِ) بأن لا يُخَصَّ بِطَرْقِ أحدِ المالَيْنِ الذي لأحد الشركاء دون مال الآخر (والمرعى) وهو موضعُ الرعْي ووقْتُه (زُكَّيا كالواحِدِ) جوابُ إذا. (ولا تشترط نيةُ الخِلْطَةِ) لصحّتها. (ولا) يعتبر لصحةِ الخلطة (اتحاد المَشْرَبِ) وهو المكان الذي

تشرب منه، (و) لا اتحادُ (الراعي، ولا اتحادُ الفحلِ إن اختلف النوع، كالبقر والجاموس والضّأْنِ والمَعْز) للضرورة. (وقد تفيد الخلطةُ تغليظاً، كاثنين اختلطا بأربعين شاةً، لكل واحدٍ عشرون، فيلزمهما شاة). (و) قد تفيد الخلطةُ (تخفيفاً كثلاثةٍ اختلطوا بمائةٍ وعشرين، شاة لك واحدٍ) منهم (أربعون شاة، فيلزمهم شاةٌ) واحدة. (ولا أثر لتفرقةِ المال) الزكوي (ما لم يكن) المال الزكويّ (سائمةً، فإن كانت) الماشية لشخصٍ من أهل الزكاة (سائمةً بمحلّين بينهما مسافةُ قصرٍ فلكلِّ) محلٍّ (حكْمُ نفسِهِ، فإذا كان له) أي لمالك واحد (شياةٌ بمحالَّ متباعدةٍ، في كل محلٍّ أربعون، فعليهِ شياهٌ بعدد المحالّ، ولا شيءَ عليه إن لم يجتمع له في كل محلٍّ أربعون، ما لم يكن خلطةٌ) فإذا كان لشخص من أهل الزكاة ستون شاةً بثلاثِ محالَّ متباعدةٍ، في كل محل عشرون، ولم تكن خلطة، فلا شيء عليه.

باب زكاة الخارج من الأرض من الزرع والثمار والمعدن والركاز

باب زكَاة الخَارج منَ الأرْض مِنَ الزَّرع والثّمَار والمَعدِنِ والرِّكاز (تجب) الزكاة (في كل مكيلٍ مُدَّخَرٍ) نقله أبو طالب، وكذا نَقَل صالحٌ وعبدُ الله: ما كانَ يكالُ ويُدَّخَر فيه نفع، ففيه العشر. وما كان مثلَ الخِيَارِ والقِثّاء والبَصَل والرِّياحِينِ فليس فيه زكاةٌ إلا أن يُبَاعَ ويحولَ على ثمنِهِ حَوْل. قاله في الفروع. واختاره جماعة. وجزم به آخرون. انتهى. (من الحبِّ كالقمح والشعيرِ والذرة والأَرُزّ والحِمِّص والعَدَس والباقِلاَّ) أي الفول (والكِرْسَنة (¬1) والسِمْسِم والدُّخْنِ والكَراويَا والكُزْبُرَةِ وبِزْرِ القُطْن و) بزر (الكَتّانِ) بفتح الكاف (و) بزر (البَطيخ ونحوه) من الأبازير. (و) تجب في كل ما يكال ويدَّخَرُ (من الثمرِ كالتَّمْرِ والزبيبِ واللَّوز والفُستُق والبُندُق والسُّمَّاقِ). (ولا زكاة في عُنَّابٍ) في الأصحّ، (و) لا في (زَيتونٍ وجَوْزٍ وتينٍ ومِشْمِشٍ) بكسر ميمَيْهِ، (ونَبْقٍ وتُوتٍ وزَعْرورٍ ورمَّانٍ) وخَوْخ وخُضَرٍ كيقطينٍ ولِفْتٍ. (وإنما تجب) الزكاة (فيما تجب) فيه (بشرطين): (الأوّل: أن يبلغ نصاباً وقدرُه) أي النصاب (بعد تصفيةِ الحبّ) ¬

_ (¬1) الكِرْسْنة حبٌّ مكوَّرٌ بحجم العَدَس، يعلف الدوابّ.

من قشره (وجفافِ الثمر، خمسةُ أَوْسُقٍ) لأنها زكاةٌ، فاعتُبِر لها النِّصابُ كسائِر الزكوات. (وهي) أي الخمسة أوسقٍ (ثلاثمائة صاعٍ) لأن الوَسْقَ بفتح الواو وكسرها ستونَ صاعاً إجماعاً لنص الخبر (¬1) (و) قدرُ النصاب (بالأرادِبِّ ستةُ) أرادِبَّ (وربعُ) إردبٍّ تقريباً. (و) قَدْرُ النصاب (بالرِّطل العراقيِّ ألف وستّمائةِ) رطلٍ، (و) قدر النصاب (بـ) الرطل (القُدْسى مائتان وسبعة وخمسون) رطلاً (وسُبْعُ رطل.) وقدر النصاب بالرطل الدِّمشقيّ ثلاثمائة رطلٍ واثنان وأربعون رطلاً وستَّةُ أسباعِ رطلٍ. الشرط (الثاني) من شروط وجوب الزكاة في الخارج من الأرض: (أن يكون) المزكّي (مالكاً لِلنّصابِ وقتَ وجوبها. فوقتُ الوجوب في الحبِّ: إذا اشتد، وفي الثمر: إذا بَدَا صلاحُها) فلا تَجِبُ في مُكْتَسَبِ لَقَّاطٍ وأجرة حَصَّادٍ، ولا فيما يجتنى من المُباحِ كبُطْم وزَعْبَلٍ وهو شعير الجبل، وبِزْرِ قطونا ونحوِه. ولا يشترط لوجوب الزكاة فعل الزرع فيزكي نصاباً حَصَلَ من حبٍّ له سَقَطَ بملكه من الأرْضِ أو سقَطَ في أرضٍ مباحَةٍ، لأنه مِلْكُهُ وقتَ وجوبِ الزكاة. فصل (ويجب فيما) أي في حبٍّ وثَمَرٍ (يُسقى بلا كُلْفَةٍ) كَبعُرُوقِهِ، وغيثٍ، وهو ما يُزْرَعُ على المطر، ولو بإجراءِ ماءِ حفيرة شراهُ ربُّ الزَّرْعِ أو الثمر (العشرُ) فاعل يجب. ¬

_ (¬1) نصُّ الحديث "الوسق ستون صاعاً" قال في المغني 2/ 700: رواه الأثرم عن سلمة بن صخرٍ مرفوعاً، وروى أبو سعيد وجابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك.

[خرص الثمار]

(و) يجب فيما (يُسقى بكلفةٍ) كَدَوَالي [جمْعُ داليةٍ] (¬1) وهي الدولاب تديره البقر، والدلاءِ الصغارِ التي يستقي بها الرجل. وناضحٍ وهو البعيرُ الذي يسقى عليه، والناعورةِ يُديرُها الماء (نصفُ العشر). (ويجب) على رب المال (إخراجُ زكاةِ الحبّ مصفًّى) من سنبله وقشره، (و) إخراجُ (الثَّمَرِ يابساً) ولو احتيجَ إلى قطعِ ما بدا صلاحُهُ قبل كمالِهِ لضعفِ أصلٍ، أو خوفِ عَطَشٍ، أو تحسينِ بقيَّةٍ، أو وَجَبَ قطعُه لكون رُطبِهِ لا يُتْمِر، أو عِنَبِهِ لا يُزَبَّب. (فلو خالَفَ) المالكُ (وأخرج رُطَباً) وعِنَباً وسُنْبُلاً (لم يُجْزِهِ) إخراجُه (ووقعَ نَفْلاً) إن كان الإِخراج للفقراء. فلو كان الآخذ الساعي فإن جفَّفه وصفَّاه وجاء قدرَ الواجِبِ أجزأ، وإلاَّ رَدَّ الفضْلَ إن زاد، وأخذ النقْصَ إن نَقَصَ. وإن كان بحالِهِ بيد الساعي ردَّه، ويطَالِبُهُ بالواجِبِ. وإن تلِفَ بيد الساعي ردَّ بدله لمالكه. [خرص الثمار] (وسن للِإمام بعثُ خارِصٍ لثَمَرَةِ النَّخل والكرْمِ إذا بدا صلاحُها) فيخرِصُها على مُلاّكِها ليتصرفوا فيها، لأنه بالخَرْصِ يعرف الساعي، والمالك قدر ما عليه من الزكاة. والخرص إنما استُعمِل هنا مع كونه إنما يُفِيدُ غلبَةَ الظنِّ للحاجة، فإن التيقُّن متعذِّر. (ويكفي) خارصٌ (واحد) لأنه كحاكمٍ وقائفٍ في تنفيذِ ما يؤدّي إليه اجتهادُه. (وشرط كونه) أي الخارص (مسلماً أميناً) لا يُتَّهم، (خبيراً) بالخَرْصِ، ولو قِنًّا. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها المقام.

[الخراج]

(وأجرته) أي أجرة خارص الثمار (على ربِّ الثمرة.) وإن لم يبعث الإمام خارصاً فعلى مالكِ الثمار فعلُ ما يفعله خارصٌ، ليعرف قدر ما عليه، قبل تصرُّفه. ويجب تركُهُ لرب المال الثلثَ أو الرُّبعَ، فيجتهد بحسَبِ المصلحة. (ويجب عليه) أي الإمام (بعثُ السُّعَاةِ قُرْبَ الوجوبِ لقبضِ زكاةِ المالِ الظاهِر) كالسائمة، والزرع، والثمار. [الخراج] (ويجتمع العُشْرُ والخراجُ في الأرض الخراجية) كأُجرةِ المَتْجَرِ، مع زكاةِ التجارةِ. (وهي) أي الأرض الخراجيّة ثلاثة أضْرُب: أحدها: (ما فُتِحَتْ عَنْوَةً ولَم تقسم بين الغانمين، كمصر والشام، والعراق.) والثانية: ما جَلَا عنها أهلُها خوفاً منًّا. والثالثة: ما صولح أهلُها على أنها لنا ونُقِرَّها معهم بالخراج. ولا زكاةَ على من بيده أرضٌ خراجيّةٌ في قدر الخراج إذا لم يكن له مال آخَرُ يقابِله. (وتضمينُ أموالِ العُشْرِ والأرضِ الخراجيّة باطِلٌ) (¬1). [زكاة العسل] (وفي العَسَلِ العُشْر) سواء أخذه من مِلْكِهِ أو مواتٍ، وسواءٌ كانت ¬

_ (¬1) أي لأنه يقتضي الاقتصار عليه في تملّك ما زاد، وغرم ما نقص. وهذا منافٍ لموضوع الأمانة وحكم العمالة. وفي حديث ابن عمر "القبالات ربا" سماهَا ربًا أي في حكمه في البطلان (ش المنتهى).

[الركاز]

الأرض التي أُخِذَ منها عشريةً أو خَرَاجية. (ونصابه) أي العسل (مائةٌ وستونَ رطلاً عراقيَّةً) وأربعةٌ وثلاثون رطلاً وسبعا رطلٍ دمشقيّ. [الركاز] (وفي الرّكاز وهو الكَنْز) دِفْنُ الجاهلية أو دِفْنُ من تقدم من كُفّارٍ، وكان عليه أو على بعضه علامة كُفْرٍ فقط، وفيهِ (ولو) كان (قليلاً) أي دونَ نصابٍ، أو كان عَرْضاً (الخُمُسُ) على واجِدِهِ من مسلمٍ وذمّيّ، وكبيرٍ وصغيرٍ، وعاقلٍ ومجنون، وحرٍّ ومكاتَب، يُصْرَفُ مصرِف الفيء المطلق. وباقيهِ لواجِدِهِ ولو أجيراً لنقضِ حائطٍ، أو حفر بئرٍ أو نحو ذلك على الأصحّ، لا إن كان أجيراً لِطَلَبِ الركاز فيكون لمستأجِرِهِ. (ولا يَمْنَعُ من وجوِبه) أي الخمس (الدينُ).

باب زكاة الأثمان وهي الذهب والفضة

باب زكاة الأثمَان وَهيَ الذّهَب وَالفضَّة (و) القدر الواجب (فيها ربع العُشْر إذا بلغتْ نصاباً) ولا شيءَ فيها قبله. (فنصاب الذهب بالمثاقيل عشرون مثقالاً) (¬1) وهي بالدراهم الإسلامية ثمانيةٌ وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. (و) قدر النصابِ (بالدنانير خمسةٌ وعشرون) ديناراً (وسُبُعا دينارٍ وتُسْعُ دينارٍ) بالدينار الذي زنته درهمٌ وثُمْنُ درهمٍ على التحديد. (ونصاب الفضة) بالدراهم (مائتا درهم) إسلامية. (والدرهم اثنتا عشرةَ حبَّةَ خروبٍ. والمثقالُ درهم وثلاثة أسباع درهم (¬2). ويُضَمُّ الذهبَ إلى الفضة في تكميلِ النصاب) لأن مقاصِدَهُما وزكاتَهُمَا متَّفقة، ولأن أحدَهُما يضم إلى ما يضم إليه الآخر، فيضمُّ إلى الآخر، كأنواع الجنس. (ويُخْرِجُ من أيّهما شاء) يعني أن من وجب عليه زكاةُ عشرين ¬

_ (¬1) المثقال (4/ 1، 4) غرام بالضبط. وقد وزنت كذلك الدنانير التي وجدت من صدر الإسلام وعهد الدولة الأموية. فيكون نصاب الذهب 85 غراماً بالضبط من الذهب الصافي أو (8/ 1. 97) غراما من الذهب من عيار 21 قيراطاً. (¬2) فيكون وزن الدرهم 2.975 غراماً. ويكون نصاب الفضة 595 غراماً من الفضة الخالصة.

في حلية الرجال والنساء

مثقالاً من الذهب، أجزأ إخراجُ قيمة ربع عشرِها من الفضّة، ومن وجب عليه زكاة مائتي درهم من الفضة أجزأ إخراج قيمة ربع عشرها من الذهب. (ولا زكاة في حُلِيٍّ مباحٍ مُعَدٍّ لاستعمالٍ أو إعارة) لأنه معدول به عن جهة الاسترباح إلى استعمالٍ مباحٍ فأشَبه ثيابَ البذلة، وعبيدَ الخِدمة، والبَقَرَ العوامِلَ، ولو لمن يحرم عليه، كرجلٍ يتّخذ حلىيّ النساء لإعارتهن، أو امرأةٍ تتخذ حلى الرجال لإعارتهم. وإنما لم تجب زكاةُ الحليِّ إذا كان مالكها غير فارٍّ من الزكاة. (وتجب) الزكاةُ (في الحليّ المحرَّم) وآنيةٍ من ذهب أو فضة (وكذا) تجب الزكاة (في) الحليّ (المباحِ المعدِّ للكِراءِ أو النَّفَقَةِ.) قال أحمد ما كان على سَرْجٍ أو لِجَام ففيه الزكاة. قال في شرح المنتهى: وعلى قياسِ ما ذُكِرَ حليةُ كلِّ ما على الدابة، وحلية الدواة، والمِقلَمَةِ، والمُكْحُلَةِ ونحو ذلك. ومحلُّ وجوبِ الزكاة فيهِ إذا اجتمع منه شيء. انتهى. وإنما تجب فيما ذكر (إذا بلغ نصاباً وزناً. وُيخْرجُ عن قِيمتِهِ إن زادَتْ). فصل في حلية الرجال والنساء (وتحرم تحليةُ المسجد بذهبٍ أو فضةٍ) وكذا المحرابُ والسَّقفُ. وتجبُ إزالته وزكاتُهُ، إلا إذا استُهْلِكَ فلم يجتمع منه شيء بالإِزالة، فلا تحرُمُ استدامَتُهُ، لأنه لا فائدة في إتلافه وإزالته. ولا زكاةَ فيهِ لأن ماليَّتَهُ ذهبتْ. ولما وَليَ عمر بن عبد العزيز الخلافَةَ، أراد جَمْعَ

ما في مسجد دمشق، مما مُوِّهَ به من الذهب. فقيل له: إنه لا يجتمع منه شيء، فتركه. (ويباح للذكر الخاتَمُ من الفضة، ولو زادَ على مثقالٍ). (وجَعْلُه بخنصَرِ يسارٍ أفضلُ) من لبسه بخنصر يمنى. وإنما كان في الخنصر لكونها طرفاً، فهو أبعد من الامتهان فيما تتناوله اليد. ويَجْعَلُ فصه مما يلي كفه. وكُرِهَ لبسه بسبابةٍ ووسطى. (وتباح قَبِيعَةُ السيفِ) وهو ما يجعل على طرف القبضة. وقوله: (فقط) لم أرها لغيره. (ولو) كانت القبيعةُ. (من ذهب). (و) يباح له أيضاً (حلية المنطقة) وهي ما شددت به وسطك (و) يباح له أيضاً (الجوشنُ) وهو الدرع (والخوذة) وهي البيضة (لا) حلية (الرِّكابِ، واللِّجام، والدواة،) والسَّرْج، والمِرآةِ، والمُشْطِ، والمُكْحُلَةِ والمَبْخَرَةِ، فتحرم. (ويباح للنساء ما جرت عادتهن بلبسه) كطوقٍ وخَلخالٍ وسوَارٍ ودُمْلُج وقُرْطٍ وقِلَادةٍ وتاج وخَاتمٍ وما أشبه ذلك، قلَّ أو كثر (ولو زاد على ألفِ مثقالٍ). (وللرجل والمرأة التحلّي بالجوهَرِ والياقوت والزبَرْجَدِ) والزُّمُرُّدِ والبَلَخْشِ. قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب. (وكره تختُّمهما) أي الرجل والمرأة (بالحديدِ، والرَّصاصِ، والنُّحاس) وأما الدُّملوج الحديد فجوّزه أبو الخطاب وخالفه ابن الزاغوني. (ويستحب) تختمه (بالعقيق) ذكره في التلخيص، ومشى عليه في المنتهى والمستوعِبِ وابنُ تميم، وقال في الإقناع: ويباح التختم بالعقيق.

باب زكاة العروض

باب زكاَة العرُوض أي عروض التجارة (وهي ما يُعَدُّ للبيع والشراء لأجل الربح) وسمّي عَرْضاً لأنه يَعْرِض ثم يزول ويفنى. (فتقوَّم إذا حال الحول عليها. وأوّلُهُ) أي الحول (من حين بلوغ القيمة نصاباً) فلو نقصت قيمةُ النصاب في بعض الحول، ثم زادت القيمةُ فبلغتْهُ ابتدىء حينئذ كسائر أموال الزكاة. قاله في المبدع. (بالأحظِّ) متعلق بتقوم (للمساكينِ من ذهبٍ أو فضةٍ) لا بما اشتريت به. فلو كانت قيمته تبلغ نصاباً بأحدِ النَّقْدَيْنِ دون الآخر، فإنه يقوَّم بما يبلغ به نصاباً، وتقوَّم المغنيةُ ساذَجَةً، والخَصِيُّ بصفته. (فإن بلغت القيمة نصاباً وجب ربع العشر، وإلا) بأن لم تبلغ القيمة نصاباً (فلا) تجب عليه الزكاة فيها. (وكذا أموال الصيارف) فيما ذكر. (ولا عبرة بقيمةِ) صنعة (آنية الذهب والفضةِ) لتحريمها. وكذا رِكابٌ ولجام ونحو ذلك، (بل) العبرة (بوزنها. ولا) عبرة (بما فيه صناعةٌ محرمة، فيقوَّمُ عارياً عنها) بأن يقوَّمَ الطنبور ونحوه سبيكةً. (ومن) كان (عنده عرضٌ) معد (للتجارة، أو وَرِثَه فنواه للقُنْيَةِ، ثم نواه للتجارة، لم يَصِرْ لها) أي للتجارة، لأن القُنْيَةَ الأصْلُ في العُروض،

[زكاة المعادن]

والرُّد إلى الأصل يكفي فيه مجرّد النية، كما لو نَوَى المسافر الإِقامة. ولأن نيّةَ التجارة شرطٌ لوجوب الزكاة في العُروض، فإذا نوى القُنْيَةَ زالتْ نية التجارةِ، ففاتَ شَرْط الوجوبِ وفارقَتِ السائمةَ إذا نوى عَلْفَها لأن الشرط فيها الإِسامة، دون نيتها، فلا ينتفي الوجوب إلا بانتفاء السوم (بمجرّد النية، غيرَ حليِّ اللبس) لأن الأصل وجوب الزكاة فيه، فإذا نواه للتجارة فقد ردّه إلى الأصل، والرد إلى الأصل يكفي فيه مجرَّد النية. [زكاة المعادن] (وما استُخْرِجَ من المعادن) والمعدِنُ كل متوَلِّدٍ من الأرض لا من جنسها، ولا نبات، كذهب وفضةٍ وجَوْهرٍ وبلور وعقيقٍ وصُفْرٍ ورصاصٍ وحديدٍ وكُحْلٍ وزرنيخٍ ومَغْرَةٍ وكبريتٍ وزِفْتٍ وملحٍ وزئبقٍ ونفطٍ ونحو ذلك (ففيه بمجرَّد إحرازه ربعُ العشر.) ولوجوب الزكاة في المعدن شرطان: أشار للأول بقوله: (إن بلغت القيمة نصاباً بعد السبك والتصفية) كالحبّ والثَّمَر. فلو أخْرَجَ ربع عُشْرِ ترابِهِ قبل تصفيته، وجبَ ردُّه إن كان باقياً، أو قيمتَهَ إن كان تالفاً. والقول في قدر المقبوض قول الآخذ، لأنه غارِم، فإن صفّاه الآخذ فكان قدرَ الزكاةِ أجزأ، وان زادَ ردَّ الزائد إلا أن يَسمَح له بها المُخْرِج. وإن نَقَص فعلى المُخْرِج. والشرط الثاني: كون المُخْرِجِ من أهل الوجوب.

باب [زكاة الفطر]

باب [زكاة الفطر] زكاة الفطر صدقةٌ واجبةٌ بالفطر من رمضانَ. وتسمَّى فَرْضاً. ومصرفها كزكاة. ولا يمنَعُ وجوبَها دينٌ إلا مع طلب. (تجب بأول ليلة العيد، فمن ماتْ أو أَعْسَرَ قبل الغروب) أو طلَّق زوجته، أو أعتق عبده، أو أيْسَرَ النسيب (¬1)، أو انتقلَ المِلْكُ في الرقيق، وكان كله قبل غروب الشمس (فلا زكاةَ عليهِ، و) إن حصل شيءٌ مما ذُكِرَ من موتٍ أو إعسارٍ أو طلاقٍ أو عتقٍ أو نحو ذلك (بعده) أي الغروب، فإن الزكاة (تستقرّ في ذمته). (وهي) أي زكاة الفطر (واجبة على كل مسلم) حرٍّ، ولو من أهل البادية، ومكاتَبٍ ذكرٍ وأنثى، كبيرٍ أو صغيرٍ، ولو يتيماً. ويخرج عنه من مالِهِ وليُّهُ، وسيد مسلِمٌ عن عبدِهِ المسلم، (يجدُ ما يَفْضُلُ عن قوته وقوت عياله يومَ العيد وليلَتَهُ، بعد ما يحتاجه من مسكنٍ وخادم ودابةٍ وثيابِ بذلة) أي ما يُمْتَهَنُ من الثياب في الخدمة ¬

_ (¬1) "النسيب" سقط من (ف)، والصواب إثباته. والمراد: إن أيسر القريب الذي تنفق عليه، قبل الغروب، فليس عليك فطرته، بل عليه هو.

(وكُتُبِ عِلْمٍ) يحتاجها لِنَظَرٍ وحفظٍ، وحلى المرأةِ لِلُبْسِها، أو لكراءٍ تحتاج إليه. (وتلزمُه) أي وتلزَمُ من تلزَمُهُ الفطرةُ (عن نفسهِ وعمن يمونُه من المسلمين) كولدهِ، وزوجته، وعبدِهِ، ولو للتجارة. فيجتمعُ في عبيدِ التجارة زكاةُ القيمةِ وزكاةُ الفطرِ. نصَّ عليه، حتى زوجةُ عبده الحرة. (فإن لم يجد) من عنده عائلةٌ فطرةً تكفي (لجميعهم بدأ بنفسه) لأن الفطرة تنبني على النفقة، فكما أنه يبدأُ بنفسِهِ في النفقة، فكذلك في الفُطْرَةِ؛ (فزوجتِهِ) يعني أنه متى فضل عنده صاعٌ عن فطرة نفسِهِ أخرجه عن زوجتِهِ، لأن نفقتَها مقدَّمةٌ على سائر النفقات، ولأنها تجب على سبيلِ المعاوَضَةِ مع اليسارِ والإعسار، فَقُدِّمتْ لذلك. (فرقيقِهِ) يعني أنه متى فَضَلَ عنده شيء عن فطرته وفطرةِ زوجته أخرجَهُ عن رقيقه، لوجوب نفقتِهِ مع الإِعسار، بخلاف نفقة الأقارب، فإنها صلةٌ لا تجب إلا مع اليسار؛ (فأمِّهِ) يعني أنه متى فَضَلَ عنده شيءٌ بعد من تقدم أخرجه عن أُمِّهِ لأن الأم مقدَّمةٌ في البِرِّ، بدليلِ الحديث الشريف (¬1)؛ (فأبيهِ) بعد أُمِّهِ, (فولَدهِ) يعني أنّه متى فَضَلَ شيءٌ بعد من تقدّم أخرجه عن ولده، فإن كان له أولادٌ ولم يكف لجميعهم أقْرَعَ؛ (فأقربَ في الميراثِ) يعني أنه متى فضل شيء عنده بعد من تقدم، وله أقارب، قُدم الأقربُ فالأقربُ من ميراثٍ، لأن الأقرب أولى من الأبعد، فقُدِّم، كالميراث. (وتجب) الفُطْرَةُ (على من تبرع بمؤنةِ شخصٍ شهرَ رمضانَ) لا أكثر، و (لا) تجب (على من استأجَرَ أجيراً) أو ظئراً (بطعامهِ) أو شرابه (¬2) ¬

_ (¬1) المشهور الوارد بألفاظ مختلفة منها، أن رجلاً قال يا رسول الله من أبَرُّ؟ فقال "أمَّك ثم أمَّك ثم أمَّك ثم أباك ... الحديث". (¬2) قوله "أو شرابه" ساقط من (ف)، ولعل سقوطها أوجه.

[إخراج زكاة الفطر]

لأن الواجب هاهنا أجرة تعتمد الشَّرْطَ في العقد، فلا يزادُ عليهما، كما لو كانت دراهم. (وتسنّ) الفُطْرَةُ (عن الجنينِ.) ولا تجب لمن نفقته في بيت المال، كاللقيط. فصل [إخراج زكاة الفطر] (والأفضل إخراجُها) أي زكاة الفطرة (يومَ العيد، قبلَ الصلاة) أي قبل مضيّ قدر الصلاة. (ويكره) إخراجها (بعدها) أي الصلاة في يومه. (ويحرم تأخيرُها) أي الفطرة (عن يوم العيد مع القدرة. ويقضيها). (وتجزئ قبل العيد بيومين) ولا تجزئ قبلهما. ومن عليهِ فُطْرَةُ غيرِهِ كزوجته وعبدهِ وولدِهِ أخرجها مع فُطْرَتِهِ مكانَ نَفْسِهِ (¬1)، لأن الفطرة سبب وجوب الزكاة، فَفُرِّقَتْ في البلد الذي وجد سببها وهو فيه (¬2). (والواجب) في الفطرة (عن كل شخصٍ صاعُ تمرٍ، أو بُرٍّ، أو زبيبٍ، أو شعيرٍ، أو أَقِطٍ،) وهو شيءٌ يُعْمَل من اللَّبنِ المخيضِ، وقيل من لَبَنِ الإبل فقط، أو صاعٌ مجموعٌ من الخمسة المذكورة. (ويجزئ دقيق البُرِّ، و) دقيق (الشعير،) وسَوِيقُهُمَا (¬3) (إن كان) ¬

_ (¬1) أي في المكان الذي هو فيه. (¬2) في الأصول "لأن الفطرة سبب ... الخ" والصواب "لأن الفطر" كما في شرح المنتهى. ونصه "لأن الفطر السبب، لتعدد الواجب بتعدّده" وتعليله أوضح. (¬3) السَّوِيقُ، قال في اللسان: معروف، وقال في القاموس: معلوم، وليتهما فَسَّراه، فلم بعد معروفاً ولا معلوماً!! واستعمالاته توحي بأنه الحبّ إذا شُويَ ثم طُحن.

دقيقُ البرِّ والشعيرِ، والسويقُ (وزنَ الحبّ)، قال في الإِقناع وشرحه: وصاعُ الدقيقِ يعتبرُ بوزنِ حبِّه. نصّ عليه. انتهى، ولو بلا نخلٍ، كَبِلاَ تنقيةٍ، لا خبزٌ، ومعيبٌ كَمُسَوِّسٍ، ومبلولٍ وقديمٍ تغيَّر طعمه، ولا مختلطٌ بكثير مما لا يجزئ كالقمحِ المختلط بكثير الزوان (¬1). (ويُخْرج مع عدم ذلك) أي عدم الأصنافِ الخمسةِ (ما يقومُ مقامَهُ) أي مقامَ أحدِهَا (من حبٍّ يُقْتاتَ كذرةٍ ودُخْنٍ وباقِلاً) وأرزٍّ وعدس وتينٍ يابس. وقال ابن حامد: يجزئه إخراج كلِّ ما يُقْتَاتُ من لبنٍ ولحمٍ. (ويجوز أن تعطيَ الجماعةُ فطرتَهم لواحدٍ، و) يجوز (أن يعطي الواحِدُ فُطْرَتَهُ لجماعةٍ). (ولا يجزئ إخراجُ القيمة في الزكاةِ مطلقاً) سواء في المواشي أو المعشَّراتِ. (ويحرم على الشخص شراءُ زكاتِهِ وصدَقتِهِ، ولو اشتراها من غَيْرِ من أخَذَهَا منه.) وإن رجعتْ إليه بإرثٍ أو هبةٍ أو وصيةٍ، أو ردَّها له الإمام بعد قبضِها مِنْهُ، لكونِهِ من أهلها، جاز. ¬

_ (¬1) الزَّوانُ، والزُّؤانُ، مثلث الزايِ في كليهما (كما في القاموس) وهو حب أصيفر أخيضر خبيث ينبت مع البرّ فيخالطه، يرمى به قبل أن يُطْحَنَ البُرّ.

باب إخراج الزكاة بعد استقرارها

باب إخرَاج الزكاةِ بَعْد استقرارهَا (يجب إخراجُها فوراً) أي من غيرِ تأخيرٍ إلا في صُوَرٍ تأتي (كـ) وجوبِ الفوريَّةِ في (النذرِ) المطلق (والكفارةِ)، لأن الأمْرَ المُطْلَقَ في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} يقتضي الفورية. (ومحلُّ الفوريَّةِ إن أمكنَ الإخراجُ، ولم يخف ضرراً على نفسِهِ أو مالِهِ أو معيشَتِهِ أو نحوِ ذلك. (وله تأخيرُها لِزَمَنِ الحاجة، و) له تأخيرُها أيضاً لقريبٍ وجارٍ.) قال في الإنصاف: ويجوز أيضاً التأخير لقريبٍ وجارٍ. قَدمهُ في الفروع. قال: وجزمَ به جماعة. ويجوز أيضاً التأخير للجارِ كالقريبِ. جزَمَ به في الحاويين. (و) يجوزُ تأخيرُها أيضاً (لتعذُّرِ إخراجها من النصابِ) لغيبةٍ وغيرِها إلى قُدْرَتِهِ عليه، (ولو قَدِرَ أن يخرجها من غيره) لأن الأصل الإخراجُ من عَيْنِ المال المخرج عنه، والإخراجُ من غيرِه رُخصَةٌ، ولا تنقلب الرخصة تضييقاً. (ومن جَحَدَ وجوبَها) أي الزكاة، (عالماً) بالوجوب، أو جاهلاً به لكَوْنهِ (¬1) قريبَ عهدٍ بالإسلام وعُرِّفَ، فَعَلِمَ وأصرَّ على الجحود عناداً، فقد (كفر) لأنه مكذِّبٌ لله ورسوله. ¬

_ (¬1) في الأصول: ككونهِ. والتصويب من شرح المنتهى.

وتجرى عليه أحكام المرتدين، بأن يُسْتَتَابَ ثلاثاً. فإن تابَ وإلا قُتِلَ كُفْراً، حتى (ولو أخرجَها) مع جُحُودهِ لأن أدلة الوجوبِ ظاهرةٌ في الكتاب والسنة والإجماع. وتؤخَذُ منْهُ إن كانت وجبت. (ومن مَنَعَها) أي الزكاة (بخلاً) بها (أو تهاوناً) من غيرِ أن يجحدَها (أُخِذَتْ منه) قهراً، كدين الآدمي، وكما يؤخذ منه العشر، (وعُزِّرَ) أي عَزَّرَ إمامٌ عادلٌ من عَلِمَ تحريمَ مَنْعِها. (ومن) طولب بالزكاة و (ادَّعى إخراجَها) لمستحقها صُدِّقَ بلا يمينٍ، (أو) ادعى (بقاءَ الحولِ) أيْ أنَّه لم يُحُلِ الحوْلُ على ماله، (أو) ادعى (نَقْصَ النِّصابِ، أو) ادعى (زوالَ المِلْكِ) عن النصاب في أثناء الحول، أو تَجَدُّدَهُ قريباً، أو أن ما بيده لغيره، ونحوِ ذلك، مما يَمْنَعُ وجوبَ الزكاةِ أو نقصانَها (صُدِّقَ بلا يمين) لأنها عبادةٌ مؤتمن عليهَا فلا يُسْتَحْلَفُ، كالصلاةِ والكفارةِ، بخلاف الوصيةِ للفقراء بمالٍ، فيحلَّف. (ويلزم أن يخرج عن الصغيرِ والمجنونِ وليُّهما) في مالِهِما، كما يجب عليه صرف النفقةِ الواجبةِ لأن ذلك حقٌّ تدخله النيابة، فقام الوليُّ فيه مقامَ المولَّى عليهِ، كالنفقات، والغَراماتِ. ومحلُّ ذلك إذا كان كلٌّ من الصغيرِ والمجنونِ حرًّا مسلماً تامَّ الملك. (وسنَّ) لمخرج الزكاة (إظهارها). (و) سنَّ أيضاً (أن يفرِّقها ربُّها) أي ربُّ الزكاة (بنفسِهِ) ليكونَ على يقين من وصولها إلى مستحقِّها وسواء كانت من الأَمْوالِ الظاهرةِ أو الباطِنَةِ. (و) سن أن (يقول) رب المال (عند دفعها) أي دفع الزكاة لمستحقها: (اللهمَّ أجعلها مغنماً ولا تجعلها مَغْرَماً)، ويحمد الله تعالى على توفيقِهِ لإِدائِها. ومعناه: اللهم اجعلْها مَثْمَرَةً لا مَنْقَصَةً.

في النية في الزكاة

(و) سن أن (يقول الآخذ للزكاة: آجَرَكَ اللهُ فيما أعطيتَ وبارَكَ لك فيما أبقيتَ وجعله لكَ طهوراً) لأنه مأمورٌ بالدعاء. فصل في النية في الزكاة (ويشترط لإخراجها) أي الزكاةِ (نيَّةٌ من مكلَّفٍ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" ومحلُّها القلبُ، لأنه محل الاعتقاداتِ كلِّها، إلا أنْ تؤخذَ قهراً فإنها تجزئ من غير نية. (وله تقديمُها) أي النية (بيسير). (والأفضل قَرْنُها) أي النية (بالدفع، فينوي الزكاة، أو الصدقةَ الواجبةَ،) أو صدقةَ المال، أو صدقَةَ الفِطْر. (ولا يجزئ أن ينوي صدقةً مطلقةً، ولو تصدَّق بجميع ماله) فإنها لا تجزئ عن الفرض. (ولا تجب نيَّة الفرضية) لاكتفائه بنية الزكاة، فإنها لا تكون إلا فرضاً. (ولا) يجب أيضاً (تعيينُ المال المزكّى عنه) على المذهب. وفي تعليقِ القاضي وجه: يُعتبَر نية التعيينِ إذا اختلفَ المالُ، مثلَ شاةٍ عن خمسٍ من الإبلِ، وأخرى عن أربعين من الغنم. (وإن وكّل) ربُّ المال (في إخراجِهَا مسلماً) ثقةً نصًّا، مكلَّفاً ذَكَراً، أو أنثى (أجزأت نية الموكِّل) فقط، (مع قُرْبِ زَمَنِ الإِخراج) من زمن التوكيل، لأن الموكِّل هو الذي عليه الفرض، وتأخيرُ الأداءِ عن النية بالزمنِ اليسيرِ جائز، (وإلا) بأن لم يَقْرُبْ زَمَنُ الإخراج من زمن التوكيل (نوى) الموكِّل مع (¬1) (الوكيل أيضاً) لئلا يَخْلوَ الدفع إلى المستحق عن ¬

_ (¬1) صوابه أن يقول "مع الموكّل"، ليكون التعليلُ مستقيماً وبذلك يوافق ما في شرح =

[نقل الزكاة من بلدها]

نيةٍ مقارنةٍ أو مقاربةٍ، ولو نوى الوكيلُ دون الموكِّل لم تجزئ. [نقل الزكاة من بلدها] (والأفضل جَعْلُ زكاةِ كل مالٍ في فقراءِ بلده) ويجوز نقلُها إلى دونِ مسافةِ قصرٍ من بلدِ المال، نص عليه، لأنه في حكم بلدٍ واحدٍ، بدليل الأحكام. (ويحرم نقلُها إلى مسافةِ قصرٍ) سواء كان النقلُ لِرَحِمٍ، أو شدّةِ حاجةٍ، أو ثغرٍ، أو غيرِ ذلك، حيثُ كان ببلدِ الوجوبِ مُسْتحِقٌّ، لأن فقراءَ أهلِ كل مكانٍ إنما يَعْلَمُ بهم غالباً أهلُهُ ومن قَرُبَ منهم، وأطماعُهُمْ تتعلَّق بزكاةِ مالِ البلدِ، ولهم حُرْمَةَ قُرْبِ الدار، فَمُنِعَ من النقل، ليستغْنُوا بها غالباً. (وتجزئُ) يعني أنه متى نَقَلَ الزكاةَ مع الحرمة، وأخرجها في غير بلد المال، فإنها تجزئه على الأصل. [تعجيل الزكاة] (ويصح تعجيل الزكاة لحولين) على الأصح (فقط) لا لأكثرَ من حولين. ومحلُّ جوازِ التعجيل (إذا كمل النصاب) لأنه سببها، فلم يجز تقديمُها عليهِ، كالتَّكْفيرِ قبلَ الحَلِفِ (لا منه) أي النصاب (لحولين) (¬2) وقد علم منه أنه إذا أخرج للحول الأول أنه يصح التعجيل. (فإن تلف النصابُ) المعجَّل زكاته (أو نَقَصَ) قبل الحول (وقع نفلاً.) وإن مات قابضُ زكاةٍ معجلةٍ، أو استغنى قبل مضيِّ الحول أجزأتِ الزكاةُ عمن عجَّلها. ¬

_ = المنتهى. ولم نغير لأن النسخ متفقة، فلعله سهوٌ من الشارح رحمه الله تعالى. ثم رأيت الشيخ (عبد الغني) استشكل عبارة الشارح أيضاً. (¬2) أي كمن له أربعون شاة، عجّلَ شاتين منها زكاة عامين مقبلين، فلا يصح إلا عن عام واحدٍ، لأن النصاب ينقص بهما. فإن كان الإخراج من غير الأربعبن جاز.

باب أهل الزكاة

باب أهل الزّكاة (وهم ثمانية) أصنافٍ لا يجوز صرفها إلى غيرهم، من بناءِ المساجِد والقناطِر، وسد البُثُوقِ (¬1)، وتكفين الموتى، ووقْفِ المصاحِفِ، وغيرِ ذلكَ من جهاتِ الخير، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية. (الأول: الفقير، وهو من لم يجدْ) شيئاً، ألبتة، أو لم يجد (نصف كفايته،) وهو أشدُّ حاجةً من المسكين. (الثاني: المسكين، وهو من يَجِدُ نِصْفَها) أي نصفَ كفايته (أو أكثرَها) أي أكثَرَ الكفاية. (الثالث: العاملُ عليها) لقوله تعالى: (وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا) وهم السعاةُ الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة من أربابها (كَجَابٍ، وحافِظٍ، وكاتِبٍ، وقاسِم،) وكلِّ من يُحتاج إليه فيها. وشُرِطَ كون العامِل عليها مكلِّفاً، مسلماً، أميناً، كافياً، من غير ذوي القربى. (الرابع: المؤلَّفُ) لقوله عز وجل: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، (و) ¬

_ (¬1) (ب، ص) سدّ الثغور.

المؤلَّفُ (هو السَّيِّد المُطاعُ في عشيرته، ممن يُرجى إسلامُهُ، أو يُخْشَى شره، أو يرجى بعطيته قوةُ إيمانه، أو) إسلام نظيرِهِ، أو من أجل (جبايتها) أي جباية الزكاة (ممن لا يُعْطيها،) وهم قومٌ إذا أُعْطُوا من الزكاة جَبَوْهَا ممن لا يعطيها إلا بالتَّخْويفِ، أو مِنْ أجلِ دفعٍ عن المسلمين. (الخامس: المكاتَبُ) ولو قبل حلول نجم، ويجزئ أن يشتريَ منها رقبةً لا تَعْتَقُ عليه برحِمٍ، ولا تعليقٍ، فيعتقُها، وأن يفديَ بها أسيراً مسلماً، لا أن يُعْتِقَ قِنَّهُ أو مكاتَبَهُ عنها. (السادس: الغارم) من المسلمين (وهو) ضربان: الأول: (من تدين للإصلاح بين الناس) أو تحمل إتلافاً أو نهباً عن غيره، ولم يدفعْ من ماله ما تحمَّله. والضرب الثاني مِنْ صِنْفَ الغارم، ما أشار إليه بقوله: (أو تديَّنَ لنفسِهِ) أي لإصلاح نفسِه في أمرٍ مباح، أو محرّمٍ وتاب منه، (وأَعْسَر). قال في الفروع: ومن غَرِمَ في معصيةٍ لم يُدْفَعْ إليه شيء، فإن تابَ دُفِعَ إليه في الأصحّ. (السابع: المغازي في سبيل الله) لقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (بلا ديوانٍ،) أو لا يكفيه. (الثامن: ابنُ السبيل) لقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} (وهو الغريب المنقطع بمحلٍّ غير بَلَده) في سفرٍ مباحٍ، أو محرَّمٍ وتابَ منه، لا مكروهٍ وَنُزْهَةٍ. (فيعطى للجميعِ منَ الزكاةِ بقَدْرِ الحاجَةِ) فيعطى الفقيرُ والمسكينُ من الزكاةِ تمامَ كفاييهِما مع عائِلَتِهِمَا سنةً. ويعطى المؤلَّفُ منها ما يحصُل به التأليف، ويعطى المكاتَبُ ما يقضي به ديْنَه، ولو مع قوّته وقدرتِهِ على التكسُّب.

[فيمن لا يصح دفع الزكاة إليه]

ويعطى الغارِمُ ما يفي به دينَهُ، ويعطى المغازي ما يحتاج إليه لغَزْوِهِ من سلاحٍ، وفَرَسٍ، إنْ كانَ فارساً. وحمولَتَهُ، وجميعَ ما يحتاجُه له ولعَودِهِ. ويعطى ابن السبيلِ، ولو وَجَدَ مقرضاً ما يبلغُهُ بلدَهُ، ولو كانَ له اليسارُ في بلده؛ (إلا العامل، فيعطى بقدر أجرتِهِ) منها (ولو كانَ غنيًّا أو قِنًّا) إلا إن تَلِفَتْ بيدِهِ بلا تفريطٍ فيه، فإنه يعطى أجرتَهُ من بيتِ المالِ. ويستحبُّ صرفُها في الأصنافِ الثمانية كلِّها. (ويجزئ دفعُها إلى الخوارجِ والبغاةِ. وكذلك من أَخذَهَا من السلاطينِ قهراً أو اختياراً، عَدَل فيها أو جار.) فصل [فيمن لا يصح دفع الزكاة إليه] (ولا يجزئ دفعُ الزكاة للكافِر) غير المؤلفِ. (ولا) يجزئُ دفعها (للرقيقِ) غيرِ العاملِ والمكاتَب. (ولا) يجزئُ دفع الزكاة (للغنيِّ بمالٍ أَو كسبٍ، ولا لمن تلزمه) أي المخرج (نفقتُهُ) كعتيقِهِ، ما لم يكنْ عاملاً، أو غازياً، أو مؤلَّفاً، أو مكاتَباً، أو ابنَ سبيلٍ، أو غارماً لإصلاح ذات بين (ولا للزوج) (¬1) لأنها تعود إليها بإنفاقه عليها. (ولا) يجزئ دفع الزكاة (لبني هاشم) وهم سلالة هاشمٍ، ¬

_ (¬1) في (ف): (ولا لزوجٍ) لها؛ وفي (ب، ص): (ولا للروج) ولا لها. وكل ذلك يختلُّ به المعنى. فحذفنا. والمعنى: لا يجوز للمرأة دفع زكاتها إلى زوجها .. ؛ وفي وجه ذكره في منار السبيل: يجوز، للدليل الوارد.

[حكم من دفع الزكاة لغير أهلها]

فيدخل آلُ عباسٍ، وآل عليٍّ، وآلُ جَعْفَرٍ، وآلُ عقيلٍ، وآل الحارثِ بنِ عبد المطلب، وآلُ أبي لهبٍ، ما لم يكونوا غزاةً، أو مؤلَّفةً، أو غارمين لِإصلاح ذات البين. وكذا مواليهم. [حكم من دفع الزكاة لغير أهلها] (فإن دفعها) أي دفع الزكاةَ ربُّ المالِ (لغير مستحِقِّها وهو يَجْهَل) عدم استحقاقِهِ، كما لو دَفَعها لعبدٍ أو هاشميٍّ، أو لأبيه، ونحو ذلك، (ثُمَّ عَلِمَ) حقيقةَ الحالِ (لم يجزئْهُ) لأنه ليس بمستحقٍّ، ولا يخفى حالُهُ غالباً، فلم يُعْذَرْ بجهالَتِهِ، كدين الآدمي. (ويستردُّها) ربها (منه) أي ممن أخذها (بنمائها) سواء كان متصلاً كالسِّمَنِ، أو منفصلاً كالولد، لأنَّه نماءُ ملكِه. وإن تلفت الزكاة في يد القابِضِ ضَمِنَها، لعَدَمِ ملكِهِ لها. (وإن دَفَعها لمن يظنُّه فقيراً فبان غنيًّا أجزأ.) وإن دفع صدقة التطوّع إلى غنيٍّ وهو لا يعلم غناهُ لم يرجعْ، لأن المقصود الثواب. (وسن أن يفرق الزكاة على أقارِبِهِ الذين لا تلزمه نفقتهم) كخالٍ وخالةٍ (على قدر حاجَتِهِمْ) فيزيد ذَا الحاجةِ منهُمْ على قدرِ حاجتِهِ، فإن استوَوْا في الحاجَةِ وتفاوتوا في القرب، بدأ بالأقرب فالأقرب منهم. (و) له تفرقة مالِهِ (¬1) (على ذوي أرحامِهِ كعمَّتِهِ وبنتِ أخيه) هذا تكرار مع ما قبله. (وتجزئُ) الزكاة (إن دفعها) ربها (لمن تبرَّع بنفَقَتِهِ بضمِّهِ إلى عيالِهِ) كيتيمٍ أجنبي. ¬

_ (¬1) يعني زكاة ماله.

[في صدقة التطوع]

فصل [في صدقة التطوع] (وتسن صدقة التطوُّع) لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وعن أنس بن مالكٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الصدقةَ لتطفئُ غَضَبَ الربِّ وتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوء" رواه الترمذي (¬1). (في كل وقتٍ، لا سيما سِراً،) وبطيبِ نفسٍ، وفي الصِّحَّة أفضلُ. (و) كونُهَا (في الزمانِ) الفاضِلِ كالعَشْرِ، (و) في (المكانِ الفاضِلِ) كالحرمين، أفضلُ. (و) كون صدقة التطوُّع (على جارِهِ وذوي رَحمهِ) لا سيّما مع عداوةٍ (فهي) أي الصدقة على ذوي أرحامِهِ (صدقَةٌ وَصِلَةٌ) وهي أفضل من الصدقة على غير الجار وغير ذوي الأرحام، لقوله جل من قائلٍ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}. (ومن تصدَّق بما ينقصُ مؤنةٌ تلزمه) أي مؤنةُ من تلزمَهُ مؤنته، (أو أضر بنفسِهِ أو غريمهِ) أو كفيلِهِ بسبب صدقتِهِ (أَثِمَ بذلك،) أي بما يضرّ بواحدٍ ممن ذكر. (وكره لمن لا صبر له) على الضيق، (أو لا عادةَ له على الضيق، أن ينقُص نفسه عن الكفاية التامة) نصّ عليه. وظهر من ذلك أن الفقيرَ لا يقترضُ ليتصدَّقَ بما يقترضُه. لكن نصَّ أحمدُ في فقيرٍ لقريبِهِ وليمة: يستقرضُ ويهدي له. وهو محمول على ما ¬

_ (¬1) حديث الترمذي "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب ... " رواه الترمذي في كتاب الزكاة من سننه.

إذا ظن وفاءٌ. ذكره في المبدع. قال في الفروع: قال شيخنا: فيه صلةُ الرحم بالقَرْضِ. وقد ذكر ابن عقيلٍ في مواضع: أُقْسِمُ بالله لو عَبَسَ الزمانُ في وجهِكَ مرةً، لعبَسَ في وجهك أهلُكَ وجيرانُك. ثم حث على إمساكِ المالِ. وذكر ابن الجوزيّ في كتاب "السرِّ المصونِ" أن الأوْلى أن يدّخر لحاجةٍ تعرِضُ. قال بِشْرٌ الحافي: "لو أن لي دجاجةً أعولُها خِفْتُ أن أكون عَشّاراً على الجسر". وقال الثوري: "من كان بيده مال فليجعلْهُ في قَرْنِ ثورٍ، فإنه زمانٌ من احتاج فيه كانَ أولَ ما يبذُلُ دينَهُ". (والمنّ بالصدقةِ كبيرةٌ) والكبيرةُ ما فيه حدٌّ في الدُّنْيا أو وعيد في الآخرة (¬1). (ويبطل به) أي بالمنّ (الثواب) قال ربنا عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}. ¬

_ (¬1) وقد ورد في المنّ الوعيد في الآخرة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنانُ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" رواه مسلم وأبو داود.

كتاب الصيام

كتَاب الصِّيَام وهو إمساكٌ مخصوصٌ من شخصٍ مخصوصٍ في وقت مخصوصٍ عن أشياءَ مخصوصةٍ. (يجب صومُ) شهرِ (رمضانَ برؤيةِ هلالِه.) ويستحبُّ لمن رأى الهلالَ أن يقولَ ما رُوي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعنَّا بهما (¬1)، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلالَ قال: "اللهُ أكبر (¬2) اللهمَّ أهِلَّه علينَا بالأَمْنِ والإيمان، والسلامةِ والإِسلام، والتوفيقِ لما تحبّ وترضى. ربِّي وربُّك الله" رواه الأثرم والدارمي. انتهى. (على جميع الناسِ). وحكم من لم يره حُكم من رآه، ولو اختلفت المطالع. (و) يجب (على من حال دونَهُمْ ودون مطلِعِهِ غيمٌ أو قَتَرٌ) أو دخانٌ أو غيرها، والقَتَرُ بالفتح الغبرة (ليلةَ الثلاثين من شعبانَ احتياطاً) لا يقيناً (بنيّةِ أنه من رمضانَ) حكماً ظنياً بوجوبِهِ. اختارَهُ الخرقيُّ وأكثرُ شيوخِ ¬

_ (¬1) إن كان يقصد التوسل بهما، ففيه ما فيه. وإن كان يقصد: ببركة الانتفاع بعلمهما والاتباع لهما فجائز. (¬2) (ب، ص): "الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر" ثلاثاً. فحذفنا، تبعاً لـ (ف) وشرح المنتهى. والحديث رواه أحمد والترمذي أيضاً.

[إثبات رؤية الهلال]

أصحابِنَا. ونصوص أحمد عليه (¬1). وهو مذهَب عمرَ وابنِه وعمرو بن العاصِ وأبي هريرةَ وأنسٍ ومعاويةَ وعائشةَ وأسماءَ ابنتي أبي بكر. وقاله جمعٌ من التابعين. (و) على المذهب (يجزئ) صيامُ ذلك اليوم (إن ظَهَرَ) أنه (منه) أي من رمضانٍ، بأن ثبتتْ رؤيتُهُ بمكانٍ آخر، لأنّ صيامه وقع بنيّة رمضان. (وتصلَّى التراويحُ) ليلَتَهُ احتياطاً للسنّة. قال أحمد: القيام قبلَ الصيامَ. وتثبُتُ بقية توابعِ الصَّوْمِ من وجوبِ كفارةٍ بوطءٍ فيه، ووجوبِ الإِمساكِ على من لم يبيِّتِ النية، أو قدم من سفر، أو طهرت الحائض والنفساء في أثنائه، ونحو ذلك، ما لم يُتَحَقَّق أنه من شعبان. (ولا تثبت بقية الأحكامِ، كوقوع الطلاقِ، والعتقِ، وحلولِ الأجلِ،) وانقضاءِ العدة، ومدة الإيلاء، ونحوِ ذلك، عملاً بالأصل. [إثبات رؤية الهلال] (وتثبت رؤية هلالِهِ) أي رمضان (بخبرِ مسلمٍ مكلَّفٍ عدل) نص عليه (ولو) كان (عبداً أو أنثى) أو بدونِ لفظِ الشهادة. ولا يختص بحاكمٍ، فيلزمُ الصومُ من سمع عدلاً يخبر برؤيةِ الهلالِ، ولو ردَّه الحاكم. (وتثبتُ) بشهادةِ الواحد (بقيةُ الأحكام تبعاً) جزم به صاحب المحرّر. ¬

_ (¬1) وعن أحمد رواية أخرى: الناسُ تبعٌ للإمام. ورواية ثالثة: لا يجب صومه ولا يجزئ عن رمضان إن صامه وهذا قول كثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي (المغني 3/ 89).

[شروط وجوب الصوم]

(ولا يُقبل في بقية الشهورِ) كشوالٍ وغيره (إلا رجلان عدلان) بلفظِ الشهادة (¬1). وإذا صاموا بشهادةِ اثنين ثلاثينَ يوماً فلم يروا الهلال أفطروا، في الغيمِ والصَّحْوِ، لا إن صاموا بشهادةِ واحدٍ. فصل [شروط وجوب الصوم] (وشرْطُ وجوبِ الصومِ أربعة أشياء) الأول: (الإِسلام) فلا يجب على كافرٍ بحالٍ، ولو أسلم في أثناءِ الشهر لم يلزمه قضاءُ الأيامِ السابقةِ لإِسلامه. (و) الثاني: (البلوغ) فلا يجب على من لم يبلغ. (و) الثالث: (العقل) فلا يجب على مجنون. (و) الرابع: (القدرة عليه) فلا يجب على مريض يعجز عنه، للآية. (فمن عجَزَ عنه) أي عن الصوم (لكبر) كالشيخِ الهَرِمِ، والعجوز، اللذين يَجْهَدُهما الصوم ويشق عليهما مشقةً شديدة، (أو) عجَزَ عن الصوم لـ (مرضٍ لا يرجى زوالُهُ، أفطر، وأطعم عن كلِّ يومٍ مسكيناً، مُدَّ بُرٍّ، أو نصفَ صاعٍ من غيره.) ¬

_ (¬1) وعن أحمد أنه قال: اثنان أعجب إليّ. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لا يقبل إلا شهادة اثنين. وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق. لما روى أحمد والنسائي مرفوعاً من حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب "إن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا". (المغني 3/ 157) وهو حديث صحيح كما في (الإرواء ح 909) وهذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيؤخذ على عمومه أما الحديثان الآخران فكل منهما واقعة حال فيحتمل في كل حال منهما: أن شاهداً آخر كان قد شهد برؤية الهلال، وتوقف الأمر على مجيء الشاهد الثاني فلما جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصيام.

[شروط صحته]

ومن أيِسَ من بُرئِهِ، ثم قدر على قضاءٍ فَكَمَعْضوبٍ لا يقدر على الحج حُجَّ عنه ثم عوفي (¬1). [شروط صحته] (وشرط صحته) أي الصوم (ستة): الأول: (الإِسلام). (و) الثاني: (انقطاع دمِ الحيض). (و) الثالث: انقطاع دم (النفاس). (والرابع) من شروط صَحة الصوم: (التمييز) فلا يصحّ صوم من لم يميّز (فيجب (¬2) على وليّ المميّز) أباً كان أو غيره (المطيقِ للصومِ أمرُهُ به) أي الصوم، (وضربُهُ عليه) حينئذ إذا تَرَكَهُ (ليعتاده) كالصلاةِ، إلا أن الصومَ أَشقُّ فاعتُبِر له الطاقة، لأنه قد يطيقُ الصلاة من لا يطيقُ الصوم. (الخامس) من شروط صحة الصوم: (العقلُ) وتقدم أنه شرطٌ للوجوب أيضاً. (لكن لو نوى) العاقل (الصومَ ليلاً، ثم جنَّ، أو أغميَ عليه جميعَ النهار) لم يصحَّ صومه، لأنه عبارة عن الإِمساكِ مع النية، ولم يوجدِ الإِمساك المضافُ إليه، كما دل عليه قوله تعالى في الحديث القدسي "إنه تَرَك طعامَهُ وشَرابَهُ من أجلي" (¬3) فلمْ تعتبر النية منفردةً (و) إن (أفاق) المجنونُ أو المغمى عليه (منه) أي من اليوم الذي بيّت النيةَ له جُزْءاً (قليلاً صحّ) صومه، لقصد الإِمساك في جزءٍ من النهار، كما لو ¬

_ (¬1) أي يجزئه ذلك وعليه الفدية، وليس عليه قضاء، كما أن من حُجَّ عنه لمرضٍ ثم عوفي منه أجزأه حجّ النائب. (¬2) كذا في الأصول. ولو قال "ويجب" لكان أولى، إذ ليس هذا تفريعاً، بل هو إفادة حكم مغاير. (¬3) أول الحديث "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك ... الحديث" رواه أحمد والبخاري ومسلم.

[النية]

نام بقيّةَ يومِهِ. قال في شرح الإقناع: وظاهره أنه لا يتعيّن جزءٌ للإدراك. ولا يفسُدُ بإغماءِ بعض اليوم، وكذا المجنون. [النية] (السادس) من شروط صحة الصوم: (النيّةُ من الليل) ظاهره أنه لا يصحّ في نهار يومٍ لصوم غدٍ، قاله في المبدعِ: (لكل يومٍ واجبٍ) سواء كان واجباً بأصل الشرع أو أوجَبُه الإنسان على نفسه، كالنذر. وكذلك لو كان عن دمِ مُتْعةٍ، أو قرانٍ، أو عن دم غيرِهما، لأنّ كل يوم عبادةٌ مفردةٌ، لا يفسد صومُ يومِ بفَسادِ صوم يومٍ آخر. ويجب تعيينُ النيةِ بأن يعَتقد أنه يصوم غداً من رمضانَ، أو من قضائِهِ، أو من نذرٍ، أو كفارةٍ، أو نحو ذلك. (فمن خَطَر بقلبِهِ ليلاً أنه صائمٌ غداً فقد نوى) لأن النية محلها القلب. (وكذا الأكلُ والشربُ) يكون نيّةً إذا كان (بنية الصوم) قال الشيخ: هو حين يتعشّى عشاءَ من يريدُ الصومَ. ولهذا يفرق بين عشاء ليلةِ العيدِ وعشاءِ ليالي رمضان. (ولا يضرُّ إن أتى بعد النيةِ بِمُنَافٍ للصوم) من أكلٍ وشربٍ وجماعٍ وغيرها (أو قال: إن شاء الله، غيرَ متردَّدٍ) فلا يضرّ، فإن قَصَدَ بالمشيئة الشَّكَّ أو التردد في العزم والقصد، فسدت نيّتُه لعدم الجزم بها. (وكذا) لا يضرُّ (لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غدٌ من رمضانَ فـ) هو (فرضٌ وإلاّ فإنا مفطرٌ) فبانَ من رمضان فإنه يجزئه في الأصح، لأنه بني على أصلٍ لم يثبت زوالُهُ، ولا يقدح تردُّدُه , لأنه حكم صومه (¬1) مع الجزم. ¬

_ (¬1) (ب، ص) "حكم صومٍ" والتصويب من (ف) وشرح المنتهى. ولم يتضح المراد بهذا =

[ركن الصيام]

(ويضر إن قاله) أي قال ذلك (في أوّله) أي ليلةَ الثلاثينَ من شعبان فبان منه لم يجزئه، لأنه لا أصل ينبني عليه. [ركن الصيام] (وفرضُه) أي الصيام فرضاً كان أو نفلاً (الإِمساكُ عن) جميع (المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى) كمال (غروبِ الشمس،) فلو فعل شيئاً من المفطّرات بعد الفجرِ الأول وقبل الفجر الثاني لم يضرّ. [سنن الصيام] (وسننه) أي الصيام (ستّة): الأول: (تعجيلُ الفطر) إذا تحقق غروب الشمس. ويباح إن غلب على ظنّه. وتحقُّق غروبِ الشمس شرطُ فضيلةِ تعجيل الفطر، لا جوازِه. والفطرُ قبل صلاة المغربِ أفضل. الثاني: ما أشار إليه بقوله: (وتأخيرُ السحورِ) ما لم يخشَ طلوع الفجر الثاني، والسحور سنة. وأشار للثالث: بقوله: (والزيادة في أعمال الخير) ككثرةِ قراءةٍ، وذكرٍ، وصدقةٍ، وكفِّ لسانٍ عما يُكرَه. ويجبُ كفُّه عما يحرُم من الكذبِ، والغيبةِ، والنميمة، والشتم، والفحشِ، وغير ذلك، إجماعاً. وأشار للرابع: بقوله: (وقولُهُ) أي يسن قوله (جهراً) في رمضان لأمنِ الرياءِ، (إذا شُتِمَ: إني صائمٌ،) وفي غيره سراً، يزجر نفسَه بذلك، ¬

_ = التعليل فلعل في العبارة تحريفاً. وفي المغني 3/ 94 الآن هذا شرط واقعٌ والأصل بقاء رمضان".

[في أهل الأعذار]

خوفَ الرياء. وهذا اختيارُ صاحبِ المحرَّرِ. وظاهرُ المتنِ، كالمنتهى، أنه يجهر مطلقاً، وهو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى. وأشار للخامسِ بقوله: (وقوله) أي الصائم (عند فطره: اللهمَّ لَكَ صُمْتُ، وعلى رزقِكَ أفطرتُ. سبحانَكَ وبحمدِك. اللهمَّ تقبلْ مني إنّك أنتَ السَّمِيعُ العليم.) للحديث الشريف (¬1)، ولأن الدعاءَ عند الفطر مظنة الإِجابة. ويستحب تفطير الصائمِ. قال في الفروع: وظاهر كلامهم: على أيِّ شيءٍ كان، كما هو ظاهِرُ الخبر. وكذا رواه ابن خُزيمة (¬2) من حديث سَلْمانَ الفارسي. قال الشيخ: المراد بتفطيرِهِ أن يُشْبِعَه. وأشار للسادس بقوله: (وفطره على رُطَبِ، فإن عُدِمَ فـ) على (تمر، فإن عَدِمَ) الصائمُ التمر (فـ) على (ماءٍ.) فصل [في أهل الأعذار] (يحرم على من لا عذر له) من نحو مرضٍ أو سفرٍ (الفطرُ برمضان). ¬

_ (¬1) روي مرفوعاً من حديث ابن عباس ما عدا قوله فيه "سبحانك وبحمدك" رواه الدارقطني وابن السني والطبراني في الكبير. وهو حديث ضعيف. وروي من حديث. أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وابن السني. وهو ضعيف أيضاً (الإرواء ح 919) (¬2) وهو حديث طويل، أوله "يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك .. إلى أن قال: من فطر فيه صائماً كان له مثل أجره .. يعطي الله هذا الثواب من فطّر صائما على تمرةٍ الحديث" قال ابن خزيمة: صحّ الخبر (الترغيب والترهيب، القاهرة، التجارية 2/ 222).

(ويجب الفطر على الحائضِ والنفساءِ. و) يجب الفطر برمضان (على من يحتاجُه) أي الإِفطار (لإنقاذ) آدمي (معصوم من مَهْلكَةٍ) كغريقٍ ونحوِه. (ويسن) الفطر برمضان (لمسافرٍ يباحُ له القصر) إذا فارقَ بيوتَ قريَتهِ العامرة، أو خيامَ قومِهِ، كما تقدم. ويكره صومُه ولو لم يجد مشقَّةً. لكن لو سَافَر لِيُفْطِرَ حَرُمَا عليه. (و) يسنُّ الفطر (لمريضٍ يخافُ الضررَ) بزيادة مرضِهِ، أو طوله، ولو بقولِ مسلم ثقةٍ. وكُرِهَ صومه. فإن صام أجزأه. ولا يُفْطِرُ مريضٌ لا يتضرر بالصوم، كمن به جرب، أو وجعُ ضرسٍ أو أصبع أو دمَّلٌ ونحوه. قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع قيل: مثل الحمَّى؟ قال: وأيّ مرض أشدّ من الحمَّى. (ويباح) الفطر (لحاضر سافر في أثناء النهار) سفراً مباحاً يبلغ المسافةَ، سواءٌ سافَرَ طوعاً أو كَرْهاً. ولا يفطر إلا بعد خروجه. والأفضل له إتمامُ ذلك اليوم. (و) يباحُ الفطر (لحاملٍ ومرضعٍ خافتا على أنفسهما أو على الولدِ.) وكره صومهما. (لكن لو أفطرتا للخوف على الولد فقط) أي دون أنْفُسِهِما لزمهما القضاء. و (لزمَ وليُّهُ إطعامُ مسكينٍ لكل يومٍ) أفطرتْه، ما يجزئُ في الكفارة. ويلزمهما القضاء فقط إذا أفطرتَا خوفاً على أنفسهما. (وإن أسلم الكافرُ، أو طهرت الحائضُ، أو برئَ المريض، أو قَدِم المسافر، أو بلغ الصغير، أو عَقَل المجنون، في أثناءِ النهار، وهم مفطرون، لزمهم الإمساكُ والقضاء) لحرمة الوقت، كقيامِ البيِّنة فيه بالرؤية، ولإدراكه جزءاً من الوقت، كالصلاة. (وليس لمن جاز له الفطرُ برمضانَ أن يصومَ غيرَه فيه) كأن يصومَ قضاءً، أو نذراً، أو نَفْلاً، أو نحو ذلك.

[في المفطرات]

فصل [في المفطرات] (وهي) أي المفطّرات (اثنا عشر) مفطِّراً: الأول: (خروجُ دم الحيض و) خروج دم (النفاس). (و) الثاني: (الموت.)، ويطعَمُ من تركتِهِ في نَذْرٍ وكفارةٍ مسكين (¬1). (و) الثالث: (الرِّدَّة) أعاذنا الله تعالى منها. (و) الرابع: (العزم على الفِطْرِ) قال في الإِقناع: ومن نوى الإِفطار أفطر، كمن لم ينوِ، لا كمن أكَلَ، فلو كان نفلاً ثم نواه صح. (¬2) انتهى. (و) الخامس: (التردّدُ فيه) أي في الفطر. (و) السادس: (لا إن ذرعه. قال في الإِقناع: أو استقاءَ فقاءَ طعاماً، أو مراراً، أو بلغماً، أو دماً، أو غيره، ولو قل. (و) السابع: (الاحتقانُ من الدُّبُر) لأنه يصل إلى الجوف، ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل. ولأنه أبلغُ وأولى من الاستِعَاطِ. (و) الثامن: (بَلْعُ النخامة إذا وصلت إلى الفم) سواء كانت من الدماغِ أو الحلق أو الصدر. ويحرم بَلْعُها بعد وصولها إلى فمه. والتاسع: الحجامة خاصَّةً، حاجماً كان أو محجوماً) سواء كانت الحجامة في القَفَا أو في الساق، نص عليه، وظَهَرَ دَمٌ، لا بِفَصْدٍ وَشَرْطٍ، ولا بإخراج دَمِهِ برعافٍ. والعاشر: إنزالُ المنيّ بتكرار النظر لأنه أنزلَ بفعل يتلذَّذُ به، يمكن التحرز منه، أشبه الإنزالَ باللَّمسِ. ¬

_ (¬1) أي عن اليوم الذي انقطع صومه فيه بموته. (¬2) أي من نوى الإفطار أفطر، ويكون كمن لم ينوِ، فإن ثاء أتمَّه نفلاً، بخلاف ما لو أكل، فلا صيام له ذلك اليوم.

و (لا) يفطر إن أمنى (بنظرةٍ) لعدم إمكانِ التحرُّزِ من النظرة الأولى. (ولا) يفطِرُ إن أمنَى (بالتفكُّر) لَأنه إنزالٌ لغير مباشرةٍ ولا نظرٍ، فأشبه الاحتلام. (و) لا يفطر بـ (الاحتلام) لكونه ليس بسببٍ من جهته. (و) لا يفطر بـ (المذْي) بتكرارِ النظرِ لأنه لا نص فيه، والقياسُ على إنزال المنيّ لا يصح، لمخالفته إياه في الأحكام. والحادي عشر: خروج المنيِّ أو المذي بتقبيلٍ أو لمسٍ أو استمناءٍ أو مباشرةٍ دونَ الفرج.) وعلم منه أنه لا فطر بدون الإِنزال. والثاني عشر: كلُّ ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ من مائعٍ وغيره) أي سواء كان يغذِّي وَيَنْمَاعُ، أوْ لا كالحصى والقطعةِ من الحديدِ والرصاصِ ونحوهما، (فيفطر إن قَطَّر في أذنه ما) أي شيئاً (وصلَ إلى دماغِهِ) عمداً، ذاكراً لصومه، فَسَدَ صومه لأنه شيء واصلٌ إلى جوفِهِ باختيارِه، فأشبه الأكل (أو دارى الجائفةَ فوصلَ) الدواءُ (إلى جوفِهِ، أو اكتحلَ بما) أيْ شيءٍ (علم وصولَهُ إلى حلقه) برطوبتِهِ، أو حِدَّتِهِ، من كحلٍ، أو صَبِرٍ، أو قُطُورٍ، أو ذَرورٍ، أو إثمد كثيرٍ، أو يسيرٍ مطيَّب، (أو مَضَغَ عِلْكاً) فوجد طعمَه في حلقه (أو ذاقَ طعاماً ووجد الطعمَ بحلقِهِ.) ويكره ذوْقُهُ بلا حاجةٍ، ويكره مَضْغُ العلك الذي لا يتحلَّلُ منه أجزاء (أو بَلَعَ ريقَه بعد أن وصل إلى بينِ شفتيهِ) أو فَصَلَهُ عن فَمِهِ ثم ابتلعه. (ولا يفطِرُ إن فَعَلَ شيئاً من جميع المفطَراتِ) المتقدمة من أكلٍ وشربٍ وحجامةٍ ونحو ذلك (ناسياً أو مكرهاً) ولو كان ذلك بِوَجُورِ مغمًى عليهِ مَعالجةً (¬1). ¬

_ (¬1) الوجور صب الشراب في الفم، لعلاجٍ أو غيره.

فصل

(ولا) يفطر (إن دخل الغبارُ حلقَهُ أو) دخل (الذبابُ) حلقه (بغير قصدِهِ) الإدخالَ، كغبارِ الطريقِ، ونَخْلِ الدقيق، لأنه لا يمكنه التحرّز من ذلك، أشبهَ ما لو دخلَ في حلقِهِ شيءٌ وهو نائم. (ولا) يفطِر (إن جَمَعَ ريقه فابتلعه) وإنما يكره له ذلك. فصل (ومن جامع) في (نهارِ رمضانَ) بِذَكَرٍ أصليٍّ (في) فرج أصلي (قبلٍ أو دبرٍ ولو) كان الفرج (لميّت أو بهيمة) أو سمكة أو طيرٍ، حيٍّ أو ميتٍ، أنزل أوْ لا (في حالةٍ يلزمه فيها الإمساك) كمن نَسِيَ النِّيَّة، أو أكل عامداً ثم جامع، أو لم يعلمْ برؤية الهلال حتى طلع الفجر، (مكرهاً كان) المجامِعُ (أو ناسياً) للصوم، جاهلاً كان أو عالِماً، سواءٌ أُكرِهَ حتى فعله، أو فُعِلَ به من نائِمٍ ونحوه (لَزِمَهُ القضاءُ والكفّارة) لا سليمٌ وَطِئَ دون فرجٍ ولو محمداً، أو بذكرٍ غيرِ أصلي في فرج أصليّ، وعكسه، فإنه ليس عليه إلا القضاء إن أمنى أو أمذى. (وكذا) حكم (من جومع) في لزوم الكفارة (إن طاوَعَ، غيرَ جاهِلٍ وناسٍ) ونائمٍ ومكرهٍ لأنه معذور. ويفسد صومه بذلك. [الكفارة] (والكفارةُ) الواجبة بإفساد الصوم في الصوَر التي تجب فيها: (عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ) سليمةٍ من العيوب، (فإن لم يجد) أي لم يقدر على الرقبة (فصيام شهرين متتابعين) فلو قدِرَ عليها قبل شروعه في الصوم، لا بعد شروعِهِ فيه، لزمتْه الرقبة.

[في قضاء الصوم]

(فإن لم يستطع) أن يصوم (فإطعامُ ستينَ مسكيناً) لكلِّ مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ أو نصفُ صاعِ تمرٍ أو شعيرٍ. (فإن لم يجد) شيئاً يطعِمُه المساكين (سقطَتْ) عنه (بخلاف غيرِهَا من الكفّارات) ككفارةِ حجٍ وظهارٍ ويمينٍ وكفارةِ قتلٍ. وتسقُط جميع الكفاراتِ بتكفيرِ غيرِهِ عنه بإذنه. (ولا كفارة في) نهار (رمضانَ بغير الجماعِ والإنزالِ بالمساحَقَةِ.) ولو كان الجماعُ من صائمٍ في السفر فلا كفارة فيه. فصل [في قضاء الصوم] (ومن فاته رمضانُ كلُّه قَضَىٍ عَدَدَ أيامهِ) يعني إن كان ثلاثينَ يوماً قضى ثلاثين يوماً، وإن كان تسعةً وعشرين يوماً قضى تسعةً وعشرين، كأعداد الصلوات الفائتة. ويُقدَّم قضاء رمضانَ وجوباً على نذرٍ لا يخاف فَوْتَه. (وسُنَّ القضاءُ على الفورِ) والتَّتَابُعُ لمن فاته عدد من أيام رمضان، (إلا إذا بقي من) شهر (شعبانَ بقدرِ ما عليهِ) من عددِ الأيام التي لم يصمها من رمضانَ، (فيجب التتابع) لضيقِ الوقتِ، كأداءِ رمضان في حقّ من لا عذر له. (ولا يصحّ ابتداء تطوعٍ ممن عليهِ قضاءُ رمضانَ) قبل أدائه. (فإن نوى صوماً واجباً) كنذرٍ وكفارةٍ (أو قضاءٍ) من رمضانَ، (ثم قَلَبَهُ نفلاً صحَّ.) الظاهِرُ أنه يُشْتَرَطُ لصحة القلب كون الوقت متَّسِعاً، كالصلاة. [صيام التطوع] (ويسن صومُ التطوُّعِ).

(وأفضله) أي أفضلُ صوم التطوع (يومُ) صومٍ (ويوم) فطر. وهو أفضل الصيام. (ويسن صومُ أيامِ البيضِ) سمِّيت بذلك لأن الله تعالى تاب فيها على آدم، وبَيَّضَ صحيفته (¬1). ذكره أبو الحسن التميمي. (وهي ثلاثةَ عشر، وأربعةَ عشَر وخمسةَ عَشَر) نصَّ على ذلك. (و) يسن (صومُ) يوم (الخميسِ، و) يوم (الإِثنينِ). (و) سنّ صوم (ستةٍ من شوالٍ) والأولىَ تتابُعها، وكونُها عَقِب العيدِ، وصائمُها مع رمضانَ كأنما صامَ الدهر لأن رمضانَ بعشرةِ أشهر، وهذه الستة بشهرين (¬2). (وسُنَّ صومُ) شهرِ الله (المحرم. وآكده) وعبارة الإِقناع، وأفضله (¬3) (عاشوراءُ، وهو (أي عاشوراءُ (كفارة سنةٍ) ثم يلي صومَ عاشوراءَ في الأكدية: التاسِعُ، ويسمَّى: تاسوعاءَ. (و) سن (صوم عشرِ ذي الحجة، وآكده يومُ عرفة. وهو) أي صومه (كفارةُ سنتين.) قال في الفروع: والمرادُ به الصغائر. حكاه في شرحْ مسلم عن العلماء: فإنْ لم تكن صغائِرُ رُجِيَ التخفيفُ من الكبائر، فإن لم تكنْ رُفِعتْ له درجاتٌ. ولا يسنُّ صومُ عرفةَ لمن بها، إلا لمتمتِّعٍ أو قارِنٍ عَدِمَا الهدْيَ. (وكُرِهَ إفراد رَجَبٍ) بالصوم. قال أحمد: من كان يصومُ السنَةَ صامَهُ، وإلا فلا يصومه متوالياً، بل يفطر فيه، ولا يشبهُهُ برمضان انتهى. (و) كره أيضاً أفراد يوم (الجمعةِ) بالصومِ إلا أن يوافِقَ عادةً، مثل من يفطر يوماً، ويصوم يوماً، فيوافق صومه يومَ الجمعة. ¬

_ (¬1) في ثبوت هذا نظر. والمعروف أنها سميت بذلك لازدياد نور القمر فيها، فكأنها بيضاء. ذكره صاحب لسان العرب. (¬2) سقط من (ف): "لأن رمضان ... الخ". (¬3) أي أفضل أيام شهر المحرّم.

(و) كره إفراد يوم (السبت بالصوم). (وكره صوم يوم الشكِّ وهو الثلاثون من شَعْبانَ، إذا لم يكنْ) في السماءِ في مطلِعِ الهلالِ (غيمٌ أو قَتَرٌ) أو سحابٌ، أو غير ذلك، مما تقدم (¬1). (ويحرم) ولا يصحّ فرضاً ولا نفلاً (صوم) يوم (العِيدَيْنِ). (و) يحرم ولا يصحّ فرضاً ولا نفلاً صوم (أيامِ التشريق) إلا عن دمِ متعةٍ أو قرانٍ. (ومن دخل في تطوُّعٍ) صوم أو غيرِهِ، غيرِ حجٍّ أو عمرةٍ (لم يجبْ) عليه (إتمامُه،) وُيسَنُّ له إتمامه. وإن فسد فلا قضاء، ويسن قضاؤه، للخروج من الخلاف. (و) من دخل (في فرض يجب عليهِ) إتمامُهُ سواءٌ كان مفروضاً بأصلِ الشَّرْعِ، أو فَرَضَهُ على نفسِهِ بنذرٍ، ولو كان وَقْتُهُ موسعاً كصلاةٍ، وقضاءِ رمضانَ، ونذرٍ مطلقٍ، وكفارةٍ، (ما لم يقلبْه نفلاً.) ¬

_ (¬1) أنظر أول كتاب الصوم.

كتاب الاعتكاف

كتَاب الاعتكَاف (وهو) أي الاعتكاف (سُنَّةٌ) كلَّ وقتٍ وهو في رمضانَ آكَدُ، وآكَدُهُ عَشْرُهُ الأخير. (ويجب) الاعتكاف (بالنذر) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). (وشرط صحته ستة أشياء): الأول: (النية. و) الثاني: (الإِسلام. و) الثالث: (العقل. و) الرابع: (التمييز) فلا يصحُّ من كافرٍ ولا مجنونٍ ولا طفلٍ، لعدم النية. (و) الخامس: (عدم ما يوجب الغسل) فلا يصحّ من جُنُبٍ ولو متوضئاً. (و) السادس: (كونه) أي الاعتكافِ (بمسجدٍ)، فلا يصحُّ بغير مسجدٍ. (ويزاد) على كونه بمسجد (في حق من تلزمه الجماعة: أن يكون المسجد مما تقام فيه) الجماعة، ولو من معتكفين، إذا أتى عليه فعلُ الصلاة. (ومن المسجِدِ ما زيد فيه) حتَّى في الثوابِ، في المسجِدِ الحرام، وعند جمعٍ من الأصحاب منهم الشيخ وابن رجب، ومسجدِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) حديث "أوْفِ بنذرك" قاله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب عندما قال "يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة -وفي رواية: يوماً- بالمسجد الحرام" رواه البخاري ومسلم (شرح ابن دقيق العيد على العمدة 2/ 46).

(ومنه سطحُه و) منه (رَحْبَتُه المَحُوطَةُ) فإذا أَذَّنَ والإِنسان بالرحبةِ فلا يجوز له الخروج (و) من المسجد (منارته التي هي) فيه، (أو بابها فيه). (ومَنْ عَيَّنَ) بنذرِهِ (الاعتكافَ) أو الصلاةَ (بمسجدٍ غيرٍ) المساجد (الثلاثة لم يتعيَّن)، قال في شرح المنتهى: ويتوجهُ: إلا مسجدَ قُباء، وفاقاً لمحمد بن مسلمة المالكي. وأفضلُها المسجدُ الحرامُ، ثم مسجِدُه - صلى الله عليه وسلم -، ثم الأقْصَى. فمن نذر اعتكافاً أو صلاةً في أحدِها لم يُجْزِهِ غيرُه إلا أفضلُ منه. (ويبطلُ الاعتكافُ بالخروج من المسجدِ لغير عذرٍ) وإذا خرجَ ناسياً لم يبطل (و) يبطل الاعتكافُ (بنيةِ الخروجِ، ولو لم يخرج). (و) يبطل الاعتكافُ (بالوطء في الفرج) ولو ناسياً، (و) يبطل الاعتكاف (بالإِنزالِ بالمباشرة دون الفرج) فإن باشَرَ دون الفرجِ لغيرِ شهوةٍ فلا بأسَ ولشهوةٍ حَرُمَ. (و) يبطل الاعتكاف (بالردّة) لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. ولأنه خرجَ عن كونِهِ من أهلِ العبادةِ، فأشبه ردَّتَهُ في الصوم وغيره. (و) يبطل الاعتكاف (بالسُّكْرِ،) قال في الإِقناع: وإن شربَ ولم يسكر، أو أتى كبيرةً لم يفسد. (وحيثُ بطل الاعتكافُ) بواحدٍ بما ذكر (وجب استئنافُ النذر المتَتَابع غير المقيَّد بزمنٍ، ولا كفارة. وإن كان مقيداً بزمن معين استأنَفَه وعليهِ كفارةُ يمين، لفواتِ المحلِّ.) قال في الإقناع وشرحه: وإن خرجَ لعذرٍ غيرِ معتادٍ كنفيرٍ، وشهادةٍ واجبةٍ، وخوفٍ من فتنة، ومرضٍ، ونحو ذلك كقَيْءٍ بَغْتَة، ولم يتطاولْ، فهو على اعتكافه. ولا يقضي الوقتَ الفائتَ بذلكَ، لكونه يسيراً مباحاً.

وأن تطاوَلَ، فإن كان الاعتكافُ تطوُّعاً خُيرَ بين الرجوعِ وعدمِهِ، وإن كان واجباً وجب عليه الرجوع إلى معتكفِهِ. ثم لا يخلو النذرُ من ثلاثة أحوال: أحدها: نَذَرَ اعتكافَ أيامٍ غيرِ متتابعةٍ ولا معيَّنةٍ، كنذرِ عشرةِ أيامٍ مع الإطلاق، فيلزمه أن يتمَّ ما بقِيَ عليهِ من الأيامِ، محتسباً بما مضى، لكنه يبتدئُ اليومَ الذي خرج فيه من أوله، ولا كفارة. الثاني: نَذَرَ أياماً متتابعةً غير معينة بأن قال: لله تعالى عليَّ أن أعتكف عشرةَ أيام متتابعة، فاعتَكَفَ بعضَها، ثم خرجَ لما تقدَّم، وطال، فيخيَّر بين البناء على ما مضى بأن يقضي ما بقِيَ من الأيامِ وعليهِ كفارةُ يمينٍ، وبينَ الاستئنافِ بلا كفارة. الثالث: نَذَرَ أياماً معينة كالعشر الأخير من رمضانَ فعليهِ قضاءُ ما ترك، وكفارة يمين. (ولا يبطلُ) الاعتكاف (إن خرج) المعتكف (من المسجدِ لبولٍ أو غائطٍ أو طهارةٍ واجبةٍ) ولو وضُوءاً قبل دخولِ وقت الصلاة (أو لإزالة نجاسةٍ) قال في المنتهى: وغسلِ متنجّسٍ يحتاجُهُ، (أو لجمعةٍ تلزَمُهُ) لأن الخروج إليها معتادٌ لا بد منه، وأوقاتُ الاعتكافِ التي تتخلَّلُها الجمعة لا تسلمُ منه، فصارَ الخروج إليها كالمستثنى. (ولا) يبطلُ الاعتكافُ (إن خرجَ) المعتكفُ (للإتيانِ بمأكلٍ ومشربٍ لعدمِ خادمٍ). (وله) أي للمعتكف إذا خَرَجَ لما لا بد منه (المشيُ على عادتِهِ) من غير عجلةٍ. (وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكافَ مدةَ لُبْثِهِ فيه، لا سيَّما إن كان صائماً) فإن الصومَ فيهِ أفضلُ. ويصحُّ بلا صومٍ.

ومن نذر أن يعتكف صائماً، أو يصومَ معتكفاً، أو باعتكافٍ، أو يعتكفَ مصلِّياً، أو يصلِّي معتكفاً، لزم الجمع، كنذرِ صلاةٍ بسورةٍ معيَّنةٍ. وُيسَنُّ تشاغُلُه بالقُرَبِ، واجتنابُ ما لا يعنيه.

كتاب الحج

كتَاب الحَجِّ بفتح الحاءِ لا بكسرها في الأشهر (¬1) [حكم الحج] (وهو واجبٌ مع العمرة في العُمْرِ مَرّةً) واحدة على الفور (وشرط الوجوب خمسَةُ أشياء،) وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ يُشتَرَطُ للوجوبَ والصحّةِ، وهو (الإِسلام، والعَقْلُ)، وقسم يشترط للوجوب والإجزاءِ دون الصحّة (و) هو (البلوغُ وكمال الحريّة،) وقسمُ يشتَرَطُ للوجوب دونَ الإِجزاءِ، وهو الاستطاعة. وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى (¬2). (لكن يصحّان) أي الحجُ والعمرة (من الصغير والرقيق) وكذا المكاتَبُ، والمُدَبَّرُ، وأُمُّ الولَدِ، والمعتَقُ بعضُه، والمعلَّقُ عِتْقُهُ على صفة. (ولا يُجْزِيانِ) أي حجُّ الرقيقِ والصغيرِ وعمرتهُما (عن حجّة الإسلام وعمرتِهِ). (فإنْ بلَغَ الصغيرُ) عاقلاً (أو عتقَ الرقيقُ) كله (قبل الوقوف) بعرفة (أو بعدَهُ) أي عتقُ بعد الدَّفْعِ من عَرَفَةَ، (فإن عادَ) إلى عرفة (فوقَفَ) ¬

_ (¬1) و (الحِجُّ) بكسر الحاء: لغة مشهورة أيضاً، وقرئ بها في مواضع منها قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. (¬2) وشرط سادس في حق المرأة، وهو المحرم. وسيأتي قريباً.

وكان وقوفه الذي عاد إليه (في وقته، أجزأه عن حجة الإسلام، ما لم يكن أحْرَمَ مُفْرِداً أو قارناً وسعى بعد طواف القدوم). (وكذلك تجزئ العمرةُ إن بَلَغ أو عتقَ قَبْل طوافها) قال في شرح الإقناع: أي الشروع فيهِ. (الخامس) الذي هو شرطٌ لوجوبِ الحجِّ والعمرةِ دون الإِجزاء: (الاستطاعةُ) للآية. ولا تبطل الاستطاعة بجنونٍ، فَيُحَجُّ عنه. (وهي مِلْكُ زادٍ) يحتاجه في سفره، (و) ملك وعائِهِ، وملك (راحلةٍ) لركوبِهِ بآلةٍ لها (تصلُحُ) الراحلةُ وآلَتُها (لمثله.) ومحلُّ من يشترط له الراحلةُ إذا كان في مسافة قصر عن مكة، لا في دونِها، إلا لعاجزٍ. ولا يلزَمُهُ السعيُ حبواً ولو أمْكَنَهُ. وأما الزادُ فيعتبر، قَرُبَتِ المسافَةُ أو بَعُدَتْ مع الحاجة إليه (أو مَلَكَ ما يقدر به على تحصيل ذلك) أي الزاد والراحلة، من نقدٍ أو عَرْضٍ. وإنما تكون استطاعة (بشرطِ كونهِ) أي الزاد والراحلة الصالحان لمثله وآلتهما (فاضلاً عما يحتاجه من كُتُبٍ) فإن استغنى بإحدى نسختين من كتابِ باع الأخرى، (ومسكنٍ) يصلح لمثلِهِ، (وخادم) لأنه من الحوائج الأصليّةِ بدليلِ أن المفلسَ يُقَدَّمُ بِهِ على غرمائِهِ (وأن يكون فاضلاً) أيضاً (عن مُؤْنَتِهِ ومؤنة عياله على الدوامِ) من أجورِ عقارٍ، أو ربحِ بضاعةٍ، أو صناعةٍ، أو عطاءٍ من ديوان، ونحوها. ولا يصير مستطيعاً ببذلِ غيرِهِ له زاداً وراحلةً، ولو كان أبَاهُ أو ابنَه. ومنها (¬1) سعة وقت. ¬

_ (¬1) أي: من الاستطاعة سعة الوقت للحج أو العمرة.

(فمن كملت له هذه الشروط) المذكورة (لزمه السعيُ فوراً) فيأثَمُ إن أخَّرَهُ بلا عذرٍ. وإنّما يلزمه السعيُ إذا كملت له الشروطِ (إن كان في الطريق أمنٌ) ولو غيرَ الطريقِ المعتادِ بحيث يمكن سلوكهُ حَسَبَ ما جرتْ به العادةُ، برًّا كان أو بحراً. ويشتَرَطُ أن لا يكون في الطريق خَفَارَةٌ (¬1) فإن كانت يسيرة لزمه. قاله الموفق والمجد. ويشترط أن يوجد فيه العَلفُ على المعتادِ فلا يلزَمُة حملُ ذلك لكل سفره. (فإن عَجَز عن السعيِ) من كملتْ له هذه الشروط المذكورة (لعذرٍ ككبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤُهُ) كزمانةٍ ونحوها (لزمه) فوراً (أن يقيمَ نائباً حرًّا ولو) كان النائب (امرأةً) عن رجلٍ، ولا كراهة (يحجُّ ويعتمر عنه.) ويكون ابتداءُ سيرِ النائبِ (من بلده) أي بلد المستنيب أو من الموضع الذي أيسر فيه. (ويجزئه) أي المستنيب (ذلك) أي الحج والعمرة (ما لم يَزُلِ العذر قبل إحرام نائِبِهِ) فإنه لاَ يجزئه، للقدرةِ على المبدَلِ، وهو حجّه بنفسه (¬2) قبل الشروَع في البدل، وهو حجة النائب. وليس لمن يرجى زوال عِلَّتِهِ أن يستنيبَ. فإن فَعَلَ لم يجزه. (فلو مات) من لزمه حج أو عمرة (قبل أن يستنيبَ) فرَّط أو لا (وَجَبَ أن يُدْفَعَ من) أصلِ (تركتِهِ لمن يحجُّ ويعتمرُ عنه) من حيثُ وَجَبَا. (ولا يصحُّ ممن لم يحجَّ عن نفسِهِ حجٌّ عن غيرِهِ.) فإن فَعَلَ انصرفَ إلى حجَّة الإِسلام. ¬

_ (¬1) الخفارة لم تفسرها بهذا الاستعمال كتب اللغة فلعلها استعملت له متأخرة وفي المغني (3/ 219) "وإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة .... " فيظهر أن المراد بها ما يطلبه من المارة المتغلّبون على الطرق، من اللصوص وأشباه اللصوص. (¬2) "وهو حجه بنفسه" ساقط من (ف).

(وتزيدُ الأنثى) على الرجل (شرطاً سادساً) للحجِّ والعُمْرَةِ (وهو أن تَجِدَ لَها زوجاً أو مَحْرَماً) وهو من تَحْرُمُ عليه على التأبيد بنسب، كالأب والابنِ، أو سببٍ مباحٍ، كابن زوجها أو أبيه، (مكلَّفاً) فلا يكون الصبيُّ ولا المجنون مَحْرَماً. وشُرِطَ كونُه مسلماً ذكراً ولو عبداً. (و) يُشترط أن (تقدِرَ على أُجرتِهِ و) تقدر (على الزادِ والرَّاحلةِ لَهَا ولَهُ) صالحيْنِ لهما. (فإن حجت بلا مَحْرمٍ حَرُمَ) عليها ذلك (وأجْزَأ) حجُّها، كمن حج وقد تركَ حقاً يلزمه من ديَنٍ أو غيره.

باب الإحرام

باب الإحْرَام (وهو) أي الإِحرام (واجبٌ من الميقاتِ). ومَنْ منزلُه دون الميقات فميقاتُهُ منزلُه) لحجٍّ وعمرة. وُيحْرِمُ مَنْ بمكةَ لحجٍّ منها، ويصحّ من الحلِّ ولا دَمَ عليه، ولعمرةٍ من الحلّ، ويصح من مكةَ وعليه دم. (ولا ينعقد الإِحرامُ مع وجودِ المجنون أو الإِغماء أو السكْر) لعدم أهليته للنية. (وإذا انعقد) الإحرام (لم يبطلْ إلا بالردّة) لا بجنونٍ وإغماءٍ وسكرٍ وموتٍ، (لكن يَفْسُدُ) الإِحرام (بالوطءِ في الفرْجِ قبل التحلُّلِ الأول) ويأتي، (ولا يبْطُلُ، بل يلزمه إتمامه والقضاءُ.) على الفور، ولو نذراً أو نفلاً إن كانَا مكلَّفين، وإلا بعده بعد حجة الإِسلام على الفور (¬1). حيث لا عذر في التأخير. (ويخيَّر من يريدُ الإِحرام بين) ثلاثة أشياء: (أن ينوي التمتعَ، وهو أفضل) الثلاثة؛ (أو ينويَ الإِفراد) وهو يلي التمتع في الأفضلية؛ (أو) ¬

_ (¬1) أي وإن لم يكن من أفسد نسكه بالوطء مكلّفاً، كصغيرة، فتقضي على الفور، أي في السنة التالية في الحج مثلاً. لكن إن بلغت في تلك السنة، فإنها تحج أولاً حجة الإسلام ثم تتبعها بحجة القضاء.

ينوي (القرآن) وهو يلي الإِفراد في الفضل. (فالتمتع): أي كيفيته (هو أن يُحْرِمَ بالعمرةِ في أشهر الحج) وهي شوّالٌ، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، لأن العبرة (¬1) عنده في الشهر الذي يهل بها فيه لا الشهر الذي يحل منها فيه (¬2)، (ثم بعد فراغِهِ) أي تحلُّلِهِ (منها) أي العمرة (يُحرِم بالحجّ في عامه). (والإِفراد) أي كيفيته: (هو أن يحرم بالحجِّ ثم بعد فراغِهِ منه) أي من الحج (يحرم بالعمرة). و (القران) أي كيفيته: (هو أن يحرم بالحجِّ والعمرةِ معاً) أي في مرَّةٍ واحدة (أو يحرِمَ بالعمرة) أولاً (ثم يُدخِلَ الحج عليها) أي على العمرةِ. ويشترط لصحة إدخال الحج على العمرة أن يكون ذلك (قبل الشروعِ في طوافِها) أي طوافِ العمرة. ولا يشترط للِإدخال كونُ ذلك في أشهرِ الحج ولا كونُ ذلكَ قبل طوافِهَا وسعْيها لمن معه هدي. قال في المنتهى: ويصح ممن معه هديٌ ولو بعد سعيها. (فإن أحرم بهِ) أي بالحجّ (ثم) أحرمَ (بها) أي العمرة (لم يصحّ) إحرامُهُ بها. (ومن أحرَمَ وأطْلَقَ) بأن نوى نفسَ الإِحرام ولم يعيِّنْ نُسُكاً (صحَّ إحرامُه وصَرَفَه) أي الإِحرامَ (لما شاءَ) من الأنساك بالنيّة لا باللفظ. (وما عملَ قبلُ فلغوٌ) أي قبل التعيين. والأوْلى صرفه إلى العمرة، (لكن السنَّةُ لمن أرادَ نسكاً) من حجٍّ أو عمرةٍ أو قرانٍ (أن يعيِّنَهُ) ويلفِظَ به. ¬

_ (¬1) (ب، ص) "لأن العمرة"، والتصويب من (ف) ونبه عليه عبد الغني. (¬2) حاصل هذه العبارة أنه لو أحرم بالعمرة في رمضان، وتحلل منها في شوال، لم يصرْ متمتعاً لأن العبرة بالشهر الذي يُهِلُّ بها فيه الخ (عبد الغني).

ولم يذكروا مثلَ هذا في الصلاةِ لِقَصِر مدَّتها وتيسُّرِها في العادة. (وأن يشتَرِطَ فيقول: اللَّهُمَّ إني أريدُ النُّسُكَ الفلانيّ، فيسِّرْهُ لي، وتقبله مني، وإنْ حَبَسَنِي حابسٌ فَمَحِلِّي حيثُ حَبَسَني). ويستفيد بذلك قائله أنَّه متى حُبِسَ بمرضٍ أو عدوٍّ أو غيرِ ذلك حلّ ولا شيءَ عليهِ، إلا أن يكونَ مَعَهُ هدي فيلزَمُه نحره.

باب محظورات الإحرام

باب مَحْظورات الإِحرَام أي ما يمتنع على المحرم فِعلُها شرعاً. (وهي) أي محظورات الإِحرام (سبعة أشياء) قال في الإِقناع والمنتهى: تسعة (¬1): (أحدها: تعمُّد لبس المخيطِ على الرَّجُل) قلَّ أو كَثُر، في بدنِهِ أو بعضِه مما عُمِلَ على قدرِهِ، من قميصٍ وعمامةٍ وسراويلَ وبُرْنُسٍ ونحوها، ولو دِرْعاً منسوجاً أو لِبْداً معقوداً (حتى الخَفَّيْنِ) أو إحداهما. قال القاضي: ولو كانَ غيرَ معتادٍ، كجَوْرَبٍ في كفٍّ، وخفٍّ في رأسٍ، فعليه الفدية. (الثاني) من المحظورات: (تعمد تغطيةِ الرأسِ) والأذنان منه (من الرجل) فإن غطاهُ أو بعضَه بملاصقٍ معتادٍ كعمامةٍ وخرقةٍ (ولو) كانت التغطيةُ (بطين) أو نورَةٍ أو حِنَّاءٍ (أو) سَتَرَهُ بغيرِ لاصقٍ كـ (استظلالٍ بمحملٍ) وهَوْدَجٍ وعمارية ومحارة (¬2)، فإن فعل حرم وفَدَى، لا إن حَمَل على رأسِهِ شيئاً، أو نصب حيالَه شيئاً، أو استظلّ بخيمةٍ أو شجرةٍ أو بيت. ¬

_ (¬1) أي بجعل قصّ الأظفار محظوراً مستقلاً. وجعل المباشرة محظوراً مستقلاً كذلك فليس ما في المتن ناقصاً عما في المنتهى (عبد الغني). (¬2) العمارية نوع من السفن والمحارة قال في القاموس شبه الهودج.

(و) من محظورات الإِحرام (تغطيةُ الوجهِ من الأنثى) ببُرْقُعٍ أو نقابٍ أو غيره، (لكن تَسْدِلُ) الثوبَ من فوق رأسها (على وجهها،) ولو مسَّ الثوبُ وجهها (للحاجَةِ.) والحاجَةُ كمرورِ الرجالِ قريباً منها. قال في الإِقناع: فإن غطتْهُ لغيرِ حاجة فَدَتْ. ويحرم عليها ما يَحرم على الرجلِ، إلاَّ لُبْسَ المخيطِ، وتظليلَ المحملِ، ونحوه. (الثالث) من المحظورات: (قَصْدُ شمِّ الطيب) فإن لم يقصد شمَّه، كالجالِسِ عند العطّارِ لحاجةٍ، وداخلِ السوقِ، أو داخلِ الكعبةِ ليتبرَّك بها، ومن شرى طيباً لنفسِهِ أو للتجارة، ولا يمسُّه، فغير ممنوعٍ لأنّه لا يمكنه الاحتراز منه، (ومسُّ ما يعلَقُ) بالممسوسِ كماءِ وردٍ، (واستعمالُهُ) أي استعمالُ المُحْرِمِ الطيبَ (في أكلٍ أو شربٍ) أو ادِّهانٍ، أو اكتِحالٍ أو آسْتِعَاطٍ أو احتِقانٍ (بحيث يَظْهَرُ طعمه أو ريحه) فيما أكله أو شربه أو ادَّهَنَ به أو اكتحل به أو استَعَط به أو احتقن به. (فمن لبس أو تطيّب أو غطّى رأسَه ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه). (ومتى زال عذره) المسقط للفديةِ، بأن ذكر الناسي، أو عَلِمَ الجاهل، أو زال الإِكراه (أزاله) أي أزال اسْتِدَامَةَ ذلك المحظور، بأن ينزِعَ ما لبسه، أو يغسلَ الطيبَ، أو يزيل ما على رأسه (في الحال) ومن لم يجد ماء لغسل طيبٍ مَسَحَه بخرقة أو نحوها، أو حكَّه بتراب ونحوه حسب الإِمكان. وله غَسْله بيده، وبمائع. (وإلا) بأن أَخّرَهُ لغير عذرٍ (فَدَى) لأن ذلك استدامةُ محظورٍ من غير عذر.

(الرابع) من المحظوراتِ: (إزالةُ الشَّعر من جميعِ البدن) بحلقٍ أو غيره (ولو من الأنْفِ) فإن كان له عذرٌ من مرضٍ أو قملٍ أو قروحٍ أو صُدَاعٍ أو شدةِ حرٍّ لكثرته مما يتضرر بإبقاء الشعر، أزالَة وفَدَى. (و) من المحظوراتِ (تقليمُ الأظفار) من يدٍ أو رِجْلٍ بلا عذرٍ، فإن كان لعذرٍ، كما لو كُسِرَ ظُفْرُهُ فأزالَهُ فلا يفدي. (الخامس) من المحظورات: (قتل الصيْدِ البرَيِّ) فيباح -لا بالحَرَم- صيدُ ما يعيش في الماءِ، كالسمكِ. ولو عاش في برٍّ أيضاً كسُلَحْفَاةٍ وسَرطَانٍ. وأما طير الماء فهو بَرِّيّ، (الوحْشيِّ) فلا تأثير لحَرَمٍ ولا إحرامِ في تحريم حيوانٍ انسيٍّ، كبهيمة الأنعام، والخيل، والدجاج (المأكولَ) وكذا المتولد منه ومن غيره، والاعتبارُ بأصله، فحمامٌ وبطٌّ وحشيٌّ، ولو استأنس. (و) يَحْرُم على المُحْرِم (الدلالةُ عليه) أي الصيد والإشارة (والإِعانة على قتله) ولو بإعارَةِ سَلاحٍ ليقتله، أو يذبَحَهُ، سواء كان معه ما يقتلُهُ بهِ أوْ لا (وإفسادُ بيضِهِ، وقتل الجراد) لأنه طيرٌ برّيٌّ أشبه العصافير، (والقملِ) لأنه يَتَرَفَّهُ بإزالَتِهِ، كإزالةِ الشَعَرِ. قالَ في الإقناع: ويحرم على المحرِمِ، لا على الحلال ولو في الحَرَمِ، قتلُ قملٍ وصئبانِهِ من رَأسِهِ وبَدَنِهِ، ولو بزئبقٍ ونحوه. و (لا) يحرم قتل (البراغيث) والطَّبُّوعِ (¬1) (بل يسن قتلُ كل مؤذٍ مطلقاً) مع وجودِ أذًى وبدونِهِ كالأسَدِ والنَّمِرِ والذئب والفَهْدِ والبازي والصقر والحيةِ والعقرب والزَّنْبورِ والبَقِّ والبعوض. (السادس) من المحظورات: (عقد النكاح) فلا يتزوّج، ولا يزوّج غيره بولايةٍ ولا وكالةٍ، ولا يَقْبَل له النكاحَ وكيلُه الحلالُ، ولا تُزَوَّجُ ¬

_ (¬1) الطَّمُّوعُ كَتَنُّورٍ دُوَيْبَّةٌ ذات سمٍّ، أو من جنْسِ القِردان، لعضّته ألمٌ شديد (القاموس).

المحرمة (ولا يصحُّ) النكاحُ في ذلك كله. (السابع) من المحظورات: (الوطءُ في الفرج) وطئاً يوجب الغسلَ، ولو كان المجامع ساهياً أو جاهلاً أو مكرَهَاً، نصاً، أو نائمةً (ودواعيه). (و) من المحظورات (المباشرة) أي مباشرة الرجل المرأة (دون الفرج) لما في ذلك من اللذة واستدعاء الشهوةِ المنافي ذلك للِإحرام، ولا يُفْسِدُ النسك، (والاستمناءُ). (وفي جميعِ المحظوراتِ) المتقدمةِ (الفديةُ إلا قتلَ القملِ وعقْدَ النكاحِ) لأنه عقْدٌ فَسَدَ لأجل الإِحرام فلم تجبْ بهِ فديةٌ. ولا فرق فيه بين الإِحرام الصحيَح والفاسِدِ. قالَه في الشرح. (وفي البيضِ والجرادِ قيمتُهُ مكانه) أي مكانَ الإِتلافِ. ولا يضمَنُ البيضَ المَذِرَ، ولا ما فيه فرخٌ ميّتٌ سوى بيضِ النَّعَامِ، فإن لِقِشْرِهِ قيمةً، فيضمنه بقيمته. (وفي الشَّعْرَةِ) الواحدةِ (أو الظُّفْرِ) الواحِدِ (إطعامُ مسكينٍ). وفي قص بعض الظفر ما في جميعه، وكذا قطعُ بعضِ الشعرة. (وفي الاثنين) من ظفرين أو شعرتين (إطعام اثنينِ) أي مسكينين. (والضرورات تبيح للمُحْرِمِ المحظورَاتِ، ويفدي.)

باب الفدية

باب الفديَة أي هذا بابٌ يُذْكَر فيه أقسامُ الفديةِ، وقدرُ ما يَجِبُ، ومستحقُّه. (وهي ما) أي دمٌ أو صومٌ أو إطعامٌ (يجبُ بسبب الإِحرام) كدمِ تمتّعٍ، ودمِ قرانٍ، وما وَجبَ لِتَرْكِ واجبٍ، أو إحصَارٍ (¬1)، أو لفعلٍ محظور (أو) بسببِ (الحرمِ) المكّيّ، كالواجبِ في صيدِهِ ونباتِهِ. وله تقديمها على المحظورِ إذا احتاج إلى فعلِهِ لعذرٍ، كاحتياجٍ لحلقٍ ولبسٍ وطيبٍ. (وهي) أي الفدية (قسمان) في التحقيق: (قسمٌ على التخيير، وقسمٌ على الترتيب). (فقسم التخيير: كفدية اللُّبسِ والطيب وتغطيةِ الرأس) من الذكر والوجهِ من الأنثى (وإزالةِ أكثرَ من شعرتينِ، أو) تقليمِ أكثرَ (من ظفرين، والإِمناءِ بنظرةٍ، والمباشرةِ بغير إنزال منيّ، يخير) المخرِجُ في فديةِ اللُّبسِ والطيبِ وتغطيةِ الرأسِ وإزالة أكثرَ من شعرتين أو ظفرين والإِمناء بنظرة (¬2) (بين ذبح شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ، أو إطعام ستة مساكينٍ، ¬

_ (¬1) المعروف أن دم التمتع والقران والإحصار وجزاء الصيد لم يرد تسميته فدية بل هو هدي. (¬2) تكرار لا داعي له.

[هدي التمتع والقران والإحصار]

لكل مسكينٍ) منهم (مُدُّ بُرٍّ) فقط، (أو نصفُ صاعٍ من غيرِه) أي من تمر أو شعيرٍ. (ومن التخييرِ جزاءُ الصَّيدِ، يخيَّر فيهِ) من وجبت عليه الفديةُ (بينَ) ذبحِ (المثلِ) للصيدِ (من النَّعَمِ، أو تقويمِ المثليّ بمحل التلفِ) أي تلفِ الصيدِ أو بِقُرْبِ محلّ التلف (ويشتري بقيمَتِهِ طعاماً يجزئ إخراجه (في الفُطْرَةِ) كواجبٍ في كفارةٍ، (فيطعمُ كل مسكينٍ مُدَّ بُرٍّ أوْ) يطعم كل مسكينٍ (نصفَ صَاعٍ من غيره) أي غيرِ البُرّ، (أو يصومُ عن طعامِ كلِّ مسكينِ يوماً) والأصل في ذلك قوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية. [هدي التمتع والقران والإِحصار] (وقسم الترتيب: كدمِ المُتْعةِ) وهو دم نُسُكٍ, لا جُبْرَانٍ. يجب بسبعة شروط: أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجدِ الحرامِ، وهم أهلُ مكةَ، والحَرَمِ، ومن كانَ دونَ مسافَةِ قصر. الثاني: أن يعتمر في أشْهُرِ الحجِّ. والاعتبارُ بالشَّهْرِ الذي أحرم فيه. الثالث: أن يحجَّ من عامِهِ. الرابع: أن لا يسافر بين الحجِّ والعمرةِ مسافةَ قصرٍ. (¬1) الخامس: أن يُحلَّ من العمْرة قبل إحرامه بالحج. السادس: أن يحرم بالعمرةِ من الميقاتِ، أو من مسافة قصرٍ فأكثر عن مكة. ¬

_ (¬1) أي من سافر من مكة بعد أن أحلَّ من عمرته مسافة قصرٍ ثمَّ عاد محرماً للحجِّ فليس بمتمتع، ولا دم عليه. وقيل متمتعٌ إلا إذا خَرَجَ من الميقاتِ كمن سافر إلى المدينة، قبل الحج، ثم رجع محرماً به.

السابع: أن ينوي التمتُّعَ في ابتداءِ العمرةِ، أو أثنائها. ولا يعتبر كون النسكين عن واحد. (و) دمِ (القِرانِ، و) (¬1) دمِ (تركِ الواجِبِ) كتركِ الإِحرام من الميقات، (و) دم (الإِحصارِ، والوطءِ ونحوه). (فيجبُ على متمتِّعٍ) استوفى الشروط السبعة (وقارنٍ، وتاركِ واجبٍ: دمٌ. فإنْ عَدِمَه) أي عَدِمَ المتمتِّع والقارن الهديَ (أوْ) عدم (ثَمَنَه صامَ ثلاثة أيامٍ في الحجِّ) قيل: معناه في أَشهُرِ الحجّ، وقيل في وقْتِ الحج. (والأفْضَل كون آخِرِها) أي آخر الثلاثةِ أيام (يومَ عَرَفَة.) ووقتُ وجوبِ صومِ الأيام الثلاثة وقت وجوبِ الهديِ. (وتصح أيامَ التشريقِ) لقولِ ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهما: "لم يُرَخَّصْ في أيام التَّشْريقِ أنْ يُصَمْنَ إِلا لَمِنْ لم يِجَدِ الَهدْي" رواه البخاري. (و) صامَ (سَبعةً إذا رجعَ إلى أهلهِ.) وإن صام السبعةَ قبل أن يرجعَ إلى أهلِهِ بعد إحرامٍ بحجٍّ أجزأ، لكن لا يصحُّ أيامَ منًى لبقاء أيَّامِ الحجِّ. (ويجب على محصَرٍ دمٌ) ينحره بنيّةِ التحلُّلِ وجوباً مكانَهُ. (فإن لم يجدْ) هدياً (صامَ عشرةَ أيامِ) بنيّة التحلل، (ثم حلّ.) وليس له التحلُّل قبل ذَلك. (ويجب على من وطئَ في الحجِّ قبل التحلُّلِ الأول، أو أنزل منِيًّا بمباشرةٍ، أو استمناءٍ، أو تقبيلٍ، أو لمس بشهوةٍ، أو تكرارِ نظرٍ، بَدَنَةٌ، فإن لم يجدها) أي البدنَةَ (صام عشرةَ أيامٍ: ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعةً إذا رجعَ) من أفعالِ الحجّ، كدم المتعة، لقضاء الصحابةِ رضي الله عنهم. ¬

_ (¬1) معطوف على (دم المتعة) الذي في المتن قبل أسطر.

[في جزاء الصيد]

(و) يجب في الوطء (في العمرة إذا أفسدها قبل تمام السعي شاةٌ.) ولا يفسِدُها الوطء بعد الفراغِ من السعيِ وقبل حلقٍ، كما لو وطئ في الحجّ بعد التحلل الأول. ويجب المضيّ في فاسدها والقضاءُ فوراً. (والتحلُّلُ الأوّلُ) من الحجّ (يحصلُ باثنين من) ثلاثة: (رمىٌ وحلقٌ وطوافٌ). (ويحل له) بالتحلل الأول (كل شيءٍ إلا النساء، و) التحلُّل الثاني (يحصلُ بما بقي، مع السعي إن لم يكن سعى قبل.) فصل [في جزاء الصيد] (والصيد الذي له مِثْلٌ من النَّعَم) يجب فيه ذلك المثل، وذلك (كالنعامَةِ، وفيها بدنة) رُوِيَ ذلكَ عن عمر وعثمان وعليّ وزيد وابن عباس ومعاوية. (وفي حمارِ الوحش) بقرة (و) في (بقرِه بقرةٌ) روي ذلك عن ابن مسعود. (وفي الضَّبُعِ كبشٌ) قال الإِمام: حكَم فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشٍ. (وفي الغزال شاةٌ) روي ذلك عن عليَ وابن عمر. (وفي الوَبْرِ) وهو دُويبَةٌ كَحْلاَءُ دونَ السِّنَّورِ لا ذَنَبَ لها: جَدْيٌ. (و) في (الضبّ جدي له نصف سنة). (وفي اليربوعِ جَفْرَةٌ لها أربعة أشهر).

[في صيد الحرم ونباته]

(وفي الأرنب عَنَاقٌ) وهي الأنثى من أولاد المعزِ (دون الجفرة). (وفي الحَمَاَم) أي في كلِّ واحدةٍ من حمام (وهو) أي الحمام (كل ما عَبَّ الماَءَ) أي وضع منقارَهُ فيه وكَرَعَ، وهَدَرَ (كالقَطَا والوَرَشَانِ (¬1) والفواخِتِ شاةٌ). وما لا مثل له) وهو سائر الطير ولو أكبر من الحمام (كالأوزِّ) بفتحِ الهمزة والواوِ وتشديدِ الزاي (والحُبارى والحَجَل) والكبير من طيرِ الماءِ (والكُرْكِيّ فـ) تجب (فيه قيمته مكانَه.) فصل [في صيد الحرم ونباته] (ويحرم صيدُ حرم مكةَ. وحكمهُ صيدِ الإِحرام) فيَحْرُمُ على المُحِلِّ، إجماعاً. فمن أتلف فيه شيئاً، ولو كان المتلف كافراً أو صغيراً أو عبداً، فعليه ما على المحرِم. ولا يلزمُ المحرمَ جزاءان. (ويحرمُ قطعُ شجرِهِ) حتى ما فيه مضرةٌ كعَوْسَجٍ وشوكٍ وسواكٍ ونحوِهِ، إلا اليابِسَ وما زال بفعلِ غيرِ آدميٍّ، أو انكَسَرَ ولم يَبِنْ، وإلاَّ الإِذْخِرَ والكمأةَ والفَقْعَ، وإلا الثَّمَرَة، وإلا ما زرعَه آدميٌّ من بقلٍ ورياحينَ، وشجرٍ غُرِسَ من غيرِ شَجَرِ الحَرَمِ، فيباح أخذه والانتفاعُ به. (و) يحرم قطع (حشيشِهِ). (والمُحِلُّ والمحرم في ذلك سواء، فيضمَنُ الشجرةَ الصغيرة عرفاً) إن قُلِعَتْ أو كسرت (بِشَاةٍ، و) يضمَنُ (ما فوقَها) من الوسْطى والكُبْرى ¬

_ (¬1) في الأصول (الورش)، والتصويب من شرح المنتهى. والوَرَشانُ طائرٌ يسمى أيضاً "ساقَ حُرٍّ" ولحمه أخفّ من لحم الحمام (قاموس).

(ببقرة، و) يضمن (الحشيشَ والوَرَقَ بقيمتِهِ) وُيضمنُ غصنٌ بما نقصَ. فإن استُخلِفَ شيءٌ منها سقَطَ ضمانُهُ. ويحرُمُ صيدُ حَرَمِ المدينةِ وحشيشُهُ وشجرهُ إِلاَّ لحاجةٍ. ولا جزاءَ فيما حرم من ذلك. (ويجُزِئ عن البدنةِ بقرة، كعكسه) أي كما تجزئ البقرة عن البدنة (¬1). (ويجزئ عن سبع شِيَاه بدنة أو بقرةٍ، والمراد بالدم الواجب) حيث أطلق (ما يجزئ في الأضحية) وهو (جَدَع ضأنٍ أو ثني مَعْزٍ)، ويأتي (أو سُبْعُ بدنةٍ أو سُبْعُ بقرةٍ، فإن ذبح إحداهما فأفضل، وتجب كلها.) ¬

_ (¬1) في (ب، ص) زيادةٌ هنا "تجزئ البدنة عن البقرة" فحذفنا تبعاً لِـ (ف).

باب أركان الحج وواجباته

باب أركَانِ الحجِّ وَوَاجبَاتِه (أركانِ الحجِّ أربعة): (الأول: الإحرام). (وهو مجرّد النية) أي نية النُّسُكِ، وإن لم يتجرّدْ من ثيابِهِ المحرَّمة على المحرم. (فمن تركه) أي الإِحرامَ بالنية (لم ينعقدْ حجُّه). (الثاني) من أركان الحج: (الوقُوف بعَرَفَةَ.) وكلها موقف إلاَّ بطنَ عُرَنَة. (ووقته) أي الوقوف (من طلوعِ فجر يومِ عرفةَ) واختار الشيخُ وغيره وحكى إجماعاً: من زوال يوم عرفة (إلى طلوعِ فجرِ يومِ النحر). فمن حصل في هذا الوقتِ بعرفةَ لحظةٌ واحدةٌ، وهو أهلٌ) للوقوف بأن يكون مسلماً عاقلاً محرماً بالحج (ولو مارًّا) بها، (أو نائماً، أو حائضاً، أو جاهلاً أنها عَرَفَةُ صحَّ حجُّه) وأجزأه عن حجَّة الإِسلام، إن كان حرًّا بالغاً، وإلاَّ فَنَفْلٌ. (لا) يصحّ الوقوفُ (إن كان سَكْرانَ) لعدم عقله (أو مجنوناً أو مغمًى عليه.) إلا أن يفيقوا وهم بها قبل خروج وقت الوقوف. وكذا لو أفاقوا بعد الدَّفْعِ منها وعادوا فوقفوا بها في الوقت. (ولو وقَفَ الناسُ كلُّهم أو) وقف الناس كلهم (إلا قليلاً في اليوم

[واجبات الحج]

الثامِن، أو) وقف الناس كلهم، أو كلهم إلاَّ قليلاً، في اليوم (العاشِرِ خطأٌ) فيهما لا عمداً (أجزأهم) الوقوف. (الثالث) من أركان الحج: (طوافُ الإِفاضةِ) ويسمى طوافَ الزيارةِ، والصَّدَرِ، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وهو الطوافُ الواجبُ الذي به تمامُ الحجّ. (وأول وقتِهِ) أي طواف الإِفاضة (من نصفِ ليلةِ النَّحْرِ لمنْ وقفَ، وإلا) بأن لم يكن وَقَفَ (فـ) أوله في حقه (بعد الوقوف). (ولا حدَّ لآخِرِهِ.) والأفضل يوم النحر. (الرابع) من أركان الحج: (السعيُ بين الصفا والمروة). [واجبات الحج] (وواجباته) أي الحج (سبعة: الأوّل: الإِحرامُ من الميقات) المعتبر؛ (و) الثاني: (الوقوفُ) بعرفة (إلى الغروبِ لمن وقَفَ نهاراً؛ و) الثالثُ: (المبيت ليلَة النحر بمزدَلِفَةَ إلى بعدِ نصفِ الليل) إن وافاها قبله؛ (و) الرابع: (المبيت بمنًى لياليَ) أيام (التشريق؛ و) الخامس: (رميُ الجمار مرتَّباً) بأن يرميَ أوَّلاً التي تلي مسجد الخَيْفِ، ثم الوسطى، ثم العقبة. فإن نَكَّسَهَ لم يُجْزِهِ؛ (و) السادس: (الحلقُ أو التقصيرُ؛ و) السابع: (طوافُ الوداع.) قال الشيخ: وطواف الوداع ليسَ من الحجّ، وإنما هو لكلِّ من أراد الخروجَ من مكةَ. والرَّمَلُ والاضطباعُ ونحوهما سُنَنٌ للحجّ. [أركان العمرة] (وأركانُ العمرة ثلاثة): الأول: (الإِحرام؛ و) الثاني: (الطواف؛

و): الثالث: (السعي) بين الصفا والمروة. (وواجبُها) أي العمرة (شيئان): الأول: (الإِحرام بها من الحلّ. و) الثاني: (الحلقُ أو التقصير) فمن أتى بواحدٍ منهما فقد أتى بالواجب. (والمسنون كالمبيتِ بمنًى ليلةَ عرفةَ؛ وطوافِ القدومِ) للمُفْرِدِ والقارِنِ وهو تحيَّةُ الكعبة؛ (والرّمَلُ في الثلاثةِ الأشواط (¬1) الأوَلِ منه) أي من طواف القدومِ لغير راكبِ، وحاملِ معذورٍ، ونساءٍ، ومحرمِ من مكةَ أو مِنْ قُرْبِها فلا يسنُّ؛ (والاضطباعُ فيه) أي في طوافِ القدومَ، فيجعلُ وَسَطَ الرداءِ تحت عاتِقِهِ الأيمنِ، وطرفيه على عاتقه الأيسرِ؛ (وتجرد الرجل من المخيطِ عند) إرادة (الإِحرام). (و) يسن لمريد الإِحرامِ (لُبْسُ إزَارٍ أو رداءٍ أبيضَيْنِ) لحديثِ "خيرُ ثيابِكُمُ البياض" (¬2) (نظيفين) جديدين أو غسيلين، فالرداء على كتفيه، والإِزار في وسطه. ويجوز في ثوبٍ واحدٍ. (و) تسن (التلبية.) وابتداؤها (من حين الإِحرام.) ويسنُّ ذكرُ نُسُكِهِ فيها، والإِكثار منها (إلى أول الرمي) أيْ رميِ جمرة العقبة. (فمن تَرَكَ ركناً) من الأركان المتقدمة، أو ترك النية لركن كطوافٍ وسعيٍ (لم يتم حجُّه إلا به) (¬3) لكن لا ينعقد نسكٌ بلا إحرامٍ ¬

_ (¬1) (ب، ص): أشواطٍ. والصواب ما أثبتناه. (¬2) حديث "خير ثيابكم البياض. ألبسوها أحياءكم. وكفنوا فيها موتاكم" رواه الدارقطني في الأفراد من حديث أنس. وابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم من حديث ابن عباس (الفتح الكبير) وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير). (¬3) أما الوقوف بعرفة فليس يشترط فيه، بل لو حصل فيها نائماً أجزأه. وتقدم قريباً. ولعل الطواف والسعي كذلك. والأصح عند الشافعية أن أفعال الحج لا يشترط لكل منها النية اكتفاء بالنية عند عقد الإحرام لأن الحج عبادة واحدة مكونة من أفعال، فيكفي فيه نِية واحدة، كالصلاة. وانظر (الأشباه والنظائر ص 27)

[في شروط الطواف]

حجاً كان أو عمرةً. (ومن ترك واجباً) لحج أو عمرة ولو سهواً (فعليه دم وحجه صحيح ومن ترك مسنوناً فلا شيء عليه) ويكره أن يقال حجة الوداع. فصل [في شروط الطواف] (وشروط صحة الطوافِ أحد عشَر) شيئاً: الأول: (النية) كسائر العبادات؛ (و) الثاني: (الإِسلام؛ و) الثالث (العقل؛ و) الرابع: (دخول وقته) وتقدم؛ (و) الخامس: (ستر العورة) كما تقدم؛ (و) السادس: (اجتناب النجاسة) لأنه صلاة؛ (و) السابع (الطهارة من الحدث) لا لطفلٍ دون التمييز، والطهارةُ من الخَبَثِ, فتشترط. قال في شرح الإِقناع: وظاهره حتى للطفل، (و) الثامن (تكميل السبعة؛ و) التاسع: (جعل البيتِ عن يساره؛ و) العاشر (كونه ماشياً مع القدرة) على المشي؛ (و) الحادي عشر: (الموالاةُ فيستأنِفُهُ لحدثٍ فيه. وكذا لقَطعٍ طويلٍ، وإن كان) القطعُ (يسيراً، أو أُقيمت الصلاة، أو حضَرَ جنازةً صلى وبَنَى من الحَجَرِ الأسود). [سنن الطواف] (وسننه) أي الطواف، عشرة: (استلام الركن اليماني بيده اليمنى، وكذا) يسن استلام (الحجر الأسود، وتقبيله،) والاضطباع، والرَّمَلُ والمشيُ في موضعِهِ (¬1) (والدعاء، والذكر، والدُنُّو من البيت،) فلو طاف ¬

_ (¬1) وموضع الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فيما عد ما بين الركن اليماني والركن الأسود، والمشي فيما سوى ذلك.

[في شروط السعي]

في المسجدِ، وكان بعيداً عن البيت، صحّ. فإن طافَ خارجَ المسجدِ لم يصحّ، (والركعتان بعده) أي بعد الطواف. فصل [في شروط السعي] (شروط صحة السعي ثمانية): الأول: (النية) لحديث إنما الأعمال بالنيات؛ (و) الثاني: (الإِسلام؛ و) الثالث: (العقل؛ و) الرابع: (الموالاة) والمرأة لا تَرْقى الصفا ولا المروة، ولا تسعى شديداً، (و) الخامس: (المشيُ مع القدرة؛ و) السادس: (كونه بعد الطواف، ولو) كان الطوافُ الذي تقدَّم عليه (مسنوناً، كطوافِ القدوم؛ و) السابع: (تكميل السبع؛ و) الثامن: (استيعاب ما بين الصفا والمروة) فإن لم يَرْقَهمَا ألصَقَ عَقِبَ رجليه بأسفلِ الصَفَا، وأصابِعَهما بأسفل المروة، ثم ينقلب إلى الصفا، فيمشي في موضعِ مَشْيِهِ، ويسعى في موضع سعيه (¬1)، إلى الصَّفَا، يفعل ذلك سبعاً، يحتسب بالذهاب سعيةً، وبالرجوع سعيةً، يفتَتِح بالصَّفَا، ويختتم بالمروة. (وإن بدأ بالمروة لم يَعْتَدَّ بذلك الشوطِ) لمخالفته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" (¬2). [سنن السعي] (وسننه) أي السعي (الطهارة، وستر العورة، والموالاة بينه وبين الطواف). ¬

_ (¬1) يسعى بين الميلين الأخضرين في الأشواط كلها، ويمشي في ما سوى ذلك. (¬2) حديث "خذوا عني مناسككم" رواه مسلم (كتاب الحج ح/ 310) وأحمد.

(وسُنَّ أن يشرب من ماء زمزمَ لما أحبَّ) لحديث جابر مرفوعاً "ماءُ زمزمَ لما شرِبَ له" رواه ابن ماجة (¬1). ويتضلع منه، زاد في التَّبصرة: (وَيرشُّ على بدنِهِ وثَوْبِهِ، ويقول: "بسم الله اللهمَّ اجعلهُ لَنَا عِلْماً نافِعاً ورزقاً واسعاً وَرِيًّا) بفتح الراء وكسرها (وشِبَعاً) بكسر الشين، وفتح الباء وكسرها وسكونها (وشفاءً من كل داء، واغسلْ به قلبي، واملأهُ من خشيَتِكَ) زاد بعضهم "وحكمتك". (تسنُّ زيارة قبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبرِ صاحبيهِ رضوانُ الله وسلامُهُ عليهمَا) بعد الفراغ من الحجِّ، قال ابن نَصْرِ الله: لازمُ استحبابِ زيارةِ قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - استحبابُ شَدَّ الرحال إليها، لأن زيارتَهُ للحاج بعد حجِّه لا تمكن بدون شدَّ الرحال، فهو كالتصريح باستحباب شد الرحال لزيارته - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (وتستحب الصلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم -، وهي) فيه (بألفِ صلاةٍ. وفي المسجدِ الحرامِ بمائة ألفِ) صلاةٍ. (وفي المسجد الأقصى بخمسمائة) صلاةٍ. ¬

_ (¬1) حديث "ماء زمزم لما شرب له" رواه أيضاً أحمد (منار السبيل) وهو صحيح كما في (الإِرواء ح 1123). (¬2) شرع لنا في ديننا شد الرجال إلى مساجد معينة، لا إلى القبور. لكن من شدّ الرحل لمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحصل هناك، سُنَّ له زيارة قبْره - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه الإمامين الجليلبن وقبور الصحابة رضوان الله عليهم.

باب الفوات والإحصار

باب الفوَات وَالإِحصَار [الفوات] سَبْقٌ لا يُدْرَكُ. (والإِحصار) الحبس. (من طلع عليه فجرُ يوم النحرِ ولم يقف بعرَفةَ لعذرٍ حصرٍ أو غيرِه فاتَهُ الحجَّ) في ذلك العام، لانقضاءِ زمنِ الوقوفِ، وسقط عنه توابع الوقوف، كمبيتٍ بمزدلفة، ومنًى، ورمي جمار، (وانقلبَ إحرامُه عمرةُ)، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصِّر، سواء كان قارناً أو غيرَهُ، إن لم يَخْتَرِ البقاءَ على إحرامه، ليحُجَّ من قابِلٍ. (ولا تجزئ) هذه العمرة التي انقلب إحرامه إليها (عن عمرةِ الإِسلام، فيتحلّلُ بها، وعليه دمٌ) إن لم يكن اشتَرَطَ أوّلاً، هدْيُ شاةٍ أو سُبْعُ بَدَنَةٍ، (و) عليه (القَضَاءُ) ولو كان الحج الفائت نَفْلاً (في) العام (القابل) لأن الحج يلزم بالشروعِ فيهِ، فيصير كالنذر، بخلافِ سائر التطوعاتِ (لكنْ لو صُدَّ عن الوقوفِ، فتحلَّلَ قبل فواتِهِ، فلا قضاء) عليه. (ومن حُصِرَ عن البَيْتِ، ولو) كان الحَصْرُ (بعد الوقوفِ) أو مُنِعَ من دخولِ الحَرَمِ ظلماً، أو جنَّ، أو أُغميَ عليهِ، ولم يكَنْ له طريقٌ آمِن إلى الحجّ، وفات الحجُّ (ذبح هَدْياً) أي شاة أو سبع بدنة (بنية التحلُّل) أي ينوي به التحلل، وجوباً، (فإن لم يجد) المحصَرُ هدياً (صامَ عشَرَةَ أيامٍ بِنِيَّتِهِ) أي نية التحلل، (وقد حَلَّ،) ولا إطعام فيه.

(ومن حُصِرَ عن طوافِ الأفاضَةِ فقط وقد رمى وحَلَق لم يتحلل حتى يطوف) للِإفاضَةِ بفعل الطوافِ، لأن إحرامَهُ إنما هو عن النساءِ، والشرعُ إنما ورد بالتحلل من الإحرام التامَ الذي يحرِّم جميع محظوراتِهِ. ومتى زال الحصْرُ أتى بالطوافِ، وقد تمَّ حجُّهُ. (ومن شَرَط في ابتداء إحرامِه أن "مَحِلِّي حيثُ حَبَسْتَنِي" أو قال) في ابتداء إحرامه: "إن مرضتُ أو عَجَزْتُ أو ذهبتْ نفقتي فلي أن أَحلَّ" كان له أن يتحلّل) إذا وجد الشرط (متى شاءَ، من غير شيءٍ، ولا قضاءَ عليه) لأنه إذا شرط شرطاً كان إحرامه الذي فعلَهُ إلى حينِ وجود الشرطِ، فصار بمنزلة من أكْمَلَ أفعالَ الحجّ.

باب الأضحية

باب الأضْحيَة (وهي سنة مؤكّدة، وتجب الأضحية بالنذر،) كقوله: هذه صدقة. قال في الموجز والتبصرة: إذا أوجبَها بلفظِ الذَّبْحِ كـ"للهِ عليَّ ذبحها" لزمه، وتفريقُها على الفقراء. (و) تتعين (بقوله: هذه أضحية) فتصير واجبةً بذلك، كما يعتَقُ العبدُ بقول سيده: هذا حرٌّ، لوضْعِ هذه الصيغة له شرعاً (أو لله). ولو أوجَبَها ناقصةً نقصاً يمنع الإِجزاءَ لزمه ذبحُها ولم تجزِهِ عن الأضحية الشرعية. ولكن يُثَابُ على ما يتصدقُ به منها. (والأفضل) في الأضحية (الإِبلُ، فالبقر، فالغنم) إن أُخْرِجَ كاملاً، ثم يلي ذلك شَرِكَة في بدنةٍ أو بقرةٍ. (ولا تجزئ) الأضحية (من غير هذه الثلاثة،) ولا الوحشيُّ، ولا مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وحشيٌّ. (وتجزئ الشاةُ عن واحدٍ وعن أهل بيته وعياله) قال صالح (¬1): قلت لأبي: يضحَّى بالشاةِ عن أهلِ البيت (¬2)؟ قال: نعم، لا بأس، "قد ذبحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كبشين، فقال: بسْمِ اللهِ. اللهُمَّ هذا عن مَحَّمدٍ وأهلِ ¬

_ (¬1) هو صالح ابن الإِمام أحمد. (¬2) (ب، ص): "عن المبيت" والتصويب من (ف).

بيته. وقربَ الآخَرَ وقال: بسم الله. اللهم هذا منكَ ولكَ، عَمنْ وَحَّدكَ من أمتي" (¬1) (وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعةٍ) في قول أكثر أهل العلم، وُيعْتَبَرُ ذبحها عنهم (¬2). (وأقل سنَّ ما يجزئ من الضأنِ مَا لَهُ نصفُ سنةٍ) وُيسمَّى جَذعاً. قال الخِرَقيُّ: سمعت أبي يقول: سألت بعض أهل البادية: كيفَ يعرفونَ الضأنَ إذا أجذع؟ قالوا: لا تزال الصوفةُ قائمةً على ظهرِهِ ما دام حَمَلاً، فإذا نامَتِ الصُّوفَةُ على ظَهْرِهِ عُلِمَ أنه قد أجذع؛ (ومن المعز ما له سنةٌ) كاملة لأنه قبل ذلك لا يُلْقِحُ؛ (ومن البقرِ والجاموسِ ما له سَنَتانِ؛ ومن الإِبل ما له خمسُ سنينَ) كواملُ. (وتجزئ الجَمَّاءُ) في الأضحية، والهدي، وهي التي لم يخلق لها قرن، (والبتراءُ،) وهي التي لا ذَنَبَ لها خِلْقَةً، أو مقطوعاً، (والخَصِيُّ) وهو ما قطعت خصيتاه، أو سُلَّتَا أو رُضَّتَا. (و) تجزئ (الحامل) من الثلاثَةِ، كالحائِل. (وما خلق بلا أُذُنٍ، أو ذَهَبَ نصفُ أَلْيَتِهِ أو أذنه.) وتكره معيبةُ أذنٍ بخرْقٍ، أو شَقٍّ، أو قطعٍ لنصفٍ أو أقلّ. وكذا قرن. و (لا) تجزئ (بيَنة المرض، ولا) تجزئ (بيّنة العَوَرِ بأن انخسفت عينُها، ولا قائمةُ العينينِ مع ذهاب أبصارِهما) لأن العمى يمنَعُ مَشْيَها مع رفقتها، ويمنع مشاركَتَها في العَلَف، (ولا عجفاءُ وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ولا) تجزئ (عرجاء، وهي التي لا تُطِيقُ مشياً مع صحيحةٍ، ¬

_ (¬1) حديث "ذبح بكبشين وقال ... الخ" أصله في الصحيحين من حديث أنس. وأما بهذا اللفظ فلم نره بين الروايات التي جمعها في (إرواء الغليل). (¬2) أى ما لا تجزئ عنهم جميعاً في النسك حاى ينوي عن كل منهم. ولو أراد بعضهم اللحم وبعضهم النسك فلكل ما نوى.

فصل

ولا) تجزئ (هَتْماءُ، وهي التي ذهبتْ ثناياها من أصلِها،) ذكره جماعةٌ. وقال في التلخيص: وهو قياس المذهب (ولا عَصْمَاءُ، وهي ما انكسر غلافُ قرنِها) قاله في المستوعِبِ والتلخيص، (ولا خصيٌّ مجبوبٌ، ولا عضباءُ، وهي ما ذهب أكثر أذنِها أو قرنِها) لأن الأكثر كالكل. فصل (ويسن نحر الإِبلِ قائمةً) معقولةً يَدًها اليُسْرى، فيطعُنُها بالحربةِ في الوَهْدَةِ التي بين أصل العنق والصدر. (و) يسن (ذَبْحُ البقَرَ والغَنَم على جنبها الأيسرِ موجَّهة لِلقْبلَةِ) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. (ويسمِّي حينَ يحرّكُ يده بالفِعْلِ) وجوباً. ويأتي حكم ما إذا نسي في الذّكاة (¬1) (ويكبِّر) استحباباً (ويقول: اللهُمَّ هذا مِنْكَ ولَكَ) فإن اقتصر على التسمية تَرَكَ الأفضلَ، وأجْزَأ. (وأول وقت الذبح) لأضحيةٍ وهديِ تطوّعٍ ونذْرٍ ودمِ متعةٍ وقرانٍ (من بعد أسبق صلاةِ العيدِ بالبلد) لمن صلَّى، (أو) من بعد (قَدْرِها) أي قدرِ الصلاة (لمن لم يصلِّ، فلا تجزئ قبل ذلك). (ويستمرّ وقت الذبح نهاراً وليلاً إلى آخر ثاني أيامِ التشريق). (فإن فاتَ الوقتُ) أي وَقْتُ الذبح على من عليهِ واجبٌ (قضى الواجبَ) وفَعَلَ كالأدَاءِ. (وسقط التطوُّع) بخروج وقتِ الذبح، لأن المحصِّل للفضيلةِ الزمانُ وقد فاتَ. فلو ذبحَهُ وتصدق به كان لحماً تصدق به، لا أضحيةً في الأصحِّ. ¬

_ (¬1) (ب، ص): الزكاة، وهو خطأ مطبعيّ.

(وسن له) أي للمهدي (الأكلُ من هدي التطوّعِ) لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} وأقلُ أحوالِ الأمْرِ الاستحبابِ، والمستحب أن يأكل اليَسِيرَ. (و) له الأكل (من أضحيتِهِ)، وله التزود والأكل كثيراً (ولو واجبةً.) ولا يأكل من هديٍ واجبِ، ولو كان إيجابهُ بِنَذْرٍ أو تعيينٍ، (ويجوزُ) الأكلُ (من) دمِ (المتعةِ وَالقِرانِ). (ويجب) على المضحي (أن يتصدقَ بأقلِّ ما يَقَعُ عليه اسمُ اللَّحْمِ) فإن أكلها كلَّها ضمن أقلَّ ما يقع عليه اسم اللحم، بمثلِهِ لَحْماً. (ويعتبر تمليكُ الفقيرِ، فلا يكفي إطعامُهُ) كالواجِبِ في الكفارة، ومن مات بعد ذبحِهَا قامَ وارِثُهُ مقامَهُ في الأكْلِ والصَّدَقَةِ والإِهداء. (والسنة أن يأكُلَ من أُضْحِيَتِهِ ثُلُثَها، ويهديَ ثلثها، ويتصدق بثلثها) نصّ عليه، لقول ابن عمر: الهدايَا والضحايَا ثُلُثٌ لَكَ، وثُلُثٌ لأهلك، وثلثٌ للمساكين، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فالقانع السائِلِ، والمعتَرُّ الذي يعتريك، أي يعترضُ لك لتطعمه ولا يسأَلُ. وقال إبراهيم وقتادة: القانِعُ الجالِسُ في بيتِهِ المتعفّف، يقْنَعُ بما يُعطى ولا يَسْألُ، والمعْتَرّ السائل. (ويحرُمُ بيعُ شيءٍ منها) أي الذبيحة، هدياً كانت أو أضحيةً، ولو كانت تطوُّعاً، لأنها تعيّنَتْ بالذبح (حتَّى) إنه يحرم عليه أن يبيع شيئاً (من شعرها وجلدها) وجُلها، بل ينتفع بذلك، أو يتصدَّق به. (ولا يعطِي الجزارَ بأجْرَتِهِ منها شيئاً) للخَبَرِ، ولأنَهُ بيعٌ لبعْضِ لحمِها، ولا يصح. (وله إعطاؤُه) منها (صدقةً وهديةً) لأنه في ذلك كغيرِهِ، بل هو أولى، لأنه باشَرَهَا وتاقَتْ نَفْسُهُ إليها.

[في العقيقة]

(وإذا دخل العَشْرُ حَرُمَ على من يضحِّي أو يضحَّى عنه أخذُ شيءٍ من شعرِهِ أو ظفرِهِ أو بشرتِهِ، إلى الذبح) ويزول التحريمُ بذبح الَأوَّل لمن يضحّي بِأعْدادٍ. تنبيه: لا يمتنع عليه النِّساءُ والطيبُ واللِّباس. (وَيسَنُّ الحلقُ بعدَه) أي الذبح. فإنْ أَخذَ شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته تابَ إلى الله تعالى، لوجوب التوبة من كل ذنب. قال في شرح الإِقناع: قلت: وهذا إذا كان لغير ضرورة، وإلا فلا إثم، كالمحرِمِ وأولى. انتهى. ولا فدية معه. فصل (في العقيقة) فسّرها إمامُنا رضي الله تعالى عنه، ورضي عنّا بِه، بأنها الذبحُ نفسه. انتهى. (وهي) التي تذبح عن المولود (سنةٌ) مؤكَّدة (في حقِّ الأب) فلا يعقُّ غيره (ولو) كان الأب (معسراً) غنيًّا كان الولَدُ أو فقيراً. (و) المسنون ذبحُه (عن الغلامِ شاتان) مُتَقارِبتَانِ سِنًّا وشَبَهاً، فإن تعذّرتا فواحدة. فإن لم يكن عند الأب شيء اقترض وعقّ، قال أحمد: أرجو أن يخلف الله عليه لأنه أحيا سنة. قال الشيخ: محله لمن له وفاء. ولا يعقُّ عن نفسه إذا كبر. (وعن الجارية شاة) لأنها على النصف من أحكام الذكر. (ولا تجزئ بدَنَة ولا بقرة إلا كاملة) فلا يجزئ فيها شِرْك. وينويها عقيقة.

(والسنة ذبحها في سابعِ يومِ ولادته) لحديث سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل غلامٍ رهينةٌ بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، وُيحْلَق رأسِه" رواه آهل السنن كلهم. وقال الترمذي حسن صحيح. قال في المستوعِبِ، "عيون المسائل: ضحوَة النهار. ويجوز قبل السابع. (فإن فَاتَ ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين). (ولا تعتبر الأسابيع بعد ذلك) بل يفعل في كل وقتٍ لأن هذا قضاء، فلم يتوقف كالأضحية. (وكره لطخُهُ) أي المولود (من دمها.) وإن لطخ رأسَهُ بزعفرانٍ فلا بأس. وقال ابن القيم: سنّة. وينزِعها أعضاءً، ولا يكسر عظمَها. وطبخُها أفضل من إخراج لحمها نيئاً، فتطبخ بماءٍ وملحٍ، ثم يطعَمُ منها الأولادُ والمساكينُ والجيرانُ. (ويسن الأذانُ في أذن المولود اليمنى) ذكراً كان أو أنثى (حين يولد، والإِقامةُ في) أذنه (اليسرى) عن الحسن بن علي مرفوعاً "من ولد له مولودٌ، فأذَّنَ في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، دُفِعَتْ عنه أم الصبيان" (¬1). ويحنك بتمرةٍ، بأن تُمْضَغَ ويدلك بها داخلُ فمِهِ، ويفتح فمه حتى ينزل إلى جوفه منها شيء. (وسن أن يُحْلَقَ رأسُ الغلام في اليوم السابع) من ولادته (ويتصدق بوزنه فضة) ولا يحلق رأس الجارية. ¬

_ (¬1) حديث "من ولد له مولود فأذن في أذنه ... " رواه ابن السني، كما في منار السبيل. قال في الإِرواء (ح 1174): حديث موضوع فيه يحيى بن العلاء قال فيه أحمد: كذاب يضع الأحاديث.

(ويسمّى) المولود (فيه.) والتسمية للأب، فلا يسميه غيره مع وجوده. ويسن أن يحسّن اسمه. (وأحب الأسماء) إلى الله تعالى (عبد الله، وعبد الرحمن،) وكل ما أضيف إلى الله تعالى، كعبد الرحيم، وعبد القادر. وتجوز التسمية بأكثر من اسمٍ واحدٍ، والاقتصار على واحد أولى. (وتحرم التسمية بعبد غير الله، كعبد النبي، وعبد المسيح) وعبدِ الكعبة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: أنا ابن عبدِ المطلب، فليس من باب إنشاء التسمية، بل من باب الإِخبار بالاسم الذي عرف به المسمَّى، والإِخبارُ بمثل ذلك على وجهِ تعريفِ المسمَّى لا يحرم. فباب الإِخبار أوسع من باب الإِنشاء. (وتكره) التسمية (بحربٍ، ويَسَارٍ، ومُبارَكٍ، ومُفْلِحٍ، وخيرٍ، وسرورٍ، ونعمةٍ،) ونجيحٍ، وبَرَكَةَ، ورباحٍ، وكذا ما فيه تزكية كالتقيّ والزكيّ (لا بأسماءِ الملائكة،) فلا تكره التسمية بأسمائهم، (و) كذلك التسمية بأسماء (الأنبياء) كإبراهيم، ونوحٍ، ومحمد، وصالح، عليهم السلام. (وإن اتفق وقتُ عقيقةٍ وأضحيةٍ أجزأتْ إحداهما عن الأخرى) مقتضاه إجزاء إحداهما عن الأخرى وإن لم ينوها. وعبارة الإِقناع: ولو اجتمع عقيقةٌ وأضحيةٌ، ونوى بالأضحية عنهما، أجزأت عنهما، نصاً. قال ابن القيم في كتابه "تحفة الودود في أحكام المولود": كما لو صلى ركعتين، ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة، أو صلى بعد الطواف فرضاً أو سنَّةً مكتوبةً وقع عنه وعن ركعتي الطواف. وكذلك لو ذبح المتمتع والقارن شاةً يوم النحر أجزأُ عن دمِ المتعة وعن الأضحيةِ. انتهى.

كتاب الجهاد

كتَاب الجهَاد مصدر جاهَدَ جهاداً. هو لغةً: بذلُ الطاقةِ والوسْعِ. وشرعاً قتال الكفار. (وهو فرضُ كفايةٍ) ومعنى فرض الكفاية أنه إذا أقام به من يكفي سقط عن سائِرِ الناس، وإن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم. (ويسنُّ) بتأكُّدٍ (مع قيام من يكفي به) لما روى أبو داود بإسناده عن أنس، قال. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة من أصلِ الإِيمان: الكفُّ عمن قال لا إله إلا الله: لا يُكفِّرُهُ بِذنْبِ، ولا يُخْرِجُهُ عن الإِسلام بعملٍ. والجهادُ ماضٍ منذ بعثني الله تعالىَ إلى أن يقاتلَ آخرُ أمَّتي الدجالَ، لا يبطله جَوْرُ جائِرٍ، ولا عَدْلُ عادِلٍ، والإِيمانُ بالأقدار." (¬1) (ولا يجب الجهاد إلا على ذكرٍ) فلا يجب على أنثى ولا خنثى مُشْكِلٍ، (حرٍّ) فلا يجب على عبدٍ، (مسلمٍ) لأن الإِسلام شرطٌ لوجوب سائر الفروع، (مكلفٍ) لأن التكليف شرط لوجوب سائر الفروع؛ (صحيحٍ) بأن يكون سالماً من العمى والعَرَجِ والمَرَضِ، للآية ¬

_ (¬1) حديث "ثلاثة من أصل الإِيمان ... " رواه باللفظ المذكور في الشرح أبو داود (وابن ماجه؟) وفي ضعيف الجامع الصغير: هو حديث ضعيف.

الشريفة (¬1)، (واجدٍ من المال ما يكفيه ويكفي أهله في غيبته) لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (ويجد مع مسافةِ قصرٍ ما يحمله) ولا تعتبر الراحلة مع قرب المسافة، كالحج. ويعتبر أن يكون ذلك فاضلاً عن قضاءِ دينِه، وأُجْرَةِ مسكَنِهِ، وحوائِجِهِ، كالحجّ. (وسن تشييع الغازي، لا تلقِّيهِ) وذَكر الآجرّي استحباب تشييعِ الحاجِّ وَوَدَاعِهِ ومسألتِهِ أن يدعوَ له. (وأفضلُ متطوَّع به) من العبادات (الجهادُ). قال أحمد: لا أعلم شيئاً من العَمَلِ بعد الفرائِضِ أفضلَ من الجهاد. (وغزو البحر أفضل) من غزو البرّ، لأن شهادة البحر تكفِّر كل ذنب حتى الدين، (وتكفر الشهادة جميع الذنوب سوى الدين) قال في الفروع: قال شيخنا: وغيرَ مظالِمِ العبادِ، كقتلٍ، وظُلمٍ، وزكاة، وحج (¬2). وقال شيخنا: من اعتقدَ أن الحجَّ يُسْقِطُ ما وجب عليه من الصلاة والزكاة، فإنه يستتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ. ولا يسقُطُ حقُّ الآدميّ من دمٍ أو مالٍ أو عِرْضٍ بالحجِّ إجماعاً. وتكفر طهارةٌ وصلاةٌ ورمضانُ وعرفةُ وعاشوراءُ الصغائر فقط. (ولا يتطوع به) أي الجهاد (مدينٌ) آدمي (لا وفاء لَهُ) سواء كان الدين حالاً أو مؤجَّلاً (إلا بإذن غريمه) أو بدفعه له رهناً يمكن استيفاء الدين من ثمنه. (ولا) يتطوع به (من أَحَدُ أبويه حرٌّ مسلم إلا بإذنه) لأن برّ الوالدين ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قيل إنها في التخلف عن الجهاد، وقد فُسرت بغير ذلك. (¬2) في منار السبيل: وزكاة وحج أخرهما. وهذا أوضح، فإن الحج ليس من حقوق العباد.

[حكم الرباط]

فرض عين، والجهاد فرضُ كفاية، وفرضُ العينِ يقدَّم. فأما إن كانا غير مسلمين فلا إذن لهما. وكذا إن كانا رقيقين، على الأصح. وكذا إن كانا مجنونين، لا رضا جدٍّ وجدةٍ. [حكم الرباط] (ويسن الرباط) في سبيل الله تعالى، (وهو لزوم الثَّغْر) والثغرُ كل مكان يخيفُ أهله العدو أو يخيفهم (للجهاد). (وأقله) أي الرباط (ساعة) قال أحمد: يَوْمٌ رباطٌ، وليلةٌ رباطٌ، وساعةٌ رباط. (وتمامُهُ أربعونَ يوماً) روي عن ابن عمر: تمامُ الرباطِ أربعونَ يوماً. رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب. (وهو) أي الرباط (أفضلُ من المُقَام بمكة) والصلاة بها أفضل من الصلاة بالثغر. (وأفضله ما كان أشدَّ خوفاً) لأن مقامه به أنفع. [حكم الفرار من الزحف] (ولا يجوز للمسلمين الفرار من) كفارٍ (مثليهم، ولو) كان الفار (واحداً من اثنين) كافرين، ولو مع ظن تلفٍ، إلا متحرفِينَ لقتالٍ، أو متحيِّزينَ إلى فئةٍ. (فإن زادوا) أي زاد الكفار (على مثليهم) أي على مثلي المسلمين (جاز) للمسلمين الفرار. [الهجرة] (والهجرةُ واجبةٌ) وهي الخروج من دار أهل الكفر إلى دار أهل الإسلام (على كل من عجز عن إظهار دينه بمحلٍّ يغلب فيه حكم الكفر أو البدع المضلة) كالرَّفْضِ والاعتزال، لأن القيام بأمر الدين واجب

[في الأسرى]

على القادر، والهجرةُ من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومحل الوجوب إن قدر (فإن قدر على إظهار دينه) في المحل الذي يغلبُ فيه حكم الكفر والبدع المضلة (فـ) الهجرة في حقه (مسنونة). فصل [في الأسرى] (والأسارى من الكفار على قسمين): (قسمٌ يكون رقيقاً بمجرد السبْيِ، وهم النساء والصبيان) والمجانين، من كتابيٍّ وغيرهم. (وقسمٌ: لا، وهم الرجال البالغون المقاتلون. والإِمام فيهم مخيَّرٌ) تخييرَ مصلحةٍ واجتهادٍ في الأصلح، لا تخييرَ شهوةٍ (بين قتلٍ) لعموم قوله تعالى: {اقْتُلوا اُلمْشْرِكِين}، (ورقٍّ) لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية، فبالرّق أولى، لأنه أبلغ في صَغَارِهِمْ، (وَمَنٍّ) لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (وفداءٍ بمالٍ) للآيةِ الشريفةِ أو بأسيرٍ مسلمٍ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلينِ من أصحابِهِ برجلينِ من المشركِينَ، من بني عُقَيْل. رواه أحمد والترمذي. (ويجب عليه فعلُ الأصلح) من هذه الأمور المذكورة. (ولا يصحُّ بيع مستَرقٍّ منهم) أي من الأسارى (لكافرٍ) ولو كان المسَتَرقُّ كافراً على الأصحّ. (وُيحْكَمُ بإسلامِ من لم يبلغ) من السبْيِ (من أولادِ الكفارِ عند وجودِ أحدِ ثلاثةِ أسبابِ): (أحدها: أن يسَلم أحد أبويه خاصَّةً) أو اشتبَهَ ولدُ مسلمٍ بولدِ

[السلب للقاتل]

كافرٍ، فَيُحْكَم بإسلامِ ولدِ الكافر، ولا يُقْرَعُ، لئلا يقع ولد المسلم للكافر. (الثاني: أن يُعْدَمَ أحدهما بدارنا) كزنا ذمِّيَّةٍ ولو بكافرٍ، فتأتيَ بولد، فالولد مسلم، نصًّا. (الثالث: أن يسبيه مسلمٌ منفرداً عن أحَدِ أبويِهِ) لأنّ الدينَ إنما يثبتُ له تبعاً، وقد انقطعتْ تبعيته لأبويه لانقطاعِهِ عنهما، وإخراجِه عن دارِهِمَا، ومصيرِه إلى دار الإِسلام تبعاً لسابيه المسلم، فكان تابعاً له في دينه. (فإن سباه ذمّيٌّ فعلى دينه.) قال في الإِنصاف: لو سبى ذميّ حربيًّا تَبعَ سابِيَهُ حيث يتبعُ المُسْلِمَ، على الصحيح من المذهب (أو سُبِيَ) حال كونه (مع أبويه، فعلى دينهما) وملكُ السابي له لا يمنع اتباعَة لأبويْهِ في الدينِ، بدَليل، ما لو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين. فصل [السلب للقاتل] (ومن قتلَ قتيلاً) أو أثْخَنَهُ (في حالةِ الحربِ فَلَهُ) أي المسلمِ (سَلَبُهُ) وكذا لو قَطَعَ مسلم من أهل الجهاد أربعةَ كافرٍ (¬1) فإنه يستحق سَلَبَهُ دون قاتِلهِ، لأن القَاطِعَ هو الذي كفى المسلمين شره. (وهو) أي السَّلَبُ (ما) كان (عليه) أي على الكافر المقتول (من ثيابٍ وحليٍّ وسلاحٍ، وكذا دابَتُهُ التي قاتَلَ عليها وما) أي والذي (عليها) ¬

_ (¬1) أربعةَ كافرٍ: أي أطرافه الأربعة، يديه ورجليه.

[قسمة الغنائم]

أي فيكون له ما كان لابِسَهُ من ثيابٍ وعمامةٍ وقلنْسوَةٍ ومِنْطِقَةٍ ودرعٍ ومِغْفَرٍ وبَيْضَةٍ وَتَاجٍ وَأَسْوِرَةٍ ورانٍ وخفٍّ، (وأما نفقته) أي المقتول (ورحلُهُ وخيمَتُه وجَنِيبُهُ) لدابتِهِ التي لم يكن راكبَها حال القتال (فغنيمةٌ.) ويجوز سَلْبُ القتلى وتركُهْمُ عراةً. تنبيه: يكره التلثُّم في القتال على أنفٍ لا لُبْسُ عمامةٍ كريشِ نَعامً. [قسمة الغنائم] (وتقسم الغنيمة بين الغانمين) الذين شهدوا الوقعة (فيعطى لهم أربعةُ أخماسِها: للراجِلِ) ولو كان كافراً (سهمٌ، وللفارِسِ على فرسٍ هجينٍ) وهو ما أبوه فقط عربيٌّ، أو مقرفٍ، وهو ما أمُّه فقط عربية، أو بِرْذَوْنٍ، وهو ما أبواه نبطيان (سهمان؛ و) للفارِسِ (على فرسٍ عربيٍّ) ويسمى العتيقَ (ثلاثةُ أَسهم). (ولا يُسْهَمُ لغير الخيلِ) كالفِيَلَةِ والبِغالِ. (ولا يُسْهَمُ إلاَّ لمن) اجتمعت (فيه أربعة شروط): الأول: (البلوغ، و) الثاني: (العقل، و) الثالث: (الحرّية؛ و) الرابع: (الذكورة). (فإن اختل شرط) من هذه الشروط الأربعة (رُضِخَ له ولم يُسْهَمْ). فيرضَخُ لمميزٍ، وقِنٍّ، وخنثى، وامرأةٍ، على ما يراه الإِمام. إلا أنّه لا يبلُغُ به لراجلٍ سهمَ الراجلِ، ولا لفارسٍ سهمَ الفارسِ. (ويقسم الخمس الباقي خمسةَ أسهمٍ): (سهم لله تعالى ولرسولهِ) - صلى الله عليه وسلم -، وذكر اسمُهُ تعالى تبركاً لأن الدنيا والآخرةَ له سبحانه وتعالى، (يُصْرَفُ مَصْرِفُ الفيء) أي في مصالح المسلمين.

فصل يذكر فيه أموال الفيء ومصارفها

(وسهمٌ لذوي القربى، وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلبِ) أبنا عبدِ منافٍ، دونَ غيرِهْم من بني عبد منافٍ (حيثُ كانوا) أي يجبُ تعميمُهم حَسَبَ الإِمكان، ويجب تفرقته بينهم (للذَّكَرِ مثلَ حظ الأنْثَيَيْنِ) غنيهم وفقيرُهم فيه سواءٌ، جاهدُوا أوْ لا. (وسهمٌ لفقراءِ اليتامى، وهم) أي واليتامى (من لا أبَ له، ولم يبلغ) الحُلُمَ، لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُتمْ بَعْد الاحتلام" (¬1) واعتُبر فيهم الفقر لأن ذا الأبِ لا يستحق، والمال أنفع من وجود الأب. (وسهمٌ للمساكين) وهم أَهل الحاجةِ، فيدخل في عمومهم الفقراءُ، فالفقراءُ والمساكينُ صنفانِ في الزكاة، وصنف واحدٌ هنا وفي سائِرِ الأحكام. ويعمُّ به جميعَهم في جميع البلاد، كسهمِ ذوي القربى واليتامى. (وسهمٌ لأبناء السبيل) وتقدم ذكرهم في باب الزكاة. فصل يذكر فيه أموالُ الفيءِ ومصارفُها (والفيء هو ما أُخِذَ من مال الكفار بحق من غيرِ قتالٍ، كالجزيةِ، والخراجِ، وعُشْرِ التجارة من الحربيّ، ونصفِ العشر من الذّمّيّ، وما تركوه) أي الكفار للمسلمين (فزعاً) من المسلمين، (أو) تُرِكَ (عن ميِّتٍ ولا وارثَ له) يستغرق. (ومصرفه) أي مصرف ما ذكر من المال ومصرف خُمْسِ خُمْسِ الغنيمة (في مصالحِ المسلمين.) وذكر أحمد الفيءَ فقال فيه: لكلِّ ¬

_ (¬1) حديث "لا يُتْم بعد احتلام" رواه أبو داود (الفتح الكبير) قال في الإِرواء (ح 1244): هو صحيح.

المسلمينَ، وبين الغنيّ والفقيرِ. (ويُبْدَأ بالأهمِّ فالأهم، من سدِّ ثغرٍ) بمن فيه كفاية، وهم أهل القوّة من الرجال الذين لهم مَنَعةٌ، (وكفايةُ أهلِهِ) أي القيام بكفاية أهل الثغورِ، (وحاجةُ من يَدْفَعُ عن المسلمينَ) من السلاحِ والخَيْلِ، (وعمارَةِ القناطَر)، أي الجسور، وإصلاح الطرق، والمساجد، (ورزق القضاة) والأئمةِ والمؤذنينِ (والفقهاءِ وغير ذلك) ممن يحتاجُ إليه المسلمون. (فإنْ فَضَل شيء) عن المصالح (قُسِمَ بين أحرارِ المسلمين، غنيِّهم وفقيرِهم) للآية، ولأنه مالٌ فَضَل عن حاجتهم، فَيُقْسَمُ بينهم، وَيسْتَوُونَ فيه، كالميراث. (وبيتُ المالِ ملكٌ للمسلمين، يَضْمَنُه متلفه، ويحرم الأخذ منه بلا إذن الإِمام) لأنّ تعيينَ مصارفه وترتيبَها يرجع فيه إلى الإِمام، فافتقر الأخذ منه إلى إذنه.

باب يذكر فيه جملة من أحكام (عقد الذمة)

باب يذكر فيه جُملَة مِن أحكَامِ (عقد الذمّة) ويجب إذا اجتمعت شروطه. (لا تعقد) أي لا يصح عقد الذمة (إلا لأهلِ الكتاب) اليهودِ والنصارى على خلافِ طوائِفِهم (أو لمن له شُبْهَةُ كتابٍ) يعني أنه يصحّ عقد الذمة أيضاً لمن له شبهة كتاب (كالمجوسِ) فإنه يُرْوى أنه كان لهم كتاب، فرفع، فصار لهم بذلك شبهة كتاب. (ويجب على الإِمام عقدُها) أي الذمة (حيث أَمِنَ مكرَهمْ، والتزموا لنا بأربعة أحكام): (أحَدُها: أن يعطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون) بأن يُمْتَهَنُونَ (¬1) عند أخذها، ويطالُ قيامهم، وتُجَرُّ أيديهم عند ذلك، وجوباً. (الثاني: أن لا يذكروا دين الإِسلام إلاَّ بالخير.) ويأتي أنّ من ذكر دين الإِسلام بعد عقدها بسوءٍ ينتقض عهده. (الثالث: أن لا يفعلوا ما فيه ضررٌ على المسلمين.) (الرابع: أن تجري عليهم أحكامُ الإِسلام في) ضمانِ (نفسٍ ومالٍ وعرضٍ و) في (إقامةِ حدٍّ فيما يحرّمونه) أي يعتقدون تحريمه (كالزَّنا، لا ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، بإثبات النون. وله وجه في اللغة.

[في أحكام أهل الذمة]

فيما يحلّونه) أي يعتقدون حله (كـ) شرب (الخمر). (ولا تُؤْخَذُ الجزيةُ من امرأةٍ) لأن الجزيةَ بدلٌ من القتلِ، وقتل المرأةِ والصبيِّ ممتنع. (و) لا تؤخذ الجزية من (خنثى) لأن الأصل براءة ذمتها منها، فإن بان الخنثى رجلاً أخذت منه للمستقبل من الزمان دون ما مضى. (و) لا جزية على صبيٍّ , و) لا (مجنون، و) لا قِنٍّ، و) لا (زَمِنٍ، و) لا (أعمى، و) لا (شيخٍ فانٍ، و) لا (راهبٍ بصومعةٍ،) لأنهم لا يُقْتَلُونَ، فلا تجب عليهم الجزية. والراهب يؤخذ مما بيده ما يزيد على بُلْغَتِهِ، فلا يبقى بيده إلا بُلْغَتُهُ فقط. (ومن أَسْلَمَ منهم،) أي ممن تؤخذ منه (بعد الحول، سقطت عنه الجزية) نصّ عليه. ويدل له قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وروى ابنُ عباسِ، رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليسَ على المسلمَ جِزْيَةٌ" رواه الخلال (¬1). فصل [في أحكام أهل الذمة] (ويحرم قتلُ أهلِ الذمة، وأخذ مالِهِم، ويجبُ على الإِمامُ حفظهم) أي حفظُ أهل الذمة (ومَنْعُ من يؤذيهم) من المسلمين. (وُيمْنَعُونَ من رُكُوبِ الخيلِ) بإكافٍ أو غيرِه، ومن ركوبِ غيرِ خيلٍ بِسُرُجٍ، (وحملِ السلاحِ) ومن ثِقافٍ، ورمي ولعب بدبوس ورمح. ¬

_ (¬1) حديث "ليس على المسلم جزية" الذي رواه الخلال: قال أحمد: ليس يرويه غير جرير (المغني 8/ 511) وأخرجه أحمد وأبو داود وهو ضعيف (الإِرواء ح 1257)

[الغيار]

(و) يُمنعون (من إحداث الكنائس) والبيع، ومحلٍّ يجتمعون فيه لصلاة (ومن بناءِ ما انهدم منها) أي الكنائس والبيع. (و) يُمنعون (من إظهار المنكر) كنكاحِ المحارم، (والعيد، و) إظهار الصليب، و) يمنعون من (ضربِ الناقوسِ) وهو خَشَبةٌ طويلة يضرب بها النصارى إعلاماً للدخول في صلاتهم. ونَقَسَ نَقْساً -من باب قتل- فَعَلَ ذلك، قاله في المصباح، وإظهار الخمر (ومن الجهرِ بِكتابِهم، ومن الأكل والشرب نهارَ رَمضان، ومن شُرْبِ الخمر، وأكل الخِنْزير. ويمنعون من قراءة القرآن، و) يمنعون من (شراءِ المُصْحَفِ وكُتُبِ الفقهِ والحديث). (و) يمنعون (من تَعْلِيَة البناء على المسلمين) ولو رضي جاره المسلم بتعليته عليه، لما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِسلامُ يَعْلو ولا يعلى عليه" (¬1) ويضمن ما تلف بِه قبل نقضه، لتعديه. [الغيار] (ويلزمهم التمييزُ عنّا بلبسهم) فيلبَسُ اليهودي ثوباً عَسَليًّا، ويشدّ خرقةً على قلنسوته وعمامته، ويلبَسُ النصرانيّ زُنَّاراً فوق ثيابِهِ. (ويكره لنا التشبُّه بهم)؛ قال في الإِقناع: والتشبه بهم مَنْهِيٌّ عنه، إجماعاً، وتجب عقوبةُ فاعله. وقال: ولما صارت العمامةُ الصفراءُ والزرقاءُ والحمراءُ من شعارِهِم حَرُمَ على المسلم لبسها، انتهى. (ويحرم القيام لهم) أي لأهل الذمة، (وتصديرهم في المجالِسِ) إلا إن رُجِي إسلامُهمْ. اختاره الشيخ. ¬

_ (¬1) حديث "الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه" ذكره في الفتح الكبير بلفظ "الإِسلام يعلو ولا يعلى" وقال: رواه الدارقطني والبيهقي والضياء من حديث عائذ بن عمرو مرفوعاً.

[فيما ينتقض به عهد الذمي]

(و) يحرم أيضاً (بُداءَتُهُمْ بالسلام، وبكيفَ أصبحت، أو) بكيف (أمسيت، أو كيف أنت، أو) كيف (حالك). (وتحرم تَهْنِئَتُهُمْ، وتعزيتهم، وعيادتهم) وشهادةُ أعيادهم. (ومن سلم على ذمّيّ) لا يعلم أنه ذمّيّ (ثم عَلِمَهُ يسن قوله) له: (رُدَّ عَلَيّ سَلاَمي. وإن سلم الذمّيّ) على المسلم (لزم ردّه، فيقال) له: (وعليكم). (وإن شَمَّتَ كافرٌ مسلمًا أجابه) المسلم بيهديك الله. (وتكره مصافحته) أي أن يصافِحَ مُسْلِمٌ ذِمياً. فصل [فيما ينتقض به عهد الذمّي] (ومن أبى من أهل الذمة بذل الجزية، أو أبى الصغار، أو أبى التزام حكمنا) إذا حكم عليه بشيءٍ، سواءٌ شُرِطَ عليهم ذلك، أوْ لا، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قيل: الصغار: التزامُ أحكامِ الإِسلام، (أو زَنَى بمسلمةٍ، أو أصابها باسم نكاحٍ) نصاً، (أو قَطَعَ الطريقَ) لأنه لم يَفِ بمقتضى الذّمّة (أو ذَكَرَ اللهَ تعالى أو رسولَه) أي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (بسوءٍ) ونحوه (أو تعدَّى على مسلمٍ بقتل أو فتنةٍ عن دينه، انتقضَ عهده) لأن هذا ضررٌ يعمُّ المسلمين، أشبهَ ما لو قاتَلَهُمْ، لا بِقَذْفِهِ مسلماً، ولا بإيذائه بسحرٍ في تصرفه، ولا إن أظهر منكراً، أو رفع صوته بكتابه. (ويخيَّر الإِمام فيه،) ولو قال: تُبْتُ، (كالأسير) الحربيّ. وتقدم حكمه (وماله فيءٌ) لأن المال لا حرمةَ له في نفسه، إنما هو تابع للمالك حقيقةً، وقد انتقض عهد المالك في نفسه، فكذا في مالِهِ.

(و) من انتقض عهده فـ (لا ينتقضُ عهد نسائِهِ وأولادِهِ) بنقض عهده. (فإن أَسْلَمَ حَرُمَ قَتْلُهُ ولو كان سب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -).

كتاب البيع

كتَاب البَيع وهو مبادلة عين ماليّةٍ، أو منفعةٍ مباحةٍ مطلقاً، بإحداهما، أو بمالٍ في الذمّة، للمِلْكِ على التأبيد، غيرَ رِباً وقرضٍ. و (ينعقد) البيع بشروطه الآتية (لا) إذا كان (هزلاً) لأن حقيقته لم تُرَدْ وُيقبَل قول البائِعِ أَن البيعَ وَقَعَ هزْلاً أو تلجئةً، بيمينه، مع القرينة الدالة على ذلك (بالقولِ الدالِّ على البيع والشراء.) وصيغتُهُ القوليةُ غير منحصرةٍ في لفظٍ بعينِهِ، بل هي كلُّ ما أدّى معنى البيع. (و) ينعقد البيع (بالمعاطاةِ)، فينعقد البيع بها، بالقليل والكثير. ومن صور بيع المعاطاة (كأعطنيَ بهذا الدرهم خبزاً، فيعطيه البائع ما يرضيه) وهو ساكت. أو يقولَ البائعُ: خذْ هذا بدرهمٍ، فيأخذه وهو ساكتٌ، ومن المعاطاة لو ساوَمَهُ سلعةً بثمنٍ فيقول: خذها، أو: هيَ لك، أو أعطيتُكَها، ونحو ذلكَ مما يدلّ على بيعٍ وشراءٍ. [شروط البيع] (وشروطه) التي تتوقف صحته عليها (سبعة): (أحدها: الرضا) به من المتبايعين، وهو أن يأتيا به اختياراً، ما لم

يكن بيعَ تلجِئَةٍ، أو أمانةٍ، بأن يُظْهرا بيعاً لم يريداه باطناً، بل أظهراه خوفاً من ظالمٍ ونحوه، ودفعاً له. فالبَيعُ باطلٌ وإن لم يقولا في العقد: تَلْجِئَةً، (فلا يصحّ بيع المكرَهِ بغيرِ حقٍّ) كالذي يستولي على ملكِ رجلٍ بلا حقٍّ فيطلبه، فيجحده إياه، حتى يبيعَه. أما إن أُكرِه بحقّ، كالذي يُكْرِهُهُ الحاكم على بيع مالِهِ لوفاءِ دينِهِ فبيعه صحيح. (الثاني) من شروط البيع: (الرُّشْدُ، فلا يصح بيع) المجنونِ والسكرانِ والنائمِ والمُبَرْسَمِ و (المميّز (¬1)، والسفيه، ما لم يأذن وليُّهما) ولو في الكثير. ويحرم إذنه لهما لغيرِ مصلحةٍ. ولا يصح منهما قَبُولُ هَبِةٍ ووصيَّةٍ بلا إذن وليٍّ. (الثالث: كون المبيع مالاً) والمال ما يباحُ نفعه في جميع الأحوال (فلا يصح بيع الخمر) ولو كانا ذميّيْنِ؛ (والكلبِ) ولو كان مباحَ الاقتناء؛ (والميتة) ولو لمضطر إلا سمكاً وجراداً وجُنْدُباً، لحِلِّ أكلها. (الرابع: أن يكون المبيع مِلْكاً للبائع) وقت العقد، وكذا الثَّمَنُ (أو مأذوناً له) أي لبائِعِه (فيه.) أي في بيعه من مالكِهِ، أو من الشارع، كالأب يتصرف في مال ولده الصغير، وكالحاكِم يتصرّفُ في مال اليتيم والغائب، (وقْتَ العقد) ولو ظنّ المالك، أو المأذون له، عدم الملك والإِذنِ له في بيعه، لأنّ الاعتبار في المعاملاتِ بما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلف، (فلا يصحّ بيعُ الفضوليِّ) ولا شراؤه (ولو أجيزَ) تصرَّفُهُ (بَعْدُ) أي بعد العقد. (الخامسُ: القدرة على تسليمه) أي تسليمِ المبيع لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، (فلا يصح بيع) العبد (الآبِقِ، و) الجَمَلِ (الشارِدِ)، سواء عَلِمَ مَكانَه أو جهلَهُ، (ولو) كان بيع الآبِقِ والشارِدِ (لقادر ¬

_ (¬1) لو قال "والصغير" مع قوله "والمميّز" لكان أولى، لأن الكبير مميز.

[في موانع صحة البيع]

على تحصيلهما)، ولا سمكٍ بماءٍ إلا مرئيًّاً بِمَحوزٍ يسهل أخذه منه، ولا طائر بمكان يصعب أخذه منه. (السادس: معرفة الثمن والمثمن) للمتعاقدين (إما بالوصف) والبيع بالوصف مخصوص بما يجوز السلم فيه (أو المشاهدةِ) له (حال العقد أو قبله) أي العقد (بيسير) يعني إذا سبقت الرؤية العقد بزمن لا تتغيَّر العينُ فيه تغييراً ظاهراً، فالعقد صحيح. (السابع: أن يكون منجَّزاً) فـ (لا) يصح البيع ولا الشراء (معلَّقاً: كبعتُك إذا جاء رأسُ الشَّهْر، أو بعتك إن رضي زيدٌ.) ووجهُ عدم انعقاده كونه عقد معاوضة. ومقتضى عقد المعاوضة نقلُ الملك حالَ العقدِ، والشرط يمنعه. (ويصح بعتُ وقبلتُ إن شاء الله) تعالى. وهو المذهب. (ومن باع معلوما ًومجهولاً لم يتعذر علمه) صفقةً واحدة (صحّ في المعلوم بقسطِهِ) من الثمن. (وإن تعذرت معرفة المجهول ولم يبيِّن ثمن المعلوم)، كقوله: بعتك هذِهِ الفرس، وما في بطن هذه الفرس الأخرى (فـ) البيع (باطل) لأن المجهول لا يصح بَيْعُهُ، لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط. فصل [في موانع صحة البيع] 1 - (ويحرم ولا يصحُّ بيعٌ ولا شراءٌ في المسجد) قليلاً كان البيع أو كثيراً. 2 - (و) يحرم (لا) يصح بيعٌ ولا شراءٌ (ممن تلزمه الجمعة بعد

ندائها الذي عند المنبر) عَقِبَ جلوس الإِمام على المنبر، لأنه الذي كان على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {وَذَرُوا البَيْعَ} تنبيه: قال المنقّح: أو قبله لمن منزلُهُ بعيدٌ بحيث إنه لا يدركها، انتهى. ويستثنى من ذلك مسائلُ أشير إليها: إلاَّ من حاجةٍ كمضطرٍّ إلى طعامٍ أو شرابٍ، وعريانٍ وجد سترةً، وككفنٍ ومؤنةِ تجهيزٍ لميتٍ خيف فسادُهُ بتأخُّرِهِ، َ أو وجودِ أبيه ونحوِه يُبَاعُ مع من لو تَرَكَه لذهب به، ومركوبٍ لعاجزٍ عن المشي إلى موضع الجمعة، أو ضريرٍ عدم قائداً (¬1) ونحوه. 3 - (وكذا) أي وكالبيع والشراء بعد نداء الجمعة الذي عند المنبر (لو تضايق وقتُ) الصلاةِ (المكتوبةِ) لوجودِ المعنى الذي مُنِع المكلَّفُ من أجلِهِ البيعَ والشراءَ بعد نداءِ الجمعةِ. وعلم من قوله: "بيعٌ ولا شراءٌ" أنه لو كان أحد المتعاقدين تلزمه الصلاة، والآخر لا تلزمه، كالعبدِ والمرأةِ إذا باعا أو اشتريا ممن تلزمه الجمعة، بعد ندائها، أنه لا يصح البيع في الأصحّ. وكذا إذا وُجِدَ الإِيجابُ قبل النداء والقبولُ بعدَهُ. ويصح إمضاء بيعٍ وبقيةِ العقود، كقرضٍ، ورهنٍ، وضمانٍ، ونكاحٍ. 4 - (ولا) يصحّ (بيع العِنَبِ أو العصير لمتخذه خمراً)؛ ولا مأكولٍ ومشروبِ ومشمومٍ وقدحٍ لمن يشرب عليهِ أو بِهِ مُسْكِراً؛ (و) لا يصح (بيع البيَضِ والجوزِ ونحوهما) كالبُنْدقِ (للقمار؛ ولا) يصحّ (بيع السلاح) ونحوه كالترس والدِّرع (في الفتنة، أو لأهل الحرب، أو قُطاع الطريق) ¬

_ (¬1) يعني اذا أشترى عبداً يقوده إلى المسجد.

إذا علم البائع ذلكَ من مُشْتَرِيه، ولو بقرائن، لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولا يصحُّ بيع أَمَةٍ أو غلامٍ لمن عُرِفَ بِوَطءِ دُبُرٍ أو غناءٍ. 5 - (ولا) يصح (بيع قنٍّ) ذكرٍ أو أنثى (مسلمٍ لكافرٍ) ولو وكيلَ مسلمٍ (لا يعتَقُ عليه) أي على الكافر، لأنّه يُمْنَعُ من استدامةِ ملكهِ عليه، فمنع ابتداؤُه، كالنكاح. أما إذا كان العبدُ المسلمُ يعتَق على الكافر بالقرابة فإنه يصحّ شراؤه له على الأصح، لأن ملكه لا يستقر عليه، وإنما يعتَقُ بمجرّد ذلك في الحال، ويزول الملك عنه بالكلّيّةِ، ويحصل له من نفعٍ الحريّةِ أضعافُ ما حصل له من الإِهانَةِ بالرّقّ في لحظةٍ يسيرةٍ. فإن مَلَكَ الكافرُ رقيقاً مسلماً بإرثٍ أو غيرِهِ أُجْبِرَ على إزالةِ ملكِهِ عنه، ولا تكفي مكاتبته ولا بَيْعُه بخيارٍ. 6 - (ولا) يصحُّ (بيعٌ) بالتنوين (على بيع المسلم) زمنَ الخِيَارَيْنِ (كقولِهِ لمن اشترى شيئاً بعشرةٍ: أُعطيك مثلَهُ بتسعةٍ)، أو: أنا أعطيكَ خيراً منها بثمنها، أو يعرضُ عليه سلعةً يرغب فيها المشتري ليفسخَ البيعَ ويعقِدَ معه. (ولا) يصح أيضاً (شراءٌ عليه) أي على شراء المسلمِ (كقولِهِ لمن باعَ شيئاً بتسعةٍ: عندي فيه عشرة.) وكذا اقتراضُهُ على اقتراضِهِ، بأن يعقد القرضِ مَعَة، فيقول له آخر: أقرضني ذلك، قبل تقبيضِهِ للأول، فيفسخه ويدفعه للثاني. وكذا اتّهابُهُ على اتّهابِهِ، وطلبُ عَمَلِهِ في الولاياتِ بعد طَلَبِ غَيْرِه، ونحو ذلك. وكذا المساقاةُ والمزارعةُ والجُعَالَةُ ونحو ذلك، كفُها كالبيعِ، فتحرم ولا تصحّ إذا سَبَقَتْ للغيرِ، قياساً على البيع، لما في ذلك من الإِيذاء.

[حكم المقبوض بعقد فاسد]

(وأما السَّوْمُ على سومِ المسلمِ مع الرِّضا الصريح) من البائع فحرامٌ، وهو أن يتساوَمَا في غيرِ المنادَاةِ، حتى يَحْصُلَ الرضا من البائع. فأما المزايَدَة في المناداة فجائزةٌ. وعلم مما تقدّم أن السومَ على سومِ المسلم مع عدم رضا البائع لا يحرم. 7 - (و) أما (بيع المصحف) فحرامٌ ولو في دينٍ لأنَ في بيعهِ ابتذالاً له، وتركاً لتعظيمِهِ. ولا يصحّ لكافرٍ. 8 - (و) أما بيع (الأمة التي يطؤُهَا قبل استبرائِهَا فحرام. ويصحّ العقد) في السومِ على السوم، وفي بيع المصحف إذا كان المشتري مسلماً، وفي بيع الأمة التي يطؤها قبل استبرائها. [حكم المقبوض بعقد فاسد] (ولا يصح التصرّف) ببيعٍ وهبة وغيرهما (في المقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ). (وُيضمَن هو وزيادتُه، كمغصوبٍ) إذا تلف، أو أتلفه، ما لم يدخل في ملك القابض، كالمقبوض عَلى وجه السوم. فإن كان مثليًّا ضمنه بمثله، أو متقوِّماً فبقيمته. لكن لو اشترى ثمرةَ شجرةٍ شراءً فاسداً، وخلّى البائع بينَه وبَيْنَهُ (¬1) على شجرِهِ لم يضمنه بذلك، لعدم ثبوت يده عليه. ذكر بعض أصحابنا أنه محل وفاقٍ. قاله ابن رجبٍ في "القواعد." ¬

_ (¬1) (ب، ص): "وبينها" والتصويب من "ف".

باب مضاف إلى (الشروط في البيع)

باب مُضَاف إلى (الشرُوط في البَيع) والشروط جمع شَرْطٍ، والشرط في البيع والإِجارة والشركةِ: إلزامُ أحد المتعاقدين الآخَرَ، بسبب العقد، ما له فيه غَرَضٌ صحيح. وتُعْتَبَرُ مقارنتُهُ للعقد. (وهي) أي الشروط في البيع (قسمان): الأوَّل: (صحيحٌ لازمٌ) ليس لمن اشْتُرِطَ عليه فكُّه. (و) الثاني: (فاسدٌ مُبْطِلٌ للبيعِ) من أصله. [الشروط الصحيحة] (فالصحيح) ثلاثة أنواع: الأول: ما يقتضيه العقدُ، كشرطِ تقابضٍ وحُلولِ ثَمَنٍ، وتصرُّفِ كل فيما يصير إليه، من ثمنٍ ومُثْمَنٍ، وردِّهِ بعيبِ قديمٍ. ولم يذكر المؤلّف -رحمه الله تعالى- هذا النوع، لأنه لا أثر لَه. الثاني: (كشرطِ تأجيلِ) كلِّ (الثمن، أو) تأجيلِ (بعضِهِ) أي بعضِ الثمن إلى أجل معلوم، (أو) شرط (رهنٍ أو ضمينٍ معيَّنٍ) أي: الرهنِ والضمينِ. وشَمَل هذا ما لو اشْتَرَطَ رهنَ المبيعِ على ثمنِهِ، وهو كذلك في المنصوص. فلو قال بائعٌ: بعتك هذا بكذا، على أن تَرْهَنَنِيهِ على ثمنه، فقال: اشتريتُ ورهنتُك على الثمن، صحَّ الشراء والرهن؛ (أو

شَرَطَ) المشتري على البائع (صفةً في المبيع، كـ) كونِ (العبدِ) المبيعِ (كاتباً،) أو فحلاً، أو خصياً، (أو صانعاً) في صنعةٍ معينةٍ، (أو مسلماً، و) كونَ (الأَمَةِ بكراً، أو) الأَمةِ (تحيضُ، والدابَّةِ هِمْلَاجَةً) بكسر الهاءِ -والهَمْلَجَةُ مِشْيَةٌ سهلة في سرعةٍ- (أو) اشترط الدابّةَ (لبوناً) أي ذات لَبَنٍ، أو غزيرةَ اللبن، لا أنها تُحْلَبُ في كلِّ يومٍ كَذَا، (أو حامِلاً،) لا أنها تَلِدُ في وقتِ كذا، (والفَهْدِ) صَيُوداً، (أو البازي صَيوداً،) أي معلماً، والأرضِ خراجُها كَذَا في كلِّ سنةٍ، والطيرِ مُصَوِّتاً، أو يبيضُ، أو يجيءُ من مسافةٍ معلومةٍ؛ لأن في اشتراطِ هذهِ الصفاتِ كلِّها قصداً صحيحاً، وتختلف الرَّغَبَاتُ باختلافِهَا، فلو لم يصحّ اشتراطُ ذلكَ لفاتَتِ الحِكْمَةُ، التي شرع لأجلِها البيع، فلهذا يصحّ الشرطُ. وكذا لو شَرَط أن الطائر يصيحُ في أوقاتٍ معلومةٍ، كعندَ الصباحِ أو عند المساءِ، لا أن يوقظه للصلاةِ، أو أنه يصيح عند أوقاتِ الصلواتِ. (فإن وُجِدَ المشروطُ) بأن حصل لمن اشتَرَطَ شَرْطُه (لزم البيعُ) أي صار لازماً. (وإلا) بأن لم يحصل له شرطه (فللمشتري الفسخُ، أو أرشُ فقدِ الصِّفَةِ) أي فسخُ البيع لفقد الشرط (¬1). لكن إذا شَرَطَ أن الأمةَ تحيضُ، فلم تَحِضْ، قال ابن شهاب: فإن كانت صغيرة، فليس بعيبٍ، فإنه يرجى زواله، بخلاف الكبيرة. النوع الثالث، من الشرط الصحيح: ما أشار إليه بقوله: (ويصحّ أن يَشْرُط البائع على المشتري منفعةَ ما باعَهُ) غيرَ وطءٍ ودواعيهِ، كتقبيلٍ ونحوه، فإنّ هذا لا يصحُّ استثناؤه بلا خلاف، (مدة معلومة) نفعاً معلوماً (كسكنى الدار) المبتاعةِ (شهراً،) أو أقلَّ منه، أو أكثر، (وحملانِ ¬

_ (¬1) هذا تفسير للفسخ. أما الأرش ففرق ما بين قيمة المبيع بصفته وقيمته بدونها.

الدابةِ،) بعيراً أو غيرَه (إلى محلٍّ معين.) وكاستثناءِ خدمةِ العبدِ المبيع مدةً معلومة. وللبائع أجرة (¬1) ما استثناهُ من النفع، وإعارَتهُ لمن يقوم مقامَه، كالعينِ المؤجَرَةِ، لأن لمستأجرها إجارَتَها وإعارَتَها، لا لمن هو أكثرُ منه ضرراً. وإن تلفتِ العينُ المستثنى نفعُها قبل استيفاءِ بائعٍ للنَّفع، بفعل مشترٍ أو تفريطِهِ، لزمه أجرةُ مثلِهِ، لا إن تلف المبيعُ بغير فعلِ المشتري أو تفريطه. (و) يصح (أن يشترط، المشتري على البائع) نفسِهِ (حملَ ما باعه) من حطبِ وغيره إلى محلِّ كذا، فلو شَرَطَ الحملَ إلى منزله، والبائع لا يعرفه، لَم يصحّ الشرط، كما لو استأجره لذلك ابتداء. قاله في شرح المنتهى. قال في شرح الإِقناع بعد ذلك: وظاهِرُهُ صحةُ البيع، وعليه فيثبت له الخيار؛ (أو تكسيرَهُ أو خياطتَهُ) بصفةٍ معينةٍ، (أو تفصيلَهُ.) وإن أقام البائع مُقَامَه من يعمل العمل فله ذلك، لأنه بمنزلة الأجيرِ المشترك. وإن أراد بذلَ العِوَضِ عن ذلك العمل لم يلزم المشتريَ قبوله، وله طلبه بالعمل، لأنه ألزم نفسه له به. وإن أراد المشتري أخذ العِوَضِ عن العمل، وأبى البائع، لم يلزم البائعَ بذلُه. فإن تراضيا على ذلك جاز. وإن تعذَّر العمل بتلف المبيع قَبْلَهُ رجع المشتري بعوضِ النفعِ ¬

_ (¬1) (ب، ص): "أجرة" والتصويب من (ف).

