نور وهداية

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي نور وهداية جمع وترتيب حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنار للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الثانية 2009 دار المنار للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864 البريد الإلكتروني: [email protected]

مقدمة

مقدمة هذا هو الكتاب الخامس الذي وفق الله إلى جمعه مما تركه علي الطنطاوي منثوراً غيرَ منشور من مقالات وأحاديث، بعضها قرأه الناس ذات يوم في مجلة أو صحيفة، ثم طوى المجلةَ أو الصحيفةَ النسيانُ وغابت المقالةُ عن عين كل إنسان، وبعضها سمعه الناس ذات يوم مُذاعاً من دمشق أو من مكة من إذاعة صوت الإسلام، ثم أنسى الناسَ هذه الأحاديثَ بُعْدُ العهدِ وذهب بها كَرُّ الأيام. وإني لأرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب وأن يجعله -بكرمه- من الصدقة الجارية لمؤلفه رحمه الله. ولقد وفق الله فجاء على غير سابق خطة، فقد علمتم (أو علم منكم من قرأ مقدمة الجزء الثاني من «مقالات في كلمات») أن جدّي رحمه الله كانت بين يديه كتب يعتزم نشرها، يجمع فيها مقالات من مقالاته التي نشرها في بعض الصحف والمجلات ثم لم تجد طريقها إلى أيٍّ من كتبه المنشورة، ثم طال به الزمن وضَعُفت الهمّة وتبعثرت المقالات ولم تصدر الكتب. فلما جئت أجمعها من جديد وجدت مقالات لم يُشِرْ إليها ولم يقترح إدراجها في أي من الكتب التي اعتزم نشرها، ووجدت

أيضاً أوراقاً كثيرة تضم مدوَّنات أو مسوَّدات لأحاديث إذاعية (يوم كان يكتب أحاديثه)، بعضها مجموع وبعضها مفرَّق. فاشتغلت أسابيع في فرز هذه الأوراق وضمّ الأمثال إلى الأمثال، حتى اكتملت بين يديّ مقالاتٌ وأحاديثُ كاملاتٌ أو شبهُ كاملات، ثم أنفقت أسابيع أُخَر في فرز هذه الأحاديث والمقالات، حتى انتهيت أخيراً إلى جمع كتب كاملة هذا أوّلها، وهو واحد من ثلاثة كتب ستصدر تِباعاً واحداً بعد واحد إن شاء الله، وزّعت فيها المقالات الإسلامية. أولها هذا الذي سرقتُ اسمه من برنامج الشيخ الأشهر، والثاني سمّيته «فصول في الدعوة والإصلاح»، واسمه يدلّ عليه، وسمّيت الثالث «مباحث إسلامية» وجعلت فيه الموضوعات الفقهية والمسائل العلمية التي لا تدخل في باب الدعوة العامة. * * * ولسوف يجد القارئ تشابهاً في الأفكار أو في الأمثلة في بعض فصول هذا الكتاب، والعذر أنها مقالات كُتبت أو أحاديث أذيعت في أزمنة متباعدات. بل إن الشيخ نفسه قد أدرك أن كثرة الحديث تضطره إلى تكرار المثال؛ فاعتذر من ذلك فقال في واحدة من مقالات هذا الكتاب: "وأنا أعتذر إلى القراء من ذكر مثل سأسوقه كنت قد ذكرته من قبل، وعذري أن من المعاني ما لا بد من تكراره لتكرر مناسباته، وأنا أكتب من خمس وثلاثين سنة وأخوض في موضوعات كنت خضت فيها من قبل، فآتي بما كان القراء قرؤوا لي مثله".

ولقد ترددت أمام كل مقالة فيها شيء من التكرار في الفكرة أو في المثال: أأحذفها أم أبقيها؟ ثم أبقيتها ما دمت قد وجدت فيها طرحاً جديداً أو عرضاً مفيداً تمتاز به من المقالات الأخريات. على أني استبعدت ما كان أقرب إلى التكرار الكامل، وقد ضحيت -من أجل ذلك- بالكثير. * * * وبعد، فبعد شهرين يُتِمّ جدي سبعَ سنين من رحلته إلى عالَم الآخرة، أسأل الله له الرحمة، وأسأله أن يثيبه بهذا الكتاب نوراً في قبره مثل النور الذي أراد أن ينشره بين الناس، حين لبث من عمره سنين وسنين وهو يحدّثهم حديث «النور والهداية» من رائي المملكة، ويجيب عن «مسائلهم» ويحل «مشكلاتهم» من إذاعتها. وإني لأحسّ وأنا أقدم هذا الكتاب بالخجل من جدّي -رحمه الله- ومن القرّاء؛ إذ أنظر فأرى ما بقي أمامي مما لم أصنع أكثرَ مما صنعت، والسنواتُ تمضي سِراعاً وأنا أدبّ دبيب السلحفاة، لا أكاد أتم في العام كتاباً أو بعض كتاب. فمتى أنهي الكتب كلها وأضعها بين أيدي الناس؟ فأنا أعتذر من جدّي الذي لم أوفِّه من حقه وفضله عليّ إلا أقل القليل، وأعتذر من القراء الذين صبروا على ضعفي وبطء سَيري، وأعتذر من زوج خالتي، نادر حتاحت، الذي ينشر هذا الكتاب كما نشر سائر كتب الشيخ، فوصل بِرَّه به ميتاً ببِرّه به حياً حين كان له كما يكون الولد للوالد. أعتذر منه وأحمد له صبره

عليّ، فما أكثر ما وعدته بالكتب وما أقل ما وفيت بالوعد! أرجو أن يسامحني الله وأن لا يجعلني في زمرة المنافقين الذين حدّثنا نبيه المعصوم -صلى الله عليه وسلم- أنهم يَعِدون فيُخلفون! هذا اعتذاري أضعه بين أيدي القرّاء راجياً أن يقبلوه، أما عذري فأبقيته لنفسي ولم أبسطه لأحد من الناس، وماذا يفيدني أن يعرفه الناس والوقت لا يُهدى ولا يوهَب ولا يُعار ولا يُباع؟ فحسبي أن يدعو لي كل محب بأن يبارك الله لي في وقتي. وإنْ ألهمَ الله قارئاً يقرأ هذه الكلمات فسأل الله مخلصاً أن ييسّر لي إنجاز ما بقي وأن يطويَ بين يديّ صفحات الكتب الآتيات، فعسى أن يجعله الله شريكاً في الأجر، وأن لا يحرمني منه، والله أكرم الأكرمين. مجاهد مأمون ديرانية جدة: ربيع الأول 1427