[في الشروط الفاسدة المبطلة للعقد]

المشروطِ عليه. وإن تعذر بمرضٍ أقيم مقامه من يعمل، والأجرةُ على البائِع، كالإِجارة. فصل [في الشروط الفاسدة المبطلة للعقد] (والفاسد المبطلُ) للعقد من أصلِهِ (كشرْطِ بيعٍ آخَرَ) كأن يقول: بعتك هذه الفرسَ على أن تبيعني هذا الثوبَ؛ (أو) شَرْطِ (سَلَفٍ) كبعتك على أن تُسْلِمَني كذا في كذا؛ (أو) شرْطِ (قرضٍ) كبعتك (¬1) على أن تقرِضَني كذا؛ (أو) شرْطِ (إجارةٍ) كبعتك على أن تُؤْجِرَني دارَك بكذا؛ (أو) شرْطِ (شركةٍ) كبعتك على أن تشاركني في فرسك؛ (أو) شرط (صرفٍ للثمنِ) كبعتك هذا بعشرة دنانيرَ، على أن تَصْرِفَها لي بدراهم؛ أو شرْطِ صرفِ غيرِ الثمن، كبعتك هذا بكذا على أن تَصْرِفَ لي مائة دينار بدراهم. (وهو) أي وهذا النوع: هو (بيعتان في بيعةٍ المنهيّ عنه) (¬2) قال أحمد رحمه الله: والنهيُ يقتضي الفساد. (وكذا كلّ ما كان في معنى ذلك، مثل أن) يقول: بعتك على أن (تزوّجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، أو لتنفق على عبدي أو دابتي) أو على حصّتي من ذلك قرضاً أو مجّاناً: مقيسٌ على كلامِ أحمدَ، وليس هو مقولَهُ. قال ابن مسعود: "صَفْقَتَانِ في صفقةٍ ربا" (¬3) ¬

_ (¬1) (ب، ص) سقط منهما قوله "كبعتك". (¬2) يشير إلى الحديث "نهى عن بيعتين في بيعة" رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً. (الفتح الكبير) وقال الترمذي: حسن صحيح (الإِرواء ح 1307) (¬3) قول ابن مسعودٍ "صفقتانِ في صفقةٍ رباً" صحيح عنه. أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وابن حبان (الإِرواء ح 1307)

[الشروط التي تبطل ويصح العقد]

ولأنه شرْطُ عقدٍ في عقدٍ، فلم يصحّ، كنكاح الشِّغار. [الشروط التي تبطل ويصح العقد] تنبيه: لو شرط المشتري على البائع أنه إذا نفَقَ (¬1) المبيع وإلاَّ ردَّه، أو شَرَطَ البائع على المشتري أن لا يبيعَ المبيعَ، أو لا يَهَبَهُ، أو لا يُعْتِقَهُ، أو إن أعتقه فالولاءُ له، أو شَرَطَ البائعُ على المشتري أن يفعلَ ذلكَ، أو شرَط عليه وَقْفَ المبيع، فالشرطُ باطلٌ، والبيع صحيحٌ، إلا شَرْطَ العتقِ، فإنّه صحيحٌ، وُيجْبَرُ المشتري على العتقِ إن أباه. فإن امتنع المشتري من العتقِ أعتقه حاكم عليه. (ومن باع ما) أي شيئاً (يُذْرَع) كأرضٍ وثوبٍ (على أنه عشرةٌ) من الأذرع أو الأشْبارِ، (فَبَانَ) المبيعُ (أكثرَ) من عشرة، (أو أقلَّ) منها، (صحَّ البيع، ولكلٍّ) من البائع والمشتري (الفسخُ) إلا أنّ المشتري إذا أُعْطِيَ الزائدَ بلا عِوَضٍ فلا فَسْخَ له، لأن البائع زادَهُ خيراً. وإن اتّفقا على إمضائِهِ لمشترٍ بِعِوَضٍ جاز. وإن بان أقلَّ فالبيعُ صحيحٌ والنقصُ على البائعِ. ولمشترٍ الفسخ. وله إمضاءُ البيعِ بقسطِهِ من الثمن برضا البائع، وإلا فله الفسخُ. وإن بَذَلَ مشترٍ جميعَ الثمنِ لم يملك البائع الفسخَ. وإن اتفقا على تعويضِهِ عنه جاز. وإن باعَ صُبْرَةً على أنها عشرة أَقْفِزَةٍ، أو زُبْرَةَ حديدٍ على أنها عشرة أرطالٍ فبانت أَحَدَ عَشَرَ فالبيع صحيح. والزائذ للبائعِ مُشَاعاً. ولا خيار لمشترٍ. وإن بانت تسعةً فالبيع صحيحٌ وينقصُ من الثمن بقدره، ولا خِيَارَ له. ¬

_ (¬1) في الأصول "أنفق" وما أثبتناه الصواب كما في شرح المنتهى.

باب الخيار

باب الِخيَار يُذكر فيهِ أقسام الِخيَار في البَيع وهو طَلَبُ خيرِ الأمرين من فسخٍ وإمضاءٍ. (وأقسامه) أي أقسام الخيار في البيع (سبعة): (أحدها: خيار المجلس) بكسر اللام. والمراد به مكان التبايع. (ويثبت) خيار المجلس (للمتعاقدين) في بيعٍ، وصلحٍ بمعنى بيعٍ، وإجارةٍ، وما قَبْضُهُ شَرْطٌ لصحته: كصرْفٍ، وسَلَمٍ، وبيعِ ربويٍّ بجنسه. وابتداءُ خيارِ المجلس (من حينِ العقدِ،) ويستمرّ (إلى أن يتفرّقا) عرفاً بأبدانهما، فلو حُجِزَ بينهما بحاجزٍ، كحائطٍ ونحوِهِ، أو ناما، لم يُعَدّ تفرقاً لبقائهما بأبدانِهِماَ بمحلِّ العقد. وخيارهما بحاله، ولو طالت المدة، (من غير إكراه) لهما أو لأحدهما على التفرق، أو فَزَعٍ من سَبُعٍ أو ظالمٍ خشياه فهربا، أو أحدُهما فزعاً منه، أو سيلٍ، أو نارٍ، أو نحو ذلك. ويستثنى من خيار المجلس ما أشار إليه بقوله: (ما لم يتبايعا على أنْ لا خيار لهما) يعني أن البيع لازمٌ بمجرد العقد، (أو يُسْقِطَاهُ بعد العقد) وقبل التفرّق. (وإن أسقطه) أي أسقط خيار المجلس (أحدهما) أي أحدُ المتعاقدين (بَقِيَ خيارُ الآخر) لأنه لم يوجد منه ما يُبْطِل خيارَه. (وينقطع الخيارُ) أي خيارُ المجلس (بموتِ أحدِهما) أي أحد

المتعاقدين، لأن الموتَ أعظم الفرْقتين، (لا بجنونِهِ) في المجلس، لعدم التفرق. (وهو على خيارِهِ إذا أفاق) من جنونه. ولا يثبت الخيار لوليه. وإن خَرِسَ قامت إشارته مقامَ نُطْقِهِ. (وتحرُم الفرقة من المجلس خَشْيَةَ الاستقالة) يعني أنه يحرم على أحد المتبايعين أن يفارق صاحبه خشيةَ أن يفسخَ البيع في المجلس. (الثاني) من أقسام الخيار (خيار الشرط: وهو أن يشرطا) أي العاقدان (أو أحدهما الخيار) في صُلْبِ العقد، أو بعده في المجلس (إلى مدة معلومة) لا مجهولةٍ، كالحصادِ ونحوه، فإنه يصحّ البيع ويبطل الخيار. (فيصحُّ) الشرط ويثبُتُ الخيار. وبهذا قال أبو يوسف ومحمدٌ وابنُ المنْذِرِ. وحيثُ عُلِمَ الأمَدُ فإنه يصحّ (وإن طالت) المدّة، ولو فيما يفسُدُ قبل انتهاءِ الأمد، كالبطّيخ، فيباع ويحفَظ ثمنُه إلى الأمد. ولا يصحّ شرطُ الخيارِ في عقدٍ حيلةً (¬1) ليربَحَ في قرضٍ، فيحرُمُ ولا يصحُّ البيع. (لكن يَحْرُمُ تصرّفهما) أي البائعين، مع خيارِهِما (في الثمن والمثمن في مدة الخيار): أما تحريمُ تصرف البائعِ في المبيعِ فلكونِه لا يملكه، وأما تحريم تصرُّف المشتري فيه فلكون المبيعِ لم تنقَطِعْ عُلَقُ البائع عنه. فإن كان الخيارُ لمشترٍ وحدَه، وتصرَّف في المبيع، نَفَذَ تصرُّفه وبَطَلَ خيارُه. ¬

_ (¬1) وصفة الحيلة أن يكون غرض عمروٍ أن يستقرض من زيدٍ ألف دينارٍ لسنة، فيبيعه بيتاً بألف دينارٍ مقبوضة ويجعلا الخيار بينهما إلى سنة. فإذا قارب انتهاءُ السنة أبطلا البيع بحجّة الخيار، واسترجع المشتري الألف وردّ البيت. فيكون زيد قد ربح عن القرض سكنى الدار سنةً.

(وينتقل المِلْكُ) في المبيع إلى المشتري (من حينِ العقد) سواءٌ جَعَلا الخيارَ لهما أو لأحدهما، (فما حصَل في تلك المدةِ من النَّماءِ المنفصِلِ) كالكسب والأجرة (فللمنتقِل له) أي للمتشري، أَمْضَيا العقد، أو فَسَخَاه. والنماء المتَّصل تابعٌ للمبيع، والحمل الموجود وقتَ العقدِ مبيع. (ولو أنَّ الشرْطَ للآخر) أي للبائع (فقط). (ولا يفتقِرُ فسخُ من يملكُهُ) أي الفسخ، من بائعٍ ومشترٍ (إلىٍ حضورِ صاحبه) أي البائعِ الآخر (ولا) يفتقر (إلى رضاه) لأن الفسخَ حلُّ عقدٍ جُعِلَ إليه، فجاز مع غيبةِ صاحبه وسخطه، كالطلاق. (فإن مضى زمنُ الخيار) المشتَرَطِ، (ولم يُفْسخِ) البيعُ بِفَسخِ من جُعِلَ له، (صار) البيعُ (لازماً) لأنه لو لم يلزم لأفضى إلى بقاء الخيار أكثرَ من مدَّتِهِ المشترطة، وهو لا يثبتُ إلا بالشّرط. (ويسقط الخيارُ بالقول). (و) يسقط الخيار أيضاً (بالفِعْلِ. كتصرّف المشتري في المبيع) مع شرط الخيار له زَمَنَه (بوقفٍ أو هبةٍ أو سومٍ) أي سومِ المشتري للمبيع بأن عَرَضه للبيع، (أو لمسٍ) للأمة المبتاعة (لشهوةٍ،) وكذا إن كان الخيار لهما، أو للبائع وحده، وتصرَّف المشتري بالعتق. (وينفذ تصرُّفُه) بالبيع والهبةِ (إن كان الخيار له) أي للمشتري (فقط) أي دون البائع. (الثالث) من أقسام الخيار في البيع: (خيار الغَبْنِ) الخارجِ عن العادة، نصًّا. (وهو أن يبيعَ ما) أي شيئاً (يساوي عشرةً بثمانية، أو يشتري ما) أي شيئاً (يساوي ثمانيةً بعشرةٍ). (فيثبتُ الخيارُ) لمن غُبِنَ بين الفسخِ والإِمساك.

وهو على التراخي: لا يسقط إلا بما يدل على الرضا. (ولا أرشَ مع الإِمساك) للمبيع، لأن الشارعَ لم يجعل له ذلك. ومثلُ البيعِ في ثبوتِ خيارِ الغبنِ إجارةٌ. (الرابع) من أقسام الخيار في البيع: (خيار التدليس) ويثبتُ للمشتري. (وهو أن يدلّس البائع على المشتري ما يزيدُ به الثمنُ،) وإن لم يكن عيباً، (كَتَصْرِيَةِ اللبَن) أي جمعِهِ (في الضَّرْعِ) أي ضرع بهيمةِ الأنعامِ (وتحمير الوجْهِ، وتسويدِ الشَّعْر) من الرقيقِ، وتجعيدِهِ، وجمعِ ماء الرَّحى (¬1)، وإرسالِهِ عند عرضها (فيحرُم) التدليس، ككَتْمِ عيبٍ، للغرور. والعقدُ صحيح. ولا أرشَ فيه، بل إذا أمسَك فمجّاناً في غير الكتمانِ. (ويثبت للمشتري) بالتدليس (الخيارُ) بين الإِمساكِ والردّ (حتى، ولو حَصَلَ التدليسُ من البائع) في المبيع (بلا قصدٍ) من أحدٍ، لأنَ عدم القصدِ لا أثَرَ لَهُ في إزالةِ ضررِ المشتري. وإن دلس البائع المبيعَ بما لا يزيدُ به الثمنُ، كتسبيطِ الشَّعَر، أو عَلِمَ المشتري بالتدليس، لم يكنْ له خِيَار، كما لو اشترى معيباً يعلم عيبه. (الخامس) من أقسام الخيار في البيع: (خيار العيب،) وما بمعناه (فإذا وجد المشتري بما اشتراهُ عيباً يجهلُهُ، خُيِّر بين ردّ المبيع) على البائِعِ بلا نزاعٍ في ملكه، لأن مطلق العقد يقتضي السلامة، وحيث ¬

_ (¬1) (ب، ص): "وجميع ما استرخى" بدل "وجمع ماء الرحى" والتصويب من "ف" والكتب الأخرى.

ظهر معيباً ثبت له خيارُ الرد استدراكاً لما فاته، وإزالةً لما يلحقه من الضرر في بقائِهِ في ملكه ناقصاً عن حقه، (بنمائه المتَّصِل) لا المنفصل، كثمرةِ شجرةٍ، ووَلَدِ بهيمةٍ. (وعليه) أي على المشتري (أجرةُ الردّ) لأنه، باختيارِ الردّ، انتقل ملك المبيع عنه إلى بائعٍ فَعَلِقَ بالمشتري حقُّ التَّوْفية. (ويرجع بالثمن كاملاً) على البائع. قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، في رجلٍ اشترى عبداً، فأبَقَ، فأقام بينةً أن إباقه كان موجوداً في يد البائع: يَرْجِعُ بجميعِ الثمن، لأنه غرَّ المشتري، وَيتْبَعُ البائعُ عبدَهُ. (وبين إمساكِهِ ويأخذ الأرش) وذلك لأن المتبايعين تراضَيَا على أن العِوَضِ في مقابلةِ المعوض، فكل جزءٍ من العوض يقابله جزءٌ من المعوّض. ومع العيب فاتَ جزءٌ منه، فله الرجوع ببدله، وهو الأرش. تنبيه: الأرشُ قَسْطُ ما بين قيمتِه صحيحاً ومعيباً من ثمنه، فيقوَّم المبيع صحيحاً، ثم معيباً، ويؤخذ قسط ما بينهما من الثمن، كما إذا قُوِّمَ صحيحاً بعشرة، ومعيباً بثمانية، والثمن خمسة عشر، مَثَلاً، فالنقص خُمْسُ القيمة، فيرجع بخمس الثمن، وهو ثلاثة. ومحل أَخْذِ الأرش ما لم يُفْضِ إلى ربا، كشراء حليّ فضةٍ بزنته دراهم، أو شراءِ قفيزٍ مما يجري فيه رباً بمثله، ويَجِدَهُ معيباً، فإنه يمسك، أو يردّ مجاناً. (ويتعيّن الأرش مع تَلَفِ المبيع عند المشتري) قال في الإِقناع وشرحه: فَصْلٌ وإن أعتقَ المشتري العبدَ، أو عَتَق عليه، أو قُتِلَ، أو استَوْلَدَ الأمةَ، أو تلف المبيعُ، ولو بفعلِه، أي المشتري، كأكلِهِ ونحوِه، أو باعَهُ، أو وهَبَهُ، أو رَهَنَهُ، أو وَقَفَه، غير عالمٍ بعيبه، ثم علم، تعيَّنَ الأرش (ما لم يكن البائع عَلِمَ بالعيبِ، وكتَمَهُ تدليساً على المشتري،

فيحرم) على البائع الكَتْمُ، لأنه غَرَرٌ، (ويذهب على البائع) إن تلف بغير فعل المشتري (¬1)، كما لو مات. (ويرجع) المشتري (على البائع) بجميع ما دفعه له. (وخيار العيب على التراخي) لأنه خيارٌ شُرِعَ لدفع ضررٍ متحقَّقٍ، فلم يبطل بالتأخير الخالي عن الرضا به، كخيار القِصَاصِ. (ولا يسقط طَلَبُ المشتري به (إلاَّ إن وجد من المشتري ما يدلّ على رضاه، كتصرفه) فيه عالماً بعيبِه، بإجارةٍ، أو إعارة، أو نحو ذلك، (واستعمالِهِ لغير تجربةٍ) كالوطء، والحمل على الدابة. (ولا يفتقر الفسخُ إلى حضورِ البائعِ) ولا رضاه (ولا) يفتقر الفسخ (لحكم حاكمٍ) لأنه رفع عقد مستحق له فلم يفتقر إلى رضا صاحبه ولا لحضوره ولا لحكمِ حاكمٍ، كالطلاق. (والمبيع بعد الفسخ أمانةٌ بيد المشتري) صرّح بهِ أبو الخطاب في انتصاره، والقاضي، وابن عقيل، وذلك لأنه حَصَل في يده بغير تعدٍّ. لكن إن قَصَّر في ردِّه حتى تلف، ضمنه، لأنّ ذلك تفريطٌ منه، كما لو أطَارتِ الريحُ إلى دارِهِ ثوباً، فقصَّر في رده، حتى تلف. (وإن اختلفا) أي البائع والمشتري في معيبٍ، (عند من حدث العيب، مع الاحتمال) لوجوده عند البائع وحدوثه عند المشتري، كالإِباق (ولا بيّنَةً) لواحدٍ منهما بدعواه (فـ) القول (قول المشتري، بيمينه) لأنّ الأصل عدمُ القبضِ في الجزءِ الفائِتِ، فكانَ القولُ قولَ من ينفيه، كما لو اختلفا في قبض المبيعِ، فيحلف على البتّ أنَّه اشتراهُ وبه العيبُ، أو أنَّه ما حَدَثَ عنده. فإن خرج عن يده لم يجز له الحَلِفُ على البَتّ. ¬

_ (¬1) أي في حالة التلف خاصة، وهي المذكورة في المتن، دون سائر الحالات التي ذكرها الشارح.

(وإن لم يحتمِلُ) العيبُ (إلاّ قولَ أحدِهما) كالإِصبع الزائدة، والجُرْحِ الطريّ الذي لا يحتمل أن يكون قبل العقد (قُبِلَ) قول المشتري في المثال الأول، والبائِع في المثال الثاني (بلا يمين) لعدمِ الحاجة إلى استحلافه. تنبيه: يقبل قول البائعِ، بيمينِه، أن المبيعَ المعيبَ ليسَ المردودَ، إلا في خيارِ شرطٍ، فقولُ مشترٍ، بيمينه. (السادس) من أقسام الخيار: (خيارُ الخُلْفِ في الصِّفَةِ) من إضافة الشيء إلى سببه. (فإن وَجَدَ المشتري ما وُصِفَ له أو تَقَدَّمَتْ رؤيته قبل العِقد بزمنٍ يسير) لا يتغير فيه المبيع في العادةِ (متغيِّراً) تغيراً ظاهراً (فله الفسخ،) لأن وجودهُ متغيراً بمنزلةِ العيب. (ويحلف) المشتري (إن اختلفا) في وجودِ التغيُّر لأنّ الأصل براءة ذمته من الثمن. ولا يسقط حق المشتري من الفسخِ إلا بما يدلُّ على الرضا بتغيرِهِ من سومٍ أو غيره. (السابع) من أقسام الخيار: (خيار الخُلْفِ في قدر الثمن: فإذا اختلفا) أو ورثَتهما (في قدره) أي الثمن، بأن قال بائع: بعتكه بمائةٍ، وقال مشترٍ، بل بثمانين، ولا بيّنة لأحدهما، أو لكلّ منهما بينة بما قاله، (وحلف البائع) أولاً، ويبدأ بالنفي، فيحلف: (ما بِعْتُهُ بكذا،) ثم الإٍثباتِ: (وإنما بعته بكذا. ثم) يحلف (المشتري: ما اشتريتُهُ بكذا، وإنما اشتريته بكذا.) وإنما بدأ بالنفي لأن الأصل في اليمين أنها للنفي. ثم بعد التحالُفِ إن رضي أحدهما بقولِ الآخرِ، أو لم يتحالفا، بل نَكَلَ أحدهما عن اليمين، وحلف الآخر أُقِرَّ العقد في الصورتين.

[في التصرف في المبيع قبل قبضه]

(ويتفاسخان) أي إن لم يرض أحدهما بقول الآخر، بعد التحالف. وينفسخ بفسخ أحدِهما بعد التحالف ظاهراً وباطناً. قال المنقِّح: فإن نَكَلَا صرفهما الحاكم. وكذا إذا اختلف المتوَاجران في قدر الأجرة. فصل [في التصرف في المبيع قبل قبضه] (ويملك المشتري المبيعَ مطلقاً) سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً أو مذروعاً أوْ لا، (بمجرَّدِ العقدِ) إن لم يكن فيه خيار (¬1). (ويصح تصرفه فيه قبل قبضِهِ) ببيعٍ وهبةٍ ووقفٍ وإجارةٍ وعتقٍ ونحو ذلك، إلا المبيعَ بصفةٍ أو رؤيةٍ متقدمة. (وإن تلف) المبيع بغير كيلٍ ونحوه (فمن ضمانِهِ) أي المشتري، تمكّن المشتري من قبضِهِ أوْ لا، إلا أنْ يمنعه منه بائعٌ، أو كان ثمراً على شجرٍ، أو بصفةٍ أو برؤيةٍ متقدمة، فإنه يكون من ضمان بائع، و (إلاَّ المبيعُ بكيلٍ أو وزنٍ أو عدٍّ أو ذرعٍ فـ) إنه يكون (من ضمانِ بائِعِهِ)، مع كونِهِ دخل في ملك المشتري من حين العقد (حتى يقبضَهُ مشتريهِ). (ولا يصحُّ تصرفه فيه ببيعٍ) ولو لبائعه (أو هبةٍ) ولو بلا عوضٍ، (أو رهنٍ) ولو قَبَّض ثمنه (قبل قبضِهِ). (وإن تلف) ما اشتري بكيلٍ أو وزنٍ أو عد أو ذرْعٍ (بآفةٍ سماويّةٍ) وهي ما لا صنع للآدمي فيها (قبل قبضِهِ انفسخَ العقدُ) أي عقدُ المبيع. ويخيَّرُ مشترٍ إنْ بقي شيءٌ، في أخْذِهِ بقسطِهِ من الثمن. ¬

_ (¬1) وكذلك إن كان فيه خيار كما تقدم في أثناء الكلام في خيار الشرط. فتقييد الشارح نص المتن بذلك مشكل. لكن انتفاء الخيار أو انتهاؤه شرط لزوم.

[فيما يحصل به القبض]

(و) إن تلف ما بِيعَ بكيلٍ أو وزنٍ أو عدٍّ أو ذَرْعٍ (بفعل بائعٍ أو) بفعلِ (أجنبيٍّ خُيِّر المشتري بين الفسخ) أي فسخ عقد البيع (ويرجعُ) المشتري على البائع (بالثمن) كاملاً، لأنّ التلفَ والعيبَ حصلَ في يدِهِ فضمنه، (أو الإِمضاء (¬1). ويطالَب من أتلفه ببدلِهِ) أي بمثلِ مثليٍّ، وهو المكيلُ والموزونُ، وقيمةِ متقوِّمٍ، وهو المذروع والمعدود. (والثمن) الذي ليس في الذمّةِ (كالمُثْمَن في جميعِ ما تقدّم) من الأحكام. فصل [فيما يحصل به القبض] (ويحصل قبض المكيلِ بالكيلِ، والموزونِ بالوزنِ، والمعدودِ بالعدّ، والمذروعِ بالذَّرع) لما روى عثمانُ مرفوعاً، قال: "إذا بِعْتَ فَكِلْ، وإذا ابتعتَ فاكتَلْ" رواه الإِمام (¬2). وظاهره أنه لا يُشَتَرَطُ نقلُه. وهو كذلك، على المذهب. وإنما يصحُّ الكيلُ والوزنُ والذَّرْعُ (بشرطِ حضورِ المستحِقِّ أو نائِبِهِ) أي نائبِ المستحقِّ للكيلِ، أو الوزْنِ، أو العدِّ، أو الذَّرْعِ، لقيام الوكيلِ مقام المُوَكّل. فإن ادّعى القابضُ بعد ذلك نقصانَ ما اكتالَهُ، أو اتَّزنَهُ، أو عدَّه أو ذَرَعه، أو ادعى أنهما غلطا فيه، أو ادعى البائعُ زيادةً لم يقبل قولُهُما، لأنّ الظاهر خلافه. ¬

_ (¬1) لو قال "والإمضاء" لكان هو الصواب، لأن "بَيْنَ" تضاف إلى شيئين، فيتعين عطف ثانيهما بالواو. (¬2) حديث "إذا بعتَ فَكِلْ ... " رواه الإِمام أحمد. ورواه البخاري تعليقاً (منار السبيل) وهو صحيح. ورواه أيضاً الدارقطني: (الإِرواء)

[الإقالة]

(وأجرة الكيَّال) لمكيلٍ، (والوزَّانِ) لموزونٍ، (والعدّادِ) لمعدودٍ، (والذرّاعِ) لمذروعٍ، (والنَقَّادِ) لِمَنْقُودٍ، ونحوهم، كمصفّي المبيع من غَلًته، (على الباذِلِ) لِذلك، لأنه تعلَّقَ به حقُّ التوفية. نصّ عليه. (وأُجْرَةُ النَّقْلِ على القابِضِ). (ولا يضمن ناقِدٌ حاذِقٌ أمينٌ خطأً) وُجِدَ منه، في المنصوص، سواءٌ كان متبرّعاً أو بأجرة. [الإِقالة] (وتُسنُّ الإِقالة للنادِمِ، مِن بائعٍ ومشترٍ) لما روى ابن ماجَهْ عن أبي هريرة مرفوعاً، قال: "من أقالَ مسلماً أقال الله عثرته يوم القيامة" ورواه أبو داود، وليس فيه ذكر يوم القيامة (¬1). وليس بيعاً، بل فسخٌ. فتصحّ قبل قبضِ مكيلٍ ونحوِهِ، وبعدَ نداءِ جمعةٍ، ومن مضارِبٍ وشريكٍ ولو بلا إذنٍ، ومن مفلسٍ بعد حجرٍ لمصلحةٍ، وبلا شروطِ بيعٍ، وبلفظِ صلحٍ وبيعٍ، وبما يدلُّ على معاطاةٍ. ولا خيار فيها، ولا شفعة، ولا يحنث بها من حلف لا يبيع. ¬

_ (¬1) حديث "من أقال مسلماً .. " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة دون قوله "يوم القيامة" وصححه الحاكم وأقره الذهبي والمنذري. وأخرجه الطبراني في مختصر مكارم الأخلاق وابن حبان كلاهما بلفظ "من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة" ورجاله ثقات.

باب أحكام الربا [والصرف]

باب أحكام الرّبَا [وَالصَّرف] وهو من الكبائر. (يجري الربا في كل مكيلٍ وموزونٍ) لا معدودٍ ومذروعٍ (ولو لم يؤكل) كأُشْنَانٍ. (فالمكيلُ كسائِرِ الحبوبِ) من برٍّ وشعيرٍ وذُرَةٍ ودُخْنٍ وأَرُزٍّ وعَدَسٍ وَحَبٍّ فجلٍ وقطنٍ وكتانٍ، (والأبازيرِ والمائعاتِ) من لبنٍ وخَلٍّ وزيتٍ وشَيْرَجٍ وسائر الأدهان، كلها مكيلة، (لكِنِ الماءُ ليس بربويٍّ.) قال في الإِقناع: سوى ماءٍ فإنه لا ربا فيه بحالٍ، ولو قيل هو مكيل، لعدمِ تَمَوُّلِهِ عادةً. انتهى، (ومن الثمارِ كالتَّمرِ والزبيبِ والفُسْتُقِ والبُنْدُقِ واللوزِ والبُطْمِ والزَّعْرُورِ والعُنَّابِ والمشمشِ والزيتونِ والملحِ.) ويجوز التعامُلُ بكيلٍ لم يُعْهَدْ. (و) من (الموزونِ كالذهبِ والفضةِ والنحاسِ والرصاصِ والحديدِ وغزلِ الكتّانِ والقطنِ والحريرِ والشَّعَرِ والعِنَبِ والشَّمْعِ والزعفرانِ والخبزِ والجبنِ) والوَرْسِ والعُصْفرِ والزجاجِ والطين الأرْمَنِيّ، الذي يؤكلُ دواءً، واللحمِ والشحمِ والزُّبْدِ. (وما عدا ذلك فمعدودٌ). (ولا يجري فيه) أي المعدودُ (الربا ولو مطعوماً، كالبطيخِ والقِثّاءِ والخِيار والجَوْزِ والبَيْضِ والرُّمانِ) والسفَرْجَلِ والثيابِ والحيوانِ والبُقولِ

(فصل)

والتُّفاحِ والكُمَّثْرى والخَوْخِ والإِجَّاصِ، وكلَّ فاكهةٍ رطبة. ذكره القاضي. (ولا) يجري الرِّبا (فيما أخرجته الصناعَة) لارتفاعِ سعره بها (عن الوزن، كالثيابِ) فإنها كانت قطناً (والسلاحِ، والفُلُوسِ، والأواني) من النحاسِ، والحديدِ (غيرَ الذهبِ والفضةِ). قال المنقّح في حواشي التنقيح: الذي يظهر أن محل ما لا يوزن لصناعتِهِ في غير الذهبِ والفضّةِ، فأما الذهبُ والفضةُ فلا يصحّ فيهما مطلقاً. ولهذا لم نَرَهمْ مثلوا بهما وإنما يمثلون بالنحاس والرصاص والحديد ونحوها. (فصل) (فإذا بيع المكيلُ بجنسِهِ) أي بمكيلٍ (كتمرٍ بتمرٍ أو) بيع الموزون بجنسه أي بموزونٍ (كذهبٍ بذهبٍ) وفضةٍ بفضةٍ وبُرٍّ ببر وشعيرٍ بشعيرٍ (صح) ذلك (بشرطين): الشرط الأول: (المماثلة في القدر) كدرهم فضةٍ بمثله، ومدِّ بُرٍّ بمدِّ برٍّ، ومدّ شعيرٍ بمدِّ شعير. (و) الشرط الثاني: (القبضُ قبل التفرق) من المجلس. (وإذا بيع) المكيلُ أو الموزون (بغير جنسه، كذهبٍ بفضةٍ، وبُرٍّ بشعير صح) ذلك (بشرط) واحد، وهو (القبض قبل التفرق) من المجلس، (وجاز التفاضل.) فيصح بيع مُدَّ من الشعير، بخمسة أمدادٍ من الحنطة، بشرط القبض قبل التفرّق. (وإن بيعَ المكيلُ بالموزونِ، كبُرٍّ بذهبٍ مثلاً، جاز التفاضل والتفرق قبل القبض). (ولا يصحّ بيعُ المكيلِ) أي ما أصله الكيلُ، كالبر، والشعير، والتمر، والملح، (بجنسه وزناً) كرطل بُرٍّ برطل برٍّ. (ولا) يصح بيع

(الموزونِ) أي ما أصله الوزن، كالفضة، والنحاس، والرصاص، (بجنسه كيلاً،) إلا أذا علم مساواتَهُ، أي المكيلِ الذي بيعَ وزناً، أو الموزونِ الذي بيع كيلاً، في معياره الشرعي. فَلَوْ كِيلَ المكيلُ، أو وُزِنَ الموزون، فكان سواءً، صحَّ. (ويصح بيع اللحم بمثله) أي بوزنه من جنسه، كلحم بقرٍ بمثله، رطَبْاً بمثله، أو يابساً بمثله (إذا نُزِعَ عظمه) لأنه إذا لم يُنْزَعْ عظمه أدّى إلى الجهلِ بالتساوي. فإذا نُزِعَ صح البيع، كالذهب بالذهب، مِثْلاً بمثلٍ. (و) يصح بيع لحم (بحيوانٍ من غير جنسه) أي مأكولٍ، كقطعةٍ من لحمِ ضأنٍ أو بقرٍ بحمامةٍ، كغير مأكول. (ويصح بيع دقيقِ ربويٍّ) كدقيق برٍّ (بدقيقِهِ) مثلاً بمثل (إذا استويا) أي الدقيقان (نعومةً،) لأنهما تساويا حالَ العقدِ على وجهٍ لا ينفرد أحدهما بالنقصان، فجاز، (أو) استويا (خشونةً، ورَطْبِهِ بِرَطْبِهِ) كالعِنَبِ بالعنبِ، والرُّطَبِ بالرُّطَبِ؛ (ويابسهِ بيابسهِ) كالزبيب بالزبيب، والتمر بالتمر؛ (وعصيرِه بعصيرِه) كماءِ عنبِ بماء عنبٍ؛ (ومطبوخِهِ بمطبوخِهِ) أي يصح بيع مطبوخ جنسٍ ربوِيٍّ بمَطبوخِهِ، كسمنٍ بقريٍّ بسمنٍ بقريٍّ مِثْلاً بمثلٍ (إذا استويا نشافاً أو رطوبةً). (ولا يصح بيع فرعٍ. بأصلِهِ كزيتٍ بزيتونٍ، وشَيْرَجٍ بِسِمْسِمٍ، وجبنٍ بلبنٍ، وخبزٍ بعجينٍ، وزَلَابِيَةٍ (¬1) بِقمْحٍ). (ولا) يصح (بيع الحب المشتدّ) في سُنْبُلِهِ من بُرٍّ أو شعيرٍ ¬

_ (¬1) الزلابية حلوى تصنع من عجين يقلى قطعاً صغاراً في زيت، ثم يغمر في ماء غُلي فيه سكّر.

(بجنسِهِ) لأن التساويَ مجهولٌ، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل (¬1)، وتسمى المحاقلة. (ويصحّ) بيع الحب المشتدّ في سنبِلهِ (بـ) حبِّ (غيرِ جنسِهِ) كما لو كان أحدهما برًّا والآخَرُ شعيراً، لأن اشتراط التساوي منتفٍ مع الجنسين. (ولا يصحّ بيع ربويٍّ بجنسِهِ، ومعهما) أي الثمن والمثمن (أو مع أحدِهِما من غيرِ جنسِهما) وذلك (كمدِّ عجوةٍ ودرهمٍ بمثلهما) أي بمدّ عجوةٍ ودرهم (أو دينار ودرهم بدينارٍ) حسماً لمادة الربا. (ويصحّ) لو قال: (أعطني بنصفِ هذا الدرهم فضةً وبـ (النصف (الآخر فلوساً) أو حاجةً غيرَ الفُلوس؛ أو قال: أعطني بالدرهم نصفاً وفلوساً؛ أو دفع إليه درهمين، وقال: بعني بهذا الدرهم فلوساً، وأعطني بالآخر نصفين، ففعل صح. (ويصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متماثلاً وزناً لا عدًّا) وإنما يصحّ صرف الذهب بالفضة وعكسه (بشرط القبض قبل التفرّق). (و) يصح (أن يعوِّض أحدَ النقدينِ عن الآخرِ بسعرِ يومهِ) قال في المنتهى: ويصح اقتضاءُ نقدٍ من آخر، إن أُحضِرَ أحدُهما، أو كان أمانةً والآخر مستقراً في الذمة، بسعر يومه. وقال: ومن عليه دينارٌ، فقضاه دراهم متفرقةً، كلَّ نَقْدَةٍ بحسابها منه، صحّ. وإلا فلا. انتهى. ¬

_ (¬1) "الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل" قاعدة في باب الربا واسعة، فلا يجوز بيع صبرة قمح بصبرة قمح وكلاهما أو أحداهما مجهولة الكيل.

باب في أحكام (بيع الأصول و) أحكام بيع (الثمار)

باب في أحكام (بَيْع الأصُول وَ) أحكام بَيْع (الثمار) والأصول هنا أرضٌ ودورٌ وبساتينُ ومَعَاصِرُ وطواحينُ ونحوُها. والثمار جمع ثَمَرٍ كجبلٍ وجبال، وواحد الثَّمَرِ ثَمَرَة، وجمع الثمارِ ثُمُرٌ ككتابٍ وكُتُب، وجمع الثُّمُرِ أثمار كعنق وأعناق، فهو رابعُ جمع. (من باع، أو وَهَبَ، أو رهَن، أو وَقَفَ داراً، أو أقرّ أو وصّى بها، تناول) ذلك (أرضَها) بمعدِنِها الجامد، لأنه كأجزائها، (و) تناول البيعُ (بناءَها) وسقْفَها ودرَجَها، لأن ذلك داخل في مسمَّاها، (و) تناول البيع (فِنَاءَها) بكسر الفاء، وهو ما اتسع أمامها (إن كان) لها فناء، إذ غالب الدورِ ليس لها فناء، (و) تناول البيع ما كان (متّصلاً بها) أي الدار (لمصلحتها، كالسلالِيمِ) من خشبِ، جَمْع سُلَّمٍ بضم السين وفتح اللام المشدّدة، وهو المِرْقاة، ولفظه مأخَوذ من السلامة. وشَرْطُ دخولِها أن تكون مسمرَّة، (والرفوفَ المسمَّرَةَ، والأبوابَ المنصوبة) وحَلَقَهَا، ورحىً منصوبة (والخوابيَ المدفونةَ) لأن ذلك كله متصلٌ بها لمصلحتها، أشبه الحيطان. وعلم مما ذكر أن السلاليمَ والرفوفَ إذا لم تكن مسمّرة، والبابَ إذا لم يكن منصوباً، والخوابي إذا لم تكن مدفونةً، لا تدخل، لأنه منفصلٌ عنها، أَشْبَهَ الطعامَ في الدار، (و) تناول البيع (ما فيها) أي الدار (من شجرٍ) مغروسٍ (وَعُرُشٍ) جمعُ عَرِيشٍ، وهو الظُّلَّة لأنهما

متصلان بها، (لا كنزاً وحَجَراً مدفونين) لأنهما مَوْدُوعان فيها للنقل عنها، أشبها الفُرُشَ والستور. (ولا) يدخل (منفصلٌ عنها كحَبْلٍ ودلْوٍ وبَكَرَةٍ) وقُفْلٍ (وفُرُشٍ) لأن اللفظ لا يشمله، ولا هو من مصلحتها، (ومفتاحٍ) للدار، وحَجَرِ رحىً فوقاني. (وإن كان المباع (¬1) ونحوه) أي كالموقوفِ والموهوبِ والمرهونِ والمقرّ بِهِ والموصى به (أرضاً دَخَلَ ما فيها من غِراسٍ وبناءٍ) ولو لم يقل: بحقوقها، لأنهما من حقوقها. وما كان كذلك فيدخلُ فيها بالإِطلاق. (لا) يدخل في بيع الأرضِ ونحوِها مما ذكر (ما فيها من زرعٍ لا يُحْصَد إلا مرّة، كَبُرٍّ وشعيرٍ وبصلٍ) وسمسمٍ وأرزٍّ وفجلٍ وثومٍ ولفتٍ وجزرٍ (ونحوه. ويُبَقَّى) في الأرض (للبائع إلى أولِ وقتِ أخذِهِ) وإن كان بقاؤه أنفع له، كالثمرة (بلا أجرةٍ) على بائعٍ، لأن المنفعة حصلت مستثناةً له. (ما لم يشترطه) أي الزرعَ (المشتري) أو نحوُه (لنفسِهِ) ولا يضر جهلُهُ في مبيعٍ إذا شَرَطَه له، ولا عدم كماله لكونه دَخَل تبعاً للأرض. (وإن كان) ما في الأرض من الزرع (يجزُّ مرةً بعد أخرى، كَرَطْبَةٍ) بفتح الراء، وهي الفَضَّةُ (¬2)، فإذا يَبسَتْ فهي قَتٌّ، (وبُقُولٍ) كنَعْنَاعٍ وهِنْدَبَاء (أو تتكرَّرُ ثمرتُهُ كقِثَّاءٍ وباذنجانٍ) أَو يتكرَّر أخذ زَهَرِهِ كوردٍ وياسمينٍ. (فالأصول) من جميع ذلك في مبيع (للمشتري) لأن ذلك يراد للبقاءِ، أشبهَ الشجَرَ. (والجزّة الظاهرةُ) وقتَ البيع (واللَّقْطَةُ الأولى) وزهرٌ تفتَحَ وقتَ بيعٍ (للبائعِ) لأنه يُجْنى مع بقاءِ أصلِهِ، أشبَهَ ثَمَرَ الشجرِ المؤَبَّر. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والصواب "المبيع". (¬2) كذا بالأصل وفي اللسان (الفصفصة)

[في بيع الثمار]

(وعليه) أي على البائع (قطعُها) أي الأشياء التي قلنا: إنها له (في الحال) أي على الفور. فصل [في بيع الثمار] (وإذا بِيعَ شجرُ النخْلِ بعد تشقَّق طِلْعِهِ) بكسر الطاء (¬1) غلاف العنقود (فالثمر للبائعِ) ما لم يشترطْهُ المشتري، (متروكاً) في رؤوس النخل (إلى أول وقتِ أَخْذِهِ.) قال في شرح المنتهى: وأمّا كوْنُ الثمرةِ تترك في رؤوس النخلِ إلى الجَذَاذِ لأن (¬2) النقلَ والتفريغَ للمبيعِ على حسب العُرفِ والعادة، كما لو باع داراً فيها طعامٌ، لم يجب نقلُه إلا على حَسَبِ العادة في ذلك، وهو أن ينقُلَهُ نهاراً شيئاً بعد شيء، ولا يلزمه النَّقْلُ ليلاً، ولا جَمْعُ دوابِّ البلد لنقله. كذلك ههنا: تفريغُ النَّخْلِ من الثمرةِ في أوان تفريغِها، وهو أوَانُ جذاذِها. إذا تقرَّرَ هذا فالمرجعُ في جَذِّهِ إلى ما جرتْ به العادة، فإذا كان المبيعُ نخلاً فحين تتناهى حلاوةُ ثمرهِ. انتهى. فإن جرتْ عادةٌ بأخِذِهِ بُسْراً، أو كان بُسْرُهُ خيراً من رُطَبِه جَذَّهُ حين تستحكم حلاوةُ بُسْرِهِ. (وكذا) الحكم (إنْ بِيعَ شجرُ ما ظَهرَ) من ثمرةٍ لا قشر عليها، ولا نَوْرَ لها (من عنبٍ وتينٍ وتوتٍ) وجُمَّيْزٍ، أو يظهر في قشرِهِ ويبقى فيه إلى حين الأكل، (و) ذلك (كرمِّانٍ) ومَوْزٍ، أو يظهر في قشرين (و) ذلك كـ (جَوْزٍ، أو ظهر من نَوْرِهِ) أي وكالطَّلْعِ إذا تشقَّق في الحكم ما ظهر ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. ولكن ضبطه في لسان العرب بفتح الطاء. فلعل ما في الشرح سبق قلم. (¬2) الفاء في جواب (أمّا) واجبة، فصوابه (فلأنّ).

[في بيع الثمار بعد بدو صلاحها]

من نورِهِ مما له نَوْرٌ يتناثر (كمشمشٍ) بكسر ميميه (وتفاحٍ وسفرجلٍ ولَوْزٍ) وخَوْخٍ وإجَّاصٍ، (أو خَرَجِ من أكمامهِ) جمع كِمٍّ بكسر الكاف، وهو الغلاف (كوَرْدٍ) وياسمينٍ ونرْجِسٍ وبَنَفْسَجٍ وقطْنٍ يحمِل في كل سنة. (وما بِيعَ قبل ذلك) أي قبل تشقُّقِ الطلع ونحوه (فللمشتري) والمتّهب كورق الشجر، لأنه من أجزائِها خُلقَ لمصلحتها. وأن تشقّق أو ظهر بعضُ ثمرِهِ، أو بعض طلعٍ، ولو من نوعٍ، فللبائعِ، وغيرُهُ للمشتري. (ولا تدخل الأرض تبعاً للشَّجَرِ) إذا باع الشجرَ، (فإذا باد) الشجرُ (فلا يملكُ غَرْسَ مكانِه) أي إذا اشترى شخصٌ شَجَراً، ثم قَلَعَهُ فلا يملك غَرْسَ شيءٍ مكانه. فصل [في بيع الثمار بعد بدوِّ صلاحها] (ولا يصحّ بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها لغيرِ مالِك الأصل، ولا) يصحُّ (بيعُ الزرعِ قبل اشتدادِ حبِّهِ لغير مالك الأرض) إلا بشرْطِ القطْعِ في الحال، في الثمرة والزرعِ إن كان منتفعاً به حين العقد، فإن لم يُنْتَفَعْ بها، كثمرةِ الجوْز وزرعِ التُّرْمُسِ، لم يصحّ، لعدم النفع بالمبيع، ولم يكن مشاعاً (¬1)، بأن يشتري نصفَ الثمر قبل بُدُوِّ صلاحها مشاعاً، أو نصْفَ الزرعِ قبل اشتداد حبِّه مُشَاعاً، فلا يصح الشراءُ بشرطِ القطعَ. (وصلاحُ بعض ثمرةِ شجرةٍ صلاحٌ لجميع) أشجارِ (نوعِهِا الذي ¬

_ (¬1) عبارة "ولم يكن مشاعاً" معطوفة على قوله "إن كان منتفعاً به" فهو شرط ثانٍ لجواز هذا البيع. لأن حقه المشاع لا يمكن قطعه إلا بقطع ملك غيره، فلم يصحّ اشتراطه.

بالبستان) الواحد، لأن اعتبارَ الصلاح في الجميعِ يَشُقُّ، وكالشجرةِ الواحدة. (فصلاحُ البَلَحِ أن يحمر أو يصفرّ، و) صلاح (العِنَبَ أن يَتَمَوَّهَ بالماء الحلو، و) صلاحُ (بقية الفواكه) كالرمّان والمشمش والخوخ والجوز والسفرجل (طِيبُ أكلِهَا وظهورُ نضجها. و) صلاح (ما يظهر فَماً بعد فَمٍ) أي بعد لقطه (¬1) (كالقِثّاءِ والخِيارِ أن يؤكل عادة.) والصلاح في الحبّ أن يشتد أو يبيض. (وما تلف من الثمرة) إذا كانت باقيةً على أصولِها -سوى يسيرٍ لا ينضبط لقلته- بجائحةٍ سماويةٍ، وهي ما لا صُنْعَ لآدميٍّ، فيها ولو بعد قبضٍ (قبلَ أخْذِها فمن ضمان البائع) لأن التخليةَ في ذلك ليست بقبضٍ تامٍّ، لأن على البائع المؤنة إلى تتمة صلاحِهِ، فوجب كونه من ضمانِ بائعٍ (ما لم تُبَعْ مع أصلها) لحصولِ القبضِ التامّ، وانقطاع عُلَقِ البائع عنه (أو يؤخِّرِ المشتري أَخذَهَا عن عادتِهِ) لتفريطِ المشتري. وإن تَعَيَّبَت الثمرة بالجائحة في وقتٍ يكون تلفها بالجائحةِ من ضمانِ بائعٍ خُيرَ مشترٍ بين فسخِ بيعٍ، وإمضاءٍ وأَخْذِ أرْشٍ. وإن تلف ما ضُمِنَ بالجائحةِ بِصُنْعِ آدميٍّ خُير مشترٍ بين فسخِ بيعٍ ومطالبةِ بائعٍ بما قَبَضَهُ من الثمن، أو إمضاءٍ ومطالبةِ مُتْلِفٍ، كالمكيلِ إذا أتلفه آدميٌّ قبل القبض. ¬

_ (¬1) عبارة "بعد لقطه" ساقطة من (ف).

باب السلم

باب السّلم هو في الشرع عقدٌ على شيءٍ يصح بيعُهُ، موصوفاً في ذمةٍ، لجائزِ التصرُّفِ، بثمنٍ مقبوضٍ بمجلسِ العقد. وهو جائز بالإِجماع. وسنده من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}. (ينعقد) السلم (بكلّ ما يدلّ عليه) من الألفاظ، كأسلمتك وأسلفتك. و) يصح السلم (بلفظ البيع) كابتعتُ منك قمحاً صفته كذا، وكيله كذا، إلى كذا، لأنه نوع منه. (وشروطه) أي شروطُ صحتِهِ (سبعة)، تأتي مفصلة: (أحدها) (¬1): (انضباط صفات المسلَم فيه) لأن ما لا يمكن ضبطُ صفاتِه يختلف كثيراً، فيفضي إلى المنازَعَةِ والمشاقَقَةِ المطلوبِ شرعاً عدمهما، وذلك (كالمكيلِ) من حبوبٍ وغيرِها، كأدْهانٍ وألبان، (والموْزونِ) من الأخبازِ، واللحوم النيِّئةِ، َ ولو مع عَظْمِهَا إنْ عيَّن موضع القطع، كلحم فخِذٍ وجَنْبِ وغير ذلك. ويعتبر قوله: بقر، أو غنم، أو معز، جَذَعٌ أو ثَنِيّ، ذكرٌ أو أنثى، خَصِيّ أو غيره، رضيعٌ أو فطيمٌ، ¬

_ (¬1) (ب، ص): "أحدها أن يكون السلم فيه مما يمكن انضباط صفات المسلم فيه" فحذفنا كما في (ف).

معلوفَةٌ أو راعية، سمينٌ أو هزيلٌ، لأن الثمن يختلف باختلاف هذه الأشياء. ولا يصحّ في اللحم المطبوخ. (والمذروعِ) من الثيابِ والخيوطِ؛ (والمعدود من الحيوانات، ولو كان) الحيوان (آدمياً)، إلا في أمةٍ وولدِهَا، أو في حاملٍ. (فلا يصحُّ في المعدودِ من الفواكِهِ) لأنها تختلفُ بالصغر والكبر. (ولا) يصحّ السلَم (فيما لا ينضبط، كالبقولِ) لأنها تختلفُ، ولا يمكن تقديرها بالحُزَم؛ (والجلودِ) لأنها تختلف، ولا يمكن ذَرْعُها؛ (والرؤوسِ والأكارع) لأن أكثر ذلك العظامُ والمشافرُ، واللحمُ فيه قليلٌ، وليس بموزونٍ؛ (والبيضِ) والجَوْزِ والرُّمَّانِ، لأَنَّ ذلك يختلف، (والأواني المختلفة رؤوساً وأوساطاً كالقماقم) جمع قمقمٍ بضم القافين (ونحوها) كالأسطال الضيقةِ الرؤوس. (الثاني: ذكر جنسِهِ) أي المسلمِ فيه، فيقول مثلاً: تمرٌ؛ (و) ذِكْر (نوعِهِ) فيقول: بَرْنيٌّ، أو مَعْقِلِيٌّ، ويكون ذكر نوعِهِ وجنسِهِ (بالصفاتِ التي يختلف بها الثمن غالباً) كالحداثةِ والقِدَمِ، والجودةِ والرداءَةِ، فيصفُ البُرَّ بأربَعَةِ أوصافٍ: بالنوع فيقول: سَلْمُونيّ؛ والبلدِ، فيقول: حورانيّ، أو بِقاعيّ، أو بُحَيْرِي؛ وصغار الحبّ أو كباره؛ وحديثٌ أو عتيقٌ. وإن كان النوعُ الواحد يختلف لونُه ذَكَرَه. (ويجوز) لربّ السلم (أن يأخُذَ دونَ ما وُصِفَ له) لأن الحق له، وقد رضِيَ بدونه (و) يجوز له أخذه (من غير نوعِهِ من جنسِهِ) لأن النوعين مع الاتّحاد في الجنس كالشيءِ الواحِدِ، بدليلِ تحريم التفاضل. (الثالث: معرفة قدره) أي المسلم فيه، (بمعيارِهِ الشرعيّ) أي بالكيلِ في المكيل، وبالوزنِ في الموزون، وبالذرع في المذروع. (فلا يصحّ) أن يُسْلِمَ (في مكيلٍ وزناً، ولا في موزونٍ كيلاً) نصّ عليه، لأنه

بيعٌ بشرطِ معرفةِ قدرِه، فلم يجزْ بغيرِ ما هو مقدر بِهِ في الَأصْلِ، كبيعِ الربويّات بعضاً ببعضٍ. ولأنه قدّرَ المسلَمَ فيه بغير ما هو مقدَّر به في الأصل. ولا يصح شَرطُ صنجةٍ أي العيارِ الذي يوزن به، أو مِكْيالٍ (¬1) أو ذِرَاعٍ لا عُرْفَ له. (الرابع: أن يكون في الذّمة) فلا يصح في عينِ شجرةٍ نابتةٍ ونحوِها، لأنه ربّما تَلِفَ المُعَيَّن قبل أوانِ تسليمِهِ، ولم يذكرْ بعضُهمْ قوله: "أن يكون في الذمة" استغناءً عنه بذكر الأجل، لأن المؤجَّل لا يكون إلا في الذّمّةُ. وأن يكون (إلى أجلٍ معلومٍ)، نصًّا، (له) أي الأجَل (وَقْعٌ في العادةِ) لأن الأجَلِ إنما اعتُبِر ليتحقَّق الرفْقُ الذي شُرِعَ من أجلِهِ السلَم، فلا يحصل ذلك بالمدَّةِ التي لا وَقْعَ لها في الثمن. والأجلِ الذي له وقع في الثمن (كشهر) ونحوِهِ. في الكافي. أو نصفِهِ. ومن أسلم لمجهولٍ، كحَصَادٍ، وجَذَاذٍ، ونحوهما، أو ربيعٍ أو جمَادى أو النَّفْرِ، لم يصحّ. (الخامس: أن يكونَ مما يُوْجَد غالباً عند حلول الأجَلِ) لوجوب تسليمِهِ إذَنْ. ولو كان معدوماً عند العِقد، كالسَّلَمِ في العِنَبِ والرُّطَبِ زَمَنَ الشتاءِ في الصيف. فلو عَكَسَ ذلكَ لم يصحَّ، لأنه لا يمكن تسليمه غالباً عند وجوبه، أشْبَهَ بيعَ الآبق، بل أولى. (السادس: معرفةُ قدرِ رأسِ مالِ السلم، وانضباطُه) كالمسلَمِ فيه، لأنه قد يتأخَّرُ تسليمُ المعقودِ عليه، ولا يُؤْمَن انفساخهُ، فوجَبَ معرفةُ رأسِ مالِهِ ليردَّ بَدَلَهُ، كالقرض. (فـ) على هذا (لا تكفي مشاهَدَتُهُ). (ولا يصحُّ بما لا ينضَبِطُ) كجوهرٍ ونحوِهِ، فإن فَعَلَا فباطلٌ. ¬

_ (¬1) في الأصول: "أو مكيل" والتصويب من شرح المنتهى 1/ 318.

(السابع: أن يَقْبضَهُ) أي رأس مال السلم (قبل التفرق من مجلس العقد) استنبطه الشافعيّ رحمه الله تعالى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أسلَفَ فليُسْلِفْ" (¬1) أي فليُعْطِ. لأنّه لا يقَعُ اسمُ السلفِ فيه، حتى يعطِيَهُ ما أسلف قبل أن يفارقَ منْ أسلفه انتهى، وحَذَراً أن يصيرَ بيعَ دينٍ بدينٍ، فيدخُل تحتَ النهيِ؛ أو ما في معنى القبضِ، كما لو كانَ عند المسلَم إليه أمانةٌ أو عينٌ مغصوبةٌ، فيجعلها ربُّها رأسَ مالِ السلم، فيصحُّ، لأنه في معنى القبض؛ لا ما في ذمَّتِهِ، فإنْ قَبَضَ بعض رأسِ مالِ السَّلَمِ، ثم افترقَا، بطل فيما لم يُقْبَضْ. (ولا يُشترط ذكْرُ مكانِ الوفاءِ) في عقدِ السلمِ، لعدمِ ذكرِهِ في الحديث، (لأنه) أي الوفاء (يجبُ بمكانِ العَقْدِ،) وشَرْطُهُ فيه مؤكِّد، (ما لم يُعْقَدُ ببرّيَّةٍ ونحوِهَا) كعلى جبلٍ غير مسكونٍ، أو في دارِ حربٍ، أو في سفينةٍ (فيشتَرَطُ) ذِكْرُ مكانِ الوَفَاءِ. (ولا يصحُّ أَخذ رهنٍ أو كفيلٍ بمسلمٍ فيه) لأن الرهنَ إنما يجوزُ بشيءٍ يمكنُ استيفاؤه من ثَمَنِ الرَّهْنِ، والضمانُ يقيم ما في ذمة الضامنِ مقامَ ما في ذمةِ المضمون عنه، فيكون في حكم المعوَّض والبَدَلِ عنه، وكلاهما لا يجوز (¬2). (وإن تعذَّر حصوله) أي المسلم فيه، أو بعضهِ، بأن لم يوجد، (خُيِّرَ ربُّ السَّلَمِ) فيه (بين صبرٍ) إلى أن يوجد فيطالِبَ بِهِ (أو فسخٍ). (ويرجعُ إنْ فَسَخَ برأسِ مالِهِ) إن كان موجوداً بعينه، (أو بَدَلِهِ إن تعذَّرَ) لتعذُّرِ رده. ¬

_ (¬1) حديث "من أسلف فليسلفْ في كيل معلومٍ أو وزن معلوم إلى أجلِ معلوم" متفق عليه من حديث ابن عباس مرفوعاً. (¬2) وفي رواية أخرى: يجوز أخذ الرهن والكفيل به، وبه فسّر ابن عباس قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ .... } إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (المغني 4/ 308)

وَعِوَضُهُ مِثْلُ مِثْلِيٍّ وقيمةُ متقوَّم. (ومن أراد قضاءَ دينٍ عن غيرِهِ، فأبى ربُّهُ) أي ربُّ الدين قبضَهُ من غيرِ المدينِ (لم يُلْزَمْ بقبوله.)

باب القرض

باب القرض هو في اللغة القطعُ، وشرعاً دفع مالٍ إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدلَه. قال في غاية المنتهى: والصدقة أفضلُ منه. (يصح) القرضُ (بكلِّ عينٍ يصحُّ بيعُها) من مكيلٍ وموزونٍ وغيرِه، كالحيوان (إلا بني آدم) الاختيارُ للقاضي، لأنه لم يُنْقَلْ قرضُهم. (ويشترط عِلْم قدْرِه) أي المال المقرض، بقدْرٍ معروفٍ، (ووصفِهِ) كسائرِ عقودِ المعاوَضَاتِ. (و) يشترط (كون المقرِضِ يصحّ تبرعه) لأنه عقدٌ على مالٍ، فلا يصحّ إلا من جائز التصرف. (ويتم العقد) أي عقد القرض (بالقبولِ) لَه. (ويُمْلَكُ) المالُ المقرَضُ، (ويَلْزَمُ) العقد (بالقبضِ) لأنه عقدٌ يقف التصرف فيه على القبضِ، فوَقَفَ المِلك عليه، كالهبة، (فلا يملِكُ المقرِض استرجاعَه) لأنه قد لزم من جهته فلا يَمْلِك الرجوعَ فيه، كالبيع، لكونه أزالَ ملكه عنه بعقدٍ لازمٍ من غيرِ خيارٍ، (ويثبت له البدَلُ حالاًّ) لأنه يوجِبُ ردَّ المثل في المثليات فأوجبه حالاً، كالإِتلاف. فعلى هذا لو أقرضَه تفاريق، ثم طالبه بها جملة، كان له ذلك، لأن الجميع حالٌّ، أشبهَ، ما لو باعه بيوعاً حالّةً متفرقة، ثم طالبه بثمنها جملة.

(فإن كان) المُقْرَض (متقوماً) كالكتبِ (فـ) يَرُدُّ (قيمتَهُ وَقْتَ القَرْضِ) لأن قيمتها تختلف في الزمن اليسير، باعتبارِ قِلَّة الراغِبِ وكثرته، فتنقص فينْضَرُّ المقرِض، أو تزيد زيادة كثيرة فينضرّ المقترض. (وإنْ كان) المقرَضُ (مثليًّا) مكيلاً أو موزوناً (فـ) يرد (مثله) وقت القرض (¬1) سواء زادت قيمته، أي المثل عن وقتِ القرضِ، أو نقصت (ما لم يكن المُقْرَضُ (معيباً أو فلوساً ونحوها) كالدراهم المكسّرة (فيحرِّمها السلطان) ولو لم يتفق الناسُ على تركِ المعاملةِ بها (فله القيمةُ) أي قيمةُ ما أَقْرَضَهُ. (ويجوز شرطُ رَهْنٍ وضمينٍ فيهِ) أي في القَرْضِ. (ويجوز قَرْضُ الماءِ) حال كونه (كيلاً) كغيرِهِ من المكيلات. (و) يجوز قرض (الخبز) عدداً (والخميرِ عدداً، وردُّه عدداً بلا قَصْدِ زيادة) ولا جَوْدَةٍ، ولا شرطِهِمَا. فإنْ قَصدَ الزِياده؛ أو الجودةَ أو شَرَطَهمَا حَرُمَ لأنه يجرّ نفعاً. (وكلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعاً فَحَرَامٌ كأنْ يُسْكِنَهُ داره) مجاناً أو رخيصاً، (أو يعيرَهُ دابتَهُ، أو يَقْضِيَهُ خيراً منه) أو ينتفعَ بالرهنِ، أو يزارِعَه على ضَيْعَةٍ، أو أن يستعمله في صنعته، ويعطيه أنْقَصَ من أُجْرَةِ المِثْلِ، ونحو ذلك من كل ما فيهِ جَرُّ منفعةٍ، فلا يجوز. (وإن فعل ذلك) أو شيئاً منه (بلا شرطٍ) بعد الوفاءِ، ولا مواطَأَةٍ، (أو قضى) المقترض (خيراً منه،) أو أكثَرَ مما اقترضُهُ (بلا مواطأةٍ، جازَ) قال في الفصول: وأما الذهب والفِضة فيعفى فيهما عن الرُّجحَانِ في القضاءِ، إذا كان يسيراً. انتهى، أو أهدى له هديّةً بعد الوفاءِ، أوْ عُلِمُ منه الزيادة، لشُهْرَةِ سخائِهِ وكَرَمِهِ، جاز ذلك. ¬

_ (¬1) (ب، ص) سقط منهما "وقت القرض" وهو ثابت في (ف).

(ومتى بَذَلَ المقترضُ) أو الغاصبُ (ما عليه بغير بلد القرض) أو الغصب (ولا مَؤْنَةَ لحملِهِ) إليه (لزمَ رَبَّهُ) أي المقرِضَ أو المغصوب منه (قبوله مع أَمْنِ البلدِ والطريق) لأنه لا ضرر عليه إذَنْ.

باب الرهن

باب الرّهن وهو لغةً: الثبوت والدوام، وشرعاً: تَوْثِقَةُ دينٍ بعينٍ يمكنُ أخذه، أو بعضه، منها، أو من ثمنها. ولا يصحّ بدون إيجابٍ وقبولٍ أو ما يدلّ عليهما كالمعاطاة. (يصح بشروطٍ خمسة): <رأس>الأوّل: (كونه منجَّزاً) فلا يصحّ معلَّقاً. (و) الثاني: (كونه) أي الرهن (مع الحقِّ أو بعدهُ)، فمعَ الدينِ كأن يقول: بعتُك هذا بعشرةٍ إلى شهرٍ تَرْهَنُنِي بها عبدَكَ فلاناً. فيقول: اشتريتُ ورهنتُ. فيصح. وأما بعده فيصحّ بالإِجماع، وسنده قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعله بدلاً من الكتابة. فيكون في محلِّها، ومحلُّها بعد ثبوتِ الحقّ. وعُلِمَ من هذا أنه لا يصحّ قبل الدين. نصّ عليه الإِمام. (و) الثالث: (كونه) أي الراهن (ممن يصحّ بيعه) لأنه نوع تصرّفٍ في المالِ، فلم يصحّ من محجورٍ عليه، من غير إذنٍ، كالبيع. (و) الرابع: (كونه) أي الرهن (ملكَهُ) أي الراهن (أو مأذوناً له في

[ما يصح رهنه]

رَهْنِهِ)، كما لو كان مالكاً لمنافِعِهِ بإجارةٍ، أو إعارةٍ، أو أَذِنَ له مؤجرٌ أو معيرٌ في رهنه. (و) الخامس: (كونه) أي الرهن (معلوماً جنسُهُ وقدره وصفته) وبدينٍ واجبِ أو مآلُهُ إليه. فيصح بعين مضمونةٍ كالمغصوبِ والعواري والمقبوضِ علَى وَجْهِ السَّوْمِ، والمقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ، وبنفعِ إجارةٍ في ذمّةٍ، كخياطةٍ، وبناءِ دارٍ، وحملِ شيءٍ معلومٍ إلى موضعٍ معين. ولا يصح الرهن على جُعْلٍ قبل تمام عملٍ. [ما يصح رهنه] (وكل ما صحّ بيعُهُ صحَّ رهنُهُ إلا المصحف) نَقَلَ الجماعة عن الإِمام أحمدَ رحمه الله تعالى: لا أُرْخِصُ في رهن المصحفِ، لأنه وسيلةٌ إلى بيعه، وهو محرم. (وما لا يصح بيعُهُ) كالخمرِ وأمِّ الوَلَدِ، والآبقِ، والمجهولِ والرَّهْنِ (لا يصحُّ رهنُهُ) لأن القصد من الرهن استيفاءُ الدَّيْنِ من ثمنِهِ عند التعذُّر، وما لا يصحّ بيعه لا يمكن فيه ذلك (إلا الثمرةَ قبلَ بدوِّ صلاحِها و) إلاَّ (الزرعَ قبلَ اشتدادِ حبَّهِ) لأنَّ النهيَ عن بيعهما إنما شُرِعَ لِعَدَمِ الأمْنِ من العاهةِ، ولهذا أَمَرَ بوضعِ الجوائِحِ، وذلك مفقودٌ هنا، وتقدير تلفها لا يفوِّتُ حق المرتهن من الدَّين لتعلقِهِ بِذمَّةِ الراهِنِ، (و) إلاَّ (القِنِّ) ذكراً أو أنثى (دونَ رَحمِهِ المَحْرَمِ) كولدٍ دون والدِهِ، وأخٍ دون أخيه، لأن النهي عن بيع ذلك إنما هو لأجْلِ التفريقِ بين ذوي الرحم المحرم، وذلك مفقود هنا، فإنه إذا استُحِقَّ بيعُ الرهن يباعان معاً، وُيخَصُّ المرتهن بما يَخُصُّ المرهونَ من ثمنهما. وفي كيفية ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقال: كم قيمةُ المرهون؟ فيقال مثلاً: مائة، ومع ولده

فصل

أو والده أو أخيه الذي لم يُرْهَنْ: مائة وخمسون. فيكونُ للمرتهنِ ثلثا ثَمَنِهِمَا. وقدّمه في الرعاية الكبرى. الثاني: أن يقوّم غير المرهون مفرداً، كأن يكون الولدُ غير المرهونِ قيمتُه عشرونَ، وقيمته هو وأبوه مائة وعشرون، فيكون للمرتَهِنِ خمسةُ أسداس. الثالث: أن يقوَّمَ المرهون مع قريبه، فإن كان أُمًّا قُوِّمتْ ولها ولد، ثم يقوّمِ الولد مع أُمِّهِ، فإن التفريق ممتنع. قال في التلخيص: هذا هو الصحيح عندي إذا كان المرتَهِنُ يعلم أنَّ لها ولداً. قال في الرعاية الكبرى: وهو أولى. (ولا يصحّ رهن مال اليتيمِ للفاسقِ) ويحرم على الوليّ رهنُهُ، لما فيه من التعريضِ للهلاك، لأنّ الفاسق قد يجحده، أو يفرّط فيه، فيضيع. ومثله مكاتَبٌ وقِنٌّ مأذونٌ له في التجارة، لاشتراط وجود المصلحة. فصل (وللراهن الرجوعُ في الرهنِ ما لم يقبضْه المرتهنُ) أو وكيلهُ، أوْ مَنِ اتفق الراهن والمرتهن أن يكون بيده. وليس له قبضُهُ إلا بإذن الراهن. فإن قَبَضَهُ بغير إذنِهِ لم يثبُتْ حكمه، وكان بمنزلةِ من لم يقبضْ، لفساد القبضِ. (فإن قبضه) بإذنه (لَزِمَ، ولم يصحّ تصرفه فيه) ببيع أو هَبةٍ أو وقفٍ أو رهنٍ أو جعلِهِ صَدَاقاً أو عِوَضاً عن خُلْعٍ، ونحو ذلك (بلا إذن المرتهن، إلا بالعتق) أي عتق الراهنِ الرهنَ المقبوضَ، سواءٌ كان

صفة الرهن بيد المرتهن

الراهنُ موسراً أو معسراً، نصًّا. ويحرم. (وعليه) أي الراهن، إن كان موسراً (قيمتهُ تكونُ رهناً مكانه) لأنَّهُ أَبْطَلَ حقَّ المرتهن من الوثيقة بغير إذنه، فتلزَمُهُ قيمته، كما لو أَبْطَلَها أَجنبيٌّ. قال في شرح المنتهى: ومحلُّ هذا إذا كانَ الدينُ مؤجَّلاً، إما لو كان حالاًّ، أو حلَّ، طولب بالدين خاصةً، لأنَّ ذمَّتَهُ تبرأُ بِهِ من الحقَّيْنِ معاً. ومتى أيسَرَ معسِرٌ بقيمتِهِ قبل حلول الدين أُخِذَتْ منه القيمةُ، وجعلت رهناً مكانه. (وكسْبُ الرهن،) ومَهْرُ المرهونة حيث وَجَبَ، وأرش جنايةٍ عليه، (ونماؤُهُ) أي الرهنِ، المتصلُ كالسِّمَنِ والتعلم، والمنفصل ولو صوفاً ولَبَناً وورقَ شجرٍ مقصوداً (رهنٌ) كالأَصْلِ، يُبَاعُ معه في وفاء الدين. أما كون النماء يتبعُ الرهنَ، فلأنه حكمٌ ثبت في العين بعقد المالك، فيدخل فيهِ النماءُ والمنافع، كالملك بالبيعِ وغيرِهِ، وأما كون أرشِ الجنايةِ عليهِ يتبعُهُ فلأنه بدل جزءٍ، فكان من الرهن، كقيمته إذا أتلفه إنسان. صفة الرهن بيد المرتهن (وهو) أي الرهن (أمانةٌ بيد المرتَهِنِ) ولو قبل عقدِ الرهنِ، كبَعْدَ وفاءٍ أو إبراءٍ، (لا يضمنه إلا بالتفريط) أو التعدّي. (ويقبل قوله) في عَدَمِ التعدي والتفريط، (بيمينه في تلفه، وأنّه لم يفرط) ولم يتعد. وإن ادّعى التلفَ بحادثٍ ظاهرٍ قبل قولُهُ فيهِ ببينةٍ تشهد بالحادث. ثم يقبل قوله (في تلفه) به بدونها. (وإن تلف بعض الرهنِ) وبقي بعضه (فباقيه رهنٌ بجميع الحق)

[في انتفاع المرتهن بالرهن]

لأن الحقَّ كله متعلق بجميعِ أجزاءِ الرهنِ، ولو كان الرهنُ عينينِ تلفتْ إحداهما. (ولا ينفكّ منه) أي الرهن (شيءٌ حتى يقضيَ الدينَ كلَّهُ) لأن حقّ الوثيقةِ تعلقَ بجميعِ الرهنِ فيصير محبوساً بكل جزء منه، لا ينفك منه شيءٌ حتى يُقْضَى جميعه، ولو كان مما يُقْسَمُ قسمةَ إجبارٍ. ومن قضى غريمَهُ، أو أسقطَ عنه بعضَ دينٍ له، وببعضِهِ رهنٌ أو كفيلٌ، وقع عما نواه. (وإذا حل أجلُ الدَّيْنِ، وكان الراهِنُ قد شرط للمرتهن أنه إن لم يأتِهِ بحقه عند الحلول وإلا فالرهن له) أي للمرتهن (لم يصحّ الشرط بل يلزمُهُ) أي الراهنَ (الوفاءُ) لما عليه من الدين (أو يأذنَ للمرتهن) الراهنُ (في بيعِ الرهْنِ، أو يبيعَهُ هو) أي الراهن (بنفسه، ليوفيه) أي المرتهنَ (حقَّه). (فإن أبى) الراهنُ كلاًّ من بيعِ الرهنِ، ووفاءِ الدين (حُبِسَ أو عُزِّرَ) بالبناء للمفعول فيهما، أي حَبَسَهُ الحاكم أو عزَّرَهُ حتى يفعل ما أمره به، لأن هذا شأن الحاكم. (فإن أصرّ) على الامتناع (باعَهُ) أي الرهن (الحاكِمُ) نصًّا بنفسِهِ أو أمينِهِ لأنه تعيَّنَ طريقاً إلى أداء الواجِبِ، فوجَبَ فِعْلُهُ ووفاءُ دينِهِ. قال في شرح المنتهى: وظاهر ما تقدم أنه ليس للمرتهن بيعُهُ بغير إذن ربِّهِ أو الحاكم. وهو المذهب. انتهى. فصل [في انتفاع المرتهن بالرهن] (وللمرتهن ركوب الرهنِ) إذا كان فرساً أو ناقةً أو نحوهما. (و) له (حلبه،) واسترضاعُ أمته (بقدر نفقته بلا إذن الراهنِ، ولو) كان الراهنُ (حاضراً) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الظَّهْرُ يُركب بنفقتِهِ إذا كان مرهوناً، ولَبَنُ الدّرِّ

يُشرَب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركَبُ وَيشْرَبُ النفقةُ"، رواه البخاري. لا يقالُ: المرادُ به أن الراهن ينفِقُ وينتفع، لأنه مدفوع بما روي "إذا كانَتْ الدابَّةُ مرهونةً فعلى المرتهن عَلَفُها" (¬1) فجعل المرتهنَ هو المنفقَ، فيكون هو المنتفِع. وقوله: بنفقته، أي بسببها، إذ الانتفاع عِوَضُ النفقةِ، وذلك إنما يتأتَّى في المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه بسبب الملك. ويكون المرتهن متحرّياً للعدلِ. وسواءٌ أنفق المرتهن مع تعذّر النفقةِ من الراهِنِ بِسبَبِ غَيْبَةٍ، أو امتناعٍ، أو مع القدرة على أخذِ النفقةِ منه، أو استئذانِهِ. ويرجع مرتهنٌ بفضلِ نفقتِهِ على راهن. (وله) أي المرتهن (الانتفاعُ به) أي بالمرهونِ (مجاناً) أي من غير مقابل (بإذنِ راهنٍ) ما لم يكن الدَّيْن قرضاً. قاله في المنتهى، (لكن يصيرُ) الرهن بعد أن كان أمانةً (مضموناً عليه بالانتفاعِ) أي انتفاع المرتهن به، لأنه صار عاريةً، وهي مضمونة. قال البهوتى في شرحه (¬2) ظاهره لا يصير مضموناً عليه قبل الانتفاع به. (ومُؤْنَةُ الرهنِ، وأجرةُ مخزنِهِ) إن احتاج إلى خَزْنٍ؛ (وأجرة ردِّه من إباقِهِ) أو شروده لو كان قِنًّا أو حيواناً فأبق أو شَرَدَ (على مالِكِهِ) كَكَفَنِهِ لو مات، فإن تعذر بِيعَ بقدر حاجته، أو بيع كلُّه إن خيف استِغْراقُهُ. (وإن أنفق المرتهن على الرهن) ليرجع (بلا إذن الراهن، مع قدرته على استئذانه فمتبرِّعٌ) لأنه مفرّط، حيث لم يستأذِنِ المالكَ، إذ الرجوعُ فيه معنى المعاوضةِ، فافتقر إلى الإِذن والرضا كسائر المعاوضات. ¬

_ (¬1) حديث "إذا كانت الدابة مرهونة .... " ذكره في المغني، ولم ينسبه إلى شيء من كتب الحديث. ولم نجده في كنز العمال وغيره. (¬2) في (ف) هنا زيادة "على المنتهى".

فصل

فصل (من قَبَضَ العينَ لحظِّ نفسِهِ كمرتهنٍ وأجيرٍ ومستأجرٍ ومشترٍ وبائعٍ وغاصبٍ وملتقطٍ ومقترضٍ ومضاربٍ، وادعى) كلٌّ (الرد للمالك، فأنكره) أي أنكَر المالكُ الردِّ (لم يُقْبَلْ قوله) أي قول قابضِ العينِ لحظِّ نفسِهِ (إلا) أن يُثْبِتَ الردّ (ببيّنةٍ) تشهَدُ له به. (وكذا) في الحكم (مُودَعٌ) ادعى ردّ الوديعة، (ووكيلٌ) ادعى الردّ إلى موكِّلِهِ، (ووصي ودَلاَّلٌ) إذ كان الدلال (بِجُعْلٍ، إذا ادعى) المودَعُ والوكيلُ والدلّالُ بجعلٍ (الردّ، و) إن كان الدلال (بلا جُعْلٍ فيقبل قوله بيمينه).

باب الضمان والكفالة

باب الضَّمَان وَالكفَالَة الضمان التزامُ إنسانٍ يصحّ تبرّعه، أو التزامُ مفلِسٍ، برضاهما، ما وَجَب أو يَجِبُ على غيرهما مع بقائِهِ على المضمون عنه. (يصحّان) أي الضمانُ والكفالة (تنجيزاً) كَأَنَا ضامن أو كفيل الآن (و) يصحّان (تعليقاً) كإنْ أعطيتَهُ كَذَا فَأنَا ضامنٌ لك ما عليه، أو أنا كافل لك بَدَلَهُ، (و) يصحّان (توقيتاً) كإذا جاءَ رأسُ الشهرِ فأنَا ضامنٌ، أو كفيلٌ. ويشترط صدورهما (ممن يصحّ تبرُّعُهُ) فلا يصح من صغيرٍ دون التمييز، ولا من مجنونٍ بلا خلاف، ولا من سفيهٍ. ويصحّ الضمان بأنا ضمينٌ، وكفيلٌ، وقَبِيلٌ، وحَمِيلٌ، وصبيرٌ، وزعيمٌ. وقال الشيخ: قياس المذهب: يصح بكل لفظٍ فُهِمَ منه الضمان عُرْفاً. (ولربّ الحقِّ مطالبةُ الضامنِ والمضمونِ معاً) في الحياةِ والموتِ لثبوتهِ في ذمتهما، (أو) يطالبَ (أيَّهما شاءَ،) فلا يبرأُ المضمونُ عنه بمجرّد الضمان، كما يبرأُ المُحيلُ، بل يثبت الحق في ذمتهما جميعاً، (لكن لو ضَمِنَ) شخصٌ (ديناً حالاًّ إلى أجلٍ معلومٍ صحّ) الضمان،

(ولم يطالِبْ) ربُّ الحق (الضامنَ قبل مضيِّهِ) أي الأجل المعلومِ، قال الإِمامُ أحمدُ في رجلٍ ضَمِنَ ما على فلانٍ أن يؤدِّيَه حقه في ثلاث سنين: فهو عليه، ويؤديهِ كما ضَمِنَ. فإن قيل: عندكم الحالُّ لا يؤجَّل، فكيف يؤجَّل على الضامن؟ أم كيف يثبتُ في ذمة الضامِنِ على غيرِ الوصفِ الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟ فالجواب: أن الحق يتأجّل في ابتداءِ ثبوتِهِ إذا كان ثبوتُهُ بعقدٍ، ولم يكن على الضامِنِ حالًّا ثم تأجَّل، ويجوز تَخَالُفُ ما في الذمّتين، بدليلِ ما لو ماتَ المضمونُ عنه والدينُ مؤجَّلٌ. إذا ثبتَ هذا، وكان الدينُ مؤجَّلاً إلى شهرٍ فضمنه إلى شهرين، لم يطالَبْ إلى مضيِّهما. (ويصحّ ضمانُ عُهْدَةِ الثَّمَنِ والمُثْمَنِ) إن ظهر به عيبٌ أو خَرَج مستحقًا، (والمقبوضِ على وجهِ السَّوْمِ) وذلك أن يساوِمَ إنساناً على عينٍ، ويقْطعَ ثمنَها، أو أجْرَتَها، أو لم يقطعه، ثم يأخذَها ليريَها أهلَهُ، إن رَضُوا أخذها وإلاَّ ردّها، فيصح ضمانُهُ لأنه مضمونٌ مطلقاً. وإن أخذ إنسان شيئاً بإذن ربّه ليريَهُ أهلَهُ فإن رضُوا به أخذه وإلاَّ رَدَّهُ من غير مساومةٍ ولا قطعِ ثمنٍ فلا يَضْمَنُهُ إذا تلف بغير تعدٍّ ولا تفريطٍ، ولا يصح ضمانُهُ، بل يصحّ ضمانُ التعدي فيه. (و) يصح ضمانُ (العينِ المضمونةِ كالغصب والعارية) لأنها مضمونةٌ على من هي في يدهِ، كالحقوقِ الثابتةِ في الذمّةِ، وضمانُها في الحقيقة ضمانُ استنقاذِهَا وردِّها، أو قيمَتِها، عند تلفِها، فهي كَعُهْدَة المبيع. ولا يصح ضمانُ غير المضمونةِ، كالوديعةِ ونحوها) كالعينِ المؤجَرَةِ، ومالِ الشركةِ، والمضاربةِ، والعينِ المدفوعةِ إلى الخيّاطِ، أو

القصّار، بل التعدِّي فيها، (ولا دَيْنِ الكتابة) لأنه ليس بلازمٍ، ولا مآلُهُ اللزومُ، لأن المكاتَب له تعجيز نفسِهِ والامتناعُ من الأداء (ولا بعضِ دينٍ لم يقدّر)، كما لا يصحّ ضمانُ "أحدِ هذين الدَّيْنَينِ" ولم يفسّره، لجهالته حالاً ومآلاً. (وإن قضى الضامنُ ما على المدينِ، ونوى الرجوعَ عليه رَجَعَ) على مضمونٍ عنهُ، وإن لم ينوِ الرجوعَ لم يرجعْ، (ولو لم يأذنْ له) أي لِلضَّامِن (المدينُ في الضمانِ والقضاءِ.) (وإذا رجعَ الضامنُ رجَعَ بالأقلِّ مما قضى. ولو قيمةَ عرضٍ عَوَّضَهُ به، أو قَدْرِ الدين. (وكذا) أي وكضامنٍ في هذه الأحكام كفيلٌ (وكلُّ من أدّى عن غيرِه ديناً واجباً) لا زكاةً ونحوَها مما يفتقِرُ إلى نيّةٍ لعدم إجزائه. (وإن برئَ المديون) بإبراءٍ، أو حَوَالَةٍ، أو قضاءٍ (برئ ضامنُهُ) لأنه تَبَعٌ له، والضمان وثيقةٌ، فإذا برئ الأصيل زالت الوثيقة كالرهن. (ولا عكسَ)، أي ولا يبرأ المديونُ ببراءةِ الضامنِ لأن الأصيل لا يبرأ ببراءةِ التَّبَعِ، ولأنه وثيقةٌ انحلّتْ من غير استيفاءِ الدين منها، فلا تبرأ ذمّة الأصل، كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاءٍ. (ولو ضَمِنَ اثنان) فأكثر (واحداً، وقال كلُّ) واحدٍ: (ضمنتُ لك الدينَ، كانَ لربِّهِ) أي الدين (طلبُ كلِّ واحدٍ بالدين كلِّه) لأنهما اشتركا في الضمان، وكلُّ واحدٍ منهما ضامنٌ الدين منفرداً، وله مطالبتهما معاً بالدين كلِّه. (وإن قالا: ضمنّا لكَ الدين، فـ) هو (بينهما بالحِصَصِ) أي: نصفين. فكل واحد منهما ضامنٌ للنِّصفِ، لأن مقتضى الشركة التسوية.

[في الكفالة بالبدن]

فصل [في الكفالة بالبدن] (والكَفَالَةُ هي أن يلتزمَ) الرشيدُ (بإحضارِ بَدَنِ من عليه حقٌّ ماليٌّ) يصح ضمانُهُ، معلوماً كان الدينُ أو مجهولاً، من كلِّ من يلزَمُهُ الحضورُ إلى مجلس الحُكْمِ، فلا تصح كفالة الابن لأبيه (إلى ربِّهِ) أي الدين. وتنعقد بألفاظِ الضمانِ، نحو: أنا ضمينٌ ببدنِهِ، أو زعيمٌ به. وإن ضمن معرفَتَهُ أُخِذَ بِهِ. ومعناه أني أُعَرِّفك من هو، وأين هو. كأنه قال: ضمنتُ لكَ حضورَه. ولا تصح ببدنِ من عليهِ حَدٌّ للهِ تعالى كحد الزنا، أو لآدميٍّ كالقَذْفِ أو القِصَاصِ. (ويعتبر) لصحة الكفالة (رضا الكفيلِ) لأنه لا يلزمَهُ الحقّ ابتداءً إلا برضاه، (لا المكفولِ) لأنها وثيقةٌ لا قبضَ فيها، فصحَّتْ من غير رضاه، كالشاهد، (ولا) رضا (المكفولِ له.) وتصح حالَّةً ومؤجلة، كالضمان، والثمن في البيع. تتمّة: إذا قال شخص لآخر: اضمَنْ عن فلانٍ، أو اكفلْ عنه، ففعل، كان الضمانُ والكفالة لازِمَيْنِ للمباشِرِ دون الآمرِ، لأنه كفَلَ باختيارِ نفسِهِ، وإنما الأمر للإرشادِ، فلا يلزم به شيءٌ. [التزامات الكفيل] (ومتى سلم الكفيلُ المكفولَ) به (لربِّ الحقِّ بمحلِّ العقدِ)، وقد حلَّ الأجَلُ، أوْ لَا، ولا ضرر في قبضه، مثلَ أن يكونَ في يومِ مجلِسِ الحُكْمِ، وليس ثَمَّ حائِلَةٌ ظالمة (أو سلم المكفولُ نفسَه، أو ماتَ، برئ الكفيلُ) قال الفتوحي في شرحه: ولو قالَ في الكفالَةِ: إن عَجَزْتَ عن إحضارِهِ، أو متى عجزْتَ عن إحضارِهِ، كان عليَّ القيامُ بما أقرَّ بِهِ،

قال ابن نصر الله: لم يبرأُ بموت المكفولِ، ويلزمه ما عليه. قال: وقد وَقَعَتْ هذه المسألة، وأفتيتُ فيها بلزوم المال. (وإن تعذر على الكفيلِ إحضار المكفولِ) مع حياتِهِ بأن توارى، أو غابَ، ومضى زمنٌ يمكن ردُّه فيه، أو مضى زمنٌ عيَّنَهُ لِإحضارِهِ (ضَمِنَ جميع ما عليهِ) للمكفولِ له، نصًّا. (ومن كفله اثنان، فسلّمه أحدُهُما لم يبرأ الآخر) بذلك، لأن إحدى الوثيقتين انحلَّتْ من غير استيفاءٍ، فلم تنحلَّ الأخرى، كما لو أبرأ أحدَهُما. (وإن سلَّم) المكفولُ (نفسَهُ بَرئَا) لأنه أدّى ما يلزم الكفيليِن لأجله، وهو إحضارُ نفسِهِ فبرئت ذمتهما.

باب الحوالة

باب الحَوَالة وهي انتقالُ مالٍ من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ. وتصحُّ بلفظهَا، وبمعناها الخاصّ، كقول مدينٍ لربّ الدين: أَتبَعْتُكَ بدينِكَ على زيدٍ، ونحو ذلك. (وشروطها) أي شروطُ صحة الحَوَالة (خمسة): (أحدها: اتفاقُ الدينين): الدينِ المحالِ به للدين المحالِ عليه (في الجنسِ)، كأن يحيلَ من عليه ذهبٌ بذهبٍ، ومن عليه فضة بفضة. فلو أحالَ من عليهِ ذهبٌ بفضةٍ، أو بالعكس، َ لم يصح؛ (والصِّفَةِ) فلو أحال من عليه صحاحٌ بِمكسَّرةٍ، أو من عليه دراهِمُ غُورِيةٌ بدراهمَ سليمانيّة، لم يصح: (والحلولِ والأجلِ،) فإن كان أحدهما حالاًّ والآخر مؤجّلاً، أو أحدُهما إلى شهرٍ والآخرُ إلى شهرين، لم تصحّ الحوالة. (الثاني: علم قَدْرِ كل من الدينين،) فلا يصحُّ في المجهولِ. (الثالث: استقرارُ المالِ المحالِ عليه) فلا تصحّ على مالِ سَلَمٍ، أو رَأسِه، بعد فسخٍ، أو صداقٍ قبل دخولٍ، أو مالِ كتابةٍ، (لا) استقرارُ المالِ (المحالِ به) فإن أحال المكاتَبُ سيّدَه بدينِ الكتابةِ، أو الزوجُ امرأتَهُ قبلَ الدُّخول، أو المشتري البائِعَ بثمن المبيع في مدة الخيارين، صحّ.

(الرابع: كونه) أي المال المحال عليه (يصحّ السَّلَمُ فيه) من مثليٍّ كمكيلٍ أو موزونٍ موصوفين، أو معدودٍ ومذروعٍ ينضبطان بالصفة. (الخامس: رضا المُحِيلِ) لأن الحقَّ عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه (لا) رضا (المحتال إن كان المحالُ عليه مليًّا) فيجب على من أُحِيلَ على مليٍّ أن يحتالَ، فإن امتنعَ المحتالُ أُجْبِرَ على اتباعه، ولو ميتاً (و) المليء الذي يجبر المحتال على اتباعه (وهو من له القدرةُ على الوفَاءِ، وليس مماطِلاً، ويمكن حضوره لمجلسِ الحُكْمِ) فلا يلزمه أن يحتال على والده، ولا يصحّ أن يحيل ربَّ الدينِ على أبيه. (فمتى توفّرت الشروطُ) الخمسةُ المذكورة (برئَ المحيلُ من الدينِ بمجرّدِ الحوالةِ، [ولو] أفلسَ المحالُ عليهِ بعد ذلكَ، أو مات،) أو جَحَدَ الدين. (ومتى لم تتوفر الشروط) المذكورة (لم تصحّ الحوالة، وإنما تكون وكالةً.) (والحوالة على مَا لَهُ في الديوَانِ إذنٌ له في الاستيفاء. وللمحتالِ الرجوعُ ومطالبةُ محيلِهِ. وإحالةُ من لا دينَ عليه وكالةٌ له في طلبِهِ وقبضه، ومن لا دينَ عليه على مثله وكالَةٌ في اقتراض. وكذا مدينٌ على. بريءٍ ربويٍّ (¬1)، فلا يصارفه. ¬

_ (¬1) قوله "ربوي" ساقط من (ف).

باب الصلح

باب الصُّلْح الصلحُ: التوفيق. ويكون أنواعاً خمسة: أحدها: بين مسلمِينَ وأهلِ حرب. الثاني: بين أهل عدلٍ وأهل بغي. الثالث: بين زوجينِ خيفَ شقاقٌ بينهما، أو خافَتْ إعراضهُ (¬1). والرابع: بين متخاصِمَيْنِ في غير مالٍ. الخامس: صلحٌ بالمال. وهو فيه، أي المال، معاقَدَة يُتَوَصَّل بها إلى موافقةٍ بين مختلفَيْنِ. (يصح) الصلح (ممن يصحّ تبرّعُهُ مع الإِقرار والإِنكار،) ولا يصحُّ ممن لا يصح تبرُّعُه كمكاتَبٍ، وقِنٍّ مأذونٍ له في تجارةٍ، ووليٍّ لصغيرٍ أو سفيهٍ. (فإذا أقرّ) المدعى عليه (للمدعي بدينٍ) معلومٍ في ذمته (أو) أقرّ (بعينٍ) تحت يده (ثم صالَحَهُ على بعضِ الدَّيْنِ) كنصفِهِ أو ثلثه أو نحوِهِما (أو) صالَحَهُ (على بعضِ العينِ المدَّعاةِ فهو) أي ما صدر (هبةٌ ¬

_ (¬1) سقط من (ف): عبارة "خافت إعراضه" وفي شرح المنتهى "أو خافت الزوجة إعراض الزوج عنها".

يصحُّ بلفظِها) أي الهبة، لأنَّ الإِنسانَ لا يُمنَعُ من إسقاطِ بعض حقِّهِ، أو هبتِهِ؛ (لا) يصحّ (بلفظ الصلح) لأنه هضمٌ للحقّ. (وإن صالحه على عينٍ غير المدَّعاةِ)؛ كما لو اعترفَ له بعينٍ في يده، أو دينٍ في ذمته، ثم يعوِّضُه فيه ما يجوز تعويضُهُ عنه (فهو بَيْعٌ يصحُّ بلفظِ الصُّلح، وتثبُتُ فيه أحكامُ البيعِ) من العلم به وسائر شروط البيع، (فلو صالحهُ عن الدينِ بعينٍ، واتفقا في علة الربا، اشتُرِطَ قبضُ العِوَضِ في المجلس). (فإذا) أقر له بذهبٍ فصالحه عنه بفضةٍ، أو عَكَسَ، فتكونُ هذه المصالحة صَرْفاً، لأنهَا بيعُ أحد النقدين بالآخر. فيُشترَطَ لها ما يشترط للصرف، من التقابُضِ بالمجلسِ. وكذا لو أقرّ له بقمحٍ وعوَّضه عنه شعيراً، أو نحوَهما مما لا يباع به نسيئةً. (و) إن كان الصلحْ (بشيءٍ في الذمّةِ) فإنه (يبطل بالتفرُّقِ قبل القبضِ) لأنه إذا حصل التفرّق قبل القبضِ كان كلُّ واحدٍ من العِوَضَيْنِ ديناً، لأن مَحلَّهُ الذمة، فيصيرُ بيعَ دينٍ بدينٍ، وهو منهيٌّ عنه شرعاً. (وإن صالَحَ عن عيبٍ في المبيعِ) بشيءٍ معين، كدينارٍ، أو منفعةٍ كسكنى دارٍ معيَنةٍ، (صحّ) الصلح، لأنه يجوز أخذ العوضِ عن عيبِ المبيعِ (فلو زال العيب سريعاً) بأن كان المبيعُ مريضاً فعوفي (أو لم يكن) كما لو كان ببطنِ الأمة نفخةٌ، فظنَّ أنها حامل، ثم بانَ لهما الحالُ، (رجَعَ بما دفعه). (ويصحّ الصلح عما) أيْ مجهولٍ (تعذَّر علمُه من دينٍ،) كما لو كان بين شخصينِ معاملةٌ وحسابٌ قد مضى عليهِ زمن طويل، ولا عِلْمَ لكلِّ واحدٍ منهما بما عليه لصاحِبِه، (أو) تعذَّرَ علمه من (عينٍ)، نَقَلَ عبدُ الله: إذا اختلَطَ قفيزُ حنطةٍ بقفيزِ شعيرٍ وطُحِنَا، فإن عُرِفَتْ قيمةُ دقيقِ الحنطةِ أو دقيقِ الشعيرِ، بيعَ هذا وأُعْطِيَ كلُ واحدٍ منهما قيمةَ مالِهِ، إلا

[في الصلح على الإنكار]

أن يصطلحا على شيء. ويصح بمالٍ معلومٍ نقداً أو نسيئةً. تتمة: قال في الإِقناع: فإن أمكن معرفتُهُ ولم تتعذّر، كتركةٍ موجودةٍ صولح بعضُ الورثةِ عن ميراثِهِ منها، لم يصحَّ الصلح (¬1). (و) من قال لغريمه (أَقِرَّ لي بديني، وأعطيكَ منه كذا) أو أقرّ لي بديني وخذ منه مائةً، (فأقرّ، لزمه الدينُ) كله (ولم يلزمه أن يعطيه.) فصل [في الصلح على الإِنكار] (وإذا أنكر) المدعى عليه (دعوى المدعي، أو سَكَتَ وهو) أي المدعى عليه (يجهله) أي المدعى به، (ثم صالحه) على نقدٍ أو نسيئةٍ (صحَّ الصلح وكان) الصلح (إبراءاً في حقّه) أي المدعى عليه، لأنه إنما بَذَل مالَ الصُّلْحِ ليدفَعَ عن نفسِهِ الخُصُومَةَ، لا في مقابلة حقٍّ ثبت عليه، فلا شفعة فيه إن كان شقصاً من عقارٍ، ولا يستحقُّ المدعى عليه لعيبٍ وجَدَه فيما ادُّعي عليه به شيئاً، (وبيعاً في حقّ المدعي) فله ردّ المصَالَحِ به عما ادّعاه، بعيبٍ فيهِ، ويثبت فيما إذا صالَحَهُ بشقصٍ مشفوعٍ الشفعةُ، إلا إذا صالَح ببعضِ عينٍ مدعًى بها، فهو فيه كالمنكر. (ومن علم بكذب نفسه) منهما (فالصلح باطلٌ في حقه) لأنه إن كان المدعي فإن الصلح مبنيٌّ على دعواه الباطلة، وإن كان المدعى عليه فإنه مبنيٌّ على جَحْدِ المدعى عليه حقَّ المدَّعي. (وما أخذه) المدعي العالمُ بكذبِ نفسِهِ من المال المصالَح بِهِ، أو المدعى عليه مما انتقصه من الحق يجحده (فحرام) على كلٍّ منهما، ¬

_ (¬1) هذا الذي قطع في الإقناع من عدم صحته، خلاف المشهور، والمشهور أنه يصح لقطع النزاع، كالبراءة من مجهول (ش المنتهى).

لأنه أَكْلُ مالِ الغيرِ بالباطِلِ، المنهيُّ عَنه. (ومن قال) لآخر: (صالِحْني عن الملك الذي تَدّعيه، لم يكنْ مقراً) به، أي لم يكن القائلُ مقراً بالملك للمَقُول له، لاحتمال إرادة صيانَةِ نفسِهِ عن التبذّل، أو حضورِ مجلسِ الحُكْمِ بذلك، فإنّ ذوي المروءاتِ يصعُبُ عليهم ذلك، ويرون رفع ضررها عنهم من أَعْظَمِ مصالحِهِمْ. (وإن صالح أجنبيٌّ عن منكرٍ للدعوى صحّ الصلحُ، أَذِنَ المنكِرُ له،) أي للمصالِحِ بالصلحِ (أوْ لا،) أي أو لم يأذن له، (لكنْ لا يرجعُ) المصالِحُ (عليه) أي على المنكِرِ (بدونِ إِذنِهِ) لأنه أدّى عنه ما لا يَلْزَمُهُ أداؤُه، فكان متبرّعاً، كما لو تصدق عنه. قال في شرح المنتهى: وعُلِمَ مما تقدّم أن المنكِرَ إذا أذن للأجنبيِّ في الصُّلْحِ، أو في الأداءِ، له الرجوع إذا أدَّى بنيته. أما الرجوعُ مع الإِذْنِ في الأداءِ فظاهر، وأما مع الإذْن ِفي الصلح فقط فلأنه يجب عليه الأداء بعقد (¬1) الصلح، فإذا أدى فقد أدّى واجباً عن غيرِهِ، محتسباً بالرجوع، فكان له الرجوعُ على أصحّ الروايتين. انتهى. (ومن صالَحَ) آخرَ (عن دارٍ ونحوِها) كعبدٍ وثوبٍ بعوضٍ (فبانَ العِوَضُ) المصالَح به (مستَحَقًّا)، أو كان قنًّا فبانَ حُرًّا (رجَعَ بالدار) أي المصالَحِ عنها، أو بالعَبْدِ أو بالثَّوْبِ المصالَحِ عَنْهُ إن كان باقياً، أو بقيمتِهِ إن كان تالفاً. ومحل ذلك إن كان الصلحُ (مع الإِقرار) من المصالِحِ. لأن الصلح إذَنْ بيعٌ في الحقيقة. فإذا تبيّن أن العِوَضَ كان مستحقّا أو حراً كان البيع فاسداً، فرجع فيما كان له، (و) رَجَعَ (بالدَّعْوى) أي إلى دعواه قبل الصلح. وفي الرعاية: أو قيمةِ المصالَح ¬

_ (¬1) في (ف): "بقصد الصلح".

[الصلح عما ليس بمال]

بِهِ المستَحَقِّ لغير المدعى عليه، (مع الإِنكار) متعلِّق برَجَعَ، وكذا قوله: وبالدعوى. وجه المذهبِ أن الصلح لما تبيَّنَ فساده بخروجِ المُصَالَحِ به غيرَ مالٍ، كما لو صالَحَ بعصير فبان خمْراً، وبقنّ فبان حرًّا، أو غيرَ مستَحَقٍّ للمدعى عليه، كما لو بان أنه غصَبَه أو نحو ذلك، حُكِم ببطلانِ عقدِ الصلح. وحيثُ بَطَل عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه قبلَهُ، فيرجع المدعي فيما كان له، وهو الدَّعْوى. [الصلح عما ليس بمال] (ولا يصحّ الصلحُ عن خيارٍ) في بيعٍ أو إجارةٍ، لأن الخيار لم يُشْرَعْ لاستفادةِ مالٍ، وإنما شُرِعَ للنظر في الأحظّ، فلم يصح الاعتياضُ عنه، (أو شفعةٍ) بأن صالَحَ المشتري صاحِبَ الشفعةِ، لأنها تثبت لإِزالة الضَّررِ، فإذا رضي بالعوض تبيَّنَ أن لا ضَرَرَ، فلا استحقاقَ، فيبطل العوضُ، لبطلان معوَّضِهِ، (أو حدِّ قذفٍ) أي صالح قاذفٌ مقذوفاً عن حدِّ قذفٍ. (وتسقطُ جميعُها) أي الشفعةُ والخيارُ وحدُّ القذفِ لرضا مستحقها بتركها؛ (ولا شارباً أو سارقاً) أو زانياً (ليطلّقها) ولا يرفعه إلى السلطان؛ (أو شاهداً ليكتم شهادتَهُ) عليه، أو صالحه على أن لا يشهد عليه بالزور، لم يصحّ، لأنه صلح على حرامٍ أو تركِ واجبٍ. فصل [في أحكام الجوار] (ويحرم على الشخصِ أن يُجْريَ ماءً في أرض غيرِهِ، أو سطحِهِ) أي سطح غيره (بلا إذنه) أي إذن صاحبِ الأرضِ، أو السطح، لتضرره أو تضرُّرِ أرضِهِ، وكزرعِهِ بلا إذنه، بجامعِ أنّ كلا منهما استعمالٌ لمالِ

الغيرِ بغير إذنِهِ. وفي رواية: إن دَعَتْ ضرورةٌ، قيل: أو حاجةٌ، (ويصحَّ الصلحُ على ذلك بعوضٍ) لأن ذلك إما بيعٌ أو إجارةٌ، وكل منهما جائز. (ومن له حقُّ ماءٍ يجري على سطحِ جارِهِ لم يجزْ لجارِهِ تعليةُ سطحِهِ ليمنعَ جَرْيَ الماء،) لِإبطال حقِّهِ بذلك، أو ليكثُرَ ضَرَرُهُ. (وحَرُمَ على الجارِ أن يُحْدِثَ بملكه ما) أي شيئاً (يضرّ بجاره، كحمّامٍ) يتأذّى جاره بدخانِهِ، أو يضرُّ ماؤه حائِطَهُ، (وكنيفٍ) يتأذى جاره بريحِهِ، أو يصلُ إلى بئرِهِ، (ورَحًى) يهتزّ بها حائِطُهُ، (وتَنُّورٍ) يتعدَّى دخانُهُ إليه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرَرَ ولا ضِرارَ" (¬1) وهذا إضرارٌ بجاره. (وله) أي للجارِ (مَنْعُه) أي منعُ جارِهِ (من ذلك،) بخلاف طبخٍ وخَبْزٍ فيه. (ويحرم) على الإِنسان (التصرُّفُ في جدارِ جارٍ) أو جدارٍ (مشَترَكٍ) بين المتصرّف وبين غيره (بفتح رَوْزَنَةٍ) الروزنة الكُوَّةُ والكوة الخرق في الحائط، (أو) بفتح (طاقٍ) قال في القاموس: الطاقُ ما عُطِفَ من البنيان (¬2) انتهى. قال في شرح المنتهى: قلت: ومن ذلك طاقُ القِبْلَةِ، (أو بضربِ وتدٍ ونحوِهِ) كجعل رفٍّ فيه، (إلا بإذنِهِ) أي الشريك، (وكذا) في الحكمِ إلا ما يُستثنى (وضعُ خَشَبِ) على جدارِ جارِهِ أو المشتَرَكِ (إلا أن لا يُمْكِنَ تسقيفٌ إلاَّ به) فيجوز بَلا ضَرَرٍ. (ويُجْبَر الجارُ إن أبى.) وجدارُ مسجدٍ كجدارِ دارٍ، نصًّا. قال في شرح المنتهى: فَرْعٌ: من وجد بناءَهُ أو خشبه على حائطِ ¬

_ (¬1) حديث "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً. وأخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من حديث بن عباس وعبادة ابن الصامت. كذا في الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83. وفي (الإرواء ح 896): وهو صحيح. (¬2) النص في القاموس واللسان. والمراد بالعطف الانحناء كجزءٍ من دائرة. وفي اللسان أيضاً "الطاق عقد البناء حيث كان."

[المرافق العامة والمشتركة]

جارِهِ أو مشتركٍ، ولم يعلمْ سبَبَه، فمتى زالَ فله إعادتُه، لأن الظاهر أن هذا الوَضْعَ بحق، فلا يزولُ هذا الظاهرُ حتَّى يُعْلَم خلافُه. وكذلك لو وجد مسيلَ مائِهِ في أرضِ غيرِهِ، أو مجرى مائِهِ على سطحِ غيره. (وله) أي للِإنسان (أن يسند قماشَهُ) ويستند (ويجلس (¬1) في ظل حائطِ غيرِه) من غير إذنِهِ، (وينظرَ في ضوءِ سراجِهِ) أي الغير (من غير إذنِهِ) أي مالِكِ الحائِط والسراجِ. [المرافق العامة والمشتركة] (وحَرُمَ أن يتصرَّفَ) الإِنسان (في طريقٍ نافذٍ بما يضرُّ المارَّ كإخراجِ دُكانٍ) بضم داله (ودَكَّةٍ) بفتحها، قال في القاموس (¬2): والدكة بالفتح والدكان بالضم بناءٌ سُطِّح أعْلَاهُ للمقْعَدِ. وقال في موضع آخر والدُّكَّانُ كرمّانٍ، الحانوتُ، معرّب. (وجَنَاحٍ) وهو الروشَنُ على أطرافِ خشبٍ مدفونةٍ في الحائِطِ، (وساباطٍ) وهو سقيفةٌ بين حائطينِ تحتَها طريقٌ (وميزَابٍ) ولو أذِنَ الإِمامُ بذلك للضَّرَرِ، (ويضمن ما تلف به) من نفسٍ أو مالٍ أو طرفٍ لتعدّيه به. (ويحرم التصرّف بذلك في ملك غيرِهِ أو هوائِهِ) أي هواءِ غيره إلا بإذنِهِ، (أو) في (دربٍ غير نافذٍ إلا بإذن أهلِهِ) أي أهلِ الدربِ الذي هو غيرُ نافذٍ، إذا فَعَلَهُ فيه. أما كون فِعْلِ ذلك لا يجوزُ في ملك غيره أو هوائِه فلأنّهُ نوعُ تصرفٍ في ملك الغير، يتضرّر به، فلم يجز إلا بإذن مالكه. وأما كونُ فعلِ ذلكَ لا يجوزُ في دربٍ غيرِ نافذٍ إلا بإذن أهله فلأن الدَّرْبَ ملكٌ لقومٍ معيّنين، فلم يجز إلا بإذنهم، لأن الحقَّ لهم. ¬

_ (¬1) "يجلس" سقط من (ب، ص) وهو ثابت في (ف) ومنار السبيل. (¬2) ليس في القاموس هذا القول. فلعل الشارح نقله من غِيره فوهم.

(ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في المِلْكِ) المشترك، (والوقْفِ) المشترك. فإن انهدم حائطهُما أو سقفهُما فطلب أحدهما صاحِبَه ببنائِهِ معه، أجبر. فإن امتنع أخذ الحاكم من مالِهِ النَّقْدِ، وأنفق عليه. فإن لم يكن له عين مالٍ وكان له متاعٌ باعَهُ، وأنفق منه على حصَّته مع الشريك، فإن لم يكن للمتنع نقدٌ ولا عَرْض اقترض الحاكم عليه، وأنفق على حصَّته. وإن أنفقَ الشريكُ بإذن شريكه، أو إذن حاكم، أو بنيّةِ رجوعٍ، رَجَعَ بما أنفق على حصة الشريك، وكان بينَ الشريكين كما كان قبل انهدامِهِ. (وإن هدم الشريكُ البناءَ) المشترك بين الهادم وغيره، (وكان) هدمه له (لخوف سقوطه) أي البناء، (فلا شيء) أي لا ضمانَ (عليهِ) لأنه مُحْسِنٌ، (وإلا) بأن هدم الشريك البناءَ المشتركَ لغيرِ خوف سقوطه (لزمه إعادته) كما كان، لأنه متعد. (وإن أهمل الشريك بناء حائِط بستانٍ اتَّفقَا عليه) أي على البناءِ، (فما تلف من ثمرتِهِ) أي البستان (بسبب إهمالِهِ ضمن) الشريك المهمِل (وحصةَ شريكه) منه. قال في الإِقناع وشرحه: ولو اتّفقا، أي الشريكان، على بناء حائِط بستانٍ فبنى أحدُهما وأهمَلَ الآخر، فما تلف من الثَّمَرَةِ بسبب إهمالِ الآخرِ ضمنه، أي ضمن نصيبَ شريكِهِ منه الذي أهْمَل. قاله الشيخ. انتهى.

كتاب الحجر

كتَاب الحَجْر الحَجْرُ في اللغة التضييق. وفي الشرع (هو منعُ المالكِ من التصرّف في مالِهِ) والأَصل في مشروعيته قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السَّفَهَاءَ أمْوالَكُمْ} أي: أموالَهم، لكن أُضِيفَ إلى الأوْليَاءِ لأنهم قائمون عليها، مُدَبّرون لها، وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية. وإذا ثبَتَ الحجْرُ على هذينِ ثبتَ على المجنونِ من بابِ أوْلى. (وهو) أي الحجر (نوعان): (الأول: الحقّ) أي لحظّ (الغير) أي غيرِ المحجورِ عليه (كالحجْرِ على مُفْلِسٍ) لحق الغرماءِ؛ (وراهنٍ) لحقّ المرتهن حيث لزم الرهن؛ (و) على (مريضٍ) مرضَ الموتِ المخوفَ فيما زاد على الثلثِ من مالِهِ، لحقّ الورثة؛ (و) على (قِنٍّ ومكاتَبٍ) لحق السيّد؛ (و) على (مرتدٍّ) لحقّ المسلمين، لأن تَرِكَتَهُ فيءٌ، فربما تصرّف فيها يقصِدُ به إتلافَها ليفوِّتها على المسلمين، (و) على (مُشْتَرٍ) في المبيع إذا كان شِقْصاً مشفوعاً، (بعد طلب الشفيعِ) لَهُ، لحقّ الشفيع. (الثاني:) الحجر على الإِنسان (لحظّ نفسِهِ) وذلك (كالحجر على صغيرٍ ومجنونٍ وسفيهٍ) وقول الفقهاء في هذا الضرب: "لحظّ نفسِهِ" لأن المصلحةَ تعودُ هنا على المحجور عليه.

[الحجر على المدين]

ثم الحجرُ على هؤلاءِ كلِّهمْ بأن يُمنَعُوا من التصرُّف في أموالِهِمْ وذِمَمِهِم، ولا يصحّ إلا بإذن الوليّ، لأنه بدونه يفضي إلى ضَيَاع مالهم. [الحجر على المدين] (ولا يطالَبُ المدين، ولا يحجر عليه، بدينٍ لم يحلّ) أما كونه لا يطالَبُ، فلأنَ من شرطِ صحة المطالبة لزومُ الأداء، وهو لا يلزم أداؤه قبل الأجل؛ وأما كونُه لا يُحجَر عليه من أجل ذلك، فلأنَّ المطالبة إذا لم تُستَحقَّ لم يستحق عليه حجر، قال في الفروع. وفي إنظار المُعْسِرِ فضلٌ عظيمٌ، وأبلغ الأخبار عن بُرَيْدةَ مرفوعاً "من أَنْظَرَ مُعْسِراً فله بكل يومٍ مثلُه صدقةً قبل أن يحلّ الدينُ، فإذا حلَّ الدينُ فأنظره فله بكل يومٍ مثليه صدقةً." (¬1) رواه أحمد رضي الله عنه (لكن لو أراد) من عليه الدينُ (سَفراً طويلاً) فوق مسافة القصر -عند الموفّق وابن أخيه وجماعةٍ، قال في الإِنصاف: ولعلَّه أولى، ولم يقيّدْه به في التنقيح والمنتهى- يحلّ الدينُ المؤجّلُ قبل فراغِهِ، أو بعده، مخوفاً كان أو غيره، وليس به رهن يفي ولا كفيل مليء (فلغريمِهِ مَنْعُه) من السفر لأن عليه ضرراً في تأخيرِ حقِّهِ عن محله في غير جهاد متعيّنٍ (حتى يُوَثِّقَهُ برهنٍ يُحرِزُ أو كفيلٍ مليء) فإذا وثَّقه بأحَدِهِما لم يمنعه، لانتفاءِ الضرر، فلو أراد المدين وضامِنُه معاً السَّفَرَ فله منعُهما، وله منعُ أيِّهما شَاءَ، ولا يملكُ تحليلَهُ إن أَحْرَم. (ولا يحلُّ دينٌ مؤجَّلٌ بجنونٍ، ولا) يحلُّ دينٌ مؤجل (بموتٍ إن وثَّقَ ورثتُهُ) أو غيرهم (بما تقدم،) يعني برهنٍ يُحْرِزُ أو كفيلٍ مليء. (ويجب على مدينٍ قادرٍ وفاءُ دينٍ حال فوراً بطلب ربه) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) حديث "من أنظر معسراً ... الخ" كذا بلفظ "مثليه .. " رواه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث بريدة مرفوعاً (الفتح الكبير) وهو صحيح على شرط مسلم (الإرواء ح 1438)

"مطلُ الغنِيِّ ظُلمٌ" (¬1) وبالطلب يتحقق المطل (وإن مَطَلَهُ) أي مَطَل المدينُ ربَّ الدين (حتى شكاه) ربُّ الدين (وَجَبَ على الحاكِمِ) العالِمِ بحالِهِ والجاهِلِ بحالِهِ (أَمْرُهُ بوفائِهِ.) وما غَرِمَ بسببِ مَطْلِهِ فِعلى مُماطِلٍ (¬2). (فإن أَبَى) أي إذا أمر الحاكِمُ من عليهِ الدين بوفائِهِ بِطلبِ غريمِهِ فأبى (حَبَسَهُ.) قال في المغني: إذا امتنع الموسرُ من قضاءِ الدينِ فلغريمِهِ ملازَمَتُه، ومطالبته، والإغلاظ عليه بالقول، فيقول: يا ظالمُ. يا معتدي. (ولا يخرجه (¬3) حتى يتبين) له (أمره) أي أنه معسرٌ، -أو يبرأُ المدينُ من غريمِهِ بوفاءٍ أو إبراءٍ، أو يَرْضى غريمُه بإخراجِهِ. (فإن كان ذو عُسْرَةٍ وجبت تَخلِيَتُهُ، وحرُمت مطالبته، و) حرم (الحجر عليه ما دام معسراً،) ولو قال غريمُهُ: لا أرضى. (وإن سأل غرماء من) أي: مدينٍ (له مالٌ لا يفي بدينه) الحالِّ، أو سأل بعضُهم (الحاكمَ الحجرَ عليهِ) أي على المدين، (لزمه) أي الحاكِمَ (إجابتهُم) أي إجابةُ الغرماءِ أو بعضِهم، وحجَرَ عليه. قال في شرح المنتهى: وظاهرُ ما تقدم أنه لا بد من سؤالِ من له حقٌّ الحاكمَ في الحجر، وحكمِ الحاكمِ، وهو المذهب. (وسنّ إظهارُ حجرِ) الفَلَس والسَّفَهِ ليعلم الناس بحالِهِمَا فلا يعاملوهما إلاَّ على بصيرة. ¬

_ (¬1) حديث "مطل الغنيّ ظلمٌ" رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة مرفوعاً. (¬2) أي كرسوم محكمة، وأجرة محام، ونحو ذلك. (¬3) أي من الحبس.

[في آثار الحجر]

فصل [في آثار الحجر] (وفائدة الحجر (¬1) أحكامٌ أربعةٌ): (أحدها: تعلُّق حق الغرماءِ بالمالِ) لأنه لو لم يكن كذلك لما كان في الحجر عليه فائدةٌ، ولأنّه يباعُ في ديونِهِمْ فكانت حقوقُهُمْ متعلقةً به، كالرهن. إذا ثبت هذا (فلا يصحّ تصرّفه فيه بشيءٍ) حتى ما يتجدد له (¬2) من ماله من أرشِ جنايةٍ وإرْثٍ ونحوهما، كوصيةٍ، وصدقة، وهبة؛ (ولو بالعتقِ) والوقفِ. (وإن تصرّف في ذمّتِهِ بشراءٍ أو إقرارٍ صح) لأنّه أهلٌ للتصرّف، والحجرُ متعلقٌ بمالِهِ لا بذمّتِهِ، فوجب صحّةُ تصرفه في ذمته، عملاً بأهليّتِهِ السالمةِ عن معارَضَةِ الحَجْر، (وطولِبَ به) أي بثمنِ مبيعٍ أو إقرارٍ (بَعْدَ فكِّ الحَجْرِ عنه) لأنه حقٌّ عليه. وإن جنى على أحدٍ شاركَ مجنيٌّ عليه الغرماءَ. (الثاني): من الأحكام المتعلقة بالحجر: (إنَّ من وجد عَيْنَ ما باعَهُ) للمفلِسِ، (أو أقرضَهُ) إياهُ، أو أعطاه له رأسَ مالِ سَلَمٍ، أو آجَرَهُ، ولو نفسَه (¬3)، ولم يمض من مدتها زمنٌ له أجرة أو نحو ذلك (فهو) أي واجدُ العين التي باعها أو أقرضها أو أعطاها له رأس مال سلم (أحقُّ بها،) أي بعينِ مالِهِ من غيرِهِ. ¬

_ (¬1) أي على المفلس خاصة. (¬2) ظاهره أنه يحجر عليه حتى في ما لا يباعُ في وفاء دينه كمسكنه وخادمه وآلة حرفته. (¬3) أي لو كان الغريم آجر نفسه للمفلِسِ، فهو أحق بنفسه، إذا تمت الشروط ولم يعمل له من العمل شيئاً (ش المنتهى).

1 - (بشرط كونِهِ لا يعلَمُ بالحَجْرِ.) فهذا شرط لمن فعل ما ذُكِرَ بعد الحجر. 2 - (و) بشرط (أن يكون المفلِسُ حياً) إلى حين أخَذِ المبيع، فإذا ماتَ المشتريْ فالبائع أُسْوَةُ الغرماءِ، سواءٌ بفلَسِهِ قبل الموت فَحُجِرَ عليه ثم مات، أو مات فتبيّنَ فلسه، لأن الملك انتقل عن المفلِسِ إلى الورثة، أشبه ما لو باعَهُ. 3 - (وأن يكون عوضُ العين كله باقياً في ذمته،) فإن أدّى بعض الثمنِ أو الأجرة أو القرض أو السلم، أو أُبْرِئَ منه، فهو أسوة الغرماء في الباقي. 4 - (وأن تكون) العين (كلها) باقيةً (في ملكِهِ،) فإن تلف جزء منها، كبعضِ أطرافِ العبدِ، أو ذهبتْ عينُهُ، أو جرح، أو وُطِئَتِ البِكْرُ، أو تَلِفُ بعضُ الثوب، أو انهدم بعضُ الدارِ، ونحوه، لم يكن للبائِع الرجوعُ في العينِ، َ ويكون أسوة الغُرَماءِ. وإن باع المشتري بعض المبيع، أو وَهَبه، أو وقَفَهُ، فَكَتَلَفِهِ. 5 - (وأن تكون) السلعة (بحالها) حين انتقلتْ عَنْهُ، بأن لم تَنْقُصْ من ماليتها لذهابِ صفةٍ مع بقاءِ عِيِنها (ولم تتغير صفتُها بما يُزِيلُ اسمها) كنسجِ غزلٍ، وخبزِ دقيقٍ، وجعلِ دُهْن صابوناً، وجعل شريطٍ إبَراً؛ (ولم تزد زيادةً متصلَةً) كسمن، وكبر، وتعلُّم صنعةٍ تزيد بها القيمة، ككتابةٍ وحدادةٍ وقِصَارَةٍ (¬1)، (ولم تختلط بغير متميز) عنها، كما لو كانت زيتاً فخلطه بزيتٍ، أو قمحاً فخلطه بقمح، ونحو ذلك. 6 - (ولم يتعلق بها حقٌّ للغير) كرهن ونحوه. ¬

_ (¬1) القصارة تبييض الثياب. وفي بلادنا (فلسطين) القصارة: تلبيس جدران المنازل وسقوفها وتبييضها.

(فمتى وجد شيء من ذلك) بأن فُقِدَ شرط من هذه الشروط المذكورة (امتنعَ الرجوع) بعين المال. (الثالث) من الأحكام المتعلّقة بحجر المفلس: (يلزم الحاكم قَسْمُ مالِهِ) أي مال المفلس (الذي من جنسِ الدينِ) الذي عليه. (و) يلزم الحاكم (بيعُ ما ليسَ من جنسِهِ) -أي الدين- في سوقِهِ، أو غيرِهِ، بثمنِ مثلِهِ المستقرّ، أو أكثرَ من ثمنِ المثلِ إن حَصَل راغبٌ. ولا يحتاجُ الحاكم إلى استئذانِ المفلِسِ في البيع، لكن يستحب أن يُحْضِرَهُ أو وكيلَه، (ويقسمه) أي الثمنَ، أو المالَ الذي من جنس الدين، فوراً. أمّا كونُ الحاكِمِ يَلْزَمُهُ قَسْم مالِ المفلس الذي من جنس الدين الذي عليه، على غرمائِهِ، فلأنّ هذا هو جلُّ المقصودِ من الحجر الذي طلبه منه الغرماء أو بعضهُم، وأما كونُهُ يلزَمُ ذلك على الفور، فلأنَّ تأخيرهُ مطلٌ، وفيه ظلمٌ لهم. ويكون قَسْمُهُ (على الغرماءِ بِقَدْرِ ديونهم) لأن فيه تسويةً بينَهُمْ، ومراعاةً لِكَمّيّةِ حقوقهم، فلو قضى الحاكم أو المفلسُ بعضَهُمْ لم يصحّ لأنهم شركاؤُهُ، فلم يجز اختصاصُهُ دونَهمْ. (ولا يلزمهم) أي الغرماءَ (بيانُ أن لا غريمَ سواهُمْ) بخلافِ الوَرَثَةِ. ذكره في "الترغيب" و"الفصول" وغيرهما، لئلا يأخذ أحدهم ما لا حقّ له فيه. (ثم) بعد القسمة (إن ظَهَر ربُّ دينٍ حالٍّ) لم تُنْقَضِ القسمة. و (رجع على كل غريمٍ بِقسطِهِ،) لأنه لو كان حاضراً شاركهم، فكذا إذا ظهر. (ويجب) على الحاكم أو أمينِهِ (أن يتركَ له) أي للمفلسِ منْ مالِهِ (ما يحتاجُهُ من مسكنٍ وخادمٍ) صالحينِ لمثله، لأن ذلك مما لا غِنى له عنه، فلم يُبَعْ في دينه، ما لم يكونَا عينَ مالِ غريمٍ، فإنه إن شاء أخَذَهما، ويُشْتَرَى له أو يتركُ له بَدَلُهما.

[في الحجر على السفيه والصغير والمجنون]

(و) يجبُ أن يُتْرَكَ للمفلِسِ أيضاً إن كان تاجراً (ما) أيْ شيئاً من ماله (يتّجر به، أو آلة حرفةٍ) فلا يبيعُها لدعاءِ حاجته إليها، كثيابِهِ ومسكنِهِ. (ويجب له) أيضاً أي للمفلس (ولعيالِهِ أدنى نفقةِ مثلِهِمْ من مأكَلٍ ومشْرَبٍ وكسوةٍ) من مالِهِ حتى يُقْسَمَ، وأجرةُ كيَّالٍ ووزّانٍ وحمّالٍ وحافظٍ لم يتبرع من المال. (الرابع) من الأحكام المتعلقةِ بالحجر: (انقطاع الطلبِ عنه) أي عن المفلسِ لقوله تعالى: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ولأن قوله تعالى "فنظرة" خبَرٌ بمعنى الأمر، أي انظروه إلى يَسَارِه، (فمن أقرضه) أي فمن أقرضَ المفلسَ شيئاً، (أو باعة شيئاً، عالماً بحجره، لم يملكْ طلَبَهُ حتى ينفكَّ حجرُه) لتعلُّقِ حق الغرماءِ حالةَ الحجْرِ بعَيْنِ مالِ المفلس. لكن إذا وجَد البائعُ أو المقرضُ أعيانَ مالِهِما فلهما أخذها. فصل [في الحجر على السفيه والصغير والمجنون] (ومن دَفَعَ ماله) بعقدٍ كبيعٍ ورهنٍ أو لا كعارية ووديعةٍ (¬1) (إلى محجورٍ عليه لحظّ نفسِهِ كـ (صغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ، فأتلفَهُ، لم يضمنْهُ) لأنه سلَّطَهُ عليه برضاه. ويضمنُ إتلافَ ما لم يُدْفَعْ إليه. (ومن أخذ من أحدهم) أي من الصغيرِ والسفيهِ والمجنونِ (مالاً ضَمِنَهُ) أي الآخذُ (حتى يأخُذَهُ وليُّه. لا) يضمنه (إن أخذه منه ليحفظَهُ. وتَلِفَ ولم يُفَرِّط) أي الآخذُ، لأنه إن فَرَّطَ فقد ضمن، لتفريطه، (كمن ¬

_ (¬1) هذا التمثيل مشكل، فإن العارية والوديعة عقدان.

[علامات البلوغ]

أخذَ مغصوباً) من غاصبِهِ (ليحفظَهُ لربّه) لأن في ذلك إعانةً على ردّ الحقِّ إلى مستحقِّه. (ومن بلغ) من ذكرٍ أو أنثى حالَ كونِهِ (رشيداً، أو بلغ مجنوناً ثم عَقَلَ ورَشَدَ انفكَّ الحجرُ عنه) بلا حكمِ حاكمٍ بفكِّهِ. أما كونُه ينفكّ عن الأوَّل، فلقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، ولأنَّ الحَجْرَ عليه إنما كان لعجزِهِ عن التصرّف في مالِهِ على وجهِ المصلحةِ، حفظاً له، وببلوغِهِ رشيداً يقدِرُ على ذلك، فيزول الحجرُ بزوالِ سبَبِهِ. وأما كونُهُ ينفكُّ عن الثاني فلأنَّ الحجرَ عليه لجنونِهِ فإذا زالَ وجب زوالُ الحجرِ لزوالَ علَّتَهُ. (ودُفِعَ إليهِ) أي إلى من قلنا ينفكّ الحجر عنه (مالُهُ) لقوله تعالى. {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ينفكُّ الحجرُ عنهما (قبل ذلك) أي البلوغِ والعقلِ مع الرُّشْدِ (بحالٍ) ولو صارا شَيْخَيْنِ. [علامات البلوغ] (وبلوغُ الذَّكَر) يحصُل (بـ) واحدٍ من (ثلاثةِ أشياء.): أشار للأوّل بقوله: (إما بالإِمْنَاءِ) أي بإنزالِ المنيّ يَقَظَةً أو مناماً، باحتلامٍ أو جِماعٍ أو غير ذلك. وًأشار للثاني بقوله: (أو بتمامِ خمسَ عشْرَةَ سنةً) أي استكمالِها. وأشار للثالث بقوله: أو نباتِ شعرٍ خشِنٍ) وهو الذي استُحِقَّ أخذُه بالموسى (حول قُبُلِهِ) دون الزَّغَبِ الضعيف، لأنه ينبت للصغير. (وبلوغ الأنثى) يحصل (بذلك) الذي يحصل به البلوغ لِلذَّكَرِ، (و) تزيد عليه (بالحيضِ.)

[في الولاية]

وحملُها دليل إنزالِهَا. (والرُّشْدُ إصلاحُ المالِ وصونُهُ عما لا فائِدَةَ فيه.) ولا يعطى مالَهُ حتى يُختبر. ويحل الاختبار قبل بلوغٍ بلائقٍ به. ويؤنَسَ رُشْدُهُ. فصل [في الولاية] (وولاية المملوكِ لمالِكِهِ،) لأنه مالُه، (ولو) كان السيدُ (فاسقاً). (وولايةُ الصغيرِ والبالغِ بسفهٍ أو جنونٍ لأبيه) بشرطِ أن يكونَ بالغاً، لأنَّ الولدَ قَدْ يُلْحَقُ بمن لم يثبتْ بلوغُهُ. ومن لم يثبت بلوغُهُ لم ينفكَّ عنهُ الحجْرُ، فلا يكون وليًّا. (فإن لم يكن) له أب (فوصيّه) أي وصيُّ الأبِ إن عدمِ، لأنه نائبُ الأبِ، ولو بجُعْل وثَمَّ متبرِّعٌ. (ثم) بعد الأبِ ووصيِّه تكون الولايةُ على الصغيرِ وعلى من بلغَ مجنوناً أو عاقلاً ثم جُنَّ (الحاكمُ) لأنَّ الولايةَ انقَطَعَتْ من جهة الأبِ، فتكونُ للحاكِمِ، كولايَةِ النكاح، لأنّه وليُّ من لا وليَّ له (فإن عدم الحاكم فأمينٌ يقومُ مقامَهُ) أي مقامَ الحاكِمِ. اختاره الشيخُ تقيُّ الدين، وقال في حاكم عاجز: كالعَدَمِ. (وشُرِطَ في الوليّ الرشد) لأنّ غَيرَ الرشيدِ محجورٌ عليه؛ (والعدالةُ ولو ظاهراً) فلا يحتاجُ الحاكم إلى تعديلِ الأبِ أو وصيَّهِ في ثبوتِ ولايَتهِمَا. وليست الحريّةُ شرطاً فتثبت الولايَةُ للمكاتب على ولده الذي معه في الكتابة، لكن لا تثبتُ له الولاية على ابنه الحرّ.

(والجدُّ) لا ولايةَ له لأنه لا يدلي بنفسه، وإنما يدلي بالأب، فهو كالأخَ. (والأمّ وسائرُ العصباتِ لا ولايةَ لهم) لأن المال محل الخيانة، ومن عَدا المذكورِينَ أوّلاً قاصرٌ عنهم غير مأمونٍ على المال، (إلا بالوصية.) (ويحرم على وليِّ الصغيرِ والمجنونِ والسفيهِ أن يتصرّف في مالِهِمْ إلا بما فيه حظٌّ ومصلحةٌ) فإن تبرّعَ وليُّ الصغيرِ والمجنونِ بهبةٍ أو صدقةٍ، أو حابى بأن اشترى لِمَوْلِيِّهِ بزائدٍ، أو باعَ بنقصانٍ، أو زادَ في الإِنفاق عليهما على نفقتهِما بالمعروفِ، ضَمِنَ الزائِدَ، لأنه مفرّطٌ فيه. (وتصرُّف الثلاثةِ) السفيهِ والصغيرِ والمجنونِ (ببيعٍ أو هبةٍ أو شراءٍ أو عتقٍ أو وقفٍ أو إقرارٍ غيرُ صحيحٍ.) ويصحّ إقرارُ مأذونٍ له، ولو صغيراً، في قدر ما أُذِنَ فيه فقط. وتصح معامَلَةُ قِنٍّ لم يثبتْ كونُهُ مأذوناً له، (لكنِ السفيهُ إن أقرّ بحدٍّ) أي بما يوجبُ الحدَّ كالقذفِ والزِّنا، (أو) أقرّ (بنسبٍ أو طلاقٍ أو قِصاصٍ صحّ) إقراره بذلك (وأُخِذَ به في الحالِ) قال ابن المنذر: وهو إجماعُ من نحفَظُ عنه، لأنه غيرُ متَّهمٍ في نفسِهِ، الحجْرُ إنما يتعلق بمالِهِ (¬1)، ولا يجب فيما إذا أقرَّ بقصاصٍ مالٌ عفي عليه (¬2). (وإن أقر بمالٍ) كالقرضِ وجنايةِ الخطأِ والإِتلاف (أُخِذَ به،) أي بإقراره فلا يلزَمُ إلا (بعد فك الحجرِ عنه) لأنا لو قبَلناه في الحالِ لزالَ معنى الحجرِ. ¬

_ (¬1) في الأصول "يتعلّق في ماله" والصواب "بماله". (¬2) في (ب، ص): "مال عُفِيَ عنه" والصواب "عليه" كما في (ف). وإنما لم يجب المال لأن إقراره بالجناية قد يكون مواطأة مع المجني عليه أو وليه ليعفو عنه ويأخذ المال. ولذا فلو ثبتت الجناية بالبينة وجب المال بالعفو.

[في تصرفات الولي]

فصل [في تصرفات الولي] (وللوليّ) أي ولي الصغيرِ والسفيهِ والمجنونِ غيرَ حاكِمٍ وأمينِهِ (معَ الحاجَةِ أن يأكلَ من مالِ موليِّه) لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال في شرح المنتهى: وظاهره أنه لا يحلّ له أن يأكل شيئاً مع غناه، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}. وعنه: لا يجوز. وعلى المذهب إنّما يباحُ له أن يأكل (الأقلَّ من أُجْرَةِ مثلِهِ وكفايتِهِ) يعني أنه لو كانت أجرة مثله عشرةَ دراهمَ في كلِّ شهرٍ، ويكفيه ثمانية، أو كانت أجرةُ مثلِهِ ثمانية، ولا يكفيه إلا عشرة، ليس له أن يأكل في الصورتين إلا ثمانية. ولا يلزَمُهُ عِوَضُ ما أكله إذا أَيْسَرَ. (و) للولي الأكل من مالِ الصَّغيرِ والسَّفيهِ والمجنونِ (مع عَدَمِ الحاجةِ) مع فَرْضِ الحاكمِ (يأكلُ ما فَرَضَ له الحاكِمُ.) ويأكلُ ناظرُ وقفٍ بمعروفٍ، نصًّا، إذا لم يشتَرِطْ الواقفْ له شيئاً. وظاهره: ولو لم يكن محتاجاً. قاله في القواعد. وقال الشيخ: له أَخْذُ أُجْرَةِ عمله مع فقرِهِ. (وللزوجةِ وكلِّ متصرِّفٍ في بيتٍ) كأجيرٍ (أن يتصدَّق) منه (بلا إذنِ صاحِبِهِ بما لا يضرُّ، كرغيفٍ ونحوِهِ) كبيضةٍ، لأنه مما جَرَتِ العادة بالمسامحة فيه، (إلا أن يمنعه) أي التصدقِ الزوجُ (¬1) (أو يكونَ بخيلاً) فتشكّ في رضاه (فيحرُمُ) عليها الصدقةُ بشيء من مالِهِ، كصدقةِ الرّجُلِ بطعامِ المرْأةِ. ¬

_ (¬1) لو قال "صاحب البيت" بدل "الزوج" لكان أولى ليشمل كل الصور.

باب الوكالة

باب الوكَالَة بفتح الواو وكسرها اسمُ مصدرٍ بمعنى التوكيل. (وهي) لغةً التفويض، وشرعاً (استنابَةُ) إنسانٍ (جائِزِ التصرفِ مثلَهُ) أي: إنسان (¬1) جائز التصرّف (فيما) أي: قولٍ أو فعلٍ (تدخُلُه النيابة،) فالقولُ (كعقدٍ) كبيعٍ ونكاحٍ وشركةٍ ومضاربةٍ ومساقاةٍ ومزارَعةٍ؛ (وفسخٍ) كفسخ أحد الزوجين لعيبٍ، بصاحبه (وطلاقٍ) لأن التوكيلَ إذا جاز في عقد النكاح جازَ في حلِّهِ بطريقِ الأولى؛ (ورجعةٍ) لأن التوكيلَ حيثُ ملَكَ به الأقوى، وهو إنشاء النكاحِ، مَلَكَ به الأضْعَفَ وهو تجديده بالرجعة من باب أولى، (وكتابةٍ، وتدبيرٍ، وصُلْحٍ) لأنه عقدٌ على مالٍ، أشبهَ البيعَ، (وتفرِقَةِ صدقةٍ، و) تفرقة (نذرٍ، و) تفرقة (كفارةٍ، وفعل حجٍّ، و) فعل (عمرةٍ) وتدخلُ ركعتَا الطوافِ فيها تبعاً. و (لا) تصحُّ الوكالةُ (فيما لا تدخله النيابَةُ كصلاةٍ وصومٍ وحَلِفٍ وطهارةٍ من حَدَثٍ) أصغرَ أو أكبرَ وشهادةٍ واغتنامٍ وقَسْمٍ لزوجاتِ ولعَانٍ وإيلاءٍ وقَسَامَةٍ ودفعَ جزيةٍ. (وتصح الوكالة منجَّزَةً،) كأنْتَ وكيلي الآن، (ومعلَّقةً،) كإذا جاء ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. وكان يلزمه أن ينصب، لأن ما بعد (أي) التفسيربة بدل أو عطف بيان. كما في المغني لابن هشام (1/ 71)

المحرّم فقد وكلتك، (ومؤقتة،) كأنت وكيلي في شراءِ كذا وقتَ كذا. (وتنعقد) الوكالة (بكلِّ ما دلَّ عليها من قولِ) كبع عبدي هذا، أو كاتِبْهُ، أو أعتِقْهُ، أو دَبِّرهُ، أو: فَوَّضْتُ إليكَ أمره، أو أقمتك مقامي، أو جعلتُكَ نائباً عني في ذلك، لأنه لفظٌ دل على الإِذن، فصحّ، كلفظها الصريح، (وفعلٍ) قال في الفروع: ودلَّ كلام القاضي على انعقادِهَا بفعل دالٍّ، كبيعٍ (¬1). وهو ظاهرُ كلامِ الشيخ فيمن دَفَع ثوبَهُ إلى قصّارٍ أو خياط. وهو أظْهَرُ، كالقبول. ويصح قبولٌ بكل قولٍ أو فعلٍ دال عليهِ، ولو متراخياً. (وشُرِطَ) لصحة الوكالة (تعيينُ الوكيلِ) قال القاضي وأصحابُهُ: بأن يقولَ: وكّلتُ فلاناً في كذا (لا عِلْمُه بها) أي لا يشتَرَطُ لصحةِ التصرفِ بالوكالةِ علمُ الوكيلِ بالوكالةِ، فلو باعَ إنسانٌ عبدَ زيدٍ على أنه فضوليٌّ، فبانَ أن سيده وكّله في بيعِهِ قبلَ البيع صحّ، لأن العبْرَةَ بما في نفسِ الأَمْرِ، لا بما في ظنّ المكلف. وله التصرُّفُ بِخَبَرِ من ظَنَّ صدقَهُ. ويضمن ما ترتَّبَ على تصرفه إن أنكر زيدٌ التوكيل. (وتصح) الوكالة في (بيع مالِهِ) أي مال الموكّل (كلِّهِ) لأنه يتصرَّف في مالِهِ فلا غَرَرَ، (أو) يوكِّلَه أن يبيعَ (ما شاءَ) الوكيلُ (منه) أي من مال الموكِّل، لأن التوكيلَ إذا جاز في الجميع، ففي بعضه أولى. (و) تصح الوكالة (بالمطالبَةِ بحقوقِهِ كلِّها، وبالإِبراءِ منها كلِّها، أو ما شاءَ منها) قال في الفروع: وظاهرُ كلامهم في "بعْ من مالي ما شئت" له بيع كلِّ مالِهِ. (ولا تصحُّ) الوكالةُ (إن قال) الموكل لوكيله: (وكلتك في كلِّ قليلٍ ¬

_ (¬1) في الأصول "بفعل دالٍّ على البيع" والتصويب من شرح المنتهى.

وكثير) قاله الأزْجِي، لأنه يدخل فيه كلُّ شيءٍ من هِبَةِ مالِهِ، وطلاقِ نسائِهِ، وإعتاقِ رقيقِهِ، فيعظم الغَرَرُ والضرر. (وتسمَّى) هذه [الوكالةُ] الوكالَةَ (المفوَّضَةَ). (وللوكيل أن يوكِّل فيما يعجز عنه) مثلُهُ، لكثرته، وفيما لا يتولّى مثلُهُ بنفسِهِ، كالأعمال الدنيّة في حقّ أشرافِ الناسِ المترفِّعين عن فعلِها في العادَةِ، لأن الإِذن إنما ينصرف إلى ما جرت به العادة. و (لا) يملكُ الوكيلُ (أن يعقدَ مع فقيرٍ أو قاطِعِ طريق) إلاَّ أن يأمره الموكِّل، لأن في ذلك -مع عدم إذن الموكل- تفريطاً، (أو يبيعَ مؤجّلاً، أو بمنفعةٍ، أو عَرْضٍ.) أما كونه لا يصحّ إذا باعَ مؤجَّلاً فلأن الموكِّل إذا باع بنفسِهِ، وأطلق انصرف إلى الحلول، فكذا إذا أطلق الوكالة. وأما كونُه لا يصحُّ بمنفعةٍ أو عرْض فلأن الإِطلاق محمولٌ على العرف، والعرْفُ يقتضي أن الثمن إنما يكونُ من النقدين. قال المجد في شرحه: فإن وكله أن يشتري له طعاماً لم يجز له غيرُ شراءِ الحِنْطَةِ، حملاً على العُرْفِ (¬1)، ذكره القاضي وابن عقيل (أو بغيرِ نقدِ البلد)، أو بنقدٍ غيرِ غالبه إن جمع نقوداً، أو بغير الأصلحِ من نقودهِ إن تساوتْ رواجاً، (إلا بإذن موكّله.) وإن وكّل عبدَ غيرِهِ، ولو في شراءِ نفسِهِ من سيِّدِهِ، صحّ ذلك إن أذن فيه سيده، وإلا فلا، فيما لا يملكه العبد. ¬

_ (¬1) أي عرف زمانهم ومكانهم. ولو كله في شراء طعامٍ عندنا بالكويت في هذا الزمان انصرف إلى الجاهز. فلو اشترى حنطة لم يجز.

[فيما تبطل به الوكالة]

فصل [فيما تبطل به الوكالة] (والوكالةُ والشرِكةُ والمساقاةُ والمزارَعَةُ والوديعةُ والجُعَالَة عقودٌ جائزة من الطرفين) لأن غاية ما في كل منها إذْنٌ وبذْلُ نفعٍ، وكلاهما جائز، (لكلٍّ من المتعاقدَينِ فسخُها) أي هذه العقود، كفسخ الإِذن في أكلِ طعامِهِ. (وتبطُلُ كلها) أي العقود المذكورة (بموتِ أحدِهِما أو جنونِهِ) جنوناً مُطْبِقاً، (وبالحجرِ) عليه (لسَفَهٍ) لأن كلاًّ من هذه العقود المذكورة يعتمد الحياةَ، والعقلَ، وعدم الحجر. فإن انتفى ذلك انتفت صحّتُها لانتفاء ما تعتمد عليه، وهو أهليَّةُ التصرف. والمراد ببطلانها بالحجر للسفه (حيثُ اعتُبر) لها (الرُّشْدُ) بأن كان في شيء لا يتصرَّفُ في مثله السفيهُ. أما إن كانت في شيء يسيرٍ يتصرَّف في مثله السفيه بدون إذنِ وليِّهِ، أو كانت الوكالة في طلاقٍ، أو رجعةٍ، أو في تملًّكِ مُبَاحٍ كاستقاء (¬1) ماءٍ واحتطابِ، فإنها تصح (¬2). (وتبطل الوكالة بَطرُوِّ فسقٍ لموكّلٍ ووكيلٍ فيما ينافيه) الفسق فقط (كإيجاب النكاح) لخروجِهِ عن أهليةِ التصرّف، بخلافِ الوكيلِ في قبولِهِ، أو في بيعٍ أو شراءٍ فلا ينعزل بفسقِ موكِّله. (و) تبطل الوكالة أيضاً (بِفَلَسِ موكلٍ فيما حُجِرَ عليه فيه) بأن كانت الوكالة في أعيان مالِهِ، لانقِطاعِ تصرّفه فيه. (و) تبطل الوكالة أيضاً (بِرَدّتِهْ) أي الموكل، لامتناعه من التصرُّفِ في مالِهِ ما دام مرتدًّا. ولا تبطل بردّةِ وكيلٍ إلا فيما ينافيها. ¬

_ (¬1) في (ب، ص) "كاستسقاء" والتصويب من (ف). (¬2) أي تبقى على صحتها. وكان الصواب أن يقول: فإنها لا تبطل (عبد الغني).

[في ضمان الوكيل إذا خالف]

(و) تبطل الوكالة أيضاً (بتدبيرِهِ) أي تدبيرِ السيدِ (أو كتابتِهِ قِنًّا وُكِّل في عتقِهِ) لدلالَةِ ذلك على الرجوعِ عن الوكالة في العتق. (و) تبطل الوكالة أيضاً (بوطئِهِ) أي الموكِّل لا قبلتِهِ (زوجةً وكَّل في طلاقِهَا) لدلالَةِ وطئِهِ على رغبتِهِ فيها، واختيارِهِ إمساكها. وكذلك لو وَطِئَها بعد طلاقِهَا رجعياً كان ارتجاعاً لها. (و) تبطل الوكالة أيضاً (بما يدلّ على الرجوعِ من أحدِهِما) أي الوكيل والموكِّل. ومن صور دلالة رجوع الوكيل ما إذا قبل الوكالة من مالِكِ عبدٍ في عتقِهِ، وكان قد وكّله إنسان في شرائه؛ فإن قبولَ الوكالة في عتقِهِ يدلَّ على رجوعه عن الوكالة الأولى في شرائه. (وينعزل الوكيل بموتِ موكِّلِهِ وبعزلِهِ له) أي للوكيل (ولو لم يعلمْ) كشريكٍ، ومضارِبٍ، لا مودِعٍ (¬1). (ويكون ما بيده بعد العزل أمانَةً) لا يضمنه إذا تلف بغيرِ تَعَدٍّ منه ولا تفريطٍ، حيث لم يتصرف. وأما ما تلف بتصرّفه فيضمنه. وكذلك عقودُ الأمانات كلُّها كالوديعةِ والرهنِ إذا انتهت أو انفسخت. فصل [في ضمان الوكيل إذا خالف] (وإن باع الوكيلُ بأنقصَ من ثمن المثلِ، أو) بأنقص (مِمّا قدره له موكله، أو اشترى بأزيد) من ثمنِ المثلِ (أو بأكثر مما قدره له، صحّ) البيعُ والشراءُ (وضمن في البيع كلَّ النقص، وفي الشراء كل الزائد) عنٍ مقدَّرِهِ وما لا يُتَغَابَنُ بمثلِهِ عادةً، كأن يعطى لوكيله ثوباً ثمن مثله مائةُ ¬

_ (¬1) فإن المودَعَ لا ينعزل قبل علمه بموت المودِع أو بعزله له.

درهمٍ ليبيعه له، ولم يقدِّر له الثمن، فيبيعه بثمانين، والحال أن مثل الثوب قد يبيعُهُ غيره بخمسةٍ وتسعين درهماً. فهذه الخمسةُ التي نقصت عن ثمن مثلِهِ مما يتغابَنُ الناس بمثله في العادة. فلو أن الوكيل باعَ بمثلِ هذا النقصِ لم يضمن شيئاً لأن التحرز عن مثل هذا عَسِرٌ. لكنه لو باع بنقص لا يُتَغَابَنُ بمثله بين التجارِ، وهو عشرون من مائةٍ، فيضمنُ جميع هذا النقص. (و) من قال لوكيله عن شيء (بعه لزيدٍ، فباعه لغيره) أي غير زيد (لم يصحّ) البيع، قال في المغني: بغير خلاف علمناه، سواءٌ قدَّر له الثمنَ، أو لم يقدِّر، لأنه قد يكون له غرضٌ في تمليكِهِ إياه (¬1) دون غيره. (ومن أُمِر) من قِبَلِ مالكٍ (بدفعِ شيءٍ) كثوبِ (إلى) قَصَّارٍ أو خيّاطٍ (معيّنٍ) بتعيين الآمر (ليصنعه) بأن يقصُرَهُ أو يخيطه (فَدَفَعَ) المأمورُ الثوبَ إلى من أُمِرَ بدفعه له (ونسيه) فضاع الثوب (لم يضمن) لأنه إنما فعل ما أمر به، ولم يتعدّ ولم يفرط. (وإن أطلق المالك) الإِذن، بأن دفعه إليه، وقال: ادفعه إلى من يقصُرُه أو يخيطُه، (فدفعه) الوكيل (إلى من) أي إلى إنسانٍ (لا يعرفه) أي لا يعرف عينَهُ، كما لو ناوله إياه من وراء سُتْرَةٍ، ولا يعرفُ اْسمَهُ، بأن لم يسأل عنه، ولا دكانَه بأن دفعه بمحلٍّ غير دكانِهِ ولم يسألْ عنه، فضاع الثوب (ضمنه) الوكيل لتفريطه. (والوكيل أمينٌ لا يضمنُ ما تَلِفَ بيده بلا تفريطٍ) لأنه نائبٌ للمالِكِ في اليَدِ والتصرّف، فكان الهلاكُ في يده كالهلاكِ في يد المالكِ، كالمودَعَ. ¬

_ (¬1) فإن دلت قرينة على أنه لا غرض له في ذلك يصحّ البيع (عبد الغني).

وكذا حُكْمِ كل من بيده شيء لغيرِهِ على سبيل الأمانة، كالوصيّ ونحوه. وكلامه شاملٌ للوكيل المتبرّعِ، والوكيل بِجُعْلٍ، لأنه (¬1) لا فرق بين تلف العينِ الموكل فيها، وبين تلف ثمنها، لأنه أمين. (ويصدَّق) الوكيل (بيمينه في التلف) أي تلف العين أو الثمن، (و) يقبل قوله بيمينه (أنه لم يفرِّط،) ولا يكلَّف على ذلك بينةً، لأنّ هذا مما يتعذّر إقامةُ البينة عليه، ولأنه لو كُلِّف ذلك لامتنع الناسُ من الدخولِ في الأماناتِ، مع الحاجة إلى ذلك. ومحلُّ هذا إن ادعى التلف بسبب خفيٍّ كالسرقة ونحوها. وإن ادعاه بسببٍ ظاهرٍ، كحريقٍ ونهبٍ ونحوهما، لا يقبل إلا ببيّنَةٍ تشهد بالحادث. ويقبل قوله في التلف به بيمينه. (و) يقبل قول وكيلٍ (أنه) أي موكله (أذنَ له في البيع مؤجَّلاً، أو بغير نقد البلد) أو بِعرْضٍ (¬2)، كالخياط إذا قال: أذنتَ لي في تفصيلِهِ قَبَاءً، وقال المالك: لا بل قميصاً. ولو باع الوكيل السلعة، وقال: بذلك أمرتني، فقال المالك: بل أمرتُكَ برهنها، صُدِّق رَبُّها، فاتَتْ أو لم تَفُتْ، لأن الاختلاف هنا في جنس التصرُّف. (وإن ادعى) الوكيل (الردّ إلى ورثة الموكل مطلقاً) لم يظهر لي معنى قوله مطلقاً (¬3) (أو) ادعى الرد (له) أي الموكل (وكان بجعلٍ لم يُقْبَلْ) منه دعوى الرد. ¬

_ (¬1) عبارة "لأنه" في الأصول. وهي مشكلة، والمقام يقتضي "وأنه لا فرق" (عبد الغنى). (¬2) في (ب، ص): "أو بعوض"، وفي (ف): "أي بعوض" , وكلاهما مشكل، والتصويب من شرح المنتهى 2/ 316 (¬3) على هامش بعض النسخ معزوًّا للشارح ما نصّه: ثم ظهِر لي المراد: سواء كان بجعلٍ أوْ لا. اهـ. وهو ظاهر من قوله أوله: كان بجعل. فلَا غبار عليه (عبد الغنى).

قال في شرح المنتهى: وجُمْلَةُ الأمناءِ على ضربين: أحدهما: من قَبَضَ المالَ لنفع مالكِهِ لا غير، كالمودَع، والوكيل المتبرِّع، فيُقْبَل قوله في الردّ، لأنه لو كُلِّف البينةَ عليهِ لامتنَعَ الناس من دخولهم في الأماناتِ، مع الحاجَةِ، فيلحقهم الضررُ بذلك. الضربُ الثاني: من ينتفِع بقبضِ الأمانة، كالوكيل بِجُعْلٍ، والمضارِبِ، والمرتَهِنِ ونحوهم، فلا يقبل قولهم في الردّ على الأصحّ. نص عليه الإِمام في المضارب، في رواية ابن منصور. (ومن عليه حقٌّ) لآدميٍّ (فادّعى إنسانٌ أنه وكيلٌ ربِّهِ في قبضِهِ،) أو وصيُّهُ، أو أنه أحيل به، (فصدّقه،) أي صدق مدَّعِيَ الوكالةِ أو الوصيّة أو الحوالة، (لم يلزمه) أي من عليه الحقّ (دفعُهُ إليه) أي إلى المدعي لأنه لا يبرأُ بهذا الدفع، لجواز أن ينكرَ ربُّ الحق الوكالَة أو الحوالةَ، أو يظهر حَيًّا في مسألةِ دعوى الوصية، فيرجع على الدافع. (فإن ادّعى) المطالِبُ (موتَهُ) أي موتَ ربِّ الحق، (وأنه وارثه،) ولا وارثَ له غيره، (لزمه) أي لزمَ من عليهِ الحقُّ (دفعهُ) لمدعي الإِرث لربِّ الحق، مع تصديقٍ منه على ذلك. (وإن كذّبه) أي كذب من بيده العينُ المدّعِيَ (حلفَ أنه لا يعلم أنه وارثه، ولم يدفعه) لأن من لزمه الدفعُ مع الإِقرار، لزمته اليمينُ مع الإِنكار. وصفتها أن يحلفَ أنه لا يعلم صحة ما قاله، لأنّ اليمينَ هنا على نفيِ فعل الغير، فكانت على نفي العلم (¬1). ¬

_ (¬1) كذا الصواب. وفي (ف): فكانت مقدَّمة على نفي العلم.

كتاب الشركة

كتَاب الشَّركَة وفيها لغات: فتح الشين مع كسر الراء، وسكونُها، وكسرُ الشين مع سكونِ الراء (¬1). وهي جائزة بالإِجماع. الشركة قسمان: القسم الأول: اجتماعٌ في استحقاقٍ، وهو أنواع: الأول: أن يكون في المنافِعِ والرقابِ، كما لو ورث اثنانِ أو جماعة عبداً أو داراً. النوع الثاني: أن تكون في الرقاب فقط، كما لو ورث جماعةٌ عبداً أو نحوَه موصًّى بنفعه. النوع الثالث: أن تكون في المنافع دون الأعيان، كما لو وصّى لاثنينِ أو أكثر بمنفعةِ عبدٍ أو نحوه. النوع الرابع: أن تكون في حقوق الرقاب، كما لو قذف جماعةً يُتَصَوَّرُ زناهم عادةً بكلمةٍ واحدةٍ، فإن طَلَبُوا كلُّهُمْ وجب لهم حدٌّ واحد. ¬

_ (¬1) الأصل "شرِكة" أما "شرْكهَ وشِرْكة" فنوعان من التخفيف والإِتباع يجريان في ما كان على وزن فَعِلٍ: كفَخِذٍ وفَخْذٍ وفِخْذ.

[القسم] الثاني: الشركة في التصرف (وهي خمسةُ أنواعٍ، كلها جائزةٌ ممن يجوز تصرفه). (أحدها: شركة العنان). ولا خلاف في جوازِها، وإنما الخلاف في بعضِ شروطِها. وسميت بذلك، قيل: لأنهما يستويان في المال والتصرُّف، كالفارسين إذا استويا في السير، فإن عِنانَ فرسيهما يكونان سواء، (وهي أن يشترك اثنان فأكثرُ في مالٍ يتَّجِران فيه، ويكون الربحُ بينهما) أو بينهم (بحسب ما يتفقانِ) أو يتفقون عليه. (وشروطها) أي شركة العِنان (أربعة): (الأول: أن يكون رأسُ المال من النقدين المضروبين، الذهبِ والفضةِ، ولو لم يتفق الجنس) فيجوز أن يدفع واحدٌ ذهباً والآخرُ فضةً. (الثاني: أن يكون كلٌّ من المالين) المعقودِ عليهما (معلوماً) فلا تصحّ على مجهولَيْنِ، للغرَرِ. فإن اشتركا في مالٍ مختلِطٍ بينهما شائعاً صح عقد الشركة، إن عَلِمَا قدر ما لكلٍّ منهما فيه. (الثالث: حُضُور المالين) فلا تصحُّ على غائبٍ، ولا على مالٍ في الذمّة. (ولا يشترط) لصحة الشركة (خَلْطُهما،) ولا أن تكونَ أيدي الشريكين عليهما، (ولا) يشترط (الإِذن في التصرف). (الرابع: أن يشترطا) أي الشريكان (لكل واحدٍ منهما جزءاً) مشاعاً (معلوماً من الربح) ولو متفاضلاً لتفاوتهم في قوّة الحِذْقِ، (سواءٌ شَرَطا لكل واحد منهما) ربحاً (على قَدْرِ ماله، أو أقلَّ، أو أكثر لأن الربح مستَحَقٌّ بالعمل، وقد يتفاضلان فيه.

(فمتى فُقِدَ شرط) من هذه الشروط الأربعة المذكورة (فهي فاسدة). (وحيث فَسَدتِ) الشركة (فالربحُ على قدر المالين) في شركة عِنَانٍ وَوُجوهٍ، لأن الربحِ استُحِقَّ بالمالين، فقُسِمَ على قدرهما. وأجرةُ ما يتقبّلان في شركة أبدانٍ بالسوية، (لا على ما شَرَطَا) لفساد الشركة (لكن يرجعُ كل) واحد (منها على صاحِبِه بأجرة نصفِ عمله) لأنَّه عَمِلَ في نصيب شريكِهِ بعقد يبتغي به الفضْلَ في ثاني الحالِ، فوجب أن (¬1) يقابل العمل فيه عوضاً، كالمضاربة. وكيفيّة ذلك أن يقالَ بالنظر لأحدهما: كم يساوي عملُه؟ فيقال: عشرة، مثلاً. فيرجعُ بخمسة. ويقال عن الآخر: كم يساوي عملُه؟ فيقال: عشرون فيرجع بعشرة. ويقاصُّ منها بالخمسة التي استحقها على شريكه. يبقى عليه خمسة. (وكل عقدٍ لا ضمانَ في صحيحِه لا ضمانَ في فاسِدِه، إلا بالتعدي أو التفريط، كالشركةِ والمضاربةِ والوكالةِ والوديعةِ والرهنِ والهبةِ) والصدقة. وكل عقدٍ لازمٍ يجب الضمانُ في صحيحِهِ يجب الضمانُ في فاسِده, كبيعٍ وإجارةٍ ونكاحٍ وقرضٍ. ومعنى ذلك أن العقد الصحيح إذا لم يكن موجباً للضمانِ فالفاسد من جنسِهِ كذلك. وإن كان موجِباً له مع الصحّة فكذلك مع الفساد. (ولكل من الشريكين) أو الشركاءِ (أن يبيعَ) مال الشركة، (ويشتريَ، ويأخذَ) ثمناً ومُثْمَناً، (ويعطي) ثمناً ومثمناً، (ويطالبَ) بالدين، (ويخاصمَ) فيه، لأن من مَلَكَ قبْضَ شيء مَلَكَ المطالبةَ به ¬

_ (¬1) (ب، ص) "فوجب أن العوض يقابل العمل فيه عوضاً" والتصحيح من (ف).

[في شركة المضاربة]

والمخاصمةَ فيه، بدليلِ ما لو وَكَّله في قبضِ دينِهِ، ويحيلَ ويحتالَ، ويردَّ بعيبٍ للحظّ، ولو رضي شريكُهُ به، ويُقِرَّ به، ويقابلَ، وُيؤْجِرَ ويستأجر، (ويفَعلَ كل ما فيه حظٌّ للشركة) كحبسِ غريمٍ ولو أبى الآخر، ويودِعَ لحاجةٍ، ويسافرَ مع أمنٍ. فصل [في شركة المضاربة] (الثاني) من الأنواع الخمسة: (المضاربةُ) وهذه تسميةُ أهلِ العِراقِ، مأخوذةٌ من الضّرب في الأرض، وهو السفر فيها للتجارة. وأهل الحجاز يسمونها قِرَاضاً، مأخوذة من قَرَضَ الفأرُ الثوبَ، إذا قطعه، فكأنّ رب المال قَطَع للعامل من مالِهِ قطعة وسلّمها إليه. (وهي) شرعاً (أن يدفع) إنسانٌ (من ماله إلى إنسانٍ آخر) شيئاً، أو يكونَ له تحت يده على سبيلِ الوديعةِ أو الغصبِ مالٌ، ويأذنَ له (ليتّجِرَ فيه، ويكونَ الربحُ بينهما بحسَبِ ما يتفقان) عليه. (وشروطها) أي المضاربة (ثلاثة): (أحدها: أن يكون رأسُ المالِ من النقدين) الذَّهب والفضة (المضروبين)، فلا تصحُّ شركةٌ ولا مضاربةٌ بِنُقْرَةٍ، وهي الفضّة التي لم تُضْرَبْ، ولا بمغشوشةٍ غشًّا كثيراً، ولا بفلوسٍ ولو نافقةً. (الثاني: أن يكون) رأس المال (معيناً،) فلا يصحّ أن يقول: ضارِبْ بما في أَحدِ هذين الكيسين، سواءٌ تساوى ما فيهما أو اختلف، وسواءٌ عَلِما ما فيهما أو جهلاه، لأنها عقدٌ تمنع صحَّتَهُ الجهالةُ، فلم تَجُزْ على غيرِ معيّن، كالبيع، (معلوماً) قدرُه، فلا يصحُّ أن يقول: ضاربْ بهذِهِ الصُّبْرَهِ من الدنانير والدراهم، لأنه لا بدّ من الرجوعِ إلى

[تصرفات المضارب]

رأس المال عند المفاضَلَة، ليعْلَمَ الربح، ولا يمكن ذلك مع الجهل. (ولا يُعتَبر) لصحّة المضاربة (قبضُه) أي العامل لرأسِ المال (بالمجلِسِ، ولا القَبُول) منه، بأن يقول: قبلتُ. فلو أحضر ربُّ المالِ المالَ، وقال له: اتَّجِرْ به، ولك ثلث ربحِهِ، مثلاً، واشترى العاملُ به عَرْضاً في المجلس قبل قبضِهِ وقولِهِ قبلتُ، صحَّت المضاربةُ والشراءُ. ولهذا قال في المنتهى: فتكفي مباشرتهُ. (الثالث: أن يُشْتَرَط للعامل جزء معلومٌ من الربح) أي ربحِ المالِ، كثلثِهِ أو ربعِهِ أو خمسهِ أو سدسِهِ أو سبعِهِ. (فإن فُقِدَ شرطٌ) من هذه الشروط الثلاثةِ (فهي فاسدة). (ويكون للعاملِ) في المضاربةِ الفاسدةِ (أجرةُ مثلِهِ) نصّ عليه، (وما حَصَل من خسارةٍ) في المال (أو ربحٍ، فللمالِكِ) لأنَّهُ نماء مِلْكِهِ. تنبيه: قال الفتوحي في شرح المنتهى: فأما إن رضي المضاربُ بأن يعملَ بغيرِ عوضٍ، مثلَ أن يقول: قارضْتُك والربحُ كله لي، ودَخَلَ على ذلك، فلا شيءَ له، لأنه متبرِّعٌ بعمله، فأشبه ما لو أعانه، أو توكَّل له بغير جُعْلٍ. انتهى. [تصرفات المضارب] (وليس للعاملِ شراءُ من) أي شراءُ رقيق (يعتق على ربّ المال) بغير إذنٍ في ذلك، لأن عليهِ فيه ضرراً، ولأنّ المقصودَ من المضاربة الربحُ حقيقةً أو مظنَّة، وهما منتفيان هنا. فإن اشتراه بإذن رب المال صحّ وعتق، وتنفسخُ المضاربة في قدْرِ ثمنِه، لأنه قد تَلِفَ، ويكون محسوباً على ربّ المال، وإن كان ثمنه كلَّ المالِ انفسخت كلُّها. وإن كان في المالِ ربح رجَع العامل بحصته منه، (فإن فَعَلَ) بأن اشتراه بغير إذن ربّ المالِ صَحَّ الشراء، (وعتَقَ) على ربِّ

[نفقة المضارب]

المال، لأن القولَ بصحةِ الشراء يوجب عتقه، وإذا صحّ الشراء (و) عتَقَ (ضَمِنَ ثمنه) الذي اشتراه به، لأن التفريطَ منه حَصَل بالشِّراء، (ولو لم يعلم) أنه يعتق على رب المال، لأن مالَ المضاربةِ تَلِفَ بسببه، ولا فرق في الإِتلافِ الموجِبِ للضمانِ بين العلم والجهل. [نفقة المضارب] (ولا نفقةَ للعامل) في مضاربةٍ، لأنه دَخَل على أن له في الربح جزءاً، فلا يستحقُّ غيره، إذ لو استحقها لأفضى إلى اختصاصِهِ به حيث لم يربح سوى النفقة، (إلا بشرطٍ) فقط، نصَّ عليه، كوكيلٍ. (فإن شُرِطَتْ) محدودةً فهي أولى. قال الإمام أحمد: أحبُّ إليّ أن يَشْرُطَ نفقة محدودةً، لأن في تقديرِهَا قطعاً للمنازعة. وإن شُرِطَتْ (مطلقَةً، واختلفا،) بأن تشاحَّا فيها (مثله نفقة مثلِهِ عرفاً من طعامٍ وكسوةٍ،) لأنّ إطلاق النفقةِ يقتضي جميعَ ما هو من ضروراته المعتادة، فكان له النفقةُ والكسوةُ، كالزوجةِ وسائرِ من تجب نفقتُهُ على غيره. (ويملك العامل حصَّتَهُ) المشروطةَ له (من الربحِ بـ) مجرّد (ظهورِهِ قبل القسمة) قال أبو الخطاب: روايةً واحدة (كالمالِكِ) أي كربّ المال، وكما يملك المُسَاقِي حصَّتَهُ بظهورِهَا، لأنّ الشرط صحيح فيثبُتُ مقتضاه، وهو أن يكونَ له جزءٌ من الربحِ، فإذا وجد يجب أن يملكه بحكم الشرط، قياساً على كلِّ شرط صحيحٍ في عقد. و (لا) يملك (الأخْذَ منه إلا بإذنٍ) من ربِّ المال، لأن نصيبه مشاع. وليس له أن يقاسِمَ نفسه. وتحرم قسمتُهُ والعِقدُ باقٍ إلا باتفاقِهما على ذلك. (وحيث فُسِخَتِ) المضاربة (والمال عَرْضٌ، فرضي ربُّه بأَخذِهِ

[اختلاف المضارب ورب المال]

قَوَّمَهُ) أي مالَ المضاربة، (ودفع للعامل حصَّتَهُ) من الربح الذي ظهر بتقويمِ المالِ، (وإن لم يرضَ) ربُّ المال بأخذ العَرْضِ (فعلى العامل بيعه وقبضُ ثمنِه) لأن عليه ردَّ المال ناضًّا، كما أخذَهُ منه ذهباً أو فضّة. [اختلاف المضارب ورب المال] (والعامل) في المضاربة (أمين) في مالِهَا لأنه يتصرّف في مال لا يختصُّ بنفعِهِ -متعلّق بتصرّف- (¬1) بإذن مالِكِهِ، فكان أميناً، كالوكيل. وفارق المستعيرَ، فإنه يختصّ بنفع العين المعارة (يُصَدَّقُ بيمينه في قدر رأسِ المال،) سواء كان ربحٌ أم لا، لأن رب المال يدّعي عليه قبض شيءٍ وهو ينكره (¬2). والقولُ قولُ المنكِر. (و) يصدّق العاملُ بيمينه أيضاً (في) قدر (الربح) نقله ابن منصور (وعدمه، وفي الهلاكِ والخسرانِ) لأن تأمينه يقتضي ذلك. ومحلّ ذلك إن لم تكن لربّ المال بينةٌ تشهدُ بخلاف ما ذكره العامل (حتى) و (لو أقر) عاملٌ (بالربح) بأن قال: رِبْحُ المالِ ألفٌ، ثم ادعى تلفاً أو خسارةً قُبِلَ قَوْلُه في ذلك. لا غلطاً أو كذباً أو نسياناً أو اقتراضاً تمَّم به رأسَ المالِ، بعد إقراره برأسِ المال لربِّه. (ويقبل قول المالِك) بعد ربحٍ حصل في المال (في قدرِ ما شَرَط للعاملِ) فلو قال: شَرَطْتَ لي نصفَ الربح، وقال المالك: بل ثلثَهُ، فالقول قولُ المالك. نصّ عليه. ¬

_ (¬1) هذه العبارة المعترضة ساقطة من (ف). (¬2) في (ب، ص) هنا زيادة "بيمينه" فحذفناها تبعاً لـ (ف).

[في شركة الوجوه]

فصل [في شركة الوجوه] (الثالث) من الأنواع الخمسة (شركة الوجوهِ، وهي أن يشترك اثنان لا مالَ لهما في ربحِ ما يشتريانِه من الناس في ذِمَمِهِما) بجاهَيْهما. ولا يُشترط لصحتها ذكرُ صِنْفِ ما يشتريانِهِ، ولا قدرِه، ولا مدةِ الشركة، فلو قال أحدهما للآخر: ما اشتريتَ من شيءٍ فبيننا، وقال الآخر كذلك، صح العقد. (ويكون المِلْكُ) لما يشتريانِهِ بجاهيهمَا كما شَرَطا، (و) يكونُ (الربحُ بينهما كما شَرَطَا) من تساوٍ وتفاضُلٍ، لأن أحدهما قد يكون أوثَقَ عندِ التّجارِ، وأبْصَرَ بالتجارة من الآخر، فيجوزُ له أن يشترط زيادةً في الربح في مقابلةِ زيادةِ أوْثَقِيَّتِهِ وزيادة إبصاره (¬1) بالتجارة. (والخسارةُ) أي الخسرانُ الحاصلُ بتلفٍ، أو بيعٍ بنقصانٍ عما اشترياهُ، أو غيرِ ذلك (على قَدْرِ الملك) في المشتَرَى، فعلى من يملكُ فيه الثلثينِ ثلثا الوَضِيعَةِ، وعلى من يملكُ فيه الثلثَ ثلثُ الوضيعة، ونحو ذلك، سواءٌ كان الربحُ بينهما كذلك أو لم يكن، لأن الخسارةَ عبارة عن نقصانِ المالِ، وهو مختصٌّ بِملاَّكه، فيوزّع بينهما على قدرِ حِصَصِهِما. وتصرُّفُهما كتصرُّف شريكي عِنَان. [شركة الأبدان] (الرابع) من الأنواعِ الخمسةِ: (شركة الأبْدانِ. وهي) نوعان: أحدهما: (أن يشتركا فيما يتملَّكان بأبدانِهِما من المباحِ، ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والأولى "زيادة بَصَره" فإن "أبصر" المتقدم أفعل تفضيل من "بَصُر" فمصدره البَصَر لا الإبصار.

[شركة المفاوضة]

كالاحتشاشِ والاحتطابِ والاصطِيادِ) والتلصُّص على دار الحرب. وأشار للثاني بقوله: (أو يشتركا فيما يتقبّلان في ذِمَمِهِمَا من العَمَل،) كنسجٍ وقِصَارةٍ وخِياطةٍ. ويطالَبانِ بما يتقبّله أحدُهما، ويلزمهما عمله. ولكلِّ طلبُ أجرةٍ. وتلفُها بلا تفريطٍ بيد أحدهما مضمونة (¬1) عليهما. [شركة المفاوضة] (الخامس) من الأنواع الخمسة: شركة (المفاوضة، وهي أن يفوّض كل) من الشريكين (إلى صاحبه شراءً وبيعاً في الذمّة، ومضاربةً، وتوكيلاً، ومسافرةً بالمال، وارتهاناً،) وضمانَ ما يرى من الأعمال (¬2). وهي الجمعُ بين عنانٍ ووجوهٍ وأبدانٍ ومضاربةٍ. (ويصِح دفعُ دابّةٍ أو) دفعُ (عبدٍ) أو دفع آنيةٍ كقِرْبَةٍ وقِدْرٍ وآلةٍ كمحراثٍ ونوْرَجٍ (¬3) ومُنْخُلٍ وغِربال (لمن يعمل به) أي بالمدفوعِ (بجزءٍ من أجرته.) نقل أحمدُ بن سعيد عن أحمدَ فيمن دفع عبدَه إلى رجلٍ ليكتسب عليه، ويكونُ له ثلث ذلك أو ربعُه، فجائز. (ومثلُهُ) في الصحة (خياطةُ ثوبِ ونسجُ غزلٍ وحصادُ زرعٍ، ورضاعُ قِنٍّ) مدةً معلومهُ، (واستيفاءُ مالٍ،) وبناءُ دارٍ، ونَجْرُ بابٍ، وطحْنُ قمحٍ (بجزءٍ مشاع مِنْهُ). قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خَياطٍ ليفعله قمصاناً ليبيعَها، وله نصف ربحِها بحقّ عملِهِ، جاز. نص عليه. لكن لو دفع إليه الثوبَ ونحوه بالثلثِ أو الربعِ، وجعلَ له مَعَ ذلكَ درهماً أو ¬

_ (¬1) عبارة شرح المنتهى "وتلفها بلا تفريط بيد أحدهما عليهما" وهو الصواب، فليس ثمة ضمان. (¬2) الضمان هنا بمعنى تقبّل العمل. (¬3) النَّوْرَجُ آلة تستعمل في دِياسِ الحصيد، تجرّها الدواب، ثم يصفى الحبّ بعد ذلك.

درهمينِ، لم يصحّ. وما روى الدارَقُطْنِيّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه "نَهى عن عسْبِ الفَحْلِ وعن قفيزِ الطَّحَّانِ" (¬1) لا ينافي ذلك، لأنه إذا قدّر له قفيزاً لا يدري الباقي بعد القفيز كم هو فتكون المنفعةُ مجهولةً. (و) يصح (بيعُ) وإجارةُ (متاعٍ) وغزوٌ بدابةٍ مدةً (بجزءٍ) (¬2) معلوم (من ربحِهِ) أي المتاع، وبجزءٍ من سهم الدابَّة. (ويصح دفِع دابَّةٍ أو نَحْلٍ أو نحوهما) كعبدٍ وأَمَةٍ وطيرٍ (لمن يقومُ بهما مدةً معلومةً) كسنةٍ ونحوها (بجزءٍ منهما) أي من عينهما كربعٍ وسدسٍ، (والنَّماءُ) الحاصلُ منه (مِلْكٌ لهما) لأنه نَماءُ ملكهما، و (لا) يجوز (إن كان بجزءٍ من النَّماءِ كالدّرّ والنَّسْلِ والصوف والعَسْل) والمِسْك والزَّباد، لحصول نمائه بغير عملٍ منه، (وللعامل أجرهُ مثله) لأنه عمل بعوضٍ لم يسلَّم له. ¬

_ (¬1) حديث "نهى عن عسب الفحل، وعن قفيز الطحّان" أخرج هذا الحديث بكامله الدارقطني من حديث أبي سعيد، وأخرج أحمد والبخاري وأصحاب السنن أوله، من حديث ابن عمر (الفتح الكبير). (¬2) أي أن يكون الجزء المذكور أجرة القائم بالبيع والتأجير، لا ثمن العين أو أجرتها.

باب المساقاة [والمزارعة ونحوهما]

باب المسَاقاة [وَالمزارعَة وَنحوهَما] مفاعلة من "السقي"، لكونه كان أهمَّ أمرها بالحجاز. (وهي دفع شجرٍ) مغروسٍ (لمن يقومُ بمصالحِهِ) أي الشجر من زِبَارٍ ورفاس (¬1) وحَرْسٍ وتركيبٍ وغير ذلك (بجزءٍ من ثمره) النامي بعملِهِ المتكرِّرِ كلَّ عامٍ، كالنخلِ واَلكَرْمِ والرمانِ والجَوْزِ والزيتونِ، فلا يصحّ على القطن والمقَاثي (بشرط كون الشجرِ معلوماً) للمالِكِ والعامل برؤيةٍ أو صفةٍ لا يُخْتَلَفُ معها، كالبيع، فلا تصحُّ على: أحد هذين الحائطين؛ (و) بشرط (أن يكونَ له ثمرٌ يؤكل)، قال في الإِقناع: وقال الموفق: يصح على ما لَهُ ورقٌ يُقْصَدُ، كتوتٍ، أوْ لَهُ زَهَرٌ يُقْصَدُ، كَوَرْدٍ ونحوه. وعلى قياسه: شجرٌ له خَشَبٌ يُقْصَدُ، كحُورٍ وصَفْصَافٍ؛ انتهى. ومقتضى ما في المتن أنها لا تتقيد بالنخل والكرم. ومقتضاه أيضاً أنها لا تصحّ على ما لا ثَمَر له مأكول (¬2) ¬

_ (¬1) الزِّبار بكسر الزاي تخفيف شجر العنب من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة، بقطعها بمنجل ونحوه (شرح المنتهى) والرِّفَاسُ: رفع يد الدابة بربط رسغها إلى كتفها أو ربط رجل البعير باركاً إلى وركيه. فيحتمل أن هذا نقل إلى ترفيع أغصان الشجرة، أو أن في الكلمة تصحيفاً، وأنها "الرِّفاش" والرّفْش هو اِلمعْزقة التي تعزق بها الأرض، أو تجرف بها الحبوب. (¬2) كذا في الأصول. والأولى "مأكولاً" بالنّصب.

كالصفصاف والسرو (¬1)، ولو كان له زهرٌ مقصود كالياسمينِ ونحوِهِ، وهو المذهب. (وأن يُشترَط للعامل جزءٌ مشاعٌ معلومٌ من ثمره.) ويعتبر كون عاقِدَيْها جائزي التصرّف. والمناصبة والمغارسة: دفعُ الشجرِ بلا غرسٍ مع أرضِهِ لمن يغرِسُه ويعملُ عليه حتى يثمرَ بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ منه، أو من ثمره، أو منهما. (والمزارعة: دفع الأرضِ والحبِّ لمن يزرعه ويقوم بمصالِحِه) أو مزروعٍ ليعمل عليه، (بشرطِ كون البذرِ معلوماً جنسُه) كقمحٍ مثلاً (وقدرُه) أي البذر، لأنها معاقَدَةٌ على عملٍ فلم تجز على غيرِ مقدَّرٍ كالإِجارةِ، (ولو لم يؤكل) كَفُوَّةٍ (¬2) (وكونه) أي البذر (من ربّ الأرض، و) بشرط (أن يُشْرَطَ للعاملِ جزءٌ مشاعٌ معلومٌ منه) أي مما يحصل من الغلة. وإن تشارَطَا على أن يأخذَ رب الأرض مثلَ بذرِهِ مما يَخْرُج، ويقتسما الباقي، لم يصح. (ويصح كونُ الأرضِ والبذرِ والبقرِ من واحدٍ، والعملِ من آخرَ.) ولا يصح كون بذرٍ من عاملٍ، أو منهما؛ ولا من أحدِهِما والأرض لهما. وإن قال: اعملْ ولك الخمسان إن لزِمتْك خسارةٌ، وإلا فالربع، لم يصح. (فإن فُقِدَ شرطٌ) من شروط المزارعة والمساقاة (فالمساقاةُ والمزارعةُ فاسدةٌ). ¬

_ (¬1) في (ف): "الآس" بدل "السرو". (¬2) الفُوَّة بالفاء نبات زراعي صبغي من الفصيلة الفوّيّة "لسان العرب المحيط -معجم المصطلحات).

(والثمرةُ) فيما إذا فسدَتِ المساقاة، (والزرعُ) فيما إذا فسدت المزارعة، (لِرَبِّهِ) أي لربّ البذرِ والشجرِ، لأنّه عين ماله ينقَلِبُ من حالٍ إلى حالٍ، كالبيضَةِ إذا صارت فَرْخاً، (وللعامل أجرة مِثْلِهِ) لأنه إنما بَذَلَ منافِعَه بعوضٍ، فلما لم يُسَلَّمْ له رَجَعَ إلى بدله، وهو أجر المثل. هذا إن كان البذْرُ من رب الأرض. وإن كان ربُّ البذر هو العاملَ فعليهِ أُجْرَةُ مثلِ الأرض، لأنّ ربَّها إنما بَذَلَها بعوضٍ، فلمّا لم يسلَّمْ له رَجَعَ بعوَضِ منافعها الفائتة بزرعها، وهو أجرة المثل. تنبيه: يصح توقيت المساقاة. (ولا شيء له) أي العامل (إن فَسَخَ أو هَرَبَ قبل ظهور الثمرة) لأنه رضي بإسقاطِ حقِّهِ فصارَ كعاملِ المضاربةِ إذا فَسَخَ قبل ظهورِ الربحِ، وعامِلِ الجُعَالَةِ إذا فَسَخ قبل تمامِ عمله. وللعامل إن مات أو فَسَخَ ربُّ المساقاةِ قبل ظهورِ الثمرةِ وبعد الشُّروعِ في العَمَلِ أجْرُ عمله. وإن بانَ الشجر مستَحَقًا فله أجر مثله على الغاصب. (وإن فُسِخَ) عقدُ المساقاة بفسخِ أحدهما أو غيرِ ذلك (بعد ظهورِها) أي الثمرةِ، في الشجر المساقى عليه، (فالثمرةُ بينهما على ما شَرَطا. وعلى العاملِ تمامُ العملِ) كما يلزم المضاربَ بيعُ العُروضِ إذا فُسِخَت المضاربة بعد ظهورِ الربح (مما فيه نموٌّ) أي زيادةٌ (أو صلاحٌ لِلثمرةِ) من سقيٍ وإصلاحِ طريقٍ وتشميسٍ وإصلاح محل ٍّوتلقيحٍ وقطعِ حشيشٍ يضرّ. (والجذاذ) أي قطعُ الثمر من الشجر (عليهما) أي على ربِّ المال والعامِلِ (بقدر حصَّتيهِما) نصًّا، ويصحّ شرطه على عاملٍ. (ويتبعان) أي يتبعُ كل منهما (العُرْفَ في الكُلَفِ السلطانيّةِ) التي للسلطانِ عادةٌ بأخذها (ما لم يكن شرطٌ فَيُتَّبَع) الشرطُ، فما عُرِفَ أَخْذُهُ من ربّ المالِ كان

عليه، وما عُرِفَ أخْذُه من العامِلِ كان عليه. ذكَرَه الشيخ تقيّ الدين. قال: وما طُلِبَ من قريةٍ مِنْ وظائِفَ سلطانيّةٍ ونحوِها فعلى قدر الأموال. وإن وُضِعَتْ على الزرْعِ فعلى ربِّه، أو على العَقَارِ فعلى ربِّه، ما لم يشترطْهُ على مستأجِرٍ. وإن وُضِعَ مطلقاً فالعادةُ. ذكره في الفروع.

باب الإجارة

باب الإجَارَة مشتقة من الأجْرِ. وهو العِوَضُ. ومنه سمي الثَّوَابُ أجراً. وهي عقدٌ على منفعةٍ مباحةٍ معلومةٍ مدةً معلومةً، من عينٍ معيَّنَةٍ أو موصوفةٍ في الذّمةِ؛ أو عملٍ معلومٍ بعوضٍ معلومٍ، والانتفاع تابع. وهي، والمساقاة، والمزارعة، والعرايا، والشفعة، والكتابة، والسَّلَمُ، ونحوها، من الرُّخَص المستقرّ حكمها على خلاف القياس. وأركانُها ثلاثة: العاقدان، والعوضان، والصيغة. (وشروطها) أي شروط صحتها (ثلاثة): الأول: (معرفة المنفعة) لأنها هي المعقودُ عليها. فاشتُرِطَ العلم بها، كالبيع. (و) الثاني: (معرفة الأجرة) لأنه عوضٌ في عقدِ معاوَضَةٍ، فوجَبَ أن يكون معلوماً كالثمن. (و) الثالث: (كون النفع مباحاً،) فلا تصحّ الإِجارةُ على الزّنا والزَّمْر والغناء والنِّياحَةِ، (يُسْتَوفى دون الأجْزَاءِ) فلا تصحّ إجارةُ ما لا ينتفَعُ بِهِ مع بقاءِ عينِهِ، كالمطعومِ والمشروبِ ونحوِهِ، (فتصحّ إجارة كلِّ ما أمكن الانتفاعُ بهِ مع بقاءِ عينِه) كالدور والحوانيت (إذا قُدِّرت منفعَتُهُ) أي المؤجَر (بالعملِ كركوبِ الدابَّةِ لمحلٍّ معيَّنٍ، أو قُدِّرَتْ) المنفعة

(فصل) [في أنواع الإجارة]

(بالأمَدِ وإن طال) الأمد (حيث كان يغلِبُ على الظنّ بقاءُ العين) إلى انقضاءِ مدة الإِجارة. (فصل) [في أنواع الإِجارة] (والإِجارة) حيث أطلقت (ضربان): (الأول): أن تقع (على) منفعةِ (عينٍ،) ولها صورتان: إحداهما: أن تكونَ إلى أمدٍ معلومٍ، والأخرى أن تكون لعملٍ معلوم. وستأتيان. ثم العين تارةً تكون معينةً، كاستأجرت منكَ هذا العبد ليخدمني سنةً بكذا، أو ليخيط لي هذا الثوبَ بكذا، وتارةً تكون موصوفةً في الذمّة، كاستأجرت منكَ بعيراً صفته كذا وكذا، لأركبه سنةً بكذا وكذا، أو إلى بلدِ كذا بكذا. ولكل من القسمين شروط. وبدأ بالموصوفة فقال: (فإن كانت موصوفةً) أي غير مُشَخَّصَةٍ (اشتُرِط) فيها (استقصاء صفات السَّلَمِ) لأن الأغراض تختلف باختلاف الصِّفاتِ، فلو لم توصفْ بصفاتِ السلَم أدى ذلك إلى التنازع، فإذا استُقْصِيَتْ صفات السلَم كان ذلك أَقْطَعَ للنزاعِ، وأَبْعَدَ من الغَرَرِ (وكيفية السير من هْمِلاجٍ) بكسر الهاء. والَهمْلَجَة مِشْيَةٌ معروفة، (وغيرِهِ) أي وغيرِ هملاجٍ و (لا) يشترط ذكر (الذكورة والأنوثة والنوع) فلا يشترط إن كانَ فرساً أن يقول: عربياً أو بِرْذَوْناً، ولا أن يقول حِجْراً أو حصاناً. وإن كان جَمَلاً لم يُشترَطْ أن يقول: بُخْتِياً أو من العِرَاب، لأن التفاوتَ بين ذلك يسير. ويشترط مع ذلك ذِكْرُ توابع الراكِبِ العرفية، كزادٍ وأثاثٍ ونحوه.

وإن اكتراها كل يومٍ أو شهرٍ بدرهمٍ صح. (وإن كانت) العينُ المؤجرة (معيَّنةً اشتُرِطَ) لصحة إجارتها (معرفتُها والقدرةُ على تسليمِها) فلا يصحُّ استئجارُ ديكٍ ليوقظه. (و) شُرِطَ (كون المؤجِرِ يملك نَفْعَها) بأن كانت المنفعةُ في تصرّفه؛ (وصحةُ بيعِها) فالكُوْبَةُ (¬1) لا يصحُّ بيعُها فلا تصح إجارتها (سوى حُرٍّ، ووقْفٍ، وأُمِّ وَلَدٍ) فإنه لا يصحُّ أن يُبَاعُوا، ويصحّ أن يُؤْجَرُوْا؛ (واشتمالُها) أي العين المؤجرةِ (على النفعِ المقصودِ منها، فلا تصحُّ في) دابَّةٍ (زَمِنَةٍ لحملٍ، و) لا أرضٍ (سَبِخَةٍ لزَرْعٍ.) الضرب (الثاني): من صنفي الإِجارة: أن يَقَعَ العَقْدُ (على منفعةٍ في الذمّةِ، فيشترَطُ ضبطُها) أي المنفعة (بما) أي بوصفٍ (لا يختلِف) بهِ العملُ (كخياطةِ ثوبِ بصفةِ كذا) يَذْكُر جِنْسَهُ وقدْرَه وصفةَ الخياطة، (وبناء حائط يذكُرُ طوَلَه وعرضَه وسَمْكَهُ) بفتح السين وبسكون الميم، أي ثخانَتَهُ، وهو في الحائِطِ بمنزلة العُمْقِ في غير المنتصب، قاله في الحاشية. (و) يذْكر (آلَتُهُ) فيقول: من حجارةٍ أو آجرَ أو لَبِنٍ، وبالطينِ أو الجِصِّ ونحوِهِ مما يختلف به الغَرَض. فلو عمله ثم سقط فله الأُجْرَةُ، لأنه وفي بالعمل، إلا إن كانَ سقوطُه بتفريطِهِ بأنْ بناهُ محلولاً أو نحوَه فعليه إعادتُهُ وغُرْمُ ما تَلِفَ. فائدة: يصح الاستئجار لتطْيِينِ الأرض والسطحِ والحيطانِ وتجصيصِها. ولا يصحُّ على عملٍ معيَّنٍ، لأن الطينَ يختلفُ في الرّقّةِ والغِلَظِ، والأرض تختلف، منها العالي والنازل. وكذلك الحيطان والأسطحة. فلذلك لم تصح إلا على مدّة. وإن استأجره لضربِ لَبِنٍ احتاجَ إلى تعيين عددٍ، وذكرِ القالَب، ¬

_ (¬1) الكوبة بالضم النرد أو الشَّطرَنْجُ، والطَّبْلُ الصغير المخَصّر، والفِهْر، والبَرْبَط (قاموس).

[الإجارة على الطاعات]

وموضِعِ الضرب، لأنه يختلف باعتبار الماء والتراب. فإن كان هناك قالبٌ معروف لا يختلف جاز. وإن قدَّره بالطولِ والعَرْضِ والسَّمكِ جاز. ولا يكتفى بمشاهدة قالبِ الضرب إذا لم يكن معروفاً، لأنه قد يتلف. (و) يشترط أيضاً (أن لا يُجْمَعَ بين تقديرِ المدةِ والعمل كـ) قوله عن ثوب: استأجرتُك (لتخيطه في يوم) لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاءِ اليومِ، فإن استُعمِل في بقيتِهِ فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض زمنه، فيكون ذلك غَرَراً يمكن التحرّز منه، فلم يصحّ العقد معه. [الإِجارة على الطاعات] (و) يشترط أيضاً (كون العمل) المعقود عليه (لا يُشترطُ أن يكون فاعِلُهُ مسلماً، فلا تصح) الإِجارة (لأذانٍ وإقامةٍ وإمامةٍ وتعليمِ قرآنٍ وفقهٍ وحديثٍ ونيابةٍ في حجٍّ وقضاءٍ. ولا يقع إلاَّ قربةً لفاعِلِهِ. ويحرُمُ أخذ الأجرة عليه) لأنّ من شرط هذه الأفعالِ كونُها قربةً إلى الله تباركَ وتعالى، فلم يَجُزْ أخذُ الأجرةِ عليها، كما لو استأجَر إنساناً يصلي خلفَهُ الجمعةَ أو التراويح. (وتجوز الجعالة) على ذلك، كأخذِهِ عليه بلا شرطٍ. وكذا حكمُ رقيةٍ. وتصح الإِجارة على تعليمِ الخطِّ والحسابِ والشّعرِ المباحِ، فإن نسيه في المجلِسِ أعاد تعليمَهُ، وإلاَّ فَلَا.

فصل

فصل (وللمستأجر) عيناً (استيفاء النفع) الذي وقع عليه عقد الإِجارة (بنفسِهِ، وبمن يقوم مقامه) في الاستيفاء، ولو شَرَطَ المُتَواجِران أنّ المستأجِر يستوفي المنفعة بنفسِهِ، لبطلان الشرط، (لكنْ بشرطِ كونه) أي القائم مقامِ المستأجر (مثلَهُ) أي مثل المستأجِرِ (في الضَّرَرِ أو دونَهُ) فيه، فتعتبر مماثلةُ راكب في طولٍ وقِصرٍ وغيرِه، لا في معرفة ركوبٍ. فائدة: قال في الطُّرُقِ الحُكْميّة: وله ضَرْبُها إذا حَرَنَتْ في السير، بغير إذنٍ. وله إيداعها في الخان إذا قَدِمَ بَلداً وأراد المضيّ في حاجةٍ، بلا إذنٍ، وغَسْلُ الثوبِ المستأجر مدة معينة إذا اتَّسخ، بلا إذن. وله هدْمُ الحائِطِ ليخرج السيلُ إذا خاف هَدْمَ الدارِ. وكذلك لو وقع الحريقُ في الدارِ فبادرَ وهدَمَها على النارِ لئلا تسري، ولا يضمن. انتهى ملخَّصاً. [التزامات المؤجر] (وعلى المُؤْجِرِ كلُّ ما جرتْ به العادة) والعُرْف أنه عليه (من آلةِ المركوبِ) كزِمامِه ورَحْلِهِ وحِزَامِهِ، ليتمكن من التصرّف فيه به. قال في المغني: والبُرَةِ التي في أنف البعيرِ إن كانت العادة جاريةً بينهم بها، (و) على المؤْجِرِ (القَوْدُ) للمركوبِ (والسَّوْقُ والشَّيْلُ والحطّ) ولزومُ الدابّة لنزولٍ للحاجَةٍ وواجبٍ كصلاةٍ مفروضةٍ، (وترميمُ الدَّارِ) المؤْجَرَةِ (بإصلاح المنكسرْ وإقامة المائِلِ) من سقفٍ وبناءِ حائطٍ وبلاطٍ وعملِ بابٍ (وتطيينِ السَّطح، وتنظيفِهِ من الثلج ونحوِهِ) كإصلاح بِرْكَةٍ في الدار، أو أحواضٍ بالحمّام، وإصلاح مجاري المياه، وسلاليم للأسطحة. [التزامات المستأجر] (وعلى المستأجِرِ المَحْمِلُ) قال في القاموس: والمَحْمِلُ كمَجْلِسٍ

[فيما تنفسخ به الإجارة]

شُقَّتَانِ على البعير يُحمَل فيهما العَدِيلانِ، (والمِظَلَّةُ) قال في القاموسِ: والمظلة، بالكسر والفتح، الكبير من الأخبية (¬1)، والوطاء فوق الرَّحْلِ، وحَبْلُ القِرَانِ بين المحِمْلَيْنِ، والدَّليل (¬2). (و) على مكترٍ حماماً أو داراً (تفريغُ البالوعةِ والكنيفِ، وكنْسُ الدَّارِ من) القُمَامَةِ و (الزِّبْلِ ونحوِهِ) كالرمادِ (إن حصل بفعْلِهِ) أي بفعل المكتري، كما لو طَرَحَ فيها جيفاً أو تراباً أو غيرهما. فصل [فيما تنفسخ به الإِجارة] (والإِجارة عقدٌ لازم) من الطرفين، ليس لواحدٍ منهما فسخُها بلا موجِبٍ، لأنها عقد معاوضةٍ فكان لازماً، كالبيع. (لا تنفسخُ بموتِ المتعَاقدين،) أو أحدِهِمَا، لأنها عقدٌ لازم. (ولا) تنفسخ الإِجارة (بتلفِ المحمولِ) أي الراكب. قال الزركشيّ: هذا هو المنصوص. وعليه الأصحاب، إلاَّ أبا محمد، يعني الموفّق. قال في الإِنصاف: والصحيحُ من المذهب أن الإِجارة لا تنفسخُ بموتِ الراكبِ مطلقاً. قدّمه في الفروع. ومعنى قوله مطلقاً أي سواءٌ كان له مَنْ يقوم مقامه في استيفاءِ المنفعةِ، أوْ لا، وسواء كان هو المكتري، كما لو أكترى دابةً لركوب نفسه، فمات، أو غيرِهِ، كمن اكترى دابَّةً لركوبِ عبدِهِ فماتْ العبْد، قال في الإِقناع وشرحه: ولا ينفسخ بموتِ راكبٍ ولو لم يكنْ له من يقومُ ¬

_ (¬1) واضح أنه ليس المراد الخباء، بل هي شيء يتقي به الراكب أشعة الشمس. قال في اللسان: المظلة البرْطُلَّة. قلت: والمظلة معروفة الآن وقد تسمى الشمسيّة. (¬2) أي لا يلزم ذلك المؤجر، بل إن أراده المستأجر فمن ماله، لأن ذلك من مصلحته أشبه الزادَ وبُسُطَ الدار (منار السبيل).

[الحكم عند تعذر استيفاء المنافع]

مقامَهُ في استيفاءِ المنفعةِ، بأن لم يكن له وارثٌ، أو كان غائباً كمن يموت بطريقِ مكَّة، لأن المعقودَ عليهِ إنما هو منفعةُ الدابةِ دونَ الراكبِ، انتهى. (ولا) تنفسخ الإِجارة (بوقْفِ العين المؤجرة، ولا بانتقال المِلْكِ فيها بنحو هبةٍ وبيعٍ) وإرثٍ ووصيةٍ ونكاحٍ وخُلْعٍ وطلاقٍ وصُلحٍ. (ولمشترٍ لم يعلم) أن المبيعَ مُؤْجَرٌ (الفسخ أو الإِمضاءً) أي الخيارُ بين أن يفسخَ البَيْعَ أو يُمْضِيَهُ مجاناً. (والأجرة) عن المدة التي المشتري مالك لها فيها (له) أي للمشتري. (وتنفسخ) الإِجارة (بتلفِ كلِّ العين المؤجرةِ المعينةِ) كما لو استأجَر عبداً فمات، أو داراً فانهدمت قبل مضيِّ شيء من المدّة، سواءٌ قبضها المستأجر أم لا، لأن المنفعة زالتْ بتلفِ المعقودِ عليه، وقبضُها إنما يكون باستيفائِها، أو التمكُّن منه، ولم يحصل من ذلك شيء، فانفسخ العقد. (و) تنفسخ (بموت المرتِضعِ) المكترى لرضاعِهِ، وفيه التفصيل الجاري في إجارةِ العينِ المعيّنة فيما إذا ماتَ قبلَ المدّة، وبعدَ مضيِّ زمنٍ منها له أجرة. (و) تنفسخ الإِجارة (بِهْدمِ الدارِ) المؤجّرة. [الحكم عند تعذر استيفاء المنافع] (ومتى تعذّر استيفاءُ النفعِ) من العين المؤْجَرَةِ (ولو) كان المتعذّر (بعضَهُ) أي النفع (من جِهَةِ المؤجر) كما لو حَوّل مالكُ العين المستأجرة مستأجِرَها منها قبل انقضاءِ مدة الإِجارة، من غير اختيارِ المستأجر، أو امتنعَ من تسليمِ الدابة في أثناء المدّة، أو في أثناء المسافة، أو الأجيرُ

من تكميل العمل (فلا شيء له) على المستأجر، حتى مما سَكَنَ قبل أن يحوّله المؤجر. (و) إن كان تعذُّر النفعِ بالعينِ (من جهة المستأجِرِ فعليه جميع الأجْرَةِ،) فإن لم يسْكُن مستأجرٌ، لعذرٍ أوْ لا، أو تحوّل في أثناءِ المدّة، فعليه الأجرة. (وإن تعذَّر) استيفاءُ النفعِ من العينِ المؤْجَرَةِ (بغير فعل أحدهما) أي المؤجرِ والمستأجرِ، (كشرودِ) الدابة (المؤجَرَةِ، وهدْمِ الدارِ، وجب من الأجرة بقدْرِ ما استوفى) من النفع قبل حصول ما ذكر. (وإن هرَب المُؤْجِرُ وترك بهائمَهُ) التي أكراها، وله مالٌ، أَنفَقَ عليها منه حاكمٌ. وإن لم يكن له مال (وأنفَقَ عليها المستأجرُ بنيَةِ الرجوعِ رَجَعَ) على مالِكِها، ولو لم يستأذِنْ حاكماً. قال في الإِقناع: ولا يُعتبر الإِشهاد على نية الرجوع. صحّحه في القواعد. وإذا رَجَع واختلفا فيما أنفق، وكان الحاكِمُ قَدَّر النفقة بالمعروف (¬1) قُبِل قولُ المكتري في ذلك دون ما زاد، وإن لم يقدِّر له قُبِل قوله في قدر النفقة بالمعروفِ. انتهى، (لأن النفقة على المؤْجِرِ، كالمُعِير) فإذا انقضت الإِجارة باعَ البهائمَ حاكمٌ ووفَى المكتري ما أنفقَهُ عليها، لأن في ذلك تخليصاً لذمة الغائبِ، وإيفاء لصاحبِ النفقة. ¬

_ (¬1) كلمة "بالمعروف" ساقطة من (ف) ولعل إسقاطها أولى، لأن تقدير الحاكم مفترض فيه أن يكون بالمعروف، ولا يسأل عن ذلك. بخلاف ما في السطر التالي: إثباتها أولى.

[في الأجير الخاص والأجير المشترك]

فصل [في الأجير الخاص والأجير المشترك] (والأجيرُ قسمان): (خاصٌّ: وهو من قُدِّر نفعُه بالزمن) بأن استؤجر لخدمةٍ أو عملٍ في بناءٍ أو خياطةٍ، يوماً، أو أسبوعاً، ونحوه. (ومشتركٌ: وهو من قُدِّر نفعُه بالعمل) كخياطةِ ثوبِ، وبناءِ حائطٍ، وحمْلِ شيءٍ إلى مكانٍ معينٍ، ويتقبَّلُ الأعمالَ للجماعة في وقتٍ واحدٍ. (فالخاصّ لا يضمنُ ما تلفَ بيدهِ إلاَّ إن فرط) بأن يقصر في حفظِهِ، فيضمنُه كغيرِ الأجير، أو يتعمد الإِتلافِ. (و) الأجير (المشتَرَكُ يضمنُ ما تَلِفَ بفعلِهِ) أي بجنايةِ يدِه. فالحائِك إذا أفسَدَ حِيَاكَتَهُ ضامِنٌ لما أفسد نَصَّ على هذه المسألة (من تخريقٍ، و) كذا الخياطُ ضامِن لما أفسد في الثوبِ من (غلطٍ في تفصيلٍ) ونحوِه، والطبّاخُ يضمنُ ما أتلفه أو أفسده من طبيخِهِ، والخبّاز لما أتلفه أو أفسده من خُبْزِهِ، والملاَّحُ يضمن ما تلف من يده أو حَذْفِهِ أو ما يعالج به السفينة، والجمال ضامِنٌ لما تلف بِقَوْده وَسَوْقِهِ، (وبزَلَقِهِ) أو عثرته، (وبسقوطِه عن دابتِهِ،) ويضمن أيضاً ما حصَلَ من نقصٍ بخطئه في فعلِهِ، كما لو أمره أن يصبغ ثوبه أحمرَ فصَبَغه أسود، وكما لو أمَرَ الخيّاط بتفصيلِهِ قميصَ رجلٍ ففصّله قميصَ امرأةٍ. (و) يضمن أيضاً ما تلف (بانقطاعِ حبلِهِ) الذي يشدّ به حِمْلَهُ. و (لا) ضمان عليه في (ما تلف بِحرْزِه) أي منه، بنحو سَرِقَةٍ، (أو) تلف بغير فعله إن لم يفرّط). ولا أجرة له فيما عمله وتلف قبل تسليمه لربِّه، سواءٌ عمله في بيت المستأجر أو في بيتِهِ.

[ضمان الطبيب ونحوه]

فائدة: إذا استأجَرَ إنسانٌ قصّاباً ليذبَحَ له شاةٍ مثلاً، فَذَبَحها ولم يسمِّ عمداً ضمنها، فإن تَرَكَهَا سهواً حلَّتْ، ولا ضمان. [ضمان الطبيب ونحوه] (ولا يضمنُ حجامٌ وختانٌ وبَيْطَارٌ) وطبيبٌ ونحوهم (خاصًّا كان أو مشْتَرَكاً.) ذكر في المتن لعدم الضمان شرطين: أشار للأول بقوله: (إن كان حاذقاً) في الصنعة، (ولم تَجْنِ يَدُهُ) فإذا جَنَتْ يده ولو خطأً، مثل أن يجاوز قطع الخِتَانِ إلى الحَشَفَةِ أو إلى بعضِها، أو قطع في غيرِ محلِّ القطع، وأشباهِ ذلك، ضَمِنَ. وأشار للشرط الثاني بقوله: (وَأَذِنَ فيه مكلّفٌ أو وليّه) أي وليّ غيرِ المكلّف (¬1) فإن خَتَنَ صغيراً بغير إذن وليِّه ضَمِن سرايته، أو قَطَعَ سِلْعَةً (¬2) من مكلف بغير إذنه ضمن السراية. ولا ضمانَ على راعٍ فيما تلف من الماشية إذا (لم يتعدّ أو يفرِّط) في حفظِها، فإنْ فرّط (بنومِ، أو غيبتها عنه) أو أسْرَفَ في ضربها، أو ضَرَبها في غيرِ موضِعِ الضربِ، أو من غيرِ حاجةٍ إليه، أو سلَكَ بها موضعاً تتعرض فيه للتلف، وما أشبه ذلك، ضَمِنَ الراعي التالفَ. قال في المبدع: بغير خلافٍ. وإذا اختلفا في التعدِّي وعدمِه فقولُ الراعي بيمينه. وإذا اختلفا في كونِهِ تعدّياً رُجِعَ إلى أهلِ الخِبْرةِ. (ولا يصحّ أن يرعاها بجزءٍ من نمائِها) بل بجزءٍ منها مدّةً معلومة. ¬

_ (¬1) ففي عبارة المتن نظر، ولو قال "أو وليٌّ" لكان أحسن. (¬2) السلعة زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حُرِّكت (قاموس).

فصل

فصل تجب أجرةٌ في إجارةِ عينٍ ولو مدّةً لا تلي العقدَ، أو إجارة ذمّةٍ، بعقدٍ، سواء أشتَرَطَ فيه الحلول، أو أَطْلَقَ العقدَ، كما يجب للبائِع الثمنُ بعقدِ البيعِ. (وتستقرّ الأجرة) كاملةً (بفراغِ العَمَلِ) إن كانت العينُ بيد مستأجرٍ، كطبّاخٍ استُؤْجِرَ لطبخِ شيءٍ في بيت المستأجِرِ فطبَخَهُ وفرغَ منه، وإلا فَبِدَفْعِ غيرِ ما بيدِ مستأجرٍ معمولاً، كما لو اتفقا على أن الطَّبَّاخَ يطبخ ما استُؤْجِر على طبخِهِ في دارِهِ فيستحقّ الأجرة عند دفعه إلى المستأجر. (و) تستقرُّ الأجرة كاملةً في ذمة المستأجرِ أيضاً فيما إذا كانت الإِجارة على مدّةٍ (بانتهاءِ المدة) حيثُ سلِّمَتْ إليه العينُ التي وقعت الإِجارة عليها، ولا حاجِزَ له عن الانتفاع، ولو لم ينتفع. (وكذا) تستقرّ الأجرة أيضاً (ببذلِ تسليمِ العينِ) المعيّنة لعملٍ في الذمّة، (إذا مضتْ مدّةٌ يمكنُ استيفاءُ المنفعةِ فيها، ولم تُسْتَوْفَ) كما لو قال: اكتريتُ منكَ هذه الدابَّةَ لأركبها إلى بلدِ كذا، ذهابا ًوإياباً، بكذا، وسلمها إليه المؤجر، ومضتْ مدَّةٌ يمكنُ فيها ذهابُه إلى ذلك البلد ورجوعه على العادة، ولم يفعلْ. نَقَلَ ذلكَ في المغني عن الأصحاب. (ويصحّ شرطُ تعجيلِ الأُجرة) على محلّ استحقاقِها، كما لو أَجَرهُ دارَهْ سنة خمسٍ في سنة ثلاثٍ، وشرَطَ عليه تعجيلَ الأجرة في يومِ العقدِ؛ (وتأخيرِها) كما لو شرط المستأجرْ على المؤجِرِ أن لا تحلّ عليه الأجرةُ إلا عند ابتداءِ سنة سبعٍ. (وإن اختلافا) أي المؤجِرُ والمستأجِرُ (في قدْرِها) أي الأُجرة، ولا بيّنةَ لأحدهما، أو لهما بينة، (تحالفا) فيحلف المؤجِرُ: ما آجرتك بكذا،

وإنما آجرتك بكذا، ثم المستأجرُ: ما استأجرتُ بكذا، وإنما استأجرتُ بكذا. فإن نَكَلَ أحدُهما لزمه ما قال صاحبه بيمينه. (و) إن لم يرض أحدهما بقول صاحبه (تفاسَخَا) بلا حكمِ حاكمٍ. (فإن كان قد استوفى) المستأجرُ (ما لَهُ أجرةٌ فأجرةُ المثل) أي مثلِ تلك العينِ في مدة الاستيفاءِ. (والمستأجرُ أمينٌ لا يضمن) ما تلف (ولو شرَطَ على نفسِهِ الضمانَ، إلا) بالتعدي أو (بالتفريط). (وُيقْبَل قوله) بيمينه (في أنه لم يفرّط، أو) ادّعى المستأجر (أن ما استأجَرَهُ) من دابّةٍ أو رقيقٍ (أبَقَ أو شَرَدَ، أو مرِض أو مات) وكانت دعواه في المدة أو بعدَها، قُبِل قوله بيمينه، لأنه مؤتمن، والأصل عدم الانتفاع. (وإن شرط) مؤجر الدابّة (عليه) أي على مستأجِرِها (أن لا يسيرَ بها في الليل، أو) شرط عليه أن لا يسير بها (وقت القائلة، أو) شرط عليه أن (لا يتأخّر بها عن القافلة، ونحوَ ذلك مما فيه غرضٌ صحيح) للمؤجر، (فخالف) أي خالف المستأجرُ ما شُرطَ عليه (ضمن) لمخالفته الشرط. (ومتى انقضت مدَّةُ الإِجارة) الصحيحة (رَفَعَ المستأجِرُ يده) عن العين المستأجَرَةِ، (ولم يلزمْهُ الردُّ، ولا مؤنته، كالمودَع) بخلاف العارِية. وتكون بعد انقضاء مدة الإِجارة في يده أمانةً، وإن تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه.

باب المسابقة

باب المُسَابقَة وهي المجاراة بين الحيوان ونحوه، (وهي جائزة في السُّفُن والمزاريق والطيور وغيرها) كالرماح والأحجار (وعلى الأقدامِ وبكلِّ الحيواناتِ) كالخيلِ والإِبلِ والبغالِ والحميرِ والبقرِ والفِيَلة. أما جواز المسابَقَةِ فقد أجمع عليه المسلمون في الجملة. (لكن لا يجوزُ أخْذُ العِوَضِ إلا في مسابقة الخيلِ، والإِبل، والسِّهام) أي النُّشّاب والنَّبْل. إذا تقرّر هذا فإنما تصح المسابقة إذا كان فيها جُعْلٌ (بشروط خمسة): (أحدها: تعيين المركوبَيْنِ) في المسابقة، (أو الرامِيَيْنِ) في المناضلة، (بالرؤية) فيهما، سواءٌ كانا اثنين، أو جماعتين، لا الراكبين ولا القوسينِ. الشرط (الثاني: اتحاد المركوبين) في المسابقة، (أو القوسَينِ) في المناضَلة (بالنوع،) فلا يصح بين عربيٍّ وهجينٍ، ولا قوسٍ عربيٍّ وفارسيّ. والعربيّ قوسُ النُّبْلِ، والفارسيّ قوس النشاب. قاله الأزهري. الشرط (الثالث: تحديد المسافة) والغايةِ (بما جَرَتْ به العادة،) وذلك إمَّا بالمشاهدة، أو بالذَّرْعِ، لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد.

وإما تقييدُ ذلك بما جَرَتْ به عادة الرُّمَاةِ فلانّ المدى الذي تتعذر الإِصابة فيه غالباً، وهو ما زاد على ثلثمائة ذراع، يفوتُ به الغرض المقصود بالرمي. وقد قيل: إنه ما رمى في أربعمائة ذراعٍ إلا عُقْبَةُ بن عامرٍ الجُهَنِيُّ الشرط (الرابع: علم العِوَضِ) لأنه مالٌ في عقدٍ، فوجب العلم به، كسائِرِ العقود. ويحصل علمه بالمشاهدة أو بالوصف المميِّز له. ويجوز أن يكون حالاًّ ومؤجَّلاً، كالثمن في البيع؛ (وإباحتهُ) أي العوض، لأنه عوضٌ في عقدٍ، فاشتُرِطت إباحته، كبقية العقود. الشرط (الخامس: الخروج عن شَبَهِ القِمارِ) بكسر القاف (بأن يكون العِوَضُ من واحدٍ، فإن أخرجَا معاً) بأن أخرج كل من المتسابقين شيئاً (لم يجزْ إلا بِمُحَلِّلٍ لا يُخْرِجُ شيئاً (¬1) ولا يجوز) كون المحلِّل (أكثرَ من واحدٍ يكافئُ مركوبُه مركوبيهما) في المسابقة، (أو رميُه رمْيَيْهِما) في المناضلة. (فإن سبقَا معاً) أي سبق المخرجانِ المحلِّل ولم يسبق أحدُهما الآخرَ (أَحْرَزَا سَبَقَيْهِمَا) أي أحرزَ كلُّ واحد منهما ما أخرجَه، لأنه لا سابقَ فيهما، ولا شيءَ للمحلِّل لأنه لم يسبق واحداً منهما، (ولم يأخذا ¬

_ (¬1) حقق ابن القيّم رحمه الله في كتابه المطبوع "الفروسية" أن هذا الشرط ليس بصحيح شرعاً. وكلامه حق، لأن الحديث الذي احتُجَّ به لهذا الاشتراط غيرِ صحيح، ولأن إخراج كل من المتسابقين جُعْلاً مساوياً لجُعْلِ صاحبه أولى بالعدل. ولأنَّ السَّبَق لو كان مجرّد جُعْلِ لجاز في غير الثلاثة وهي الخيل والإبل والسهام كما جاز فيها. والحديث المشار إليه هو ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة ولفظه "من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن يسبق فليس قماراً. ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار" قال في (الإِرواء: ح 1509): ضعيف. ورواه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والحاكم. وانظر كتاب الفروسية ص 34 - 60

من المحلِّل شيئاً) لأنه لم يشترط عليه لمن سبقه شيئاً. (وإن سبَق أحدُهما) أي أحدُ المخرِجَيْنِ صاحبَه، (أو سَبَقَ المحلّلُ أحرز السَّبَقَيْنِ،) لأنهما قد جعلاه لمن سبق. (والمسابقة جُعَالة لا يؤخذ بِعِوَضِها رَهْنٌ ولا كفيل) لأنه جُعْلٌ على ما لا يتحقق القُدْرَةُ على تسليمِهِ، وهو السَّبْقُ والإِصابة، فلا يجوز أخذ الرهن أو الكفيلِ به، كالجعل على ردّ الآبق (¬1). (ولكلٍّ) من المتعاقدين (فسخُها ما لم يَظْهَرِ الفضلُ لصاحبه) فيُمتنع عليه. وتبطل بموت أحدِهما، أو أحدِ المركوبين. ويحصل سَبْقٌ في خيلٍ متماثلتي العنقِ برأسٍ، وفي مختلفتيهما وإبلٍ بكَتِف. ¬

_ (¬1) هذا القول بعدم جواز أخذ الكفيل بالسبق فيه نظر، كيف وقد احتجوا على صحة الجعالة والكفالة بما حكاه الله تعالى، من قول يوسف عليه السلام {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فهي كفالة في جعالة. وفي شرح المنتهى مثل ما في كلام الشارح أعلاه. لكن في المغني 4/ 312 "كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به إلا ثلاثة أشياء -ثم ذكر منها-: ما لم يجب" وكان قد قال قبل (4/ 310) "ولا يجوز أخذ الرهن بالجعل في الجعالة قبل العمل لأنه لم يجب" فأفاد جواز أخذ الكفيل بالسَّبَق دون أخذ الرهن به. والله أعلم.

كتاب العارية

كتَاب العَاريَة بتخفيفِ الياء وتشديدِها: العَيْنُ المأخوذةُ للانتفاعِ بها بلا عِوَض. (وهي مستحبّة) لكونها من البرّ والمعروف، (منعقدةٌ بكل قولٍ أو فعلٍ يدل عليها) كأعرتُك هذه الدابَّة لتركبها إلى كذا، أو خُذْها تحتك، أو استرحْ عليها، ونحو ذلك، وبدفعه دابتَه لرفيقِهِ عند تعبِهِ، وتغطيتِهِ بكسائه إذا بَرَد، ونحو ذلك. وإنما تصحّ (بشروطٍ ثلاثةٍ): الأول: (كونُ العينِ منتفعاً بها مع بقائِها) كالدورِ والرقيقِ والدوابّ واللباس والأواني، بخلافِ ما لا يُنْتَفَع بها إلا مع تَلَفِ عينها، كالأطعمةِ والأشربةِ ونحوِها. لكن إن أعطاها بلفظِ الإِعارةِ، فقال ابن عقيل: احتملَ أن يكون إباحةَ الانتفاعِ بها على وجهِ الإتلاف. ذكره عنه المَجْدُ في "شرح الهداية" واقتصر عليه. (و) الشرط الثاني: (كون النفع) في العين المعارة الذي أباحه له المعير (مباحاً) شرعاً للمستعير، لأن الإِعارة إنما تبيح له ما أباحَهُ الشارع، فلا يصحّ أن يستعير إناءً من أحدِ النَّقْدَين ليشرب فيه ولا حُلِيًّا محرماً على رجلٍ ليلبسه. (و) الشرط الثالث: (كون المعير أهلاً للتبرّع) شرعاً لأن الإِعارة

نوعٌ من التبرّع، لكونهِ منه ما هو إباحةَ عينٍ، كالإِذنِ في أكلِ طعامٍ، والإِعارةُ إباحةُ منفعةٍ. والشرط الرابع: كون المستعيرِ أهلاً للتبرُّع له بتلك العينِ المعارة، بأن يكونَ يصحُّ منه قبولُ هبة تلك العين المعارة. زاد هذا الشرطَ في المنتهى. (وللمعيرِ الرجوعُ في عاريتِه أيَّ وقت شاءَ)، ولو قَبْلَ أَمدٍ عَيَّنَهُ (ما لم يضرَّ بالمستعيرِ، فمن أعارَ سفينةً لحملٍ، أو أرضاً لدفن) ميتٍ (أو زَرْعٍ، لم يرجع حتى تُرسِيَ السفينة،) وله الرجوع قبل دخولها البحر (ويبلى الميتُ) ويصير رميماً. قاله ابن البنّاء. لما فيهِ من هَتْكِ حرمته. وقال المَجْدُ في شرحه: بأن يصير رميماً ولم يبقَ شيء من العظام في الموضع المستعار، وعبارةُ المقنع وتبعها في المنتهى وغيره: حتى يبلى. قال في المبدع: وقال ابن البنّاء: لا يرجعُ حتى يصيرَ رميماً. ومقتضاه أنهما قولان. ولعل الخلاف لفظيٌّ كما يعلم من كتب اللغة. قال في الصَّحاح: والرميم البالي. وقال ابن الجوزي: يُخْرِج عظامَه، ويأخُذُ أرْضَهُ، ولا أجرة له. (ويُحْصَدَ الزرع) عند أوانِهِ. فإن بَذَلَ له المعيرُ قيمةَ الزرع ليملكَه لم يكنْ له ذلك، نصًّا، لأن له وقتاً ينتهي إليه، إلا أن يُحْصَدَ قَصِيلاً، فإن على المستعيرِ قَطْعَهُ في وقتٍ جرت العادةُ بقطعِهِ فيه، لعدم الضَّرَرِ إذَنْ. (ولا أجرةَ له منذُ رَجَعَ إلاَّ في الزرع) فإن له أجرةَ مثلِ الأرض المعُارَةَ من حينِ رَجَعَ إلى حين الحصاد، لوجوب تَبْقِيَتهِ في أرض المعير إلى أوانِ حَصَادهِ قهراً عليه.

فصل

فصل (والمستعير في) حكم (استيفاءِ النَّفْعِ) من العين المعارَةِ، بنفسِهِ وبمن يقوم مقامه، فإذا استعارَ أرضاً للزرعِ فله أن يباشِرَ زرعها بنفسِهِ، أو بمن يقومُ مقامَه، وكذا إذا استأجرها لبناءٍ (كالمستأجِرِ) لأنه مَلَكَ التصرّف فيها بإذن مالِكِها، فوجب أن يملكَ ما يقتضيه الإِذْنُ، كالمستأجر فعلى هذا إذا أعاره أرضاً لِغَرْسٍ وبناءٍ فله أن يزرع فيها ما شاء، وإن استعارها لغرسٍ أو بناءٍ فليس له الآخر، لأن ضررهما مختلف (إلا أنه) أي المستعير (لا يعير) ما استعاره (ولا يؤجِر) لأنه لا يملك منافِعَهُ، فلا يصحّ أن يُبيحَها أو يبيعَها (إلا بإذن المالك) فإن أعار أو آجَرَ فعليه أُجْرَةُ مثلِها لربِّها، إن لم يكن المستعير الثاني عالماً بالحال، فتكون عليه، أو آجَرَ بغير إذنِهِ فتلفت العين عند الثاني ضمَّنَ المالكُ أَيَّهما شاء. [ضمان العارية] (وإذا قبضَ المستعيرُ العاريّة فهي مضمونةٌ عليه بمثل مثليٍّ) يعني أن العاريّة إذا كانت من ذواتِ الأمثال، كما لو استعارَ صَنْجَةً من نحاسٍ لا صِناعةَ فيها، ليزن بها، فتلفتْ، فإنه يضمنها بمثلِ وزنِها من نوعها، (وقيمةِ متقوِّمٍ يوم تَلَفٍ) لأن قيمتَها بَدَلٌ عنها، فوجَبَ عند تلفِها، كما يجبُ عند إتلافها، ولأنه يومٌ يتحقَّقُ فيه فواتُها فوجبَ اعتبار الضَّمانِ به، ويلغو شرطُ عدم ضمانِها، كشرطِ ضمانِ أمانةٍ كوديعةٍ (فرَّط أوْ لا، لكن لا ضمانَ في أربعِ مسائلَ إلاَّ بالتفريط): الأولى: (فيما إذا كانتِ العاريّة وقْفاً ككتبِ علمٍ) وأدراعٍ موقوفةٍ على الغُزاةِ إذا استعارَها لينظرَ فيها، أو ليلبِسَها عند قتالِ الكفّار (وسلاحٍ) كسيفٍ ورمحٍ. (و) الثانية: (فيما إذا أعارَها المستأجِرُ.)

والثالثة: ما أشار إليها بقوله: (أو بَلِيَتْ فيما أعيرَتْ له) باستعمالٍ بمعروفٍ، كما لو تَلِفَ الثوبُ المستعارُ بِلُبْسِهِ، أو ذَهَبَ خَمَلُ المِنْشَفَة أو القَطِيفة. والرابعة: ما أشار إليها بقوله: (أو أركبَ) إنسانٌ (دابتَه) إنساناً (منقطعاً لله تعالى، فتلفت) الدابة (تحته،) أي تَحْتَ المنقطع، (لم يضمن) تَلَفَها، لأنها بيد صاحِبِها، لكون الراكِبِ لم ينفردْ بحفظِها، أَشْبَهَ ما لو غطَّى ضيفَهُ بلحافٍ، فَحُرِقَ عليه، فإنه لا يضمنه، كرديفِ رَبِّها، أي كما لو أردَفَ إنساناً خلفه على دابّتِهِ، فتلفتْ تحتهما. (ومن استعارَ لِيَرْهَنَ فالمرتَهِنُ أمينٌ) لا يضمن إلا بالتعدّي أو التفريطِ. (ويضمنُ) العينَ (المستعيرُ) سواء تلفتْ تحت يدِهِ أو تحت يَدِ المرتهن. (ومن سلّم لشريكه الدابةَ) المشتركَةَ (ولم يستعملها) فتلفتْ بلا تفريطٍ لم يضمنْ، (أو استعمَلها) الشريكُ (في مقابَلةِ عَلَفِها بإذنِ شريكِه وتلفت بلا تفريطٍ) أو تعدٍّ بأن ساقَها فَوْقَ العادةِ ونحوه (لم يضمنْ) قال في شرح الإِقناع: وإنْ سلَّمها إليه لركوبِهَا لمصلحته، وقضاءِ حوائِجِهِ عليها، فعارية. انتهى.

كتاب الغصب

كتَاب الغصب (وهو) أي الغصب (الاستيلاءُ) أي استيلاءُ غير حربيٍّ، بفعلٍ يُعَدّ استيلاءً (عرفاً، على حق الغير، عدواناً) بغير حقٍّ على سبيل الظلم (¬1) وهو محرّم إجماعاً. وسنده قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} والغصب من الباطل. (ويلزم الغاصبَ رد مَا غَصَبَهُ بنَمائِهِ) المتصِلِ والمنفصل، كالولد، والسِّمَنِ، (ولو غَرِم على ردِّه أضعافَ قيمتِهِ) أي قيمةِ المغصوب، لكونِهِ بنى عليهِ، بأن يكونَ غَصَبَ حجَراً، أو خشباً قيمتهُ درهمٌ فبنى عليه بناءً، ويحتاجُ في إخراجِهِ إلى غُرُمِ خمسة دراهم، أو بُعْدٍ، بأن حَمَل مغصوباً قيمته درهمٌ إلى بلد بعيدة بحيث تكون أجرةُ حَمْلِهِ في ردّه إلى البلدِ المغصوبِ منهُ أضعافَ قيمَتِهِ، أو خَلْطٍ بمتميِّزٍ ونحوه. (وإن سمَّرَ) الغاصب (بالمسامِير) المغصوبةِ (باباً) أو غيره (قَلَعَها) ¬

_ (¬1) حديث "ليس لعرقٍ ظالِم حق" رواه الترمذي وحسنه (منار السبيل 1/ 434).

[ضمان المغصوب]

وجوباً (وردّها) ولا أثر لضرِرِه، لأنه حصل بتعدّيهِ، كما لو غَصَبَ فصيلاً، وأدخله دارَهُ فَكَبِرَ، وصار لا يمكن إخراجه لضيق بابها عليه، فإنه يُنْقَضُ مجاناً وُيخْرَجُ الفصيل. (وإن زَرَع) الغاصبُ (الأرضَ) المغصوبة ثم ردَّها وقد حَصَدَ زرعه (فليس لربّها) أي الأرض (بعد حصدِهِ) الزرع (إلاَّ الأجرة) أي أجرةً المثلِ عن الأرضِ إلى حينِ تسليم الغاصبِ لها، يعني أنه لا يكونُ لربّ الأرضِ حقٌّ في زرعِ الغاصبِ بعد حصادِهِ بتملَّكٍ ولا غيرِهِ، لأنه انفصل عن ملكه. (وقَبْلَ الحَصْدِ) أي حصد الزرع (يخيَّرُ) مالكُ الأرض (بينَ تركِهِ) أي تَرْكِ الزَرْع في أرضِهِ إلى الحصاد (بأجرته) أي أجرة المثل، (أو تملُّكِهِ) أي الزرع (بنفقتِهِ، وهي مثل البَذْرِ، وعِوَضُ لواحِقِهِ) من حرثٍ وسقيٍ ونحوِهما. وعنه: بقيمتِهِ زرعاً فله أُجْرَةُ أرضِهِ إلى تسليمه. (وإن غَرَسَ) الغاصب (أو بني في الأرض أُلْزِمَ بقلعِ غرسِهِ أو بنائِهِ،) وتسويتها، وأرشِ نقصِها، وأجرتِها إلى وقت تسليمها، (حتى ولو كان) الغاصب (أحد الشريكينِ) في الأرض، أو لم يغصبْها الغارسُ أو الباني فيها، (وفَعَلَهُ) أي الغرسَ أو البناءَ (بغير إذنِ شريكه.) أما كونُ الغاصبِ يؤخذ بقلعِ غرسِهِ أو بنائِهِ إذا طولبَ بذلك من قِبَلِ ربّ الأرضِ فلما رُوِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ" رواه الترمذي. فصل [ضمان المغصوب] (وعلى الغاصبِ أرشُ نقصِ المغصوب) ولو رائحةَ مِسْكٍ ونحوه، سواء نقص بيد الغاصبِ أو غيرِه. فيقوَّمُ صحيحاً وناقصاً، ويغرم الغاصبُ

ما بينهما، لأنّه ضمانُ مالٍ من غير جنايةٍ، فكان الواجبُ ما نقص. (و) يضمن الغاصب (أجرتَهُ) أي المغصوب (مدّةَ مُقَامِهِ بيده) أي الغاصب. قال في الإِقناع: وإن كان للمغصوبِ منفعة تصحّ إجارتُها فعلى الغاصبِ أجرةُ مثله مدة مقامه في يده، استوفى المنافعَ، أو تركَها تذهب. (فإن تلف) المغصوب بأن كان حيواناً فماتَ، أو متاعاً فاحترق، ونحوَه، وشَمَلَ كلامه لو غصبَهُ مريضاً فمات في يده بذلك المرض، ضَمِنَهُ، كما جزم به الحارثي، واقتصر عليه في الإِنصاف، أو أتلفَهُ الغاصبُ أو غيره ولو بلا غصبٍ (ضمن) الغاصبُ أو من تلفَ بيدِه (المثليَّ) وهو كلُّ مكيلٍ أو موزونٍ لا صناعةَ فيه مباحةً يصح السَّلَمُ فيه (بمثله). فإن أعْوَزَ المثلُ فقيمة مثلِهِ يوم إعوازِهِ فإن قدر على المثل [قبل دفع القيمة] (¬1) لا بعدَ أَخْذِها، وَجَب. ويضمن الغاصب (المتقوِّمَ) التالفَ، وهو كل ما ليس مكيلاً ولا موزوناً (بقيمتِهِ يومَ تلفِهِ في بلدِ غَصْبِهِ) من نقدِ موضعِ الضمانِ بمقتضى التعدّي. (ويضمن) الغاصبُ (مصاغاً) تالفاً إذا كان (مباحاً) كحليّ النساء المتخذ (من ذهبِ أو فضةٍ بالأكثرِ من قيمتِهِ أو وزنِهِ) فإن زادت قيمتُه على وزنِهِ أَخَذ القيمةَ لأجل الصناعة، وإن زاد الوزنُ على القيمةِ أخذ به. (و) يضمنُ المصاغَ (المحرَّمَ) الصناعةِ (بوزنِهِ) من جنسه. (وُيقْبَل قول الغاصبِ) مع عدم البينةِ (في قيمةِ المغصوبِ) التالِف، بأن قال الغاصب: قيمته عشرة، وقال المالك: اثنا عشر، فقول الغاصب، لأنه غارم. ¬

_ (¬1) إضافة من شرح المنتهى 2/ 419.

(و) يقبل قول الغاصب (في قدره) أي المغصوب. (وَيَضْمَنُ) أي الغاصبُ (جنايَتَهُ) أي جناية الرقيقِ المغصوبِ (وإتلافَهُ) أي قيمة ما يتلفه، ولو كانت الجنايةُ على ربِّه أو مالِهِ (بالأقلِّ من الأرشِ أو قيمتِهِ) أي أرش الجناية، أو قيمة العبد. كما يفديه سيده. (وإن أَطَعَمَ الغاصبُ ما غصَبَهُ) من خبزٍ أو لحمٍ أو غيرِهما أحداً (وحتّى ولو لمالكِهِ) أو قنِّهِ أو دابَّتِهِ، أو دَفَعَه الغاصبُ لمالكِهِ بقرضٍ أو شراءٍ أو هبةٍ أو صدقةٍ، أو أباحَهُ له (ولم يعلمْ) (¬1) المالكُ (لم يبرأِ الغاصب). (وإن علم الآكلُ حقيقة الحال استقرَّ الضمانُ عليه) أي على آكلِهِ، لكونه أتلفَ مال غيرِهِ بغير إذنه عالماً من غير تغريرٍ. وللمالكِ تضمينُ الغاصب له، لأنه حال بينه وبين مالِهِ، وتضمين آكلِهِ لأنه قَبضَهُ من يد ضامِنِهِ، وأتلفه بغير إذن مالكه. وللغاصب إذا غرّمه المالك بدل الطعامِ الرجوعُ على الآكِلِ لاستقرار الضمان عليه. (ومن اشترى أرضاً فغرَسَ) فيها (أو بني فيها فخرجت مستَحَقَّةً للغير) أي تبيّن أنه ليس لبائِعِها ولايةُ بيعها (وقُلِعَ غرسُهُ) أي غَرْسُ المشتري (أو بناؤه) لكونه وُضِعَ بغير حقٍّ (رجع) المشتري (على البائع بجميع ما غَرِمه) بسبب ذلك، من ثمنٍ أقبضَه، وأجرة غارسٍ وبانٍ، وثمن مُؤَنٍ مستهلكةٍ، وأرشِ نقصٍ بقلعٍ، ونحو ذلك، لأنه ببيعه إياها غرَّه وأوهَمَهُ أنها ملكُهُ، وكان ذلك سبباً في بنائه وغَرْسِهِ، فرجع عليه بما غَرِمَهُ. قال الفتوحي: وعُلِمَ من ذلك أن لمستحقِّ الأرض قلعَ الغِراس والبناء، من غير ضمانِ، لأنه وُضِعَ في ملكه بغير إذنه، فكان له قلعه مجاناً، كغرس الغاصب. ¬

_ (¬1) (ب، ص): "ولو لم يعلم" والصواب بحذف "لو" كما في (ف).

[في الإتلافات]

فصل [في الإِتلافات] (ومن أتْلَفَ ولو سهواً مالاً) محترماً (لغيرهِ) أي لغير المتلف، بلا إذنِهِ، وكان المتلِف مكلفاً ملتزِماً، والمال لمعصومٍ غيرِ ابنِهِ (ضمنه،) أي ضمنَ ما أتلفه. (وإن أُكرِه) شخصٌ (على الإِتلاف) أي إتلافِ مالِ غيره المضمون، (ضمن من أكرهَهُ) ولو على إتلاف مالِ نفسِهِ. (وإن فَتَح) إنسان (قفصاً عن طائرٍ أو حل قِنًّا) من قيدٍ (أو أسيراً أو حيواناً مربوطاً، فذهبَ، أو حلّ) إنسان (وِكاءَ زِقٍّ فيه) شيء (مائعٌ) أو جامدٌ، فأذابَتُه الشمس، أو بَقيَ بعد حلَّه فألقته ريحٌ (فاندفَقَ) وخرج منه شيء، أو لم يزل يميلُ شيئاً فشيئاً حتى سقط فاندَفق، أو خرج ما فيه قليلاً قليلاً (ضمنه) أي ضمن المتعدي بفتحِ القفصِ أو حلَّ ما تقدم. (ولو بقي الحيوانُ) الذي حله، (أو الطائرُ) الذي فتح عنه القفص، واقفين بعد ذلك (حتى نفرّهما آخر) فذهبا (ضمِن المنفِّر) أي اختص ضمانُهما بالمنفِّر، لأن سببه أخصُّ، فاختصّ الضمان به، كدافعِ الواقع في البئرِ مع حافِرِها. (ومن أوقفَ دابَّةً) له أو لغيره (بطريقٍ، ولو) كان الطريق (واسعاً)، نصًّا، أو ربطها به، (أو تركَ) إنسانٌ (بها) أي بطريقٍ، ولو واسعاً (نحو طينٍ أو خشبةٍ) كعمودٍ أو حجرٍ أو كيسِ دراهِمَ، أو أسند خشبةً إلى حائط (ضمن) ذلك الإِنسانُ (ما تلِفَ بذلك) أي بسبب فعلِهِ،، لأنه مُتَعَدٍّ بذلك. (لكن لو كانت الدابَّةُ بطريق واسعٍ فضربَها) إنسان (فرفسته، فلا ضمان) على واضِعِها، لعدم حاجة الضَّارِبِ إلى ضربها. قال في الإِقناع: ومن

ضرب دابَّةً مربوطةً في طريقٍ ضيَقٍ، فرفستْهُ، فمات، ضمنه صاحبها. ذكره في "الفنون" انتهى. (ومن اقتنى كلباً عقوراً) ولو لصيدٍ أو ماشيةٍ، (أو) اقتنى كلباً (أسودَ بَهِيماً، أو) اقتنى (أسداً أو ذئباً) أو نَمِراً، أو هرًّا تأكل الطيور وتَقْلِبُ القدورَ عادةً، (أو جارحاً، فأتلفَ شيئاً ضمنه) المقتني، لأنه المتسبّب في ذلك. وعُلِمَ مما تقدم أنه لو حصل شيء من ذلك في بيتِ إنسانٍ من غيرِ اقتنائِهِ ولا اختياره، فأفسدَ شيئاً، لم يضمنْهُ، لأنه لم يحصل الإِفساد بسببه. قال في الشرح: فإذا اقتنى حماماً أو غيرَه، من الطَّير فأرسله نهاراً، فَلَقَطَ حبًّا، لم يضمنه، لأن العادة إرساله، انتهى (لا إن دخل دارَ ربَّه) أي ربِّ الأسدِ والنّمرِ ونحوه (بلا إذنه) فإنه لا يضمن. (ومن أجَّجَ ناراً،) أي أوقدها حتى صارت تلتهب، (بملكِهِ)، أو سقى ملكَهُ (فتعدَّتِ النّارُ) أو الماءُ (إلى ملكِ غيرِهِ بتفريطِهِ ضَمِنَ) بأن أجّج ناراً تسري في العادة لكثرتها، أو في ريحٍ شديدة تحملها، أو فتحَ ماء كثيراً يتعدى مثله، أو ترك النارَ مؤجَّجَةً ونام، و (لا) يضمن (إن طَرَتْ ريح (¬1)). (ومن اضطجع في مسجدٍ، أو) جَلَسَ، أو اضطجع (في طريقٍ) واسعٍ، فعثر به حيوان لم يضمن ما تلفَ بِهِ، (أو وضعَ حجراً بطينٍ في الطريقِ ليطأ عليه الناس، لم يضمن) لأنَّ في هذا ونحوِهِ نفعاً للمسلمين. ¬

_ (¬1) طرت: أي طرأت بعد اشعال النار.

[ضمان ما تتلفه البهائم]

فصل [ضمان ما تتلفه البهائم] (ولا يضمنُ ربُّ بهيمةٍ غير ضارِيةٍ ما أتلفْتهُ نهاراً من الأمْوالِ والأبدانِ) إذا لم تكنْ يَدُهُ عليها، فإن كانت، ضمن. (ويضمن راكبٌ) لدابةٍ (وسائقٌ وقائدٌ) لها (قادرٌ على التصرف فيها) جنايةَ يدِها، وفَمِها، ووطءٍ بِرِجْلِها، لا ما نَفَحَتْ بها من غير سببٍ، ما لم يكْبَحْهَا زيادةً على العادة، أو يضربْ وجهَهَا. (وإن تعدَّد راكب) على الدَّابةَ بأن كان عليها اثنان أو ثلاثة (ضَمِنَ الأوّل) ما يضمنُهُ الراكب المنفرد، لأنه المتصرف فيها القادر على كفِّها. (أو مَنْ خَلْفَهُ إن انفرد بتدبيرِها) لصغر الراكبِ، أو مَرَضِهِ، أو عماه، ونحوه. (وإن اشتركا) أي الراكبان (في تدبيرِها، أو لم يكن) معها (إلا قائد وسائق، اشتركا في الضّمان) لأنّ كل واحدٍ من الراكبين المشترِكين في تدبيرها، أو من السائِقِ والقائِدِ، لو انفردَ ضَمِنَ، فإذا اجتمعا ضَمِنَا. ويشارك راكب معهما أو معد أحدهما. وإبلٌ وبِغَالٌ مُقَطّرةٌ كواحدةٍ، على قائِدِها الضمانُ. ويشارك سائق في أوّلها في جميعها، وفي آخرها في الأخيرةِ فقط، وفيما بينهما فيما باشَرَ سَوْقَهُ وما بعده. (ويضمن ربّها) أي الدابة (ما أتلفْته) من زرعٍ وشجرٍ وخَرْقِ ثوبٍ، أو نَقَصَتْهُ بمضْغُها إياه، أو وطئِها عليه، ونحوه، (ليلاً) فقط، لأنّ العَادة من أهل المواشي إرسالُها نهاراً للرعي، وحفظُها ليلاً. وعادةُ أهلِ الحوائِطِ حفظها نهاراً فإذا أفسدتْ شيئاً ليلاً كان من ضمان من هي بيده. ومحلّ ذلك (إن كان بتفريطِهِ) في حفظِها، بتركه في وقت عادته،

[دفع الصائل (الدفاع المشروع) وإتلاف المحرمات]

لا إن أفسدت شيئاً نهاراً، إلا غاصباً، لتعديه. (وكذا) يضمن (مستعيرُها، ومستأجِرُها، ومن يحفظها). [دفع الصائل (الدفاع المشروع) وإتلاف المحرمات] (ومن قَتَلَ) حيواناً (صائلاً) أي واثباً (عليه، ولو) كان الصائلُ (آدميًّا) صغيراً أو كبيراً، عاقلاً أو مجنوناً، حراً أو عبداً، حال كون القاتِلِ (دافعاً عن نفسِهِ) أي نفسِ القاتل، (أو مالِهِ)، ومحلّ عدم الضمان في الصائل إذا لم يندفعَ بغيرِ القتل، (أو أتلفَ) إنسانٌ، ولو صغيراً، بكسرٍ أو حَرْقٍ أو غيرهما (مزماراً أو آلةَ لهوٍ) كطُنبورٍ وعودٍ ودُفٍّ بصُنُوجٍ أو حِلَقٍ أو أتْلَفَ نَرْداً أو شَطْرَنجاً، أو صَليباً (أو كَسَرَ إناءَ فِضَّةٍ، أوَ إناءَ ذهبٍ أو) كَسَرَ أو شَقَّ إناءً (فيهِ خمرٌ مأمورٌ بإراقتها) وهي ما عدا خَمْرَ الخلاّلِ أو خمرَ الذمّيّ المستترة (¬1)، فإن إناءها غيرُ مضمونٍ، سواءٌ قَدِرَ على إراقتها بدونه أو لا (¬2)، (أو كَسَرَ حُلِيًّا محرَّماً) على ذَكَرٍ لم يستعمله ولم يتخذه مالكه يصلح للنساء (¬3). وأما إذا أتلفه فقد تقدَّم أن محرّم الصناعة يضمن بمثلِهِ وزناً (أو أتلف آلة سحرٍ، أو) آلة (تعزيمٍ، أو تنجيمٍ، أو صُوَرَ خيالٍ، أو أتلفَ كُتباً مبتدَعَةً مُضِلَّةً) أو كتُبَ أكاذيبَ أو سخائِفَ لأهل الضلالِ، والبَطالَة، أو كُتُبَ كفرٍ، (أو أتلفَ كتباً فيها أحاديثٌ رديئةٌ (¬4) لم يضمن في الجميع) "أي لم يضمن المتلف ما أتلفه من ذلك" (¬5)، قال في شرح المنتهى: وظاهره ولو كان معها غيرها. ¬

_ (¬1) وفي المغني: ولو غير مستترة لم يضمن أيضاً. (¬2) لحديث أبي طلحة "وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا ويعاونوني أن آتي الأسواق كلها فلا أجِدُ فيها زقّ خمرٍ إلا شققته، ففعلتُ، فلم أجد زفًّا إلا شققته" رواه أحمد (ش المنتهى). (¬3) أي فلا يضمن. (¬4) أي أحاديث موضوعة (عبد الغني) والمراد ما يروج على الناس. أما الكتب التي فيها بيان الوضع في الأحاديث فليست مرادة. (¬5) ما بين القوسين مقدم في (ف) بعد نصّ المتن هنا، ومؤخر في (ب، ص). ولم نجد العبارة =

باب الشفعة

باب الشّفعَة وهي شرعاً استحقاقُ الشريكِ انتزاعَ حصةِ شريكِه ممن انتقلت إليه بعوضٍ ماليٍّ إن كان المنتقَل إليه مثل الشريكِ أو دونه (¬1). (لا شفعة لكافرٍ على مسلمٍ). (وتثبث) الشفعة (للشريك فيما انتقل عنه مِلْك شريكِهِ بشروطٍ خمسة): (أحدها: كونه) أي الشِّقْصُ المنتقِلُ عن الشريك (مبيعاً) لأن الشفيع يأخذه بمثل الثَّمن الذي انتقل به، ولا يمكن هذا في غير المبيع، وإنما أُلْحِقَ بالبيع الصلحُ بمعناه، والصلحُ عن الجناياتِ الموجبةِ للمالِ، والهبةُ المشروطُ فيها ثوابٌ معلوم، لأن ذلك كلّه بيعٌ في الحقيقة، لكن بألفاظٍ أُخَر، (فلا شفعةَ فيما انتقل ملكُه عنه بغير بيعٍ) كصداق، وعوضِ خلعٍ، وصلحٍ عن قَوَدٍ، ولا فيما أخذه أجرةً، أو ثمناً في سَلَم، أو عوضاً في كتابة. (الثانى) من شروط الشفعة: (كونه) أي الشقص المبيع (مشاعاً) أي غير مُفْرَزٍ، وكونه (من عقارٍ) ينقسم إجباراً على من لم يطلب القِسْمة ¬

_ = في شرح المنتهى، فتقديمها هو الصواب. (¬1) أي مثله في الدين بأن كانا مسلمين أو كافرين، أو دونه بأن كان من انتقلت إليه كافراً والمنتزع مسلماً.

ممن له فيه جزء (فلا شفعةَ للجارِ) في مقسومٍ محدودٍ، ولا فيما لا تجب قسمته، كحمامٍ صغيرٍ، وبئرٍ وطريقٍ وعِرَاصٍ ضيقة، (ولا فيما ليس بعقارٍ كشجر) وحيوان (وبناء مفردٍ وجوهرٍ وسيفٍ وسكينٍ وزرعٍ وثمرٍ) وكل منقولٍ (¬1) (ويؤخذ الغراس والبناء تبعاً للأرض)، قال في "المغني": بغير خلافٍ في المذهب، ولا يعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلاف. (الثالث) من شروط الأخذ بالشفعة: (طلَبُ الشفعةِ ساعةَ يعلم) بالبيع، وإلاّ بطلَتْ (فإن أخر) الشفيعُ (الطلبَ لغير عذرٍ سقطت،) ولعذرٍ كشدةِ جوعٍ وعطش حتى يأكل أو يشرب، أو لطهارةٍ، أو إغلاقِ باب، أو لِيخرجَ من حمامٍ، أو ليقضيَ حاجَتَهُ، أو ليؤذِّنَ أو يقيم، أو ليشهدَ الصلاةَ في جماعةٍ يخافُ فَوْتها، ونحوه، إلا أن يكون المشتري حاضراً عنده في هذه الأحوال إلا الصلاةَ، أو أخَّر الطلبَ والإشهادَ عليه عجزاً، كمريضٍ ومحبوسٍ ظلماً، أو لإظهار زيادة ثمنٍ، أو نقصِ مبيعٍ، أو هبةٍ، أو أنَّ المشتريَ غيرُه، أو لتكذيبِ مُخْبِرٍ لا يُقْبَلُ خبرُه، فعلى شفعته، لأنه إما معذورٌ وإما غيرُ عالم بالحالِ على وجهِهِ، كما لو لم يعلمْ مطلقاً. وتَسقط إن كذَّبَ مخبراً مقبولاً. (والجهلُ بالحكمِ عذرٌ)، قال في الإقناع: فإن أخَّر الطلب مع إمكانه ولو جهلاً باستحقاقه أو جهلاً بأن التأخير مسقط لها ومثله لا يجهله وسقطت (¬2). ¬

_ (¬1) ولكن ليس ذلك متفقاً عليه، بل في المذهب أقوال تثبت الشفعة في ما لا ينقسم إجباراً وفي الغراس والبناء ولو بيع منفرداً. وعنه في كل مال حاشاً منقولاً ينقسم وأثبتها ابن تيمية. للجار مع الشركة في الطريق (عبد الغني - بتصرف). (¬2) فتحصل في شرح عبارة المتن أنه إذا أخر الطلب جهلاً بأن التأخير يسقط الشفعة -ومثله يجهله- لم تسقط، لأن الجهل مما يعذر به، أشبه ما لو تركها لعدم علمه بها (منار السبيل).

(الرابع) من شروط الأخذ بالشفعة: (أخذُ جميع) الشقصِ (المبيعِ) لئلا ينضرَّ المشتري بتبعيضِ الصفقةِ في حقّهِ بأخذ بعض المبيع، (فـ) لهذَا (إن طلب) الشفيعُ (أخذَ البعضِ) أي بعض الشقصِ المبيع دون باقيهِ (مع بقاءِ الكلِّ) أي كل المبيع (سقطتْ) شفعتُهُ. وإن تلف بعضُه أخذَ باقيه بحصّته من ثمنه. (والشفعة بين الشفعاءِ على قدر أملاكهم) لأن ذلك حق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الأملاك، كالغلّة، فدارٌ بين ثلاثةٍ: نصف، وثلث، وسدس، فباع رب الثلث، فالمسألة من ستة: الثلث يقسم على أربعة: لصاحبِ النصف ثلاثةٌ، ولصاحب السدس واحد. (الخامس) من شروط الأخذ بالشفعة: (سَبْقُ ملكِ الشفيع لرقبة العقارِ) أي سبق ملكِهِ لجزءٍ من رقبةِ ما مِنْهُ الشقصُ المبيعُ على زمنِ البيع، لأن الشفعة ثبتت لدفعِ الضرر عن الشريك، فإذا لم يكن له مِلِكٌ سابقٌ (1) فلا ضرر عليه، (فلا شفعةَ لأحدِ اثنينِ اشتَرَيَا عقاراً معاً) أي صفقةً، على الآخر، لأنه لا مَزِيَّة لأحدهما على الآخر، لاستوائهما في البيع في زمنٍ واحدٍ، لأن شرط الأخذ سَبْقُ الملك، وهو معدوم هنا. (وتصرُّف المشتري) في الشقصِ المشفوعِ (بعد أخذِ) أي طلبِ (الشفيعِ بالشفعة باطل) لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب في الأَصحّ. (و) تصرّف المشتري في الشقص (قبله) أي قبل الطلبِ، بوقفٍ، أو هِبَةٍ، أو صدقة، أو بما لا تجب به شفعةٌ ابتداءٌ، كجعله مهراً، أو عوضاً في خلع، أو صلحاً عن دم عمدٍ (صحيحٌ) مسقطٌ للشفعة. (ويلزم الشفيعَ أن يدفعَ للمشتري الثمنَ الذي وقع عليه العقد، فإن كان) الثمن (مثليًّا) فيُدْفَعُ له (مثله أو) كان الثمن (متقوّماً فـ) يدفع (قيمتَهُ) والمراد به قيمتُهُ وقتَ الشراءِ، لأنه وقتُ استحقاقِ الأخذ. (فإن جُهِلَ الثمن) أو

قدرُه، كما لو كان صُبْرَةَ نقدٍ فتلفت، أو اختلطت بما لا تتميّز عنه (و) الحال أنه (لا حيلةَ) في ذلك على إسقاط الشفعة (سقطت الشفعة،) كما لو علم قدرَ الثمنِ عند الشراءِ ثم نسي، لأن الشفعة لا تُستحَقُّ بغير بدل (¬1) ذلك، ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدّعيه. فإن اتّهَمَهُ حلَّفه. (وكذا) تسقط الشفعة (إن عجز الشفيع ولو عن بعض الثمن،) لأن في أخذِهِ بدونِ دفع جميع الثمن إضراراً بالمشتري، ولا يُزال الضرر بالضرر، (وانتُظِرَ ثلاثةَ أيام، ولم يأتِ به) أي بلياليهن. قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، حتى يثبت عجزُه. نص عليه. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "لا تستحق بغير ذلك". وفي (ف): "لا تستحق لا تختلف بغير بدل" والتصويب من شرح المنتهى.

باب يذكر فيه أحكام (الوديعة)

باب يذكر فيهِ أحكَام (الوَديعَة) وهي فَعِيلَةُ من وَدَعَ الشيءَ، إذا تركه، لأنها تكون متروكةً عند المودَعَ. (يشترط لصحتها كونُها من جائزِ التصرُّفِ لمثله) أي: جائِز التصرف، (فلو أُودَعَ) إنسانٌ جائزُ التصرُّفِ (مالَه لصغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ (¬1)) أو قنٍ (فأتلفه) الصغيرُ أو المجنونُ أو السفيهُ أو القنُّ (فلا ضمانَ) عليهم، ولا على أوليائِهمْ، ولو فرّطوا، لأن المالك هو المفرِّطُ في مالِهِ بتسليمِه إلى أحد هؤلاءِ. هذا في مسألة التلف. وأما مسألة الإتلاف، فإنه يُضْمَنُ ما أتْلَفَ مكلف غيرُ حرٍّ في رقبته. (وإن أودعَهُ) أي أودع جائِزَ التصرف (أحدُهم) فاعلُ أوْدع، شيئاً (صار) المودَعُ (ضامناً). (ولا يبرأ إلا بردّه) أيْ رَدِّ المودَعِ الشيءَ (لوليّهِ) الناظرِ في مالِهِ، كما لو كان عليه له دينٌ في الذمة. ويضمنها إن تلفَتْ، ما لم يكن الصغيرُ مأذوناً له في الإيداع، أو يخفْ هلاكَها معه إن لم يأخذها منه. ¬

_ (¬1) إلحاق السفيه بالرشيد في هذا أقرب إلى الصواب (عبد الغني).

[حفظ الوديعة]

[حفظ الوديعة] (ويلزمُ المودَعَ) بفتح الدال (حفظُ الوديعةِ في حرز مثلها) عرفاً، لأن الله تعالى قال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا} ولا يمكن أَداؤُها إلا بحفظِها. وحِرْزُها كحرزِ سَرقَةٍ. (بنفسِهِ، أو بمن يقوم مقامه كزوجته وعبده) وخازنِهِ. (وإن دفعها المودَعُ (لعذرٍ) كمنْ حَضَرَهُ الموتُ، أو أراد سفراً وليس السفر حفظاً لها، (إلى أجنبيٍّ) ثقةٍ، فتلفتْ، (لم يضمن) لأنه لم يتعد، ولم يفرِّط. وإن لم يكن له عذرٌ حين دفعها إلى الأجنبيِّ ضمن. (وإن نهاه مالكُها عن إخراجِهِا من الحرْزِ، فأخرجها) المودَعُ منه (لطَرَيَانِ) أي حصول (شيءٍ الغالبُ منه الهلاكُ) كالنهب، والحريق، فتلفت في المحلِّ المنقول إليه (لم يضمن) المودَعُ بنقلها شيئاً إن وضعها في حرز مثلِها أو فوقه. فإن تعذّر عليه إحرازها بمثل الحرز الأول، فأحرزها في دونهِ، لم يضمنها. (وإن تركها) مع غِشْيانِ ما الغالبُ منهُ الهلاكُ بالمكان الذي هي به (ولم يخرجها، أو أخرجها) منه (لغير خوفٍ،) -ويحرمان (¬1) - فتلفت بالأمر المخوف أو غيره (ضمِن). (فإن قال له) مالكها: (لا تخرجْها ولو خفت عليها، فحصل خوفٌ وأخرجَهَا) خوفاً عليها، (أوْ لا) أي: أو لم يخرجها مع حصول الخوف، فتلفت مع إخراجها أو وتركها، (لم يضمن) لنهي (¬2) مالِكِها عن إخراجها ¬

_ (¬1) أي يحرم كلا الأمرين: تركها بالحرز مع الخوف عليها فيه لحريق ونحوه، وإخراجها منه بدون الأمر المخوف. (¬2) في الأصول: "لأن نهي مالكها ... الخ" ولا يستقيم ذلك. فصححناها هكذا. ولأنه إن أخرجها فقد زاد صاحبها خيراً.

فصل

معَ خوفِ الهلاكِ فيه، فيكون مأذوناً في تركها في تلك الحالِ، فلم يضمنْ، لامتثالِهِ أمْرَ صاحِبها. (وإن ألقاها عند هجومِ ناهبٍ ونحوِهِ) كقطّاع الطريقِ (إخفاءً لها لم يضمن) لأن هذا عادةُ الناسِ في حَفظ أموالهم. (وإن لم يعلفْ) أو يَسْقِ المودَعُ (البهيمةَ) المودَعَة (حتى ماتتْ) جوعاً أو عطَشاً (ضمنها،) لأن العَلْفَ من كمال الحفظ الذي التزمه بالاستيداع، لا إن نهاه مالِكُها عن علْفها فتركه حتى ماتت، فإنه لا ضمانَ عليه لمالكها. ويحرُمُ ترك عَلْفِها مطلقاً. فصل (وإذا أرادَ المودَع السفر) أو لم يُرِدْ سفراً، وخاف عليها عنده من غرَقٍ أو نهبٍ أو نحوِهما (ردّ الوديعةَ، إلى مالِكِها، أو إلى من يحفظُ مَالَه) أي مال مالِكِها (عادةٌ، أو إلى وكيله) أي وكيلِ مالِكِها إن كان. (فإن تعذَّرَ) بأن لم يجد الذي عنده الوديعةُ مالِكَها ولا وكيلَه، (ولم يخف عليها مَعَهُ في السًفَر سافَرَ بها، ولا ضمان). (فإن خافَ عليها دَفَعَها للحاكم) المأمونِ. (فإن تعذَّر) الحاكم (فلِثقةٍ) أي فليدفعها لثقةٍ. (ولا يضمنُ مسافرٌ أُودِعَ) في سفره وديعةً، (فسافَرَ بها، فتلفت بالسَّفَر) لأن إيداعَ المالكِ في هذهِ الحالةِ يقتضي الإِذن في السفر بالوديعة. (وإن تعدّى المودَعُ في الوديعةِ بأن) كانتْ دابّةً فـ (ركبها لا لِسَقْيِها، أو) كانت ثياباً فـ (لبسها لا لخوفٍ من عِثٍّ) -جمعُ عُثَّة بضمّ العين المهملة، سُوسَةٌ تَلْحَسُ الصوف- ويضمن إن لم ينشرها، (أو أخرجَ

فصل

الدراهمَ) المودعَةَ (لينفقها، أو لينظُرُ إليها، ثم ردّها) إلى وعائها ولو بنيّةِ الأمانة، أو كَسَرَ خَتْمَها، (أو حلَّ كيسَها فقط) أي من غير إخراجٍ لها، (حرُمَ عليه) ذلك (وصار ضامناً، ووجب عليه ردُّها فوراً، ولا تعودُ أمانَةٌ بغير عقدٍ متجدَّدٍ). قال ابن رجب في القاعدة الخامسة والأربعين: "إذا تعدَّى في الوديعةِ بطلتْ، ولم يجزْ له الإمساكُ ووجب الرد على الفورِ". ولأنّها أمانةٌ محصنةٌ، وقد زالتْ بالتعدِّي، فلا تعودُ بدون عقدٍ متجدّدٍ. (وصحّ) قول المالكِ للمودَعِ: (كلّما خُنْتَ ثم عُدْتَ إلى الأمانة فأنت أمين.) فصل (والمودَعُ أمينٌ) لأنّ الله تعالى سماها أمانةً بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (لا يضمن إلا إن تعدَّى أو فرَّطَ أو خانَ) في الوديعة. (ويُقْبَلُ قوله) أي المودع (بيمينهِ في عدم ذلك) أي عدمِ التعدي والتفريطِ والخيانةِ. (و) يقبل قوله بيمينه (في أنها تلفت، أو أنكَ أذنْتَ لي في دفعها لفلانٍ وفَعَلْتُ) أي ودفعتُها إليه، مع إنكار المالك الإِذن في دفعها. نصَّ عليه أحمد. وهو من المفردات. ووجهُ ذلك أنه ادّعى دفعاً يبرأُ به من الوديعة، فكان القولُ قولَه فيه، كما لو ادعى ردَّها على مالكها. (وإن ادّعى الردَّ بعد مَطْلِهِ) أي تأخير دفعها إلى مستحِقِّها (بلا عذرٍ، أو ادّعى ورثتُهُ) أي ورثةُ المودَع (الردّ) ولو لمالكٍ (لم يقبلْ إلا ببيّنةٍ) أمّا كون ورثة المودَع لا يقبلُ قولُهُمْ في الدفع إلى المالِكِ ولا إلى غيرِه إلا ببيّنةٍ فلأنهم غير مؤتمنين عليها من قبل مالِكِها.

(وكذا كلُّ أمينٍ). (وحيث أخَّر ردَّها) أي الأمانة، أو أخّر مالاً أُمِرَ بدفعِهِ (بعد طلبٍ) من مستحقِّه، (بلا عذرٍ) في التأخير، (ولم يكنْ لحملها مؤنةٌ ضمن) المؤخِّرُ لكونهِ أَمْسَكَ مال غيرِهِ بغير إذنِهِ بفعلٍ محرّمٍ، أشبَهَ الغاصبَ. ويُمْهَلُ لأكلٍ، ونومٍ، وهضمِ طعامٍ، ونحوه. (وإن أُكْرِهَ) مودَعٌ (على دَفْعِها) أًي الوديعة، (لغيرِ رَبِّها، لم يضمن) كما لو غُلِبَ على أخذِها منهُ قهراً، لأن الإكراه عذرٌ يبيح له دفعها. (وإن قال) شخص عن آخر: (له عندي ألفُ وديعةً، ثم قال) المُقِرّ: (قَبَضَهَا) مني، (أو تلفَتْ قبل ذلك، أو) قال: (ظننتُها) أي الألف (باقيةً ثم علمتُ تَلَفَها، صُدِّقَ بيمينه،) لأنها إذا ثبتت الوديعة ثبتت أحكامُها. (ولا ضمان). (وإن قال: قبضتُ منه ألفاً وديعةً، فتلفت) الألفُ، (فقال) المُقَرُّ له: (بل) قبضتَها مني (غصباً، أو) قبضتها مني (عاريةً، ضَمِنَ) ما أقرّ به.

باب إحياء الموات

باب إحيَاء الموَات وهو مشتقٌّ من الموت. والموَات في اصطلاح الفقهاء (هي الأرضُ الخرابُ الدارِسَةُ التي لم يَجْرِ عليها ملكٌ لأَحدٍ، ولم يوجد فيها أَثرُ عمارة، أو وُجِدَ فيها أثر مِلكٍ وعمارةٍ). قال في "المغني": بغير خلافٍ بين القائلين بالإحياء. انتهى. وإن تردّد في جَرَيَانِ الملك عليهِ، أو كان به أثَرُ ملكٍ غير جاهليٍّ (كالِخرَب التي ذهبت أنهارُها واندرَسَتْ آثارُها ولم يُعْلَم لها مالك) أي لم يعلمَ أنها الآن مملوكة لأحد، أو كان بها أثرُ مِلْكٍ جاهليٍّ قديمٍ، أو أَثرُ ملكٍ جاهليٍّ قريبٍ. (فمن أحيا شيئاً من ذلك، ولو كان) المحيي للأرضِ (ذمِّيًّا، أو) كان الإحياءُ (بلا إذنِ الإمامِ، ملكه.) وحيثُ قلنا بملك المحيي لما أحياهُ فإنه يملكه (بما فيه من معدنٍ جامدٍ) باطنٍ (كذهبٍ وفضّةٍ وحديدٍ) ونُحاسٍ ورصاصٍ، (و) من معدنٍ جامدٍ ظاهرٍ كـ (كحُلٍ) وزَرْنِيخٍ وكِبريتٍ، لأنه مَلَكَ الأرضَ بجميع أجزائِها وطبقاتها، وهذا منها، فدخل في ملكه على سبيل التبعية. ويفارقُ الكنزَ، فإنه لا يملك ما فيها من كنزٍ، لأنه مَوْدُوعٌ فيها، وليس من أَجْزَائِها.

[فيما يحصل به الإحياء]

(ولا خراجَ عليه) أي على من أحيا أرضاً عَنْوَةً (إلا إن كَانَ المُحْيي (ذميّاً،) فعليه الخراج، لأنها للمسلمين، فلا تُقَرُّ في يد غيرِهِمْ بدونِ خراجٍ، كغيرِ المَوَاتِ. فأمَّا غَيْرُ العنوةِ، وهي أرضُ الصُّلحِ، وما أسلَمَ أهله عليه، إذا أحيا الذِّمِّيُّ فيه مواتاً فكالمسلم. و (لا) يدخل في مِلكِ المحيي (ما فيه) أي ما في المُحْيا (من معدِنٍ جارٍ، كنفطٍ وقارٍ) وملحٍ بل يكون أحقَّ به. (ومن حفرَ بئراً بالسابلة ليرتَفِقَ بها كالسفارة) والمنتجعين يحفرون البئر (لشربِهِمْ و) شربِ (دوابّهم، فهم) أي المحتفرون (أحقُّ بمائها) أي ماءِ البئرِ التي احتفروها (ما أَقاموا) أي مدة إقامتهم عليها، يعني أنّهم لا يملكونها. ووجهه أنهم جازِمُونَ بانتقالِهِمْ عنها وتركِهَا لمن ينزل منزلتهم. بخلاف الحافِرِ للتملُّك. (وبعد رحيلهم) أي رحيلِ الحافرين لها (تكونُ) البئرُ (سبيلاً للمسلمين،) لأنه ليس أحدٌ ممن لم يحفرْها أولى بها من الآخر. (فإن عادوا) أي الحافرونَ لها (كانوا أحقّ بها من غيرِهِمْ) لأنهم لم يحفِرُوها إلا من أجلِ أنفسهم، ومن عادَتِهِمُ الرحيلُ والرجوعُ، فلم تَزُلْ أحقّيتهم بذلك. فصل [فيما يحصل به الإِحياء] (ويحصل إحياءُ الأرض المواتِ إما بحائطٍ منيعٍ) سواءٌ أرادَها للبناء، أو للزرع، أو حظيرة للغنمِ أو للخشب، أو غيرها. نص عليها. والمراد بالحائط المنيع أن يمنع ما وراءه. ولا يعتبر مع ذلك تَسْقِيفٌ.

(أو إجراء ماءٍ) بأن يسوق إليها ماءً من بئرٍ أو نهرٍ (لا تُزْرَعُ إلا به) أي بالماء المسوق إليها، أو مَنْع ماءٍ لا تزرع معه، (أو غَرْس شَجَرٍ) في الأرض الموات، كما لو كانت لا تَصْلُحُ للغراسِ، لكثرةِ أحجارها، أو نحوها فينقّيها ويغرسها، (أو حَفْر بئرٍ) أو نهرٍ (فيها). (فإن تحجّر مواتاً، بأن أدار حولَهُ أحجاراً،) أو تُرَاباً، أو شوكاً، أو حائطاً غيرَ منيع، (أو حَفَرَ بئراً لم يَصِلْ ماءَها (¬1)، أو سقى (¬2) شجراً مباحاً كزيتونٍ، ونحوِهِ، أو أصلحه ولم يُرَكِّبْهُ) (¬3) كما لو حَرَثَ الأرْضَ، أو خَنْدقَ حولَها، أو أقْطَعَهُ له الإِمامُ ليُحيِيَهُ فلم يُحْيِه، (لم يملكه) بذلك، لأنّ الملك إنما يكونُ بالإِحياء، ولم يوجد، (لكنه أحقُّ به من غيرِهِ. و) كذا (وارثُهُ بعده) يعني أنه يكون أحقّ به من غيره. (فإن أعطاهُ) أي المحيي المحيا (لأحدٍ) غيرِهِ (كان له) أي إذا نَزَلَ شخصٌ عن أرضٍ خراجيةٍ (¬4) لآخَرَ فيكونُ المنزولُ له أحقّ بها وَوَرَثَتُهُ من بعده، وليس للِإمام أخذُها منه. وكذا النزولُ عن الوظائِفِ (¬5) إذا كان المنزولُ له أهلاً. (ومن سَبَقَ إلى مباحٍ) فأخذه (فهو له، كصيدٍ، وعَنْبَرٍ، ولؤلؤٍ، ¬

_ (¬1) في الأصول ومنار السبيل: "ماؤها". والتصويب من شرح المنتهى. (¬2) في الأصول ومنار السبيل وشرح المنتهى: سقى. قال الحجاوي: قوله "سقى" كذا مكتوب في نسخ التنقيح وكل من نقل عنه. وهو تصحيف وغلط من الكاتب وصوابه "شَفَّى" أي قطع من الشجر الأغصان الكبيرة القديمة ليستخلف أغصانا جديدة (عبد الغني). (¬3) التركيب بلسان أهل فلسطين وبلاد الشام التطعيم، بأن يدخل برعمًا من شجرة تحت لحاء غُصن من شجرة أخرى، فينبت ويكون له ثمر. وذلك كتركيب التفاح على السفرجل، والمشمش على اللوز. وقد يكون التطعيم بطرق أخرى. (¬4) هذه مسألة أخرى غير المذكورة في المتن. فإن المذكور فيه: الأرض المحياة وليس عليها خراج. ولذلك لا يصح أن يجعلها تفسيراً لمسألة المتن. ومع هذا فإن ما ذكره في مسألة الأرض الخراجية صحيح. وانظر شرح المنتهى. (¬5) هذا في النزول عن الوظائف الموقوف عليها. لا في الوظائف الرسمية ونحوها.

ومرجانٍ، وحَطَبٍ، وثَمَرٍ) ومِسْكٍ وعَسَلِ نحلٍ، وطَرْفَاءٍ، وقَصَبٍ، وغير ذلك من النبات (ومَنْبُوذٍ رَغْبَةً عنه) كعظْم به شيءٌ من لحم رُغِبَ عنه، ونثَارٍ في عرس، ونحوه، وما يتركه الحصَّادُ من الزرع. (والمِلْكُ مقصورٌ فيه على القدْرِ المأخوذ) فلا يملِك ما لا يحوزه، ولا يمنَعُ غيرَهُ منه. وإن سبق إليه اثنان قُسِمَ بينهما.

باب الجعالة

باب الجُعَالَة بتثليث الجيم. (وهي الجعالةُ شرعاً (جَعْلُ) أي تسميةُ (مالٍ معلومٍ) إن كان من مالِ مسلمٍ لا إن كان من مال حربيٍّ، فإنه لا يشترطَ فيه العلم، (لمن) متعلقٌ بجعلٍ (يَعْمَلُ له) أي للجاعل (عملاً مباحاً، ولو) كان العملُ (مجهولاً) كمن خاط لي ثوباً فله كذا، أو مدة ولو مجهولة (¬1) (كقوله: من ردَّ لُقَطَتي، أو: بني لي هذا الحائط، أو: أذَنَ بهذا المسجد، شهراً (¬2)، فله كذا) أو: من فَعَله ممن لي عليهم الدينُ، فهو بريء من كذا؛ (فمن فعل العَمَل) المجعولَ عليه الجُعْلُ (بعد أن بَلَغَهُ الجعل استحقَّه كله) لأن العقد استقرَّ بتمام العملِ، فاستَحَقَّ ما جُعِلَ، له كالربح في المضاربة. (وإن بَلَغَهُ) الجَعْلُ (في أثناءِ العمل استحق حِصَّة تَمَامهِ) أي إن أتمه بنيّةِ الجُعْل فإنه يستحق من الجعل بقِسْطِ ما بقي من العمل فقط، لأن عَمَلَهُ قبل بلوغِهِ الجعلُ وقع غير مأذونٍ فيهِ، فلم يستحقّ عنه عِوَضاً، لأنه بَذَلَ منافعه متبرعاً. ¬

_ (¬1) في شرح المنتهى "أو لمن يعمل له مدة ولو مجهولة" فاختصار الشارح مُخِلٌّ. (¬2) أي تصح الجعالة في هذه، ولكن لا يصح أخذ الأجرة عليها لأنها لا تقع إلا قُرْبَةً.

(و) إن بَلَغَهُ الجَعْلُ (بعد فرِاغ العمل لم يستحقّ) العاملُ (شيئاً). (وإن فَسَخَ الجاعلُ) بعد شروعِ عاملٍ في العملِ، (قبل تمامِ العمل، لَزِمَهُ) أي الجاعل (أجرةُ المِثْلِ)، لأنَّه عَمِلَ بعوضٍ، فلم يسلّمْ له، فكان له أجرة مثله. وعُلِمَ مما تقدّم أنه إذا عمل شيئاً بعد الفسخ أنه لا أُجرة له، لأنه عملٌ غير مأذونٍ فيه. (وإن فَسَخَ العامِلُ) قبل تمام العمل (فلا شيءَ له،) لأنه أسقط حقّ نفسِهِ، حيثُ لم يأتِ بما شُرِطَ عليه، كعاملِ المضاربة. (ومَنْ عَمِلَ) مِنْ مُعِدٍّ لآخذ الأجرةِ، كالملاّح والمُكارِي والحجّام والقصّار والخيّاط والدلاّل والكيّال والوزّان (لغيرِهِ عملاً) مما ذُكِرَ ونحوِهِ (بإذنه) أي بإذن ربه (من غير) تقديرِ (أجرةٍ أو جُعَالَةٍ فله) أي العامل (أجرةُ المثل،) لدلالة العُرْفِ على ذلك. (و) من عمل لغيره عملاً (بغيرِ إذنه فلا شيءَ له) لأنه بَذَلَ منفعته من غير عِوَضٍ، فلم يستحقه، ولئلا يلزم الإِنسانَ ما لم يلتزمْهُ ولم تطبْ نفسه به، (إلاَّ في مسألتين): (إحداهما: أن يُخَلِّصَ متاعَ غيرِهِ) ولو قناً (من مَهْلَكَةِ) بحرٍ أو فلاةٍ يُظَنُ هلاكُه في تركِهِ، (فله أجرةُ مثله). (الثانية: أن يردّ رقيقاً آبقاً) من قنٍّ، أو مدبرٍ، أو أمِّ وَلَدٍ إن لم يكن الرادُّ الإِمام، (لسيّدِهِ، فله ما قدّرَهُ الشارع) في ردّه، (وهو) أي ما قدره له الشارع (دينارٌ أو اثنا عَشَرَ درهماً) سواء ردّه من داخل المِصْرِ، أو خارجِهِ، قربت المسافةُ أو بَعُدَتْ، وسواءٌ كان يساوي المقدارَ أوْ لا، وسواء كان الرادُّ زوجاً للرقيق، أو ذا رَحِمٍ. وإن مات السيّد قبل وصولِ المدبّر وأمّ الولد عَتَقَا، ولا شيءَ لرادِّهِمَا.

باب اللقطة

باب اللُقَطَة وهي مال أو مختصٌّ، كخمرة الخلاّل، ضائعٌ أو ما في معناه، كالمتروكِ قصداً، كالمالِ المدفونِ لغير حربيٌّ. ومن أُخِذَ متاعهُ وتُرِكَ بَدَله فلقطة. (وهي) أي اللقطة (ثلاثة أقسامٍ): قسم يجوز التقاطه وُيمْلَكُ به، وقسْم لا يجوزُ التقاطه، ولا يُمْلَك بتعريفه، وقسم يجوز التقاطه، ويُمْلَكُ بتعريفه. (أحدها: ما لا تَتْبَعُه هِمَّةُ أوساطِ الناسِ) يعني ما لا يَهُمُّونَ في طلبه. قال في القاموس: والهِمَّة، بالكسر وتُفْتَح، ما همّ به من أمرٍ ليُفْعَل. انتهى. وذلك (كسوطٍ) وهو الذي يُضْرَبُ به، وفي شرح المهذّب: هو فوقَ القضيبِ ودونَ العَصَا. (ورغيفٍ) وتمرة، وكلَّ ما لا خَطَرَ له، كخرقةٍ وحبلٍ لا تتبعه الهمَّة، (ونحوهما) كشِسْعٍ (¬1)، (فهذا يُمْلَكُ بالالتقاط) ويباحُ الانتفاعُ به، لما رَوَى جابرٌ قال: "رخص النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في العَصَا والسَّوطِ والحَبْلِ يلتَقِطُهُ الرجل ينتفع به." (¬2) رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) أي شِسْعُ النعلِ، وهي الخيط الذي تربط به. (¬2) حديث "رخَّصَ في العصا والسوط ... " قال في (الإِرواء ح 1559): قال البيهقي: في رفع هذا الحديث شك، وفي إسناده ضعف. اهـ.

(ولا يلزم تعريفه). (لكن إن وَجَدَ ربَّه) الذي سقط منه (دَفَعَهُ) له وجوباً (إن كان) ما التقطه (باقياً، وإلا) بأن تلف (لم يلزَمْهُ) أي الملتقطَ (شيءٌ). (ومن ترك دابَّته تَرْكَ إياسٍ بمَهْلَكَةٍ أو فلاةٍ لانقطاعها) بعجْزِها عن المشي، (أو بعجزِهِ) أي مالكها (عن عَلْفِهَا) بأن لم يجد ما يعلِفُها، فترَكَها (ملكها آخذُها) قال في "المغني": ومن تَرَكَ دابَّةً بمهلكةٍ فأخَذَها إنسانٌ فأطعمها وسقاها وخلّصها مَلَكَها، وبه قال الليْثُ والحسنُ بن صالحٍ وإسحاق، إلاَّ أن يكون تَرَكَها ليرجِعَ إليها، وضلَّت عنه. (وكذا) أي وكالقول فيما تقدم من كون آخِذِه يملكُه بأَخذه يقال فيـ (ــما يلقى في البحر) من سفينةٍ (خوفاً من الغرق) أي من أجل ذلك، لأن هذا مالٌ ألقاه صاحبه، فيما يتلَفُ بتركِهِ فيه اختياراً منه، فَمَلَكَهُ من أخَذَهُ، كالذي ألقاه رغبةً عنه. والقسم (الثاني)، من أقسام اللقطة، وهو الذي لا يجوز التقاطُهُ، ولا يُملك بتعريفِهِ (الضوالّ التي تمتنع عن صغارِ السباع) كالأسَد الصّغير، والذئبِ وابن آوى: وامتناعُها إما لكِبَرِ جُثَّتها (كالإبل والبَقَر، والخيل، والبغالِ، والحمير الأهلية (¬1)، و) إما لسرعةِ عَدْوِها أي ركضها (كالظباء،) وإما لطيرانها كالطير، وإما بِنَابِها كفهد. (فـ) غير الآبق (¬2) (يحرم التقاطها) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ضالة الإِبل: "مالَكَ وَلَها؟ دَعْها، فإنَّ معَها حذاءها" أي أخفافَهَا "وسقاءَهَا" أي فمها "تَرِدُ الماءَ، وتأكُلُ الشَّجَرَ، حتّى يَجِدَها رَبها" (¬3). ¬

_ (¬1) الحمير الأهلية لا تمتَنع من الذئب ونحو ولا تصبر على الظمأ كما تصبر الإبل. ولذلك مال الشيخ في المغني إلى أنه يجوز التقاطها. (¬2) في (ب، ص): "فغير الإبل" والتصويب من (ف) وشرح المنتهى. أما العبد الآبق فقد تقدم في الجعالة حكم ردّه إلي صاحبه. (¬3) حديث "ما لك ولها ... " متفق عليه. وتفسير الشارح "سقاءها" بفمها، فيه نظر، والأولى =

(وتُضْمَنُ، كالغصب،) ولو كان الملتقطُ لها الإِمامُ أو نائِبُهُ إذا أخذَها على سبيلِ الالتقاط، لا على سبيل الحفظ. (ولا يزول الضَّمانُ) أي ضمان ما حَرُمَ التقاطه، عن آخِذِهِ (إلا بدفعها للِإمام أو نائبِهِ) لأن للِإمام النَّظَرَ في ضوالِّ الناس، فيقومُ مقامَ المالِكِ، (أو يردَّها) أي اللقطةَ المذكورة (إلى مكانها بإذنه) أي الإِمام أو نائِبِهِ. (ومن كَتَم شيئاً منها) أي مما لا يجوز التقاطه، عن ربِّه، ثم أقرَّ بِهِ (أو قامت به بينة، فتلف، لزمه قيمتُهُ) أي المتلقطَ الذي لا يجوز التقاطه (مَرتَيْنِ) لربَهِ. قال في المحرر: ومن التقطَهُ وكَتَمَهُ حتى تلف، ضمنه بقيمته مَرَّتَيْنِ. (وإن تَبعَ شيءٌ منها) أي من الضوالَّ المذكورة (دوابَّهُ فَطَرَدهُ) فلا ضمانَ عليه، (أو دَخَلَ) شيءٌ (منها دارَهُ فأخرج، لم يضمنه حيث لم يأخذه) ولم تَثْبُتْ يَدُهُ عليه. القسم (الثالث) من أقسام اللَّقطة، وهو ما يجوز التقاطُهُ ويملك بتعريفِه المعتبر شرعاً (كالذَّهَبِ والفضَّةِ والمتاعِ) كالثِّيابِ والفُرُشِ والأواني وآلاتِ الحِرَفِ ونحوِهَا (وما لا يمتنع من صغارِ السِّباع كالغَنَمِ والفُصْلانِ) بضمّ الفاء وكسرها، جمع فَصِيلٍ، وهو ولد الناقةِ إذا فُصِلَ عن أُمهِ (والعجاجيل) جمع عِجْلٍ (¬1)، وهوَ وَلَدُ البقرة (والإِوَزّ والدجاج) والخشبةِ الصغيرة، وقطعة الحديد، والنحاس، والرصاص، والزّقِّ من الدُّهن أو العَسَل، والغِرَارَة من الحبّ (¬2) أو الورق، أو الكتُبُ، وما جرى مجرى ذلك، والمريضِ من الإِبل ونحوها كالصغير (فهذه يجوز التقاطُها ¬

_ = تفسيرُهُ بعظم بطونها، فإن الإبل تخزن من الماء ببطونها ما يكفيها أياماً. (¬1) يقال: عِجْلٌ، ويقال: عِجَّوْلٌ، ومن هنا جاء جمعه عجاجيل. (¬2) الغرارِةُ الجوالق (قاموس) يعني الكيس الذي توضع فيه الأمتعة.

فصل

لمن وَثقَ من نفسِهِ الأمانَةَ والقُدْرَةَ على تعريفها) ولا فرق في ذلك بين الإِمام وغيره. (والأفضلُ) للِإنسانِ (مَعَ ذلك) أي مع الأمانة والقدرة على تعريفها (تركُها) ولو وجَدَهَا بِمَضْيَعَةٍ، لأن في الالتقاط تعريضاً لِنفسِهِ لأكل الحرام، وتضييعِ الواجبِ من تعريفِها وأداءِ الأمانة فيها، فكان تركُ ذلكَ أولى وأَسْلَمَ، كوِلَايَةِ مالِ اليتيم (¬1). (فإن أخذها) أي اللقطةَ الملتقِطُ (ثم ردّها إلى موضِعِها) فتلفتْ (ضَمِنَ) فرط أو لم يفرّط، إلا أن يكون ردها إلى موضِعِها بإذن الإِمام أو نائِبِه، فلا يضمنها. فصل (وهذا القسم الأخيرُ) من أقسامِ اللَّقَطَةِ المتقدمِ ذكرُها (ثلاثةُ أنواعٍ): (أحدها: ما التقطه من حيوانٍ) مأكول كالفصيلِ والشاةِ والدجاجةِ، (فليزمه) أي الملتقطَ (خيرُ ثلاثة أمورٍ: أكلُهُ بقيمتِهِ) في الحالِ، والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عن الشاة فقال: "خذها فإنما هيَ لَكَ أو لأخيكَ أو للذَئب" فَجَعَلها له في الحال، لأنه سوّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يستأني بأكلها، ولأن في أكلِ الحيوان إغناءً من الإِنفاق عليه، وحِرَاسةً لماليّتِهِ على صاحِبِه، فإنه إذا جاء يأخذ قيمته بكمالها، (أو ¬

_ (¬1) وفي المذهب قول آخر، فقد ذهب أبو الخطّاب إلى أنه إذا وجدها بمضيعةٍ وأمن نفسه عليها فالأفضل أخذها. وهذا قول الشافعي. وله قول آخر: يجب أخذها (المغني 5/ 631) قلت: هذا أولى، كولاية مال اليتيم. فإن ترك مال اليتيم بدون ولاية إضاعة له، وقد ورد في كافل اليتيم ما ورد من الفضل.

بيعُهُ) أي الحيوان (وحفظُ ثمنه) ولو لم يأذن في ذلك الإِمام، لأنه إذا جاز أكلُهُ بغير إذنه فبيعُهُ أولى (أو حفظهُ وينفِقُ عليه) الملتقط (من مالِهِ) لما في ذلك من حفظِهِ على مالِكِهِ عيناً ومالاً. فإن ترك الإِنفاقَ عليه حتى تلف ضمنه، لأنه مفرّط. (وله) أي للملتقط (الرجوعُ) على مالِكِهِ إن وجده (بما أنفقَ إن نَوَاهُ) أي الرجوعُ، وإلاَّ فلا، (فإن استوتْ الأمورُ الثلاثة) في نظر الملتقط فلم يظهر له أن أَحَدَها أحظّ (خُير) بين الثلاثةِ لجوازِ كلٍّ منها، وعَدَمِ ظهورِ الأحظّ في أحدها. (الثاني): ما التُقِطَ (مما يُخْشى فسادُهُ) بتبقيته، كالبطيخ والخضراوات ونحوِهَا. (فيلزمه) أي الملتقط (فعلُ الأصلح من بيعِهِ) بقيمَتِهِ وحفْظِ ثمنه من غير إذنِ حاكمٍ لأنه مال أبيح للملتقط أكله، فأُبيحَ له بيعُه. وعنه يبيعُ اليسيرَ كمالِهِ، ويرفَعُ الكثيرَ للحاكم، (أو أكلِهِ بقيمته) لأن في كل منهما حفظاً لماليته على مالكِهِ، ويحفَظُ صفاتِهِ في الصورتين، ليدفع لمن وَصَفَهُ ثمنه أو قيمتَهُ (أو تجفيفِ ما) أي شيء (يجَفَفُ) كالعنب والرُّطَبِ، لأن ذلك أمانةٌ بيده، وفعل الأحظِّ في الأمانة متعيّنٌ. وإن احتاجَ في تجفيفِهِ إلى غرامةٍ باعَ بعضَهُ في ذلك. (فإن استوت الثلاثَةُ) في نظر الملتقط (خُيِّر) بينها فأيَّها فعل جاز له. وإن تَرَكَه حتى تلف ضمنه، لأنه فرّط في حفظ ما بيده أمانةً، كالوديعة. قال في "المغني": ويقتضي قول أصحابِنَا أن العُروضَ لا تُمْلَكُ بالتعريف أنّ هذا كلَّه لا يجوزُ له أكلُهُ، لكن يخير بين الصدقةِ بِهِ وبين بيعه. (الثالث: باقي المال) أي ما عدا الضَّرْبَينِ المذكورين من المالِ، كالأثمانِ والمتاع ونحوها، (ويلزمه) أي الملتقط (التعريفُ في الجميع)

من حيوانٍ وغيره، سواءٌ أراد الملتقطُ تملّكها أو حفظَها لصاحبها (فوراً) لظاهر الأمر، إذ مقتضاهُ الفورُ، ولأن صاحبها يطلبها عَقِبَ ضياعِهَا، فإذا عُرِّفت إذًا كان أقربَ إلى وصولها إليه (نهاراً) لأن النهارَ مجمعُ الناس وملتقاهم، (أولَ كل يومٍ) قبل اشتغالِ الناس في معايِشِهِمْ، (مدَّةَ أسبوع) أي سبعةَ أيام، لأن الطلب فيه أكثر. (ثم) يعرفها بعد الأسبوع (عادةً) أي بالنظر إلى عادةِ الناس في ذلكَ. (مدَّةَ حولٍ) كامل. وأول الحول من الالتقاط. (وتعريفها) أي صفته (بأن يناديَ عليها في الأسواق) عند اجتماع الناس (وأبوابِ المساجِدِ) أوقاتَ الصلواتِ، وكُرِهَ داخِلَها: (مَنْ ضاعَ منه شيء أو نفقة؟) قال في المحرر: ولا يَصِفُها، بل يقول: من ضاع منه شيء أو نفقة؟ وفي المغني: السادس (¬1) في كيفية التعريف: وهو أن يذكُرَ جنسَها لا غُير، فيقول: من ضاعَ منه ذهبٌ، أو فضةٌ، أو دنانيرُ، أو دراهم، أو ثيابٌ، ونحو ذلك. انتهى. لكن اتفقوا على أنه لا يصفها. (وأجرة المنادي على الملتقط) نصّ عليه، لأنه سببٌ في العمل، فكانت أجرته عليه، كما لو اكترى شخصاً يقلع له مباحاً. وإن أخّر التعريفَ عن حولِ التعريفِ أو بعضَه لغيرِ عذر أَثِمَ، ولم يملكها بالتعريف بعد الحول، كالتقاطِها بنيّةِ التملّك، أو لم يُرِدْ تعريفاً. وليس خوفُهُ أن يأخُذَها سلطانٌ جائِرٌ أو يطالِبَهُ بأكثر عذراً في تركِ تعريفها حتى يملكها بدونه. (فإذا عرّفها حولاً) كاملاً (ولم تعرف) فيه، وهي مما يجوز ¬

_ (¬1) السادس: أي من فصول صاحب المغني (3/ 634) في التعريف، فكان الأولى ترك نقل هذه اللفظة.

فصل

التقاطه، (دخلتْ في ملكِهِ قهراً عليه) غنيًّا كان الملتقط أو فقيراً. ولقطة الحرم كلُقَطَةِ الحلّ (¬1). (فيتصرّف فيها بما شاء بشرط ضمانِها) لربِّها إذا جاء ووصفها. فصل (ويحرم تصرُّفه) أي الملتقط (فيها) أي في اللقطة بعد التعريف (حتى يَعْرِفَ وِعَاءَهَا) وهو كيسُها ونحوُه، كالخرقة التي تكون مشدودةً فيها، أو القِدْرِ أو الزّقِّ الذي يكون فيه المائع، واللُّفافةِ التي تكون فيها الثياب، (و) حتى يَعْرِفَ (وِكَاءَهَا) أي اللقطة (وهو ما يُشَدُّ به الوعاء أي الكيس أو الزقُّ ونحوُهما، هل هو سَيْرٌ أو خيط؟ وهل هو من إبريسَم أو كتّان؟ (و) حتى يعرِفَ (عِفَاصَها) بكسر العين المهملة (وهو صِفَةُ الشّدّ) هل هو عقدة أو عقدتانٍ وأُنشُوطَةٌ أو غيرها، والأُنشُوطة قال في القاموس: كأنْبُوبة، عقدةٌ يسهل انحلالها كعقدة التَّكَّة، انتهى، (و) حتى (يعرف قَدْرَها) بالعدّ والوزنِ أو الكيلِ بمعيارِها الشرعي (وجِنسَها وصفتها) التي تتميّز بها من الجنس، وهي نوعُها ولونُها، والأصل في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن خالد: "إعرِفْ عِفَاصَها وَوِكَاءها ثم كُلْها" رواه والترمذي (¬2). (ومتى وَصَفَها) أي اللقطة (طالِبُها) أي مدعي ضَيَاعِها، بصفتها التي أُمِرَ الملتقط أن يعرفَها (يوماً من الدَّهْر) في حول التعريفِ أو بعدَهُ ¬

_ (¬1) أي فيجوز التقاطها، وتُملَك بالتعريف. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملّك وإنما يجوز حفظها لصاحبها، فإن التقطها عرّفها أبداً حتى يأتي صاحبها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولا تحلّ ساقطتها إلا لمنشدٍ". متفق عليه. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن لقطة الحاج" رواه أبو داود. (¬2) حديث "اعرف عفاصها ... " متفق عليه من حديث زيد بن خالد مرفوعاً.

(لزم) الملتقِطَ (دفعُها) أي اللقطة (إليه، بنمائِهِا المتّصل، وأما) النماء (المنفصل بعد حولِ التعريفِ فـ) إنه يكون مِلكاً (لواجِدِها)، لأنه مَلَكَ اللقطة بانفصال الحول، فنماؤها إذن نماء ملكه. (وإن تلفت) اللقطة (أو نقصت) أو ضاعت (في حول التعريف) بيد الملتقط (ولم يفرّط لم يضمن) لأنها أمانة بيده، فلم تُضمَن بغير تفريطٍ، كالوديعة. (و) إن تلفت (بعد الحول) أي حول التعريف، فإنه (يَضمَنُ) الملتقطُ اللقطة (مطلقاً) أي سواءٌ فرّط أو لم يفرّط، لأنها دخلت في مِلْكِهِ، فكان تَلَفُها من ماله. قال في المغني: وتُمْلَكُ اللقطة ملكاً مُراعًى يزول بمجيء صاحبها، ويَضْمَنُ له بدلَها إن تعذّر ردّها. (وإن أدركها ربُّها بعدَ الحولِ مبيعةً أو موهوبةً) بعد الحول والتعريف، وهي بيد من انتقلت إليه (لم يكنْ له) أي لربّها (إلا البَدَل) لأن تصرُّف الملتَقِطِ وَقَعَ صحيحاً لكونها صارت في ملكه. (ومن وجد في حيوانٍ نقداً) كما لو اشترى إنسان شاةً، فذبحها، فوجد في بطنها دنانيرَ أو دراهم (أو درةً) (¬1) أو عَنْبَرةً (فلقطة لواجِدِهِ، يلزَمُهُ تعريفُهُ) ويُبْدَأ بالبائع، لاحتمال أن يكون ذلك من مالِهِ، فإن لم يُعرَفْ كان لواجده. (ومن استيقظ من نومٍ أو إغماءٍ فوجَدَ في ثوبِهِ) أو كيسِهِ (مالاً) دراهمَ أو غيرَها (لا يدري مَنْ صَرَّهُ) له أو وضَعَهُ له (فهو له.) ولا تعريف عليه لأن قرينة الحال تقتضي تمليكه له. (ولا يبرأ من أَخَذَ من نائِمٍ شيئاً إلّا بتسليمِهِ له بعد انتباهِهِ.) قال ¬

_ (¬1) أي درة مثقوبة أو اتصل بها ذهب أو معدن، لأن الظاهر حينئذ أنها مما فُقِد. أما لو وجد في بطن سمكة درة غير مثقوبة ولم يتصل بها ذهب أو نحوه فالظاهر أنها من المباح، وتعد لمن صاد السمكة (شرح المنتهى).

في الإِنصاف: وكذلك الساهي. انتهى. ووجه ذلك أن الأخذ في حالةٍ من هاتين الحالتين موجِبٌ لضمان المأخوذِ على آخذِهِ، لوجود التعدّي، لأنه إما سارقٌ أو غاصب، فلا يبرأ من عهدته إلاَّ بردِّه على مالِكِه في حالةٍ يصحّ قبضه له فيها. والله أعلم.

باب اللقيط

باب اللَّقيط [اللقيط] فَعِيلٌ بمعنى المفعول، كقَتيلٍ وجَريحٍ وطَرِيحٍ. (وهو) أي اللَّقيط شرعاً (طِفلٌ يوجدَ لا يعرف نَسَبُهُ، ولا) يُعْرَفُ (رقُه) طُرِحَ في شارِعٍ أو غيرِهِ، أو ضلّ ما بين ولادتِهِ إلى سنّ التمييز. (والتقاطُهُ) أي اللقيط شرعاً (والإِنفاق عليهِ فَرْضُ كفاية) كإطعامِهِ إذا اضطُرَّ وإنجائِهِ من الغرق، فلو تَرَكَهُ جميعُ من رآه أَثِمَ الجميع. (وُيحْكَمُ بإسلامه وحُرِّيَتِهِ) إلا أن يوجد في بلد أهل الحرب، ولا مُسْلِمَ فيه، أو فيه مسلمٌ كتاجرٍ وأسيرٍ، فكافرٌ رقيق، لأن الدارَ لهم. وإن كثر المسلمون فمسلمٌ، أو في بلد إسلامٍ كل أهله أهلُ ذمةٍ، فكافرٌ. وإن كان بها مسلم يمكن كونه منه فمسلم. (وُينْفَقُ عليه مما معه إن كان) معه شيء، لأن نفقته واجبة في مالِهِ. وما وُجِدَ معه فهو له، لأن الطفل يَمْلِكُ، وله يَدٌ صحيحة، بدليل أنه يرث ويورث، ويصحّ أن يشتريَ له وليُّه ويبيع من ماله. (فإن لم يكن) معه شيء (فـ) نفقته (من بيت المال، فإن) لم يكن بيتُ مالٍ، أو (تعذَّر) الأخذ منه (اقتَرَضَ عليه) أي على بيتِ المالِ

(الحاكمُ) قاله الحارثي. نقله عنه في الإنصاف. قال في شرح المنتهى: ظاهره ولو مع وجودِ متبرِّعٍ بها، لأنه أمكن الإِنفاق عليه بدون منَّةٍ تلحَقُهُ في المستقبل. أشبه الأخذ لها من بيت المال. (فإن تعذر) الاقتراض عليه (فعلى من علم بحالِهِ) الإِنفاق عليه لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ولأن في تركِ الإِنفاق عليه هلاكَهُ، وحفظُهُ من ذلك واجب، كإنقاذِهِ من الغرق. ولا يرجعُ إذَنْ منفقٌ بما أَنفَقَ، لوجوبِهِ عليه. فهي فرضُ كفايةٍ. (والأحقُّ بحضانتِهِ) أي اللَّقيط (واجدُهُ إن كان حرًّا) تامّ الحرية، لأن كلاً من القِنّ والمدبّر والمعلقِ عتقُهُ بِصَفَةٍ وأمِّ الولدِ منافِعُهُ مستحَقَّةٌ لسيّدهِ، فلا يُذْهِبُها في غيرِ نفعِهِ إلاَّ بإذنه. وكذلك المكاتَب. فإنه ليس له التبرّع بمالِهِ ولا بمنافِعِهِ إلا بإذنِ سيّده في ذلك. وكذلك المبعَّض، فإنه لا يتمكّن من استكمال الحضانة. (مكلفاً) لأنّ غيرَ المكلّف لا يلي أَمْرَ نفسِهِ، فلا يلي أمر غيره. (رشيداً) فلا يُقَرُّ في يد سفيهٍ. جَزَمَ به في الهداية والمهذّب والمستوعِب والتلخيص، وغيرهم. وفي المنتهى (أميناً عدلاً) لأن عمر رضي الله عنه أقرّ اللقيط في يد أبي جميلة، حين قال له عَرِيفُهُ إنه رجلٌ صالِحٌ، ولأنه سَبَقَ إليه، فكان أولى به. (ولو) لم يُعْلَمْ باطنُ حالِهِ كفى كونه عدلاً (ظاهراً) (¬1) لأن هذا حكمُهُ حكم العدل باطناً وظاهراً في لَقطة المال، والولاية، والنكاح والشهادة فيه وفي أكثر الأحكام، ولأن الأصل في المسلمين العدالة. ولذلك قال عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض. ¬

_ (¬1) وهو المسمى مستور الحال. وشهادته في الأموال والحدود مردودة. لقوله تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. وكذلك روايته. بخلاف ما ذكره الشارح هنا، فإن يقبل فيها.

[في ميراث اللقيط]

فصل [في ميراث اللقيط] (وميراثُ اللقيط وديته إن قُتِلَ لِبَيْتِ المال.) ومحلّ ذلك إن لم يكن له وارثٌ كغيرِ اللقيطِ، لأنه مسلم لا وارثَ له، فكان مالُه ودِيَتُه لبيت المال. فإن كانت له زوجةٌ فلها الربع، والباقي لبيت المال. وإن كانت لقيطةٌ لها زوجٌ فله النصف، والباقي لبيت المال. وإن كان له بنتٌ أو ذو رحمٍ كبنت بنتٍ أو ابن بنتٍ أخَذَ جميعَ المالِ، لأن الردّ وذا الرحم مقدّم على بيت المال. ويخيّر الإمامُ في عمدٍ بين أخذها والقِصَاصِ. وإن قُطِعَ طَرَفُه عمداً انتُظِرَ بلوغُهُ ورُشْدُهُ، إلا أن يكون فقيراً فليزَمُ الإمامَ العفوُ على مالٍ ينفقُ عليهِ منه. [ما يثبت به نسب اللقيط] (وإن ادّعاه) أي ادعى أن اللقيطَ وَلَدُهُ (مَنْ) أي إنسان (يمكنُ كونُهُ) أي كون اللقيطِ (منه) أي المقرّ (من ذكرٍ أو أنثى، أُلحِقَ) أي اللقيطُ (بِهِ) أي بالمقرّ (ولو) كان اللقيطُ (ميتاً) لأن الإقرار بالنسب مصلحةٌ محضةٌ للقيط، لاتصالِ نسبِهِ، ولا مضرَّةَ على غيرِهِ فيه، فَقُبِلَ، كما لو أقَرَّ له بمال. وهذا بلا خلافٍ في المذهب، فيما إذا كان المِقرُّ رجلاً حراً مسلماً يمكِنُ كونُهُ منه. نص عليه أحمد في رواية جماعة. (وثبت نسبُهُ) أي اللقيط بهذا الإِقرار (و) ثبت (إرثُهُ) أيضاً. (وإن ادعاه) أي ادعى أن اللقيطَ ابن (اثنانِ) أي رجلانِ (فأكثر، معاً، قُدِّم) به (من له بينة) لأن البينة علامةٌ ظاهرةٌ واضحةٌ على إظهار الحقِّ لمن قامت له. (فإن لم تكن) لواحدٍ منهم بينة أو أقَامَ كلٌّ واحدٍ منهم بيّنة بأنه

ولده (عُرِضَ) أي اللقيطِ مع كل مدّعٍ موجود، أو أقاربِهِ إن ماتَ، (على القَافَةِ). والقَافَةُ قومٌ يعرفون الأنساب (¬1) بالشَّبَهِ. ولا يختص ذلك بقبيلةٍ معيّنةٍ، بل من عُرِفَتْ منه المَعْرِفَةُ بذلك، وتكرَّرَتْ منه الإصَابَةُ فهو قائف. قال في المغني: وقيل: أكثرُ ما يكونُ ذلك في بني مُدْلِجٍ رَهْطٍ مُجَزَّزٍ (بجيم وزايين). (فإن ألحقته) القافَةُ بواحدٍ لحقه. وإن ألحقته (بالجميعِ لَحِقَهُمْ) قال في المغني: هذا قولُ أنسٍ وعطاءٍ ويزيدَ بن عبد الملك والأوزاعي والليثِ والشافعي وأبي ثور. (وإن ادَّعاه أكثرُ من واحدٍ وأشكلَ أمرُهُ) على القافة بأن قالوا: لم يظهرْ لنا شيءٌ أو قالوا: أشكَلَ علينا حالُهُ، أو نحو ذلك، بأن اختلف قائفان فيه أو اثنان أو ثلاثة (ضاعَ نَسَبُهُ) في هذه الصور كلها في الأصحّ، لأنه لا دليل، ولا مرجَّح لبعض من يدّعيه، أشْبَهَ من لم يُدَّعَ نسبه. ويؤخذ باثنينِ خالفَهُما ثالثٌ، كبيطارَيْنِ وطبيبين خالفَهُمَا طبيبٌ في عيب. (ويكفي) في ذلك (قائفٌ واحد) لأنه حَكَمٌ ويكفي في الحكم قولُ واحدٍ. (وهو كالحاكم فيكفي مجرّد خَبَرِهِ (¬2). ومتى حكَم الحاكمُ حُكماً لم يُنْقَضْ بمخالفة غيرِهِ له، وكذلك لو ألحقَتْهُ بواحدٍ، ثم عادت فألحقته بغيره (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب، ص): الإنسان، والتصويب من (ف) وشرح المنتهى. (¬2) أي لأنه ينفذ ما يقوله، بخلاف الشاهد. (¬3) في الأصول هنا زيادة "كذلك" ولا داعي لتكرارها فحذفناها. وهي في المغني 5/ 700 "لذلك" والسياق يقتضيها، أما هنا فلا.

وإن أقام الآخرُ بيِّنَةً أنه ولده حُكِمَ له به، وسقط قول القائف، لأنه بدل، فيسقط بوجودِ الأصل، كالتيمم مع الماء، قاله في المغني. (بشرط كونِهِ) أي القائف (مكلَّفاً ذكَراً) لأن القِيافَةَ حُكْمٌ، مستندُها النظر والاستدلال، فاعتُبرت الذكررة فيه، كالقضاء (¬1) (عَدْلاً) لأن الفاسق لا يقبل قولُه. وعُلِمَ من اشتراطِ عدالتِهِ اشتراطُ إسلامه، لأن العدل لا يكون إلاَّ مسلماً. (حرًّا) قال في المغني: لأن قوله حُكْمٌ، والحكم تعتبر له هذه الشروط. انتهى (مجرّباً في الإِصابة) لأنه أمرٌ عِلْمِيٌّ فلا بدّ من العلم بعلمه له، وذلك لا يُعرَف بغير التجربة له فيه. قال القاضي في كيفيّة التجربة: هو أن يُتْرَكَ اللقيطُ مع عشرةٍ من الرجال غيرِ من يدَّعيه، فإن ألحقه بواحدٍ منهم سقط قولُه، لأنه تبَيَّن خطَؤُهُ، وإن لم يُلْحِقُهُ بواحدٍ منهم أريناه إيّاه مع عشرين، فيهم مدّعيه، فإن ألَحَقَهُ به لَحِقَهُ. (تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أوله كتاب الوقف) ¬

_ (¬1) وهو المذهب. وقيل: هي شهادة، وعليه: فلا بد من اثنين، ولا تشترط حريتهما، ويشترط لفظ "أشهد".

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م مكتبة الفلاح - الكويت ص. ب 4848 - الكويت - شارع بيروت - عمارة الحساوي مقابل بريد حولي - تليفون 547784

نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الوقف

كتَاب الوَقف وهو مصدر وَقَفَ الإِنسان الشيءَ يَقِفُهُ بمعنى حَبَسَهُ وأحْبَسَه، ولا يقال أوقفه إلا في لغة شاذة عكس أحْبَسَه (¬1). وهو مما اختصّ به المسلمون. قال الشافعي: ولم تحبّس أهلُ الجاهلية. ثم الوقف شرعاً تحبيس مالكٍ مطلقِ التصرف مالَهُ المنتَفَعَ به، مع بقاءِ عينه، بقطع تصرفِهِ وغيرِه في رقبته بنوعٍ من أنواع التصرفات، تحبيساً يصرفُ رَيْعَه إلى جهةِ بِرٍّ، تقرباً إلى الله سبحانَه وتعالى (¬2). و (يحصل) الوقف حكماً (بأحد أمرين): الأول: (بالفعل، مع دليلٍ يدل عليه) أي على الوقف عرفاً، كما يحصل ذلك بالقول لاشتراكِهِما في الدلالة عليه، في أصح الروايتين، (كأن يبني) إنسانٌ (بنياناً على هيئة المسجد، ويأذَن إذناً عامًّا) أي لمن ¬

_ (¬1) أي فإن "أحْبَستُهُ" لغة جيدة كحَبَستُهُ. بخلاف "أوقفته" فإنها لغة رديئة، وقد نص على رداءتها في لسان العرب. ولذلك فعبارة الشارح هنا محررة متقنة. أما ما قال شارح المنتهى "أوقفه لغة شاذة كأحبَسَهُ" ففي قوله لظر. ويقال "حبّستُهُ" أيضاً. (¬2) أخذ التقرب إلى الله تعالى في مفهوم "الوقف" فيه نظر , فإنه قد يقف على أولاده مثلا أو على أجنبيٍّ، ولا يقصد التقرب، بل التودّد أو مصلحة أخرى أو رياء. (شرح المنتهى - بتصرف).

شاءَ الصلاةَ فيه من المسلمين، (بالصلاةِ فيه) حتى لو كان المكانُ المأذونُ في الصلاة فيه أسفَلَ بيتِهِ، أو عُلْوَهُ أو وسطه، فإنه يصح وإن لم يذكر استطراقاً، ويَسْتَطْرِقُ، (أو يجعلَ أرضَهُ) مهيَّأة لأن تكونَ (مقبَرَةً ويأذنَ إذناً عامًّا بالدفنِ فيها،) لأنَّ الإذنَ الخاصَّ قد يقعُ على غيرِ الموقوفِ، فلا يفيدُ دلالةَ الوقفِ. قاله الحارثي. (و) الثاني: (بالقول) روايةً واحدة. والإشارةُ المفهمِةُ من الأخرس كالقول. (وله) أي للوقف باللفظ (صريحٌ وكناية). (فصريحُهُ) ثلاثةُ ألفاظٍ (¬1) (وقفتُ وحبستُ وسبَّلْتُ.) فمن أتى بكلمةٍ من هذه الكلمات صحّ بها الوقفُ، لعدم احتمالِ غيرِهِ، بعُرْفِ الاستعمالِ المنضمِّ إليه عُرْفُ الشرع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شئت حبَّسْتَ أصْلَها وسبَّلْتَ ثَمَرَتها" (¬2) فصارت هذه الألفاظُ في الوقفِ صريحةً فيه، كلفظ التطليق في الطلاق. (وكنايَتُهُ) أي الوقف، ثلاثة ألفاظٍ: (تصدّقْتُ، وحرَّمْتُ، وأبَّدْتُ.) وإنما كانت هذه الألفاظُ كنايةً، لعدم خَلَاصِ كلّ لفظٍ منها عن اشتراكٍ، فإن الصدقة تُسْتَعْمَلُ في الزكاة، وهي ظاهرةٌ في صدقة ¬

_ (¬1) في (ب، ص): هنا عبارة زائدة "كلفظ المطلّق في الطلاق وهي ساقطة من (ف) فحذفناها لذلك، ولإغناء ما يأتي بعد ثلاثة أسطر عنها. ولعلها من تكرار النُّسّاخ. (¬2) حديث "إن شئت حبست أصلها ... " قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر. وهو متفق عليه. ونصه بتمامه: عن ابن عمر قال "أصاب عمر أرضاً بخيبر؛ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله إني أصبتُ مالاً بخيبر لم أُصب مالاً أنْفَسَ عندي منه، فما تأمرني فيه؟ فقال: إن شئتَ حبَّستَ أصلها وتصدقتَ بها، غير أنه لا يباعُ أصلها ولا يوهب ولا يورث. قال فتصدّق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وَلِيَها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً، غير متمول فيه."

[في شروط صحة الوقف]

التطوعِ، والتحريم صريحٌ في الظهار، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره. (فلا بد فيها) أي الكناية (من نيّة الوقف) فمتى أتى مالِكٌ بأحد هذه الكناياتِ الثلاثِ، واعترفَ أنه نوى بها الوقْفَ، لزم في الحكم، لأنها بالنيّة صارتْ ظاهرة فيه. وإن قال: ما أردتُ بها الوقف، قُبِلَ قوله، لأنه أعلم بما في ضميرِهِ، لعدم الاطلاع على ما في الضمائر (ما لم يقل) الواقف بلفظٍ من ألفاظ الكناية بلا نيّةٍ، تصدَّقْتُ بداري (على قبيلة كذا أو) على (طائفة كذا)، أو يقرِنِ الكنايةَ بأحدِ الألفاظِ الخمسةِ: كتصدّقْتُ. صدقةً موقوفةً، أو تصدقت صدقَةً محبَّسَةً، أو تصدقت صدقة مسبّلةً، أو تصدقت صدقةً محرَّمةً، أو تصدقتُ صدقةً مؤبّدةً. أو قرنَ الكنايَةَ بحكمِ الوقفْ، كألّا تُباعَ، أو لا توهبَ، أو لا تورثَ، لأنّ ذلك كله لا يُستَعْمَل في سوى الوقف، فانتفت الشركة. فصل [في شروط صحة الوقف] (وشروط الوقف) المعتبرةُ له (سبعة): (أحدها: كونُه) أي الواقف (من مالكٍ) فلا يصحّ أن يقف الإِنسان ملك غيره بغيرِ إذنِهِ، (جائزِ التصرُّفِ) فلا يصحّ من محجورٍ عليه، ولا من مجنون، (أو من يقوم مقامَهُ) أي مقامَ جائِزِ التصرّف كوكيله فيه. (الثاني) من شروط صحة الوقف: (كونُ الموقوفِ عيناً يصح بيعُها) فلا يصحُّ وقفُ أمِّ ولدٍ، وكلبٍ، ومرهونٍ. (وُينتَفَعُ بها) ما يعد انتفاعاً مباحاً، مع بقاء عينِها، فلا يصحّ وقفُ مطعومٍ ومشروبٍ غيرِ الماءِ، ولا

وقفُ دهنٍ وشمعٍ) لشعل (وأثمانٍ (¬1) وقناديلِ نقدٍ (¬2) على المساجِدِ ولا على غيرها) قال في الإِقناع: ولو وقف قنديلَ نقدٍ على مسجدٍ أو نحوِهِ لم يصحّ وقفُه، وهو باق على ملك صاحبِهِ، فيزكّيه. ولو تصدق بدهنٍ على مسجدٍ ليوقَدَ فيه جاز، وهو من باب الوقف. قاله الشيخ. (الثالث) من شروط صحة الوقف: (كونُهُ على جهة بِرٍّ) وهو اسم جامعٌ للخير، وأصلُه طاعةُ الله تعالى. والمراد اشتراطُ معنَى القُرْبة في الصَّرْفِ إلى الموقوفِ عليه، لأن الوقف قُرْبَةٌ وصدقة، فلا بد من وجودِهَا فيما لأجله الوقف، إذ هو المقصود (وقربةٍ كالمساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب،) لأنه شُرِعَ لتحصيلِ الثَّواب، فإذا لم يكن على برٍّ لم يحصل (¬3) المقصود الذي شُرِع من أجله، َ (فلا يصحُّ) الوقف (على الكنائِسِ) جمع كنيسةٍ. قال في القاموس: الكنيسة معبد اليهودِ أو النصارى أو الكُفَّار. انتهى، (ولا على اليهودِ والنصارى، ولا) يصح الوقف أيضاً (على جنسِ الأغنياءِ أو الفسّاق) أو قطّاع الطريق، ولا على التنوير على القبرِ، وتبخيرِهِ، ولا على من يقيم عنده أو يخدمه، أو يزوره. قاله في الرعاية. (أما لو وقفَ على ذمّيٍّ) معيّنٍ (أو فاسقٍ) معينٍ (أو غنيّ معيّن صحّ). وإن وقَف على غيره واستثنى غلّته، أو بعضَها، له أو لولده، أو الأكلَ منه، أو الانتفاعَ لنفسه أو لأهله، أو أنه يطعم صديقَهُ مدّةَ حياتِهِ أو مدةً معينةً صح. ¬

_ (¬1) فلو وقف ألف دينارٍ يستقرض منها الناس المحتاجون، ويردونها ثم يستقرضها غيرهم وهكذا، لم تخرج عن ملك صاحبها. ويظهر أثر ذلك في وجوب الزكاة فيها. (¬2) أي مصنوعة من ذهب أو فضة. وإنما لم يصح وقفها لعدم كون الانتفاع بها مباحاً. (¬3) في (ف): "لم يحصل الثواب المقصود".

(الرابع) من شروط صحة الوقف: (كونه على معيّن) من جهة أو شخص (غَيْرَ نفسِه) عند الأكثر، وينصرف إلى من بَعْدَهُ في الحال. وعنه: يصح. قال المنقّح في التنقيح: اختاره جماعة، وعليه العملُ. وهو أظهر، (يصحّ أن يَمْلِكَ فلا يصح الوقفُ على) شيءٍ (مجهولٍ، كرجلٍ،) لصدقه على كل رجلٍ (ومسجدٍ) لصدقه على كل مسجد. قال في الإِنصاف عن كون الوقفِ لا يصح (¬1) على رجل ومسجد: بلا نزاع. انتهى (أو على) مبهمٍ، كقوله: وقفت داري على (أحد هذين) الرجلين، أو على أحد ابنيّ هذين، أو على أحدِ هذين المسجدين، أو على إحدى هاتين القبيلتين، لتردده، كما لو قال: بعتك أحدَ هذين الثوبينِ، أو وهبتك أحدَهما. (ولا يصحّ) الوقف (على نفسه، ولا) يصحّ الوقف (على من لا يملك، كالرقيق)، وأم الولد، (ولو) كان الرقيق (مكاتباً). (ولا) يصحُّ الوقف على (الملائكة، والجن، والبهائم، والأموات). (ولا) يصح الوقف (على الحمل استقلالاً بل) يصح الوقفُ عليه (تبعاً.) فإن قيل: قد جوّزتُم الوقفَ على المساجد والسقاياتِ وأشباهِها، وهي لا تملِكُ؟ قلنا: الوقفُ هناك على المسلمين، إلاَّ أنه عُيِّن في نفعٍ خاص لهم. (الخامس) من شروط صحة الوقف: (كونُ الوقفِ منجزاً) أي غير معلقٍ أو مؤقّتٍ أو مشروطٍ فيه الخيارُ أو نحوه، كأن يبيعَهُ أو يَهَبَهُ أو يحوِّلَهُ عن جِهَتِهِ متى شاء، (فلا يصح تعليقُه) على شرطِ الخيارِ، سواء ¬

_ (¬1) (ب، ص): يصح و (ف): "لا يصح" وهو الصواب كما لا يخفى.

كان التعليقُ لابتدائِهِ، كقوله: إذا قدمَ زيدٌ، أو وُلِدَ لي ولد، أو جاءَ رمضانُ، فداري وقف على كذا؛ أو كان التعليقُ لانتهائِهِ، كقوله: داري وقفٌ على كذا إلى أن يحضرَ زيدٌ، أو يولَدَ لي ولد، أو نحو ذلك، (إلاَّ) إن علّق الوقفَ (بموتهِ) بأن قال: هو وقفٌ بعد موتي، فإنه يصحّ، (فيلزم) الوقف (من حين الوقفيّة) أي من حين قوله: هو وقفٌ بعد موتي (إن خَرَج من الثُّلث) أي ثلثِ مالِ الواقفِ، لأنه في حكم الوصيّة. فإن خَرَجَ من الثلث لم يكن لأحدٍ من الورثةِ، ولا من غيرهم، رد شيءٍ منه. وإن زاد على الثُّلُثِ لزم الوقفُ منة في قدرِ الثُّلُثِ، ووُقِفَ الزائِدُ على إجازة الورثة. (السادس) من شروط صحة الوقف: (أن لا يشرُط فيه)، أي الوقف، (ما) أي شيءٍ (ينافيه) أي الوقف، (كقوله)، أي الواقف: (وقفتُ على كذا) أي هذا الجملَ مثلاً (على أن أبيعَه، أو) على أن (أهَبَهُ متى شئتُ، أو) قال: وقفت هذا الجملَ (بشرطِ الخيارِ لي) مدةً معلومةً أو مجهولةً، (أو) قال: وقفتُ هذا الكرمَ على المساكينِ (بشرطِ أن أحوِّلَهُ) أي الوقف (من جهةٍ إلى جهة) كمِنْ جهةِ المساكينِ إلى جهَةِ أبناءِ السبيل. (السابع) من شروط صحة الوقف: (أن يقفه على التأبيد، فلا يصحّ: وقفتُهُ شهراً) أو يوماً، أو سنةً (أو إلى سنةٍ أو نحوها) كإلي شهر. (ولا يُشترط) لصحةِ الوقفِ (تعيينُ الجهةِ) الموقوفِ عليها، (فلو قال: وقفتُ كذا) كداري أو بستاني، (وسكتَ،) ولم يعيّن جهةً (صحّ) الوقفُ (وكانَ) الموقوفُ (لورثَتِهِ) أي الواقف (من النسبِ) يقتسمونه (على قدرِ إرْثِهِمْ مِنْهُ) ويقعُ الحجْبُ بينهم، كالميراث (¬1). ¬

_ (¬1) (ف) ليس فيها " كالميراث".

فصل

فصل (ويلزم الوقفَ بمجرّدِهِ) أي بمجرّد اللفظ، كالعتق. ولا يُشتَرط للزومِهِ إخراجُه عن يد الواقفِ، ولا فيما على شخصٍ معينٍ قَبَولُه للوقفِ. ولا يَبْطُلَ بردّه. (ويملكه) أي يملك غلَّتَهُ (الموقوفُ عليهِ) بمجرد الوقفِ. (فَيَنظُرُ فيهِ هو) أي الموقوفُ عليه إن كان أهلاً للنظر (أو وليُّه) إن كان الموقوفُ عليه صغيراً أو مجنوناً أو سفيهاً (ما لم يشرُط الواقف ناظراً، فيتعيّن) الناظر الذي عيّنه الواقف. (ويتعيّن صرفه) أي الوقف (إلى الجهةِ التي وُقِفَ عليها في الحال) فلو سبّل ماءً للشُّرب لم يَجُزِ الوضوءُ به. قال الشيخ تقي الدين: يصح تغييرُ شرطِ الواقفِ إلى ما هو أصلَحُ منه، وإن اختلفَ باختلافِ الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاءِ والصوفيةِ، واحتاجَ الناسُ إلى الجهاد، يُصْرَفُ للجند. انتهى. (ما لم يستثنِ الواقفُ منفعتَه) أي منفعة ما وقفه (أو غلَّتهُ له أو لولده) أي ولد الواقف، أو لأهلِهِ (أو لصديقِهِ مدةَ حياتِهِ، أو مدةً معلومةٍ، فيعُمَل بذلك.) فلو مات من استثنى نفعَ ما وقَفَهُ مدة معيّنةً في أثنائها، فلورثتِهِ. ويصحّ إجارة المدةِ المستثنى نفعُها من الموقوفِ عليه وغيرِه. (وحيثُ انقطعتِ الجهةُ والواقفُ حيٌّ بأن وقَفَ على أولادهِ وأولادِ زيدٍ فقط، فانقرضوا في حياته، (رَجَعَ) الوقفُ (إليه) أي إلى الواقِفِ (وَقْفاً) عليه. قال ابن الزاغوني في الواضح: الخلافُ في الرجوع إلى الأقارب، أو إلى بيتِ المال، أو إلى المساكين، مختصٌّ بما إذا مات الواقفُ، أمّا إن كان حيًّا، فانقطعت الجهة، فهل يعود الوقْفُ إلى مِلكِهِ،

[في مصرف الوقف]

أو إلى عصبتِهِ؟ فيه روايتان. انتهى وجزم في المنتهى والإِقناع بما في المتن. (ومن وقَفَ على الفقراءِ فافتقَرَ، تناوَل منه.) قال في شرح المنتهى: والمراد بقوله: تناوَلَ منه. جوازُ التناوُلِ منه، لا تعيُّنُهُ. ووجهُ ذلك وجودُ الوصفِ الذي هو الفقر فيه. (ولا يصح عتقُ الرقيق الموقوفِ بحالٍ) لأنه تعلَّقَ به حقّ من يؤولُ الوقفُ إليه، ولأن الوقفَ عِقدٌ لازمٌ لا يمكن إبطاله، وفي القولِ بنفوذِ عتقِهِ إبطالٌ له. وإن كان بعضُهُ غيرَ موقوفٍ، فأعتقَه مالِكهُ صح فيه، ولم يَسْرِ إلى الموقوفِ، لأنه إذا لم يعتق بالمباشرة، فعدَمُ عتقِهِ بالسرايةِ من باب أولى. (لكن لو وَطِئَ الأمَةَ الموقوفةَ عليه حَرُمَ) لأن ملكه لها ناقص، ولا يُؤْمَنُ حَبَلُها فتنقص، أو تتلف، أو تخرجُ من الوقف بأن تصير أمّ ولد. (فإن حملت) منه (صارت أمّ ولد) له (تعتُقُ بموتهِ،) وولدُه حرٌّ، للشبهة، وعليه قيمته تُصْرَفُ في مثلِهِ لأنها بدل عن الوقف. (وتجب قيمتُها في تركتِهِ) لأنه أتلَفَها على من بعده من البطون (يُشترى بها) أي بقيمتها الواجبة باستيلادِهَا، وبقيمةٍ وجَبَتْ بتلفها أو بعضها، (مثلُها) يكون وقفاً مكانَها، أو شقصُ أمةٍ يصير وقفاً بالشراء. فصل [في مصرف الوقف] (وُيرْجَعُ) بالبناء للمفعول (في مصرِفِ الوقْفِ) عند التنازُعِ في

شيء من أمره (إلى شرطِ الواقف) كقوله: شرطْتُ لزيدٍ كذا، ولعمرٍو كذا، لأن عُمَرَ رضي الله عنه شَرَط في وقْفِهِ شروطاً (¬1)، ولو لم يجِب اتباعُ شَرْطِهِ لم يكن في اشتراطِهِ فائدة، ولأن الزبير وَقَفَ على وَلَدِهِ، وجَعَل للمردودةِ من بنأتِهِ أن تسكن، غير مُضِرَّةٍ ولا مُضرًّا بها، فإذا استغنتْ بزوجٍ فلا حقّ لها فيه (¬2). ولأن الوقفَ متلقًّى من جهته، فاتُّبِعَ شرطُه. ونصُّه كنصّ الشارع. (فإن جُهِل) شرط الواقفِ كما لو قامت بيّنة بالوقفِ دون شَرطِه (عُمِلَ بالعادةِ الجاريةِ) المستمرّة إن كانت. (فإن لم تكن) عادةٌ جارية (فبالعُرْفِ) المستمرّ في الوقف، في مقادير الصَّرْف، كفقهاء المدارس لأن الغالب وقوعُ الشرط على وَقْفِهِ. (فإن لم يكنِ) عرف (فالتساوي بين المستحقّين،) لأن التشريك ثابتٌ، والتفضيلُ لم يثبت. فإن لم تُعرف أربابُ الوقفِ جُعِل كوقفٍ مطلقٍ لم يذكر مصرِفُه. ذكره في التلخيصِ. (وُيرجَعُ إلى شرطِه) أي الواقف (في الترتيب بين البطون) كجعل استحقاقِ بطنٍ مرتَّباً على الآخر كأن يقفَ على أولاده ثم أولادِهم، (أو الاشتراك) كأن يقف على أولاده وأولادهم. (و) يُرْجَعُ إلى شرطه (في إيجارِ الوقفِ وعدمه،) أي عدم الإِيجار، (وفي قدر مدة الإِيجارِ، فلا يزادُ) في الإِجارة (على ما قدّر) الواقف، فإذا شرط أن لا يؤجر أكثر من سنةٍ لم تَجُزِ الزيادة عليها، لكن عند الضرورة يُزَادُ بحسبها. ¬

_ (¬1) قصة وقف عمر - رضي الله عنه - رواها الشيخان وقد تقدمت بنصّها قريباً. (¬2) في الأصول "أن ابن الزبير" والتصويب من كتب الحديث. والقصة المذكورة صحيحة أخرجها البيهقي والدارمي وأخرجه البخاري تعليقاً (الإِرواء ح 1596).

(ونصُّ الواقف كنص الشارع، يجبُ العملُ بجميعِ ما شَرَطَه ما لم يُفْضِ) العمل بشرطِهِ (إلى الإِخلال بالمقصود) الشرعي، (فَيُعْمَل به) أي بشرطِهِ (فيما إذا شَرَط أن لا ينزلَ في الوقفِ فاسقٌ) ولا مبتدعٌ، (ولا شرّيرٌ). قال الشيخ: الجهاتُ الدينيّة مثل الخوانك (¬1) والمدارِسِ وغيرها لا يجوز أن ينزل فيها فاسقٌ، سواء كان فسقُهُ بظلمِهِ الخلقَ وتعدّيه عليهم، بقولهِ وفعلِهِ من نحو سبٍّ أو ضربٍ، أو كان فسقُهُ بتعدّيه حدودَ الله تعالى، يعني ولو لم يَشرطه الواقفَ، وهو صحيح. قاله في الإِقناع وشرحه، (ولا ذو جاهٍ). (وإن خصّصَ) الواقفُ (مقبرةً) أو رباطاً (أو مدرسةً: أو إمامتَها بأهل مذهبٍ، أو) بأهلِ (بلدٍ، أو) بأهل (¬2) (قبيلةٍ، تخصّصتْ) بهم. قال في الإِنصاف: ولو خصص المدرسة بأهل مذهبٍ أو قبيلةٍ تخصصت. وكذلك الرّباط والخانْكَاهُ. والمقبرة كذلك. وهو المذهب. جَزَمَ به في التلخيص وغيره. (لا المصلين بها) يعني لو خصص واقفُ المَدرسةِ المصلين بها بذي مذهبٍ، بأن قال: ليصليَ فيهِ الحنابلةُ أو الحنفية أو المالكيةُ أو الشافعيةُ فقَط، لم تختص بأهلِ ذلك المذهب على الصحيح. (ولا) يُعْمَلُ بشرطه (إن شَرَط عدم استحقاق من ارتَكَبَ طريق الصلاح.) قال الشيخ: إذا اشتَرَطَ استحقاق رَيْعِ الوقف للعُزُوبَة فالمتأهِّل أحقًّ من المتعزِّب إذا استويا في سائر الصفات. وقال: إذا وقف على الفقراءِ فأقاربُ الواقِفِ الفقراءُ أحَقُّ من الفقراءِ الأجانب مع ¬

_ (¬1) الخوانك جمع خانكاهْ، ويقال أيضاً: خانقاهْ. وهو مجتمع المتصوفة. (¬2) لا يقال "أهل قبيلة كذا" فكان ينبغي أن لا يزيدها على المتن.

[في ناظر الوقف]

التساوي في الحاجة، وإذا قُدِّر وجودُ فقيرٍ مضطرٍّ كان دفع ضرورته واجباً. وإذا لم تندفع ضرورتُه إلا بتشقيصِ كفايةِ أقارب الواقفِ من غير ضرورةٍ تَحْصُل لهم تعيَّنَ ذلك. فصل [في ناظر الوقف] (وُيرْجَعُ) بالبناء للمفعولِ (إلى شرطِهِ) أي الواقف (في الناظر) (¬1) في الوقف، سواء شَرَطَهُ لنفسه، أو للموقوفِ عليه، أو لغيرهما، إمّا بالتعيينِ، كَفُلانٍ، أو بالوصف، كالأرْشَد أو الأعلم أو الأكبر. فمن وُجِدَ فيه الشرْطُ ثبت له النظر، عملاً بالشرط. (ويشترط في الناظر خمسةُ أشياءَ): الأول: (الإِسلام) قَطَع في الإِنصاف والتنقيح باشتراط الإِسلام في الناظر، من غير تفصيلٍ فيه (¬2). قال في المغني: ومتى كان النَّظَر للموقوفِ عليه، إما بِجَعْلِ الواقِفِ ذلك له، أو لكونهِ أحقَّ بذلك، رجلاً كان أو امرأة، عدلاً كانَ أو فاسقاً، لأنه ينظُرُ لنفسه، فكان له ذلك في هذه الأحوال، كالمُطْلَق (¬3). انتهى. وجَزَمَ في المنتهى بما في المتن ولم يقيد. ¬

_ (¬1) في الأصول كلها والمتن المطبوع مفرداً: "ويرجع في شرطه إلى الناظر" والتصويب من شرح المنتهى ففي العبارة في الأصل انقلاب واضح. وهو انقلاب في المتن، فكان على الشارح التنبيه إليه. (¬2) فصل في الإِقناع فقال "إن كان الموقوف عليه مسلماً أو كان للجهة كمسجدٍ. فإن كان الوقف على كافرٍ معين جاز شرط النظر فيه لكافِرٍ" وصاحب المنتهى وإن إطلق، فإن شارحه قيّد مطلقه. (¬3) في (ف): "كالطلاق" وهو خطأ ولعل الناسخ لها ظنها "المطلق" فكتبها بالمعنى. والمراد بالملك المُطْلَق ما عدا الموقوف. ويجوز أن يقال في مقابل الوقف "الطِّلْق".

(و) الثاني: (التكليف) لأن غير المكلف لا ينظر في ملكِهِ المُطْلَق (¬1)، ففي الوقف أولى. فإن لم يشترِطِ الواقفُ ناظراً، وكان الموقوفُ عليه صغيراً أو مجنوناً قام وليُّه في المالِ مقامَهُ في النظر، إلى أن يصير أهلاً. (و) الثالث: (الكفايةُ لِلتَصرفِ). (و) الرابع: (الخِبْرَةُ به) أي بالتصرف. (و) الخامس: (القوة عليه،) لأن مراعاةَ حِفْظِ الوقفِ مطلوبةٌ شرعاً. فإن لم يكن الناظر متَّصِفاً بهذه الصفات لم يمكنه مراعاةُ حفظِ الوقف. (فإن كان) الناظرُ المشروطُ له النظرُ من الواقِفِ، أو ممن وقف عليه الوقفُ (ضعيفاً ضُمَّ إليه قويٌ أمين) يَنْحَفِظُ به الوقفُ، ولم تُزَلْ يده، لأنه أمكن الجمع بين الحقّين. (ولا تشترط الذُّكورةُ ولا العدالة) في الناظِرِ (حيث كانَ) النظرُ (بِجَعْلِ الواقِفِ له). (فإن كانَ) نصْبُ الناظِرِ (من غيرِهِ) أي غير الواقف (فلا بدّ فيه من العدالة). (فإن لم يشترط الواقف ناظراً فالنظر للموقوفِ عليه مطلقاً) أي سواء كان عدلاً أو فاسقاً (حيثُ كان) آدمياً معيناً كزيدٍ أو جمعاً (محصوراً) كأولادهِ، وأولادِ أولادهِ، كلُّ واحدٍ منهم ينظرُ على حِصته، كالملْكِ المُطْلَق. (وإلا) بأن كان الموقوفُ عليهِ غيرَ محصورٍ، كالوقفِ على جهةٍ لا ¬

_ (¬1) في (ف): "كالطلاق"

[تصرفات ناظر الوقف]

تنحصر، كالفقراء، والمساكين، والعلماء، والقُرَّاءِ، أو على مسجدٍ، أو مدرسةٍ، أو رِباطٍ، أو قنطرة، ونحو ذلك (فـ) نَظَرهُ (للحاكمِ) أو نائبه (¬1). (ولا نَظَرَ لحاكمٍ مع ناظرٍ خاصٍّ) قال في الفروع: ولا نَظَرَ لغيرِهِ معه. أطْلَقَهُ الأصحاب، (لكنْ له) أي للحاكم (أن يَعْتَرِضَ عليه) أي على الناظر الخاصّ (إن فَعَلَ ما لا يَسُوغُ) فِعْلُه، أي لا يجوز. وله ضَمُّ أمينٍ مع تفريطِهِ، أو تُهْمَتِهِ، ليحصل المقصود. ولا اعتراضَ لأهْلِ الوَقْفِ على ناظرٍ أمينٍ. [تصرفات ناظر الوقف] (ووظيفة الناظِرِ حفظ الوقْفِ، وعمارَتُهُ، وإيجارُه، وزَرْعُهُ، والمخاصَمَة فيهِ، وتحصيلُ رَيْعِهِ) من أجرةٍ أو زرعٍ أو ثمرٍ، (والاجتهادُ في تنميته، وصَرْفُ الرَّيْعِ في جهاتِهِ من عمارةٍ وإصلاحٍ وإعطاءِ المستحقّين) وشراءِ طعامٍ أو شرابٍ شَرَطَه الواقِف، لأنّ الناظرَ هو الذي يلي الوقفَ وحفظَه وحفظَ رَيْعِهِ وتنفيذَ شرطِ واقِفِه. (وإن آجَرَهُ) أي آجر الناظرُ الوقفَ (بأنقصَ) من أجرةِ المثلِ (صحّ) العقد (وضَمِنَ النَّقْصَ) إن كان المستحق غيرَهُ، لأنه متصرِّفٌ في مالِ غيرِهِ على وجهِ الحفظِ، فضَمِنَ ما نَقَصَه بعقدِهِ، كالوكيلِ إذا آجَرَ بأنْقَصَ من أجرةِ المثل، أو باعَ بدونِ ثمنِ المثلِ. ولا بدّ في النقص المضمونِ أن يكون أكثر مما لا يُتغابَنُ (¬2) به في العادة، كما قيل في الوكيل. (وله) أي لناظرِ الوقفِ (الأكلُ بمعروفٍ) نصًّا. ¬

_ (¬1) في (ف): "أو من يستنيبه الحاكم". (¬2) صوابه "أكثر مما يتغابن" أي بإسقاط لا (عبد الغني).

[الوظائف الموقوف عليها]

وظاهرُهُ (ولو لم يكن محتاجاً) قاله في "القواعد". وقال الشيخ: له أخذُ أجرةِ عملِهِ مع فقرِهِ. (وله) أي الناظر (التقريرُ في وظائِفِهِ) ذكروه في ناظِرِ المسجد. فيُنَصِّبُ من يقوم بوظائِفِه من إمامٍ ومؤذّنٍ وقيِّمٍ، وغيرهم. [الوظائف الموقوف عليها] (ومن قُرِّرَ) بالبناء للمفعول (في وظيفةٍ تقريراً على وَفْقِ الشرعِ حَرُمَ) على الناظِرِ وغيرِهِ (إخراجُهُ منها بلا مُوجِبِ شرعيٍّ) يقتضي ذلك. فائدة: لو تصادقَ المستحقّونَ لوقفٍ علىَ شيءٍ من مصارِفِهِ ومقاديرِ استحقاقِهِمْ فيه ونحوِ ذلك، ثم ظَهَرَ كتابُ وقفٍ منافٍ لما وَقَعَ التصادق عليه، عُمِلَ بما في كتابِ الوقفِ ولَغَا التصادُقُ. أفتى بذلك ابن رجب. (ومن نَزَلَ عن وظيفةٍ بيدِهِ لمن هو أهلٌ لها) أي للوظيفة (صح) النزولُ، (وكانَ) المنزولُ له (أحقَّ بها) من غيرِهِ (¬1). (وما يأخُذهُ الفقهاءُ من الوقف فكالرِّزقِ من بيت المال، لا كَجُعْلٍ ولا كأجْرَةٍ) في أصحّ الأقوال الثلاثة. ولذلك لا يشترط العلمُ بالقَدْر. وينبني على هذا أن القائلَ بالمنعِ من أخذِ الأُجرةِ على نوعِ القُرَب لا يُمنَعُ من أخذ المشروطِ في الوقف. قاله الحارثي في الناظر. وقال الشيخ تقيّ الدين: وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرةً، بل رِزْقٌ للإعانة على الطاعة. وكذلك المالُ الموقوفُ على أعمالِ البرّ، والموصى به، أو المنذورُ له ليس كالأُجرةِ والجُعْلِ -انتهى. قاله في شرحي الإِقناع والمنتهى. قلت: وعلى الأقوال الثلاثةِ، حيثُ كان ¬

_ (¬1) وقال الشيخ: بل لا يتعيَّن المنزول له، ويُوَلّي من له الولاية من يستحقها شرعاً (عبد الغني).

[في ألفاظ الواقف في الموقوف عليهم]

الاستحقاقُ بشرطٍ فلا بدّ من وجودهِ انتهى. يعني إذا لم يكن الوقفُ من بيتِ المال، فإن كان منه، كأوقافِ السَّلاطينِ من بيتِ المال فليس بوقفٍ حقيقيٍّ، بل كلُّ من جازَ لَهُ الأكلُ من بيتِ المالِ جازَ لَهُ الأكل منها، كما أفتى به صاحب المنتهى موافقةً للشيخ الرمليِّ وغيرِهِ في وقفِ جامِعِ [ابن] طولون ونحوه. انتهى. فصل [في ألفاظ الواقف في الموقوف عليهم] (ومن وَقَفَ على وَلَدِهِ) ثم المساكِين، (أو) وَقَفَ على (ولد غيرِه) كعلى وَلَدِ زيدٍ ثم المساكين، دخل الأولادُ (الموجودون) حالةَ الوقفِ (فَقَطْ) نصَّا (¬1)، (من ذكورٍ وإناثٍ) وخُنَاثى، لأنّ اللفظ شملهم (بالسويّة من غير تفضيلٍ) لأنه شرَّك بينهم، وإطلاق التشريك يقتضي التسوية، كما لو أقرَّ لهم بشيءٍ، وكولد الأمِّ في الميراث (¬2) (ودخل أولادُ الذُّكور خاصّةً) وُجِدُوا حالة الوقف أوْ لا. (وإن قال): وقفت (على أولادي، دخل أولاده الموجودون) حال الوقف، (ومن يُوَلَد لهم)، أي لأولاده الموجودين، (لا) أولادُهُ (الحادِثون تبعاً) (¬3). (و) لو قال: وقفت (على ولدي ومن يُولَد لي، دخلِ) أولادُهُ ¬

_ (¬1) وجزم في الإقناع بدخول من حدث من أولاده. اختاره ابن أبي موسى وغيره، ولأنه إذا دخل أولاد الموجودين، فأولاد الموقوف عليه أولى (شرح المنتهى). (¬2) أي فإن الآية (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) شركت بينهم فسوّينا بينهم للذكر مثل حظ الأنثى. (¬3) هذه المسألة هي عين المسألة السابقة، لا فرق بينهما، وقد سوّى الشّراح بين قول الواقف (على ولدي) وقوله (على أولادي). والتكرار في المتن، فكان على الشارح التنبيه إليه. وقوله "تبعاً" هنا لا موقع له. وليس هو في نسخة المتن المطبوع مفرداً.

(الموجودون و) أولادُه (الحادِثِونَ تبعاً) للموجودين. (ومن وقف) شيئاً. على عَقِبِهِ، أو) وقفه على (نَسْلِهِ، أو) وقف على (وَلَدِ ولدِهِ، أو) وقف على (ذُرِّيَّتِهِ دخل الذكور والإِناث) من أولاده، (لا أولادُ الإِناث (¬1)، إلا بقرينةٍ،). كما لو قال: ومن ماتَ فنصيبُه لولَدِه، وكقوله: على أنّ لولَد البنات سهماً، ولولد الذُّكورِ سَهْمَانِ. وعدم دخول ولد البنات في الصور المتقدّمة مع عدم القرينة. اختاره الأكثر. نقله في الفروع. (ومن وقف) شيئاً (على بنيه، أو على بني فلان، فللذكور خاصّةً) لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقةً، لقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}. ولا يدخل فيه الخُنْثَى لأنه لا يُعلم كونه ذَكَراً. وعلى هذا لو وقف على بناتِهِ اختصّ بهنّ، ولم يدخل فيه الذكورُ ولا الخناثى، لأنه لا يُعْلم كونهنّ إناثاً. ويصح على ولده ومن يولد له. (ويكره هنا) أي في الوقف (أن يفضّل بعضَ أولاده على بعضٍ لغير سببٍ) شرعيّ، لأنه يؤدّي إلى التقاطع. (والسنة أن لا يزادَ ذَكَرٌ على أنثى.) واختار الموفق، وتبعه في الشرح والمبدِعِ وغيرِهِ: يستحب أن يقسمه بينهم للذكر مثلُ حظّ الأنثَيَيْنِ على حسب قسمة الله تعالى الميراثَ، كالعطية. والذكر في مظنّة الحاجةِ غالباً بوجوب حقوقٍ تترتّبُ عليه، بخلاف الأنثى. (فإن كان لبعضهم) أي لبعضِ أولَادِهِ (عيالٌ أو بِهِ حاجَةٌ) كمسكنة (أو [كان] عاجزاً (¬2) عن التكسّب) كأعمى ونحوه، (أو خصّ) أو فضّل (المشتغلين ¬

_ (¬1) ومن هنا كانت هذه وسيلة لحرمان أولاد الإِناث، إذ لو أُبقي المال ميراثاً لحصل لهم نصيب أمهاتهم غالباً. ولأجل ذلك كتب بعض القضاة في عصرنا الحاضر في رد هذا النوع من الوقف الأهلي لما رآه فيه من الحيف. (¬2) في الأصول: "أو عاجزٌ" ولا يستقيم لغة، فصوبناه بإضافة ما بين المعقوفين.

[في نقض الوقف]

بالعلم، أو خَصّ) أو فضّل (ذا الدينِ والصّلاحِ) دون الفسّاق، (فلا بأسَ بذلك.) (¬1) نص عليه. لأنه لِغَرَضٍ مقصودٍ شرعاً. فصل [في نقض الوقف] (والوقف عقدٌ لازم) بمجرّدِ القول، لأنه تبرّعٌ، يمنعُ البيعَ والهبةَ، فلزم بمجرَّدهِ، كالعتق. قال في التلخيص وغيره: وحكمه اللزوم في الحال، أخرجَه مُخْرَجَ الوصية أو لم يخرجه، حَكَم به حاكِمٌ أوْ لا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَاعُ أصْلُها، ولا يُوهَبُ، ولا يورث" (¬2) (لا يفسخ بإقالةٍ ولا غيرِها) لأنه عقدٌ يقتضي التأبيد، فكان من شأنه ذلك، (ولا يُوهَب، ولا يُرْهَنُ، ولا يُورَث، ولا يباع) أي يَحْرُم بيعه، ولا يصحّ. وكذا المُنَاقَلَةُ به (إلا أن تتعطّل منافعه) المقصودة منه (بخرابٍ أو غيرِهِ) بحيث لا يَرُدُّ شيئاً، أو يردّ شيئاً لا يُعَدُّ نفعاً، (ولم يوجد ما يُعمَّر به) بأن لا يكون في الوقف ما يعمّر به ذلك، (فيباغ.) قال في المغني: وإذا لم تتعطّل منافع الوقف بالكليّة لكن قَلَّتْ، وكان غيرُهُ أنْفَعَ منه وأكثر رداً على أهلِ الوَقْفِ لم يَجُزْ بيعُه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة، صيانةً لمقصودِ الوقف. انتهى. (وُيصْرَفُ ثمنه في مثلِهِ، أو بعضِ مثلِه). ويصحُّ بيع بعضِهِ لإِصلاح باقيه. ¬

_ (¬1) التفضيل لغرض مشروع رجحه صاحب المغني على الوجه الآخر، وهو عدم جواز التفضيل. وأعرض صاحب المنتهى وشارحه، فأطلقا وجوب التسوية، فلم يذكرا التفضيل أصلاً. (¬2) حديث "لا يباع أصلها .. " تقدم في أول باب الوقف في حديث وقف عمر رضي الله عنه. وهو متفق عليه.

(وبمجرّدِ شراءِ البَدَلِ) أي بَدَلِ ما بيع من الوقف (يصير) البدلُ (وقفاً) كبدل أضحية، ورهنٍ أُتْلِفَ. والاحتياط وَقْفُه لئلا ينقُضَه بعد ذلك من لا يرى وقفيّتَهُ بمجرّد الشراء. ويبيعُهُ حاكم إن كان على سبيلِ الخيرات، وإلا فناظِرُهُ الخاصّ. والأحوط إذن حاكمٍ له. (وكذا) في الحكم المذكور (حُكْمُ المسْجدِ لو ضاق على أهله) المصلّين به، وتعذّر توسيعه، (أو خَرِبَتْ مَحِلَّتُهُ) أي الناحية التي بها المسجد (أو استقذَرَ موضعُهُ.) ويصح بيع شجرة يَبِسَتْ، وجذعٍ انكسر، أو بَلِيَ، أو خيف الكسر أو الهدم. (ويجوز نقل آلَتِهِ) أي المسجد الذي يجوز بيعه لخرابِه، أو خراب محلته، أو استقذار محلِّهِ، (و) نقلُ (حجارته لمسجدٍ آخر احتاجَ إليهاَ) واحتج الإِمام بأن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قد حوّل مَسْجِدَ الجامِعِ من التَّمارِينَ أي بالكوفة. (وذلك) أي نقل آلته ونقضه إلى مثله (أولى من بيعه) لبقاءِ الانتفاع من غير خَلَلٍ فيه. قال في شرح الإقناع: وعُلِمَ من قوله: "إلى مثله" أي آخر، أنّه لا يعمَّر بآلاتِ المسجِدِ مدرسةٌ، ولا رباطٌ، ولا بئرٌ، ولا حوضٌ، ولا قنطَرَةٌ. وكذا آلاتُ كل واحدٍ من هذه الأمكنة لا يعمّر بها ما عداه، لأن جَعْلَهَا في مثل العين ممكن، فتعيَّنَ، لما تقدم. قاله الحارثي. (ويجوز نقض منارة المسجد، وجعلها في حائِطِهِ لتحصينه.) نصّ عليه في رواية محمد بن الحكم.

ويجوز اختصار (¬1) آنيةٍ موقوفةٍ وإنفاقُ الفَضْلِ على الإِصلاح. (ومن وقف) شيئاً (على ثغرٍ فاختلّ) الثغر الموقوف عليه (صُرِفَ) ما كان يصرف له (في ثغرٍ مثلِهِ.) قال في الفروع: ذكره الشيخ انتهى. قال في التنقيح: (وعلى قياسه) أي قياسِ الثَّغْرِ (مسجدٌ ورباطٌ ونحوهما) كسقايةٍ، ونصَّ فيمن وقف على قنطرةٍ، فانحرف الماء: يُرْصَدُ، لعلّه يرجع. (ويحرم حفر البئر) بالمساجد، (وغَرْسُ الشجر بالمساجد.) قال في الإِنصاف: هذا المذهب. انتهى. فإن فَعَلَ طُمَّتْ وقُلِعَتْ، فإن لم تُقْلع فثمرتها لمساكينه. (ولعلّ هذا) أي تحريم حفر البئر بالمسجد (حيث لم يكن فيه) أي الحفر (مصلحة). قال في الإِقناع: ويتوجّه جوَاز حفر بئرٍ إن كان فيه مصلحة، ولم يحصل به ضيق. قال في الرعاية: لم يكره أحمد حفْرَهَا فيه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول وشرح المنتهى. ولم يتضح لي المراد باختصار الآنية.

باب الهبة

باب الهِبَة (وهي) شرعاً (التبرّع) بالمالِ المعلومِ أو المجهولِ الذي تعذّر علمُه، بشرط أن يكونَ المال موجوداً مقدوراً على تسليمه (في حال الحياةِ) بلا عوضٍ. فمن قَصَدَ بإعطائِهِ ثوابَ الآخِرَةِ فقط، فصدَقةٌ؛ أو إكراماً أو تودّداً ونحوَهُ، فهديةٌ؛ وإلاّ فهبة وعطيّة ونِحْلَةٌ. ويعمُّ جميعَها لفظُ العطيّة. (وهي) أي الهبة (مستحبّة) إذا قَصَد بها وجهَ الله تعالى، كالهِبَةِ لِلعلماءِ والفقراءِ والصالحينَ وما قَصَد به صلةَ الرّحم، لا مباهاةً ورياءً وسمعةً فَتُكره، (منعقدةٌ بكلِّ قولٍ) يدلّ على الهبة (أو فعلٍ يدلّ عليها) وقبضُها كبيعٍ. ولا يصح القبض إلا بإذن واهب. (وشروطها ثمانية): الأول: (كونها من جائزِ التصرف) وهو الحرّ المكلّف الرشيد. (و) الثاني: (كونه مختاراً)، فلا تصح من مكرهٍ، (غيرِ هازِلٍ) فلا تصح منه. (و) الثالث: (كون الموهوب يصحّ بيعُه) قال الفتوحي وعلم من هذا أن كل ما لا يصحُّ بيعُه لاَ تصحّ هبته، وهو المذهب. واختاره القاضي. وقدّمه في الفروع.

(و) الرابع: (كون الموهوبِ له يصحّ تملكه). (و) الخامس: (كونه يَقْبَل ما وُهِبَ له بقولٍ أو فعلٍ يدل عليه، قبل تشاغُلِهما بما يقطع البيع عرفاً). (و) السادس: (كون الهبة منجَّزةً) فلا تصح موَقَّتةً (¬1)، كقوله: وهبتُك هذا شهراً، أو سنةً، أو نحو ذلك، لأنه تعليقٌ لانتهاءِ الهبة، فلا تصحّ معه كالبيع. (و) السابع: (كونها) أي الهبة (غير مؤقّتة) بل لا بد من تنجينرها. (لكن لو وقتت بعمر أحدهما) أي الواهب أو الموهوب له، كأَعْمَرْتُكَ هذه الدارَ، أو الفرَسَ، أو الأَمَةَ، أي جَعلتها لك عُمْرَكَ، أو حياتَكَ، أو عمري، أو حياتي، أو ما بقيتُ، أو أعطيتُكها (¬2) (لزمت) أي الهبة (ولغا التوقيت.) وتكون لمعطًى له ولورثته من بعده إن كانوا كتصريحه (¬3)، وإلا فلبيت المال. (و) الثامن: (كونها) أي الهبة (بغير عوض). ¬

_ (¬1) قوله: فلا تصحُّ مؤقتةُ: مقتضى سابقِهِ ولاحقِهِ أن يُقال "فلا تصح معلقةً، كوهبتك كذا إذا هلّ الهلال. وحرر الحكم. اهـ. (مصحح الطبعة البولاقية). (¬2) أي أعطيتها لك عمرك أو عمري .. الخ. وفي الحديث النبوي تسمية هذا النوع من الهبة "العُمْرى". ومنها نوع يسمَّى "الرُّقبي" وهو أن يقول الواهب "هي لك فإن متَّ قبلي رجعتْ إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك". وسميت الرقبى لأن كلّ منهما يرقب موت صاحبه. ليَستقرّ ملكها له. وقد تسمى المراقبة. قال في (كـ): يبطل شرط رجوعها إلى الواهب لأن الموهوب له إذا مَلَكَ العين لم ينتقل عنه بالشرط ولأنه شرط شرطاً ينافي مقتضى العقد، فصحّ العقد وبطل الشرط، كشرطه في البيع أن لا يبيع. اهـ. ونص الحديث المشار إليه أول هذا التعليق "امسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعْمَرَ عُمْرى فهي للّذي أُعْمِرَها حيًّا وميتاً ولعقبه" رواه أحمد ومسلم. (¬3) عبارة "كتصريحه" ساقطة من (ب، ص)، وثابتة في (ف) والمنتهى. قال في شرح المنتهى: أي المُعْمِر بأن العمرى بعد موتِ معْمَرٍ لورثته سواء كانت عقاراً أو حيواناً. أو غيرهما - اهـ.

فصل

(فإن كانت) الهبةُ (بعوضٍ معلومٍ فبيعٌ) لأنه تمليكٌ بعوضٍ معلومٍ أشْبَهَ البيع (¬1)، وشاركَهُ في الحكم، فيثبت فيها الخيارُ والشفعة. (و) إن كانت (بعوضٍ مجهولٍ فباطلة) لأنه عوض مجهول في معاوضةٍ فلم يصح العقد معه، كالبيع. وحكمها حينئذ حكم البيع الفاسد، فيردّها الموهوبُ له بزيادتها مطلقاً، لأنها نماءُ ملكِ الواهبِ، وإن كانتْ تالفةً ردّ قيمتها. وإن اختلفا في شرطِ عوضٍ فقولُ منكِرٍ بيمينه. (ومن أهدى ليُهدى له أكثرُ، فلا بأسَ) به لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (ويكره ردّ الهبة وإن قلَّتْ) أي كانت قليلة (بل السنّة أن يكافِئَ) المهدي له (أو يدعو له). (وإن علم) من أَتَتْهُ الهديةُ (أنه) أي المهدي إنما (أهدى له حياءً وجبَ الردُّ) أي ردُّ الهدية إليه. نَقَل هذه المسألة ابنُ مفلحٍ في "الآداب" عن ابن الجوزي. فصل (وتُمْلَك الهبة بـ) مجرَّد العقد، وهو الإِيجاب والقبول، فيصح تصرفٌ قبل القبض (¬3). (وتلزَمُ بالقبض) يعني أن الهبة لا تلزَمُ بدونِ قبضٍ بإذنِ واهبٍ، (بشرط أن يكونَ القبضُ بإذن الواهب) فيه، لأنه قبضٌ غيرُ مستحَقٍّ على ¬

_ (¬1) عبارة الشارح "أشبه البيع" فيها نظر، إذ قد حكم بأنها بيعٌ، فكيف يقول بعد: أشبه البيع. (¬2) أما هو فلا، لقول الله تعالى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ولما فيه من الحرص (ش المنتهى). (¬3) قال في شرح المنتهى (2/ 519): على المذهب، وفيه نظر، إذ المبيعُ بخيارٍ لا يصح التصرف فيه زمنه، فها هنا أولى، ولعدم تمام الملك.

[الإبراء]

الواهِبِ، فلم يصحّ بغير إذنه، كأصلِ العقد، وكالرّهن. وهذا على المذهب وهو أنّ الهبة لا تلزم إلا بالقبض. (فقبض ما وُهِبَ بكيلٍ أو وزنٍ أو عَدٍّ أو ذرْعٍ بذلك. وقبضُ الصُّبْرَةِ وما يُنقَل بالنقل) كالخَشَب والأحْجَارِ. (وقبض ما يتناول بالتناول. وقبض غيرِ ذلك) كالدور والدكاكيَن (بالتَّخْلِية). (ويَقْبَلُ ويقْبِضُ لصغيرٍ ومجنونٍ) وُهِبَ لهما شيء (وليهما)، لأنه قبولٌ لمال المحجور عليه، فيه حظّ، فكان إلى الوليّ، كالبيع والشراء. والوليُّ الأبُ، أو وصيُّه، أو الحاكم، أو أمينُهُ. وعند عدم الأوْلياءِ يقبِضُ له من يليه، من أمٍّ وقريبٍ وغيرِهما. نصًّا. قاله في الإِقناع. لكن يصحّ من الصغيرِ والمجنونِ قبضُ المأكول الذي يُدْفَعُ مثلُه للصغير. (ويصحّ أن يهبَ) الإنسان (شيئاً) من دارٍ أو عبد ونحوهما، (ويستثنيَ نفعَهُ مدة معلومةً) كالبيع والعتق. (و) يصح (إن يَهَبَ) أمةً (حاملاً ويستثنيَ حملَها) كالعتق. (وإن وهبَهُ وشَرَط الرجوعَ متى شاءَ لزمت) الهبة (ولغا الشرط). (وإن وهبَ ديْنَهُ لمدينهِ) صحّ، (أو أبْرَأهُ منه) صحّ؛ (أو تَرَكَهُ له،) أو أحلَّهُ منه، أو أسْقَطَهُ عنه، أو ملَّكَهُ له، أو تصدَّقَ بهِ عليه، أو عفا عنه (صحّ، ولزم بمجرَّده،) وبرئتْ ذمَّتُه، (ولو قبْل حُلولهِ) أي الدين، لأنّ تأجيلَهُ لا يمنع ثبوتَهُ في الذِّمَّة. [الإِبراء] (وتصح البَرَاءَةُ) من الحقّ (ولو) كان الحقُّ (مجهولاً) لهما، أو لأحدهما، وسواء جَهِلَا قدرَهُ، أو صفتَهُ، أو هَمُا، ولو لم يتعذّر علمه. لكن لو جهِلَهُ ربُّه، وعَلِمَهُ من عليه الحقّ وكتَمه خوفاً من أنه لو أعلمه لم

[في الرجوع في الهبة]

يبرئْهُ، لم يصح إبراؤُه. قاله في الإِقناع. (ولا تصحّ هبة الدين لغير من هو) أي الدين (عليه) لأن الهبة تقتضي وجودَ معيَّنٍ، وهو منتفٍ هنا (إلا إن كان ضامناً) فإنها تصحّ. فصل [في الرجوع في الهبة] (ولكل واهبٍ) أباً كانَ أو غيرَه (أن يرجع في هبتِهِ قبل إقباضها) لأن عقد الهبةِ لمَ يتمّ، فلا يدخُلُ تحت المنع، قال الحارثي: وعتقُ الموهوبِ وبيعُه وهِبَتُه قبل القبض رجوع، لحصول المنافاة (مع الكراهة) خروجاً من خلاف من قال أنّ الهبة تلزم بالعقد. (ولا يصح الرجوع) للأب فيما وهبه لابنه (إلاَّ بالقول) كأن يقول: قد رَجَعْتُ في هبتي، أو: ارتجعتُها، أو رددتُها. (وبعد إقْباضِها يحرم) الرجوعُ، (ولا يصحّ)، لأنها صارت لازمةً، فتصرُّف الواهِب فيها بعده تصرُّفٌ في ملك الغير بغير مسوِّغ شرعيّ، (ما لم يكن) الواهبَ (أباً فإنَّ له أن يرجع) فيما وَهَبَهُ لابنه (بشروط أربعة): الشرط الأول: (أن لا يُسْقِطَ) أي الأب (حقَّه من الرجوع) فإن أسقطه سقط. (و) الثاني: (إن لا تزيد زيادةً متّصلة) بالعين الموهوبة، كالسِّمَنِ، والكِبَرِ، والحَمْلِ، وتعلُّم الصنْعَةِ. (و) الثالث: (أن تكون) العين الموهوبة (باقيةً في ملكه،) فإن تلفت فلا رجوع في قيمتها. وإن استَوْلَدَ الأمة، أو كانَ وَهَبَها له للاستِعْفَافِ لم يملك الرجوع.

(و) الرابع: (أن لا يرهنها) الابنُ فإن رهنها فلا رجوع لأبيه، لتعلُّق حقٍّ المرتهن. وكذلك إذا أفلسَ الابنُ فلا رجوعَ للأب، لتعلُّق حق الغرماء بالعين. (وللأب الحرّ أن يتملَّك من مال ولده ما شاء)، مع حاجة الأب وعدمها، في صِغَرِ الوَلَدِ وكِبَرِهِ، وسُخْطِهِ ورضاه، وبِعِلْمِهِ وبغيرِه، دون أُمٍّ وَجَدٍّ، وغيرِهما، (بشروطٍ خمسة). الأول: (أن لا يضرَّه) بأن يكونَ فاضلاً عن حاجةِ الوَلَدِ، فليسَ له أن يتملَّك سُريَّتَهُ وإن لم تكن أمَّ ولدٍ، ولا آلةَ حِرْفةٍ يكتَسِبُ بها، ورأسَ مالِ تجارةٍ. (و) الثاني: (أن لا يكون) التملك (في مرضِ موت أحدِهما) أي الأب أو الولد، لأنه بالمرض قد إنعقد السبب القاطِعُ للتملُّك. (و) الثالث: (أن لا يعطيه) أي الأب (لولدٍ آخر) فلا يتملك من مال ولده زيدٍ ليعطيه لولده عمرٍو. (و) الرابع: (أن يكون التملك بالقبضِ) لما يتملَّكُه (مع القولِ) أي قوله تملكْتُهُ أو نحوه (أو النيَّة) لأن القبض أعمُّ من أن يكون للتَملُّكِ وغيرِهِ، فاعتُبِر القولُ أو النيّة ليتعيّن وجه القبض. (و) الخامس: (أن يكون ما يتملّكُهُ) الأب (عيناً موجودةً، فلا يصحّ أن يتملّك) دينَ ابنِهِ لأنه لا يملك التصرف فيه قبل قبضه، ولا أن يتملَّكَ (ما في ذمَّتِهِ من دينِ وَلَدِهِ)، ولا إبراءُ غريمِ وَلَدِهِ، (ولا) يملكُ الأبُ (أن يبرئَ نفسَهُ) من دينِ وَلَدِهِ. زاد في الإِقناع شرطاً سادساً: وهو أن لا يكون الأبُ كافراً والابنُ مسلماً، لا سيَّما إذا كان الابن كافراً ثم أسلم. قاله الشيخ.

[في قسمة المال بين الورثة في الحياة]

وقال: الأشبه أن الأب المسلم ليس له أن يأخُذَ من مال ولدِهِ الكافرِ شيئاً. (وليس لولَدِهِ أن يطالِبَهُ) أي الأبَ (بما في ذمَّته من الدَّين) من قرضٍ، أو ثمنِ مبيعٍ، أو قيمةِ مُتْلَفٍ، أو أرش جناية، (بل إذا مات) الأب، ووجد الولد عين ماله الذي أقرضه لأبيه. أو باعه، أو غصَبَهُ منه، بعد موتِهِ (أَخَذَه) أي ما وجده (من تركتِهِ) إن لم يكن انتَقَدَ (¬1) ثمنَهُ. ولا يكون ميراثاً بل هو له دون سائر الورثة (من رأسِ المال.) فصل [في قسمة المال بين الورثة في الحياة] (ويباح للِإنسان) من ذكرٍ أو أنثى (أن يقسم مالَهُ بين ورثَتِهِ) على قدرِ فريضة الله تعالى، ولو أمكنَ أن يولَدَ له (في حال حياتِهِ). (ويعطي من حَدَثَ) له بعد قسمةِ مالٍ (حصّته وجوباً) ليحصُلَ التعديل. [التسوية بين الأولاد في العطية] (ويجب عليه التسويةُ بينهم على قدْرِ إرثهم) منه، إلاَّ في نفقةٍ وكُسْوَةٍ فتجب الكفاية. (فإن زوّج أحدَهُم، أو خصَّه بلا إذن البقية، حَرُم عليهِ،) وله التخصيص بإذن الباقي منهم. نصّ أحمد في رواية صالحٍ وعبدِ الله وحَنْبَل، فيمن له أولادٌ، زوَّج بعضَ بناتِهِ فجهّزها وأعطاها. قال: يُعطي ¬

_ (¬1) كذا الصواب، كما في شرح المنتهى، وفي الأصول "أنقد" ولعله تصحيف إذ لا يقال "أنقدته" بل "نَقَدْتُهُ" ومطاوِعه "انتَقَدَ".

[في تبرعات المريض]

جميعَ وَلدِهِ مثل ما أعطاها، (ولزمه أن يعطيَهم) أي الباقي من عندِهِ، أو يرجعَ فيما خصّ به بعضَهم، ويعطي الباقي، (حتى يستووا) بمن خصّصَهُ أو فضلَه. قال في "الاختيارات": وينبغي أن يكون على الفور. (فإن مات) المزوِّج أو المخصِّص (قبل التسوية بينهم،) أي بين ورثتِهِ (وليس التخصيصُ بمرضِ موتهِ المخوفِ ثبتَ) أي استقرَّ الملك (للآخذ). (وإن كان بمرضِ موتهِ لم يثبتْ له شيء زائدٌ عنهم) أي عن باقي الورثة (إلا بإجازتهم) لأنّ حكمه كالوصيّة. والتسوية هنا القسمة، لِلذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين. والرجوعُ المذكور يختص بالأب دون الأُمِّ وغيرها. تنبيه: تحرُمُ الشهادةُ على التَّخصيصِ والتفضيلِ، تحمُّلاً وأداءً، إن عَلِمَ الشاهدُ بذلك. وكذا كلُّ عقدٍ مختلفٍ فيه فاسدٍ عند الشاهِدِ، كبيعِ غيرِ مرئيٍّ ولا موصوفٍ. (ما لم يكنْ وقفاً، فـ) إنه (يصحُّ بالثلث، كالأجنبيِّ) قال في الإِقناع وشرحه: ولا يصحّ وقفُ مريضٍ على أجنبيٍّ أو على وارثٍ بزيادةٍ على الثلث، أي ثُلُث مالِهِ، كالعطيّة في المرض، والوصيّة. انتهى. فصل [في تبرعات المريض] (والمرضُ غيرُ المخوفِ كالصُّداعِ) وهو وجع الرأسِ، (ووجعِ الضِّرسِ) والرَّمَدِ والجَرَب والحُمَّى اليسيرةِ كساعةٍ ونحوِها (تبرُّعُ صاحِبِهِ نافذٌ في جميع مالِهِ كتبرّع الصحيح) لأنّ مثل هذه الأمور لا يُخافَ منها

في العادةِ، وكما لو كان مريضاً فَبَرَأ (حتى ولو صار) هذا (مخوفاً، وماتَ منه بعدَ ذلك). (والمرضُ المخوف كالبِرسَام) بكسر الموحدة. وهو بخارٌ يرتقي إلى الرأسِ، فيختلّ العقلُ به. وقالَ عياضٌ: هو وَرَمٌ في الدِّماغِ يتغيّر منه عقلُ الإنسان ويهذي، (وذاتِ الجنب) قروحٌ بباطنِ الجنبِ، (والرعافِ الدائمِ) لأنه يصفّي الدم فتذهبُ القوة، (والقيامِ المتدارِكِ) وهو الإِسهالُ الذي لا يستمْسِك. ومن المخوفِ أيضاً الإِسهال الذي مَعَهُ دَمٌ، لأن ذلك يضعف القوّة، والفالج. (وكذلك) أي وأُلحِقَ بالمريض مرضَ الموتِ المخوفَ ثمانية: أشار إلى الأول منها بقوله: (من) كان (بين الصفّين وقت الحرب) وكلٌّ من الطائفتين مكافِئ، أو كانَ من المقهورة. وأشار للثاني بقوله: (أو كان باللُّجَّةِ) بضم. اللام، أي لجة البحر، (وقتَ الهَيَجَانِ) أي ثَوَرَانِ البحر بسبب هبوب الريح العاصف، لأن الله تعالى وَصَفَ من في هذه الحالة بشدّة الخوف. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. وَأشَارَ إلى الثالث بقوله: (أو وقع الطاعونُ) قال أبو السعادات: هو المرض العامّ والوباءُ الذي يفسُدُ له الهواء، فتفسُد به الأمزِجة والأبدانُ. وقال عياض: هو قروحٌ تخرج من المغابِنِ وغيرِها، لا يلبث صاحِبُها، وتعُمُّ إذا ظهرت. وفي شرح مسلم: وأما الطاعونُ فوبَاءٌ معروف، وهو بُثَرٌ ووَرَمٌ مؤلمٌ جداً يخرجُ مع لَهَبٍ، ويسودُّ ما حولَهُ،

ويخضرّ ويحمرّ حمرةً بنفسجيةً. ويحصُل معه خَفَقَانُ القلبِ (ببلدِهِ) أي بلدِ المعطي. وأشار للرابع بقوله: (أو قُدِّم للقتلِ) سواءٌ أريد قتلُهُ لقصاصٍ أو غيرِهِ، لأن التهديدَ بالقَتْلِ جُعِلَ إكراهاً يمنع وقوعَ الطلاق، وصحةَ البيعِ. ولولا الخوفُ لم تثبت هذه الأحكام. وأشار للخامس بقوله: (أو حُبِسَ له) أي للقتلِ. قال في الإِنصاف: حكم من حُبِسَ للقتل حكم من قُدمَ لِيقتَصَّ منه. انتهى. وأشار للسّادسِ بقوله: (أو جُرِحَ جُرْحاً مُوحِياً) أي مُهْلِكاً، مع ثَباتِ عقلِهِ، لأنه مع عدم ثباتِ عقله لا حُكْمَ لعطيتِهِ، بل ولا لكلامه. وحيث كان عقلُهُ ثابتاً كانَ حُكمْهُ حكمُ المريِضِ. والسابع: من أُسِرَ عند مَنْ عادَتُهُ القتل. والثامن: الحامل عند الطَّلْقِ مَعَ ألَمٍ حتى تنجو من نفاسها. (فكلّ من أصابه شيءٌ من ذلك، ثمّ تبرَّعَ وماتَ نَفَذَ تبرّعه بالثلث) أي ثلث ماله عند الموتِ، لا عند العطية (فقط، للأجنبيِّ، فقط، وإن لم يمت) من مرضِهِ المخوف (فـ) تصرّفه (كـ) تصرُّف (الصحيح.)

[كتاب الوصايا]

كتَاب يذكر فيه مَسَائل مِن أحكَام (الوَصَايَا) والوصيّة لغة عبارة عن الأمر، لقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}، وشرعاً الأمْر بالتصرُّف بعد الموت، وبمالٍ التبرع به بعد الموت. (تصح الوصية من كل) إنسان (عاقل لم يعاين الموتَ). فائدة: قال في الكافي (¬1): قال في الفروع: وفاقاً للشافعي. قال: لأنه لا قول له. والوصيةُ قول. ولنا خلافٌ: هل تُقْبَلُ التوبةُ ما لم يعايِنِ المَلَكَ، أو ما دام مكلفاً، أو ما لم يُغَرْغِر؟ فيه أقوال، (ولو) كان الموصي (مميِّزاً) والمراد يعقِل الوصيةَ، لأنها تصرُّفٌ تمحَّضَ نفعاً للصغير، فصحَّ منه، كالإِسلام، والصلاة، (أو سفيهاً) بمالٍ، فإنها تصحُّ لأنها تمحَّضتْ نفعاً له من غيرِ ضرَرٍ، فصحّتْ منه كعباداته. (فتسنُّ) الوصية (بِخُمْسِ) مالِ (مَنْ تَرَكَ خيراً، وهو) أي الخيرُ (المالُ الكثيرُ عُرفاً) قال في الإِنصاف: يعني في عرف الناسِ، على الصحيح من المذهب. انتهى. فعلى هذا لا يتقدَّر بِشَيءٍ. (وتُكْرَهُ) الوصية (لفقير) أي منه إذا كان (له ورثةٌ). قال في الفروع: ¬

_ (¬1) (ب، ص) ليس فيهما عبارة "فائدة" وهي ثابتة في (ف) فأثبتناها، لأن ذكر خلاف باقي الأئمة غير معتمد في هذا الشرح.

وتُكره لفقيرٍ. قال جماعة: له وارثٌ محتاج. وتصح ممن لا وارِثَ له بجميع مالِهِ. (وتُباح له) أي للفقير (إن كانُوا) أي ورثته (أغنياءَ). (وتجب) الوصية (على من عليه حقٌّ بلا بينّة). (وتحرم) الوصية (على من له وارث) غيرُ زوجٍ أو زوجةٍ (¬1) (بزائدٍ على الثلث) لأجنبيٍّ، (ولوارثٍ بشيءٍ) مطلقاً. ولا فرق في ذلك بين وجودِ الوصيةِ في حال صحة الموصِي أو مرضه. (وتصحُّ) هذه الوصيةُ المحرمة (وتَقِفُ على إجازةِ الورثة،) لأن المنع من ذلك إنما هو لحق الورثة، فإذا رَضُوا بإسقاطِهِ جاز. (والاعتبار بِكَوْنِ من وُصِّيَ) له وصيةٌ، (أو وُهِبَ له) من قبل مريضٍ هبةٌ (وارثاً أوْ لا عند الموت) أي موت الموصي. فمن أوصى لأحَدِ إخوته، ثم حَدَثَ له ولد، صحت الوصيَّةُ للموصى له لِإنه عند الموت ليس بوارثٍ. ومن أوصى لأخِيهِ بشيءٍ، وللموصي ولد، فماتَ قبله، وُقِفَتْ على إجازة بقيّة الورثة. (و) الاعتبار (بالإِجازة) للوصيةِ من قبل الورثة (أو الردّ) منهم (بعده) أي بعد الموت. وما قَبْلَ ذلك من ردٍّ أو إجازةٍ لا عبرة به. قال في الإِنصاف: فهذا المذهب. (فإن امتنعَ الموصى له بعد موتِ الموصي من القبول ومن الردّ، حُكِمَ عَليهِ بالردّ وسَقَطَ حقُّه) من الوصية. ¬

_ (¬1) أما من كان له زوج أو زوجة، فلأنهما لا يرد عليهما، لا تمتنع الوصية بما زاد عن فرضها. حتى لو أوصت امرأة بكل مالها، ورد زوجها الوصية، بطلت في حقه وهو الثلث، لأن له نصف الثلثين وللموصى له الباقي وهو الثلثان. وإن كان الوصي رجلاً لا يرثه غير زوجته، فردت الوصية، بطلت في السدس لأن لها ربع الثلثين (ش المنتهى 540/ 2).

(وإن قَبِل) الموصى له الوصيّةَ (ثم ردّ) الوصيةَ، (لَزِمَتْ، ولم يصحَّ الرد،) سواء قبضها أو لم يقبضها، وسواء كانت مكيلاً أو موزوناً أو غيرَهما. ووجهُ ذلك أنّ الموصى به دخل في ملك الموصى له بمجرّدِ قَبوله للوصية، فلم يَمْلِكْ ردَّه، كردِّهِ لسائر أملاكه. (وتدخل في ملكه) قهراً عليه (من حينِ قبوله، فما حَدَثَ من نماءٍ منفصلٍ قبل ذلك) أي قبل القبول (فـ) هو (للورثة). (وتبطل الوصية بـ) وجودِ واحدٍ من (خمسةِ أشياء): الأول: ما أشار إليه بقوله: (برجوعِ الموصي بقولٍ) كقوله: رجعتُ في وصيَّتي، أو قال: أبطلتُها، أو قال: رَددْتُها، أو: غيَّرتُها، أو: فسخْتُها؛ (أو فعلٍ يدلّ عليه) أي على الرجوع، كما إذا باع ما وصَّى به، أو وَهَبَهُ، أو رهنَهُ، أو عرَضَهُ لهما، أو وصّى ببيعِهِ أو عتقِه أو هبتِه, أو كاتَبَهُ، أو دَبَّرَه، أو خَلَطَهُ بما لا يتميّز، أو طَحَن الحنطة، أو خَبَزَ الدقيقَ، أو نَسَجَ الغَزْلَ، أو ضَرَبَ النُّقْرَة (¬1) دراهمَ، أو ذَبَحَ الشاةَ. الثاني: ما أشار إليه بقوله: (وبموتٍ) أي وتبطلُ الوصية بموتِ (الموصى له قبل) موتِ (الموصي.) الثالث: ما أشار إليه بقوله: (وبقتلِهِ) أي الموصى له (للموصي.) الرابع: ما أشار إليه بقوله: (وبرده) أي ردّ الموصى له (للوصيةِ) بعد موت الموصي. الخامس: ما أشار إليه بقوله: (وبتلف العينِ المعيَّنَةِ الموصى بها.) ¬

_ (¬1) النُّقرة القطعة المذابة من الذهب أو الفضة (قاموس).

باب حكم (الموصى له)

باب حُكمُ (المُوصَى لَه) (تصح الوصية) من كل من تصحّ وصيّتُهُ (لكل من يصحّ تمليكُهُ) من مسلمٍ، وكافرٍ، قال في التنقيح: مطلقاً إن كان معيَّناً، وإلاَّ فلا، قطع به الحارثيّ وغيره. انتهى. (ولو مرتداً، أو حربياً، أو) كان الموصى له (لا يملِكُ كحَمْلِ) فرسِ زيدٍ (وبهيمةِ) عمرٍو، ولو لم يقبلْ زيدٌ وعمروٌ ما وُصِّيَ به لفرسِهِ. (وُيصرَفُ) أي الموصى به (في عَلَفِهَا،) أي الفرس، أو البهيمة، لأن الوصية له، فأُمِرَ بصرْفِ المالِ في مصلَحَتِهِ. فإن ماتت الفرسُ فالباقي للورثة، كما لو ردّ الموصى له. (وتصحُّ) الوصية (للمساجِدِ) وتصرف في مصالِحِها عملاً بالعُرْف. ويصرِفُه الناظرُ إلى الأهمّ فالأهمّ والأصلح باجتهاده؛ (والقناطِرِ ونحوها) كالثغور. (و) تصحُّ الوصية (للهِ ورسولهِ) - صلى الله عليه وسلم -، (وتصرَفُ) هذه الوصية (في المصالح العامة) يعني مصرفَ الفيء. (وإن أوصى بإحراقِ ثلثِ مالِهِ، صحَّ وصُرِفَ في تجميرٍ) أي تبخيرِ (الكَعْبَةِ، وتنوير المساجد). (و) إن أوصى (بدفنِهِ) أي ثلثِ مالِهِ (في التراب، صُرِفَ في تكفينِ الموتى).