موسم العبادة

موسم العبادة حديث أذيع من دمشق سنة 1959 يا أيها السامعون، إن للزراعة مواسم، وإن للتجارة مواسم، وإن للمدارس مواسم. فإذا جاء موسم الزرع شمّر الزارع عن ساقه فحرث وبذر وجدّ ودأب، وإذا جاء موسم البيع عرض التاجر بضاعته وأقام عليها نهاره ووضع في ترويجها ذهنه ويده، وإذا جاء موسم الامتحان ترك التلميذ لهوه وسهر ليله وعكف على كتابه. ورمضان هو موسم العبادة للمؤمنين. وإذا كان الزارع يُتعب نفسه في الحرث والبَذر أملاً بيوم الحصاد، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، فازرعوا فيها من الصالحات لتحصدوا ثمرتها حسنات يوم يقوم الحساب. وإذا كان التاجر يكدّ ويدأب ليربح المال وينجو من الضيق والخسار، فهذه هي التجارة المربحة: {يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجيكُم مِنْ عَذَابٍ أَليم؟ تُؤمِنونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِكُمْ وَأنْفُسِكُم؛ ذلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون. يَغْفِرْ لَكُم ذُنوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحْتِها الأنْهارُ وَمَساكِنَ طَيّبةً في جَنّاتِ عَدْنٍ، ذلِكَ الفَوْزُ العَظيمُ. وأُخْرى

تُحِبّونَها: نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَريبٌ، وَبَشِّرِ المُؤمِنين}. وإذا كان التلميذ يدرس خوفاً من السقوط يوم الامتحان والفضيحة بين الرفاق، فإن الامتحان الأكبر أمامنا. هذا امتحانٌ غايةُ الخسارة فيه أن يضيع التلميذ سنة ثم يعود فيُصلح ما أفسد ويتدارك ما ضيّع، وذلك امتحان تُعلَن النتائج فيه على رؤوس الخلائق جميعاً فيسمعها الجن والإنس، ينادي المنادي أن لقد نجح فلان ابن فلان، فتتلقّاه ملائكة الرحمة بالرعاية والإكرام إلى دار النعيم المقيم، وقد سقط فلان ابن فلان، فتتسلمه زبانية النار بالشدة والهوان إلى دار العذاب الدائم. وهنالك الخسارة الحق: {قُلْ إنَّ الخَاسِرينَ الذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم وَأَهْليهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبينُ. لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِم ظُلَلٌ، ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ، يَا عِبادي فَاتَّقُونِ}. هل تعرفون ما معنى «اتقوا»؟ إنكم تقولونها دائماً وتسمعونها دائماً، وكثير منكم لا يعرف معناها. كلمة «اتّقوا» من «الوقاية»؛ يُقال: اتّقى فلانٌ البردَ بالمعطف، أي اتخذه وِقايةً منه، واتقى الفارسُ الطعنةَ بالتّرس، أي وَقَى به نفسَه. فاتقوا الله معناها: قُوا أنفسَكم من عقابه. فبماذا نتقي عذاب الله؟ بالقرآن. ورمضان الذي أُنزل فيه القرآن أحق الشهور بتلاوته وتدبّره والإقبال عليه. وفي الحديث الصحيح المشهور: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويَتَدارسونه بينهم إلاّ

نَزلت عليهم السَّكينةُ، وَغَشِيَتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (¬1). أفلا تحبّون أن تنزل السكينة على قلوبكم وأن تستشعروا الطمأنينة وأن تتخلصوا من الهمّ والقلق والاضطراب؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه. أوَلا تحبّون أن تغشاكم الرحمة من الله؟ ومَن غشيته رحمة الله فقد نال كل خير ونأى عنه كل ضرر وكل ألم. إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه. أوَلا تحبّون أن يكون جلساؤكم الملائكة، هل أشرفُ من هؤلاء الجُلَساء؟ وأن يُطرَد من حولكم الشياطين: شياطين الإنس وشياطين الجن؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه. أوَلا ترون الناس يحرصون على الشهرة وعلى ذيوع الاسم؟ إن غاية ما يتمنّونه أن يعرفهم أهل الأرض. وما هذه الأرض بالنسبة إلى هذا الكون الواسع؟ والذين يتلون القرآن ويتدارسونه يعرفهم أهل الملأ الأعلى وتصل أخبارهم إلى مَن في السماوات ويذكرهم الله فيمَن عنده. أفلا تريدون أن تنالوا هذا الشرف الذي لا شرف بعده؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه. * * * إن ليالي رمضان -يا سادة- هي مواسم الزَّرْع لِمَن أراد أن يزرع للآخرة، وهي مواسم التجارة لمن أراد الربح الباقي في الآخرة، وهي مواسم الاستعداد للامتحان لمن أراد أن ينجح في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد (مجاهد).

الامتحان الأعظم في الآخرة. ولكن الغافلين المساكين الذين أُصيبوا بقِصَر النّظر فلا يرون إلا ما بين أيديهم، يحسبون أن حياة الإنسان هي هذه الأيام التي يقضيها في الدنيا، ولو وضع على عينيه نظارات الشرع -لمداواة ما به من قِصَر النظر- لرأى أن الطريق أمامه طويل، وأن السفر بعيد، وأن هذه الحياة الدنيا مرحلةٌ من مراحل العمر ليست هي العمر. إننا كركب مسافرين يقطعون ما بين المشرق والمغرب نزلوا ساعة يستريحون، فالأحمق يحسب أن الطريق انتهى، فيأكل زاده ويسّيب دابته ولا يعد العدّة للمسير، فإذا قامت القافلة ومشت تخلّف عنها أو ضلّ في البادية أو مات من الجوع. والعاقل من يعلم أن عليه أن يُريح راحلتَه ويَعْلِفها ليقطع الطريق عليها، ويوفّر زادَه ليكفيه أيام الرحلة. وما هذه الحياة؟ ما مدتها؟ سبعون سنة، مئة سنة، مئة وخمسون؟ هل يعيش أحدٌ أكثرَ من مئة وخمسين سنة؟ وما مئة وخمسون بالنسبة إلى الآخرة؟ بل هَبوه عاش عمر نوح، قريباً من ألف سنة، فما ألف سنة؟ إنها كيوم واحد من أيام الآخرة، بل إن في الآخرة يوماً مقداره خمسون ألف سنة! فأين نحن من ذكر الآخرة؟ لقد نسيناها وشغلتنا عنها تُرّهات الدنيا وهموم العيش والتقاتل على حطام فانٍ لا يبقى منه بعد الموت شيء. إننا نرى الأموات تمرّ بنا مواكبهُم كلَّ يوم، ولكنّا نظن أن الموت كُتِب على الناس كلهم إلا علينا، ونبصر القبور تملأ الأرض ولا نفكر أننا سننزل يوماً إلى القبر.