(و) إن أوصى (برمْيِهِ) أي ثلث ماله (في الماءِ صرِفَ في عملِ سفنٍ للجهاد). (ولا تصحّ) الوصيةُ (لكنيسةٍ أو بيتِ نارٍ) ولمكانٍ من أماكِنِ الكفرِ، سواءٌ كانت الوصِيَّةُ ببنائِهِما، أو بشيء يُنْفَقُ عليهما، لأن ذلك معصية، فلم تصحّ الوصيةُ بها، كما لو أوصى بعبده أو أَمَتِهِ للفُجُورِ، أو بشراءِ خمرٍ يُتَصَدَّقُ بها على أهل الذمّة، (أو كُتُبِ التوراةِ والإِنجيل) يعني أنه لا تصحُّ الوصية بذلك، لأنهما منسوخانِ، وفيهما تبديلٌ، والاشتغالُ بهما غيرُ جائزٍ، (أو مَلَكٍ) بفتح اللام، أحدِ الملائكة، (أو ميِّتٍ) يعني أن الوصيَّةَ لا تصلُحُ للمَلَكِ، ولا للميِّتِ، لأنهما لا يملكان، أشبهَ ما لو أوصى لحَجَرٍ أو نحوه من الجمادات، (أو جِنِّيٍّ). (ولا) تصح الوصية (لمبهمٍ، كأحدِ هذين، فلو وصى بثلث مالِهِ لمن تصحُّ له الوصية ولمن لا تصحّ، كان الكلُّ لمن تصحُّ له) كمن وصَّى لزيدٍ ولجبريلَ عليه السلام بثُلُثِ مالِهِ، أو لزيدٍ ولحائطٍ، فلزيدٍ الثلث، لأن من شَرَّكَهُ معه لا يملك، فلم يصحّ التشريك. ولو وصى لزيدٍ ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلثِ مالِهِ، قُسِمَ بينَهما نصفَيْنِ. ويصرف ما لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصالح العامة، كما لو وصّى لله تعالى ولزيدٍ. (لكن لو وصّى لحيٍّ وميِّتٍ) يُعْلَم موتَه أوْ لا، (كان للحيِّ النصفُ فقط) من الوصيّة لأنه أضاف الوصيّةَ إليهما، فإذا لم يكن أحدهما محلاً للتمليك بطلت الوصية في نصيبه دون نصيب الحيّ، لخلوِّه من المُعَارِض.

[في ألفاظ الوصية في حق الموصى لهم]

فصل [في ألفاظ الوصية في حق الموصى لهم] (وإذا أوصى) إنسانٌ (لأهل سِكَّتِهِ) بكسر السين (فـ) الموصى به (لأهل زُقَاقِهِ) بضمِ الزاي، أي زقاق الموصي، وهو درْبُهُ، والدَّرْبُ في الأصل بابُ السِّكةِ الواسِعُ. قاله في القاموس. (حال الوصيّة) (¬1). (و) إن أوصى إنسانٌ بشيءٍ (لجيرانِهِ تناوَلَ أربعينَ داراً من كلِّ جانبٍ) قال في الإِنصاف: هذا المذهب. نص عليه. وعليه أكثر الأصحاب. انتهى. وُيقْسَمُ المالُ على عَدَدِ الدُّور. وكلُّ حِصَّةِ دارٍ تقْسَم على سُكَّانِها. وجيرانُ المسجِدِ من يسمعون النداء. (والصبيّ، والصغيرُ، والغلامُ، واليافعُ، واليتيمُ، من لم يبلغْ) قال في شرح المنتهى: يعني أن هذه الألفاظ تطلق على الولَدِ من حينِ ولادتِهِ إلى حين بلوغِهِ، بخلاف "الطفل"، فإنه يطلق إلى حينِ تمييزه فقط. فهذه الأسماء أعمُّ من لفظ "الطفل" قال في فتح البِاري: في حديث "علّموا الصبيَّ الصلاةَ بن سبعٍ" يُؤْخَذُ من إطلاق الصبيّ على ابن سبعٍ الردُّ على من زعم أنه لا يسمى "صبيًّا" إلا إن كان رضيعاً، ثم يقال له: "غلامٌ" إلى أن يصير ابنَ سبعِ سنين، ثم يصير يافِعاً إلى عشرٍ. ويوافق الحديثَ قولُ الجوهريّ: الصبيُّ الغلام. انتهى. (والمميّزُ مَنْ بلغ سبعاً) أي تمّ له سبع سنين. ¬

_ (¬1) أي أهل سِكّتِهِ التي كان منزله فيها عندما أوصى. فلو أوصى ثم انتقل إلى منزل في سكةٍ أخرى ومات به، فالموصى به لأهل سكة المنزل الأول. قال في شرح المنتهى: لأنه قد يلحظ أعيان سكانها الموجودين.

(والطِّفْلُ من دونَ سبعٍ) يعني أنه لو وصّى بشيءٍ للأطفال من بني فلان، أو نحو ذلك، كان لمن لم يميِّز منهم. قال في البدر المنير: الطِّفْلُ الوَلَدُ الصغيرُ من الإِنسانِ والدوابّ. (والمراهِقُ من قارَبَ البلوغَ) قال في القاموس: راهَقَ الغلامُ: قارَبَ الحُلُم. انتهى. (والشابُّ والفتى من البلوغِ إلى ثلاثينَ) سنةً. (والكَهْلُ من الثلاثين إلى الخمسين) قال في القاموس: والكَهْلُ من وَخَطَهُ الشَّيْبُ ورأيْتَ له بَجَالةً، أو مَنْ جاوز الثلاثينَ، أو أربعاً وثلاثينَ، إلى إحدفى وخمسين. انتهى. (والشَّيْخُ من الخمسين إلى السبعين) سنة. (ثم بعدَ ذلك هَرِمٌ) إلى آخِرِ عُمْرِهِ. ومن أوصى بشئٍ "لَهِرِمٍ" (¬1) من بني فلان لم يتناولْ مَنْ سِنُّهُ دون السبعين. وهكذا الحكم فيما إذا أوصى لشبابِهِمْ، أو كُهُولهِمْ، أو شُيُوخِهِم. فإن الوصية لا تتناول من هو دون ذلك، ولا من هو أعلى. (والأيِّمُ والعَزَبُ من لا زوجَ لَهُ من رَجُلٍ أو امرأةٍ) قال في الإِنصاف: قال الشارح: ذكره أصحابنا. انتهى. ووجهه أن "الأيِّم" يقعُ في اللغة على الذَّكر كما يقع على الأنثى. قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وكذا "العزب" يقال: رجلٌ عَزَبٌ وامرأةٌ عَزَبٌ. قال ثعلب: وإنما سُمِّيَ العَزَبُ عزباً لانفراده. وكل شيء انفردَ فهو عَزَبٌ. وذكر أنه لا يقال: أعزب. ورُدَّ عليه بأنها لُغَةٌ. حكاها الأزهريّ عن أبي حاتم. ¬

_ (¬1) "لهرمٍ" هكذا في (ف) وهو مراد الشارح كما لا يخفى من سياق كلامه، أما (ب، ص) ففيهما "لِهِمٍّ" وقد سبق تفسير الهرم. أما الهِمُّ والهِمَّةُ فهو الشيخ الفاني كما في القاموس.

(والبِكْرُ من لم يتزوَّج) من رجلٍ وامرأةٍ. (و) يقال: (رجلٌ ثيِّبٌ وامرأة ثيِّبَةٌ إذا كانا قد تزوَّجا. والثيُّوبَةُ زوالُ البَكَارَةِ) بالوطءِ (ولو من غير زوجٍ) كسيدٍ، ووطءِ شبهة، وَزِناً. (والأرامل) النساءُ (التي فارقَهُنَّ أزواجهن بموتٍ أو حياةٍ) لأنه المعروف بين الناس. قال جرير: هذي الأرامِلُ قَدْ قَضَّيتَ حاجَتَها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرْمَلِ الذَكَرِ فأطلق الأول حيث أراد به الإِناث، لأنه موضوعٌ له، ووصَفَهُ في الثاني بالذَّكَرِ، لأَنه لو أطلقه لم يفهم. (والرَّهْطُ (¬1) ما دون العَشَرةِ من الرجالِ خاصةً) لغةً، لا واحِدَ له من لفظه. والجمع رهوط وأرهاط وأرهط وأراهيط (¬2). قال في "كشف المُشْكِل" الرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة. وكذا قال: "النَّفَرُ"، من ثلاثةٍ إلى عشرة (¬3). قال في الفروع: و"العلماء" حَمَلَةُ الشرع. ¬

_ (¬1) في القاموس: رهط الرجل قومه وقبيلته، ومن ثلاثة إلى عشرة. قُلْتُ والتفسير الأول أولى مما اقتصر عليه في المتن وأقرّه الشارح، لأنه الأحرى بأن يرد في نصوص الوصايا. (¬2) ليس الأول وهو "رهوط" في القاموس، وهو صحيح. (¬3) هذا الفصل يوحي بأنه يرجع في تفسير الألفاظ في نصوص الوصايا إلى كتب اللغة، وليس كذلك دائماً، بل الواجب البحثُ عن مراد الموصي خاصة، لأنه بكلامه يعبِّر عن مراده. فإن لم يعرف مراده عيناً يُرجع إلى أعرافه. ثم أعرافِ بلده وقومه، ثم إلى اللغة. ويأتي نظيرٌ لهذا الفصل في باب جامع الإِيمان.

باب أحكام (الموصى به)

باب أحكام (الموصى به) وهو آخر أركان الوصية الأربعة، وهي: موصٍ، وصِيغَةٌ، وموصى له، وموصىً به. (تصح الوصية حتى بما لا يصحّ بيعه) بعجز الموصي عن تسليمِهِ (كالآبِقِ) من الرقيق، (والشارد) من الدوابّ، (والطيرِ بالهواء، والحَمْلِ بالبطن، واللَّبَنِ بالضَّرْعِ) لأن الوصية أُجريتْ مجرى الميراث، وهذا يورث، فيوصى به. وللموصى له السعي في تحصيله، فإِن قدر عليه أخذه إذا خرج من الثلث. ولا فرق في الحمل بين أن يكون حمْلَ أَمةٍ أو حمْلَ بهيمةٍ مملوكةٍ، لأن الغرر لا يمنع الصحة، فجرى مجرى إعتاقِهِ. ويعتبر وجوده في الأمة بما يعتبر به وجود الحمل الموصى له. وإن كان حمل بهيمةٍ اعتُبِر وجودُه بما يثبت به وجوده في سائر الأحكام. (و) تصحُّ الوصية (بـ) الشيء (المعدومِ، كـ) وصيتِهِ (بما تحمل أمتُهُ) أبداً، أو مدّةً معلومة (أو) بما تحمل (شَجَرَتُهُ أبداً أو مدَّة معلومة) كسنة وسنتين. ونحو ذلك. ولا يلزَمُ الوارِثَ السقي لأنه لا يَضْمَنُ تسليمَهَا، بخلاف مشْترٍ.

(فإن حَصَل شيء) من نماءٍ في ملكِهِ مما أُوصِيَ به (فـ) هو (للموصى له، إلا حملَ الأمة) الموصى له به، (فـ) تكون له (قيمتُهُ) يعطيها مالكُ الأمة للموصى له (يوم وضعِهِ) لحُرمَةِ التفريق بين ذوي الأرحام في الملك. (وتصح) الوصية أيضاً (بغير مالٍ، ككلبٍ مباحِ النفعِ) وهو كلبُ صيدٍ وماشيةٍ وزرعٍ، وجَرْوِهِ، لما يباح اقتناؤهَ له، غيرَ أسودَ بهيمٍ، (و) كـ (زيتٍ متنجّسٍ) لغير مسجدٍ لأن فيه نفعاً مباحاً، وهو جواز الاستصباح به. وللموصى له بالكلبِ والزيتِ ثلُثُهُما، ولو كثر المال، إن لم تُجِز الورثة الوصية في جميعه (¬1). (وتصحّ) الوصيةُ (بالمنفعةِ المفهكةِ) عن الرقبة (كخدمةِ عبدٍ، وأجرَةِ دارٍ ونحوهما) كأجرة دابة. (وتصحُّ) الوصية (بالمبهم، كثوبِ،) فإنه يشمل المنسوج من الصوف والقطن والكَتَّانِ والحرير، والمصبوغَ، والكبيرَ والصغيرَ، ونسجَ كلَّ بلدٍ، لأن غاية ذلك أنه مجهول (ويعطى) أي يعطي الورثةُ الموصى له بثوبٍ (ما يَقَعُ عليه الاسم) أي اسم الثوب، لأنه اليقين. (فإن اختلف الاسمُ) أي اسم الموصى به (بالعُرفِ والحقيقةِ) اللغويّة (غُلِّبَتْ) بالتضعيف والبناء للمفعول، يعني أنه يعمل بمقتضى (الحقيقة) (¬2) مع مخالفة العرف لها، لأنها الأصل. ولهذا يحمل عليها كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (فـ) على هذا (الشاةُ والبعيرُ والثورُ اسم للذَّكَرِ والأنثى (¬3) من صغيرٍ ¬

_ (¬1) لأنّ الكلب والمتنجس ليس بمالٍ، ولا يقابَلُ شيء من ماله، فكأنه جنس مستقلٌّ والمال جنسٌ آخر، فيعتبر بنفسه كما لو لم يكن له مال سواه (ش المنتهى - بتصرف). (¬2) هذا المذهب. وقيل يغلَّب العرف، كالأيمان، وهو قول صاحب المغني وهو أولى. (¬3) هذا وهم من المؤلف تبع فيه المنتهى وشرحه، ولم ينبه عليه الشارح، فالثور في اللغة =

وكبيرٍ،) ويتناول لفظ الشاة الضأن. (والحِصَانُ) بكسِرِ الحاءِ المهملة، (والجَمَلُ) بفتح الميم وسكونها (والحمار والبَغْلُ والعبد اسمٌ للذكر خاصة) فلو وكَّلَه في شراءِ عبدٍ لم يكن له شراءُ أَمَةٍ، فلا تنصرف الوصية بذلك إلا إلى الذكر. (والحِجْرُ) بكسر الحاء وسكون الجيم وآخره راء (والأتَان) الحِمَارَةُ قال في القاموس: والأتانَةُ قليلة (¬1). انتهى. (والناقة والبقرة اسم للأنثى) (¬2) قاله في الإِنصاف. (والفرس والرقيق اسم لهما) أي للذكر والأنثى، ويكونان للخُنثى أيضاً. (والنَّعْجَةُ اسم للأنثى من الضَّأن. والكبشُ اسمِ للذكر الكبيرِ منه) أي الضأن. (والتيس اسمٌ للذكر الكبير من المعْز). (والدابّة عرفاً اسم للذَّكَرِ والأنثى من الخيلِ والبغالِ والحميرِ) لأن ذلك هو المتعارف. قال الحارثي: والقائلون بالحقيقة لم يقولوا هاهنا بالأعمّ لأنهم لَحَظوا غلبةَ استعماله أي العرف (¬3) في الأجناس الثلاثة بحيث صارت الحقيقةُ مهجورةً. ¬

_ = اسم للذكر من البقر خاصة، لا يكون للأنثى، كذا في اللسان والقاموس والزاهر للأزهري. ولو مثلوا بـ (البقرة) لكان صوابا، فإن البقرة للذكر والأنثى، بمنزلة (الشاة) في الغنم. أما التمثيل بـ (البعير) لما يكون للذكر والأنثى فصحيح، وإن كان الغالب استعماله للذكر خاصة ولذا نقل في الزاهر عن الشافعي رضي الله عنه أن الموصي "لو قال: أعطوه ثوراً أو بعيراً" لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ولا بقرة. ووهم أيضاً في أن البعير يكون للصغير، ففي لسان العرب: البعير الجمل البازل، وقيل الجذع. (¬1) ليست الحجر الحمارة كما يدل عليه كلامه، بل هي أنثى الخيل خاصة، كما في اللسان وش المنتهى. (¬2) تقدّم ما فيه. (¬3) عبارة "أي العرف" ساقطة من (ف).

باب الموصى إليه

باب المُوُصَى إليه هو المأذون له في التصرُّفِ بعد الموت، في المالِ وغيرِهِ مما للوليِّ التصرفُ فيه حال الحياةِ، مما تدخله النيابة. (تصحّ وصيةُ المسلمِ إلى كلِّ مسلمٍ، مكلَّفٍ، رشيدٍ, عَدْلٍ) إجماعاً (ولو) كان الموصى إليه عدلاً (ظاهراً، أو أعمى، أو امرأةً) أو أمَّ ولدٍ، أو عدوَّ الطفلِ الموصَّى عليهِ (¬1)، ولو عاجزاً، وُيضَمّ إليه قويٌّ أمينٌ معاون. ولا تُزَالُ يده عن المالِ، ولا نَظَرُهُ عنه. وهكذا إن كان قوياً فحدث به ضعف. (أو رقيقاً) أو مُبَعَّضاً، (لكن لا يَقْبَلُ) الرقيقُ وأمُّ الولد والمبعَّضُ (إلا بإذن سيّده) الذي يملكه أو بعضَهُ. (وتصحُّ) الوصيّة (من كافرٍ إلى) كافرٍ (عدْلٍ في دينه) لأنه يلي على غيره بالنسبة (¬2)، فيلي بالوصية. (ويعتبر وجودُ هذه الصفات) المذكورة (عند الوصيةِ والموتِ) أي حال صدور الوصيةِ، وحالَ صدور (¬3) موتِ الموصي في الأصحّ، لأنها ¬

_ (¬1) كذا في (ب، ص)، وفي (ف): "عبد الطفل" ولعله أولى. وليس النصّ في شرح المنتهى، ولم نجده في غير هذا المكان. (¬2) كذا في (ب، ص)، وهي في (ف) "بالنَّسَبيّة" وكلاهما صواب. (¬3) كذا في الأصول، والأولى حذف "صدور" الثانية.

فصل

شروطٌ للعقد، فاعتُبرت حال وجودهِ، ولأنّ الموصى إليه، يملك التصرّف بالإِيصاء بعد الموت فاعتُبر وجودُها عنده. (وللموصى إليه أن يَقْبَلَ وأن يَعْزِلَ نفسَه متى شاء) مع القدرة والعجز، في حياة الموصي، وبعد موته، وحُضورِه وغَيبتِه. وللموصي عزلُهُ متى شاء. (وتصح الوصية معلَّقَةً، كإذا بَلَغَ، أو: حَضَرَ، أو: رَشَدَ، أو: تابَ من فِسْقِهِ) كما لو أوصى إلى مجنون ليكون وصياً إذا عَقَل. وتُسَمَّى الوَصِيَّةَ لِمُنْتَظَرٍ. (أو إن ماتَ زيدٌ فعمروٌ وصيٌّ (مكانه). (وتصح) الوصية (مؤقَّتَةً، كزيدٌ وصيٌّ سنةً، ثم عمرٌو) وصيٌّ بعْدَ السنة. قال في الإِنصاف: لخبر الصحيحين "أميركم زيدٌ، فإنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ، فإن قُتِلَ فعبد الله بن رَوَاحة" (¬1) والوصيَّةُ كالتأمير. (وليس للوصيّ أن يوصي) لأحدٍ بعد موتهِ (إلاَّ إن جُعِلَ له ذلك) من قبل مُوصيه. (ولا نَظَرَ للحاكِمِ مع الوصى الخاصّ إن كان) الوصي (كفؤاً). فصل (ولا تصحّ الوصية) إلى الموصى إليه (إلاَّ) في تصرفٍ (في شيءٍ معلومٍ) ليعلم الموصى إليه ما وصى به إليه، ليتصرف فيه كما أمره، (يملكَ الموصِي فعلَه) أي فعلَ ذلك التصرف، لأنه أصيلٌ، والوصيُّ فرع عنه، فلا يملك الفَرْعُ ما لا يملكُهُ الأصل، (كقضاءِ الدَّينِ، وتفريق الوصية، وردِّ الحقوق،) كالأمانَةِ والغصب (إلى أهلها، والنَّظَرِ في أمرِ غيرِ مكلَّفٍ،) وتزويج مَوْليَّاتِهِ. ¬

_ (¬1) قاله - صلى الله عليه وسلم - للذين أرسلهم في غزو مؤتة.

ويقوم الوصيُّ فيه مقامَهُ في الإِجبار. (لا) تصحُّ الوصية (باستيفاءِ الدين مع رُشْدِ وارثِهِ) لأنّ المالَ انتقل عن الميت إلى من لا ولاية له عليه، فلا يَصحُّ استيفاء مالِ غيره ممن هو مطلق التصرف، كما لو لم يكن وارثاً. (ومن وُصِّيَ في شيء لم يصر وصيًّا في غيره) لأنه استَفَادَ التصرُّف بالإِذن من جهته، فكانَ مقصوراً على ما أذن فيه، كالوكيل. (وإن صرف أجنبي) أي من ليس بوارث ولا وصيّ، الشيءَ (الموصى به لمعيَّنٍ في جهتِهِ لم يضمنه،) لأن التصرف قد صادَفَ مستحقَّهُ، أشبهَ ما لو دفع وديعةً لربِّها من غير إذن المودَع. وظاهره ولو مع غيبة الورَثَةِ. ونقل ابن هانئ فيمن وصَّى بدفْع مَهْرِ امرأتِهِ لم يدفعه مع غيبة الورثة. (وإذا قال له) أي: إذا قال إنسانٌ لوصيِّه: (ضع ثلثَ مالي حيث شئت، أو: أعطِهِ) لمن شئتَ، (أو: تصدقْ به على من شئتَ، لم يَجُزْ له أخذه،) لأنه تمليك مَلَكَهُ بالإِذن، فلا يكون قابلاً له، كالوكيل. (ولا) يجوز له أيضاً (دفْعُهُ إلى أقاربه) أي أقارب الوصيّ (الوارثينَ،) سواء كانوا أغنياء أو فقراء. (ولا) يجوز للوصيّ أيضاً دفعه (إلى ورثة الموصي). قال في الإِنصاف: ذكره المَجْدُ في شرح الهداية. ونص عليه. قال في شرح المنتهى: ولعلَّ وجه ذلك أنه وَصَّى بإخراجه، فلا يرجع إلى ورثته (ومن مات ببرية) بفتح الباء وهي الصحراء، أو ضدّ الرِّيفيَّة. قاله في القاموس، (ونحوِها) كالجزائر التي لا عُمْرَانَ بها، (و) الحالةُ أنه (لا حاكم) حاضرٌ موته (ولا وصيّ) أي ولم يوص إلى أحد (فلكلِّ مسلم) حَضَرَهُ (أخذُ تركته، وبيعُ ما يراه) منها، كشيءٍ يسرع إليه الفساد، لأن

ذلك موضع ضرورةٍ لحفظِ مال المسلم عليه، إذ في تركه إتلافٌ له (¬1)، وذلك لا يجوز. نصَّ أحمد على ذلك، قال: وأمّا الجواري فأُحِبُّ أن يتولّى بيعهن حاكم من الحكام، (وتجهيزُهُ) أي يجهِّزُ الميِّتَ حاضِرُهُ (منها) أي من تركت (إن كانَتْ) أي إن كان له تركة، (وإلا) أي إن لم يكن له تركة (جَهَّزَهُ) حاضِرُهُ (من عندِهِ، وله الرجوعُ بما غَرِمَهُ) على تركته حيث كانت، فإن لم تكن فعلى من تلزَمُهُ نفقتُه إن لم يتركْ شيئاً (إن نوى الرجوع) أو كان الميتُ ببلدٍ، ولم يوجدْ معه ما يجهَّزُ به، واستأذَنَ إنسانٌ حاكماً في تجهيزِهِ، فإن له الرجوعَ بذلك على تركته حيث كانتْ، أو على من تلزمه نفقته. ¬

_ (¬1) أي تعريض له للتلف، وليس المراد حقيقة الإِتلاف الذي هو سبب الضمان.

[كتاب الفرائض]

باب يذكر فيه جل أحكام (الفَرائض) والفرض يأتي لمعانٍ، منها: القَطْعُ للخيط، وفَرْضُ القوسِ موضع الوَتَر، والثَّلْمَةُ في النهر؛ والتقدير في الإِنفاق؛ والإِنزال، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}؛ والبيان كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} بالتخفيف؛ والإِيجاب، كفرض الحجّ بالإِحرام؛ والعطاء، كقول العرب: "ما رأيتُ مِنْة فَرْضاً ولا قَرْضاً"، والنصيب، كما هنا. (وهي) أي الفرائض، شرعاً (العلم بقسمة المواريث). ويسمّى القائم بهذا العلم والعارف به: فارضاً، وفَرِيضاً، كعالمٍ وعليمٍ، وفَرَضِياً. وقد وردت أحاديث تدل على فضله والحسِّ على تعلُّمِهِ وتعليمه، فمن ذلك ما روى أبو هريرة مرفوعاً "تعلَّموا الفرائضَ وعلِّموها الناسَ، فإنَّها نِصْفُ العلم، وهو يُنْسى، وهو أوَل علمٍ يُنْزَعُ من أمتي" (¬1) رواه ابن ماجه والدارَقُطْنِي من رواية حفص بن عمر. وقد اختُلِفَ في معناه، فقال أهل السلامة: لا نتكلم فيه، بل ¬

_ (¬1) حديث "تعلموا الفرائض" إلى آخر ما ذكره في الشرح: حديث ضعيف. رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي والدارقطني. وضعْفُهُ من ضعف حفص بن عمر، تفرد به، قال فيه البخاري: منكر الحديث (الإرواء ح 1664)

[أحكام التركات]

يجب علينا اتّباعه. وقال قوم: معنى كونهَا نصفَ العلم باعتبارِ الحال، فإن حال الناس اثنان (¬1): حياة ووفاة، فالفرائض تتعلَّق بالثاني، وباقي العلومَ بالأوَّل. وقيل: نصفٌ باعتبارِ الثَّواب، لأنه يستحقُّ بتعليمِهِ مسألةً واحدةً في الفرائضِ مائَةَ حسنةٍ، وبغيرها من العلوم عشرَ حسناتٍ. وقيل باعتبار المشقّة. وضعَّفَ بعضهُم هذين القولين، وقال: إن أحسن الأقوال أن يُقال: إن أسبابَ المِلكِ نوعان: اختياريٌّ، وهو ما يَمْلِكُ رَدَّهُ، كالشراءِ والهبة، ونحوهما؛ واضطراريٌّ، وهو ما لا يملك ردَّه، وهو الإِرث. [أحكام التركات] (وإذا مات الإنسان بدئ من تَرِكَتِهِ بكفَنِهِ وحنوطه ومؤنة تجهيزه) بالمعروف، (من رأسِ مالِهِ، سواءٌ كان قد تعلَّق به) أي المال (حقُّ رهنٍ، أو أرشُ جنايةٍ، أوْ لا) بأن لم يتعلقْ بِهِ شيء من ذلك، كَحَالِ الحياةِ، إذْ لا يُقضى دينُهُ إلا بما فَضَل عن حاجته. (وما بقي بعد ذلك) أي بعد مؤنة تجهيزِهِ بالمعروف (تُقضى منه ديونُ الله) سبحانه وتعالى، كزكاةِ المالِ، وصدقَةِ الفطر، والكفَّارة، والحَجِّ الواجب، والنَّذْر (وديونُ الآدميّين) كالقَرْض، والثَّمَنِ، والأُجرة، والجُعالةِ المستقرّة، والمغصوب، وَقِيمِ المتلفات. (وما بقي بعد ذلك تُنفَّذ منه وصاياه) لأجنبيٍّ (من ثلثه) إلا أن يجيزها الورثة,. فتُنَفَّذَ من جميع الباقي. (ثم يُقْسَم ما بقي بعد ذلك على ورثته) لقوله تعالى: {مِنْ بَعْد وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. ¬

_ (¬1) " اثنان" ثابتة في (ف) دون (ب، ص).

[في أسباب الميراث]

فصل [في أسباب الميراث] (وأسباب) جمعُ سببِ، وهو لغةً: ما يُتوَصَّل به إلى غيره، كالسُّلَّم لطلوعِ السطح، واصطلاحاً ما يَلْزَمُ من وجوده الوجودُ، ومن عَدَمِهِ العَدَمُ، لذاته، كعقد الزوجيّة الصحيح: يلزم من وجوده الإِرث، ومن عدمه العدم، (الإِرث) هو انتقال ملك مالِ ميّتٍ بموتهِ إلى حيٍّ بعده، لسببٍ من أسباب (ثلاثة) فقط، فلا يَرِثُ ولا يُورث بغيرها، كالموالاة (¬1). الأول: (النسب) وهو القرابة، وهي الاتّصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادةٍ قريبةٍ أو بعيدة. (و) الثاني: (النكاح)، وهو عقد الزوجية (الصحيح،) سواءٌ دخَل أوْ لا، فلا ميراثَ في النكاح الفاسد، لأن وجوده كعدمه. (و) الثالث: (الولاء) وهو ثبوتُ حكمٍ شرعيٍّ بالعتق، أو تعاطي أسبابه (¬2). فيرث به المعتِقُ وعصَبَتُه مِنْ عتيقِهِ، ولا عكس. (وموانعه) أي الإِرث (ثلاثة): الأول: (القتل؛ و) الثاني: (الرق؛ و) الثالث: (اختلاف الدين.) وستأتي. ¬

_ (¬1) الموالاة التحالُفُ بين اثنين فأكثر: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول أنت مولاي: تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك. وعُمِل به بعد الهجرة عندما آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، فكان الأنصاري يرث أخاه المهاجر دون إخوته من النسب، حتى نزل قول الله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فنسخ ذلك، فلا ميراث به الآن. وقال الحنفية يرث، ويقدم عندهم عليه ذوو الأرحامَ، فإن لم يكن له منهم أحد ورثه مولى الموالاة بشروط يذكرونها (راجع ابن عابدين 5/ 78، 487) ط. بولاق 1272 هـ. (¬2) أي كالاستيلاد، والتدبِير. فمن استولد أمة أو دبّرها عتقت بموته، وكان له ولاؤها.

وأركانُ الإِرث ثلاثة: وارِثٌ، وموروثٌ، وحقٌّ موروثٌ. وشروطه ثلاثة: تحقُّقُ حياة الوارِث، أو إلحاقُهُ بالأحياء؛ وتحقُّق موتِ المورِّث، أو إلحاقه بالأموات؛ والعِلْمُ بالجهة المقتضية للِإرث. (والمُجْمَع على توريثهم من الذكور بالاختصار عشرة: الابنُ، وابنُه وإن نزل؛) لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية، وابنُ الابن ابن، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ}؛ (والأبُ، وأبوهُ وإن علا,) لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (¬1) (والأخُ مطلقاً) أي سواءٌ كان لأمٍّ، أو لأب، أو لهما، فأما الذي للأمِّ فإنّ إرثه قد ثبت بقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وأما الذي للأبوين، والذي للأب فبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلِحْقُوا الفَرائِضَ بأهلها، فما أبقت الفروض فهو لأَوْلى رجلٍ ذكر" (¬2) (وابنُ الأخ، لا) إذا كان أبوه أخاً للميت (من الأم) فإنه يكون من ذوي الأرحام (¬3)، والمُجْمَع على توريثِهِ هو الذي من العصبة، وهو ابنُ الأخ للأبوين، وابن الأخ للأب، وقد ثبت إرثهما؛ (والعم وابنه كذلك) أي الذي للأبوين، والذي للأب، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها. الحديث"، وأما العمّ للأم وابنُهُ، فمن ذوي الأرحام؛ (والزوج) لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}؛ (والمعتِقُ) أي الشخص المعتِقُ للميِّتِ، أو لمن أعتَقَ الميِّتَ. (و) المجمَعُ على توريثهم (من الإِناث. بالاختصار سبع: البنت، ¬

_ (¬1) كان الأولى تقديم ذكر هذه الآية عند قوله "والأب" لأن تأخيرها يقتضي أنه دليل لتوريث الجدّ، وليس كذلك. (¬2) كان الأولى الاحتجاج له بالآية التي في آخر سورة النساء، وهي قوله تعالى {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فهي نص في الأخت والأخ المعصّب. أما الحديث فعام. وليس نصًّا أما حديث "ألحقوا الفرائض بأهلها ... " فهو متفق عليه. (¬3) أي: وذوو الأرحام ليسوا مجمعاً على توريثهم.

فصل

وبنت الابنِ وإن نزلَ أبوها، والأم، والجدَّة مطلقاً) أي سواء كانت من جهة الأم أو من جهة الأب، (والأخت مطلقاً) أي سواء كانت شقيقةً أو لأبٍ أو لأم (والزوجةُ) بالتاء، لغةُ سائِر العَرَب ما عدا أهلَ الحجازِ، اقتصَر الفَرَضيُّونَ والفقهاءُ عليها للِإيضاح خوفَ اللبس، (والمعتِقة) أي المرأة المعتقة للميت. فصل (والوارث ثلاثة): أحدها (ذو فرضٍ؛ و) الثاني (عصبة؛ و) الثالث (ذو رحم). (والفروض المقدرة) في كتاب الله تعالى: (ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس) أو تقول في عدَّها: السدُس والثمُن، وضعفهما، وضعفُ ضعفِهما؛ أو تقول: الثلثان، والنصف، ونصفهما، ونصف نصفهما، وأخصر العبارات أن تقول: الثلثُ والربُعُ، ونصف كلٍّ، وضعفه. (وأصحابُ هذه الفروض) الستة (بالاختصار عشرة: الزوجان) على البدلية؛ (والأبوان) مجتمعين أو منفردين؛ (والجد) لأب؛ (والجدة مطلقاً) أي سواء كانت لأم أو لأب؛ (والأخت مطلقاً) أي سواء كانت شقيقةً أو لأبٍ أو لأمٍّ؛ (والبنت؛ وبنت الابن) وإن نزل أبوها؛ (والأخ من الأمّ.) وتسمّى الإخوةُ والأخوات من الأمّ والأب: بني الأعْيَانِ، لأنهم من عينٍ واحدةٍ، وللأب فقط: بني العَلاَّتِ، جمعِ عَلَّةٍ، بفتح العين المهملة، وهي الضَّرَّة. قال في القاموس: وبنو العَلاَّتِ بنو أمهاتٍ شتَّى

[تفصيل أحوال أصحاب الفروض]

من رجلٍ، لأن الذي يتزوّجها على أولى قد كان قبلها تأهل (¬1) ثم علّ من هذه. انتهى. وللأمِّ فقط بني أخْيَافٍ، بالخاء المعجمة، يليها مثنّاة تحتيّة، سُمُّوا بذلك لأن الأخْيَاف الأخلاطُ، فهم من أخلاط الرّجال، ليْسُوا من رجلٍ واحدٍ. [تفصيل أحوال أصحاب الفروض] وإن أردتَ تفصيلَ أحوالِ أصحاب الفروض: (فالنصف: فرضُ خمسةٍ: فرضٌ لزوجٍ حيْثُ لا فَرْع) والفَرْعُ ابنٌ أو بنتٌ، منه أو من غيره، أو ابنُ ابنٍ أو بنت ابنٍ (وارِثٍ للزوجة) بأن لم يقمْ به مانعٌ. فإن قامَ به مانعٌ فوجوده كعدمه. (وفرض البنتِ) وحدها، قال في المغني: لا خلاف في هذا بين علماء المسلمين، لقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النَصْف). (و) النصف (فرضُ بنتِ الابنِ) منفردةً وإن نَزَلَ أبوها (مع عدم أولادِ الصُّلْبِ) مطلقاً. (وفرضُ الأختِ الشقيقةِ مع عدمِ الفرع) ذكراً كان أو أنثى (الوارِثِ،) فالساقِطُ كالمعدوم. (وفرضُ الأختِ للأبِ مع عدم الأشقّاء.) ¬

_ (¬1) في الأصول ومطبوع منار السبيل "لأن الذي يتزوجها على أولى قد كان قَبْلَهَا تأهّل ثم عل من هذه" والذي في مطبوع القاموس بمطبعة السعادة بمصر "لأن التي تزوّجها على أولى قد كانت قبلَهَا ناهلٌ ثم عَلّ من هذه" فقال "ناهل" بالنون من النهل، وهو أول شَربةٍ والعلل الشُّرْبَةُ الثانية. وفي كلا النصّين ما فيه. وبقيت العقدة في التاج أيضاً. والنص في اللسان دون قوله "ناهلٌ" وبعد المراجعة وجدنا في الأساس "وقيل: سميت عَلّةً لأن الذي تزوّجها بعد الأولى كان قد نَهَلَ منها ثم عل من هذه " فاتّسَق القول. والله المستعان.

فصل

ومحلُّ فرضِ النصفِ للبنتِ وبنتِ الابنِ والأختِ إذا كن منفرداتٍ لم يعصَّبْنَ. (والربع: فرض اثنين): (فرضٌ لزوجٍ) من زوجتِهِ (معَ الفرعِ الوارِثِ). (وفرضٌ لزوجةٍ فأكثرَ) من تركة زوجِها (مع عدمهِ) أي عدم الفرع الوارث. (والثمن: فرضُ) صنفٍ واحد، وهو الزوجةٍ فأكثر، مع الفرعِ الوارثِ) ذكراً أو أنثى، واحداً أو متعدداً، منها أو من غيرِها. فصل (والثلثان: فرض أربعةٍ): (فرضُ البنتينِ فأكثر) من اثنتينِ لم يعصَّبْنَ. (و) فرضُ (ابنتي الابنِ فأكثرَ) من اثنتين. (والأختينِ الشقيقتين فأكثر). (والأختين للأب فأكثر). أما كونُ الثلثينِ فرضَ البنتينِ، أو بنتي الابن، فأكثر، فلقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ولا خلافَ في ذلك إلا ما شذّ عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، أنَّ البنتينِ فرضُهما النصفُ، أخذاً بالمفهوم، والآيةُ ظاهرة الدلالة (¬1) على ما زاد على اثنتين، ووجهُ دلالتِهَا عليهما أن الآية وردتْ على سببٍ خاصٌّ، وهو ما رواه جابرٌ قال: "جاءتِ امرأةُ سعدِ بن الربِيع بابنتيها إلى رسولِ ¬

_ (¬1) المراد بالظهور التعبير اللغوي، أي واضحة الدلالة، لا الإصطلاحي، لأنها فيما فوق اثنتين نص بلا احتمال.

الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هاتانِ ابنتَا سعدٍ، قُتِلَ أبوهُمَا معك يومَ أُحُدٍ، وإنّ عمّهما (¬1) أخَذَ مالَهما فلم يدع لهما شيئاً من ماله. قال: يقضي اللهُ في ذلك. فنزلتْ آيةُ المواريث. فدعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عمهما (¬2)، فقال: أعطِ ابنتيْ سعدٍ الثلثينِ، وأعطِ أمّهما الثمن، وما بقي فهو لك" رواه أبو داود وصححه الترمذي. فدلّت الآية على فرضِ ما زادَ على الثلثين، ودلّت السنة على فرض الاثنتين (¬3). و"فوقُ" في الآية الكريمةِ ادُّعِيَ زيادتُها. وقيل: المعنى: اثنتين فما فوق. وأما كون الثلثين فرضَ الأختين للأبوين أو للأب فلقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} قال في المغني: والمراد بهذه الآية الكريمة وَلَدُ الأبوين، أو ولدُ الأب، بإجماع أهل العلم. (والثلث: فرض اثنين): (فرضُ وَلدي الأمِّ) ذكرين، أو أُنثيين، أو خُنْثيين، أو مختلفين، (فأكثر، يستوي فيه) أي الثلث (ذكرُهُمْ وأنثاهم) إجماعاً، لقوله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} أجمعوا على أنّها نزلت في الإِخوة للأمِّ. والكلالة الورثةُ غيرَ الأبَوينِ والوَلَدَينِ. نص عليه. وهو قول الصدِّيق. وقيل: الميّت الذي لا وَلَدَ له ولا والد. وروي عن عمر وعلي وابن مسعود. وقيل: قرابةُ الأم. (و) الثلث (فرض الأمّ) أيضاً (حيث لا فرعٌ وإرثٌ للميت، ولا ¬

_ (¬1) في الأصول "وابن عمّهما" وما ذكرناه الصواب كما في تفسير القرطبي وكتب الحديث. (¬2) في الأصول أيضاً "ابن عمّهما". وصححناه بحذف "ابن". والحديث رواه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم (منار السبيل 2/ 57). (¬3) بل في القرآن أيضاً الدلالة على الثنتين، وهو الآية التي في آخر سورة النساء، وفيها في حق الأختين "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " فالبنتان أولى.

جمعٌ من الإِخوة والأخوات) قال في المغني: بلا خلافٍ نعلمه بين أَهْلِ العلم. انتهى. لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. (لكن لو كانَ) أي وُجِدَ (هناك أَبٌ وأمٌ وزوج أو زوجة، كان للأمِّ ثلث الباقي) في الصورتين. فالمسألة الثانية من أربعة: للزوجة الربع، واحد، وللأم ثلث الباقي، وهو واحد، وللأب الباقي وهو اثنان. وإن كانَ مكانَ الزوجة زوج، كانت المسألة من ستة: للزوج النصف، ثلاثة، وللأمّ ثلث الباقي، وهو في الحقيقة سدس، وللأب الباقي [وهو اثنان]. قال في المغني: وهاتان المسألتان تُسَمَّيان العُمَريّتين، لأن عمر رضي الله عنه قضى فيهما بهذا القضاء، فاتَّبعه على ذلك عثمانُ وزيدُ بن ثابت وابنُ مسعود. وروي ذلك عن علي وبه قال الحسنُ والثوريّ ومالك والشافعي وأصحابُ الرأي. (والسدس: فرض سبعة): (فرض الأمّ مع الفرع الوارث) يعني أن الأم (¬1) إذا كانت مع وجودِ ولدٍ للميت، أو ولد ابن، (أو) مع (جمع من الإِخوة والأخوات) كاملي الحرية، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ولفظ الإخوة هنا يتناول الأخوين، لأن المقصودَ الجهة المطلقة، من غير كمية. وكلُّ حَجْبٍ تعلَّق بعددٍ كانَ أوّله اثنين، كحجب البناتِ بناتِ الابن، والأخوات من الأبوين الأخواتِ من الأب. والإِخوة تستعمل في اثنين، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. ولعل الصواب بحذف (إن) إذ لم يذكر لها خبر.

في أحكام الجد والإخوة

الْأُنْثَيَيْنِ} وهذا الحكم ثابثٌ في أخٍ وأختٍ. ولا فرق في الحاجب للأمِّ إلى السدس من الإِخوةِ بين كونهِ وارثاً أو محجوباً بالأب. (و) السدس (فرض الجدة فأكثر إلى ثلاثٍ) فقط (إن تساوين.) والجدات المتساويات في الدرجة بحيث لا تكون واحدة منهن أعلى من الأخرى ولا أنزلَ منها، كأمِّ أمِّ أمٍّ. وأم أم أبٍ. وأم أبي أبٍ. وكذا أم أم أم أمٍّ. وأمِ أم أمِ أبٍ، وأم أم أبي أبٍ، وكنَّ (مع عدم الأمَ) لأن الأمّ تحجب كل جدة. (و) السدس (فرض وَلدِ الأم الواحِدِ) ذكراً كان أو أنثى. (و) السدس (فرض بنت الابن فأكثر، مع بنت الصلب) تكملةَ الثلثين، مع عدم معصِّب. (و) السدس (فرض الأخت للأب مع الأخت الشقيقة) تكملةَ الثلثين. (و) هو (فرض الأب مع الفرع الوارث) أي فرع الميت. والمراد بالفرع: الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن، كما تقدم في الزوج والزوجة. (و) هو (فرض الجدّ كذلك) أي مع الفرع المذكور. (ولا ينزلان) أي الأب والجدّ (عنه) أي السدس (بحال) وقد يكون عائلاً. فصل في أحكام الجد والإِخوة (والجدّ مع الإخوة) والأخوات (الأشقاء أو لأبٍ، ذكوراً كانوا أو إناثاً، كأحدهم) ما لم يكن الثُّلثُ أحظَّ له فيأخذه.

(فإن لم يكن هناك) أي مع الجدّ والإخوة (صاحبُ فرضٍ فله) أي الجدّ (معهم خيرُ أمرين: إما المقاسمة، أو ثلث جميعِ المال) فإن كان الإِخوة أقل من مثليْهِ، فالمقاسمة أحظُّ له. وتنحصر صوره في خمسة: جدّ وأخ؛ جدّ وأخت؛ جدّ وأختان؛ جدّ وأخ وأخت؛ جذ وثلاث أخوات. وإن كان الإخوةُ مثليهِ استوى له المقاسمة وثلثُ جميع التركة. وتنحصر صوره في ثلاثة: جدّ وأخَوان؛ جدّ وأربع أخوات؛ جدّ وأخ وأختان. وإن كان الإِخوة أكثرَ من مثليهِ فثلثُ جميعِ المال خيْرٌ له. ولا تنحصر صوره: جدٌّ وأربع أخوة؛ وجدّ وعشرة أخوة؛ وهكذا. (وإن كان هناك) أي مع الجد والإخوة (صاحب فرضٍ) كزوجٍ وزوجةٍ وأمٍّ (فله) أي الجد (خيرُ ثلاثةِ أمور: إما المقاسمة) لمن يوجدُ من الإخوة أو الأخوات، كأخٍ زائدٍ (¬1)؛ (أو) أخْذُ (ثلثِ الباقي) من المال (بعد صاحبِ الفرضِ؛ أو) أخذ (سُدُس جميعِ المال) فزوجة وجدّ وأُخت: من أربعة، وتسمَّى مربّعة الجماعة (¬2). (فإن لم يبقَ) من المال (بعد) أخذِ (صاحبِ الفرضِ) فرضَه (إلا السدس،) كمن خلَّفَتْ زوجاً وأمًّا وجدًّا وأخًّا لأبوين، أو لأبٍ، فإنه إذا أخَذَ الزوجُ النصفَ، وأخذت الأم الثلثَ، وبقي السدس (أخَذَه) أي الجدُّ (وسقط الإِخوة) لأبوين، أو لأب، ذكراً كان أو أنثى لأن الجد لا ينقص عن سدس جميع المال، أو تسميتِهِ (¬3) كزوجٍ وأمٍّ وبنتين وجدّ، فإنها من اثني عشر، وتعول إلى ¬

_ (¬1) أي كأنه أخّ لهم زائد على الموجودين منهم. (¬2) أي مُربّعة العلماء أو الصحابة، لاتفاقهم على أنها من أربعة (ش المنتهى). (¬3) أي تسميته في حال العول، فإنه في الاسم سدس، وفي الحقيقة أقل منه، كما مثل الشارح.

[المسألة الأكدرية]

خمسة عشر (إلا الأخت الشقيقةَ أو لأب في المسألةِ المسماةِ بالأَكْدَرِيَّة.) [المسألة الأكدريّة] وسميت بذلك قيل: لتكديرها لأُصولِ زيدٍ في الجدّ، وقيل: لأن زيداً كدَّرَ على الأخت ميراثَها، وقيل: لأنه سألَ عنها رجلٌ من أكْدَر، وقيل غير ذلك. (وهي: زوجٌ وأم وجدّ وأخت) شقيقة أو لأب، (فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ويفرض للأخت النصف، تَعُولُ لِتسعةٍ) ولم تُحجَب الأم عن الثلث لأن الله تعالى إنما حجبها بالولد والإِخوة، وليس هنا ولد ولا إخوة. (ثم يُقْسَم نصيبُ الجدّ) وهو السدس، (و) نصيب (الأخت) وهو النصف، (بينهما) أي الجدّ والأخت، ومجموعهما (أربعة، على ثلاثة) رأسي الجدّ، ورأس الأخت. فإن قيل: فالجدّ مع الأخت عَصَبة، والعصبة تسقط باستكمال الفروض؟ فالجواب: أنه إنما يعصِّبها إذا كانَ عصبةً، وليسَ الجدّ بعصبة مع هؤلاء، بل يُفْرَضُ له. (فتصحّ من سبعةٍ وعشرين) الحاصل من ضرب الرؤوس الثلاثة، في المسألة وعَوْلِها، وهو تسعة: للزوج ثلاثةٌ في ثلاثة بتسعة، وللأمّ اثنان في ثلاثة بستة، يبقى للجدّ ثمانية، وللأخت أربعة (¬1). ولا ينقلب أحدٌ من الورثة بعد أن يُفْرَضَ له إلى التعصيب إلاَّ فيها. ¬

_ (¬1) وتصويرها هكذا: 9/ 1 27 27 زوج: 1/ 2 3 9 9 أم: 1/ 3 2 6 6 جد: 1/ 6 1 3 8 أخت: 1/ 2 3 9 4

[المسائل الزيديات]

وُيعَايَا بها، فيقال: أربعة وَرِثوا مالَ ميت، فأخذ أحدُهم ثُلَثَهُ، والثاني ثلثَ ما بقي، والثالث ثلث ما بقي، والرابع ما بقي. (وإذا اجتمع مع الشقيقِ وَلَدُ الأب عَدَّهُ) أي عدّ الشقيقُ الأخَ للأبِ (على الجدّ) بأخٍ شقيق (إن احتاج لعدِّهِ) فلو استغنى عنه، كجدٍّ وأخوين لأبوين، وأخٍ لأبٍ، فلا مُعَادَّةَ لعدم الفائدة، (ثم) بعد عدّهم أولادَ الأب على الجدِّ، وأخْذَ الجدِّ نصيبَهُ، يرجِعُون إلى المقاسمة على حكمِ ما لَو لم يكن معهم جدّ، (يأخذ الشقيقُ ما حصلَ لولدِ الأب.) فجدٌّ وأخ لأبوين وأخٌ لأب، المسألة من ثلاث: للجدّ واحد، ويأخذ الأخ للأبوين السهمَ الذي حصل له والسهم الذي حصل لأخيه. وكذلك جدّ وأختان لأبوين وأخ لأب: يأخذ الجدُّ ثلثاً، ثم الأختانِ الثلثين، ويسقط الأخ. (إلا أن يكونَ الشقيقُ أختاً واحدة، فتأخذ تَمَامَ النصف) كما لو لم يكن جدّ، (وما فضل) عن الأحظِّ للجدّ، وعن النصف الذي فرض لها، (فهو لولدِ الأب) واحداً كان أو أكثر، ذكراً أو أنثى. ولا يتفق هذا في مسالةٍ فيها فرضٌ غير السدس. [المسائل الزيديّات] (فمن صور ذلك الزيْديّات الأرْبَعُ) أي المنسوبات إلى زيدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه وعن كل الصحابة أجمعين: 1 - (العشرية) بفتح العين والشين (وهي) أي العشرية: (جدٌّ، وشقيقة، وأخ لأب،) أصلها من خمسةٍ عدد رؤوسهم لأن المقاسمَة أحظُّ للجدّ، فله سهمان، ثم يفرض للأختِ النصفُ، فتضرب مخرجه، اثنين، في الخمسة، فتصحُّ من عشرة: للجد أربعة، وللأخت خمسة، وللأخ للأبِ الباقي، وهو واحد.

2 - (والعشرينية: وهي: جد وشقيقة وأختان لأب) أصلها خمسة: للجدّ سهمان، وللشقيقة النصف سهمان ونصف، والنصف الباقي للأختين من الأب، لكل واحدة ربع، فتضرب مخرجَهُ أربعة في الخمسة، بعشرين. ومنها تصحّ: للجدّ ثمانية، وللشقيقة عشرة، ولكلِّ أختٍ لأب سهم. 3 - (ومختصرة زيد) بن ثابت بن الضحاك الخزرجي (وهي: أمّ وجدّ وشقيقة وأخ وأخت لأب،) سميت بذلك لأنه صحّحها من مائة وثمانية، وردَّها بالاختصار إلى أربعةٍ وخمسين. وبيانه أن المسألة من مخرجِ فَرْضِ الأم ستة: للأمّ واحدٌ، يبقى خمسة، على ستةٍ عدد رؤوس (¬1) الجد والإِخوة، لا تنقسم، وتُبَايِن، فتضرب عددهم ستة، في أصل المسألة، ستة، يحصل ستةٌ وثلاثون: للأم ستة، وللجد عشرة، وللتي لأبوين ثمانية عشر، يبقى سهمان لولدي الأب، على ثلاثة لا تنقسم، وتُبَايِن، فتضرب ثلاثةً في ستة وثلاثين، تبلغ مائةً وثمانية، ومنها تصحّ: للأم ثمانية عشر، وللجدّ ثلاثونَ، وللشقيقة أربعة وخمسون، وللأخ للأب أربعة، وللأخت سهمان. والأنصباء متفقةٌ بالنّصف، فترد المسألة إلى نصفها، ونصيبُ كل وارثٍ إلى نصفِه، فترجع إلى ما ذُكِرَ أوَّلاً. ولو اعتبرْتَ للجدّ فيها ثُلَثَ الباقي لصحّت ابتداءً من أربعة وخمسين. 4 - (وتسعينيّةُ زيد، وهي أم وجد وشقيقة وأخوان وأختٌ لأبٍ) أصلها ستة، للأم السدس، واحد، يبقى خمسة: الأحظُّ للجدّ ثلث الباقي، والباقي لا ثلث له صحيح، فاضرب مخرجَ الثلث، ثلاثة، في ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "رؤوسهما الجد والأخوة" والتصويب من (ف).

ستة، بثمانيةَ عَشَر: للأم واحد في ثلاثة؛ بثلاثة، وللجد ثلث الباقي وهو خمسة، وللشقيقة النصف، تسعة، يفضُل واحدٌ لأولاد الأب، على خمسةٍ، فاضرب خمسةً في ثمانيةَ عشر، بتسعين. ثم اقسم: فللأمّ خمسة عشر، وللجد خمسة وعشرون، وللشقيقة خمسة وأربعون، ولكلِّ أخٍ لأبٍ سهمان، ولأختهما سهم واحد.

باب الحجب

باب الحجب هو لغةً: المنع، وشرعاً: منعُ من قام به سببُ الإِرثِ من الإِرث بالكليّة، ويسمى حجْبَ حِرْمانٍ، أو مِنْ أوْفَرِ حَظَيْهِ ويسمى حجب نُقْصَانٍ. (اعلم أن الحجب بالوصف (¬1)) كالقتل، والرِّقّ، واختلاف الدين، (يتأتَّى دخوله على جميعِ الورثة،) أصولاً وفروعا ًوحواشِيَ. (والحجبُ بالشخص نقصاناً كذلك) أي يتأتَّى دخولُه على جميعِ الورثة، (وحِرماناً فلا يدخل على خمسة): على (الزوجين، والأبوين، والولد) ذكراً كان أو أنثى، إجماعاً، لأنهم يُدْلُونَ إلى الميت بغيرِ واسطةِ فهم أقْوى الورثة. وإنَّما حُجِبَ المعتِقُ بالإِجماع، مع أنه يُدْلي إلى الميت بنفسه، لأنه أضعف من العصبات النَّسَبِيَّة. (و) اعلم (أن الجدّ يسقط بالأب) لإدلائه به. (و) اعلم أن (كلَّ جدٍّ أبعدَ) يسقط (بجدٍّ أقربَ) لإِدلائه به، ولقربه. ¬

_ (¬1) لكن اصطلاحِ الفرضيين تسمية الحرمان بالقتل والرق وأختلاف الدين "منعاً" ولا يسمونه حجباً، وتسمية الحرمان أو النقصان بالشخص "حجباً" ولا يسمونه منعاً. هذا اصطلاحهم ولا مشاحة في الاصطلاح (عبد الغني)

(وأن الجدّةَ مطلقاً) أي سواء كانت من جهة الأب أو من جهةِ الأم (تسقط بالأمّ) لأن الجدّاتِ والأمَّ يَرِثْنَ بجهة الأمومة خاصّةً، والأمُّ أقربُ من جهةِ الأمومة، فتحجُب كلّ منْ يرث بها، كما أنّ الأب يحجب كلَّ من يرث بأُبُوَّتهِ. (و) أن (كل جدَّةٍ بُعْدى) تسقط (بجدةٍ قُرْبى) لقربها، سواء كانتا من جهة واحدة، أو واحدةٌ من قِبَلِ الأم، والأُخرى من قِبَل الأب. (وأنّ كلَّ ابن أبعد يسقط بابن أقربَ) منه، فالابن يُسْقِطُ ابنَ الابنِ، وابنُ الابن يُسقِط ابن ابنٍ أنزلَ منه، وهكذا. (وتسقُط الإِخوةُ الأشقاءُ باثنين: بالابن وإن نزل، وبالأب الأقرب) أي الأدنى، وهو الأب. (والإِخوة للأب يسقطون بالأخ الشقيق أيضاً) أي بالابن وإن نزل، وبالأب، وبالأخ الشقيق. (وبنو الإِخوة يسقطون حتَّى بالجدّ أبي الأب وإن عَلَا) أي إن أبناءَ الإِخوة الأشقاءِ يسقطون بالابن وإن نزل، وبالأب والجدّ، وبالأخ الشقيق، وبالأخ للأب، وابن الأخ للأب يسقط بالابن وإن نزل، وبالأب، والجدّ، وبالأخ الشقيق، وبالأخ للأب، وبابن الأخ الشقيق. (و) أن (الأعمام يسقطون حتى ببني الإِخوة وإن نزلوا). مع من ذكر. وهذا معنى ما قاله الجَعْبَريّ رحمه الله تعالى آمين: فبالجهَةِ التقديمُ ثم بقُرْبِهِ ..... وبَعْدَهما التقديمَ بالقوة اجْعَلاَ (وَالأخ للأم يسقط باثنين: بفروعِ الميّتِ مطلقاً) أي ذكوراً كانوا أو إناثاً (وإن نزلوا، وبأصوله) أي الميِّت (الذكورِ) أي الأب والجد (وإن ¬

_ في ص): "للأب" وهو خطأ واضح.

عَلوْا) أبوة. فتلخص أن الإِخوة للأم ذكوراً كانوا أو إناثاً يسقطونَ بالولَدِ ذكراً كان أو أنثى، وبولدِ الابنِ ذاكراً كان أو أنثى، وبالأب والجد. (وتسقط بناتُ الابنِ ببنتي الصُّلْب فأكثرَ، ما لم يكن معهن) أي مع بنات الابن (من يعصِّبهن من ولدِ الابن). (وتسقط الأخواتُ للأب بالأختين الشقيقتين فأكثر، ما لم يكن معهن أخوهن فيعصبهن) إنما قال في بنات الابن: ما لم يكن معهن من يعصِّبهن، ولم يقل كما في الأخوات: أخوهن، لأن بناتِ الابن يعصّبهن أخوهن وابن عمّهنّ إذا كان في درجَتهنّ أو أنزلَ منهنّ. (ومن لا يرثُ) لكونه محجوباً بالشخص (¬1) حرماناً (لا يَحْجُبُ أحداً مطلقاً) أي لا نقصاناً، ولا حرماناً، بل وجوده كعدمه، (إلا الإِخوة من حيث هم) أي سواء كانوا أشقاءَ أو لأب أو لأم (فقد لا يَرِثونَ ويحجبونَ الأمَّ نقصاناً) أي من الثُّلُتِ إلى السدس، كما إذا ماتَ شخصٌ عن أمٍّ وأبِ وإخوةٍ، فإن الأم تأخذ السدس فقط لكونها محجوبةً عن أوْفَرِ حظَّيهاَ بالإخوة، والباقي وهو خمسةٌ، للأب. ¬

_ (¬1) وبالوصف كذلك، فالقاتل وجوده كعدمه.

باب العصبات

باب العصَبَات العَصَبَة من يرث بغيرِ تقديرٍ. [العصبة بالنفس] إعلم أنّ النساء كلهن صاحباتُ فرضٍ، وليسِ فيهن عصبةٌ بنفسِهِ إلا المعتِقة) فإنها عصبةٌ بنفسها. (و) اعلم (أن الرّجال كلهم عصباتٌ بأنفسهم) أي لا بغيرهم، ولا مع غيرهم، (إلا الزوجَ) فإنه صاحب فرض، (و) إلاّ (ولدَ الأمّ) فإنه صاحب فرضٍ أيضاً. [العصبة مع الغير] (و) اعلم (أن الأخواتِ) الشقيقاتِ أو لأبٍ (مع البناتِ عصباتٌ) يرثن ما فَضَل عن ذوي الفروض، كالإِخوة. فبنت وبنتُ ابنٍ وأختٌ لأبوينِ أو لأبٍ: من ستة: للبنت النصفُ، ولبنت الابن السدسُ تكملةُ الثلثين، والباقي للأخت. ولو كان ابنتان وبنتُ ابنٍ وأختٌ لغير أمٍّ: للبنتين الثلثان، والباقي للأخت عُصُوبَةً، ولا شيء لبنتِ الابنِ، لاستغراق البنتينِ الثلثينِ، ولو كان ابنتان وبنتُ ابنٍ وأختٌ لغير أمٍّ وأمٌ: فللأم السدسُ، ولِلبنتين

[العصبة بالغير]

الثلثان، يبقى للأخت سدسٌ، تأخذه تعصيباً. [العصبة بالغير] (و) اعلم (أن البناتِ وبناتِ الابنِ والأخواتِ الشقيقاتِ والأخوات للأب كلُّ واحدةٍ منهنَّ مع أخيها عَصبَةٌ بِهِ، له) أي لأخيها (مِثلَا ما لَها) من التركة. قال في الإقناع: وأربعة من الذكور يعصّبون أخواتِهِمْ، ويمنعونهنّ الفرضَ، ويقتسمون ما ورثوا للذكرِ مثلُ حظّ الأنثيين، وهم الابن، وابنه وإن نزل، والأخ من الأبوين، والأخ من الأب. ويعصّب ابن الابن بنت عمه. (و) اعلم (أن حكم العاصِبِ أن يأخذ ما أبْقَتِ الفروضُ، وإن لم يبق شيء سقط، وإذا انفرد حاز جميعَ المال). [حالات الأب والجد] (لكن) هذا استثناء من حكم العصبات (للجدّ) أبي الأب (والأبِ ثلاثُ حالات): 1 - حالة (يرثان) فيها (بالتعصيب فقطْ) أي في دون الفرض، وذلك (مع عدم الفرع الوارث،) كما إذا مات شخصٌ عن أبٍ فقطْ، أو عن جدٍّ فقط. 2 - (و) حالةٌ يرثان فيها (بالفرض فقط) أي دون التعصيب، وذلك (مع ذكوريّته) أي الولد، كما لو مات شخص عن أبٍ وابنٍ، أو جدٍّ وابنٍ، فإن الأبَ أو الجدَّ يرثُ بالفرضِ وحدَه وهو سدُس التركة، والباقي للابن. 3 - (و) حالة يرث فيها الأبُ والجدّ (بالفرضِ والتعصيبِ)، وذلك (مع أنوثيّتِهِ) أي الولد، كما لو مات شخصٌ عن بنتٍ وأبٍ أو جدٍّ، فإن

[المسألة المشركة]

للأب أو الجدِّ السدُسَ فرضاً، وللبنتِ النصفُ فرضاً، والباقي للأب أو الجدّ تعصيباً. وترجع بالاختصار إلى اثنين، للتوافق. [المسألة المشرَّكة] (ولا تتمشّى على قواعِدِنا) المسألة المسمَّاةُ (بالمُشَرَّكة، وهي زوجٌ وأمٌّ، وإخوةٌ لأمّ) اثنان فأكثر (وأخوةٌ أشقَّاءُ) ولا يشتَرط عند من قال بها تعدُّد الشقيق، فإنها تقسم عندنا من ستة: للزوج النصفُ ثلاثة، وللأم السدس سهم واحد، وللِإخوة للأم الثلث. ولا شيء للأشقاء. وعند الشافعيّ (¬1) رضي الله تعالى عنه: يُقْسَمُ الثلُث الذي أَخَذه الإخوةُ للأمّ على ؤوسِهِمْ ورُؤوسِ الإِخْوةِ الأشقاء، للذكر مثل الأنثيين من غير تفصيل. فصل (وإذا اجتمعَ كلُّ الرجالِ) أي العشرةُ بالاختصار، (ورِث منهم ثلاثةٌ) فقط (الابن، والأب، والزوج) فالمسألة تقسم من اثني عشر: للزوج الرابع، ثلاثة، وللأب السدس اثنان، وللابن الباقي سبعة. (وإذا اجتمع كلّ النساءِ) السبعِ بالاختصار (ورث منهن خمسةٌ: البنت، وبنت الابن، والأم، والزوجة، والأخت الشقيقة) أو لأب. فالمسألة تقسم من أربعة وعشرين قيراطاً: للزوجة الثمن: ثلاثةُ قراريط، وللأم السُّدُسُ، أربعةُ قراريط، وللبنت النصف اثنا عشر قيراطاً، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وهو أربعة قراريط، والباقي للأخت تعصيباً وهو قيراطٌ واحد. ¬

_ (¬1) ومالك يوافق الشافعي، كما أن أبا حنيفة يوافق أحمد، رضي الله عنهم.

(وإذا اجتمعَ مُمْكِنُ الجمعِ من الصِّنفين) أي الرجال والنساء (وَرِث منهم خمسةٌ) أيضاً: (الأبوان) أي الأب والأم، (والولدان) أي الابن والبنت، (وأحد الزوجين.) فإن كان الميت الزوجَ فأصل المسألة من أربعة وعشرين: للزوجة الثمن، ثلاثة، وللأم السدس، أربعة، وللأب السدس أربعة، والباقي وهو ثلاثة عشر على ثلاثةٍ، لا تصحُّ ولا توافق، فاضرب ثلاثةً في أربعةٍ وعشرين، باثنين وسبعين: للزوجة ثلاثة في ثلاثة، بتسعة، ولكل واحدٍ من الأب والأمّ أربعة في ثلاثة، باثني عشر، وللابن والبنتِ ثلاثَةَ عشر في ثلاثةٍ، بتسعةٍ وثلاثين، للابن ستة وعشرون، وللبنت ثلاثة عشر. وإن كان الميتُ الزوجةَ فأصل المسألة من اثني عشر: للزوجِ الرُّبع، ثلاثة، ولكل واحدٍ من الأبِ والأم السدس، اثنان، والباقي خمسة على ثلاثة، لا تصحُّ ولا توافق، فاضرب ثلاثةَ في اثني عشر بستة وثلاثين: للزوج ثلاثة في ثلاثة، بتسعة، ولكل واحدٍ من الأب والأم اثنان، في ثلاثة، بستة. وللابن والبنت خمسة، في ثلاثة، بخمسةَ عشرَ، للابن عشرة، وللبنت خمسة. (ومتى كان العاصبُ عمّاً) للميّت، (أو ابنَ عمٍّ، أو) كان (ابنَ أخٍ انفرَدَ بالإِرث دون أخواتِهِ) لأن أخواتِ هؤلاءِ من ذوي الأرحام. (ومتى عدمت العصباتُ من النسب وَرِثَ المولى المعتِق، ولو) كان (أنثى،) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" (¬1) (ثم عصبتُهُ) أي عصبةُ المولى المعتِقِ إن لم يكن موجوداً (الذكورُ، الأقربُ فالأقربُ، كالنسب) ثم مولاهُ كذلك. ¬

_ (¬1) حديث "إنّما الولاء لمن أعتق" متفق عليه (منار السبيل).

(فإن لم يكن) لميتٍ عصبةُ نسبٍ ولا ولاءٍ (عَمِلنا بالردّ) على ذوي الفروض، كما سيأتي. (فإن لم يكن) ذو فرض (وَرَّثنا ذوي الأرحام) لأنَّ سبب الميراث القرابة، بدليل أن الوُرّاث من ذوي الفروض والعصبات، إنما ورثوا لمشاركتهم للميت في نسبه، وهذا موجود في ذوي الأرحام، فيرثونَ كغيرهم.

باب الرد وذوي الأرحام

باب الرَّدّ وَذوي الأرحَام [الرَّد] إنما يتأتَى الرد (حيثُ لم تستغرقِ الفروضُ التركةَ) كما لو كان الوارث بنتاً أو بنت ابنٍ وزوجاً أو زوجةً، (ولا عاصبَ) معهم (رُدَّ الفاضِلُ) عن الفروضِ (على كلِّ ذي فرضٍ) من الورثة (بقدره) أي بقدرِ فرضِهِ، كالغرماءِ يقتسمون مال المفلس بِقَدْر ديونهم (ما عدا الزوجين) أي الزوجَ والزوجةَ، (فلا يُرَدُّ عليهما) (¬1) نقله الجماعة، لأنَّهما ليسا من ذوي القرابة (من حيثُ الزوجيَّة) بل قد يُرَدُّ عليهما لِكونهِ ولدَ خالةٍ، إذا فُقِدَ أهلُ الفرضِ والعصبةُ. (فإن لم يكن) للميّت (إلا صاحبُ فرضٍ) كما لو لم يرثِ الميتَ ممن يرثُهُ بالفرضِ إلا أخاً لأم، أو أمًّا، أو جدةً، أو بنتاً، أو أُختاً (¬2)، (أَخَذَ الكلَّ فرضاً وردًّا) لأن تقديرَ الفرض إنما شُرِعَ لمكان المزاحمة، ولا مُزَاحِمَ هاهنا. (وإن كان جماعةٌ من جنسٍ، كالبناتِ) والجدّاتِ والأخواتِ ¬

_ (¬1) وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه ردّ على زوج (المغني) ووجهه أنه كما ينقص نصيبه بالعول يزيد في الردّ. ووجه الأول أنهما لا رحم لهما، فلا يرد عليهما. (¬2) كذا في الأصول، وصوابه بالرفع فيهن.

(فأعطِهِنَّ بالسويّة) لاستوائهن في موجِب الإِرث، كالعَصَبَة من البنين، والإِخوة، والأعمام. (وإن اختلف جنسُهم) أي محلُّهم من الميت، كبنتٍ من بنتِ ابنٍ (فخذ عَدَدَ سهامهم) أي سهام المردود عليهم (من أصل ستةٍ دائماً) إذ ليس في الفروض كلِّها ما لا يوجد في الستة، إلا الربعَ والثمنَ، ولا يكونانِ لغيرِ الزوجين، وليسا من أهل الردِّ. واجعل عدَدَ السهام المأخوذةِ أصلَ مسألتهم، كمَا صارت السهام في المسألة العائِلَةِ هي المَسألةَ التي يضرب فيها العددُ. فإن انكسَر شيءٌ من السهام على فريقٍ من أهل الردّ صُحِّحَتِ المسألة، وضَرَبْتَ الذي انكسر على سهمه في عدد مسألتهمِ وهو عددُ السهام المأخوذةِ من الستّة، لا في الستّة، لأنّ العدَدَ المأخوذَ صارَ أصل مسألتهم. وينحصر ذلك في أربعة أصول: أصل اثنين، وأصل ثلاثة، وأصل أربعة، وأصل خمسة (¬1). (فجدةٌ وأخٌ لأمٍّ: تصح من اثنَيْن) لأن فرضَ كلِّ شخصٍ منهما السدس، والسدسان من الستة اثنان، فيكون المالُ بينهما نصفين، لاستواءِ فرضيهما. ومع كون الجداتِ ثلاثاً ينكسر عليهنّ السهم، فاضرب عددهن في أصل المسألة، وهو اثنان، تبلغ ستةً: للأخِ من الأمّ النصفُ ثلاثة، ولكلّ جدة سهمٌ. (وأمٌّ وأخٌ لأمٍّ من) أصل (ثلاثة،) لأن فرضَ الأمّ الثلثُ، وهو اثنان من الستة، وفرضَ الأخِ للأمّ السدس، وهو واحد، فيكون المالُ بينهما أثلاثاً: للأمّ الثلثان، وللأخ من الأمِّ الثلث. (وأمٌّ وبنتٌ من) أصل (أربعةٍ) لأنّ فرضَ الأمِّ مع البنت السدس، وهو واحدٌ من الستة. وفرضَ البنت النصفُ، وهو ثلاثة؛ فيكون المالُ ¬

_ (¬1) هكذا في (ف) والذي في (ب، ص): أثنين وثلاثة وأربعة وخمسة.

بينهما أرباعاً: للأم ربْعُهُ: واحد، وللبنت ثلاثةُ أرباعِهِ: ثلاثة. (وأمٌّ وبنتان من خمسة) لأن فرضَ الأمِّ السدس، وهو واحدٌ من الستة. وفرضَ البنتين الثلثان، أربعة، فيكونُ المال بين البنتين، والأمّ على خمسة، للأم خُمُسُهُ [واحد]، ولكل واحدة من البنتين خمساه، اثنان. (ولا تزيد) مسائل الردّ (عليها) أي على الخمسةِ أبداً (لأنّها لو زادتْ سدساً آخر لاستغرقتِ الفروضُ) التركةَ. (وإن كانَ هناك) أي في المسألة (أحدُ الزوجين) أي الزوجُ أو الزوجةُ (فاعمل مسألةَ الردِّ) أولاً، (ثم) اعملْ (مسألةَ الزوجيّة، ثم تَقسِمُ ما فَضَلَ عن فرضِ الزوجيّة، على مسألة الردِّ). (فإن انقسم) ما فضَل من مسألةِ الزوجيّة على مسألة الردِّ (صحَّتِ مسألةُ الردِّ من مسألة الزوجيّة) كزوجةٍ وأمٍّ وأخوين لأمٍّ: للزوجةِ رُبْعُها، وهو واحد، والباقي بين الأمِّ والأخوين، أثلاثاً، لأنّ فرضَهما مِثْلاَ فرضِ أمِّهما، فيكونُ لكل واحدٍ منهما سهم. (وإلاَّ) أي وإن لم ينقسم الباقي بعد فرض الزوج أو الزوجة (¬1) على فريضةِ أهل الردّ (فاضرب مسألة) أهل (الردّ في مسألةِ الزوجيّةِ) لأنه لا يمكن أن يكونَ بينَهما مواْفَقَةٌ، لأن مسألة الزوجِ إن كانت من اثنين، فالباقي بعد نصيبِهِ سهم، لا يوافِقُ شيئاً، وإن كانتْ من أربعةٍ فالباقي بعد فرضِهِ ثلاثةٌ. ومن ضرورةِ كونِ الزوجِ له الرُّبع أن يكونَ للميِّتِ ولد، ولا يمكن أن تكون مسألة الردّ مع الولدِ من ثلاثة. وإن كانت زوجةٌ مع ولدٍ فالباقي بعد فرضِها سبعةٌ، ولا يمكن أن تكون مسألة الردّ أكثر من خمسة. ¬

_ (¬1) عبارة "أو الزوجة" زيادة من (ف).

[في تبيين] إرث (ذوي الأرحام] وتبيين كليفية توريثهم

(ثمَّ مَنْ له شيءٌ من مسألة الزوجية أَخَذَهُ مضروباً في مسألة الردّ، ومن له شيءٌ من مسألة الردّ أخذه مضروباً في الفاضِلِ عن مسألة الزوجية. فزوجٌ وجدةٌ وأخٌ لأمٍّ مثلاً) أصلُ مسألة الزوج من اثنين، له نصفُها سهمٌ يبقى سهمٌ على مسألة الردّ، فإن أردْتَ التصحيح (فاضرب مسألة الردّ، وهي اثنان، في مسألة الزوج، وهي اثنان، فتصحّ من أربعة) مسطَّحِ الاثنين في الاثنين: للزوج نصفُها، النان، وللجدة سهمٌ، وللأخ للأمّ سهم. ولا يقع الكَسْرُ في هذا الأصل إلا على فريق واحدٍ، وهنّ الجدات. (وهكذا) لو كانَتِ الزوجةُ مكانَ الزوجِ فإنّك تضرب مسألةَ الردّ في مسألة الزوجيّة، تكونُ ثمانية، للزوجة ربعُها، اثنان، وللجدّةِ ثلاثة، وللأخ للأم ثلاثة. فصل (في تبيين) إرث (ذوي الأرحام) وتبيين كليفية توريثهم قال في القاموس: والرَّحِمُ بالكسر ككَتِفٍ: بيت منبِتِ الولدِ ووعاؤُه، والقرابَةُ، أو أصلُها، أو أسبابُها، الجمع أرحام. انتهى. (وهم) أي ذوو الأرْحَامِ في اصطلاحِ الفقهاءِ في باب الفرائضِ (كلُّ قرابةٍ ليس بذي فرضٍ ولا عصبةٍ.) واختلف العلماءُ في توريثِهِمْ، قال في المغني: وكان أبو عبد الله الإِمام أحمدُ يورّثهم إذا لم يكن ذو فرضٍ ولا عصبةٌ ولا أحدٌ من الورثَةِ إلا الزوج أو الزوجةَ.

(وأصْنافهم) أي ذوو الأرحام (¬1) (أحدَ عشر) صنفاً: الأوّل: (ولد البناتِ) سواءٌ كنّ بناتٍ (لصلبِ أو) بناتٍ (لابنٍ). (و) الثاني: (ولد الأخواتِ)، سواءٌ كن لأبويَن أو لأب. (و) الثالث: (بنات الإِخوة) سواء كانوا لأبوين أو لأب. (و) الرابع: (بنات الأعمام) لأبوينِ أو لأب. (و) الخامس: (وَلَد ولدِ الأمِّ) سواءٌ كان ولدُ الأمِّ ذكراً أو أنثى. (و) السادس: (العمُّ لأمٍّ) سواء كان عمَّ الميّتِ، أو عم أبيه، أو عمَّ جدهِّ. (و) السابعُ: (العمّات) سواءٌ كنَّ عماتٍ للميت، أو عماتٍ لأبيه، أو عماتٍ لجدّه. (و) الثامن: (الأخوالُ والخالاتُ) أي أخوةُ الأمّ سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً. (و) التاسع: (أبو الأم) وإن علا. (و) الصنف العاشر: (كل جدَّةٍ أَدْلَتْ بأبٍ بين أُمَّينِ) كأمّ أبي الأم، أو بأبِ أعلى من الجدّ. (و) الصنف الحادي عشر: (من أدلى بصِنفٍ) من هؤلاء، كعمةِ العمةِ، وخالةِ الخالةِ، وعمِّ العمِّ لأمٍّ وأخيه وعمه لأبيه، وأبي أبي الأمّ وعمِّهِ وخالِهِ، ونحو ذلك. (ويورثون بتنزيلهم منزلة من أدلوا به.) قال في الإِنصاف: هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وعليه التفريع. فينزَّل ولدُ بنتٍ لصلبٍ أو لابنٍ، وولدُ أختٍ كأم (¬2) كل منهم، وعماتٌ وعمٌّ من أمّ كأب، وأبو أمّ ¬

_ (¬1) كذا في الأصول وصوابه "أي ذوي الأرحام" بجرّ ذوي، لأن "أي" عاطفة. (¬2) الأولى أن يقول "منزلةَ أمِّ ... الخ " إذ لا يقال: نَزلْتُه كفلانٍ، وإنما يقال "نزلته منزلة فلان" وهو نقل من شرح المنتهى، وفيه "فينزّل كلٌّ منهم منزلةَ من أدلى به".

أبٍ، وأبو أمّ أمٍّ وأختاهما وأخواهما، وأُمُّ أمِّ جدٍّ بمنزلتهم، ثم تجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به. (وإن أدْلى جماعةٌ منهم) أي من ذوي الأرحام (بوارثٍ) بفرض أو تعصيب (واستوت منزلتهم منه) كأولاده، أو اختلف، كأخوته المتفرقين، وأدْلوا بأنفسهم، بأن لم يكن بينهم وبين الوارث واسطة (فنصيبه لهم) كإرثهم منه، لكن هنا (بالسويّة الذكر كالأنثى) اختاره الأكثر، ونقله الأثرم وحنبل وإبراهيم بن الحارث في الخال والخالة: يعطَوْن بالسوّية. ووجه ذلك أنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرُهم وأنثاهم، كولد الأم. فبنتُ أختٍ وابنُ وبنتُ أختٍ أخرى: فلبنت الأخت الأولى النصف، وللأخرى وأخيها النصفُ بينهما بالسويّة، فتصح من أربعة. فالجهاتُ ثلاثةٌ: أبوّةٌ، وأُمومةٌ، وبنوَّةٌ. (ومن لا وارثَ له) معلومٌ (فمالُهُ لبيت المال) يحفظُه من الضياع، لأن كلَّ ميّتٍ لا يخلو من ابن عمٍّ أعلى؛ إذ الناس كلُّهُمْ بنو آدم. (وليس) بيتُ المال (وارثاً، وإنما يحفظ المال الضائِعَ وغيرَهُ، فهو جهةٌ ومصلحةٌ) قال في الإِنصاف: هل بيتُ المالِ وارثٌ أم لا؟ فيه روايتان، والصحيح من المذهب والمشهور أنه ليس بوارثٍ، وإنما يحفظ فيه المال الضائع. قاله (¬1) في القاعدة السابعة والتسعين. انتهى. ¬

_ (¬1) أي قاله ابن رجب في (القواعد) الخ.

باب تبيين (أصول المسائل)

باب تَبيين (أصُول المسَائل) المراد بأصول المسائل المخارج (¬1) التي تخرجُ منها فروضُها. والمسائل جمع مسألةٍ، مصدر سأل سؤالاً ومسألة. والمرادُ بها هنا المسؤولة، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول. (وهي) أي أصول المسائل (سبعة) لأن الفروض المحدودة في كتاب الله تعالى ستة: النصف، والثلثان، والثلث، والربع، والثمن، والسدس. ومخارج هذه الفروض مفردةً خمسةٌ: لأن الثلث والثلثين مخرجهما واحد. فالنصفُ من اثنين، والثلُثُ والثلثانِ من ثلاثة، والربُع من أربعة، والسدُس من ستة، والثمُنُ من ثمانية. والربُع مع الثلُث أو السدُس أو الثلثين من اثني عشر، والثمن مع السدس أو الثلثين من أربعة وعشرين. فصارت سبعة: (اثنان، وثلاثة، وأربعة، وستة، وثمانية، وثمانية، واثنا عشر، وأربعة وعشرون). (ولا يعول منها إلاَّ الستة، وضعفها) أي الاثنا عشَرَ، (وضعفُ ضعفِها) أي الأربعةُ والعشرون. ¬

_ (¬1) مَخْرج الفرض، وهو المعبر عنه في الرياضيات بمقام الكسر.

(فالستةُ تعول متواليةً) أوتاراً وأشفاعاً (إلى عشرة). (فتعول إلى سبعة: كزوجٍ، وأختٍ لغير أم،) أي الأبوينِ أو لأبٍ، (وجدة): للزوج النصفُ، وللأخت النصف، وللجدّة السدس. ومن أمثلة ذلك: زوجٌ، وأختانِ لأبوين أو لأبِ. (وإلى ثمانيةٍ: كزوجٍ، وأمٍّ، وأختٍ لغير أَمٍّ) وهي أول فريضةٍ عالَتْ في الإِسلام: للزوجِ النصفُ، ثلاثة، وللأم الثلثُ، اثنان، وللأخت النصف ثلاثة. (وتسمَّى) هذه المسألة (بالمباهلة) لِقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "من شاءَ باهَلْتُهُ أن المسائل لا تعول، إنّ الذي أحصى رملَ عالِجٍ عدداً أعدلُ من أن يجعلَ في مالٍ نصفاً ونصفاً وثلثاً، هذان نصفانِ ذَهَبَا بالمال، فأين موضع الثلث؟ " (¬1) ¬

_ (¬1) قصّة مسألة المباهلة رواها البيهقي والحاكم. وسندها حسن (الإِرواء ح 1706) ونص البيهقي (6/ 253) عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعدما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مالٍ نصفاً ونصفاً وثلثاً إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر: يا أبا عباس: من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال. ولم؟ قال: لما تدافعت عليه، وركب بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري كيف أصنِع بكم. والله ما أدري أيكم قدَّم اللهُ ولا أيكم أخّر. قال: وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس. وايم الله لو قدّم من قدّم الله، وأخرّ من أخرّ الله. ما عالتْ فريضةٌ. فقال له زفر: وأيهم قدّم وأيّهم أخّر فقال. كل فريضةٍ لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التي قدّم الله. وتلك فريضة الزوجِ. له النصف، فإن زال فإلى الربع, لا ينقص منه. والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن. لا تنقص منه. والأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها النصف. فإنّ دخل عليهن البنات كان لهن ما بقي. فهؤلاء الذين أخرّ الله فلو أعطى من قدّم الله فريضة كاملة، ثم قسم ما يبقى بين من أخّر الله بالحصص ما عالت فريضة. فقال له زفر. فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال. هبته والله. قال ابن إسحاق. فقال لي الزهري: وايم الله لولا أنه تقدّمه إمام هدًى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم اهـ.

(و) تعول أيضاً (إلى تسعة، كزوجٍ، وولدي أم، وأختينٍ لغيرها) أي لأبوين، أو لأبِ: للزوجِ النصفُ، ثلاثةٌ، ولولدي الأمِّ الثلث اثنان، وللأختين الثلثان، أربعة. (وتسمَّى) هذه المسألةُ (الغَرّاءَ،) لأنها حدثت بعد المُبَاهَلَة، فأشتهر العولُ بها. (و) تسمَّى أيضاً (المَرْوَانِيّة) لحدوثها في زمن مروان. (و) تعول أيضاً إلى (العشرة: كزوجٍ وأمٍّ وأختين لأمٍّ وأختين لغيرها): للزوج النصفُ ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأختين للأم الثلث اثنان، وللأختين الثلثان أربعة. ومجموع السهام عشرة. (وتسمى) هذه المسألة (أم الفروخ) بالخاء المعجمة، لكثرةِ ما فَرَّخَتْ في العَوْل. ولا تعول مسألةٌ أصلُها من ستةٍ إلى أكثر من عشرة، لأنه لا يمكن أن يجتمع فيها فروضٌ أكثرُ من هذه. ومتى عالت إلى ثمانيةٍ أو إلى تسعةٍ أو إلى عشرةٍ لم يكن الميّتُ فيها إلا امرأةً لأنه لا بدّ فيها من زوجٍ. 2 - (والاثنا عشر تعول أفراداً) لا أزواجاً (إلى سبعةَ عشر). (فتعول إلى ثلاثة عشر: كزوجٍ وبنتينِ وأمٍّ): للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان. وكزوجةٍ، وأختٍ لأبوين أو لأب، وولدي أم: للزوجة الربع ثلاثة، وللأخت النصف ستة، ولولدي الأم الثلث أربعة. (و) تعول أيضاً (إلى خمسة عشر) إذا اجتمع مع الربع ثلثان وثلث، (كزوجٍ، وبنتين، وأبوينِ): للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأبوين الثلث أربعة، لكل واحدٍ منهم السدس اثنان.

(و) تعول أيضاً (إلى سبعةَ عشر) إذا اجتمع مع الربع ثلثان وثلث وسدس، (كثلاث زوجات، وجدتين، وأربع أخوات لأم، وثمان أخوات لغيرها:) للزوجاتِ الربع ثلاثة، لكل واحدة واحد، وللجدّتين السدسُ اثنان لكل واحدة واحد، وللأربع أخواتٍ لأمٍ الثلث، أربعة، لكلِّ واحدة واحد، وللثمان أخوات لأبوين الثلثان ثمانية، لكل واحدة واحد (وتسمى) هذه المسألة (أمَّ الأرَامِلِ) لأنوثية جميع الورثة. فلو كانت التركةُ سبعةَ عشرَ ديناراً حصل لكل واحدة منهن دينارٌ فيُعايا بها، فيقال: سبع عشرة امرأة، من جهاتٍ مختلفة، اقتسمْن مال الميت حصل لكلِّ واحدةٍ منهن سهم، ونظمها بعضهم فقال: قلْ لِمنْ يقسِمُ الفرائِضَ واسألْ .... إنْ سألْتَ الشيوخَ والأحداثا ماتَ مَيْتٌ عن سبعَ عشْرةَ أُنثى .... من وجوهٍ شتَّى فَحُزْنَ التُّراثَا أَخَذَتْ هذِه كما أخذْت تِلـ ..... ـــــك عقارا ًودرهماً وأثَاثَا ولا تعول إلى أكثر. 3 - (والأربعةِ والعشرونَ تعول مرّةً واحدةً إلى سبعةٍ وعشرينَ) إذا اجتمع مع الثُّمُنِ ثُلُثٌ وثلثان، (كزوجةٍ وبنتينِ وأبوينِ) للزوجةِ الثمن ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، وللأبوين الثلث ثمانية، لكلِّ واحدٍ منهما السدس. ولا تعول إلى أكثر من ذلك. ولا خلاف في هذا العول، لأن أربعةً وعشرين لا يمكن أن يكون فيه فروضٌ وَفْقَ مخرجِهِ، لأن ثُمْنَهُ ثلاثةٌ، يبقى أحد وعشرون، لا يمكن أن تَجْمَعَ فرضين أو أكثرَ من النوع الآخر. (وتسمى المِنْبَرِيَّةَ) لأن عَلِياً رضي الله تعالى عنه سُئِل عنها، وهو على المنبر يخطب، يقول: "الحمْدُ لله الذي يحكُمُ بالحقِّ قَطْعاً،

ويجزِي كلَّ نفسٍ بما تسعى، وإليه المآب والرُّجْعى، صار ثُمُنُ اليرأة تُسْعاً" ومضى في خطبته. (و) تسمى (البخيلةَ لقلَّةِ عولها). فائدة: إنما انحصرتْ مسائلِ العولِ في أصل ستةٍ، وأصلِ اثني عشرَ، وأصلِ أربعةٍ وعشرين، لأنَّ عددها تام. ومعنى كونه تامًّا أن أجزاءه الصحيحةَ غيرَ المكرَّرَةِ لو جُمِعَتْ لَسَاوتْهُ أو زادت عليه، فالستة لها نصفٌ وثلثٌ وسدسٌ، فساوتْ؛ والاثنا عشر لها نصف وثلث وربع وسدس، فزادت؛ والأربعة مع العشرين لها نصف وثلث وربع وسدس وثمن فزادت. وإنما لم يدخل العول في أصل اثنين، وأصلِ ثلاثة، وأصل أربعة، وأصل ثمانية، لأن عددها ناقص، لكونه لو جُمِعَتْ أجزاؤه الصحيحة كانت أقل منه: فأصل اثنين ليس له إلا النصف، وهو واحد؛ وأصل ثلاثة ليس له جزء صحيح إلا الثلث، وهو واحد؛ وأما الثلثان فثلثٌ مكرَّرٌ. وأصل أربعة ليس له إلا نصفٌ وربعٌ، وذلك ثلاثة؛ وأصل ثمانية ليس له إلا نصفٌ وربع وثمن، وذلك سبعة. (¬1) ¬

_ (¬1) هذه الفائدة من زيادة الشارح على ما في شرح المنتهى. وعندي وقفة فيما تضمنته. فلتحرّر.

باب ميراث الحمل

باب ميْراث الحَمْل بفتح الحاء. ويطلق على ما في بطنِ كلِّ حبلى. والمراد به هنا ما في بطن الآدمية من ولد. ويقال امرأة حامل، وحاملة، إذاكانت حبلى. فإذا حملت شيئاً على رأسها سميت حاملة لا غير. (ومن مات عن حمل يرثه) ومع الحمل من يرث أيضاً. (فطلب بقيةُ ورثتِهِ) أي الميت (قسمةَ التركة قسمت) ولا يجبرون على الصبر (¬1) (ووُقِفَ له) أي للحملِ (الأكثرُ من أرثِ ذكرين أو أنثيين) وبهذا قال محمد بن الحسن، واللؤلؤي. وقال شريك ومن وافقه: يوقف نصيب أربعة. وروى ابن المبارك هذا القولَ عن أبي حنيفة. ورواه الربيعُ عن الشافعي. وقال الليثُ وأبو يوسف: يوقَفُ نصيبُ غلامٍ، ويؤخذ ضمينٌ من الورثة. ووجه الأول كون ولادةِ التوأمين كثيرةً. (ودُفعَ لمن لا يحجُبُهُ الحملُ إرثُهُ كاملاً.) ودُفع (لمن يحجبه حجبَ نقصانٍ أقلُّ ميراثِهِ). ¬

_ (¬1) لكن إن رضوا بوقف الأمر على وضعه فهو أولى، خروجاً من الخلاف، ولتكون القسمة مرة واحدة (ش. المنتهى).

فمن مات عن زوجةٍ وابنٍ وحملٍ، فإنه يُدْفَعُ للزوجة ثمنها. ويوقف للحمل نصيب ذكرينِ. لأن نصيبَهُما هنا أكثر من نصيب أنثيين. فتصحُّ المسألة من أربعة وعشرين: للزوجةِ ثمنُها ثلاثة. ويدفع للابن سبعة. ويوقف للحمل أربعة عشر. (ولا يُدْفَعُ لمن يُسْقِطُهُ) الحمل (شيء) من التركة، كمن خلّف زوجةً حاملاً، وإخوةً أو أخواتٍ, فإنه لا يُدْفَعُ إلى الإِخوة ولا إلى الأخوات شيء، لأن الظاهرَ خروجُ الحملِ حيًّا، مع احتمال كونهِ ذكراً، وهو يُسْقِط الإِخوة والأخوات، فكيف يُدْفَعُ لهم شيء مع الشكِّ في الاستحقاق؟ (فإذا وُلِدَ) الحملُ، وتبيَّن أنَّ إرثَهُ أقلُّ مما وُقِفَ له (أخذ نصيبَهُ، ورُدَّ ما بقي لمستحقِّهِ.) وإن أعوز شيئاً (¬1) بأن وُقِفَ نصيبُ ذكرينِ فولدتْ ثلاثَةَ رُجعَ على من هو في يده. (ولا يرثُ) المولودُ (إلا إن استَهَلَّ صارخاً) نص عليه في رواية أبي طالب (أو عَطَسَ) أي أتته العَطْسَةُ. ويجوز في مضارِعِهِ ضمُّ الطاءِ وكسرُها (أو تنفَّسَ) أو ارتَضَعَ (أو وُجِدَ منه ما يدلُّ على الحياةِ كالحَرَكَةِ الطويلة. ونحوها) كسعالٍ. لأن هذه الأشياء تدل على الحياة المستمرهَ. (ولو ظهر بعضُه) أي بعض الجنين (فاستَهَلَّ) أي صوّت (ثم انفصل مَيْتاً لم يرثْ.) وإن اختلف ميراثُ توأمينِ واستهلَّ أحَدُهما وأشْكَلَ أُخْرِجَ بقرعةٍ. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول وشرح المنتهى. والصحيح برفع (شيء)، لأنه يقال: أعْوَزَني الشيء إذا افتقدته مع شدة حاجتي إليه، كما في اللسان، ولا يقال. أعوزتُ الشيء.

باب حكم (ميراث المفقود)

باب حكم (ميْراث المفقود) اسم مفعول من فقدتُ الشيءَ أفقِدُه فَقْداً وفِقْداناً بكسر الفاءِ وضمها. والفِقْدَانُ تَطَلُّبُ الشيء فلا تَجِدهُ. وهو قسمان: الأول: (من انقطع خَبَرُهُ لغيبةٍ ظاهرُها السلامةُ، كالأَسْر) فإنّ الأسير معلومٌ من حالِهِ أنه غير متمكنٍّ من المجيء إلى أهله (والخروجِ للتجارة) فإن التاجر قد يشتغل بتجارته عن العَوْدِ إلى أهله (والسياحةِ وطلبِ العلم) (¬1) فإن السائِحَ قد يختار المقام ببعض البلدان النائية عن بلده. فالذي يغلِبُ على الظنّ في هذه الأحوالِ ونحوِها سلامَتُهُ (انتُظِر تتمة تسعين سنة منذ وُلِدَ) قال في الإِنصافَ: هذا المذهب. وصححه في المذهب (¬2) لأن الغالب أنه لا يعيش أكثرَ من هذا. فأشبه اليقين (¬3). (فإن فُقِدَ ابنَ تسعين سنةً اجتهدَ الحاكم) في تقدير مدة انتظاره. القسم الثاني: مَنِ انقطع خبرُه لغيبةٍ ظاهِرُها الهلاكُ، وهو المراد ¬

_ (¬1) عبارة "وطلب العلم" ساقطة من (ف). (¬2) في (ب، ص). "المهذب" والتصويب من (ف). وهو "المذهب الأحمد" لابن الجوزي مطبوع في بمباي. (¬3) في الأصول كلها "التعيين" وهو تصحيف. والشيخ عبد اللبدي رحمه الله استشكلها أيضاً، ولم يجد لها مخرجاً. ونحن أستظهرنا أنها "اليقين" لدلالة السياق.

بقول المتن: (وإن كان ظاهرها الهلاك، كمن فُقِدَ من بينِ أهله) كمن يخرج إلى الصلاة فلا يعود، أو إلى حاجة قريبةٍ فلا يعودُ (أو في مَهْلَكَةٍ) وهي بفتح الميمِ واللام، ويجوز كسرهما، حكاهما أبو السعادات. وبجوز ضمُّ الميم مع كسر اللام، اسم فاعل من أَهْلَكَتْ فهي مُهْلِكَةٌ. وهي أرضٌ يكثر فيها الهلاك، قاله في المبدع (كدرب الحجازِ (¬1)، أو فُقِدَ من بين الصفَّيْنِ حال الحرب، أو غرقتْ سفينةٌ ونجا قوم وغَرِقَ آخرون،) فمتى فُقِدَ إنسان في هذه الأحوال الممثَّلِ بها أو نحوها (انتُظِر تتمةَ أربعِ سنينَ منذ فُقِدَ. ثم يُقْسَمُ ماله في الحالتين) (¬2) لأنها مدة يتكرر فيها تردد المسافرين والتجار، فانقطاعُ خَبَرِهِ عن أهلِهِ مع غيبته على هذا الوجْهِ يُغَلِّبُ ظنَّ الهلاك، إذْ لو كان باقياً لم ينقطعْ خبرُهُ إلى هذه الغاية، فلذلك حُكِمَ بموتهِ في الظاهِرِ، فَيُجْعَلُ مالُه لوَرَثتِهِ، لذلك، ولأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على اعتدادِ امرأتِهِ بعد تربُّصها هذه المدة، وحِلَّها للأزواج بعد ذلك. وإذا ثبت ذلك في النكاحِ مَعَ الاحتياطِ للأبْضَاعِ ففي المال أولى. ويزكَّى مالُ المفقود لما مضى قبل القسمة (¬3). (فإن قدم) المفقود (بعد القسمة) لمالِهِ (أَخَذَ ما وجده) منه (بعينه) لأنه قد تبيَّن عدم انتقال ملكِهِ عنه (ورَجَعَ بالباقي) على من أَخَذهُ، بمثل مثليٍّ وقيمةِ متقوِّم، لتعذُّرِ ردَّهِ بعينه. ¬

_ (¬1) أي فيما مضى. أما الآن فقد حصل الأمن والحمد لله، فلا يكون ظاهر الغيبة فيها الهلاك بل السلامة. (¬2) كان الأولى أن يؤخّر الشارح جملة المتن "ثم يقسم ماله الخ" لأن كلامه اللاحق لها لا يتعلق بها بل بما قبلها. (¬3) أي لأن الزكاة حق في المال، فلزم أداؤه، وهو على ملك المفقود قبل الحكم بموته.

(فإن مات مورِّث هذا المفقود) أي من يرث المفقود منه (في زمن انتظارِهِ) أي في المدة التي قلنا يُنْتَظَرُ به فيها (أَخَذَ) من تركة الميت (كلُّ وارثٍ) غيرُ الْمفقود (اليقينَ) وهو ما لا يمكن أن ينقُصَ عنه مع حياة المفقودِ أو موتهِ (وَوُقِفَ له) أي للمفقود (الباقي) حتى يتبيَّن أمرُهُ أو تنقضي مدة الانتظار، لأنَّهُ مالٌ لا يُعْلَمُ الآن مستحِقَّهُ، أَشْبَهَ الذي ينقصُ نصيبُهُ بالحمل. وطريقُ العمل في ذلك أن تَعْمَلَ المسألةُ على أنه حيّ، ثم على أنه ميت، ثم تَضْرِبَ إحداهما في الأخرى إن تباينتا، أو في وَفْقِهَا إن اتفقتا، وتجتزىء بإحداهما إن تماثلتا، وبأكثرهما إن تداخلتا، وتدفعَ لكل وارثٍ اليقينَ، وهو أقل النصيبين. ومن سقط في إحداهما لم يأخذ شيئاً. (ومن أشكل نَسَبُه) من عددٍ محصورٍ، والمراد: ورُجِيَ انكشافُهُ، (فكالمفقود) في أنه إذا مات أحدٌ من الواطئين لأمِّه وُقِفَ له منه نصيبه، على تقدير إلحاقه به. وإن لم يُرْجَ زوالُ إشكالِهِ بأن عُرِضَ على القافة فأشكَلَ عليهم، ونحو ذلك، لم يوقف له شيء.

باب ميراث الخنثى

باب ميرَاث الخنثى (وهو من له شكل الذكر، و) شكل (فرج المرأة) زاد في المغني والشرح: أو ثقبٌ في مكان الفرج، يخرج منه البول. (ويعتبر) أمرُهُ من كونهِ ذكراً أو أنثى في توريثِهِ وغيرِهِ مع إشكاله (ببوله) من أحدهما. فإن كان يبولُ منهما (فَبسبْقِهِ) أي سبق البول (من أحدِهِما) قال في المغني: قال ابن المنذر: أجَمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الخنثى يورَّث من حيثُ يبول. فإن بال من حيثُ يبولُ الرجلُ فهو رجلٌ، وإن بال من حيث تبولُ المرأة فهو امرأة. (فإن خرج) البول (منهما) أي من شكل الذكر وشكل الفرج (معاً)، بأن لم يسبق من واحد منهما (اعتبر أكثَرُهما) خروجاً منه. قال ابن حمدان: قدراً وعدداً لأن له تأثيراً. قال في المغني: فإن خرجا معاً ولم يسبِقْ أحدُهما، فقال أحمد في رواية إسحقَ بن إبراهيم: يرث من المكان الذي يبول منه أكثر. (فإن استويا) أي استوى المحلَّان في قدرِ ما يخرج من كلِّ واحدٍ منهما من البول (فَمُشْكِلٌ) أي فالخنثى المتَّصِفُ بذلك يسمى مشكلاً، لأنه قد أشْكَلَ أمرُهُ لعدم تمييزه بشيء مما تقدَّمَ.

(فإن رُجِيَ كشْفُهُ) أي كشف إشكالِهِ (بَعْدَ كِبَرِهِ) أي بلوغِهِ (أُعْطِي) الخنثى (ومن معه) من الورثة (اليقينَ) من التركةِ، وهو ما يرثونه بكل تقدير، (ووُقِفَ الباقي) من التركة حتى يبلغ (لتظهر ذكورته، بنبات لحيتِهِ، أو إمناءٍ من ذكره). زاد في المغني: وكونهِ منيَّ رجلٍ، (أو) لتظهر (أنوثَتُهُ بحيضٍ أو تفلُّكِ ثديٍ) بأن يستدير، قال في القاموس: وَفَلَّكَ ثديها وأفْلَكَ وتَفَلَّكَ: استدار، انتهى. (أو إمناءٍ من فرجٍ). (فإن ماتَ) الخنثى قبل بلوغِهِ، (أو بَلَغَ بلا أمارَةٍ)، تظهر بها ذكوريته، أو أنوثيته، (واختلف إرثه، أخَذَ نصف ميراثِ ذكرٍ ونصفَ ميراث أنثى) فإن كان ابنٌ، وبنتٌ، وولدٌ خنثى مشكلٌ، فمسألة ذكوريته من خمسة، عددِ الرؤوس، ومسألة أنوثيته من أربعة. فاضرب إحداهما في الأخرى، لتباينهما، تكن عشرين. ثم اضرب العشرين في اثنين، عدد حالة الذكورة والأنوثة، تكن أربعين، ومنها تصحّ: للبنت سهم من أربعة، في خمسة، بخمسة؛ ولها سهم من خمسة، في أربعة، بأربعة؛ فأعطها تسعة. وللذكر سهمان من أربعة، في خمسة، بعشرة؛ وسهمان من خمسةٍ، في أربعة، بثمانية: يجتمع له ثمانيةَ عَشَرَ. وللخنثى من مسألة الأنوثية سهم، في مسألة الذكورية: خمسة؛ وله سهمان من خمسةٍ، في أربعة، بثمانية. يجتمع له ثلاثة عشر.

باب ميراث الغرقى ونحوهم

باب ميرَاث الغرقى وَنحوهم كمن عَمِيَ (¬1) موتُهُم إذا ماتُوا بِهَدْمٍ أو غَرَقٍ أو حرق. (إذا عُلِمَ موتُ المتوارِثَيْنِ معاً) أي في آنٍ واحدٍ (فلا إرث) أي فلا يَرِثُ هذا من هذا، ولا هذا من هذا، لأنه لم يكن أحدهما حيًّا حين موت الآخر. وشرطُ الإِرثِ تحقُّقُ حياةِ الوارِثِ بعد موتِ المورِّث. (وكذا) الحكم (إن جُهِلَ الأسبق) من المتوارثين موتاً، (أو عُلِمَ) أسبقهُما (ثم نُسِيَ،) أو عُلِمَ أن أحدَهما ماتَ أولاً وجُهِلَ عينُه. فتارةً يدّعي ورثة كلِّ واحدٍ من الميتينِ سبق موت الآخر، وتارةً لا يدّعونه. أشار للدعوى بقوله: (وادّعى ورثةُ كلٍّ) أي ورثة كلِّ ميتٍ من الهدمى والغرقى (سبْقَ) موتِ (الآخر، ولا بيّنة) لواحدٍ من الفريقين بما ادّعاه، (أو) كان لكلِّ واحدٍ بيّنَةٌ، (تعارضَتَا) أي البيّنتان، وتحالَفَا أي حَلَفَ كلٌّ منهما على ما أنكره من دعوى صاحبه، ولم يتوارثا، لعدم وجود شرطه، وهو تحقُّق حياةِ الوارِثِ بعد موتِ المورّث. وأشار لعدم الدعوى بقوله (وإن لم يدّعِ ورثة كلٍّ سَبْقَ) موتِ ¬

_ (¬1) أي: خَفِي. وفي (ب، ص): "عمّ" والتصويب من (ف) وشرح المنتهى.

(الآخر، ورث كل ميتٍ صاحِبَهُ) وهو قولُ عُمَرَ وعليٍّ وشريحٍ وإبراهيمَ والشعبيِّ. قال الشعبيّ: وَقَعَ الطاعونُ بالشَّامِ عامَ عُمْواسٍ، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم. فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأمر عمر أن ورّثوا بعضَهُم من بعض. قال أحمد: أذْهَبُ إلى قول عمر. قال في الإِنصاف: إنه من مفردات المذهب. وإنما يرث كل ميتٍ من صاحبه من تِلادِ ماله، أي مالِهِ القديم الَّذي ماتَ وهو يملكُهُ، دون المجدَّدِ له مما ورثه من الميت معه، لئلا يدخله الدَّوْرُ. فيقدَّر أحدُهما مات أوَّلاً، ويرث الآخر منه. (ثم يُقْسَمُ ما ورثه على الأحياء من ورثتِّه.) ثم يصنع في الثاني كذلك. ففي أخوين أَحَدُهما مولى زيدٍ، والآخر مولى عمروٍ، يصير مالُ كل واحدٍ منهما لمولى الآخر.

باب ميراث أهل الملل

باب ميرَاث أهل المِلَل جمع مِلَّةٍ، بكسر الميم، وهي الدّينُ والشريعة. من موانع الإِرث اختلافُ الدّين. فمتى كانَ دينُ الميتِ مبايناً لدينِ نسيبِهِ، أو زوجتِهِ، أو زوجِها، فلا إرث. (لا توارثَ بين مختلفين في الدين، إلا بالولاء، فيرث به) أي الولاء (المسلمُ) المعتِقُ (الكافر) العتيق، (والكافِرُ) المعتِقُ (المسلمَ) العتيقَ. (وكذا يرثُ الكافِرُ ولو مرتداً) قريبَه المُسْلِمَ (إذا أَسْلَمَ قبلَ قَسْمِ ميراثِ مورّثِهِ المسلم) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أسْلَمَ على شيءٍ فهو له" رواه سعيد في سننه (¬1). (والكفّار مِلَلٌ شتَّى، لا يتوارثون مع اختلافها) روي عن علي، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَوارَثُ أهلُ مِلَّتَيْن شتَّى" رواه أبو داود (¬2). فاليهوديّةِ ملة، ¬

_ (¬1) حديث "من أسلم على شيءٍ فهو له" رواه سعيد من حديث عروة وابن أبي مُلَيكة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهو مرسل صحيح الإِسناد. وروي مرفوعاً من طرق أخرى من حديث أبي هريرة وبُرَيْدَة. فهو حسن بمجموعها. ونص حديث بريدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في أهل الذمة "لهم ما أسلموا عليه من أموالهم وعبيدهم وديارهم وأرضهم وماشيتهم، ليس عليهم فيه إلا الصدقة (الإِرواء ح 1716) (¬2) حديث "لا يتوارث أهل ملتين شَتىً" رواه أيضاً ابن ماجه والدارقطني من =

والنصرانيّة ملة، والمجوسيّة ملة، وعَبَدَةُ الأوثان ملّة، وعبدة الشمس ملّة، وهكذا. فلا يَرِثُ بعضُهُمْ بعضاً. (فإن اتفقت أديانُهُمْ، ووجدت الأسباب) الرّحِمُ، والنِّكاح، والولاء، (وَرِثَ بعضهم بعضاً، ولو أنّ أحَدَهما ذِمّي والآخر حربي، أو) أحدُهما (مستأْمِنٌ والآخر ذمّي أو حربيّ.) فاختلافُ الدَّارَيْنِ ليس بمانع، لأن العموماتِ من النصوصِ تقتضي توريثَهُمْ، ولم يرد بتخصيصِهم نصٌّ ولا إجماع، ولا يصح فيهم قياسٌ. فيجب العمل بعمومها. (ومن حُكِمَ بكفرِهِ من أهل البدع) المضلّة، (والمرتدّ، والزنديق، وهو المنافق) ولا تقبلُ توبتُهُ ظاهراً، وهو سَتْرُ الكفرِ وإظهار الإِيمان (فماله فيءٌ) يصرف مصرف الفيءِ (لا يورِّثون) أحداً (ولا يَرِثون) أحداً. (وَيرِثُ المجوسي ونحوُه) ممن يرى حِلَّ نكاحِ المحارِمِ (بجميعِ قراباتِهِ) إذا أسْلَمَ، أو حاكَمَ إلينا، وهو قول عمر وعليٍّ وابنِ مسعود وابن عباس، وزيدٍ في الصحيح عنه. (فلو خلَّفَ) المجوسيُّ (أُمَّه، وهي أخته من أبيه) لكون أبيهِ تزوَّج بنته، فولدتْ له هذا الميت، وخلَّفَ عمًّا (ورثت الثلث بكونها أمًّا، و) ورثت (النصفَ بكونهَا أُختاً) والباقي بعد النصف والثلث للعمّ. ¬

_ = حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن (الإِرواء ح 1675)

باب ميراث المطلقة

باب ميرَاث المطلقَة طلاقاً رجعياً أو بائناً يتهم فيه بقصد الحرمان. (يثبتُ الإِرث لكلٍّ من الزوجين في الطلاقِ الرجعيّ) سواء كان في المرض أو في الصحة. قال في المغني: بغير خلافٍ نعلمه. روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وذلك لأنّ الرجعيةَ زوجةٌ يلحقها طلاقُه وظهارُه وإيلاؤهُ، ويملكُ إمساكَهَا بالرَّجْعَةِ بغير رضاها، ولا وليّ ولا شهودٍ ولا صداقٍ جديد. (ولا يثبت) الإِرث (في) الطلاق (البائن إلاَّ لها) أي للمطلقة من مطلقها (إن اتُّهِمَ) أي الزوجُ (بقصْدِ حِرمانِها) الميرات (بأنْ طلَّقها في مرضِ موتهِ المخوفِ ابتداءً) يعني من غير سؤالِهَا، (أو سألَتْهُ) أنْ يطلِّقها طلاقاً (رجعيًّا فطلّقها) طلاقاً (بائناً، أو علّق في مَرَضِهِ طلاقَهَا) ثلاثاً، أو طلاقاً تبين به، (على ما) أي: فعلٍ (لا غنى لها عنه) شرعاً، كالصلاة المفروضَةِ، والزكاةِ، والصومِ المفروض، قال في الإِقناع: وليسَ منهُ كلامُ ابَوَيْها. انتهى، أو عقلاً كالأكلِ والنوم، (أو أقرَّ) في مَرَضِهِ (أنه طلَّقَها سابقاً في حالِ صِحَّتِهِ، أو وَكَّل في صَحته من يُبيِنُها) أي يطلَّقُها طلاقاً بائناً (متى شاء، فأبانَهَا في مرضِ موتهِ،) أو قَذَفَها في صحته،

ولاعَنَها في مرضه، أو وطئ زوجٌ عاقلٌ حَمَاتَهُ بمرضِ موته المخوفِ، ولو لم يمتْ. (فترث في الجميع) أي جميع الصور المذكورة، (حتى لو انقضت عدتها) قبل موتهِ فإنها تَرِثُهُ (ما لم تتزوجْ،) فإن تزوجت زوجاً غيره لم ترث من الأول، أبانَها الثاني أو لا (أو ترتدَّ) عن الإِسلام، ولو أسلمتْ بعد إن ارتدت. (فلو طلَّقَ المتَّهمُ) بقصدِ حرمانِ الميراثِ (أربعاً) كن معه، (وانقضتْ عدتهنَّ) منه (وتزوَّجَ أربعاً سواهُنَّ) ثم ماتَ، (وَرِثَ) منه (الثَّمَانُ) وهنّ الأربعُ المطلقات، والأربع المنكوحات (على السواءِ) لأنّ المطلَّقَةَ وارثةٌ بالزوجيّة، فكانتْ أسوةَ من سواها (بشرطه) المتقدم. (ويثبت له) أي للزوج الميراثُ من زوجته دونها (إن فعلتْ بمرضِ موتها المخوفِ ما يفسخُ نكاحَهَا ما دامتْ معتدّةً إنِ اتُّهِمَتْ) بقصدِ حرمانِه (¬1) الميراث. كما لو أدخلَتْ ذَكَرَ ابنِ زوجِها في فَرْجِها، أو أبيه، وهو نائم، أو نحو ذلك، لأنها أَحَدُ الزوجين. ولم يُسْقِطْ فعلُها ميراثَ الآخرِ، كالزوج. (وإلاَّ) أي وإن لم تُتَّهم الزوجةُ بقصدِ حرمانِهِ الميراثَ بأن دبَّ زوجُها فارتَضَعها وهي نائمةٌ، أو نحو ذلك (سَقَطَ ميراثُهُ) أيضاً، كفسخِ معتَقَةٍ تحت عبدٍ، فَعَتَقَ، ثم مات (¬2). ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "حرمانها" والتصويب من (ف). (¬2) كذا في الأصول كلها وصوابه "ثم ماتت" أي لأن الشارح أعطاها الخيار في الفسخ، فرارا من الضرر في كونها وهي حرة، تحت عبد، فكان فسخها لذلك لا للحرمان من الميراث. وانظر المغني 6/ 336

باب حكم تصحيح المسألة

باب حكم تصحيح المسألة مع (الإِقرار) من بعضهم (بمشاركٍ في الميراث،) وأمّا مع إقرار الجميع فلا يحتاج إلى عمل سوى ما تقدم. (إذا أقرّ الوارث) المكلف (بمن يشاركه) أي المقِرَّ (في الإِرث) كابنٍ للميّتِ يُقِرُّ بابنٍ له آخر، (أو) يقر (بمن يحجبه، كأخٍ) للميت (أقرّ بابنٍ للميّت) ولو كان الابنُ المقَرُّ به من أمةِ الميت، نصّ عليه في رواية الجماعة، (صحّ) الإِقرار، (وثبت الإِرث) من الميّت، (و) ثبت (الحجب). (فإذا أقرّ الورثة المكلفون) كلهم (بشخصٍ مجهولِ النسبِ، وصدَّق) المقَرُّ به المقِرَّ إنْ كان مكلفاً، (أو) لم يصدِّقْهُ و (كان صغيراً، أو مجنوناً، ثبت نَسَبُهُ وإرْثُهُ). فيشترط لثبوت النسب أربعة شروط، وهي: إقرار الجميع؛ وتصديق المُقَرِّ به إن كان مكلّفاً؛ وإمكان كونهِ من الميّت؛ وعَدَمُ المُنازِع. وحيث ثبت نسبه فإنه يثبُتُ إرثُه، ما لم يقم به مانعٌ من موانع الإِرث. فإن كان به مانع ثبت نسبه، ولم يرث للمانع. (لكن يعتبر لثبوت نسَبه من الميت) أحد شيئين: إما (إقرار جميع

الورثة، حتى الزوج، وولد الأم؛ أو شهادَةُ) رجلينِ (عَدْلينِ) فلا تقبل هنا شهادة النِّساء، ولا شهادة الفاسق مطلقاً. ويأتي. ولا فرق بين أن يكون الشاهدان (من الورثة، أو من غيرهم). (فإن لم يُقِرَّ بِهِ جميعُهم) بل أقرّ به بعضُهم (ثبت نسبه وإرثُهُ ممن أقرّ به) فقط، دون الميّت، وبقية الورثة. وقيل لا يثبت نسبه أيضاً ممن أقرّ به. جزم به الأزْجِيّ وغيره. وقدَّم الأول في الفروع والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم. (فـ) على هذا (يشاركه) أي المقَرُّ بِهِ المقِرَّ (فيما بيده) من التركة. فإذا أقرّ أحدُ ابنيهِ بأخٍ لهما، فللمقَرِّ به ثلث ما بيد المقِرّ. نقله بكر بن محمد. لأنّ إقراره تضمّن أنه لا يستحقُّ أكثَرَ من ثُلُثِ التركة. وفي يده نصفُها فيكون السدسُ الزائد للمقَرِّ به وهو ثلث ما بيده. فيلزمه دفعُه إليه، (أو يأخذُ) المقَرُّ به (الكُلَّ) أي كلّ ما بيده (إن أسقطه) كما لو أقر أخٌ شقيقٌ للميت بابن للميت، فإنه يرثُ الابنُ، ولا شيء للأخ.

باب ميراث القاتل

باب ميرَاث القَاتل وإنما يرثُ القاتلُ المقتولَ إذا لم يضمنْه على ما يأتي. (لا إرث لمن قَتَل مورِّثه بغير حق) مثل أن يكون القتلُ مضموناً بقصاصٍ أو ديةٍ أو كفّارةٍ، (أو شارَكَ في قتلِهِ) لأنّ شريك القاتل قاتلٌ، بدليل أنه يُقْتَلُ به لو وجَبَ القصاصُ، (ولو) كان القتلُ (خطأً، فلا يرثُ من سقى ولدَهُ) ونحوَه ممن في حِجْرِهِ (دواءً) (¬1) ولو يسيراً (فمات، أو أَدَّبَهُ) أي أدّبَ وَلَدَه، أو زوجتَهُ، فماتَ أو ماتَتْ (أو فَصَدَه) أو حجَمه (أو بَطَّ سِلْعَتَهُ) لحاجةٍ، فمات من ذلك، لم يرثه، لأنه قاتل. (وتلزَم الغُرَّةُ) وهي عبدٌ أو أَمَةٌ قيمتُها خمسٌ من الإِبل (مَنْ شَرِبَتْ دواءً فأسقطت) جنينَها. (ولا ترثُ مِنْها) أي الغرة (شيئاً). (وإن قتله) أي قتل الإِنسان مورِّثه (بحقٍّ ورثه، كالقتلِ قصاصاً، أو) القتلِ (حدًّا) كحدّ الزنا، وقطعِ الطريق، (أو) قتلَه (دفعاً عن نفسه) إن لم يندفع إلاَّ به. ¬

_ (¬1) هذا لا يلزم به قصاص ولا دية ولا كفارة، فمقتضى ذلك أنه لا يمنع الميراث. وهو قول الموفق والشارح وصوّبه في الإِقناع (عبد الغني).

(وكذا) لا يُمْنَعُ من الإِرث (لو قَتَلَ الباغي العادلَ) في الحرب (كعكسِهِ) (¬1) بأن قتلَ العادلُ الباغيَ، لأنه فعلٌ مأذون فيه شرعاً، فلم يمنع الميراث. ¬

_ (¬1) وفي رواية أخرىَ عن أحمد: لا يرِث الباغي العادل، ولا العادل الباغي.

باب ميراث المعتق بعضه

باب ميرَاث المعتَقِ بعضُه (الرقيقُ من حيثُ هو) أي بجميعِ أنواعِهِ، كالمدبَّر، والمكاتَب، وأمّ الولد، والمعلَّقِ عتقُه على صفة (لا يرِثُ) غيرَهُ (ولا يورث) أحداً (¬1)، لأن فيه نقصاً منع كونه موروثاً، فمنع كونه وارثاً. أجمعوا على أن المملوك لا يورَث، لأنه لا مال له فيورَث، فإنه لا يملك. ومن قال يملك بالتمليك، فملكٌ ناقصٌ غيرُ مستقرٍّ يزول إلى سيده بزوالِ ملكِهِ عن رقبته. (لكَن المبعَّضَ يرث ويورَثُ، ويَحْجُب، بقدر ما فيه من الحرية). (وإن حصل بينه) أي المبعَّض (وبين سيّدِهِ مُهَايَأةٌ) فكان يخدم سيده بنسبة ملكه، ويكتسب بنسبة حريته، (فكلُّ تَرِكَتِه) التي جَمَعها بجزئه الحر (لوارثه) (¬2). (أوْ لا) بأن لم يكن بين السيد والمبعّض مهايأةٌ (فتركته بينه) أي وارث المبعّض (وبين سيده) أي سيد المبعّض (¬3) (بالحصص). ¬

_ (¬1) عبارة "أحداً" كان الأولى بالشارح أن لا يذكرها، على أن يكون الفعل (يورث) مبنياً للمجهول. (¬2) وكذا لو قاسَمَ سيده في حياته (ش. المنتهى). (¬3) في (ف): "أي سيد البقيّة.".

باب الولاء

باب الوَلَاء الولاء ثبوتُ (¬1) حكْمٍ شرعيٍّ بعتقٍ، أو تعاطي سببه. فـ (من أعتق رقيقاً؛ أو) أعتق (بعضه فسرى إلى الباقي؛ أو عَتَق) الرقيق (عليه بِرَحِمٍ) كما لو ملك أباهُ أو أخاهُ أو عمَّهُ، ونحوهم فعتق عليه بسبب ما بينهما من الرحم؛ (أو) بـ (فعل) كتمثيلٍ به؛ (أو) بسبب (عوضٍ) كما لو قال لعبده: أنت حرٌّ على أن تخدمني سنةً، وكما لو اشترى العبدُ نفسَهُ من سيّده بعوضٍ حالٍّ، فإنه يُعْتَقُ، ويكون الولاءُ لسيّده. نص عليه؛ (أو) بسبب (كِتابةٍ)، كما لو كاتبه على مالٍ فأدّاه؛ (أو) بسببِ (تدبيرٍ) كما لو قالَ له: إذا أنا مُتُّ فأنتَ حرٌّ، (أو) بسبب (إيلادٍ،) كما لو أتت أمته منه بولدٍ، ثم مات أبو الولد؛ (أو) بسبب (وصيّةٍ)، كما لو أوصى بعتقِ عبده فلانٍ، وأعتقه الورثة؛ (أو أعتقه في زكاته، أو) في (نذره، أو) في (كفارته، فـ) إنه في جميع هذه الصور (له عليه الولاءُ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" لما متفق عليه. (و) يكون له أيضاً الولاءُ (على أولادهِ) أي أولاد العتيق، (بشرطِ كونهمْ) أي أولادِ العتيق (من زوجةٍ عتيقةٍ) للعتيق أو لغيره (أو أمةٍ). ¬

_ (¬1) تفسير الولاء بـ "الثبوت" فيه نظر، فليس هو مجرد ثبوت، بل وصف ثابت. ولذلك قال في شرح المنتهى "عصوبة ثابتة .. الخ".

(و) يكون له الولاءُ أيضاً (على من له) أي العتيقُ ولاؤُه (أو لهم) أي لأولادِ العتيقِ (عليهِ الولاءُ.) ومن لم يمسَّه رِقٌّ، وكان أحدُ أبوْيهِ عتيقاً، والآخرُ حرَّ الأصل، أو الآخرُ مجهولَ النَّسب، فلا ولاء عليه لأحد. (وإن قال) شخصٌ مكلَّفٌ رشيدٌ لمالِكِ عبدٍ: (اعتقْ عبدَك عنّي مجاناً،) أي بلا عوضٍ، (أو) اعتق عبدك (عنيّ،) فقط، (أو اعتق عبدك (عنك وعليّ ثمنه) فلا يجب عليه أن يجيبه، فـ (إن أعتقه)، ولو بعد أن افترقا، (صحّ) العتق (و) كان (ولاؤه للمعتَقِ عنه) كما لو قال له: أطعِمْ أو اكْسُ عني. (ويلزم القائلَ) للمقولِ له (ثمنُه) أي ثمنُ العبد (فيما إذا التزم به) أي بالثمن، بقوله: وعليّ ثمنه. (وإن قال الكافر) للمسلم: (اعتقْ عبدَكَ المسلم عني) وعليّ ثمنه، (فأعتقه، صحّ) في الأصحّ، لأنه إنما يملكه زمناً يسيراً، ولا يتسلَّمُهُ فاعتُبر هذا الضرر (¬1) اليسير لأجل تحصيل الحرية للأبد، التي يحصل بها نفع عظيم، لأن الإِنسان يصيرُ متهيّئاً بها للطاعاتِ، وإكمال القربات. (و) يكونُ (ولاؤُه للكافر) ويرث به المسلم (¬2). وكذا كل من باين [دينه] دين معتقِه (¬3). ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "الغرر" والتصويب من شرح المنتهى، إذ لا غرر هنا. والضرر الحاصل هو أنه إذا أعتقه عن الكافر فقد حُكِم بدخوله في ملك الكافر ولو لحظةً. ولا يجوز للكافر أن يتملّك مسلماً، لكن اغتفر هنا لما ذكر في الشرح. (¬2) أي: يرث الكافر بالولاء عتيقه المسلم. وتقدم في كتاب المواريث. (¬3) أي كذلك يرث المجوسيّ عتيقه اليهودي، ونحو ذلك.

[في الإرث بالولاء]

فصل [في الإِرث بالولاء] (ولا يرث صاحبُ الولاءِ) أي من له الولاءُ (إلاَّ عِنْدَ عَدَم عصباتِ النَّسب) كالأب، والابن، وابن الابن، والأخ مطلقاً، ونحوهم، (وبعد أن يأخذ أصحابُ الفروضِ فروضَهم. فبعد ذلك يرثُ المعتِق ولو أنثى). فمن ماتَ عن بنتٍ حُرَّة وعن معتِقٍ: كان النصفُ للبنت، والباقي للمعتِق. ومن ماتَ عن أمٍّ حرّةٍ، وشقيقتينِ حرتين، وزوجةٍ حرة، ومعتِق: فاصل المسألةِ من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر: للأم السدس سهمان، وللشقيقتين ثمانية أسهم، وللزوجة ثلاثة أسهم، ولا شيء للمعتق. (ثم) يرث بعد فقد المعتق (عصبتُه) المتعصّبون بأنفسهم، يقدَّم (الأقرب فالأقرب) فابنٌ وابنُ ابنٍ: الكلُّ للابن. وأخٌ شقيقٌ، وأخ لأب: الكلّ للشقيق. وهكذا. (وحكم الجد مع الإِخْوة) الأشقاءِ أو لأب (في الولاء كحكمِهِ معهم في النَّسب) وتقدم الكلام على ذلك. (والولاءُ لَا يباعُ، ولا يوهَب، ولا يوقَفُ، ولا يوصى به) لأنه كالنَّسب، وهو لا يَرِدُ عليه عقد بيعٍ، ولا هبةٌ، ولا وقفٌ، ولا وصيةٌ. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاءُ لُحمةٌ كلُحْمَةِ النسب لا يباع ولا يوهب" (¬1). (ولا يورَث، وإنما يَرِثُ به أقربُ عصباتِ المعتِقِ يَوْمَ موتِ العتيق) لا يوم موت المعتِق. ¬

_ (¬1) حديث: "الولاء لحمة ... " رواه الإِمام الشافعي من طريق محمد بن الحسن عن أبي يوسف القاضي (صاحبي أبي حنيفة) ورواه ابن حبان والحاكم وصححه.

(لكن يتأتَّى انتقاله) أي الولاء (من جهةٍ إلى) جهة (أخرى: فلو تزوّج عبدٌ بـ) امرأة (معتَقَةٍ) لزيدٍ (فولاءُ من تَلِدُهُ) من زوجِها العبدِ (لمن أعتَقَها) وهو زيدٌ (فإن عَتَقَ الأب انجرَّ الولاء لمواليه) أي موالي الأب.

كتاب العتق

كتَاب العتق وهو لغةً: الخلوص، ومنه عِتاقُ الخيل. وسمِّيَ البيتُ الحرام عتيقاً لخُلوصِهِ من أيدي الجبابرة. وشرعاً: تحرير الرَّقبة، وتخليصها من الرق. وخُصَّت به الرقبة، وإن تناول العتقُ جميعَ البدن، لأن ملك السيّد له كالغُلِّ في رقبته المانعِ له من التصرّف، فإذا عَتَقَ صار كأنّ رقبته أُطلِقت من ذلك. (وهو من أعظم القُرَب) لأنَ الله -جَلَّ وعلاَ- جعله كفارةً للقتلِ، والوطءِ في نهار رمضان، وكفارةً للأيمان، وجعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِكاكاً لمعتِقِهِ من النار، ولأن فيه تخلُّصَ الآدميِّ المعصومِ من ضرر الرق. وأفضلُها أَنفسُها عند أهلِها، وأغلاها ثمناً، نَقَله الجماعَةُ عن أحمد. وذكرٌ وتعددٌ أفضل (¬1). (فيسن عتقُ) وكتابةُ (رقيقٍ له كسبٌ) لانتفاعِهِ بملْكِ كسبِهِ بالعتق. (ويكره) العتقُ والكتابةُ (إن كان) العتيقُ (لا قوةَ لَه ولا كسب) لسقوطِ نفقته بإعتاقه، فيصير كلًّا على الناس ويحتاج إلى المسألة؛ (أو) ¬

_ (¬1) يعني أن إعتاق الذكر أفضل من إعتاق الأنثى، وإعتاق المتعدد ولو من إناثٍ أفضل من إعتاق واحدٍ ولو كان ذكراً (ش. المنتهى).

[العتق بالقول]

كان (يخافُ منه) إذا عتَق (الزنا أو الفساد) يعني فإنه يكره إعتاقه. وكذا لو خيف رجوعه إلى دار الحرب وتركُ إسلامه. (ويحرم إن عَلِم ذلك) أو ظَنَّه (منه) لأن التوسُّل إلى المحرّم حرام. وإن أعتقَه مع علمِه ذلك أو ظنَّه صح العتق. (وهكذا الكتابة) في الحكم المذكور. (ويحصل العتق) بأحد شيئين: (بالقول) أو الملك (¬1). وزاد في الكافي: والاستيلاد (¬2). ولا يحصل بمجرّد النية، لأنه إزالة ملك. [العتق بالقول] وينقسم من أجل كونه إزالةَ ملكٍ إلى صريح وكناية، كالطلاق. (وصريحه) أي صريح القول: (لفظ العتق، و) لفظ (الحريّة) لأنهما لفظانِ وردَ الشرعُ بهما، فوجب اعتبارُهما، (كيفَ صُرِّفَا) فمن قال لرقيقه: أنت حرٌّ، أو مُحرَّرٌ، أو قد حرَّرْتُك؛ أو عتيقٌ، أو معتَقٌ أو قد أعتقْتُكَ، عتَقَ، ولو لم يَنْوِ عتقَه بذلك. قال أحمد في رجلٍ لقي امرأةً في الطريق، فقال: تَنَحَّيْ يا حُرَّةُ. فإذا هي جاريتُهُ، قال: عتقت عليه. (غيرَ أمرٍ، ومضارِعٍ، واسمِ فاعلٍ) فمن قال لرقيقه: حرِّرْهُ، أو: أعتِقْهُ، أو: أُحَرِّرُهُ، أو: هذا محرِّرٌ بكسر الراء، وهذا معتِقْ بكسر التاء، لم يعتَقَ بذلك، لأن ذلك طلَبٌ ووعْدٌ وخبرٌ عن غيره، فلا يكون واحدٌ منها ¬

_ (¬1) المراد بالملك أن يملك أخاه أو أباه أو نحو ذلك فيعتق عليه شرعاً. وسيأتي في المتن. ويأتي العتق بالفعل. ففي حصر الشارح ما يحصل به العتق في شيئين فقط نظر، فإن الحاصل أربعة أشياء. (¬2) الاستيلاد أن يطأ الأمةَ سيدُها فتلد له ولداً، فتعتق بذلك بعد موته، وتسمى أم ولد. وتأتي أحكامها ص 125.

صالحاً للِإنشاء والإخبار عن نفسِه فيؤاخَذَ به. ويقع من هازلٍ، كالطلاق، لا من نائمٍ ومجنونٍ ومُبَرْسَمٍ لأنهم لا يعقلون ما يقولون. ولا يقعُ إن نوى بالحرِّيَّة عفَّتَهُ وكَرَمَ خُلُقِه، ونحوَه. (وكنايتُهُ) أي كناية العتق التي يقع بها (مع النية) أي نية العتق (ست عشرة) لفظة: (خَلَّيتُكَ، وأطلقتُكَ، والحقْ بأهلك، واذهبْ حيثُ شئتَ، ولا سبيلَ لي) عليك، (أو: لا سلطانَ) لي عليك، (أو: لا مِلكَ) لي عليك، (أو: لا رقَّ) لي عليك، (أو: لا خِدْمَةَ لي عليك، أو: وَهبتك لله، وأنت لله، ورفعت يدي عنك إلى الله، وأنت مولاي، أو أنت سائِبَةٌ (¬1) وملَّكتُك نفسَكَ. وتزيد الأمةُ) على الذكر (بأنتِ طالقٌ، أو:) إنت (حرامٌ). (ويعتق حملٌ لم يستثنَ) أي لم يستثنه المعتِقُ عندَ عتقِ أمةٍ (بِعِتقِ أمِّهِ) لأنه يتبعها في البيع والهبة، ففي العتق أولى، (لا عكسُهُ) أي لا تعتق الأمة بعتقِ حملِها، لأن الأَصْلَ لا يتبع الفرع. (وإن قال) السيد (لمن) أي لرقيقٍ (يمكن كونُه أباهُ) من رقيقِهِ، كما لو كان إلى السيّدُ ابن خمسةَ عشرَ عاماً، والرقيقُ ابن ثلاثينَ عاماً: (أنت أبي، أو قال) السيد (لمن) أي لرقيقٍ (يمكنُ كونُه ابنه: أنت ابني، عَتَق) بذلك، ولو كان له نسب معروف (¬2). و (لا) عِتْقَ (إن لم يمكنْ) كونه أباه أو ابنَهُ لكبرٍ أو صغرٍ (إلا بالنية) أي بنيته بهذه الألفاظ العتقَ. ¬

_ (¬1) السائبة العبد يُعْتَق على أن لا ولاء عليه (قاموس). (¬2) أي لاحتمال كونه من وطء شبهةٍ.

[في العتق بالفعل]

فصل [في العتق بالفعل] (ويحصل) العتقُ (بالفعلِ) كما يحصُل بالقول. (فمن مَثَّل) بتشديد المثلَّثة، قال أبو السعادات: مثَّلتُ بالحيوانِ، أُمثِّلُ تمثيلاً، إذا قطعتَ أطرافَه، وبالعَبد، إذا جَدَعْتَ أنفَه، أو أُذنَهُ، ونحوه. (برقيقِهِ) ولو بلا قصدٍ (فجدَعَ أنفه، أو أذنه، أو نحوَهما) كما لو خَصَاه (أو خَرَق) عضواً منه، كما لو خَرَقَ كفَّه (أو حَرَقَ عضواً منه) كإصبعه، بالنّار عتق بلا حكمِ حاكمٍ (¬1) (أو استكرهه) أي استكرَهَ السيّدُ عبدَهُ (على الفاحشة) أي فَعَلَها به مكرَهاً. قال الشيخ: لو استكره المالك عبدَهُ على الفاحشةِ عَتَقَ عليهِ، (أو وطئ) السيدُ (من) أي أمةً مباحةً (لا يوطأ مثلها لصغرٍ فأفضاها) أي خَرَقَ ما بين سبيلَيها، يعني فإنّها تعتق عليه. قال ابن حمدان: ولو مثّل بعبدٍ مشتركٍ بينه وبين غيره عَتَق نصيبُهُ، وسرى العتقُ إلى باقِيهِ، وضمن قيمةَ حِصّةِ الشريكِ بشرطِهِ، وهو أن يكون موسراً. ذكره ابن عقيلٍ، وجزم به في الإِقناع، (عتق في الجميع) أي جميع ما ذكر. (ولا عتق) حاصل (بخدشٍ) أي جرحٍ (وضربٍ ولعنٍ) لرقيقِهِ، لأن ذلك مخالفٌ للقياسِ، ولا نصَّ فيه، ولا [هو] في معنى المنصوص عليه، فلم يعتق بذلك، كما لو هدده. ¬

_ (¬1) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن زِنْبَاعاً أبا رَوْحٍ وجد غلاماً له مع جاريته، فقطع ذكره، وجدع أنفه، فأتى العبد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال النبي: "ما حملك على ما فعلتَ؟ " قال: فَعَل كذا وكذا. قال: "اذهب فأنت حرّ"، رواه أحمد وغيره (منار السبيل).

[العتق بالملك]

[العتق بالملك] (ويحصل) العتق أيضاً (بالملْكِ، فَمَنْ مَلَكَ لذي رحمٍ (¬1) محرمٍ) كأبيه وابنه وأخيهِ وعمهِ. والرَّحِمُ المَحْرَمُ هو الذي لو قُدِّر أحدُهما ذكراً، والآخر أنثى، حرم نكاحه عليه (¬2)، لكن لما كان ذلك شاملاً للمَحْرَم بالرّضاعِ أخْرَجَه بقوله (من النسب) (¬3) وافقه في دينِهِ أوْ لا، (عَتَق عليَه،) وأبٌ وابنٌ من زناً كأجنبيين، (ولو) كان المملوكُ (حملاً) كما لو اشترى زوجة ابنِهِ الأمةَ التي هي حاملٌ من ابنِه. (وإن ملك بعضَهُ) أي بعضَ من يعتق عليه بشراءٍ أو هبةٍ أو نحوِهما (عَتَقَ البعض) الذي ملكه، (و) عَتَقَ (الباقي) أي باقي الرقبة (بالسّراية، إن كان موسراً، ويغرم) أي يدفع ثمن (حِصَّةِ شريكِهِ.) وإن لم يكن موسِراً بقيمةِ باقيهِ كلِّه عَتَق منه بقدْرِ ما هو موسِرٌ به. والموسِرُ هنا القادرُ حالةَ العتقِ على قيمتِهِ، وأن يكون ذلك كفطرة. تنبيه: إن كان الذي مَلَكَ جزءاً من رحمه المَحْرَم مُعسِراً، أو مَلَكه بالميراثِ ولو كان موسراً بقيمتِهِ، لم يعتق عليه إلا ما مَلَكَ. (وكذا حكم كل من أَعْتَقَ حصته من) عبدٍ (مشتركٍ)، سواءٌ كان قَدْرَ نصيبه، أو أقل، في أنه يعتق عليه جميعُهُ عتقاً وسرايةً. (لو ادّعى كل) واحدٍ (من) شريكين (موسرين أن شريكَهُ أعْتَقَ نصيبَهُ عتق) المشترك عليهما، (لاعترافِ كل) منهما (بحرّيّته،) وصار كلٌّ ¬

_ (¬1) كذا في الأصول كلها، والوجه أن يقول "ذا رحم" الخ. (¬2) سيأتي في أول باب النكاح أن شرط المحرمية أن يكون تحريم النكاح على التأييد، فليس الرجل محرَماً لأخت زوجته. فما هنا تعريف لذي الرحم المحرم، لا لمطلق المحرم. فإن التحريم بالرحم لا يكون إلا مؤبداً ولذا لم يذكر التأبيد. (¬3) على هذا مؤاخذة للماتن والشارح، فإنّ المحرم من الرضاع خارج بقوله "ذا رحم" ولعل الماتن قصد التوكيد، وإن كان خلاف مقصود أصحاب المختصرات.

[في تعليق العتق وإضافته]

مدَّعِياً على شريكه بنصيبه من قيمته، (ويحلف كلٌّ) منهما (لصاحِبِهِ) لأجل سرايةِ عتقِهِ إلى نصيب شريكه. فإن نَكَلَ أحدهما قُضي للآخر. وإن نكلا جميعاً تساقطَ حقُّهما لتماثلهما، (و) لا ولاءَ عليه لواحدٍ منْهُمَا، لأنه لا يدّعيه، بل يكونَ (ولاؤُه لبيتِ المالِ) أشبهِ المال الضائع، (ما لم يعترفْ أحدُهما بعتِقِه) كلِّه أو جزئِهِ (فيثبت له) ولاؤه، (ويضمنُ حقَّ شريكِهِ) أي قيمةَ حِصّةِ شريكِهِ، لاعترافِهِ. ولا فرق في هذه الحالةِ بين العَدْلَيْنِ والفاسقينِ، والمسلمينِ والكافرينِ، للتساوي في الاعتراف والدعوى. فصل [في تعليق العتق وإضافته] (ويصح تعليق العتق بالصفةِ، كـ) قوله: (إن فعلتَ كذا، كإذا صمتَ غداً، أو: يومَ الخميس، أو: أعطيتني ألفاً، فأنت حرٌّ.) وكذا يصحُّ تعليقه على دخولِ الدارِ، ومجيءِ الأمطار، وغير ذلك، لأنه عتقٌ بصفةٍ، فيصحُّ، كالتدبير. وللسيد وطءُ الأمةِ التي عَلَّقَ عتقَها على صفةٍ قبل وجودِها. (وله) أي السيد (وقْفُه) أي الرقيقِ الذي عَلَّقَ عتقَه على صفةٍ، (وكذا بيعُهُ ونحوُهُ) كهبتِهِ، والوصيةُ به (قبل وجودِ الصفة) ثم إن وُجِدَتْ وهو في ملك غير المعلِّق لم يعتق. (فإن عادَ) المعلَّق عتقه على صفةٍ (¬1) (لملكِهِ) أي ملك المعلِّق، ولو ¬

_ (¬1) الأولى أن يقول "عاد التعلّق بالصفة".

بعد وجودها حال زوالِهِ، (عادت) الصفةُ (فمتى وجدت) وهو في ملكه (عَتَق) لأن التعليق والشرط وُجِدا في ملكه، فأشبه ما لو لم يتخللهما زوال ملك، ولا وجودُ صفةٍ حال زواله. ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها، كالجُعْل في الجعالة. فلو قال لعبده: إذا أديتَ ألفاً فأنت حرٌّ لم يعتق حتى يؤدّي جميعه. (ولا يبطل) التعليق (إلا بموته) أي موت المعلِّق لزوالِ ملكه زوالاً غيرَ قابل لِلْعَوْد، (فقوله) أي السيدِ لعبده: (إن دخلتَ الدارَ بعد موتي فأنتَ حرٌّ لغوٌ) كقوله لعبد غيره: إنْ دخلتَ الدارَ فأنت حرٌّ، ولأنَّه علَّق عتقه على صفةٍ توجد بعد موتهِ وزوالِ ملكِهِ فلم يصحَّ، كقوله: إن دخلتَ الدارَ بعد بيعي لك فأنت حرّ، ولأنه إعتاقٌ له بعد استقرارِ ملكِ غيرِهِ عليه. (ويصحُّ) من مالكٍ قولُه لعبده: (أنت حرٌّ بعد موتي بشهرٍ) ذكره القاضي، وابن أبي موسى، كما لو وصّى بإعتاقِهِ، وكما لو وصّى أن تباع سلعةٌ ويتصدَّق بثمنها (فلا يملِكُ الوارِثُ بيعَه) أي بيعَ العبدِ الذي قيل له ذلك قبل مضيِّ الشَّهْرِ. وكسبُه بعد موتِ سيِّدهِ وقبلَ انقِضاءِ الشهرِ للورثة. (ويصح) لا من قنٍّ، (قوله: كلُّ مملوكٍ أملِكُهُ فهو حرٌّ، فكلُّ من ملكه عتق.) ويصحُّ: إن ملكْت فلاناً فهو حر. روى أبو طالبٍ عن أحمد أنه قال: إن [قال: إن] اشتريتُ هذا الغلامَ فهو حرٌّ، فاشتراه، عتق. بخلافِ ما لو قال: إن تزوجت فلانةَ فهي طالق، لأن العتق مقصودٌ من المالك، والنكاحَ لا يُقْصَد به الطلاق. وفَرَّق أحمدُ بأنَّ الطلاقَ ليس لله تعالى، ولا فيه قربةٌ. (و) إن قال مكلَّفٌ حرٌّ: (أولُ) قِنٍّ أمْلِكُهُ، (أو) قال: (آخِرُ قنٍّ

فصل

أَمْلِكُهُ، أو) قال: (أوَّلُ، أو: آخِرُ من يطْلُعُ من رقيقي حرٌّ، فلم يملك) إلا واحداً، (أو) لم (يطلع إلا واحدٌ عتق) لأنه ليس من شرط الأوَّل أن يأتي بعده ثانٍ، ولا من شرطِ الآخِرِ أن يأتي قبله أوَّل. (ولو ملك اثنين معاً، أو طلعَا معاً، عتق واحد) منهما، وأُخْرِجَ (بقرعةٍ. ومثله الطلاق). فصل (وإن قال) سيد (لرقيقِهِ. أنتَ حرٌّ وعليك ألفٌ، عتق في الحالِ بلا شيءٍ) لأنه أعتقه بغير شرطٍ، وجَعَل عليه عوضاً لم يقبله، فعتَقَ، ولم يلزمْه شيءٌ. (و) إن قال: أنتَ حرٌّ (على ألفٍ، أو:) أنتَ حُرٌّ (بألفٍ،) أو: أنت حرٌّ على أن تعطيني ألفاً، أو: بعتُكَ نفسَكَ بألفٍ، فإنه (لا يعتق حتى يَقْبَلَ) لأنه أعتقه على عوضٍ، فلم يعتق بدون قبوله. ولأن "على" تستعمل للشرط والعوض، قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (ويلزمه الألف). (و) من قال لقِنِّهِ: أنتَ حرٌّ (على أن تخدمني سَنَةً) أو شهراً فإنّه (يعتق في الحال) بلا قبولٍ (من القنِّ،) وتلزَمُهُ الخِدْمةُ على الَأصَحِّ. (ويصحُّ أن يعتقه ويستثني خدمتَه مدةَ حياتِهِ أو مدَّةً معلومةً) كشهرٍ أو سنةٍ. وللسيِّد فيما إذا استثنى خِدْمَتَه، أو منفعتَه مدةً معلومةً بيعُ هِذه المدةِ المعْلومةِ من العبدِ ومن غيرِهِ. نَقَلَ حَرْبٌ (¬1) أنه لا بأس ببيعِها من العبدِ، أو ممن شاءَ. وإن مات السيد في أثنائها رجعَ ورثةُ السيد على ¬

_ (¬1) أي عن الإِمام أحمد.

العبدِ بقيمةِ ما بقي من مدّة الخدمة. ولو باع السيدُ العبدَ نَفْسَهُ بمالٍ في يده صحَّ، وعتق. وللسيد ولاؤُه. (ومن قالَ: رقيقي حرٌّ، وزوجتي طالقٌ، وله متعدد) من رقيقٍ أو زوجةٍ (ولم ينوِ معيّناً) من عبيدِهِ أو زوجاتِهِ (عَتَقَ) الكلُّ من عبيدِه (وطلَقَ الكلُّ) من زوجاتِهِ (لأنه) أي لفظ "عبدي" أو "زوجتي" (مفردٌ مضافٌ فيعمُّ) كلَّ رقيقٍ وكلَّ زوجةٍ.

باب (التدبير)

باب (التدبير) وهو أي التدبير (تعليقُ العتقِ بالموتِ) أي موتِ المعلِّق، فلا تصحُّ وصيةٌ بِهِ (كقوله لرقيقِهِ: إن متُّ فأنت حر بعد موتي). (و) لكن (يُعْتَبَرُ) لصحة التدبيرِ (كونُه ممن تصحُّ وصيّتُهُ) فيصح من محجورٍ عليه لفلسٍ، وسَفَهٍ، ومن مميزٍ يعقله؛ (وكونه) أي التدبير في الصحةِ والمرضِ (من الثلث) أي ثلثِ مالِ السيّد يومَ موتِهِ. نصّ عليه. لأنه تبرُّعٌ بعد الموتِ، فاعتُبِر من ثلثِ ماله كالوصية. ويفارِقُ العتقَ في الصِّحَّةِ؛ فإنه لم يتعلق به حقٌّ، فنفذ من جميع المال، كالهبة المنجَّزَةِ. وأما الاستيلاد فإنه أقوى من التدبير، لأنه ينفذ من المجنون، بخلاف التدبيرِ. فإن اجتمع العتق في المرض والتدبير، قُدِّم العتقُ، لأنه أسبق. وإن اجتمع التدبيرُ والوصيةُ بالعتقِ تساويا، لأنهما جميعاً عتقٌ بعد الموت. (وصريحه) أي التدبير (وكناياتُهُ كالعتق) قال في المنتهى: وصريحه لفظ "عتقٍ" و"حرّيّةٍ" معلَّقَيْنِ بموتهِ، ولفظ "تدبيرٍ" لما وما تصرَّف منها غيرَ أمرٍ ومضارعٍ واسمَ فاعلٍ.

[التدبير المعلق]

وتكونُ كناياتُ عتقٍ لتدبيرٍ إنْ عُلِّقَتْ بالموتِ، كقوله: إن متُّ فأَنْتَ لله، أو: فأنت مولايَ، أو: فأنتَ سائبةٌ. [التدبير المعلق] (ويصح) التدبير (مطلقاً أي غيرَ مقيَّدٍ ولا معلَّقٍ (كـ) قوله: (أنت مدبَّرٌ). (و) يصح (مقيّداً، كإنْ متُّ في عامي) هذا (أو): في (مرضي هذا، فأنت مدبَّرٌ.) فيكون ذلك جائزاً على ما قال: إن مات على الصفة التي قالَهَا عَتَقَ، وإلا فلا. (و) يصح التدبير أيضاً (معلقاً كـ) قوله: (إذا قدم زيدٌ فأنت مدبَّر) وإن شفى الله عليلي فأنت حرٌّ بعد موتي، فهذا لا يصيرُ مدبَّراً حتى يوجد الشرط في حياة سيّده. (و) يصح (مؤقَّتاً كأنْتَ مدبَّر اليوم، أو) أنت مدبَّرٌ (سنَةً) قال مهنا: سألت أحمد عمن قال لعبده: أنت مدبَّرٌ اليومَ. قال: يكون مدبَّراً ذلك اليوم، فإن مات سيده في ذلك اليوم صارَ حراً. (ويصح بَيْعُ المدبَّرِ وهبته) ولو أمةً، أو كان بيعُهُ في غير دين، (فإن عادَ) المدبَّرُ (لملكِهِ) أي ملكِ من دبَّرَهُ (عادَ التدبير) لأنه علَّق عتقَه بصفةٍ فإذا باعه، ثم عاد إليه عادت الصفة، كما لو قال لرقيقه: أنت حرٌّ إن دخلتَ الدارَ، فباعَهُ ثم اشتراه، ودخلها. ويصح أيضاً وقف المدبَّرِ. وإن بيعَ أو وُقِفَ أو وُهِبَ فباقيه مدبّر. [ما يبطل التدبير] (ويبطل) التدبير (بثلاثة أشياء):

أشار للأول بقوله: (بوقفه) أي وقف المدبّر. وأشار للثاني بقوله: (وبقتله) أي المدبر (لسيدهِ) لأنه استعجَلَ بقتلِهِ له، فعوقب بنقيض قصدِهِ، كما حُرِمَ القاتِلُ الميراثَ. ولأن ذلك مما يتخذه وسيلةً إلى القتل المحرم لأجلِ العتقِ. وأشار للثالث بقوله: (وبإيلاد الأمةِ) يعني أن الأمةَ المدبَّرة متى وَلَدتْ من سيّدها بَطَل تدبيرُها، وصارتْ أمَّ ولدٍ، لأن مقتضى التدبير العتقُ من الثلث، ومقتضى الاستيلاد العتقُ من رأسِ المال، وإن لم يملك غيرها، ولا يمنع الدَّيْنُ عتقَها. وحيث كان الاستيلاد أقوى وجب أن يبطل به الأضعف. (وولد المدبَّرة) من غير سيدها (الذي يولد بعد التدبير كهي) سواءٌ كانت حاملاً به حين التدبير، أو حملت به بعد التدبير، فلو باع الأمَّ لم يبطل التدبير في ولدها. (وله) أي ولسيد المدبرة (وطؤها وإن لم يشرطه) أي يشترط وطأها. وسواء كان يطؤها قبل تدبيرها أوْ لا. (و) للسيد أيضاً (وطءُ بنتِها إن جازَ) له وطؤُها بأن لم يكن وطئَ أمها. (ولو أسلمَ مدبَّرٌ) لكافرٍ (أو قنٌّ) لكافرٍ (أو مكاتَبٌ لكافرٍ أُلزمَ بإزالة ملكه) عنه ببيعٍ أو هبة (فإن أبى) البيعَ أو الهبةَ (بيعَ عليهِ) أي باعَهُ عليه حاكمٌ.

باب الكتابة

باب الكتابَة (وهي) اسمُ مصدرٍ، بمعنى المكاتبة. وأَصْلُها من الكَتْب، وهو الجَمْعُ، لأنَها تجمع نجوماً. ومنه سمي الخرّازُ كاتباً. وشرعاً (بيع السيدِ رقيقَهُ) أو بعضَهُ، يشمل الذكرَ والأنثى، (نَفْسَهُ) أي نفس الرقيق (بمالٍ)، فلا تصحُّ على خمْرٍ ونحوه، (في ذمَّتِهِ) أي ذمة الرقيق، (مباحٍ) فلا تصح على آنية ذهب أو فضة، ونحو ذلك (معلومٍ) فلا تصحُّ على مجهول لأنها بيعٌ. ولا يصح مع جهالة الثمن؛ (يصح السلم فيه) فلا تصحُّ بجوهرٍ ونحوِهِ لِإفضائه إلى التنازع (منجمٍ بنجمين فصاعداً) (¬1) أي فأكثر من نجمين (يعلم قدرُ كلٍّ نجمٍ ومدَّتَه) أما اشتراط النجمين فأكثر فلأنها مشتقة من الكُتْبِ، وهو الضمّ، فوجَبَ افتقارها إلى ¬

_ (¬1) وقال مالك وأبو حنيفة: تجوز حالَّةٌ، لأنه عقد على عيْنٍ، فإذا جاز في الذمة جاز حالاًّ، كالبيع. ثم في المذهب قول لابن أبي موسى، أن العوض في الكتابة يجوز أن يكون نجماً واحداً. واحتج من أوجب نجمين فأكثر بفعل بقول علي وفعل عثمان رضي الله عنهما (المغني). وأما الاحتجاج بأن الكتابة من الكَتْب وهو الضم؛ فذلك يقتضي مضموماً ومضموماً إليه، ففيه نظر، فإنما سميت كتابة، كما قال ابن الأثير "بمصدر كتب، لأن العبد يكتب على نفسِهِ لمولاه ثمنه، ويكتب مولاه له عليه العتق" ومثله عن ابن سيده، كما في اللسان.

نجمين، ليُضَمَّ أحدهما إلى الآخر. وأما كونه يشترط العلم بما لِكُلِّ (¬1) نجمٍ من القسطِ والمدة فلئلا يؤدي جهل ذلك إلى التنازع. ولا يشترط التساوي فلو جُعِل أحد النجمين شهراً والأخر سنَةً، أو جُعِل قسط أحد النجمين عشرةً والآخر خمسةً، جاز، لأن القصد العلم بقدر الأجل وقسطه، وهو حاصل بذلك. والمراد بالنجم هنا الوقت، لأن العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم. (ولا يشترط) لصحة الكتابة (أجلٌ له وقعٌ في القدرة على الكسب) فيه، فيصحّ توقيت نجمين بساعتين. قاله في المنتهى وشرحه. وقال في الإقناع: فلا تصح حالَّةً , ولا على عبدٍ مطلق، ولا توقيت النجمينِ بساعتينِ ونحوه، بل يعتبر ماله وقع في القدرة على الكسب. صوّبه في الإنصاف. وإن كان ظاهر كلام الأصحاب خلافه. انتهى. (فإن فُقِدَ شيءٌ من هذا) الذي ذكر من الشروط (فـ) الكتابة (فاسدة) ويأتي حكمها. (والكتابة في الصحّة والمرضِ من رأسِ المال) لأنّها معاوضة، فهي كالبيع والإجارة. واختار الموفق وجمعٌ أنها في المرض المخوف من الثلث (¬2). وقدّم في الإِقناع ما في المتن. (ولا تصح) الكتابة (إلا بالقول) بأن يقول السيد لمن يريد أن يكاتبه: كاتبتك على كذا، لأنها إما بيع أو تعليق، للعتق على الأداء، وكلاهما يشترط له القول، إذ لا مدخل للمعاطاة هنا، (من جائز التصرف) مع قبولِ المكاتب، لأنها عقد معاوضةٍ، كالبيع. ¬

_ (¬1) (ب، ص): "بمالِ كلِّ ... " والتصويب من شرح المنتهى. (¬2) أي كالوصية. لأن في الكتابة معنى التبرع، فإنه وإن كان بيعاً إلا أنه باع ماله بماله فجرى مجرى الهبة ولذلك يثبت الولاء على المكاتب لكونه معتقاً.

فصل

(لكن لو كوتبَ المميِّز صحّ) العقد، لأنه يصحُّ تصرّفه وبيعُه بإذن وليِّه. فصحت إذاً كتابته، كالمكلّف، لأن تعاطيَ السيد العقد معه إذن له في قبوله. تتمة: لو كاتب المميِّزُ رقيقَه بإذن وليِّه صح العقد. (ومتى أدّى المكاتَبُ ما عليه لسيِّده) من مال الكتابةِ فقبضَه منهُ سيدٌ أو وليُّ محجور عليه (أو أبرأَهُ) أي السيد (منه) أي من مال الكتابة، أو أبرأه وارثٌ موسرٌ من حقَّه من مال الكتابةِ (عَتَقَ) لأنه لم يبق لسيده عليه شيءٌ، إلا أنه لا يعتَق حتى يؤدّي جميع الكتابة. (وما فضل بيدِهِ) أي بيد المكاتب بعد أدائِهِ ما عليه من مال الكتابة، (فله) لأنه كان له قبل أن يعتق فبقي على ما كان. (وإن أعتقه) أي أعتق المكاتبَ (سيّدُه و) بقي (عليه شيء من مال الكتابةِ، أو ماتَ) المكاتبُ (قبل وفائِها) أي قبل وفاء نجوم الكتابة كلها (كان جميع ما مَعَه لسيّده). (ولو أخذ السيد حقَّه) من المكاتب (ظاهراً) يعني عملاً بالظاهر في كون ما بيد الإنسان ملكه (ثم قال) سيده: (هو حرٌّ) يعني بمقتضى أدائه مال الكتابة (ثم بان العوض) الذي دفعه له (مستَحَقّاً) لغيره، بأن كان قد سرَقَهُ، أو غَصَبه، أو نحوه، (لم يعتق) لفساد القبض (¬1) ويكون قوله هو حر إنما قاله اعتماداً على صحة القبض. فصل (ويملِكُ المكاتَب كسبَه ونفعَه و) يملك أيضاً (كلَّ تصرفٍ يُصْلِحَ مالَه كالبيع والشراء والإِجارة والاستدانة) وتتعلق الاستدانة بذمة ¬

_ (¬1) (ف): "الأداء" بدل "القبض".

المكاتب، يُتبع بها بعد عتقه. أما كونه يملِكُ منافعَه وأكْسابَهُ فلأنّ عقد الكتابة موضوعٌ لتحصيل العتق، ولا يحصُل إلا بأداءِ عوضه، ولا يمكنه الأداء إلا بالتكسب، والبيعُ والشراءُ من أقوى جهات الاكتساب، فإنه قد جاء في بعض الآثار أن "تسعة أعشار الرزق في التجارة" (¬1) وأما كونه يملك الاستدانة فلأنه لما ملك الشراء بالنقدِ مَلَكَهُ بالنسيئة، أي بالدَّين (و) ملك (النفقةَ على نفسِهِ و) على (مملوكِهِ) من كسبه. فإن عجز المكاتب عن أداء مال الكتابة، وعن نفقة من ذُكِر، ولم يفسخ سيدُه كتابَتَهُ لعجزه. لزمت السيدَ النفقةُ على من ذُكِرَ، لأنهم كلهم في الحكم أرقاءُ للسيّد. وليس للمكاتب النفقةُ على ولدِهِ من أمةٍ لغير سيده. (لكن مِلْكُه) أي المكاتَب (غيرُ تامٍّ. فـ) يتفرع على ذلك أنه (لا يملك أن يكفِّرَ بمالٍ) إلاَّ بإذن سيده، لأنه في حكم المُعْسِرِ، بدليلِ أنه لا يلزمه زكاةٌ ولا نفقةٌ، ويباح له أخذُ الزكاةِ لحاجة، (أو يسافِرَ لجهادٍ) لتفويتِ حق سيده، (أو يتزوجَ) يعني أنه ليس للمكاتب أن يتزوَّجَ إلا بإذنَ سيِّده لأنه عبدٌ، (أو يتسرَّى) يعني أنه ليس للمكاتب، أن يتسرّى إلا بإذن سيده (أو يتبرع) إلا بإذن سيّده، لأن ذلك إتلافٌ للمال باختياره، فمُنِعَ منه، لتعلُّق حق السيد به، (أو يُقرِضَ) إلا بإذن سيده، لأنه ربّما أفلسَ المقترِضُ، أو مات ولم يترك شيئاً، أو هَرَبَ ولم يرجع، (أو يحابيَ) إلا بإذن سيده، لأن المحاباة في معنى التبرّع، (أو يَرْهَنَ، أو يُضَارِبَ، أو يبيع مؤجَّلاً) ولو برهنٍ، أو يهبَ ولو بعوضٍ، (أو يزوِّجَ ¬

_ (¬1) حديث "تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي" رواه سعيد بن منصور من حديث نعيم بن عبد الرحمن الأزدي ويحيى بن جابر الطائي مرسلاً. فهو حديث ضعيف (ضعيف الجامع الصغير).

رقيقَه، أو يحدَّه، أو يُعْتِقَهُ) ولو بمالٍ (أو يكاتِبَهُ إلا بإذن سيده) لأن حق السيّد لم ينقطع عنه، لأنه ربما يعجز، فيعود إليه جميع ما في ملكه. ولأنه إنما مُنِعَ من جميع ما ذكر لحقِّ السيّد، فإذا أَذِنَ له زال المانع. (و) متى كاتب أو أعتق بإذن سيده كان (الولاءُ للسيِّد) لأنه كوكيله في ذلك. (وولد المكاتبة إذا وضعته بعدَها) أي بعد كتابتها (يتبعُها) أي يتبَعُ أمه المكاتبة (في العتقِ بالأداءِ) أي بإعطائها للسيد مال الكتابةِ (أو) عتقها بـ (الإبراء) من مال الكتابة، لأن الكتابة سببٌ قويّ للعتق لا يجوز إبطاله من قبل السيّد بالاختيار، فسرى إلى الولد، كالاستيلاد. ومفهومه أن ما ولدته قبل الكتابةِ لا يتبعها. وهو صحيح. و (لا) يتبعها (بإعتاقها) بدونِ أداءٍ أو إبراءٍ، كما لو لم تكن مكاتبة. (ولا) يعتق ولد المكاتبة (إن ماتَتْ) قبل أداء مال الكتابة، أو إبرائها منه، كغير المكاتبة. (ويصح) في عقد المكاتبة (شرطُ وطءِ مكاتبتِهِ) نصَّ عليه. لبقاءِ أصلِ المِلْكِ، كراهنٍ يطأ بشرطٍ. ذكَرَة في عيون المسائل. ولأنّ بُضْعَها من جملةِ منافعها، فإذا استثنى نفعَهُ صحَّ، كما لو استثنى منفعةً أخرى. وجاز وطؤه لها لأنها أمَتُه. وهي في جواز وطئِهِ لها كغيرِ المكاتبة، لاستثنائه. (فإن وَطِئَها) أي وطئ مكاتبتَهُ (بلا شرطٍ) عليها عند عقدِ الكتابةِ (عُزِّر) إن علم التحريم (ولزمَهُ) أي سيِّدَ المكاتبةِ بوطئِهِ إياها (المهرُ) أي مهرُ مثلها، (ولو) كانَتْ (مُطاوعةً،) لأنه وطءُ شبهةٍ، كما لو وطئ أمتها. وتحصُل المقاصَّةُ إن حلّ النجمُ وهو بذمّته، بشرطِهِ. ولا حدّ عليه.

فصل

فإن تكرر وطؤه قبل أن يؤدّي مهراً فمهرٌ واحدٌ. ومتى أدّى مهرَ وطءٍ لزمه مهرُ ما بعده. (وتصيرُ له إن ولدت) من وطئِهِ بشرطٍ أو غيرِه (أُمَّ ولدٍ) لأنها أمةٌ له ما بقي عليها درهم. (ثم إن أدت) مال الكتابة (عَتَقَتْ) وكسبها لها، لأن كتابتها لم تنفسخ باستيلادها. (وإلا) بأن لم تؤد مال كتابتها (فـ) إنها تعتق (بموته) لكونها أُمَّ ولد. وكان ما بيدها لورثته، ولو لم تُعَجَّز، لأنها عتقت من غير عوضٍ. (ويصحُّ نقل الملكِ في المكاتَب) ذكراً كان أو أنثى، لأن المكاتب عبد، فجاز بيعه، كالقن. وقوله: نَقل الملك، يشمَل البيعَ والهِبةَ والوصيَّة بهِ. (ولمشترٍ) مكاتباً (جَهِلَ الكتابةَ الردُّ أو الأرْشُ) بحسب ما يَخْتارُ المشتري، لأن الكتابة عيبٌ في الرقيق، لأنها نقصٌ فيه، َ لمنعِهِ من منافِعِهِ بِفَرْضِ أن يعتق. (وهو) أي المشتري إذا أمسك (كالبائع في أنّه إذا أدَّى ما عليهِ يعتق) وعودهِ قِنًّا بِعَجْزٍ. (وله) أي المشتري، عليه، أي على المكاتب (الولاءُ). (ويصحّ وَقْفُهُ) أي وقفُ المكاتب (فإذا أدّى) ما عليه عتق، و (بطل الوقْفُ) لأن الكتابةَ عقد لازمٌ، فلا تبطل بوقفه. فصل (والكتابةُ عقدٌ لازمٌ من الطرفين) في حقّ السيّد، والمكاتَب، لأنها بيعٌ، والبيع من العقود اللازمة، (لا يدخلها خيارٌ مطلقاً) لأنَّ المراد منها

تحصيل العِتْقِ، فكانت سبباً له، فكأنَّ المكاتِبَ علَّقَ عتقَ المكاتَب على أداءِ مالِ الكتابةِ، ولأن الخيارَ إنما شُرِعَ استدراكاً لما يحصل لكَلٍّ من المتعاقدين من الغَبْنِ، والمكاتَبُ وسيِّدُهُ دَخَلَا في العقد متطوِّعَيْنِ راضِيَيْنِ بالغبن، فلم يثبت لواحدٍ منهما خيارٌ. ولا يصحُّ تعليقُها على شرطٍ مستقبَلٍ. (ولا تنفسخ) الكتابةُ (بموتِ السيّد، و) لا (جنونه، ولا بحجرٍ عليهِ) لسفهٍ أو فَلَسٍ كبقية العقود اللازِمَةِ، (ويعتَقُ) المكاتَبُ (بالأدَاءِ إلى مَنْ يقومُ مقامَهُ) أي مقامَ سيِّده، كوكيلِهِ، أو الحاكمِ عند غيبة سيده وعدم وكيله، أو بالأداء إلى ورثته. (وإن حلّ) على المكاتَبِ من مالِ الكتابة (نجمٌ فلم يؤدِّهِ فلسيده الفسخُ) بلا حُكْمِ حاكِمٍ، لأن مال الكتابةِ حقٌّ للسيد، فكان له الفسخ بالعجز عنه، كما لو أعْسَرَ المشتري ببعضِ ثمنِ المبيعِ قبلَ قبضِهِ. (ويلزَمُ) السَّيّدّ (إنظارُهُ) أي إنظارُ المكاتبِ قبلَ فسخِ الكتابةِ (ثلاثاً) أي ثلاثَ ليالٍ بأيامِها إن استنظَرَهُ المكاتب (لبيعِ عَرْضٍ، ولمالٍ غائب دون مسافةِ قَصْرٍ يرجو قدومَهُ) وَلِدَيْنٍ حالٍّ على مليء أو مودَعٍ لأن عقد الكتابة ملحوظ فيه حظُّ المكاتَبِ والرفقُ به. (ويجبُ على السيّد) بعدَ قبضِ جميع مال الكتابةِ (إن يدفَعَ للمكاتَب رُبْعَ مال الكتابةِ) لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وظاهر الأمرِ الوجوب. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: وأما كونُه ربع مال الكتابة فلما روى أبو بكر بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله سبحانه وتعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قال: "رُبْعُ الكتابة" وروي مرفوعاً عن علي (¬1)، ولأنه مال يجب إيتأوه بالشرع مواساة، فكان ¬

_ (¬1) حديث عليٍّ رواه عنه مرفوعاً الحاكم بلفظ "يترك للمكاتَبِ الرُّبُع" ورواه عنه موقوفاً عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه =

[في اختلاف المكاتب وسيده]

مقدراً كالزكاة، ولأن الحكمة في إيجاب الرفق بالمكاتب إعانتُه على تحصيل العتق، وهذا لا يحصل إلا بأقلِّ ما يقع عليه الاسم. فإن قيل: إنه ورَد غيرَ مقدّر، فجوابه أن السنّة بينتْهُ وقدرتْه كالزكاة. (وللسيد الفسخُ) أي فسخ الكتابة (بعجزِهِ) أي عجز المكاتب (عن رُبْعِها) أي ربعِ مال الكتابة. وللمكاتَبِ أنْ يصالح سيّدَهُ عمّا في ذمته من مال الكتابة بغير جنسه. (وللمكاتَب ولو كانَ قادراً على التكسّب تعجيزُ نفسِهِ) بتركِ التكسّب لأن معظَم المقصودِ من الكتابةِ تخليصُه من الرقّ، فإذا لم يُرِدْ ذلك لم يُجْبَر عليه، إن لم يملِكِ المكاتَبُ وفاءً لمالِ الكتابةِ. فإن مَلَكَهُ لم يملِك تعجيزَ نفسِهِ، وأجبر على وفائِهِ ثم عَتَق. (ويصح فسخ الكتابةِ باتفاقِهِما) أي المكاتب وسيِّده، فيصحُّ أن يَتقَايَلا، قياساً على البيع. قال في الفروع: ويتوجَّهُ أن لا يجوز، لحق الله تعالى. فصل [في اختلاف المكاتب وسيده] (وإن اختلفا) أي السيد وعبده (في الكتابة) كما لو ادّعى العبدُ على سيده أنه كاتبه على كذا، فأنكر، أو ادّعى ذلك السيد على عبده فأنكر (فقول المنكِر) منهما بيمينِه، لأن الأصلَ معه. (و) إن اتّفقا على الكتابةِ، واختلفا (في قدر عِوَضِها) بأن قال ¬

_ = وصححه سعيد بن منصور (كنز العمال ط دمشق 10/ 329، 356) وقال في (الإِرواء ح 1765): هو غريب. ورفعه منكر.

[الكتابة الفاسدة]

السيد: كاتبتُكَ على ألفين، وقال العبد: بل على ألفٍ، فالقول قولُ السيِّد فيه. (أو) اختلَف السيّد والعبدُ في (جنسِه) أي جنسِ مال الكتابة، بأن قال السيد: كاتبتك على ألفِ درهمٍ، وقال العبد. بل على عشرة دنانير، (أو) اختلفا في (أجَلِهَا) بأن قال السيد: كاتبتُك على ألفين على شهرين، كل شهر ألف، وقال العبد بل على سنتين كل سنة ألف، فقول سيده بيمينه. (أو) اختلفا في (وفاءِ مالها) أي وفاءِ مال الكتابة للسيّد، بأن قال العبد: وفَّيتُك مالَ الكتابةِ، وعتقْتُ. وأنكر السيد (فقول السيد،) أي بيمينه، لأن الكتابة عقدُ معاوضةٍ. وكذا لو ادعى العبد أن السيد أبرأهُ من مالِ الكتابةِ، وأَنْكَرَ السّيّد، فإنّ القولَ قولُ السيّد بيمينِهِ. [الكتابة الفاسدة] (والكتابة الفاسدة كـ) ما لو كاتبه (على خمرٍ، أو) كاتبه على (خنزير، أو) كاتبه على شيء (مجهولٍ،) كما لو كاتبه على ثوبِ أو حمارٍ أو نحوهما (يُغَلَّبُ فيها حكم الصفة في أنه) أي أن العبد (إذَا أدّى) ما سُمِّي في الكتابة (عَتَق) سواءٌ صرّح بالصِّفَةِ، بأن يقول: إذا أَدَّيْتَ إليَّ فأنت حرّ، أو لم يقل ذلك، لأن معنى الكتابة يقتضي هذا، فيصيرُ كالمصرَّح به فيَعتِق بوجوده، كالكتابة الصحيحة. وإذا عَتَقَ بالأداءِ لم يلزمه قيمةُ نفسِهِ، ولم يرجع على سيّده بما أعطاه، (لا إن أُبرئَ) العبد من العوض الفاسد، فإنه لا يعتِق، لعدم صحّة البراءَة، لأنه غيرُ ثابتٍ في الذمة. (ولكلٍّ) من السيد والعبد (فسخُها) لأنها عقدٌ جائز. وحاصِلُ الكلام: أن الكتابة الفاسدة، تساوي الصحيحةَ في أربعة أحكام:

أحدها: أنه يَعْتِقُ بأداءِ ما كوتِبَ عليه، مطلقاً. الثاني: إذا عتق بالأداء لم يلزمه قيمة نفسه، ولم يرجع على سيّده بما أعطاه له. الثالث: أنّ المكاتَبَ بملك التصرف في كَسْبِهِ، ويملِكُ أخْذَ الصدقاتِ والزكواتِ. الرابع: إذا كاتَبَ جماعةً كتابةً فاسدةً فأدّى إلى أحدهم حصته عَتَق على قولِ من قال: إنه يَعْتِق في الكتابةِ الصحيحةِ بأداءِ حصته، ومن لا فلا. وتفارق الصحيحة في ثلاثة أحكام: أحدها: إذا أُبرِئ من العوض لم يصحّ الإِبراء، ولم يَعْتِق. الثاني: إن لكلِّ واحدٍ من السيّدِ والعبدِ فسخَها، سواءٌ كان ثمَّ صفَةٌ أو لم تكن، لأن الفاسدَ لا يلزم حكمه. والصفةُ هاهنا مبنيّة على المعاوضةِ، وتابعةٌ لها، لأن المعاوَضَةَ هي المقصودةُ. فلما بطلت المعاوضة التي هي الأصل، بطلت الصفةُ المبنيّةُ عليها، بخلاف الصفة المجردة. الثالث: إنه لا يلزم السيد أن يؤدِّي إليه رُبْعَ الكتابةِ، ولا شيئاً منها. (وتنفسخُ) الكتابةُ الفاسدةُ (بموت السيّدِ وجنونهِ والحجْرِ عليهِ لِسَفَهٍ).

باب أحكام أم الولد

باب أحكام أمّ الولد وأصل الأمّ أَمَّهَةٌ، ولذلك جمعت على أمَّهَاتٍ، باعتبار الأصل (¬1). (وهي) أي أمّ الولد، شرعاً: (من وَلَدَتْ من المالك) لكلِّها أو بعضِها، ولو مكاتباً، ولو كانت محرّمةً عليه، كبنتِه وعمَّتِهِ من رضاعٍ (ما فيه صورةٌ، ولو) كانت الصورة (خفيّةً) فلا تصير أُمَّ ولدٍ بوضعِ جسمٍ لا تخطيطَ فيه كالمضغة والعلقة. (وتَعْتِقُ بموتهِ وإن لم يملك غيرَها) أما كونُها تعتق وإن لم يملك غيرها فلظواهِرِ الأحاديث، ولأن الاستيلاد إتلافٌ حَصَلَ بسببِ حاجةٍ أصليّةٍ، وهي الوطء، فكان من رأس المال، كالأكلِ ونحوه. ¬

_ (¬1) اختلف في هذا أهل اللغة، فمنهم من جعل (الأم) أصلاً بذاته من (أم م) لا حذف فيها، وجعل (أُمَّهَةً) كلمة أخرى من أصل آخر وهو (أمهِ) فهي، موضوعة وضعًا آخر على وزن فُعلةٍ، كأبّهة وتُرَّهة. وعلى هذا صاحب القاموس وصاحب اللسان. ومنهم من جعل الأصل (أُمهَةً) وجعل (الأم) محولة منها بحذف الهاء. وعلى هذا صاحب العين وصاحب الصحاح. وعليه جرى الشارح. ومنهم من جعل الأصل (الأمّ) وجعل الهاء في (أمهة) زائدة. وعلى هذا المبرّد، وصححه الإمام الأزهرى. وهذا عندي أصحّ، فإنهم قالوا في تصغير الأم: أُمَيْمَة، ولو كان من (أَمَهَ) لقالوا (أمَيْمِهَةٌ) لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها. وزادوا الهاء في (الأمَّهَات) في جمع (أم) لمن يعقل من باب التكميل، لمجرّد الفرق. ولم يزيدوها في (الأمّات) في جمع (أم) لما لا يعقل.

(ومن مَلَكَ) أمةً (حاملاً) من غيرِه (فوطئها) قبل وضعِها (حَرُمَ) عليه (بيعُ ذلك الولد،) ولم يصحَّ، (ويلزم عتقُهُ) نصًّا. قال أحمد رضي الله تعالى عنه، فيمن اشترى جاريةً حاملاً من غيرِه، فوطئها قبلَ وضعِها: فإنّ الولَد لا يلحق بالمشتري، ولا يبيعه، لكن يُعْتِقُه، لأنه قَدْ شَرِكَ فيه، لأنّ الماء يزيدُ في الولد. نقله صالحٌ وغيره. وإن أصابها في ملك غيرِهِ بِنكاحٍ أو شُبْهةٍ لا بزناً، ثم مَلَكَها حاملاً عَتَقَ الحملُ، ولم تَصرْ أُمَّ ولدٍ. نص عليه. (ومن قالَ لأَمَتِهِ: أنتِ أمُّ وَلَدي، أو: يَدُكِ أمُّ وَلَدي، صارتْ أُمَّ ولدٍ) لأنه إذا أقرّ أن جزءاً منها مُسْتَوْلَدٌ سَرَى إقراره بالاستيلادِ إلى جميعِها، كما لو قال لعبده: يَدُكَ حُرَّةٌ، فإن العتق يسري إلى جميعه. (وكذا) الحكمُ (لو قال لابنها) أي ابن أمته: (أنتَ ابني، أو) قال له: (يدكَ ابني) ذكر ذلك في الانتصار. (وَيثْبُتُ النَّسَبُ. فإن ماتَ) القائل (ولم يبيِّن هل حَمَلَتْ به في ملكِهِ أو) حملتْ به في (غيره) أي غير ملكه (لم تَصِرْ أُمَّ ولدٍ له إلا بقرينةٍ). (ولا يَبْطُل الإِيلاد بحالٍ، ولو بِقَتْلِهَا) أي أمِّ الولد (لسيِّدها). (وَوَلدُها) أي وحكمُ ولدِها (¬1) (الحادثِ بعدِ إيلادِها) أي بعد أن صارت أم ولدٍ (كهي) سواء أتت به من نكاحٍ أو شبهةٍ أو زناً، وسواءٌ عتقت بموت سيِّدها، أو ماتتْ قبلَ سيّدها. ويجوزُ فيه من التصرفاتِ كلُّ ما يجوزُ في أمِّ الولدِ. ويمتنع فيه من التصرُّفاتِ كلُّ ما يمتَنِعُ في أمِّ ¬

_ (¬1) ولد المملوكة من سيّدها حرٌّ على كل حالٍ تبعاً للسيّد. فإذا ولدته صارت أم ولدٍ لسيدها تعتق بعد موت سيدها. أما ولد المملوكة من غير سيدها فهو مملوك لسيدها، ولو كانت ولدته من زواجها بعبدِ أو حرّ، ما لم يشترط في عقد الزواج أنه حرّ. ثم الولد المملوك إن ولدته قبل أن تكونَ أم ولد فهو قنٌّ لا يتبعها في العتق بعد موت سيدها. أما ما ولدته بَعْدَ أن أصبحت أم ولد فهو الذي يتحدث عنه المؤلف والشارح.

الولد، وذلك لأن الولدَ يَتْبَعُ أُمَّه في الحريّةِ والرق. فكذلك في سبب الحريّة. (لكن لا يعتِق) ولدُها (بإعتاقها) يعني أن السيد إذا أعتَقَ أمّ ولدِهِ، وكان لها ولد أتت به بعد استيلادها من غير سيّدها، لم يعتق بإعتاقِها، لأنها عَتَقت بغير السَّببِ الذي يتبعها فيه، ويبقى عتقُهُ موقوفاً على موت سيّدها. كما لو أعتق وَلَدَها، فإنها لا تعتق بعتقِهِ، ويبقى عتقها موقوفاً على موت سيدها، (أو موتِها قبل السيّد،) يعني أنه لو ماتت أمُّ الولد قبل سيدها لم يعتِقُ ولدُها بموتها، كما لو عتقت قبله، ولا تبطل تبعيَّةُ ولدِها لها في الحكم (بل) يعتِقُ (بموتهِ) أي يبقى عتقُهُ موقوفاً على موتِ سيّدها. (وإن مات سيّدها وهي حاملٌ) منه (فنفقتها مدة الحملِ من مالِهِ) أي مالِ حملِها على الأصحّ، لأن الحمْلَ له نصيبٌ من الميراثِ، فتجب نفقته في نصيبه. ومحلُّ ذلك (إن كان) له مال. (وإلا) أي وإن لم يخلّف السيد شيئاً يرثُ منه الحمل (فـ) نفقة الحمل (على وارِثِهِ.) ويتعلّق أرشُ جنايةِ أمِّ الولد برقبتها. (وكلّما جنَتْ أمُّ الولد) على غيرِ سيِّدِهَا (لزمَ السيِّدَ فداؤُها بالأقلِّ من الأرش) أي أرشِ الجناية (أو) بالأقل (¬1) من (قيمتِها يوم الفداء) على الأصحِّ، لأنه الوقتُ الذي تعلَّقَ الأرشُ برقبتها فيه. فلو كانت يوم الفداء مريضةً أو مزوَّجةً أو نحو ذلك أُخِذَتْ قيمتَها معيبةً بذلك العيب. قال في ¬

_ (¬1) صوابه "بالأقلّ من ارش الجناية وقيمتها ... الخ" بالواو بدل أو، وبحذف "الأقل من" الثانية.

شرح المنتهى: قال في شرح المقنع: وينبغي أن تجب قيمتُها معيبةً بعيب الاستيلادِ، لأن ذلك ينقُصُها، فاعتبر، كالمرض وغيره من العيوَب. انتهى. أما كونُه يلزمُهُ فداؤُها فلأنها مملوكةٌ له يملك كَسْبَها، وقد تعلَّقَ أرشُ جنايتها برقبتها، فلزمهُ فداؤها كالقنِّ، وأما كونُهُ يلزمه فداؤها كلما جنت، قال أبو بكر: ولو ألفَ مرَّةٍ، فلأنها أمُّ ولدٍ جَنَتْ جنايةً فلزمهُ فداؤُها. وأما كونه لا يلزمه أكثرُ من قيمتِها إذا كانَ أرشُ الجنايةِ أكثَرَ منها لأنه لم يمتنع من تسليمِها، وإنما الشرعُ منعَ من ذلك، لكونها لم تَبْقَ مَحلاًّ للبيع، ولا يُنْقَلُ الملك فيها، بخلاف القن (¬1). (وإن اجتمعت أروش) بجنايات صدرت منها (قبل إعطاء شيء منها) أي من الأروش (تعلق الجميع) أي جميع الأروش (برقبتها، ولم يكن على السيّد) فيها كلّها (إلا الأقلّ من أرش الجميع) أي جميع الجنايات (أو) الأقل من (قيمتِها) يشتركُ فيه جميع أربابِ الجنايات. (و) إن لم يف الواجبُ بأربابِ الجناياتِ فإنهم (يتحاصُّونَ بِقَدْرِ حقوقِهِم) لأن السيّد لا يلزمُهُ أكثر من ذلك، كما لو كانت الجناياتُ على شخصٍ واحدٍ. (وإن أسلمتْ أمُّ ولدٍ لكافرٍ مُنِع من غِشْيَانِها) أي من وطئها والتلذُّذِ بها لئلا يفعلَ الكافر ذلكَ بالمسلمة. (وحيلَ بينَهُ وبينَها) لئلا يفضي عَدَمُ الحَيْلُولَةِ إلى الوطءِ المحّرم (¬2)، ولم تَعْتِق بذلك، بل يبقى مِلْكُهُ على ما كان عليه قبل إسلامها. ¬

_ (¬1) أما القنُّ إذا جنى يخيَّرُ سيده بينَ بيعه في الجناية، وبين فدائه بالأقلِّ من أرش الجناية أو قيمة القن. ويجوز أن يتنازل عنه إلى ولي الجناية. وكل من البيع والتنازل المذكور لا يجوز فيما إذا كان الجاني أم ولد لأنها لا تباع ولا تنتقل مِلكِيّتها بل يتعين في حقها الفداء أو الأرش. (¬2) وتسلم إلى امرأة ثقة تكون عندها وتقوم بأمرها.

(وأُجْبِر) سيّدُهَا (على نفقتها إن عُدِمَ كَسْبها) أما وجوب نفقتها عليه إن لم يكن لها كسب، لأنه (¬1) مالك لها، ونفقة المملوك على مالكه. فإن كان لها كسبٌ فنفقتها فيه، لئلا يبقى له عليها ولايةٌ بأخذِ كَسْبها والإنفاق عليها. ومتى فضل من كسبها شيءٌ عَنْ نفقتها كان لسيّدها. ذكره القاضي، وتبعه جماعة. (فإن أسلم حلَّتْ له) أي حلَّ له ما يحلُّ للمُسْلِم من أمِّ ولده، لأن المانعَ من ذلك بقاؤُهُ على الكفر، وقد زال. (وإن ماتَ) حالَ كونهِ (كافراً عتَقَتْ) لأنها أمُّ ولده، وشأنُ أمِّ الولد العتقُ بموتِ سيّدها. ¬

_ (¬1) صوابه "فلأنه" إذ الفاء واجبة في جواب "أمّا" هنا.