ولو أنّا إذا مِتْنا تُرِكنا ... لَكانَ الموتُ راحةَ كلّ حَيِّ ولكنّا إذا مِتنا بُعثنا ... ونُسأَل بعدَها عن كلّ شيِّ نتجاهل الموت وهو نازل بنا يوماً، وبعد الموت الحساب الدقيق عن كل عمل عملناه، أحصاه الله ونسوه، في كتاب لا يَدَع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يفاجَأ به العبد يوم القيامة، يوضع تحت عينيه يقال له: {اقْرَا كِتابَكَ، كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسيباً}. وإذا أنكر أسكت الله لسانَه وأشهد عليه جوارحه، فشهدت اليد بما بطشت أو سرقت، والرِّجْل بما مشت إلى الحرام، والعين بما رأت من حرام، والفرج بما باشر من حرام، يرى ذلك بعينيه ويسمعه بأذنيه. لا تعجبوا، فأنتم ترون الشريط المسجّل في الرائي (التلفزيون) وتسمعونه ينطق، يشهد بأفعالكم وأقوالكم فلا تستطيعون أن تنكروها. هذا في الدنيا ومن عمل البشر بتوفيق الله وهدايته، أفتنكرون أن تشهد عليكم الأعضاء في الآخرة وأن يُنطقها الله الذي أنطق كل شيء؟ فتعالوا نتّخذ من رمضان موسماً للرجوع إلى الله، وتعالوا نَتْلُ القرآن ونتدارسه، لعلنا نكون مع هؤلاء الذين تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمَن عنده. وإلى اللقاء كل عشية في رمضان، والسلام عليكم ورحمة الله. * * *

هذا هو الدليل

هذا هو الدليل نشرت سنة 1961 ورد عليّ في هذا الأسبوع أغرب سؤال يمكن أن يَرِدَ من عاقل. يقول صاحب السؤال إن له صديقاً نشأ في بيت مؤمن وكان مقيماً للصلاة صائماً رمضان، ثم غدا شيوعياً فكفر وجحد حتى صار يقول إنه ليس لهذا الكون إله. وهو يسأل: ما هو الدليل على وجود الله؟ يريد أن يتعلم مني دليلاً يردّ به صاحبه عن كفره. الدليل على وجود الله هو أنت وصديقك الذي يكفر بالله، قل له: الدليل في نفسك، والدليل من حولك، والدليل في كل ما ترى أو تسمع. اذهب إلى أستاذ الفسيولوجيا في كلية الطب فاسأله عن تركيب جسم الإنسان وما فيه من الأسرار العجيبة، بل اذهب إلى أستاذ الأنسجة واسأله عن الجلد وطبقاته والشعر وبصلاته، وانظر هذه الآلة التي لم يكشف الإنسان أسرارها كلها إلى اليوم، فضلاً عن أن يخلق مثلها. ولن أفيض في بيان هذه الأسرار، ولو ذكرت ما أعرفه منها لصغت من ذلك عشرة فصول، ولكن أشير إلى شيء واحد، هو أن هذا الإنسان أصله من مخلوق صغير جداً كأنه خيط

دقيق، بلغ من صغره أنه لا يُرى إلا بالمجهر وأنك لو حزمت ألفاً منه وربطتها معاً لكان مجموعها كلها أدقّ من الشعرة. من هذا الخيط الدقيق خلق الله رفيقك الذي ينكر الله، فجاء يشبه أباه في خلقته وفي جبهته وفي لون عينيه وفي نوع دمه، وورث عن أبيه أو عن جده صفات كثيرة من صفات الجسد، وطباعاً كثيرة وأمراضاً وعللاً. فكيف كانت هذه الملامح وهذه الطباع وهذه الأمراض مخبوءة في هذا الخيط الدقيق الذي لا يُرى إلا بالمجهر، والذي لو اجتمع عدد منه يعدل عدد سكان الأرض كلهم لوسع هذا العددَ كله قعرُ فنجان؟ قل له: إنك تنكر الله بعقلك هذا الذي تفخر به وتعتز بحكمه، فهل أوجدتَ أنت هذا العقل؟ إنك لم تعرف نفسك إلا وأنت ابن ثلاث سنين أو أربع، لا تعرف نفسك وأنت حيوان منوي، خيط دقيق، ولا تعرف نفسك وأنت جنين في بطن أمك، ولا تعرف نفسك وأنت وليد لا تفهم ولا تتحرك ولا تدفع عن نفسك ذبابة سقطت على أنفك ... فإذا كنت موجوداً قبل أن تعرف نفسك، فكيف تكون قد خلقت أنت نفسك؟ وإذا لم تخلق نفسك فتلفَّتْ حولك تَلْقَ جمادات لا تحسّ ولا تعقل، فهل خلقتك هذه الجمادات: هذه الجبال وهذه السهول وهذه الشمس وهذه النجوم؟ إنها كلها لا عقل لها، فكيف أعطتك عقلاً لا تملكه هي؟ واسأله: كيف وُجدت هذه الأسرار التي يكتشفها العلم يوماً بعد يوم؟ إننا سيّرنا قمراً صناعياً، ولكن مَن الذي وضع في الهواء

وفي الفضاء قابلية حمل هذا القمر؟ وهل كنا نستطيع أن نسيّره لولا هذه القابلية؟ {ألَمْ تَرَ إلى الذي حَاجَّ إبْراهيمَ في رَبِّه أَنْ آتاهُ اللهُ المُلكَ؟ إذْ قالَ إبراهيمُ: رَبّيَ الذي يُحيي ويُميتُ. قالَ: أنا أُحيي وأُميتُ. قالَ إبْراهيمُ: فإنّ اللهَ يأتي بالشَمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَاتِ بها مِنَ المَغْرِبِ! فبُهِتَ الذي كَفَر}. ونحن نقول: إن الله يسيّر هذا القمر وهذه الشمس وهذه النجوم الهائلة، فيقول الشيوعيون: نحن نسيّر الصاروخ والقمر الصناعي، فنقول: إن الله يسيّر قمرَكم مع سير الأرض فسيّروه بعكس سَير الأرض! إن الدلائل على وجود الله لا تُعَد ولا تُحصى: وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنه واحدُ فاسأل صاحبك: كيف وُجدَت هذه العجائب التي نرى طرفاً منها في الكيمياء وفي الفيزياء وفي الفلك وفي الطب؟ وأنا أعلم أنه سيقول إنها كانت بالمصادفة. المصادفة؟ إن مَثَل من يقول بذلك كمَثَل رجلين كانا يمشيان في الصحراء فوجدا داراً حولها حديقة فيها المقاعد والسّرر وثريات الكهرباء والساعات الطنّانة والبرّاد والغسّالة والرادّ والرائي (التلفزيون)، وعلى جدرانها أنواع النقوش الدقيقة. فعجبا منها، فقال أحدهما: لا بد أن بانياً بناها وفَرَشها، فضحك الثاني منه وقال له: أنت رجعي تفكر بعقلية القرن الماضي، لا تعرف التقدمية ولا الرقيّ. قال: فما تقول أنت يا ذا الرقي والتقدمية؟ قال: إنه لم يَبنِها