[كتاب النكاح]

باب النّكاح وهو حقيقة في العقد، مجازٌ في الوطء. والأشهر: مشترك. واعلم أن الناس في النكاحِ على ثلاثة أقسامٍ: أحدها: ما أشار إليه بقوله: (يسنّ لذي شهوةٍ لا يخافُ الزّنا) من الرّجالِ والنساء، ولو فقيراً عاجزاً عن الإِنفاق. نصّ عليه. واشتغالُ ذي الشَّهْوَةِ بالنِّكاحِ أفضلُ له من التخلي لنوافل العبادات. القسم الثاني: ما أشار إليه بقوله: (ويجبُ على من يخافُه) أي الزِّنا بتركِ النكاحِ ولو ظنًّا، من رجلٍ أو امرأةٍ. ويقدَّمُ حينئذٍ على حجٍّ واجبٍ زاحَمَهُ، لخشيةِ الوقوعِ في المحذور بتأخُّرِهِ، بخلافِ الحجّ. ولا يُكْتَفَى بمرةٍ، بل يكونُ في مجموع العمر. القسم الثالث: ما أشار إليه بقوله: (ويباحُ) النكاحُ (لمن لا شهوةَ له) أصلاً كالعِنِّينِ، أو كانتْ له شهوةٌ وذهبتْ لعارضٍ كالمرضِ والكِبَرِ، لأن العِلَّةَ التي يجب لها النكاحُ، أو يستحبُّ، وهو خوفُ الزنا، أو وجودُ الشهوة، غير موجودةٍ فيه، ولأنّ المقصودَ من النكاح الولدُ وتكثيرُ النسلِ، وذلك فيمنْ لا شهوةَ له غير موجودٍ، فلا ينصرفُ إليه الخطاب به، إلا

[أحكام النظر]

أنه يكون مباحاً في حقِّهِ، كسائِرِ المباحاتِ، لعدمِ مَنْعِ الشرعِ منه. (ويحرُمُ) النكاحُ (بدارِ الحَرْبِ لغيرِ ضرورةٍ) ويجوزُ بدارِ الحرب لضرورةٍ، لغير أسيرٍ، ويعزِلُ وجوباً، إن حَرُمَ نكاحُهُ، وإلا اسُتحِبَّ. قال في المغني في آخر الجهاد: وأما الأسيرُ فظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أحمد: لا يحلُّ له التزويجُ ما دامَ أسيراً. (ويسنُّ نكاحُ ذاتِ الدِّينِ الولودِ). ويعرَفُ كونُ البكرِ ولوداً بكونها من نساءٍ يُعْرَفْنَ بكثرةِ الأولاد. (البكر) إلا أن تكون مصلحتُهُ في نكاحَ الثيّبِ أرجحَ، فيقدّمها على البكر. (الحسيبة) وهي النسيبة، أي طيِّبَةُ الأصْلِ ليكون ولدها نجيباً. من بيت معروف بالدين والصلاح. (الأجنبية) فإنّ ولدها يكون أنجبَ، ولأنه لا يؤمن طلاقُها فيفضي مع القرابةِ إلى قطيعةِ الرَّحِمِ المأمورِ بصلتِها، والعداوةِ. ويسنُّ له أيضاً أن يختارَ الجميلةَ (¬1). [أحكام النظر] (ويجبُ غضُّ البَصَر عن كلِّ ما حرَّم اللهُ تعالى) أخرج الشيخانِ وغيرُهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كُتِبَ على ابن آدمَ حظُّهُ من الزِّنا، مُدْرِكٌ ذلك لا مَحَالَةَ: العينانِ زناهُمَا النَّظر، والأُذنانِ زناهما الاستماع، واللسانُ زناهُ الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْلُ زناها الخُطا، والقلبُ يَهْوى. الحديث" (¬2) (فلا ينظر) ¬

_ (¬1) اختيار الجميلة مسنون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "خير النساء التي تسرُّهُ إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره" رواه أحمد والنسائي. (¬2) تمامه: "والنفس تمنّى وتشتهي ويصدّق الفرجُ ذلك أو يكذِّبه." وهو متفق عليه من طريق =

الإنسان (ألا ما) أي الذي (وَرَدَ الشرعُ بجوازِه). (والنظرُ) من حيثُ هو (ثمانيةُ أقسام): (الأول: نظرُ الرجلِ البالغِ ولو) كان الرجل (مجبوباً) قالَ الأثرمُ: استعظمَ الإِمامُ أحمد رضي الله تعالى عنه إدخالَ الخِصْيانِ على النساء. قال ابن عقيل: لا يباح خلوةُ النساء بالصبيانِ ولا بالمجبوبين، لأن العضوَ وإن تعطَّلَ أو عُدِمَ فشهوةُ الرجالِ لا تزولُ من قلوبِهِمْ، ولا يُؤْمَنُ التمتُّع بالقُبْلَةِ وغيرها، فهو كفَحْلٍ. ولذلك لا تباحُ خلوةُ الفحلِ بالرَّتْقاءِ من النساء، (للحرةِ البالغةِ) احترزَ به عن الرقيقةِ (الأجنبيةِ لغير حاجةٍ، فلا يجوز لهُ) أي للرَّجُلِ (نظرُ شيءٍ منها، حتى شعرِها المتصل،) أما الشعرُ المنفصلُ من الأجنبيةِ فيجوزُ لمسُهُ والنَّظَرُ إليه، وإن كان من محلِّ العورَةِ لزَوَالِ حُرْمَتِهِ بالانفصال. (الثاني: نظره) أي الرجل (لمن) لامرأةٍ (لا تشتهى، كعجوزٍ، وقبيحةٍ،) وبرزَةٍ (¬1)، ومريضةٍ لا يرجى برؤها، (فيجوزُ) نظره (لوجهِهَا خاصّةً). (الثالثُ: نظرُهُ) أي الرجلِ المرأةَ (للشهادةِ عليها) تحمُّلاً وأداءً (أو لمعاملتها، فيجوزُ لوجهها) قال أحمد رضي الله تعالى عنه: لا يشهد على امرأةٍ إلا أن يكون يعرفُها بعينها، (وكذا) له أن ينظرَ إلى (كفَّيْها) أيْضاً (لحاجةٍ) روي كراهةُ ذلك عن أحمد في حقّ الشابة. (الرابع: نظره) أي الرجل (لحرةٍ بالغةٍ يخطبُها) إذا غَلَبَ على ظنِّه إجابَتُهُ (فيجوز) أي يباحُ له، على الصحيح. قاله في شرح المنتهى. ¬

_ = ابن عباس عن أبي هريرة مرفوعاً. (¬1) قال في القاموس: امرأة بَرْزَةٌ: بارزة المحاسن، أو متجاهرة كَهْلَةٌ جليلة تَبْرُز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون وهي عفيفة. اهـ. قلت المعنى الثاني هو المراد.

وقال في الإِقناع: يسن (للوجهِ والرقبة واليدِ والقدم) ويكرِّرُ النظرَ، ويتأمَّلُ المحاسِنَ، ولو بلا إذنٍ، إن أَمِنَ ثَوَران الشهوةِ، َ من غير خلوة. (الخامس: نظره) أي الرجل (إلى ذواتِ محارِمهِ) (¬1) وهنَّ من تحرم عليه أبداً، بنسب، كأخته وعمَّتِهِ وخالتِهِ، أو سببِ مباحٍ، كأختِهِ من رضاعٍ، وأمِّ زوجتِهِ، وربيبةٍ دخلَ بأمّها، وحليلةِ أبٍ أَو ابنٍ. تنبيه: يحرم على زانٍ النظرُ إلى أمِّ المزنيِّ بها وابنتها، لأن تحريمَهُنَّ بسببٍ محرّمٍ، وكذا المحرَّمةُ باللّعان على الملاعِنِ وبنتُ الموطوءة بشبهةٍ، وأمُّها. (أو لبنتِ تسعٍ) قال في المنتهى: وبنتُ تسعٍ مَعَ رجل كمحرم انتهى، لأن عورتَها مخالِفَةٌ لِعورةِ البالغةِ؛ (أو أَمةٍ لا يملكها) سواء كانت مُسْتَامَةً أوْ لا، (أو يملكُ بعضَها، أو كان لا شهوةَ له، كعنِّينٍ وكبيرٍ) ومخنَّثٍ أي شديد التأنيث في الخلقةِ، حتى يشبهُ المرأةَ في الليِّنِ والكلام والنَّغْمَةِ والنظرِ والعقلِ، فإذا كان كذلك لم يكن له في النساءِ أَرَبٌ، أَي حاجة؛ (أو كان مميِّزاً وله شهوةٌ) قال في الإِقناع وشرحه: والمميِّزُ ذو الشهوة كذي رحمِ مَحْرَمٍ؛ (أو) كان (رقيقاً غيرَ مُبَعَّضٍ، ومشتركٍ ونظر لسيدته؛) (فـ) إنه (يجوز) له (¬2) أن ينظر إلى ستة أعضاء: (للوجه، والرقبة، واليد، والقدم، والرأس، والساق). (السادس: نظره) أي الرجلِ المرأةَ (للمداواة، فيجوزُ) له النظر (للمواضِعِ التي يحتاج إليها) ولمسُها حتى الفرج، وظاهِرُهُ ولو ذميّاً. قاله في المبدع. وليكن ذلك مع حضور محرمٍ أو زوجٍ، ويستُرُ منها ما عدا ¬

_ (¬1) يقال: هي مَحْرَمٌ لك، ويقال: ذات مَحْرَمٍ، ويقال للرجل: هو مَحْرَمٌ لها، كما يقال أيضاً: هو ذو مَحْرَم. وشرط التأبيد خَرَجَ به أختُ زوجتك، والمرأة المزوّجة والمعتدة. (¬2) أي لكل واحد من المذكورين في هذا النوع الخامس.

فصل

الحاجة: ومِثْل الطبيب من يلي خدمةَ مريضٍ أو مريضةٍ في وضوءٍ واستنجاءٍ وغيرِهما، وكَتخليصِهَا من غَرَقٍ وحَرَقٍ ونحوِهِما. وكذا لو حَلَقَ عانَةَ من لا يُحْسِنُ حَلْقَ عانتِهِ أيضاً. (السابعُ: نظره) أي الرجل (لأمتِهِ المحرمةِ) كالمُزَوَّجَةِ، (و) نظره (لحرةٍ مميِّزةٍ دون تسع) سنين، (ونظر المرأة للمرأةِ) ولو كافرةٌ (¬1) مع مسلمةٍ (و) نظر المرأةِ (للرجلِ الأجنبيّ، ونظر المميّز الذي لا شهوةَ له للمرأة، ونظرُ الرجل للرجلِ ولو أمردَ، فيجوز إلى ما عدا ما بين السُّرَّةِ والركبة). (الثامن: نظره) أي الرجل (لزوجتِهِ وأَمتِهِ المباحة له) دون المحرَّمة عليهِ لكونها وثنيَّةً أو مزوجةً (ولو) كان نظره لهما (لشهوةٍ ونظرُ مَنْ دونَ سبعٍ، فيجوز لكلٍّ نظرُ جميعِ بدنِ الآخر) ولمسه بلا كراهةٍ حتى الفرج، لأن الفرج محلُّ الاستمتاع، فجاز النظرُ إليه كبقيّةِ البدن. والسنة أن لا ينظرُ كلٌّ منهما إلى فرج الآخر (¬2). قال القاضي: يجوز تقبيلُ فرجِ المرأةِ قبلَ الجماع، وُيكْرَهُ بعده. وكذا سيدٌ مَعَ أمتِهِ. فصل (ويحرمُ النظرُ لشهوةٍ) ومعنى الشهوةِ التلذُّذُ بالنظر إلى الشيء (أو مع خوفِ ثورانها) أي الشهوةِ. فإنه يحرم النظرُ في هاتين الحالتين (إلى أحدٍ ممن ذكَرْنا) من ذكرٍ أو أنثى غير زوجتِهِ أو سُرِّيَّتِهِ. ¬

_ (¬1) رأى بعض المفسرين أن قوله تعالى "أو نسائهن" يعني نساء المسلمات. فبنى على هذا بعض العلماء أن الكافرة لا تنظر من المسلمة إلا ما ينظره الأجنبي. وهو رواية عن أحمد. وما في المتن أولى وهو المذهب، والمراد بنسائهن جملة النساء كما في (المغني 6/ 563) (¬2) لم يثبت في النهي عن ذلك أو كراهته حديث، فلا يكون سنّة.

[لمس الأجنبية والخلوة بها]

[لمس الأجنبية والخلوة بها] (ولمسٌ كنظرٍ وأوْلى). (ويحرُمُ التلذُّذُ بصوتِ الأجنبيّةِ) مع أنه ليسَ بعورةٍ (ولو بقراءةٍ) قاله في الفروع. وقال الإِمام أحمد في رواية مُهَنَّا: ينبغي للمرأةِ أن تخفِضَ صوتَها إذا كانت في قراءتها إذا قرأتْ بالليل. (وتحرُمُ خلوةُ رجلٍ غيرِ محرمٍ بالنساءِ، وعكسه) أي يحرمُ خلوةُ امرأةٍ غيرِ محرمٍ بالرّجال. [الخِطبة] (ويحرُمُ التصريحُ) وهو ما لا يحتمل غيرَ النكاح (بخطبةِ المعتدَّةِ البائِنِ) (¬1) كقوله: إني أريدُ أن أتزوّجَك، أو: إذا انقضَتْ عدَّتُكِ تزوَّجتُكِ، وزوّجيني نفسك، (لا التعريضُ) أي لا يحرمُ التعريضُ (¬2) في عدّةِ وفاةٍ (إلا بخِطبةِ الرجعيّة) فإنه يحرُمُ، لأنها في حكم الزوجات، أشبَهَ (¬3) التي في صلب النكاح. (وحرم خِطبةٌ) بكسر الخاء المعجمة (على خِطبةِ مسلمٍ أجيبَ) ولو كانت إجابتُهُ تعرِيضاً، إن علم الثاني بإجابةِ الأوّل. وإن لم يعلم الثاني بإجابةِ الأول، أو تركَ الأول، أو أَذِنَ الأوّلُ، جاز للثاني أن يخطبَ. والتعويلُ في ردٍّ وإجابةٍ على وليٍّ يُجْبِر، والَّا فعلَيْها. (ويصح العقدُ) مع حرمةِ الخِطبة. تنبيه: يسن أن يكونَ عقد النكاحِ مساءَ يوم الجمعة، وأن يخطُبَ قبلَه بِخُطبةِ عبدِ الله بن مسعود (¬4)، وهي "إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ¬

_ (¬1) ومثلها المعتدة من وفاة. (¬2) كان يقول لها: إني في مثلِك لراغبٌ. أو: عسى أن يقدّر لي زوجة صالحة. (¬3) الصواب أن يقول: "أشبهت". (¬4) هي ما روى الترمذيّ وصححه عن عبد الله بن مسعود، قال: "علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم =

ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، وسيّئِات أعمالنا، من يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه"، ويجزئ عن الخطبة أن يتشهد ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = التشهّد في الصلاة، والتشهّد في الحاجة: إن الحمد لله" الحديث، إلى أن قال "ويقرأ ثلاث آيات" (شرح المنتهى 3/ 10).

باب (ركني النكاح و) باب (شروطه)

باب (ركنيّ النكاح و) باب (¬1) (شرُوطه) أي شروطِ النكاح. أركانُ النكاحِ أجزاءُ ماهيّتِهِ. والماهيّةُ لا تتمُّ بدون جُزئِها. فكذا الشيءُ لا يتمُّ بدون ركنِهِ. (ركناهُ) أي النكاح، اثنان: أحدهما: (الإِيجاب) وهو اللفظُ الصادرُ من الوليِّ أو مَنْ يقومُ مقامَهُ، بلفظ النكاح، أو التزويجِ. (و) الركن الثاني: (القبول) بلفظ: قبلتُ، أو رضيتُ هذا النكاحَ، أو قبلت أو رضيتُ، فقط، أو تزوجتُها (مرتَّبَيْنِ) فلا يصحُّ النكاحُ إنْ تقدَّم قبولُ على إيجابٍ. وإن تراخى القبولُ عن الإِيجابِ حتى تفرّقا أو تشاغَلَا بما يقطعه عرفاً بَطَل الإِيجابُ. (ويصح النكاحُ هزلاً) أي يصح الإِيجابُ والقبولُ من هازلٍ. (و) يصحُّ النكاحُ (بكلّ لسانٍ) بلفظٍ يؤدّي معناهما الخاصَّ (من ¬

_ (¬1) لم يحسن الشارح إذْ حَلَّ المتنَ بهذه الطريقة، إذ هو باب واحد، لا بابان.

[شروط صحة النكاح]

عاجزٍ عن) الإِتيان بهما بالـ (ـــعربي (¬1)، لا) يصح إيجابٌ ولا قبولٌ (بالكتابة، ولا بالإِشارة) المفهومة (إلا من أخرس) فيصحّانِ مِنْهُ بالإِشارةِ، نصَّ عليه. لأن النكاحَ معنًى لا يستفادُ إلاَّ من جهته، فصحَّ بإشارتِهِ، كبيعه، وطلاقه. [شروط صحة النكاح] (وشروطُهُ) أي شروط صحّة النكاحِ (خمسةٌ) وَاحِدُها "شَرْطٌ" بإسكان الراء. وهو: ما يلزَمُ من انتفائِهِ انتفاءُ المشروطِ، بمعنى أنه يلزم من عَدمِهِ عدم صحة النكاح. أحد الخمسة: (تعيينُ الزوجينِ) لأن النكاحَ عقدُ معاوضةٍ، أشبهَ تعيينَ المبيعِ في البيعِ. ولأنَّ المقصودَ في النِّكاحِ التعيينُ، فلم يصحَّ بدونِهِ. إذا تقرر هذا (فلا يصحُّ) النكاح إن قال الوليُّ: (زوَّجتُك بنتي، وله) بناتٌ (غيرها. ولا) يصحُّ النكاحُ إن قال: (قبلتُ نكاحَها) أي نكاح مَوْليَّتِكَ فلانةَ (لابني، وله غيرُه، حَتى يُميّزَ كل منهما) أي من الزوج والزوجة (باسمهِ) كفاطمة وأحمد، (أو صِفَتِه) التي لم يشاركْه فيها غيرهُ من إخوته، كقوله: الكبرى، أو: الصغرى، أو: الوسطى، أو: البيضاء، أو: الحمراء، أو: السوداء، أو: الكبير، أو: الصغير، أو: الأبيض، أو: الأسود. [الرضا والإِجبار] (الثاني): من شروطِ صحةِ النكاحِ (رِضَا زوجٍ مكلَّفٍ) وهو البالغ ¬

_ (¬1) اختار الموفق وجمع أن النكاح ينعقد بغير العربية لمن يحسنها، وقال الشيخ [ابن تيمية] ينعقد بما عدّهُ الناسُ نكاحاً (عبد الغني) أي فما في المتن من أن ذلك لا يصبح إن كان العاقد قادراً على التكلم بالعربية خلاف المختار.

العاقل، (ولو) كانَ المكلَّفُ (رقيقاً) فلا يملك سَيِّدُهُ إجبارَه، لأنه يملك الطلاقَ فلا يجبرُ على النكاحِ. (فيُجْبِرُ الأَبُ، لا الجدُّ، غيرَ المكلَّفِ) من أولادهِ. (فإن لم يكن أبٌ فوصيُّهُ) أي وصيُّ الأبِ، لقيامِهِ مقامَهُ. (فإنْ لم يكن) للأب وصيٌّ (فالحاكِمُ) يزوِّج (لحاجةٍ، ولا يصحُّ من غيرِهمْ أن يزوِّج غيرَ المكلفِ ولو رَضِي) لأنّ رضاهُ غيرُ معتبرٍ. (ورِضا زوجةٍ حرَّةٍ عاقلةٍ ثيِّبٍ تَمَّ لها تسعُ سِنينَ) ولها إذنٌ صحيحٌ معتبرٌ. فيشترط مع ثيوبتها. وُيسَنُّ مَعَ بَكارَتِها. قال في الإِنصاف: للصغيرةِ بعد تسع سنين إذنٌ صحيحٌ معتبرٌ (فيجبرُ الأب) لا الجدُّ (ثيّباً دون ذلك) أي دونَ من تمّ لها تسعُ سنينَ لأنّه لا إذن لها معتبر، (و) يجبر الأبُ (بكراً، ولو) كانت (بالغةً) (¬1) لما روى ابنُ عباسٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأيِّمُ أحقُّ بِنَفْسِها من وليِّها، والبِكْرُ تسْتأَذن (¬2)، وإذنُها صُماتها، أي سكوتُها" رواه أبو داود. فلما قسَم النساءَ قسمينِ، وأثبَتَ الحقَّ لأحَدهما، دل على نفيه عن الآخر (¬3)، وهي البكرُ، فيكون وليُّها ¬

_ (¬1) فإن عيّنتْ بنت تسعٍ فأكثر كُفْئاً، وعيَّنَ أبوها كفئاً غيره، قُدِّم من عيَّنَتْه هي (ش. المنتهى). هذا وإن في تزويج الرجل أبنته البكر البالغة جبراً عنها رواية أخرى بعدم الجواز، موافقاً لمذهب أبي حنيفة، لما ثبت في الصحيحين أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تنكح الأيّم حتى تُستَأمر ولا تنكح البكر حتى تُستَأذن" متفق عليه، ولما روى أبو داود وغيره عن ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - (مغني 6/ 488) قلت: وظاهر حديث أبي داود أن زواجها يكون موقوفاً على رضاها. (¬2) كذا وصواب الرواية كما في شرح المنتهى "والبكر تستأمر" (عبد الغني) قلت "تستأذن" كذا في كنز العمال 16/ 311). (¬3) في هذا الاستدلال نظر، فإنك لو قلتَ "لستَ أحقَّ مني بكذا" لم يدلّ على أني "لا حقَّ لي"، بل يحتمل ذلك، ويحتمل أن المراد أن لي حقّا مثل حقّك، أو على الأقل دون حقك. فهو إذن نفى للأحقّيَّة، لا نفي لأصل الحقّ، بل الحق للبكر ثابت. ورعاية ذلك =

أحقَّ منها بها. ودل الحديث على أن الاستئمار هاهنا والاستئذانَ في حديثهم (¬1) مستحبٌّ غير واجبٍ، لما روى ابن عمر، قال: "قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: آمِرُوا النساءَ في بناتِهنّ" (¬2) رواه أبو داود. (ولكل وليًّ تزويجُ يتيمةٍ بلغت تسعاً بإذنها) لأنها تصلُحُ بتمامِ التسعِ سنينَ للنِّكاحِ، وتحتاجُ إليه، فأشبهت البالغة. (لا مَنْ دونها) أي دون تسع سنين (بحالٍ) أي سواء أذِنَتْ أم لا (إلاَّ وَصيَّ أبيها) قال في شرح المنتهى: فيجبُر الوصيُّ من يجبُرُهُ الموصِي لَوْ كانَ حيًّا، من ذكرِ أو أنثى. انتهى. (وإذنُ الثيّب) أي من صارت ثيّباً بوطءٍ في قُبُلٍ، ولو كانَ وطؤُها بزناً، أو مَع عَوْدِ بَكَارَتِها بعد إزَالتها (الكلامُ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيّبُ تُعْرِبُ عن نفسِها" (¬3) أي: تُبِينُ، ولأنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح الأيّمُ حتى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنْكَحُ البكْرُ حتى تُستَأذَنَ، وإذنها سكوتها" يدلُّ على أنه لا بد من نطقِ الثيّبِ، َ لأنّه قسَمَ النساءَ قسمين، فجعل السكوتَ إذناً لأحدهما، ¬

_ = الحق واجبة، وإنما يكون باستئذانها عملاً بما صرّحت به السنة في روايات كثيرة قد تبلغ التواتر. وانّما أكتفت السنة من البكر بالصمت دلالهَ على الإِذن، لشدة حيائها، لا لأن رضاها غير معتبر. أما الثيب فإنها تستأمر أي تشاور ويؤخذ رأيها صراحة والله أعلم. (¬1) يعني حديث المخالفين القائلين بأن إنكاح البكر كالثيب لا يصح إلا بإذنها. وهو حديث الصحيحين "لا تنكح البكر حتى تستأذن" (عبد الغني). (¬2) حديث "آمِروا النساء في بناتهنّ" رواه أبو داود والبيهقي من حديث ابن عمر. وهو ضعيف. (ضعيف الجامع الصغير). والشارح ذكر هذا الحديث، مدلّلاً به على ما ذكر. ووجهه ان استثمار الأم ليس بواجب اتفاقا بل هو مستحب، قالوا فكذلك استثمار المخطوبة نفسها ليس واجباً. ولكن للآخرين أن يجيبوا بأن حديث (آمروا النساء .. " فيه أمر، فيمكن حمله على الاستحباب دون الوجوب. أما حديث "لا تنكح البكر حتى تستأمر" فهو نفي أو نهي ويدل على الفساد. ثم إن حديث "آمروا" ضعيف فلا تقوم به حجة أصلاً. (¬3) حديث "الثيب تُعْرِب عن نفسها" رواه أحمد ومسلم من حديث عميرة الكندي. (كنز العمال 16/ 312).

[الولي في النكاح]

فوجب أن يكون الآخر بخلافِهِ، والموطوءة بزناً ثيّبٌ موطوءة في القُبُل، لأنّه لو وصّى للثّيّب دخلتْ في الوصية، ولو وصّى للأبكارِ لم تدخل. (وإذنُ البِكْرِ) ولو وُطئت في دُبُر (الصُّماتُ) ولو ضحكَتْ أو بكتْ. ونطقُها بالإِذن أبلغ من صماتها. (وشُرِطَ في استئذانها) أي في استئذانِ من يشترط استئذانها (تسميةُ الزوجِ) بحيت تكونُ تلك التسميةُ (على وجهٍ تقعِ به المعرفة) أي معرفتها، بأن يذكر لها نسبُه ومنصِبُه ونحو ذلك، لتكون على بصيرةٍ في إذنها في تزويجه. قالَ في الإِقناع وشرحه: ولا يشترط في استئذانٍ تسميةُ المهر. (ويجبرُ السيّد، ولو كان فاسقاً، عبدَهُ غيرَ المكلّف) أي الصغير والمجنون، لأن الإِنسان إذا ملَك تزويجَ ابنِه الصغيرِ والمجنونِ، فعبدُه الذي كذلك، مع مِلكِه إياه، وتمامِ ولايتِهِ عليه، أوْلى. (و) يجبر السيد أيضاً (أمتَه، ولو) كانت (مكلّفة) سواء كانت بكراً أو ثيّباً، وسواءٌ كانت قِنًّا، أو مدبّرة، أو أمّ ولدٍ، لأن منافعها مملوكة له، والنكاح عقد على منافعها، فأشبه عقد الإجارة، ولا فرقَ بين كونها مباحةً أو محرّمةً عليه، كما لو كانت أمَّهُ أو أخته من رضاعٍ أو مجوسيّةً، فإن له تزويجهما، وإن كانتا محرّمتين عليه، لأن منافعهما مملوكة له. وإنما حَرُمتَا عليهِ لعارضٍ. [الولي في النكاح] (الثالث) من شروط صحة النكاح: (الوليُّ) إلاَّ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). (وشُرِط فيه) أي في ثبوتِ الولايةِ لهُ سبعة شروط على خلاف في بعضها: ¬

_ (¬1) فقد كان له أن يتزوج المرأة بدون وليّ. وفي الحقيقة هو الولي، فلا اختصاص، لقوله تعالى {النبي أولى بالمؤمين من أنفسهم}.

الأول: (ذكورية) لأن المرأة لا تثبُتُ لها وِلايةٌ على نفسِها، فعلى غيرها أولى. (و) الثاني: (عقل) لأن الولاية إنما ثبتت نظراً للمُوَلَّى عليه عند عجزِه عن النظر لنفسه. ومن لا عقلَ له لا يمكنه النظر، ولا يلي نفسه، فغيرَهُ أوْلى. وسواء في ذلك من لا عقل له لصغرِهِ، أو ذَهب عقلُه بجنونٍ أو كبرٍ. فأما الإِغماءُ فلا تزولُ الولاية به، لأنه يزولُ عن قربِ، فهو كالنومِ. ولذلك لا تثبت الوَلاية على المغمى عليه. ويجوزُ علىَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومن كان يُخْنَقُ في الأحيان لم تزل ولايته. (و) الثالث: (بلوغ) لأن الولايةَ يعتبر لها كمالُ الحالِ، لأنها تفيد التصرُّف في حق غيره، والصبيّ مولَّى عليه لقصوره، فلا تثبت له ولاية، كالمرأة. (و) الرابع: (حريّة) يعني كمالها لأن العبد والمبعّض لا يستقلان بالولاية على أنفسِهما، فعلى غيرِهما أولى. ويستثنى من ذلك صورةٌ، وهي أنّ المكاتَبَ يزوّج أمته. وتقدَّم. (و) الخامس: (اتفاقُ دينٍ) أي اتفاق دين الوليّ والمولَّى عليها. فلا يثبتُ لكافرٍ ولايةٌ على مسلمةٍ، ولا لنصرانيٍّ على مجوسيّة، ونحو ذلك. ويستثنى من ذلك ثلاثُ صور: الأولى: أم ولد الكافر إذا أسلمت. الثانية: أمةٌ كافرةٌ لمسلم. الثالثة: السلطان. (و) السادس: (عدالةٌ) لأنها ولايةٌ نظرية، فلا يستبدّ بها الفاسقُ،

[ترتيب الأولياء]

كولاية المال، لكن لا يشترَطُ كونُ الوليِّ عدلاً باطناً وظاهراً، فلهذا قال: (ولو ظاهرةً) ويستثنى من ذلك صورتان: الأولى منهما: السلطان. الثانية: السيّد، فلا يشترط فيهما لتزويجهما العدالة. (و) السابع: (رُشْدٌ. وهو) أي الرُّشْدُ هنا لتزويجهما (¬1) (معرفة الكفءِ ومصالح النكاح) قال الشيخ تقي الدين: الرشدُ هنا هو المعرفةُ بالكفءِ ومصالحِ النكاحِ، وليس هو حفظَ المال، فإنّ رُشْدَ كلِّ مقامٍ بحسبِهِ. وظاهرُ ما تقدّم أنه لا يشترط في الولي كونُه بصيراً. وهو ذلك. ولا يشترط في الوليّ أن يكون متكلماً إذا فُهِمَتْ إشارته. [ترتيب الأولياء] (والأحقُّ) من الأولياء (بتزويج الحرةِ أبوها) وإنما قيَّدَ بالحرّةِ لأنه لا ولايةَ لأب (¬2) الأمة عليها اتفاقاً، لأن الأب أكمل نظراً وأشدُّ شفقةً، فوجَبَ تقديمُهُ في الوِلايةِ (وإنْ عَلَا) يعني أنَّ الجدَّ أبا الأبِ وإن علَتْ درجته أحقُّ بالولاية من الابنِ والأخ، لأن الجدَّ لَهُ إيلادٌ وتعصيبٌ، فقُدِّم عليهما، كالأب. فعلى هذا يكون الجدُّ أولى من جميع العصباتِ غيرَ الأب. وإذا اجتمع أجدادٌ كان أَوْلاهُمْ أقربَهُمْ، كالجدّ مع الأب. (فابنها) يعني أن ولايةَ الحرّةِ بعد جدها وإن علا لابنها (وإن نزل) يقدم الأقرب فالأقرب. (فالأخُ الشقيقُ، فالأخ للأب) لأن ولاية النكاحِ حقٌّ يستفاد بالتعصيبِ، فقُدِّم فيه الأخُ من الأبوينِ. ¬

_ (¬1) (ب، ص): "لتزوُّجِهما" والتصويب من (ف). والضمير يرجع إلى الرجل والمرأة. (¬2) في الأصول "لأب الأمة" والأولى "لأبي الأمة".

(ثم الأقربُ فالأقربُ كالإِرث) وجملة ذلك أنَ الولايةَ بعد الإِخوةِ تترتَّبُ على ترتيب الميراثِ، بالتعصيبِ، فأحقُّهم بالميراثِ أحقُّهم بالولايةِ. فعلى هذاَ لا يلي بنو أبٍ أعلى مع بني أبِ أقرب منه. وعُلم مما تقدم أنه لا ولايةَ لغيرِ العصباتِ كَالأخِ من الأمِّ، والعمّ من الأم، والخالِ، وأبي الأم، ونحوهِمْ. نص عليه. ثم يلي نكاحَ الحرةِ عند عدم عصبة نسبٍ المولى المنعِمُ ثم عَصَبتُهُ الأقربُ فالأقربُ. (ثم السلطان) وهو الإمام الأعظم (أو نائبه) قال أحمد: والقاضي أحبُّ إليّ من الأمير في هذا، ولو من بغاةٍ إذا استولوا على بلدٍ. (فإن عدم الكل) أي عدم عصبةُ المرأةِ والولاءِ وعدم السلطانُ والقاضي من المكان الذي بهِ المرأة (زوَّجَها ذو سلطانٍ في مكانِهَا) كعَضْلِ الوليِّ (¬1) (فإن تعذَّر) ذو سلطانٍ في مكانِهَا (وكَّلَتْ مَن) أي رجلاً عدلاً في ذلك المكان (يزوّجها)، فإن أحمد قال في دَهْقانِ قريةٍ، أي شيخها: يُزَوِّجُ من لا وليّ لها إذا احتاط لها في الكفءِ والمهر إذا لم يكن في الرُّسْتاقِ قاضٍ. انتهى. (فلو زوّجَ) المرأةَ (الحاكمُ أو) زوَّجَها (الوليُّ الأبعد بلا عذرٍ للأقرب) إليها منه (لم يصحَّ) النكاح لأنَّ الأبعَدَ والحاكِمَ لا ولايةَ لهما مع من هو أحقُّ منهما، أشْبَهَ ما لو زوَّجَها أجنبيٌّ ليسَ بحاكِمٍ. (ومن العُذْرِ غَيْبَةُ الوليّ فوق مسافةِ قَصْرٍ) لأنّ مَنْ دونَ ذلك في حكم الحاضرِ، (أو تجهلَ المسافةُ) بأن لا يُعلَمَ أقريبٌ هو أم بعيد، (أو يُجْهَلَ مكانُهُ مع قربِهِ، أو يَمْنَعْ من بلغتْ تسعاً كفؤاً رَضِيَتْ به) ورضيتْ بما صَحَّ مهراً. ¬

_ (¬1) أي إن عَضَلها الأَولياء فأبوا تزويجها من الكفء، ولا إمام، زوّجها منه سلطان المكان.

[التوكيل في التزويج والإيصاء به]

فصل [التوكيل في التزويج والإِيصاء به] (ووكيلُ الولي) أي كلِّ وليٍّ (يقومُ مقامَهُ) غائباً وحاضراً، سواءٌ كان مجبراً أو غيرَ مجبرٍ. (ولهُ) أي للوليِّ إن لم يكن مجبِراً (أنْ يوكِّل بدونِ إذنِها) أي إذنِ مَوْليتِهِ لأنَّه إذنٌ من الوليّ في التزويجِ، فلا يفتقِرُ إلى إذنِ المرأةِ، ولا الإِشهادِ عليه، كإذنِ الحاكِمِ. ولأن الوليَّ ليس بوكيلِ المرأةِ، بدليلِ أنها لا تملِكُ عزلَهُ من الوِلاية. ويثبتُ لوكيلِ الوليّ ما للوليّ من إجبارٍ وغيره. (لكن لا بدَّ من إذنِ) موليَّةٍ (غيرِ المُجْبَرَةِ للوكيلِ) أي وكيلِ وليِّها، فلا يكفي إذنُها لوليها بتزويجٍ أو توكيلٍ في تزويجِها بلا مراجعةِ وكيلِ غيرَ المجبَرَةِ (¬1). وإذنُ الموليّة غيرِ المجبَرَةِ لوكيلِ وليِّها إنما يكون (بعد توكيلِهِ) أي توكيلِ وليّها لأنه قبل أن يوكّلَهُ الوليُ أجنبيّ، وبعد توكيلِهِ وليّ. (ويشترط في وكيلِ الوليّ ما يشترط فيه) أي في الوليّ من ذكوريّة وبلوغ وغيرِهما، لأنها وِلاية، فلا يصحّ أن يباشرها غيرُ أهْلِها. (ويصحُّ توكيلُ الفاسِقِ في القبولِ) للنكاحِ لأنه يصحُّ قبولُه النكاحَ لنفسِهِ، فيصحُّ لغيرِهِ. ومن نحو ذلك المسلمُ يوكِّلُ النصرانيَّ في قبولِ نكاحِ زوجَتِهِ الكتابِيَّةِ، لصحّةِ قبوله لنفسِهِ. قاله في شرح المنتهى. (ويصح التوكيلُ) أي توكيلُ الوليّ في إيجابِ النكاحِ توكيلاً ¬

_ (¬1) أي لا بدّ من مراجعةِ الوكيل المرأةَ غيرَ المُجْبَرَةِ ليصحّ تزويجه لها، ولا يكفي مجرُّد توكيل الوليّ له، ولا أذنُها لوليَها بتزويجها أو التوكيل فيه.

(مطلقاً، كـ) قوله لوكيله: (زوِّجْ من شئتَ) روي أنَّ رجلاً من العرب (¬1) تَرَك ابنته عند عمر رضي الله عنه، وقال: إذا وجدتَ كفؤاً، فزوَجْهُ ولو بشراكِ نعلِهِ، فزوَّجَها عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه، فهي أمُّ عمرِو بن عُثمانَ. واشتُهِرَ ذلك فلم يُنْكَرْ. ولأنه إذنٌ في النكاحِ، فجاز مطلقاً. (ويتقيّد) أي هذا التوكيلُ المطلقُ (بالكفءِ). ولا يملك بهِ أن يزوِّجَهَا من نفسِهِ من غيرِ إذن الموكِّل. (و) يصحُّ توكيلُهُ توكيلاً (مقيَّداً كزوِّجْ زيداً) أو زوِّجْ هذا. (ويشترط) لصحةِ النكاحِ معَ وجود التوكيلِ في الإيجاب والقبولِ أو في أحدهما (قولُ الوليِّ) لوكيلِ زوجٍ، (أو) قولُ (وكيلِهِ) أي وكيلِ الوليّ لوليّ زوجٍ: (زوَّجْت فلانةَ فلاناً، أو): زوجْتُ فلانَةَ (لفلانٍ). (و) يشترط (قولُ وكيلِ الزوجِ: قبلتُهُ) أي قبلتُ النكاح (لموكِّلي فلانٍ، أو): قبلتُهُ (لفلانٍ.) ولا يصحُّ إن لم يقل: لفلانٍ، في الأصحِّ. (ووصيُّ الوليِّ) أباً كانَ الولي أو غيره (في النكاح) أي في إيجاب النكاح (بمنزلتِهِ) أي بمنزلة الموصي إذا نص المُوَصِّي له عليه. (فيجبُرُ) الوصيُّ (من يجبُرُهُ) الموصي لو كان حيًّا من (ذكر وأنثى) وقال مالك: إن عينَ الأبُ الزوجَ ملَكَ إجبارها، صغيرةً كانت أو كبيرةً. وإن لم يعيِّنِ الزوجَ وكانتْ ثيباً كبيرةً صحَّتِ الوصيّةُ واعتُبر إذنها. وإن كانت صغيرة انتظرنا بلوغَها. فإذا أَذنَتْ جازَ أن يزوِّجها بإذنها (¬2). ولنا أن من مَلَكَ التزويج إذا عُيِّن له الزوجُ مَلَكَهُ مع الإِطلاق. (وإن استوى وليَّانِ فأكثرُ) لامرأةٍ (في درجةٍ) كإخوةٍ لها كلهم لأبوين، أو كلُّهم لأبٍ، أو أعمامٍ كذلك، أو بني أخوة كذلك (صحَّ ¬

_ (¬1) هو عمرو بن حممة الدوسي. وقصته في كتاب "الأغاني" بطولها. انظر فهرسِ الأغاني. (¬2) هذا النص عن مالكٍ مأخوذ من المغني ط3 (6/ 464)، وهو مخالف لخطَّة الشارح من عدم نقل الخلاف من خارج المذهب.

[تولي طرفي العقد]

التزويجُ من كلِّ واحد) من المستويين، لأنّ سبَبَ الولايةِ موجودٌ في كلِّ واحدٍ منهم (إن أذنتْ لهم) أي لكل واحد منهم (فإن أذنَتْ لأحدهمْ تعيَّن) للتزويجِ من أذنَتْ له (ولم يصحَّ نكاحُ غيرِهِ) أي لا يصحّ أن يزوِّجَهَا من لم تأذنْ له. [توليّ طرفي العقد] (ومن زَوَّجَ بحضرةِ شاهدَيْنِ عبدَهُ الصغيرَ بأَمَتِهِ) جاز أن يتولّى طرفي العقد بلا نزاعٍ لأنه عقدٌ بحكمِ المِلْكِ لا بحكم الإِذن. (أو زوّجَ ابنَهُ بنحو بنتِ أخيهِ) أو زوّجَ وصيٌّ في نكاحٍ صغيراً بصغيرةٍ تحت حجرِهِ ونحوِهِ، صح أن يتولّى طرفي العقد. (وكذا وليُّ امرأةٍ عاقلةٍ تحلُّ له، كابن عمٍّ ومولًى وحاكِمٍ، إذا أذنت له في تزويجِها. (أو وكّلَ الزوجُ الوليَّ) أي وليَّ المخطوبةِ في قبولِ نكاحِ الزوجِ من نفسِ الوليّ، يعني فإنه للوليّ أن يتولّى طَرَفَي العقد، (أو عكسُهُ) وهو أن يوكِّلَ الوليُّ الزوجَ في إيجاب النكاحِ لنفسه، فإذا فعل ذلك جازَ للزوجِ أن يتولّى طرفي العقد. (أو وكّلا) أي الوليُّ والزوج رجلاً (واحداً) بأن يوكِّلَهُ الوليُّ في الإيجاب، ويوكّلَهُ الزَوْجُ في القبولِ فإذا فَعَلَ ذلكَ (صحَّ) للوكيل عنهما (أن يتولّى طرفي العقد) قال في شرح المنتهى: ويمكن أن يقالَ: ونحو النكاح من العقودِ، كما لو وكّلَ البائِعُ والمشتري واحداً، والمؤجِرُ والمستأجِرُ واحداً، فإنه يجوز له أن يتولّى طرفي العقد. ولا يشترَطُ فيمن يتولَّى طرفي العقدِ أن يأتي بالإيجابِ والقَبُولِ في الأصح. (ويكفي) قوله: (زَوَّجْتُ فلاناً فلانَةَ) من غير أن يقول: قبلتُ له نكاحَهَا، (أو) يقول: (تزوَّجْتُها) أي تزوجت فلانةَ (إن كان هو الزوجَ)

[الشهادة على النكاح]

من غير أن يقولَ: ونكاحَهَا لنفسي (¬1). ويستثنى من ذلك صورتانِ: إلا بنتَ عمِّهِ، وعتيقَتَه، المجنونتَيْنِ، فيُشْتَرَطُ لصحّةِ النكاحِ، إذا أراد أن يتزوَّجَهُمَا، وليٌّ غيرُه أو حاكم. (ومن قال لأمتِهِ) التي يحلُّ له نكاحُها، لو كانت حرَّةً، من قنٍّ أو مدبَّرةٍ أو مكاتَبَةٍ أو معلَّقٍ عتقُها بصفةٍ أو أمِّ ولدٍ: (أعتَقْتُكِ، وجعلتُ عِتْقَكِ صداقَكِ) أو: جعَلتُ عتقَ أَمَتي صداقَها، أو: جعلتُ صداقَ أمتي عِتْقَهَا، أو قال: أعتقتُها وجعلتُ عتقَها صداقَها، أو قال: أعتقتُها على أنَّ عتقَها صداقُها، أو قال: أعتقتُكِ على أن أتزوجَكِ وعِتْقي صداقُكِ، (عتقَتْ، وصارتْ زوجةً (¬2) إن توافرتْ شروط النكاح،) منها: أن يكونَ الكلام متَّصِلاً، وأنْ يكونَ بحضرةِ شاهِدَيْنِ. فلو قال: أعتقتُكِ، وسكتَ سكوتاً يمكنه الكلامُ فيه، أو تكلَّمَ بكلامٍ أجنبيٍّ، ثم قال: وجعلتُ عتقَكِ صداقكِ، لم يصحّ النكاحُ، لأنها صارتْ بالعتق حرَّةً، فيحتاج أن يتزوجها بِرِضاها بصداقٍ جديدٍ. [الشهادة على النكاح] (الرابع) منْ شروطِ صحةِ النكاح: (الشهادة) عليهِ، احتياطاً للنَّسَبِ خوفَ الإِنكارِ، ولأنّ الغَرَضَ من الشَّهادةِ إعلانُ النكاحِ، وأن لا يكون مستوراً. ولهذا يثْبُتُ بالتسامُعِ، (فلا ينعقِدُ) النكاحُ (إلا بشهادةِ ذكرَيْنِ مكلفَيْنِ) أي بالغَين عاقِلَيْنِ، (ولو رقيقينِ، متكلمينِ سميعينِ مسلمين،) ولو أنَّ الزوجةَ ذِمِّيَّة، (عدلين، ولو) كانت عدالتهما (ظاهراً) ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وقال (عبد الغني): لعله: وقبلتُ نكاحها لنفسي. (¬2) أي لأنه أعتقها عتقاً مشروطاً بأن يكون صداقاً، فتتوقف صحة العتق على صحة النكاح. ولو قال: أعتقتك وزوجتك لزيد وجعلت عتقك صداقك صح كذلك.

[الكفاءة]

لأن النكاح يكون في القُرى والبوادي وبين عامَّة الناس ممن لا يعرفُ حقيقةَ العدالةِ، فاعتبار ذلك يشقُّ، فاكتُفِيَ بظاهرِ الحالِ فيه، فلا يُنْقَضُ ولو بانا فاسقينِ (من غيرِ أصْلَيِ الزوجينِ وفرعيهما) كأبي الزوجةِ، أو الزوج، أو أبنائهما، لأنهم لا تقبل شهادتهم للزوجينِ، سواءٌ كانوا آباءهم أو أبناءهم. (ولا يُشتَرط كون الشاهدين بصيرينِ، فيصحُّ ولو أنهما ضريران، أو عدُوَّا الزوجين، أو أحدُهما، أو الوليّ. (الخامس) من شروط صحة النكاح: (خلو الزوجين من الموانع) الآتية في باب المحرَّمات (بأن لا يكونَ بهما) أي الزوجين، (أو بأحدهما، ما يمنعُ من التزوّج، من نسبٍ أو سببٍ) كرضاعٍ، ومصاهرةٍ، أو اختلاف دين، بأن يكونَ مسلماً وهي مجوسيّةٌ، أو كونها في عدة، أو أحدهما محرِماً. [الكفاءة] (والكفاءَةُ) في الزوجِ (ليستْ شرطاً لصحة النكاح) (¬1) بل شرطٌ لِلُزومِهِ. قال في شرح الإِقناع: هذا المذهبُ عند أكثر المتأخّرين. قاله في المقنع والشرح. وهي أصحّ. فهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلم. فعلى هذا يصحُّ النكاحُ مع فَقْدِها. وقدّم في المنتهى أن الكفاءَةَ شرطٌ للصحّة. قال في شرحه: وهي المذهبُ عند أكثر المتقدمين (¬2) (لكن لمن زوجت بغير كفءٍ) بعد أن عُقِدَ العقدُ (إن تفسخَ نكاحَها، ولو) كان الفسخ (متراخياً) لأنه خيارُ نقصٍ في المعقود عليهِ، أشبهَ خيارَ العيبِ (ما لم ترضَ) أي ¬

_ (¬1) الماتن والشارح أحسنا صنعاً في هذه المسألة إذ خالفا ما قدّمه صاحب المنتهى وشارحه من أن الكفاءة شرط للصحة. (¬2) أما الكفاءة في الزوجة فليست شرطا للصحة ولا للّزوم اتفاقاً.

الزوجةُ (بقولٍ أو فعلٍ) كما لو مكَّنتهُ عالمةً بأنّه غيرُ كفءٍ. (وكذا) يكون (لأوليائِها) كلِّهم، القريبِ والبعيدِ، الفسخُ، حتى من يَحْدُثُ منهم بعد العقد، لتساويهم في لحوق العارِ بفقدِ الكفاءة. (ولو رضيْتْ، أو رضي بعضُهم، فلمن لم يرضَ الفسخُ.) ويملكهُ الأبعدُ مع رضا الأقرب. (ولو زالتِ الكفاءَةُ بعد العقدَ فلها) أي الزوجةِ (فقط الفسخ) دون أوليائِها، كعتقِها تحتَ عبدٍ، ولأن حقّ الأولياءِ في ابتداءِ العقد، لا في استدامته. (والكفاءَةُ) لغةً المماثلةُ والمساواةُ (معتبرة في خَمسةِ أشياءَ) (¬1): الأول: (الديانة) فلا يكون الفاجرُ، ولا الفاسقُ، كفؤاً لعفيفةٍ عدلٍ، لأنه مردودُ الشهادةِ والروايةِ، وذلك نقصٌ في إنسانيتِهِ، فلا يكونُ كفؤاً لِعدْلٍ. (و) الثاني: (الصّناعَةُ) فلا يكونُ صاحبُ صناعةٍ دنيئةٍ، كالحجّام والحائكِ والزبّالِ والنفاطِ، كفؤاً لبنتِ من هو صاحبُ صناعةٍ جليلةٍ، كالتاجِرِ والبزّاز، وهو الذي يتّجر في القماش. (و) الثالث: (الميسَرَةُ) بالمالِ، بِحَسب ما يجبُ لها من المهرِ والنفقةِ. وقال ابنُ عقيلٍ: بحيثُ لا تتغيَّر عادَتُهَا عند أبيها في بيتِهِ. فلا يكون المعسِرُ كفؤاً لموسرةٍ. وليسَ مولَى القوم كفؤاً لهم (¬2). ¬

_ (¬1) وذكر القاضي في المجرّد أن الصناعة، واليسار والحريّة، لا يبطل فقدها النكاح رواية واحدة. وأن في اعتبار الدين والمنصب روايتين. وقال مالك: الكفاءة الدين فقط. أي لقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (المغني) قلت: وهو الأقرب إلى روح الإِسلام وهديه وما جاء به من إبطال "عُبِّيَّةِ الجاهلية وتعاظمها بالآباء إنما هما اثنان: مؤمن تقيّ، وفاجر شقيّ". (¬2) في هذا نظر، فإن في شرح المنتهى أن موالي بني هاشم ليسوا أكفاء لهم، وليس فيه =

(و) الرابع: (الحريّة) فلا يكون العبدُ والمبعَّض كفؤاً لحرَّةٍ ولو عتيقة. (و) الخامس: (النَّسَبُ) فلا يكون العجميّ، وهو من ليس من العَرَبِ كفؤاً لعربيّة. ويَحْرم على وليِّ المرأةِ تزويجُها بغير كفءٍ بغير رضاها. ويفسُقُ به الولي. ¬

_ = تعرض لموالي غيرهم فَلِمَ عمَّمَ الشارح الحكم؟ وفي موالي بني هاشم رواية أخرى أنهم أكفاء لهم.

باب المحرمات في النكاح

باب المحَرَّمَات في النّكاح المحرَّماتُ ضرْبان: ضرْبٌ على الأبد (¬1)، وهن أقسام خمسة: [محرمات النسب] الأول (¬2): ما أشار إليه بقوله: (تحرُم أبداً الأمُّ) وهي الوالدة (والجدَّةُ من كلِّ جهةٍ) أي لأبٍ أو لأمٍّ، وإن علتْ. (والبنتُ، ولو) كانتْ (من زناً) أو شُبهةٍ. ويكفي في التحريم أن يعلم أنها بنتُه ظاهراً، وإن كان النسبُ لغيرِهِ. (وبنت الولدِ) ذَكَراً كان أو أُنثى، وإن سفل) (¬3). (والأُختُ من كل جهةٍ) أي سواءٌ كانت شقيقةً أو لأبٍ أو لأمٍّ. (وبنتُ ولدها) ذكراً كان أو أنثى. (وبنت كلِّ أخٍ) أي سواءٌ كان شقيقاً أو لأبٍ أو لأمٍّ، (وبنتُ ¬

_ (¬1) مقابله المحرمات إلى أمَدٍ، وهنَّ ما يأتي في الفصل التالي من الجمع بين الأختين وما بعده. (¬2) وهذا الصنف من السبع المذكورات في قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}. (¬3) كذا في (ف)، أما (ب، ص) فالذي فيهما "وإن سفل أبوها." والحذف أولى ليشمل بنت البنت.

[محرمات الرضاع]

ولدها) ذكراً كان أو أُنثى. (والعمة) من كل جهة. (والخالة) من كل جهة. [محرمات الرضاع] الثاني: من المحرّمات على الأبد ما أشار إليه بقوله (ويحْرُمُ بالرضاعِ) ولو محرَّماً، كمن غصَب امرأةً على إرضاع طفلٍ (ما يحرُمُ بالنَّسب) يعني أن كلّ امرأةٍ حرُمتْ من النَّسَبِ حَرُمَ مثلُها من الرضاعِ، حتى في مصاهرةٍ، فتحرم زوجةُ أبيهِ وولدهِ من رضاعٍ، كَمِنْ نسبٍ (إلا) أنه لا يحرُم على الرجل (أُمَّ أخيهِ) من رِضاعٍ، (و) إلا (أخْتَ ابنِهِ من الرَّضاعِ، فتحلُّ كـ) ما تحلُّ (بنتُ عمَّتِهِ، و) بنتُ (عمِّه، وبنتُ خالَتِهِ، و) بنتُ (خالِهِ). [محرمات المصاهرة] الثالث: من المحرّماتِ على الأبدِ ما أشار إليه بقوله: (ويحرُم أبداً بالمصاهرةِ أربعٌ: ثلاثٌ) يحرُمْنَ (بمجرَّدِ العَقْدِ) قال في حاشية الإِقناع: مقتضى كلامِ القاضِي في "المجرَّد": لا فرق في ذلك بين العقدِ الصحيحِ والفاسدِ، فإنه قال: يَثْبُتُ بِهِ جميع أحكامِ النِّكاحِ إلا الحِلِّ، والإحلالَ، والإِحصانَ، والإِرثَ، وتنصيفَ الصداقِ بالفُرْقة قبل المسيس. وظاهرُ كلامِهِ في "التعليق" خلافُهُ (¬1). انتهى. الأولى: (زوجةُ أبيهِ وإن علا). (و) الثانية: (زوجةُ ابنِهِ وإن سفل). (و) الثالثة: (أُمُّ زوجتِهِ) وإن عَلَتْ من نسبٍ أو رضاعٍ، لقوله ¬

_ (¬1) وهو أولى، لأن الفاسدَ ليس بمعتبر شرعاً، فكانه غير موجود.

تعالى: {وَأُمَّهَات نِسَائِكمْ} والمعقودُ عليها من نسائِهِ. قال ابن عباس: "أبْهِمُوا ما أبْهَمَ القُرْآن" (¬1) أي عَمِّموا حُكْمَها في كلِّ حالٍ ولا تَفْصِلوا بين المدخول بها وغيرها. (فإن وَطِئها حَرُمَتْ عليه أيضاً بنتُها) فلا يُحَرِّم الربيبةَ إلا الوطءُ دونَ العقدِ والخلوةِ والمباشرةِ دون الفرجِ، للآية، (و) حرمتْ عليه أيضاً (بنتُ ابنها، [وبنت بنتها] وبغير العقد) فيما ذكر (لا حرمة إلا بالوطءِ في قُبُلٍ) أصليّ (أو دبُرٍ) لأنه فرجِ يتعلَّق به التحريم، إذا وُجِدَ في الزوجةِ أو الأَمَةِ (إن كان) الذي غيب ذكره الأصليّ (ابنَ عشرٍ في بنتِ تسعٍ) فلو أدخل ابن ستّ سنينَ حشفته في فرج امرأةٍ، أو أدخل كبيرٌ حشفته في فرج بنت سبع سنين، لم يؤثّر في تحريم المصاهرة. أما ثبوتُ تحريمِ المصاهرةِ بالوطءِ الحلالِ فإجماعٌ وأما بوطء الشبهةِ والزنا فعلى الصحيح من المذهب. (وكانا) أي الواطئ والموطوءة (حيَّيْنِ) فلو أولجَ الرجلُ حشفته في فرجِ ميتةٍ، أو أدخلت امرأةٌ حشفة ميّتٍ في فرجها لم يؤثّر في تحريم المصاهرة. (ويحرم بوطء الذكر ما يحرم بوطء الأنثى) فلا تحلُّ لكلٍّ من لائطٍ وملوطٍ به أمُّ الآخرِ ولا بنتهُ. ووجهه أنه وطءٌ في فرج فنَشَرَ الحُرمةَ كوطءِ المرأة. (ولا تحرُم أمُّ) زوجةِ أبيهِ (ولا بنتُ زوجةِ أبيه و) لا تحرُم أمُّ زوجةِ ابنِه ولا بنتُ زوجة (ابنِهِ). ¬

_ (¬1) قول ابن عباس "ابهموا ما أبهم القرآن": لم نجده في كنز العمال. وفي (الإِرواء ح 1878) ما حاصله: لم أقف على إسناده بهذا اللفظ. ورواه البيهقي بلفظ "هي مبهمة، وكرهه" وسنده صحيح. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

المحرمات إلى أمد

فصل [الضرب الثاني: المحرّمات إلى أمَد] (ويحرم الجمع بين الأختين) سواء كانتا من نسبِ أو من رضاعٍ حرّتينِ كانتَا أو أمتينِ، أو حرةً وأَمَةً (¬1). وسواءٌ في هذا ماَ قبل الدخول أو بعده، لعمومِ قولهِ تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ}. (و) يحرُم الجمعُ أيضاً (بين المرأةِ وعمَّتِها أو خالَتِها) وإن عَلَتا من كلِّ جهةٍ، من نَسبٍ أو رضاعٍ، وبين خالَتَينِ، أو عمَّتين، أو عمةٍ وخالةٍ. وصورةُ الجمعِ بين خالتين أن يتزوَّج كلٌّ من رجلينِ بنتَ الآخرِ، تلد له بنتاً فالمولودتان كل منهما خالة الأخرى. وصورة الجمع بين العمَّتينِ أن يتزوَّجَ كلٌّ من رجلينِ أُمَّ الآخرِ، وتلد بنتاً، فالمولودتان كلّ واحدة منهما عمَّةُ الآخرى. وصورةُ الجمعِ بين العمَّةِ والخالةِ أن يتزوَّجَ الرجُلُ امرأةً، ويتزوج ابنُه أمَّها، وتلد كل واحدة بنتاً فبنت الابن خالة بنتِ الأب وبنتُ الأب عمَّةُ بنت الابن (¬2). ويحرُمُ الجمع بين كلِّ امرأتين لو كانتْ إحداهما ذكراً، والأخرى أنثى، حرم نكاحه لها لقرابةٍ أو رضاعٍ (¬3). ¬

_ (¬1) (ب، ص): "أو حُرَّة أو أمة" وهو تحريف ظاهر. (¬2) هذه الصور ليست شيئاً زائداً على قوله "يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها" لأن الصورة الأولى هي من الجمع بين المرأة وخالتها. والثانية من الجمع بين المرأة وعمتها. والثالثة منهما باعتبارين. ففي قول الشارح "وبين خالتين .. الخ " مؤاخذة، لأن العطف يقتضي المغايرة. ولو قال بدل ذلك "ومن ذلك الجمع بين خالتين .. الخ" لكان هو الصواب. وهو تَبع في هذا شارح المنتهى. (¬3) هذه القاعدة لا تضيف شيئاً إلا حالهَ واحدة، وهي الجمع بين المرأة وبنتها من نسب أو رضاع. وهي معلومة من تحريم المصاهرة، لأن بنت الزوجة محرمة أبداً. وكذلك أمها. ولا يحرم الجمع بين زوجة رجلٍ وبنته من غيرها.

فمن تزوج نحو أختينِ في عقدٍ) واحدٍ (أو عقدين معاً) أو تزوّج خمساً في نكاحٍ واحدٍ (لم يصح) في الجميع. (وإن جُهِلَ) أسبقُهما فعليه فُرْقتهما بطلاقٍ، فإن لم يطلِّق (فسَخَهما حاكمٌ) دخل بهما، أو بإحداهما، أو لم يدخلِ بواحدةٍ منهما، (و) عليه (لإِحداهما نصفُ مهرِها بقرعةٍ) وإن كان دخل بإحداهما أُقرِع بينَهما. فإن وقعت القرعة لغيرِ المُصَابةِ فلها نصفُ المهرِ، وللمُصَابةِ مهر المثل. (وإن وقعَ العقدُ مُرتَّباً) واحداً بعد واحدٍ وعُلِمَ السابق (صحّ الأول فقط) أي دون الثاني. (ومن مَلَك أختينِ أو نحوَهما) كامرأةٍ وعمتِها أو خالَتِها في عقدٍ واحدٍ (صحَّ) العقد قال في شرح الإِقناع: ولا نعلم خلافاً في ذلكَ. انتهى. وكذا لو اشترى جاريةً ووطئَها حلّ له شراء أختِها وعمَّتِها وخالَتِها، كما يحل له شراءُ المعتدَّةِ من غيرِهِ، والمزوَّجةِ، مع كونهما لا تَحِلاَّن (¬1) له. (وله أن يطأ أيتهما شاء) لأن الأخرى لم تصرْ فراشاً، كما لو كان في ملكه إحداهما وَحْدَها. (وتحرُمُ) عليه (الأخرى) أي التي لم يطأها (حتى يُحَرِّم الموطوءة) منهما (بإخراج عن مِلْكِهِ) ولو ببيعٍ، لحاجةِ التفريق، لأنه يحرُم الجمعُ في النِّكاحِ، ويحرم التفريقُ، فلا بد من تقدّم أحدهما (¬2). وكلام الصحابة والفقهاء بعمومه يقتضي هذا. قاله الشيخ وابن رجب (أو تزويجٍ بعد الاستبراءِ) قال في الإِقناع وشرحه: حتى يعلم بعد البيع ونحوِه أنَّها ليستْ بحامِلٍ. ¬

_ (¬1) (ب، ص، ف): لا يحلاّن. قلت: علامة التأنيث هنا لازمة. (¬2) يعني أن التفريق بين الأختين المملوكتين، بأن يبيع إحداهما ويبقي الأخرى، أو يبيع كلا منهما لمشترٍ، محرم في الأصل، ولكن جاز هنا للحاجة، للفرار من المحظور الآخر.

ولا يكفي استبراؤها بدون زوالِ الملكِ، ولا تحريمها (¬1)، ولا زوالُ مِلكِهِ بدون استبرائِها، ولا كتابتُها، ولا رهنُها، ولا يكفي بيعُها بشرطِ خيارٍ. ومثلُه هِبتُها لمن يمْلِكُ استرجَاعَها منه، كهبتها لولَدِهِ. فلو خالَفَ، ووَطِئَهما واحدةً بعد واحدةٍ، فوطءُ الثانيةِ محرَّمٌ لا حدَّ فيه، ولَزِمَهُ أن يُمْسِكَ عنهما حتى يحرِّم إحداهما ويستبرئها. فإن عادت لِملكِهِ، ولو قبلَ وطء الباقية، لم يُصِبْ واحدةً منهما حتى يحرّم الأخرى. قال ابن نصر الله: هذا إن لم يجبِ استبراءٌ. فإن وَجَبَ لم يلزمْهُ تركُ أختِها فيه (¬2). وهو حسن. انتهى. (ومن وطئ امرأةً بشبهةٍ أو زناً حرُم في زمنِ عدَّتِها نِكاحُ أُخْتِها) وكذا عمتُها وخالتُها (و) كذا يحرم عليه (وطؤُها إن كانت زوجةً أو أمةً) له. (وحرُم) عليه أيضاً (أن يزيدَ على ثلاثٍ غيرها) أي غير الموطوءة بشبهةٍ أو زناً، (بعقدٍ) فإن كان معه ثلاثُ زوجاتٍ لم يحلَّ له أن يتزوَّج رابعةً حتى تنقضي عدة موطوءته بشبهةٍ أو زناً (أو وطءٍ) يعني أنه لو كان معه أربع زوجاتٍ، ووطئَ امرأةً بشبهةٍ أو زناً لم يحلَّ له أن يطأ أكثرَ من ثلاثٍ منهن، حتّى تنقضيَ عدةُ موطوءته بالشبهة أو الزنا، لئلا يجتمع ماؤُه في أكثَرَ من أربعِ نسوةٍ. (وليسَ لحر جمْعُ أكثرَ من أربعٍ) أي يحرم عليه جمعُ أكثرَ من أربعِ زوجاتٍ. وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أريدَ به التخيير بين اثنتين، وثلاثٍ، وأربعٍ، كما قال ¬

_ (¬1) أي ولا يكفي تحريمها بالقول ولو بيمين. (¬2) وذلك كما لو كان حرم الموطوءة بتزويجها، ثم طلّقها الزوج.

[في المحرمات إلى أمد لعارض يزول]

تعالى: {أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثلَاثَ وَرُبَاعَ} ولم يُردْ أنَّ لكلٍّ تسعةَ أجنحةٍ. ولو أراد ذلك لقال: تسعة، ولم يكنْ للتطويل معنى. ومن قال غير ذلك فقد جَهِلَ اللغة العربيّةَ. (ولا لعبدٍ) يعني: وليس لعبد (جَمْعُ أكثرَ من اثنتين) أي من زوجتينِ، وفاقاً للشافعي. (ولمنْ نصفُهُ حرٌّ فأكثرُ جمعُ ثلاثٍ) أيْ ثلاثِ زوجاتٍ. (ومن طلَّقَ واحدةً من نهايةِ جمعِهِ) كالحرِّ يطلّق واحدةً من أربع، والعبدِ يطلِّق واحدةً من اثنتين، والمبعَّضِ يطلِّق واحدةً من ثلاثٍ، (حَرُمَ نكاحُه بَدَلَها حتى تنقضي عدَّتُها) نصّ عليه. لأن المعتدّة في حكم الزَّوجَةِ، لأنَّ العدّةَ أثرٌ لِلنكاحِ، وهو باقٍ، فلو جازَ له أن يتزوّج غيرها لكان جامعاً بين أكثرَ مما يُباحُ له. (وإن ماتتْ) واحدةٌ من نهايةِ جمعِهِ (فلا) أي فلا يحرُم عليهِ أن يتزوَّج بَدَلَها في الحالِ. فلو قال: أخبرتْني بانقضاءِ عدَّتها في مدةٍ يمكن انقضاؤُها فيه، فكذَّبتْهُ، لم يقبلْ قولُها عليه في عدم جوازِ نكاحِ غيرِها، فله نكاحُ أختِها وبدلِها في الظاهر (¬1)، ولا تسقُط الكِسْوةُ والنفقةُ عنه بدعواه إخبارَها بانقضاءِ عدّتها مع إنكارها. فصل [في المحرمات إلى أمدٍ لعارضٍ يزول] (وتحرم الزانيةُ على الزاني وغيرِهِ حتّى تتوب) بأن تراوَدَ على الزِّنا ¬

_ (¬1) أي في حكم القضاء. أما في الباطن، أي في ما بينه وبين الله تعالى، فإن كان مصدّقا لها في قلبه حرم عليه نكاح أختها وبدلها.

فتمتنعَ (وتنقضيَ عدتُها) (¬1) فإنْ كانت حاملاً من الزِّنا لم يحلَّ نكاحُها قبل الوَضْعِ، فإذا تابتْ وانقضتْ عدّتُها حلَّ نكاحها للزاني وغيره. (وتحرم) أيضاً على الرجلِ (مطلّقتُه ثلاثاً حتى يَنْكِحُ زوجاً غيرَه) وتنقضيَ عدّتُها من الزوجِ الذي نكحَتْهُ. (و) تحرُم (المُحْرِمَةُ حتى تحلّ من إحرامها) لما روى عثمان بن عفانَ رضيَ اللهُ تعالى عنْهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْكِحَ المحرِم، ولا يُنْكِحُ، ولا يَخْطُب" رواه الجماعةُ إلا البخارىِّ. (و) تحرُم (المسلمةُ على الكافِرِ) حتى يسلم، لقوله تعالى: {ولاَ تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}، وقولهِ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَ إلَى الكُفّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لهمْ وَلَا هُمْ يحِلّونَ لَهُنَّ}. (و) تحرُمُ (الكافرةُ غير الكِتابِيّةِ على المسلم) ولو عبداً، فإن قيل: قوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} عامٌّ، فيقتضي التحريمَ مطلقاً؟ قلنا: يتخصّص بقوله تعالى {والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم}. (ولا يحلُّ لحرٍّ) مسلمٍ ولو خصيًّا أو مجبوباً (كاملِ الحريةِ نكاحُ أمةٍ) مسلمةٍ، (ولو) كانتِ الأمَةُ (مبعَّضةً إلا إنْ عَدِمَ الطَوْلَ) أي المهر، أي كانَ لا يجد طولاً لنِكاحِ حرّةٍ ولو كانت كِتابيّةً، بأن لا يكون معه مالٌ حاضر يكفي لنكاحها، ولا يقدِرُ على ثمنِ أَمَةٍ ولو كتابيّةٍ، فتحلُّ له إذَنْ (وَخَافَ العَنَتَ) أي عنَتَ العزوبةِ، إما لحاجةِ متعةٍ، وإما لحاجةِ خِدْمةٍ، لكبرٍ أو سُقْمٍ، ونحوهما، نصًّا. والصبرُ عن نكاحِ الأمَةِ خيرٌ وأفضل. (ولا يكونُ ولدُ الأمة) الذي ليس بذي رحمٍ محرمٍ من مالِكِها (حرًّا ¬

_ (¬1) وهي عندهم كعدّة المطلقة.

إلاَّ باشتراطِ الحرّية) من الزوج على مالِكِها، حريةَ ولدِها، لقول عمر رضي الله عنه: "مَقَاطِعُ الحقوقِ عندَ الشُّروطِ" (¬1) ولأن هذا لا يمنع المقصودَ من النكاحِ، فكانَ لازماً، كشرْط سيدِها زيادةً في مهرها، (أو الغرورِ) للزوج (¬2). (وإن مَلَكَ أحدُ الزوجَيْنِ) الزوجَ (الآخرَ) بشراءٍ أو هبةٍ أو إرثٍ أو نحوِ ذلك، أو مَلَكَ ولدُ أحدِ الزوجين الحرُّ الزوجَ الآخر، (أو) ملك (بعضَهُ) أي بعضَ الزوجِ الآخر، (انفسَخَ) النكاحُ، قال في الفروع: وإن ملكَ أحد الزوجينِ، -وعلى الأصح: أو ولدُه الحرُّ، وفي الأصَحّ: أو مكاتَبة- الزوجَ الآخرَ أو بعضَه انفسَخَ النكاحُ. فلو بعثت إليه زوجَتُهُ "حرُمْتُ عليكَ، ونكحتُ غيرَكَ، وعليكَ نفقتي، ونفقَةُ زوجِي" فقد مَلَكتْ زوجَها، وتزوجَتْ ابنَ عمِها (¬3). انتهى. (ومن جمع في عقدٍ) واحدٍ (بين مباحةٍ ومحرَّمةٍ) كأيِّمٍ ومزوّجةٍ (صحّ في المباحَةِ) (¬4) وهي الأيّم في المثال، وبطل في المزوَّجةِ. وفارق العقدَ على الأختينِ لأنّه لا مزيّةَ لِإحداهما على الأُخْرى، وهاهنا قد تعيّنت التي بطل النكاحُ فيها. ¬

_ (¬1) قول عمر "مقاطع الحقوق عند الشروط" حديث صحيح، رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وسعيد بن منصور ولفظه عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت مع عمر حيث تمسّ ركبتي ركبته، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، تزوجت هذه، وشرطتُ لها دارها، وإن أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت. فقال عمر: "المؤمنون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم" (الإِرواء حٍ 1893) (¬2) الغرور: أن يُغَرَّ الزوج فيوهَمَ بأنها حُرَّة، فإذا هي أمة. فيكون ولدها منه حرًّا. ويفديه بقيمته يوم ولادته ويرجع به وبالمهر على من غره منها. (شرح المنتهى 3/ 44) (¬3) هذه من مسائل المعاياة. ومعنى قولها له "عليك نفقتي ونفقة زوجي" أنها بعد أن ملكت زوجها العبد وانفسخ نكاحها واعتدت تزوجت غيره، وكلفته أن يعمل ويؤدِّي إليها ما تنفقه على نفسها وعلى زوجها. (¬4) وإن جمع في عقد واحد بين أمٍّ وابنتها صحّ في البنت، وبطل في الأم.

وللّتي صحّ نكاحُها من المسمّى لها بِقِسْطِ مهر مثلِهَا منه. (ومن حرُم نكاحها) كالمجوسيّة والوثنيّة والدُّرْزية ونحو ذلك (حَرُم وطؤُها بالملْكِ) لأنّ النكاحَ إذا حرُم لكونِهِ طريقاً إلى الوطءِ فلْيَحْرُمِ الوطءُ نفسه بالطريقِ الأولى (إلاَّ الأَمَةَ الكتابيَّةَ) إذا حرُم لدخولها في عموم قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} ولأنّ نكاحَ الإِماء مِن أهلِ الكِتاب إنما حَرُمَ من أجلِ إرقاقِ الولدِ وإبقائِه مع كافرةٍ، وهذا معدوم في وطئِهِنَّ بملكِ اليمين. تتمة: لا يصحُّ نكاحُ خنثى مشكلٍ حتى يتبيّن أمره.

باب الشروط في النكاح

باب الشرُوط في النّكاح والمراد بالشروطِ في النكاحِ ما يشترطُه أحدُ الزوجينِ على الآخَرِ مما لَهُ فيه غرضٌ صحيح، وليس بمنافٍ لمقتضى النكاح. ومحلُّ الصحيحِ منها صُلْبُ العقد. المنقح (¬1). وكذا لو اتفقا عليه قبله (¬2). (وهي) أي الشروطُ في النكاح (قسمان): أحدهما: (صحيحٌ لازمٌ للزوجِ، ليس له فكُّهُ) أي فكُّ ما اشترطَتْ عليهِ زوجتُه من الشروطِ الصحيحةِ بدون إبانتها. ويسن وفاءُ الزوجِ بالشرط. قال في الإِنصاف: وهو ظاهر كلامِ أحمد في رواية عبدِ الله. ومال الشيخ تقي الدين إلى وجوب الوفاء. ومن أمثلة الشرط الصحيح قوله (كزيادة مهرٍ) يعني كاشتراطِها على الزوج زيادةَ قدرٍ معيّنٍ على مهرِها، (أو) اشتراطِ كون مهرِها من (نقدٍ معيّنٍ) فيتعيّن، كالثمن في البيع، (أو) اشترطت عليه أن (لا يخرجَها من دارِها، أو بلدها، أو لا يتزوجَ عليها،) أو لا يتسرّى، (أو لا يفرِّق بينها وبين أبويْها، أو) لا يفرق بينها وبين (أولادها) وفي المستوعِب: (أو أنْ تُرْضِع ولدَها الصغير، أو يطلق ضرَّتَها) (¬3) أو يبيعَ أمَتَهُ، لأنّ لها في ذلك قصداً ¬

_ (¬1) المنقّح: صاحب "تنقيح الإِرادات" وهو المرداوي صاحب "الإِنصاف". (¬2) أما بعده فلا يلزم. (¬3) الصحيح أن اشتراط طلاق ضرتها لا يلزم، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تشترط المرأة طلاق أختها =

صحيحاً، كما لو شرطتْ أن لا يتزوَّج عليها. وفي القاعدة الموفية للسبعين لابن رجب: لو شرطتْ عليه نفقةَ ولدها أو كسوتَه، صحّ، وكانت من المهر، انتهى. قال ابن نصر الله: وظاهرُه أنه لا يشترط مع ذلك تعيينُ مدّةٍ كنفقةِ الزوجة وكِسْوتها، فإنه ذَكرَها بعدها. انتهى كلام ابن نصر اللُه. (فمتى لم يفِ) للزوجةِ (بما شُرِطَ) عليه (كان لها الفسخُ) لأنّه شرطٌ لازِم في عقدٍ، فيثبُتُ حقُّ الفسخِ بترك الوفاءِ، كالرَّهنِ والضمينِ في البيع (على التراخي) لأنه خيارٌ ثبتَ لدفع الضررِ، فكان على التراخي، تحصيلاً لمقصودها، كخيار القصاص. تنبيه: إنما يثبتُ الخيارُ لها بفعلِ ما اشترطتْ عليهِ أن لا يفعلَهُ، لا عزمِهِ على فعلِهِ، خلافاً للقاضي. (ولا يَسْقُط) ملكها الفسخَ بعدم وفائِهِ بما اشترطتْه (إلاَّ بما يدلُّ على رضاها، من قولٍ أو تمكينٍ) أي بأنْ تمكنه من نفسِها (مع العلم) أي مع علمِها بعدمِ وفائِهِ لها بما اشترطتْ عليهِ، لا إن لم تعلم، لأن الاختيارَ والاستمتاعَ والتمكينَ منه قبل العلم بعدم وفائه لا أثر له، لأنّ موجِبه لم يثبت، فلا يكونُ له أثر، كالمُسْقِطِ للشفعةِ قبل البيع. ومن شَرَط أن لا يخرجها من منزل أبويها، فمات أحدُهما. بَطَل الشرط. (و) القسم الثاني من الشروط في النكاح: (الفاسدُ)، وهو (نوعان): (نوع) منهما (يُبْطِلُ النكاحَ) من أصلِهِ، (وهو) أي النوع الذي يبطل النكاح من أصلِهِ أحدُ ثلاثةِ أشياءَ: نكاحُ الشِّغارِ. مثاله (إن يزوّجه) ¬

_ = متفق عليه. (منار السبيل).

أي يزوّج رجلٌ رجلاً (مَوْليَّتهُ بشرط أن يزوِّجَهُ الآخر موليَّتَهُ ولا مهرَ بينهما.) قيل: إنما سمّي هذا النِّكاحُ شغاراً تشبيهاً في القُبْحِ بِرفْع الكلب رجلَه ليبولَ. يقال: شَغَر الكلبُ إذا رَفَع رجلَه ليبول. ولا تختلف الرواية عن أحمد أن نكاحَ الشّغارِ فاسد. رواه عنه جماعة؛ (أو يجعلَ بُضْعَ كلِّ واحدةٍ منهما مع دراهمَ معلومةٍ مهراً للأخرى) قال في الإِنصاف: لو جَعَلَ بُضْعَ كلَّ وحدةٍ ودراهمَ معلومةً مهراً للأخرى، لم يصح، على الصحيح. وقيل يبطلُ الشرطُ وحدَه. انتهى. فإن سمّوْا مهراً مستقلاً، غير قليلٍ (¬1)، ولا حيلةَ، صحّ النكاح. وإن سمّوا لإِحداهما صحَّ نكاحُها فقط. الثاني: من الثلاثة أشياء المبطلةِ للنكاح: نكاح المحلِّل، وهو ما أشار إليه بقوله: (أو يتزوجَها) أي المطلقةَ ثلاثاً (بشرطِ أنه إذا أحلَّها طلَّقها) أو: إذا أحلَّها فلا نكاحَ بينَهما. وهذا باطلٌ حرامٌ في قولِ عامّةِ أهلِ العلم. منهم الحسنُ، والنخَعيّ، وقتادةُ، ومالكٌ، والليثُ، والثوريُّ، وابنُ المبارك، والشافعيّ (¬2) (أو ينويَه) أي ينوي الزوجُ التحليل (بقلبِهِ) ولم يذكرْه في العقدِ. يعني أنه متى نوى الزوجُ التحليلَ من غيرِ شرطٍ في العقدِ فالنكاحُ باطِل أيضاً على الأصحّ. قال إسماعيل بن سعيد (¬3): سألت أحمد عن الرجلِ يتزوجُ المرأةَ، وفي نفسِهِ أن يحلّلها ¬

_ (¬1) عبارة "غير قليل" ثابتة في (ف) وشرح المنتهى، وساقطة من (ب، ص). (¬2) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعنَ الله المحلِّل والمحَلَّل له" رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والخلاف في هذه المسألة محكيّ عن أبي حنيفة، فعنه ان النكاح صحيح ويبطل الشرط (المغني 6/ 646) (¬3) في (ف): إسماعيل بن سعْد. والذي في المطبوعين، أصح، كما في المغني (647/ 6).

لزوجِها الأوّل، ولم تَعْلمِ المرأةُ بذلك؟ قال: هو محلِّلُ، إذا أراد بذلكَ الإِحْلالَ فهو ملعون (¬1). قال ابن مسعود: المحلِّل والمحلَّلُ له ملعونَانِ على لسان محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (أو يتفقَا عليه) أي على أنّه نكاحُ محلِّل (قبلَ العقد) ولم يُذْكَرْ حالَ العقد. ومحلُّ ذلك إن لم يرْجِعْ عن هذا الاتفاقِ على أنه محلِّل حينَ العقد. فإن رجَع عن ذلك ونَوَى عند العقد أنه نكاحُ رَغْبَةٍ، صحّ العقد، لأنه خلاَ عن نيّةِ التَّحْليل وشرطِهِ، فصحّ، كما لو لم يتفقا عليه قبله. الثالث من الثلاثةِ أشياءَ المبطلةِ للنكاح: المُتْعَةُ، وهو ما أشار إليه بقوله (أو يتزوجها) أي يتزوجِ الرجُلُ المرأةَ (إلى مدةٍ، أو) يتزوجها و (يشرُطَ طلاقَها في العقدِ) متعلق بشرط (بوقتِ كَذَا) كزوجتُك بنتي شهراً، أو: سنةً، أو: إلى انقضاءِ الموسِمِ، أو: إلى قدومِ الحاج، أو: إلى قدوم زيدٍ، فإن النكاحَ في هذه الصُّوَرِ باطل؛ (أو ينويَهُ) أي ينوي الزوجُ طلَاقَها في وقتٍ (¬3) (بقلبِهِ، أو يتزوجِ الغريبُ بنيَّةِ طلاقِها إذا خَرَجَ،) قال في الإِنصاف: لو نوى بقلبه فهو كما لو شرطه على الصحيح من المذهب، نص عليه. وعليه الأصحاب (¬4) (أو يعلق نكاحها) على ¬

_ (¬1) وفي قول القاضي: نية التحليل من غير شرط لا تبطل النكاح، لأن العقد خلا عن شرط يفسده، فأشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإِحلال. وهو قول أبي حنيفة والشافعي (المغني 6/ 647) (¬2) قول ابن مسعود "المحلّل والمحلّل له ملعونان ... " رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وهو عندهم بلفظ "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له". (¬3) "في وقت" متعلق بـ (طلاقها)، أي: أن ينوي الزوج عند العقد أنه يطلقها في وقت لاحقٍ. أما لو لم ينو ذلك عند العقد، بل حصلت النية في نفسه بعد العقد فلا يبطل النكاح ولا تطلق، إلاَّ بأن يلفظ بالطلاق كما هو معلوم في (باب الطلاق). (¬4) لكن قال الموفق: إن تزوجها بغير شرط إلا أن في نية طلاقها بعد شهر، أو إذا أنقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي. والصحيح أنه لا بأس به ولا تضر نيته. اهـ.

شرط مستقبل (¬1) غيرِ، زوّجتُ، وقبلتُ إن شاء الله (كـ) قوله: (زوَّجتُكَ إذا جاءَ رأسُ الشّهر، أو: إن رَضِيتْ أمُّها، أو: إن وضعتْ زوجتي ابنةً فقد زوَّجْتُكَها) فهذا كلّه باطلٌ من أصله، لأنة عقدُ معاوَضَةٍ، فلا يصحُّ تعليقُه على شرطٍ مستقْبَلٍ، كالبيع، ولأنّ ذلكَ وقفٌ للنكاح على شَرْطٍ، وهو لا يجوز. ويصحُّ تعليق النكاحِ على ماضٍ وحاضرٍ، كإنْ كانتْ بنتي وكنتُ وليَّها أو انقضَتْ عدَّتُها. والزوجُ والزوجةُ يعلمَانِ أنها بنتُه وأنه وليُّها وأنَّ عدَّتَها انقضَتْ، أو: زوَّجْتُكها إن شئتَ، فقال: شئتُ، وقبلتُ، ونحوه. النوع (الثاني) من الشروط الفاسدة (¬2): وهو ما يصحّ مَعهُ النكاحُ و (لا يُبْطِلُه، كأن يَشْرُطَ أن لا مهر لها، أو لا نفقةَ) لها، (أو أن يَقْسِم لها أكثر من ضرّتها، أو) أن يقسِم لها (أقلَّ) من ضرّتها، أو أنْ يشتَرِطا عَدَمَ الوطءِ، أو أن يشترطَ أحدُهما عدم الوطء (¬3)، أو نحو ذلك، (أو إن فارقَها رجعَ عليها بما أنفقَ) أو [شَرَطَ] خياراً في عقدٍ، أو خياراً في مهرٍ (¬4)، أو إن جاءها بالمهرِ في وقتِ كذا وإلاَّ فلا نِكاحَ بينهما، أو شرطتْ عليه أن يسافرَ بها، ولو إلى بلدٍ معيّن، أو أن تستدْعيَه للجماعِ عند إرادتِها أو أن لا تسلَّم نفسَها إلى مُدَّةِ كذَا ونحوه (فيصحّ النكاحُ، دونَ الشرطِ.) ومن طلَّق بشرطِ خيارٍ وَقَعَ طلاقُه. ¬

_ (¬1) كلمة "مستقبل" ساقطة من (ب، ص) وثابتة في (ف) وشرح المنتهى. (¬2) تقدم مقابله وهو النوع الأول في ص 168). (¬3) (ب، ص): "أو أن يشترطا أو أحدُهما عدم الوطء" وفيها تكرار لا معنى له. فأثبتنا الصواب كما في (ف). (¬4) وفي قول يصح النكاح ويثبت الخيار في الصداق، لأنه عقد منفرد يجري مجرى الأثمان فيثبت فيه الخيار كالبياعات (مغني 6/ 552)

فصل

فصل (وإن شرطها) أي شَرَطَ الزوج الزوجةَ (مسلمةَ) أو قال الوليُّ للزوج: زوجتك هذه المسلمةَ أو ظنَّها الزوجُ مسلمةً ولم تُعْرَف بتقدُّمِ كفرٍ (فبانَتْ كتابيةً، أو شَرَطَها) الزوجُ (بكراً أو جميلةً أو نسيبةً) أي ذاتَ نسبٍ (أو شَرَطَ) الزوجُ في العقدِ (نفيَ عيبٍ) في الزوجةِ لا يُفْسَخُ به النكاحُ كما لو شرطَها سميعةً أو بصيرةً أو طويلةً أو بيضاءَ (فبانَتْ بخلافه فله) أي فللزوجِ (الخيارُ) في الأصحِّ، لأنه شرطَ صفةً مقصودةً فبانتْ بخلافها، فثَبَت له الخيارُ، أشْبَهَ ما لو شَرَطَها حُرَّةً فبانتْ أمةً. وكذا لو شَرَطَها حسْنَاءَ فبانتْ شوهاءَ. ولا يصحُّ فسخٌ في خيارِ الشرطِ (¬1) إلا بحكمِ الحاكِمِ. و (لا) يملكُ الزوجُ الفسخَ (إن شرَطَها أدْنى فبانَتْ أعلى) كما إذا اشترطَها كتابيةً، أو أمةً، فبانَت مسلمةً، أو بانتْ حرَّةً، أو ثيباً فبانَتْ بكراً. (ومن تزوجت رجلاً على أنه حرٌّ) أو تظنه حرًّا (فبان عبداً فلها الخيارُ) إن صحَّ النكاحُ بأنْ كَمُلتْ شروطُه، وكان بإذنِ سيِّدِهِ. وإنْ كانتِ المرأةُ حرَّةً وقلنا: الكفاءَةُ شرطٌ للُّزوم، لا للصحّةِ، فإن اختارَتْ الحرَّةُ الإِمضاءَ فلأوليائِها الأعتراضُ عليها لَعدمِ الكفاءَة، وإن كانتْ أمةً فينبغي أن يكون لها الخيارُ أيضاً، لأنه لما ثبتَ الخيارُ للعبدِ إذا غُرَّ بأمةٍ ثبَتَ للأمة إذا غُرَّتْ بعبدٍ. (وإن شرطتِ) الزوجةُ (فيهِ) أي الزوجِ (صفةً) ككونهِ نسيباً، أو عفيفاً، أو جميلاً، أو نحوَهُ (فبانَ أقلَّ) مما شرطتْهُ (فلا فسخَ لَها) لأنَّ ¬

_ (¬1) (ب، ص): "فسخ خيار الشرط" بإسقاط "في "وهي ثابتة في (ف).

ذلكَ ليس بمعتبرٍ في صحَّةِ النكاحِ، أشْبَهَ ما لو شرطَتْهُ طويلاً أو قصيراً (¬1). (وتملك الفسخَ منْ) أي أمةٌ أو مُبَضَّعة (عتقتْ كلُّها تحت رقيقٍ كلِّه، بغيرِ حكمِ حاكمٍ) بلا نزاعٍ في المذهب. فإن لم تَعْتِقْ كلُّها تحتَ رقيقٍ كلِّهِ فلا فسخَ. وكذلك إذا عتقَا معاً، فتقول: فسختُ نكاحي، أو: اخترتُ نفسي. (فإنْ مكَنَتْهُ) أي مكَنَتْ المعتَقَةُ زوجَها العبدَ (مِن وَطْئِها أو مباشَرَتِهَا أو) مكَّنَتْه مِنْ (قُبْلتها، ولو جهلَتْ عِتْقَها، أو) جَهِلَتْ (مِلْكَ الفسخِ بَطَلَ خِيَارُها) (¬2) ويجوزُ للزوجِ وطؤُها بعد عتْقِها، مع عدم علْمِها بالعتق. ولَبنتِ تسعٍ أو دونَها إذا بلغتْها تامَّةً، والمجنونةِ إذا عقَلَتْ، الخيارُ حينئِذٍ دونَ ولَيٍّ. ¬

_ (¬1) في هذا التعليل نظرٌ. إذ كيف يثبت الخيار به للرجل إذا شرط مثل ذلك ولا يثبت للمرأة؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "إن أحقَّ الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" والرجل يملك الطلاق إذا لم يرض بها، وهي لا تملك الطلاق، فلو قيل بثبوت الخيار في جانبها، وعدم ثبوته في جانب الرجل لكان له وجه. (¬2) وفي قول آخر في المذهب، وهو أحد قولين للشافعي أيضاً: لها الخيار ما لم تعلم، فإن جهلت العتق، أو جهلت أنَّ لها الخيار، فلها الخيار حين تعلم.

باب (حكم العيوب في النكاح)

باب (حكم العيُوب في النّكاح) (وأقسامها) أي أقسام العيوبِ (المثبِتةُ للخيارِ ثلاثةٌ): منها (قسمٌ يختصُّ بالرجل،) ومنها قسمٌ يختصّ بالمرأة، ومنها قسمٌ مشتَركٌ بين الرّجلِ والمرأة. ويروى ثبوتُ الخيارِ لكلٍّ من الزوجينِ إذا وجدَ بالآخَر عيباً في الجملة عن عمرَ بن الخطابِ، وابنهِ عبد اللهِ، وعبد اللهِ بن عباسٍ. وبه قال جابرُ بنُ زيدٍ (¬1) والشافعيُّ وإسحاق. (وهو) أي القسم المختصُّ بالرَّجلِ ثلاثةُ أشياءَ: أحدُها: (كونُهُ) أي كونُ الرجلِ (قد قُطِعَ ذكَرُهُ) كلُّه أو بعضُه، ولم يبقَ منْهُ ما يمكن به جماعٌ، ومتى ما ادَّعى الزوجُ إمكان الجماعِ بما بقي من ذكرِهِ، وأنكرَتِ المرأةُ فإنه يقبل قولُها في عدم إمكانه. الثاني: أشار إليه بقوله: (أو) قُطِعَتْ (خُصْيَتَاهُ) أو رُضَّتْ بيضتاهُ أو سُلَّتَا، (أو) وجَدت زوجَها (أشلّ (¬2) فلها الفسخ في الحال.) ¬

_ (¬1) في المغني "جابر" دون أن يقيّده بابن زيد وهو عند الإطلاق ينصرف إلى جابر بن عبد الله الصحابي، دون جابر بن زيد أبي الشعثاء من التابعين. فليحرَّر. (¬2) ليس ذكر الشلل في شرح المنتهى. ولم يذكروا في العيوب المجوزة للفسخ -وهي محصورة عندهم- شلل الرجل. ولعلّ مراده شَلَلَ الذكر. فيكون قد جعله مثل الجَبِّ، فأثبت الخيار به في الحال، بخلاف العنّة كما يأتي.

الثالث: ما أشار إليه بقوله: (وإن كان عِنِّيناً) لا يمكنه الوطءُ، ولو لِكَبرٍ، أو مرَضٍ (¬1) -والعنِّينُ هو العاجزُ عن إيلاجِ ذكرهِ في الفرْجِ، مأخوذٌ مِنْ عَنَّ يَعِنُّ إذا اعتَرَضَ، لأنَّ ذكرَهُ يعَنُّ إذا أرادَ أن يولِجَهُ، أي يَعْتَرِضُ- ويكونُ ثبوتُ العنَّةِ (بإقرارِهِ أو بَيِّنةٍ أو) عُدِمَ الإقْرارُ والبيّنَةُ فـ (طَلَبَتْ يمينَهُ فَنكلَ) عن اليمينِ (ولم يدَّعِ وطأً) سابقاً على دعواها (أُجِّلَ سنةً هلاليَّةً منذ تُرَافِعُهُ إلى الحاكِمِ (¬2)،) لأنَّ هذا العجْزَ قد يكونُ لِعُنَّةٍ وقد يكون لمرضٍ (¬3)، فضُرِبَ له سنَّةٌ لتمرَّ به الفصولُ الأربعة؛ فإن كان من يبَسٍ زالَ في فصل الرطوبة، وإن كان من رطوبةٍ زالَ في فصل اليَبَسِ؛ وإن كان من بُرودةٍ زال في فصل الحرارة، وإن كان من احتراقِ مزاجٍ زال في فصلِ الاعتدال. (فإن مضتِ) الفصولُ الأربعةُ (ولم يطأهَا فلها الفسخُ) أي فسخُ نكاحِها منه. وإن قال: وطئتُها، وأنكرتْ، وهي ثيّبٌ، فقولُها، إن كان دعواهُ وطْأَها بعدَ ثبوتِ عُنَّتِهِ وتأجيلِهِ. وإن كانتْ بكراً، وثبتَتْ عُنَّتُهُ وبكارتُها، أُجِّل سنةً، وعليهَا اليمينُ إن قال: أزَلتُها وعادتْ. القسم الثاني من العيوبِ المثبتة للخيارِ ما أشار إليه بقوله: (وقسم يختصُّ بالأنثى، وهو) شيئان: أحدهما: (كونُ فَرجِها مسدوداً لا يسلُكُه ذكر)، فإن كانَ بأصلِ الخلقة فرتْقَاءُ، بالمد، وهو تلاحُمُ الشَّفْريْنِ، وإن لم يكنْ بأصلِ الخلقة فقرْناءُ أو عَفْلَاءُ. والقَرَنُ لحمٌ زائد يسدُّ الفرْجَ، والعَفَلُ وَرَمٌ يكونُ في اللَّحْمَةِ التي بين مسلَكَي المرأة، فيضيقُ فرجها فلا يسلك فيه الذكر. الشيء الثاني: من القسم المختص بالمرأة: ما أشار إليه بقوله: ¬

_ (¬1) أي مرض لا يرجى برؤه، كما في ش المنتهى. أما لمرضٍ عارضٍ فليس بعنّين. (¬2) روي تأجيل العنينِ سنة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود والمغيرة بن شعبة. (¬3) أي لمرضٍ عارضٍ.

(أوْ بِهِ) أي الفرج (بَخَرٌ) وهو نَتَنٌ في الفرْجِ يثورُ عند الوطء، (أو) بالفرج (قروحٌ سَيَّالةٌ، أو كونُها فَتْقَاءَ بانخراق ما بين سبيليها) أو ما بين مخرجِ بولٍ ومنيّ، (أو كونها مستحاضَةً) في الأصح. القسم الثالث من العيوب المثبتة للخيار في النكاح: ما أشار إليه بقوله: (وقسمٌ مشتَرَكٌ) يعني بين الرجال والنساءِ (وهو الجنونُ ولو أحياناً) يعني ولو كان يُخْنَقُ في الأحيان، (والجُذَامُ، والبَرَصُ، وبَخَرُ الفَم) وهو نَتْنُهُ. قال في الفروع: قال بعض أصحابنا: يستعمل للبَخَرِ السِّواك، ويأخُذُ في كل يومٍ ورقة آسٍ، مع زبيبٍ منزوعِ العَجَم بقدْر الجَوْزَة. واستعمالُ الكَرْفَسِ ومضغُ النَّعنَاعِ جيّدٌ فيه. وإمساكُ الذَّهَب في الفم يُزِيلُ البَخَر. (والباسُور، والناصُور) وهما داءان في المقعدة. فالباسور منه ما هو ناتئٌ كالعَدَسِ، أو كالحمّص أو كالعنب، أو كالتُّوت. ومنه ما هو داخلَ المقعدةِ، وينقسم كل من ذلك إلى ما يسيلُ وإلى ما لا يسيل. والناصور قروحٌ غائِرةٌ تحدث في المقعدة، يسيل منها صديد. (واستطلاق البولِ أو) استطلاق (الغائط). (فيفسخ بكل عيبٍ تقدَّم) سواءٌ كان مختصاً أو مشتركاً (لا بغيرِهِ) أي غيرِ ما ذُكِرَ (كعرَجٍ، وعوَرٍ، وقطْعِ يدٍ ورجلٍ، وعمًى، وخَرَسٍ، أو طَرَشٍ،) وقُراعٍ لا ريحَ له، وكونُ أحدهما عقيماً، أو نحيفاً جداً، أو سميناً جداً، أو كسيحاً، لأن ذلكَ كلَّه لا يمنَعُ الاستمتاع، ولا يخشى تعدّيه. قال دي شرح المقنع: ولا نعلم في هذا خلافاً بين أهلِ العلم، إلا الحسنَ، فإنه قال: إذا وَجَد الآخَرَ عقيماً يخيَّر. وأحبَّ أحمدُ أن يبيِّن أمرَهُ.

فصل

فصل (ولا يثبتُ الخيارُ في عيبِ زالَ بعدَ العقدِ، ولا لعالِمٍ به) أي بالعيب (وقتَ العقدِ). قال في الفرَوع: ومتى زالَ العيبُ فلا فسخَ. وكذا إن عَلِم حالَ العقدِ. (والفسخُ على التراخي) لأنه خيارٌ ثبَتَ لدفعِ ضررٍ متحقّق، فكان على التراخي، كخيارِ القصاص. (لا يسقطُ في العنَّةِ إلا بقولها): أسقطتُ حقّي من الخيارِ بعنَّتِهِ، أو: (رضيتُ) به عنّيناً، (أو باعترافِهَا بوطْئِهِ في قبُلُها) لا بتمكينها من الوطء، لأنه واجب عليها لتعلمَ أزالَتْ عنُّته أمْ لا. (ويسقطُ) خيارُ من له الخيار (في غير العنَّةِ) كخيار شرطٍ وخيار عيبٍ (بالقولِ)، كقوله: أسقطْتُ الفسخَ، (و) يسقط (بما يدلُّ على الرِّضا منَ وطءٍ) إذا كان الخيارُ للزوجِ لأنّه يدل على رغبته فيها، (أو تمكينٍ) من وطءٍ إن كان الخيار لها، لأنَّه دليل على رغبتها فيه (مع العلم) بالعيبِ. (ولا يصحُّ الفسخ هنا) أي في خيارِ العيبِ (وفي خيارِ الشرطِ بلا حكم حاكمٍ)، فيفسخه الحاكم (¬1) أو يرده إلى من له الخيارُ فيفسخه. ويصحُّ في غيبةِ زوجٍ. والأوْلى مع حضورِهِ. والفسخُ لا ينقصُ عدد الطلاق. وله رجْعتُها بنكاحٍ جديدٍ. ويكون عقدُه على طلاقٍ ثلاثٍ حيث لم يسبق له طلاقٌ. وكذا الفسخُ للِإعسارِ، وفسخُ الحاكم على المُؤْلي، ونحوهما. ¬

_ (¬1) أي لأنه فسخ مجتهد فيه، بخلاف خيار المعتقة، تحت عبدٍ مثلاً، فإنه متفق عليه، فلا يفتقر إلى حكم حاكم به.

(فإن فُسِخَ) النكاحُ (قبل الدخول فلا مهرَ) عليه، سواءٌ كانَ الفسخُ من الرَّجُلِ، أو من المرأةِ لأنّ الفسخَ إذا كانَ منها فالفرقة من جهتها، فيسقُطُ مهرُها، كما لو فسخَتْ نكاحها برضاعِ زوجةٍ له أخرى. وإن كان منْه فإنما فسخ بعيبٍ بها دلَّسَتْهُ بالإِخفاءِ، فصارَ الفسْخُ كأنّه منها. فإن قيل: فهلا جعلتمْ فسخَها لعُنَّتِهِ كأنّه منه، لحصولهِ بتدليسِهِ؟ قلنا: العوضُ من الزوجِ في مقابَلةِ منافِعِها، فإذا اختارت فسخَ العقدِ مع سلامةِ ما عُقِد عليه، رجَعَ العِوَضُ إلى العاقِدِ مَعَها، وليس من جهتها عوضٌ في مقابَلَةِ منافعِ الزوج. وإنما ثبت لها الخيارُ لأجْلِ ضررٍ يلحقها، لا لتعذُّر ما استحقَّتْ عليهِ في مقابَلَتِهِ عوضاً، فافترقا. (وبعدَ الدُّخولِ أو الخلوةِ يستقرّ المسمَّى) في العقدِ، كما لو طرأ العيبُ، لأنَّه يجب بالعقد، ويستقرُّ بالدخول، فلم يسقُطْ بحادثٍ بعده. ولذلك لا يسقط بِرِدَّتِها. (ويرجعُ) الزوجُ (به) أي بنظير المسمَّى الذي وجب عليه (على المُغِرِّ) (¬1) وهو من عَلِمَ بالعيب وكتمَه، من زوجةٍ عاقلةٍ، ووليّ، ووكيلٍ. وذلك لأنه غرَّه في النكاحِ بمَا يُثبِت الخيارَ، فكان المهرُ عليه، كما لو غرَّه بحرّيةِ أمةٍ. وإذا ثبت ذلك فإن كان الوليُّ عَلِمَ غَرِمَ، وإن لم يكنْ علمَ فالتغريرُ من المرأةِ، فيرجع عليها بجميعِ الصداق (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في الأصول وشرح المنتهى، وصوابه "الغار" لأنه يقال "غَرَّه" ولا يقال "أغرّه". وقد يقال أيضاً "غَرَّرَ به" والمصدر "التغرير" وعليه فيجوز أن يقال في الفاعل "المغرِّر". (¬2) وذكر أن في المذهب رواية أخرى: لا رجوع بالمهر بعد الإصابة. وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قوله الجديد. وقال القاضي: إن كان ممن يجوز له أن يراها كالأب والجدّ: يغرم، علم أو لم يعلم، لأن التغرير من جهته. وإن كان لا يجوز أن يراها، كابن العم، ولم ثبت إقراره بالعلم، فالقول قوله. =

ويقبل قول وليٍّ، ولو مَحْرَماً، في عدم علمِهِ به. فلو وُجِدَ [الغرور] من زوجةٍ ووليّ فالضمانُ على الوليّ وَحْدَهُ. (وإن حصلت الفُرْقَةُ من غير فسخٍ، بموتٍ) من أحدهما (أو طلاقٍ، فلا رجوع) به على غارٌّ ولا غيرِه. قال في المنتهى وشرحه: وإن طلَّق المعيبة قبل دخولٍ بها، وقبل علمٍ بالعيب، ثم عَلِمَ بهِ بعد طلاقها، فعليه نصفُ الصداقِ، ولا يرجِعُ به على أحد، لأنه قد رضي بالتزامه بطلاقِهِ، فلم يكن له أن يرجع على أحد، أو ماتَ أحدُهما أي أحدُ الزوجين مع عيبهما، أو عيبِ أحدهما، قبل العلم به، أي بالعيبِ، استقرّ الصداق بالموتِ. وأمَّا الرجوعُ فلا رجوع. (وليسَ لوليّ صغيرٍ) أو صغيرةٍ (أو مجنونٍ) أو مجنونةٍ (أو) سيّدِ (رقيقٍ، تزويجُه بمعيبٍ) عيباً يُرَدُّ به في النكاحِ، لأنه ناظِرٌ لهم بما فيه الحظُّ والمصلَحَةُ. ولاَ حظَّ لهم في هذا العقد. ولا لوليّ حرّةٍ مكلفةٍ تزويجُها بِهِ بلا رِضاها. (فلو فَعَلَ) أي زوَّجها بمعيبِ (لم يصحَّ) النكاحُ (إن علم) أنه معيبٌ، لأنها تملك الفسخَ إذا علمت بعدَ العقدِ، فامتناعُ صِحّتِهِ أولى. (وإلا) أي وإن لم يعلم الوليُّ أنه معيبٌ (صحَّ) العقدُ (ولزمه الفسخُ إذا عَلِمَ). قال في الإِقناع: ويجب عليه الفسخ إذا علم. قاله في المغني والشرح وشرح ابن المَنْجَا والزركشيُّ في شرحِ الوجيز، وغيرُهم خلافاً لما في التنقيح انتهى. قال: وله الفسخ، واللام للإباحة. وتبعه في المنتهى. ¬

_ = وسند ما في المتن والشرح ما روى مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال "أيُّما رجلِ تزوّج بامرأةً بها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها، وذلك غُرْمٌ على وليّها" (المغني 6/ 656)

باب نكاح الكفار

باب نكاح الكُفار هو صحيح، وحكمه كنكاحِ المسلمين فيما يجبُ به من وقوعِ الطلاقِ، والظهار، والإِيلاء، ووجوب المهر، والقَسْم، والإِباحة للزوج الأول، والإِحصان، وتحريمِ المحرمات. (يُقَرُّونَ) أي الكفار (على أنكحةٍ محرّمةٍ) بشرطين: أحدهما: ما أشار إليه بقوله: (ما داموا معتقدين حِلَّها) (¬1) أي إباحتها، لأن ما لا يعتقدون حِلَّه ليس من دينِهِمْ، فلا يُقَرُّونَ عليه، كالزّنا والسرقة. الشرط الثاني: ما أشار إليه بقوله: (ولم يرتفعوا إلينا) لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلنْ يَضُروكَ شيئاً} فيدلُّ هذا على أنَّهم يُخَلَّونَ وأحْكَامَهُمْ إذا لم يجيئوا إلينا. (فإن أتوْنا قبل عقدِهِ عقدنَاهُ على حُكْمِنا) يعني: لم نُمضِهِ إلا على الوجه الصحيح، مثلَ أنكحة المسلمين بالإِيجاب والقبولِ، والوليّ والشهود، لأنه لا حاجة إلى عقدٍ يخالِفُ ذلك. ¬

_ (¬1) وفي قول: لا يقرُّون على نكاح المحارم، فإن عمر كتب "أن فرق بين كل ذوي رحم من المجوس" (منار السبيل).

(وإن أسلم الزوجان) الكافرانِ (معاً) بأن نَطَقَا بالإِسلام دفعةً واحدةً بأن لا يسبِقَ أحدُهُما صاحِبَه فيفسُدَ النكاح، فهما على نكاحهما. (أو أسلمَ زوجُ الكتابيّةِ) سواءٌ كتابياً أو غيرَ كتابيّ (فهما على نكاحِهِمَا،) لأن للمسلم ابتداءَ نكاحِ الكتابية، فاستدامتُه أولى. (وإن أسلمتِ الكتابيّةُ تحت زوجِهِا الكافِر) قبل الدخولِ انفسخَ نكاحُها، سواءٌ كان زوجُها كتابياً أو غيرَ كتابيٍّ.) (أو أسلم أحد الزوجين غير الكتابيَّيْنِ) كالوثنيّين والمجوسيّين، (وكان قبلَ الدخولِ، انفسخَ النكاح) (¬1). أما إذا كانت الزوجةُ هي المسلمةَ، فلقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وأما إذا كان الزوجُ هو المسلمَ، وليسَتِ الزوجةُ كتابيّةً، فلقوله جل من قائل: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ولأنّ اختلافَ الدينِ سببٌ للعداوةِ والبغضاءِ. والمقصود من النكاح الاتفاق والائتلاف. (ولها) أي الزوجةُ (نصفُ المهر إن أسلمَ) الزوجُ (فقطْ) أي وحدَهُ دونَها، لأن الفرقةَ جاءتْ من قِبَلِهِ بإسلامه، فيكون لها نصفُ المهر، كما لو طلَّقها. (أو سبقها) الزوجُ للإسلام، وكذلك إذا أسلما معاً وادَّعَتْ سبْقَهُ، أو قالا: سَبَقَ أحدُنا ولم نعلم عينه، فإنه يكون لها نصف المهر (¬2). (وإن كان) إسلام أَحَدِهِما (بعدَ الدُّخولِ وُقِفَ الأمر إلى انقضاءِ العدَّة) لما روى مالكٌ في موطَّئِه عن ابن شهابٍ، قال: كانَ بينَ إسلام صفوانَ بن أميَّة وامرأتِهِ بنتِ الوليدِ بن المغيرةِ نحوٌ من شَهْرٍ: أسلمتْ يومَ ¬

_ (¬1) إنما ينفسخ نكاحهما إذا كان قبل الدخول بمجرد إسلامه لأنها لا عدة لها حينئذ، بخلاف إسلامه بعد الدخول فيتوقف على انتهاء العدة. (¬2) إنما يعني إذا كان ذلك قبل الدخول.

فصل

الفتحِ، وبقي صفوانُ حتَّى شَهِدَ حُنَيْناً والطائف، وهو كافرٌ، ثم أسلمَ، فلم يفرِّق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما، واستقرّت عندَهُ امرأَتُه بذلك النكاح". (فإن أسْلمَ المتخلِّف) أي المتأخِر عن الإِسلام (قبل انقضائها) أي العدة، (فـ) هما (على نكاحِهِما، وإلا) أي وإن لم يُسلم المتخلِّف قبل انقضاء العدة (تَبَيَّن فسخُهُ) أي فسخ النكاح (منذُ أسْلَمَ الأولُ) من الزوج أو الزوجةِ. (ويجبُ المهرُ بكلِّ حالٍ) لأنه استقر بالدخول، فلم يسقطْ بشيءٍ. فإن كان مسمًّى صحيحاً فهو لها، ثم إن كان محرَّماً وقد قبضته فليس لها غيره، لأَنَّا لا نتعرضُ لما مضى مما تقابضاه، وإن لم تكن قبضتْه فلها مهرُ المثلِ ولا فرق بين كونهِما في دار الإِسلام، أو دار الحرب، أو كان أحدُهما في دار الإِسلام والآخر في دار الحرب. فصل (وإذا أسْلَم الكافرُ وتحتَه أكثر من أربعٍ) من النِّساءِ (فأسلَمْنَ) في عدتهن (أوْ لا) أي أو لم يسلمن (وكنَّ كتابيّاتٍ) لم يكن له إمساكهن كلِّهنْ، بغير خلاف، (اختار منهن أربعاً) ولو من ميِّتاتٍ (¬1)، (إن كان مكَلّفاً، وإلا) أي وإن لم يكن مكلّفاً (فـ) يُوقَفُ الأمر (حتى يكلَّف) سواءٌ تزوّجهن في عقد واحد، أو في عقودٍ، وسواءٌ اختارَ الأوائِلَ أو الأواخر. (فإن لم يختر) من نسائِهِ ما للفسخِ وما للِإمساكِ (أُجْبرَ) على ¬

_ (¬1) أي إنه اذا تأخر اختياره حتى مات بعضهن أو كلهن، فإنه يختار أيضاً أربعاً، فإذا اختار ثبت نكاح من اختارهن، وتبين فراقه لما زاد على أربع منذ أسلم، لان الاعتبار في الاختيار بوقت ثبوته وهو حين إسلامه، إذ لا يصح لمسلم أن يكون في عصمته أكثر من أربع، ولو للحظة.

الاختيار (بحبسٍ، ثم تعزيرٍ) لأنَّ الاختيار حقٌّ عليه، فأُلزِمَ بالخروجِ منه إن امتنع، كسائر الحقوق. (وعليه نفقتهن) أي نفقة جميعِهِنَّ (إلى أنْ يختارَ) لأنَّ نفقةَ زوجاتِهِ واجبة عليهِ، وقبلَ الاختيارِ لم تتعيَّنْ زوجاتُهُ من غيرِهِنَّ بتفريطه، فيلزمه نفقتهنّ جميعاً، لأنه ليست إحداهنَّ أولى بالنفقة من الأخرى. (ويكفىٍ في الاختيارِ) أن يقولَ: (أمسكتُ هؤلاءِ وتركتُ هؤلاءِ) أو اخترت هذه لفسخٍ, أو: إمساكٍ، أو: أبقيتُ هذه وباعدت هذه. (ويحصل الاختيار بالوطء فإن وطئ الكلَّ) قبل التعيينِ بالقولِ (تعيَّنَ الأوَّلُ) أي الموطوءاتُ أوّلاً للِإمساك، وتعيّنتِ الموطوءة بعد أربعٍ، وما بعدها، للترك. (ويحصل) الاختيار (بالطلاقِ) لا بالظهارِ والإِيلاءِ (فمن طلّقها فهي مختارَةٌ) لأن الطلاقَ لا يكونُ إلا في زوجةٍ. (وإن أسلم الحرُّ وتحتَه) زوجات (إماءٌ) أكثرُ من أربعٍ (فأسلَمْنَ) معه، أو كنّ مدخولاً بهنَّ أو خلا بهنّ فأسلمْنَ (في العدّةِ) لأن إسلامهن في العدّةِ كإسلامِهِنَّ مَعَهُ سواءٌ كان إسلامُهُنّ قبله أو بعده، لأن العدةَ حيثُ وجبت لا تُشْتَرَط المعية في الإِسلام (اختارَ ما يُعِفُّه) منهن (إن جازَ له نكاحهن) أي نكاح الإِماء (وقتَ اجتماعِ إسلامِهِ بِإسلامِهِنَّ) بأن كان حيئنذ عادماً للطولِ خائفاً للعَنَت. (وإن لم يجزْ) له نكاحُ واحدةٍ منهن وقت اجتماع إسلامه بإسلامهن (فَسَد نكاحُهُنَّ) لأنهم لو كانوا جميعاً مسلمينَ لم يجز ابتداءُ نكاحُ واحدةٍ منهنَّ فكذلك استدامَتُهُ. (وإن ارتدّ أحدُ الزوجَيْنِ، أو هُمَا) أي الزوجان (معاً، قبل الدخول، انفَسَخَ النكاحُ) في قول عامَّةِ أهلِ العلم لقوله تعالى: {وَلَا

تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وقولهِ تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ولأن الارتدادَ اختلافُ دين وَقَع قبل الإِصابة فوجَبَ فسخُ النِّكاحِ، كما لو أسلمتْ تحتَ كافرِ. (ولها) أي للزوجةِ (نصفُ المهْرِ إن سَبَقَها) زوجُها بالارتدادِ، أو ارتدَّ وحدَهُ، لأن الفُرْقَةَ من قِبَلِ الزوجِ، فَتَنَصَّفَ المهرُ بها، كالطلاق. وعلم منه أنها إن كانت هي السابقةَ بالارتدادِ، أو كانت هي المرتدَّةَ وحدَها، أنها لا مهر لها لأن الفُرقَةَ جاءت من قِبَلِها، فسقط بذلك مهرُها، كما لو ارضَعتْ قبلَ الدخولِ من ينفَسِخُ به نكاحها. (و) إن ارتدّ أحَدَ الزوجين أو هما معاً (بعد الدخول تَقفُ الفُرْقَةُ على انقضاء العدة.) وتسقُط نفقةُ العدّةِ بردتِها وَحْدَهَا.

كتاب الصداق

كتَاب الصَّدَاق هو العِوَض المسمَّى في عقد نكاح وبعده. وللصّداقِ تسعةُ أسماء: الصَّداق، والصَّدُقَة، والمهر، والنِّحْلة، والفَريضة، والأجْر، والعَلاَئِق، والعُقْر، والحِبَاءُ. (تسنَّ تسميته) أي الصداق (في العقد) لأن تسميتهُ أَقطعُ للنزاع فيه. ويستحب تخفيفه، وكونُهُ من أربعمائة درهمِ فضةٍ إِلى خمسِمائة (¬1)، فإن زاد فلا بأس. (ويصحّ بأقلِّ مُتَمَوَّل.) (¬2) وقال في الإِقناع: ويجب أن يكون له نصفٌ يُتَمَوَّل عادةً، ويُبْذَل العِوَضُ في مثله عرفاً. والمراد نصفُ القيمةِ، لا نصف عينِ الصداق، فإنه قد يُصْدِقُها ما لا ينقسم، كعبدٍ. انتهى. (فإن لم يسمِّ) الزوجُ للزوجةِ صداقاً، (أو سمَّى) صداقاً (فاسداً) كخمرٍ وحُرٍّ (صحّ العقد) أي عقد النكاح، (ووجب) لها عليه (مهرُ ¬

_ (¬1) أي لأن صداق بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -كان أربعمئة درهم، وصداق زوجاته خمسمئة. والخمسمئة قريب من كيلوغرام ونصف من الفضة. وليست تسمية الصداق شرطاً لصحة العقد، ولا واجبة فيه. (¬2) بخلاف نحو ثمرة أو فلسٍ فإنه لا يُتَموَّلُ عادة.

المثلِ) بالغاً ما بلغ، لأنّ فساد العوض يقتضي ردّ عِوَضِهِ، وقد تعذر ردّه، لصحة النكاح، فيجبُ رد قيمتِهِ، وهو مهر المثل (¬1). (وإن أصدقها) أي أصْدَقَ رجلٌ امرأتَه (تعليمَ شيء من القرآن) ولو معيّناً (لم يصحّ) وفاقاً لأبي حنيفة، (و) إن أصدق منكوحته (تعليم) شيء (معيّنٍ من فقهٍ أو حديثٍ أو شِعرٍ مباحٍ) أو أدب (أو صَنْعَةٍ) أو كتابَةٍ (صحَّ) ولو لم يعرف العملَ الذي أصدَقَها تعليمَه، لأنه يتعلمه ثم يعلّمها (¬2). وإن تعلمته من غيره لزمته أجرةُ تعليمها، كما لو تعذّر عليه تعليمها. (ويشترط علم الصَّداق. فلو أصدقها داراً) مُطْلَقةً (أو دابةً) مطلقة، (أو ثوباً مطلقاً،) أو عبداً مطلقاً، (أو) أصدقها (ردَّ عبدِها أينَ كانَ، أو) أصدقها (خِدْمَتَها) أي أن يخدمها (مدةً فيما شاءت، أو) أصدقها (ما يُثْمِر شجرُهُ) في هذا العام، أو مطلقاً (أو) أصدقها (حمل أَمَتِهِ) أو ما تحمل (¬3) (أو) أصدقها (حمل دابته) أو ما في بيتِهِ من متاعٍ ولا تعلمه (لم يصح) ما تقدم من التسمية، لأن هذه الأشياءَ مجهولةٌ قدراً وصفةً، والغرر والجهالة في ذلك كثير. ومثل ذلك لا يحتمل، فإن الدار والدابة والثوب ¬

_ (¬1) كالبيع، إذا فسد الثَّمَنُ وجب رد عِوَضِهِ، وهو المبيع، لكن هنا -أي في النكاح- يمتنع ردّ العوض، وهو البضع، لأن النكاحَ صحّ، فلا سبيل إلى رده، فوجب قيمة البضع المعتبرة شرعاً، وهي مهر المثل. وعبارة منار السبيل "لأن المرأة لا تسلم إلا ببدل، ولم يسلّم البدل، وتعذَّرَ ردّ العوض لصحة النكاح، فوجب بدله." (¬2) والفرق أن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة لفاعله، كالأذان والصوم والصلاة، وما كان كذلك لم يصح أخذ الأجرة عليه، بخلاف تعليم الفقه والأدب ونحوهما. وفي رواية: يجوز، وأحتج له بحديث الواهبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي خطبها "اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن" إلا أن عند البخاري "لا تكون لأحد بعدك مهراً" كذا في شرح المنتهى المطبوع. وفي منار السبيل: النجاد، بدل البخاري، وهو الصواب. وهو مرسل (فتح الباري 9/ 212) (¬3) (ب، ص): "حملتْ به". فحذفنا تبعاً لـ (ف).

كل واحد منها على أنواع مختلفةٍ بالكبر والصغر، والجَوْدة والرداءة، واسم الدابة يقعُ على كل ما يَدِبُّ، وهو مختلفُ الأجناس. وحمل البطن قد لا يولد حيًّا، والشجرةُ قد لا تثمرِ، والعبدُ قد لا يحصل، لأنه لا يُعْلَمُ أين هو، والخدمةُ لم يعيَّن جنسها، فقد تكلِّفه ما لا يحسنه، ومتاعُ البيتِ لم يعلم ما هو. (ولا يضرُّ جهلٌ يسير). بمعرفة الصداق، (فلو أصدقها عبداً من عبيدِهِ، أو دابةً من دوابّه، أو قميصاً من قمصانه) أو خاتماً من خواتمه، ونحوه (صحّ. ولها أحدهمْ بقرعةٍ) في المنصوصِ، فإنه روي عن أحمد رحمه الله تعالى في رواية مُهَنَّا، فيمن تزوّج على عبدٍ من عبيده: جائزٌ فإن كانوا عشرةَ عبيدٍ تعطى من وسطهم، فإن تشاحّا أُقرِعَ بينهم. قلت: وتستقيمُ القُرْعَةُ في هذا؟ قال: نعم. انتهى. ويشترط للصحة فيما إذا أصدقها دابة من دوابه تعيينُ النوعِ، كفرسٍ من خيله، أو جملٍ من جمالِهِ، أو حمارٍ من حميره، أو بغلاً من بِغاله، أو بقرةً من بقره، ونحو ذلك. (وإن أصدقها عتق قِنَّهِ صحّ) قال في الإنصاف: لو أصدقها عتق أمتِهِ صحّ، بلا نزاعٍ. انتهى، (لا طلاقُ زوجته) أي جعلُ طلاقِ من في عصمتِهِ إلى التي يريد أن يتزوَّجَهَا صداقاً لم يصح ذلك (¬1). (وإن أصدقها خمراً أو خزيراً، أو مالاً مغصوباً يعلمانه) أي يعلم الزوجُ والزوجةُ أنه غصْبٌ، صح النكاح، و (لم يصحّ المسمَّى) ويجبُ عليه أن يدفعَ لها مهر المثل. (وإن لم يعلماه) أي لم يعلم الزوجُ والزوجةُ كونه غصباً (صحَّ) النكاحُ (ولها قيمتُهُ يوم العقد)، لأن العقد وقع إلى التسميةِ، فكان لها ¬

_ (¬1) أي لأن خروج البضع من يده ليس مما يتموّل، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل للرجل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى" رواه أحمد (منار). أما العتق فيصحّ الاعتياض عنه.

فصل

قيمتُهُ. ولأنها رضيتْ بما سُمِّيَ لها، وتسليمُهُ ممتنع لكونه غير قابلٍ لجعلِهِ صداقاً، فوجب الانتقالُ إلى قيمتِهِ يومَ العقدِ، لأنها بدلُه، ولا تَسْتَحِقُّ مهرَ المثلِ، لعدم رضاها بِهِ. وإن أصدقها مثليًّا، فخرجَ مغصوباً، فلها مثله. (و) إن أصدقَها (عصيراً فبان خمراً صحَّ) العقد، (ولها مثلُ العصير) لأنه من ذواتِ الأمثال. والمثل أقرب إليه من القيمة، ولهذا، يُضْمَنُ به في الإتلاف، وكما لو أصدقها خلاًّ فبان خمراً، فإن لها مثلَ الخلّ. فصل (وللأب تزويجُ بنتِهِ مطلقاً) بكراً كانت أو ثيّباً (بدون صداقِ مثلِهِا) ولو كبيرةً، (وإن كرهت) ذلك. نصّ عليه. وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ. وقال الشافعي: ليس له ذلك. ولنا أن سعيد بن المسيب زوج ابنَتَهُ بدرهمين (¬1)، وهو من أشرافِ قريشٍ شرفاً وعلماً وديناً. ومن المعلوم أنه لم يكنْ مهرَ مثلِها. ولأنه ليس المقصودُ من النكاحِ العوضُ، وإنما المقصودُ السَّكَنُ والازدواجُ ووضعُ المرأة في منصبٍ عند من يكفيها ويصونُها ويحسِنُ عشرتها. والظاهر من الأب مع قيام شفقتِهِ وبلوغ نظرِهِ أنه لا ينقُصها من صداقِها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح. ¬

_ (¬1) وكان قد خطبها الوليد بن عبد الملك لابنه، فأبى سعيد، وزوجُها لكثير بن أبي وداعة، -وهو أحد طلبته، وكان فقيرا- على درهمين. ولذلك قصة طريفة تذكرها كتب التاريخ والأدب، انظر مثلا (البداية والنهاية 9/ 100) وقصته ليست حجة في المسألة، ولكن تذكر للاستئناس.

(ولا يلزم أحداً تَتِمَّتُهُ) أي تتمةُ مهر المثلِ إن زوّجها الأبُ بدونه، لا الأبُ ولا الزوجُ، على الصحيح. (وإن فعلَ ذلكَ غيرُ الأبِ) أيْ زوَّجها بدون صداقِ مثلِها غيرُ الأب من أوليائها (بإذنها، مع رُشْدِهَا، صحّ) ولم يكن لغيرهَا الاعتراضُ، لأنّ الحقّ لها، وقد أسقطتْهُ، أشبه ما لو أذنتْ في بيعِ سلعةٍ لها بدون ثمنِ المثلِ. (و) إن زوّجها (بدون إذنِها) صحّ النكاح و (يلزم الزوجَ تتمتُهُ) أي تتمةُ مهرِ المِثْلِ، لأن التَّسميةَ فاسدةٌ هاهنا، لكونها غيرَ مأذون فيها، فوجبَ على الزوجِ مهرُ المثلِ، ويرجعُ الزوجُ على الولي بما غَرِمَهُ لها، لأنه المفرّط، كما لو باعَ ما لها بدونِ ثمنِ مثلِهِ. (فإن قدّرت لوليها مبلغاً) يزوّجها به (فزوّجها بدونِهِ ضمنَ) النقصَ. (وإن زوّج) أب (ابنه، فقيل له،) أي للأب: (ابنُكَ فقيرٌ، من أين يؤخذ الصداق؟ فقال: عندي) ولم يزد على قوله ذلك (لزمه) (¬1)، ولو قضى الأبُ الصداقَ عن الابنِ، ثم طلّقَ ولم يدخلْ، ولو قبل بلوغه. فنصفه للابن (¬2). (وليس للأب قبضُ صداقِ ابنتِهِ الرشيدةِ، ولو) كانت (بكراً، إلا بإذنها) لأنها المتصرفةُ في مالِهَا، فاعتُبِر إذنُها في قبضِهِ، كثمن مبيعها. (فإن أقبضه) أي الصداق (الزوجُ لأبيها) بغير إذنها (لم يبرأ) الزوجُ من صداقِ زوجتِهِ، (ورَجَعَتِ) الزوجةُ (عليه) أي على زوجها، (ورجع هو) أي الزوجُ (على أبيها). ¬

_ (¬1) أي لأنه صار ضامناً بذلك، وكذا لو ضمنه غير الأب. (¬2) ولا يرجع إلى الأب، لأنه تبرَّع به، وقُبِض. وكذا لو حصل الفراق بسبب آخر كردتها، يرجع المهر كله للابن. وكذا لو قضاه عنه غير الأب ثم تنصف أو سقط (ش. المنتهى 70/ 3).

(وإن كانت) الزوجةُ (غير رشيدةٍ سلّمه) أي سلم زوجُها صداقها (إلى وليِّها في مالها) (¬1). (وإن تزوج العبد بإذن سيّده) على صداقٍ مسمًّى (صحّ). قال في شرح المقنع: بغير خلافٍ علمناه. وله نكاحُ أمةٍ ولو أمكَنَهُ حرّةٌ. ومتى أذن له سيده في النكاح، وأطلق، نكح واحدةً فقط. (وعلى سيّده المهرُ والنفقةُ والكُسوة والمسْكن)، سواءٌ ضمن السيد ذلك أو لم يضمنه، وسواءٌ كان العبدُ مأذوناً له في التِّجارة، أو محجوراً عليه، على الأصح. نصّ على ذلك. لأنّ ذلك حق تعلّق بعقدٍ بإذن سيّدِهِ، فتعلق بذمة السيّد. وجازَ بَيْعُهُ فيه، كما لو رَهَنَهُ بدينٍ. فعلى هذا: لو باعَه سيّده، أو أعتقه، لم يسقُطْ عن السيّد. نصّ عليه، لأنه حقٌّ تعلَّق بذمته، فلم يسقط ببيعه وعتقه، كأرش جناية. (وإن تزوّج) العبدُ (بلا إذنه) أي إذنِ سيّده (لم يصحّ) النكاحُ. ووجه كونهِ غيرَ صحيحٍ ما روى جابرٌ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما عبدٍ تزوَّج بغير إذن سيدِهِ فهو عاهر" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. (فلو وطئ،) في النكاح الذي لم يأذن فيه سيّده (وجبَ في رقبتِهِ) أي رقبةِ العبدِ (مهرُ المثلِ) لأنه بضعٌ أتلفه بغير حق، فوجب فيه قيمته، وهي مهر المثل. ¬

_ (¬1) أي لا إلى وليها في نفسها، إن لم يكونا واحدا.

فصل

فصل (وتملِكُ الزوجةُ بالعقدِ) أي بعقد نكاحِها (جميعَ) مهرِها (المسمَّى) -وعنه: لا تملك بعقدٍ إلا نصفَه وفاقاً لمالكٍ- لأنّ النكاحَ عقدٌ يُملكُ به العوضُ بالعقدِ، فيُملَك فيه العوض كاملاً، كالبيع. وسقوطُ نصفِهِ بالطلاقِ لا يمنَعُ وجوبَ جميعِهِ بالعقدِ، ألا ترى أنها لو ارتدّتْ سَقَطَ جميعُهُ، وإن كانتْ قد ملكتْ نصفَه. (ولها) أي وللزوجة (نماؤُه) أي نماءُ مهرها (إن كان معيّناً) كعبدٍ معيّنٍ، ودارٍ معينةٍ، من حينِ عقدٍ فيكونُ كسبُ العبدِ ومنفعةُ الدارِ لها لأن ذلك نماءُ ملكِهَا. (ولها) أيضاً (التصرّفُ فيه) أي في الصداق المعيّن بكل ما يجوز فيه من التصرفات، لأنه ملكها. (وضمانُه) إن تلف، (ونقصُه) إن نَقَص، (عليها) كالمبيع المعيَّن إذا تلف أو نقص في يد البائعِ، ولم يمنع المشتريَ من قبضِهِ (إن لم يمنعْها قبضَهُ) فإن منعها قبضَه، فضمانُه إن تلف، ونقصُه إن نَقَصَ، عليه لأن الزوج إذا منعها من قبض ما ملكتْهُ كان بمنزلة الغاصب. (وإن أقبضَها) أي أقبضَ الزوجُ زوجتَه (الصداقَ ثم طلّق) الزوجةَ (قبلَ الدخولِ) بها (رجعَ عليها بنصفِه) أي بنصف عينه (إن كان باقياً) بحالِهِ، ولو النصفُ فقط، ولو مشاعاً، فيدخل في مِلكِهِ قهراً لو لم يَخْتَرْهُ كالميراثِ. (وإنِ كانَ قدْ زاد) الصداقُ (زيادةً منفصلة) كما لو كان الصداق غنماً أو نحوَها فَحَمَلَتْ عندَها وَوَلَدَت (فالزيادةُ لها) أي للزوجةِ، لأنّها نماءُ ملكِها، حتّى ولو كانت وَلَدَ أَمَةٍ. وإن كانت متّصلة كالسِّمَنِ، وهي غيرُ محجورٍ عليها، خُيِّرت بين

دفع نصفِهِ زائداً، وبين دفعِ نصفِ قيمتِهِ يومَ العقدِ إن كان متميزاً. وغيرُ المتميّز للزوجِ قيمة نصفِهِ يومَ فُرْقَةٍ، على أدنى صفةٍ من وقتِ عقدٍ إلى وقت قبض. والمحجورُ عليها لا تعطيهِ إلا نصفَ القيمةِ حالَ العقد. (وإن كان) الصداق (تالفاً رجعَ) الزوجُ (في) الصداق (المثليّ بنصفِ مثلِهِ، و) رجع (في المتقوّم، بنصفِ قيمتِهِ)، وتعتبر قيمته (يوم العقد). (والذي بيده عُقْدةُ النكاح) في قوله تعالى: {إلاَّ أن يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الًذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاحِ} [هو] (الزوجُ)، لا وَليُّ الصغيرِ على الأصَحِّ. يروى ذلكَ عن عليٍّ، وابن عباسٍ، وجبيرِ بن مُطْعِم، وبه قال سعيدُ بن المسيِّب، وشُرَيح، وسعيد بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، ومجاهد، وإياس بن معاوية، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والشعبي، والثوري، وأصحاب الرأي، والشافعي، في الجديد. (فـ) على هذا (إذا طلَّق) الزوج (قبل الدخولِ، فأيُّ الزوجينِ عفَا لصاحِبِهِ) أي الزوجِ الآخر (عمّا وَجَبَ له) أي عما استقر ملكه عليه بسبب الطلاق (من) نصفِ (المهرِ، وهو) أي العافي (جائز التصرّف) في ماله بأن كان مكلّفاً رشيداً غيرَ محجورٍ عليه (برئَ منه صاحبُه) لقوله سبحانه وتعالى: {فإنْ طِبْنَ لكمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} قال أحمد في رواية المروزي: ليس شيء قال الله تعالى: {كُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} سمَّاه، غيرَ المَهْرِ بهبةِ المرأة للزوجِ (¬1). وقال علقمة لامرأته: هبي لي من الهنيء المريء. يعني من صداقها. ¬

_ (¬1) لعل المراد: فلا يحلَّ له إلا إذا تحقّق طيب نفسها به، لا حياء، ولا رهبة. ثم إن "هنيئاً" وردت في القرآن في ثلاثة مواضع أخرى، أما "مريئاً" فلم ترد إلا في هذه الآية.

[فيما يسقط الصداق وينصفه ويقرره]

(وإن وهبته) أي وهبت المرأة (صداقَها) لزوجِها (قبل الفُرْقةِ ثم حصل ما ينصّفه) أي ينصِّفُ الصداقَ، (كطلاقٍ، رجع) الزوجُ (عليها ببدلِ نصفِه. وإن حصل ما يسقطه) أي الصداق (رجعَ) الزوجُ عليْهَا (ببدلِ جميعِهِ) أي الصداق (¬1). فصل (فيما يُسْقِطُ الصداقَ وينصِّفه ويقرِّره) [ما يسقط المهر] (يسقُط) الصداق (كلُّه قبلَ الدُّخولِ، حتى المتعة) يعني أنه لو تزوجها ولم يسمِّ لها مهراً، ثم حَصَلتِ فرقةٌ مسقِطةٌ للمهرِ الذي لم يسمَّ فإنه يسقط ولم تجب مُتْعةٌ، (بفرقةِ اللّعان) قبل تقرُّره، لكون الفرقةِ من قِبَلِها، لأن الفسخ إنما يقع إذا تمّ لعانها، (وبفسخِهِ) أي فسخ الزوجِ النكاحَ (لعيبِها) أي عيب المرأةِ لكونها رتقاءَ أو فتقاءَ أو جذماءَ أو برصاءَ أو نحو ذلك، قبل تقرُّرِه لتلفِ المعوّض قبل تسلمه، فسقط العِوَض كله، كالبائع يتلَفُ المبيعُ بيده قبل تسليمِهِ. (وبفرقةٍ جاءت من قِبَلِها، كفَسْخِها لعيبِهِ) (¬2) أو إعسارِهِ، أو عدمِ ¬

_ (¬1) لأنه ملكه بالهبة ملكاً تامًّا. وبالطلاق قبل الدخول يستحق النصف أيضاً. وفي رواية أخرى: لا يرجع بشيء، وهو قول أبي حنيفة ومالك واحد قولي الشافعي، لأنه إنما يرجع بنصف المهر وقد رجع إليه كلّه (المغني 6/ 733) وهذا القول أولى بالعدل. (¬2) إذا فسخ الزوجُ لعيب بها، سقط المهر لكونها هي، أو وليُّها، دلس على الزوج العيب. فإن فسخت هي لعيب به سقط المهر كذلك، وإنْ دَلَّس، لأن العوض في مقابلة منافعها، أما هي فليس من جهتها عوض في مقابلة منافع الزوج، وإنما ثبت الخيار لها لأجل الضرر الذي يلحقها، لا لتعذّر ما استحقّت عليه في مقابلته عوضاً. فافترقت المسألتان (مغني 6/ 655)

[ما يتنصف به المهر]

وفائِهِ بشرطٍ شرطَتْهُ عليهِ في النكاح، أو اختيارِها لنفسِها بجعلِ الزوج لها ذلك، بسؤالِها إياه (¬1) قبلَ دخولٍ، (وإسلامِها تحت كافرٍ) قبل تقرُّرِهِ (و) كـ (ردّتها تحتَ مسلمٍ، وإرضاعِها من ينفسخ به نكاحُها) قبل تقرّره، لأنها أتلفت المعوَّض قبل تسليمِهِ، أشبه ما لو أتلفَ البائعُ المبيعَ قبل قبضِهِ. [ما يتنصف به المهر] (ويتنصّف) صداقُها (بالفُرقة من قِبَلِ الزوجِ كطلاقِهِ) الزوجَةَ، ولو بسؤالها، (وخُلْعِهِ) إياها، ولو بسؤالها، لأن الفرقة إنما ثبتت في صورة سؤالها بجواب الزوجِ، (وإسلامهِ) أي إسلام الزوج قبل وجودِ ما يقرّره من الدخولِ أَو الخلوةِ، إذا كانت الزوجةُ غير كتابية، (وردّتِهِ) قبلَ وجودِ ما يقرِّرُهُ لمجيء الفُرْقَةِ من قبله. (و) يتنصّف صداقها (بملك أحدِهما الآخر) أي بشراءِ الزوجةِ الزوجُ، أو الزوج الزوجةَ قبلَ الدخولِ. (أو قِبَلِ أجنبيٍّ) يعني أن المهر يتنصّف إذا جاءت الفرقة من قبل أجنبيٍّ، (كرضاعٍ) أي كما لو أرضعتْ أختُهُ أو نحوُها زوجتَهُ الصغيرةَ رضاعاً محرماً، (ونحوِهِ) أي نحو الرضاع كما لو وطئَ ابنُ الزوجِ الزوجةَ قبل دخولٍ. [ما يتقرر به المهر كاملاً] (ويقرِّرُهُ) أي يقرّرُ المهرَ (كاملاً موتُ أحدهما) أي موتُ أحدِ الزوجينِ، ولو بقتْلِ أحدِهما الآخرَ أو قَتْلِ أحدِهِما نفسَهُ، لأنَّ النكاحَ بَلَغَ نهايتَهُ، فقام ذلك مقامَ الاستيفاءِ في تقرير المهر، ولأنه أوجبَ العِدَّةَ ¬

_ (¬1) (ب، ص): "بسؤالها إياه لها" ولا موضع لقوله "لها" فحذفنا تبعاً لـ (ف).

على المرأةِ، فأوجبَ كمالَ المهرِ، كالدخول. (و) يقرره كاملاً (وطؤُها) أي وطء الزوج الزوجةَ حيًةً في فرْج ولو دبراً، أو في غيرِ خلوةٍ، لأنه قد وُجِد استيفاءُ المقصودِ باستقرارِ العوض. (و) يقرر المهرَ كاملاً أيضاً (لمسُه لها) أي للزوجة لشهوةٍ (ونظرُه إلى فرجِها لشهوةٍ) ولو لم يخلُ بها، فيهما. قال في الفروع: ويقررُه لمسٌ ونحوُه لشهوةٍ. نص عليه. انتهى. ووجه ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وحقيقة اللمْس التقاءُ البشرتين (¬1). (و) يقرره كاملاً (تقبيلُها ولو بحضرةِ الناس) لأن القُبْلَةً أجرِيَتْ مجري الوطء في قطع خيارِ المشتري، فيجبُ أن تكونَ في تقريرِ الصداقِ كذلك. قال أحمد: إذا أخذَها فمسها، وقبض عليها، من غير أن يخلوَ بها، لها الصداقُ كاملاً، إذا نالَ منها شيئاً لا يحل لغيرِه. وقال في رواية مُهَنا: إذا تزوج امرأةً فنظر إليها وهي/ عُريانة تغتسل وجب عليه المهر. (و) يتقرر كاملاً (بطلاقِها في مرضِ موتٍ ترثُ فيهِ) قال في المنتهى: أو موتهِ بعدَ طلاقٍ في مرض موتٍ قبل دخولٍ، ما لم تتزوجْ أو ترتد (¬2) انتهى. (و) يتقرر (بخلوتهِ بها) أي خلوةِ الزوج بالزوجةِ، وإن لم يطأ. روي ذلك عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وزيدٍ، وابنِ عمر، وبهذا قال علي بن الحسين، وعرْوَة، وعطاء، والزهري، والأوزاعي، وإسحق، ¬

_ (¬1) هذا القول منصوص أحمد. وفي وجه للقاضي لا يتقرْر المهر بذلك، والمس كناية عن الوطء (مغني 6/ 728) (¬2) في صنيع الماتن هنا نظر، فإن أصله المنتهى جعل الموت هو المقرًر، لا الطلاق في مرض الموت. أما هو فقد جعل المقرًر لكمال المهر الطلاقَ في مرض الموت. والحكم أنه ان طلْقها في مرض موته المخوف قبل الدخول تنصفَ المهر، فإن ماتَ في مرضه ذاك ولم تتزوج أو ترتد، كفل لها المهر، معاملة له بنقيض قصده.

[في اختلاف الزوجين في الصداق]

وأصحاب الرأي. وهو قول الشافعي في القديم. ويشترط للخلوة المقرِّرة للمهر كاملاً أن تكون (عن مميَّزٍ) ولو كان كافراً أو أعمى نصًّا، ذكراً كان أو أنثى، عاقلاً أو مجنونًا، وسواءٌ كان الزوجانِ مسلمينِ، أو كافرينِ، أو الزوجُ مسلماً، والزوجةُ كتابيةً، ولو كان الزوج أعمى أو نائماً مع علمِهِ بأنها عنده، إنْ لم تمنعْه الزوجةُ من وطئِها. وإنما تكون الخلوةُ مقرِّرَةً (إن كان) الزوج (يطأ مثلُه و) كانت الزوجةُ (يوطأ مثلُها) كابنِ عشرٍ يخلو ببنتِ تسع. ولا تقبل دعواه عدم علمه بها. فصل [في اختلاف الزوجين في الصداق] (وإذا اختلفا) أي اختلفَ الزوجان، أو ورثتُهما، أو زوجٌ ووليُّ صغيرةٍ (في قدر الصداقِ)، أو في عينِه، (أو) في (جنسِهِ)، أو في صفته، (أو) فيما يستقر به (الصداق)، فقول الزوجِ (بيمينِهِ) أو وارثِهِ بيمينِهِ. أما كونُ القولِ قولَه في عينِ الصداقِ، كما لو ادعت أنه أصدقها هذه الأَمَةَ، وقال هو: بل هذا العبدَ، وفي صفته، كما لو قالت: أصدقَنيَ عبداً روميًّا فقال: بل زنجيًّا، وفي جنسِهِ، كما لو قالت: أصدقني كذا من البُرّ، فقال: بل من الشعير. وفيما يستقرّ به المهر، كما لو قالت: خلوتَ بي، فقال: لم أخلُ بكِ، فلأنه مُنْكِرٌ، والقولُ قولُ المنكِرِ بيمينه، لأن الأصلَ براءَةُ ذمَّتِهِ مما لم يجبْ بإقرارِهِ، ولا بيِّنة. (و) إذا اختلف الزوجان أو ورثتُهما (في القبضِ) للصداقِ (أو تسميةِ المَهْرِ فقولُها) إن وُجدتْ، (أو وارِثِها،) بيمينٍ من قبلِ المنكِرِ، لأن

[هدايا الزوج]

الأصل عدمُ القبضِ وعدمُ التسمية. (وإن تزوجَهَا) أي تزوج رجلٌ امرأةٌ (بعقدينِ على صداقَيْنِ سراً وعَلناً، أخِذَ) الزوجُ (بـ) ـــالصداقِ (الزائِدِ) سواء كان الزائدُ صداقَ السرِّ أو كان الزائدُ صداقَ العلانِية. ويلحَقُ بالمهرِ زيادةٌ بعد عقدٍ ما دامت في حباله، فيما يقرّره أو ينصِّفه. قال أحمد في الرجل يتزوّج المرأةَ على مهرٍ، فلما رآها زادَها في مهرها: فهو جائز. فإن طلّقها قبلَ الدخولِ فلها نصفُ الصداقِ الأول ونصفُ الزيادةِ. انتهى. [هدايا الزوج] (وهديّةُ الزوجِ ليسَتْ من المَهْرِ) نصّ عليه. (فما) أهداه الزوجُ (قبلَ العقدِ إن وعدوهُ) بأن يزوَجوه (ولم يَفُوا) بان زوجوا غيره (¬1) (رجع بها) أي بالهدية. قال في الإنصاف: قاله الشيخ تقيُّ الدين. واقتصر عليه في الفروع. قلت: وهذا مما لا شكّ فيه. انتهى (¬2). وما قبضَهُ أخو الزوجةِ ونحوُه مئكلةً (¬3)، فحكُمْهُ حكمُ المَهْرِ فيما يقرِّره وينصِّفه. (وتردّ الهديةُ) على زوجٍ (في كل فُرْقةٍ اختياريةٍ مسقطةٍ للمهر) كفسِخٍ لفقدِ كفاءةٍ ونحوهِ قبل الدخولِ، (وتثبُتُ) الهدية (كلُّها مع) أمرٍ (مقرِّرٍ له) أي للمهر (أو لنِصْفِهِ). ومنْ أخَذَ شيئاً بسببِ عقدٍ، كدلَّالٍ في بيعٍ ونحوِهِ، كإجارةٍ، فإنْ ¬

_ (¬1) لو أعلموه برفضهم له فكذلك. (¬2) لكن إن كان الإعراض عن إتمام العقدِ من قبله هو فلا رجوع. (¬3) في الصحاح "المئكلة الصِّحافُ التي يستخفّ الحيُّ أن يطبخوا فيها" (اللسان). فكأن الكلمة استعمِلت في بعض العصور فيما يعطيه الخاطب لبعض أقارب المخطوبة طُعْمَةً له كـ (هِدْمِ الخالِ) في عرف بعض أهل فلسطين.

[تفويض المهر]

فُسِخَ بيعٌ بإقالةٍ ونحوِها مما يقف على تراضٍ، لم يُرَدَّ، وإلا ردَّه. وقياسُهُ نكاحٌ فُسِخَ لفقدِ كفاءَةٍ أو عيبٍ، فيردُّه. قاله في المنتهى. فصل [تفويض المهر] (ولمن زُوِّجت) أي زوّجها أبوها مجبَرَةً، أوْ لا، بإذنها، بلا مهرٍ، أو زوّجها غيرُ الأب بإذنها (بلا مهرٍ) صحّ العقد مع عدم تسميةِ صداقٍ. ويجبُ لها مهرُ المثل، (أو) زوِّجَتْ (بمهرٍ فاسدٍ) كما لو تزوَّجَها على خمرٍ أو كلبٍ، صحَّ العقدُ، و (فُرِضَ مهرُ مثلها عند الحاكم) أي فَرَضَهُ الحاكم، بقدره. ويلزمهما فَرْضُهُ، كحكمه. (فإن تراضَيَا) أي الزوجان (فيما بينهما، ولو على قليلٍ صحَّ ولَزِمَ) وصارَ حُكْمُهُ حكمَ المسمّى في العقدِ، قليلاً كان أو كثيراً، سواء كانا عالمينِ مهرَ المثلِ أوْ لا، لأنه إن فرضَ لها كثيراً فقد بذل لها من ماله فوق ما يلزمه، وإن فرض لها يسيراً فقد رضيتْ بدون ما يجبُ لها. تنبيه: عبارةُ المتنِ مخالِفةٌ لما في المنتهى تقديماً وتأخيراً، فإن عبارته "فإنْ تراضَيَا ولو على قليلٍ صحّ، وإلا فرضه حاكمٌ بقدره." وعبارة الإِقناع مرتّبة كالمنتهى. [المتعة] (فإن حصلتْ لها فُرْقَة منصِّفة للصداقِ) من طلاقٍ أو غيره (قبلَ فرضِهِ أو تراضِيهِمَا وجبتْ لها المُتْعَةُ.) وهي [أي المتعة] ما يجبُ لحرةٍ أو سيِّدِ أمةٍ على زوجٍ بطلاقٍ قبل دخولٍ لمن لم يُسَمِّ لها مهرٌ مطلقاً. (على الموسِعِ قَدَرُهُ وعلى المقترِ قَدَرُهُ) وذلك لأن المتعةَ معتَبَرَةٌ

[في المهر في غير النكاح الصحيح]

بحالِ الزوجِ في يَسَارِهِ وإعساره. نص عليه. (فأعلاها خادِمٌ) إذا كان الزوج موسراً (¬1) (وأدناها كسوةٌ تجزئها) أي تجزئ المرأةَ (في صلاتِها) وهي درْعٌ وخِمارٌ أوْ ثوبٌ (¬2) تصلي فيه (إذا كان) الزوج (معسراً). فصل [في المهر في غير النكاح الصحيح] 1 - (ولا مهر في النكاحِ الفاسِدِ إلا بالخلوةِ أو الوطء) فإنْ طلّقها أو ماتَ عنها قبل الدخول أو الخلوة فلا مهر لها، (فإن حَصَلَ أحدُهما) أي الدخولُ أو الخلوةُ (استقرّ) عليه (المسمى إن كان) فُرِضَ لها مسمًّى، (وإلا) بأن لم يُفرضْ لها شيء (فـ) يستقر عليه لها إن دخلَ أو خلَا بها (مهرُ المثل). 2 - (ولا مهرَ في النكاحِ الباطلِ) كنكاحِ زائدةٍ على أربع (إلا بالوطءِ في القُبُلِ) فلا مهر بوطئها في الدبر. 3 - (وكذا) يجب عليه مهر المثلِ إذا كانتْ (الموطوءة) موطوءة (بشبهةٍ) كمن وطئ امرأةً ليست زوجةً له، ولا مملوكةً، يظنُّها زوجتَهُ أو مملوكتَهُ. قال في الشرح والمبدع: بغير خلافٍ علمناهُ. كبدلِ متلَفٍ. 4 - (و) كذا حكم (المُكْرَهَةِ على الزِّنا) ولو كانتْ من محارمِهِ، كأختِهِ وعمّته من نسبٍ أو رضاعٍ، كبدل متلَفٍ، أو ميتةً، ولو من مجنونٍ. قال في الإقناع: ومن طلَّق امرأتَهُ قبلَ الدخولِ طلقةً، وظنّ أنها لا تبينُ بها، فوطئها، لزمه مهرُ المِثْلِ، ونصفُ المسمّى. انتهى. وإنما وجب النصفُ أيضاً لأنه طلَّق قبل الدخول. (لا لمطاوِعَةِ) على الزِّنا، ¬

_ (¬1) المراد بالخادم هنا المملوك من عبد أو أمة. (¬2) كذا الصواب كما في شرح المنتهى. وفي (ب، ص): "وثوب".

لأنَّه إتلافُ للبُضْعِ برضا صاحِبِهِ، كما لو أذنتْ له في قطعِ يَدِهَا، فقطعَهَا، (ما لم تكنْ) المزنيُّ بها المطاوعةُ (أَمَةً) فإنه لا يسقطُ مهرُها بطواعيتها، لأنه لسيّدها. والمبعَّضةُ يسقطُ منهُ ما يقابِلُ حرّيتَها، والباقي لسيدها. (ويتعدَّدُ المهرْ بتعدد الشبهَةِ،) كما لو وطئها يظنها زوجَتَهُ فاطمةَ، ثم وطئها ظاناً أنها زوجتُه عائشة، ثم وطئها ظاناً أنها زوجتهْ زينب، لزمه ثلاثةُ مهورٍ. (و) يتعدّدُ المهر أيضاً بتعدد (الإِكراهِ) على الزنا، لا بتكرار الوطءِ في الشبهةِ الواحدةِ، كأن اشتبهت عليه بزوجته ودامت تلك الشبهة حتى وطئَ مراراً. (وعلى من أزالَ بكارَةً أجنبيةٍ) أي غيرِ زوجتهِ (بلا وطءٍ أرشُ البكارَةِ) لا مهرُ مثلٍ، لأنه إتلاف جزءٍ، ولم يَرِدِ الشرع بتقديرِ عِوَضِهِ، فرُجِعَ فيه إلى أرشه، كسائر المتلَفاتِ. (وإن أزالَهَا) أي البكارةَ (الزوجُ) بلا وطءٍ (¬1). (ثم طلَّق) من أزال عذرتَها بغير الوطءِ (قبل الدخولِ) بها (لم يكن عليهِ إلا نصفُ المسمَّى) لقوله تعالى: {وِإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن مِنْ قَبْلِ انْ تَمَسُوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وهذه مطلَّقة قبلَ المسيسِ والخلوةِ فلا يكون لها سِوَى نصفِ المسمَّى (إن كان، وإلا) أي وإن لم يكنْ لها مسمًّى (فالمتعةُ) لها. (ولا يصحُّ تزويجُ مَنْ نكَاحُها فاسدٌ قبلَ الفرقة) بطلاقٍ أو فسخٍ، (فإنْ أباهَا) أي الفرقةَ بالطلاقِ أو الفسخِ (الزوجُ فَسَخَه الحاكم) نصّ عليه. ¬

_ (¬1) أي إن حصل ذلك دون خلوة أو نظر بشهوة، أو لمسٍ، فإن كلاًّ من ذلك يقرر المهر بكماله كما تقدم.

باب (الوليمة وآداب الأكل) والشرب وما يتعلق بذلك

باب (الوليمة وآدَاب الأكل) وَالشّرب وَمَا يتعَلّق بذَلِك والوليمة: اجتماعٌ لطعام عُرسٍ خاصةً. وحِذَاقُ: الطعام عند حِذاقِ صبى (¬1)، وعَذِيرَةٌ وإعذارٌ: لطعام خِتَانٍ (¬2)، وخُرْسَةٌ وخُرْسٌ: لطعام ولادةٍ، ووَكِيرَةٌ: لدعوة بناءٍ (¬3)، ونَقِيعَةٌ: لقدومِ غائبٍ، وعَقِيقَةٌ: لذبحٍ لمولودٍ، ومَأدُبَةٌ: اسمٌ لكلِّ دعوةٍ لسببٍ وغيرِهِ، ووَضِيمَةٌ: اسم لطعام مأتمٍ، وهو العزاء، وتُحْفَةٌ: لطعام قادمٍ، وشندخية: لطعام إملاكٍ على زوجة، ومِشْداخٌ: لطعامٍ مأكولٍ في خَتْمَةِ القارئ. وكلُّ هذه الدعواتِ مباحةٌ لا تكره ولا تستحب، والإجابة إليها مستحبةٌ، إلا (وليمةَ العرس) (¬4) فإنها (سنةٌ مؤكدة) لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بها، وفَعَلها. وُيسَنُّ أن لا تنقص عن شاةٍ، والأولى الزيادة عليها. ¬

_ (¬1) الحِذَاقُ، اسم لحذق الصبيّ القرآن (قاموس) فسمي به الطعام الذي يصنع لذلك. (¬2) ويسمى أيضاً العِذَار والعَذِير. وكما هو للختان كذلك للبناء، أو إذا استفدت شيئاً جديداً فتصنع طعاما وتدعو إليه إخوانك (قاموس). (¬3) سواء بنيته أو اشتريته أو استأجرته. من الوكر وهو المأوى. (¬4) كان عليه أن يستثني العقيقة، فأنها مسنونة كما تقدم. ودعوة المأتم مكروهة (ش. المنتهى).

[حكم إجابة الدعوة]

وإن نَكَحَ أكثرَ من واحدةٍ في عقدٍ أو عقودٍ أجزأتْهُ وليمةٌ واحدةٌ إذا نواها عن الكلّ. [حكم إجابة الدعوة] (والإجابةُ إليها) أي الوليمةُ (في المرَّةِ الأولى واجبةٌ) لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً "أجيبُوا هذهِ الدعوةَ إذا دعيتُمْ إليها" (¬1) (إن كانَ لا عذر) له فإنْ كانَ المدعوّ مريضاً، أو مُمْرِضاً (¬2)، أو مشغولاً بحفظِ مالٍ، أو كانَ في شدَّةِ حرٍّ أو بردٍ أو مطرٍ يبلّ الثياب، أو وحلٍ، أو كان أجيراً خاصًّا ولم يأذن له المستأجِر، لم تجب الإجابة، (ولا منكر). فإن علم أن في الدعوة منكراً كزمْرٍ وخمرٍ، وأمكنه الإنكار، حضَر وأنكر، وإلا لم يحضر. ولو حضر فشاهَدَهُ أزالَه وجلَسَ، فإن لم يقدر انصرف. وإن علم به ولم يره ولم يسمعه أبيح الجلوس. (و) الإجابة إلى الوليمة إذا دُعيَ (في) المرة (الثانية سُنَّةٌ) كما لو دعي إليها في اليوم الثاني (وفي الثالثةِ مكروهةٌ). (وإنما تجب) الإجابة للوليمة (إذا كان الداعي مسلماً يَحْرُمُ هَجْرُهُ) ومَنَعَ ابن الجوزيّ في المنهاج (¬3) من إجابةِ ظالمٍ، وفاسقٍ، ومبتدعٍ، ومفاخِرٍ بها، أو فيها مبتدعٌ يتكلم ببدعَتِهِ، إلا لِرَادٍّ عليه. (وكسبه طيب، فإن كانَ في مالِهِ حرامٌ كرِهَتْ إجابته. ومعامَلَتُهُ وقبولُ هديّته) وقبول هبته وصدقته. (وتَقْوى الكراهة وتضعُفُ بحسب ¬

_ (¬1) حديث ابن عمر مرفوعاً "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها" تمامه "وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس، ويأتيها وهو صائم" متفق عليه (منار السبيل 2/ 204) (¬2) المُمْرِض الذي له مريض يقوم عليه. (¬3) كذا في الأصول. والمعروف لابن الجوزي "المنهج الأحمد" وهو مطبوع.

كثرةِ الحرام وقلّته) جزم به في المغني والشرح. وقاله ابن عقيلٍ في فصوله، وغيرُه، وقدّمه الأزجيّ. (وإن دعاهُ اثنانِ فأكثر وجب عليه إجابة الكلّ إن أمكنه الجمع) بأن اتسع الوقتُ لِإجابتهما، (وإلا) بأن لم يمكن الجمع (أجاب الأسبقَ قولاً) لأن الإجابةَ وجبتْ بدعاءِ الأول، فلم يَزُلِ الوجوبُ بدعاءِ من بعده. ولم تجب إجابته لأنها غيرُ ممكنةٍ مع إجابةِ الأوّل. فإن استَوَيَا (فالأَدْيَن) أي أجاب الأَدْيَنَ من الداعيينِ لأنه الأَكْرَمُ عند الله تعالى. فإن استويا في الدّين (فالأقربَ رَحِماً) لما في تقديمه من صلة الرحم. فإن استويا في القرابةِ (فـ) الأقربَ (جواراً) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" إذا اجتمعَ داعيانِ أجِبْ أقَرَبَهُما باباً، فإن أقربهما باباً أقربُهُما جواراً" (¬1) رواه أبو داود (ثم يُقْرِع) يعني أنه إذا دعاهُ أكثرُ من واحدٍ، واستَوَوْا في هذه المعاني، أقرَعَ بينهما، أو بينهم، لأن القرعة تعيِّن المستحق عند استواءِ الحقوق. (ولا يقصِدُ) المدعوّ (بالإِجابة نفسَ الأكل، بل ينوي) بالإِجابة (الاقتداءَ بالسنة) المطهَّرةِ، على من سنّها ألفُ ألفِ صلاةٍ وألف ألف تحية. (و) ينوي (إكرامَ أخيهِ المؤمنِ، ولئلا يُظَنَّ به التكبُّر.) ويكره لأهل الفضلِ والعلمِ الإسراع إلى الإجابة إلى الولائِمِ غيرِ الشرعيَّة، والتساهُل فيه، لأن فيه مذلَّةً ودناءةً وَشَرَهاً، لا سيما الحاكم (¬2). ¬

_ (¬1) حديث "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما باباً فإن أقربهما باباً أقربهما جواراً، فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق" حديث ضعيف، رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. (الأرواء ح 1951) (¬2) الحاكم هو القاضي. ويرجع إلى باب القضاء لمعرفة أحكام إجابة القضاة للولائم.

(ويستحب) لمن دعي إذا حضر الطعامَ (أكلُه) لأنه أبلغُ في إكرام الداعي وجبرِ قلبه، وإن أحبّ دَعَا وانصرفَ، (ولو) كان (صائماً) تطوّعاً، إن كان في تركِ الأكلِ كسْرُ قلب الداعي. وإن لم يكن في ترك الأكل كسرُ قلب الداعى كان إتمامُ الصومِ أولى من الفطر، (لا) إن كان صائماً (صوماً وَاجباً) فلا يفطر، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ} ولأن الفطرَ محرّم والأكلَ غيرُ واجبٍ. (وينوي) الآكل (بأكلِهِ وشُرْبهِ التقوى على الطاعة) لتنقلب العادةُ عبادةً. (ويحرم الأكل) من غيره (بلا إذنٍ صريحٍ أو قرينةٍ) تدلُّ على الإذن، حتى (ولو) كان أكلُه (من بيت قريبه أو صديقِه) حتّى ولو لم يحرزْهُ عنْهُ. قال في الآدابِ الكبرى (¬1): يباحُ الأكلُ من بيت القريب والصديقِ من مالٍ غيرِ محرَزٍ عنْهُ إذا عَلِمَ أو ظنَّ رضَا صاحِبِه بذلك (¬2). (والدعاءُ إلى الوليمةِ وتقديمُ الطعام إذنٌ في الأكل) لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال. "إذا دُعيَ أحدكم إلى طعام، فجاءَ مَعَ الرسولِ، فذلكَ إذنٌ" (¬3) رواه الإِمام أحمد وأبو داود. وقال عبد الله بن مسعود: إذا دعيت فقد أُذِنَ لك. رواه الإِمام أحمد بإسناده. وليس الدعاء إذناً في الدخول. وفي الغُنْية: لا يُحتاجُ بعد تقديمِ الطعامِ إلى إذن إذا جَرَتْ العادةُ في ذلك البلد بالأكل بذلك، فيكون العرفُ إذناً. انتهى. ¬

_ (¬1) لعله يقصد "الآداب الشرعية" لابن مفلح. وهو مطبوع بدار المنار بالقاهرة. (¬2) هذا أوسع مما في المتن، إذ قد يعلم أو يظنُّ الرضا، دون الإذن. وكلام "الآداب" أقرب لظاهر القرآن، لقوله تعالى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ .... إلى قوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ}. (¬3) حديث "إذا دعي أحدكم .. " حديث صحيح. رواه أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد (الإرواء ح 1955)

[في آداب الأكل]

ولا يملِكُ الطعامَ مَنْ قدِّم إليه، بل يهلِك على ملك صاحبه. (ويقدّم) رب الضيافة (ما حَضَر) عنده (من الطعامِ من غير تكلّفٍ) قال في الإِقناع: ومن التّكلّف أن يقدّم جميع ما عنده. قال الشيخ: إذا دعي إلى الأكلِ دَخَلَ بيتَهُ فأكَلَ ما يكسِرُ نَهْمتَهُ قبل ذهابِهِ انتهى. (ولا يُشْرَعُ تقبيل الخبز) ولا الجماداتِ إلا ما استثناهُ الشرعُ كتقبيلِ الحجرِ الأسودِ. ويكره أن يأكُلَ ما انتفخَ من الخبزِ ووَجهِهِ، وبتركَ الباقي منه، لأنه كِبْر. (ويكره إهانته) أي الخبز لقوله عليه السلام: "واكْرِمُوا الخبزَ" (¬1). (ويكره مسحُ يديه) والسكينِ (به) أي بالخبز. (و) يكره (وضعه) أي الخبز (تحت القصعةِ) وتحت المِمْلَحَة، بل يوضعُ الملحُ وحده على الخبز. فصل [في آداب الأكل] (وبستحب غسل اليدين قبل الطعام) متقدماً به رَبُّه، (و) غسلُهما (بعدَه) متأخراً به ربُّه، ولو كان الأكلُ على وضوءٍ، وأن يتوضّأ الجنُبُ قبل الأكل. ولا يكره غسلُ يديه في الإِناء الذي أكل فيه. (وتسن التسميةُ جَهْراً) ندباً، لينبّه غيره عليها، فيقول: "بسم الله" ¬

_ (¬1) حديث "أكرموا الخبز" لم نجده.

قال الشيخ: ولو زاد "الرحمن الرحيم" لكان حسناً، فإنه أكمل، بخلاف الذبح (على الطعامِ والشراب) لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً "إذا أكَلَ أحدُكم فليذْكُرِ اسمَ اللهِ، فإن نَسِيَ أنْ يذكرَ اسمَ الله في أوله فليقلْ بسمِ اللهِ أولَهُ وآخرَهُ" (¬1) والشرب مثله. (و) يستحبّ للآكل (إن يجلسَ على رجله اليسرى، وينصبَ اليمنى، أو يتربّع) وجعل بعضُهم التربع من الاتّكاء (¬2). (و) يسن أن (يأكل بيمينه.) ويسن أن يأكل (بثلاثِ أصابعَ) و (مما يليه) لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة: "يا غلامُ سمِّ الله، وكل مما يليك" (¬3). (و) يسن أن (يصغِّر اللقمة، ويطيلَ المضْغَ) لأنه أجودُ هضماً. قال الشيخُ: إلا أن يكون هناك ما هو أهمّ من الإطالة. (و) يسن أن (يمسح الصَّحْفة) التي يأكل فيها، (و) أن (يأكلَ ما تناثَر) منه، أو سقط منه من اللُّقَمِ بعد إزالة ما عليه من أذًى، (و) أن (يغض طرْفَهُ عن جليسِهِ) قال الشيخ عبد القادر قدس الله سره: من الأدب أن لا يُكثِرَ النظر إلى وجوه الأكلين (ويؤْثِرَ المحتاجَ) على نفسِهِ لمدحه تعالى فاعلَ ذلكَ بقوله جل من قائل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. (و) يستحب أن (يأكل مع الزوجةِ والمملوكِ والولَدِ ولو طفلاً) وأن تكثُر الأيادي على الطعام ولو من أهلِهِ وولَدهِ لتكثر البركةُ، ولعله يصادِفُ ¬

_ (¬1) حديث "إذا أكل أحدكم .. " حديث صحيح، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي (إرواء الغليل ح 1965) (¬2) أي فيكون التربع مكروها، لكراهة الاتكاء أثناء الأكل، كما يأتي، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا آكل متكئاً" رواه مسلم .. والصحيح أن التربع ليس من الاتكاء. (¬3) حديث "يا غلام سم الله .... " متفق عليه.

صالحاً يأكُلُ معه فيُغْفَر له بسببه. (و) يسنّ أن (يلعق أصابعه) قبل الغسلِ والمسحِ، أو يُلْعِقَها غيرَهُ. (ويخلِّلُ أسنانَهُ) إن عَلِقَ بها شيء من الطعام، (ويُلْقي ما أخْرَجَهُ الخِلالُ. ويكره أن يبتلعَهُ. فإن قَلَعَهُ بلسانِهِ لم يكره) بَلْعُهُ. (ويكره نفخُ الطعام) ليبرد، قال في الإنصاف: على الصحيحِ من المذهب. زاد في الرعَاية والآداب وغيرهما: والشراب. قال في المستوعِب: النفخُ في الطعام والشراب والكتاب منهيٌّ عنه. وقال الأمديّ: لا يكره النفخ والطعامُ حارٌّ. قلَتُ: وهوَ الصواب إن كانَ ثمَّ حاجةٌ إلى الأكل حينئذ. انتهى. (و) يكره أكل الطعام حالَ (كونهِ حارًّا) قال في الإِنصاف: قلت: عند عدم الحاجة. (و) يكره (أكله بأقلّ) من ثلاثة أصابع لأنه كِبْر، (أو أكثرَ من ثلاثةِ أصابعَ) لأنه شَرَهٌ، ما لم يكن حاجة. ولا بأس بالأكل بالملعقة، (أو) أكله (بشمالِهِ) بلا ضرورةٍ. قال في الإِنصاف: ويكره تركُ التسمية، والأكلُ بِشمالِهِ إلا من ضرورةٍ. (و) يكره أكلُه (من أعلى الصحفةِ أو وَسَطِها.) وكره لمن حضر مائدةً فعلُ ما يستقذرهُ منه غيرُهُ، ومدحُ طعامِهِ، وتقويمه (¬1). (و) نفضُ يده في القصعة) لما فيه من الاستقذار. (و) يكره (تقديمُ رأسه إليها) أي القصعة (عند وضعِ اللقمةِ في فَمهِ) لأنه ربما يسقطُ من فمه شيء فيها، فيستقذروها (¬2). (و) يكره لمن أكل مع غيره (كلامُه بما يُستقذَر) أو يُضْحِكُهُمْ أو ¬

_ (¬1) تقويمه ذكر قيمته. وإنما يكره مدح الطعام من ربه، لا من الضيف. (¬2) كذا في (ف) والذي في (ب، ص): "فيستقذرها".

يَحْزنهُم قاله الشيخ عبد القادر. (و) يكره (أكله متكئاً أو مضطجعاً) أو منبطحاً. وفي الغنية وغيرها: وعلى الطريق. (و) يكرَهُ (أكلُه كثيراً بحيث يؤذيهِ) ويجوز بحيث لا يؤذيه. قال في الإقناع: ومع خوفِ أذًى وتخمةٍ يحرم. انتهى. وهذا القول نقله في الفروع عن الشيخ تقي الدين بعد أن نقل عنه الكراهة (أو قليلاً بحيث يضرُّه) قال أحمد في أكلِهِ قليلاً: لا يعجبني. قال في الإنصاف: ولا يقلّل من الأكل بحيث يضرُّه ذلك. (ويأكل ويشربُ مع أبناءِ الدنيا بالأَدَب والمروءة) بوزن سهولة؛ (و) يأكل (مع الفقراءِ بالإيثار؛ و) يأكل (مع الَعُلَمَاءِ بالتعلُّم؛ و) يأكل (مع الإخوان بالانبساط،) ويتكلّفه. ولا يكثر النظر إلى المكانِ الذي يخرج منه الطعام. (و) يستحب أن يباسِطَ الإخوان (بالحديث الطيّب، والحكاياتِ التي تليقُ بالحال) إذا كانوا منقبضين، فيحصل لهم الانبساط، ويطولُ جلوسهم. ولا يجمَعُ بين النوى والتَّمر في طبقٍ واحدٍ، وكذا الرّمانُ وما له قشرٌ كالقَصَب. ولا يجمعه في كَفّه، بل يضعه من فيهِ على ظهرِ كفِّه (¬1). وكذا كلُّ ما فيه عَجَمٌ وثَفَلٌ. قال أبو بكر بن حماد. رأيت الإِمامَ أحمدَ يأكل التمرَ، ويأخذ النوى على ظهرِ أصبعيه السبابةِ والوُسْطى. ويكره القِرَانُ في التمر ونحوه مما جرت العادة بتناوُلِهِ إفراداً. وإذا شرب لبناً، قال: اللهمْ بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإنه يشبع ويروي. وإذا وقع البعوضُ أو النحلُ أو الزنابيرُ أو نحوُها في طعام أو شرابٍ سُنَّ غَمْسُهُ كلَّه فيه، ثم لْيَطْرَحْهُ. ¬

_ (¬1) أي إن لم يكن على المائدة ما يضعه فيه. وقد تركت هذه العادة.

[في أذكار الفراغ من الطعام]

ويغسلُ يديه وفَمَهُ من ثومٍ وبَصَلٍ وزهومةٍ ورائحةٍ كريهةٍ. ويتأكد عند النوم. (وما جرت به العادةُ من إطعام السائِلِ ونحوِ الهرّ ففي جوازه وجهان) قال في الإِقناع: قال في الفروع: وما جرت العادةُ به كإطعامِ سائلٍ وسِنَّورٍ ونحوه وتلقيمٍ، وتقديمِ بعضِ الضيفانِ إلى بعضٍ فيحْتَمِلُ كلامه وجهين. وجوازُه أظهر، لحديثِ أنسٍ في الدّبّاء (¬1). فصل [في أذكار الفراغ من الطعام] (ويسن أن يحمد الله تعالى إذا فرغ) الآكلُ أو الشاربُ من أكلِهِ أو شربِهِ. (ويقول: الحمدُ للهِ الذي أطعمني هذا الطعامَ وَرَزَقنيهِ من غير حولٍ مني ولا قوة) لما روي عن معاذ بن أنسِ الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, قال: "من أكلَ طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعامَ وزرقنيهِ من غيرِ حولٍ مني ولا قوةٍ، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه" رواه ابن ماجه (¬2). (ويدعو) الضيفُ (لصاحِب الطعامِ، ويُفْضِلُ) الضيفُ (منه) أي من الطعام (شيئاً) استحباباً، (لا سيما إن كان ممن يُتَبَرَّكُ بفضْلَتِهِ) (¬3) أو ¬

_ (¬1) حديث أنس في الدباء المراد به ما رواه البخاري والنسائي، ولفظ البخاري عن أنس، قال "كنت غلاماً أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غلام له -وفي رواية لأحمد: مولى له- خياط، فأتاه بقصعة فيها طعام، وعليه دبّاء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع الدباء. قال أنس: فلما رأيت ذلك جعلت أجمعه بين يديه. قال: فأقبل الغلام على عمله. قال أنس: لا أزال أحب الدباء بعد ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع ما صنع" اهـ. (¬2) حديث ابن ماجه "من أكل طعاماً فقال: ... " رواه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي. وقال الترمذي: حسن غريب. (¬3) في التبرك بآثار الصالحين من هذه الأمة غير النبي - صلى الله عليه وسلم - إجماع الصحابة على عدم فعله. =

[إعلان النكاح واللهو فيه]

كانَ ثمَّ حاجة إلى إبقاء شيءٍ منه. وفي شرح مسلم: يستحب لصاحب الطعامِ الأكلُ بعد فراغِ الضيفِ. [إعلان النكاح واللهو فيه] (ويسن إعلانُ النكاح، والضربُ فيه) أي النكاح (بدفٍّ لا حلق فيه ولا صنوج، للنساء) قال أحمد: يستحبُّ ضربُ الدفِّ والصوت في الإملاك. فقيل له: ما الصوتُ؟ قال: يتكلم ويتحدّثُ ويُظْهر. (ويكره) الضرب بالدفّ (للرجالِ) مطلقاً قاله في الرعاية. وقال الموفق: ضرب الدف مخصوصٌ بالنساء. قال في الفروع: وظاهر نصوصِهِ وكلامِ الأصحاب التسوية. (ولا بأس بالغَزَلِ في العُرْسِ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: أتيناكُمْ أتيناكمْ ..... فَحَيُّونَا نحيِّيكمْ لَوْلا الذَّهَبُ الأحمر ..... لما حلَّتْ بِوَادِيكُمْ ولولا الحبّة السوداء .... ما سُرَّتْ عذارِيكم (¬1) لا على ما يصنعه الناس اليوم. (وضربُ الدفِّ في الختانِ، وقدوم الغائب) والولادةِ ونحوهم (¬2) (كالعرسِ) لما فيه من السُّرور. تتمة: تحرُم كل المَلْهيَاتِ (¬3) سوى الدفّ، كمزمارٍ، وطنبورٍ، ¬

_ = راجع كتابنا (أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/ 287) (¬1) هكذا بالأصول. ورواه الطبراني ببعض اختلاف. وفيه من ضعف (مجمع الزوائد 4/ 289) (¬2) الأولى "ونحوها" لأن "كل جمعٍ مؤنث". (¬3) جمعُ تصحيح لملهاة. وهي آلة اللهو. والأغلب في الكلام "الملاهي".

وربابٍ، وجنك (¬1)، ونايٍ (¬2)، ومعزفة، وجفانة (¬3)، وعودٍ، وزمّارة الراعي، ونحوها، سواء استُعمِلت لحزنٍ، أو سرور. ويأتي لهذا تتمّة في كتاب الشهاداتِ إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الجنك: آلة لهو يضرب بها كالعود. ويطلق أيضاً على الدف. معرب من الفارسية (معجم متن اللغة). (¬2) الناي: آلة من آلات الطرب ينفخ فيها - فارسية (المنجد الأبجدي). (¬3) الجفانة: لم نجد من وصفها ولا يبعد أن تكون الكلمة محرفة.

باب عشرة النساء

باب عِشرَة النِّسَاء والعشرة بكسر العين أصلها الاجتماع، وهي ما يكون بين الزوجين من الأُلفة والانضمام (¬1). إذا عرفتَ ذلك فإنه (يلزَمُ كلاًّ من الزوجين معاشرةُ الآخرِ بالمعروفِ من الصُّحْبَةِ الجميلةِ، وكفِّ الأذى، وأنْ لا يمطُلَهُ بحقِّه) مع قدرتِه، ولا يُظهِر الكَراهةَ لبذله (¬2)، بل ببشرٍ وطلاقةِ وجهٍ، ولا يُتبِعَهُ أذًى ولا مِنَّةً، لأن هذا المعروفُ المأمورُ به. (وحقُّ الزوج عليها) أي على الزوجةِ (أعظمُ من حقِّها عليهِ) لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ درَجَةٌ} ويسنّ لكلِّ واحد منهما تحسينُ الخلْقِ لصاحِبِهِ، والرفقُ به، واحتمالُ أذاه. قال ابن الجوزيّ: معاشَرَةُ المرأةِ بالتلطُّف معَ إقامَةِ هَيْبَتِهِ لئلا تَسْقُطَ حُرْمَتُهُ عندها. (وليكُنْ) الزوجُ (غَيوراً من غير افراطٍ) لئلا تُرْمى بالشرّ من أجله. وينبغي إمساكُها مع الكراهةِ لها. (وإذا تمَّ العقد وَجَب على المرأةِ أن تسلّم نفسَها لبيتِ زوجِها إذا ¬

_ (¬1) وكذا المخالطة والألفة بين غير الزوجين تسمّى عِشرة. (¬2) (ب): "ليذله"، و (ص): "لتذل له". وما ذكرناه الصواب كما في (ف).

فصل

طَلَبها) لأنَّه بالعقدِ يَسْتَحِقُّ الزوجُ تسليمَ المعوّض، كما تستَحِقُّ المرأة تسليم العِوَضِ. وقولُهُ: (وهيَ حرّةٌ) لأنَّ الأَمَةَ لا يجبُ تسليمُها إلا ليلاً. وقوله (يُمكِنُ الاستمتاعُ بها) لأنها إذ لم يمكن الاستمتاعُ بها لم يجب على أهلِهَا تسليمُها إليه، ونصَّه (كبنتِ تسعٍ) فأكثر، ولو كانت نِضْوَةَ الخلقة، ويستمتع بمن يخشى عليها كحائضٍ (¬1). وقوله: (إن لم تشترط دارَها) أو بلدَها، لأنها إذا اشترطتْ دارَها أو بلدَها لم يكن للزوج طلبُها إلى بيتِهِ أو بلدِهِ (فلا يجبُ (¬2) عليها) أي الزوجة، ولا على وليِّها قبل الدخولِ (التسليمُ إن طَلَبها وهي محرِمَةٌ) بحجّ أو عمرةٍ (أو مريضةٌ) لا يمكن الاستمتاع بها (أو صغيرةٌ أو حائِضٌ، ولو قال: لا أطأ) لأن كلاًّ من ذلك مانعٌ يرجى زوالُه، ويمتنع الاستمتاعُ بها معه، أشبه ما لو طلب أن يتسلّمها في نهارِ رَمضان، بخلافِ ما إذا بذلَتْ نفسها وهي كذلك، فإنه يلزمه تَسَلُّم غير الصغيرة. قاله في شرح المنتهى. تنبيه: من استمهل منهما لزم إمهاله زمناً جرتْ عادة بإصلاح أمرِهِ فيه، لا لعمل جهازٍ مثلاً (¬3). فصل (وللزوجِ أنْ يستمتِعَ بزوجتِهِ في كلّ وقتٍ على أي صفةٍ كانتْ) إذا كان الاستمتاع في القُبُل ولو من جهة عجيزتها (ما لم يضرَّها أو يشغَلَها عن الفرائضِ) فليس له الاستمتاعُ بها إذاً، لأن ذلك ليس من المعاشَرَةِ ¬

_ (¬1) أي كما يستمتع بحائضٍ، أي له المباشرة بما سوى الوطء. (¬2) عبارة "فلا يجب الخ" تفريع على قوله: يمكن الاستمتاع بها، فإن المحرمة لا يمكن فيها ذلك. (¬3) عبارة "لا لعمل جهاز" ساقطة من (ف).

بالمعروف. وحيث لم يشغلْها عن ذلك ولم يضرها فله الاستمتاع، ولو كانتْ على التنورِ أو على ظهْرِ قَتَبٍ. (ولا يجوزُ لها) أي للمرأة (أن تتطوَّعَ بصلاةٍ أو صومٍ وهو حاضِرٌ إلا بإذنِهِ) ولا تأذنَ في دخول بيتِهِ إلا بإذنِهِ (وله الاستمتاع (¬1) بيدها) فإن زاد عليها في الجماع صولح على شيء منه. فائدة: لا يكره الجماعُ في يومِ من الأيام، ولا في ليلةٍ من الليالي، وكذا السفر، والتفصيل، والخياطَة، والغزْل، والصناعاتُ كلها، حيث لا تؤدّي إلى إخراجِ فرضٍ عن وقته. (و) له (السفر بلا إذنها). (ويحرم وطؤها في الدُّبُر ونحوِ الحيضِ). فإن فَعَل عُزِّرَ إن عَلِمَ تحريمَه. وإن تطاوعا عليه، أو أكرَهَهَا، ونُهِيَ عنْهُ فلم ينتَهِ، فُرِّق بينهما. قال الشيخُ: كما يفرّق بين الرجلِ الفاجِرِ ومن يفجُر به. انتهى. (و) يحرم (عزلُه) أي الزوج (عنها بلا إذنها) إن كانت حرّةً. ويحرم عزلُه عن زوجتِهِ الأمةِ بلا إذن سيّدها. (ويكرَه أن يقبِّلها) أي زوجتَه أو سرّيته، (أو يباشِرَها عند الناس) لأنه دناءَةٌ. ويكره وطؤه لزوجته (¬2) أو سرّيّته بحيث يراهُ طفلٍ لا يعقل، أو بحيثُ يسمَع حِسَّهما، ولو رضيا، إن كانا مستوري العورة، وإلاَّ حَرُمَ مع رُؤيَتِهِما. (أو يُكْثِرَ الكلامَ حالَ الجماعِ) لأنه يكره الكلامُ حال البولِ، وحالُ ¬

_ (¬1) كذا في (ف، ص) ومطبوع (الدليل، وشرح المنتهى). وفي منار السبيل: "الاستمناء بيدها" ولعله أصح، وهو الذي في (ب) (¬2) سقط من الأصول كلمة "وطؤه" والتصويب من شرح المنتهى.

فصل

الجماعِ في معناه، (أو يحدثا بما جرى بينهما) ولو لِضَرَّتِها. وحرّمه في الغُنْيَة، لأنه من السرّ، وإفشاءُ السرِّ حرام. (ويسنّ أن يلاعبها قبل الجماعِ) لتنهضَ شهوتُها فتنالَ من لذةِ الجماع مثلَ ما ينالُه. (و) يسن (أن يغطّي رأسَهُ) عند الجماعِ وعندَ الخلاءِ، (وأنْ لا يستقبِل القبلةَ) عند الجماعِ لأن عمرَو بن حزم وعطاءً كرها ذلك. قاله في الشرح. (و) يسن لمن أرادَ وطأً (أن يقول عند الوطء: بسم الله. اللهمَّ جنِّبنا الشيطانَ، وجنِّب الشيطانَ ما رَزَقْتَنَا) لقوله تعالى: {وقدّموا لأنفُسِكم}. قال عطاء: هي التسميةُ عند الجماعِ. قال ابن نصر الله: وتقول المرأة أيضاً [و] روى ابن أبي شيبةَ في مصنّفه عن ابن مسعود موقوفاً "إذا أنزلَ يقولُ اللهمَّ لا تجعلْ للشيطانِ فيما رزقتْنَا نصيباً" قال في الإِنصاف: فيستحب أن يقول ذلك عند إنزاله. (و) يستحب (أن تتخذ المرأةُ خرقةً تناولها للزوجِ بعدَ فراغِهِ من الجماعِ) ليتمسَّح بها. وهو مرويّ عن عائشة رضي الله عنها. قال الحلواني: يكره أن يمسح ذكره بالخرقة التي تمسح بها فرجها. وقال ابن القطان: لا يكره نخْرها للجماعِ وحالَ الجماعِ ولا نخرُه. وقال مالك لا بأس بالنخر عن الجماع، وأَراهُ سفهاً في غير ذلك يُعابُ على فاعِلِهِ. فصل (وليس عليها) أي الزوجة (خدمةُ زوجِها في عجنٍ وخبزٍ وطبخٍ ونحوه) ككنس الدار، ومَلءِ الماء من البئرِ، وطحنِ الحبِّ (لكن الأولى

فعلُ ما جرتْ به العادة) بقيامِها به، وأوجب الشيخ العرفَ من مثلِها لمثله. وأما خدمةُ نفسِها في العجنِ والخبزِ والطبخِ ونحوِه فهي عليها إلا أن يكون مثلُها لا يخدِم نفسَها. (وله) أي الزوج (أن يُلزِمَها) أي الزوجةَ (بغسلِ نجاسةٍ عليها) لا عليهِ (وبالغسلِ من الحيضِ والنفاسِ والجنابةِ) واجتناب المحرّماتِ. قال في الإِنصاف: فله إجبارها على ذلك إذا كانت مسلمةً، روايةً واحدةً وعليه الأصحابُ. (و) له إلزامها أيضاً (بأخذ ما يُعافُ من شَعَرٍ وظُفرٍ) قال في شرح المقنع: وله إجبارُها على إزالةِ شعرِ العانةِ إذا خرج عن العادةِ، روايةً واحدة، ذكره القاضي، وكذلك الأظفارُ. فإن طالا قليلاً بحيثُ تعافه النفس ففيه وجهان. وهل له منعُها من أكلِ ما له رائحةٌ كريهةٌ، كبصلٍ وثومٍ وكرّاث؟ على وجهين. قال في الإنصاف: أحدهما تُمنَع. جزَمَ به المنوّر، وصحّحه في النظم وتصحيح المحرَّر، وقدمه ابن رزين في شرحه. والوجه الثاني: لا تمنع من ذلك. (ويحرم عليها) أي الزوجة (الخروجُ بلا إذنه) أي الزوج، لأن حقّ الزوجِ واجبٌ، فلا يجوزُ تركُهُ بما ليس بواجبٍ، (ولو لموتِ أبيها). فإن مَرِضَ بعضُ محارِمِها، أو ماتَ، لا غيرُه من أقارِبِها، استُحِبَّ له أن يأذنَ لها في الخروجِ إلى تمريضِهِ، أو عيادَتِهِ، أو شهودِ جنازَتِهِ، لما في ذلك من صلة الرحم. وفي منعها من ذلك قطيعة رحم. وربما حَمَلَها عدم إذنه على مخالفته. ولا يُستحب له أن يأَذَنَ لها في الخروجِ لزيارةِ أبويها مع عدم

فصل

المرض (¬1). (لكن لها) أي الزوجة (أن تخرج لقضاء حوائجها) التي لا بد لها من (حيث لم يقم بها) للضرورة فلا تسقط نفقتها به. (ولا يملك) الزوج (منعَها من كلام أبوْيها، ولا) يملك (منعهما من زيارتها) لأنه لا طاعةَ للمخلُوقِ في معصيةِ الخالِقِ (¬2) (ما لم يخف منهما الضرر) بسبب زيارتهما، فله منعهما إذاً من زيارتها دفعاً للضرر. (ولا يلزمُها طاعةُ أبوْيها) في فراقِهِ ولا في زيارةٍ ونحوهما (بل طاعةُ زوجِها أحقُّ) لوجوِبها عليْها. فصل (ويلزمه) أي الزوجَ (أن يبيتَ) في المضجَعِ (عند الحرّة بطلبها) لأن الحق لها فلا يجب بدون الطلب (ليلةً من) كل (أربع) من الليالي. (و) يلزمه أن يبيت في المضجَع عند (الأمةِ ليلةً من سبعِ) ليالٍ، لأن أكثر ما يمكن أن يجتمع معها ثلاثُ حرائرَ، لهنّ ستٌّ، ولها السابعة. (و) يلزمه (أن يطأها في كل ثُلُثِ سنةٍ مرَّةً إن قدر) أي في كل أربعةِ أشهر مرة، إن لم يكن عذر، لأنه لو لم يكن واجباً لم يَصِرْ باليمين على تركِهِ واجباً، كسائر ما لا يجب (¬3)، ولأن النكاحَ شُرِعَ لمصلحةِ الزوجينِ ودَفَع الضَّرَرَ عنهما. (فإن أبى) الوطءَ بعد انقضاءِ الأربعة أشهر، أو البيتوتةَ في اليومِ ¬

_ (¬1) يعني: بل ذلك مباح فقط. ولا يجوز له أن يمنعها من حضور الصلوات في المساجد. (¬2) أي لأن الله أمر بصلة الرحم ونهى عن القطيعة. (¬3) أي والحالُ أن الله تعالى قدره بأربعة أشهر في حق المؤلى، فكذا في حق غيره (ش. منتهى).

[القسم بين الزوجات]

المقرّر، حتى مضت الأربعة أشهر، بلا عذرٍ لأحدهما (فَرَّق الحاكِمُ بينهما إن طلبتْ) ذلك، ولو قبل الدخول. نص عليه في رجلٍ تزوّجَ امرأةً، ولم يدخلْ بها، يقول: غداً أدخل بها، غداً أدخل بها إلى شهرٍ، هل يجبر على الدخولِ؛ قال: أذْهَبُ إلى أربعة أشهر: إن دخل بها وإلا فُرِّقَ بينَهُما. قاله في الإِقناع: (وإن سافَر) زوج امرأةٍ (فوقَ نصفِ سنةٍ في غير أمرٍ واجبٍ) كحجٍّ أو غزوٍ واجبين، (أو) في غير (طلب رزقٍ يحتاج إليه، وطلبتْ) زوجتُه (قدومَهُ لزمه) القدومُ. فإن أبى بلا عذرٍ فُرِّقَ بينهما بطلبها. [القَسْمُ بين الزوجات] (ويجب عليه) أي على الزوجِ إن كان غير طفلٍ (التسويةُ بين زوجاتِه) إن كن ثنتيْنِ فأكثر (في المبيتِ). (ويكون ليلةً وليلةً) لأنه إن قسم ليلتين وليلتين، أو أكثر من ذلك، كان في ذلك تأخير في حقِّ من لها الليلةُ الثانية، لا التي قبلها (¬1) (إلا أن يرضين بأكثر) من ليلةٍ وليلةٍ، لأن الحقّ لهن لا يعدوهُنّ. وعمادُ القَسْمِ الليل (¬2). ويخرجُ في نهاره لمعاشِهِ، وقضاءِ حقوقِ الناسِ، وما جرت العادةُ به، ولصلاة العشاءِ والفجرِ، ولو قبل طلوعه، كصلاةِ النهارِ، قال في شرح الإِقناع: قلتُ لكن لا يعتاد الخروجَ قبل الأوقات إذا كان عند واحدةٍ دون الأخرى، لأنه غيرُ عدلٍ، منه. أما لو اتفق ذلك بعض الأحيان، أو لعارضٍ، فلا بأس. ¬

_ (¬1) (ب، ص، ف) بحذف "لا" والتصويب من شرح المنتهى. أي لأن الليلة الثانية للمرأة الثانية، فإذا جعلها للأولى أخّر حق الثانية دون الأولى. وفي المذهب قول آخر، للقاضي، انه ليس هذا على سببل الوجوب، بل الأولوية، فيجوز أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثا ثلاثاً. لا أكثر. (¬2) لمن عمله بالنهار، أما من عمله بالليل، كالحارس، فعماد القسم في حقه النهار.

(ويحرم دخولُه) أي الزوج (في نوبةِ واحدةٍ) من نسائِهِ (إلى غيرها، إلا لضرورةٍ) مثل أن تكون منزولاً بها فيريدُ أن يحضُرَهَا، أو توصِي إليه، أو نحو ذلك. (و) يحرم أن يدخل إليها (في نهارِها) أي نهار ليلةِ غيرِها (إلا لحاجةٍ) أو سؤالٍ عن أمرٍ يحتاج إلى معرفته. فإن لم يلبث لم يقضِ. (وإن لبث، أو جامع، لزمه القضاء) أي قضاءُ لبثٍ وجماعٍ، لا قضاءُ قبلةٍ ونحوها. (وإن طلق واحدةً) من معه أكثرُ (وقتَ نوبَتِها) مثل أن تكون هي الثانيةَ في القسم فطلّقها في آخر نوبةِ الأولى فقد (أثِمَ) لأنه تسبَّب بالطلاق إلى إبطالِ حقّها من القَسْم، لأن الأولى لما استوفت النوبة، وجب للثانية مثلُ ذلك، فإذا طلّقها فقد أبطل بذلك حقّها من القسم، فلا يجوز كإبطال سائر حقوقها. (ويقضيها) لها (متى نَكَحَها) وجوباً، لأنه قدر على إيفاء حقها، فلزمه، كالمعسر إذا أيسر بالدين. (ولا يجب عليه) أي الزوج (أن يُسَوِّيَ بينهن في الوطء ودواعيه) لأن ذلك طريقُهُ الشهوةُ والميلُ. ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك. (ولا) يجب عليه أيضاً التسويةُ بينهن (في النفقةِ) والشَّهوةِ (والكسوة، حيث قام بالواجب) عليه من نفقة وكسوة، (وإن أمكنه ذلك) وفَعلَه (كان حسناً) وأولى، لأنه أبلغ في العدل بينهن. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يسوي بين زوجاتِهِ في القُبْلة ويقول: اللهمَّ هذا قَسْمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" (¬1). ¬

_ (¬1) حديث "كان يسوي ببن زوجاته في القُبْلة ويقول .. " لم نجد ذكر القبلة في هذا الحديث فيما رجعنا إليه من المراجع. ولفظ أبي داود عنها قالت "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بيننا فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك". =

فصل

فصل (وإن تزوج بكراً) ولو أمةً، ومعه غيرها ولو حرائر (أقامَ عندها سبعاً) ثم دار. (و) إن تزوّج (ثيّباً) ولو أمةً أقام عندها (ثلاثاً) لأنه يُراد للأُنْسِ وإزالة الاحتشام والحياء (¬1)، والأمة والحرة سواءٌ في الاحتياجِ إلى ذلك، فاستوتا فيه، كالنفقة. ولا يحتسب عليهما بما أقام عندهما. (ثم يعود إلى القسم بينهن) كما كان قبل أن يتزوّج الجديدة (¬2). ودخلت الجديدة بينهن فصارت آخِرَهُنَّ نوبةً. [حق الزوج في التأديب] (وله) أي للزوج (تأديبُهنَّ) أي تأديبُ زوجاته (على ترك الفرائض) كالصوم والصلاةِ الواجبين، لا تعزيرُها في حادثٍ متعلّقٍ بحقّ الله تعالى، كإتيان المرأة المرأة (¬3). [العمل عند نشوز المرأة] (ومن عصتْهُ) زوجته، بأن خرجتْ من بيته بغير إذنه، أو امتنعت من إجابته إلى الفراش، ونحو ذلك (وعظَها) بأن يخوّفها الله سبحانه وتعالى، ويذكرَ لها ما أوجب الله عليها من الحقّ والطاعة، وما يلحقُها من الإثم بالمخالفة والمعصية، وما يسقُط بذلك من النفقة والكُسوة، وما يباحُ له من هجرها وضرْبها، (فإن أصرّت) على النشوز بعد وعظها ¬

_ = وأخرجه النسائي والترمذي والحاكم وابن حبان. وصححه الحاكم لكن حقق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أنه ضعيف (الإرواء ح 2018) (¬1) عبارة "والحياء" ساقطة من (ف). (¬2) وإن شاءت الثيب أقام عندها سبعاً ثم قضى لكل من البواقي سبعاً. (¬3) أي لأن ذلك إلى الحاكم.

(هَجَرَها في المضْجَعِ) أي تَرَكَ مضاجعتها (ما شاءَ) من الزمانِ ما دامت كذلك، (و) هجَرَها (في الكلام ثلاثةَ أيامِ فقط) لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا يَحِلُّ لمسْلِمٍ أن يَهْجُرَ أخاهُ فوق ثلاثة أيام" (¬1) (فإن أصرَّت) مع هجرها في المضجعِ، وهجرِها في الكلام، على ما هي عليه من النشوز، (ضَرَبَها ضرباً غير شديدٍ، بعشرةِ) أي عشرةَ (أسواطٍ، لا فوقَها). (وُيمنع) الزوج (من ذلك) أي من هذه الأشياء المذكورةِ (إن كان مانعاً لحقّها) لأنه يكون ظالماً بطلبه حقّه، مع منعِهِ حقّها. وينبغي للمرأة أنْ لا تُغْضِبَ زوجَها. ¬

_ (¬1) حديث "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه ... " متفق عليه.

كتاب الخلع

كتَاب الخلع وهو فراقُ امرأتِهِ بعوضٍ. يأخذه الزوجُ، بألفاظٍ مخصوصَةٍ. وإذا كرهت المرأةُ زوجَها لخَلْقِهِ، أو خُلُقِهِ، أو لنقصِ دينِهِ، أو لكِبَرِهِ، أو ضَعْفِه، ونحو ذلك، وخافتْ إثماً بتركِ حقّه، فيباح لها أن تُخَالِعَهُ على عوضٍ تفتدي به نفسَها منه. وتُسَنّ إجابتُها، إلا أن يكون له إليها مَيْلٌ ومحبة، فيُستحب صبرها وعدم افتدائها. وإن خالعتْهُ مع استقامةِ الحالِ كُرِهَ ووَقَعَ الخلع. (وشروطه) أي الخلع (سبعة): (الأول: أن يقع من زوجٍ يصحُّ طلاقُهُ) وأن يتوكّل فيه، مسلماً كان أو ذمّيًّا بالغاً أو مميّزاً يعقله، رشيداً أو سفيهاً (¬1) حرًّا أو عبداً. (الثاني) من شروط الخلع: (أن يكون على عوضٍ ولو) كان العوض (مجهولاً) كعلى ما بيدها، أو بيتها، من دراهمَ أو متاعٍ. فإن لم يكن فله ثلاثة دراهم أو ما يسمى متاعاً، كالوصية، وأن يكون العوضُ (ممن يصحُّ تبرّعه) لأنه بذلُ مالٍ في مقابلة ما ليس بمالٍ ولا منفعةٍ، ¬

_ (¬1) هذا مبني على صحة طلاق الصغير المميز، فإنه إذا صح طلاقه على غير مال، صح على المال من باب أولى.

فصار كالتبرّع بهذا الوجه. وإذا أشبهَ التبرُّع اعتُبِر فيمن يبذُلُه ما يعتبر في المتبرِّع من البلوغِ، والعقلِ، وعدم الحجْر. ولا فرق في ذلك بين كونِ بَذْلَ العوضِ (من أجنبى أو) من (زوجةٍ). (لكن لو عضَلها) بأن ضرّها بالضرب والتضييق عليها، أو مَنَعها حقوقَها من القسمِ والنفقة ونحو ذلك، (ظلماً لتختلع) منه (لم يصحَّ) الخُلْعُ، والعِوَض مردودٌ، والزوجيّةُ بحالِها. وإن أدّبَها لنشوزِها، أو تركِهَا فرضاً، فخالعته لذلك، صحّ الخلع ولم يحرم. (الثالث) من شروط الخلع: (أن يقع منجَّزاً) فلا يصحُّ تعليقُ الخلع على شرطٍ، كإن بذلتِ لي كذا فقد خلعتك. (الرابع) من شروط الخلع: (أن يقعَ الخلعُ على جميعِ الزوجة) بأن يقول خلعْتُكِ، أو خلعتُ زوجتي. (الخامس) من شروط الخلع: (أن لا يقع حيلةً لإسقاطِ يمين الطَّلاقِ) قال في المنتهى وشرحه ويحرم الخلع حيلةً لإِسقاطِ يمين طلاقٍ، ولا يصحّ، يعني: ولا يقعُ. والحيل خِدَاعٌ لا تُحِلّ ما حرَّم اللهُ تعالى. قال المنقح في التنقيح: وغالبُ الناسِ واقعٌ في ذلك. وفي "واضح" ابن عقيل: يستحب إعلام المستفتي بمذهب غيرِهِ إن كانَ أهلاً للرُّخْصة، كطالب التخلّص من الربا، فيرده إلىَ من يرى التحلل (¬1) ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، ولعله "الحيل" أو "التحيّل" بدلالة السياق. ويكون المعنى: فيرده إلى من يرى الحيل جائزة. وتكون الصورة: أنه حلف على زوجته بالطلاق إن فعلت كذا، فلأجل أن يخلص من اليمين يخالعها حيلة، فإذا بانت منه فعل الشيء المحلوف عليه، ثم يتزوجها فلا ينقص عدد الطلاق. وانظر الكلام على الحيلة المذكورة في إعلام الموقّعين 2/ 283 وليست طريقة ابن عقيل هذه مرضية. بل المفتى يخبر بمذهبه لا غير إن اجتهد فظهر له الحق بالدليل، وإن الحيل خداع ومحرمة كما قدمه الشارح.

[صفة الخلع]

للخلاص منه، والخلع بعد وقوع الطلاق، أي تعليقِهِ. انتهى. (السادس) من شروط الخلع: (أن لا يقع بلفظ الطّلاق) ويقع بلفظ طلاقٍ، أو بنيّتِهِ، رجعياً إن كان دون الثلاث (¬1) (بل بصيغتِهِ الموضوعةِ له) من المتخالعين، فلا يحصُلُ الخلْعُ بمجرّد بذل المال وقبولهِ من غير لفظٍ من الزوج. (السابع: أن لا ينوي به) أي بالخلع (الطلاق). [صفة الخلع] (فمتى توافرت) هذه (الشروط) المذكورة (كان) الخلعُ (فسخاً بائناً لا ينقص به عدد الطلاق) ولو لم ينو خلعاً. روى كونه فسخاً لا ينقصُ عدد الطلاق عن ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحق وأبي ثور، وهو أحد قولي الشافعي (¬2). (وصيغته الصريحة لا تحتاج إلى نية. وهي) أي صيغتُه الصريحة: (خلعتُ وفسختُ وفاديتُ). (والكناية) أي كناية الخلع (بارَيْتُك وأبرأتُكِ وأبنْتُكِ) لأن الخُلْعَ أحد نوعي الفرقةِ، فكان له صريح وكناية، كالطلاق، (فمع سؤال الخلعِ وبذلِ العوضِ يصحُّ) إن أجاب بصريح الخلع أو كنايته (بلا نيّةٍ) لأن دلالة الحال من سؤال الخلعِ وبذل العوضِ صارِفةٌ إليه، فأغنى عن النية فيه. ¬

_ (¬1) ظاهر كلام الموفق في المغني (7/ 59, 60) أنه إن خلعها بلفظ الطلاق على عوضٍ فهو طلاق بائن لا رجعة فيه. وكذا في المنتهى وشرحه اللذين هما أصل دليل الطالب وشرحه (3/ 113) فما قاله الشارح هنا فيه نظر وتوقف ولعله وهم أو قول مهجور. (¬2) ومذهب مالك وأبي حنيفة أن الخلع تطليقة بائنة إنما لا رجعة فيها، وينقص بها عدد الطلاق. وهو رواية عن أحمد. وهذا إن كان بلفظ الخلع. أما إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق رواية واحدة.

(وإلاَّ) أي وإن لم تكن دلالة حال (فلا بد منها) أي من النية لمن أتى بكناية. (ويصحُّ) الخلعُ (بكل لغةٍ من أهلها) أي أهل تلك اللغة. وقال في الرعاية: يصحّ ترجمةُ الخلعِ بكل لغةٍ من أهلِها. انتهى. (كالطلاق) فإنه يصح بكل لغةٍ من أهلها.

كتاب الطلاق

كتَاب الطّلاق وأصله في اللغة التَّخْلِيْةُ. قال ابن الأنباري: من قول العرب: أطلقتُ الناقةَ، فَطَلُقت، إذا كانت مشدودةً فأزَلْتَ الشدَّ عنها وخلَّيتهَا. فشُبِّه ما يقعُ بالمرأة بذلك، لأنها كانت متّصلة الأسباب بالزوج. وهو حلُّ قَيْدِ النكاحِ أو بعضِهِ (¬1). [حكم الطلاق] 1 - يُباحُ الطلاقُ (لسوءِ عِشْرةِ الزوجةِ) كسوءِ خُلُقِها. 2 - (ويسن) الطلاق (إن تركتْ) الزوجةُ (الصلاةَ ونحوَها) لتفريطِها في حقوقِ الله تعالى الواجبةِ عليها، ولا يمكِنُهُ إجبارُها عليها. وهي كهو، فيُسَنُّ لها أن تخالع نفسها منه إن ترَكَ حقًّا للهِ تعالى ولا يمكنها إجبارُهُ عليهِ. 3 - (ويكره) إيقاع الطلاق (من عيرِ حاجةٍ) لأنه مزيلٌ للنكاحِ المشتملِ على المصالحِ المندوبِ إليها، فيكون مكروهاً. 4 - (ويحرُمُ) إيقاع الطلاق (في الحيضِ ونحوِه) كطهرٍ أصابَها فيه. وسُمِّيَ هذا الطلاقُ طلاقَ البِدْعَةِ. قال في شرح المقنع: وقد أجْمَعَ ¬

_ (¬1) هذا هو المعنى الاصطلاحي.

[طلاق ناقص الأهلية أو فاقدها]

العلماء في جميع الأمصار على تحريمِهِ. 5 - (ويجب) الطلاقُ (على المولي بعد التربّص) إذا أبى الفيئَةَ. (قيل: و) يجب الطلاقُ (على من علم بفجورِ زوجتِهِ) قال الشيخ: إن كانتْ تزني لم يكن له أن يُمسكَها على تلك الحالةِ، بل يفارقها، وإلا كانَ ديّوثاً. انتهى. وقد تبيّن بما ذُكِرَ انقسامُ الطَّلاقِ إلى أحكامِ التكليف الخمسة. [طلاق ناقص الأهلية أو فاقدها] 1 - (ويقع طلاق) الزوج (المميِّز إن عَقَلَ الطلاق) وكان مختاراً. 2 - (و) يقع (طلاق السكرانِ بمائِعٍ) إن كان مختاراً عالماً به (¬1)، ولو خَلَط في كلامِهِ وقراءتهِ وسقَطَ تمييزُه بين الأعيان، فلا يعرفُ الطولَ من العرْض، ولا السماءَ من الأرضِ، ولا متاعَهُ من متاعِ غيرِهِ، ولا الذَّكَرَ من الأنثى. ويؤاخَذُ بأقوالِهِ وأفعالِهِ. وكلِّ فعلٍ يعتبر له العقلُ من قتلٍ وقذفٍ وزناً وسرقةٍ وظهارٍ وإيلاءٍ وبيع وشراءٍ وردّةٍ وإسلامٍ ووقف وعاريةٍ وقبضِ أمانةٍ. قال جماعة من الأصحاب لا تصح عبادة السكران أربعينَ يوماً حتى يتوب (¬2). وقاله الشيخ. والحشيشَة الخبيثةُ كالبنج (¬3). والشيخُ يرى أنّ حكمَهُمَا حكمُ ¬

_ (¬1) أي عالماً بأنّ ما يشربه مسكر. بخلاف من شربه وهو به جاهل. (¬2) العبارة في (ف) مقلوبة هكذا: حتى يتوب أربعين يوماً. (¬3) في شرح المنتهى نسبة هذا القول إلى الزركشي فالحشيشة عنده ملحقة بالبنج والبنج لا يقع طلاق آكله. أما عند الشيخ وهو ابن تيمية فإن الحشيشة ملحقة بالخمر لأنها تشتهى وتطلب. وانظر كلامه في ذلك في "مختصر الفتاوى المصرية" ص 499

الشَّرابِ المسْكِرِ حتّى في إيجابِ الحدّ. تنبيه: الغضبانُ مكلفٌ، في حالِ غضبهِ، بما يصدر منه من كفرٍ، وقتلِ نفسٍ، وأخذِ مالٍ بغير حقّ، وطلاقٍ، وغير ذلك. قال ابن رجب في شرح الأربعين النووية: ما يقعُ من الغضبانِ من طلاقٍ وعتاقٍ أو يمينٍ فإنه يؤاخذ بذلك كلِّه بغير خلافٍ. واستَدَلَّ لذلكَ بأدلةٍ صحيحةٍ. وأنكر على من يقول بخلاف ذلك (¬1). 3 - (ولا يقع) الطلاق (ممن نامَ أو زالَ عقله بجنونٍ أو إغماءٍ) أو برسامٍ أو نَشَافٍ، ولو بضربه نَفْسَهُ. ويقع ممن أفاقَ من جنونٍ أو إغماءٍ فَذَكَرَ أنه طلَّق. قاله في المنتهى. 4 - (ولا) يقع الطلاق (ممنْ أكرَهَهُ قادرٌ ظلماً بعقوبةٍ) مؤلمةٍ كالضرب، والخنقِ، وعصر الساق، والحبسِ، والغطّ في الماء، مع الوعيدَ فطلّق تبعاً لقول مكرهِهِ، لم يقع. وفعلُ ذلكَ بولدِهِ إكراهٌ لوالدِهِ، بخلافِ باقي أقارِبِهِ. (أو تهديدٍ له أو لولدِهِ) من قادرٍ على إيقاع ما هدَّد بِهِ بما يضرّه ضرراً كثيراً، كقتلٍ، وقطعِ طرفٍ، وضرب شديدٍ، وحبسٍ وقيد طويلين، وأخذِ مال كثيرٍ، وإخراجٍ من ديارٍ ونحوِهِ، أو بتعذيبِ ولدهِ بسلطان، أو تغلُّب كلصٍّ ونحوه، ويغلِبُ على ظنِّه وقوعُ ما هدَّده به، وعجزُه عن دفعه، وعن الهرب والاختفاء، فهو إكراه. ¬

_ (¬1) لابن القيم في (أعلام الموقعين 4/ 501) كلام (قيّم) في درجات الغضب وما يمنع منها وقوع الطلاق، احتج فيه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا طلاق في إغلاق) وأثبته رواية عن أحمد. فليرجع إليه.

[في جعل الطلاق إلى الغير]

فصل [في جعل الطلاق إلى الغير] (ومن صحّ طلاقُهُ صحّ أن يوكّل غيرَه فيهِ، وأن يتوكّل عن غيره) لأن من صحّ تصرفه في شيء مما تجوزُ الوكالةُ فيهِ بنفسِهِ صحّ توكيلُه وتوكُّلُهُ فيه، ولأنّ الطلاَقَ إزالةُ ملكٍ فصح التوكُّلُ والتوكيلُ فيه، كالعتقِ. (وللوكيلِ أن يطلّق متى شاءَ) لأن لفظ التوكيلِ يقتضي ذلك، لكونه توكيلاً مطلقاً، أشبه التوكيلَ في البيع، (ما لم يَحُدَّ) الموكِّلُ (له) أي للوكيل (حدًّا) كأن يقول: طلِّقها اليوم، أو نحوه، فلا يملك في غيره، لأنه إنما ثبتت له الوكالة على حسب ما يقتضيه لفظ الموكِّل. (ويملك) الوكيلُ (طلقةً) واحدةً فقط (ما لم يجعلْ له أكثر.) وليس للوكيلِ أن يطلِّق زمنَ بدعةٍ. قال في الإِنصاف: ليس للوكيل المطلِّق الطلاقُ وقت بدعةٍ، فإن فعلَ حَرُمَ ولم يقعْ. صحّحه الناظم. (وإن قال لها) أي قال زوج لزوجته: (طلِّقي نفسِك، كان لها ذلك متى شاءت) كوكيلٍ أجنبيّ، ولا تملك به أكثر من واحدةٍ إلا أن يجعله لها. (وتملكُ) الزوجةُ (الثلاثَ) أي أن تطلق نفسها ثلاثاً (إن قال) لها زوجها: (طلاقُكِ) بيدكِ، (أو: أمرُك بيدكِ، أو) قال لها: (وكّلتك في طلاقِكِ) أي في طلاق نفسكِ (ويبطل التوكيل) في الطلاق (بالرجوع) أي رجوعِ الموكّل عن الوكالةِ، (وبالوطء) للزوجةِ التي وَكَّلَ في طلاقِها، فتنفسخ الوكالة، لدلالة الحال على ذلك.

باب سنة الطلاق

باب سُنّة الطّلاق أي يعرف منه حكم سُنة الطلاق (و) حكم (بدعته). (ومعنى سنّة الطلاقِ ما أتى به المطلق من الطلاقِ على الوجه المشروعِ. ومعنى بدعته ما أتى به على الوجه المحرّم المنهى عنه. ثم (السنة لمن أراد طلاق زوجتِهِ أن يطلقها) طلقةً (واحدةً)، لأن جمعَ الطلاقِ بدعةٌ (في طهرٍ لم يطأها فيه) أي في ذلك الطهر، ثم يدعَهَا حتى تنقضي عدّتُها إلا في طهرٍ متعقِّبٍ لرجعةٍ من طلاقٍ في حيضٍ فبدعةٌ. (فإن طلّقها ثلاثاً، ولو بكلماتٍ) في طهرٍ لم يصبها فيه، أو طلَّقها ثلاثاً في أطهار قبل رجعة (فحرام) نصًّا، لا اثنتين. (و) إن طلق زوجٌ زوجةً مدخولاً بها (في الحيضِ أو في طهرٍ وطئَ فيه) ولم يستبنْ حملُها، أو علَّقه على أكلِها ونحوِه مما يعلم وقوعه حالتهما، (ولو بواحدة، فبِدْعيّ) أي فذلك طلاق بدعة (حرام). (ويقع) الطلاق (¬1). ¬

_ (¬1) في وقوع الطلاق البدعي خلاف ابن تيمية وابن القيم، فهما يريان أن الطلاق إذا كان بلفظ الثلاث لم يقع إلا واحدة. لقوله تعالى {الطلاق مرتان ... } أي مرة بعد مرة. والطلاق في حيض، أو في طهر أصابها فيه ولم تكن حاملاً لا يقع أصلاً لقوله =

(ولا سنة ولا بدعة) لا في زمن ولا في عَدَدٍ (لمن لم يدخل بها، ولا لـ) زوجةٍ (صغيرةٍ وآيسةٍ وحاملٍ) بيِّنٍ حملُها. بهذا قيّده في الإقناع والمنتهى، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، والصغيرة والآيسة عدّتها بالأشهر فلا تحصل الريبة. والحامل التي استبان حملُها عدّتُها بوضعِ الحملِ، فلا ريبةَ، لأن حملها قد استبان، بخلاف من لم يستبنْ حملُها، وطلَّقها ظانًّا أنها حائل، ثم ظهر حملُهَا، ربما ندم على ذلك. (ويباح الطلاق و) يباح (الخلع بسؤالها) أي سؤالِ الزوجةِ. قال في المنتهى: على عوض (¬1) (زمن البدعة) لأن المنع من الطلاق زمن البدعة إنما شرع لحق المرأة فإذا رضيت بإسقاط حقها زال المنع وأبيح (¬2). ¬

_ = {فطلقوهن لعدتهن ... } أي في قبل عدّتهن، يعني في طهرٍ لما يطأ فيه. (وراجع مجموع الفتاوى الكبرى 33/ 14، 72، 82، 100، وإعلام الموقعين ط دار الجيل 30/ 3). (¬1) هذا التقييد ليس في المنتهى بل في شرحه (انظر شرح المنتهى المطبوع بمطبعة أنصار السنة 3/ 127) وإنما عزاه لما فيه من إشكال، فإنه إن أُبيح على عوض أُبيح على غير عوض، لعدم الفارق المؤثر. (¬2) فيما قال نظر، فإن الطلاق مكروه أصلاً، ومحرم زمن البدعة، ليحمل التروِّي فيه، ويقلّ الاقدام عليه، لما فيه من الضرر على الأسرة والأولاد والمجتمع، فلو رضيت به وافترضنا زوال الضرر في حقها لم يلزم زواله في حق غيرها. وقد تطلبه هي في وقتها، ثم إذا وقع بها كانت أول من يولول لوقوعه، كما شوهد ذلك في قاعات المحاكم كثيراً.

باب (صريح الطلاق) (و) باب (كنايته)

باب (صَريح الطّلاق) (و) بَاب (¬1) (كنَايته) يعني أن المعتبر في الطلاق اللفظ دون النية التي لا يقارنها لفظ، لأن اللفظ هو الفعل المعبِّر عما في النفس من الإِرادة والعزم، والقطع بذلك إنما يكون بعد مقارنة القول للإِرادة فلا تكون الإٍرادة وحدها من غير قول فعلاً، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدّثتْ به أنفسَها ما لم تتكلمْ أو تعمَلْ به" (¬2) فلذلك لا تكون النية وحدها أثراً (¬3) في الوقوع. وانقسم اللفظ إلى صريح وكناية، لأنه إزالة ملك النكاح، فكان له صريح وكناية، كالعتق، والجامع بينهما الإِزالة (¬4). (صريحُهُ لا يحتاج إلى نيّةٍ) الصريح ما لا يحتَمِلُ غيره من كل شيء، والكناية ما يحتمِل غيره ويدلُّ على معنى الصريح. ¬

_ (¬1) في حلّ المتن هكذا ما فيه، فإن بابهما واحد، فلا يصح تكرار الكلمة. (¬2) هذا الحديث تلفّق عند الشارح من حديثين: أولهما: حديث "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي ذر، والطبراني في معجمه الكبير والحاكم وابن حبان والضياء من حديث ابن عباس. وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير). وثانيهما: حديث "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها -وفي رواية: ما وسوست به صدورها- ما لم تتكلم به أو تعمل به" متفق عليه، ورواه أيضاً أحمد وأصحاب السنن الأربعة، كلهم من حديث أبي هريرة. (¬3) كذا في الأصول، والعبارة زائدة على ما في شرح المنتهى. والسياق يقتضي "مؤثراً". (¬4) في ما ذكره الشارح نظر، فلا يجب أن يكون لكل مزيل صريح وكناية.

(وهو) أي الصريح (لفظ "الطلاق") أي لفظُ المصدَرِ (وما تصرّف منه) فقط, كطالِقٍ ومطلقة وطلقتك (غيرَ أمرٍ) كطلِّقي، (و) غيرَ (مضارعٍ) كتَطْلُقِينَ، (و) غير (مطلِّقةٍ اسم فاعل) أي بكسر اللام مشدّدةُ. (فإذا قال) الزوجُ (لزوجته: أنت طالق، طلقت، هازلاً كان أو لاعباً) أو فَتَحَ التّاءَ: قال ابن المنذر: أجمعَ كلُّ من أحفظُ عنه من أهلِ العلمِ أنّ هزْلَ الطلاقِ وجِدَّهُ سواء. (أو) كان (لم ينو) الطلاقَ، لأن النيّةَ ليستْ بشرطٍ في الصريح، لأنه لفظٌ أتى به مع العلم بمعناهُ، مع عدم احتمالِ غيرِهِ، فلم تكنِ النيّةُ شرطاً فيه، كالبيع، (حتى لو قيل له: أطلَّقْتَ امرأتك؟ فقال: نعم) أو قيل له: امرأتُكَ طالقٌ؟ فقال: نعم (يريد الكذب بذلك) فإنها تطلق، وإن لم ينْوِ، لأن "نعم" صريح في الجواب، والجواب الصريحُ للّفظِ الصريح صريح. ألا ترى أنه لو قيل له: ألفلانٍ عليك ألف؟ فقال: نعم، وجب عليه. (ومن قال: حلفتُ بالطلاقِ، وأرادَ الكذبَ) لم يصرْ حالفاً؛ (ثم إن فَعَل ما حلف عليه وقع الطلاقُ حكماً) لأنه خالفَ ما أقرَّ به، ولأنه يتعلقُ به حقُّ إنسانٍ معينٍ، فلم يُقْبَلْ في الحكم، كإقرارِهِ له بمالٍ، ثم يقول: كذبتُ. (وَدُينَ) فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه لم يحلف (¬1)، واليمين إنما تكون بالحلف. (وإن قال: عليَّ الطلاقُ. أو: يلزمني الطلاقُ) أو: الطلاقُ لازمٌ لي (فصريحٌ) في المنصوصِ، لا يحتاج إلى نية، سواء كان (منجَّزاً، أو معلقاً) بشرطٍ، (أو محلوفاً به) أي بالصّريح. قال القاضي: لا تختلف الروايةُ عن أحمد فيمن قال لامرأته: "أنتِ الطلاقُ" أنه يقعُ، نواه أو لم ¬

_ (¬1) في (ص): "لأنه يحلف".

[الطلاق بالكتابة والإشارة]

ينوِه. ويقع به واحدةٌ ما لم ينو أكثر. (وإن قال: عليّ الحرامُ)، أو يلزمني الحرام، أو: الحرام يلزمني (إن نوى امرأتَه) أو دلتْ قرينةٌ على إرادة ذلك، (فـ) هو (ظهارٌ، وإلا فلغوٌ) لا شيء فيه. (ومن طلّق زوجةً) من زوجاتِهِ (ثم قال عقبه لضرتها: شرَّكْتُكِ) معها، (أو: أنتِ شريكتُها، أو: أنتِ مثلُها، وقع عليهما) الطلاقُ. (وإن قال: عليَّ الطلاقُ، أو: امرأتي طالق، ومعه أكثر من امرأةٍ، فإنْ نوى معيّنَةً) من زوجاتِهِ (انصرفَ إليها)؛ وإن كان هناك سببٌ يقتضي تعميماً أو تخصيصاً عُمِل به؛ (وإن نوى واحدةً) من زوجاتِهِ (مبهمةً أُخْرِجَتْ بقرعةٍ؛ وإن لم ينو شيئاً) ولم يكن سببٌ يقتضي تعميماً أو تخصيصاً (طَلَق الكلّ). (ومن طلَّق) زوجتَهُ (في قلبه لم يقع) طلاقُهُ. (فإن تلفّظَ به، أو حرَّك لسانَهُ، وقع،) نقل ابن هانئٍ عن أحمد: إذا طلَّق في نفسِه لا يلزمه، ما لم يلفِظْ به أو يحرّكْ لسانه. قال في الفروع: وظاهره أي ظاهر النهي (¬1) (ولو لم يسمعْهُ) أي من حرّك به لسانه، بخلاف قراعةٍ سرّيّةٍ [في] الصلاة، فإنها لا تجزئه حيثُ لم يُسمعْ نفسه. [الطلاق بالكتابة والإِشارة] (ومن كتَبَ صريحَ طلاقِ زوجتِهِ) بما يَبين (وقع) وإن لم ينوِهِ، على الأصح، لأنها صريحة فيه، لأن الكتابةَ صريحةٌ في الطلاق. ووجه كونها صريحة فيه أن الكتابة حروفٌ يفهم منها الطلاق. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والسياق يقتضي "وظاهر النصّ" ويراجع الفروع.

[في كنايات الطلاق]

(فلو قال: لم أُرِدْ إلا تجويدَ خطّي، أو): لم أرد إلا (غَمَّ أهلي، قُبِل) منه (حكماً) أي في الحكم، أو قَرَأَ ما كتبه وقال: لم أقصدْ إلا القراءة، قُبِلَ مِنْهُ حكماً. (ويقع) الطلاقُ (بإشارةِ الأخرسِ فقطْ) حيث كانتْ مفهومة. ويكون حكمها كالصريح من غير الأخرس. فصل [في كنايات الطلاق] (وكنايته) أي كناية الطلاق (لا بدّ فيها من نية الطلاق،) سواء كانت الكناية ظاهرةً أو خفيةٌ، لأنّ الكناية لما قَصُرَت رُتبتها عن الصريح وُقِفَ عملها على نية الطلاق، تقويةً لها، وإلحاقاً لها بعمل الصريح، ولأن الكنايةَ لفظٌ يَحْتَمِل غيرَ معنى الطلاقِ فلا يتعين له بدون النية. (وهي) أي الكناية (قسمان: ظاهرة، وخفية). (فالظاهرة: يقع بها الثلاثُ) أي الطلاق الثلاثُ، حتى وإن نوى واحدةً، على الأصحّ (¬1)، لأن ذلك قولُ علماءِ الصحابة، منهم ابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة. (و) الكناية (الخفية: يقع بها) طلقةٌ (واحدة) رجعية في مدخولٍ بها (ما لم ينوِ أكثر،) فإن نوى أكثر وقع ما نواه، لأنه لفظ لا ينافي العدد، فإذا نوى عدداً وجب أنه يغ ما نواه، لأنه لا ينافيه. ¬

_ (¬1) وأشار (عبد الغني) إلى الرواية الأخرى أن الإِمام أحمد كان يكره أن يفتي في الكنايات الظاهرة مع ميله إلى أنه ثلاث. قال. فعلى هذه الرواية إن لم ينو عددا تقع واحدة كما في الإقناع.

(فالظاهرةُ) خمسةَ عشر (¬1): (أنت خَلِيَّةٌ، و) أنت (بَرِيَّةٌ، و) أنت (بائنٌ، و) أنتِ بَتَّةٌ، وأنت بَتْلَةٌ، و (أنت حُرّة، وأنتِ الحَرَجُ؛ وحبلك على غارِبِك، وتزوجّي من شئتِ، وحَلَلْتِ للأزواج، أو لا سبيل لي عليكِ، أو لا سلطانَ) لي عليكِ، (وأعتقتُكِ، وغَطَّي شَعْرَكِ، وتقنَّعي). (والخفيّة) عشرون، وهي: (اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرّعي، وخلَّيْتُكِ، وأنتِ مخلاّة، وأنتِ واحِدَةٌ (¬2)، ولستِ لي بامرأةٍ، واعتدّي، واستبرئي، واعتزِلي، والحقي بأهلِكِ، ولا حاجةَ لي فيكِ، وما بقيَ شيءٌ، وأغَناكِ اللهُ، وإنّ اللهَ قد طلّقكِ، والله قد أراحكِ مني، وجرى القلمُ) ولفظُ فراقٍ، ولفظ سراحٍ. (ولا تشترط النيّةُ) للطلاقِ (في حال الخصومةِ أو) في حال (الغضبِ). (وإذا سَأَلَتْهُ) أي سألت الزوجةُ زوجَها (طلاقَهَا) فيقع الطلاق في هذه الأحوال بالكناية بدون نيةٍ (فلو قال في هذه الحالةِ) أي في حالة الخصومةِ أو الغضب أو سؤالِ الطلاق (لم أُرِدِ الطلاقَ، دُيِّنَ) فيما بينه وبين الله تعالى، (ولَم يُقْبَلْ حُكْماً) على الأصحّ لأن دلالة الحال لها تأثيرٌ في حكم الألفاظ، فإن اللفظَ الواحدَ يُحْمَلُ على الذم تارة وعلى المدح أخرى، كما في قول الشاعر: قُبَيِّلةٌ لا يغدِرُونَ بِذمَّةٍ ..... ولا يظلِمونَ الناسَ حَبّةَ خَرْدَلِ فإن ظاهر هذا المدح، لولا البيتُ الأولُ، وهو قوله: إذا اللهُ عادى أهلَ لُؤْمٍ وذِلةٍ ..... فَعَادى بني العجلانِ رهطَ ابنِ مُقْبِلِ فعُلِمَ بذلكَ أنه أراد به (¬3) ذلتهم وقلتهم. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، والصواب: خمس عشرة. وهذا وقوله فيما بعد "عشرون" ليس هذا الحصر بشيء، بل كل ما دل على الفراق احتمل أن يكون كناية طلاق. (¬2) كذا في الأصول، وهو الصواب. والذي في شرح المنتهى "وأنت مخلاّة واحدة". (¬3) (ب، ص): "بهم" والتصويب من (ف).

باب ما يختلف به عدد الطلاق

باب مَا يختَلف بهِ عدَد الطّلاق ويعتبر مِلْكُ عدده بالرجال. روي ذلك عن عُمَرَ وعثمان وزيدٍ وابنِ العباس، وبه قال مالكٌ والشافعىٌ. وعنه أن الطلاق بالنساء. والأول المذهب. (يملك الحرُّ) ثلاث طلقات، (و) يملك (المبعّض) أيضاً (ثلاثَ طلقاتٍ) ولو زوجَيْ أمةٍ. (و) يملك (العبد) ولو مكاتباً أو مدبَّراً أو طَرَأَ رِقّه [كذميٍّ تزوّج ثم لحق بدار الحرب فاستُرِقَّ قبل أن يطلق فإن له طلقتين. صرح به في شرح المنتهى] (¬1) أو معه حرة، (طلقتينِ) فقطْ، فلو علق عبدٌ الثلاثَ بشرطٍ فوُجِدَ بعد عتقِهِ وقع الثلاثُ، وإن علقها بعتقِهِ فعتق لغت الثالثة. (ويقع الطلاق بائناً في أربع مسائل:) الأولى: (إذا كان) الطلاقُ بعد الدخولِ (على عوضٍ) قال في الإِقناع وشرحه: وطلاق معلق بعوضٍ، أو منجَّزٌ بعوضٍ، كخلعٍ في إبانةٍ، لأن القصد إزالةُ الضَّرَر عنها، ولو جازت رجعتها لعادَ الضَّرَرُ. انتهى. وأشار للثانية بقوله: (أو قبل الدخول) والخلوةِ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب، ص) وثابت في (ف).

وأشار للثالثة بقوله: (أو في نكاحٍ فاسدٍ) لأن من نكاحُها فاسدٌ تبين بالطلاق، فلا تُمْكن رجعتُها. فإذا لم تحل بالنكاح لعدم صحته وجب أنْ لا تحلَّ بالرجعة. ولا يحلّ نكاحها في هذه المسائل الثلاث إلا بعقد جديد بشروطه. وأشار للرابعة بقوله: (أو) طلّقها (بالثلاثِ) دفعةً واحدة، أو دفعاتٍ إن كان حرًّا، أو طلقها اثنتين دفعة واحدة أو دفعتين، إن كان عبداً. (ويقع ثلاثاً إذا قال أنت طالقٌ بلا رجعةٍ، أو) قال: طالق (ألبتة، أو) طالق طلاقاً (بائناً). (وإن قال) الزوج لزوجته: (أنتِ الطلاقُ، أو: أنتِ طالق،) أو: يلزمني الطلاق، أو: الطلاق لازمٌ لي، أو: عليَّ الطلاقُ، [فهو] صريحٌ، في المنصوص، فلا يحتاج إلى نية سواءٌ كان منجَّزاً، أو معلّقاً، أو محلوفاً به و (وقع) به (واحدةٌ) لأنّ أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثاً. (وإن نوى ثلاثاً) أو اثنتين (وقع ما نواه،) كما لو نوى بأنتِ طالقٌ أكثرَ من واحدةٍ، فإنه يقع ما نواه. (ويقع ثلاثاً إذا قال) لزوجته: (أنتِ طالقٌ كلَّ الطلاق، أو: أكثَرَهُ،) أي أكثر الطلاق (أو: جميعَهُ) أو منتهاه، أو غايَتَهُ، أو أقصاه، (أو): أنتِ طالقٌ (عَدَدَ الحصى ونحوه) مما يتعدّد، كعدد القَطْر أو الرملِ أو الريحِ أو التراب، أو عددَ النجومِ، أو عدد الجبالِ أو السفنِ أو البلاد. (أو قال لها: يا مائةَ طالقٍ،) فثلاَثٌ. ولو نوى واحدة. (وإن قال) لزوجته: (إنتِ طالقٌ أشدَّ الطلاق، أو أغلظَه، أو أطوله، أو أعرضه،) أو ملءَ البيت، (أو ملءَ الدنيا، أو مثل الجبل)، أو عِظَمَه، أو أنت طالِقٌ عِظَمَ الشمس، أو القمرِ، أو عِظَمِ الفيلِ، أو الجمل، ونحوه (أو) قال لزوجته: أنتَ طالق (على سائرِ المذاهبِ وقعَ)

فصل

طلقةٌ (واحدةٌ ما لم يَنْو أكثر) فيقع ما نواه. ومن طلقةٍ إلى ثلاث، فثنتان. فصل (والطلاق لا يتبعّضُ، بل جزء الطلقةِ كَهِيَ) فأنتِ طالقٌ ثلثَ أو سدسَ [طلقةٍ]، أو نصفَ وثلثَ وسدسَ [طلقة أو نصفَيْها] (¬1) فطلقةٌ واحدة. (وإن طلّق بعض زوجته) بأن قال لها: نصفُك وربعُك وخمسُكُ طالق، أو بعضُك طالقٌ، أو جزءٌ منك طالق (طلقت كلُّها. وإن طلّق منها جزءاً لا ينفصل كيدها) وأصبعها ودمها (وأذنها وأنفها طلقت) كلّها. (وإن طلّق) من زوجته (جزءاً ينفصل كشعرها وظفرها وسنَّها لم تطلق) قال أبو بكر: لا يختلف قول أحمد أنه لا يقع طلاق وظهار وعتق وحرام بذكر الشعر والظفر والسن والروح. وبذلك أقول. انتهى. فصل (وإذا قال) لامرأته الواحدة: (إنت طالق لا بل أنت طالق، فواحدة) أي طلقت طلقةً واحدة. قال ابن رجب في القاعدة التاسعة والخمسين بعد المائة: وهاهنا مسألة حسنة نص عليها أحمد في رواية ابن منصور: إذا قال لامرأتِهِ أنت طالقٌ بل أنت طالق، قال: هي تطليقتان، هذا كلام مستقيم، وإن قال: أنتِ طالق لا بل أنت طالق، هي واحدة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ب، ص) وثابت في (ف).

ثم ذكر توجيهَ حكمِ الأولى، ثم قال: وأما إذا قال: أنت طالق لا بل أنت طالق، فقد صرّح بنفي الأولى ثم أثبته بعد نفيه، فيكون المثبَتُ هو المنفيَّ بعينه، وهو الطلقة الأولى، فلا يقع به طلقة ثانية. (وإن قال) لها: (إنت طالق طالق طالق، فواحدةٌ) تم أي طلقت طلقةً واحدة، لأنه لم يُثبِتْها بلفظٍ يقتضي المغايرة (ما لم ينوِ أكثر) من واحدة، فيقع ما نواه. ومعلَّق في هذا كمنجَّز. (وأنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ) مرتين (وقع ثنتان) إن كانت مدخولاً بها (إلا أن ينوي) بتكراره (تأكيداً متصلاً أو إفهاماً لها) أنّ الأولى وقعَتْ بها. وإنما يقع عليه طلقتان إذا لم ينوِ تأكيداً ولا إفهاماً، لأن هذا للِإيقاع، ويقتضي الوقوع، بدليل لو لم يتقدمه مثلُه. وإنما ينصرف عن ذلك بنيّةِ التأكيد أو الإفهام، فإذا لم يوجد شيء من ذلك وقع مقضتاه. (و) إن قال: (أنت طالق فطالق، أو) قال: أنت طالق (ثم طالق)، أو قال: أنت طالق بل طالق، أو: بل أنت طالق، أو: طلقة بل طلقتين، أو: طلقة بل طلقة، (ف) يقع عليه (اثنتان) أي فإنه يقع عليه طلقتان. وهذا كله (في المدخول بها، وتبين غيرُها بالأولى،) ولا يلحقها ما بعدها، لأنها إذا بانت بالأولى صارت كالأجنبية، فلا يلحقها طلاق بعدها. (و) إن قال لها: (إنت طالق وطالق وطالق، فـ) يقع عليه (ثلاث) طلقات (معاً)، لأن الواو تقتضي الجمع، ولا ترتيب فيها، فيكون موقعاً للثلاثِ جميعاً، (ولو) كانت الزوجة (غير مدخولٍ بها.)

في حكم الاستثناء

فصل في حكم الاستثناء الاستثناءُ استفعالٌ من الثَّنْيِ، وهو الرجوع، يقال: ثَنَى رأس البعير إذا عَطَفه إلى ورائه، فكأنَّ المستثنِي رجَع في قوله إلى ما قبله. وهو إخراجُ بعضِ الجملةِ بإلاّ أو ما قام مقامها من متكلِّم واحدٍ. (ويصح الاستثناءُ في النصف فأقلّ) منه في المنصوص، لأنه كلام متصل أبان به أن المستثنى غير مرادٍ بالأول، فصحّ (من مطلَّقاتٍ) كقوله: زوجاتي طالقاتٌ، إلا إحداهما، أو قال زوجُ أربعٍ: نسائي طوالقُ إلا اثنتين؛ أو زوجُ ثلاثٍ: نسائي طوالق إلا واحدة. (و) يصح استثناءُ النصفِ فأقلَّ من عدد (طَلَقاتٍ) في الأصح (فـ) يتفرع على المذهب (لو قال) لزوجته: (إنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا واحدة، طلقت اثنتين) أي طلقتين. (و) إن قال لها: (إنت طالق أربعاً إلا اثنتين) فإنه (يقع) عليه (ثنتان)، بناءً على صحة استثناء النصف. فإن قيل: كيف أجزتم استثناءَ الاثنتين من الثلاثة، وهي أكثرها، في قوله: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة؟ قلنا: لأنه لم يسكت عليها، بل وصلها، بأن استثنى منها طلقةً، فصارت عبارة عن واحدة. (و) من له أربع نسوةٍ فقال: (نسائي الأربعُ طوالقُ إلا ثنتين، طلق اثنتان) لأنهما نصف الأربع. (وشُرِطَ) بالبناء للمفعول (في الاستثناءِ اتصالٌ معتاد)، لأن غير المتصل لفظ يقتضي وقوعَ ما وقع بالأوّل. والطلاقُ إذا وقعَ لا يمكن رفعه، بخلاف المتصل، فإن الاتصال يجعل اللفظ جملة واحدة، فلا يقع الطلاق قبل تمامها، ولولا ذلك لما صحّ التعليق.

في حكم [طلاق الزمن] الماضي والمستقبل

ثم إنّ الاتصال قد يكون (لفظاً) كما لو أتى به متوالياً، (أو) يكون متصلاً (حكماً، كانقطاعه) أي انقطاع جملة ذلك (بعطاسٍ ونحوِه،) كتنفسٍ، وسعالٍ، بخلاف ما لو كان انقطاعه بكلامٍ معترضٍ، أو زمنٍ طويلٍ، فإنه يمنع صحة الاستثناء. وشرط له أيضاً نية الاستثناء قبل تمام مستثنى منه. وكذا شرط ملحق كما لو قال: أنت طالق إن دخلتِ الدار. فصل (في) حكم (طلاق الزمن) الماضي والمستقبل (إذا قال) لزوجته: (أنت طالقٌ أمس، أو) قال لها: أنت طالق (قبل أن أتزوّجك، ونوى) بذلك (وقوعَه) أي وقوع الطلاق (إذن) أي إيقاعه الآن، (وَقَعَ) في الحالِ، لأنه مُقِرٌّ على نفسه بما هو أغْلَظُ في حقِّه. (وإلا) أي وإن لم ينوِ وقوعه في الحال (فلا) أي فلا يقع، لما روي عن أحمد فيمن قال لزوجته: أنت طالق أمسِ، وإنما تزوَّجها اليوم: ليس بشيءٍ. (و) إن قال الزوج لزوجته: (أنت طالق اليومَ إذا جاءَ غدٌ، فلغوٌ) لا يقع به شيءٌ، لعدم تحقق شرطه، لأن مقتضاه وقوعُ الطلاق إِذا جاء غد، ولا يتأتّى غدٌ إلا بعد ذهاب اليوم، وذهاب محلِّ الطلاق. (و) إِن قال لزوجته: (أنت طالق غداً، أو) أنت طالق (يوم كذا وقع) الطلاق (بأولهما)، لأنه جعلَ الغدَ وبومَ كذا ظرفاً للطّلاق، فإذا وجد ما يكون ظرفاً له طلقت. ولا يديّن (ولا يُقبلَ) منه (حكماً) أي في الحكم (إن قال: أردتُ آخرهما) لأن لفظه لا يحتمله. (و) إِن قال: (إنت طالق في غدٍ، أو في رجب، يقع بأولهما) وذلك في رجبٍ ونحوه من حين تغرب الشمسُ من آخر الشهرِ الذي

قبله، لأنه جعلَ الشهرَ ظرفاً للطلاق، فإذا وجد ما يكون ظرفاً له طلقت فيه. وله وطءٌ للمعلَّق منها قبل وقوعٍ. (فإن قال: أردت) أن الطلاقَ إنما يقع (آخِرَهما) دُيِّن فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى و (قُبِل حكماً) لأن آخر هذه الأوقات وأوسطها منها، فإرادته لذلك لا تخالف ظاهِر لفظِهِ. فإن قال: أنت طالقٌ أولَ شهرِ كذا، أو: غُرَّتَهُ، أو: في رأسه واستقباله، أو مجيئه، فإنه لا يقبل قوله: أردت وسطه ولا آخره، لأن لفظه لا يحتمله. (وأنت طالقٌ كلَّ يوم)، وأنت طالقٌ اليومَ وغداً وبعدَ غدٍ، (فواحدةٌ). (وأنت طالقٌ في كلِّ يومٍ، فتطلق في كل يوم واحدةً). وأنت طالقٌ يومَ يقدم زيد، يقع يومَ قدومِهِ من أوله. (و) إن قال لها: (إنتِ طالقٌ إذا مضى شهر فـ) إنها تطلق (بمضيِّ ثلاثينَ يوماً؛ و) إن قال: أنت طالق (إذا مضى الشَّهرُ، فـ) إنها تطلق (بمضيّه. وكذلك) أي وكالتفصيل المذكور إذا قال لها: أنت طالق (إذا مضت سنة، أو) إذا مضت (السنة).

باب تعليق الطلاق

باب تعليق الطَّلاق (¬1) (إذا علَّقَ) الرجلُ (طلاقَ زوجتِهِ) أو عتقَ عبده (على وجود فعلٍ مستحيلٍ) عادة (كإن صعدتِ السماءَ) أو شاءَ الميّت، أو شاءت البهيمة، أو طِرْتِ (فأنتِ طالق، لم تطلق) ولم يعتق. (وإن علقه) أي علّق الطلاقَ، وكذلك العتق (على عدمِ وجوده، كإن لم تصعدي) السماءَ أو إن لم يشأ الميت ونحوِهِما (فأنتِ طالق، طلقت في الحال،) وعتَقَ الرقيق، كما لو قال: أنت طالق إن لم أبعْ عبْدي، فماتَ العبد. ولأنه علَّق الطلاقَ على عدمِ فعلِ المستحيل، وعدمُهُ معلوم في الحال وما بعده. (وإن علّقه) أي الطلاقَ (على) فعل (غيرِ المستحيلِ) كإن لم اشترِ من زيدٍ عبدَه، فأنت طالق (لم تطلق إلا باليأس مما علَّق عليه الطلاق) وهو موت العبد أو عتقُهُ (ما لم يكن هناك نيَّة أوَ قرينة تدل على الفورِ، أو يقيِّد بزمنٍ، كقوله: اليومَ، أو الشهر، (فيعمل بذلك) أي بالنية أو القرينة أو التقييد بزمن. ¬

_ (¬1) إذا علق الطلاق يريد الحث على فعل شيء أو المنع منه أو تأكيد الخبر فيرى ابن تيمية وغيره أنه لا يقع الطلاق، وفيه الكفارة إن حنث. وانظر مختصر الفتاوى ص 439 - 441

فصل

فصل (ويصحُّ التعليق مع تقدَّم الشرط) بصريحِ طلاقٍ، كإن دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ، وبكنايةِ الطلاقِ مع قصدِهِ، كإن دخلت الدار فأنت خليّة، وينوي بلفظ "خلية" الطلاق. (و) يصح التعليق أيضاً مع (تأخّرِهِ) أي تأخر الشرط، بصريحٍ، كقوله: أنتِ طالق إن دخلتِ الدار، وبكنايةٍ مع قصدٍ، كقوله: أنتِ خلية إن دخلتِ الدار. ثم مثّل المصنف للتقدُّم والتأخُّر بقوله: (كإن قمتِ فأنتِ طالق) هذا مثال تقدم الشرط، (أو: أنتِ طالقٌ إن قمتِ) وهذا مثال تأخر الشرط. (ويشترط لصحة التعليق أن ينويه) أي الشرطَ (قبل فراغ التلفُّظِ بالطلاق). (و) يشترط لصحة التعليق أيضاً (أن يكون) الشرطُ (متصلاً لفظاً، أو حكماً، فلا يضرُّ لو عَطَسَ ونحوَه) بين شرطٍ وحكمه، (أو قَطَعَهُ بكلامٍ منتظم، كأنتِ طالقٌ، يا زانيةُ، إن قمت) أو إن قمتِ يا زانيةُ فأنت طالق. (ويضرُّ إن قطعَهُ) أي التعليق (بسكوتٍ) بين شرطٍ وحكمِهِ سكوتاً يمكنه فيه الكلام، (أو كلام غيرِ منتظمٍ، كقوله): أنتِ طالقٌ (سبحانَ اللهِ) إن قمت. (وتطلق في الحال) لقطع التعليق. فصل (في مسائل متفرقة) يعلق فيها الطلاق (إذا قال) لزوجته: (إن خرجتِ بغير إذني)، أو: إلا بإذني: أو: حتى آذن لك، (فأنتِ طالق، فأذنَ لها) في الخروج (ولم تعلم،)

فخرجت، طلقتْ، لأن الإذْن هو الإِعلام، ولم يُعلمْها، (أو) أذن لها و (علمت وخرجت، ثم خرجت ثانياً بلا إذنه طلقت) لأنها خرجت بغير إذنه (ما لم يأذن) الزوجُ (لها في الخروجِ كلّما شاءَتْ) فلا يحنثُ بخروجِها بعد ذلك بدون حلف متجدّدٍ. (و) إن قال الزوج: (إن خرجتِ بغيرِ إذنِ فلانٍ) رجلٍ معيّنٍ، -ظاهره أجنبياً كان أو غيرَه- (فأنت طالق، فمات) فلانٌ، (وخرجتْ، لم تطلق.) قال في الإِنصاف: على الصحيح من المذهب. وحسنه (¬1) القاضي، وجعلَ المستثنى محلوفاً عليه. انتهى. فعلى هذا يكون المعنى على قول القاضي: إن حصَل منكِ خروجٌ بدون إذن زيد فأنتِ طالقٌ، فيفوت المحلوفُ عليه بموته. (و) إن قال لها: (إن خرجتِ إلى غيرِ الحمّام) بلا إذني (فأنت طالق، فخرجت له) أي للحمّام ولغيرِهِ، أوْ له (ثم بدا لها غيرُه، طلقت) أيضاً، لأن ظاهر هذه اليمينِ المنعُ من غيرِ الحمام، فكيفَمَا صارتْ إليه حنث، كما لو خالفتْ لفظَهُ. (و) إن قالَ رَجُلٌ: (زوجتي طالقٌ، أو) قال مالكُ عبدٍ (عبدي حرٌّ، إن شاء اللهُ، أو: إلا أن يشاء الله)، أو: إن لم يشأ الله، أو: ما لم يشأ الله، (لم تنفعه المشيئة شيئاً، ووقع) الطلاقُ والعتاقُ، لقصدِهِ بقوله: إن شاء الله، تأكيدَ الوقوعِ، وقد نص أحمدُ على وقوعهما. (وإن قال): أنت طالق (إن شاء فلان، فتعليق) على مشيئةٍ فلانٍ (لم يقع إلا أن يشاء) فلان. (وإن قال) لزوجته: أنتِ طالقٌ (إلا أنْ يشاءَ زيدٌ، فـ) الطلاق ¬

_ (¬1) هكذا في الأصول، "وحسّنه القاضي" والذي في شرح المنتهى 3/ 169 "خلافاً للقاضي" وهو الصواب فيما يبدو من السياق. ثم راجعنا الإِنصاف (8/ 99) فإذا العبارة "وحنثه القاضي".

(موقوف: فإن أبى) زيدٌ (المشيئة، أو جُنَّ، أو مات، وقع الطلاق إذن) لأنه أوقع الطلاقَ وعلَّق رفعه بشرط، ولم يوجد. (وأنتِ طالقٌ إن رأيتِ الهلالَ عياناً) بأن لم يحصل دون رؤيتِهِ غيمٌ أو قَتَر (¬1) (فرأته في أول) ليلةٍ، (أو ثاني) ليلة، (أو ثالثِ ليلةٍ، وقع) الطلاقُ، (و) إن رأته (بعدَها) أي بعد الليالي الثلاثة (¬2) (لم يقع) الطلاق لأنه يسمى بعدها قمراً في الأصحّ. (و) إن قال لزوجته: (أنتِ طالق إن فعلتِ) أنتِ (كذَا، أو) قال: أنتِ طالق (إن فعلتُ أنا كذا، ففعلتْه) هي، (أو فَعَله) هو، حال كون الفاعل منهما (مكرَهاً، أو) فعله حالِ كونه (مجنوناً، أو) حال كونه (مغمًى عليه، أو) حال كونه (نائماً، لم يقع) الطلاقُ لكونه مغطًّى عقلُه في هذه الأحوال (¬3). (وإن فعلته) هي، (أو فعله) هو، حال كونه (ناسياً) الحلفَ، (أو) حال كونه (جاهلاً) وجودَ الحنث بفعلِهِ، أو جاهلاً أنه الفعل المحلوفُ عليه، كمن حلفَ لا يدخلُ دار زيدٍ، ثم دخلها جاهِلاً أنها دارُ زيدٍ، (وقع) الطلاق. (وعكسُه) أي عكسُ ما ذكر (مثلُه) أي في التفصيل المذكور، (كإن لم تفعلي) أنتِ (كذا، وإن لم أفعلْ) أنا (كذا، فلم تفعله) هي، (أو لم يفعله هو،) نسياناً، أو غيره. ¬

_ (¬1) هذه العبارة "إن لم يحصل .. الخ" في الأصول. وليست في شرح المنتهى، وحذفها أولى. إذ إنه لو انتفت رؤيتها للهلال لأي سبب كان، فإنها لا تطلق. (¬2) كذا في الأصول، وصوابه "الثلاث". (¬3) هذا تعليل لحكم ما بعد المكره. أما المكره على الفعل فلا يقع طلاقه لعدم إضافة الفعل إليه.

في الشك في الطلاق

فصل في الشكّ في الطلاق وهو هنا مطلق التردد. (ولا يقع الطلاقُ بالشكّ فيه، أو فيما علَّق عليه،) وإن كان عدمياً، بأن قال: إن لم أدخل الدارَ يومَ كذَا فزوجتي طالق، ومضى اليوم، وشكَّ هل دخل الدار فيه أوْ لا، لأنه شكٌّ طرأَ على يقينٍ، فوجب طرحُهُ، كما لو شكّ المتطهرُ في الحدَثِ، وتقدّم. قال الموفّق: والورعِ التزامُ الطلاقِ. (فمن حلفَ لا يأكل ثمرةً) مثلاً، (فاشتبهت) المحلوف على عدم أكلِها (بغيرِها، وأكلَ الجميعَ إلاَّ واحدةً، لم يحنث،) لأن الباقيةَ بعد المأكولِ يحتمل أن تكون المحلوفَ على عدمِ أكلِها. (ومن) طلق زوجته و (شك في عددِ ما طلّق بني على اليقين.) وقال الخرقي: إذا طلَّق، فلم يَدْرِ واحدةً طلّق أم ثلاثاً، لم يحلَّ له وطؤُها حتى يتيقّن. (وهو) أي اليقين (الأقلّ). (ومن أوقع بزوجتِهِ كلمةً وشكّ هل هي) أي الكلمة (طلاقٌ أو ظهار، لم يلزمه شيء). وإن شك من له زوجةٌ هل ظاهرَ منها، أو حلف بالله تعالى، لزمه بحنثٍ أدنى كفارتيهما، لأنه اليقين.

باب أحكام (الرجعة)

باب أحكَام (الرَّجعَة) (وهي) أي الرجعةُ في الشرعِ (إعادة زوجتِهِ المطلَّقةِ) طلاقاً غير بائنٍ (إلى ما كانت عليه) قبل الطلاق (بغيرِ عقدٍ) أي عقدِ نكاحٍ. قال الأزهري: الرِّجعة بعد الطلاقِ أكثر ما تُقال بالكَسْرِ، والفتحُ جائز. وهي ثابتة بالكتاب والسنّة والإِجماع. أما الكتابُ فقولُهَ تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدهِنَّ ... الآية}. وأما السنَّة كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين طلّق امرأتَهُ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مُرْهُ فليُراجعها" رواه الجماعة إلا البخاريّ. وقد طلّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصةَ ثم راجَعَها. رواه أبو داود والنسائي وابنُ ماجة. وأما الإِجماع فقال ابنُ المنذر: أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ الحرَّ إذا طلَق دونَ الثلاثِ، والعبدَ دون اثنتين، أنَّ لهما الرجعةَ في العدة. (من شرطها) أي الرجعة (أن يكون الطلاقُ غيرَ بائنٍ) لأنّ من استوفى عدَدَ طلاقِهِ لا تحلُّ له حتى تنكحَ زوجاً غيره، فرجعتها لا تمكن لذلك. (و) من شرطِ الرجعةِ (أن تكون في العدَّةِ) ولو كرهت الزوجة. فائدة: إنما تصح الرجعة بأربعة شروط: الأول: أن يكون دَخَلَ أو خَلَا بها، لأن الرجعة لا تكون إلا في

العدة. وغيرَ المدخول بها لا عدَّة عليها. الثاني: أن يطلِّق في نكاحٍ صحيحٍ، لأن الطلاق حَلٌّ للنكاح، فهو فرعٌ عليه فإذا لم يصحَّ النكاحُ لم يصحّ الطلاق لأنه فرعه (¬1)، ولأن الرجْعَةَ إعادة للنكاح، فإذا لم تحل بالنكاح، وَجَبَ أن لا تحلّ بالرجعة. الثالث: أن يطلّق دون ما يملكُهُ من عددِ الطلاق، وهو الثلاث للحرّ، والاثنتان للعبد. الرابع: أن يكونَ الطلاقُ بغيرِ عوضٍ، لأن العوضَ في الطلاقِ إنما جُعِلَ لتفتدي بِهِ المرأةُ نفسُها من الزوجِ. ولا يحصُلُ ذلك مع ثبوتِ الرجعةِ. فلذلك امتنعت الرجعةُ مع العوضِ في الطلاق. فإذا وجدت هذه الشروط كان له رجعتُها ما دامت في العدة، لأنه إجماع المسلمين. (وتصح الرجعةُ بعد إنقطاعِ دم الحيضةِ الثالثةِ حيثُ لم تغتسل) وإن فَرَّطتْ في الغُسْلِ عشرين سنة (¬2). وذلك لأنّ وطءَ الزوجَةِ قبل الاغتسالِ حرامٌ لوجودِ أثرِ الحيضِ الذي يَمْنَعُ الزوجَ الوطءَ، كما يمنَعُ الحيضُ، فوجبَ أن يمنعَ ذلك ما مَنَعَه الحيضُ، ويوجبَ ما أوجبَهُ الحيضُ، كما قبل انقطاع الدم. فأما بقية الأحكام، من قطَعِ الإِرثِ، والطلاقِ، واللّعانِ، والنفقة، وغيرها، فيحصُلُ بانقطاعِ الدم روايةً واحدة. قال في شرح المنتهى ¬

_ (¬1) الشارح لم يحرّر القول هنا كما ينبغي، فإن النكاح الفاسد، كالنكاح بلا ولي أو بلا شهود، يصح الطلاق فيه ولكن لا رجعة بعده لكونه فاسداً. أما النكاح الباطل وهو ما لا خلاف في بطلانه، كنكاح الأخت من الرضاعة. فلا يصح الطلاق فيه ولا رجعة فيه. فقول المؤلف "إذا لم يصح النكاح لم يصح الطلاق لأنه قرعه" فيه المؤاخذة. (¬2) في إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الثانية: تنتهي العدة بمجرّد الطهر قبل الغسل لقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} والقرء الحيض وقد انتهى، فعلى الرواية الأخرى يلزم أن تكون العدة أكثر من مائتي قرء (مغني 7/ 281)

[ألفاظ الرجعة]

وشرح الإقناع: قاله المحرَّرُ تبعاً للقاضي وغيرِهِ. (وتصح) الرجعةُ أيضاً (قبل وضعِ ولدٍ متأخّرٍ) فيما إذا كانت حاملاً بأكثرَ من واحدٍ، لبقاء العدّةِ، لا في ردة، ولا تعليقها بشرطٍ (¬1). وتحصل الرجعة بالقول والفعلِ. [ألفاظ الرجعة] (وألفاظُها) أي الرجعة: (راجعتُها) أي راجعتُ زوجتي، (ورجعتها، وارتجعتها) إلى نكاحي، (وأمسكْتُها، ورددْتُها، ونحوه) مثل أعَدْتُها، ولو زاد: للمحبَّةِ، أو زاد: للإهانة (¬2). (ولا تشترط هذه الألفاظ، بل تحصل رجعتُها بوطئِها). و (لا) تصحّ الرجعة (بـ) قول الزوج: (نكحتُها، أو: تزوجتُها)، لأن ذلك كنايةٌ، والرَّجعةُ استباحةُ بُضْعٍ مقصودٍ، فلا تحصل بالكناية، كالنكاح (¬3). [البينونة لمن لم تُراجع] (ومتى اغتسَلَتِ) الزوجةُ (من الحيضةِ الثالثةِ، ولم يرتجعْها، بانت)، منه (ولم تحلّ له إلا بعقدٍ جديدٍ) مستكملٍ للشروطِ (¬4). (وتعود على ما بقيَ من طلاقِها،) ولو بعدَ وطءِ زوج آخر، قاله في المنتهى. ¬

_ (¬1) يعني أن الرجعة لا تصحّ إلا مُطْلَقَة، فلو علّقها بشرط، كقوله: متى طلَّقْتُكِ فقد راجعتك، لم تصحّ حتى يراجعها بعد الطلاق. (¬2) إذا نوى إرجاعها للِإهانة أو الإضرار أثم، لتعدّيه حد الله تعالى في قوله {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وقوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}. قال القرطبي: إذا علمنا أنّه قصد الإضرار طلقْنا عليه. (¬3) وفي وجهٍ: تحصل الرجعة بذلك، أومأ إليه أحمد، لأنه تباح به الأجنبية. فالرجعية أولى. (¬4) أي برضاها وبولي وشهود. ويجب المهر.

[عدد الطلاق بعد زوج آخر]

[عدد الطلاق بعد زوج آخر] تنبيه: إذا طلّق الرجلُ زوجَتَه ثلاثاً، وانقضت عدتها وتزوجت بغيره بنكاح صحيح ثم طلقها الثاني بعد أن وطئها وعادت لزوجها الأول فإنها تعود على طلاق ثلاث بإجماع أهل العلم. وإذا طلقها دون ثلاث وانقضت عدتها وتزوجت من أصابها أو من لم يصبها وبانت منه وعادت إلى الأول فالمذهب أنها تعود إليه على ما بقي من طلاقها؛ هذا قول أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر وعلي وأبي ومعاذ وعمران بن حصين وأبو هريرة وزيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم وعني بهم (¬1). فصل [في ما تحل به المطلقة ثلاثاً] (وإذا طلق) الزوجُ (الحرُّ ثلاثاً) دفعةً أو دفعاتٍ، (أو طلَّق) الزوجُ (العبدُ ثنتين،) ولو عَتَق قبل انقضاءِ عدّتها، (لم تحلّ له حتى تنكحَ زوجاً غيرَهُ نكاحاً صحيحاً)، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ -إلى قوله سبحانه وتعالى:- فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (ويطأَها) الزوجُ (في قُبُلها)، لأن الوطء المعتبر في الزوجة (¬2) لا يكون في غير القبل (مع الانتشارِ) قالَهُ الأصحاب، لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لا حتَّى تذوقي ¬

_ (¬1) وقول النعمان (أبي حنيفة): إن الزوج الثاني إذا دخل بها هدم الطلقة والطلقتين كما يهدم الثلاث، بل أولى. وهو قول ابن عمر وابن عباس والنخعي وشريح وغيرهم (قرطبي 3/ 152) (¬2) كذا في (ب، ص)؛ وفي (ف): "في الرجعَة".

عُسَيْلَتَهُ ويذوق عُسَيْلَتَكِ (¬1) " وإنما يكون ذلك مع الانتشار، فيكتفى بذلك. (ولو) كان الزوجُ (مجنوناً) أو مقطوعَ الخصيتين دون الذكر، (أو نائماً أو مغمًى عليه (¬2) وأدخلتْ ذكره في فرجها) مع انتشارِهِ، لأنه وطءٌ من زوج وُجِدَ فيه حقيقةُ الوطءِ فأحلَّها كما لو وَطِئَها حال إفاقَتِهِ ووجودِ خصيتيه. (أو) كان الواطئ (لم يبلغ عشراً أو) كان (لم ينزل) (¬3) أو ظنها أجنبية. (ويكفي) في هذا الوطء (تغييبُ الحَشَفَةِ) كلها، (أو) تغييب (قدرها) أي قدر الحشفة (من مجبوبٍ) أي مقطوعِ الحشفة، لحصول ذوق العسيلة بذلك. ويكفي أيضاً وطءٌ محرَّمٌ لمرضٍ، وضيقٍ وقتِ صلاةٍ، وفي مسجدٍ، وفي حالِ منعِها نَفْسَها لقبضِ مهرٍ حال، وقَصْدِ إضرارها بالوطءِ لعَبَالَةِ ذكره وضيقِ فرجها. (ويحصل التحليل بذلك) أي بوطئها (ما لم يكن وَطِئَها في حالِ الحيضِ، أو النفاس، أو الإِحرام، أو صَوْم الفرض) أو في الدبر، أو في نكاحٍ باطل، أو فاسدٍ، أو بشبهةٍ، أو بملكِ يمينٍ. وإن كانتْ أمةً فاشتراها مطلِّقها لم تحلّ له حتى تنكحَ زوجاً غيرَهُ ويطأها. ¬

_ (¬1) حديث "لا حتى تذوقي عسيلته ... " رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وهو بتمامه قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فَبَتَّ طلاقي، فتزوّجتُ عبد الرحمن بن الزّبير، وما معه إلا مثل هُدْبة الثوب. فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيلته ويذوق عسيلتك" وروي عن غير عائشة في غير الصحيحين من طرق (الإِرواء ح 1887) (¬2) لم يذكر وطأه لها وهي نائمة. ففي قول للمالكية لا تحل بذلك لأنها لم تذق العسيلة. ويبغي على هذا أن لا تحلّ إن كان هو نائماً. قال عبد الغني انه كان هو نائمًا أو هي نائمة لا يكفي في التحليل وهو وإن كان خلاف المذهب قويّ الدليل. اهـ. يعني بالدليل ظاهر حديث العسيلة. (¬3) اشترط الحسن البصري الإنزال. وكأنه فسر العسيلة بالمنيّ.

(فلو تزوّجت المطلقةُ ثلاثاً بآخرَ، ثم (طلقها الثاني، وادّعتْ أنه) أي زوجها الثاني (وطئها)، وأنه يجوز للأول نكاحُها، (وكذبها) الثاني في وطء (فالقول قوله) أي قولُ الثاني (في تنصيفِ المهر) إذا لم يقرّ بالخلوةِ بها، (و) القولُ (قولُها) في وجود الوطءِ (في إباحتها للأول) فإن قالَ الزوجُ الأوَّل: أنا أعلم أنه ما أصابها، لم يحل له نكاحها، لأنه مُقِرَّ على نفسه بتحريمها عليه، فإن عاد فأكْذَبَ نفسَهُ، وقال: قد علمتُ صِدْقَها، دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه إذا علم حِلَّها لم تَحْرُمْ بكذبه، ولأنه قد يعلم في المستقبلِ ما لم يكن علمه في الماضي. ولو قال: ما أعلم أنه أصابها لم تحرم عليه بهذا.

كتاب الإيلاء

كتَاب الإِيلاَء وهو لغةً الحلف. (¬1) (وهو حرامٌ، كالظِّهار) قال في الفروع: في ظاهِرِ كلامهم، لأنه يمين على ترك واجبٍ. وكان الإِيلاءُ وَالظهارُ طلاقاً في الجاهلية. (ويصحُّ من زوجٍ) فلا يصحُّ من غيرِهِ، لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (يصحُّ طلاقه، سوى عاجزٍ عن الوطءِ إما لمرضٍ لا يرجى برؤُه أو لجبٍّ كاملٍ أو شللٍ) لأن الجماعَ لا يطلب منه، لامتناعه بعجْزه. (فإذا حلفَ الزوجُ باللهِ) تبارك و (تعالى، أو بصفةٍ من صفاتِهِ) سبحانه وتعالى، (أنه لا يطأ زوجته) الممكنَ جماعُها في قبل (أبداً،) أو يُطْلِقُ، (أو مدةً تزيدُ على أربعةِ أشهرٍ) يتكلَّم بها أو ينويها (صار مُولياً). ولا فرق في ذلك بين أن يحلف في حالة الرضا أو الغضب، ولا بين أن تكون الزوجةُ مدخولاً بها أوْ لا. نصَّ على ذلك. (ويؤجِّل له) أي للمولي ولو قِنًّا (الحاكمُ إن سألتْ زوجتُهُ) الحاكِمَ، و (ذلك أربعة أشهرٍ من حينِ يمينِهِ.) قال في المنتهى وشرحه: ¬

_ (¬1) أما في الاصطلاح فهو الحلف على ترك وطء الزوجة.

ويُضْرَبُ لمولٍ، ولو قنًّا، مدةُ أربعةِ أشهرٍ من يمينه، ويحسَبُ عليه زمنُ عذرِهِ فيها، كحبسٍ، وإحرامٍ، ومرضٍ، ونحو ذلكَ، لأن المانع من جهته، وقد وُجد التمكينُ الذي عليها، لا عذرُها؛ يعني أنه لا يحتسب عليه من المدة زمنُ عذرِها كصغرٍ، وجنونٍ، ونشوزٍ، وإحرامٍ، ونفاسٍ، ومرضها، وحبسها. بخلاف حيضٍ. انتهى. فائدة: فهم من المتن للِإيلاء أربعةُ شروط: الأول: أن يحلفَ الزوجُ على تركِ الوطء في القبل، فإنْ تركه بغيرِ يمينٍ لم يكن مولياً. الثاني: أن يحلف بالله تعالى، أو صفةٍ من صفاته. الثالث: أن يحلف على أكثر من أربعةِ أشهرٍ. الرابع: أن يكون من زوجٍ يمكنهِ الوطء. (ثم يُخيَّر بعدها) أي بعد مضيّ الأربعةِ أشهرٍ (بين أن يكفَر) كفارةَ يمينٍ (ويطأَ، أو يطلِّق). (فإن امتنع من ذلك) أى من التكفير والوطء أو الطلاق (طلَّقَ عليهِ الحاكمُ) طلقةً، أو ثلاثاً (¬1)، أو فَسَخَ. وليس للحاكم أن يأمره بالطَّلاقِ ولا أن يطلِّق عليه إلا أن تَطْلُبَ المرأةُ ذلك من الحاكم. ¬

_ (¬1) قيل: لأنه قام مقام المولي، فيقع ما يوقعه من ذلك كالوكيل المطلق. لكن قال في شرح المنتهى "قد سبق أن الوكيل المطلق لا يملك أكثر من واحدة، إلا أن يحمل على وكيل قيل له: طلّق ما شئت. مع أن المؤلي نفسه يَحْرُم عليه إيقاع الثلاث بكلمة، فكيف تجوز لغيره؟ " اهـ.

كتاب الظهار

كتَاب الظهَار مشتقٌ من الظَّهر. وإنما خُصّ به الظهر من بين سائر الأعضاء لأنه موضع الركوب، ولذلك يسمى المركوب ظَهْراً. والمرأةُ مركوبةٌ إذا غُشِيتْ. فمن قال لزوجته أنتِ عليّ كظهر أمّي، كان معناه أنه شَبَّهَ امرأتَهُ بظهر أمِّه في التحريم، كأنه يشير إلى أنّ ركوبَهَا للوطءِ حرامٌ كركوب أمه لذلك. (وهو) أي الظهارُ شرعاً (أن يشبّهَ) الزوجُ (امرأتَهُ، أو) يشبّه (عضواً منها) أي من امرأته (بمن) أي شخصٍ (يحرمُ عليهِ من رجلٍ أو امرأةٍ) كأمّه وأختِهِ وبنتِهِ. وكذلك يكون مظاهراً إذا شبَّه امرأتَهُ بذَكَرٍ، (أو بعضوٍ منه) ولو بغير عربيّةٍ. (فمن قال لزوجته: أنتِ، أو يدُكِ)، أو وجهُكِ، أو أذنكِ (عليَّ كظهر) أمّي (أو يَدِ أُمِّي)، أو بطنِ أمِّي، أو كظهر أبي، (أو كظهر) زيدٍ، (أو يَدِ زيدٍ؛ أو) قال لزوجته: (أنتِ عليّ كفلانةَ الأجنبيةِ،) أو كظهر أخت زوجتي، أو عَمَّتِها أو خالتها (¬1)، (أو) قال لزوجته: (أنتِ علي ¬

_ (¬1) المجمع على أنه ظهار من ذلك كله، ذكر الأم والجدة، بقوله لزوجته "أنت على كظهر =

حرامٌ) ظهارٌ وإن نوى طلاقاً أو يميناً، لا إن زاد إن شاءَ اللهُ، أو سَبَقَ بها (¬1) نصًّا، (أو قال: الحلُّ عليَّ حرام، أو) قال: (ما أحلَّ اللهُ لي) حرام (صارَ مُظاهِراً). (وإنْ قال) لزوجته: (أنتِ عليَّ كأمّي، أو: مثل أُمِّي)، أو: أنتِ معي مثلُ أمّي، أو: كأمّي، أو: أنتِ منّي كأمِّي، أو: مثلُ أمّي، (وأطلَقَ) في جميع ذلك (فظهارٌ على الأصح، لأنه الظاهر من اللفظ عند الإِطلاق. (وإن نوى) بقوله: أنت عليَّ، أو عندي، أو منّي، أو معي، كامِّي أو مثل أمي (في الكرامَةِ ونحوها) كالمحبّة، (فلا) يكون مظاهراً، لأنه حينئذ يُدَيِّن ويُقْبَلُ منه في الحكم. (و) إن قال لها: (أنتِ أمِّي؛ أو:) أنتِ (مثلُ أمي) دون أن يقول: عليَّ، أو عندي، أو: منّي، أو: معي، (أو) قال لها: (عليَّ الظهارُ، أو: يلزمني) الظهار، (ليس) ذلك (بظهارٍ إلا مَعَ نيّة) للظهار (أو قرينةٍ) تدل عليه، لأن احتمال هذه الصورِ لغيرِ الظِّهار أكثَرُ من احتمالِ الصُّوَرِ التي قبلها له. وكثرةُ الاحتمالات توجِبُ اشتراط النيّة في المحتمل الأقل، لتتعيّن له، لأنه يصير كناية فيه فتشترط النية فيه كسائِرِ الكنايات. وتقوم في ذلك القرينة مقام النية. (و) إن قال لزوجته (أنت علي كالميتة، أو) كـ (الدمّ، أو) كـ (الخنزير، يقع ما نواهُ من طلاقٍ) لأنه يصلح أن يكون كناية فيه، فإذا اقترنتْ به النية وقع ما نواه من عَدَدٍ، وإن لم ينوِ عدداً فطلقة، (و) من (ظهارٍ) كما قلنا في "أنت على حرام" (و) من (يمينٍ) وهو أن يريدَ تركَ ¬

_ = أمي" وفي ما عدا الأم والجدة خلاف وفي المذهب اختار أبو بكر ان الظهار لا يكون إلا [بالتشبيه بـ] ذوات المحارم من النّساء" (مغني 7/ 341) (¬1) يعني قدمها قبل لفظ الظهار.

فصل

وطئِها لا تحريمَهَا، ولا طلاقَها فيكون يميناً فيها الكفارةُ بالحِنْثِ. (فإنْ لم ينوِ شيئاً) من هذه الثلاثةِ (فظهارٌ) أي فيكون ظهاراً، لأن معناهُ: أنتِ عليَّ حرامٌ كالميتة والدم. فصل (ويصح الظّهارُ من كل من) أي زوجٍ (يصحّ طلاقُهُ) (¬1) مسلماً كانَ أو كافراً، حرًّا كان أو عبداً، كبيراً كان أو مميّزاً يعقل الظهار، لأنه تحريمٌ كالطلاق، فجرى مجراهُ، وصحَّ ممن يصحُّ منه. ويصحّ الظهارُ (منجَّزاً ومعلَّقاً) بشرطٍ، (ومحلوفاً به) (¬2)، فمن حَلَفَ بالظهارِ، أو بالطلاقِ، أو بالعِتْقِ، وحَنَثَ، لزمه ما حلف به. (فإن نجَّزَهُ) أي نجَّز الظهارَ رجلٌ يصح طلاقه (لأجنبيّةٍ) بأن قال لغيرِ زوجتِهِ: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي، (أو علّقه بتزوَّجها) بأن قال لها: إن تزوجْتُكِ فأنْتِ عليَّ كظهرِ أمّي، سواء في ذلك ما إذا قاله لمعيَّنةٍ، كما مثّلتُ، أو عمَّمَ فقال؛ النساءُ عليَّ كظَهْرِ أمّي، أو: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها فهي عليّ كظهر أمّي. قاله في شرحِ المقنع، (أو قال لها) أي لأجنبية: (أنتِ عليَّ حرامٌ، ونوى أبداً، صحّ) كون قولهِ ذلكَ (ظهاراً) لأنّ ذلك ظهار في الزوجة، فكذا في الأجنبية. فإن تزوَّجَهَا لم يطأهَا حتَّى يكفِّر، (لا إن أطلق) بأن لم ينوِ أبداً (أو نوى إذنْ) لأنَّه صادق في حرمتها عليه قبل عقد التزويج. ويقبل دعوى ذلك منه حكماً لأنه الأصل. (ويصحّ الظهارُ) مطلقاً كأنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، و (مؤقَّتاً، كأنتِ عليَّ ¬

_ (¬1) في (ف): "يعقل الطلاق"، وما هنا أوضح. (¬2) إذا حلف بالظهار فعند ابن تيمية كفارته كفارة يمين إذا حنث (مختصر الفتاوى ص 439).

[في كفارة الظهار]

كظهرِ أُمِّي شَهْرَ رمضانَ، فإن وطئ فيه) أي في شهر رمضان (فمظاهِرٌ) أي يكفَر كفارةَ ظهارٍ، (وإلا) بأن لم يطأ فيه (فلا) يكون مظاهراً فلا تلزمه كفارةٌ، لأنه زالَ عنْهُ حكمُ الظِّهارِ بمضيِّه. (وإذا صحّ الظهار حَرُمَ على المظاهِر) والمظاهَرِ منها (الوطءُ ودواعيهِ) كالقُبْلَةِ والاستمتاع بما دون الفرج (قبل التكفير) ولو بإطعامٍ، فيلزمه إخراجُها قبلَ الوطء، بخلافِ كفارةِ يمينٍ. (فإن وطئ) المظاهِرُ المظاهَرَ منها (ثبتَتْ الكفارةُ في ذمَّتِهِ) أي ذمة المظاهِرِ، (ولو) كان الواطئُ (مجنوناً) بأن ظاهَرَ ثم جُنَّ، لا إن كان الوطءُ من مكره، (ثم لا يطأُ) ثانياً (حتى يكفِّرَ). (وإنْ ماتَ أحدهما) أي أحدُ الزوجينِ بعد الظهار (قبل الوطءِ) وقبل التكفيرِ (فلا كفّارة) عليه سواء، كان ذلك متراخياً عن ظهارِهِ أو عَقِبَهُ. فصل [في كفارة الظهار] (والكفارة فيه) أي في الظهارِ، والكفارةُ في الوطءِ في نهار رمضان (على الترتيب) وهي (عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وأُلْحِقَ بذلك سائر الكفاراتِ، حملاً للمطلق على المقيد، كما حُمِلَ قولهِ تعالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} على المقيّد في قوله تبارك وتعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وإن لم يُحْمَل عليه من جهة اللغة حُمِل عليه من جهة القياس. والجامِعُ بين كفَّارةِ القَتْلِ وغيرِها من الكفَّارات أن الإِعتاقَ يتضمَّن تفريغَ المعتَقِ المسلمِ لعبادةِ ربه، وتكميلَ أحكامِهِ، ومعونَةَ المسلمين. فناسَبَ ذلك شَرْعَ إعتاقِهِ في الكفارة، تحصيلاً لهذه المصالح. والحكم مقرونٌ

بها في كفّارة القتلِ المنصوصِ على الإيمان فيها، فيتعدّى ذلكَ إلى كلِّ عتقٍ في كفارةٍ، فيختصّ بالمؤمنة، لاختصاصه بهذه الحكمة. (سالمةٍ من العيوب المضرّة في العمل) ضرراً بَيّناً، لأنَّ المقصودَ تمليكُ العبْدِ منافعه، وتَمكينه من التصرف لنفسه. ولا يحصل هذا مع ما يضرّ بالعمَلِ ضرراً بيّناً، كعمًى وشَلَل يدٍ أو رجلٍ، أو قطعِ إحداهما، أو سبّابةٍ أو وسطى أو إبهامٍ من يدٍ أو رجلٍ أو خِنْصَرٍ وبِنْصَر من يَدٍ، ويجزئ مُدَبَّر وصغير وولد زنًا وأعرجُ عرجاً يسيراً ومجبوبٌ وخصيّ وأصَمُّ وأخرسُ تُفْهَمُ إشارته وأعورُ ومرهونٌ ومُؤْجَرٌ. (ولا يجزئُ عتقُ الأخرسِ الأصَمِّ) ولو فُهِمَتْ إشارتُه، ومَنْ جنونُهُ مطبِق. (ولا) يجزئُ عتقُ (الجنينِ) ولا الزَّمِنِ ولا المُقْعَد. (فإن لم يجد) الرقبة، بأن عَجَزَ عنها العجزَ الشرعي، (فـ) يلزمه (صيامُ شهرينِ متتابعيْنِ) حرًّا كان أو قنًّا. (ويلزمه تبييت النيةِ من الليل) لصومِهِ، لكونه واجباً. ويلزمه تعيين النيّة جهة الكفارة (¬1). وينقطع التتابع بوطءِ مظاهَرٍ منها، ولو ناسياً أو مع عذرٍ كمرضٍ وسفرٍ يبيح الفطر، أو ليلاً، لا غيرها في الثلاثة (¬2). وينقطع بصوم غيرِ رمضان، وبفطْرٍ بلا عذر. (فإن لم يستطع الصومَ لكبرٍ، أو مرضٍ لا يُرجى برؤه) قال في المنتهى: ولو رُجِيَ برؤه (¬3): (أطعمَ ستينَ مسكيناً لكل مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ أو نصفُ صاعٍ من غيرِه). ¬

_ (¬1) (ب، ص): "ويلزمه تعيينٌ من جهة الكفارة" بسقوط النية والتصويب من (ف). (¬2) أي لا بوطئه أمرأة أخرى في حال عذر من الأعذار الثلاثة المذكورة. (¬3) أي فعند صاحب المنتهى يجوز أن ينتقل عن الصيام إلى الإطعام إن كان في حال مرض ولو كان يرجى برؤه، اعتباراً بوقت الوجوب.

ويشترط في المسكين الذي يجزئ إطعامه: كونه مسلماً حرًّا، ولو أنثى، ولا يضرّ وطءُ مظاهَرٍ منها أثناء الطعام. ويجزئ دفعها إلى صغيرٍ من أهلِها ولو لم يأكِل الطعام. (ولا يجزئ خبز) لأنه خَرَج عن حالةِ المكيال والادّخارِ، فأشبه الهريسة. (ولا) يجزئ في الكفارةِ (غير ما يجزئ في الفُطرةِ) ولو كان ذلك قوتَ بَلَدِهِ. ولا يجزئ في الكفارة أن يغدِّيَ المساكِينَ أو يعشِّيَهم (¬1)، بخلاف نَذْر إطعامهم. ولا تجزئ القيمة. (ولا يجزئ العتقُ ولا الصوم ولا الإِطعام إلا بالنيّة)، وهو أن ينوي ذلك من جهة الكفارة. ¬

_ (¬1) وفي رواية أخرى عن أحمد يجزئه أذا أطعمهم القدر الواجب لهم، وهو قول النخعي وأبي حنيفة (مغني 7/ 372) وأطعم أنس بعدما كبر عاماً أو عامين فأطعم ثلاثين مسكيناً وأشبعهم خبزاً ولحماً وأفطر. (القرطبي في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى {فدية طعام مسكين}.

كتاب اللعان

كتَاب اللعَان واشتقاقه من اللّعْنِ، لأن كلاً من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة. وهو شرعاً شهاداتٌ مؤكِّداتٌ بأيمانٍ من الجانبين، مقرونةٌ بلعْنٍ أو غضبٍ، قائمةٌ مقامَ حدّ قذفٍ أو تعزيرٍ في جانِبِه، وقائمةٌ مقامَ حبسٍ في جانبها. (إذا رمى الرجلُ زوجتَهُ بالزنا) في قُبُلٍ أو دُبُرٍ (فعليه حد القذف) إن كانت محصنة، (أو التعزيرُ) إن كانتْ غير محصنة. ويأتي تعريفُ الإِحصان في القذف. (إلا أن يقيمَ البيّنةَ) عليها بما قاله، (أو يلاعن). وصفةُ اللعانِ أن يقول الزوج، أربع مرات) أولاً: ("أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا". ويشيرُ إليها.) ولا حاجةَ لأنْ تسمَّى أو تُنْسَبَ إلا مع غيبتها. (ثم يزيد في الخامسة: وإن لعنةَ اللهِ عليهِ إن كان من الكاذبين). ولا يُشترط على الأصحّ أن يقول: "فيما رماها به من الزنا" قاله في شرح المنتهى. قال ابن هبيرة: لا أراه يُحتاجُ إليه، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبيّنَهُ، ولم يذكر هذا الاشتراط. (ثم تقول الزوجةُ أربعاً "أشهدُ بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماني به

من الزنا") وتشيرُ إليه إن كان حاضراً بالمجلس، وإن كان غائباً عنه سَمَّتْهُ، ونسَبته. وتكرِّر ذلك. (ثم تزيد في الخامسة "وأنّ غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصادقين") ولا يشترط على الأصحّ أن تقول: "فيما رماني به من الزنا". فإن نَقَصَ لفظٌ مما ذُكِرَ ولو آتياً بالأكثر، وحَكَم حاكِمٌ بِهِ، أو بدأتْ به، أو قدّمت الغضَب، أو بَدَّلتْهُ باللعْنَةِ، أو السَّخَط، أو قدم اللعْنَةِ، أو أبدلها بالغَضَب، أو الإبعاد، أو أبدل لفظ "أشهد" بأقسِم، أو أحلِف، أو أتى به قبل إلَقائه عليه، أو بلا حضورِ حاكم أو نائبه، أو بغير العربية ممن يحسِنها -ولا يلزمه تعلُّمها إن عجز عنه بها- أو علّق اللعانَ بشرطٍ، أو عدمت موالاةُ الكلمات، لم يصحَّ، لأنه مخالف للنصّ. (وسن تلاعنهما قياماً) لأنَ في حديث ابن عباس، في خبر هلالٍ "أن هلالاً جاءَ فشهد، ثم قامت فشهدت" (¬1) وهذا يدل على أنهما تلاعَنا قياماً. (بحضرةِ جماعةٍ، و) يسنّ (أن لا ينقصوا عن أربعةٍ) من الرجال، لأن الزوجةَ ربما تصدِّق على الزنا، فيشهدون على إقرارها عند الحاكم. ويسن أن يكون اللعان في الأوقاتِ والأماكنِ المعظَّمة، ففي مكَّةَ: بينَ الرُّكنِ والمقام، وفي المدينة عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيت المقدس: عند الصَّخْرة (¬2)، وفي سائر البلدان: عند منابر جوامعها. وتقف الحائضُ عند باب المسجدِ. ¬

_ (¬1) حديث ابن عباسٍ في شأن هلالِ بن أمية وقذفِهِ امرأته بشريكِ بن سحماء، رواه الجماعة إلا مسلماً (شرح المنتهى). (¬2) هذا ينبني أنه ثبت في الصخرة فضل أخصّ من فضل المسجد الأقصى، فلينظر. ثم وجدت الحديث "العجوة والصخرة والشجرة من الجنة" رواه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث رافع بن عمرو المزني مرفوعاً. وهو ضعيف كما في (ضعيف الجامع الصغير).

فصل

وفي الزمان بعد العصر. (و) يسن (أن يأمرَ الحاكم من) أي رجلاً (يضعُ يده على فمِ الزوجِ، و) امرأةً تضع يدها على فمِ (الزوجةِ، عند الخامسة. ويقول: "اتَّقِ اللهَ فإنها الموجبة. وعذابُ الدنيا أَهوَنُ من عذاب الآخِرة") أما كونُ الخامسة هي الموجبة، فإنه إذا كان كاذباً وجبتْ عَليه اللعْنَةُ لالتزامه إياها في الخامسة. وإن كانت كاذبة وُجبَ عليها الغضبُ بالتزامها إياه في الخامسة. فينبغي التخويفُ عندها، والإِعلام أنّ عذابَ الدنيا أهون من عذاب الآخرة، لأن عذاب الدنيا منقطع، وعذابَ الآخرة دائم، ليتوب الكاذبُ منهما، ويرتدعَ عما عَزَم عليه. ويبعَثُ الحاكِمُ إلى خَفِرَةٍ (¬1) من يلاعِنُ بينهما. فصل (وشروط اللعان ثلاثة): الأول: (كونه بين زوجين) ولو قَبْل الدخول (مكلَّفينِ) ولو قِنّين أو فاسقين أو ذمّيين أو أحَدُهما. (الثاني: أن يتقدّمه) أي اللعان (قذفها بالزنا) ولو في دُبُرٍ، كقوله: زنيتِ، أو: يا زانية، أو: رأيتك تزنين. وإن قال وُطِئْتِ مُكْرَهَةً، أو نائمة، أو بشبهة، فلا لعان. (الثالث: أن تكذّبه) الزوجةُ في قذفِهِ إياها (¬2) (ويستمرَّ تكذيبُها إلى ¬

_ (¬1) الخَفِرة المرأة التي لا تخرج مَن بيتها لحوائجها. من الخفر وهو الحياء. وخلافها البَرْزة (عبد الغني). (¬2) فإن صدقته مرة أو مرتين أو ثلاثاً، فالمذهب أنه لا لعان، والولدُ لاحقٌ به. ولا حدّ عليها، لأن الحدّ يشترط له الإِقرار أربع مرات.

[فيما يلحق من النسب]

انقضاء اللعان،) لأنها إذا لم تكذبْهُ لا تلاعِنُه. والملاعَنَةُ إنما تنتظم من الزوجين. (ويثبت بتمام تلاعنِهِمَا أربعة أحكام): الحكم (الأولَ: سقوط الحدّ) عنه إن كانت الزوجةُ محصَنَةٌ، (أو التعزيرُ) إن كانت غير محصنة. الحكم (الثاني: الفرقةُ) بين المتلاعنين، (ولو بلا فعلِ الحاكِم) يعني ولو لم يفرّق الحاكمُ بينهما، على الأصح. الحكم (الثالث: التحريمُ المؤيَّد) ولو أكْذَبَ نفسه، أو كانت أمةً فاشتراها بعد. الحكم (الرابع: انتفاء الولد) عن الملاعِنِ. (ويعتبر لنفيه) أي الولد (ذكرُهُ صريحاً) في اللعان (كأشهد بالله لقد زَنَتْ وما هذا ولدي) وتقول هي: "أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده." فصل (فيما يلحق من النسب) (إذا أتت زوجةُ الرجلِ بولدٍ بعد نصفِ سنةٍ منذ أمكن اجتماعه بها، ولو مِع غيبته فوق أربعِ سنين) قال في الفروع، ولو مع غيبتِهِ عشرينَ سَنَةً. قال في المغني في مسألة القافة (¬1). وعليه نصوص الإِمام أحمد. ولعل المراد: ويخفى سيرُه، وإلا فالخلافُ، على ما يأتي. انتهى. ¬

_ (¬1) انظر المغني 5/ 698

ولا ينقطع الإمكان عن الاجتماع بحيض، (حتى ولو كان) الزوجُ (ابن عشر) سنينَ (لحقه نسبه) على الأصحّ، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلَدُ للفِرَاشِ" (¬1) ولأن مع ذلك يمكنُ كونُه منه. وقدرناه بعشر سنين فما زادَ لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "واضرِبوهُمْ عليها لِعشْرٍ وفَرِّقوا بَيْنَهُم في المضاجِع" (¬2) ولأن تمام عشر سنينَ زمنٌ يمكنُ فيه البلوغُ، فيلحق فيه الولدُ، كالبالغ. وقد روي أن عمرو بن العاص، وابنه، لم يكن بينهما إلا اثنا عشر (¬3) عاماً. وأمرُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينهم في المضاجع دليل على إمكان الوطء الذي هو سبب الولادة. (ومع هذا) أي مع لحوق النسب به (لا يُحْكَمُ ببلوغه) لأن الحكم ببلوغِهِ يستدعي يقيناً، لترتُّب الأحكام عليه، من التكاليف، ووجوب الغرامات، فلا يحكم به معَ الشك. وإنما ألحقنا الولدَ بهِ حِفظاً للنسبِ واحتياطاً. (ولا يلزمه) أي بإلحاقنا به النسبَ (كلُّ المهر) لأن الأصلَ براءَةُ ¬

_ (¬1) حديث "الولد للفراش ... " رواه أحمد والشيخان وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه. وتمامه عندهم "عن عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقّاص وعبد بن زمعة في غلام. فقال سعد: يا رسول الله! هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقّاص، عَهِد أليّ أنه ابنه، انظر إلى شَبَههِ. وقال عَبْدُ بن زَمْعَة: هذا أخي يا رسول الله، وُلِدَ علىَ فراش أبي من وَلِيدتِهِ. فنظرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى شَبَهاً بيِّناً بعتبَة. فقال: هُوَ لكَ يا عبدُ بن زمَعة. الولد للفراش وللعاهر الحَجر. واحتجبي منه يا سَوْدة. فلَمْ يرَ سودة قطّ.". (¬2) حديث "مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع، رواه أبو داود والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيهِ عن جده مرفوعاً (المقاصد الحسنة) وفي (الإرواء ح 2109): وهو صحيح. (¬3) مفهومه أنها إن أتت بولد لأربع سنين فأقل منذ أبانهَا، أنه يلحقه، وهذا مقيّد بكونها لم يثبت أنها أتمت عدتها بالحيض. فإن كانت أقرّتْ بانتهاء عدتها بالأقراء لم يلحقه ولدها (المغني 7/ 479) قلت: ومن هنا ينبغي للمطلِّق أن يطلب الإِشهاد على مطلّقته بإقرارها بانقضاء عدتها بالأقراء قبل خروجها من بيته، عملاً بقول الله تعالى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وإن هذا تأويلها وإن كان الناس عنها غافلين.

[فى ما يلحق به نسب ولد الأمة]

ذمَّتِهِ، فلا يثبت عليه بدون ثبوت سببه الموجب له. (ولا تثبت به عِدَّةٌ ولا رجعة) لأن السببَّ الموجِبَ لهما غير ثابتٍ، فلا يثبتانِ بدون ثبوت سَبَبِهما. (وإن) لم يمكن كونه من الزوجِ، مثل لو (أتَتْ به لدون نصفِ سنةٍ منذ تزوَّجها) وعاش، أو أتت به لأكثر من أربعِ سنينَ منذ أبانَها، أو فارقها حاملاً، فوضعتْ، ثم وضعتْ آخرَ بعد نصف سنة، (أو عُلم أنَّه لم يجتمع بها) زَمَنَ الزوجية، (كما لو تزوّجها بحضْرَةِ جماعةٍ) ولا فرْقَ بين أن يكون مع الجماعة حاكمٌ أوْ لا، (ثم أبانَها في المجلِسِ، أو ماتَ) الزوجُ بالمجلِسِ أو كانَ بين الزوجَيْنِ وقت عقدٍ مسافةٌ لا يقطعها في المدة التي وَلَدَتْ فيها، كمشرقيٍّ تزوج بمغربيةٍ، ثم مضتْ ستة أشهرٍ، وأتتْ بولد، لم يلحقه نسبه، لأن الولد إنما يلحقه بالعقْدِ ومدة الحمل، أو كان الزوج لم يكملْ له عشرٌ من السنين، أو قُطِعَ ذَكَرُهُ مع أنثييه، (لم يلحقه) أي لم يلحق الولدُ الزوجَ في هذه المسائل كلِّها. فصل [فى ما يلحق به نسب ولد الأمة] (ومَن ثبت) أنه وطئَ أمته في الفرج أو دونَه (أو أقرّ أنه وطئ أمته في الفرج أو دونه، ثم ولدتْ لنصفِ سنةٍ) فأكثر (لحقه) نسب ما ولدته، لأن أمَتَهُ بوطئِهِ صارتْ فراشاً له، فإذا أتت بولدٍ لمدةِ الحملِ من يوم الوطءِ لحقهُ نسبُهُ، ولو قال: عزلتُ، أو قال: لم أُنْزِلْ، لا إن ادّعى استبراءً بعد الوطءِ بحيضةٍ ويحلفَ على الاستبراءِ، ثم تلدُ لنصفِ سنةٍ بعده. (ومن أعتقَ) أمةً أقرَّ بوطئِها (أو باعَ من أقرّ بوطئها، فولدت لدون

نصف سنةٍ) من حينِ عتقها، أو لدون نصف سنةٍ من حين بيعها، (لحقه) أي لحق المعتقَ أو البائعَ ما ولدتهُ، لأن أقلّ الحمل ستةُ أشهرٍ فإذا أتت به لدونها وعاش علم أن حملها كان من قبل عتقِها وقبل بيعها حين كانت فراشاً له، (والبيعُ باطِلٌ) لأنَّها صارتْ أم ولدٍ له، حتى ولو كان استبرأها قبل أن يبيعَها. (و) إن أتتْ به (لنصفِ سنةٍ، فأكثر، لحق) الولدُ المشتري. (ويتبعُ الولد أباه في النَّسَب) إجماعاً، قال في شرح المنتهى: ما لم ينتفِ عنه، كابن ملاعنةٍ، فولدُ قرشيٍّ من غير قرشية قرشيّ، بخلاف ولد قرشيَّة من غير قرشيّ، فإنه لا يكون قرشيًّا. (و) يتبعُ الولد (أمه في الحريّة، وكذا) يتبع الولد أمّه (في الرّقّ، إلا مع شرطٍ) بأن يشترط زوجُ الأمة على سيدها عند تزويجها أنّ ما تأتي منه بولدٍ يكون حراً (أو) مع (غرورٍ) بأن يتزوّج امرأة على أنها حرَّةٌ فتبينُ أمةً، فإن ولدها في الصورتين يكون حراً. (ويتبع) الولد (في الدينِ خَيَرهُما) أي خيرَ أبوْيهِ ديناً، فلو تزوّج مسلمٌ حرة ًكتابيةً، أو تسرّى مسلم بأمة كتابية، فما تلده منه يكون مسلماً. وإذا تزوّج كتابيٌّ بحرةٍ مجوسيةٍ، أو تسرّى بأمةٍ مجوسيَّةٍ، فما تلده منه يكون كتابيًّا. (و) يتبع الولدُ (في النجاسَةِ، وتحريمِ النكاح، والذكاةِ، والأكلِ أخبثهما) أي أخبث الأَبَوَيْنِ، فالبغلُ نَجِسٌ محرَّم الأكلِ، لتبعيته لأخبث أبويه، وهو الحمارُ الذي هو نجس محرم الأكل، دون أطيبهمَا الذي هو الفرس الطاهر المباح الأكل.

كتاب العدة

كتَاب العدّة مأخوذة من العدد، لأن أزمِنَةَ العِدَّة محصورةٌ مقدّرة بعدد الأزمانِ والأحوالِ، كالحيض والأشهر ونحوِهِما. (وهي) أي العدّة (تربُّصُ من فارقتْ زوجَها بوفاةٍ) دخَل بها أوْ لا، (أو حياةٍ) إن دخل أو خلا بها. [عدة المتوفى عنها] (فالمفارقةُ بالوفاةِ) أي التي مات زوجُها عنها (تعتد مطلقاً) أي سواء كان المتوفَّى يولد لمثلِهِ أوْ لا، يَطَأ مُثْلُه أوْ لا، دخل بها أوْ لا. (فإن كانتْ) المتوفى عنها زوجُها (حاملاً من الميت فعدّتُها حتى تضعَ كلَّ الحمل)، حرةً كانت أو أمةً، ولو لم تطهُرْ من نفاسِهِا بغسل أو تيمَّم. لكن إن تزوَّجت في مدة النفاس حرُم وطؤُها حتى تطهُرَ. فلو ظهر بعضُ الولدِ فهي في عدة حتّى ينفصل باقيه إن كان الحملُ واحداً، وإن كان أكثر فحتَى ينفصل باقي الأخيرِ. والحملُ الذي تنقضي به العدّة ما تصير به الأمة أُمَّ ولدٍ، وهو ما يتبيَّن به خلقُ الإنسان، كرأسٍ ورِجْل.

[العدة في غير الوفاة]

(وإن لم تكنْ حاملاً) منه (فإن كانتْ حرةً فعدتُها أربعة أشهر وعشرُ ليالٍ بأيامِها) لأن النهارَ تَبَعٌ للّيل. والإِجماع منعقد على ذلك، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ولأن النكاحَ عَقْدُ عُمْرٍ، فإذا ماتَ انتهى، والشيءُ إذا انتهى تقرَّرت أحكامُهُ كتقرَّر أحكام الصيامِ بدخولِ اللَّيْل، وأحكام الإِجارة بانقضاءِ مدّتها. والعدةُ من أحكَام النكاح، ولا يعتبر الحيضُ في عدة الوفاةِ في قول عامّة أهل العلم. (وعدةُ الأمة) المتوفّى عنها زوجها (نصفُها) أي نصف عدة الحرةِ وذلك شهران وخمسُ ليال بخمسة أيام. [العدة في غير الوفاة] (والمفارقةُ في الحياةِ لا تعتدّ إلا إن خلا بها أو وَطِئَها،) وشُرِطَ لوجوب العدَّةِ للخلوةِ طواعِيَتُهَا؛ وعلمُهُ بها (¬1). فَإن طلقها قبل الدخولِ أو الخلوة فلا عدةَ عليها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (وكان ممن يطأُ مثلُه، ويوطأُ مثلُها، وهو ابن عشر وبنت تسعٍ) وإنما اشتُرِطَ ذلك لأن العِدةَ ترادُ لبرَاءةِ الرَّحِمِ من الحملِ، فإن كانت الموطوءة لا يوطأ مثلها، أو كان الواطئ لا يلحق به الولَدُ لصغره، فلا فائدة في العدة، لتحقق براءة الرحم من الحمل. [عدة المطلقة الحامل] (وعدتها) أي عدة المفارَقة في الحياة المدخولِ بها (إن كانت حاملاً بوضع الحمل) كلِّه. ¬

_ (¬1) عبارة "وشرط لوجوب العدة ... الخ" ساقطة من (ف).

[عدة المطلقة غير الحامل]

[عدة المطلقة غير الحامل] (وإن لم تكن حاملاً فإن كانت تحيض، فعدتها ثلاث حيضات إن كانت حرة) أو مبعّضة، بغير خلاف بين أهل العلم (¬1)، لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} والقرء الحيض على الأصح. والقرء في كلام العرب يقع على الحيضِ والطهرِ جميعاً. فهو من الأسماء المشتركة. (و) عدتُها (حيضتان إن كانت أمة). وليسَ الطُّهر عدة. ولا تعتد بحيضةٍ طُلِّقت فيها، حتى تأتي بثلاثِ حيضاتٍ كوامل بعدها إن كانت حرّةٌ أو مبعّضة، وثنتين بعدها إن كانت أمة. [عدة الصغيرة والآيسة] (وإن لم تكن) من طلقت بعد الدخول أو الخلوة (تحيضُ، بأن كانت صغيرةً، أو بالغةً ولم تَرَ حيضاً ولا نفاساً)، أو كانت مستحاضة ناسية لوقت حيضها أو مستحاضة مبتدأة، (أو كانت آيسةً، وهي) أي الآيسة (من بلغتْ خمسين سنة) وتقدّم (¬2)، (فعدتها ثلاثة أشهر إن كانت حرّة) إجماعاً، لقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يعني: كذلك. وابتداء العدة من الساعة التي فارقها فيها في الأصح، فلو فارقها ¬

_ (¬1) بل عند الشافعية والمالكية ثلاثة أطهار لا ثلاث حيض، فالخلاف في الحيضهَ الثالثة. (¬2) انظر باب الحيض من الجزء الأول، واختار الشيخ [ابن تيمية]: لا حدّ لأكثر سنّ الإِياس. (عبد الغني) والموفق يرى أن الدم إن عاد بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض على الصحيح، للإِمكان، وإن رأته بعد الستين فقد تُيُقِّن أنه ليس بحيض (المغني 7/ 461)

[من ارتفع حيضها]

نصفَ الليل، أو نصف النهار، اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله، في قول أكثر العلماء. (و) عدتها (شهرانِ إن كان أمةٌ) لا تحيضُ لصِغر أو إياسٍ، أو مبعضةً فبالحِسَاب. [من ارتفع حيضها] (ومن كانت تحيضُ، ثم ارتفع حيضُها قبل أن تبلغ سن الإِياس، ولم تعلمْ ما رفعه، فتتربّص تسعةَ أشهر) وهي غالبُ مدّة الحملِ، لتعلم براءَةَ رَحِمِها. فإذا مضتْ ولم يتبيّن حملٌ عُلِمَ براءة رحمها ظاهراً (ثم تعتدّ عدّةَ آيسةٍ) وإنما وجبت العدة بعد التسعة الأشهر التي عُلِمَتْ براءتها من الحمل فيها، لأن عدة الشهور إنما تجب بعد العلم ببراءة الرحم من الحمل، إما بالصغر، أو الإياس. وههنا لما احتمل، انقطاع الحيض للحملِ، واحتمل انقطاعه للِإياس، اعتبرنا البراءةَ من الحمل بمضيَ مدتِهِ، فتعيًن كونُ الانقطاع للإِياس، فأوجبنا عدته عند تعيّنه، ولم نعتبر ما مضى، كما لم نعتبر ما مضى من الحيض قبل الإِياس، لأن الإِياس طرأ عليه. (وإن علمت) المعتدة (ما رفَعَه) أي ما رفع الحيض (من مرضٍ، أو رضاعٍ، ونحوه) كنفاسٍ (فلا تزال متربِّصة) في عدة (حتى يعود الحيض فتعتدّ به) وإن طال الزمن، لأنها مطلّقة لم تيأس من الدّم، فيجب عليها العدة بالأقراء، وإن تباعدت، كما لو كانت ممن بين حيضتَيْها مدة طويلة (أو تصيرَ آيسةٌ) يعني أو تصير إلى سن الإِياس (فتعتد عدة آيسة) نصَّ على ذلك في رواية صالحٍ وأبي طالب وابن منصور. تنبيه: فهم من المتن أن المعتدّات خمس:

[في العدة في غير النكاح الصحيح]

الأولى: الحامل، وعدتها من موتٍ وغيره إلى وضع الحمل كله. الثانية: المتوفّى عنها زوجُها بلا حملٍ منه. الثالثة: ذات الأقراءِ المفارَقة في الحياة. الرابعة: من لم تحض المفارقة في الحياة. الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه. زاد في الإِقناع والمنتهى سادسة، وهي امرأة المفقود. وقد ذكرها المؤلف في الفرائض (¬1). فصل [في العدة في غير النكاح الصحيح] (وإن وطئ الأجنبيُّ بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ أو زناً مَنْ هي في عدّتها أتمت عدة الأول) سواء كانت عدته من نكاحٍ صحيح، أو فاسدٍ، أو من وطءِ شبهة، ما لم تحمل من الثاني، فتنقضي عدتها بوضع الحمل قبل أن تُتِمَّ عدة الأول، ولا يحتسب من عدة الأول مقامها عند الثاني. للزوج الأول إن كان طلاقُه رجعياً رجعتُها في التتمّة. (ثم تعتدّ للثاني) لأنهما حقَان اجتمعا لرجلين (¬2)، فلم يتداخلا. وقُدِّم أسبقهما كما لو تساويا في مباح غير ذلك. (وإن وطئها عمداً) من غير شبهةٍ (من أبانَها) في عدّتها منه (فكالأجنبيّ) أي فكوطءِ أجنبي فَتُتِمُّ العدة الأولى، ثم تبتدئ العدة ¬

_ (¬1) انظر 89/ 2. (¬2) هذا في حق الزنا مبنيٌّ على أن عدة المرأة من وطء الزنا بثلاث حيضات، كالمتزوّجة. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية: أنها تستبرأ بحيضة. وهو قول مالك. وقيل لا عدة عليها أصلاً، لأن العدة لحفظ النسب، ولا يلحق النسب هنا. وهو قول الحنفية والثوري والشافعي. قلت: عندي أن الثاني أصوب، فيستبرئها بحيضة ليعلم أنها حامل.

[في الإحداد]

الثانية للزنا، لأنهما عدتان من وطأين يلحق النسب في أحدهما دون الآخر، فلم يتداخلا، كما لو كانا من رجلين. (و) إن وطئها مبينُها (بشبهةٍ) في عدّتها منه (استأنفت العدة من أوّلها،) لأنهما عدّتان من واطئٍ، فتداخلتا. ومن وُطئتْ زوجتُهُ بشبهةٍ، ثم طلَّقها، اعتدتْ له، ثم تتم للشبهة. (وتتعدّد العدّةُ بتعدُّد الوطء بالشبهة) لأنهما حقّان مقصودان لآدميّين، فلم يتداخلا، كالديّنين، لأن كلَّ واحدٍ من الواطئين له حق في عدته، للحوق النسب في وطء الشبهة (لا) إن تعدّد الواطئُ (بزناً) فإن العدة لا تتعدّد في الأصح. (ويحرم على زوج) المرأة (الموطوءة بشبهةٍ أو زناً أن يطأها في فرجٍ ما دامت في العدة) أي عدة الواطئِ، لأنها عدة، فقُدِّمت على حق الزوج، فمنع من الوطءِ قبل انقضائها (¬1). فصل [في الإِحداد] يحرم الإحداد فوق ثلاثٍ على ميتٍ غير زوج. (ويجب الإحداد على) الزوجة (المتوفى عنها زوجها) إن كانت (بنكاحٍ صحيح) لأن النكاحَ إن كان فاسداً فهي ليست زوجة على الحقيقة الشرعية. والمسلمةُ والذمّيةُ، والمكلفة وغيرها، فيه سواء، (ما دامت في العدة). (ويجوز) الإحداد (للبائن) قال في الفروع: إجماعاً. لكن لا يُسنّ ¬

_ (¬1) اقرأ العليق السابق. والزاني لا حق له إلا الحجر.

لها. قاله في الرعاية. انتهى. (والإحداد ترك الزينة، و) ترك (الطيب) وكلِّ ما يدعو إلى جماعها، ويرغّب في النظر إليها، ويحسِّنها (كالزعفران) ولو كان بها سَقَم، (و) ترك (لُبْسِ الحليّ، ولو خاتماً) وحلقةً، في قول عامة أهل العلم، لأن الحلي يزيد حُسْنَها، ويدعو إلى مباشرتها، (و) تركُ (لبس الملوّن من الثياب) لزينةٍ (كالأحمر، والأصفر، والأخضر)، والأزرق، الصافيين، والمطرّزَ، وما صُبغَ غَزْلُهُ ثم نُسِجَ فكمصبوغ بعد نسجه؛ (و) ترك (التحسين بالحنّاء) لأنه يدعو إلى الجماع، أشْبَهَ الحليّ، بل أولى؛ (و) ترك (الأسْفِيدَاجِ) وهو شيء يُعْمَلُ من الرَّصاص، إذا دُهِنَ به الوجه يربو ويبرق، (و) تركُ (الاكتحال بـ) الكحلِ (الأسود) بلا حاجةٍ، ولو كانت سوداء، (و) ترك (الأدّهان بـ) الدهن (المطيّب،) فلا يحلُّ لها استعمال الأدهان المطيّبة، كدهن الورد، والبنفسج والياسمين والبان. وما أشبه ذلك، لأن الادّهان بذلك استعمال للطيب، (و) تركُ (تحمير الوجه وحفِّه) ونتفِهِ وتنقيطه والتخطيط. (ولها لبس) الثوب (الأبيض، ولو) كان (حريراً،) لأن حسنه من أصلِ خلقتِهِ، فلا يلزم تغييرُه، كما أن المرأة إذا كانت حسنةَ الخلقةِ لا يلزمها أن تغيّر نفسها في عدة الوفاة وتشوِّهَ نفسها. ولا تُمْنَعُ من ملوَّنٍ لدفع وسخٍ، كَكُحْلِيٍّ ونحوه، كالأسود والأخضر الذي ليس بالصافي. ولا تمنع من نقابٍ، ولا أَخذِ ظفرٍ ونتف إبط وأخذ شعر مندوبٍ إلى أخذه، وغُسْلٍ. (وتجب عدة الوفاةِ في المنزل الذي مات زوجُها) وهي ساكنة (فيه) سواءٌ كان لزوجها، أو بإجارة، أو إعارة، إذا تطوَّع الورثة

بإسكانها فيه، أو السلطان، أو أجنبيّ. وإن انتقلت إلى غيره لزمها العود إليه (ما لم يتعذَّر) بأن تدعو ضرورة إلى خروجها منه. (وتنقضي العدة) أي عدة المتوفّى عنها زوجها (بمضيّ الزمان) الذي تنقضي به العدة (حيث) في أيّ مكان (كانت)، لأن المكان ليس شرطاً لصحة الاعتداد.

باب استبراء الإماء

باب استبراء الإمَاء الاستبراء استفعال من "البراءة"، وهي التمييز والانقطاع، يقال: برئَ اللحمُ من العظم، إذا قُطِع عنه وفصل منه. (وهو) أي الاستبراء (واجبٌ في ثلاثة مواضع) لا أكثر: (أحدها: إذا مَلَكَ الرجل، ولو) كان المالكُ (طفلاً) بأيِّ نوعٍ من أنواعِ التملُّكات (¬1) (أُمةً بوطأ مثلُها)، بكراً كانت أو ثيّباً، ولو مسبيَّةً أو لم تحِضْ، (حتّى ولو) كان (مَلَكَها من) طفلٍ أو (أنثى، أو كان بائعُها قد استبرأَها، أو باعَ أو وَهَبَ أمتَه ثم عادَتْ إليه) الأمة (بفسخٍ) أو عيبٍ، أو إقالة، أو خيار، (أو غيرِهِ) كبيعٍ أو هبةٍ، ولو قبل تفرُّقهما عن المجلس على الأصحِّ. وقال في الإِقناع: إن افترقا. (وحيثُ انتَقَلَ المِلكُ لم يحلَّ استمتاعُهُ بها، ولو بالقُبْلة، حتى يستبرئها). ¬

_ (¬1) أي بشراء أو هبة أو استيلاء بحق أو إرث أو غيرها. وقد اختلف في هذه المسألة كثيراً وأعدل الأقوال عندي قول عثمان البتّي أن الاستبراء على البائع دون المشتري، لأنه لو زوّجها لكان الاستبراء على المُزَوّج دون الزوج. وأما احتجاج من أوجب على المشتري الاستبراء بحديث ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضةً" فهذا قاله في حق المسبيات خاصة، لأن الأحكام لم تجر على من كنّ عندهم، بخلاف المشتراة.

(الثاني) من الثلاث مواضع التي يجب فيها الاستبراء: (إذا ملكَ أمةً، ووطئها، ثم أراد أن يزوّجها، أو) وطئها ثم أراد أن (يبيعها قبل الاستبراء فيحرم) عليه. أما إذا أراد أن يزوّجها فإنه يجب عليه استبراؤها وجهاً واحداً (¬1)، لأن الزوجَ لا يلزمه استبراءٌ، فيفضي إلى اختلاطِ المِيَاهِ واشتباه الأنساب. وأما إذا أراد بيعها فإنه يجب استبراؤها على الأصحّ (¬2)، لأنه يجب على المشتري الاستبراءُ لحفظِ مائه، فكذلك البائع. ولأنه قبل الاستبراء مشكوكٌ في صحة البيع وجوازه، ولاحتمال أن تكون أم ولد. فيجب الاستبراءُ لإزالة الاحتمال. ولأنه قد يشتريها من لا يستبرئُها، فَيُفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. (فلو خالف) بأن زوَّجها، أو باعها، قبل استبرائها (صحَّ البيع) في الظاهر، لأن الأصل عدم الحمل، (دون النكاح) يعني أن النكاح لا يصحّ، لأن استبراءها واجب، حفظاً لمائه، فلم يصحّ تزويجها في زمن الاستبراءِ، كالمعتدة. (وإن لم يطأ) ها (جاز) البيعُ والنكاحُ قبل الاستبراء. (الثالث) من المواضع الثلاثة التي يجب فيها الاستبراء: (إذا أعتق أمتَهُ) التي كان يطؤُها قبل استبرائها، أو مات عنها، (أو) أعتَقَ (أمّ ولده، أو مات عنها، لزمها استبراءُ نفسها إن لم تستبرأ قبل)، لأنها فراشٌ لسيدها، وقد فارقها بالعتق أو الموت، فلم يجز أن تنتقل إلى فراش غيره قبل الاستبراء. ¬

_ (¬1) وقال الحنفية هنا: له أن يزوّجها دون استبراء. (¬2) والرواية الثانية عن أحمد: لا يجب عليه استبراؤها، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأن الاستبراء على المشتري، فلا يجب على البائع. (مغني).

فصل

فصل (و) يحصل (استبراءُ الحامل بوضعِ الحمل) أي بوضعِ ما تنقضي به العدة. (و) استبراءُ (من تحيضُ بحيضةٍ) كاملة. (و) يحصل استبراء (الآيسة والصغيرة) التي يوطأ مثلها -أما إذا كانت لا يوطأ مثلها فلا تستبرأُ، لأن براءةَ رحمها ثابتةٌ بالحس، فلا فائدة في استبرائها- (و) استبراء (البالغة التي لم تَرَ حيضاً بشهرٍ) لأن الله تعالى جعل الشهْر مكان الحيضة، ولذلك اختلفت المشهور باختلاف الحيضات، فكانتْ عدّةُ الحرة الأيسة ثلاثةَ أشهرٍ مكان ثلاثة قروء وعدّة الأمة بشهرين مكان قرأين. (و) أما استبراءُ (المرتفعِ حيضُها) ولم تعلم ما رفعه (فعشرة أشهر: تسعةٌ للحمل، وشهرٌ للاستبراء) بدل الحيض، (والعالمةُ ما رفعه بخمسين سنة وشهرٍ) قال في المنتهى وشرحه: وإن علمتْ مارَفَعَ حيضها فكحرّة. يعني أنها لا تزال في استبراءٍ حتى يعود الحيض فتستبرئ نفسها بحيضةٍ، إلا أن تصيرَ آيسةً فتستبرئ نفسها استبراءَ الآيسات انتهى. وعبارة الإِقناع معناها كالمنتهى وشرحه. (ولا يكون الاستبراء إلا بعد تمام مِلْك الأَمَة كلها ولو لم يقبضْها،) لأنه صَدَق عليه أنَّه مَلَكَها، وجاز له هبتُها ووقفها وعتقُها وتدبيرُها. فلو ملك بعضَها، ثم مَلَك باقيها لم يُحْتَسَبِ الاستبراءُ إلاَّ من حين مَلكَها كلَّها. (فإنْ مَلَكها حائضاً لم يكْتَف بتلكَ الحيضة) التي ملكها فيها، بل لا بدّ من حيضةٍ مستَقْبَلَةٍ، كما لو طلّقها وهي حائِض.

(وإن ملك) شخصٌ (منْ) أي: أمةً (تلزمها عدة اكتُفِيَ بها)، لأنّ الاستبراء لمعرفةِ براءةِ الرَّحِمِ، والبراءة قد حصلت بالعدة، فلا فائدة في الاستبراء بعد العدة، بل هو ضرر على السد بمنعه من أمته بلا ضرورة. (وإن ادّعت الأَمة الموروثةُ تحريمها على الوارث بوطء موِّرثه) كما لو وَرِثَ أمةً عن أبيه، فقالت: أبوك وطئني، صُدِّقَتْ، (أو ادَّعت) الأَمَةُ (المشتراة أنَّ لها زوجاً صُدِّقت) لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتها.

كتاب الرضاع

كتَاب الرّضَاع وهو شرعاً: مصُّ لبنٍ أو شُرْبُه ونحوُه، ثابَ من حَمْلٍ، من ثَدْي امرأة. و (يكره استرضاع (¬1) الفاجرة، والكافرة،) والذّمّية، والمشركة، والحمقاء، (وسيّئة الخلق)، فإنها في معنى الحمقاء، (والجذماء، والبرصاء) خشيةَ وصولِ أثر ذلك إلى الرضيع. وفي المجرّد (¬2): والبهيمة، لأنه قد يكون في بلد البهيمة (¬3). وفي الترغيب: وعمياء، فإنه يقال: الرِّضاعُ يغيّر الطباع، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزَوَّجُوا الحَمْقَاءَ، فإن صحبتها بلاء، وفي وَلَدِهَا ضَيَاع، ولا تستَرْضِعُوها فإن لبنَها يغيّر الطباع" (¬4). (وإذا أرضعتِ المرأةُ) ولو مكرهةً على الإِرضاع (طفلاً) ذَكَراً كان ¬

_ (¬1) (ف): "ارتضاع". (¬2) "المُجَرَّد" كذا في الأصول كلها. وهو كتاب في الفروع للقاضي أبي يعلى، والذي في شرح المنتهى "المحرر" وهو للمجد ابن تيميّة. (¬3) أي فإنه رُبّما عُيِّر بها عند الخصام، فيقال: "هذا ابن فلانة" وهذا الحكم لم يرد في المغني، وفيه نظر، إذ ليس هناك من حرج في شرب لبن بهيمة الأنعام، وقد أحله الله في كتابه، وامتنّ به على عباده. (¬4) حديث "لا تَزَوَّجوا الحمقاء ... الخ" لم نجده بعد البحث.

أو أنثى أو خنثى (بلبنِ حملٍ لاحقٍ بالواطئ) يعني يلحق الواطئَ نسبُ ذلك الحملِ (صَارَ ذلكَ الطفلُ وَلَدَهُما) (¬1) أي ولد المرضعة، وولد صاحب اللبن، (و) صار (أولادُهُ) أي أولادُ الطفل (وإن سفلوا أولادَ ولدهما، و) صار (أولادُ كلٍّ منهما) أي من المرأة، ومن الواطئ الذي ثاب لبنها من حمله، (من الآخر أو) من (غيره،) كما لو تزوّجت من غيرِهِ فثابَ لها لبن من حملٍ ممنْ تزوجت (¬2)، أو تزوّج بامرأةٍ غيرِها فثابَ لَهَا لبن من حملٍ منه، فأرضعتا به أطفالاً، أو أتت بأولادٍ، فإن الذكور منهم يصيرون (إخوته، و) البناتِ (أخواتِهِ. وقس على ذلك) فتقول: ويصير آباؤهما أجدادَهُ وجَدَّاتِهِ، وإخوتُهما وأَخَواتُهُمَا أعمامَه وعماتِهِ، وأخوالَهُ وخالاتِهِ. تنبيه: لا تنتشر حرمة الرضاع إلى من بدرجة مرتضعٍ أو فوقَه، من أخٍ وأختٍ، وأبٍ وأمٍ، وعمٍّ وعمةٍ، وخال وخالة، من نسب. فتحلّ مرضعةٌ لأبي مرتضعٍ وأخيهِ من نسب (¬3)، وتحلُّ أم المرتضع وأخته من نسب لأبيه وأخيه من رضاع، كما يحل لأخيه من أبيهِ أخته من أمِّهِ (¬4). (وتحريمُ الرضاع في النكاح وثبوت المحرمية كالنسبِ.) وللحرمة بالرَّضاع شرطان: ¬

_ (¬1) الأجود أن يقول "ابنهما" بدل "ولدهما" فإن "الولد" لا يكون إلا من "الولادة" أما "الابن" فيكون من "الرضاعة" كما يكون من الولادة. وهكذا نقول فيما يشبه هذا من التعبيرات الآتية في هذا المبحث. وكان على الشارح أن ينبه إلى ذلك. (¬2) في (ف): "ممن تزوجته". (¬3) في (ب، ص) -هنا زيادة "وتحل أم المرتضع لأبي مرتضع وأخيه من نسب" فحذفناها تبعاً لِـ (ف) ولأنها لا تتضمن حكماً جديداً يتعلق بالرضاع، فهي أم من النسب، والأب والأخ من النسب كذلك. (¬4) أي أن ذلك مُتَصَوَّرٌ في النسب أيضاً، فلو أن رجلاً تزوّج امرأة، وللمرأة ابن اسمه زيد، وللرجل بنت اسمها فاطمة، فزوّجا أحدهما من الآخر جاز، ثم إن ولد للأبوين ولد، كان هذا الولد أخاً لزيد من أمه وأخاً لفاطمة من أبيها.

أشار للأول منهما بقوله. (بشرط أن يرتضع خمسَ رضعاتٍ) فصاعداً. وعنه: ثلاث يحرِّمن. وعنه: واحدة. وأشار للثاني بقوله: (في العامين) فلو ارتضع بعدهما بلحظةٍ لم تثبت الحرمة، لقول الله تعالى: {وَالوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فجعل تمامَ الرضاعِ حولين. فيدل على أنه لا حُكْمَ للرضاعةِ بعدهما. (فلو ارتضعَ) في الحولين أقلَّ من خمسِ رَضَعاتٍ، ثم ارتضع (بقيةَ الخمسِ بعد العامينِ بلحظةٍ،) ولو قبل فطامِهِ، (لم تثبت الحرمة،) لأن شرط التحريم أن يكون في الحولين، ولم يوجد. وعُلِمَ منه أنه لو شَرَعَ في الخامسةِ، فحال الحولِ، قبل كمالها، اكتُفِي بما وُجِد منها في الحولين. وأمَّا حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها "أنَّ سَهْلَةَ بنتَ سُهيلٍ بن عمرو جاءت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إن سالماً مولى أبي حذيفةَ مضى في بيتِنا، وقَدْ بَلَغَ ما يبلغ الرجال، وعَلِمَ ما يعلمُ الرحال؟ فقال: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمي عليه" رواه مسلم، فهو خاصٌّ به دون سائر الناس (¬1)، جمعاً بين الأدلة. (ومتى امتصَّ) الطفلُ (الثديَ، ثم قَطَعه) أي قطع المصّ، (ولو) كان قطْعُهُ له (قهراً) أو كان قطعُهُ له لتنفُّسٍ، أو لملةٍ له عن المصّ، أو لانتقالٍ عن ثدي إلى ثدي آخر (ثم امتصّ) الثديَ (ثانياً، فرضعةٌ ثانية) لأن المصَّةَ الأولى زالَ حكْمُها بتركِ الارتضاع، فإذا عادَ فامتصّ، فهي غير الأولى. وانتقالٌ من ثدي إلى آخر يصيّرهما رضعتين. وهذا ظاهر ¬

_ (¬1) واختار ابن تيمية رأياً خلاف هذا فيه فسحة، فقال "رضاع الكبير تنتشر به الحرمة بحيث [يبيح] الدخول والخلوة، إذا كان قد تربَّى في البيت، بحيث لا يحتشمون منه، للحاجة: لقصة سالم مولى أبي حذيفة" (الاختيارات الفقهية ص 283)

كلام أحمد رضي الله تعالى عنه (¬1)، في روايةِ حنبل، فإنه قال: أما تَرَى الصبيّ يَرْضَعُ من الثدي، فإذا أدرَكَهُ النَّفَسُ أمْسَكَ عن الثدي لتنفُّسٍ واستراحةٍ (¬2)، فإذا فعل ذلك فهي رضعة. (والسُّعوط في الأنف، والوجُورُ في الفم، كالرّضاع) لأنه يحصُل به ما يحصُل بالرّضاع من الغذاء. والسعوط أن يُصَبَّ اللَّبن في أنفه من إناء أو غيره، فيدخل حلقَه. والوجور أن يصبّ لبن المرأة في حلقه من غير الثدي. (وأكْلُ ما جُبِّنَ) يعني أنه لو جُبِّنَ لَبَنُ المرأة، ثم أُطِعم الطفلَ ثبت به التحريم، لأنه واصِلٌ من الحلق يحصل به إنبات اللحم (¬3) وإنشاز العظم، فيحصل به التحريم، كما لو شربه. (أو خُلِطَ بالماء وصفاته باقية) حرَّم كما يحرِّم غير المَشُوب، لأن الحكم للأغلب، ولأنه مع بقاء صفاته لا يزولُ به اسمه، ولا المعنى المرادُ به. فأما إن غَلَبَ ما خُلِطَ به لم يثبت به تحريم، لأنه لا يحصل به إنبات اللحم ولا إنشاز العظم. وحكم ما حُلِبَ من ميتةٍ (كالرّضاع في الحرمة.) فإن وصل اللبنُ إلى فمه، ثم ألقاه، أو احتقن به، أو وصل إلى جوفٍ لا يغذَّى به كالذَّكَر والمثانة لم ينشر الحرمة، لأنه ليس برضاع. (وإن شُكَّ) بالبناء للمفعول (في الرضاع) يعني: هل وجد رضاعٌ أوْ لا؟ بني على اليقين، لأن الأصل عدم الرضاع؛ (أو) شُكَّ في (عدد الرضعات بني على اليقين) لأن الأصلَ عدمُ الرّضاعِ في المسألة ¬

_ (¬1) وفي وجه آخر: يكون رضعة واحدة ما لم يقطع قطعاً بيناً باختياره (المغني 7/ 537). (¬2) كذا في (ب، ص). وفي (ف): "للتنفس ويستريح" وفي المغنى 537/ 7: "ليتنفس أو يستريح". (¬3) كذا في (ف) والمغني. وفي (ب، ص): "لأنه إن وصل الجوف يحصل به إنبات اللحم ... الخ ".

الأولى. والأصل عدم وجود الرضاع المحرِّم في المسألة الثانية. لكنْ تكونُ من الشُّبُهات: تركُها أولى، قاله الشيخ. (وإن شهدتْ به) أي بالرضاع المحرِّم امرأة (مَرْضِية ثبتَ التحريم) بشهادتها. ولا يمينَ على المشهود له، ولا على الشاهدة. قال الزهري: فُرِّقَ بين أهل أبياتٍ (¬1) في زمن عثمان بشهادة امرأة واحدة. لأن هذه شهادة على عورة (¬2)، فتُقْبَلُ شهادة النّساء منفردات عن الرجال، كالولادة. ويؤيده ما رواه محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه (¬3). عن ابن عمر، قال: "سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يجوزُ في الرضاعِ من الشهود؟ فقال: رجلٌ، وامرأة" (¬4) رواه أحمد. (ومن حرمت عليهِ بنتُ امرأةٍ) من النسب (كأمّه وجدّته وأختِه) وكذا من حرمت عليه بنت امرأةٍ بالمصاهرة، مثلَ ربيبته التي دخل بأمها (إذا أرضعتْ (¬5) طفلةً) خمسَ رضعاتٍ (حرّمتْها عليه أبداً) لأنها تصير بنتَها. (ومن حرُمَتْ عليه بنتُ رجلٍ، كأبيه وجدّه وأخيهِ وابنهِ، إذا أرضعتْ زوجتُهُ) أو أمتُهُ (بلبنِهِ طفلةً) خمسَ رضعاتٍ (حرّمتها عليه أبداً) لأنها صارت ابنةَ من تحرُم ابنتُه عليه. وينفسخ فيهما النكاح إن كانت المرتَضِعَةُ زوجةً. ¬

_ (¬1) لعل المراد: أنهم كانوا أكثر من أسرة واحدة، وإلا لقال: "أهل بيت". فقد قال الأوزاعي: فرّق عثمان بين أربعة وبين نسائهم بشهادة امرأة في الرضاع. (¬2) أي الثدي -وهو يبدو عادة عند الإِرضاع- هو عورة بالنسبة إلى غير المحارم والنساء. (¬3) ب، ص، ف: محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أمه، والتصويب من المسند. (¬4) حديث ابن عمر في شهادة الرجل، وشهادة المرأة الواحدة على الرضاع: رواه أحمد وانفرد به. وقال أحمد محمد شاكر: هو ضعيف. وإنما ضعّفه لأن فيه مجهولاً، وفيه محمد بن البيلماني وهو ضعيف جداً، أو وضّاع منكر الحديث، عن أبيه وهو ضعيف (المسند بتحقيقه 7/ 70). (¬5) أي إذا أرضعت المرأةُ، وليس المقصود: إذا أرضعت بنتُها ..

تنبيه: إن قال زوجٌ عن زوجتِهِ: هي ابنتي من الرضاع، وهي في سنٍّ لا يُحْتَمَل كونُها ابنتَه، لم تحرُمْ لتيقن كذبه. وإن احتمَلَ صدقَه فكما لو قال: هي أختي من الرضاع. ولو ادعى بعد ذلك خطأً لم يقبل منه ما يدّعيه من ذلك.

كتاب النفقات

كتَاب النفَقَات جمع نفقة. وأصلها الإخراج، من "النافِقِ" (¬1) وهو موضعٌ يجعله اليربوعُ في مؤخر الجحر رقيقاً، يُعِدُّه للخُروجِ، إذا أُتيَ من باب الجحر دفعه برأسِهِ وخرج منه. ومنه يسمى "النفاق" لأنه خروج من الإيمان، أو خروج الإيمان من القلب (¬2). فسمى الخروج نفقة كذلك. والمقصود من هذا الكتاب بيان ما يجب على الإنسان من النفقة، في النكاح، والقرابة، والملك، وغير ذلك. [نفقة الزوجة] (يجب على الزوج ما لا غنى لزوجته عنه) أجمع المسلمونَ على وجوب نفقةِ الزوجةِ على الزوج، إذا كانا بالغين، ولم تكن ناشزاً. ذكره ابن المنذر وغيره، لأن الزوجة محبوسةٌ لحقّ الزوج، وذلك لمنعها من التصرُّف والكسب، فوجب عليه نفقتها، كالقنّ. إذا تقرّرَ وجوب نفقة الزوجة على الزوج، فإنها تجب عليه ولو ¬

_ (¬1) كذا في الأصول كلها. وصوابه "النَّافِقَاء" كما في شرح المنتهى. ولم يذكر القاموسُ واللسان "النافق". (¬2) في اللسان "الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر" فهو ليس بمعنى مطلق الخروج كما يفهم من كلام الشارح، وليس بمعنى خروج الإسلام من القلب.

كانت الزوجة معتدةً من وطءٍ شبهةٍ غير مطاوعة للواطئ (¬1). وقوله: ما لا غنى لزوجته عنه، يعني (من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ بالمعروف) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر: "ولهنَّ عليكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوتهنَّ بالمعروف" (¬2). (ويعتبرُ الحاكم) تقديرَ (ذلكَ إن تنازعا) أي الزوج الزوجة، في قدر ذلك، أو صفته. (بحالهما) أي حال الزوجين في يَسارِهما، وإعسارهما، ويسار أحدِهما وإعسار الآخر. وكان النظر يقتضي أن يُعْتَبَر ذلك بحال الزوجةِ دون الزوج، لأن النفقة والكسوة لها، بحق الزوجيّة، فكانت معتبرة بها، كمهرها. لكنْ قال الله سبحانه وتعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} فأمَرَ الموسرَ بالسعة في النفقة، ورَدّ الفقير إلى استطاعته. فلذلك اعتبرنا حال الزوجين في قدْرِ الواجب، وجنسه، رعايةً لكلا الجانبين، وأما كون ذلك موكولاً إلى اجتهاد الحاكم فلأنه أمرٌ يَختلِف باختلافِ حال الزوجين، فرُجِعَ فيه إلى اجتهاد الحاكم، كسائر المختلفات. فيفْرِضُ للموسرةِ مع موسرٍ كفايَتها خبزاً خالصاً بأدمِهِ المعتادِ لمثلِها في تلك البلدة. ويفرِض لها أيضاً لحماً عادةَ الموسرين ببلدة الزوج والزوجة التي هما بها. وتنقل زوجة متبرِّمَةٌ من أدم إلى غيره من الأدم. ولا بد للزوجة من ماعونِ الدار. ويكتفى منه بخزفٍ وخشب. والعدْلُ ما يليق بها، وما يلبس مثلها من حريرٍ وخزٍّ وجيِّدِ كَتَّانٍ وجيّد قطنٍ على ما جرت به عادة مثلها من الموسرات في ذلك البلد. وأقلُّ ما ¬

_ (¬1) أي لأن للزوج أن يستمتع منها بما يحل للصائم. فإن طاوعت عالمة فلا نفقة لها. (¬2) حديث "اتقوا الله في النساء، فإنهنّ عَوَانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه مسلم وأبو داود. وهو قطعة من حديث جابر الطويل في وصف حجة الوداع.

يُفْرَض من الكسوةِ للجسَدِ قميصٌ وسراويلٌ وطَرْحَةٌ ومِقْنَعَةٌ ومَدَاسٌ. وللشتاء جُبّة. وللنومِ فراشٌ ولحاف ومِخَدَّة. وللجلوسِ بساطٌ ورفيع الحصير. ولفقيرةٍ مع فقير كفايتُها خبزاً خُشْكاراً بأدمه، وزيتُ مصباح، ولحمٌ، العادة. ويفرض لها من الكسوة ما يلبس مثلها، وينام فيه، ويجلس عليه. ويفرِض للمتوسطةِ مع متوسطٍ، وموسرةٍ مع فقير، وعكسِهما، ما بين ذلك. (وعليه) أي على الزوج (مؤنة نظافتِها) أي نظافة الزوجة (من دُهنٍ وسِدْرٍ وثمن ماء الشرب والطَّهار من الحدث والخَبَثِ وغَسْل الثياب) وثمنُ المشط، وأجرة القَيِّمة. (¬1) وعليه كنسُ الدار وتنظيفُها، لا دواءُ علَّةٍ، أو أجرةُ طبيبٍ، وثمنُ طيبٍ وحنّاءٍ وخضابٍ ونحوه. وإن أراد منْهَا تزيُّنَها به، أو أراد، منها قطعَ رائحةٍ كريهة، وأتى بما يريد منها التزيّن به، أو بما يقطع الرائحة الكريهة، لزمها استعمالُه من أجله. (وعليه) أي على الزوج (لها) أي لزوجته (خادمٌ إذا كانت ممن يُخْدَمُ) بالبناء للمفعول (مثلها) كالموسرة، والصغيرة. (وتلزمه) لزوجته (مؤنسَةٌ لحاجةٍ) إلى ذلك، بأن كانت بمكان مخوفٍ أو لها عدوٌ تخافُ على نفسها منه، لأنه ليس من المعاشرةِ بالمعروف أن تُقِيمَ وَحْدَها بمكانٍ لا تأمن على نفسها فيه. ¬

_ (¬1) وعند أبي حنيفة: الاعتبار بحال الزوجة وحدها، لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف} وعند الشافعي: العبرة بحال الزوج وحده، لظاهر الآية التي ذكرها الشارح.

فصل

ولا يلزمه أجرة من يوضِّئُ زوجته مريضةً، بخلاف رقيقِهِ المريض الذي لا يمكنه الوضوء بنفسه. فصل (والواجب عليه) أي على الزوج (دفع الطعامِ) أي القوتِ من الخبز (¬1) والأدم ونحو ذلك إلى زوجته وخادِمِها (¬2) (في أول كل يوم) لأنه أول وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره عنه. ويجوز لهما فعلُ ما اتَّفقا عليه من تعجيلٍ أو تأخيرٍ عن وقت الوجوب. (ويجوز دفع عِوَضه) أي الواجب (إن تراضَيَا) لأنّ الحق لا يعدُوهما. ولا يجبر من أبى ذلك لأن الإنسان لا يُجْبَر على ما لم يجب عليه. (ولا يملك الحاكم) إذا ترافع إليه الزوجان (إن يفرِض عِوَضَ القوت دراهمَ مثلاً إلا بتراضيهما) أي بتراضي الزوجينِ على فرضٍ، فلا يجبر من امتنع منهما. قال ابن القيم في الهدْي: وأما فَرْضُ الدراهم فلا أصلَ له في كتابٍ ولا سنةٍ، ولا نَصَّ عليه أحدٌ من الأئمة، لأنها معاوضة بغير الرضا عن غير مستقِرٍّ. وفي الفروع: وهذا متجه مع عدم الشقاق وعدم الحاجة، فأما مع الشقاقِ والحاجة، كالغائب مثلاً، فيتَوَجَّهُ الفرضُ للحاجة، على ما لا يخفى، فلا يقع الفرض بدون ذلك بغير الرضا. ولا تعتاض عن الواجِب الماضي بربويٍّ، كما لو عوضها حنطةً عن الخبز، فإنه لا يصحّ، ولو ترَاضَيَا عليه. ¬

_ (¬1) في (ب، ص) "الخلّ" بدل "الخبز" والتصويب من (ف) وشرح المنتهى. (¬2) وكذا كل من وجبت نفقته من قريب أو غيره.

[الكسوة]

(وفَرْضُه) أي الحاكم عِوَضَ القوتِ دراهمَ (ليس بلازمٍ). [الكسوة] (ويجب لها) أي للزوجة (الكُسْوة) والغطاءُ والوِطاءُ ونحوهما (في أوّل كلّ عامٍ). وقال الحلواني وابنه وابن حمدان: في أوّل الصيف كسوة، وفي أول الشتاء كسوة. (وتملكها) أي الكسوة، وكذلك النفقة، (بالقبضِ،) كما يملِكُ ربُّ الدينِ الدينَ (¬1) بقبضِهِ. (فلا بَدَلَ) على الزوج (لما سُرِقَ) منها من ذلك (أو بَلِيَ) لأنها قبضَتْ حقها، فلم يلزمْ غيرُهُ، كالدين إذا أوفاها إياه، ثم ضاع منها. وتملِكُ التصرّفَ فيما قبضتْهُ من الواجب لها على الزوج، من نفقة وكسوةٍ، على وجهٍ لا يضرُّ بها ولا يُنْهِكُ بَدَنَها، من بيعٍ وهبةٍ وغيرِ ذلك، كسائرِ ما لها. أما إذا عاد ذلك عليها بضررٍ في بدنِهَا، أو نقصٍ في الاستمتاع بها، فإنها لا تملِكُهُ، لتفويتِ حقّ زوجها بذلك. (وإن انقضى العام والكسوةُ) التي قبضتها لذلك العامِ (باقيةٌ، فعليه كسوة للعام الجديدِ) لأن الاعتبار بمضيّ الزمان، دون حقيقة الحاجة، بدليل أْنهَا لو بليَتْ قبل ذلك لم يلزمْهُ بدلها. ولو أُهدي إليها كسوةٌ لم تسقطْ كسوتُها. وكذلك لو أُهدِيَ إليها طعامٌ، فأكلتْهُ، وبقي قوتُها إلى الغد، لم يسقط قوتُها فيه، بخلاف ماعونٍ ونحوه. (وإن) قبضتْ كسوتَها من زوجها أوَّل كلِّ عامٍ ثم (ماتَ) الزوجُ قبل انقضاءِ العام، (أو ماتتِ) الزوجةُ قبل انقضاء العام، (أو بانت قبل ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "الذي" بدل "الدين".

[فيما تسقط به نفقة الزوجة]

انقضائه، رَجَعَ عليها بقسطِ ما بقي) من العام، كما لو دفع إليها نفقةَ مدّةٍ مستقبَلَةٍ، ثم وقع شيء مما تقدم قبل مضيِّها. (وإن أكلتْ معه) أي أكلت الزوجةُ مع الزوجِ (عادةً) أي كما هو العادةُ (أو كساها بلا إذن) منها، أو من وليّها الكسوةَ المقدّرة في الشرع (سقطتْ) عملاً بالعرف (¬1) ومتى ادّعتْ أنه تبرَّع بذلك حَلَف. تنبيه: إذا غاب الزوجُ عن زوجته مدةً، ولم ينفِقْ عليها فيها، لزمه نفقةُ الزمن الماضي، ولو لم يفرضها حاكمٌ، على الأصح. فصل [فيما تسقط به نفقة الزوجة] 1 - (والرجعية مطلقاً) أي سواء كانت حاملاً أوْ لا، (والبائنُ) الحاملُ بفسخٍ أو طلاقٍ، (والناشزُ الحامِلُ، والمتوفّى عنها زوجها) حال كونها (حاملاً) حكمُها (كالزوجةِ في النفقةِ والكسوةِ والمسكنِ). (ولا شيء لغير الحامل منهن.) قال في الإقناع: ولا نفقةَ من التركة لمتوفّى عنها زوجها، ولو حاملاً، ونفقة الحمل من نصيبه، ولا لأمِّ ولدٍ حاملٍ. وينفَقُ من مال حملِهَا نصًّا. ولا سكنى لهما، ولا كسوة انتهى. وتسقط نفقةُ الحمل بمضيّ الزمان. المنقّح. ما لم تستدِنْ بإِذن حاكمٍ، أو تنفقْ بنيّةِ الرجوَع. 2 - ولا نفقةَ لناشزٍ، ولو كان نشوزُها بنكاح في عدَّةٍ. قال في المستوعب: وإذا تزوجت الرجعيَّةُ في عدتها فنكاحها باطل، ولا تصيرُ به ¬

_ (¬1) في (ف): "بالمعروف".

[الاختلاف في النفقة]

فراشاً للثاني. ولا تنقطع به عدة الأول. ولا سكنى لها ولا نفقة على الأول، لأنها ناشزٌ بتزوّجها. ذكره في الوجيز. 3 - (ولا) نفقة (لمن) أي زوجةٍ (سافرت لحاجتها) ولو بإذن الزوج، (أو) سافرتْ (لنزهةٍ) ولو بإذن الزوج، (أو) سافرتْ (لزيارةٍ، ولو) كان سفرها (بإذن الزوج) لأنها فوَّتتْ التمكينَ لحظ نفسها، وقضاءِ أربها، فأشبه ما لو استنظرتْه قبل الدخول مُدّةً فأنظَرَها، إلا أن يكون مسافراً معَهَا متمكّناً من الاستمتاع بها، فلا تسقط، لأنّها لم تفوّت التمكين، فأشبهتْ غير المسافرة. وكذا تسقطُ نفقتُها إذا زَنتْ قبل أن يطأها زوجُها، فغُرِّبَتْ أو حُبسَتْ، ولو ظلماً، أو صامتْ لكفارةٍ، أو قضاءِ رمضانَ، ووقتُهُ متّسع أوَ صامَتْ، أو حجَّتْ نفلاً أو نذراً معيناً في وقتِهِ في الصومِ والحجّ بلا إذنه، ولو أنَّ نذرَهُما بإذنه، بخلاف من أحرمتْ بفريضةٍ أو مكتوبةٍ في وقتِها بسنّتها. قاله في المنتهى وشرحِهِ. [الاختلاف في النفقة] (وإن ادّعى نشوزَها) أي نشوزَ زوجتِهِ، وأنكرتْ، (أو) ادّعى (إنها أخذت نفقَتَها)، أو ادّعى الإنفاق عليها (وأنكرتْ، فـ) القول (قولها بيمينها) لأنّ الأصل عدمُ ذلك. واختار الشيخُ وابنُ القيّم في النفقة قولَ من يشهدُ له العُرْفُ، لأنه تعارضَ الأصلُ والظاهرُ، والغالبُ أنها تكون راضيةً. وإنما تطالبه عند الشقاق. وإن ادعت الزوجةُ يسارَ الزوجِ ليفرِضَ لها الحاكم نفقةَ الموسرين، أو قالت: كنتَ موسراً فليزمك لما مضى نفقةُ الموسرين، فأنكر، فإن عُرِفَ له مالٌ فقولُها، وإلا فقولُه، لأنه منكِرٌ، والأصل عدمه.

[الإعسار بالنفقة]

[الإعسار بالنفقة] (ومتى أعسر) الزوجُ (بنفقة المعسِر) بأن لم يجد القوتَ (أو كسوتهِ) أي كسوة المعسِرِ، أو أعسرَ ببعضِ نفقةِ المعسِرِ، أو ببعض كسوته، (أو) أعسر بـ (مسكنه، أو صار) الزوجُ (لا يجد النفقةَ) أي نفقةَ الزوجةِ (إلا يوماً دون يوم) فلها الفسخُ فوراً ومتراخياً، ولها المقامُ معه مع منعِهَا نفسَها عنه وبدونه. ولا يمنعها تكسُّباً، ولا يحبِسُها، ولها الفسخ بعده؛ (أو غاب الموسُر) يعني عن زوجته (وتعذّرت عليها النفقةُ) بأن لم يترك لها ما تنفقه على نفسها، ولم تقدرْ له على مالٍ، ولا أمكنها تحصيل نفقتها (بالاستدانة) عليه (و) لا (غيرها، فلها الفسخ فوراً متراخياً) قال في الإنصاف: هذا المذهب. جزم به في الوجيز والنظم ومنتخب الآدمي وتذكرة ابن عبدوس وغيرهم، وقدَّمه في المغني والشرح والفروع وغيرهم انتهى. وقال القاضي: لا تملك الفسخَ إلا إذا ثبت إعسارُه. جزم بما في المتن في الإقناع والمنتهى. (ولا يصحّ) الفسخ في ذلك كله (بلا) حكمِ (حاكم. فيفسخُ بطلبها، أو تفسخُ بأمره) لأنه فسخٌ مختلَف فيه، فافتقر إلى حكم الحاكم، كالفسخ بالعنّة. وإنما لم يجب الحكم إلا بِطلبها لأنه لحقّها، فلم يجزْ من غير طلبها، كالفسخِ للعنة. فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخٌ لا رجعةَ له فِيهِ، لأنها فرقةٌ لعجزه عن الواجب عليه، أشبهتْ فُرْقَةَ العنّة. وللحاكم بيعُ عقارٍ وعرضٍ لغائبٍ تَرَك زوجته بلا نفقة ولا منفق، إن لم يجد غيرَهُ، وينفِقُ عليها يوماً بيوم. ولا يجوز أكثر. ثم إنْ بان ميّتاً قبل إنفاقه حَسَب عليها ما أنفقته بنفسها أو بأمرِ حاكمٍ. [حكم من امتنع من الإنفاق أو قتر فيه] (وإن امتنع الموسر من النفقة أو الكسوة) أو بعضهما (وقدرَتْ

على) أخذِ ذلك من (مالِهِ فلها الأخذ منه بلا إذنه، بقدر كفايتها وكفايةِ ولدها الصغير) لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة حين قالتْ له:"إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، وليس يعطيني من النفقةِ ما يكفيني وولدي قال: "خذي ما يكفيكِ، ووَلَدَكِ بالمعروف" (¬1) فهذا إذن لها منه - صلى الله عليه وسلم - في الأخذ من ماله بغير إذنه، وردٌّ لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها .. وهو متناوِلٌ لأخذِ تمام الكفاية. فإنَّ ظاهر الحديث دلَّ على أنه كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتمُّها لها، فرخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخذِ تمام الكفاية بغير علمه؛ ولأن النفقة تتجدَّدُ بتجدُّدِ الزمان شيئاً فشيئاً، فتشقُّ المرافعة بها إلى الحاكم، والمطالبة بها في كل يوم، فلذلك رخّص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه؛ ولأنه موضع حاجةٍ، فإن النفقة لا غناء عنها ولا قَوَامَ إلا بها، فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها أفضى ذلك إلى ضياعها وهلاكها، فرُخِّص لها في أخذ قدر نففتها ونفقة عائلتها دفعاً لحاجتها. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه الشافعي والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم عن عائشة ونصّه "أن هند بنتَ عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم. فقال: خذي من ماله ما يكفيكِ وولدَك بالمعروف".

باب نفقة (الأقارب) (و) نفقة (المماليك) من الآدميين والبهائم

باب نفقة (الأقارب) (و) نفقة (الممَاليك) مِنَ الآدميّين وَالبهَائِم قال ابن المنذر: أجمع أهلُ العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين، اللذين لا كسبَ لهما ولا مال، واجبة في مال الولد. وأجمعَ كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرءِ نفقةَ أولاده الأطفال الذين لا مال لهم. و (يجب على القريب نفقةُ أقاربه وكسوتهم وسكناهم بالمعروف) لقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فأوجب على الأبِ نفقةَ الرَّضاعِ، ثم عَطَفَ الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الأب (¬1) (بثلاثة شروط): (الأول: أن يكونوا) أي من تجب لهم النفقة (فقراءَ لا مال لهم ولا كسب،) لأن النفقة إنما تجب على سبيل المواساة، والغنيّ بملكه، والقادرُ على التكسب، مستغنٍ عن المواساةٍ. ¬

_ (¬1) هذا مذهب أحمد. ومذهب أبي حنيفة أن النفقة تجب على ذي الرحم المحرم. ومذهب مالك: لا تجب على أحد من جهة القرابة إلا الأبناء الصغار الفقراء والأبوين إذا كانا فقيرين لا يقدران على الاكتساب. فإذا بلغ الغلام صحيحاً ثم جنّ أو زَمِنَ لم تعد نفقته على أبيه. كذا في الكافي. ومذهب الشافعي أن النفقة للأقارب الفقراء من الأصول، والفروع لا غيرهم.

ولا يعتبر نقصُ خلقةٍ، فتجب لصحيحٍ مكلّف لا حرفةَ له. الشرط (الثاني: أن يكون المنفِقُ غنياً) إما (بمالِهِ) كأجرةِ ملكِهِ (أو كَسْبِهِ) كصناعةٍ وتجارة، (وإن يفضُلَ عن قوتِ نفسِه وزوجتِهِ ورقيقِهِ يومَهُ وليلَتَة) وكسوةٍ وسكنى، لا من رأسِ المالِ، وثمنِ ملكٍ، وآلةِ عمل. الشرط (الثالث: أن يكون) المنفِقُ (وارثاً لهم) أي لمن تجب لهم النفقة (بفرضٍ،) كأخيه لأمه، (أو تعصيبٍ) كابن عمه، لا برحِمٍ كخالةٍ (إلا الأصولَ والفُروعَ، فتجبُ لهم وعليهم) حتَّى ذي الرَّحم منهم (مطلقاً) أي سواءٌ حجب الغنيَّ منهم معسِرٌ، كجدٍّ معسِرٍ وأبٍ معسر لغنيّ، فإنه محجوبٌ عن جدّه بأبيه المعسر، فيلزم الغنيّ نفقةُ أبَيهِ المعسِرِ وجدّه المعسر، أو لم يحجبه معسِرٌ، كمن له جَدٌّ فقير، مع عدم أبيه الذي هو ابنُ الجدّ، فإنّ ابن الابن ليس بمحجوبٍ عن الجدّ مع عدم الأب. (وإذا كان للفقير ورثةٌ دون الأب) يعني: ولو كان وارثه غيرَ أبيه (فنفقته) عليهم (على قدر إرثهم) من المحتاج إلى النفقة، لأن الله سبحانه وتعالى رتّب النفقة على الإِرث، بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الوارِثِ مِثْل ذلِكَ} فيجب أن يترتب مقدار النفقة على مقدار الإرث. والأب ينفرد بها. فجدٌّ وأخٌ: بينهما سواء؛ وأم وجدّ، أو: ابنٌ وبنت: أثلاثاً؛ وجدةٌ وبنت: أرباعاً؛ وجدة وعاصبٌ غيرُ أبٍ: أسداساً. وعلى هذا حساب النفقات. (ولا يلزمُ الموسِرَ منهم مع فقرِ الآخر سوى قدر إرثه) فقط، كمن له ابنانِ، أحدهما موسر، والآخر معسرٌ (¬1)، لأن الموسر منهما إنما يجب ¬

_ (¬1) قوله "كمن له ابنان .. الخ" هذا سبق قلم لما مرّ قريباً من أن الأصول والفروع تجب لهم وعليهم مطلقاً. ففي هذه الصورة تجب نفقة الأب على الابن الموسر كلها. =

عليه مع يسار الآخر ذلك القدر، فلا يتحمّل عن غيرِهِ إذا لم يجد الغير ما يجب عليه. (ومن قدر على الكسب) وكان بحيثُ إذا اكتسب فَضَلَ عن كسبه فضلٌ للمواساة (أُجبر) على التكسّب (لنفقةِ من تجبُ عليه من قريبٍ وزوجةٍ) لا امرأة على نكاح (¬1). (ومن لم يجد ما يكفي الجميع) أي جميع من تجبُ نفقته عليه لو كان موسراً بجميعها (بَدَأ بنفسه) لحديث "ابدأ بنفسك" (¬2) (فزوجتِهِ) لأن نفقة الزوجةِ تجب على سبيل المعاوَضَةِ، فقدِّمت على مجرّد المواساة، ولذلك تجب مع اليسار والإِعسار، بخلاف نفقة القريب. (فرقيقِهِ) بعد زوجته لأنها تجب مع اليسار والإِعسار فقُدّمت على مجرد المواساة. (فولدهِ) لوجوب نفقته بالنصّ. (فأبيه) لانفرادهِ بالولاية على ولده، واستحقاقِ الأخذ من ماله، وإضافةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الولدَ ومالَهُ لأبيه، بقوله: "أنت ومالَك لأبيك" (¬3). (فأمِّه) لما لها من فضيلةِ الحملِ والرضاع والتربية (¬4). ¬

_ = والصواب أن يقول: كمن له أخوان أحدهما موسر والآخر معسر فلا يجب على الموسر إلا نصف النفقة اهـ. (عبد الغني). (¬1) أي لا تجبر المرأة التي لها قريب معسر، على النكاح لتحصيل مهرٍ تنفق منه على قريبها. (¬2) حديث "ابدأ بنفسك" رواه الترمذي من حديث جابر بلفظ "إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن كانَ فضلٌ فعلى عياله، فإن كان فضلٌ فعلى قرابته" وهو حديث صحيح (الإرواء ح 2165) (¬3) رواه ابن ماجه والطحاوي، من حديث جابر بن عبد الله "أن رجلاً قال يا رسول الله إنَّ لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: أنت ومالك لأبيك" وهو صحيح. ورواه الطبراني مطولاً وفيه قصة (الإرواء ح 838) (¬4) في المغني 7/ 494: إن اجتمع أَبوان ففيهما ثلاثة أوجه: التسوية لتساويهما في القرب وتقابل مرتبتهما؛ والثاني: تقديم الأم لأنها أحق بالبرِّ ولها فضيلة الحمل والإِرضاع =

(فولدِ ابنِه) لأن ابن الابن يرثُ ميراث ابن، ولأن وجوده يُسقط تعصيبَ الجدّ، فقُدِّم عليه. (فجدّه) أي جدّ الميت، لأن له مزية الولادة والأبوة. (فأخيه ثم الأقربِ فالأقرب) فيقدّم أبٌ على ابن ابنٍ، وجدٌ على أخٍ (¬1). نقله في الإقناع. (ولمستحق النفقة أنْ يأخذ ما يكفيه من مالِ من يجب عليهِ بلا إذنٍ) أي إذنٍ ممن هي عليه (إن. امتنع) من دفعها لمن وجبت له، كزوجة. (وحيث امتنعَ منها) أي من النفقة (زوجٌ أو قريبٌ) بأن تُطْلَب منه فيمتنع (وأنفَقَ أجنبيٌّ) أي غيرُ من وجبت عليه (بنيّةِ الرجوع، رَجَعَ)، لأنه قام عنه بواجب كقضاء دينه. (ولا نفقةَ مع اختلافِ الدِّين) بقرابةٍ، ولو كان من عمودي النسب (¬2)، على الأصحّ، لأنها مواساةٌ على سبيل البرّ والصلة، فلم يجب مع اختلاف الدين، كغير (¬3) عمودي النسب، ولأنهما لا يتوارثانِ، فلم تجبْ لأحدهما على الآخر نفقة بالقرابة، كما لو كان أحدهما رقيقاً، (إلا بالولاء) لثبوتِ إرثهِ من عتيقه مع اختلاف دينهما، لعموم قوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. ¬

_ = والتربية وزيادة الشفقة وهى أضعف وأعجز؛ والثالث: تقديم الأب لفضيلته وانفراده بالولاية .. الخ. قال: والأول أولى. اهـ. فما قدمه الماتن والشارح خالفاً فِيه الشيخ. (¬1) في تمثيل الشارح بهذين مؤاخذة، فقد تقدمت أحكامهما. ومراد الماتن ما وراء ذلك، فلو مثل بتقديم العم على ابن العم، لكان مطابقاً. (¬2) (ب، ص): "لغير عمودي النسب" وهو تصحيف، كما لا يخفى، وكما في (ف). (¬3) في عمودي النسب رواية أخرى أنها تجب نفقتهم مع اختلاف الدين، وهو مذهب الشافعي.

[في نفقة المماليك وحقوقهم]

فصل [في نفقة المماليك وحقوقهم] (و) يجب (على السيّد نفقة مملوكه) ولو كان آبقاً، أو ابنَ أمتِهِ من حرٍّ (وكسوتُه ومسكنُه) سواءٌ كان المالك غنيًّا أو فقيراً أو متوسطاً. قال في المبدع: ومحله ما لم يكن للرقيق صنعة يتكسّب بها. انتهى. (و) يجب (تزويجُه) أي المملوك (إن طلب) أن يزوّجه، غيرَ أمةٍ يستمتع بها سيّدها، ولو كانت مكاتبة، بشرطه. (وله) أي السيد (أن يسافر بعبده المتزوّج). (و) له (إن يستخدمه نهاراً) قال في الإِقناع: وإذا كان للعبد زوجةٌ فعلى سيّده تمكينه من الاستمتاع بها ليلاً. (وعليه) أي السيد (إعفاف أمته) إما بوطئها أو تزويجها أو بيعها. (ويحرم) على السيد (أن يضربه) أي أن يضرب رقيقه (على وجهه) لحديث ابن عمر مرفوعاً "من لَطَم غلامَه فكفارتُهُ عتقُه" رواه مسلم، (أو يشتمَ أبويهِ ولو كافرين) لا يعوِّد لسانَه الخَطَأ (¬1) والفحش، "ولا يدخلُ الجنَّةَ سيئ الملكة" (¬2) وهو الذي يسيء إلى مماليكه، (أو يكلفَه من العمل ما لا يطيق). (ويجب) على السيد (أن يريحه) أي أن يريح عبده (وقت القَيْلولة، ووقت النوم، و) لتأدية (الصلاةِ المفروضَةِ) لأن العادة جارية بذلك، ولأن عليهم في ترك ذلك ضرراً، ولا يحلّ الإِضرار بهم. ويركبهم عقبةً لحاجةٍ إذا سافر بهم. ¬

_ (¬1) في (ف): "الحنا". (¬2) حديث "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" رواه أحمد، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والحديث ضعيف انفرد به فرقد السَّبَخي (أحمد محمد شاكر في تحقيق المسند جـ1 ح 13، 32، 75)

[التأديب]

(وتسنُّ مداواتُهُ) أي يسن للسيد أن يداويَ رقيقه (إن مرض) قال في الفروع: ويداويه وجوباً. قاله جماعة. ثم قال: وظاهر كلام جماعة: يستحب. وهو أظهر. (و) يسن للسيّد (أن يُطْعِمَه من طعامهِ) ومن وَلِيَهُ فمعه، أو منه (¬1). ولا يأكل العبد شيئاً من طعام سيّده بلا إذنه. نص عليه. (وله) أي السيد (تقييده) أي تقييدُ رقيقه (إن خافَ عليه) من الإباق. نقله حرب. ونقل غيرُه (¬2): لا يقيده، ويباعُ، أحبُّ إليّ. [التأديب] (و) له (تأديبه) على فرائضِ الله تعالى، من الصلاة والصوم، وعلى ما إذا كلّفه ما يطيق، فامتنع من امتثاله. ولا يصح نفله (¬3) (إن أبق). ويحرم إفسادُه على سيده، وإفسادُ المرأة على زوجها. (وللإِنسان تأديبُ زوجتِهِ وولده، ولو مكلفاً، بضرب غير مبرِّح) قال في الإِقناع: قال ابن الجوزي في كتابه "السر المصون": معاشرةُ الولد باللُّطف والتأديبِ والتعليمِ. وإذا احتيج إلى ضربِهِ ضُرِبَ. ويُحمَل على أحسَنِ الأخلاق، ويُجنَّب سيئها. فإذا كبر فالحذَرَ منه. ولا يطلعه على كل الأسرار. ومن الغلط تركُ تزويجه إذا بلغ، فإنك تدري ما هو فيه بما كنت فيه. فصنْهُ عن الزلل عاجلاً، خصوصاً البنات. واياك أن تزوّج ¬

_ (¬1) أي من تولى صنع الطعام من المماليك (أو غيرهم) سُنَّ لصاحب الطعام أن يجلسه ليأكل معه من ذلك الطعام، أو أن يطعمه منه، لما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً "إذا أتى أحَدَكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوِلْهُ لقمةً أو لقمتين، فإنّه وَلِيَ حَرَّهُ وعِلاجه" رواه الجماعة (منار السبيل 2/ 308) (¬2) أي روى ذلك حربٌ عن أحمد. وروى غير حرب عن أحمد .. الخ. (¬3) عبارة "ولا يصح نفله إن أبق" زائدة على ما في المنتهى وشرحه. وفي (ب، ص): "ونقله" وهو تصحيف.

[في نفقة البهائم، والرفق بالحيوان]

البنت بشيخٍ أو شخصٍ مكروهٍ. وأما المملوك فلا ينبغي أن تسكنَ إليه بحالٍ، بل كن منه على حذر. ولا تُدخِل الدارَ منهم مراهقاً، ولا خادماً. فإنهم رجالٌ مع النساء، ونساء مع الرجال. وربما امتدّتْ عينُ امرأةٍ إلى غلامٍ مُحتَقَر. انتهى. (ولا يلزَمُهُ) أي السيدَ (بيعُ رقيقِهِ) ذكراً كان أو أنثى (مع قيامِهِ بحقوقه) أي حقوق المملوكِ، لأن الملك للسيّد، والحق له، فلا يجبر على إزالته من غير ضرر بالعبد، كما لا يجب عليه طلاقُ زوجته مع القيام بما يجب لها، ولو غضبت. فصل [في نفقة البهائم، والرفق بالحيوان] (وعلى مالك البهيمة إطعامها وسقيها) ولو عَطِبَتْ، إما بعلْفِها، أو بإقامة من يرعاها. (فإن امتنع) من إطعامها وسقيها (أُجبِر). (فإن أبى أو عجز) عن نفقتها (أُجبِر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن كانت تؤكل) لأن بقاءها في يده بترك الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته، ولأن ذلك مما تتلَف به، ولا تجوز إضاعة المال، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه (¬1)، فوجب إلزامه بما يزيل ذلك. فإن أبى فعل الحاكم الأصلح من هذه الأمور الثلاثة، أو اقترَضَ عليه وأنفق على بهيمته. (ويحرم لعنُها) أي لعْنُ البهيمة. ¬

_ (¬1) حديث "كان ينهي عن إضاعة المال" رواه البخاري ومسلم.

(و) يحرم (تحميلها) أي تحميل الدابة شيئاً (مُشِقًّا) (¬1) لما في ذلك من تعذيب الحيوان. (و) يحرم (حلْبُها ما) أي شيئاً (يضرُّ ولدَها) لأن كفايته واجبة على مالِكِهِ، ولأنّ لبنها مخلوقٌ له، فأشبه ولدَ الأمة. (و) يحرم (ضربُها في وجهها، ووسْمُها فيه) أي في الوجه. قال في الفروع: "ولعَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ وَسَمَ أو ضَرَبَ الوجْهَ ونهى عنه" (¬2) فتحريمُ ذلك ظاهِرُ كلام الإِمام والأصحاب. ويجوزُ الوَسْمُ في غير الوجه لغرضٍ صحيح. ويكره خِصاءٌ، وجَزُّ مَعْرَفَةٍ وناصيةٍ وذَنَبٍ، وتعليقُ جَرَس، ونزو حمارٍ على فرس (¬3). (و) يحرم (ذبحها إن كانت لا تؤكل لإراحتها (¬4)، كالآدمي المصْلوب والمتألِّم بالأمراض الصعبة. (ويجوز استعمالها في غير ما خُلِقتْ له) كبقرٍ لحملٍ وركوبٍ، وإبلٍ وحُمُرٍ لحرْثٍ ونحوه. تنبيه: يباح تجفيفُ دود القزّ بالشمسِ إذا استكمل، وتدخينُ الزنابير. فإن لم يندفع ضررها إلا بإحراقها جاز. خرجه الشيخُ موسى في شرحه على منظومة الآداب على القول في النمل والقمل وغيرهما، إذا ¬

_ (¬1) كذا في (ب، ص) وشرح المنتهى. وصوابه "شاقًّا". وفي (ف): "مُثقِلاً". (¬2) روى أبو داود عن جابر "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحمارٍ قد وُسِمَ في وجهه. فقال: أما بلغكم أني قد لعنتُ من وَسَم البهيمة في وجهها، أو ضربها في وجهها" (الإِرواء ح 2185) وفي صحيح مسلم عن جابر "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجه والوسم في الوجه" وفي رواية "لعن الله الذي وَسَمَه" (مسلم بتحقيق عبد الباقي 3/ 1673) (¬3) لو قال "وإنزاء حمارٍ .. الخ " لكان أصوب. (¬4) علله في شرح المنتهى بقوله "لأنه إتلاف مالٍ وقد نُهي عنه" فمقتضاه أنه ان فقد المالية لم يحرم.

لم يندفع ضررها إلا بالحرق جاز بلا كراهةٍ، على ما أختاره الناظم (¬1). وقال: إنه سأل عنه الشيخَ شمسَ الدين شارحَ المقنع، فقال: ما هو ببعيد. أما إذا اندفع ضررها بدون الحرق، فقال الناظم: يكره. وظاهر كلام الأصحاب: التحريم. ¬

_ (¬1) الشيخ موسى هو الحجّاوي صاحب الإقناع، والناظم هو ابن عبد القوي (عبد الغني).

باب الحضانة

باب الحضَانَة مأخوذ من الحِضن، وهو الجَنْبُ، لأن المربِّي والكافل يضمُّ الطفل إلى حِضْنِهِ. وتجبُ، لأن الطفل يهلِكُ بتركه ويضيِع, فلذلك وجبتْ كفالته، حفظاً له، وإنجاء له من الهلكة والضياع. (وهي) أي الحضانة (حفظ الطفلِ غالباً) وقد لا يكون طفلاً، ويكون كالطفل، وهو المجنون والمختلّ العقل (عمّا) متعلّق بقوله: حِفْظُ (يضرّه، والقيامُ بمصالحه، كغسْلِ رأسِهِ وثيابه، ودَهْنُه، وتكحيلُه، وربْطُه في المهد ونحوه، وتحريكُه لينام) ونحو ذلك مما يتعلق بمصالحه. [ترتيب مستحقي الحضانة] (والأحقُّ بها) أي بالحضانة (الأمّ) لأنها أشفق عليه وأقرب، ولا يشاركها في القرب، إلاَّ الأب، وليس له مثلُ شفقتِها، ولا يتولى الحضانة بنفسِهِ، وإنما بدفعه إلى امرأته أو غيرها من النساء، وأُمُّهُ أولى ممن يدفعه إليها، فتقدم على غيرها (ولو بأجرةِ مثلِها مع وجودِ متبرِّعَةٍ) كرضاع.

ولو امتنعت لم تجبر. (ثم) الأولى بالحضانة بعد الأم (أُمَّهاتها، القربى فالقربى) لأنهن نساءٌ ولادتهنَّ متحقِّقة، فهنَّ في معنى الأم. (ثم) الأولى بالحضانة بعد الأُم وأمهاتها (الأب) لأنه أصل النسب إلى الطفل، وأحقّ بولايةِ ماله، فكذلك في الحضانة. (ثم) الأولى بالحضانة بعد الأب (أمهاته) القربى فالقربى. (ثم) الأولى بالحضانة بعد الأب وأمهاته (الجدّ) لأنه في معنى ابنه الذي هو أبو المحضون، يقدّم فيه الأقرب فالأقرب من الآباء. (ثم أمهاته) أي أمهات الجد القربى فالقربى. (ثم) الأولى بالحضانة بعد أمهات آباء الآباء (الأخت لأبوين) لقوّة قرابتها (ثم) أختٌ (لأمِّ) لأن هؤلاء نساء يدلين، بالأم فكان من يدلي منهن بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات، (ثم) أختٌ (لأب). (ثم) الأولى بالحضانة بعد الأخوات خالاتُ المحضون، فتقدم (الخالة لأبوين) يعني: أختَ أمِّ المحضون لأبويها. (ثم) خالةٌ (لأمّ، ثم) خالةٌ (لأب)، لأن الخالات يدلين بالأم. (ثم) الأولى بالحضانة بعد الخالات (العمّات كذلك) يعني: تقدّم عمةٌ لأبوين، ثم عمةٌ لأمٍّ، ثم عمةٌ لأبٍ. (ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمات أبيه، ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه وعماته). (ثم) تنتقل الحضانة (لباقي العصبة) أي عصبة المحضون (الأقرب فالأقرب)، فتقدم الإِخوة، ثم بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم. وشُرِطَ كونُ العصبة محرماً ولو برضاع ونحوه كمصاهرةٍ، لأنثى بلغت سبعاً.

[موانع استحقاق الحضانة]

[موانع استحقاق الحضانة] (ولا حضانةَ لمن فيه رقٌّ) ولو قلَّ، لأنها ولاية، فلا تثبت لمن فيه رقّ، كولاية النكاح. (ولا) حضانةَ (لفاسقٍ) لأنه لا يوفّي الحضانةَ حقَّها. (ولا حضانة لكافرٍ على مسلمٍ) لأنها إذا لم تثبت للفاسِقِ فالكافر أولى؛ ولأنّه ربما فَتَنَه عن دينه، ولا لمجنونٍ ولو غيرَ مطبِقٍ، ولا لمعتوهٍ، ولا لطفلٍ، ولا لعاجزٍ عنها، كأعمى وزَمِنٍ. قال الشيخ: وضعْفُ البَصَرِ بمنع من كمالِ ما يحتاج إليه المحضون من المصالح. انتهى. وإذا كان بالأمِّ برصٌ أو جُذامٌ سقط حقّها من الحضانة. أفتى به الشيخ. (ولا) حضانَةَ (لـ) امرأةٍ (متزوّجةٍ بأجنبيّ) من المحضونِ من زمن عقدٍ ولو رضي زوجٌ. (ومتى زالِ المانع) من كفرٍ أو فسقٍ أو رقٍّ أو تزوجَّ ولو بطلاقٍ رجعيّ ولم تنقض عدّتها (أو أسقَطَ الأحقُّ حقَّه منها، ثم عادَ، عاد الحقّ له) في الحضانة، لأن سببها قائم، وهو القَرَابة. وإنما امتنعت لمانعٍ، فإذا زال المانع عاد الحق بالسبب السابق اللازم. (وإن أراد أحَدُ الأبوين) أي أبوي المحضونِ (السَّفَرَ ويرجعَ، فالمقيم) من الأبوين (أحقّ بالحضانة) للولد، لأنّ في السفر بالولد إضراراً به، فتعين المقيم منهما. (وإن كان) سفر أحد أبويه (للسُّكْنى، وهو) أي المحلُّ الذي يريده للسكنى (مسافةَ قصرٍ) فأكثر، (فالأب أحقّ) بالحضانة لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب الصغير، وحفظ نسبه، فإذا لم يكن الولَدُ في بلد الأب ضاع نسبه. ومحل ذلك إذا لم يرد مضارَّةَ الأم، أو انتزاع

[فى الحضانة بعد السابعة من العمر]

الولد منها. فإذا أراد ذلك لم يُجَبْ إليه. قاله في الهدي. (و) إن كان البلد الذي أراد أحد أبويه النُّقْلَةَ إليه (دونها) أي دون مسافهَ القصر (فالأمُّ أحق) يعني أنها تكون باقية على حضانتها، لأنها أتمُّ شفقة. فصل [فى الحضانة بعد السابعة من العمر] 1 - (وإذا بلغ الصبيّ) المحضونُ (سبْعَ سنين) أي تمّتْ له سبعُ سنين، حال كونه (عاقلاً، خُيِّرَ بين أبويه) فكان عند من اختاره منهما، على الأصح، قضى بذلك عمر وعليٌّ وشريح للحديث (¬1) ولأن التقديم في الحضانة لحقِّ الولد، فيقدّم من هو أشفق، ومن حظّ الولد عنده أكثر. واعتبرنا الشفقةُ بمظنّتها إذا لم يمكن اعتبارها بنفسها، فإذا بلغَ الغلامُ حدًّا يُعْرِب فيه عن نفسه، ويميّز بين الإكرام وضدّه، فمالَ إلى أَحَدِ الأبوين، دلّ على أنه أرْفَقُ به وأشفَقُ عليه، فَقُدِّم بذلك. وقيّدناه بالسبع لأنّها أولُ حالِ أمْرِ الشارعِ فيهِ بمخاطبته بالأمر بالصلاة. ولأن الأمّ قُدِّمت في حال الصغر، لحاجته إلى من يحمله ويباشر خدمته، لأنها أعرَفُ بذلك وأقْوَمُ به، فإذا استغنى عن ذلك تساوى والداه، لقربهما منه، فرُجِّح باختياره. (فإن اختار أباه كان عنده ليلاً ونهاراً) لأن الأب مستحقٌّ، فالزّمان كلّه متعين له كما في الطفل، (ولا يمنع من زيارة أمه) لأن في منعه من ¬

_ (¬1) المراد حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "خيّر غلاماً بين أبيه وأمّه" رواه سعيد والشافعي. وعن عمارة الجَرْميّ "خيّرني عليّ بين أمّي وعمّي وكنت ابن سبع أو ثمان " ش. المنتهى.

[حضانة المجنون]

ذلك إغراءً له بالعقوق وقطيعةِ الرحم. (ولا) تمنعُ (هي) أي أمه (من زيارته) وتمريضِهِ. (وإن اختار) الصبيُّ (أُمَّه كان عندها ليلاً) فقط لأنه وقت السَّكنِ وانحياز الرجال إلى المنازل، (و) كان (عند أبيهِ نهاراً) لأنه وقت التصرّف في قضاء الحاجاتِ وعملِ الصنائع (ليؤدّبه ويعلمه) لئلا يضيعَ حظُّه من ذلك. وإن عادَ فاختارَ الآخَرَ نُقِلَ إليه. ثم إن اختار الأول رُدَّ إليه. وهكذا أبداً، كما يتْبَعُ ما يشتهيه من المأكول. 2 - (وإذا بلغت الأنثى) المحضونَةُ (سبعاً) أي تمَّ لها سبع سنين (كانَتْ عند أبيها وجوباً إلى أن تتزوّج) لأنه أحفَظُ لها وأحقُّ بولايتها من غيره، فوجَبَ أن تكونَ تحت نظرِهِ ليأمَنَ عليها من دخول النساءِ، لكونها معرَّضة للآفات، لا يؤمَنُ عليها الانخداعُ، ولأنها إذا بلغتِ السبْعَ قاربت الصلاحية للتزويج. (ويمنعها) الأب (ومن يقوم مقامَهُ من الانفرادِ) لأنها لا تؤمن على نفسها. (ولا تُمْنَعُ الأم من زيارتها) إن لم يُخَفْ منها، (ولا) تُمنَعُ (هي) أي البنت (من زيارةِ أمّها إن لم يُخَفِ الفساد). [حضانة المجنون] (و) يكون (المجنون، ولو أنثى، عند أمّه مطلقاً) يعني صغيراً كان أو كبيراً، لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره. والنساء أعرف بذلك. (ولا يُتْرَكُ المحضون بيد من لا يصونُه ويصلحه) لأن وجود من لا يصونه ويصلحه كعدمه، فينتقل عنه إلى من يليه.

كتاب الجنايات

كتَاب الجنَايَات جمع جِنَايَةٍ. وهي لغةً: كلُّ فعل وَقَعَ على وجه التعدّي سواء، كان على النفس أو المال. (وهي) شرعاً (التعدّي على البَدَنِ بما يوجب قصاصاً أو) يوجب (مالاً) وُيسمِّي أهلُ الشرع الجنايات على الأموال غصباً ونهباً وسرقةً وخِيَانةٍ (¬1) وإتلافاً. وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق. (والقتل) وهو فعل ما يكون سبباً لزهوق النفس، وهو مفارقة الروح البدن، (ثلاثة أقسام): (أحدها: العمد العدوان، ويختصّ به القصاص أو الدية (¬2)). (فالوليّ) أي ولي الجناية (مخيّرٌ) بين القصاص أو الدية. على الأصحّ (¬3)، لأن الدية أحد بدلي النفس، بدليل أنها تجب عيناً في كلّ ¬

_ (¬1) في الأصول: "جنايةً" والتصويب من شرح المنتهى. (¬2) في شرح المنتهى "يختصّ به القصاص" فقط دون "الدية". وهو أولى. والمعنى: لا يكون القصاص إلا في العمد. وأما الدية فلا يختصّ بها العمد، فإنها تكون في غيره كشبهِ العمد والخطأ. (¬3) والوجه الآخر أن الوليّ لا يتخير إلا برضا الجاني. أما لو رفض الجاني دفع الدية فله ذلك ويتعيّن القصاص إن لم يعف عنه (المغني 7/ 752)

موضع لا يمكن القصاص فيه، فكانتْ إحدى مُوجبَي العمْدِ لذلك. (وعفوه) أي عفوُ وليّ الجناية (مجاناً) أي من غير أن يأخذ شيئاً (أفضل) لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى} ولا تعزيرَ على جانٍ بعدَ العفوِ. فإن اختار وليّ الجناية القَوَدَ، أو عفا عن الدية دون القصاص، فله أخذُها والصلح على أكثرَ منها. وإن اختارَ الدية ابتداءً تعينَتْ، فلو قتله بعد ذلك قتِلَ به. وإن عفَا مطلقاً بأن لا يقيِّد بقصاصٍ ولا ديةٍ فله الدية. أو عفا على غير مالٍ (¬1) فله الدية. أو عفا عن القَوَدِ مطلقاً، ولو كان العفو في الصور الثلاث عن يد الجاني أو رجله أو نحوهما، فله الدية. (وهو) أي العمد (أن يقصد الجاني من يعلمه آدميًّا معصوماً فيقتله بما) أي بشيء (يغلب على الظنّ موتُه به) فلا قصاص بما لا يقتل غالباً. وللعمد الذي يختصُّ القَوَدُ به تسع صور: إحداها: أن يجْرحه بما له نفُوذٌ في البدن، كسكين وشوكةٍ وعظْمٍ. ولو كان الجُرْحُ صغيراً كشرطة حجّام، أو في غير مَقْتَلٍ. الثانية: أن يضربه بمثقِّل فوقَ عمود الفُسْطَاطِ، أو بما يغلب على الظنّ موتُه به، من لُتٍّ، وحجر كبير، ولو في غير مقتل. الثالثة: أن يلقيه بِزُبْيَةِ أَسَدٍ ونحِوها. الرابعة: أن يلقيه في ماءٍ يُغْرِقُهُ، أو نارٍ، ولا يمكنه التخلَّص، فيموت. وإن أمكنه فيهما فَهدْرٌ. الخامسة: أن يخنُقَه بحبلٍ أو غيره، أو يسدّ فمه وأنفه ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أي كخمرٍ وخنزير.