أحدٌ ولكن جاءت بالطبيعة والمصادفة؟ قال: كيف؟ قال: كان في الجبل صخور فتحطمت على مر الزمان وتكسرت، ثم حملتها السيول فتراكم بعضها فوق بعض فصارت جداراً. قال: والنقوش والأصباغ؟ قال: ذابت معادن ملوّنة وحملتها الرياح والأمطار فوضعتها على الجدران، وبمرور آلاف السنين تداخلت فكانت بالمصادفة هذه النقوش. قال: والساعة الطنانة؟ قال: قطع حديد مرّ عليها آلاف وآلاف من السنين، فتحطمت وكان منها قطع مستديرة ومستطيلة سقط بعضها فوق بعض، وأخذت بالمصادفة ملايين الأشكال حتى كان أحد أشكالها ساعة تمشي. وأمثال هذا الهذيان! هذا مثال صغير جداً لمن يقول إن هذا العالم بأسراره وعجائبه كان من غير خالق، مع أن كل ذرة فيه، نعم، الذرة الواحدة بأسرارها وعلومها تكفي لتكون الدليل على وجود هذا الخالق. * * * على أن وجود الله لا يحتاج إلى دليل، ولقد قيل لرابعة العدوية: إن فلاناً من العلماء أقام ألف دليل على وجود الله، فقالت: لو لم يكن عنده ألف شك لما أقام ألف دليل. قالوا: فما الدليل؟ قالت: إذا كان رجل يمشي في الصحراء وحده فسقط في بئر ولم يكن عنده من ينجيه، ماذا يقول؟ قالوا: يقول «يا الله»، قالت: ذاك هو الدليل! إن الإيمان مستقر في أعماق كل قلب ولكنه يحتاج إلى هزة

شديدة تبديه وتظهره، لذلك كانت المصائب والأزمات سبباً لظهور الإيمان. وكل واحد منا إذا مرض مرضاً يئس منه الأطباء أو أشرف على الموت ذكر الله. أنا رأيت الموت مرتين، مرة لمّا غرقت في بحر بيروت من ست سنين، ومرة لما مرضت من سنتين. كنت أسبح، أو أنا -على الأصحّ- أحاول تعلم السباحة ولا أحسن منها في الحقيقة شيئاً، وإذا أنا أحس فجأة أن رجلَيّ ليس تحتهما شيء وأني أغوص في الماء، وجعلت أبتلع ماء البحر فلا أستطيع أن أتنفس، وأريد الصياح مستنجداً فلا يخرج صوتي من حلقي. ورأيتني في نصف دقيقة كأني ابتعدت عن هذه الدنيا مئة سنة، فلم أعد أذكر منها شيئاً، لا الأهل ولا المال ولا الجاه؛ لم يعد يهمّني إلا أمران أنا أتردد بينهما، الأمل في النجاة والخوف من الحساب. ونظرت فإذا كل ما كنت أَعُدّه لي لم يبقَ في يدي منه شيء، لم يأتِ معي في ساعة الموت زوجة ولا ولد ولا صديق، والمال الذي جمعته تركته لمن يرثني، والجاه الذي حصلته خلفته وراء ظهري، ونظرت في الكتب التي كتبتها والشهرة التي حصلتها والمناصب التي بلغتها فلم أجد معي من ذلك شيئاً (¬1). في تلك الساعة يتيقّن الإنسان أنه لم يبقَ إلا حقيقةٌ واحدة يفكر فيها، هي أنه قادم على الله. إن الشدائد تذكّره بهذه الحقيقة التي كان نسيها، ولذلك خبّر الله عزَّ وجل أن كفار قريش كانوا ¬

_ (¬1) انظر قصة غرق علي الطنطاوي في مقالة «في لجّ البحر»، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

-على كفرهم وشركهم- إذا ركبوا في الفُلْك دَعَوا الله مخلصين له الدين، فلمّا نجّاهم إلى البر عادوا إلى كفرهم. ولذلك كان الملوك ورؤساء الدول أيام الحرب العامة الماضية يذكرون الله، وكانت الكنائس في بلاد الغرب تمتلئ دائماً بالناس، فلما انتهت الحرب عادوا إلى لهوهم ونسيانهم. * * * وإذا كان صاحبك هذا الذي ينكر الله لا يريد أقوالنا وأقوال علمائنا، وكان من هؤلاء الذين استقر في نفوسهم تعظيم الغربيين فلا يعرفون الحق إلا بدمغة الغرب عليه، فإني آتيه برأي عالم غربي معروف هو دوركايم، الذي يرى أن وجود الله بديهية لا تحتاج إلى إثبات، وله في ذلك كتاب مشهور. بديهية مثل بديهية أن الذي هو هو، وأن الجزء أصغر من الكل. كيف تثبت أن الكتاب هو كتاب وليس الكتاب تفاحة مثلاً؟ وأن نصف رغيف أصغر من الرغيف؟ إنها بديهيات يقول بها كل إنسان في كل زمان وكل مكان فلا تحتاج إلى إثبات. وكذلك وجود الله، عند دوركايم وعند كل عاقل. يقول دوركايم إن فكرة الإله ملازمة لكل إنسان لا يستطيع أن يتخلى عنها، ولكنه يكون أحياناً صحيح الجسم مكفيّ المَؤونة فينساها، وربما وصل إلى معرفة الإله الحق أو توهّمه في شيء من الأشياء فأفاض عليه فكرة الإله فعبدها. والذي يعبد الصنم أو النار إنما يعبد الإله الذي في فكره والذي توهمه في هذا الصنم أو في هذه النار. وكان بنو حنيفة من العرب، يجمعون التمر ويجعلون منه صنماً عظيماً يعبدونه، فأصابهم مرة مجاعة فأكلوه، فهجاهم الشاعر