السادسة: أن يحبسه ويمنعه الطعام والشراب فيموت جوعاً أو عطشاً لزمنٍ يموت فيه غالباً، ولا يمكنه الطلب. السابعة: أن يسقيه سمًّا لا يعلم به. الثامنة: أن يقتله بسحرٍ يقتل غالباً. التاسعة: أن يشهد رجلان على شخص بقتلٍ عمداً. (فلو تعمّد جماعةٌ قتل) شخصٍ (واحدٍ قتلوا جميعاً إن صلح فعْلُ كل واحد منهم للقتل.) ولا يجب على الجميع مع العفو عن القصاص أكثرُ من ديةٍ واحدة على الأصحّ، لأن القتل واحد فلا يلزمهم أكثر من دية كما لو قتلوه خطأ. (وإن جرَحَ واحدٌ) من قاتلين (جُرْحاً) واحداً، وكان بحيث لو انفرد لقَتَلَ، (و) جَرَحَه (آخر مائة، فـ) هما (سواء) في القصاص أو الدية، لأن كل واحدٍ منهما فَعَلَ فعْلاً أزهق به نفسَ المقتول، فكان على كل واحدٍ القودُ، كما لو انفرد به. وكذلك في الدية، لأن زهوقَ نفسِهِ حصل بفعل كلّ واحد منهما، وزهوقُ النفس لا يتبعَّض ليُقْسَمَ على الفعل، فوجب تساويهما في موجَبهِ. (ومن قطع) أي أبانَ سلعةً خطرةً من آدميٍّ مكلف بلا إذنه، فمات، (أو بطَّ) أي: شَرَطَ (سلعةً خطِرةً) ليخرج ما فيها من القيح أو نحوه (من مكلَّفٍ بلا إذنه)، فمات، (أو) قطع، أو بطَّ، سلعةً خطرةً (من غير مكلف، بلا إذن وليّه، فمات) في الصور الثلاث، (فعليه القود.) القسم (الثاني: شِبْهُ العَمْدِ)، وهو المسمى بـ"خطأ العَمْدِ" و"عَمْدِ الخَطَإِ" (وهو أن يقصده بجنايةٍ لا تقتل غالباً، ولم يجرحْهُ بها) أي بهذه الجناية، كمن ضَرَبَ غيره بسوطٍ أو عصاً أو حَجَرٍ صغير، أو لَكَزَ، أو

لَكَمَ غيره، في غير مقتل، أو ألقاه في ماء قليلٍ، أو سَحَرَهُ بما لا يقتل غالباً، فمات، أو صاحَ بعاقِلٍ في حال غفلته، فمات، أو صاح بصغيرٍ أو معتوهٍ على سطحٍ، فسقط، فمات، ففي ذلك كله، إن وجد واحد منها، الكفارة في مال جانٍ، والدية على عاقلته. (فإن جرحه بها) أي بهذه الجناية التي لا تقتُلُ غالباً (ولو كان الجرح صغيراً قُتِلَ به.) القسم (الثالث: الخطأ) وهو ضربان: ضرب في الفعل: (وهو أن يفعل ما) أي فعلاً (يجوز له فعله، من دقٍّ) لشيءٍ (أو رمْيِ صيدٍ، ونحوه) كهدفٍ، فيصيبَ آدميًّا معصوماً لم يقصده، أو ينقلب وهو نائم على إنسان (¬1) فيموت. وضرْبٌ في القصد: وهو ما أشار إليه بقوله: (أو يظنه) أي يظن ما يرميه (مباحَ الدم) أو صيداً (فيتبيّن آدميًّا معصوماً) كمن أراد قطع لحمٍ أو غيرِهِ مما له فعله، فسقطت منه السكين على إنسان فقتلته، أو يتعمّدَ القتلَ صغيرٌ أو مجنونٌ. (ففي القسمين الأخيرين) وهما شبه العمد والخطأ (الكفارةُ على القاتلِ، والدية على عاقلته). (ومن قال لِإنسان: اقتلني، أو) قال لِإنسان: (اجرحني، فقتله)، أي فقتل من قال له: اقتلني، (أو جرحه) أي جرح من قال له: اجرحني، (لم يلزمه شيء) لأن ذلك جنايةٌ أذِنَ له المجنيّ عليه فيها، فسقط عنه ضمانُها (¬2)، كما لو أمره بإلقاء متاعه في البحر ففعل. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "أو ينقلب نائم وهو على إنسان" والتصويب (ف). (¬2) قالوا: حتى لا يلزمه إثم ولا كفارة (شرح المنتهى) قلت: وبينهما فرق، فإن المتاع مِلْكه يتصرف فيه، ونفسه ليست ملكه. ولذا قال عبد الغني: الذي يظهر أنه تلزمه الكفارة، لأنه لا يباح قتله بذلك، إلا أن قال له: اقتلني وإلا قَتَلتُك، وكان قادراً عليه.

(وكذا لو دَفَع لغير مكلفٍ آلةَ قتلٍ، ولم يأمره به) أي بالقتل، فَقَتَل. قال في المنتهى وشرحه: ومن دفع لغيرِ مكلَّفٍ آلة قتلٍ، ولم يأمره به، أي بالقتل، فقتَلَ بالآلة إنساناً: لم يلزم الدافعَ لَهُ الآلة شيءٌ، لأن الدافع ليس بآمرٍ ولا مباشرٍ. انتهى.

باب شروط القصاص في النفس

باب شرُوط القصَاص في النفس أي ما يشترط لوجوب القود. (وهي أربعة): (أحدها: تكليف القاتل) وهو أن يكون بالغاً عاقلاً، لأن القصاص عقوبةٌ مغلّظة، (فلا قصاص على صغيرٍ، و) لا على (مجنونٍ) ومعتوهٍ، لأنهم ليس لهم قصد صحيح، (بل الكفارة في مالهما، والديّة على عاقلتهما،) كالقاتل خطأ. ومتى قال الجاني: كنت صغيراً حال الجناية، وقال وليُّها: بل كنتَ بالغاً، وأمكنَ، وأقاما بذلك بينتين، تعارضتا (¬1). (الثاني) من شروط القصاص: (عصمة المقتول) ولو كانَ مستَحَقًّا دَمُهُ بقتلٍ لغيرِ قاتِلِهِ، لأنه لا سبب فيه يباح به دمه لقاتله (¬2). إذا تقرر هذا (فلا كفارة ولا دية على قاتلِ حربيٍّ أو) قاتلِ (مرتدٍّ) قبل توبته إن قبلت توبته ظاهراً (¬3) (أو) قاتل (زانٍ. محصنٍ) ولو قبل ثبوت ¬

_ (¬1) فتساقطتا، والقول قول الصغير حيث أمكن. (¬2) ولأن قتله غير متحتّم، فقد يعفو الولي عنه، بخلاف الزاني المحصن إذ إن قتله متحتم فلا قَوَدَ على قاتله. (¬3) في (ف): "قبل توبته ظاهراً" وما هنا أصحّ وهو الموافق لما في شرح المنتهى. والمعنى أن المرتد إن كان زنديقاً لم تقبل توبته ظاهراً، فإن قتله قاتل ولو بعد توبته فلا قود. =

عند الحاكم (ولو أنه مثلُه) أي: ولو أن قاتل المرتد مثلُهُ، أو أن قاتل الزاني المحصنِ زانٍ محصنٌ مثله، أو أنّ قاتل واحدٍ من هؤلاء ذمّيّ. ويعزّر للافتيات على وليّ الأمر. (الثالث) من شروط القصاص: (المكافأة): أي مكافأة مقتولٍ لقاتلٍ، والمكافأة (بأن لا يفضُلَ القاتلُ المقتولَ حالَ الجنايةِ بالإِسلام، أو) يفضَله (بالحرية، أو) يفضله (بالملك). (فلا يقتلُ المسلم ولو) كان (عبداً بالكافر ولو) كان الكافر (حرًّا) روي ذلك عن عمر وعثمان وعليّ وزيد بن ثابت ومعاوية. وبذلك قال عمر بن العزيز وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة والثوري وإسحاق وأبو عبيدة وأبو ثور وابن المنذر. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يقتل مسلم بكافر" (¬1). (ولا) يقتل (الحر ولو ذمّيًّا بالعبد، ولو) كان العبد (مسلماً، ولا) يقتل (المكاتَب بعبدهِ) لأنّه مالكٌ لرقبته، فلا يقتل به كالحر، حتّى (ولو كان) عبدِ المكاتب (ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ له) لأنه ملكه، فلا يقتل به، كغيره من عبيده في الأصح. (ويقتل الحرُّ المسلم، ولو) كان (ذكراً، بالحر المسلم ولو) كان (أنثى). (والرقيق كذلك) يعني يقتل الرقيقُ المسلمُ ولو ذكراً بالرقيق المسلمَ ولو أنثى. ¬

_ = ومثل الزنديق من تكررت ردّته. (¬1) رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي جحيفة، قال "قلت لعلي رضي الله عنه، هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلاَّ كتاب الله أو فهماً أعطيه رجل مسلم، وما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".

(و) يقتل الإِنسان (بـ) قتل (من هو أعلى منه) فيُقْتَلُ الكافِرُ الحرُّ بالمسلم الحر، (والذمّيّ كذلك) فيقتل الذمّيّ الرقيق بالذمّيّ الحر. (الرابع) من شروط القصاص: (أن يكون المقتولُ ليس بولدٍ) وإن سفل (للقاتلِ)، ولا بولدِ بنتٍ وإن سفلت، للقاتل. إذا تقرر هذا (فلا يقتل الأب وإن علا) بالولدِ ولا ولدِ الولدِ، (ولا) تقتل (الأمُّ وإن علتْ بالولد، ولا بولد الولد، وإن سفل. ويورث القصاصُ على قدرِ الميراثِ. فمتى وَرِث القاتِلُ) شيئاً من القصاصِ فلا قصاص لأنه لو لم يسقط لوجب له على نفسه القصاص، وهو ممنوع. (أو) ورث (ولدُهُ) أي ولدُ القاتل (شيئاً من القصاص)، وإن قلَّ، (فلا قصاص) لأنه لو لم يسقط لوجَبَ للولد على الوالد، وهو ممنوع. ومن قتل إنساناً لا يُعرَف بإسلامٍ ولا حرّيَّةٍ، أو ملفوفاً لا يُعْرَف هل هو حيٌّ أو ميْتٍ، وادعى كفرَهُ أو موْتَه، وأنكر وليُّه ذلك، أو قتل شخصاً في داره وادعى أنه دخل داره لقتله، أو أخْذِ ماله، فقتَلَهُ دفعاً عن نفسه، وأنكر وليُّه ذلك، فالقول قول الولي بيمينه. ووجب القصاص ما لم يأت ببيّنةٍ تشهد بدعواه.

باب شروط استيفاء القصاص

باب شرُوط استيفاء القصّاص وهو فعلُ مجنيٍّ عليه أو وليِّهِ بجانٍ مِثْلَ فِعْلِهِ أو شِبْهَهُ. (وهي) أي شروطُ استيفاء القصاص (ثلاثة): (أحدها: تكليف المستَحِقّ) لأن غير المكلف ليس أهلاً للاستيفاء، لعدم تكليفِهِ، بدليلِ أنه لا يصحُّ إقراره ولا تصرُّفه. (فإن كان) المستحق للقصاص (صغيراً أو مجنوناً حُبِسَ الجاني إلى تكليفِهِ) ببلوغٍ إن كان صغيراً، أو عقلٍ إن كان مجنوناً، لأن معاوية حَبَس هُدْبَةَ بن خَشْرَمٍ في قصاص حتى بَلَغَ ابنُ القتيل. وكان ذلك في عصر الصحابة. ولم يُنْكَر فكان كالإِجماع. ولا يملك استيفاءه للصبيِّ والمجنونِ أبٌ كوصيٍّ وحاكِمٍ. (فإن احتاج) الصبيُّ والمجنونُ (لنفقةٍ فلوليّ المجنونِ فقط) أي لا وليّ صغيرٍ (العفوُ إلى الدية) لأن المجنون ليست له حالة معتادة يُنْتَظَر فيها إفاقته ورجوعُ عقلِهِ، بخلافِ الصغير. وعُلِمَ منه أنه إذا لم يحتج المجنون لنفقةٍ لم يكن لوليّه العفوُ على مالٍ. فإن قتل الصبيُّ والمجنونُ قاتلَ مورِّثِهِما، أو قَطَعَا قاطعهما، من غير إذنٍ من الجاني، سقط حقهما. (الثاني) من شروط استيفاء القصاص: (اتفاقُ المستحقين) في

القصاص (على استيفائِهِ، فلا ينفردُ به) أي بالاستيفاء، (بعضُهم) دون بعضٍ، لأنه يكون مستوفياً لحقِّ غيرِهِ بغير إذنه، ولا ولايةٍ له عليه. (وُينتظَر قدومُ الغائب، وتكليفُ غير المكلف) أي بلوغ وارثٍ صغيرٍ، وإفاقةُ وارثٍ مجنونٍ، لأنهم شركاء في القصاص، ولأنه قصاصٌ غير متحتّمٍ ثبتَ لجماعةٍ معيّنين، فلم يجزْ لأحدهم الاستقلالُ به (¬1). (ومن مات من المستحقّين فوارثُهُ) أي وارثُ من مات (كهو) أي كمورِّثِهِ، فيملك ما كان يملكه مورِّثُه، لأنه حقٌّ للميت، فانتقل بموته إلى وارثه، كسائر حقوقه. (وإن عفا بعضهم) أي بعض مستحقّي القصاص، (ولو) كان العافي (زوجاً أو زوجةً) لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأهْلُهُ بَيْنَ خِيْرَتَيْنِ" (¬2) وهذا عامّ في جميع أهله، والمرأةُ -ولو كانت زوجة- من أهله، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من يعذرُني مِنْ رجلٍ بلغني أذاهُ في أهلي؟ وما علمتُ على أهلي إلا خيراً" (¬3) يريد عائشة، (أو أقرّ بعفوِ شريكِهِ، سقط القصاصُ) قال في المنتهى: أوْ شهد، ولو مع فسقه، بعفو شريكِهِ، سقَطَ القودُ. قال في شرحه: فأما سقوطُهُ بشهادةِ بعضِهِمْ على شريكه بالعفو فلكونهِ إقراراً بأنَّ نصيبَهُ من القودِ سَقَط. (الثالث) من شروط استيفاء القصاص: (أن يأمنَ في استيفائِهِ) أي ¬

_ (¬1) هذه إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى أن للكبار العقلاء استيفاءه وهو مذهب مالك والأوزاعي والليث وأبي حنيفة لأن الحسن بن عليّ قتل ابن ملجِمٍ قصاصاً وفي الورثة صغار (مغني 7/ 739) (¬2) رواه أحمد والترمذي والدارقطني من حديث أبي شريح الكعبي. "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله". فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل" وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" (الإِرواء ح 2220) (¬3) حديث "من يعذرني .... " جزء من حديث عائشة في قصة حديث الإفك. وهو متفق عليه.

[في استيفاء القصاص]

استيفاءِ القودِ (تعدِّيَهُ إلى الغير) أي غير الجاني، لقوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} إذا تقرّر هذا (فلو لزم القصاصُ حاملاً) أو حائلاً ثم حَمَلَتْ (لم تُقْتَلْ حتى تضعَ) حملها، لأن قتل الحامِلِ إسراف في القتل، لأنه يتعدّى إلى الجنين، فلا تقتلُ حتى تضعُه وتسقيه الَّلبَأَ، (ثم إن وُجِدَ من يرضعه قُتِلَتْ) لأنَّ غيرها يقوم مقامها في إرضاع الولد وتربيته، فلم يبق في استيفاء القود منها ضرورة، (وإلاَّ) أي وإن لم يوجد من يرضعه (فـ) إنها (لا) تقتل (حتّى تُرْضِعَهُ حولين) كاملين، لأنه لما أُخّر الاستيفاء لحفظه وهو حمل، فلأن يؤخَّر لحفظِهِ بعد وضعه أولى. وكذا حدٌّ بِرَجْمٍ. وتقادُ في طرَفٍ، وتُحَدُّ بجلدٍ لمجردِ وضعٍ. ومتى ادَّعَتْ حملاً، وكان لها زوجٌ أو سيّد يطؤها، قُبِل قولها. فصل [في استيفاء القصاص] (ويحرم استيفاء القصاص بلا حضرة السلطان أو نائبِهِ) في الأصحّ، لأنه أمرٌ يفتقر إلى اجتهادٍ، ويحرُمُ الحيف فيه، ولا يُؤمَنُ مع قصدِ المقتصِّ التشفّي بالقصاصِ. وللإِمام تعزير من اقتَصَّ بغيرِ حضورِ الإِمامِ أو نائبِهِ لافتياته بفعل ما مُنِعَ مِنْ فِعْلَه. (ويقع) القصاصُ (الموقعَ) لأن المقتصّ استوفى حقه. (ويحرم قتل الجاني بغير السيف) في العنق. (و) يحرم (قطع طرفه) أي الجاني (بغير السّكين، لئلا يحيف) عند الاستيفاء.

ومن قَطَعَ طرفَ شخصٍ ثم قَتَله قبل بُرْئهِ دخل قَوَدُ طرفه في قتلِ نفسه، وكفى قتلٌ، على الأصحّ. (وإن بَطَشَ وليّ المقتول بالجاني، فظنّ أنه قَتَله، فلم يكن) قَتَلَه، (وداواهُ أهلُه حتّى برئ (¬1)، فإن شاءَ الوليُّ دَفَعَ) إليه (دية فعله) الذي فَعَلَه به (وقتله، وإلا) أي وإن لم يشأ الولي ذلك (تركه) يعني لم يتعرض له. قال في الفروع: هذا رأيُ عمر وعليّ ويعلى بن أمية. ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) الأفصح: حتى "بَرَأ"، وهي لغة أهل الحجاز، يقولون برأت من المرض. وغيرهم من العرب يقول برئتُ. وأما برئت من الدين والحق فليس فيها إلا لغة واحدة هكذا "برئت" (اللسان).

باب شروط القصاص فيما دون النفس

باب شرُوط القصَاص فيما دُون النفس وهو معقودٌ لأحكام القَوَدِ فيما ليس بقتلٍ، من الجراحِ وقطعِ الأعضاء ونحو ذلك. وذلك هو المذكور في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فدَلَّ ذلك على أن كل واحدٍ من هذه الأعضاء يوخذ بمثله. ويُشترط لوجوب القصاص فيما دون النفسِ الشروطُ المتقدمة في القصاص في النفس. وإلى ذلك أشار بقوله: (من أُخِذَ بغيره في النفس أُخِذَ به فيما دونها، ومن لا) يجري القصاص بينهما في النفس (فلا) يجري القصاص بينهما فيما دونها، كالأبوين مع ابنهما، والحرِّ مع العبد، والمسلمِ مع الكافر. فلا يُقْطَعُ طرفه بطرفه، لعدم المكافأة. وُيقْطَعُ كل من الحر المسلم والعبد والذمّيّ بمثله. ويقطع الذكر بالأنثى، والناقِصُ بالكامل، كالعبدِ بالحرِّ، والكافرِ بالمسلمِ، لأن من جرى القصاصُ بينَهما في النفس جرى في الطرف. (وشروطُه أربعة): (أحدها) أي أحد الشروط: (العمدُ العدوانُ، فلا قِصَاصَ في غيره) أي لا قصاص في الخطأ، لأنه لا يوجب القصاص في النفس،

وهي الأصل، ففيما دونها أولى، ولا في شبه العمْد. والآية مخصوصة بالخطأ فكذلك شبه العمد. (الثاني) من شروط وجوب القصاص فيما دون النفس: (إمكانُ الاستيفاءِ) أي استيفاء القصاص فيما دون النفس (بلا حَيْفٍ). وذلك (بأن يكون القطع من مفصل، أو ينتهي إلى حدٍّ، كمارِنِ الأنف، وهو ما لان منه) أي من الأنف، دون القصبة، لأن ذلك حدٌّ ينتهى إليه، فهو كاليد يجب القصاص فيما انتهى إلى الكُوعِ. إذا علمت ذلك (فلا قصاص في جائفةٍ) وهي الجرح الواصل إلى باطن الجوف، (ولا في قطع القَصَبَة) أي قَصَبةِ الأنف، ولا في كسر عظمٍ غير سنٍّ وضرس، (أو) قطع (بعض ساعِدٍ، أو) قطع بعض (عَضُدٍ، أو ساقٍ، أو) بعض (وَرِكٍ) لأنه لا يمكن استيفاءٌ من ذلك بلا حيف، فإنه ربما يأخُذُ أكثر من الغاية (¬1)، أو يسري إلى عضو آخر، أو إلى النفس، فلم يجز (¬2)، لأن الواجب الأخذ بقدر المُتْلَف، لا أكثر منه. فإذا أفضى الاستيفاء إلى الحيف مُنِع منه لتعذّره. ولو قطع يده من الكُوعِ، ثم تأكّلت إلى نصف الذراع، فلا قود له ¬

_ (¬1) لكن لو شاء المجني عليه أن يقطع من المفصل الأبعد عن البدن، فله ذلك في أحد الوجهين، كمن قطعت يده من منتصف الساعد، فله القطع من الكوع؛ ومن قطعت رجله من الفخذ، فله الأخذ من مفصل الركبة، وهو مذهب الشافعي. وهل له حكومة فيما زاد؟ فيه وجهان. (المغني 7/ 708) (¬2) في تعليله بخشية السراية نظر، فإن السراية لا تؤمن في أيّ جرحٍ، اللهم إلا أن يقال: خشية السراية في انقطع من المفصل أقل. ثم ينظر في أن الوسائل الطبية الحديثة قادرة على الأخذ من العظم مع أمن الحيف مطلقاً والسراية غالباً، فهل يختلف الحكم في هذا العصر، بحيث يجوز الاستيفاء من غير مفصل؟ الظاهر: نعم، لأنهم فرّعوا بحسب زمانهم، والحكم الشرعي جواز الاستيفاء إن أمن الحيف. وقد أُمِن.

أيضاً (¬1)، اعتباراً بالاستقرار. قاله القاضي وغيره. وقدّمه في الرعايتين. وصححه الناظم. فائدة: الأمن من الحيف شرط لجوازه (¬2). (فإن خالفَ فاقتصَّ بقدْرِ حقِّه، ولم يَسْرِ، وقع) القصاص (الموقع، ولم يلزمْه) أي المقتصّ (شيء). (الثالث) من شروط وجوب القصاص فيما دون النفس: (المساواةُ في الاسم)، كالعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، لأن القصاص يقتضي المساواة، والاختلافُ في الاسم دليلٌ الاختلاف في المعنى، (فلا تقطع اليد بالرجل، وعكسه، و) المساواة أيضاً (في الموضع، فلا تقطع اليمين بالشمال، وعكسه،) ولا تؤخذ جراحةٌ في الوجه بجراحةٍ في الرأس، ولا جراحةٌ في مقدَّم الرأس بجراحةٍ في مؤَخّر الرأس، اعتباراً للمماثلة. قاله في شرح المنتهى. ويؤخذ كل من أصبعٍ وكفٍّ ومَرْفِقٍ ويمنى ويسرى، من عينٍ أو أذنٍ -مثقوبةٍ أوْ لا- ومن يدٍ ورجلٍ وخُصيةٍ وأَلْيَةٍ، وعليا وسفلى من شفة، ويمنى ويسرى وعليا وسفلى من سنٍّ وجفنٍ بمثله. (الرابع) من شروط وجوب القصاص فيما دون النفس: (مراعاةُ الصّحّة والكمالِ، فلا تؤخذ) يدٌ أو رجلٌ (كاملةُ الأصابع، أو) كاملة (الأظفار بناقصتها)، رضي الجاني أم لم يرضَ، لأن ذهاب بعض الأصابع أو الأظفار نقصٌ في اليد أو الرجل، ولا تؤخذ بها الكاملة، لزيادة المأخوذِ على المفوَّت، فلا تكون مقاصّةً. بل تؤخذ ذات أظفارٍ سليمةٍ بذات أظفار معيبةٍ، لحصول المقاصّة. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق. (¬2) أي: لا لوجوبه. فيثبت حق القصاص، ثم يمتنع استيفاؤه للتعذر. وقيل هو شرط لوجوبه. والمسألة التالية مبنية على أنه شرط الجواز. وهو المقدّم.

(ولا) تؤخذ (عينٌ صحيحة بقائمةٍ) أي بعينٍ قائمة، وهي التي بياضُها وسوادُها صافيان، غير أن صاحبها لا يبصر بها. قاله الأزهري. لأنّ منفعتها ناقصة، فلا تؤخذ بها كاملة المنفعة. (ولا) يؤخذُ (لسانٌ ناطقٌ بـ) لسانٍ (أخرسَ) لنقصه، (ولا) عضوٌ (صحيحٌ بـ) عضوٍ (أشلّ، من يدٍ ورجلٍ وأصبعٍ) والشَّلَلُ فسادُ العضو وذهابُ حركته، لأن المقصود من اللسان النطق، ومن اليد والرجل البطش، ومن الأصابع إمكان العمل. فإذا فَسَدَ العضو، وذهبت منفعته، لم يؤخذ به الصحيح، لزيادته عليه. فإن الصحيح طرف منفعته موجودة فيه، فلا يؤخذ بما لا منفعة فيه، كعين البصير بعين الأعمى. (ولا) يؤخذ (ذكرُ فحلٍ بذكرِ خِصَيٍّ)، أو ذكرِ عِنِّينٍ، فإنه لا منفعة فيهما، فإن ذكر العنين لا يوجد منه وطء ولا إنزال، والخصيّ، وهو مقطوع الخصيتين، لا يولد له ولا يكاد يقدر على الوطء، فهما كالذكر الأشلّ. (ويؤخذ مارنُ) أنفٍ (صحيحٍ بمارنٍ أشلَّ) (¬1) وهو الذي لا يجد رائحة شيءٍ، لأن ذلك لعلة في الدماغ، والأنف صحيح. (و) تؤخذ (أُذنٌ صحيحة بأذنٍ شلاّء.) ويؤخَذ معيبٌ من ذلك بصحيجٍ بلا أرشٍ. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول كلها، وعبارة المنتهى وشرحه: "ويؤخذ مارن الأنف الأشمّ الصحيح بمارن الأنف الأخشم الذي لا يجد رائحة شيء" وهي أصح، لأن "الأشلّ" لا يؤخذ به الصحيح، والأشلّ المستحشف، أما الأشمّ وهو الذي حاسة الشم فيه سليمة، فيؤخذ بالأخشم الذي لا يجد الرائحة، لأنه سليم أيضاً، وفقد الشم ليس منه بل من أعصاب الشم فوقه، أو من الدماغ. قال عبد الغني: فقول المصنف "أشل" لم أره لغيره.

[في القصاص في الجروح]

فصل [في القصاص في الجروح] (ويشترط لجواز القصاص في الجروح انتهاؤها) أي أن تنتهي (إلى عظمٍ كجرح العضد، والساعد، والفخذ، والساق، والقدم؛ وكالمُوضِحَة) في الوجه والرأس. قال في شرح المقنع: ولا نعلم في جوازِ القصاص في الموضحة خلافاً. انتهى؛ (والهاشمةِ والمُنَقِّلَةِ والمَأمُومَةِ) (¬1) قال في المنتهى وشرحه: ولمجروحٍ أعظَمَ منها، أي من الموضحة، كهاشمةٍ ومنقِّلةٍ ومأمومةٍ أن يقتصّ موضحةً، وأن يأخذ ما بين دِيَتِها ودية تلك الشجَّة، فيأخذ في هاشمةٍ خمساً من الإِبل، وفي منقّلة عشراً، وفي مأمومة ثمانياً وعشرين بعيراً وثلثَ بعير. انتهى. (وسراية القصاص هَدْرٌ) يعني أنها غيرُ مضمونة، لأن عمر وعليًّا قالا: "من مات من حدٍّ أو قصاص لا دية له: الحقُّ قَتَلَه." رواه سعيد بمعناه، لأنه قَطْعٌ بحق، فكما أنه غير مضمونٍ. فكذلك سرايته، كقَطْعِ السارق. لكن لو قَطَع وليُّ الجناية الجانيَ من غير إذن الإِمام أو نائبِهِ، معَ حرٍّ أو بَرْدٍ، أو بآلَةٍ كالَّةٍ أو مسمومةٍ، ونحوه، فمات بسبب ذلك، لزم المقتصَّ ديةُ النَّفسِ منقوصاً منها دية ذلك العضو الذي وجب له القصاص فيه. فلو وجب له في يدٍ كان عليه نصف الدية، وإن كان في جَفْنٍ كان عليه ثلاثة أرباعها. [السراية] (وسرايةُ الجنايةِ مضمونةٌ) ولو بعد أن اندمل جرحٌ واقتَصَّ ثم ¬

_ (¬1) هذا من الماتن يوهم جواز القصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة. وليس كذلك. فكان الأولى للمصنّف أن يقول: بخلاف هاشمة ومنقلة ومأمومة وله أن يقتصّ فيها موضحة ويأخذ ما بين دية تلك الشجة والموضحة (عبد الغني) بتصرف.

انتقَضَ الجرحُ، فسرى، بقودٍ وديةٍ [في نفس] (¬1) ودونها، كما لو قطع أصبعاً فتأكّلت أخرى إلى جنبها، أو اليد وسقطت من مفصل، فالقود، (ما لم يقتصَّ ربُّها) أي ربُّ الجناية (قبل برئه) أي برءِ جرحه (فـ) سرايته (هدْرٌ أيضاً) لأنه باقتصاصه قبل الاندمال رضي بترك ما يزيد عليه بالسراية، فبطل حقه منه، كما لو رضي بترك القصاص. ¬

_ (¬1) الزيادة من المنتهى وشرحه. ولا يستقيم الكلام بإسقاطها.

كتاب الديات

كتَاب الدّيَات جمع دِيّةٍ، وهي المال المؤدَّى إلى مجنيٍّ عليه أو وليّهِ بسببِ جنايةٍ (¬1). (من أتلف إنساناً، أو) أتلف (جزءاً منه، بمباشرةٍ أو سببٍ، إن كان عمداً فالدِّيَةُ في ماله) أي مال المتلِفِ، لأن الأصل يقتضي أنَّ بَدَل المتلَفِ يجب على متلِفِه، وأرشُ الجنايةِ على الجاني. (وإن كان) الإِتلاف (غير عمدٍ) كالخطإِ وشبهِ العمدِ (فـ) الدِّيةُ (على عاقِلَتِهِ) وحكمة ذلك أنَّ جناياتِ الخطأ تكثر، وديةُ الآدميّ كثيرة، فإيجابُها على الجاني في ماله تُجْحِفُ به، فاقتضَتْ الحكمةُ إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، إذ كان معذوراً بفعله. (ومن حَفَرَ تعدّياً بئراً قصيرةً فَعَمَّقَها آخر، فضمان تالفٍ بينهما) لأنّ السبب حصل منهما. (وإن وضَع ثالثٌ) فيها (سكّيناً) فوقع إنسانٌ على السكين التي في البئرِ فمات، (فـ) الدية على عاقلة الثلاثة (أثلاثاً). وإن حَفَرها بملكِهِ، وسَتَرها ليقع فيها أحدٌ، فمن دَخَل بإذنه، ¬

_ (¬1) التعريف غير مانع، إذ تدخل فيه الحكومة، وما أخذ صلحاً عن عمدٍ. ولو قال: هي المال المقدّرُ شرعا المؤدى .. الخ. لسلم من ذلك.

وتلف بالبئر، فالقود على حافر البئر، وإن دخل بغير إذنِهِ فلا ضمان عليه، كمكشوفةٍ بحيث يراها. ويقبل قوله في عدم إذنه، لا في كشفها. (وإن وَضَعَ واحدٌ حجراً) أو نحوه (تعدّياً، فَعَثَر فيه إنسان، فوقع في البئر، فالضمان على واضعِ الحجَر) دون الحافر، لأن واضعَ الحجرِ أو نحوه كالدافع، لأنه متى اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده، لأن الحافر لم يقصد بذلك القتلَ عادةً لمعيَّنٍ. وإن لم يكن التعدّي منهما جميعاً فالضمان على متعدٍّ منهما فقط، فلو كان الحافر هو المتعدي بحفره دون واضع الحجر، بأن كان وضْعُهُ لمصلحةٍ كوضْعِهِ في وحْلٍ لتدوس عليه الناس، كان الضمان على الحافر دون واضع الحجر. (وإن تجاذَبَ حرَّانِ مكلّفان حبلاً) أو نحوَه، كثوبٍ (فانقطع) ما تجاذباه، (فسقَطا ميّتين، فعلى عاقلةِ كلٍّ) منهما (ديةُ الآخر) سواءٌ أَنكبَّا، أو استلقيا، أو انكبّ أحدهما واستلقى الآخر. لكن نصف دية المنكبّ على عاقلة المستلقي مغلّظةً، ونصفُ دية المستلقي على عاقلة المنكبّ مخففةً (¬1). قاله في الرعاية. (وإن اصطَدَما) ولو كانا ضريرين، أو كان أحدهما ضريراً والآخر بصيراً، فماتا (فكذلك،) أي فعلى عاقلةِ كل واحدٍ منهما دِيَةُ الآخر. روي ذلك عن عليّ، لأنّ كلَّ واحد منهما ماتَ من صدمةِ صاحبه. وذلك خطأ. فكانتْ دِيَةُ كل واحد منهما على عاقلة صاحبه. (ومن أركَبَ صغيريْنِ لا ولايةَ له على واحد منهما، فاصطدما، ¬

_ (¬1) إنما وجب لكل منهما نصف الدية فقط لأنه هلك بفعل نفسه وفعل صاحبه فَيُهدَر فعل نفسه.

فماتا، فديتهما) وما تلف لهما (من مالِهِ) أي مالِ المُرْكِبِ، لأنَّه متعدٍّ بذلك، وتلفُهما وتلفُ مالهما بسبب تعدّيه، على الأصح. وقيل: إن ديتهما على عاقلته. وإن أركبهما وليٌّ لمصْلَحَةٍ، أو ركبا من عند أنفسهما، فديةُ كل منهما على عاقلة الآخر. (ومن أرسلَ صغيراً لحاجةٍ فأتلفَ) في إرساله (نفساً أو مالاً فالضَّمانُ على مرسله.) وإن جُنِي عليه ضمنه المرسِلُ له (¬1). قال في الفروع: ذَكَر ذلك في الإِرشاد وغيره. ونقله ابن منصور، إلا أنه قال: ما جنى فعلى الصبي. انتهى. (ومنْ ألقى حجراً، أو) ألقى (عِدْلاً مملوءاً بسفينةٍ، فغرقت) السفينة بسبب ذلك (ضَمِنَ) الملقي (جميعَ ما فيها) في الأصح، لأنه تَلَفٌ حصل بسبب فعلِهِ، فكان عليه ضمانه، كما لو باشر الإِتلاف. (ومن اضطُرَّ إلى طعام) إنسان (غيرِ مضْطَرٍّ أو شرابِهِ،) فطلبه، (فمنعه حتى ماتَ) ضَمِنَه. نصّ عليه. وخرّج على ذلك أبو الخطاب أن كلّ من أمكنه إنجاءُ نفس من هَلَكَةٍ، فلم يُنْجِهِ منها مع قدرته على ذلك، أنه يضمنه (¬2)، (أو أَخَذَ طعامَ غيرِهِ، أو) أخذ (شرابَهُ) أي شراب غيرِهِ، (وهو) أي المأخوذُ طعامُهُ أو شرابهُ، (عاجز) عن دفعِهِ، فتلف، (أو أَخَذَ دابَّتَهُ،) ضمِنَ ما تلف من ذلك، لأنه سببُ هلاكِهِ، (أو) أَخَذَ ¬

_ (¬1) أي: إن تعذّر تضمين الجاني للجهل به أو كون جنايته هدراً كالبهيمة والسبع، وإنما يجب تضمين الجاني أولاً لأن الجاني مباشر والمرسل متسبب. ولا يضمن المتسبب مع إمكان تضمين الجاني. (¬2) وهو تخريج ضعيف وهو خلاف المذهب. ويأتي قريباً في كلام الشارح. "لأن الأول مَنَعَه منعاً كان سبباً في هلاكه، فضمنه بفعله الذي تعدى به (وهو المنع)، وهاهنا لم يفعل شيئاً يكون سبباً." (المغني 7/ 835)

فصل

منه (ما يدْفَع به عن نفسِهِ من سَبُعٍ ونحوه) كنَمِرٍ وذئْبٍ (¬1) وحيّةٍ (فأهلكه) ذلك الصائل عليه (ضمنه) الآخِذُ لما كان يدفع به عن نفسه، لكون ذلك صار سبباً لهلاكه. ومن أفزع إنساناً أو ضربَهُ ولو صغيراً فأحدث بغائطٍ أو بولٍ أو ريحٍ، ولم يَدُمْ، فعليهِ ثُلُثُ ديتِهِ (¬2). (وإن ماتتْ حاملٌ، أو) مات (حملُها، من ريحِ طعامٍ) ونحوه، كرائحة الكِبْريت، (ضمن ربُّه إن علم ذلك من عادتها) أي أن الحامل تموتُ، أو يموتُ حملها من ذلك عادة، وأنَّ الحامل هناك، وإلا فلا إثم ولا ضمان. فصل (وإن تلف واقعٌ على نائمٍ غيرِ متعدٍّ بنومه فهدْر، وإن تلف النائمُ فغيرُ هدرٍ). وإن وَضَع جَرَّةً على سطحِهِ أو حائطِهِ، ولو متطرّفةً، أو وَضَعَ حجراً على سطحِهِ أو حائطِهِ، فرمتهما الريحُ على إنسانٍ فقتلته أو على شيءٍ فأتلفته، لم يضمنه. (وإن سلَّم بالغٌ عاقِلٌ نَفْسَه، أو) سلَّم (ولدَه إلى سابحٍ حاذقٍ ليعلّمه) السباحة، (فغرِقَ) لم يضمن الوَلَدَ في الأصَحِّ، ولا من سلَّم ¬

_ (¬1) النمر والذئب من السباع، فلو قال "من سبع، كنمر وذئب، ونحوه كحية .. الخ". لكان أوضح. (¬2) قضى به عثمان. وقال به أحمد، قال: لا أعرف شيئاً يدفعه. وعن أحمد رواية أخرى: لا ضمان، وهو القياس، وهو قول الأكثر. (ش. المنتهى)، إما إن دام فلم يستمسك منه الغائط أو الريح، فدية كاملة، لأنها قوّة من قوى البدن بطلت بالجناية. وعلى كلٍّ فقد تعجّل الشارح فذكر المسألة هنا، ولعله لم يتنبّه إلى أنها ستأتي بعد في المتن (ص 341)

[في مقادير ديات النفس]

نَفْسَه قولاً واحداً (أو أمَرَ) مكلفٌ أو غيرُ مكلَّفٍ (مكلَّفاً ينزلُ بئراً أو يصعدُ شجرةً فهلَكَ) بنزولِهِ أو صعود الشَّجَرَةِ لم يضمنه، (أو تلف أجيرٌ لحفرِ بئرٍ، أو) أجيرٌ لـ (بناء حائطٍ، بهدمِ ونحوِ، أو أمكنه إنجاء نفسٍ من هَلَكَةٍ، فلم يفعل) لم يضمن، لأنه لم يفعل شيئاً يكون سبباً، (أو أدَّب ولده) ظاهرُهُ: وإن كان كبيراً، ويؤيّده ما تقدم أن للأب أن يؤدِّبَ ابنه وإن كان كبيراً: ولم أرَ من ذَكَر هذا البحث، (أو) أدّب (زوجتَهُ في نشوزٍ) أو أدَّبَ معلمٌ صبيَّه (أو أدَّبَ سلطانٌ رعيَّتَهُ ولم يُسْرِفْ) أي ولم يزد على الضرب المعتادِ ذلك، في العدد، ولا في الشدة (فهدْرٌ في الجميع) ووجه ذلك أنه فَعَلَ ما له فعله شرعاً، ولم يتعدَّ فيه، فلم يضمن سرايته، كما لو كان له عليه قصاص فاقتصّ منه فسرى إلى نفسه، فإنه لا يضمنُ، كذلك ماهنا. (وإن أسرفَ، أو زادَ على ما يحصل به المقصود) فتلف بسبب ذلك ضمنه، (أو ضَرَبَ من لا عَقْل له من صبيٍّ) صغير (أو غيرِه) مما لا عقل له من مجنونٍ أو معتوهٍ فتلف، (ضمن،) لتعديه في المسألة الأولى بالإِسراف، وعدم الإِذن من الشارعْ في تأديب من لا عقل له، لعدم حصول المقصود بتأديبه. (ومن نام على سقفٍ فهوى به) على قومٍ، (لم يضمن ما تلف بسقوطِهِ) لأنه مُلْجَأٌ لم يتسبب. فصل (في مقادير ديات النفس) واحِدُ المقادير مقدارٌ، وهو مَبْلَغُ الشيءِ وقدرُه. 1 - (ديةُ الحرِّ المسلم طفلاً كان أو كبيراً، مائةُ بعيرٍ، أو مائتا

بقرةٍ، أو ألفا شاةٍ، أو ألفُ مثقالٍ ذهباً، أو اثنا عَشَرَ ألفَ درهمٍ فضةً) قال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية: الإبل، والذهب، والوَرِقُ، والبَقر، والغنم، ويدل لذلك ما روى عطاءٌ عن جابرٍ، قال: "فَرَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية على أهل الإبلِ مائةً من الإِبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرةٍ، وعلى أهل الشاءِ ألفي شاةٍ" (¬1). رواه أبو داود. وهذه الخمسة فقط أصولها: إذا أحضَرَ من عليه ديةٌ أحدَها، لزمَ وليَّ الجنايةِ قبولُها، بغير خلافٍ في المذهب. وتعتبر السلامةُ من عيبٍ في كل نوع من الإِبل والبقر والغنم، لا أن تبلغ قيمتُها ديةَ نقدٍ. 2 - (ودية الحرّةِ المسلمة على النصف من ذلك) أي من دية الحرّ، فيكونُ قدرُها مائةَ بقرةٍ، أو خمسينَ بعيراً، أو ألفَ شاةٍ أو خمسمائةِ مثقالٍ ذهباً، أو ستَّةَ آلافِ درهمٍ فضةً. 3 - (وديةُ الكتابيّ الحر) سواءٌ كانَ ذمّيًّا أو مُعَاهَداً أو مستأمِناً (كديةِ الحرّة المسلمة) وكذا جراحُهُ. قاله في المنتهى. 4 - (ودية الكتابيّةِ على النصف) من دية ذكرهم. قال في شرح المقنع: لا نَعْلَمُ في هذا خلافاً. 5 - (ودية المجوسيّ الحر) ذمّيًّا كان أو مُعَاهَداً أو مستأمِناً (ثمانُمائَةِ درهمٍ.) وممن قال بذلك عمر وعثمان وابن مسعودٍ وسعيد بن المسيب وعطاءٌ وعكرمةُ والحسن ومالكٌ والشافعيُّ، رضي الله تعالى عنهم وعنّا بهم. 6 - (و) دية (المجوسيّةِ على النصْفِ) من دية ذكرهم. ¬

_ (¬1) حديث جابر "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية .. الخ " رواه أبو داود وابن ماجه وهو حديث ضعيف (الإِرواء ح 2244)

[تغليظ الدية]

(ويستوي الذَّكرُ والأنثى) في قطعٍ أو جَرْحٍ (فيما يوجِبُ دون ثلثِ الدِّية) على الأصحّ، لما روى عمرُو بن شُعَيبِ عن أبيه عن جده. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَقْلُ المرأةِ مثلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حتى يَبلغِ الثلث من ديتها" أخرجه النسائي (¬1) (فلو قَطَع ثلاثَ أصابعَ مِنْ حرَّةٍ مسلمةٍ لزمه ثلاثون بعيراً، فلو قَطَع رابعةً قَبْل بُرْءٍ رُدَّتْ إلى عشرين) قال ربيعة (¬2): قلت لسعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة، قلت: ففي أصبعين؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: ففي أربعِ أصابع؟ قال: عشرون. قال: فقلت: لما عظمتْ مصيبتُها قلَّ عَقْلُها؟ قال: هكذا السُّنَّةُ يا ابن أخي. [تغليظ الدية] (وتغلّظ ديةُ قتلِ الخطأ) بوقوعِهِ (في كلٍّ مِنْ حَرَمِ مَكَّة، وإحرامٍ، وشهرٍ حَرَامٍ) فقط (بالثلث) أي ثلثِ ديةٍ. وهذا على الأصح الذي نقله الجماعة عن الإِمام أحمد. وهو من مفردات المذهب. وقال أبو بكر: إنها تُغَلَّظ بقتل رَحِمِهِ المَحْرَمِ خطأً. والأول المذهب (¬3). (فمع اجتماعِ) حالاتِ التغليظِ (الثلاث يجب) عليه (ديتانِ) لأن القتل تجب به دية، وقد تكرَّرَ التغليظُ ثلاثَ مراتٍ، فكان الواجبُ دِيَتَيْن. (وإن قَتَلَ مسلمٌ كافراً) ذمّيًّا ومُعَاهَداً (عَمْداً أُضْعِفَتْ دِيَتُهُ) أي ديةُ الكافِرِ على المسلم، لإِزالة القود، كما حكم عثمانُ رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) حديث "عقلُ المرأة .. الخ " رواه النسائي والدارقطني. وهو حديث ضعيف. وقال ابن حجر في تلخيص الحبير "قال الشافعي: وكان مالك يذكر أنه السنة، وكنت أتابعه عليه، ثم علمتُ أنه يريد: سنة أهل المدينة، فرجعتُ عنه" (الإِرواء ح 2254) (¬2) هو ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإِمام مالك وكان يقال له "ربيعة الرأي" لجودة رأيه. (¬3) أي أنها لا تغلظ بشيء غير الأسباب الثلاثة الآنفة الذكر.

[في دية الجنين]

روى أحمدُ عن عبدِ الرزّاق عن معمرٍ عن الزهريّ عن سالم عن أبيه، أن رجلاً قَتَلَ رجلاً من أهل الذمة، فرُفع إلى عثمانُ، فلم يقتلْهُ، وغَلَّظَ عليه الدية ألف دينار. فذهب إليه أحمد. ولأحمد رضي الله تعالى عنه نظائر لذلك في مذهبه، فإنه أوجب على الأعْوَرِ إذا قَلع عينَ صحيحٍ مماثِلةً لعينِهِ ديةً كاملةً، لمّا امتنع عنه القصاص. وأوجب على سارق الثمر المعلَّق مثليْ قيمتِهِ لمَّا درَأَ عنه القطع. (وديةُ الرقيقِ قيمتُهُ) ذكراً كان أو أنثى صغيرًا كان أو كبيراً، مدبَّراً (¬1) أو مكاتباً، أو أُمَّ ولدٍ، عمداً كان القتل أو خطأ (قلتْ) القيمة (أو كثرتْ) ولو فوق ديةِ حرٍّ. فصل [في دية الجنين] (ومن جنى على حامل) عمداً أو خطأً أو ما يقوم مقام الجنايةِ، كما لو أسقطت فزعاً من استعداءٍ بطلبها إلى ذي سلطان (فألقَتْ جنيناً) بسبب ذلك في الحال، أو بقيتْ متألِّمةً حتى سقط، والجنينُ اسمٌ للولد في البطن، مأخوذٌ من الإجنان، وهو السترِ، لأنه أجَنَّهُ بطنُ أمه، أي سَتَرَه (حرًّا مسلماً، ذكراً كان أو أنثى، فديته غُرَّةٌ) وهي في الأصلِ: الخِيَارُ، سُمِّيَ بها العبدُ والأمة، لأنهما من أنْفَسِ الأموال (¬2). والأصل في وجوب الغرّة في الجنين ما روى أبو هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيلٍ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتْها وفي ¬

_ (¬1) لو قال: "ولو مدبّراً .. الخ " لكان أوضح. (¬2) اشترط البعض خارج المذهب أن يكون العبد أو الأمة أبيضين. وقال: لا يقبل الأسود، إذ لا يسمّى غرة. والعبرة عند الفقهاء أن يكون ثمنه عشر دية أمه.

بطنها جنين. فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن ديةَ جنينِها عبدٌ أو أمة. وقضى بديةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، ووَرَّثَها وَلَدَهَا ومن معه". متفق عليه، (قيمتها عُشْر دية أمّه، وهي خمسٌ من الإِبل. والغرة هي عبد أو أمة) ولو قال: "ودية الجنينِ الحرّ المسلمِ غرةٌ عبدٌ أو أمةٌ قيمتُها خمسٌ من الإِبل" لكانَ أَخْصَرَ. (وتتعدّد الغُرَّةُ بتعدُّدِ الجنين). وهي موروثةٌ عن الجنينِ، كأنه سقطَ حيًّا. فلا حقّ فيها لقاتلٍ، ولا كامِلِ رقٍّ. ولا يقبل فيها خصيٌّ وخنثى ولا معيبٌ عيباً يُرَدُّ به في بيع، ولا من له دون سبع سنين. (ودية الجنينِ الرقيقِ عُشْرُ قيمة أمِّهِ) يوم الجناية، نقداً، لأنه جنينُ آدميّةٍ، وقيمة الأَمَةِ بمنزلةِ دِيةِ الحُرَّة، ولأنه جزءٌ منها، فقُدِّر بَدَلُهُ من قيمتها كسائر أعضائها. (ودية الجنين المحكومِ بكفرِه) كجنين الذمّيّة من زوجها الذمّيّ (غرةٌ قيمتُها عُشْرُ ديةِ أمِّهِ) لأن جنين الحرّة المسلمةِ مضمونٌ بعُشْرِ ديةِ أمِّهِ، فكذلك جنين الكافرة. (وإن ألقت الجنينَ حيًّا لوقتٍ يعيشُ لمثلِهِ، وهو نصفُ سنةٍ فصاعداً)، ولو لم يستهلَّ، ثم مات، (ففيه ما في الحيّ. فإن كان حرًّا ففيه ديةُ) الحرّ (كاملةً) لأنه حرٌّ ماتَ بجنايةٍ، أشبهَ ما لو باشره بالقتل. (وإن كان رقيقاً فـ) فيه (قيمتُهُ) لأن قيمة العبدِ بمنزلة الديّة في الحرّ. (وإن اختلفا) أي الجاني ووليُّ الجناية (في خروجِهِ) أي خروج الجنين (حيًّا أو ميتاً) بأن قال وليّ الجناية: خرج حيًّا ففيه ديةٌ. وقالَ الجاني: خَرَجَ ميتاً، ففيه غرة، ولا بيّنة لواحدٍ منهما بما يذكره (فقولُ الجاني) بيمينه في ذلك، لأنه منكِرٌ، والأصلُ براءَةُ ذمته من الدية الكاملة.

[في دية الأعضاء]

(ويجب في جنين الدابّةِ ما نَقَصَ من قيمةِ أمِّهِ) قال في القواعد: وقياسه جنينُ الصَّيْدِ في الحَرَم والإِحرام. ومتى ادعت امرأة علىَ إنسانٍ أنه ضربها فأسقطت جنينَها، فأنكر الضَّرْبَ، فالقولُ قولُهُ بيمينه، لأن الأصل عدمه. وإن أقرَّ بالضربِ، أو قامتْ به بيّنةٌ، وأنكر أن تكون أسقطتْ، فالقول قولُهُ أيضاً بيمينه، أنه لا يعلم أنها أسقطت، لا على البتّ، لأنها يمين على فعل الغيرِ، والأصل عدمه. وإن ثبت الإسقاط والضربُ، وادّعى إسقاطها من غير الضَّرْبِ، فإن كانتْ أسقطتْهُ عقبَ الضَّرْب فالقول قولها بيمينها، لأن الظاهر أنه من الضرب، لوجودهِ عقب شيء يصلح أن يكون سبباً له. وكذا إن أسقطته بعدهُ بأيامٍ، وكانت متألّمة إلى حين الإِسقاطِ. وإن لم تكن متألمة فقولُهُ بيمينه. فصل (في دية الأعضاء) (من أتلف ما في الإِنسان منه) شيءٌ (واحدٌ كالأنف)، ولو مع عِوَجِهِ (واللسانِ) ينطق به كبيرٌ أو يحرّكه صغيرٌ ببكاءٍ، (والذَّكَرِ) ولو لصغيرٍ أو شيخٍ فَانٍ، (فـ) يكون (فيه ديةٌ كاملةٌ) لأن في إتلافه إذهابَ منفعة الجنسِ وإتلافَها، كإذهاب النفس في جميع ما ذكر. (ومن أتلف ما في الإِنسان منه شيئان، كاليدين والرجلين) لأن في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس، فكان فيهما الدية، (والعينين) ولو مع عَمَشٍ أو حَوَلٍ، (والأذنين) وفاقاً، (والحاجبين والثَّدْيَيْنِ والخصيتين، ففيه) أي في إتلافهما (الدية؛ وفي أحدهما نصفها) أي نصف الدية (وفي

الأجفان الأربعة الدية، وفي أحدها) أي أحد الأجفان (ربعها) لأنها أعضاءٌ فيها جمالٌ ظاهر ونفع كامل، فإنها تُكِنُّ (¬1) العين، وتحفظها من الحرّ والبرد، ولولا ذلك لقَبُحَ منظر العين، ولو كانت الأجفان لعينِ أعمى، لأن ذهابَ البصرِ عيبٌ في غير الأجفان. (وفي أصابع اليدين) إذا قطعت (الديةُ) كاملةً، (وفي أحَدِهَا عُشْرُهَا) أي عشر الدية. (وفي الأَنْمُلَةِ) ولو قُطِعَتْ مع ظفرٍ (إن كانت من إبهامٍ نصفُ عُشْرِ الدية) لأنّ الإِبهام مفصلان، فيكون في كل مفصلٍ نصفُ عقلِ الإِبهام، (وإن كانتْ) الأنمُلَةُ (من غيرِهَا) أي غيرِ الإِبهام (فثُلُثُ عُشْرِها) أي ثلث عشر الدية، لأنّ دية الأصبع، وهو عُشْر الدية، تقسم على الأصبع كما قسمت دية اليد على الأصابع. والأصبع غيرُ الإِبهام ثلاثة مفاصل، فيكون في كلّ مفصلٍ ثلث دية الأصبعِ غيرِ الإِبهام. (وكذا) حكم (أصابِعِ الرجليْن). (و) يجب (في السّنّ) أو الناب أو الضّرس، قُلِعَ بِسِنْخِهِ -بالسين المهملة والخاء المعجمة- أي بأصله، أو الظاهِرِ فقط- ولو من صغيرٍ ولم يَعُدْ، أو عادَ أسودَ واستمرّ، أو ابيضّ ثم اسود بلا علة، (خمسٌ من الإِبل) فيكون في جميعها مائة وستون بعيراً، لأنها اثنان وثلاثون: أربعٌ ثنايا، وأربعٌ رَبَاعِيَاتٌ، وأربعٌ أنيابٌ، وعشرون ضرساً، في كل جانب عشرٌ، خمسٌ من فوق، وخمسٌ من أسفل. (وفي إذهاب نفع عضو من الأعضاء) كاليدين والرجلين والعينين (ديته) أي دية ذلك العضو (كاملةً)، وفي شفتين صارتا لا تنطبقان على أسنانٍ، أو استرختا فلم ينفصلا عنها، ديتهما. ¬

_ (¬1) في الأصول: "تكف" والتصويب من شرح المنتهى.

[في دية المنافع]

فصل (في دية المنافع) لما تمّم الكلامَ على ديات الأعضاء، كالأنف والأذن واليد والرجل، ونحو ذلك، شرع يتكلم على ديات المنافع، وهي: السمع والبصر والشمّ والذوق ونحوها، فقال: (تجب الدية كاملةً في إذهاب كلُّ من سَمْعٍ وبصرٍ وشمٍّ وذوق) بيانٌ للمنافع (وكلامٍ) فمن جنى على إنسان، فخَرِسَ، وجبت عليه ديته، لأن كلّ ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته، كاليد. (وعقلٍ) قال بعضهم بالإِجماع: لأنه أكبر المعاني قدراً، وأعظَمُ الحواسِّ نفعاً، فإنه يتميز به الإِنسان عن البهائم، وتعرف به صحة حقائق المعلومات، ويهتدى به ألى المصالح، ويدخل به في التكليف، وهو شرطٌ في ثبوتِ الولايات وصحّة التصرّفات وأداء العبادات، فكان أولى من بقية الحواس. (و) تجب الدية كاملةً أيضاً في (حَدَبٍ) بفتح المهملتين لأن بذلك تذهب المنفعة والجمال، لأن انتصاب القامة من الكمالِ والجمالِ، وبه يتشرّف الآدميّ على سائر الحيوانات (ومنفعةِ مَشْيٍ) لأن منفعته مقصودة، أشبه الكلام. وتجب في صَعَرٍ، بأن يُضْرَبَ الإِنسان فيصيرُ وجهه في جانب. (و) تجب كاملةً في منفعة (نكاحٍ) فإذا كُسِرَ صُلْبُهُ فذهب نكاحُهُ ففيه الدية، (و) في منفعةِ (أكلٍ) لأنه نفعٌ مقصود كالشمّ، (و) في ذهاب منفعة (صوتٍ، و) كذا في ذهابِ منفعةِ (بطشٍ) لأن في كل منهما نفعاً مقصوداً. (وإن أَفْزَعَ إنساناً، أو ضَرَبَهُ) ولو صغيراً (فأحدَثَ بغائطٍ، أو) أحدث (ببولٍ، أو) أحدث (بريحٍ، ولم يَدُمْ فعليهِ ثُلُثُ الديّةِ. وإن دام فعليه الدية) كاملةً.

[في دية الشجة والجائفة]

(وإن جنى عليه، فأذهب سمعه وبصره وعقله وشمّه وذوقَه وكلامه ونكاحه فعليه سبعُ دياتٍ،) لكلّ واحدٍ دية كاملة (و) عليه (أرشُ تلك الجناية) التي جناها عليه. (وإن مات) المجنيّ عليه (من الجناية فعليه) أي على الجاني (دية واحدة). فصل (في دية الشَّجّةِ والجائفة) (الشَّجَّةُ) واحدةُ الشَّجَاجِ (اسمٌ لجرحِ الرأس والوجه) خاصّةً. سميت بذلك لأنها قطع الجلد. فأما في غير الوَجْهِ والرأس فيسمّى جرحاً، ولا يسمى شجة. وهي عشرة: خمسٌ فيها حُكُومَةٌ: الحارصة: التي تَحْرِصُ الجلدَ، أي تشقُّه ولا تُدْمِيهِ. ثم البازلة: الدامية الدامعة، وهي التي تُدْمي الجلد. ثم الباضعة: التي تَبْضَعُ اللَّحْم. ثم المُتَلاحِمَة: الغائصة في اللحم. ثم السمحاق: وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة تسمّى السِّمحاق. والحكومة أن يقوّم مجنيٌّ عليه كأنه قنٌّ لا جناية به، ثم يقوّم وهي به قد برئت. فما نقصَ من القيمة فللمجنيّ عليه على الجاني كنسبته من الدية. ولا يُبْلَغُ بحكومةِ محلًّ له مقدّرٌ مقدَّرُهُ. وخمسةٌ فيها مقدّر، وهي ما أشار إليها بقوله: (وهي خمسةٌ) (¬1): ¬

_ (¬1) أي خمسة جراحٍ (جمع جرح) وإلا فحقه أن يقول: خمس (جراحاتٍ).

(أحَدُها الموضحة): وهي (التي توضح العظم وتبرزه) ولو بقدر إبرة لمن ينظر ذلك، ذكره ابن القاسم والقاضي، واعتمده في المنتهى. والوَضَحُ البياض. يعني: أبدَتْ بياضَ العظم. (وفيها نصف عُشْرِ الدية) أي دية الحرِّ المسلم. وذلك (خمسةُ أبعرةٍ). ولا فَرْقَ في ذلك بين كونِ الموضِحة في الرأس أو الوجه. (فإن كان بعضُها في الرأس وبعضها في الوجه فموضِحَتَانِ) لأنه أوضَحَهُ في عُضْوين، فكان لكلِّ واحدٍ منهما حكم نفسه. (الثاني: الهاشمة): وهي (التي تُوضِح العظم)، أي تبرزه (وتَهْشِمُه) أي تكسره. (وفيها عشرة أبعرة). وتستوي الهاشمة الصغيرةُ والكبيرةُ، كالموضحة. (الثالث: المنقّلة): وهي (التي تُوضِح) العظم (وتهشِمُ) العظم (وتَنْقُلُ العظم). (وفيها خمسةَ عشَرَ بعيراً) بإجماعٍ من أهلِ العلم. حكاه ابنُ المنذر. (الرابع: المأمومة،) وهي الشجَّة (التي تصلُ إلى جِلدةِ الدماغِ) وتسمى الآمَّةُ، بالمدّ. وتسمى أيضاً أمّ الدماغ (¬1). (وفيها ثلث الدية). ¬

_ (¬1) كذا في الأصول وشرح المنتهى. ولكن هذا خُلْفٌ من القول؛ فإن الآمة هي الشّجة التي تبلغ أمّ الدماغ، وأم الدماغ الجلدة التي تجمع الدماغ، وتسمى تلك الشجة أيضاً المأمومة. وأنكر بعضهم أن تسمّى تلك الشجّة المأمومة، بل المأمومة الجلدة التي أَمَّتْ. هذا ما ينص عليه أهل اللغة (اللسان) فالقول بأن تلك الشجّة تسمّى أمّ الدماغ لا قائل به، ولعله أراد: أن أم الدماغ تسمى إذا وصلت الشجّة إليها مأمومة، فانقلب عليه القول.

فصل

(الخامس: الدامغة) وهي الشجَّة (التي تخرِق الجلدة)، يعني جلدة الدماغ. (وفيها الثلث أيضاً) يعني: ثلث الدية، كالمأمومة. فصل (وفي الجائفة ثُلُثُ الدية. وهي كل ما) أي جرحٍ (يصل إلى الجوف) وهو ما بَطَنَ منه مما لا يظهر للرائي، (كـ) داخِلِ (بطنٍ) ولو لم يخرق مَعًى، (و) داخلِ (ظهرٍ وصدرٍ وحَلقٍ) ومثانةٍ وبين خصيتين وداخل دُبُر. (وإن جَرَحَ جانباً فخرج) السهم الذي جرح به أو نحوه (من) الجانب (الآخر، فجائفتان) نصّ عليه أحمد. وقيل: واحدة. (ومن وطئ زوجةً صغيرةً لا يوطأ مثلها)، أو نحيفةً لا يوطأ مثلها (فخرق) بوطئِهِ (ما بين مخرَجِ بولٍ و) مخرج (منيٍّ، أو) خَرَقَ بوطئِهِ (ما بين السبيلين، فعليه الدية) كاملة، (إن لم يستمسِكِ البول) بسبب ذلك، لأن للبول مكاناً من البدن يجتمع فيه للخروج، فعدم إمساكِ البول إبطال لنفع ذلك المحل، فيجب فيه الدية، كما لو لم يستمسك الغائط. (وإلا) بأن كان البول يستمسكُ (ف) هي (جائفةٌ) فيها ثلت الدية. (وإن كانت) الزوجة (ممن يُوطأ مثلها لمثله، أو) كانت الموطوءة (أجنبية) أي غير زوجة (كبيرةً مطاوعةً، ولا شبهة) للواطئ في وطئها (فوقع ذلك) بأن خرق ما بين السبيلين، أو ما بين مخرج بول ومنيّ، (فَهَدْرٌ) لأنه ضرر حصل من فعلٍ مأذونٍ فيه، فلم يضمنه كأرش بكارتها، ومهر مثلها، كما لو كانت أذنت في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها.

باب العاقلة وما تحمله

باب العَاقلة ومَا تحمله وهي مَنْ غَرِمَ ثلث ديةٍ فأكثر، بسببِ جنايةِ غيره. (وهي: ذكورُ عصبةِ الجاني نسباً وولاءً) حتى عمودي نسبه، وحتى مَنْ بَعُدَ كابن ابن عم أبي جدّ الجاني (¬1) سواء كان الجاني رجلاً أو امرأة. (ولا تحمل العاقلة عمداً) سواءٌ كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب، كالمأمومة والجائفة. (ولا) تحمل (عبداً) قُتِلَ عمدًا، أو خطأً، ولا ديةَ طرفِهِ، ولا جنايته. (ولا) تحمل العاقلة (إقراراً) بأن يقرّ على نفسه بجنايةِ خطأٍ أو شبهِ عمدٍ توجب ثلثَ الديةِ فأكثر، إن لم تصدّقه العاقلة. قاله في الإِقناع. (ولا) تحمل (ما دونَ ثلثِ ديةِ ذكرٍ مسلمٍ) كأرش الموضحة. نصّ على ذلك، لقضاء عمر: أنها لا تحمل شيئاً حتى يبلغَ عقلَ المأمومةِ، ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني، لأنه هو المتلف، فكان عليه، كسائر المتلِفِينَ، لكن خولف في ثلث الدية فأكثر، بإجحافه بالجاني، ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وليس في شرح المنتهى لفظ "أبي".

لكثرته. فيبقى ما عداه على الأصل، ولأن الثلث حد الكثيرِ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير" (¬1). (ولا) تحمل (قيمةَ مُتْلَفٍ). (وتحمل) العاقلة (الخطأ وشبهَ العمدِ مؤجّلاً) عليها (في ثلاثِ سنينِ) لقول عمر وعليّ في دية الخطأ، ولم يعرف لهما مخالف، فكان كالإِجماع. (وابتداءُ حول القَتْل من) حين (الزهوقِ) أي زهوقِ الروح، (و) ابتداء حول (الجرح من) حين (البرء) أي برء الجرح، لأن أرش الجرح لا يستقر إلاَّ ببُرئِهِ. وقال القاضي: إن لم يَسْرِ الجرح إلى شيء، فحوله من حين القطع. (ويبدأ) في التحميل (بالأقرب فالأقرب، كالإِرث) فيقسم على الآباءِ والأبناء، ثم على الإِخوة، ثم بني الإِخوة، ثم على الأعمام، ثم بنيهم، ثم أعمام الأب، ثم بنيهم، ثم أعمام الجدّ، ثم بنيهم، كذلك أبداً، حتى إذا انقرض المناسبون فعلى المَوْلى المعتِقِ، ثم على عصباتِهِ الأقرب فالأقرب، لأن ذلك حكمٌ يتعلق بالتعصيب، فوجب أن يقدّم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث. (ولا يعتبر) في العاقلة (أن يكونوا وارثين) في حال العقل (لمن يعقِلونَ عنه، بل متى كانوا يرثون لولا الحجْبُ عَقَلُوا) لأنهم عصبة، أشبهوا سائر العصبات. يحقّقه أن العقْلَ موضوعٌ على التناصر، وهم من أهله. ¬

_ (¬1) حديث "الثلث والثلث كثير" قاله - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ حين أراد أن يتصدق بكل ماله، وللحديث قصة. رواها البخاري وأبو داود.

(ولا عقل على فقيرٍ) ولو كان مُعْتَمِلاً، لأن تحمُّل العقل مواساةٌ، فلا يلزم الفقيرَ، كالزكاة. ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفاً على القاتل، فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه. وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه، وتكليف بما لا يقدر عليه، وإنما تجب على الموسر. والموسِرُ هنا من مَلك نصاباً فاضلاً عن حاجته كحجٍّ (¬1) وكفارة، ظهار. (و) لا عقل على (صبيٍّ ومجنونٍ) يعني أنهما لا يحملان شيئاً من العقل، لأنهما وإن كانا لهما مال فليسا من أهل النصرة والمعاضدة، لعدم العقل الباعث لهما على ذلك، (وامرأةٍ ولو معتِقَةً) وخنثى لأنهما ليسا من أهل المعاضدة. (ومن لا عاقلة له، أو) كان (له) عاقلة (وعجزت) عن جميع ما وجب بخطئِهِ أو تتمَّتِهِ، (فلا ديةَ عليه. وتكون في بيت المال) حالَّةً، إن كان مسلماً. وإن كان كافراً كان الواجب أو تتمته عليه (¬2). (كديةِ من ماتَ في زحمةٍ كجمعةٍ و) زحمةِ (طوافٍ). (فإن تعذّر الأخذ منه) أي من بيت المال (سقطت). ¬

_ (¬1) كلمة "كحجّ" ساقطة من (ب، ص) وثابتة في (ف). (¬2) أي علي الجاني نفسه، لأن بيت مال المسلمين لا يتحمّل الدية عن كافر.

باب كفارة القتل

باب كفّارة القتل سميت بذلك أخذاً من الكَفْرِ، بفتح الكاف، وهو السَّتْرُ، لأنها تغطي الذنب وتستره. (ولا كفّارةَ في) القتل (العمدِ) المحضِ. (وتجب) الكفارة (فيما دونه). قال في الإِقناع وشرحه: من قَتَل نفساً محرّمةً، أو شارك فيها، أو نَفْسَهُ، أو قِنَّهُ، أو مستأمناً، أو معاهَداً (¬1)، خطأً أو ما جرى مجراه، أو شبهَ عمدٍ، أو قَتَلَ بسببٍ في حياته، أو بعد موته، كحفرِ بئرٍ، ونَصْبِ سكّينٍ، وشهادةِ زورٍ، لا في قتلِ عمدٍ محضٍ، ولا في قتل أسيرٍ حربيٍّ يمكنه أن يأتي به الإِمام، فقتله قبله، ولا في قتل نساء حربِ وذريتهم، ولا في قتل من لم تبلغه الدعوة، إن وُجِدَ كفّارةٌ كاملةٌ في ماله. انتهى. (في مال القاتلِ لنفسٍ محرّمة. ولو) كانَ المقتولُ (جنيناً) كما لو ضربَ بَطْنَ امرأةٍ فألقت جنيناً مَيْتاً، أو حيًّا ثم مات، لأنه قتل نفساً محرّمة أشبه قتل الآدمي بالمباشرة. ¬

_ (¬1) وقال الحسن ومالك: لا تجب الكفارة بقتل كافرٍ، لقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فمفهومه أن لا كفارة في غير المؤمن (مغني 8/ 93) وهذا عندي أولى، لأن آيات الكفارة كلها تتحدث عن قتل المؤمن خاصة. والحكمة أن النفس التي فَوَّتها بقتله الخطأ أو شبهِهِ، كانت مؤمنة تعبد الله وتوحّده، فناسب أن يعتق رقبة مؤمنة، فيطلقها من أسر الرّقّ لتعبد الله تعالى.

ولا كفارة بإلقاء مضغة لم تتصوّر. (ويكفّر الرقيق بالصوم،) لأنه لا ملك له. (و) يكفّر (الكافر بالعتق). (ويكفّر غيرهما) أي غير الرقيقِ والكافرِ (بعتقِ رقبةٍ مؤمنةٍ) سليمة. وتَقَدَّم. (فإن لم يجد) رقبةً (فـ) يلزمه (صيامُ شهرين متتابعين). (ولا إطعام هنا) أي في كفارة القتل. (وتتعدَّدُ الكفارة بتعدّد المقتول) فعلى من قتل اثنينِ كفارتان، وعلى من قتل ثلاثةً ثلاثُ كفّارات. وهكذا. لأنّ كل قتلٍ يقوم بنفسه غيرَ متعلّقٍ بغيره، فوجب أن يكون في كل قتلٍ كفارةٌ، كما يجب في كل قتلٍ ديةٌ، وكما يجب في كل قتلِ صيدٍ جزاءٌ. وتقدَّم. (ولا كفارةَ على من قَتَل من يباحُ قتلُه كزانٍ محصَنٍ ومرتدٍّ، وحربيٍّ وباغٍ وقصاصٍ ودفعاً عن نفسه) لأن قتل هؤلاء لا يحرم.

كتاب الحدود

كتَاب الحُدود وهو جمع حدٍّ. والحدّ لغةً: المنع. وحدود الله تعالي مَحَارِمُه، لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. وهي ما حدّه سبحانه وتعالى وقدّره، فلا يجوزُ أن تُتَعَدَّى، كتزويجِ أربعٍ ونحوِهِ، وما حده الشرع فلا يجوز فيه الزيادة والنقصان. قال في المنتهى: وهو في عرف أهل الشرع: عقوبةٌ مقدّرة شرعاً في معصيةٍ لتمنع من الوقوع في مثلها. انتهى. (لا حدّ إلاَّ على مكلّفٍ) وهو البالغ العاقل، لأنه إذا سَقَطَ عن غيرِ البالغ العاقل التكليفُ في العبادات، والإِثمُ في المعاصي، فالحدُّ المبنيُّ على الدرء بالشبهاتِ أولى. لكن إن كان المجنونُ يفيقُ في وقتٍ، فأقَرَّ فيه أنه زنى في حال إفاقته أُخِذَ بما أقرّ به، وحُدَّ. أما لو أقرّ أنه زنى، ولم يضِفْهُ إلى حالٍ، أو شهدَتْ عليه بيّنة أنه زنى ولم تُضِفْهُ إلى حالِ إفاقته، فلا حدَّ، للاحتمال. وكذا لا يجب على نائمٍ ونائمةٍ. ولا يجبُ الحدُّ أيضاً إلا على (ملتزم) أحكامَ المسلمين، ليخرج الحربيُّ والمستأمن. أما الذميّ فهو داخل في ذلك.

ولا يجب أيضاً إلا على (عالم بالتحريم) قال عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم: لا حدّ إلا على من علمه. ولا فرق في ذلك بين جهله تحريمَ الزنا. وتحريمَ عينِ المرأة، مثل أن تُزَفَّ إليه غير زوجته، فيظنها امرأته، فيطأها، أو تدفع إليه جاريةُ غيرِهِ فيتركها مع جواريه، ثم يطؤها ظانًّا أنها من جواريه التي يملكهنّ، فلا يجب عليه حدٌّ بذلك. (وتحرُمُ الشَّفَاعَةُ وقبولها في حدّ اللَهِ) سبحانه و (تعالى بعد أن يبلغَ) أي يثبت عند (الإِمام). قال في المستوعب: ولا يجوز للِإمام أن يقبلَ شفاعةً فيما هو حق الله سبحانه وتعالى من الحدود، ولا يعفوَ عنه. وحَرُمت الشفاعة لكونها طلبَ فعلٍ يحرم على من طلبه منه. (وتجب إقامة الحدّ، ولو كان من يقيمه شريكاً) أو عوناً (في) تلك (المعصية) قاله الشيخ. واحتجّ بما ذكره العلماء من أصحابنا وغيرهم: أنّ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يسقط بذلك، بل عليه أن يأمر وينهى، ولا يجمع بين معصيتين. (ولا يقيمه إلا الإِمام أو نائبه) سواء كان الحدّ لله تعالى، كحدّ الزنا، أو لآدمي، كحدّ القذف، لأنه استيفاء حقٍّ يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمَنُ من استيفائِهِ الحيْفُ، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه (¬1). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَدَد الشفْعِ والوِتر (¬2) كانَ يقيمُ الحدَّ في حياتِهِ، وخلفاؤُه من بعده. ويقوم نائب الإِمام في ذلك مقامَهُ، لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "واغْدُ يا أُنَيْسُ -لرجل من أسلم- إلى امرأةِ هذا، فإن ¬

_ (¬1) ليس الإمام نائب الله تعالى في خلقه، بل هو نائب الأمة في تنفيذ شريعة الله فيها، بدليل أن إمامته تنعقد ببيعتهم، والبيعة عقد بينه وبينهم لا بينه وبين الله تعالى. (¬2) عبارة "عدد الشفع والوتر" ليست في شرح المنتهى. والمراد بها كثرة وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -.

[صفة إقامة الحد]

اعترفتْ فارجُمْها" (¬1). وأَمَرَ أيضاً برجْمِ ماعزٍ (¬2) ولم يحضره. (و) إلا (السيّد) الحرّ المكلف العالم بإقامة الحدّ، وبشروطه (على رقيقِهِ) ولو كان السيِّدُ فاسقاً أو امرأةً، بجلدٍ، وإقامةِ تعزيرٍ ما لم تكن الأمة مزوّجةً. (وتحرم إقامتُه) أي إقامةُ الحد (في المسجد) لأنه لا يؤمَنُ أن يَحْدُثَ من المحدود شيء يتلوث به المسجد. فإن أقيم فيه لم يُعَدْ، لحصول المقصود بالإِقامةِ، وهو الزَّجر. (وأَشَدُّهُ) أي أشدّ الجلدِ في الحدود (جلدُ الزِّنا، فـ) جلد (القذْف، فـ) جلدُ (الشُّرب،) نصّ على ذلك، (فـ) جلدُ (التعزير لأن الله تعالى خصّ الزنا بمزيد تأكيد, بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفْةٌ فِي دِينِ اللهِ} فاقتضى مزيدَ تأكيدٍ. ولا يمكن ذلك في العدد. فيكون في الصفة. ولأن ما دونه أخفُّ منه في العددِ، فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعِهِ. وهذا دليل على أن ما خفّ في عدده كان أخفّ في صفته. [صفة إقامة الحد] (ويضرب الرجلُ) الحدّ حال كونه (قائماً) على الأصحّ، لأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كلِ عضوٍ حظّه من الضرب، (بالسوط)، قال في شرح المهذب للحنفية: السوط فوق القضيبِ ودونَ العصا. وقال في المبدع: ومن المختار لهم: بسوطٍ لا ثمرةَ لهَ، أي يابس (¬3)، فتعيّن أن يكون من ¬

_ (¬1) حديث: "واغدُ يا أنيس .. الخ" رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة وتمامه "فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت" (إحكام الأحكام شرح العمدة 2/ 256). (¬2) حديث رجم ماعز الذي اعترف بالزنا رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وروى قصته أيضاً: جابر بن سمرة، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وبريدة. (¬3) تفسير الذي لا ثمرة له باليابس خلاف ما عليه أهل اللغة. فثمرة السوط عندهم العقدة في طرفه. كذا في اللسان. وعليه فلا يتعين ما عيّنه.

[الحد وإسقاط الإثم]

غير الجلد. انتهى. ولا يبالغ في الضرب بحيث يشق الجلد. (ويجب) في الجلد (اتّقاءُ الوجه، و) اتقاء (الرأس، و) اتقاء (الفرج، و) اتقاء (المقتل) كالفؤاد والخصيتين، لأنه ربما أدّى ضربه في شيء من هذه الأعضاء إلى قتله أو ذهاب منفعته. والمقصود أدبه لا غيره. (وتضرب المرأة) لحدّ حال كونها (جالسةً) لقول عليّ كرّم الله وجهه: تضرَبُ المرأة جالسةً، والرجل قائماً. (وتُشَدُّ عليها ثيابُها، وتمسَكُ يداها) لئلا تنكشف، لأن المرأة عورة، وفعل ذلك أستر لها. (ويحرم بعد) إقامة (الحد حبسٌ وإيذاءٌ بكلامٍ) أي أن يُحْبَس المحدود. نص عليه. أو يؤذى بكلامٍ، كالتعيير، على كلامِ القاضي. [الحد وإسقاط الإِثم] (والحدُّ) المقدَّر في ذنبٍ (كفارةٌ لذلك الذنب) نص عليه. (ومن أتى حدًّا سَتَرَ نفسَهُ ولم يُسَنَّ أَن يُقِرَّ به عند الحاكم) نَقَل مُهَنَّا في رجلٍ زنى، فذهب ليقرّ: قال (¬1): بل يستر نفسَهُ. واستحب القاضي إن شاعَ رَفْعَهُ إلى حاكم، ليقيمه عليه. قال ابن حامد: إن تعلّقت التوبةُ بظاهرٍ كالصَّلاةِ والزكاةِ أظْهَرَهَا للحاكِم، وإلاَّ أسرَّ. [تداخل الحدود] (وإن اجتمعت حدودٌ لله تعالى من جنسٍ) واحد، بأن زنى مراراً، أو سرق مراراً، أو شرب مراراً (تداخلت) فلا يُحَدُّ سوى مرةٍ. قال ابن ¬

_ (¬1) يعني: قال أحمد.

المنذر: أجمع على هذا كلُّ من يحفظ عنه من أهل العلم. وذلك لأنّ الغرض الزجر عن إتيان مثلِ ذلِكَ في المستقبل، وهو حاصِلٌ بالحدّ الواحِدِ، لأن الواجِبَ هنا من جنس واحد، فوجَبَ التداخُلُ، كالكفّارات من جنسٍ واحدٍ. (و) إن اجتمعت حدودٌ لله تعالى (من أجناسٍ) ولم يكن فيها قتلٌ، كمن زنى وهو غيرُ محصن، وشَرِب الخمر (¬1)، وسرق (فلا) تتداخل، بل يجب أن يُبْدَأ بالأخفّ فالأخف، فيحدّ للشرب أولاً، ثم يحدّ للزنا، ثم يُقْطَعُ للسَّرِقَة. وإن كان فيها قتلٌ استوفي وحده. وتستوفى حقوقُ الآدميِّ كلُّها سواء كان فيها قتلٌ أو لم يكن [ويبدأ بغيرِ قتلٍ بالأخف فالأخف، وجوباً]. (¬2) ¬

_ (¬1) (ب، ص): أو شرب. والتصويب من (ف). (¬2) ما بين المعقوفين ثابت في (ف) ساقط من (ب، ص).

باب حد الزنا

باب حَدّ الزّنَا الزنا (هو فعلُ الفاحِشةِ في قُبلٍ أو دُبرٍ.) وهو من أكبر الكبائر. وقد أجْمَعَ المسلمون على تحريمه، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (¬1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}. (فإذا زنى) المكلف (المحصنُ وجب رَجمه حتى يموت) لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجم، بقوله وفعله. في أخبار كثيرة. وأجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (والمحصَنُ هو من وَطِئَ زوجته في قُبُلِها بنكاحٍ صحيحٍ) ولو كتابيّةً، ولو في حيضٍ، أو صومٍ، أو إحرامٍ، أو في المسجد، أو في النفاس، (وهما) أي الزوجان (حرّان مكلَّفَانِ) ولو ذميين أو مستأمِنَيْنِ حالَ الوطءِ. إذا علمتَ ذلك فيشترط للإِحصان سبعة شروط: ¬

_ (¬1) في الأصول كلّها (إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً) وليس في الآية (مقتاً) أصلاً.

أحدها: الوطءُ في القبل. الثاني: أن يكون الوطء في نكاح. ولا خلاف بين أهل العلم في أن وطءَ الزنا والشُّبْهَةِ والتّسري لا يصيرُ به الواطئُ محصناً. الثالث: أن يكونَ النكاحُ صحيحا ًوفاقاً لمالكٍ والشافعي. الرابع: الحرية. الخامس: البلوغ. السادس: العقل. السابع: أن يوجد الكمال في الزوجين حال الوطء، بأن يطأ الزوجُ العاقل الحرُّ زوجتَه العاقلة الحرة. وأما الإِسلام فليس بشرطٍ للإِحصان على الأصح. (وإن زنى الحرّ غيرُ المحصنِ جُلِدَ مائةَ جلدةٍ) بلا خلاف، (وغُرِّبَ عاماً) إلى مسافةِ قصرٍ سواء كان الزاني مسلماً أو كافراً، لأنه حدٌّ ترتَّب على الزنا، فوجب على الكافر، كوجوب القود في القتل، والقطعِ في السرقة. (وإن زنى الرقيق) أي كاملُ الرقّ (جُلد خمسين) جلدةً، لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} والعذاب المذكور في القرآن مائةُ جلدةٍ لا غير. فينصرف التنصيف إليه، دون غيره، بدليل أنه لا ينصرف إلى تنصيفِ الرجم، لتعذر تنصيفه. (ولا يغرّب) لأن التغريب في حق القن عقوبةٌ لسيّده دونه، لأنه غريبٌ في موضعه، ويترفّه، أي يتنعم، بتغريبه من الخدمة، ويتضرّر سيّدُهُ بتفويتِ خِدمتِهِ والإِنفاق عليه، مع بعده عنه، فيصيرُ الحد مشروعاً في حقّ غير الزاني، والضرر على غير الجاني. والمبعَّض يُجْلَد ويغرَّب بحسابه.

(وإن زنى الذمي بمسلمةٍ قُتِلَ) لأنه انتقض عهدُه. وتقدم في الجهاد. (وإن زنى الحربيّ فلا شيء عليه) من جهة الزنا، لأنه مُهْدَرُ الدم، ولأنه غير ملتزِم للأحكام. (وإن زنى) المحصَنُ بغير المحصنةِ (فلكلٍّ) من المحصن وغيره (حدُّه). (ومن زنى ببهيمةٍ) ولو سمكةً (عُزِّر) فقط، وقُتلَتْ، لكن لا تقتل إلا بالشهادة على فعله بها إن لم يكن يملكها. ويحرُم أكلُها، فيضمنها بقيمتها كاملةً. (وشرط وجوب الحد ثلاثةٌ): (أحدها: تغييب الحشفة) الأصلية، ولو كانت من خصيٍّ، (أو) تغييبُ (قدرها) أي قدر الحشفة لعدم وجود الحشفة، (في فرجٍ أصليٍّ، أو دُبُرٍ لآدميٍّ حيٍّ)، فقوله "تغييب" احترازٌ ممن لم يغيِّبْ، كأن أصاب بذكره بابَ الفرْجِ. وقوله "الحشفة" احترازاً عمن غيّبَ بعضَها فإن ذلك لا يسمّى زنا، إذ الوطء لا يتم بدون تغييب جميع الحشفة، لأنه القدر الذي تثبتُ به أحكامُ الوطءِ في القُبُل وغيرِهِ. وقوله: "أو دبر" ليدخل اللّواط ووطءُ المرأة في الدبر، لأنه فاحشة. وعُلِمَ مما تقدّم أنّ من وطئَ أجنبيَّةً لا تحلُّ له دون الفرْجِ، لم يلزمْه حدّ. (الثاني) من شروط حد الزنا: (انتفاء الشبهةِ) فلو وطئ زوجتَهُ في حيض، أو نفاس، أو أمته المحرَّمَةَ أبداً برضاعٍ أو غيرِهِ، أو المزوَّجَةَ، أو المعتَدَّةَ، أو أمةً له، أو لمكاتَبِهِ، أو لبيتِ المال فيها شِرْكٌ، أو في نكاحٍ، أو ملكٍ مختَلَفٍ فيه، وهو يعتقد تحريمه، أو امرأةً وجدَهَا على

فراشه، أو في منزله ظنّها زوجتَهُ أو أَمَتَهُ فلا حدّ عليه. (الثالث) من شروط حد الزنا: (ثبوتُه) أي ثبوت الزنا. وله صورتان: أشار للأولى بقوله: (إما بإقرارٍ) من مكلّف (أربعَ مراتٍ) ولو كان الاعترافُ في مجالس، لأن ماعزاً أقرّ عندَه [- صلى الله عليه وسلم -] أربعاً في مجلس واحدٍ، والغامديّة أقرت عنده بذلك في مجالس (¬1) (و) يعتبرُ أن (يستمرّ على إقراره) حتى يتمّ الحدّ، لأن من شرط إقامة الحدّ بالإِقرار البقاء عليه إلى تمام الحدّ. وأشار للثانية بقوله: (أو بشهادةِ أربعةِ رجالٍ عدول) في مجلسٍ واحد، ولو جاؤوا متفرقين، بزنا، واحد ويصفونه. ويعتبر في ثبوته بالشهادة عليه خمسةُ شروط: الشرط الأول: أن يكون الشهود أربعة. الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم. الثالث: أن يكونوا عدولاً، فلا تقبل شهادة مستور الحال، لجواز أن يكون فاسقاً. الرابع: أن يشهدوا في مجلسٍ واحد. الخامس: أن يصف الشهودُ صورَة الزّنا، فيقولون: رأينا ذكره في فرجها كالمِرْوَد في المكحلة. (فإن كان أحدهم غير عدلٍ، حُدُّوا للقذف) كلهم. (وإن شهد أربعةٌ بزناه) أي بزنا فلانٍ (بفلانَةَ، فشهد أربعة آخرون أن الشهود) الأربعة (هم الزناة بها) دون من شهدوا عليه، (صُدِّقوا) ولم يُحَدَّ الرجلُ المشهودُ عليه، لأن الشهود الآخرين قدحوا فيمن شهد عليه. ¬

_ (¬1) روى ذلك مسلم والدارقطني من حديث بُرَيْدَةَ (شرح المنتهى 3/ 347)

ولهذا قال: (وحُدَّ الأولون فقط) أي دون من شهدوا عليهما من فلان وفلانة (¬1)، (للقذف، والزنا،) لأن الزنا ثبت عليهم بشهادةِ الآخَرين، فوجب الحدُّ عليهم لذلك، ويجب عليهم حدّ القذف لأنهم شهدوا بزناً لم يثبت. (وإن حَمَلَتْ من) أي امرأة (لا زوجَ لها، ولا سيّد لم يلزمْهَا شيْءٌ) ولا يجب أن تُسْأل، لأن في سؤالها عن ذلك إشاعة للفاحشة، وذلك منهيّ عنه. فإن ادَّعت أنها أُكرهت، أو وطئتْ بشبهةٍ، أو لم تعترف بالزنا لم تحدّ. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول. ولكن هذا وهم، فإن مقتضى ما ذكره في تصوير المسألة أن تحدّ فلانة، لأن الشهود الآخرين شهدوا عليها ولم يبرئوها كما برأوا فلاناً. والمسألة في المنتهى وشرحه وعبارته "دون المشهود عليه" أي الرجل وحده.

باب حد القذف

باب حَدّ القَذف وهو الرمي بزنا أو لواطٍ، أو شهادةٌ بأحدهما ولم تكمل البينة. (مَنْ قذفَ غيره بالزنا حُدَّ للقذفِ ثمانين إن كان حُرًّا؛ و) حُدّ للقذف (أربعين إن كان رقيقاً) وبالحساب إن كان مبعّضاً. (وإنما يجب) الحد (بشروطٍ تسعة): (أربعة: منها) أي من التسعة (في القاذف، وهو: أن يكون بالغاً، عاقلاً،) قال في الإِقناع: وإن كان القاذفُ مجنوناً، أو مُبَرْسَماً، أو نائِماً، أو صغيراً، فلا حدّ عليه، بخلافِ السكران، (مختاراً) أي غير مكره، (ليس بوالدٍ للمقذوف وإن عَلَا) يعني أنه لا يجب حد قذفٍ على من قَذَف ولده، أو ولدَ ولدِهِ، أو ولدَ ابنتِه، أو بنت ابنته، وإن سفل أو سفلت، كقودٍ. (وخمسة في المقذوف، وهو: كونه حرًّا، مسلماً، عاقلاً، عفيفاً عن الزنا) ظاهراً، (يوطَأُ ويطأ مثله،) وهو ابن عشر، وبنتُ تسعٍ، فأكثر. أما اعتبار الحرية والإِسلام فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة، فلا تنهض لِإيجاب الحدّ. والآية الكريمة (¬1) وردَتْ في الحرّة المسلمة، ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.

وغيرها ليس في معناها. وأما العقل فلأنّ المجنون لا يُعيَّر بالزنا، لعدم تكليفه. وغيرُ العاقل لا يلحقُه شي بإضافة الزنا إليه، لكونه غيرَ مكلّف. وأما العفة عن الزنا فلأن غيرَ العفيفِ لا يشينه القذف، والحدُّ إنما وجَبَ لأجل ذلك. وقد أسقط الله تبارك وتعالى الحد عن القاذف إذا كان له بينة بما قال. وأما كونُه يجامِعُ مثلُه، فلأن مَنْ دونَهُ لا يعيّر بالقذف، لتحقّق كذب القاذف. ولا يشترَطُ في المحصَنِ العدالةُ، فلو كان فاسقاً لشربه الخمر، أو لبدعةٍ، ولم يُعْرَفْ بالزنا، وجب الحد على قاذفه. (لكن لا يحدّ قاذف غير البالغ حتى يبلُغَ) ويطالِبَ به بعد بلوغه، (لأن الحقّ في حد القذف للآدميّ) أي المقذوف (فلا يقام بلا طلبه) أي طلب المقذوف، ولأنّ مطالبته قبل البلوغ لا توجب الحدّ لعدم اعتبار كلامه، وليس لوليه المطالبةُ عنهُ لأنه حقٌّ شرعيٌّ ثَبَتَ للتشفّي، فلم يقم غيره مقامه في استيفائه، كالقصاص، فإذا بلَغَ وطَلَبَ أُقيمَ حينئذٍ. (ومن قَذَفَ غيرَ محصنٍ عُزِّر) والمحصن هو الذي اجتمعت فيه الشروط الخمسة المتقدمة. (ويثبت الحدّ هنا) أي في القذف، (وفي الشرب، وفي التعزير بأحد أمرين: إما بإقراره مرةً، أو شهادةِ) رجلَيْنِ (عدلين.)

[فيما يسقط به حد القذف]

فصل [فيما يسقط به حدّ القذف] (ويسقط حد القذف بأربعة) أشياء: (بعفوِ المقذوف) ولو بعد طَلَبِ، لا عَنْ بعضِهِ، كما لو كان المقذوف جماعةً بكلمةٍ، فإن عليه حدًّا واحداً لجميعِهِم. ولكل واحد منهمْ حقٌّ في طلب إقامته. فلو كانوا خمسةً مثلاً وعفا أحدهم عن حقه، لم يسقط حقّ الأربعة الباقين. فلو طلب أحدهم حقَّهُ، فلما جُلِدَ عشرين، قال: عفوت عن باقي الحد، لم يسقط حقّ الثلاثة الباقين من تتمته فلو طلبها أحدُ الثلاثة الباقين، فلما جُلِدَ عشرين أخرى قال: عفوتُ عن باقي الحدّ لم يسقط حق الاثنين الباقيين من تتمة الحد. فلو طلبها أحدهما، فلما جلد عشرين، قال: عفوت عن تتمته لم يسقط حق الواحد الباقي، فله طلب جلد العشرين الباقية من الثمانين. ولهذا لا يسقط بالمصالحة عليه، ولا عن بعضه بمال. وهذا بخلاف عفوِ بعض مستحقّي القود عن حقه، فإنه يسقط بذلك حق باقيهم. (أو بتصديقه) أي بتصديق المقذوف للقاذف. (أو بإقامة البينة) بما قذفه به. (أو باللعان) وتقدم. (والقذفُ حرامٌ، وواجبٌ، ومباحٌ). (ويحرم فيما تقدم،) وهو من الكبائر. (ويجب) القذفُ (على من يرى زوجتَهُ تزني، ثم تلدُ ولداً يقوى في ظنّه أنه من الزاني، لشبهه به،) أي لكون الولدِ يشبهُ الزاني. (ويباح) قذفُها (إذا رآها تزني ولم تلد ما يلزمه نفيُهُ)، أو يستفيضُ زناها في الناسِ، (أو أخبره بزناها ثقة، أو يرى الزوجُ رجلاً يعرَفُ

[في ألفاظ القذف]

بالفجور يدخل إليها، زاد في الترغيب: خلوةً. (وفراقها أولى) من قذفها لأنه أستر، ولأن قذفها يلزم منه أن يحلفَ أحدُهما كاذباً، أو تقرّ فتفتضح. فصل [في ألفاظ القذف] والقذف تنقسم ألفاظه إلى صريح وكناية. (وصريحُ القذفِ) للمرأة: (يا منيوكة) إن لم يفسّرْهُ القاذفُ بفعلِ زوجٍ أو سيّد، وللذكر: (يا منيوك، يا زاني، يا عاهر) أو: قد زنيت، أو: زنى فرجك، ونحوه. أو قال له: (يا لوطيّ.) فإن قالَ: أردْتُ زاني العين، أو عاهر اليد، أو: أنك من قوم لوطٍ، أو: أنك تعمل عملهم غير إتيان الذكور، لم يقبلْ، لأن القذف بما تقدم صريح، (و: لستَ ولدَ فلانٍ،) أو: لسْتَ لأبيك، (فَقَذْفٌ لأمِّهِ) أيْ أم المقول له ذلك، لأنه إذا وُلِدَ على فراشِ إنسانٍ، ونَفَى أن يكون منه، فقد أثبت الزنا على أمه، لأنه لا يخلو إما إن يكون من أبيه، أو من غيره، فإذا نفاه عن أبيه، فقد أثبته لغيره. والغير لا يمكن أن يحبلها في زوجيّةِ أبيه إلا من زنا، فيكون قاذفاً لها لذلك. (وكنايته: زنتْ يداك، أو) زنت (رجلاك، أو) زنت (يدك، أو) زنت رجلك، (أو) زنى (بدنك.) لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحدّ. ومن الكنايات: يا نظيف، يا عفيف، (يا مخنّثِ، يا قَحْبَةُ، يا فاجرة، يا خبيثة. أو يقول لزوجة شخص: قد فضحتِ زوجَكِ، وغطّيْتِ رأسِه،) أو نَكَّسْتِ رأسه، (وجعلْتِ له قروناً، وعلّقْتِ عليه أولاداً من غيره، وأفسدتِ فِراشَه،) ولعربيٍّ: يا نبطيّ. يا فارسيّ. يا روميّ. وقوله

[قذف جماعة بكلمة]

لأحدهم: يا عربيّ. ولمن يخاصمه: يا حلالُ ابن الحلال، وما يَعْرِفُك الناس بالزنا. أو: ما أنا بزانٍ أو: ما أمّي بزانيةٍ. أو يسمع من يقذِفُ شخصاً، فيقول له: صدقْتَ. أو: صدقتَ فيما قلت، أو أخبرني فلان أنك زنيت، أو أشْهَدَني فلانٌ أنَّك زنيتَ، وكذّبه فلان. (فإن أراد بهذه الألفاظ حقيقةَ الزِّنا حُدّ) للقذف، (وإلا،) بأن قال: أردتُ بالنبطيِّ نبطيَّ اللسانِ، وبالفارسيّ فارسيّ الطبع، وبقولي الروميّ روميِّ الخِلقة، وبقولي لها: أفسدتِ فراشَهُ أي أَحْرَقْتِيه، أو أَتْلفتِيهِ، وبقولي: علّقْتِ عليه أولاداً من غيره، أي؛ التقطْتِ ولداً وذكرتِ أنه ولده، وبقولي: مخنّث أَنه فيه طباع التأنيث، وهو التشبّه بالنساء، ونحو ذلك. قُبِل، و (عُزِّر) نقله حنبل. [قذف جماعة بكلمة] (ومن قذف أهل بلدةٍ، أو) قذف (جماعةً لا يتصوّر الزنا منهم عادةً) عُزِّر، لأنه لا عار على المقذوف بذلك، للقطعِ بِكَذِبِ القاذف، و (لا حدّ) عليه. ومن قالَ لمكلفٍ: اقذفْني، فقَذَفَهُ، لم يُحَدَّ، لأنه حق له، وعُزِّرَ، لأن ذلك محرم. (وإن كان يُتَصَوَّرُ الزنا منهم عادةً، وقَذَفَ كل واحدٍ بكلمةٍ، فعليه لكل واحدٍ حدّ) لأنه قد تعدّد القذف، وتعدّد مَحَلُّه، فتعدد الحد بتعدّده. (وإن كان إجمالاً) أي بكلمةٍ واحدةٍ، فإن قال: هؤلاء: زناة، فطالبوه جميعهم، أو طالبه أحدهم (فـ) عليهِ (حدٌّ واحِدٌ) لقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ولم يفرّق بين القذف لواحدٍ أو لجماعة، لأنه قذفٌ واحد، فلم يجب فيه إلا حد واحد.

باب حد المسكر

باب حَدّ المُسكِر يعني الذي ينشأ عنه السكر. والسُّكْرُ اختلاطُ العقل. وكلُّ مسكرٍ خمرٌ، يحرُم شربُ قليلِهِ وكثيره مطلقاً، ولو لعطَشٍ بخلافِ ماءٍ نجسٍ. (من شرب مسكراً مائعاً) أو شرب ما خُلِطَ به ولم يُسْتَهلكْ فيه، (أو اسْتَعَطَ بِهِ،) أي بالمسكر، (أو احتقَنَ) به، (أو أكل عجيناً ملتوتاً به، ولو لم يسكر، حُدَّ ثمانين) جلدة (إن كان حرًّا) قال في الإِنصاف: هذا المذهب، وعلمِه جماهير الأصحاب. انتهى. رُوِيَ أن عَلِيًّا قال في المشورة: إنه إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هذى افترى، فَحُدُّوهُ حدّ المفتري. روى ذلك الجُوزَجَاني والدارقطني، وغيرهما، (و) حدَّ (أربعين إن كان رقيقاً) ويستوي في ذلك العبدُ والأمة. فيقامُ الحدّ على كل من الحرِّ والرقيق، ولو ادّعى جهل وجوب الحد، (بشرطِ كونه) أي الشارب ونحوه (مسلماً مكلّفاً) ليخرج الصغيرُ والمجنونُ حال كون مستعمله (مختاراً) لشربه لأنّه إذا لم يكن مختاراً لشُربه لا إثم عليه، لحلِّه، لأنه مكره على شربه، سواءٌ أُكْرِهَ بالضرب، أو أُلْجِئَ إلى شربه، بأن فُتِحَ فمه وصبُّ فيه، (عالماً أن كثيره يسكر) وُيصَدَّقُ إن قال: لم أعلم.

(ومن تَشبَّهَ بشرّاب الخمر) جمع شارب (في مجلسه، وآنيته) وحاضَرَ من حاضَرَهُ بمحاضِرِ الشراب، (حَرُمَ، وعُزِّرَ) قاله في الرعاية. (ويحرُم العصيرُ إذا أتى عليه ثلاثةُ أيامٍ) بلياليهن، وإن لم يغلِ، قال في الفروع: والمنصوص: يحرُمُ ما تمَّ له ثلاثةُ أيام، انتهى، (ولم يطبخ) قبل ذلك. قال في المنتهى: وإن طُبِخَ قبل تحريمه حلّ إن ذَهَب ثلثاه. ويحرم العصير أيضاً إن غلى كغليان القِدْرِ، بأن قَذَفَ بِزَبَدِهِ. قال في شرح المنتهى: ظاهره: ولو لم يسكر.

باب التعزير

باب التعزير أصله المنع. ومنعه التعزيرُ بمعنى النُّصْرَة. وفي عرف الفقهاء: التأديب. (يجب) التعزير على كلّ مكلّفٍ على الأصحّ. نقل الميمونيّ فيمن زنى صغيراً: لم يَرَ عليه شيئاً. ونقل ابن منصور في صبي قال لرجل: يا زاني: ليس قولُه شيئاً (¬1) - (في كل معصيةٍ لا حدّ فيها ولا كفّارةٍ) كمباشرةٍ دون الفرج، وامرأةٍ لامرأةٍ، وسرقةٍ لا قَطْعَ فيها، وجنايةٍ لا قَوَدَ فيها، كصفعٍ، وكلعْنِهِ، وليس لمن لُعِنَ ردُّها على من لعنه. (وهو) أي التعزير (من حقوقِ الله تعالى، لا يُحتاجُ في إقامته) أي التعزير (إلى مطالبةٍ) لأنه شُرِعَ للتأديب، فللإِمام التعزيرُ إذا رآه. وأما سقوط التعزير بعفوِ المجنيّ عليه ففيه خلاف. قال القاضي في "الأحكام السلطانية": ويسقط بعفوِ آدميٍّ حقُّهُ وحقُّ السلطنة. وفيه احتمال: لا، للتهذيب والتقويم. وفي "الانتصار": في قذفِ مسلمٍ كافراً التعزير لله تعالى، فلا يسقط بإسقاطه انتهى، (إلا إذا شَتَم الوَلَدُ والِدَهُ فلا يعزّر إلا بمطالبةِ والِدِه.) ¬

_ (¬1) لكن في شرح المنتهى: قال الشيخ تقي الدين: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلّف كالصبي المميّز يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً.

[أنواع من التعزير]

(ولا يعزّر الوالد بحقوقِ ولدِهِ) قال في الإِقناع: قال في الأحكام السلطانية: إذا تشاتم والد وولده لم يعزّر الوالد بحقوق ولده ويعزّر الولد لحقِّه. ولا يجوز تعزيرُه إلا بمطالبةِ الوالدِ، ولا يحتاج التعزير إلى مطالبةٍ في غير هذه. وإن تشاتَمَ غيرُهما عزِّرا. قال الشيخ: ومن غَضبَ فقال: ما نحن مسلمون، إن أراد ذمّ نفسه لنقصِ دينِهِ، فلا حرج فيه ولا عقوبة. انتهى. (ولا يزاد في جلدِ التّعزير على عشْرَةٍ أسواطٍ) وهو قول إسحاق، (إلا إذا وطئَ أمةً له فيها شِرْكٌ، فيعزّر بمائةِ سوطٍ إلا سوطاً) بما روى الأثرم عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال في أمةٍ بين رجلين وطئها أحدهما: يجلد الحدّ إلا سوطاً واحتجّ به أحمد رضي الله عنه؛ (و) إلا (إذا شرب مسكراً نهارَ رمضان فيعزّر بعشرينَ مع الحدّ) لما روى أحمد بإسناده أن عليًّا رضي الله تعالى عنه أُتِيَ بالنجاشيّ قد شَرِبَ خمراً في رمضان، فجلده ثمانين الحدَّ، وعشرين سوطاً لفطره في رمضان (¬1). [أنواع من التعزير] (ولا بأس بتسويدِ وجهِ من يستحقَّ التعزير، والمناداةِ عليه بذنبه،) ويطافُ به مع ضربه. قال الإِمام أحمد في شاهد الزور: فيه عن عمر: يضرَبُ ظهرُه، ويحلَقُ رأسه، ويسخَّمُ وجهه، ويطافُ به، ويطال حبسه. (ويحرُم حلق لِحْيَتِهِ،) وقطْعُ طَرَفِهِ، وجَرْحُهُ، (وأَخْذُ ماله) أو إتلافه. قال في الإِنصاف: قال الأصحاب: ولا يجوز قطع شيء منهُ، ولا جرحه، ولا أخذُ شيء من ماله. قال في الفروع: فيتوجَّهُ أنّ إتلافه أولى، مع أنّ ظاهر كلامهم: لا يجوز، انتهى. ¬

_ (¬1) هذا يقتضي جواز تعزير من يفطر في رمضان بعشرين سوطاً، ولو بغير مسكرٍ.

فصل

فصل ومن الألفاظِ الموجبةِ للتعزيرِ قوله لغيره: يا كافرُ. يا فاسق. يا فاجر. يا شقيّ. يا كلب. يا حمار. يا تيس. يا رافضي. يا خبيثَ) البطنِ، أو: يا خبيثَ الفرْج، أو: يا عدوَّ الله، أو: يا ظالم، (يا كذّاب، يا خائن) يا شارب الخمر، يا مخنّث. نصّ على ذلك (يا قَرْنانُ. يا قوّاد. يا ديوث) قال إبراهيم الحربي: الديّوث الذي يُدْخِلُ الرجال على امرأته، (يا عِلْقُ) وعند الشيخ تقي الدين أن قوله: يا علق، تعريضٌ. انتهى. ومأبونٌ كمخنّثٍ عرفاً. (ويعزّر من قال لذمِّيّ: يا حاجّ) لأن فيه تشبيهَ قاصِدِ الكنائِس بقاصِدِ بيت الله سبحانه وتعالى، وفيه تعظيمٌ لذلك، فإنه بمنزلةِ من يشبه أعيادهم بأعياد المسلمين، وتعظيمهم، (أو لَعَنَهُ بغير موجِبٍ) قال في الفروع: لأنه ليس له أن يلعنه بغير موجب إلا أن يكون صَدَرَ من النصرانىِّ ما يقتضي ذلك. انتهى.

باب القطع في السرقة

باب القطع في السَّرقة (ويجب) القطعُ في السرقة (بثمانية شروط): (أحدُها: السرقة) (¬1) لأن الله تعالى أوجب القطع على السارق، فإذا لم توجد السرقة لم يكن الفاعل سارقاً. (وهي) أي السرقة (أخذُ مال الغير) أي غيرِ سارِقِه، بشرط كون المال محترماً (من مالكه أو من نائبه) أي نائب مالِكِ المال، ومن ذلك استراقُ السمع، ومسارقة النظر، إذا كان يستخفي بذلك (¬2) (على وجه الاختفاء). (فلا قطع على مُنْتَهِبٍ) وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة، (و) لا (مخْتَطِفٍ) وهو الذي يخطف الشيء ويمرّ به، (و) لا (خائنٍ في وديعة) وهو الذي يؤتَمَنُ على الشيء فيُخْفِيهِ أو يجحده. وأصله من التخوين، وهو التنقيصُ من مودَعٍ ونحوِهِ من الأمناء (لكن يُقْطع جاحِدُ العارية) إن كانت قيمتها نصاباً. الشرط (الثاني: كون السارق مكلّفاً) لأن غير المكلف لا تناله ¬

_ (¬1) الأولى أن يقال: السرقة سبب القطع، وليست شرطاً. (¬2) عبارة "ومن ذلك استراق السمع .. الخ" لو أخّرها الشارح بعد قول المتن "على وجه الاختفاء" لكان أجود.

الأحكام، (مختاراً) لأن المكره مرفوعٌ عنه القلم ومعذور، (عالماً بأنّ ما سرقه يساوي نصاباً) قال في المنتهى وشرحه: عالماً بمسروقٍ، أي بأنه أخَذَ المسروقَ، عالماً بتحريمه. فلا قطع على صغيرٍ لم يبلغ، ولا على مجنونٍ، ولا على مكرهٍ، ولا بسرقة منديلٍ بطرفِهِ نصابٌ مشدود لم يعلمه، ولا بجوهرٍ يظن قيمته دون نصابٍ، ولا على جاهلِ تحريمِ السرقة. الشرط (الثالث: كون المسروق مالاً) لأن ما ليس بمالٍ لا حرمة له، فلم يجب به قطعٌ. والأحاديث دالة على ذلك، مع أن غير المال لا يساوي المال، فلا يلحق به. لا يقال: الآية (¬1) مطلقة، لأن الأخبار مقيَّدة لها. فعلى هذا لا يقطع بسرقةِ كلبٍ، وإن كان معلَّماً، لأنه ليس بمال، ولا بسرقة حُرٍّ، (لكن لا قطع بسرقة الماءِ) لأنه لا يُتَمَوَّل عادة، ولا بسرقة السَّرجينِ النجس، أي الزبل. (ولا) قطع (بـ) سرقة (إناءٍ فيه خمر أو) فيه (ماءٌ) لأنها متصلة بما لا قطع فيه، فأشبه ما لو سرق شيئاً مشتركاً بينه وبين غيره. قال ابن شاقلا: فلو سرق إداوةً فيها ماء، لم يقطع لاتصالها بما لا قطع فيه، (ولا بسرقة مصحفٍ) لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله تعالى، وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه، (ولا بـ) سرقة (ما عليه من حليٍّ) ككيسه، لأن ذلك تابع لما لا يُقْطَعُ بسرقته، (ولا) قطع (بـ) سرقة (كُتب بِدَعٍ، و) كتب (تصاوير) لأنها واجبة الإِتلاف، (ولا) بسرقة (آلة لهوٍ) كالطنبور والمزمار، ولو بلغت قيمته مكسوراً نصاباً، لأنه للمعصية، فلم يقطع ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

بسرقته، كالخمر، (ولابـ) سرقة (صليبٍ أو صَنَمٍ) من ذهبٍ أو فضة، تبعاً للصناعة، أشبه الأوتار التي بالطنبور. الشرط (الرابع) من شروط وجوب القطع في السرقة: (كون المسروقِ نصاباً، وهو) أي النصاب الموجِبُ للقطع في السرقة (ثلاثةُ دراهم) خالصة، أو ثلاثةُ دراهم تَخْلُصْ من دراهم فضة مغشوشة، (أو ربعُ دينارٍ) من الذهب. فيكفي الوزن من الفضة الخالصة، أو التبر الخالص، ولو لم يُضْرَبَا. ويكمل أحدهما بالآخر (أو) سَرَقَ (ما يساوي أحدَهما) أي أحد نصابي الفضة أو الذهب من غيرهما. (وتعتبر القيمةُ) أي قيمةُ المسروق، إذا لم يكن ذهباً أو فضة، بأحدهما (حال الإِخراج) من الحرز، لأن الاعتبار بحال السرقةِ، وهو وقتُ الوجوب، لوجود السبب فيه، وهو السرقة. فلا يعتبر ما حدث بعدَهُ، فلو نقص بعد إخراجه قُطِعَ، لا إن أتلفه بأكل أو غيره فيه، أو نَقَصَهُ بذبحٍ ثم أخرجه. الشرط (الخامس) من شروط وجوب القطع في السرقة: (إخراجه) أي إخراج النصاب (من حرزٍ) على الأصحّ في قول أكثر أهل العلم، منهم مالكٌ والشافعيّ وأصحابُ الرأي. (وعنه لا يشترط الحرز). (فلو سرق) إنسانٌ (من غير حرزٍ) مثل أن يجد حرزاً مهتوكاً، أو باباً مفتوحاً، فيأخُذُ منه ما بلغ نصاباً، أوْ لا (فلا قطع) عليه لفواتِ شرطِهِ، كما لو أتلفه داخلَ الحرزِ بأكلٍ أو غيرِهِ، إلا أن عليه ضمانَهُ. ومن أخرج بعض ثوبٍ، قيمة البعض المُخْرَجِ نصابٌ، قُطِعَ به إن قطعه، وإلا فلا. (وحرز كلِّ مالٍ) يقطع السارق بسرقته منه (ما حُفِظَ فيه) ذلكَ

المال (عادةً) أي في العادة، لأن الحرز معناه الحفظ، ومنه قولك: احترزْتُ، أي تحفَظْتُ. ولمّا ثَبَتَ اعتبارُ الحرزِ بالشرع في موضعٍ اعتبره فيه من غير صفةٍ له، ولا فيه عرفٌ لغَوِي يتقرّر به, عُلِمَ أن المرجِعَ فيه إلى العرف بين الناس. (فـ) حرزُ (نعلٍ برجلٍ) أي رجلِ من كان لابِسَهُ، (وعمامة على رأسٍ حرزٌ). وحرزُ جوهرٍ ونقدٍ وقماشٍ في العمران بدارٍ ودكْانٍ وراءَ غَلَقٍ وثيقٍ، والغَلَق اسمٌ للقُفْلِ، خشباً كان أو حديداً. وصندوقٌ بسوقٍ وثمّ حارسٌ حرز. وحرزُ بقلٍ وقدورِ باقلاّ وقدورِ طبخٍ، وحرزُ خَزَفٍ وثم حارسٌ وَرَاءَ الشرائج (¬1). وحرزُ حَطَبِ وخشب الحظائر. وحرز ماشيةٍ الصَّير (¬2)، وفي مراعٍ براعٍ يراها غالَباً. وسفنٌ في شطٍّ بربطها. وإبلٌ باركة معقولةٌ بحافظٍ حتى نائمٍ. وحرز الإِبل الحاملة تقطيرها مع قائد يراها، ومع عدم تقطيرِها: بسائقٍ يراها. وحرزُ ثيابِ في حمّام، وحرزُ أعدالٍ بسوق، بحافظ كقعوده على متاعٍ وتوسُّدِهَ، وإن فرّطَ حافظُ الحمّام أو السوقِ فنامَ أو اشتغل فلا قطع. وضَمِنَ المسروقَ حافظٌ معدٌّ للحفظ، وإن لم يُسْتَحْفَظْ. (ويختلف الحرز باختلاف البلدان) فإن البلد إذا كان واسع الأقطار غُلِّظَتْ أحرازه، لأنه لا يؤمن عليه إن سرق منه أحد، أنه لا يظهر، لِسَعَةِ رقعة البلد، وكثرةُ أهله، وإن كان صغيراً لم يحتج إلى ذلك، لأن السارق يُعْرَفُ فيه، فلا يحتاج إلى زيادة كلفة في منعه عن السرقة (و) يختلف (بـ) اختلاف عدل (السلاطين) وقوتهم وضدهما. ¬

_ (¬1) الشرائج جمع شريجة وهي شيء يعمل من قصب أو نحوه، يضم بعضه إلى بعض بنحو حبلٍ. (¬2) الصِّيَر جمع صِيرَة، وهي حظيرة الغنم (ش. المنتهى).

(ولو اشترك جماعةٌ في هتكِ الحرْز و) اشتركوا في (إخراج النصاب قطعوا جميعاً) لأنهم اشتركوا في هتك الحرز وإخراجه منه. (وإن هَتَكَ الحرزَ أحدهما) فقط، (ودخل الآخر، فأخرج المال، فلا قطع عليهما) أي على واحد منهما، لأن الأول لم يسرق، والثاني لم يهتك الحرز، (ولو تواطآ) على ذلك، في الأصحِّ لأن التواطؤ على السرقة لا أثر له، لأنه لا فعل لواحدٍ منهما في الذي فعل الآخر، فلم يَبْقَ إلا القصدُ، والقصد إذا لم يقارنه الفعل لا يترتَّبُ عليه حكم، فيكون وجود القصد في ذلك كعدمه. الشرط (السادس) من شروط وجوب القطع في السرقة: (انتفاء الشبهة، فلا قطع بسرقتِهِ من مال فروعِهِ وأصولهِ): أما سرقتُهُ من مال ولدِهِ، فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنْتَ وَمَالُكَ لأبيكَ" (¬1)؛ وأما سرقته من مال أبيه أو جده، أو من مال أمه، أو جدته، أو من مال بنت ابنه أو ابن ابنته، علا الآباء، أو نزل الأبناء، فلأن بينهم قرابةً تمنع شهادةَ أحدِهِم لواحد منهم، فلم يقطع بالسرقة منه، كالسرقة من مال ابنه، ولأن النفقة تجب للابن في مال أبيه حفظاً له، فلا يجوز لأب إتلافُهُ حفظاً للمال (وزوجته) قال في المنتهى: ولا بسرقة زوج أو زوجة من مال الآخر ولو أحرز عنه. (ولا) قطع على إنسان (بسرقته من مالٍ له فيه شِرْكٌ، أو لأحد ممن ذكر) من عمودي نسب السارق. ولا قطع بسرقةِ مكاتَبٍ من مال مكاتِبِهِ، وعكسه، كقِنِّه. الشرط (السابع) من شروطِ وجوب القطع في السرقة: (ثبوتها) أي ثبوت السرقة (إما بشهادة عدلين) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رجَالِكُمْ} وكان القياسُ قبولَ الاثنين في كل شهادةٍ، لكن خولف فيما ¬

_ (¬1) حديث "أنت ومالك لأبيك ... " تقدم تخريجه في أبواب النفقة.

[كيفية القطع والحسم]

عدا ذلك، للنصّ فيه، فبقي فيما عداه على عمومه. (ويصفانها. ولا تسمع) شهادتهما (قبل الدعوى) من مالك المسروق، أو ممن يقوم مقامه (أو بإقرار) السارق (مرتين) لأنه إقرار يتضمن إتلافاً فكان من شرطه التّكرار كحدِ الزنا. أو يقال: إن الإِقرار أحد حجتي القطع، فيعتبر فيها التكرار. ويصف السارقُ السرِقَةَ في كل مرة. (ولا يرجع حتى يقطع.) ولا بأس بتلقينِهِ الإِنكار. الشرط (الثامن) من شروط وجوب قطعِ السارق: (مطالَبَةُ المسروقِ منه بمالٍ)، أو مطالبةُ وكيلِهِ أو وليِّهِ. (ولا قطع) بسرقةٍ (عامَ مجاعةِ غلاءٍ) إن لم يجد السارق ما يشتريه، أو لم يجد ما يشتري به، نص عليه قال جماعة: ما لم يبذُلْهُ له ولو بثمنِ مثل غالٍ، وفي الترغيب: ما يحيي به نفسه. (فمتى توافرت هذه الشروط) الموجبة لقطع السارق (قطعت يده اليمنى) لأن في قراءة عبد الله بن مسعود (فاقْطعوا أيمانها) وهذا إما أن يكون قراءة، أو تفسيراً سَمِعَهُ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يظن بمثله إن يُثْبِتَ في القرآن شيئاً لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ولأنه قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا مخالف لهما من الصحابة، فيكون إجماعاً. ولأن الغالب من الناس إنما يعمل الأعمال بِيمينه، فكان الأنسب قطعَهَا، لأن السرقةَ جنايتُها في الغالب، دون اليسرى. [كيفية القطع والحسم] ويكون القطع (من مَفْصِلِ كفه) لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ¬

_ (¬1) عبارته "فإنه لا يظن بمثله .. " ليست في (ف).

[العود في جريمة السرقة]

قالا: تقطع يمنى السارقِ من الكُوعِ. ولا مخالف لهما من الصحابة. فكان إجماعاً. (وغُمِسَتْ وجوباً في زيتِ مغليّ) والحكمة في الغمس أن العضو إذا قطع فغمس في الزيت المغلي، اسْتدت أفواهُ العروقِ، فينقطع الدم، إذ لو ترك بلا غمسٍ لنَزَفَ الدّمُ، فأدى إلى موته. (وسُنَّ تعليقُها) أي تعليقُ يد السارق المقطوعة (في عنقه) زاد في البلغة والرعايتين والحاوي (ثلاثةَ أيامٍ إن رآه الإِمام) لتتعظ بذلك اللصوص. [العود في جريمة السرقة] (فإن عاد) إلى السرقة من قُطِعَتْ يده اليمنى (قطعتْ رجلُه اليسرى من مفصِلِ كعبِهِ، بترك عقبه) نص عليه ليمشي عليها، وحُسِمَتْ أيضاً للحكمة المذكورة في قطع اليد. (فإن عاد) فسرق بعد قطع يده ورجله (لم يقطع) منه شيء (وحُبِسَ حتى يموت أو يتوب) لأنه جنى جنايةً لا توجب الحد، فوجب حبسه كفًّا لهُ عن السرقة، وتعزيراً له، لأنه القدر الممكن في ذلك. [ضمان المال المسروق وأجرة القاطع] (ويجتمع) على السارق (القطْعُ والضّمان) أي ضمانُ ما سرقه. نقله الجماعة عن أحمد. لأنهما حقّان يجبان لمستحقينِ، فجاز اجتماعهما، كالجزاءِ والقيمةِ في الصَّيْدِ الحَرَمِيّ إذا كان مملوكاً لآدمي (فيردُّ ما أخذه لمالكه) إن كان باقياً، لأنه عينُ مالِهِ. وإن تلف فعلى سارقٍ مثلُ مثليٍّ وقيمةُ غيره. (ويعيد ما خرب من الحرز) لتعديه.

(وعليه) أي على السارق الذي وجب عليه القطع (أجرةُ القاطِع وثَمَنُ الزيتِ) للحسْمِ في ماله في الأصحّ. أما أجرة القاطع فلأنّ القطع حقٌّ وجب عليه الخروج منه، فكانت مؤنته عليه، كسائر الحقوق، وأما ثمن زيت الحسم فلأنه يَلزمُهُ حفظُ نفسِهِ، وهذا منه، فإنه إذا لم يحسم لم يأمن على نفسه التلف، فوجب لذلك.

باب حد قطاع الطريق

باب حَدّ قطّاع الطّريق (وهم المكلفون الملتزمون) ولو أنثى أو ذميين أو أرقاء (الذين يخرُجُون على الناس) بسلاح ولو عصاً أو حجراً في صحراء أو بنيان أو بحر (فيأخذونَ أموالهم مجاهرةً.) والأصل في حدهم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: نزلت في قطّاع الطريق من المسلمين، لقوله تعالى بعد ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها. فلما خصّ الحكم بما قبل القدرة عُلِمَ أنه أراد المحاربين. قاله في شرح المنتهى. (ويعتبر) لوجوب الحد على المحارب ثلاثة شروط: الأول: (ثبوتُه) أي ثبوت كونِهِ محارباً (ببيّنةٍ أو إقرارٍ مرتين) كما يعتبر ذلك في السرقة. ذكره القاضي وغيره. (و) الثاني: (الحرز) بأن يَغْصِبَ المال من يد مستحقه. فلو وَجَدَهُ مطروحاً ليس بيدِ أحدٍ، أو أخذه من يدِ من غَصَبَهُ لم يكن محارباً. (و) الثالث: (النصاب) وهو القدر الذي يُقْطَعُ به السارق.

وتقدّم قدرُه في الباب قبله. (ولهْم أربعة أحكام): أشار للأول بقوله: (إن قَتَلوا) يعني بقصد المال (ولم يأخذوا مالاً تحتَّم قتلهم جميعاً.) قال في المنتهى: وإن قَتَلَ فقط لقصدِ المال قُتِلَ حتماً ولا يصلب. قال في شرحه: يعني أن المحاربين إذا قتلوا في المحاربةِ بقصدِ المالِ، ولم يأخذوا، قُتِلُوا حتماً ولا يُصْلَبون، على الأصح. انتهى. وأشار للثاني بقوله: (وإن قتلوا وأخذوا مالاً تحتَّم قتلهُمْ وصلْبُهمْ حتَّى يشتهروا) قال في المنتهى: فمن قُدِرَ عليه وقد قَتَلَ، ولو من لا يقاد به (¬1)، كولده وقنّ وذمّيٍّ، لقصد ماله، وأخَذَ مالاً، قُتِلَ ثم صُلِبَ قاتِلُ [من] (¬2) يقاد به، حتى يشتهر. ولا يقطع مع ذلك. انتهى. وأشار للثالث بقوله: (وإن أخذوا مالاً، ولم يَقْتُلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خِلَافٍ حَتْماً) في آنٍ واحد. قال في المنتهى: وإن لم يَقْتُل، وأَخَذَ نصاباً لا شبهة له فيه، لا من مُفْرَدٍ عن قافلةٍ، قطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى، في مقامٍ واحد حتماً، وحسمتا وخلي. انتهى. وأشار للرابع بقوله: (وإن أخافوا الناسَ، ولم يأخذوا مالاً، نُفُوا من الأرضِ، فلا يتركون يأوون إلى بلدٍ حتى تَظْهَرَ توبتُهم) قال في المنتهى: وإن لم يقتُلْ، ولا أَخَذَ مالاً نُفِيَ وشُرِّدَ، ولو قنًّا، فلا يُتْرَكُ يأوي إلى بلد حتّى تظهر توبته. وتُنْفَى الجماعَةُ متفرّقة. انتهى. (ومن مات منهم) أي من المحاربين (قبل القدرةِ عليه سقطت عنه ¬

_ (¬1) (ب، ص، ف): "ولو ممن لا يقاد به"، والتصويب من المنتهى وشرحه. (¬2) الزيادة من المنتهى وشرحه، وهي لازمة لصحة المعنى، وتمامه فيهما "ثم صُلِبَ قاتلٌ من يقاد به لو قتله في غير المحاربة" ومفاده ان الذي يُصْلَب بعد قتله هو من قتل من يكافئه. أما إن كان قتل من لا يكافئه كولده أو عبد أو ذمّي فإنه يقتل فقط ولا يصلب.

[دفع المعتدين]

حقوقُ الله) تبارك وتعالى، من صلبٍ وقطعٍ ونفيٍ وتَحتّمِ قتلٍ، وكذا خارجيٌّ وباغٍ ومرتدٌّ محارب (وأُخِذَ بحقوقِ الآدميين.) ومن وجب عليه حدٌّ سرقةٍ أو زناً أو شربِ فتابَ منه قبل ثبوته عند الحاكم، سقط عنه بمجرد توبته قبل إصلاح عمَلٍ، على الأصح (¬1). فصل [دفع المعتدين] (ومن أريد بأذًى في نفسه، أو) أريدَ (مالُه، أو) أُريدتْ (حريمُهُ) ولو قلّ المال الذي أخَذَه، أو لم يكافئ من أريدتْ نفسُهُ أو حرمته أو مالُه، (فله دفعُهُ) عن نفسه وحرمته وماله (بالأسهل فالأسهل) أي بأسهل شيءٍ يظنُّ اندفاعَه به. (فإن لم يندفع إلا بالقتل قَتَلَهُ ولا شيء عليه) أي على عاقلته. وإن قُتِل كان شهيداً. ومع مزح في قتل يحرم قتلٌ (¬2)، ويقاد به. ولا يضمن بهيمةً صالت عليه إذا قتلها كصغيرٍ ومجنونٍ، لاشتراكهم في المجوّز للدفع، وهو الصول. لكن لا بد من ثبوت صِيَالِها عليه. ولا يكفي قوله في ذلك. هذا ظاهر الفقه. وصرَّح به في الرعاية، ¬

_ (¬1) هذه إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الثانية: لا يسقط، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعِزاً والغامديّة وقَطَع الذي أقرّ بالسرقة وقد جاؤوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحدّ، فلم يخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسقوط الحدّ عنهم، ولو كان قد سقط عنهم لما جاز إقامته عليهم. وانظر المسألة في (المغني 8/ 296) (¬2) العبارة هكذا قلقة، وأصلها في المنتهى وشرحه "ومع مزح يحرم على دافعٍ قتلٌ" أي لأنه لا حاجة إذن إلى القتل. فزاد الشارح هنا "في قتلٍ" ولا حاجة إليها، ومنها جاء الغموض.

فقال: وإن ادعى صياله بلا بيّنةٍ ولا إقرارٍ لم يصدّق. ولم يذكر ذلك في الفروع (¬1). (ويجب) على من أريدت حرمته (أن يدفَعَ عن حريمِهِ) فمن رأى مع امرأتِهِ أو ابنتِهِ أو أختِهِ أو نحوهنّ رجلاً يزني بها، أو رجلاً يلوط بابنه، أو نحوِهِ، وجب عليه قتلُهُ إن لم يندفعْ بدونه، لأنه اجتمَعَ فيه حق الله تعالى، وهو منعه من الفاحشةِ، وحقُّ نفسِهِ بالمنع عن أهلِهِ، فلا يسعه إضاعةُ هذه الحقوق. (و) يجب على كل مكلف أن يدفع عن (حريمِ غيرِهِ). (وكذا) يجب على الإِنسان الدفع (في غير الفتنة عن نفسِهِ ونفسِ غيرِهِ) على الأصح لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ} وكما يحرم عليه قتل نفسِهِ، يحرُم عليه إباحةُ قتل نفسِه. ولأنه قدر على إحياء نفسه فوجب عليه فعل ما تبقى معه الحياة، كالمضطر إذا وجد الميتة. (و) كذا (ماله) يعني وكذا يجب عليه الدفع عن مالِهِ، أي مال غيره، لئلا تذهب الأموال. تنبيه: إنما يجب الدفع عن حرمة غيرِهِ، أو مال غيرِهِ، مع ظنّ سلامة الدافع والمدفوع عن حرمته أو ماله، وإلا حَرُمَ. (لا مالُ نفسِهِ) يعني أنه لا يجب على إنسان دفع من أراد ماله على الأصح، لأنه ليس فيه من المحذورِ ما في النفس، فإن المالَ لا حرمةَ له كحرمةِ النفسِ، فلا يجب عليه أن يفعل بسبب المال ما فيه الخطَرُ على نفسه، لأنه ربما لا يمكنه دفع الصائل بدون القتال، ولا يأمنُ أن يقتله الصائل، فناسَبَ ذلك عدمَ وجوبه عليه. ¬

_ (¬1) لم يصرّح بالحاجة إلى البينة في صيال إنسان، لوضوحه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى قوم دماء رجل وأموالهم".

(ولا يلزمه) أي لا يلزم ربَّ المال (حفطُهُ عن الضَّياع والهلاكِ) قال في الفروع: ولا يلزمه عن ماله على الأصح، كما لا يلزمه حفظه عن الضياعِ والهلاك. ذكره القاضي وغيرُه. وفي التبصرة، في الثلاثة: يلزمه في الأصح انتهى. وله بذل مالِهِ لمن أراده منه على وجه الظلمِ. وذكر القاضي: أن بذلَهُ أفضل من الدفع عنه (¬1). وأن حنبلاً نقله عن أحْمَد. ¬

_ (¬1) في هذا نظر، فقد أثنى الله تعالى على الذين يدفعون البغي عن أنفسهم، وجعل ذلك من صفات المؤمنين، بقوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} فكيف يكون الذين لا ينتصرون لحقوقهم من ظالميهم أفضل؟ وما يأتي بعد ذلك من قوله تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إنما ذلك بعد القدرة على الظالم وإدخاله تحت نير الحق وإقراره وتوبته. وهل كانت كثير من غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لأخذ الحقوق ممن اغتصبها أو فرّ بها. ولعل مراد الإِمام أحمد رحمه الله أنه يترك الدفِع عن ماله إن غلب علي ظنه أنه يُقْتَل. أما حيث يستطيع فلا يكون الترك أفضل، قطعاً. وسيأتي في المتن حالاً شأنُ البغاة، يقول الله فيهم {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} والأمران بابهما واحد. ومن بُغِيَ عليه في اليسير فسكت يوشك أن يبغى عليه في الكثير، حتى يكون عبد العصا، وتضرب عليه الذلة والمسكنة. والله أعلم.

باب قتال البغاة

باب قتال البغَاة البغْيُ الظلم والجَوْر والعدول عن الحقّ. وسُمُّوا بغاةً لأنهم يعدلِونَ عن الحقّ. والأصل في قتالِهِم قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} في الآية خمس فوائد: إحداها: أنه لم يخرجهم بالبغي عن الإِيمان، وسماهم مؤمنين. الثانية: أنه أوجب قتالهم، لأنه أَمَرَ به. الثالثة: أنه أسقط قتالهم إذا فاؤوا إلى أمر الله. الرابعة: أنه أسقط عنهم التَّبِعَةَ فيما أتلفوه في قتالهم. الخامسة: أنها أفادت جوازَ قتالِ كل من يمنع حقًّا عليه (¬1). (وهم) أي البغاةُ (الخارجونَ على الإِمامِ) ولو غيرَ عدلٍ (بتأويلٍ سائغ، ولهم شوكةٌ) ولو لم يكن فيهم مطاعٌ في الأصحّ. ¬

_ (¬1) هذا الثالث هو أصل معنى الآية، أي هي سواء في الخارجين على الإِمام، وغيرهم ممن يبغي على الناس ويأخذ حقوقهم. فعلى المسلمين أن يقوموا مع المظلوم حتى يحصل على حقه من ظالمه.

[رئاسة الدولة]

(فإن اختلّ شرط من ذلك) بأن لم يكن خروجهم بتأويل، أو [كان] بتأويل غير سائغ، أو كانوا جمعاً يسيراً لا شوكةَ لهم (فقطاعُ طريقٍ) يعني فحكمهم حكم قُطّاع الطريق. [رئاسة الدولة] (ونصب الإِمام) على المسلمين (فرضُ كفايةٍ) يُخَاطَب بذلك طائفتان من الناس: إحداهما: أهلُ الاجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من تُوجدَ فيه شرائِطُ الإِمامة حتى ينتصب أحدهم للإِمامة. أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاثة شروط: أحدها: العدالة. والثاني: العلم الذي يتوصّل به. إلى معرفة من يستحق الإِمامة. والثالث: أن يكونوا من أهل الرأي والتدبير المؤدّيين إلى اختيار من هو للإِمامة أصلح. وكونُ نصب الإِمامِ فرضَ كفايةٍ لأن للناس حاجةً إلى ذلك، لحماية بيضة الإِسلام، والذبِّ عن الحَوْزَةِ، و (قامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. (ويعتبر) في الإمام (كونه قرشيًّا) أي من قريش، وهم بنو النَّضْرِ بن كنانة، لحديث "الأئمة من قريش" (¬1) ولقول أحمد، في رواية مهنا: "لا يكونُ من غيرِ قريشٍ خليفة". ¬

_ (¬1) حديث "الأئمة من قريش" رواه أحمد في المسند 3/ 129 و4/ 421 الطبعة القديمة. وقد أعرض عنه صاحب منار السبيل فلم يذكره. وانظر كلام ابن خلدون في مقدمته (ص 197 من الطبعة القديمة المشكولة) في توجيهه لمعنى هذا الحديث، بأنه إنما كانت الخلافة في قريش لأنها كانت مركز عصبية العرب. فلما زالت عصبيتهم لزم نقلها إلى ذوي العصبية أخذاً بعلة الحديث.

(بالغاً عاقلاً) لأن غير البالغ يحتاجُ إلى من يلي أمره، فلا يلي أمره غيره. (سميعاً بصيراً ناطقاً) لأن غير المتصف بهذه الصفات لا يصلح للسياسة؛ (حرًّا) لا عبداً أو مبعّضاً، لأن الإمام ذا الولايةِ العامّةِ لا يكون وليًّا عليهِ غيرُه. وحديث "اسمَعُوا وَأَطِيعُوا ولو وُلّيَ عليكم عبدٌ أسودٌ، كأنَّ رأسَهُ زبيبةٌ" (¬1) محمول على نحو أمير سريّة؛ (ذكراً) لحديث "خابَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة" (¬2)؛ (عدلاً) لاشتراط ذلك في ولاية القضاء، وهي دون الإِمامةِ العظمى فإن قَهَرَ الناسَ غيرُ عدلٍ فهو إمام (¬3). ¬

_ (¬1) حديث "اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبدٌ حَبَشي ... " رواه البخاري. (¬2) حديث خاب قوم ولّوا أمرهم امرأة .. " رواه البخاري والنسائي والترمذي والحاكم وأحمد من طرق عن الحسن عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما كدت أن ألْحَقَ بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال؛ لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" وقال الترمذي: حسن صحيح. ولكن الحسن البصري مدلس وقد عنعنه في جميع طرق الحديث. لكن للحديث طريق أخرى عن أبي بكرة من غير طريق الحسن. وإسنادها جيّد (الإرواء ح 2456) قلتُ أبو بكرة الصحابي المشهور الذي انفرد بهذا الحديث كان قد جلده عمر حدّ القذف وأبطل شهادته ولم يتب بعد ذلك فيما نقل. وفي الترمذي مرفوعاً "المسلمون عدول ... إلا مجلوداً في حد" وقد قال الله تعالى في شأن القاذفين {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * ... إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} وقال {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وعدم قبول روايته المجلود مرويّ عن أبي حنيفة. والجمهور على قبول روايته إن قذف بلفظ الشهادة. (¬3) هذا الحكم: "فإن قهر الناس غير عدلٍ فهر إمام" فيه ما فيه، وإن قال به كثير من متأخري الفقهاء. فإن الله تعالى قال {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فلا تنعقد الإمامة عن غير شورى. ثم تلتها مباشرة الآية {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مما يوحي بأنها في شأن الحكم، أو هي به أخص. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ورد عنه في صحيح البخاري في كتاب الحدود منه (12/ 145 فتح الباري السلفية) "من بايع

[العمل مع الخارجين على الإمام]

(عالماً) بالأحكام الشرعيّة، لاحتياجها إلى مراعاتها في أمره ونهيه. (ذا بصيرةٍ) أي معرفة وفطنة. (كافياً ابتداءً ودواماً) للحروب والسِّياسة وإقامة الحدود، ولا يلحقه رأفة في ذلك، ولا في الذبّ عن الأمة. وأمّا فَقْدُ الشَّم والذَّوْقِ، وتمتمةُ اللسان، وثقلُ السمع، مع إدراك الصوت إذا علا، وقطعُ الذكر والأنثيين، فلا يمنع عَقْدها ولا استدامتها. وذهابُ اليدين والرجلين يمنع ابتداءها واستدامَتَها. (ولا ينعزل بفسقِهِ) بخلاف القاضي، لما فيه من المفسدة. [العمل مع الخارجين على الإِمام] (وتلزم مراسَلَةُ البغاة) لأن المراسلة طريقٌ إلى الصلح، ووسيلةٌ إلى رجوعهِم إلى الحق، وقد روي أنّ عليّ بن أبي طالب راسَلَ أهل البصرة قبل وقعة الجمل، ولما اعتزلَتْهُ الحروريّة بعث إليهم عبْدَ الله بن عباس. (و) تلزمه أيضاً (إزالة شُبَهِهِمْ) لأن في كشف شبههم رجوعاً إلى ¬

_ = رجلاً من غيرِ مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة أن يقتلا". وقولهم: تخشى الفتنة بعزله، فالفتنة بقاؤه، فإن عُجِزَ عن إزالته لم يكن ذلك مثبتاً لإمامته، بل هو غاصب يزال عند القدرة عليه. وهم قد اشترطوا في الإمام الشروط المذكورة في المتن والشرح، ومعنى اشتراطها عدم الصحة عند فقدها، وهذا يستدعي إزالته عند فقد شيء منها، إذ ما معنى اشتراطها إن كان لا يزال عند فقده لها؟ فإن ثبت أنه يزال عند فقد الشرط، فكذا يزال إن اغتصب الإمامة دون حق. وعدم انعقادها بالغلبة قول الجمهور كما في الأحكام السلطانية للماوردي ص 8 وفي ذلك روايتان عن الإِمام أحمد أوردهما أبو يعلى في كتابه الأحكام السلطانية ص 7. وإن على الأمة الإسلامية أن تضع من الترتيبات السياسية، من المجالس النيابية والقضاء الدستوري وغير ذلك ما ييسّر أمر إنهاء ولاية الإمام إذا تبيّن عدم شرعية انتخابه، أو فقد منه شرط أو أكثر من شروط الإمامة المعتبرة.

الحق، وذلك المطلوب منهم. (و) تلزمه أيضاً إزالة (مَا يَدّعونَهُ من المظالم) لأنّ ذلك واجب مع عدم إفضاء الأمر به إلى القتلِ والهرْجِ، فلأن يجب في حالٍ يؤدّي إلى ذلك بطريق الأوْلى. وذلك لأن الله تعالى أمر بالإِصلاح أوَّلاً في قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} والإِصلاح إنما يكون بمراسلتهم، وكشْف شبههم، وإزالة ما يدّعونه من مظلمة. (فإن رجعوا) عما هم فيه من البغي وطلب القتال (وإلا لَزِمَهُ) أي الإمام إن كان قادراً (قتالُهمِ) لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}. (ويجب على رعيّته معاوَنَتُهُ) على قتالهم (¬1)، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. (وإذا ترك البغاةُ القتالَ حرم قتلُهُمْ) لقول عليٍّ رضي الله عنه: "ومن ألقى السلاح فهو آمن". (و) يحرم أيضاً (قتل مدبرهم، و) قتل (جريحهم). (ولا يُغْنَمُ مالهم) لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين. (ولا تسبى دراريهم). (ويجب ردّ ذلك إليهم) فمن وَجَدَ ماله بيد غيره من أهل العدل أو البغي أخذه منهم. ومن أُسِرَ منهم ولو كان صبيًّا أو أنثى حُبِسَ حتى تنكسر شوكتهم، وتنقضي حربُهُمْ، لأن في إطلاقهم قبل ذلك ضرراً على أهل العدل. (ولا يَضْمنُ البغاة ما أتلفوه) على أهل العدل (حال الحرب) على الأصحّ، كما أنه لا ضمان على أهل العدل فيما أتلفوه على أهل البغي. ¬

_ (¬1) إما إن كانوا يدّعون حقاً أو يطلبون كشف مظلمة فلم يفعل لم تجز معاونته عليهم.

(وهم) أي أهل البغي (في شهادتهم، و) في (إمضاء حكم حاكمهم، كأهل العدل). لأن التأويل الذي له مساغٌ في الشرع لا يوجب تفسيق قائلِهِ والذاهِب إليه، أشبه المخطى، من الفقهاء في فرع من الأحكام.

باب حكم المرتد

باب حُكم المُرتد وهو لغةٌ الراجع. قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}. (وهو) شرعاً (من كفر بعد إسلامه) ولو مميّزاً، بنُطْقٍ، أو اعتقادٍ، أو شكٍّ، أو فعلٍ طوعاً ولو هازلاً. (ويحصُلُ الكفر بأحدِ أربعة أمور): أشار للأول بقوله: (بالقول، كسبّ الله) تبارك و (تعالى، أو) سبِّ (رسولهِ) أيّ رسولٍ كان، (أو) سبِّ (ملائكته) كَفَر (¬1)، لأنه لا يسبُّ واحداً منهم إلاَّ وهو جاحِدٌ به، أو جَحَدَ ربوبيّةَ الله تعالى، أو وحدانيَّتَه، أو كتاباً من كتبه، أو صفةً من صفاتِهِ اللازمة له، كالحياةِ والعلم، أو جَحَد رسولاً له من الرسل، أو من الملائكة الذين ثَبَتَ أنهم رسله، أو ملائكته، كَفَر، لثبوتِ ذلك في القرآن، ولأن جَحْد شيءٍ من ذلك كجحد كله، لاشتراكهما في كون الكل من عند الله تعالى، أو جَحَدَ وجوب عبادة من العبادات الخمس، ومنها الطهارة، (أو ادعاءِ النبوة) أو ¬

_ (¬1) هكذا بصيغة الفعل لا بصيغة المصدر، والكلام -على كلا الاحتمالين- فيه ركاكة مصدرها الشارح لا المصنّف. وكان على الشارح أن يحذف قوله "كفر" أو يتصرف بما ينايسب المقام.

صدَّقَ من ادّعاها، كَفَر، لأنه مكذّبٌ لله سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعةُ حتى يخرجَ ثلاثونَ كذابونَ كلُّهم يزَعم أنه رسول الله." (¬1) (أو) ادعاءِ (الشركةِ لهُ) سبحانَه و (تعالى). وأشار للثاني بقوله: (وبالفعلِ، كالسجود للصنم ونحوِهِ) كالشمس والقَمَرِ، لأن ذلك إشراك، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (وكإلقاءِ المصْحَفِ في قاذورةٍ) قال في المنتهى: أو امتَهنَ القرآن. وأشار للثالث بقوله: (وبالاعتقادِ، كاعتقاد الشريك له) سبحانه و (تعالى. أو) اعتقد (إنّ الزنا) حلال كَفَر، (أو) اعتَقَد أن (الخمْر حلال) كفر، (أو) اعتقد (إن الخبز حرام، ونحو ذلك) كاللحم والماء (مما أُجْمعَ عليه إجماعاً قطعيًّا) كفرَ. وأشار للرابع بقوله: (وبالشكّ في شيء من ذلك) ومثله لا يجهله، كالناشئ في قرى الإِسلام كَفَر، لأنه مكذّبٌ لله سبحانه وتعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأمة. (فمن ارتدّ وهو مكلّفٌ مختارٌ) ولو كان أنثى دُعي إلى الإِسلام، و (استتيب ثلاثة أيام وجوباً،) لأنه أمكن استصلاحُهُ، فلم يجزْ إتلافه قبل استصلاحه. وإنما كانت ثلاثة أيامٍ لأن الردة إنما تكون لشبهةٍ، ولا تزول في الحال، فوجب أن ينظر مدةً يتروى فيها. وأولى ذلك ثلاثة أيام، للأثر (¬2). ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال "لا تقوم الساعة حتى يُبْعثَ دجّالونَ كذّابون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله" رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي (الفتح الكبير 3/ 335). (¬2) يعني بالأثر ما ورد عن عمر في مرتدّ قتل في الحال، قال عمر رضي الله عنه "فهلا =

[إسلام الصغير وردته]

وينبغي أن يضيّق عليه ويحبس. (فإن تاب) في مدة الاستتابة برجوعِهِ إلى إسلامه (فلا شيء عليه) من قتلٍ أو تعزيرٍ. (ولا يَحْبَطُ عَمَلُه) الذي عمله في حال إسلامه، قبل رِدَّتِهِ من صلاةٍ وحجٍّ وغيرِهِما إذا عاد إلى الإِسلام. (وإن أصرّ) على ردته (قتل بالسيف) لأنه آلة القتل، ولا يحرَّق بالنار (ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه) سواء كان المرتد حرًّا أو عبداً لأنه قتلٌ لحقّ الله تعالى، فكان إلى الإمام، كرجم الزاني، وقتل الحد. (فإن قتله) أي المرتد (غيرُهما) أي غيرُ الإمام أو نائبه (بلا إذنٍ) من واحد منهما (أساءَ وعُزِّرَ) لافتياته على وليّ الأمر، (ولا ضَمانَ) على قاتله (ولو كان) قتله (قبل استتابته) لأنه مُهْدَرُ الدم في الجملة، وردَّتُهُ مبيحةٌ لدمه، وهي موجودة قبل الاستتابة كما هي موجودة بعدها، إلاَّ أن يلحق بدار حربٍ فلكل واحدٍ قتلُه وأخْذُ ما معه من المال، لأنه صار حربيًّا. تتمة: من أطلق الشارعُ كفرَهُ، كدعواه لغير أبيه، ومن أتى عرافاً فصدّقه، فهو تشديدٌ لا يخرج به عن الإِسلام. [إسلام الصغير وردته] (ويصح إسلام المميّز) الذي يعقل الإسلام من ذكرٍ وأنثى، ومعنى عقلِهِ الإسلام أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى ربُّه لا شريكَ له، وأن محمداً عبدُهُ ورسوله للناس كافة، لأن عليًّا رضي الله عنه، أسلم وهو ابن ثمانِ سنين. أخرجه البخاري. ¬

_ = حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً وأسقيتموه لعله يتوب أو يراجع الله" رواه مالك في الموطأ (شرح المنتهى).

[في توبة المرتد]

(و) تصح أيضاً (رِدَّتُهُ) على الأصح، لأن الردة هي الكفر بعد الإِسلام (لكن لا يُقْتَلُ) الصغير الذي ارتدّ، ولا سكران (حتى يستتابَ) كل واحد منهما (بعد بلوغِهِ) أي بلوغ الصغير وصَحُوِ السكران (ثلاثَةَ أيام). وإن مات وهو سكرانُ في سكرِهِ، أو مات الصغير قبل بلوغٍ وقبل توبةٍ، مات كافراً. فصل [في توبة المرتد] (وتوبة المرتد، و) توبة (كل كافرٍ، إتيانه بالشهادتين) وهو قول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشْهَدُوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، ويقيمُوا الصَّلاة، ويؤتُوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهُم وأموالَهُم إلا بحقّ الإِسلام وحسابُهم على الله عز وجل" متفق عليه من رواية ابن عمر. وهذا يدل على أن العِصمة تثبت بمجرّد الإِتيان بالشهادتين، (مع رجوعِهِ عمّا كَفَر به) أي مع إقرار جاحدٍ لفرضٍ أو تحليلٍ أو تحريمٍ أو نبيٍّ أو كتابٍ أو رسالةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى غيرِ العرب، بما جحده. (ولا يغني قوله) أي قول الكافر: ("محمد رسول الله" عن كلمة التوحيد) وهي "أشهد أن لا إله إلا الله [وأشهد أن محمداً رسول الله] " (¬1) ولو من مقر بالتوحيد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (ف).

[توبة الزنادقة]

(وقوله "أنا مسلم" توبة) وإن لم يلفظ بالشهادتين، لأنه إذا أخبر عن نفسه بما تضمّن الشهادتينِ كان مخبراً بهما. (وإن كَتَب كافرٌ الشهادتينِ) بما يُبِينُ (صار مسلماً) لأن الخطّ كاللفظ، فإذا تلفّظ كافرٌ بالشهادتين، أو كتبَهما، ثم قال: لم أُرِدِ الإِسلام، فقد صارَ مرتدًّا، ويجبر على الإِسلام. (وإن قال) كافر: (أسلمت، أو: أنا مسلم، أو: أنا مؤمن، صار مسلماً) بهذا القول وإن لم يتلفظ بالشهادتين. فلو قال: لم أُرِدِ الإِسلام، أو قال: لم أعتقده، لم يقبل منه ذلك، وأجبر على الإِسلام وقد علم ما يراد منه. وإن قال: أنا مسلم ولا أنطق بالشهادتين، ولا يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين. [توبة الزنادقة] (ولا يقبل في الدنيا بحسَبِ الظاهر) بحيث يُتْرَك قتلهم وتثبت أحكام الإِسلام في حقّهم (توبةُ زنديقٍ,. وهو المنافِقُ الذي يُظْهِرُ الإِسلام ويخفي الكفر) لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} والزنديق لا يُظْهرَ منه على ما يتبين به رجوعه وتوبته، لأن الزنديق لا يظهر منه بالتوبة خلافُ ما كان عليه، فإنه كان ينفي الكفر عن نفسه قبل ذلك. وقلبه لا يطَّلِع عليه إلا الله، فلا يكون لما قاله حكم، لأن الظاهر من حاله أنه إنما يستدفع القتل بإظهار التوبة في ذلك. والمشهور على ألسنة الناسِ أن الزنديقَ هو الذي لا يتمسُكُ بشريعةٍ، ويقول بدوامِ الدهر. والعربُ تعبِّر عن هذا بقولهم: "مُلْحِدٌ" أي طاعن في الأديان. ولا تقبل توبة الحلوليّة، ولا المباحية (¬1)، وكمن يفضّل متبوعَه على ¬

_ (¬1) كذا في (ب، ص)، وفي (ف) الإباحية. ولعلهم الذين يرون أنه لا تحريم. وأما =

[الردة التي لا تقبل التوبة منها]

النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يعتقد أنه إذا حصلت له المعرِفَةَ والتحقيق سقط عنه الأمر والنهيُ، أو يعتقد أن العارِفَ المحقّق يجور له التدّين بدين اليهود والنصارى، فلا يجب عليه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأَمثال هؤلاء الطوائف المارقين من الدين، فلا تقبل توبتُهم في الظاهر كالمنافق (¬1). [الردة التي لا تقبل التوبة منها] (ولا) تقبل توبة (من تكرّرت ردته) لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ولأنّ تكرار الردة منه يدل على فساد عقيدتِهِ، وقلَّةِ مبالاتِهِ بالإِسلام؛ (أو سبّ الله) سبحانه و (تعالى) سبًّا صريحًا. يعني أنه لا تقبل توبةُ من سبَّ اللهَ على الأصح، لأن ذنبه عظيمٌ جداً يدلُّ منه على فسادِ عقيدتِهِ واستخفافِهِ بالله الواحد القهار، (أو) سبَّ (رسولَهُ) أيّ رسولٍ كانَ (أو ملكاً له) يعني أنه لا تقبل توبةُ من سبَّ رسولاً أو مَلَكَاً لله سبحانه وتعالى، أو تَنَقَصَهُ. ومن أظهر الخير، وأَبْطَنَ الفسق، كزنديقٍ في توبته. (وكذا) لا تقبل توبة (من قذف نبيًّا) من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (أو) قذف (أمّه) كَفَر لما في ذلك من التعرض للقَدْحِ في النبوّة الموجِبِ للكُفْر. (ويقتلُ حتّى ولو كانَ كافراً) ملتزماً (فأسلم) لأن قتلَهُ حدُّ قذفِهِ، فلا يسقِطُ بالتوبة، كقذفِ غيرِهما. ¬

_ = الحلولية فهم الذين يزعمون أن الله -جل وعلا- حلّ في أشياخهم أو أقطابهم. (¬1) النصارى حلولية، وقد قالوا (إن الله هو المسيح بن مريم) ويقبل إسلامهم. ففيما قاله بالنسبة إلى الحلولية فيه نظر، ويحرّر.

ومن قَذَفَ عائشة رضي الله تعالى عنها بما برّأها الله تعالى منه كَفَر، بلا خلافٍ. ومن سبَّ غيرها من أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، ففيه قولانِ: أحدُهما أنه كسبِّ واحدٍ من الصحابة. والثاني: هو الصحيح، أنه كقذفِ عائشةَ رضي الله تعالى عنها، لقدحه فيه - صلى الله عليه وسلم -. ومن أنكرَ صحبةَ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد كفر، لقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ}.

كتاب الأطعمة

كتَاب الأطعَمة واحِدُها طعامٌ، وهو ما يؤكَلُ ويُشرَب. وأصلها الحل. (يباحُ كلُّ طعامٍ طاهر) ليخرج النجس والمتنجّس (لا مضرَّةَ فيه) احترازاً من السموم (حتى المِسْكُ ونحوُه) مما لا يؤكل عادةً، كقِشْرِ البيض، وقرن الحيوان، إذا صار بصفةٍ يسوغُ أكلُهما، كما لو دُقَّا، أو نحو ذلك. وقد سأل الشالنجيُّ الإِمامَ أحمدَ عن المسك يُجعَل في الدواء ويشرب، قال: لا بأس به. [الأطعمة المحرمة] (ويحرم النجس، كالميتة والدم) لأن أكلَ الميتة أقبحُ من أن يُدْهَنَ بدُهْنِها أو يُستَصْبَحَ به، وهما حرامان، فيحرم ما هو أقبح، بطريق الأولى (¬1). (ولحمُ الخنزير) بلا خلافٍ بين المسلمين، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}. (وكذا) يحرم (البولُ والرَّوْثُ، ولو) كانا (طاهرين) لاستقذارِهِما، ¬

_ (¬1) ليته لم يذكر هذا الاستدلال، فإنه قياس للجليّ على الخفيّ.

[السباع المفترسة]

بلا ضرورةٍ، فإن اضطرّ إليهما، أو إلى أحدهما جاز. (ويحرُم من حيوانِ البرِّ الحُمُرُ الأهليّةُ) قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمِها. وسَنَد الإِجماع ما روى جابرٌ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى يوم خيبرَ عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل" متفق عليه. [السباع المفترسة] (و) يحرم أيضاً (ما يفترس بنابه) أي ينهَشُ (كأسدٍ ونَمِرٍ وذئبٍ وفهدٍ وكلبٍ) لما روى أبو ثعلبة الخُشَنِيّ، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كلِّ ذي نابٍ من السباع" متفق عليه. (وقردٍ،) قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بين علماء المسلمين في أن القردَ لا يُؤكَلُ، ولأن له ناباً، فيدخل في عموم التحريم. وهو مِسْخٌ أيضاً (¬1)، فيكون من الخبائثِ؛ (ودُبٌّ ونِمسٌ وابنُ آوى) هو شبه الكلب، ورائحته كريهة، (وابنُ عِرْسٍ) بالكسِر. قاله في الحاشية (وسِنَّوْرٌ ولو) كان (بَرِّياً، وثعلبٌ) على الأصح. (و) يحرم (سِنْجَابٌ وسَمُّورٌ) (¬2) وفَنَكٌ (¬3). [محرمات الطيور] (ويحرم من الطير ما يصيد بمخلبه، كعقابٍ وبازٍ وصَقْرٍ وباشقٍ وشاهينٍ وحِدَأَةٍ) تم على وزن عِنَبَةٍ، (وبومةٍ) وهذا قَول أكثر أهل العلم، ¬

_ (¬1) المسخ لا يكون له نسلٌ، كما ورد في بعض الأحاديث. (¬2) السَّمُّورُ، وجمعه سمامير، كتنُّور وتنانير، حيوان يشبه النمس يكون ببلاد الروس يصطادونه. (مصباح) ويؤخذ من جلده الفراء (لسان). (¬3) الفَنَكُ (بالتحريك) دابة يتخذ من جلدها الفراء (لسان) وهو قريب الشبه بابن آوى.

[الحشرات ونحوها]

منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه وأصحابُ الرأي. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحرُمُ من الطير شيء. واحتجُّوا بعموم الآيات المبيحة، وقولِ أبي الدرداء وابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: "ما سكت الله تعالى عنه فهو مما عفا عنه" ولنا ما روى ابن عباس قال: "نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي نابٍ من السباعِ (¬1) وكل ذي مِخْلبٍ من الطير" فيدخل في هذا كل ما له مخلب يعدو به. (و) يحرم أيضاً (ما يأكل الجِيَفَ) من الطير (كنسْرٍ ورَخَمٍ وقاقٍ) ويسمى العَقْعَقَ، بوزن جَعْفَر، طائرٌ نحوُ الحمامة، طويل الذنب، فيه بياضٌ وسوادٌ، وهو نوعٌ من الغربان تتشاءم به العرب. قاله في الحاشية. ويحرم أيضاً اللَّقْلَق، طائرٌ نحوُ الإِوزٌ طويلُ العُنُقِ يأكُلُ الحيّات. (وغرابُ) بَيْنٍ (¬2). [الحشرات ونحوها] [ويحرمٌ] (خُفَّاشٌ) أي وَطْوَاطٌ، قال أحمد رضي الله تعالى عنه: ومن يأكلُ الخفاش؟ (وفأرٌ) يقرأ بالهمزة (وزُنْبورٌ ونَحْلٌ وذُبابٌ) وفراشٌ وطبابيعُ وقمل وبراغيث (وهُدْهُدٌ وخُطَّافٌ) طائرٌ أسودُ معروفٌ. (وقنفذٌ ونيصٌ) وهو عظيمُ القنافِذِ، قدرُ السخلة، على ظهرِهِ شوكٌ طويل نحو ذراعٍ. (وحيَّةٌ) وقال مالك: هي حلالٌ إذا ذُكِّيتْ. (وحَشَرات) يعني: وباقي الحشرات كالديدان، والجُعْلان، وبناتِ ¬

_ (¬1) حديث "نهى عن كل ذي ناب من السباع. وكلّ ذي مخلب من الطير" أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة. ولكنه لم يخرج البخاري قوله "وكل ذي مخلب من الطير" وأخرجه سائرهم. (¬2) وأما غراب الزرع فهو مباح وسيأتي ذكره في المباحات قريباً.

وَرْدَان، والخنافس، والأوزاغ، والحِرْباء، والعَقَارب، والحراذين (¬1) ويحرم كل ما أمر الشرع بقتله كالجراذين، أو نهى عن قتله، كالنَّحْلِ والنَّمل. ويحرم ما تولّد بين مأكولٍ وغيره، كبغلٍ. وما تجهلُه العربُ، ولا ذُكِرَ في الشَّرع، يُرَدُّ إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز. فإن لم يشبه شيئاً بالحجاز فهو مباحٌ. ولو أشبَه مباحاً ومحرماً غلب التحريم. (ويؤكل ما تولد من مأكولٍ طاهرٍ كذُبابٍ الباقلاً، ودودِ الخَلّ، و) دود (الجبنِ تبعاً) لما تولد منه (لا انفراداً.)، وقال ابن عقيل: يحلّ بموته. قال أحمد في الباقّلا المدوِّدة: ويجتنبه أحبُّ إلي، وإن لم يتقذَّرْهُ فأرجو. وقال عن تفتيش التَّمرِ المدوِّد: لا بأسَ به إذا علمه. وكره أحمل جعل التمر والنوى في شيءٍ واحد (¬2). فائدة: ما أحدُ أبويه المأكولينِ من الحيواناتِ مغصوبٌ فكأمِّه لا كأبيه، فإن كانت الأمُّ مغصوبةً لم تحلّ هي ولا شيء من أولادِها للغاصب. وإن كان الأبُ مغصوباً لم يحرم على الغاصب شيء من أولاده. ¬

_ (¬1) (ف، ص) كالجراذين (بالجيم)، و (ب) كالحراذين (بالحاء)، وهو أصح لأن ذكر الجراذين يأتي. والحراذين جمع حرذون دويبة سوداء كالحرباء تعيش بين الصخور. والجراذين جمع جُرَذ وهو الفأر الكبير. (¬2) أي أن يجعل الآكل نوى التمر إذا أكله مع التمر الذي لم يؤكل، في إناء واحد (عبد الغني).

[في الحيوانات المباح أكلها]

فصل [في الحيوانات المباح أكلها] (ويباح ما عدا هذا) الذي ذكرنا أنه حرامٌ، لعموم النصوص الدالّة على الإِباحة. والذي عداه (كبهيمةِ الأنعام) وهي الإِبل، والبقر، والغنم، لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (¬1) (والخيل) كلِّها، عرابِها وبراذينها، نصّ عليه أحمد. (وباقي الوحوش، كضَبُعٍ) وإن عرف بأكل الميتة فكجَلاّلة. قاله في الروضة. (وزرافة) وهي دابّة تشبه البعير، إلا أن عنقها أطول من عنقه. وجسمها ألطفُ من جسمهَ. ويداها أطولُ من رجليها. سئل أحمد عنها: هل تؤكل؟ قال: نعم. وهي مباحة لعموم النصوص المبيحة، ولأنها مستطابة أشبهت الإِبل؛ (وأرنب) قال في المغني: أكلها سعد بن أبي وقاص، ورخّص فيها أبو سعيد وعطاء وابن المسيب والليث ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر. ولا نعلم قائلاً بتحريمِها إلاَّ شيئاً روى عن عمرو بن العاص. (ووَبْرٍ) بسكون الباء، لأنه طيّب يعتلف النبات والبقول، فكان مباحاً كالأرنب؛ (وَيرْبُوعٍ) نصّ عليه أحمد. وبحلهِ، قال عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وحرّمه أبو حنيفة، لأنه شبيه الفأر؛ (وبقرِ وَحْشٍ) على اختلافِ أنواعها من الأيِّل، والثَّيْتَلِ، والوَعِلِ، والمَهَا (وحُمُرِهِ) أي حُمُر الوحش؛ (وضَبٍّ) يروى حلُّه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وأبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنهم، قال أبو سعيد: كنا معشر أصحابِ محمدٍّ - صلى الله عليه وسلم - لأن يهدى لأحِدِنا ضبٌّ أحبُّ إليه من ¬

_ (¬1) في الأصول (وأحلّت لكم بهيمة الأنعام) فحذفنا الواو.

[الحيوانات البحرية]

دجاجةٍ، قاله في الحاشية. وهو دابَّةٌ تشبه الحرذون، من عجيب خلقته أن الذكر له ذكران، والأنثى لها فرجان تبيض منهما. (وظباءٌ) بجميع أنواعها، لأنها كلها تفدى في الإِحرام والحرم. (وباقي الطير كنعامٍ ودجاجٍ) بفتح الدّال، وكسرها لغةٌ، الواحدةُ دجاجةٌ للذكر والأنثى (¬1). (ويَبِّغَا) بتشديد الباء الموحدة، وهي الدُّرَّة. وشحرور. (وزاغ) طائر صغير أغبر (¬2). (وغراب زرع) وهو أسودُ كبيرٌ يأكل الزرع ويطير مع الزاغ، لأن مرعاهما الزرع والحبوب، أشبه الحَجَل. وكالحمام بأنواعه من الفواخِتِ، والقَمَاريّ، والجَوَازِلِ، والرُّقْطِي، والدَّباسيّ، وتقدم. [الحيوانات البحرية] (ويحل كلُّ ما في البحر) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (غيرَ ضفدعٍ) لأنها مستخبثة، فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (و) غير (حيّةٍ) لأنها من الخبائث، (و) غير (تمساحٍ) نص عليه لأنه يفترس بنابه، وقال ابن حامد والقاضي: وغيرَ الكَوْسَج وهو سمكة تسمى القِرْش (¬3) لها خرطوم ¬

_ (¬1) كذا قال أهل اللغة لأن الجنس (الدجاج)، فالتاء للوحدة لا للتأنيث ويخصّ الذكر باسم (الديك). (¬2) هو نوع من الغربان صغير (اللسان) وفي حاشية الشيخ اللبدي: هو الزرزور، وأما الذي يسمى في بلادنا (يعني فلسطينِ): الزاغ، فهو غراب الزرع. وفي قوله: إنه الزرزور نظر لأن الزرزور ليس غرابًا، فناقَض ما في اللسان. (¬3) قوله "تسمى القرش" ليس في (ف). وفي اللسان "تسمى اللُّخْم". قلت: القرش عند أهل الكويت يسمى الجرجور، واللخمة معروفة عندهم وهي سامة، ولكن ليس لها خرطوم كالمنشار، ولا للقرش.

[الجلالة]

كالمنشار، والأشهر أنه مباح كخنزيرِ الماء وإنسانِهِ وكلبِه. [الجلاَّلة] (وتحرمُ الجلّالة التي أكثر علفها) أي غذائها (النجاسة، و) يحرم (لبنها وبيضها،) على الأصحّ لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكلِ الجلاَّلة وألبانها" (¬1) قال القاضي: هي التي تأكل العذرة. فإن كان أكثرُ علفها النجاسةَ حرم لحمُها ولبنُها. وإن كان أكثرُ علفها الطاهر لم تحرم. قال الموفق: وتحديدُ الجلاّلة بكونِ أكثرِ علَفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد. ولا هو ظاهر كلامه. لكن يمكن تحديده بما يكون كثيراً في مأكولها، ويعفى عن اليسير (حتّى تحبَسَ ثلاثاً) أي ثلاثَ ليالٍ بأيامهن. نصّ عليه. لأن ابن عمر كان إذا أراد أكلها يحبسها ثلاثاً، (وتطعمُ الطاهر) وتمنَعُ من النجاسةِ، طيراً كانت أو بهيمةً. ومثله خروفٌ ارتضعَ من كلبةٍ، ثم شربَ لبناً طاهراً أو أكلَ شيئاً طاهراً ثلاثة أيام. وُيكره ركوب الجلالة. [الأطعمة المكروهة] (ويكره أكلُ ترابٍ وفحمٍ) قال في الإِنصاف: جزم به في الرعايتين والحاوي وغيرهم. (وطينٍ) لضرره. نصًّا. ونقل بعضُهم أن أكله عيب في المبيع. نقله ابن عقيل. لأنه لا يطلبه إلاَّ من به مرض. ¬

_ (¬1) حديث "نهى عن أكل الجلالة وألبانها" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وهو حديث صحيح (الإرواء ح 2503)

[في أحكام المضطر]

(و) يكره أيضاً أكل (أُذُنِ قلبٍ) وغدة. (وبصلٍ وثومٍ ونحوهما) كالكرّاث (ما لم يُنْضَجْ بطبخٍ). ويكره أكلُ كلّ ذِي رائحة كريهة، ولو لم يردْ دخول المسجد. فإن أكله كره له دخولُه حتى يذهب ريحه. ويكره أَكْلُ حَبٍّ دِيسَ بِحُمُرٍ أو بغالٍ (¬1). وينبغي أن يغسل. ويكره مداومة أكل اللحم، وأكل لحم نيء ومنتنٍ (¬2). قاله في الإقناع، وخالفه فيهما في المنتهى (¬3). فصل [في أحكام المضطرّ] (ومن اضطُرَّ) بأن خاف التلف إن لم يأكل (جازَ له أن يأكُلَ من المحرَّم ما يسدّ رمقه فقط) قال في الإِقناع: ومن اضطُرَّ إلى محرّمٍ مما ذكرنا، حضراً أو سفراً، سوى سمٌّ ونحوِهِ، بأن يخاف التلف، إما من جوعٍ، أو يخافُ إن تركَ الأكلَ عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمنٍ مخصوصٍ، وَجَبَ عليه أن يأكل منه ما يسدّ رمقه ويأمنُ معه الموت. وليس له الشبع. وقَيَّدَ في المنتهى السفر بالمباح، فإن كان في محرّمٍ ولم يتبْ فلا. (ومن لم يجد) من المضطرين (إلاّ آدميًّا مباحَ الدم، كحربيٍّ وزانٍ ¬

_ (¬1) أي لأنها تبول وتروث عليه، وبولها وروثها نجسان. (¬2) سقط من (ب، ص) لفظ "نيء" وهو ثابت في (ف) والمنتهى. (¬3) أي قال صاحب المنتهى أن النيء والمنتن لا يكرهان. ونسبه إلى نصّ أحمد.

[الأكل من الثمر المعلق]

محصنٍ فله قتله وأكله،) لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع. وكذا إن وجده ميتاً فإنه يجوز له أكله لأن أكله بعد قتله كأكله بعد موته، لا أكلُ معصومِ ميتٍ. (ومن اضطُرَّ إلى نفعٍ بمال الغيرِ مع بقاءِ عينِه) إما لدفعِ بردٍ كثيابِ، وكل ما يُتَدثَّر به، والمِقْدَحةِ ونحوِها، أو استِقاءِ ماءٍ، كالدلوِ والحبَل ونحو ذلك (وجب على ربّه بذله له) أي لمن اضطر إليه (مجاناً) أي من غير عوضٍ عن انتفاع المضطر في الأصحّ. [الأكل من الثمر المعلّق] (ومن مرّ بثمرة بستانٍ) على شجرٍ، أو ساقطٍ تحته (لا حائط عليه ولا ناظر) (¬1) أي حافظ ولو غيرَ مسافرٍ ولا مضطرّ (فله) أن يأكل منه مجاناً، ولو لغير حاجةٍ، ولو عن غصونه (من غيرِ أن يصعدَ على شجرةٍ، أو يرميهِ بحجرٍ، أن يأكلَ) (¬2) لأن كلاً من الضرب والرمي يفسد الثمرة. (ولا يحملُ) شيئاً من الثمر، ولا يأكلُ من ثمرٍ مجنيٌّ مجموعٍ إلا لضرورة. (وكذا) أي وكثمر الشجر (الباقلّا والحمِّص) الأخضرين (¬3). وكذا زرعٌ قائم، وشربُ لبنِ ماشيةٍ على الأصحّ، أما الزرعُ فلأن العادةَ جاريةٌ بأكل الفَرِيكِ، أشبه الثمر، وأما شرب لبنِ الماشية فلما روى الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أتى أحَدُكمْ على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبُها فليستأذنه، وإن لم يُجِبْهُ أحدٌ فليحتلب ويشربْ ولا يحمل" رواه الترمذي (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (ب، ص) وشرح المنتهى، وفي (ف): "ناصر" ولعله "ناطر" بالطاء المهملة، فقد تعارف أهل الشام وفلسطين على تسمية من يحرس الكرم "الناطر" أو "الناطور". (¬2) في تكرار عبارة "أن يأكل" ما فيه. (¬3) كذا في الأصول. وصوابه "الأخضران". (¬4) وأبو داود والبيهقي والضياء، وهو حسن (صحيح الجامع الصغير).

[حق الضيافة]

تنبيه: ما لم تجر العادة بأكله رَطْباً لا يجوز الأكل منه، لعدم الإِذن فيه شرعاً وعادة، كالشعير ونحوه. [حق الضيافة] (وتجب ضيافة المسْلِمِ) المسافرِ المجتازِ (على المسلم) إذا نزل به (في القرى دون) الضيافة في (الأمصار،) لأنه يكون فيها السوِقُ والمساجدُ، فلا يحتاج مع ذلك إلى الضيافة، بخلاف القرى فإنه يبعد فيها البيعُ والشراءُ، فوجبت ضيافة المجتاز إذا نزل بها (يوماً وليلةً) مجاناً، فلا يلزم الضيفَ عوضُ الضيافةِ، وهي قدرُ كفايتِهِ مع أدمٍ. وفي الواضح: لفرسه تبنٌ لا شعير. قال في الفروع: ويتوجّه وجهٌ: كأدمه. فإن أبى فللضيف طلبه به عند الحاكم. فإن تعذّر جازَ له الأخذ من مالِهِ بقدرِ ما وجب له. ولا تجب للذمّيّ إذا اجتاز بالمسلم. (وتستحبُّ) ضيافته (ثلاثاً) أي ثلاثَ ليال بأيامهن. والمراد يومان مع اليوم الأول. فما زاد على الثلاث فهو صدقة. ولا يجب عليه إنزاله في بيته إلا أن لا يجد مسجداً أو رباطاً ونحوهما يبيت فيه، ولا يخافُ ضرراً.

باب الذكاة

باب الذّكَاة قال الزجّاجي: أصل الذكاةِ تمامُ الشيءِ، فمنه الذكاة في السّنّ، وهو تمام السن. وسمّي الذّبحُ ذكاةً لأنه إتمام للزهوق. (وهي) أي الزكاة، شرعاً (ذبحُ) الحيوانِ (أو نحرُ الحيوان المقدورِ عليه) المباحِ أكله الذي يعيش في البرّ، لا جراد ونحوه. (وشروطها) أي الذكاة، وكذا النحر (أربعة): (أحدها: كون الفاعل) للذكاةِ أو النَّحرِ (عاقلاً) ليصحّ منه قصدُ التذكية، فلا يباح ما ذكّاه مجنونٌ أو سكرانُ، (مميزاً) فلا يحلّ ما ذكاه طفلٌ لم يميّز، (قاصداً للذكاة) فلو احتكّ حيوانٌ مأكولٌ بمحدّدٍ بيد إنسان لم يقصد ذبحه، فانقطع بانحكاكه حلقومُهُ ومريئُهُ لم يحلّ، لعدم قصد التذكية. (فيحل ذبحُ الأنثى) ولو حائضاً (والقنّ والجنبُ) على الأصحّ (والكتابي) ولو حربيًّا. قال في شرح المقنع: أجمع أهل العلم على إباحة ذبائحِ أهلِ الكتاب، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يعني ذبائحهم. قال البخاري: قال ابن عباس: طعامهم ذبائحُهُم. وكذلك قال مجاهد وقتادة. وروي معناه عن ابن مسعود. وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي.

ولا فرق بين العدلِ والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب. انتهى. (لا) تحل ذبيحة (المرتد) وإن كانت رِدّته إلى دين أهل الكتاب. (و) لا ذبيحةُ (المجوسيّ والوثنيّ والدرزيّ والنُّصَيْري) والتَّيْماني. ويؤكل من طعامهم غيرُ اللَّحْمِ والشَّحْمِ والكَوارعِ (¬1) ونحوها. الشرط (الثاني) من شروط صحّة الذكاة: (الآلة) وهو أن يذبح بمحدّدٍ يَقْطَعُ، بأن يُنْهِرَ الدم بحدّه. إذا تقرر هذا (فيحلّ الذبح بكل محدّدٍ) حتى (من حجرٍ وقصبٍ وخشبٍ وعظمٍ غيرَ السنِّ والظُّفُر) نص على ذلك، متصلَيْنِ أو منفصلين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَنهَر الدَّمَ فكُلْ، ليس السنَّ والظفر" متفق عليه من حديث رافع بن خديج، قال: قلت: يا رسول الله إنا نلقى العدوّ غداً، وليس مَعَنا مُدًى -أي سكاكين (¬2) - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنهرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسم الله عليه، فكُلوا، ما لم يكن سنًّا أو ظُفُراً. وسأحدّثكم عن ذلك: أما السنُّ فعظمٌ، وأما الظُّفُرُ فمدى الحبشة." وعن كعب بن مالك، عن أبيه، أنه "كانت لهم غنم ترعى بِسَلْعٍ (¬3)، فأبصرت جاريةٌ لنا بشاةٍ من غنمها موتاً، فكَسَرَتْ حَجَراً، فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتّى أسألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أرسل إليه من يسأله. وإنه سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، أو أرسل إليه، فأمره بأكلها رواه أحمد والبخاري. وقال عبد الله: يعجبني أنها أمَةٌ، وأنها ذبحَتْ. قال في شرح المقنع (¬4): وفي هذا الحديث فوائدُ سبع: ¬

_ (¬1) كذا الأصول. وهي عامية. وصوابه: الأكارع، جمع أكرُع. وأكرُع جمع كُراع، وهو ما بين الركبة والقدم. (¬2) عبارة "أي سكَاكين" ساقطة من (ف). وهي مدرجة ليست من نص الحديث. (¬3) سلعٌ جبل بصرف المدينة الشمالي الغربي. (¬4) نقلاً عن المغني. أنظر المغني 8/ 581

إحداها: إباحةُ ذبيحة المرأة. والثانية: إباحة ذبيحة الأمة. والثالثة: إباحة ذبيحة الحائض، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل (¬1). الرابعة: إباحة الذبح بالحجر. الخامسة: إباحة ذبح ما خيفَ عليه الموت. السادسة: حِلُّ ما يذبحه غيرُ مالِكِه بغير إذنه. السابعة: إباحة ذبحه لغير مالكِهِ بغير إذنه عند الخوف عليه. الشرط (الثالث) لصحة الذكاة: (قطع الحلقوم) وهو مجرى النَّفَس (والمريءِ) بالمدّ، وهو مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم. ولا يشترط قطع الوَدْجَيْنِ (¬2). وهما عِرْقانِ محيطان بالحلقوم. والأوْلى قطعُهما خروجاً من الخلاف. (ويكفي قطعُ البعضِ منهما) أي من الحلقوم والمريء (فلو قَطَع رأسه حلّ) سواء أتت الآلة على محل الذبح وفيه حياةٌ مستقرة، أوْ لا، على الصحيح. وما ذُبِحَ من قفاهُ، ولو عمداً، إن أتت الآلة على محل الذبح وفيه حياةٌ مستقرةٌ حلّ بذلك، وإلا فلا. (ويحل ذبحُ ما أصابه سبب الموت) من الحيوان المأكولِ (من ¬

_ (¬1) بناء على القاعدة الأصولية المشهورة "ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزّل منزلة العموم في المقال" وتمّمْتُها تحريراً لها كما يلي: "ما لم يتبيّن علمه - صلى الله عليه وسلم - بالحال، أو كان الاحتمال لندرتِهِ مما يعزب عن البال" انظر كتابنا: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية. جـ2 ص 86 (¬2) وعن أحمد رواية أخرى: يعتبر مع قطع الحلقوم والمريء قطع الودجين، وهو قول مالك وأبي يوسف. وقال أبو حنيفة: يعتبر معهما قطع أحد الودجين. قلت: الودج عرق الدم، فلو لم يقطع شيئاً من الودجين فالظاهر أن الدم لا ينهر. ولعل في هذا ما يجعل هذه الرواية أرجح.

منخنقةٍ) وهي التي تُخْنَق في حلقها (ومريضةٍ وأكيلةِ سبع) وهي ما أكل منها ذئبٌ أو نَمِرٌ أو سَبُعٌ، (وما صيد بشبكةٍ) أو شَرَكٍ (أو فخّ) فأصابه شيء من ذلك، ولم تصل إلى حدٍّ لا يعيش معه، (أو أنقذه) أي أَنَقَذَ إنسان حيواناً (من مهلكةٍ، إن ذكّاه وفيه حياة مستقرة) يمكن زيادتها على حركةِ مذبوحٍ, سواء أَنتهتِ المنخنقة ونحوِها إلى حالٍ يعلم أنها لا تعيش معه، أوْ تعيش (¬1)، حلَّتْ (كتحريك يده أو رجله أو طرف عينه) أو مَصْعِ ذنبه بأن حركه وضربَ به الأرض. (وما قُطِعَ حلقومُه، أو أبينت حَشْوَته) ونحوه مما لا تبقى الحياة معه (فوجودُ حياته كعدمها) على الأصح، (لكن لو قطع الذابحُ الحلقومَ، ثم رفع يده قبل قطع المريء، لم يضرّ، إن عادَ فتمَّمَ الذكاةَ على الفور) قال في الإِقناع والمنتهى ولا يضر رفع يده إن أتمّ الذكاة على الفور. انتهى. (وما عُجِزَ عن ذبحِهِ، كواقعٍ في بئرٍ أو متوحّشٍ) كان ينفر البعيرُ، أو يتردّى من عُلْوٍ فلا يقدِر المذكيّ على ذبحه، فذكاته (بجرحه في أي محلٍّ كان) أي في أي موضع أمكنه جرحه فيه، من بدنه، فهذا قول أكثر الفقهاء. روى ذلك عن عليّ وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يجوزُ أكلُهُ إلا أن يذكَّى. الشرط (الرابع) لصحة الذكاة: (قول: بسمِ الله، لا يجزئ غيرُها) أي لا يقومُ تسبيحٌ ولا نحوه مقامها (عند حركةِ يده) أي يد الذابح (بالذبح) وذكر جماعة منهم الموفق والشارح: تكونُ التسميةُ عند الذبح، أو قريباً منه، فَصَلَ بالكلامِ أوْ لا، كالتسمية على الطهارة. ¬

_ (¬1) في (ب، ص): "أنها لا تعيش معه أوْ لا ... " والتصويب من (ف).

(وتجزئ) التسمية (بغير العربية، ولو أحْسَنَها) أي أحسن العربية، لأن المقصود ذكرُ اسم الله تعالى، وقد حَصَلَ، بخلاف التكبير في الصلاة، والسلام، فإن المقصود لفظه. فإن كان أخرس أومأ برأسه. (ويسن التكبير) مع التسمية، فيقول: بسم الله، والله أكبر. ولا تستحب الصلاة والسلام على الذبيحة، لعدم وروده، ولأنها لا تناسب المقام، كزيادة "الرحمن الرحيم". (وتسقط التسميةُ سهواً لا جهلاً) قال في الإِقناع: فإن ترك التسمية عمداً أو جهلاً لم تبح، وسهواً تباح. ويشترط قَصْدُ التسمية على ما يذبحه، فلو سمّى على شاةٍ، وذَبَحَ غيرها بتلك التسمية لم تُبَحْ. انتهى. أما إذا أضجع شاةً لذبحها وسمى، ثم ألقى السكّين، وأخذ سكيناً أخرى، أو ردَّ السلامَ، أو كلَّمَ إنساناً، أو استقى ماء، ثم ذبح، حلّ. تنبيه: يضمن أجيرٌ تَرَكَ التسميةَ عمداً أو جهلاً، لأنّه أتلفَها على ربِّها. (ومن ذَكَرَ عند الذبح مع اسم الله تعالى اسْمَ غيرِهِ لم تحلّ) الذبيحة، روي ذلك عن عليّ رضي الله تعالى عنه، وعن بقية الصحابة. فصل (وتحصل ذكاة الجنين) المأكولِ إن خرج ميتاً أو متحركاً، كتحرُّكِ مذبوحٍ، أَشْعَرَ أوْ لا، (بذكاةِ أمه.) ويستحب ذبحُهُ وإن كان ميتاً، ليخرُجَ الدَّمُ الذي في جوفه. (وإن خرج) الجنين المباحُ (حيًّا حياةً مستقرة لم يبح إلا بذبحِهِ) أو

[آداب التذكية]

نحرِهِ، لأنه نفسٌ أخرى، وهو مستقل بحياتِهِ. ولو وجأ بطنَ أمِّ جنينٍ بمحدّدٍ مسمّياً، فأصاب مذبحَ الجنين المباح، فهو مذكّىً والأم ميتة. فإن كانت نادَّةً حلّا. [آداب التذكية] (ويكره الذبحُ بآلة كالَّةٍ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإِحسانَ على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدكم شفرَتَهُ -أي سكّينه- وليرح ذبيحته" رواه أحمد (¬1). ولأن الحيوانَ يحصل له تعذيبٌ بذبحه بآلة كالَّة، فكرهت لذلك. (و) كره (سلخُ الحيوان وكسر عنقه) أو كسرُ عضوٍ معه ونتفُ ريشه (قبل زهوقِ نفسه) فإن فعل أساء وأكلت. وكُرِهَ نفخُ لحمٍ يباع. (وسنَّ توجيهه) أي المذكى بأن يُجعلَ وجهُهُ (للقبلة) ويجوز لغيرها، ولو تعمّده، على الأصح. وسُنَّ كونه (على جنبه الأيسر.) وسنّ رفقٌ به، وحملٌ على الآلة بقوة، (والإِسراعُ في الذبح) أي في الشحط. (وما ذُبِحَ فغَرِقَ) عقبَ ذبحهِ، (أو تردَّى من عُلْوٍ) أي من محلٍّ عالٍ يقتل التردي من مثله، (أو وَطِئَ عليه شيء يقتله مثله لم يحلّ) على الأصح، لأن ذلك سبب يعين على زهوق الروح فيحصل الزهوقُ من سببٍ مبيحٍ وسبب محرِّمٍ، فغُلِّبَ التحريم. ¬

_ (¬1) حديث "إن الله كتب الإحسان .. " رواه أحمد ومسلم والأربعة (الفتح الكبير).

كتاب الصيد

كتَاب الصَّيد وهو أن يريد بالفعل اقتناصَ حيوانٍ حلالٍ متوحّشٍ طبعاً غيرِ مقدورٍ عليه. والمراد بلفظ الصيدِ هنا المصيد، وهو حيوانٌ مقتَنَصٌ حلالٌ متوحّش طبعاً غيرُ مقدور عليه. (ويباح الصيد لقاصدهِ) في الأصحّ، واستحبه ابن أبي موسى. (ويكره) حال كونه (لهواً) لأنه عبث. وإن كان في الصيد ظلم للناسِ بالعدوانِ على زروعهم وأموالهم فهو حرام. [أطيب المكاسب] (وهو) أي الحيوان المصيدُ (أفضل مأكولٍ) قاله في التبصرة. ولعلّ ذلك لأنه من اكتسابِ المباحِ الذي لا شبهة فيه. والزراعة أفضل مكتسب. وأفضلُ التجارةِ في بَزٍّ وعطرٍ وزرْعٍ وغَرْسٍ وماشية. وأبغضُها في رقيقٍ وصرفٍ. وأفضل الصناعة خياطةٌ.