فقال: «أكلت حنيفةُ ربَّها»! على أنها لم تعبده تمراً ولا أكلته رباً، وإنما أكلت التمر وعبدت الإله الذي في أفكارها. ولذلك قال القرآن على لسان قريش: {ما نَعْبُدُهُم إلاّ لِيُقَرّبونا إلى الله زُلْفَى}. * * * وبعد يا أيها السائل، فإن من الثابت أن العقائد والطباع إنما تتكون في النفوس في مرحلة الصبا وأوائل الشباب، فمَن نشأ مؤمناً في بيت مؤمن لا يمكن أن يذهب هذا الإيمانُ من نفسه حتى كأنْ لم يكُن، وإنّ صاحبك لا يزال في قلبه مؤمناً وإن جحد اللهَ بلسانه، ولو أصابه مرض مُؤيِس أو خطرٌ قاصم لعاد ينادي: «يا الله». ولقد كنت مرة أجادل مجنوناً من هؤلاء المجانين (من معشرٍ كفروا بالله تقليداً) أقول له: ويلك خَفِ الله، فيقول: ما في إله! فلما ضايقته وعجز عن الحجة سبق لسانه فقال: والله ما في إله. يحلف بالله على نفي وجود الله! فضحكت عليه وتركته. * * *

الاستعداد ليوم المعاد

الاستعداد ليوم المَعاد حديث أذيع من دمشق سنة 1959 يا أيها السامعون، إنكم تسمعون هذا الحديث ومنكم من يتهيأ ليذهب إلى سهرته، ومنكم من يعكف على قهوته ودَخينته، ومنكم من هو في خصام مع زوجته، ومنكم من يفكر في عمله أو في تجارته. يمرّ بكم ذكر الآخرة فتفكرون فيها لحظة واحدة ثم تنسونها، ينتقل بكم الرادّ من الموعظة إلى غيرها فتنتقلون حيث ينقلكم، فكأنكم ما سمعتم ذكرها. إنكم كرَكْب طال عليه الأمد وامتدّ به المسير، فلم يعد يسأل: إلى أين المصير؟ لقد ضلّ به الطريق، فهو يَحُطّ الرحالَ كل عشية ويمشي كل صباح، لكنْ لا يدري إلى أين يمشي. وإذا نادى الدليلُ ليرشد الرَّكْبَ الضالّ ويهدي السَّفْرَ الحائر ضاع نداؤه الخافت في ضجة القافلة الصاخبة، التي غدا أكبر همها أن تستمتع بما حولها وأن تقطع باللهو الساعةَ التي هي فيها. لقد شغلتكم مناظر الطريق عن غاية الطريق، واكتفيتم بمُتَع السفر عن التفكير بنهاية السفر.

وأنا مثلكم، ما أنا بخير منكم؛ كلنا في غفلة عن الآخرة. فهل يكون لنا من هذه المجالس مذكِّر بها؟ هل نخرج من رمضان ونحن أقرب إلى الله، أم يمرّ بنا كما مرّ من قبله رمضان ورمضان، وعشر وعشرون وثلاثون من شهور رمضان؟ لقد عرفت رمضان أول مرة في قلب الصيف، ثم رأيته قد دار حتى صار في قلب الشتاء، ثم عاد فصار في الصيف، ثم صار في الشتاء. يمرّ بالشتاء وبالصيف، ونمرّ نحن قوماً بعد قوم، نولد ونعيش ونموت، ورمضان يدور. لقد رأيت ثلاث دورات كل دورة في خمس عشرة سنة، مرّت كأنها يوم واحد. إني لأفكّر في رمضان الأول فأراه من وراء خمس وأربعين سنة كأنها كانت أمس. قد مرت الأيام ولم نحسّ بها، ولكنّا خسرناها من أعمارنا. تأتي الإجازة الصيفية ثلاثة أشهر فنراها في أولها طويلة، فإذا هي قد مرّ منها أسبوع ما شعرت به، ويكون يوم الجمعة فلا تحسّ إلا وقد جاءت الجمعة الأخرى، ثم جاء أسبوع جديد، ثم مضى الشهر، ثم انصرمت العطلة ورجعَت المدرسة! فنحن نخسر أعمارنا بمرور الزمان، وبخسارة العمر نخسر كل شيء، وهذا معنى قوله تعالى: {والعَصْرِ، إنّ الإنسانَ لَفي خُسر}. لقد فسّروا العصر تفسيرات كثيرة، ولكن هذا هو التفسير الذي كشفه الله لي: العصر هو الزمان. ونحن حين نقسم بشيء نكون قد عظّمناه التعظيم المطلَق الذي هو روح العبادة، ولذلك لم يَجُز الحلف بغير الله لأن العبادة له وحده، أما قَسَم الله في القرآن بشيء فإنما يكون لتنبيه الناس إلى

مَزيّة فيه. فالله قد أقسم بالعصر (الذي هو الزمان) على أنّ الإنسان لفي خُسر إشارةً إلى أن هذه الخسارة تأتي حتماً مع الزمان، وليست خسارةَ مالٍ يعوَّض ولا خسارة حبيب يُنسى. إنها خسارة الحياة نفسها. فإذا كان مقدَّراً عليك أن تعيش سبعين سنة فإنك تخسر في كل دقيقة تمر عليك جزءاً منها، حتى إذا مرّت بك سبعون سنة لم يبقَ لك شيء وخلّفتَ وراءك كل ما كنت تحسبه لك. لو اتخذت كيساً فعلّقته في عنقك وجعلت فيه مالك، وحملت مسدسك على جنبك تدافع به عن نفسك فإن الناس يبتعدون عنك مدةَ حياتك، ولكنهم ينهبونه منك بعد موتك بدقيقة، ولا تقدر أن تمدّ يدك فتدفعهم عنك أو تفتح فمك فتقول لهم: ماذا تعملون؟ لا تأخذُ معك من كل ما تملك شيئاً، لا من مالك ولا من عماراتك ولا من سياراتك ولا من جاهك وسلطانك؛ العمارات تبقى في أرضها فيملكها وريثك، والسيارات يركب بها سواك، والجاه والسلطان يتمتع به غيرك. وتدخل القبر وحيداً فريداً عارياً إلا من كفنك. هذا شيء ظاهر لا ينكره منكر؛ إنها خسارة كل شيء إلا شيئاً واحداً تأخذه معك إلى الدار الآخرة، هو الإيمان والعمل الصالح: {والعَصْرِ، إنّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ، إلاّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصّالحات}. * * * إن مَثَلَنا مَثَلُ أهل تلك الجزيرة التي أخلاها الأمريكان من