[تذكية المصيد]

ونصّ أن كل ما نَصَحَ فيه فهو حسن. قال المروزي: حثني أبو عبد الله على لزوم الصنعة. وأدنى الصناعة حياكةٌ وحجامةٌ وقِمامَةٌ وزبالة ودباغة. وأشدها كراهةٌ صبغٌ وصياغَةٌ وحِدادةٌ وجزارةٌ (¬1). [تذكية المصيد] (فمن أدركَ صيداً مجروحاً متحركاً فوق حركة مذبوحٍ، واتسعَ الوقتُ لتذكيتِهِ لم يُبَحْ إلا بها) أي بتذكية، لأنه مقدورٌ عليه، أشبهَ سائر ما قدر على ذكاته، ولأن ما كان كذلك فهو في حكم الحيّ حتى ولو خُشِيَ موته ولم يجد ما يذكّيه به. (وإن لم يتسع) الوقت لتذكيته (بل مات في الحال، حلّ بأربعة شروط): (أحدها: كون الصائد أهلاً للذكاة) أي تحلُّ ذبيحتُه، ولو أعمى. ومرادهم باشتراطِ كون الصائد أهلاً للذكاةِ إذا كان الصيدُ لا يحلّ إلا ¬

_ (¬1) في بعض ما قاله نظر، إذ لا دليل عليه. غير أن الصنعة التي فيها مباشرة للنجاسة لا شك أدنى من غيرها. أما ما عدا ذلك، كالصرف والصياغة مثلاً، فإن احترز صاحبهما من الغش، ولم يبع الذهب والفضة إلا يداً بيد واتقى الربا، فما وجه الكراهة في ذلك؟ بل هما من أشرف الصنائع والتجارات وأكثرهما كسباً، مع قلة المؤنة والعمل. وقد كان كلام بعض الفقهاء في ذلك بهذه الصورة سبباً في تجنب المسلمين لهاتين الحرفتين، حتى استقل بهما في بلاد المسلمين اليهود والنصارى والصابئة وجنوا من ذلك أعظم الثمار. وصاحب شرح المنتهى علَّلَ للكراهة فيهما بتمكن الشبهة وما يدخلهما من الغش. فيا سبحان الله، قلما تسلم صنعة من إمكان الغش فيها. وأين الشبهة فيهما؟! وما أحسن كلمة الإمام أحمد رحمه الله "إن كل ما نصح فيه فحسن" وأما ما قاله في الحدادة، فقد كانت صنعة داود عليه السلام الحدادة، وهي من أنفع الصنائع، إذ بها تتمكن الأمم من الرقي وامتلاك السلاح من قرب، لترد به عن نفسها، فلا تقع فريسة الأعداء الذين يحتكرون عنها السلاح. ويمنعونه عنها في الأزمات، إلا بالشروط المذلّة، وبالتحكم في الرقاب. فعلينا أن نغيّر نظرتنا إلى الصناعة. وعفا الله عمّن أودع مثل هذه الأقوال كتب الإسلام فأدّت إلى ما أدت إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

بالذكاة، أما صيدُ ما لا يَفتَقِر إلى ذكاة، كالسمكِ إذا صاده من لا تباح ذبيحتُهُ، فإنه يباح، لأنه لا ذكاة له، أشبه ما لو وجده ميتاً، (حال إرسال الآلةِ) فإن رماهُ وهو أهلٌ، ثم ارتدّ بعد رميه، أو مات بعد رميه، وقبل الإصابة، حلّ اعتباراً بحال الرمي. وعكسُه بأن رماهُ مرتدٌ أو مجوسيٌّ، ثم أسلم قبل الإصابة، لم يحل. (ومن رمى) وهو مسلم (صيداً فأثْبَتَهُ ثم رماه ثانياً،) أو رماه آخر (فقتله) أو وجأه بعد إيجاء (¬1) الأول (لم يحلّ) لأنه صار مقدوراً عليه بإثباته، فلم يبح إلا بذبحه. ولمثبتِهِ قيمتُهُ مجروحاً على الرامي الثاني، لأنه أتلفه عليه، حتى ولو أدرك الأولُ ذكاتَه فلم يذكِّه. إلا أتى يصيبَ الرامي الأوّل مقتَلَه، أو يصيبَ الثاني مذبحه، فيحل. وعلى الثاني أرشُ خرق جلده، لأنه لم يتلف سوى ذلك. الشرط (الثاني) لِحلِّ ما وجد من الصيد ميتاً (الآلة، وهي نوعان): أحدهما: (ما له حدٌّ يجرح) به، فيشترط فيه ما يشترط لآلة الذكاة، (كسيفٍ وسكينٍ وسهمٍ.) النوع (الثاني) من آلة الصيد: (جارِحةٌ معلَّمة) سواء كان الجارح مما يصيدُ بمخلبهِ من الطير، أو بنابه من السباع (¬2) والكلاب، لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} (ككلب غيرِ أسود). أما الكلبُ الأسود البهيم، وهو الذي لا بياض فيه، فيحرم صيدُه واقتناؤه، ويباح قتله. ويجب قتل كلّ كلب عقور (¬3)، وقال في الغنية: يحرم تركُه قولاً ¬

_ (¬1) لو قال "وجأة" لكان هو الصواب، فليس في لسان العرب "أوجأتُ". (¬2) في (ف): "من الفهود" بدل "من السباع". (¬3) في (ف): "ويباح قتل كل كلب عقور".

واحداً، إلا إن عقرتْ كلبةٌ من قَرُبَ من ولدها. أو خرقَتْ ثوبه، فلا تقتل، بل تنقل. (وفهد وباز وصقر وعقاب وشاهين). (فتعليم الكلب والفهد) يكون (بثلاثة أمور): 1 - (بأن يسترسَل إذا أُرسل). 2 - (وينزجر إذا زُجِر). قال في المغني: لا في وقتِ رؤية الصيدِ، وقال في الوجيز: لا في حال مشاهدته للصيد. 3 - (وإذا أمسك) صيداً (لم يأكلْ) منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن أكَلَ فلا تأكلْ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" متفق عليه، ولأن العادةَ في المعلَّم تركُ الأكل، وأن ينتظر صاحبَه لِيطعمَهُ، فكان شرطاً، كالانزجار إذا زُجِر، لا تكرُّر ذلك، فلو أكل بعدُ لم يخرج عن كونه معلَّماً، ولم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبحْ ما أَكَلَ منه، ولم يحرم ما شَرب من دمه. ويجب غَسْل ما أصابه فم كلب. (وتعليم الطير) الذي يصيد بمخلبه، كبازٍ وصقرٍ وعقابٍ يكون (بأمرين): 1 - (بأن يسترسل إذا أُرْسِل). 2 - (ويرجع إذا دُعِي) لا بترك الأكل، لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "إذا أكَلَ الكلبُ فلا تأكل، وإن أكل الصقر فكل" رواه الخلال. ولأن تعليمه بالأكل، ويتعذّر تعليمه بدونه، فلم يقدح في تعليمه، بخلاف ما يصيد بنابه. (ويشترط) لحلِّ ما يصيده ذو الناب أو ذو المخلب (إن يجرح الصيد) إذا قتله، (فلو قتله) أي قتل الجارح الصيد (بصدْمٍ أو خنقٍ لم يبح) لأنه قتله بغير جرح، أشبهَ ما لو قتله بحجر أو

بُنْدُقٍ، أو ضرَب شاةً بعصاً حتى ماتت. وكل هذا وَقِيذٌ. الشرط (الثالث) لحل ما وجد من الصيد ميتاً: (قصد الفعل) وهو رميُ السهمِ قاصداً للصيدِ، أو ينصب ما ينصبه من مِنْجَلٍ أو سكينٍ قاصداً للصيد، لأن قتل الصيد أمر يعتبر له الدين، فاعتبر له القصد، كالطهارة من الحدث. (وهو أن يرسل الآلة لقصد الصيد) لأن إرسال الجارح جُعِلَ بمنزلة الذبح، ولهذا اعتُبِرت التسمية معه، (فلو سمّى وأرسلها) أي الآلة (لا لقصد الصيد) فقتَل صيداً لم يحلّ؛ (أو) أرسلها (لقصدِه ولم يَرَه، أو استرسل الجارح بنفسه فقتل صيداً لم يحلّ،) ولو زَجَر الجارحَ ربُّه، ما لم يزد الجارح في طلب الصيد بزجره، ويسمّي عند زجره فيقتل صيداً، فإنه يحل على الأصحّ. الشرط (الرابع) لحلّ ما وجد من الصيد ميتاً (قول "بسم الله" عند إرسال الجارحة، أو) عند (رمي سلاحه)، ولو بغير عربيّةٍ ممن يحسنها. ولا يضرّ تقدُّم التسمية بالزمن اليسير، كالعبادة. وكذا تأخُّرٌ إذا كَثُرُ، في جارح إذا زجرَهُ فانزجر. (ولا تسقط هنا) أي في الصيد (سهواً) على الأصح، لأن في الصيد نصوصاً خاصَّةً، ولأن الذبح يكثُرُ فيكثُرُ السهو فيه. ويفرَّقُ بين الذبح والصيد بأن الذبح يقع في محلِّه، فجاز أن يسامح فيه، بخلاف الصيد. (وما رمي من صيدٍ فوقع في ماء، أو تردّى من علوٍ، أو وَطِئَ عليه شيء، وكل) شيء (من ذلك) أي من الوقوع في الماء، والتردّى من العلو، والوطءُ عليه (يقتل مثله، لم يحل،) ولو مع إيجاد جرح.

وإن وقع في ماءٍ، ورأسه خارج الماء، فمباح، أو كان من طير الماء، أو كان التردّي لا يقتل مثله ذلك الحيوان. (ومثله) أي مثل ما ذكر في عدم الحلّ (لو رماهُ بمحدَّدٍ فيه سُمّ) إذا احتمل أن السّمّ أعان على قتله. صرح به في الإِقناع والمنتهى، وذلك لأنه اجتمع مبيحٌ ومحرِّمُ، فغلب المحرِّم، كسهمِ مسلمٍ ومجوسيٍّ. (وإن رماه) أي رمى إنسانٌ صيداً (بالهواء، أو على شجرةٍ، أو) على (حائط، فسقط ميتاً، حل) لأن الموت إنما كان بإصابة الجارح له، فلا يعتبر ما حصل بعد ذلك، لأن وقوعه إلى الأرض لا بدّ منه، فلو حرم به لأدّى إلى أن لا يحلّ طيرٌ أبداً.

كتاب الأيمان

كتَاب الأَيمَان واحدها يمين. وهو (¬1) القَسَمُ، بفتح السين المهملة. فاليمينُ تأكيد حكم بذكر معظم على وجه مخصوص. وهي وجوابُها كشرطٍ وجزاء. والحَلِفُ على مستقبَلٍ إرادةَ تحقيقِ خبرٍ فيه، ممكنٍ، بقولٍ يقصد به الحثَّ على فعل الممكنِ، أو تركِهِ. والحَلف على أمرٍ ماضٍ إما بَرٌّ وهو الصادق، أو غموس وهو الكاذب، أو لَغْوٌ، وهو ما لا أجر فيه ولا إثم ولا كفارة. (لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى) (¬2) نحو: والله، وبالله، وتالله (أو باسم من أسمائه، أو صفةٍ من صفاتِهِ، كعزة الله وقدرته وأمانته،) والرحمن الرحيم، والقديم الأزلي، وخالق الخلق، ورازق العالمين، ورب العالمين، والعالم بكل شيء، والحيّ الذي لا يموت، والأول ¬

_ (¬1) صوابه أن يقول "وهي القَسَم" لأن اليمين مؤنثة. وسيأتي في كلامه تأنيثها. (¬2) حديث "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه هكذا أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر مرفوعاً (الفتح الكبير) وأخرجه أبو داود وابن حبان. وفيه مجهول. وأعلّه البيهقي بالانقطاع (الإِرواء ح 2561) لكن الذي صح عن ابن عمر بلفظ "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" متفق عليه.

الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعده شيء، ونحوه مما لا يُسَمَّى به غيره تعالى. وأما ما سمِّيَ به غيره تعالى، وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى، كالعظيم والرحيم والرب والمَوْلَى والرازق، فإن نوى به الله تعالى، أو أطلق، كان يميناً. وإن نوى به غيره فليس بيمين، لأنه يستعمل في غيره، قال تعالى: {فَارْجِعْ إلى رَبكَ} {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} {بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} والمولى المعتِقُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظيم}. وإن قال: يميناً بالله، أو: قسماً) بالله، (أو: شهادةً) بالله، (انعقدتْ) يمينه. (وتنعقد) اليمين (بالقرآن)، وبكلام الله سبحانه وتعالى، (وبالمصحف)، وبسورة من القرآن، وآيةٍ منه، (وبالتوراة ونحوها من الكتب المنزّلة) كالإنجيل والزّبور. قال ابن نصر الله في حواشيه: لو حلف بالتوراة والإِنجيل ونحوهما من كتب الله، فلا نقل فيها. والظاهر أنها يمين. انتهى. وجَزَمَ بكونها يميناً في المنتهى والإِقناع، لأن إطلاق اليمين إنما ينصرف للتوراة والإنجيل والزبور المنزّل من عند الله تعالى دون المبدّل. ولا تسقُطُ حرمة شيء من ذلك بكونه منسوخَ الحكم بالقرآن، فغاية ذلك أن يكون كالآية المنسوخِ حكمها من القرآن. ولا تخرج بذلك عن كونها كلام الله تعالى. وإذا كانت كلامَهُ فهي صفةٌ من صفاتِهِ، كالقرآن. (ومن حلف بمخلوقٍ كالأولياءِ، والأنبياء عليهم) الصلاة و (السلام، أو) حلف (بالكعبةِ) عظَّمها الله تبارك وتعالى، (ونحوها، حَرُم. ولا كفّارة) عليه إن حنث. قال في المنتهى وشرحه: ويحرم بغيرِ ذات الله تعالى، وصفته، لما رُوى أنّ ابن عمر: رأى رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال

[في كفارة اليمين]

ابن عمر: لا يُحلَفُ بغير الله، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلَفَ بغيرِ الله فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن؛ سواء أضافه إلى الله تعالى، كقوله: ومخلوق الله، ومقدوره، ومعلومه، وكعبته، ورسوله؛ أوْ لا، كقوله: والكعبة. ولا كفارة في الحلف بغير الله (¬1) انتهى. فصل [في كفارة اليمين] (وشروط وجوب الكفارة خمسة أشياء،) فلا كفارةَ مع فَقْدِ واحدٍ منها: (أحدها: كون الحالف مكلفاً) فلا تجب الكفارة على نائمٍ وصغيرٍ ومجنونٍ (ومغمًى عليه) ومعتوهٍ. (الثاني: كونه) أي الحالف (مختاراً) للحلف. ذكره الأصحاب، فلا تنعقد من مُكْرَهٍ عليها. (الثالث: كونه قاصداً لليمين) لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (فلا تنعقد) اليمينُ (ممن سبق) اليمينُ (على لسانِهِ بلا قصدٍ) منه لِإيجابها، (كقوله: لا والله، و: بلى والله، في عُرْضِ حديثه) فلا تجب فيه كفارة، على الأصح، وتسمَّى لغواً. قال البيضاوي: اللغو الساقط الذي لا يعتدّ به من كلام وغيرِه. ولغوُ اليمين ما لا عَقْدَ معه، كما سبق به اللسان، أو تكلَّمَ بهِ جاهلٌ بمعناه. وكقول العرب: لا والله، و: بلى والله، لمجرد التأكيد. انتهى. ¬

_ (¬1) أي لكن عليه التوبة والاستغفار والعزم على أن لا يعود إليه.

(الرابع: كونها) أي اليمين (علىْ أمرٍ مستقبَل) ممكنٍ، لأن من شروط الانعقاد إمكان برِّهِ وحِنْثِهِ. وذلك في الماضي غير ممكن، (فلا كفارةَ على ماضٍ) كاذباً عالماً به. وهي الغموس (بل إن تعمَّد الكَذِبَ فحرامٌ، وإلاّ) بأن لم يتعمَّد الكَذِبَ (فلا شيء عليه). تنبيه: إذا قال:. والله لَيَفعلَنَّ فلان كذا، أو: لا يفعلنَّ فلانٌ كذا، فلم يطعه: أو حلف على حاضرٍ، فقال: والله لتفعلَنَّ يا فلانُ كذا، أو: لا تفعلنّ كذا، فلم يطعه، حنث الحالف، لعدم وجود المحلوف عليه. والكفارة عليه لا على من حنَّثَهُ. وإن قال: أسألك بالله لتفعلنّ، وأراد اليمين، فكالتي قبلها. وإن أراد الشفاعة إليه بالله تعالى فليست بيمين. ويسنّ إبرار القسم وإجابة سؤال بالله، ولا يلزم. (الخامس) لوجوب الكفارة بالحلف: (الحنثُ) في يمينه، لأن من لم يحنث لا كفارة عليه، لأنه لم يهتكْ حُرْمَةُ القسم. ويكون الحنث (بفعل ما حلف على تركِهِ، أو بترك ما حلف على فعله،) ولو كان فعل ما حلف على تركه وترك ما حلف على فعله محرّمين لأنه لا وجود للحنث إلا بما ذكر، لا إن حنث (¬1) مكرهاً بفعل الحالف، أو بفعل من حَلَفَ عليه، أو حَنَثَ جاهلاً، كما لو قال: والله لا دخلتُ دارَ فلان، ثم دخلها جاهلاً أنها دار فلان، يعني أنه لا يجب عليه كفارة. (فإن كانَ) الحالفُ (عيّنَ وقتاً) لفعله (تعيَّن) ذلك الوقت لذلك الفعل، لأن النيّة تَصْرِفُ ظاهرَ اللفظِ إلى غير ظاهره، فَلأنْ تصرفه إلى وقت آخر بطريق الأولى (¬2). ¬

_ (¬1) (ب، ص): "لا إن الحنث مكرهاً ... " والتصويب من (ف). (¬2) هذا القياس زاده المؤلف على ما في المنتهى وشرحه. ولا يظهر له وجه، فليس هاهنا صرف إلى وقت آخر بل هنا تقييد للمطلق بالنية.

[الاستثناء في اليمين]

(وإلا) أي: وإن لم يعيِّن للفعل وقتاً (لم يحنث، حتى ييأس من فعله) الذي حلف عليه، (بتلَفِ المحلوفِ عليه، أو موت الحالف) أو نحوهما مما يحصل اليأس من البرّ به. [الاستثناء في اليمين] (ومن حلف بالله) تعالى: (لا يفعلُ كذا) إن شاء الله تعالى؛ (أو) حلف بالله تعالى: (ليفعلنَّ كذا إن شاء الله) تعالى، (أو) قال: والله لأفعلن كذا إن (أراد الله) تعالى، (أو: إلاَّ أن يشاء الله) تعالى، (واتصل) الاستثناء (لفظاً، أو حكماً) كانقطاعه بتنفس، أو سعال، أو عُطاس، أو عِيٍّ، أو تثاؤب، لأن الاستثناء من تمام الكلام، فاعتبر اتصاله، كالشرط وجوابه، (لم يحنَثْ، فَعَلَ) المحلوفَ عليه (أو تَرَكَ) فعلَه، (بشرط أن يقصد الاستثناء قبل تمام المستثنى منه) فلو حلف غيرَ قاصدٍ الاستثناء، ثم عَرَضَ له الاستثناء بعد فراغه من اليمين، فاستثنى (¬1) لم ينفعه ذلك لعدم قصده له أوَّلاً. ولو أراد الجزْمَ بيمينه، فسبَقَ لسانُه إلى الاستثناء من غير قصدٍ، أو كانت عادته جاريةً به فجرى على لسانه من غير قصد، لم يصحّ، ويحنث؛ أو شكّ في الاستثناء فالأصل عدمه. فصل [في أنواع من الأيمان] (ومن قال: طعامِي) أو: هذا الطعام (عليّ حرامٌ)؛ أو: كالميتة، أو: الدم، ونحوه (أو) علَّق التحريمَ بشرطٍ، مثل: (إن أكلتُ كذا ¬

_ (¬1) سقط قوله "فاستثنى" من (ب، ص).

فحرامٌ، أو: إن فعلتُ كذا فحرام، لم يحرم) لأن الله تعالى سمَّاه يميناً، بقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} واليمين على الشيء لا يحرِّمه. (وعليه إن فَعَل كفارَةُ يمين) نص عليه، لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} يعني التكفير. وعن ابن عباس وابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "جعل تحريم الحلال يميناً" (¬1) (ومن قال: هو يهوديٌّ، أو نصرانيٌّ) أو مجوسيٌّ (أو): هو (يعبُدُ الصليبَ) أو غير الله، (أو) يعبد (الشَّرْقَ إن فعل كذا،) أو: لا يراه الله في موضع كذا، أو: هو يستحلُّ الزِّنا أو الخمرَ أو تَرْكَ الصلاة، أو الصوم، أو الزكاة، أو الحج، أو الطهارة (أو: هو بريء من الإسلام) أو القرآن (أو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو) قال: (هو كافرٌ بالله تعالى إن لم يفعل كذا، فقد ارتَكَبَ محرَّماً، وعليه كفارة يمين إن فَعَلَ ما نفاه أو تَرَكَ ما أثبته) لحديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) سئل عن الرجل يقول هو: يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء، فقال: "عليه كفارة يمين" رواه أبو بكر. واختار الموفق والناظم أن لا كفارة عليه. تنبيه: إن قال: عصيتُ الله تعالى، أو: أنا أعصي الله تعالى في ¬

_ (¬1) حديث ابن عباس وابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل تحريم الحلال يميناً" ضعيف مرفوعاً. وصح موقوفاً على ابن عباس أنه قال: "إذا حرّم الرجُلُ عليه امرأته فهي يمين يكفّرها. وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" رواه مسلم والبيهقي. ورواه البخاري فقال عنه: "إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الإرواء ح 2574) (¬2) حديث "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقول هو يهودي .. الخ" قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني لم أقف على إسناده وما أراه يصح. ثم رأيته في سنن البيهقي 10/ 30 وقال: لا أصل له من حديث الزهري ولا غيره، تفرّد به سليمان الحرّاني وهو منكر الحديث (الإرواء ح 2577) قلت: لكن صح الحديث "من حلف على يمين بمِلَّةٍ غير الإسلام كاذباً فهو كما قال" رواه الجماعة من حديث ثابت بن الضحاك مرفوعاً.

[فيما يكفر به]

كلّ ما أمرني، أو: محوتُ المصحف، أو: أدخله الله النار، أو: هو زانٍ، أو: هو شارب خمر، أو: قَطَع الله يديه ورجليه، ليفعلَنَّ كذا، أو إن فعل كذا فعبدُ زيد حرٌّ، أو: مال زيدٍ صدقةٌ، ونحوُ ذلك، فلغوٌ. (ومن أخبر عن نفسه بأنه حلف بالله) سبحانه وتعالى (ولم يكن حَلَفَ قكذْبةٌ، لا كفارةَ فيها) على الأصح الذي مشى عليه في المنتهى والإقناع. وإن قال: عليّ نذرٌ أو يمينٌ إن فعلت كذا، أوْ: عليّ عهدُ الله وميثاقُه إن فعلت كذا، وفَعَلَه، كفَّر كفارةَ يمينٍ. وكذا: عليَّ نذرٌ، أو يمينٌ، فقط. فصل [فيما يكفِّر به] (وكفارة اليمين على التخيير) أي بين الإِطعام والكسوة والعِتقِ فقط. وإلا فهي تجمع تخييراً وترتيباً. والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}. فيخيّر من لزمته اليمين بين ثلاثة أشياء: 1 - (إطعام عشرة مساكين) مسلمينَ أحرارٍ، من جنسٍ واحدٍ، كتمْرٍ، أو أجناسٍ كإطعامِ خمسةٍ بُرًّا، وخمسةٍ تمراً؛ أو البعض شعيراً والبعضِ زبيباً. 2 - (أو كسوتهم) وهي للرجل ثوبٌ تجزئه صلاته المكتوية فيه،

وللمرأة درعٌ وخمارٌ تجزئها صلاتها فيهما. 3 - (أو تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ). ويجوز أن يكسوهم من أي صنفٍ شاء، سواء كان من القطن أو الكتان أو الصوف أو الشعر أو الوبر أو الخز، أو يكسو النساء من الحرير، لأن الله تعالى أمر بكسوتهم، ولم يعيّنْ جنساً. فأيّ جنسٍ كساهم منه خرج به عن العهدة، لوجود الكسوة المأمور بها، ولو عتيقاً، ما لم تذهب قوَّته. فإنْ أطعم المساكين بعض الطعام، وكساهم بعض الكسوة. أو أعتق نصفَ عبدِهِ، وأطعَمَ خمسةً، أو كساهم، أو أطعم وصام، وكسا البعض لم يجزه، كبقية الكفارات. (فإن لم يجد) بأن عجز عن العتق والإِطعام والكسوة، كعجزٍ عن فُطْرَةٍ، (صام ثلاثة أيامٍ) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (متتابعةٍ وجوباً) لأنَّ في قراءة أُبَيٍّ وابن مسعودٍ: (فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ متتابعةٍ) والظاهر أنهما سمعاه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون خبراً، ولأنه صومٌ في كفارةٍ لا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الثلاثة، فوجب فيه التتابع، كصيام المُظَاهِر. ومحلُّ وجوب التتابع (إن لم يكن) له (عذرٌ) في ترك التتابع من مرضٍ أو غيره. (ولا يصحّ أن يكفِّر الرقِيق بغير الصوم) لأن ذلك فرضُ المعسِرِ من الأحرار، وهو أحسنُ حالاً من العبد. وليس لسيده مَنْعهُ منه، ولا مِنْ صومِ نَذرٍ. (وعكْسه الكافر) يعني أن الكافر إذا وجبت عليه كفارةٌ يكفّر بغيرِ الصوم، لأن الصوم عبادة، وهي لا تصحّ من الكافر.

(وإخراجُ الكفّارة قبل الحنث وبعده سواء) في الفضيلة، حتى ولو كان التكفير بالصوم، لأنه كفَّر بعد وجود السبب، فأجزأ، كما لو كفّر كفارة القتل بعد الجرْحِ وقبل الزهوق، والسبب هو اليمين، بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. ولا تجزئ الكفارة قبل الحلف إجماعاً. كتقدّم الزكاةِ قبل ملك النصاب. (ومن حنث ولو في ألف يمينٍ بالله تعالى ولم يكفر، فكفارةٌ واحدة) ولو على أفعال مختلفةٍ، كقوله: والله لا أكلت. والله لا شربت. والله لا لبست.

باب جامع الأيمان

باب جَامع الأيمَان ومبناها أبداً على النية. (يُرْجَعُ في الأيمان إلى نيّة الحالف) إن كان الحالف غير ظالم بها، وكان لفظه يحتمل النية، فتتعلق يمينه بما نواه، دون ما لَفَظَ به. (فمن دعي لغداءٍ، فحلف لا يتغدّى، لم يحنث) إذا تغدّى (بِغَدَاءِ غيره، إن قَصَدَهُ) لاختصاص الحلف به. ومن حلف على إنسان لا يشربُ له ماءٌ من عطشٍ، ونيته، أو السبب، قطعُ مِنَّتِهِ، حنث بأكل خبزه، أو استعارة دابته، وكل ما فيه مِنَّة، لا بأقلّ، كقعوده في ضوء نارهِ. (أو حلف لا يدخلُ دار فلانٍ وقال: نويت: اليوم، قُبل) منه ذلك (حكماً) أي في الحكم، لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته، ولفظُهُ يحتمله، (فلا يحنَث بالدخولِ) أي دخوله الدارَ (في غيرِهِ) أي غير ذلك اليوم الذي نواه، لأن قصده تعلّق به، فاختصّ الحنث بالدخول فيه. (و) من حلف على امرأتِهِ عن دارٍ بأن قال: والله (لا عُدْتُ رأيتكِ تدخلين دار فلان، ينوي منعها، فدخلتها، حنث ولو لم يرها)، لمخالفتها نيته بعدم امتناعها.

فصل

ومن حلف لا يأكل تمراً لحلاوتِهِ حنث بكل حلْوٍ، بخلاف: أعتقتُهُ لأنه أسود، فيعتق وحده. فصل (فإن لم ينوِ شيئاً) يعني فإن لم يكن للحالف نية (رُجِعَ إلى سبب اليمين وما هيَّجها) لدلالة ذلك على النية، (فمن حلف: ليقضينَّ زيداً حقَّه غداً، فقضاه قبله) لم يحنث إذا قَصَد عدم تجاوزِه، أو اقتضَاهُ السَّبَبُ، لأن مقتضى اليمين تعجيلُ القضاء قبل خروج الغد، فإذا قضاه قبله فقد قضاه قبل خروج الغد، وزاده خيراً، ولأن مبنى الأيمان على النية، ونية هذا بيمينه تعجيلُ القضاء قبل خروج الغد، فتعلقت يمينه بهذا المعنى، كما لو صرح به. وكذا أكلُ شيءٍ وبيعُه وفعلُه غداً. (أو: لا يبيعُ كذا إلا بمائةٍ، فباعه بأكثر) فلا يحنث إلا إن باعه بأقلَّ من مائة. و: لا يبيعه بمائة، فباعه بها، أو أقل، حنث. (أو) حلف: (لا يدخل بلد كذا لظلمٍ) رآه (فيها) أي في البلد، (فزالَ) الظلمُ (ودخلَها، أو) حلف: (لا يكلِّم زيداً لشربه الخمر، فكلَّمه) أي فكلَّم زيداً (وقد تركه) أي شرب الخمر، (لم يحنث في الجميع) أي جميع ما ذكر من المسائل. فصل (فإن عدم النية والسبب) أي سبب اليمين وما هيّجها (رُجِع إلى التعيين) وهو الإِشارة. لأن التعيين أبلغ من دلالة الاسمِ على المسمَّى،

فصل

لأنه ينفي الإِبهام بالكلية، بخلاف الاسم. ولهذا لو شهد عدلانِ على عين شخصٍ وجب على الحاكم الحكم عليه، بخلاف ما لو شهدا على مسمًّى باسمه لم يحكم حتى يعلم أنه المسمَّى بذلك، فيقدِّم التعيينَ على الاسم، والصفة، والإِضافة. (فمن حلف: لا يدخل دارَ فلانٍ هذه، فدخلها وقد باعها، أو) دخلها (وهي فضاء)، أو مسجد، أو حمام؛ أو حلف: لا لبستُ هذا القميص، فلبسه وهو رداءٌ، أو لبسه وهو عمامة، أو وهو سراويل؛ (أو) حلف (لا كلمتُ هذا الصبيَّ فصار شيخاً، وكلَّمه،) أو: لا كلمتُ امرأةَ فلانٍ هذه، أو: عبده هذا، أو: صديقه هذا، فزال ذلك، ثم كلَّمهم؛ (أو) حلف: (لا أكلت هذا الرُّطَبَ، فصار تمراً) أو صار دِبْساً أو خلاًّ، أو هذا اللبن فصار جُبْناً، (ثم أكَلَه،) ولا نيَّة له ولا سَبَبَ، (حنث في الجميع) لأن عين المحلوف عليه باقية، كحلفه: لا لبست هذا الغَزْل، فصار ثوباً. فصل (فإن عدم النيةُ والسببُ) أي سبب اليمين وما هيّجها (والتعيينُ، رُجِعَ إلى ما تناوله الاسم) لأنه لا دليل على إرادة المسمَّى، ولا معارضة له هنا، فوجب أن يُرْجَعَ إليه عملاً به، لسلامته على المعارضة. (وهو) أي الاسم (ثلاثةٌ: شرعيٌّ، فعُرْفيٌّ، فلُغَوِيٌّ). (فاليمين المطلقة) على فعل شيءٍ من ذلك، أو على تركِهِ، (تنصرف إلى) الموضوع (الشرعيّ) لأن ذلك هو المتبادر إلى الفهم عند الإِطلاق، لأنّ الشارع إذا قال: صلّ، تعيّن عليه فعل الصلاة المشتملة على الأفعال المعلومة، إلا أنْ يقترنَ ذلكَ بكلامٍ يدلُّ على

فصل

إرادة الموضوع اللغويّ. فكذا يمين الحالف. (وتتناول الصحيح منه) أي من الموضوع الشرعيّ، لأنه ممنوع من الفاسِدِ بأصلِ الشَّرْع، فلا حاجة إلى المنع من فعله باليمين. (فإن حلف: لا ينكِحُ، أو) حلف: (لا يبيع، أو) حلف: (لا يشتري) والشركة شراءٌ، والتولية شراء، والسَّلم والصُّلح على مالٍ شراء، (فعَقَد عقداً فاسداً) من نكاح أو بيع أو شراءٍ (لم يحنث) لأن البيع إذا أُطْلق لا يتناول الفاسد، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وإنما أحلَّ الصحيح من البيع، ويقاس عليه ما سواهُ من العقود. لا إن حلف لا يحجُّ، فحجَّ حجاً فاسداً، قال في شرح المنتهى: ومقتضى ما تقدم أنّ من حلف: لا يبيع، أو: لا يشتري، فباع أو اشترى بشرطِ خيارٍ إنه يحنث، لأنه بيع صحيح. (لكن لو قيّد الحالف يمينَهُ بممتنع الصِّحَّة، كحلفه لا يبيع الخمر) أو لا يبيع الحرّ، (ثم باعه، حنث بصورة ذلك) لتعذّر حمل يمينه على عقدٍ صحيح. والحلف على الماضي والمستقبَلِ في جميعِ ذلك سواء، لأن ما لا يتناوله الاسم في المستقبل، لا يتناوله في الماضي. فصل (فإن عدم الشرعيّ فالأيمانُ مبناها العُرْفُ) والعُرْفُ (¬1) هو ما اشتهر مجازُه حتى غَلَبَ على حقيقته، كالراوية، فإنها في العرف للمزادة، وفي الحقيقة للجَمَلِ الذي يُستقى عليه. (فمن حلف: لا يطأُ امرأته،) أو أمتِهِ، (حنث بجماعها) لأن هذا ¬

_ (¬1) (ب، ص): "والفرق" والتصويب من (ف).

هو المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ في العرف، وكذا إذا حلف على ترك وطءِ زوجتِهِ صار مؤلياً؛ (أو) حلف: (لا يطأ) داراً، (أو) حلف: (لا يضع قدمه في دار فلان حنَثَ بدخولها راكباً أو ماشياً، حافياً أو منتعِلاً.) لأن ظاهر حلفه إرادة الامتناعِ من دخولها، فهو كما لو قال: لا أدخلها، فإذا دخلها على أي صفة كانت حنث، لأن المقصودَ من اليمين الامتناع. تنبيه: إذا حلفَ: لا يدخلُ داراً، فدخل مقبرةً، لا يحنث لأنها لا تسمى داراً في عرف الناس. (أو) حلف: (لا يدخل بيتاً، حنَثَ بدخول المسجد) لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (و) دخولِ (الحمّام) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بئسَ البيتُ الحمّام" رواه أبو داود وغيره (¬1) (و) دخولِ (بيتِ الشَّعَر) والأَدَم والخيمة، لأن اسم البيت يقع عليه حقيقةً وعرفاً، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} والخيمة في معنى بيتِ الشَّعَر. وعلم مما تقدّم أنه لا يحنث بدخول صُفَّة الدار، ودهليزِها، لأن ذلك لا يسمى بيتاً. (و) من حلف: (لا يضربُ فلانةَ، فخنقها أو نتَفَ شعرها، أو عضّها، حنث) لأن قصده بذلك تأليمَها، وقد آلمها. لكن لو عضّها للتلذّذ، ولم يقصد تأليمَها، لم يحنث. ولهذا لو حلف: ليضربَنَّها، ففعل ذلك، بَرَّ، لوجودِ المقصودِ بالضَّرْب. وإن ضَرَبَها بعد موتها لم يبرّ. تتمة: من حلف لا يشمُّ الَريحان، فشم ورداً، أو بنفسجاً، أو ياسميناً، أو زنْبَقاً، أو نسريناً، أو نرجساً؛ أو لا يشمُّ ورداً أو بنفسجاً، ¬

_ (¬1) وهو حديث ضعيف (ضعيف الجامع الصغير)

فصل

فشم دُهنَهُما، أو ماءَ الورد؛ أو لا يشمُّ طيباً، فشم نَبْتاً ريحه طيب كالخزامى , حنث. فصل (فإن عدم العُرْفُ رُجِعَ إلى اللُّغة، فإن حلف: لا يأكل لحماً، حنث بكلِّ لحمٍ) كلحم السمك، حتى بالمحرّم من اللحم، (كالميتةِ والخنزير) وكل [حيوان] غير مأكولٍ (¬1): كالفَهْد والدّبّ والنمر والعقاب والصقر والحية والفأر، ونحو ذلك، (لا بما لا يسمى لحماً) يعني أن من حلف لا يأكل لحماً لا يحنث بأكل ما لا يسمى لحماً (كالشحم) ونحوه، (كمخ وكبدٍ وكليةٍ وكرشي ومُصْرانٍ وطِحَالٍ وقلب وألية ودماغٍ وقانِصَةٍ وكارِعٍ ولحمِ رأسٍ ولسانٍ) لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول شيئاً من ذلك، ولأن بيَاع الرؤوس يسمى رأآساً (¬2) لا لحّاماً، ولأنَّ كلاًّ ممن ذكرنا منفردٌ عن اللحم بالاسم والصفة. (و) من حلف (لا يأكل لبناً، فأكله، ولو من لبنِ آدميةٍ) أو صيدٍ (حنَثَ) لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفاً، سواء كان حليباً أو رائباً أو مائعاً أو مجمداً، لأن الجميع لبن، لا إن أكل زبداً أو سمناً أو كِشْكاً أو مَصْلاً. قال في القاموس: المَصْلُ والمَصَالَةُ ما سال من الأقِطِ إذا طُبِخ ثم عُصِر. انتهى. (و: لا يأكل رأساً ولا بيضاً، حنث بكل رأسٍ وكلّ بيض حتى برأس الجراد وبيضِهِ) لأن ذلك يدخل تحت مسمى الرأس والبيض، فيحنَثُ به. ¬

_ (¬1) عبارة: "وكلّ غير مأكول" ثابتة في (ف) وحدها. (¬2) في (ف): "روّاساً".

(و) من حلف: (لا يأكلُ فاكهةً حنث بكل ما يتفكّه بِهِ حتى بالبطيخ) لأنه ينضَجُ ويحلو ويتفكَّه به، فكان داخلاً في مسمى الفاكهة، وبأكلِ كلَّ ثمرِ شجرٍ غير برّيّ، كبلَحٍ وعنب ورمان وسفرجل وتفَّاح وكُمِّثرى وخَوْخ ومشمش وزعرور أبيض، وأُتْرُجّ وتوت وتين وموز وجُمِّيزٍ، ولو يابساً كصَنَوْبَرٍ وعِنابٍ وجوز ولوز وبندق وفستق وتمر وزبيب وإجّاص ونحوها، لأنَ يبَسَ ذلك لا يخرجهُ عن اسم الفاكهة، (لا) بأكل (القثّاءِ والخِيارِ) لأن ذلك من الخُضَر، فلا يحنث بهما من حلف لا يأكل فاكهة، (و) لا بأكل (الزيتونِ) لأنّه لا يتفكه بأكله، وإنما المقصود زيتُه، (والزَّعْرُورِ الأحمر) والآس وسائر شجر برّيّ لا يستطاب، كثمر القيقب والعفص وباذنجان وكرنب، ولا بأكل ما يكون بالأرض كجزر ولفت وفجل وقلقاس وكمأة، ونحوه. (و) من حلف: (لا يتغدّى، فأكل بعد الزوال (¬1)، أو) حلف: (لا يتعشّى، فأكل بعد نصف الليل، أو) حلف: (لا يتسحر، فأكل قبله) أي قبل نصف الليل، (لم يحنث) ما لم تكن له نية، لأن الغداء مأخوذ من الغُدْوَة، وهي من طلوع الفجر إلى الزوال، والعشاء مأخوذ من العَشِيّ، وهو من زوال الشمس إلى نصف الليل الأوّل، والسحور مأخوذ من السَّحَر، وهو من نصف الليل إلى طلوع الفجر. (و) من حلف: (لا يأكل من هذه الشجرة، حنث بأكلِ ثمرتها) أي من ثمرتها، ولو واحدة، (فقط)، يعني فلا يحنث بأكل وَرَقِها ونحوه لأن الثمرة المتبادرة إلى الذهن، فيحنث بأكل الثمرة، ولو لقطها من تحتها، أو من إناءٍ، لأنها من الشجرة. ¬

_ (¬1) تقدم في كلامه أن العرف مقدم على اللغة. وعلى هذا فالبلاد التي عرفها أن الغداء بعد الزوال، يحنث فيها من حلف لا يتغدى إذا أكل بعد الزوال.

فصل

(و) من حلف: (لا يأكل من هذه البقرة، حنث بأكل كلِّ شيءٍ منها، لـ) كن لا يحنث بأكله (من لبنها وولدها) لأنهما ليسا من أجزائها. (و) من حلف: (لا يشرب من هذا النهرِ، أو) حلف لا يشرب من هذِهِ (البئر فاغترف بإناء) منهما، أو من أحدهما، (وشرب، حنث) لأنهما ليسا بآلةٍ للشرب، والشرب منهما في العادة، إنما يكون بالاغتراف، إما بيده، أو بإناءٍ غيرها، فيحمل على ما جرت به العادة في الشرب، فيحنث بوجوده (لا إن حلف لا يشرب من هذا الإناء، فاغترف منه وشرب) فإنه لا يحنث، لأن الإناء آلةٌ للشرب، فحقيقة الشُّرب منه أن يكرع منه، وإذا صَبَّ من إناءٍ وشرب لم يكن شارباً منه. فصل (ومن حَلَفَ: لا يدخل دار فلانٍ، أو) حلف: (لا يركبُ دابّته،) أو: لا يلبس ثوبه، (حنَثَ بما جعله) فلانٌ (لعبدِهِ) من دارٍ ودابّةٍ وثوبٍ، لأن دار العبد ودابته وثوبه ملك لسيده (¬1)، (أو) بما (آجره) فلانٌ، (أو) بما (استأجره) فلانٌ، لأن الدار تضاف إلى ساكنها، كما تضاف إلى مالكها، لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ولأن الإضافة للاختصاص، وساكنُ الدار يختص بها، فكانت إضافتها إليه صحيحة، وهي مستعملة في العرف، و (لا) يحنث (بما استعاره) أي لا يحنث بدخول دارٍ استعارها فلانٌ على الأصح، أو بركوب دابّةٍ استعارها فلان على الأصح، أو لبس ثوباً استعاره فلان، لأنه لا يملك منافع ما استعاره. ¬

_ (¬1) كذا في (ف) وفي (ب، ص): "لأن ذلك ملك لسيده".

ومن حلف: لا يدخل مسكن زيدٍ، حنث بمستأجَرٍ ومُعارٍ ومغصوب يسكنه زيد، لأنه مسكنه، لا بملكه الذي لا يسكنه. وإن قال: مِلْكُه، لم يحنث بمستأجَر. (و) من حلف: (لا يكلم إنساناً، حنث بكلام كلِّ إنسان) لأن ذلك نكرة في سياق النفي، فتعمُّ، لفعلِه المحلوفَ عليه (¬1) (حتى بقولهِ) له: تنحّ، أو (اسكتْ) وبزجره بكلِّ لفظٍ في الأصح، لأن ذلك كلامٌ، فيدخل فيما حلف على عدمه، لا بسلامٍ من صلاةٍ صلاها إماماً، نصّ عليه. (و) من حلف: (لا كلمتُ فلاناً، فكاتبه، أو راسلَهُ، حنث) على الأصحّ، ما لم يَنْوِ مشافَهَتُهُ، لا إذا أُرتجَ عليه في صلاةٍ كان فيها إماماً للحالف، ففتح عليه الحالف فإنه لا يحنث. (و) إن حلف: (لا بدأتُ فلاناً بكلامٍ فتكلَّما معاً لم يحنث) لأن مقتضى يمينه أن لا يوجد كلامه لفلانٍ قبل كلام فلانٍ، فإذا تكلما معاً لم يوجد كلامه قبله، فلا يحنث. (و) من حلف: (لا مِلْكَ له، لم يحنث بدينٍ) له، لأن الملك يختص بالأعيان من الأموال، فلا يعمُّ الدين. لأن الدين إنما يتعيّن للملك (¬2) بقبضه. (و) من حلف: (لا مال له أو) حلف: (لا يملكُ مالاً، حنث بالدين)، وبمالٍ غير زكوي، وبِضائعٍ، لم ييأس من عَوْده، وبمغصوبٍ منه، لأن المال ما تناوله الناس عادة لطلب الربح، مأخوذ من الميل (¬3) من يدٍ إلى يدٍ، ومن جانِبٍ إلى جانب، فيشمل ذلك غير ما تجب فيه الزكاة من النقود، وغيرها، لأن غير النقود أموال. وقال عمر رضي الله تعالى ¬

_ (¬1) قوله "لفعله المحلوف عليه" تعليل للحنث، أي: يحنث لأنه بتكليمه فعل ماحلف على تركه. (¬2) (ف): "يتعين الملك فيما يقبضه منه". (¬3) في هذا نظر، فإن المال واوي العين.

عنه: أصبتُ أرضاً بخيبرَ لم أُصِبْ مالاً قطٌّ هو أنفس عندي منه. (و) من حلف (ليضربنَّ فلاناً بمائةٍ، فجمعها وضربه بها ضربةً واحدة، برَّ) في يمينه لأنه ضربه بالمائة كما حلف (لا إن حلف ليضربنه مائةً) فجمعها وضربه بها ضربة واحدة، ولو آلمه بها لأن الظاهر من هذا اليمين أنه يريد ضربه بالسوط مائةَ ضربةٍ ليتكرّر ألمه بتكرار الضرب. (ومن حلف لا يسكن هذا الدارَ، أو) حلف: (ليخرجنّ) من هذه الدار، (أو) حلف: (ليرحلنّ منها) أي من هذه الدار، (لزمه الخروجُ بنفسِهِ وأهلِهِ ومتاعِهِ المقصودِ. فإن أقامَ فوق زمنٍ يمكنه الخروج فيه عادةً، ولم يخرج، حَنَثَ. فإن لم يجد مسكناً) ينتقل إليه، أو لم يجد ما ينقل متاعه، (أو أبت زوجتُهُ الخروج معه، ولا يمكنه إجبارها، فخرج وَحْدَهُ لم يحنث). (وكذا) حكمُ (البلد) إذا حلف: ليرحلنّ منها، أو: ليخرجن منها (إلا أنه يبر بخروجِهِ وحده إذا حلف ليخرجن منه) لأنه إذا حلف ليخرجنّ من هذه البلدة، تناولت يمينه الخروج بنفسِهِ لأن الدار يخرج منها صاحبها في اليوم مرات في العادة، فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة، والخروج من البلد بخلاف ذلك. (ولا يحنثُ في الجميع) أي فيما إذا حلف ليخرجنّ، أو ليرحلنّ من الدار، أو من البلد، وخرج ثم أراد العَوْدَ، (بالعَوْدِ) لأن يمينه على الخروج، وقد خرج وانحلَّتْ يمينه بفعلِ ما حلفَ على فعلِهِ. ومحل ذلك (ما لم تكن له نية، أو) يكن هناك (سبب) يقتضي هجران ما حلفَ على الرحيلِ منه، فيحنث بعوده. (والسفر القصير سفرٌ يبرُّ به من حلف ليسافرَنّ، ويحنث به من حَلَفَ لا يسافر) قال في الفروع: والسفر القصير سفر. ويتوجه بِرٌّ حالفٍ

ليسافرَنّ به. ولهذا نقل الأثرم: أقلُّ من يومٍ يكون سفراً، إلا أنه لا تقصر فيه الصلاة. وفي الإِرشاد: إن بقية أحكام السفرِ تجوز فيه. (وكذا النومُ اليسيرُ) يعني أنه يبرّ به من حلف لينامَنَّ، ويحنث به من حلف لا ينام. (ومن حلف لا يستخدم فلاناً) رجلاً كان أو امرأة، عبداً أو حراً (فخدَمَهُ) الذي حلف أنه لا يستخدمه، (وهو) أي الحالف (ساكتٌ، حَنَثَ) لأن إقراره على خدمته استخدام له. ولهذا يقال: فلان يستخدم عبدَه، إذا خدمه وإن لم يأمره. (و) من حلف: (لا يبيتُ) ببلدِ كذا، كدمشق، مثلاً (أو) حلف: (لا يأكل ببلد كذا، فبات، أو أكل خارج بنيانه) أي بنيان البلد (لم يحنث. وفعل الوكيل كالموكل، فمن حلف لا يفعل كذا فوكّل فيه من يفعله، حنث) لأن الفعل يضاف إلى من فعل عنه، ولهذا قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وقال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} وإنما الحالق غيرهما. وإذا أضيف فعلُ الوكيلِ إلى الموكلِ حنث لوجود المحلوف عليه. وكذا إذا حلف لا يضربُ عبده فَضُرِبَ بأمِرِه، فإنه يحنث. تنبيه: إن حلف أنه لا يبيع زيداً، فباع من يعلم أنه يشتريه له، حنث.

باب النذر

باب النَّذر هو لغةً الإيجاب، يقال: فلانٌ نَذَرَ دم فلانٍ، أي: أوْجَبَ قتله. (وهو) أي النذر (مكروه)، ولو عبادةً، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه، وقال: "إنه لم يأتِ بخيرٍ، وإنما يُستخرَجُ به من البخيل" متفق عليه. والنهي عنه للكراهة، لأنه لو كان حراماً ما مَدَحَ الوافين به، لأن ذمّهم بارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه، ولو كان مستحبًّا لَفَعَلَه - صلى الله عليه وسلم -. (لا يأتي) أي النذر (بخير، للخبر (¬1)، ولا يرد قضاءٌ،) ولا يملِكُ به شيئاً محدَثاً، قاله ابن حامد. (ولا يصحّ) النذر (إلا بالقول) الدالّ عليه (من مكلَّفٍ مختار،) ولو كان المكلف المختارُ كافراً. (وأنواعه) أي النذر (المنعقدةُ ستةٌ أحكامها مختلفة) (¬2): (أحدها: النذرُ المطلَقُ، كقوله) أي قول من يصحّ منه عقد اليمين: (لله على نذرٌ. فيلزمه كفارةُ يمينٍ) وهذا قولُ أكثرِ أهل العلم، لما روى عقبة بن عامرٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارةُ النَّذْرِ إذا لم ¬

_ (¬1) "للخبر" زيادة من (ف). وهو: "النذر لا يأتي بخيرٍ وإنما يُسْتَخْرَجُ به من البخيل". (¬2) (ب، ص): "ستة أحكامٍ مختلفة" والتصويب من (ف).

يسمَّ كفارةُ يمينٍ" (¬1) رواه ابن ماجة والترمذي. (وكذا إن قال: عليَّ نذرٌ إن فعلتُ كذا، ثم فعله) في لزوم الكفَّارَة. النوع (الثاني: نَذْرُ لجاجٍ وغضبٍ) وهو تعليقه بشرطٍ يقصد إمَّا لمنعٍ من شيء أو لحملٍ عليه (كإن كلّمتك) فعليّ الحجُّ، أو العتقُ أو صومُ سنةٍ أو مالي صدقة (أو إن لم أعطك، أو إن كان هذا كذا فعليَّ الحج أو: العتق أو: صوم سنة، أو: مالي صدقة). (فيخيّر) من صدر منه ذلك (بين الفعلِ أو كفَّارة يمينٍ) أي بين أن لا يكلمه في صورة المنعِ، أو يكلمه، ويكفّر كفارة يمينٍ، لأنها يمين، فيخير فيها بين الأمرين كيمينٍ بالله تعالى. ولا يضرُّ قوله: على مذهبِ من يُلْزِمُ بذلك، أو قوله: لا أقلد من يرى الكفّارة ونحوه. النوع (الثالث: نذرُ فعل مباحٍ. كـ) قوله: (لله عليّ أن ألبَسَ ثوبي، أو): لله عليَّ أن (أركب دابّتي). (فيخير أيضاً) بين أن يلبس ثوبه، أو يركب دابته، ولا يكفّر، وبين أن لا يفعل شيئاً من ذلك، ويكفِّرَ كفارة يمين. النوع (الرابع) من أنواع النذر الستة: (نذرُ) شيءٍ (مكروه، كطلاقٍ ونحوه) من أكلِ ثوم وبصلٍ وتركِ سنَّةٍ, (فيسنَّ أن يكفِّر) ليخرج من عهدة النذر (ولا يفعلَه) لأن ترك المكروه أولى من فعله، فإن فعله فلا كفارة عليه، لأنه وفي بنذره. النوع (الخامس) من أنواع النذر الستة: (نذرُ) فعلِ (معصيةٍ). وينعقد على الأصح. وهو من مفرداتِ المذهب. ¬

_ (¬1) حديث "كفارة النذر كفارة يمين إذا لم يسمّ" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن صحيح.

ومثّل للمعصية بقوله: (كشرْب خمرٍ، وصومِ يومِ العيدِ، ونحوه) كصوم يوم حيضٍ، أو نفاسٍ، أو أيَّامَ التشريق. (فيحرم الوفاء) بهذا النذر، لأن معصية الله تعالى لا تباح في حال من الأحوال. (ويكفرُ) من لم يفعله كفارة يمينٍ. (ويقضي الصومَ) غيرَ صوم يومِ حيضٍ. فمن نذر صومَ يومِ عيدٍ قضى يوماً. ومن نذر صومَ أيامِ التشريق قضى ثلاثة أيام. ولا يصوم يومَ العيدِ ولا أيام التشريق، لانعقاد نذره، فتصحّ منه القربة ويلغو تعيينه، لكونه معصيةً، كنذر مريضٍ صومَ يوم يُخاف عليه فيه، ينعقد نذره ويحرُم صومه. وكذا الصلاةُ في ثوب حريرٍ، والطلاقُ زمن الحيض، ونذرُ صوم ليلةِ العيدِ لا ينعقد، ولا كفَارة لأنها ليستْ زمناً للصوم. النوَع (السادس) من أنواع النذر الستة: (نذرُ تَبَرُّرٍ، كصلاة وصيامٍ، ولو واجبينِ، واعتكافٍ وصدقةٍ وحجٍّ وعمرةٍ) وعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ (بقصد التقرّب) من غيرِ أن يعلّق ذلك بشرطٍ (أو يعلّق ذلك بشرطِ حصولِ نعمةٍ) يرجوها (أو دفع نقمةٍ) يخافها، (كـ) قوله: (إن شَفَى الله مريضي، أو سَلِم مالي، فعليّ كذا). (فهذا) القسم (يجب الوفاء به) قال في شرح المنتهى بعد سياقِ عبارةِ المتْنِ: وعلم مما تقدّم أن نذر التبرر يتنوع ثلاثة أنواع: أحدها: إذا كان في مقابلةِ نعمة استجْلَبَها، أو نقمةٍ استدفعها، كقوله: إن شفى الله مريضي فللَّه علي صوم شهر. قال في المبدع: وكذا إن لم يكن كذلك، كطلوعِ الشمس وقدومِ الحاج. قاله في المستوعب. قال الشيخ تقي الدين فيمن قال: إن قَدِمَ فلانٌ أصومُ كذا: هذا نذرُ يجب الوفاء به مع القدرة، ولا أعلم فيه نزاعاً اهـ باختصار.

فصل

الثاني: التزام طاعةٍ من غير شرطٍ. كقوله ابتداء: لله عليّ صومُ شهر. فيلزم الوفاء به في قول أكثر أهل العلم. الثالث: نذرُ طاعةٍ لا أصل لها في الوجوب، كالاعتكافِ وعيادةِ المريض، فيلزم الوفاء به عند عامة أهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ نَذَرَ أن يطيع الله فليطعه" رواه البخاري: انتهى باختصار. تنبيه: يجوز إخراجُ ما نذره من الصدقة، وفعلُ ما نذره من الطاعة، قبل وجودِ شرطه المعلق عليه، لوجود سببه، وهو النذر، ككفارة اليمين. فائدة: قال الشيخ: النذْرُ للقبور، أو لأهلها، كالنذر لِإبراهيم الخليل عليه السلام، والشيخ فلانٍ، نَذْرُ معصيةٍ لا يجوز الوفاء به. وإن تصدق بما نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين، كان خيراً له عند الله وأنفع. وقال: من نَذَرَ إسراج بئرٍ أو مقبرةٍ أو جبلٍ أو شجرةٍ؛ أو نَذَرَ لَهُ أو لسكّانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز، ولا يجوز الوفاء به، إجماعاً. ويصرف في المصالح، ما لم يُعْرَفُ ربه. ومن الحسن صرفه في نظيرِهِ من المشروع، وفي لزوم الكفارة خلاف. انتهى. فصل (ومن نذر صوم شهر معيّن) كشعبان، (لزمَهُ صومُهُ متتابعاً). (فإن أفطر لغير عذرٍ حرم) عليه الإِفطار، (ولزمه استئناف الصوم مع كفارة يمينٍ، لفوات المحلّ.) وإن صام قبل مجيء الشهرِ المعيّن لم يجزِهِ، كما لو صام شعبان عن رمضان الذي بعده.

(و) إن أفطر منه يوماً فأكثر (لعذرٍ بني) على ما مضى من صيامه. (ويكفّر لفوات التتابع). (ولو نَذَرَ شهراً) أي صوم شهرٍ (مطلقاً) يعني من غير تعيين الشهر، (أو) نَذَرَ (صوماً متتابعاً غير مقيد بزمنٍ لزمَهُ التتابع) في صومِهِ المطْلَقِ والمتتابع. (فإن أفطر لغير عذرٍ لزمه استئنافه) أي استئناف الصوم من أوله، (بلا كفارةٍ) لأنه فعل المنذور. (و) إن أفطر (لعذرٍ خُيِّر بين استئنافه) أي الصوم (ولا شيء عليه) أي لا كفارة عليه، (وبين البناء ويكفّر) لفوات التتابع، كفارةَ يمين. وإن نذر صلاةً فركعتان قائماً لقادر. (ولمن نَذر صلاةً جالساً أن يصليها قائماً) لأنه أتى بأفضل مما نذره.

كتاب (القضاء) والفتيا

كتَاب (القضَاء) والفتيا وهي تبيينُ الحكم الشرعيّ (¬1). ولا يلزم جوابُ ما لم يقعْ، ولا ما لا يحتمله سائل، ولا ما لا نفع فيه. والقضاءُ تبيينُهُ الحكمَ، والإلزامُ به، وفصل الخصومات. (وهو فرض كفايةٍ) لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجباً، كالإمامة والجهاد. [تنصيب القضاة] (فيجب على الإِمام أن ينصبَ بكلِّ إقليم) بكسرة الهمزة أحد الأقاليم السبعة: أولها: الهند، الثاني: الحجاز، الثالث: مصر، الرابع: بابل، الخامس: الروم والشام، السادس: بلاد الترك، السابع: الصين. كذا رأيته بخط سيدي الشيخ عبد الباقي الحنبلي (¬2). (قاضياً) لأن الإمام ¬

_ (¬1) حققت في رسالتي "الفتيا ومناهج الإفتاء" وهي مطبوعة، أن التعريف الصحيح للإفتاء "الإخبار بحكم شرعي، عن دليلٍ، لمن سأل عنه، في أمرٍ واقع "والشارح أضاف عبارة (الفتيا) إلى عنوان الكتاب، ولم يذكر أحكامها. فارجع إليها في الرسالة المذكورة إن شئت الاطّلاع، والله يتولاني وإياك. (¬2) في مناسبة هذا النقل لهذا المقام نظر، إذ يلزم عليه أن ينصب في الشام كلها قاضياً واحداً، وذلك غير كاف، ويلزم عليه ترك المغرب العربي والأندلس واليمن كلها من غير قاض. وإنما مرادهم بالإقليم الكورة المتسعة التي لها أمير وفيها مركز حكم. وسيأتي =

لا يمكنه أن يتولّى الخصومات والنظر فيها في جميع البلدان، والخصوماتُ بين الناس تكثر، فوجب أن يرتَّب في كل إقليم من يتولّى فصل الخصومات لئلا يتوقف ذلك على السفر إلى الإِمام، فتضيع الحقوق في السفر إلى الإِمام من المشقة وكلفة النفقة. (و) يجب على الإِمام أيضاً أن (يختار لذلك) أي لنصب القضاء (أفضلَ من يجدُ علماً وورعاً) أي في العلم والورع، لأن الإِمام ناظرٌ للمسلمين، فيجب عليه اختيار الأصلح لهم، فيختار أفضلَهُمْ علماً، لأنه إنما يمكنه القضاء بين المترافعين مع العِلْم، لأن القضاء بالشيء فرع العلم به. والأفضل أولى من المفضول، لأنه أثبت وأمكن. وكذا كلّما كان ورعه أكثر كان سكون النفس فيما يحكم به أعظم، وكان من ترك التحرّي، والميلِ في جانب، أبعد. (ويأمره) عند ولايته (بالتقوى) لأنها رأس الدين. (و) يأمره أيضاً بـ (تحرّي العدل) وهو إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل، وهذا هو المقصود من القضاءِ. ويأمره أن يستخلف في كل ناحية من نواحي عمله أفضل من يجد لهم. (وتصحّ ولايةُ القضاءِ، والإِمارةُ) كأميرِ جهادٍ ووكيل بيت المال (منجزةً) كوليتُك الحكمَ الآن (ومعلَّقةً) بشرط، كإن مات فلانٌ القاضي فقد وليت فلاناً عِوَضَهُ، وإن مات أميرُ جيشِ كذا ففلانٌ عوضه، فمات تعيّن المولّى باسمه موضعَهُ. (وشرط لصحة التوليةِ كونُها من إمامٍ، أو نائبه فيه) أي القضاء، ¬

_ = من تعليله وجوب نصب القضاة في الأقاليم بضياع الحقوق بمشقة السفر، ما يدلك على هذا. وإنما أُتيَ الشارح من قول أهل البلدان إن الأقاليم سبعة ومرادهم المناطق المناخية.

لأن ولاية القضاء من المصالح العامة، لا تجوزُ إلا من جهة الإِمام، كعقد الذمة. ولأن الإِمام صاحبُ الأمر والنهي، وهو واجب الطاعة، ومسموع الكلمة. وأنْ يعرِفَ الإِمام أو نائيُهُ أن المولّى صالح للقضاء، لأن الأصل العَدَمُ، فلا تجوز توليته مع العلم بعدم صلاحيته. (و) يشترط لصحة تولية القضاء أيضاً (أن يعيِّن له ما يوليّه فيه الحكمَ من عملٍ) وهو ما يجمع بلداناً وقُرًى متفرقةً، كالعراق ونواحيه، (وبلدٍ) كمكةَ والقاهرة، ليعلم محلّ ولايته فيحكم فيه، ولا يحكم في غيره. ومشافهتُهُ بها، أو مكاتبتُهُ، وإشهاد عدلين عليها، أو استفاضتُها، إذا كان بلدُ الإِمام من البلد الذي ولي فيه خمسة أيام فما دون، لا عدالة المولِّي بكسر اللام. (وألفاظ التوليةِ الصريحة سبعة): الأول: (وليتك الحكم.) الثاني: ما أشار إليه بقوله: (أو قَلَّدْتُكَهُ) أي الحكم. (و) الثالث: (فوضتُ) إليك الحكم. والرابع: ما أشار إليه بقوله: (أو رددت) إليك الحكم. الخامس: ما أشار إليه بقوله: (أو جعلت إليك الحكم. و) السادس: ما أشار إليه بقوله: (استخلفتك) في الحكم. والسابع: ما أشار إليه بقوله: (أو استَنَبْتُكَ في الحكم.) فإذا وجد أحد هذه الألفاظ السبعة، وقبِلَ مولىً حاضِرٌ بالمجلِسِ، أو غائبٌ عنه، أو شَرَعَ الغائب في العمل انعقدت. (والكناية) من ألفاظ التولية: نحو: (اعتمدتُ) عليك، (أو عوّلت عليك، أو: وَكّلْتُ) إليك، (أو: استندتُ إليك، لا تنعقد) الولاية (بها) أي بألفاظ الكناية (إلا بقرينةٍ، نحو: فاحكم، أو: فتولَّ ما عولتُ عليك

فصل

فيه،) لأن هذه الألفاظ تحتمل التوليةَ وغيرَها، من كونه يأخُذُ برأيه وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينةٍ تنفي الاحتمال. فصل (وتفيد ولايةُ الحكمِ العامةُ) وهي التي لم تختصّ بحالٍ دون حالٍ، النظرَ في الأشياء والإلزام بها، وهي: (فصلُ الخصوماتِ، وأخذُ الحق) ممن يجب عليه (ودفعُه للمستحق). (والنظرُ في مال اليتيم) الذي لم يُقَمْ له وصي، (و) مالِ (السفيهِ، و) مالِ (الغائب) ما لم يكن له وكيل. (والحجَرُ لسفهٍ وفَلَسٍ). (والنظرُ في الأوقاف) التي في عمله (لتجري على شروطها). والنظرُ في مصالح طرق عمله وأفنيته. وتنفيذ الوصايا. (وتزويجُ من لا ولي لها) من النساء. وتصفُّح حالِ شهوده وأمنائه. وإقامة حد، وإقامة إمامة جمعةٍ وعيدٍ ما لم يخصّا بإمام. وجبايةُ خراجٍ وزكاةٍ ما لم يخصّا بعامل. (ولا يستفيدُ الاحتسابَ على الباعة) والمشترين، (ولا إلزامهم بالشرع.) وله طلب رزق من بيت المال لنفسه وأمنائه وخلفائه، حتى مع عدم حاجة. (و) إذا ولّاه في محلٍّ خاصٍّ (لا ينفذ حكمه في غيرِ محلّ عمله) فإذا أذنتْ له امرأةٌ في تزويجها وهي في عمله، فلم يزوّجها حتى خرجت من عمله، لم يصح.

[في شروط القاضي]

فصل [في شروط القاضي] (ويشترط في القاضي عشر خصال): الأولى والثانية: (كونه بالغاً عاقلاً) لأن غير البالغ والعاقلِ تحت وِلاية غيره، فلا يكون ولياً على غيره. الثالثة: كونه (ذكراً) لأن القاضي يحضره محافلُ الخصومِ والرجال، ويحتاج فيه إلى كمالِ الرأيِ وتمام العقلِ والفطنةِ. والمرأةَ ناقصةُ العقل ضعيفةُ الرأي ليستْ أهلاً للحضور في محافل الرّجال، ولا تُقْبَلُ شهادتُها ولو كان معها ألفُ امرأةٍ، ما لم يكن معَهنَّ (¬1) رجل. الرابعة: كونه (حراً) لأن غيرَهُ ناقصٌ لما فيه من الرق، مشغولٌ بحقوقِ سيّده، فلم يكن أهلاً للقضاء، كالمرأة. الخامسة: كونه (مسلماً) لأن الإسلام شرط العدالة، فأولى أن يكونَ شرطاً للقضاء. السادسة: كونه (عدلاً) ولو تائباً من قذفٍ، فلا يجوز توليةُ الفاسقِ، ولا من فيه نقصٌ يمنع قبول شهادته. السابعة: كونه (سميعاً) لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين. الثامنة: كونه (بصيراً) لأن الأعمى لا يعرِف المدّعي من المدّعى عليه، ولا يعرِفُ المقرّ من المقَرِّ له. التاسعة: كونه (متكلّماً) لأن الأخرس لا يمكنُه النطق في الحكم، ولا يفهم جميعُ الناسِ إشارته. العاشرة: كونه (مجتهداً) قال في الفروع: إجماعاً. ذكره ابن ¬

_ (¬1) ورأي ابن جرير الطبري جواز توليتها القضاء، ويرى أبو حنيفة جواز توليتها القضاء في غير الحدود.

[التحكيم]

حزم، وأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكمٍ، ولا مفتٍ تقليدُ رجلٍ، لا يحكُمُ ولا يفتي إلا بقوله. وفي الإفصاح: أن الإجماع انعقد على تقليدِ كلٍّ من المذاهب الأربعة وأن الحق لا يخرج عنهم (¬1). (ولو) كان اجتهادُهُ (في مذهبِ إمامِهِ، للضرورة) واختاره في الترغيب. واختار في الإِيضاح والرعاية: أو مقلّداً. قال في الإنصاف: قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطّلت أحكام الناس. انتهى. فيراعي ألفاظ إمامِهِ ومتأخِّرَهَا ويقلّد كبار [أهل] مذهبه في ذلك، ويحكم به. [التحكيم] (فلو حَكَّم) (¬2) بتشديد الكاف (اثنانِ فأكثرُ بينهما شخصاً صالحاً للقضاءِ) يعني متصفاً بصلاحيته للقضاء، فحكم بينهما (نَفَذَ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاّه الإِمام أو نائبه) لكن لكل من المتحاكمين الرجوعُ عن تحكيمِهِ قَبْلَ شروعِهِ في الحكم، لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين، أشْبَهَ رجوعَ الموكّل عن التوكيل قبل التصرف فيما وكل فيه. (ويرفع) حكمه (الخلافَ، فلا يحلّ لأحد نقضه حيث أصابَ الحق). وقال الشيخ: لا تشترط العشر صفاتٍ فيمن يحكّمه الخصمان. ¬

_ (¬1) دعوى الإجماع على هذا مردودة. وانظر اختيارات شيخ الإِسلام ابن تيمية ففيها الكثير الخارج عن أقوال المذاهب الأربعة كفتياه بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع واحدة وغير ذلك. وقد صرّح به وقد وضحت ذلك في رسالتي في الفتيا فليرجع إليها. والله أعلم. (¬2) لو قال "وإن حكمَ ... الخ" لكان هو الصواب، إذ لا تفريع هنا.

[في آدب القضاء]

فصل [في آدب القضاء] (ويسنُّ كون الحاكم قوياً بلا عنفٍ) وهو ضد الرِّفق، وذلك لئلا يطمع فيه الظالم، (ليناً بلا ضعف) لئلا يهابه صاحبُ الحق، (حليماً) لئلا يغضب من كلامِ الخصمِ فيمنعه ذلك من الحكم بينهم؛ (متأنِّياً) اسم فاعلٍ من التأني وهو ضد العَجَلة، لئلا تؤدي عَجَلَتهُ إلى ما لا ينبغي، (متفطّناً) لئلا يخدع من بعض الخصوم لغِرّةٍ. قال في شرح المقنع: عالماً بلغات أهل ولايته؛ (عفيفاً) وهو الذي يكف نفسه عن الحرام، لأنه لا يطمع في ميله بإطماعه؛ (بصيراً بأحكام الحكّام قبله،) لقولِ عليٍّ رضي الله تعالى عنه، وعن بقية الصحابة، وعنّا بهم: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمسُ خصال: عفيفٌ حليمٌ، عليمٌ بما كان قبله، يستشيرُ ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم. (ويجب عليه) أي على القاضي (العدلُ بين الخصمين في لحْظِهِ، ولفْظِهِ، ومجلسِهِ، والدخولِ عليه) إلا إذا سَلّمَ أحدُهما فيردّ عليه، ولا ينتظر سلام الثاني، و (إلا المسلم) إذا تخاصَمَ (مَعَ الكافِرِ، فيقدّم) المسلمَ (دخولاً) أي في الدخول على القاضي، (ويُرْفَعُ جلوساً) أي في الجلوس، لحرمة الإِسلام. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (ويحرم عليه) أي على القاضي (أخذُ الرِّشوة) بتثليث الراء، وكذا هديّة. (و) يحرم (أن يُسَارّ أحدَ الخصمين، أو يضيّفه) دون الآخر، أو يلقّنَهُ حجته، لما في ذلك من الإِعانة على خصمه وكسْرِ قلبه، (أو يقومَ له دون الآخر) أو يعلّمه كيف يَدَّعي، إلا أن يَتْرُكَ ما يلزم ذكرُهُ، كشرطِ

عقدٍ وسببٍ ونحوِه، فله أن يسأله عنه، لأنه لا ضرر على صاحبه في ذلك. (ويحرم عليه الحكمُ وهو غضبانُ كثيراً) لأنه ربما حمله الغضب على الجور في الحكم، (أو) يقضي (وهو حاقِنٌ) البولَ، (أو في شدةِ جوعٍ أو عطشٍ أو همٍّ أو ملَلٍ أو كَسَلٍ أو نُعَاسٍ أو بَرْدٍ مؤلم، أو حرٍّ مزعج) لأنّ ذلك كله يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، ويمنع حضورَ القلب. فهو في معنى الغضب المنصوص عليه، فيجري مجراه. (فإن خالَفَ وحكم) في حالة لا يحل له الحكم فيها، كما لو حكم وهو غضبان ونحو ذلك (صح إن أصاب الحق) ذكره القاضي في المجرد وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء مع ذلك، (ويحرم عليه أن يحكم بالجهلِ) لما فيه من الوعيد الشديد، (أو) يحكم (وهو متردد) في حكم الله تعالى في الواقعة (فإن خالَفَ، وحَكَمَ، لم يصحّ) حكمه، (ولو أصَابَ) بالحكْمِ، (الحقّ). (ويوصي) القاضي وجوباً (الوكلاءَ والأعوانَ) الذين (ببابه بالرفقِ بالخصومِ وقِلَّةَ الطمع)، لأن في ضد ذلك ضرراً بالناس. فيجب عليه أن يوصيهم بما يزول به الضرر عن الناس. (ويجتهد) القاضي (إن يكونوا شيوخاً أو كهولاً من أهل الدينِ والعفّة والصّيانة) لأن كونهم كذلك أقل شرًّا، فإن الشباب شعبةٌ من الجنون، ولأن الحاكم تأتيه النساءُ وفي اجتماع الشبابِ بهنّ ضرر عظيم. (ويباح له) أي القاضي قال في المبدع: والأشهر أنه يسن له (أن يتخذ كاتباً) لأن الحاكم يكثر اشتغالُه ونظره في أمر الناس، فلا يمكنه أن يتولّى الكتابة بنفسه. وإن أمكنه الكتابة بنفسه جاز له اتخاذ الكاتب،

والاستنابةُ في الكتابة أولى من تولّيها بنفسه، (ليكتب الوقائع). (ويشترط كونه) أي الكاتب (مسلماً مكلّفاً عدلاً). (ويسنّ كونه حافظًا عالمًا) لأن في ذلك إعانة على أمره، وكونُهُ حراً ليخرج من الخلاف، وكونُهُ جيّدَ الخط ليكون أكمل، وكونه عارفاً، قاله في الكافي، لأنه إن لم يكن عارفاً أفسد ما يكتبه بجهله.

باب طريق الحكم وصفته

باب طريق الحُكم وَصفته طريقُ كل شيءٍ ما يُتَوَصَّلُ به إلى ذلك الشيء. والحكم فصل الخصومات. (إذا حضر إلى الحاكم خصمان فله أن يسكت حتى يبتدئا) أي حتى تكون البداءة بالكلام من جهتهما، (وله أن يقول: أيكما المدعي) لأن سؤاله عن المدعي منهما لا تخصيص فيه لواحد منهما، فجاز لذلك. (فإذا ادَّعى أحدُهما) أي أحد الخصمين (اشتُرِط كون الدعوى معلومة) أي كونها بشيء معلوم، لأن المدعى عليه إذا اعترف بما ادُّعي عليه به، وطلب المدعي من الحاكم إلزامه به، وجب على الحاكم إلزامه، والإِلزام بالمجهول لا يصح، فلذلك اعتُبِر كونها معلومة، إلا في وصيّةٍ بمجهول وإقرارٍ وخلعٍ على مجهول. (و) يشترط (كونها منفكة عما يكذّبها) فلا تصحّ على إنسان أنّه قَتَلَ أو سرق من مدة عشرين سنة، وسنُّهُ دونها، أو ادّعى بنوةَ إنسانٍ لا يمكن كونه منه. (ثم إن كانت) الدعوى (بدينٍ اشترِطَ كونه) أي الدين (حالاًّ) قال في الترغيب: الصحيح تسمع، فيثبت أصل الحق للّزومِ في المستقبل، كدعوى تدبير. انتهى.

(وإن كانت) الدعوى (بعينٍ) كفرسٍ ونحوها (اشترط حضورها لمجلس الحكم، لتعيّن بالإِشارة) لانتفاء اللبس بتعيّنها. (فإن كانت) العين المدَّعى بها (غائبة عن البلد) أو كانت تالفةً، أو في الذّمة (وَصَفَها) المدعي (كصفاتِ السلم،) وذلك بأن يستقصي في الدعوى ما يشترط ذكره في السلم. (فإذا أتمَّ المدعي دعواه) محرَّرةً (فإن أقرّ خصمه بما ادعاه) عليه، (أو اعترف بسبب الحق، ثم ادعى البراءة، لم يلتَفِتْ لقوله، بل يُحلِّف المدعي على نفي ما ادّعاه) المدعى عليه من البراءة بالإِبراء أو الأداء. (وُيلزِمه بالحق، إلا أن يقيم) المدعى عليه (بينةً ببراءته) فيصرفه الحاكم من طلب المدعى عليه. قال في الإِقناع: وإن قال: لي بيّنة بالوفاء والإِبراء، أو قاله بعد ثبوت الحق ببينة أو إقرار، أمهل ثلاثة أيام. وللمدعي ملازمته فيها حتى يقيمها. فإن عجز حلف المدعي على بقاء حقه. (وإن أنكر الخصم ابتداءً بأن قال لمدعِ) عليه (قرضاً أو ثمناً) عن مثمن: (ما أقرضني، أو) قال المدعي عليه ثمنه: (ما باعني، أو) قال: (لا يستحق عليّ شيئاً مما ادعاه) من القرض أو الثمن، (أو) قال: (لا حقّ له عليّ، صح الجواب). (فيقول الحاكم للمدعي: هل لك بينة) بالذي ادعيته؟ (فإن قال: نعم) لي عليه بينة، (قال له: إن شئت فأحضرها) أي بيّنتك. (فإذا أحضرها) المدعي بين يدي الحاكم، (وشهدت) عنده (سمعها، وحَرُمَ) عليه (ترديدها). وفي الرعاية: إن ظن الصلحَ أخّر الحكم. وفي الفصول. أحبَبْنا له (¬1) ¬

_ (¬1) (ب، ص): "له إحالة" والتصويب من (ف).

[في تعديل الشهود وجرحهم]

أمرهما بالصلح، ويؤخّره، فإن أبيا حكم. وفي المغني: ويقول: قد شهدا عليك، فإنْ كان لك قادحٌ فبيّنْهُ عندي، يعني: يستحبّ. ذكره غير صاحب المغني. وذكره في المهذّب والمستوعِب فيما إذا ارتاب فيهما. ويكره انتهارهما وطلب زلتهما. فصل [في تعديل الشهود وجرحهم] (ويعتبر في البينة العدالةُ ظاهراً) قال في المنتهى والإِقناع: (و) كذا (باطناً) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ولو لم يطعن فيها خصمه فلا بد من العلم بها. ولو قيل: إن الأصل في المسلمين العدالة. قال الزركشي: لأن الغالب الخروج عنها. وقال الشيخ: ومن قال: الأصل في الإِنسان العدالة، فقد أخطأ. وإنما الأصل فيه الظلم والجهل، لقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} انتهى. ولا تشترط باطناً في عقدِ نكاحٍ. (وللحاكم أن يعمل بعلمه فيما أقرّ به في مجلس حكمه) ولو لم يسمعْهُ غيره، لأنه إذا جاز الحكم بشهادةِ غيرِه فبسماعِهِ هو أولى، ولأنّه لو لم يعمل بما أقر به عنده أفضى ذلك إلى ضياع الحقوق، لأنه قد يقرُّ عنده، ولا يحضره أحد من الشهود، فإذا لم يحكم به ضاع حَقُّ المقَرِّ له. (و) يعمل بعلمه (في عدالةِ البينة، وفسقها) لأن التهمة لا تلحقه في ذلك، لأن صفات الشهود معنًى ظاهر. ولا يحكم بعلمه في غيرِ ما ذكر، ولو في غير حدٍّ.

(فإن ارتاب) الحاكم (منها) أي من البينة (فلا بد من المزكِّينَ لها) أي للبينة. (فإن طلب المدعي من المحاكم أن يحبس غريمه حتى يأتي بمن يزكّي بيّنته أجابه) أي أجابَ المدعي (لما سأل، وانتظره ثلاثة أيام). (فإذا أتى) المدعي (بالمزكّين اعتُبِرَ معرفتُهُمْ لمن يزكونه بالصُّحبة والمعاملة) والجوار. ويكفي في تزكية الشاهد عدلان، يقول كل منهما: أشهد أنه عدل. وبينةُ جَرْحٍ مقدمة. ومن ثبتت عدالته مرةً لزمَ البحثُ عنها مع طول المدّة بين الشهادتين. (فإن ادّعى الغريمُ فِسْقَ المزكين) للبينة (أو فسق البينة المزكّاة، وأقام بذلك) أي بفسقِ البيّنة، أو بفسق المزكًين لِلْبيِّنة (بينةً، سمعت) البينة (وبطلت الشهادة). (ولا يقبل من النساء (¬1) تعديل ولا تجريح) لأنها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الشهادة في القصاص. تنبيه: لا يسمع الجَرْحُ إلا مفسراً بما يقدح في العدالة، عن رؤية، فيقول الشاهد بالجرح أشهد: أني رأيته يشرب الخمر، أو: يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم، أو: يعامِلُ بالرّبا، أو: سمعته يقذف. أو عن استفاضةٍ، فلا يكفي أن يشهد أنه فاسق أو ليس بعدل، ولا قولُه: بلغني عنه كذا. لكن يعرِّضُ جارحٌ بزناً لئلا يجب عليه الحد، ¬

_ (¬1) (ب، ص): "في النساء" والتصويب من (ف).

فإن صرّح حُدَّ إن لم يأت بتمام أربعة شهود. (وحيث ظهر فسقُ بينةِ المدعي، أو قال) المدعي (ابتداءً) أي قبل أن يقيم. بينة: (ليس لي بينة) على هذا (قال له الحاكم: ليس لك على غريمِكَ إلا اليمين،) ولا بدّ في اليمين من سؤال المدعي لها طوعاً، وإذن الحاكم فيها. وللمدعي مع الكراهة تحليفه مع علمه بكذبه. (فيحلِّف الغريمُ على صفةِ جوابِهِ في الدعوى) لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك الجواب، (ويخلِّي سبيلَه) إذا حلف، لأنه لم يبق عليه شيء. (ويحرم تحليفه بعد ذلك.) قال في المنتهى: وتحرم دعواه ثانياً، وتحليفُه، كبرىء. انتهى. قال في الإِنصاف: ظاهر قوله: حلفه وخلى سبيله: إنه لا يحلف ثانياً بدعوى أخرى. وهو صحيح. وهو المذهب. فيحرم تحليفه. أطلقه المصنف والشارح وغيرهما، وقدمه في الفروع. قال في المستوعب والترغيب والرعاية: له تحليفه عند من جهل حلفه عند غيره، لبقاء الحق بدليل أخذه ببينة. انتهى كلامه في الإِنصاف. (وإن كان للمدعي بينة فله أن يقيمها بعد ذلك). (وإن لم يحلف الغريم) أي المدعى عليه (قال له الحاكم: إن لم تحلف وإلا قضيتُ عليكَ بالنُّكول) قال في المقنع: واختاره عامة شيوخنا. (ويسن تكرارُهُ) أي قول: إن لم تحلف قضيت عليك، (ثلاثاً) من المرات. (فإن لم يحلف قضى عليه) القاضي (بالنكول) بشرط أن يسأل المدعي ذلك، (ولزمه الحقُّ).

[هل ينفذ حكم القاضي باطنا]

تنبيه: إن قال المدعي: ما لي بينة، ثم أتى بها، فإنها لا تسمع. نص على ذلك. فصل [هل ينفذ حكم القاضي باطناً] (وحُكْم الحاكم يرفع الخلاف، لكنه لا يزيل الشيء عن صفته باطناً) ولو كان ذلك في عقدٍ وفسخٍ وطلاقٍ. (فمتى حكم له) أي للمدعي (ببينة زورٍ بزوجيةِ امرأةٍ، ووطئ مع العلم) أي علمه أنها لا تحل له (فكالزنا)، يجب عليه الحدُّ بذلك في الأصح. وعليها أن تمتنع منه ما أمكنها، فإن أكرهها فالإِثم عليه دونها. ويصحّ أن تتزوج غيره، لأن ذلك النكاح كلا نكاحٍ. (وإن باع حنبليٌّ متروكَ التسميةِ) عمداً من ذبيحةٍ أو صيدٍ (فحكم بصحته شافعيٌّ نَفَذَ) حكمُه عند أصحابنا، إلا أبا الخطاب، قاله في الفروع. (ومن قلَّد) مجتهداً (في نكاح) مختلف فيه (صح، ولم يفارق) المنكوحة (بتغيّر اجتهاده) أي اجتهاد المجتهد الذي قلده في الصحة، (كالحكم بذلك) أي كما لو حكم به مجتهد يرى حال الحكم الصحة، ثم تغيّر اجتهاده، بخلاف مجتهدٍ نكح نكاحاً أداه اجتهاده إلى صحته، ثم رأى بطلانه فإنه يلزمه أن يفارق، لاعتقاده بطلانه وحرمةَ الوطء.

[في القضاء على الغائب]

فصل [في القضاء على الغائب] (وتصح الدعوى بحقوقِ الآدميّين على الميت). (و) تصح الدعوى (على غير المكلف، وعلى الغائب مسافة قصر) ولو في غير عمله، (وكذا) تصح الدعوى على غائب (دونَها) أي دون مسافة القصر (إذا كان مستتراً، بشرط البيّنة في الكلّ) أي في الدعوى على الميت وغير المكلف أو غائب مسافةِ قصر أو مستترٍ. ثمَّ إذا كُلِّفَ غير المكلف، ورشَد بعد الحكم عليه، أو حضر الغائب بعد الحكم عليه، أو ظهر المستتر بعد الحكم عليه، فهو على حجته. فإن جَرَحَ البينةَ بأمرٍ بعد أداء الشهادة، أو أطلق ولم يقُلْ قبل الشهادة ولا بعدها، لم يقبل جرحه، ولم يبطل الحكم. وإن جرحها بأمرٍ قبل الحكم قُبِل تجريحه وبَطَلَ الحكم. ومن كان دونَ مسافة قصرٍ ظاهراً لم تسمع الدعوى عليه، ولا البينة، حتى يحضرِ، كحاضر، إلا أن يمتنع من الحضور، فيسمعها، ثم إن وُجِد له مال وفَّى منه، وإلا قال للمدّعي: إن عرفت له مالاً، وثبت عندي، وفّيتك منه. [كتاب القاضي إلى القاضي] (ويصحّ أن يكتب القاضي الذي ثبت عنده الحق) من قرضٍ وغصبٍ وبيعٍ وإجارةٍ ورهنٍ ووصيةٍ بمالٍ وطلاقٍ ونكاحٍ ونسبٍ وتوكيلٍ في غير مالٍ وإيصاء على أولادٍ وحدّ قذفٍ وكلِّ ما فيه حق آدميّ (إلى قاض آخر معينٍ أو غير معينٍ) كأن يكتب "إلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم" (بصورة الدعوى الواقعة على الغائب، بشرط أن يقرأ ذلك على عدلينِ.) ويعتبَرُ ضبطُهما لمعناه، وما يتعلّق به

الحكم منه، (ثم) يقول القاضي الكاتب إلى غيره: "هذا كتابي إلى فلان بن فلان" أو "إلى من يصل إليه من القضاة" و (يدفعه لهما) أي إلى العدلين اللذين شهدا عليه بما في الكتاب، (ويقول فيه: "إنّ ذلك قد ثبت عندي" و) يقول فيه أيضاً: ("إنك تأخذُ الحق للمستحقّ" فيلزم القاضي الواصلَ إليه) ذلك الكتاب (العملُ به) قال في المنتهى: وإذا وصل الكتاب، وأُحضِرَ الخصم المذكور فيه باسمه ونسبه وحليته، فقال: ما أنا بالمذكور، قُبِل قولُهُ بيمينه. فإن نَكَلَ، قضي عليه. وإن أقر بالاسم والنسب، أو ثبت ببينة، فقال: المحكوم عليه غيري، لم يقبل إلا ببينة تشهد أن بالبلد آخر كذلك، ولو ميتاً يقع به إشكال. فيتوقف حتى يعلم الخصم. انتهى.

باب القسمة

باب القسمَة هي تمييز بعض الأنصباء عن بعضٍ وإفرازها عنها. (وهي) أي القسمة (نوعان: قسمةُ تراضٍ، وقسمة إجبارٍ): [قسمة التراضي] (فلا قسمة في) شيء (مشترك إلا برضا الشركاء كلِّهِم حيث كان في القسمة ضرر ينقص القيمة، كحمام ودورٍ صغارٍ) أو لأنه لا تتعدل أجزاؤُه إلا بالتجزئة، وهو جعْلُها أجزاء، ولا بالقيمة، (و) ذلك كـ (شجرٍ مفردٍ)، وأرضٍ ببعضها بناءٌ أو بئر أو معدن، (وحيوان). (وحيثُ تراضَيَا) أي المتقاسمان على القسمة أعياناً بالقيمة (صحّت) القسمة (وكانتْ بيعاً يثبت فيها ما يثبت فيه) أي البيع (من الأحكام). قال القاضي في التعليق، وصاحبُ المبهج، والموفق في الكافي: البيع ما فيهِ ردُّ عوضٍ. فإن لم يكن فيه ردُّ عوضٍ فهي إفراز النصيبين وتمييز الحقّين، وليستْ بيعاً. واختاره الشيخ. (وإن لم يتراضيا) على ذلك (فدعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك) أي في الدور الصّغار، والشجر المفرد، والحيوانِ، ونحوه، (أو) دعا شريكه (إلى بيعِ عبدٍ أو بهيمةٍ أو سيفٍ ونحوهِ) ككتابِ (مما هو شركة بينهما، أُجْبِرَ) على البيع (إن امتنع، فإن أبى) شريكُهُ أَن يبيع معه

[المهايأة]

(بيع عليهما) أي باعه الحاكم عليهما (وقسم الثمن) عليهما على قدر حصصهما. قال في الفروع: نقله الميموني وحنبل. [المهايأة] (ولا إجبار في قسمة المنافع) على الأصح، لأن المهايأة معاوضةُ حقٍّ بحقٍّ، فلا يجبر عليها الممتنع. (فإن اقتسماها) أي المنافع مهايأةً (بالزمن كهذا شهراً) أو عاماً ونحوه (والآخر مثله) أي شهراً وعاماً ونحو ذلك؛ (أو) اقتسماها مهايأةً (بالمكان كـ) سكنى (هذا في بيت، و) سكنى (آخر في بيت صح) ذلك (جائزاً) أي غير لازم سواء عيًنا مدةً أوْ لا، كالعارية من الجهتين، يعني كما لو استعار كل واحد من الآخر شيئاً. (ولكلِّ) منهما (الرجوع) متى شاء، فلو رجع أحدهما بعد استيفاء نوبته غرم ما انفرد به. ونفقة الحيوان المشترك مدّةَ كل واحد من الشريكين المتهايئين في نوبته عليه، لتراضيهما على المهايأة. فصل [في قسمة الإِجبار] (النوع الثاني) من نوعي القسمة: (قسمة إجبارٍ، وهي ما لا ضرر فيها) على أحد الشريكين (ولا) فيها (ردُّ عوضٍ) من واحدٍ من الشركاء. وسمّيتْ قسمة إجبار لأن الحاكم يجبر الممتنع منهما إذا كملت عنده شروط الإِجبار. (وتتأتّى) قسمةُ الإِجبار (في كل مكيلٍ) وهو جنسُ الحبوب كلها، والمائعات، وما يكال من الثمار كالتمر، والزبيب، واللوز، والفستق،

[القاسم]

والبندق؛ أو يكال من غير الثمار كالأُشنان؛ (وموزونٍ) كالذّهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، والحديد ونحوها من الجامدات. وسواء كان ذلك مما مسَّتْهُ نار كدبسٍ وخلِّ تمرٍ، أوْ لا كدهنٍ ولبن. (و) كذا تتأتى قسمة الإِجبار (في دارٍ كبيرة) ودكّانٍ (وأرضٍ واسعةٍ) وبساتينَ، ولو لم تتساوَ أجزاءُ هذه المذكورات إذا أمكنَ قَسْمُها بالتعديل، بأن لا يجعل شيء معها. (ويدخل الشجرُ) في القسمة (تبعاً) للأرض، كالأخذ بالشفعة. (وهذا النوع) أي قسمةُ الإِجبار (ليس بيعاً، فيجبُرُ الحاكمُ أحد الشريكين إذا امتنع) عن القسمة. ويشترط لحكم الحاكم بالإِجبار على القسمة ثلاثة شروط: أحدها: أن يثبت عند الحاكم مِلْكُ الشركاءِ لذلك المقسوم، بالبينة. الثاني: أن يثبت عنده أن لا ضرر فيها. الثالث: أن يثبت عنده إمكان تعديل السهام في العينِ المقسومة من غير شيء يجعل فيها، وإلاَّ لم يجبر الممتنع. [القاسم] (ويصحُّ) من الشريكين (إن يتقاسَمَا بأنفسهما، وأن ينصبا قاسماً بينهما) من عند أنفسهما، لأن الحق لهما، فكيفما اتَّفقا عليه جاز. ويصح أن يسألا حاكماً نصْبَهُ يقسم بينهم، فإذا سألوه إيّاه وجبت عليه إجابتهم لقطع التنازع بين الشريكين. (ويشترط إسلامه) أي القاسم الذي ينصبه الحاكم؛ (وعدالتَهُ) ليقبل قوله في القسمة؛ (وتكليفه؛ ومعرفته بالقسمة) ليحصل منه المقصود، لأنه إذا لم يعرف ذلك لم يكن تعيينه للسِّهام مقبولاً، كحاكِمٍ

[القرعة في القسمة]

يجهلُ ما يحكم به. لا حرّيته، فلا تشترط، فتصحُّ قسمةُ عبدٍ ويكفي واحدٌ إلا مع تقويم. تنبيه: إذا كان القاسمُ كافراً، أو فاسقاً، أو جاهلاً بالقسمة، لم تلزم إلا بتراضيهم بها. (وأجرته) أي القاسم (بينهما) أي الشريكين (على قدر أملاكهما) قال في الإِقناع: وأجرته مباحة. فإن استأجره كل منهما بأجرةٍ معلومةٍ ليقسم نصيبه جاز، وإن استأجروه جميعاً بأجرة واحدة لزم كل واحد من الأجرة بقدر نصيبه من المقسومِ ما لم يكن شرطٌ. انتهى. وقال في المنتهى: وهي بقدر الأملاك. ولو شرط خلافه. [القرعة في القسمة] (وإن تقاسما بالقرعة جاز، ولزمت القسمة بمجرد القرعة، ولو فيما فيه ردٌّ أو ضرر.) وكيفما اقترعوا جاز: إن شاؤوا رِقاعاً، أو بالخواتيم، أو الحصى، أو غيره، لحصول المقصود وهو التمييز. والأحوط أن يُكتَبَ اسم كلِّ شريك في رقعة، ثم تُدْرَجُ في بنادقِ شمعٍ أو طينٍ متساويةٍ قدراً ووزناً، ثم تطرح في حِجْرِ من لم يحضر، ذلك ويقال له: أخرج بندقةً على هذا السهم، فمن خرج اسمه كان له، ثم للثاني كذلك، والسهم الباقي للثالث، إن كانوا ثلاثة واستوت سهامهم. وإن كانت السهام الثلاثة مختلفة، كنصفٍ وثلثٍ وسدس، جُزّئ المقسوم ستّةَ أجزاءٍ، وأَخرَجَ الأسماء على السهام لا غير، فيكتب باسم صاحب النصف ثلاث رقاع، ولرب الثلث رقعتين، ولرب السدس رقعة، ويخرج بندقة على أول سهم. فإن خرج عليه اسم ربّ النصف أخذه،

[نقض القسمة]

مع الثاني والثالث. وإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه مع الثاني، ثم يقرع بين الآخرين، والباقي للثالث. (وإن خيّر أحدُهما) أي الشريكين (الآخر) بأن قال لشريكه اختر أيَّ القسمين شئت، فيما تقاسماه بأنفسهما (بلا قرعةٍ وتراضَيَا، لزمت بالتفرّق) بأبدانهما، كتفرّق متبايعين. قال في الفروع: وإن خيّر أحدهما الآخر، فبرضاهما وتفرقهما، ذكره جماعة، ولم يذكروا ما يخالف ذلك. [نقض القسمة] (وإن خرج في نصيب أحدهما عيبٌ جَهِلَهُ خُيِّر بين فسخ، أو إمساكٍ) للمعيب (ويأخذَ الأرش) للعيب، لأن ظهورَ العيب في نصيبه نقصٌ فيخيّر بين الفسخ، والأرش كالمشتري. (وإن غُبِنَ فاحشاً بطلت) قال في المنتهى: ومن ادعى غلطاً فيما تقاسماه بأنفسهما، وأشهدا على رضاهما، لم يتلفتْ إليه. وتُقْبَل بيّنةٌ فيما قسمه قاسمُ حاكمٍ، وإلا حلف منكرٌ. وكذا قاسمٌ نصباه انتهى. (وإن ادعى كل) من الشريكين (إن هذا من سهمهِ) وأنكره الآخر (تحالَفَا) أي حلف كلٌّ منهما على نفي ما ادَّعاه الآخر. (ونُقِضَت) القسمة، لأن الملك المدعى به لم يخرج عنهما، ولا سبيل إلى دفعه إلى مستحقّه منهما بدون نقض القسمة. (وإن حصلت الطريقُ في حِصةِ أحدهما) أي الشريكين كأن تقاسمها نصفين، فيحصل لأحدهما ما يلي الباب، وللآخر النصف الداخل (و) الحال أنه (لا منفذ للآخر) الذي جعل له النصف الداخل، كما إذا لم يكن للدار طريق من جهة أخرى، ولا لمن حصل له النصف الداخل ملكٌ يجاورها ينفذها إليه (¬1) (بطلت). ¬

_ (¬1) (ب، ص): "ملك يجاورها ما ينفذها إليه"، و (ف): "ملك يجاور ما ينفذها إليه" والصواب ما ذكرنا، اهتداء بما في شرح المنتهى.

باب الدعاوى والبينات

باب الدعَاوى وَالبيّنات وهي [أي الدعوى] إضافة الإِنسان إلى نفسه استحقاقَ شيء في يد غيره، أو في ذمّته. والمدّعي هو من يطالب غيره بحقٍّ يذكر استحقاقه عليه. والمدعى عليه المطالَب، بفتح اللام. والبيّنة العلامة الواضحة، كالشّاهد فأكثر. (لا تصح الدعوى إلا من) إنسانٍ (جائزٍ التصرّف). (وإذا تداعيا) أي ادعى كل واحدٍ من اثنين (عيناً) أنّها له (لم تخل من أربعة أحوال): (أحدها: أن لا تكون) العين (بيد أحدٍ، ولا ثمّ) بفتح المثلثة (ظاهرٌ) أي لم يوجد أمر ظاهر يعمل بمقتضاه، (ولا بينة) لواحد منهما، وادّعى كل واحدٍ منهما أنها له (فيتحالفان) أي يحلف كل واحد منهما أنها له ولا حقٌّ للآخر فيها، (ويتناصفانها) أي: يقتسمانها بينهما نصفين. قدّمه في المحرر والرعايتين والحاوي، لأنهما استويا في الدعوى، وليس أحدُهما به أولى من الآخر، لعدم اليد. فوجبت قسمتها بينهما مناصفة، كما لو كانت بأيديهما. (وإن وُجِدَ ظاهرٌ لأحدهما) كما لو كانت من آلةِ صنعتِهِ (عُمِلَ به)

أي بهذا الظاهر، فيأخذها ويحلف للآخر. (الثاني: أن تكون) العينُ المتنازع فيها (بيد أحدهما) أي أحد المتنازعين (فهي له بيمينه) أي لاحقّ للآخر فيها. (فإن لم يحلف قُضِيَ عليه بالنكول، ولو أقامَ بينةً) قال في المنتهى والإِقناع: إذا لم تكن بينة. (الثالث: أن تكون) العين المتنازع فيها (بيديهما) أي يدي المتنازعين (كشيء كلٌّ ممسكٌ لبعضه، فيتحالفان) أي يحلف كلُّ واحدٍ منهما أنه له، ولا حق للآخر فيه، (ويتناصفانه) أي المدعى به، إلا أن يدعيَ أحدهمَا نصفاً فأقلّ، والآخَرُ الجميعَ أو أكثر مما بقي عما يدعيه الآخر، فيحلف مدعي الأقلِّ ويأخذه. (فإن قويت يد أحدهما) أي أحد المتداعيين في عينٍ بأيديهما (كحيوان) يدعيه كل من اثنين (واحد سائقهُ والآخر راكبُهُ) فهو للثاني الذي هو راكبه، بيمينه، لأنه أقوى تصرّفاً. وإن اتفقا على أن الدابّة للراكب، وادعى كل منهما ما عليها من الحمل، فهو للراكب، بيمينه، لأن يده على الدابّة والحمل معاً؛ (أو قميصٍ واحدٌ آخذٌ بكمِّهِ. والآخر لابسه، فهو للثاني) الذى هو لابِسُه (بيمينه) لأن تصرّفه أقوى، وهو المستوفي لمنفعته. كإن كان كمُّه في يد أحدهما، وباقيه بيد الآخر، أو تنازعا على عمامةٍ طرفها بيد أحدهما، وباقيها بيد الآخر، فهما سواءٌ فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها. (وإن تنازعَ صانعانِ في آلةِ دكانهما فـ) تكون (آلةُ كلِّ صنعةٍ لصانعها) كنجّارٍ وحدادٍ يكونان بدكانٍ، ويتنازعان في آلتهما، أو في بعضها، فإن آلة النجارة للنجاّر، وآلة الحدادة للحدّاد، سواء كانت أيديهما على الآلة من طريق الحكم، أو من طريق المشاهدة، لأن هذا هو الظاهر، فيأخذ كل منهما آلته بيمينه. (ومتى كان لأحدهما بينة فالعين له) ولم يحلف في الأصح، لأن

البينة أحدُ حجّتي الدعوى، فيكتفى بها، كاليمين. وهذا قول أهل الفتيا من الأمصار. (فإن كان لكلٍّ منهما) أي المتنازعين (بينةٌ به، وتساوتا) أي بينتهما (من كل وجهٍ تعارضَتَا وتساقطتا) يعني أن البينتين يسقطان بالتعارض، لأن كل بينةٍ تشهد بعكس ما تشهد به الأخرى، فلا يمكن العمل بواحدةٍ منهما، فيتساقطان ويصيران كمن لا بينة لهما على الأصحّ. (فيتحالفان، ويتناصفان ما بيديهما.) والأصل في هذا الباب حديث أبي موسى، أن رجلين ادّعيا بعيراً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث كلُّ واحدٍ منهما بشاهدينِ، فقَسَمه النبي صلى الله عليه وسلم - نصفين (¬1). رواه أبو داود. (ويقترعان فيما عداه) يعني يُقرَعُ بين المتنازعين في شيء ليس بيد أحد، أو بيد ثالثٍ ولم ينازِعْ واحداً من المتداعيين. (فمن خرجت له القرعة فهي له بيمينه) كما لو لم يكن لواحدٍ منهما بينة. (وإن كانت العين) المتنازعَ فيها (بيد أحدهما) أي أحد المتنازعين فيها، وقد أقام كل واحد منهما بينةً أنها له، (فهو) أي الذي بيده العين (داخلٌ، والآخر خارجٌ). (وبينة الخارج مقدمة على بيّنة الداخل). (لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه، و) أقام (الداخلُ بينةً أنه اشتراها منه) أي من الخارج (قُدِّمتْ بينته) أي بينة الداخل (هنا) لأنها شهدت بأمرٍ حادثٍ على ملكٍ خفيّ، و (لما معها من زيادة العلم). (أو أقام أحدهما) أي أحد المتداعيين (بينةً أنه اشتراها من فلانٍ، ¬

_ (¬1) حديث أبي موسى رواه الخمسة إلا الترمذي (منار السبيل).

وأقام الآخر بينة كذلك) أي أنه اشتراها من الذي اشتراها منه الأول (عُمِلَ بأسبقِهِما تاريخاً). الحال (الرابع: أن تكون) العين المتنازع فيها (بيد ثالثٍ) أي غيرِ المتنازعين فيها. (فإن) ادعياها على الثالث، و (ادعاها) الثالث (لنفسِهِ، حلف لكلِّ واحد) من المتداعيين (يميناً، بغير) خلاف، لأن المتداعيين اثنان فوجب أن يحلف لكلِّ واحد منهما يميناً. (فإن نكل) عن اليمين (أخذاها) أي العين المتنازع فيها (منه) أي من الثالث (مع بدلها) وهو قيمتها إن كانت متقوّمة، ومثلها إن كانت مثلية، لأن العين تلفَتْ بتفريطِهِ، وهو ترك اليمين للأول. فوجب عليه بدلها، كما لو أتلفها. (واقترعا عليهما) أي على العين وبدلها، لأن المحكوم له بالعين غيرُ معيَّنٍ، فوجبت القرعة لتعيينه. (وإن أقرّ بها) أي أقر الثالث بالعين (لهما) أي بأن قال: هي للاثنين، أخذاها منه و (اقتسماها) نصفين، (وحلف لكلِّ واحدٍ) منهما (يميناً) بالنسبة إلى النصف الذي أقر به لصاحبه، لأن كلاًّ منهما يدعي الزيادة على ما أقر له به من النصف، فهو في النصف الآخر مقرَّ لغيره، فيجب عليه اليمين لصاحبه، (وحلف كلُّ واحد) من المتداعيَيْنِ (لصاحبِهِ على النصف المحكوم له به.) وإن نَكَلَ المقِرُّ بالعين لهما عن اليمين لكلِّ واحدٍ منهما أَخذا منه بدلها، واقتسماها أيضاً. وإن أقرّ لأحدهما بعينه، حلف المقَرُّ له أنْ لا حقَّ لغيره فيها، وأخذها، ويحلف المقِرُّ للآخر. فإن نكل أخذ منه بدلها. (وإن قال) مَنِ العينُ بيده: (هي لأحدهما)، أي أحد المتداعيين (وأجهله، فصدقاه) على جهله بمستحقها منهما، (لم يحلف) لأنهما مصدقان له في دعواه.

(وإلا) أي وإن لم يصدقاه (حلف) لهما (يميناً واحدة،) لأن صاحب الحق منهما واحدٌ غير معين. ولا يلزمه اليمين إلا بطلبهما جميعاً، لأن أحدهما لم يتعيّنْ مستحقاً، باليمين، (وُيقْرَعُ بينهما) أي بين المتداعيين للعين، (فمن قَرَع) صاحبه (حلف، وأخذها) لأن صاحب اليد أقرّ بها لأحدهما لا بعينه، فصار ذلك المقَرُّ له هو صاحبَ اليد دون الآخر، فبالقرعة يتعيّن المقَرّ له، فيحلف على دعواه، فيستحق. ثم إن بيّن من كانت العين بيده المستحِقّ لها بعد قوله: هي لأحدهما وأجهلُه، قبل، كتبيينِهِ ابتداءً.

كتاب الشهادات

كتَاب الشهَادَات واحدتها شهادة. وهي حجّةٌ شرعية تظهر الحق ولا توجبه. فهي: الإِخبار بما عَلِمه بلفظ أشهد أو شهدت. (تحمُّل الشهادةِ في حقوق الآدميين) من الأموال وغيرها (فرضُ كفايةٍ) إذا قام به من يكفي سقط عن بقية المسلمين. فإن لم يوجد إلا من يكفي تعيّن عليه، وإن كان عبداً لم يجزْ لسيده منعه. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقد قال ابن عباس وقتادة والربيع: والمراد به التحمُّل للشهادة. (وأداؤها فرضُ عينٍ) لقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}. (ومتى تحمَّلها) أي الشهادة الواجبة (وجَبَتْ كتابَتُها) ويتأكد ذلك في حقّ رديء الحفظ، لأن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب. (ويحرُمُ أخذ أجرةٍ) عليها، (و) أخذ (جُعْلٍ عليها) أيضاً، ولو لم يتعين عليه، في الأصح، لأن فرضَ الكفايةِ إذا قامَ به البعض وقع منه فرضاً. وذلك لا يجوز أخذ الأجرة والجعْلِ عليه، كصلاة الجنازة. (لكن إن عجز) من دعي إلى الشهادة (عن المشي) إلى محلها، (أو تأذّى به) أي بالمشي (فله أخذ أجرةِ مركوبٍ) قال في الإِنصاف:

حيث قلنا بعدم الأخذ، فإن عجز عن المشي، أو تأذّى به، فله أخذ أجرةِ مركوبٍ. (ويحرم كَتْمُ الشهادة) إذا كانت بحقِّ آدميٍّ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}. (ولا ضمان) (¬1). (ويجب الإِشهاد في عقد النكاح خاصّةً) لأن الإِشهادَ شرطٌ فيه. فلا ينعقد بدونه. (ويسنّ) الإشهاد (في كلّ عقدٍ سواهُ) أي النكاح، كالبيع، والإِجارة، والرهن، ونحو ذلك، لأن ذلك ليس من شرطه الإِشهاد. ويحمل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} على الاستحباب، لأنه قال بعده: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وهذا إنما يكون مع عدم الشهادة (¬2). (ويحرم أن يشهد) أحدٌ (إلا بما يعلمه) بدليلِ قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال المفسرون هنا: وهو يعلم ما شهد به عن بصيرة وإتقان (برؤية أو سماع) غالباً، لجوازها ببقيّةِ الحواسّ، كالذوق واللمس. (ومن رأى شيئاً بيد إنسان يتصرّف فيه مدةً طويلةً) عرفاً (كتصرُّف ¬

_ (¬1) قوله ولا ضمان: أي على كاتم الشهادة إذا تعذّر الحق بدونها. وإنما يأثم بذلك (عبد الغني) وقال: "هذا ما ظهر لي من هذه العبارة. وفي الحاشية: قوله: ولا ضمان. أي لا يضمن من بان فسقه من الشهود اهـ. وفيه نظر لأنه لم يتقدم لمن بان فسقه ذكر فتنبه" انتهى كلام الشيخ عبد الغني. (¬2) عجباً مع تأكيد الله تبارك وتعالى على كتابة الدين وقوله {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ - الآية} يدعي الشارح أن ذلك على الاستحباب!! أما آخر الآية وهو قوله {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .. } فإنما ذلك في السفر عند عدم وجود الكاتب. فلا يصلح حجة لعدم الكتابة عند تيسرها وقد جعل بعض الفقهاء الشهادة ركناً في النكاح بأقل من هذا التأكيد والوجوب قول الطبري وابن جريج.

فصل

المُلاّك) في أملاكهم (من نقضٍ وبناءٍ وإجارةٍ وإعارةٍ فله) أي جاز له (أن يشهد له بالملك) لأن التصرُّفَ فيه على هذا الوجه من غير منازِعٍ يدلُّ على صحةِ الملك، فجاز أن يشهد به، كمعايَنَةِ السبب من بيع وإرث (والورع أن يشهد باليد والتصرف) لأنه أحوط، خصوصاً في هذه الأزمنة. وإن لم يره يتصرف كما ذكر مدةً طويلة شهد باليد والتصرف. فصل (وإن شهدا) أي الشاهدان (إنه طلق من نسائه واحدة) أو أنه أعتق أو أبطل من وصاياه واحدةً (ونسيا عَيْنَها لم تقبل) هذه الشهادة، لأنها شهادة بغيرِ معيَّنٍ، فلا يمكن العمل بها، فلم تقبل، كما لو قال: أشهَدُ أن إحدى هاتين الأمَتَيْنِ مُعتَقة. قاله في شرح المنتهى. (ولو شهد أحدهما أنه أقرّ له بألفٍ، و) شهد (الآخر أنه أقر له بألفين، كملت) البينة (بألفٍ) واحدٍ لاتفاقهما عليه، (وله) أي المشهودُ له (إن يحلف على الألفِ الآخر مع شاهدٍ ويستحقُّه) وهذا فيما إذا أطلق الشهادة ولم تختلف الأسباب والصفات. (وإن شهدا) أي الشاهدان على إنسانٍ (أنّ عليه ألفاً) لزيد، (وقال أحدهما: قضاه بعضه بطلت شهادته) نصّ عليه. وذلك لأنه شهد بأن الألف جميعه عليه، فإذا قضاهُ بعضَه لم يكن الأَلْفُ كله عليه، فيكون كلامه متناقضاً، فتفسد شهادته. (وإن شهد أنه أقرضه ألفاً، ثم قال أحدهما: قضاه نصفَهُ، صحَّتْ شهادتهما) لأنّ ذلك (¬1) رجوعٌ عن الشهادةِ بخمسِمائةٍ، وإقرار بغلط ¬

_ (¬1) "ذلك" إشارة إلى قوله "قضاه بعضه" في المسألة الأولى، وقوله "وهذا لا يقول .. " إشارة إلى المسألة الثانية (عبد الغني).

نفسه، وهذا لا يقول ذلك على وجه الرجوع. والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائة، فإنه إذا شهد بالألف، ثم قال أحدهما قبل الحكم: قضاه منه خمسمائة، أفسد شهادته في الخمسمائة، وللمشهود له ما اجتمعا عليه، وهو خمسمائة. فصحّح شهادته في نصف الألف، وأبطلها في النصف الذي ذكر أنه قضاه، لأنه بمنزلة الرجوع عن الشهادة به. ولو جاء بعد هذا المجلس، فقال: إنه قضاه منه خمسمائة، لم يقبل منه، لأنه قد أمضى الشهادة. قال في شرح المقنع: هذا يحتمل أنه أراد: إذا جاء بعد الحكم، فشهد بالقضاء، لم يقبل منه. (ولا يحل لمن) تحمَّلَ شهادةً بحقٍّ إذا (أخبره عدلٌ باقتضاء الحق) أو انتِقالِهِ (أن يشهد به) قال في الإِنصاف: لو شهد عند الشاهِدِ عدلان أو عدلٌ أنه اقتضاه ذلك الحقّ، أو قد باع ما اشتراه، لم يشهد له. نقله ابن الحكم. وسأله ابن هانئ (¬1): لو قضاه نصفَهُ، ثم جحد بقيته، أَلهُ أن يدّعيَهُ، أو بقيَتَهُ؟ قال: يدعيهِ كلَّه, وتقومُ البينةُ فتشهد على حقِّه كله، فيقول للحاكمِ قضاني نصفه. انتهى. (ولو شهد اثنان في جمعٍ من الناس على واحدٍ منهم أنه طلَّق أو أعتقَ أو شهدَا على خطيبٍ أنه قال أو فعل على المنبر في الخطبة شيئاً ولم يشهد به أحدٌ غيرهَما) مع المشاركة في سمع وبصر (قبلت شهادتهما) ذكره في المغني وغيره. ¬

_ (¬1) يعني: سأل الإِمام أحمد عن ذلك ..

باب شروط من تقبل شهادته

باب شرُوط مَن تقبَل شَهَادته وذلك لأنه لو لم يعتبر لقبولِ الشهادةِ شروطٌ يغلِبُ على الظنّ صدقُ الشاهد مع توافر الشروط فيه، لأدّى ذلك إلى أن يشهد الفجَّار بعضهم لبعضٍ، فتؤخَذُ الأموال بذلك بغير حق ولا سابق ملك. فلذلك اعتُبِر أحوالُ الشهود بخلوّهم عما يوجِبُ التهمة فيهم، ووجودِ ما يوجب تيقُّظَهم وتحرُّزهم. (وهي) أي الشروط المعتبرة لذلك (ستة): (أحدها: البلوغ، فلا شهادة) مقبولة (لصغيرٍ) ذكرٍ أو أنثى (ولو اتَّصَفَ) الصغيرُ (بالعدالة) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والصبي لا يسمى رجلاً. ولأنه غير مقبول القول في حقّ نفسه، ففي حق غيره أولى، ولأنه غير كامل العقل فهو في معنى المعتوه (¬1). (الثاني: العقل) وهو نوع من العلوم الضرورية يستعدّ به لفهمِ دقيقِ العلوم، وتدبير الصنائع الفكرية. ¬

_ (¬1) هذه الرواية المقدمة. وعن أحمد رواية أخرى، ويوافقها قول الإِمام مالك: إن شهادتهم تقبل في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها لأن الظاهر صدقهم وضبطهم. (مغني).

والعاقل من عرفَ الواجبَ عقلاً الضروريّ وغيره، والممكن، والممتنع، كوجودِ الباري سبحانه وتعالى، وكونَ الجسم الواحد ليس في مكانين، واستِحَالة اجتماعِ الضدّين، وكونَ الواحد أقل من الاثنين، وعرف ما ينفعه وما يضره غالباً. (فلا شهادةَ) مقبولة (لمعتوهٍ ومجنونٍ) إلا من يُخْنَقُ أحياناً إذا شهد في إفاقته. (الثالث: النطق)، أي كونُ الشاهِدِ متكلِّماً. وقال مالك والشافعي وابن المنذر: تقبل الشهادة من الأخرس إذا فُهِمَتْ إشارته، لقيام الإِشارة منه مقام نطقه في أحكامِهِ من طلاقِهِ ونكاحِهِ وغيرهما. (فلا شهادةَ) مقبولةٌ (لأخرس) نص على ذلك أحمد رضي الله تعالى عنه (إلا إذا أدَّاها) الأخرس (بخطِّه) في الأصح. واختاره في المحرَّر (¬1). قال في الإِنصاف: قلت: وهو الصواب. (الرابع: الحفظ) لأن من لا يحفظُ لا تحصل الثقةُ بقوله، ولا يغلِب على الظن صدقُه، لاحتمال أن تكون من غَلَطِهِ. إذا تقرر هذا (فلا شهادة) مقبولةٌ (لمغفَّلٍ، و) لا (معروفٍ بكثرة غلطٍ وسهو). وعلم مما تقدّم أنها تقبل ممن يَقِلُّ منه الغلط والسهو، لأن ذلك لا يسلم منه أحد. (الخامس: الإِسلام، فلا شهادة) مقبولةٌ (لكافر، ولو) كانت شهادته (على مثله) إلّا رجالَ أهل الكتاب بالوصية في السفر، ممن حضره الموت، من مسلمٍ وكافرٍ عند عدمِ مسلمٍ، فتقبل شهادتهم في هذه ¬

_ (¬1) في (ف). "المجرّد". وهو للقاضي أبي يعلى. أما "المحرّر" فهو لمجد الدين ابن تيمية.

المسألة فقط، ولو لم يكن لهم ذمة. ويحلِّفهم الحاكم وجوباً بعد العَصْر مع ريْبٍ: ما خانوا. ولا حرّفوا. وإنها لوصيةُ الرجل. فإن عثر على أنهما استحقا إثماً حلف اثنانِ من أولياءِ المُوصي: بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما، ولقد خانا وكَتَما. ويقضى لهم. (السادس: العدالة) ظاهراً وباطناً. وهي استواءُ أحوالِهِ في دينه، واعتدالُ أقوالِهِ وأفعاله. (ويعتبر لها شيئان): [الأول:] الصلاح في الدين، وهو: 1 - (أداء الفرائض برواتبها) أي بسننها الراتبة في الأصح. وأومأ إلى ذلك أحمد، بقوله فيمن يواظب على ترك سنة الصلاة: رَجُلُ سوءٍ، فلا تقبل ممن داوم على تركِها، لفسقه. قال القاضي أبو يعلى: من داوم على ترك السنن الراتبة آثمٌ. وعلم منه أن الشهادة ممن تَرَكهَا في بعض الأيام مقبولة. 2 - (واجتناب المحرم) لأنّ من أدّى الفرائضَ، واجتنب المحارم عدّ صالحاً عرفاً (بأن لا يأتي كبيرةً ولا يُدْمِنَ على صغيرة) والكذبُ صغيرةٌ، إلاَّ في شهادةِ زورٍ، وكذبٍ على نبيّ، ورمي فتنةٍ، وكذبٍ على أحد الرّعيةِ عند حاكمٍ ظالمٍ، فكبيرة. ويجب لتخليصِ مُسْلمٍ من قتلٍ. ويباح لِإصلاحٍ، وحربٍ، وزوجةٍ فقط. والكبيرة ما فيه حَدٌّ في الدنيا، كالزنا والسرقة، أو وعيدٌ في الآخرة كالربا، وأكلِ مال اليتيم، وشهادةِ الزور، وعقوقِ الوالدين، وما أشبه ذلك. زاد الشيخ: أو غصبٍ أو لعنٍ أو نفي إيمانٍ. (الثاني:) مما يعتبر للعدالة: (استعمال المروءة) ويكون استعمالها

فصل

(بفعل ما يجمِّله ويزينه) في العادة، كالسّخاء وحسن الخلق، وبذل الجاه، وحسن المجاورة، ونحو ذلك، (وترك ما يدنسه ويشينه) في العادة من الأمور الدنيئة المزرية به. (فلا شهادة) مقبولة (لمتمسخِر، ورقّاص، ومُشَعْبِذ (¬1)) ومُغَنٍّ -ويكره الغناء، واستماعه- وطفيلي ومتزيٍّ بزيّ يُسخَر منه، ولا لشاعِرٍ يُفْرط في مدحٍ بإعطاءٍ، أو يُفْرِطُ في ذمٍّ بمنع، أو يشبّبُ بمدحِ خمرٍ أو بأمرد، أو بامرأة معينةٍ محرّمة. ويفسَّقُ بذلك، (ولاعبِ بشطرنجٍ) غيرَ مقلَّدٍ، كمع عوضٍ أو تركِ واجبٍ، أو مع فعلٍ محرّم إجماعاً. (ونحوِه) كلاعبِ بنردٍ. (ولا) شهادة مقبولةً (لمن يمدّ رجليه بحضرة الناس، أو يكشفُ من بدنه ما جرت العادة بتغطيته، كصدره وظهره، أو يحدّث بمباضعة أهله،) أو زوجته، أو أمتِهِ، أو يخاطبهما بخطابِ فاحشٍ بين الناس. (ولا) شهادة مقبولةً (لمن يحكي المضْحِكات، ولا) شهادة مقبولة أيضاً (لمن يأكل بالسوق) شيئاً كثيراً. (ويغتفر اليسير كاللُّقمة والتفاحة) ونحوهما من الأشياء اليسيرة. فصل (ومتى وجد الشرط) أي شرط قبول الشهادة ممن منعنا قبولها منه قبل وجود المشروط (بأن بَلَغ الصغير، وعَقَل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق، قبلت الشهادة بمجرد ذلك) لأن ردّها إنما كان لمانعٍ، وقد زال. وعنه: يعتبر في التائِبِ إصلاحُ العمل سنة (¬2). ¬

_ (¬1) الشعبذة، ومثلها الشَّعْوَذة، خفّة في اليدين، كالسّحر (ش. المنتهى). (¬2) أي سنة كاملة تظهر فيها توبته ويتبيّن فيها صلاحه، ولا تقبل شهادته قبل تمام السنة.

(ولا تشترط) في الشاهد (الحرّية. فتقبل شهادةُ العبد والأمة، في كل ما تقبل فيه شهادة الحرّ والحرّة) لعموم آيات الشهادة، وهو داخلٌ فيها، فإنه من رجالنا، وهو عدل، تقبل روايته وفتواه وأخباره الدينية، ولأن القِنّ إذا كان عدلاً غيرُ متَّهم، فإن شهادته مقبولة كالحرّ. (ولا يشترط كون الصناعة) أي صناعة الشاهد (غيرَ دنيئَةٍ) عرفاً، فتقبل شهادة حجّامٍ، وحدّادٍ، وزبالٍ، وقَمّامٍ وكناسٍ وكبّاش وقرّاد (¬1) وصبّاغ ودبّاغ وجمّال وجزّار وحائكٍ وحارسٍ وصائغٍ، إذا حسنت طريقتهم. وتقبل شهادة ولد الزنا حتى به، وبدويّ وقرويّ (¬2). (ولا) يشترط كونه أي الشاهد (بصيراً، فتقبل شهادة الأعمى) في المسموعات، (بما سمعه، حيث تيقَّنَ الصوت) أي صوت المشهود عليه. روي عن عليّ وابن عباس، أنهما أجازا شهادة الأعمى. ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، لحصول العلم له بذلك، (وبما رآه قبل عماه) إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه. فإن لم يعرفه إلا بعينه قبلت شهادته إذا وصفه الأعمى للحاكم بما يتميّز به. وتجوز شهادة الأعمى أيضاً بالاستفاضة. ¬

_ (¬1) الكبّاش مربي الكِبَاش، والقرّاد مربي القرود. (¬2) كذا في الأصول. ولكن في شرح المنتهى ومنار السبيل "وبدوي على قروي" وهو أولى. وإنما يذكرون هذه المسألة لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة "لا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية" قال في شرح المنتهى. وهو محمول على من لم تعرف عدالته من أهل البادية. اهـ. وفي المغني: مذهب أبي عبيد الأخذ بظاهر الحديث. وقال ابن مالك في الجراح احتياطاً للدماء. اهـ.

باب موانع الشهادة

باب مَوَانِع الشهَادة الموانع جمع مانع، من مَنَعَ الشيءُ إذا حال بينه وبين مقصوده. فهذه الموانع تحول بين الشهادة ومقصودِها فإنّ المقصود من الشهادة قبولها والحكمُ بها. (وهي) أي موانع قبول الشهادة (ستة): (أحدها: كونُ الشاهِدِ أو بعضِهِ ملكاً لمن شهد له) لأن نفقته على سيده إن كان واحداً، أو على جميع المشتركين فيه، فهو كالأب مع ابنه. (وكذا لو كان زوجاً، ولو) كان (في الماضي) يعني ولو كانت شهادة أحد الزوجين للآخر بعد الطلاق البائن، أو الخلع. قال في التنقيح: ولو بعد الفراق. وقال في المبدع: ظاهره ولو بعد الفراق. انتهى (أو كان) المشهود له (من فروعه وإن سفلوا من ولد البنين و) ولد (البنات، أو من أصولهِ) فلا تقبل شهادة والدٍ لولده ولا ولدٍ لوالده على الأصح. وسواءٌ في ذلك ولد البنين وولد البنات، وسواءٌ في ذلك الآباء والأمهات والأجداد والجدّات وآباؤهما وأمهاتهما من قبل الأم والأب (وإن علوا) ولو لم يَجُرَّ بها نفعاً غالباً، كعقدِ نكاحٍ أو قذْفٍ. (وتقبل) شهادة الشاهد (لباقي أقاربه كأخيه) وعمّه. قال ابن المنذر: أجمع أهلُ العلم على أن شهادةَ الأخِ لأخيه جائزة، لأنه عدل

غير متهم، فتقبل شهادته، كالأجنبي. ولا يصحّ القياس على الوالد والولد لأن بينهما بعضِيَّةً وقرابة قوية، بخلاف الأخ. وأما العم ونحوه كالخال فإنه لما أجيزت شهادة الأخ مع قربه كان ذلك تنبيهاً على قبول شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى. (وكل من) قلنا (لا تقبل) شهادته (له) كعمودي النسب ونحو ذلك مما قلنا لا تقبل شهادته له (فإنها) أي فإن شهادته (تقبل عليه) لأنه لا تُهمةَ، فوجب أن تقبل عليه كغيره. (الثاني) من موانع الشهادة: (كونه) أي الشاهد (يجرّ بها نفعاً لنفسه، فلا تقبل شهادتُهُ) أي الإِنسان (لرقيقِهِ) ولو كان مأذوناً له (ومكاتَبِهِ) لأن المكاتَبَ رقيق، (ولا) شهادتُهُ (لمورّثه بجرحٍ قبل اندمالِهِ) فإنها لا تقبل، لأنه ربما يسري الجرْحُ إلى النفس، فتجب الدية للشّاهِدِ بشهادتِهِ، فيصير كأنه شهد لنفسه. (ولا) شهادته (لشريكه فيما هو شريك فيه) قال في المبدع: لا نعلم فيه خلافاً، لاتّهامه، وكذا المُضارِب بمال المضاربة. انتهى. (ولا) شهادته (لمستأجره فيما استأجره فيه) نص عليه ومن أمثلة ذلك لو استأجر إنسان قصاراً على أن يقصر له ثوباً ثم نوزع في الثوب فشهد القصار أنه ملك لمن استأجره على قصارته فإنها لا تقبل. (الثالث) من موانع الشهادة: (أن يدفع بها) أي أن يدفع الشاهد بشهادته (ضرراً عن نفسه، فلا تقبل شهادةُ العاقلة بجَرْحِ شهودِ قتل الخطأ) لأنهم متّهمون، لما في ذلك من دفع الدية عن أنفسهم، حتى ولو كان الشاهد بالجرح فقيراً أو بعيداً في الأصح، لجوازِ أن يوسر، أو يموتَ من هو أقربُ منه. (ولا) تقبل (شهادةُ الغرماءِ بجرح شهودِ دَيْنٍ على مفلسٍ) لما في

ذلك من توفير المال عليهم. وكشهادة الوليّ بجرح الشاهد على من في حِجْرِهِ، وكشهادة الشريكِ بجرحِ الشاهد على شريكه، للتهمة. (ولا شهادةُ الضّامن لمن ضمنه بقضاء الحق أو الإِبراء منه). (وكلّ من لا تقبل شهادته له، لا تقبل شهادته بجرح شاهد عليه) كالسيد يشهد بجرحٍ من شهد على مكاتَبِهِ أو عبده بدين، لأنه متهم فيها، لما يحصل بها من دفع الضرر عن نفسه، فكأنه شهد لنفسه. وقد قال الزهري: مضت السنّة في الإِسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين -أي متّهم- (الرابع): من الموانع (العداوة) ويعتبر كونها (لغير الله) سبحانه (وتعالى، كفرحه بمساءته، أو غمّه لفرحه، وطلبه له الشّرّ) قال في الفنون: اعتبرتُ الأخلاق، فإذا أشدُّها وبالاً الحَسَدُ. وقال ابن الجوزي: الإِنسان مجبول على حب الترفع على جنسه. وإنما يتوجه الذم إلى من عمل بمقتضى التسخّط على القدر، وينتصب لذمّ المحسود. قال: وينبغي أن يكره ذلكَ من نفسه. قال في الفروع: وذكر شيخنا أن عليه أن يستعمل معه التّقْوى والصَّبْر، فيكْرَهُ ذلك من نفسه، ويستعمل معه الصبر والتقوى. وذكر قول الحسن: لا يضرّك ما لم تَعْدُ بهِ يداً أو لساناً. قال: وكثير ممن عنده دينٌ لا يعينُ من ظَلَمَهُ، ولا يقومُ بما يجب في حقّه، بل إذا ذمّهُ أحد لم يوافقه، ولا يذكر محامده (¬1). وكذا لو مدحه أحد لسَكَتَ. وهذا مذنب في ترك المأمور لا معتدٍ. وأما من اعتدى بقولٍ أو فعلٍ فذلك يعاقَبُ. ومن اتقى وصَبَرَ نفعه الله بتقواه. وفي الحديث: "ثلاث لا ينجو منهنَّ أحد: الحسد، والظن، والطيرة. وسأحدِّثكم بالمخرج من ذلك: إذا حسدتَ فلا تَبْغِ، وإذا ظَنَنْتَ فلا ¬

_ (¬1) يراجع الفروح للتحقق من النص.

تحقَّقْ، وإذا تَطَيَّرْتَ فامضِ" (¬1) انتهى. (فلا تقبل شهادته على عدوه، إلا في عقد النكاح) لأن العدو متّهم في حقّ عدوه، وفاقاً لمالك والشافعي. (الخامس) من الموانع: (العصبيّة، فلا شهادةَ لمن عُرِفَ بها، كتعصّب جماعةٍ على جماعةٍ، وإن لم تبلغْ رتبة العداوة)، وبالإِفراط في الحميّة. قال في الإِنصاف عن صاحب الترغيب: ومن موانعها العصبيّة، فلا شهادةَ لمن عُرِفَ بها، وبالإفراط في الحميّة، كتعصُّبِ قبيلةٍ على قبيلةٍ وإن لم تبلغ رتبة العداوة. انتهى. (السادس) من موانع الشهادة: (أن تردّ شهادته) أي الشاهد (لفسقِهِ، ثم يتوبُ ويعيدُها) فلا تقبل لتهمته في أدائه، لكونه يُعير بردّها، فربّما قَصَد بأدائها أن تقبل، لإِزالة العار الذي يلحقه بردّها. (أو) يشهد إنسانٌ (لمورّثه بجرح قبل برئِهِ) ثم ترد، (ثم يبرأُ ويعيدُها) أي الشهادة، (أو تردّ) شهادته (لدفع ضررٍ، أو جلب نفعٍ أو عداوة أو ملكٍ، ثم يزول ذلك) المانع، (وتعادُ)، فلا تقبل شَهادته (في الجميع) لأن ردّها كان باجتهادِ الحاكم فلا ينقض باجتهادِ الثاني، ولأنها رُدَّتْ للتهمة، أشبهت المردودةَ للفسق (¬2). (بخلاف ما لو شهد وهو كافر، أو) شهد وهو (غير مكلّف، أو) شهد حال كونه (أخرس، ثم زال ذلك) المانع بأن أسلم الكافر أو بلغ الصغير أو زال الخرس (وأعادوها) بعد ذلك فإنها تقبل، لأن ردها في الحالات المذكورة لا غضاضة فيها، فلا يقع تهمة، بخلاف المسائل التي قبلها. ¬

_ (¬1) حديث "ثلاث لا ينجو منهن أحد .. الخ." رواه ابن عدي بلفظ "إذا حسدتم فلا تبغوا الخ". قال الشيخ الألباني "ضعيف جداً". (¬2) وفي وجه آخر: يقبل كلُّ ذلك. قال في الإِنصاف: وهو المذهب اهـ. (ش. المنتهى).

باب أقسام المشهود به من جهة عدد الشهود

باب أقسام المشهوُد بهِ مِن جهَةِ عَدَد الشهُود لأن عدد الشهود يختلف باختلاف المشهود [به]. قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} هذا في الأموال. وفي الزنا قوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فدل هذا على اعتبار العدد في الجملة. (وهو ستة): (أحدها: الزنا) وهو موجبٌ للحدّ، كاللواط (فلا بدّ) في ثبوته (من أربعةِ رجالٍ) عُدولٍ ظاهراً وباطناً (يشهدونَ به) أي بالزنا واللواط (وأنهم رأوْا ذكره في فرجها. أو يشهدون) أي الأربعةِ (أنه) أي المشهود عليه بذلك (أقرّ أربعاً) أي أربعَ مراتٍ بذلك. القسم (الثاني: إذا ادّعَى مَنْ عُرِفَ بغنًى أنه فقيرٌ ليأخذ من الزكاة، فلا بد من ثلاثةِ رجال). القسم (الثالث: القود) أي ما يوجبه، (والإِعسار، وما يوجب الحدّ) كحدّ القذف وحد الشرب؛ (و) ما يوجب (التعزير) كوطءِ بهيمةٍ، أو أمةٍ مشتَرَكَةٍ، (فلا بدّ من رجلينِ). (ومثله) أى ما ذكر من اشتراط شهادة رجلين (النكاحُ والرجعةُ والخلعُ والطلاقُ والنسبُ والولاء والتوكيل في غير المال) وتعديلُ شهودٍ،

وجرحهم، وإيصاءٌ في غير مال، لأن ما ذكر ليس بمال، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال، فلم يكن للنساء في شهادته مدخل، كالحدود والقصاص. قال القاضي: المعوّل عليه في المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين. ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال. وقد نص الإِمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادةُ النساء في النكاح والطلاق. القسم (الرابع: المال وما يقصد به المال، كالقَرْض والرهن والوصية والعِتق والتدبير والوقف والبيع) والوديعةِ والغَصْبِ والإِجارة والشركة والحوالة والصلح والهبة والكتابة، وعاريةٍ وشفعةٍ وإتلافِ مالٍ وضمانِهِ وأجلٍ في بيعٍ وخيار (وجنايةِ الخطأ) ونحو ذلك مما يقصد به المال. (فيكفي فيه رجلان، أو رجل وامرأتان) لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وسياق الآية يدل على اختصاص ذلك بالأموال، (أو رجل ويمينٌ) لما روى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قَضَى باليمينِ مع الشاهد" رواه أحمد وابن ماجه. وكل موضع قبل فيه شاهد ويمين لا فرق فيه بين كون المدعي مسلماً أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً، رجلاً أو امرأةً. قاله في الإِقناع (لا امرأتانِ ويمينٌ) يعني أنه لا يثبت المال بشهادةِ امرأتينِ مكان رجل ويمين، لأن النساء لا تقبل شهادتهن في الأموال منفردات. (ولو كان لجماعةٍ حق بشاهدٍ) واحد (فأقاموه فمن حلف أخذ نصيبَهُ) لكمال النصاب من جهته. (ولا يشاركه) فيما أخذه (من لم يحلفْ) لأنه لا حقّ له فيه، لأنه لم يجب له شيء قبل حلفه. القسم (الخامس: داءُ دابّةٍ، وموضحةٌ ونحوهما) كداءٍ بالعين،

فصل

(فيقبل) في ذلك (قولُ طبيبٍ) واحد (وبيطارٍ واحد) وكحّال واحدٍ (لعدم غيره، في معرفته) أي معرفة ما تقدم ذكره. فإن لم يتعذر بأن كان بالبلد أكثر من واحد يعلم بذلك فاثنان. (وإن اختلف اثنان) بأن قال أحدهما بوجود الداءِ، وقال الآخر بعدمه (قُدم قول المثبت) على قول النافي لأنه يشهد بزيادة لم يدركها النافي. القسم (السادس) من أقسام المشهود به: (ما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كعيوبِ النساء تحت الثياب) والاستهلال (والرضاعِ والبكارة والثيوبةِ والحيض) قال في شرح المنتهى: فيدخل في ذلك: البرص في الجسد تحت الثياب، والرَّتَقُ والقَرَنُ والعفَلَ ونحو ذلك (وكذا جراحةٌ وغيرها في حمّام وعرسٍ ونحوهما مما لا يحضره الرجال، فيكفي فيه امرأةٌ عَدْلٌ) على الأصحّ (والأحوط اثنتان) لما روى حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادةَ القابلةِ وحدها. ذكره الفقهاء في كتبهم. وروى أبو الخطاب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يجزئ في الرضاعِ شهادةُ امرأةٍ واحدةٍ لأن ذلك معنًى يثبت بقول النساءِ المنفردات، فلا يشترط فيه العدد، كالرواية، وأخبار الدياناتِ. وإن شهد بما يقبل فيه شهادة الواحدة رجل كان أولى، لكماله. فصل (فلو شهد بقتل العمد رجلٌ وامرأتان لم يثبت شيء) يعني لا قصاصٌ ولا ديةٌ، لأن قتل العمد يوجِبُ القصاصَ، والمال بدلٌ منه. فإذا لم يثبت الأصل لم يجب البدل. وإن قلنا موجبه أحد شيئين لم يتعيّن أحدهما إلا باختيار، فلو أوجبنا بذلك الدية أوجبنا معيّناً بدون الاختيار. (وإن ادعى رجل على آخر أنه ضرب أخاه بسهمٍ عمداً فقتله،

ونفذ إلى أخيه الآخر فقتل خطأ، وأقام بذلك شاهداً وامرأتين، أو شاهداً وحلف معه، ثبت قتلُ الثاني لأنه خطأ موجَبُهُ المال، ولم يثبت قتل الأوَّل لأنه عمد موجَبُهُ القصاص. (وإن شهدوا) أي الرجلُ والمرأتان (بسرقةٍ ثبتَ المالُ) لكمال بينته (دون القطع)، لأن السرقة توجب المال والقطع، فإذا قصرت البينة عن أحدهما ثبت الآخر. (ومن حلف بالطلاقِ أنه ما سرق، أو) حلف أنه (ما غصب ونحوه) كما لو حلف بالطلاق أنه ما باع أو ما اشترى، أو ما وهب، أو ما قتل (فثبت فعلُه) أي فعل ما حلف على عدمه (برجلٍ وامرأتينِ، أو برجلٍ ويمينٍ، ثبت المال ولم تطلق) زوجته في الأصح، لأنه لم تكمل البيّنة المثبِتةُ للطلاق. وإن شهد رجل وامرأتان لرجل، أو رجل وحلف معه يميناً أن فلانةَ أمُّ ولده، وولدُها منه. قضي له بالجارية أمَّ ولدٍ، ولا تثبت حرية وَلَدِهَا ولا نَسَبُهُ. تتمة: لو وُجِدَ على دابةٍ مكتوبٌ: حبيسٌ في سبيل الله، أو على حائط دارٍ (¬1)، أو على أُسْكُّفَةِ بابِ دارٍ: وقفٌ، أو: مَسْجِدٌ، حكم به. ¬

_ (¬1) قوله "أو على حائط دار" زيادة ثابتة في (ف).

(باب الشهادة على الشهادة) وباب الرجوع عن الشهادة (و) باب (صفة أدائها)

(بَاب الشهَادة عَلى الشهَادة) وباب الرجُوع عَن الشهَادَة (و) بَاب (صِفَة أدائهَا) (¬1) أي الألفاظ التي يحصل بها أداء الشهادة. قال جعفر بن محمد: سمعت أحمد رضي الله تعالى عنه يُسأل عن الشهادة على الشهادة، فقال: هي جائزة. وكان قومٌ يسمُّونها التأويل (¬2). قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال. والمعنى شاهد ذلك، والحاجة داعيةٌ إليها، لأنه لما كانت الشهادة وثيقةً مستدامةً لحفظ الأموال والاحتياط في تحصيلها، لأنه ربما مات المُقِرُّ بها فتعذَّر الرجوع إلى إقراره واستيفاء الحق ممن هو عليه، جوزوا الإِشهاد عليه لهذا المعنى. (الشهادةُ على الشهادة) أي صورةُ تحمُّلِها (أن يقول: اشهدْ يا فلان على شهادتي أنّي أشهد أنّ فلانَ بن فلانٍ أشهدني على نفسه) بكذا، (أو: شهدت عليه) بكذا، (أو أقر عندي بكذا). (ويصحّ أن يشهد على شهادة الرجلين رجلٌ وامرأتان، ورجلٌ وامرأتانِ على مثلهم) أي على رجلٍ وامرأتين، (وامرأةٌ على امرأةٍ فيما ¬

_ (¬1) حل المتن بهذه الطريقة غير سليم، لأنه باب واحد لا ثلاثة أبواب. وقد تقدم مثل ذلك. (¬2) هذه التسمية غريبة. ولعل في العبارة تحريفاً. ولم نجدها فيما لدينا من الأصول.

تقبل فيه) شهادة (المرأة) أي في المال وما يقصد به المال (¬1) لأن لهن مدخلاً فيه. (وشروطها) أي تحمُّل الشهادة على الشهادة (أربعة): (أحدها: أن تكون في حقوق الآدميّين،) فلا تقبل في حقوق الله تعالى، لأن الحدودَ مبنيَّةٌ على السَّتْرِ والدَّرء بالشبهات والإِسقاط بالرجوعِ عن الإِقرار، والشهادةُ على الشهادةِ فيها شبهةٌ، فإنّها يتطرّق إليها احتمالاتُ الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع، مع احتمالٍ زائدٍ لا يوجد في شهود الأصل، وهو معتبر، بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل، فوجب أن لا تقبل فيما يُدْرَأ بالشبهات. (الثاني: تعذَّر) شهادةِ (شهودِ الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو خوفٍ) من سلطانٍ أو غيرِهِ (أو غيبةٍ مسافَةَ قصرٍ) لأنه إذا أمكن الحاكمَ أن يسمع شهادة شاهدي الأصل، استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع عليهما (¬2)، وكان أحْوَطَ للشهادة، فإن سماعه من شهود الأصل معلوم، وصدقُ شاهدي الفرع عليهما مظنون، والعمل باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظن. ولأن شهادة الأصل تُثْبتَ نفسَ الحق وشهادة الفرع إنما تُثْبتُ الشهادةَ عليه؛ (ويدومَ تعذُّرُهم) أي تعذُّر شهود الأصل (إلى صدور الحكم). إذا علمت ذلك (فمتى أمكنت شهادتُ الأصل) قبل الحكم (وُقِفَ) الحكم على سماعها) لأن الشرط الذي هو تعذّر الأصل زال، كما لو كانا حاضرين أصحا (¬3). الشرط (الثالث: دوامُ عدالةِ) شاهدي (الأصل، و) عدالةِ شاهدي (الفرع، إلى صدور الحكم. فمتى حدث من أحدهم) أي من شاهدي ¬

_ (¬1) كان الأولى تفسيره بعيوب النساء تحت الثياب وما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً. (¬2) الأولى إسقاط "عليهما" إذ لا معنى لها. (¬3) صوابه أن يقول: "حاضرين صحيحين" ليطابق خبر كان اسمها في التثنية.

الأصل أو الفرع (قبلَه) أي الحكم (ما يمنعه) أي ما يمنع القبول، من فسقٍ وجنونٍ ونحوهما، (وُقِفَ) أي الحكم لأنه مبنيّ على شهادة الجميع. الشرط (الرابع: ثبوتُ عدالةِ الجميع) أي عدالة شهودِ الأصل والفرع، لأنهما شهادتان، فلا يحكم بهما بدون عدالةِ الشهود. قال في شرح المقنع: لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعاً، فاعتُبِرت الشروط في كل واحدٍ منهما، ولا نعلم في هذا خلافاً، فإن عَدّلَ شهودَ الأصل شهودُ الفرع، فشهدا بعدالتهما، وعلى شهادتهما، جاز بغير خلافٍ نعلمه. وإن شهدا بعدالتِهِما (¬1) خلافاً. ويتولى الحاكم ذلك. فإذا علم عدالتهما حَكَم. وإن لم يعرفهما بحث عنهما. انتهى. (ويصح من الفرع أن يعدّل الأصل) قال في الإِقناع: ولا يجب على فرع تعديل أصله، ويتولى الحاكم ذلك. وإن عدّله الفرع قُبِل انتهى. (لا تعديلُ شاهدٍ لرفيقِهِ) لأنه يؤدي إلى انحصارِ الشهادة في أحدهما. (وإن قال شهود الأصل بعد الحكمِ بشهادة الفرع: ما أشهدناهم بشيءٍ) مما شهدا به على شهادتِنا (لم يضمن الفريقان) يعني. لا شهودُ الأصل، ولا شهود الفرع (شيئاً) مما حُكِمَ بتلفه، لأن شاهدي الفرع لم يثبت كذبهما (¬2)، وشاهدي الأصل لم يثبت رجوعُهما، لأن الرجوع إنما يكون بعد الشهادة، فإنكار أصلِ الشهادةِ لا يكون رجوعاً عنها، فلذلك لم يضْمَنَا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول كلها، وهو سبق قلم. وصوابه "وإن لم يشهدا بعدالتهما". كما في المغني (209/ 9). ثم لو أن الشارح أخّر هذه العبارة وما معها بعد العبارة التالية من المتن لكان أولى، للتكرار. (¬2) أي لاحتمال أن يكون الكذب من شاهدي الأصل. فعليه لو قال شاهدا الفرع: كذبنا، أو قالا: غلطنا، فإنهما يضمنان.

[في صفة الأداء]

فصل [في صفة الأداء] (ولا تقبل الشهادة إلا بـ) لفظ: (أشْهدُ، أو) بلفظ: (شهدتُ) لأن الشهادة مصدر "شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَةً" فلا بدّ من الإِتيان بفعله المشتقّ منها، ولأن فيها معنًى لا يحصل في غيرها من اللفظات، بدليل أنها تستعمل في اللعان، ولا يحصل ذلك في غيرها. إذا علمت ذلك (فلا يكفي) قوله: (إنا شاهد) لأن ذلك إخبار عما هو متصف به، كما لو قال: أنا متحمّلٌ شهادةً على زيدٍ بكذا. بخلافِ قولهِ: أشهدُ، أو: شهدتُ بكذا، فإن هذه جملةٌ فعليةٌ تدل على حدوث فعل الشهادة. (ولا) يكفي قوله: (أَعلَمُ، أو: أُحِقُّ)، أو: أَعرِفُ، أو: أتحقّق، أو: أتيقَّنُ، لأنه لم يأت بالفعل المشتق من لفظ الشهادة. (أو) قال الشاهد: (أشهدُ بما وضعتُ بهِ خطّي. لكن لو قال من تقدَّمَهُ غيرُه بالشهادة: بذلكَ أشهد، أو: كذلك أشهدُ، صحّ) نقله في المنتهى. [رجوع الشهود عن شهادتهم] (وإذا رَجَعَ شهودُ المال أو) شهود (العتق، بعدَ حُكْمِ الحاكِمِ لم ينقض) الحكم، لأنه قد تمّ ووجَبَ المشهودُ به للمشهود له، ورجوعُ الشاهِدِ عن شهادته المحكوم بها لا يوجب نقضه، لأنهما إن قالا: تعمَّدنا فقد شهدا على أنفسهما بالفسق، فهما متّهمان بإرادة نقضه، كما لو شهد فاسقان على الشاهدين بالفسق، فإنه لا يوجب التوقّف في شهادتهما. وإن قالا: أخطأنا، لم يجبْ النقضُ أيضاً، لجواز أن يكونا قد أخطآ في قولهما الثاني، بأن اشتبه عليهما الحال، ونحو ذلك. (ويضمنون) بذلك المالَ الذي شهدوا به، سواء قُبِضَ أو لم

[تعزير شاهد الزور]

يُقبَض، وسواء كان قائماً أو تالفاً، لأنهما أخرجاه من يد مالكه بغير حقٍّ، وحالا بينه وبينه، فلزمهما ضمانُه كما لو أتلفاه. وإن كانت الشهادة بعتقٍ غَرِمَا قيمة من شهدا بعتقِهِ، لأنهما أزالا يد السيّد عن عبده أو أمته بشهادتهما المرجوع عنها، أشبه ما لو قتلا من شهدا بعتقِهِ. ومحل ذلك: ما لم يصدِّقهما على بطلان شهادتهما المشهودُ له، أو تكونَ الشهادة بدينٍ فَيُبْرأُ منه قبل أن يرجعا، ذكرها في المنتهى عن المغني. [تعزير شاهد الزور] (وإذا علم الحاكم بشاهدِ زورٍ بإقراره) على نفسه أنه شهد بالزور، (أو تبيُّنِ كذبِهِ يقيناً) وذلك بأن يشهد بما يقطع بكذبه (عزّره) في الأصحّ قاله في المنتهى. (ولو تابَ) كما لو تابَ من وجب عليه حدٌّ، فإنه لا يسقط بتوبته. ثم اعلم أن شهادة الزور من أكبر الكبائر وقد نهى الله تعالى عنها، مع نهيه عن عبادة الأوثان، بقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ولا يتقدر تعزيرُه، بل يكون (بما يراه الحاكم) إما بجلدٍ أو بحبسٍ أو كشفِ رأسٍ أو توبيخٍ بكلامِ، يفعل ما يراه صواباً، (ما لم يخالف) ذلك (نصاً) أو معنى النص، (وطيف به) أي بشاهد الزور (في المواضع التي يشتهر فيها) فيوقَف في سوقِهِ إن كان من أهل السوق، أو في قبيلته إن كان من أهل القبائل، أو في مسجد إن كان من أهل المساجد، وينادى عليه (فيقال: إنَّا وجدناه شاهدَ زورٍ فاجتنبوه) يعني يقول الموكَّلُ بِهِ: إن الحاكم يقرأ عليكم السلام، ويقول: هذا شاهد زورٍ فاعرفوه. تنبيه: لا يعزَّر شاهدٌ بتعارُضِ البيّنة. ولا يُغَلَّط في شهادته أو رجوعِهِ. ومتى ادعى شهودٌ قودٍ خطأً عُزِّروا.

باب اليمين في الدعاوى

باب اليَمين في الدعَاوى أي ذكر ما تجب فيه اليمين، وذكرُ صفتها، ولفظها. وهي تقطَعُ الخصومَة حالاً، ولا تسقِطُ حقاً، فتُسْمَع البينة بعد اليمين. (البينةُ على المدّعي، واليمينُ على من أنكر) هذه قطعة من حديث خرجه النووي عن ابن عباس (¬1)، وقال ابن المنذر: أجمعَ أهلُ العلم على أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. (ولا يمينَ على منكرٍ ادُّعِيَ عليه بحقٍّ لله) سبحانه و (تعالى، كالحدّ، ولو) كان ذلك الحدُّ (قذفاً، والتعزيرِ والعبادةِ وإخراجِ الصّدَقَةِ) الواجبةِ (والكفّارةِ والنذرِ) أما الحدود فلا خلافَ في أنها لا تشرع فيها اليمين، لأنه لو أقرّ ثم رجع عن إقراره قبل منه وخُلّي سبيله من غير يمينٍ، فلأن لا يُستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره والتعريض للمُقِرّ ليرجع عن إقراره، وللشهود بِترك الشهادة بالحدّ والستر ¬

_ (¬1) قوله "خرّجه النووي عن ابن عباس" الأولى أن ينسب إخراج الحديث إلى أصحاب الكتب المسندة المعروفة. فإن النووي ينقل عنهم. والحدبث منه عند البخاري قوله "اليمين على المدّعى عليه" ذكر ذلك في آخر كتاب الرهن من صحيحه، وفي الباب (20) من كتاب الشهادات. وقال ابن حجر (فتح الباري، ط السلفية، 5/ 283): رواه بلفظ "البينة على المدعي واليمين على المنكر" البيهقي، وإسناده حسن. اهـ.

عليه. وأمّا ما عدا ذلك من حقوق الله تعالى فأشبَهَ الحدودَ، لأن ذلك عبادةٌ، فلا يستحلف عليها، كالصَّلاة. (ولا) يمينَ (على شاهدٍ أنكرَ شهادَتَهُ) أي أنكر تحمُّلها، (و) لا على (حاكمٍ أنكر حكمَهُ) ولا على وصيٍّ على نفي دينٍ على موصٍ. وإن ادعى وصيٌّ وصيتَهُ للفقراء، فأنكر الورثةُ، حلفوا. فإن نكلوا قضي عليهم بما ادعاه الوصيّ (ويحلف المنكر في كل حقّ آدمي يقصد منه المال، كالديون والجنايات والإِتلافات). (فإن نَكلَ) المنكِر (عن اليمين قُضِيَ عليهِ بالحقّ) أي بما ادُّعي عليه به. (وإذا حلف على نفي فعلِ نفسِهِ، أو) حلف على (نفي دينٍ عليه، حَلَفَ على البتّ) لما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلٍ حَلَّفه: "قل: واللهِ الذي لا إله إلا هُوَ ما لَهُ عندي شيءٌ رواه أبو داود (وإن حلف على نفي دعوى على غيره، كمورّثِهِ ورقيقِهِ ومولِّيهِ حلف على نفي العلم) فمن ادعى على إنسانٍ أن عبدَهُ جنى عليهِ، فأنكر، وأراد تحليفَهُ، حَلَف أنه لا يعلمُ أن عبده جنى على المدَّعي. (ومن أقام شاهداً بما ادعاهُ) مما يقبل فيه شاهد ويمين (حَلَف معه) أي مع الشاهد (على البتّ) وبجب تقديم الشهادة على اليمين. ولا يُشترَط في يمينه أن يقول: وأن شاهِدِي صادقٌ في شهادته. (ومن توجّه عليه حَلِفٌ لجماعةٍ يحلف لكلِّ واحدٍ يميناً) لأن لكل واحد منهم حقاً غيرَ حقِّ الآخر. فإذا طلبَ كلُّ واحدٌ منهم يميناً كان له ذلك، كسائر الحقوق إذا انفرد بها. وقد حكى الإصطخري أنّ إسماعيلَ ابن إسحاقَ القاضي حلّف رجلاً بحقٍّ لرجلين يميناً واحدةً، فخطّأه أهل

[في تغليظ اليمين]

عصره (ما لم يرضوا) كلهم (بـ) يمينٍ (واحدة) فيكتفي بها، لأن الحق لهم، وقد رضوا بإسقاطه فسقط. فصل [في تغليظ اليمين] واليمين المشروعة هي اليمين بالله جلّ اسمه. (وللحاكم تغليظُ اليمينِ فيما له خطر) وهو المثلُ في العلو كالخطر (¬1)، وذلك (كجناية لا توجب قوداً، وعتقٍ ومالٍ كثيرٍ قدر نصابِ الزكاةِ. فتغليظُ يمينِ المسلم أن يقول: واللهِ الذي لا إله إلا هو عالمِ الغيب والشهادةِ، الرحمنِ الرحيمِ، الطالب الغالبِ، الضارِّ النافع، الذي يعلمَ خائنة الأعين وما تخفي الصدور) فالطالبُ اسم فاعل من طلب الشيء إذا قصده، والغالب اسم فاعل من غلبه بمعنى قَهَرَه، والضارُّ النافع من أسماء الله الحسنى. أي قادر على ضرّ من شاء ونفعِ من شاء، وخائنةُ الأعين ما يضمر في النفس، ويكفُّ عنه اللسان، ويومأ إليه بالعين. وما تخفي الصدور: وما تضمره. والتغليظ في الزمان أن يحلفَ بعد العصر، أو بين الأذان والإقامة. وبالمكان: بمكة بين الركن والمقام، وعند الصخرة ببيت المقدس وسائر البلاد عند منبر الجامع. (ويقول اليهودي: واللهِ الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، وفلق له البحر، وأنجاهُ من فرعونَ وملئه) لحديث أبي هريرة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ¬

_ (¬1) كذا العبارة في الأصول كلها. وهي محرفة عن عبارة شرح المنتهى، ونصّها "وهو مثل الغلوّ، كالخطير" أي إن الذي له خطر هو ما له أهمية، كالغالي قيمة، ويطلق عليه أنه خطير.

لليهود: "نَشَدْتُكُم باللهِ الذي أنزل التوراةَ على موسى ما تجدونَ في التوراة على من زنى؟ " رواه أبو داود. (ويقول النصراني: واللهِ الذي أنزل الإنجيلَ على عيسى، وجعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبْرص) لأنه لفظ تتأكَّد به يمينه. ويقول المجوسي: واللهِ الذي خلقني وصوّرني ورزقني. (ومن أبى التغليظَ لم يكن ناكلاً) عن اليمين، لأنه قد بذل الواجب الذي عليه، فيجب الاكتفاء به، ويحرم التعرّض له. قاله في النكت. ولا يحلف بطلاقٍ وفاقاً للأئمة الثلاثة. قاله الشيخ. (وإن رأى الحاكم تركَ التغليظِ فتركه كان مصيباً)

كتاب الإقرار

كتَاب الإقَرار وهو الاعتراف بالحق. مأخوذ من المَقَرّ، وهو المكانُ، كأن المُقرّ يجعل الحق في موضعه. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}. (لا يصحُّ الإِقرار إلا من مكلف) فلا يصحّ من صغير ومجنونٍ (مختارٍ) فلا يصح من مُكْرَهٍ عليه (ولو) كان المقرُّ (هازلاً. بلفظٍ أو كتابةٍ، لا بإشارةٍ، إلا من أخرس) إن كانت الإِشارة معلومة. (لكن لو أقر صغيرٌ أو قنٌّ أُذِنَ لهما في تِجارةٍ في قدر ما أُذِن لهما) أي الصغير والقن (فيه صحّ.) قال أحمد في رواية مهنا، في اليتيم إذا أَذِنَ له، يعني: وليّه، في التجارة، وهو يعقل البيع والشراء، فبيعه وشراؤه جائز، وإن أقرّ أنه اقتضى شيئاً من مالِهِ جاز بقدر ما أذن له فيه وليه. (ومن أُكرِه ليقرَّ بدرهمٍ فأقرّ بدينارٍ) صح ولزمه، (أو) أُكرِهَ (ليقرّ لزيد فأقر لعمرٍو، صحّ ولزمه) مثل أن يكره على الإِقرار بطلاقِ امرأة معينةٍ فيقرّ بطلاقِ غيرها، أو على الإِقرار بدنانيرَ، فيقرّ بدراهم، فيصحُّ

إقراره، لأنه أقرَّ بما لم يكره عليه، فصحّ كما لو أقر به ابتداء. (وليس الإِقرار بإنشاءِ تمليكٍ) بل هو إخبارٌ عما في نفس الأمر. إذا علمت ذلك (فيصحّ) إقرار الإِنسان لغيره (حتى مع إضافة الملك لنفسه، كقوله كتابي هذا لزيدٍ) قال في الفروع: ويصح مع إضافة الملك إليه. انتهى. (ويصح إقرار المريض بمالٍ لغير وارثٍ) لأنه غير متَّهمٍ في حقه. قال في شرح المقنع: قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يحفظ عنه من أهل العلم أن إقرار المريض في مرضه لغير وارثٍ جائز. (ويكونُ) المقَرُّ به للأجنبي (من رأسِ المال) أي مال المقر. (و) يصح إقرار المريض أيضاً (بأخذِ دينٍ من غير وارثٍ) لأن ذلك إقرار لمن لا يتهم في حقه فقبل (لا إن أقرّ لوارثٍ، إلا ببيّنةٍ) قال في المنتهى وشرحه: وإن أقرّ المريض بمالٍ لوارثٍ لم يقبل إقراره بذلك إلا ببينة أو إجازة من الورثة، لأنه إيصال لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته، فلم يصحّ بغير رِضَا بقيَّة الورثة، كهبته. ولأنه محجور عليه في حقه، فلم يصحّ الإقرار له. انتهى. (والاعتبار يكون من أقرّ له وارثاً أوْ لا) أي غير وارث (حالة الإقرار) لأنه قولٌ تعتبر فيه التهمة، فاعتُبرت حالة وجودهِ دون غيرها. فلو أقرّ لوارثٍ فصار عند الموت غيرَ وارثٍ، كما لو أقرَّ لأخيه من أبيه بشيء، فحَدَثَ لَهُ أخ شقيقٌ، لم يلزم إقراره. وإن أقرَّ لغيرِ وارثٍ لزم ولو صار المقَرُّ له وارثاً للمقِرّ (لا الموت، عكس الوصية) فإن الاعتبار يكون من وصّى له وارثاً أوْ لا، عند الموت. (وإن كذّب المقَرُّ له المقِرَّ بطل الإِقرار) لأنه أقرَّ لمن لم يصدّقه، فبطل لذلك. (وكان للمقِرّ أن يتصرف فيما أَقَرّ به بما شاء) قال

فصل

في المنتهى: ومن أقرّ لمكلفٍ بمالٍ في يده، ولو بِرِقِّ نفسه، أو كان المقَرّ به قنًّا فكذَّبَهُ المقَرُّ لَهُ بطل. ويُقَرُّ بيد المُقِرّ، ولا يقبل عود مقرٍّ له إلى دعواه. وإن عاد المقِرّ فادّعاه لنفسه، أو أنه لثالث، قبل. انتهى. فصل (والإقرار) ممن يصح إقراره (لقنِّ غيرِه إقرارٌ لسيّده) لأنه هو الجهة التي يصحّ لها الإِقرار، فتعيَّنَ جعلُ المال له. وحينئذ يلزم المقِرَّ ما أقرّ به بتصديق السيد، ويبطل بردّه. (و) الإقرار (لمسجد أو مقبرةٍ أو طريقٍ ونحوه) كثغر وقنطرة (يصح.) وفي الأصح: (ولو أطلقَ) بأن لم يعيِّن سبباً، كغلّةِ وقفٍ، ونحو ذلك. لأن ذلك إقرار ممن يصح إقراره، فلزمه كما لو عيّن السبب. (و) الإِقرار (لدارٍ أو بهيمةٍ لا يصحّ إلا إن عيَّنَ السبب) من غصب أو استئجار. (و) يصحّ (لحملٍ) أي حمل الآدمية بمالٍ، وإن لم يَعْزُهُ إلى سببٍ، لأنه يجوز أن يملك بوجهٍ صحيح، فصح له الإِقرار المطلق، كالطفل. (فـ) إن (وُلِدَ ميتاً أو لم يكن) في بطنِها (حملٌ بَطَلَ) إقراره لأنه إقرار لمن لا يصحّ أن يملك. وإن ولدت أمُّ الحمل حيًّا وميتاً، فللحيّ جميع المقَرِّ به. قال في الإنصاف: بلا نزاعٍ. انتهى، وذلك لفواتِ شرطِهِ في الميت. (و) إن ولدت (حيًّا فأكثر فله بالسوية) وإن كان ذكراً وأنثى، لأنه لا مزيّةَ لأحدهما على صاحبه، كما لو أقرّ لرجلٍ وامرأةٍ بمالٍ، ما لم يعز إقراره إلى سبب يوجِبُ تفاضُلاً، كإرث ووصية يقتضيانه، فيعمل به.

(وإن أقرّ رجل، أو) أقرت (امرأة بزوجية الآخر، فَسَكَت) صحّ، وورثه، لأنه إذا صح الإِقرار ثبتت الزوجية، فوجَبَ أن يرث، لقيام الزوجية بينهما، (أو جَحَدَ) يعني: أنه لو أقر أحَدُهما بزوجيةِ الآخر فجحده (ثم صدّقه صحّ) أيضاً (وورثه) لأن الإقرار حَصَل من الميّت، والتصديق قد وجد من المقَرِّ له في حياته، ولا يضر جحده قبل إقراره، كالمدّعى عليه يجحد ثم يقر بالحقّ (لا إن بقي) الجاحد (على تكذيبِهِ حتى ماتَ) المقِرِّ، لأنه متهم في تصديقه بعد موته.

[باب ما يحصل به الإقرار]

(ما يحصل به الإِقرار) أي اللفظ الذي يحصل به الإقرار (وما) إذا وَصَل بإقراره مَا (يغيّره)، أى الإقرار (من ادُّعي عليه بألفٍ) مثلاً، (فقال) في جوابه: (نعم، أو) قال: (صدقت، أو) قال: (أنا مقرٌّ)، أو قال: أنا مقرٌّ به، أو قال: إني مقرٌّ بدعواك، (أو) قال: مُقِرّ، فقط، أو قال المدعى عليه في جواب الدعوى: (خُذْها، أو: اتَّزِنْها، أو: اقبضْها،) أو: أحرِزْها، أو قال: هي صحاحٌ؛ أو قال: كأني جاحِدٌ لك؟ أو: كأني جحدتُك حقَّك؟ (فقد أقرّ) له، لوقوع ذلك عقب الدعوى. (لا إن قال) مدعى عليه في جوابه: (أنا أُقِرُّ) فإنه لا يكون إقراراً، (أو) قال: أنا (لا أنكر) لأنه لا يلزم من عدم الإِنكار الإِقرار، فإنَّ بينهما قسماً آخر، وهو السكوت عنهما؛ أو قال في جوابه: يجوز أن يكونَ محقًّا؛ (أو) قال: (خُذْ)، لاحتمال أن يكون مراده: خذ الجواب مني؛ (أو قال: اتَّزِنْ) أو: أَحْرِزْ، (أو) قال (افتح كُمَّك) لاحتمال أن يكون ذلك لشيء غير المدَّعى به. (و) قولُ المدعى عليه: (بلى، في جواب: أليْسَ لي عليك كذا؟ إقرارٌ) بلا خلافٍ، (لا) قولُ: (نعم، إلا من عامّيّ). وإن قال: أليس عليك ألف، فقال: بلى، فقد أقرّ، لا: نعم. (وإن قال) إنسان لآخر: (اقض ديني عليكَ ألفاً.) فقال: نعم؛ أو قال له: اشترِ ثوبي هذا، فقال: نعم؛ أو قال له: اعطني ثوبي هذا.

فقال: نعم؛ أو سلِّم إليَّ فرسي هذه، فقال: نعم؛ أو: أعطني ألفاً من الذي عليك، فقال: نعم؛ (أو) قال له: (هل لي، أو: لي عليك ألفٌ، فقال: نعم) فقد أقر له، لأن نعم تصديق. (أو قال: أمهلني يوماً، أو: حتى أفتح الصندوق،) فقد أقرّ له، لأن طلب الإمهال يقتضي أن الحقّ عليه. (أو قال: له عليّ ألفٌ إن شاء الله) فقد أقرّ له، لأنه وصل إقراره بما يرفعه كله، ويصرفه إلى غير الإِقرار، فلزمه ما أقرّ به، وبطل ما وصله به. (أو) قال: له عليّ ألف لا تلزمني (إلا أن يشاء الله) فقد أقرّ له بالألف، لأنّه علّق رفع الإقرار على أمرٍ لا يعلم به، فلم يرتفع. (أو) قال: له علي ألف لا تلزمني إلا أن يشاء (زيدٌ، فقد أقرّ) له بالألف. (وإن علق) الإقرار (بشرطٍ لم يصحّ، سواء قدّم الشرط، كإن شاءَ زيدٌ فله) أي فلعمرٍو (عليّ دينارٌ) أو: إن جاء رأسُ الشَّهر فله عليّ كذا، أو: إن قدم زيدٌ فلعمرٍو عليَّ كذا، (أو أخّره) أي الشرط، (كـ) قوله: (له) أي لزيدٍ (عليَّ دينار إن شاءَ زيدٌ، أو قدم الحاجّ)، أو جاء المطر، فإنّ إقراره لا يصح، لما بين الإخبار والمعلَّق على شرط مستقبلٍ من التنافي. ويستثنى من ذلك صورةٌ أشار إليها بقوله: (إلا إن قال له: إذا جاء وقتُ كذا فله عليّ دينارٌ، فيلزمه في الحال) لأنه قد بدأ بالإقرار فعمل به، (¬1) وقوله إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المَحِلّ، فلا يبطل الإِقرار بأمر محتمل. (فإن فسره) أي فسر قوله: إذا جاء وقتُ كذا (بأجلٍ، أو وصيّةٍ، قُبِلَ) ذلك (منه بيمينه) لأن ذلك لا يعلم إلا منه، ويحتمله لفظه. ¬

_ (¬1) قوله "لأنه بدأ بالإقرار" مشكل، وعبارته في شرح المنتهى "له علي دينار إذا جاء وقت كذا" بتقديم الإقرار، وهي الصواب.

[فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره]

(ومن ادُّعِيَ عليه بدينارٍ، فقال: إن شهد به زيد، فهو صادق، لم يكن مقراً) لأن ذلك وعد بالتصديق على الشهادة، لا تصديقٌ في الأصح. فصل (فيما إذا وصل بإقراره ما يغيّره) فمن ذلك: (إذا قال) إنسان عن آخر: (له عليَّ من ثمن خمرٍ ألفٌ، لم يلزمه شيءٌ) لأنه أقرَّ بثمنِ خمرٍ، وقدَّره بالألف، فلا يلزمه، لأن ثمن الخمر لا يجب. (وإن قال: له عليّ ألفٌ من ثمنِ خمرٍ)، أو: له علي ألفٌ من ثمنِ مبيعٍ لم أقبِضهُ، (لزمه الألف) لأن ما يذكره بعد قوله له علي الألف رفعٌ لجميع ما أقرَّ به، فلا يقبل، كاستثناء الكل (¬1). [الاستثناء في الإِقرار] (ويصح استثناءُ النصفِ فأقلَّ) من النصف، (فيلزمه) أي يلزَمُ الإِنسانَ المقرَّ لِإنسانٍ (عشرةٌ في قوله: له علي عشرةٌ إلا ستّة،) فيلزمه (¬2)؛ (وخمسةٌ في) قوله: (ليس لك علي عشرة إلا خمسة) قاله في المنتهى. ويشترط لصحة الاستثناء ما. أشار إليه بقوله: (بشرط أن لا يسكت) المستثني بين ذكره المستثنى والمستثنى منه (ما) أي زماناً (يمكنه الكلامُ فيه؛) ¬

_ (¬1) وفي وجه للقاضي، ذكره في المغني: يقبل، لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل، كما لو عزاه إلى سبب صحيح. (¬2) وهذا من مفردات المذهب. وأما قول الحنفية والمالكية والشافعية فإنه يلزمه ما أقرّ به فقط، ففي قوله: له عليّ مائة إلا تسعة وتسعين، يلزمه واحد فقط. واحتجوا بنحو قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} قالوا: والغاوون أكثر العباد.

وأن لا يأتي بينهما بكلام أجنبيّ؛ (و) يشترط لصحة الاستثناء أيضاً (أن يكون) المستثنى (من الجنس والنوع) أي من جنسِ المستثنى منه، لأن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظُ بموضوعِهِ، وغيرُ ذلك لا يتناوَله اللفظ، لأنه ليس موضوعاً له. (فـ"له عليّ هؤلاءِ العبيدُ العشرةُ إلا واحداً") استثناء (صحيح) لأنه مما يتناوله اللفظُ بموضوعِهِ، (ويلزمه تسعة.) وُيرجَع في تعيين المستثنى إليه، لأن الحكم بقوله، وهو أعلم بمراده. فإن ماتوا، أو قُتِلوا، أو غُصِبوا، إلا واحداً، فقال: هو المستثنى، قُبِلَ ذلك منه بيمينه. ولا يصحّ الاستثناءُ من غيرِ الجنس ولو كان عيناً من فضّةٍ، أو فضةً من عينٍ، أو فلوساً من عينٍ، أو فضةٍ، ولا من غير النوع الذي أقرّ به. (و) (¬1) إذا قال: (له على مائة درهم إلا ديناراً) أو إلا ثوباً؛ (تلزمه المائة) (¬2). (و) إذا قال: اله هذه الدارُ إلاَّ هذا البيت، قُبِل) منه ذلك، حيث لا بيّنة بما يخالف ذلك. (ولو كان) البيتُ (أكثَرَها) أي أكثرَ الدارِ، (لا إن قال: له إلاّ ثلثيها، ونحوه) كما لو قال: إلا ثلاثةَ أرباعِهَا، لأن المقَرّ به شائعٌ وهو أكثر من النصف، فوجب أن لا يقبل. (و) إن قال: (له الدار ثلثاها، أو) قال: له الدار (عارية، أو) قال: له الدار (هبة، عمل بالثاني) وهو قوله: ثلثاها، أو عارية، أو هبة، الذي هو بدل من [الأول]. ولا يكون إقراراً بالدار، لأنه رَفَع بآخِرِ كلامه ¬

_ (¬1) المقام يقتضي أن يقولها الشارح (بالفاء) تفريعاً على القاعدة التي ذكرها. ولكن لم يتمكن من تبديلها لأنها في أصل المتن. (¬2) وفي رواية: يصح استثناء أحد النقدين من الآخر.

فصل

ما دخل في أوله. وهو بدلُ اشتمالٍ لأن الأول مشتمِلٌ على الثاني. وقوله: له الدار [يدل على الملك]. وقوله: هبةٌ بدل اشتمال من الملك، فقد أبدل من الملك بعض ما اشتمل عليه، وهو الهبة، فكأنه قال [مَلَك] الدار هبة. ويعتبر فيها شرط الهبة. قاله في المنتهى (¬1). فصل (ومن باع) شيئاً، (أو وهب) شيئاً (أو أعتق عبداً، ثم أقرّ به) أي بما باعه أو وهبَه أو أعتقَهُ (لغيرِهِ، لم يقبل) قولُهُ على المشتري، ولا على الموهوب لَهُ، ولا على العبد الذي أعتقه، لأنه أقرّ على غيره. ولا ينفسَخُ البيع ولا الهبة ولا يبطل العتق. (ويغرمه) أي يلزمه غرامته (للمقَرِّ له) لأنه فوّته عليه بالبيع أو الهبة أو العتق. (وإن قال) شخصٌ: (غصبتُ هذا العبدَ من زيدٍ، لا بل من عمرٍو (، لزمه دَفْعُه إلى زيدٍ لإقراره به. ولم يقبل رجوعه عن إقراره به الأول، لأنه حقٌّ لآدميّ. ويغرم قيمته لعمرٍو، لأنه حالَ بينه وبين ملكه، لإقراره به لغيره، فلزمه ضمانه كما لو أتلفه، ولأنه أضرب عن الأول، وأثبته للثاني، فلا يقبل إضرابه بالنسبة للأوّل، لأنه إنكار بعد إقرار، ويقبل إضرابه بالنسبة للثاني، لأنه لا دافع له. فإذا تعذر تسليمه إليه من أجل تعلّق حقّ الأول به، تعيّن دفعُ القيمةِ إليه. (أو) قال: (مِلْكُهُ لعمرٍو وغصبتُهُ من زيد، فهو لزيد) لإِقراره له باليد، (ويغرم قيمتَهُ لعمرٍو) لإِقراره بالملك له، ووجودِ الحيلولة بالإقرار باليد لزيد. ¬

_ (¬1) في الأصول كلها ببعض اختلاف أفسد المعنى، فأصلحنا ما بين المعقوفات كما في شرح المنتهى 584/ 3

(أو) قال: (غصبته من زيدٍ، وملكه لعمرو، فهو لزيد) لأنه قد أقر بالغصب منه، (ولا يغرم لعمرٍو شيئاً) لأنه إنّما شهد بالملك أشبه ما لو شهد له بمالٍ في يد غيره. وإن قال: غصبتُهُ من أحدهما، لزمه تعيينه، ويحلف للآخر. وإن قال: لا أعلمه، فصدّقاه، انتزع من يده وكانا خصمين فيه. وإن كذّباه حلف لهما يميناً واحدة. (ومن خلّف ابنين ومائتين، فادَّعى شخصٌ مائة دينار على الميّت، فصدّقه أحدهما) أي أحد الابنين، (وأنكر) الابن (الآخر، لزم) الابنُ (المقرَّ نصفُها) أي نصفُ المائة المدّعى بها أنها دين على الميت، لأنه مقرّ على أبيهِ بدينٍ، ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه. ولأنه يقرُّ على نفسِهِ، وأخيه فلا يقبل إقراره على أخيه، ويقبل على نفسه (إلا أن يكونَ) المقرُّ بالدين (عدلاً، ويشهد) لربّ الدين بالمائة، (ويحلف مَعَهُ المدّعي) أي ربّ الدين، (فيأخذُهُا) أي المائة التي شهد له بها أحد الابنين، (وتكون) المائة (الباقيةُ بين الابنين) وإنما لزمَ المقرَّ بالدين نصفُ المائة لأنه يرث نصف التركة، فيلزمه نصف الدين، لأنه بقدر ميراثه. ولو لزمه جميعُ الدين، ككونه ضامناً لأبيه، لم تقبل شهادته على أخيه، لكونه يدفع بشهادته عن نفسه ضرراً.

باب الإقرار بالمجمل

باب الإقرَار بالمجمَل بضم الميم الأولى وفتح الثانية. وهو ما احتمل أمرين فأكثَرَ على السواء. (إذا قال: له عليّ شيء وشيء، أو:) له (كذا وكذا)، أو: له شيءٌ شيءٌ، أو: له كذا كذا، صح الإقرار، و (قيل له) أي قال له الحاكم: (فسره) لأنه يلزمه تفسيرُهُ، لأن الحكم بالمجهول لا يصح. (فإن أبى) التفسير (حُبِسَ حتى يفسّر) لأن التفسير حقٌّ عليه، فإذا امتنع منه حبس عليه، كالمال (ويقبل) منه تفسيره بحدّ قذفٍ عليه للمُقَرَّ له، وبحقِّ شفعةٍ، و (بأقلِّ مُتَمَوَّلٍ) لأنه الشيءُ المقَرُّ به (¬1)، لا بميتةٍ نجسةٍ، وردِّ سلامٍ، وتشميتِ عاطسٍ، وعيادةِ مريضٍ، وإجابةِ دعوةٍ، ونحوِ ذلك، ولا بغير متَموّلٍ كقِشْرِ جوْزةٍ، وحبَّةِ بُرٍّ أو شعير، أو نواة. (فإن ماتَ) المقِرُّ بالمُجْمَلِ (قبل التفسير لم يؤاخذ وارثه بشيءٍ) ولو خلّف تركة. قاله في المنتهى. وفي الفروع: إن مات ولم يفسّره فوارِثُهُ كهو، إن تَرَك تركةً. وجزَمَ به في الإِقناع. (و) من قال عن إنسان: (له على مالٌ عظيمٌ، أو) قال: مال (خطيرٌ، أو) قال: مالٌ (كثيرٌ، أو) قال: مال (جليلٌ، أو) قال: مال ¬

_ (¬1) في شرح المنتهى 589/ 3: لأن الشيء يصدق على أقل مال.

(نفيسٌ) أو عزيزٌ، أو زاد: عند الله، بأن قال: عظيمٌ عند الله، أو خطيرٌ عند الله، أو كثير عند الله، أو جليل عند الله، أو نفيس عند الله، (أو عزيزٌ عند الله، أو قال: عندي، قُبِلَ تفسيرُهُ) ذلك (بأقلّ متموَّلٍ) لأنّ العظيمَ والخطيرُ والكثيرَ والجليلَ والنفيسَ والعزيزَ لا حدّ له في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف. وتختلف الناسُ فيه، فمنهم من يعظّم القليل، ومنهم من يعظّم الكثير، فلم يثبت في ذلك حدٌّ يُرجَع إلى تفسيره به، ولأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير جليل نفيس (¬1)، فيقبل تفسيره بأقلِّ متموّلٍ لذلك. (و: له عليّ دراهمُ كثيرةٌ، قُبِل بثلاثة) فأكثر من الدراهم. وكذا لو قال: دراهم عظيمة، أو وافرة، لأن الكثيرة والعظيمة والوافرة لا حدّ لها في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف، وتختلف أحوال الناس فيها فالثلاثة أكثرُ مما دونها وأقل مما فوقها، ولأن الثلاثة أقلُّ الجمع، وهي اليقين. (و: له عليّ كذا كذا (¬2) درهمٌ -بالرفع أو النصب- لزمه درهم) أما مع الرفع فلأن تقديره مع عدم التكرير: شيء هو درهم، فيجعلُ الدرهم بدلاً من كذا، والتكرير للتأكيد، ولا يقتضي الزيادة، كأنه قال: شيء شيء هو درهم، أو شيئان هما درهم، لأنه قد ذكر شيئين، ثم أبدل منهما درهماً. وأما مع النصب فلأنه تمييزُ لما قبله، والتمييز مفسِّر. وقال بعض النحاةِ هو منصوب على القطع، كأنه قَطَع ما ابتدأ به وأقر بدرهم. (وإن قال بالجرّ) أي جرِّ درهم، (أو وقف عليه، لزمه بعضُ درهمٍ، ويفسّره) لأن الدرهم مخفوض بالإِضافة فيكون المعنى عليّ بعضِ درهم. ¬

_ (¬1) أي ولو عند البعض. كذا في شرح المنتهى. (¬2) في (ب، ص): "كذا وكذا" فحذفنا الواو تبعا لـ (ف) وهو الصواب.

فصل

وإن كرّر يُحْتَمَل أنه أضاف جزأ إلى جزء ثم أضاف الجزء الأخير إلى درهم. (و) إن قال عن إنسان: (له عليّ ألفٌ ودرهم، أو) قال: له على (ألفٌ ودينار، أو) قال: له عليَّ (ألفٌ وثوبٌ)، أو قال: له ألفٌ وفرسٌ، أو: ألفٌ وعبدٌ، أو: ألفٌ ومدُّ بُرٌّ، أو ألفٌ وتفاحَةٌ، أو قال: له درهمٌ وألف، أو دينارٌ وألف، أو ثوب وألف، (أو:) له (ألفٌ إلا ديناراً، كان المبهم) في جميع هذه الصور (من جنس المعيّن) الذي ذكر معه، لأن العَرَبَ تكتفي بتفسيرِ إحدى الجملتين عن الأخرى، قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} ومعلوم أنه أراد تسع سنين، فاكتُفي بذكْرِها في الأول. فصل (إذا قال) إنسان عن آخر: (له عليّ ما بين درهمٍ وعشرةٍ لزمه) له (ثمانية) أي ثمانيةُ دراهم لأنَّ ذلكَ ما بينَهُما، وكذا إذا عرّفها بأل، بأن قال: ما بين الدِّرْهَمِ والعَشَرَة. (و) إن قال: له على (من درهم إلى عشرةٍ)، لزمه تسعةٌ لأنه جَعَل العشَرَةَ غايةً، وابتداءُ الغايةِ يدخل في المغيّا بخلافِ انتهاءِ الغاية. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1). (أو) قال: له عليّ (ما بين درهمٍ إلى عشرةٍ، لزمه تسعة) كما تقدم من أن انتهاء الغاية لا يدخل. وإنْ أرادَ مجموعَ الأعداد لزمه خمسة وخمسون. (و) من قال عن غيره: (له) عليّ (درهمٌ قبله درهم وبعده درهم، أو) قال: له عليّ (درهم ودرهم ودرهم، لزمه ثلاثة) دراهم. (وكذا) يلزمه ثلاثة دراهم إذا قال: له عندي (درهم درهم درهم. ¬

_ (¬1) في الأصول (وأتموا الصيام إلى الليل).

فإن أراد) بقوله: درهم درهم درهم (التأكيدَ، فعلى ما أراد) أي قُبِل منه ذلك. (و) إن قال: (له) عليّ (درهمٌ بل دينار، لزماه) لأن الثاني غيرُ الأول. وكلاهُما مقَرٌّ به. والإضراب لا يصحّ لأنه رجوعٌ عن إقرارٍ بحقِّ آدميِّ. (و: له درهمٌ في دينارٍ، لزمه درهم. فإن قال: أردت العطف،) أي: أردتُ درهماً وديناراً. (أو) قال: أردْتُ (معنى معَ) أي درهماً مع دينارٍ (لزماه) أي الدرهم والدينار. (و) من قال عن إنسان: (له) عليّ (درهم في عشرة) ولم يُرِد شيئاً، بل أطلق لفظه (لزمه درهم) لأنه أقرّ بالدرهم، وجعَلَ العشرةَ محلاً له، فلا يلزمه سواه، (ما لم يخالفْه عُرْفٌ) أي عرفُ البلد التي بها المقر (فيلزمه مقتضاه) أي مقتضى عرف تلك البلد في الأصح، (أو) ما لم (يُرِدِ الحساب، ولو كان جاهلاً به) أي بالحساب في الأصح، (فيلزمه عشرة) أي عشرة دراهم، مضروبةُ الدِّرهمِ في عشرةٍ، لأن ذلك هو المصطلح عليه عند الحُسّاب، (أو) لم (يرد الجميع) بأن يريد درهماً مع عشرة، لأن كثيراً من العوامّ يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى، ولو كان حاسباً في الأصح (فيلزمه أحد عشر) درهماً. (و) من قال عن إنسان: (له) عندي (تمرٌ في جراب، أو): له عندي (سكّينٌ في قراب، أو): له عندي (ثوبٌ في منديل)، أو: له عندي عبدٌ عليه عمامة، أو دابة عليها سرج، أو فصٌ في خاتم، أو جراب فيه تمر، أو قرابٌ فيه سيف، أو منديل فيه ثوب، أو سرجٌ على دابة، أو عمامةٌ على عبد، أو زيتٌ في زق ونحوه (ليس بإقرارٍ بالثاني) والحاصل من ذلك أن من أقرّ بشيءٍ وجعله مظروفاً، كقوله له عندي تمر

في جراب، أو جعله ظرفاً كقوله له عندي جراب فيه تمر، لا يكون مقرُّا بالثاني منه في الأصح، لأنهما شيئان متغايران. وإقراره به لم يتناول الثاني، وإنما جعله ظرفاً أو مظروفاً، ولا يلزم من ذلك أن يكون الظرفُ والمظروف للمقر أو لغيره. ومع الاحتمال لا يكون مقراً بهما، لأن الإِقرار لا يثبت إلاَّ مع التحقيق. (و) إن قال: (له) عندي (خاتمٌ فيه فصٌّ، أو) قال: عندي (سيف بقرابٍ)، فهو (إقرار بهما) والفرق بين هذه الصورة وبين قوله: له عندي جرابٌ فيه تمر ونحو ذلك، أن الفص جزء من أجزاء الخاتم، فيكون مقراً بهما، كما لو قال: له عندي ثوب فيه عَلَمٌ. فأما الجراب ونحوه فإنه غير الذي هو فيه. (وإقراره) أي إقرارُ الإنسان (بشجرةٍ ليس إقراراً بأرْضها، فـ) يتفرع على هذا أنه (لا يملك غَرْسَ مكانِها لو ذهبتْ، ولا أجْرَةَ) على ربّها (ما بقيت.) قال في الفروع: وليس لربّ الأرض قلعُها، وثمرتها للمقَرِّ له. وفي الانتصار احتمال، كالبيع (¬1). قال أحمد فيمن أُقِرَّ له بها: فهي بأصلها. فيحتمل أنه أراد أرضها، ويحتمل: لا. وعلى الوجهين يخرّج هل له إعادة غيرها أوْ لا. والثاني اختاره أبو إسحاق. قال أبو الوفا: والبيع مثله. كذا قال. وروايةُ مهنًا: هي له بأرضِها. فإن مات أو سقطت لم يكن له موضعها، انتهى كلامه. وصرح في المنتهى والإِقناع بما في المتن. (و) من قال عن إنسان: (له على درهم أو دينار)، أو: له عندي عبد أو أمة، (يلزمه أحدهما. ويعيِّنُه) يعني يلزمه تعيينه. كسائر المُجْمَلات. ¬

_ (¬1) أي احتمال، كما قالوه في البيع، فلا تكون السمرة للمقرّ له إلا إذا ظهرت بعد الإِقرار. وهذا بعيد جداً. (عبد الغني).

خاتمة

(خَاتمَة) نَسْألُ اللَّهَ حسن الأولى وَالخاتمة (إذا اتفقا على) صدور (عقدٍ، وادَّعى أحدُهما فسادهُ، و) ادّعى (الآخر صحته، فـ) القول (قول مدّعى الصحّة، بيمينه). (وإن ادّعيا شيئاً بيد غيرهما) حال كونه (شركةً بينهما بالسوية) أي لكلٍّ منهما نصفُه (فأقر) المدّعى عليه (لأحدهما) أي لأحد المدعيين (بنصفِهِ، فالمقَرُّ به بينهما) بالسوية. (ومن قال بمرض موته: هذا الألف لقطةٌ فتصدّقوا به) أي بالألف (و) الحال أنه (لا مال له غيره) أي غير المقَرِّ به (لزم الورثةَ الصدقةُ بجميعِهِ) أي جميع الألف (ولو كذّبوه). (ويحكم بإسلام من أقرّ ولو) كان المقر (مميزاً، أو) أقر (قبيل موته، بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) - صلى الله عليه وسلم -. (اللهم اجعلني ممن أقرَّ بِها مخلصاً في حياته. وعند مماته، وبعد وفاته). (واجعل اللهمَّ هذا) المختصر خالصاً (مخلَصاً) من الرياءِ والسمعةِ (لوجهك الكريم، وسبباً للفوزِ لديك بجنّات النعيم). (وصلى اللهُ وسلّم) وشرّف وعظّم (على أشْرفِ العالَم، وسيد بني آدم، و) صلى الله وسلم (على سائر) أي باقي (إخوانه من النبيين

والمرسلين، وآلِ كلٍّ) منهم (وصحبه أجميعن) يا أرحم الراحمين. (و) صلى الله وسلم (على أهل طاعتك أجمعين (¬1)، من أهل السموات وأهل الأرضين. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله) والله أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب. وعنده علم الكتاب. وهذا آخر ما تيسّر جمعه. والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً للناظر فيه بعين الإِنصاف، لا من نظر فيه بعين الاحتقار. اللهم اجعل هذا الشرحَ خالصاً لوجهك الكريم، وسبباً لرضاك عني يا رب العالمين. وَأَمِتْني على كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" خالصة مخلَصةً يا سيدي! يا مولاي! يا من بك أستغيثُ. واحشرني ووالديّ والمسلمينَ مع الذين أنعمت عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلَّم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: فرغتُ من تأليفِهِ ليلة الأربعاء ثاني شهر ربيع الثاني من شهور سنة إحدى وتسعين وألف. قاله بفمِهِ، ورَقَمه بقلمه، أفقر العباد، عبد القادر التغلبي الحنبلي غفر الله له ولوالديه. آمين. تمَّ والحمد لله. ¬

_ (¬1) لو قال: "وصَلَّ اللهم وسلِّم ... الخ"، لأصلح ما في المتن، وإن صحّ على الالتفات.

§1/1