سنوات ليجربوا فيها تجربة ذرية، وقالوا لأهلها: إننا سنرحّلكم جميعاً بالطيارات ونعطيكم بدل كل ما لكم هنا أكثر منه في أميركا ونسكنكم في بيوت خير من بيوتكم، بشرط أن تقدموا طلباً تربطون به الوثائق المثبتة وأن تستعدوا، فإن الطيارات تأتي تباعاً لنقلكم، فمن دُعي للسفر أجاب حالاً. فانقسموا أقساماً. قسم قالوا: هذا كله كذب ولا يوجد في الكون شيء اسمه أميركا، ليس في الوجود إلا هذه الجزيرة. هذا هو منطق العلم الذي لا يصدق إلا بما يراه ويلمسه، ولو كانت أميركا هذه التي يزعمونها موجودة حقيقة لرأيناها. فقال لهم العقلاء: يا ويحكم! إنكم تضرّون أنفسكم ولا تشعرون، وإنكم جَهَلة وتدّعون العلم، وأغبياء وتزعمون أنكم من أهل الفقه. إنه سيأتي يومٌ تنقلب فيه بلدكم رأساً على عقب وتزلزل زلزالاً. فلم يصدقوا! وقسم قالوا بألسنتهم: صدّقنا، ولكنهم لبثوا على ما كانوا عليه؛ ما فكّروا في الاستعداد للسفر ولا طلبوا تعويضهم عن مساكنهم التي ستدمّر بمساكن أخرى في أميركا، وراحوا يزينون دورهم ويتخذون لها فرشاً جديداً وينقشون جدرانها ويشترون لها اللوحات الفنية ليعلقوها فيها، كأنها باقية لهم، لا يعلمون أن ساعة خرابها آتية قريباً. فقال لهم العقلاء: كيف تقولون بأفواهكم أنكم صدّقتم بأن هذه الجزيرة ستهدم وأن الحياة فيها أصبحت قصيرة، وأن حياتكم الباقية ستكون في أميركا، وأنكم لا تدرون متى تُدعَون إلى السفر، وأنكم حين تُدعَون لا تنتظركم الطيارة دقيقة واحدة،

ثم لا تستعدون للسفر ولا تعملون على الحصول على مساكن في أميركا؟ لقد كذّبتم بفعلكم ما قلتموه بلسانكم، وزعمتم أنكم مصدّقون ولكن تبين أنكم لم تصدقوا. وقسم علموا أن هذه الدار لم تعد دار مُقام وأنها صارت ممرّاً لا مقرّاً، فأحصوا أملاكهم وجاؤوا بالوثائق والبيانات وقدموا طلباً ليأخذوا عوضاً في أميركا، وأطاعوا كل أمر صدر إليهم واتبعوا كل مادة في القانون، ثم حزموا أمتعتهم وأعدوا حقائبهم وقعدوا ينتظرون أن يدعوا ليُلَبّوا. كذلك -يا سادة- مَثَل الدنيا والآخرة (¬1)؛ فالعاقل مَن استبدل بداره الفانية هذه داراً هناك باقية، وعلم أن الموت يطرقه في كل لحظة فاستعدّ للقائه دائماً، فكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين استثناهم الله من الخَسار بفعل الزمان. * * * ¬

_ (¬1) انظر فصل «بين يدَي الكتاب» في أول كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» (مجاهد).

بين يدي الله

في مطلع العام الجديد بين يدي الله نشرت سنة 1939 الآن استهلّ العام الجديد. لقد أوشك فجره الأول أن يطلّ على الدنيا وأنا حانٍ على مكتبي، أفكر منذ ساعات في أشياء لا أستطيع أن أصفها أو أعبّر عنها أو أحصيها، والليل ساكنٌ تتردّد بين جوانحه أنفاسُ السّحَر وأنا أنظر من غرفتي إلى صحن المسجد، مسجد أبي حنيفة في الأعظمية، فأراه مشرقاً بالنور مترعاً بالجلال ولكنه خالٍ من الناس، وأنظر إلى صحن المدرسة، دار العلوم الشرعية، وحديقتها الخالية الحالية بأشجار الموز والنخل والورد، والغرفة بينهما لها إلى كل من الصحنين باب. أريد أن أكتب مقالة العام الجديد فلا تواتيني الأفكار ولا تتوارد عليّ الكَلِم، وصدري أغنى بالمعاني منه في الأوقات كلها، ولكن ازدحام المعاني على الفكر وتكاثرَ الصور في الصدر يعيق المرء عن الكتابة كما تعيقه قلّتها، كالذي يريد أن يملأ الكأس من السبيل إن كان جافاً أو نَزْراً قليلاً لم تمتلئ الكأس، وإن كان الماء يهدر وينحدر بقوة ويتدفق من فم الأنبوب مندفعاً تطاير الماء إلى كل جانب ولكنه لا يستقر في الكأس منه شيء، لأن كل قطرة تطرد أختَها كما تزيح كلُّ فكرة في رأسي الفكرةَ التي قبلها لتحل في مكانها.

ولقد طالما وقفت هذا الموقف ففكرت في الزمان وتفلسفت، وعدت إلى ماضيّ فحزنت وفكرت في المستقبل فأيِست، ثم رأيت ذلك باطلاً كله؛ كله باطل! لا الماضي يعود ولا الحاضر يدوم ولا المستقبل يأتي؛ تفنى اللَّذاذات وتذهب الأحزان، وتمر الأيام بنا في طريق القبر حتى نبلغه، فتكون خاتمة المطاف هذه الآلام التي نودّع بها الدنيا، والتي تنسينا كل لذة وكل متعة استمتعنا بها. ويا ليت الموت هو الغاية! إن الموت بداية لذّة لا آخر لها أو ألم ما له من نهاية. فأين نحن، وفي أي واد من أودية الضلال نتخبط؟ اللهمّ إني أتوجه إليك في هذه الساعة لتصلني بك وتدلّني على الطريق إليك حتى أعرفك، فلقد عرفت أن كل شيء سواك باطل. ما الحياة؟ ما هذه الفترة القصيرة من الزمان السّرمدي؟ وما الزمان في جنب الله الباقي؟ وما الجمال الدنيوي؟ وما الحب الأرضي؟ وما العلم؟ أليس العلم كله إدراك سطر واحد من سفر الوجود وكشف حفنة واحدة من رمال الصحراء؟ فما أجهل العلم إذن بالوجود! وما أحمق العلم حين يرفع رأسه ليتكلم في الموجِد وقد خرس عمّا أوجد، ولينظر إلى الخالق الباقي وقد عمي عن المخلوقات الفانية! وهل عرف العلم من نحن ومن أين جئنا وإلى أين نسير؟ * * * وفكرت في نفسي، وقديماً قال سقراط وكُتبت مقولته على باب المعبد في أثينا: «أيها الإنسان اعرف نفسك»، وجاء في الأثر:

«من عرف نفسه فقد عرف ربه»، وقال الله جلّ مِن قائل: {وَفي أَنْفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرون؟}. نظرت في نفسي فإذا هي قد كانت قبل أن أكون أنا، فلم أعرف أولها، وكل ما أعلم عنها أني أفقت يوماً من النوم فوجدت طفلاً، أبصرته في المرآة فإذا أنا أحبه أكثر من أبي وأمي، وإذا أنا لا أفارقه أبداً، فسألت: من هذا؟ فضحكوا وقالوا: هذا أنت، هل أنت مجنون؟! وكبر هذا الطفل، أو هذا الذي سمّوه «أنا». ونظرت فإذا أنا لا أدري من أين جاء، فقلت لعلي صنعته أنا وأنا لا أعلم! ولكن هذا الأنا ليس كما أريد أن يكون، لو صنعته أنا لجعلته أبرع جمالاً وأشد قوة وأحدّ ذكاء وأوسع عقلاً. ثم إنه قد وُجد قبل أن أكون أنا وقبل أن أعرفه، وعاش مرحلة في حياته في بقعة لا أعلم شيئاً عنها ولا أصدّق أني كنت فيها. أأنا عشت تسعة أشهر في بطن أمي؟ مستحيل! فمن أين جاء إذن، هل خُلق من غير شيء؟ ونظرت حولي أفتّش عن هذا الخالق، فرأيت ناساً مثلي، وما هؤلاء بخالقين لأنهم يحتاجون إلى مَن يخلقهم وحالهم كحالي. ورأيت جبالاً وبحاراً وكواكب، ولكن ذلك كله جامد لا حياة فيه، فهل يمنحني الحياة وهو لا يملكها؟ هذه هي الطبيعة فهل تخلق الطبيعة شيئاً؟ ثم إن معنى «الطبيعة» -كما تعلمتُ بَعدُ- أنها «مَطبوعة»، فأين الطابِع؟ فتّشت عنه فإذا الإيمان به في أعماق نفسي، لا أدري من

أين دخل إليها، ولعله مِن وَضْع الخالق الذي وضع السمع والبصر في الوجه والقلب في الصدر والعقل في الرأس. ووجدتني أعود في ساعات الشدة إلى الخالق الذي يَرى ولا يُرى، أرجوه وأخافه وأسأله وأعوذ به. ووجدتني أعتقد أنه لا يشبه شيئاً مما أرى ولا يحدّه مكانٌ ولا زمان، لأن الزمان والمكان مخلوقات هو خالقها، وأنه قديمٌ باقٍ متّصفٌ بكل كمال مطلق منزَّه عن النقائص كلها. فآمنت به إيماناً لا يزعزعه -بحمد الله- شك. * * * ولكني لبثت أسأل نفسي: لماذا خُلقت؟ وهل الحياة «تكليف» عليّ أن أحمله أو أن لي الحق بالتخلي عنها وطرحها؟ فقالت النفس: بل عليك أن تحملها؛ إنك لست مالك نفسك ولا أنت موجدها، وإنما هي وديعة في يدك، يكافئك صاحبها إن استعملتَها في الذي خلقها له، ويعاقبك إن اتخذتها وسيلة إلى لذتك وأطعت فيها هواك وحِدتَ بها عن سبيلها. قلت: فما هي الغاية من الحياة؟ أهي الأكل والشرب واللذة؟ قالت النفس: لا، هذه أسباب الحياة بها تقوم وتبقى وليست هي الغاية منها. قلت: أفخدمة الناس ونفع البشر، وأن أتخذ فيهم حسناً وأبقي فيهم ذكراً، هي غاية الحياة؟ قالت: لا، إن الناس لا يمكن أن يحيوا للناس، وما خدمة البشر إلا عرَض من أعراض الحياة وليست بجوهرها؛ إن المسافر يحرص على راحته في سفره،

فيتخذ خير المركبات ويبتغي أطايب الزاد ويصحب خير الرفاق، ولكن للمسافر وراء ذلك كله غايةً من سفره، والحياة سفر. فإلى أين المسير؟ قلت: لا أدري. قالت: أعوذ بالله! وهل يتميز الإنسان من الحيوان إلا بأنه يدرك غاية الحياة؟ أمّا مَن يأكل كما تأكل الأنعام ويشرب كما تشرب ويلد كما تلد، فهو مثلها أو أضلّ منها سبيلاً، وإن عاش في باريس أو نيويورك! قلت: فخبريني أنت ما هي الغاية؟ قالت: لو سألتَ الجَنين في بطن أمه -وكان قادراً على الفهم والإجابة- ما هي دنياك وما هي حياتك وما غاية الحياة، لقال لك إن دنياه هذه الأحشاء الضيقة وهذه الظلمة المستمرة، وإن حياته هذه الجلسة المتعِبة وهذا السكون الدائم، وإن غايته ... ليس يدري ما غايته! ولو أفهمتَ هذا الجنين أن هنا دنيا واسعة فيها شمس وقمر وفضاء رحب وبحر وسماء، وأن غايته أن يبلغها وأنه سيعرفها ويراها حقاً، لو أفهمته هذا لكذّبك وأعرض عنك، لأنه لا يستطيع أن يتخيل إلا ما هو فيه ولا يقدر أن يتصور ماذا يكون البحر والشمس والقمر. فإذا جاء إلى الدنيا وصار رجلاً نسي حياته الأولى وكذّب بها وقال: إنْ هي إلا دنيا فيها نموت ونحيا. فإذا خبّره الرسول أن هناك حياة أخرى، حياة ثالثة، وأنها هي دار البقاء، وأن فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خَطرَ على قلب بشر، وأن غايته بلوغ تلك الحياة في طاعة الله وعبادته، إذا خُبِّر بهذا كذّب به كما كذّب ذلك الجنينُ. أفتكذب أنت بذلك؟ قلت: لا.

قالت: فتلك -إذن- غايةُ الحياة؛ أن تتصل بالله وتعبده، وأن تُعِدّ نفسَك لحياة الخلود. * * * وعادت النفس تقول: إن غاية الحياة تتحقق كلها في الصلاة؛ فالصلاة اتصال بالله واستعداد لحياة الخلود، ثم إنها لذة لا تعدلها -إذا أقيمت على وجهها- لَذّةٌ من لذائذ الدنيا، وهي راحة للنفس ومتعة وليست تكليفاً شاقاً ولا «مهمة» صعبة. وليست الصلاة ركوعاً وسجوداً ورياضة، فإن ذلك جسمها. والجسم لا يقوم إلا بالروح، فإذا خلت منها الصلاة كانت صلاة ميتة لا تنهى عن فحشاء ولا منكر ولا تُشعِر بلذة. أما روح الصلاة فهي أنك إذا طهّرت أعضاءك بالماء طهّرت نفسَك بالتوبة، وذلك هو الوضوء الحق. وإذا قمت إلى الصلاة وقلت «الله أكبر» خرجتَ من دنياك وارتفعت عنها كمَن يرتفع في طيارة حتى تراها -كما هي في الحقيقة- ذرّة صغيرة تافهة، ولم تخشَ عدواً، ولا شغلك حبُّ حبيب ولا ملأ نفسَك همّ ولا غم ولا لذة ولا متعة، لأنك تتوجه إلى الله، والله أكبر من ذلك كله وبيده كل شيء، فأنت كمَن يتصل بالوزير أو الحاكم المطلق (ولله المَثَل الأعلى)، فهل يفكر بين يديه بحاجة له عند موظف صغير ويشتغل بذلك عن حديث الحاكم أو الوزير؟ فالصلاة تحقيق لغاية الحياة وحياةُ لحظات في «الحياة الأخرى». وهي اللذة التي لا تقدر لغات البشر على وصفها، ولكن الناس يرون منها بُروقاً خاطفة في ساعة من ساعات السحَر،

ولحظة من لحظات العبادة، أو سكرة من سكرات الحب، أو عندما يسمعون نغمة أو يقرؤون شعراً. هذه اللحظات هي التي تدلنا على ذلك العالَم، هي أشعة ضئيلة من ذلك النور الباهر، تُذيق النفسَ حلاوة الآخرة في الدنيا لتسعى لها وترغب فيها. قابل بين هذه اللذائذ الروحية وبين اللذاذات المادية. الطعام والشراب؟ إنك لتشبع فتصير لذة الطعام في نظرك صفراً. والنساء؟ إنك لتتصل بهن حتى تأتي عليك ساعات وهن أبغض إليك من كل شيء. على أن هذه الصلة لا تروي غليلاً ولا تُشبع للنفس جوعاً. فيا بؤس مَن قنعَ بالحياة المادية وحُرم من لذائذ الروح! ويا ويح من يكفر بما وراء المادة وما بعد الحس، يا ويحه! أليس في أثناء نفسه ذكرى؟ أما فيها أمل؟ أليس بين جنبيه روح؟ فكيف ينكر روحه وأمله وذكراه؟ أيجحد ما دليله في نفسه؟ {أفَلا تُبْصِرون}؟ * * * وكان الفجر يؤذن فخرجت إلى المسجد. وللمسجد في ساعة الفجر روعة وجلال وأثر في النفس لا يدركه البيان، ولمسجد أبي حنيفة أوفرُ نصيب من ذلك. وأشهد أني لم أجد في بغداد كلّها مكاناً أحسّ فيه الاطمئنان وأشعر فيه بالخشوع والتجلي كهذا المسجد؛ لا لمكان أبي حنيفة منه، فإن أبا حنيفة لا يضرّ ولا ينفع، ولا يكون مؤمناً من يرى فيه ذلك أو يتخذ من قبره صنماً يعبده ويتمسح به. ولكن الله قد خصّ هذا المسجد بهذه الروح لإخلاص أبي حنيفة الإمام الأعظم، وعلمه وأثره في الفقه

الإسلامي وإجماع المسلمين على محبته وإجلاله. هنالك عرفت الحقيقة الكبرى في الحياة. فلن أسأل بعد اليوم: لماذا خُلقت؟ ولن أعيش في حيرة. فيا ربِّ لا تُنسني هذه الحقيقةَ بتُرّهات العيش وأحلام الأدب وضلالات العلم. إن هذه الحقيقة شمس ساطعة، ولكنّ سحابة صغيرة قد تحجب الشمس عن عينيّ الضعيفتين. اللهمّ إني قد فرغت (أو كدت) من الشهوات، فهَب لي الخلاص من غرور الفكر، فإن ذلك أشدّ عليّ. اللهمّ لك الحمد، وإليك المآب، وأنت الحي الباقي، فصِلْنا بك ودلّنا على الطريق إليك. بغداد (الأعظمية) * * *

حي على الصلاة

حيّ على الصلاة نشرت سنة 1964 قرأت مرة قصة لكاتب فرنسي لست أذكر الآن مَن هو كتاباً يؤرخ فيه رحلةً له في الصحراء الكبرى جنوبي الجزائر، صَحِبَ فيها قافلة عربية يقول عن أهلها أنهم كانوا جِنّاً على صورة بني آدم، يُتعبون ولا يَتعبون لا يستريحون ولا يُريحون، لا يسلكهم نظامٌ ولا يُخضعهم قانون، كل فرد منهم أمة وكل واحد فيهم رئيس. وكان يومُ التحاقه بالقافلة يوماً مجنون الرياح ثائر العواصف، تكاد ريحه تقتلع الخيام بمن فيها وتحمل السيارات الثقال وتلقيها. ثم كان المشهد الذي أدهشه وأعجبه وبلغ إعجابه به حداً سجل وصفاً له، أذكر أنه كان غاية في الدقة وفي الجمال،?يقول: ما هي إلا أن أذّن مؤذن منهم: «حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح» حتى هدأت ثورة هذه النفوس وذهبت تلك الفوضى وسكت ذلك الضجيج، ورجع هؤلاء الجن بشراً من أفضل البشر، ثم وقفوا صفاً واحداً كأنه صف الجند ساعة التدريب، لا ترى منهم إلا الطاعة لقائدهم ولا تجد منهم إلا الاستقامة والامتثال، يسمعون الإيعاز (التكبير) فيتحركون جميعاً بحركة الإمام. لا تميل

بهم الرياح، رياح الصحراء الكبرى ولا تحركهم، فكأنهم آلة ضخمة في معمل كبير! * * * ذكرت هذا الوصف وأنا قائم من عشرين يوماً في آخر جمعة من رمضان على سطح الرّواق الجديد للحرم المكي، أرى صفوف المصلين تحفّ بالكعبة، تتحرك كلها بحركة الإمام، فكأنها -كما قال الكاتب الفرنسي- آلة ضخمة يحركها الإمام. وقد حركت يوماً الدنيا كلها. لقد وقف رجال القافلة التي صحبها الكاتب صفاً واحداً رآه الكاتب متعجباً فوصفه معجباً، وأنا أرى هذه الصفوف في الحرم وهي تتعاقب دوائر من حول الكعبة تتسع وتكبر كلما نأت عنها، حتى ملأت الحرم كله وبلغت جدرانه، ثم تجاوزته إلى بيوت مكة وشعابها، ثم إلى الجبال والبوادي من حولها، ثم تتسع حتى تبلغ أطراف الجزيرة، ثم تتسع حتى تَطيف بالأرض جميعاً. دوائر وسط دوائر وصفوف وراء صفوف مركزها البيت الحرام، لا تمنعها الجبال ولا البحار ولا الصحارى ولا القفار أن تتوجه إلى هذه البيت من كل مكان، حتى تطيف به من كل جانب، من الشرق والغرب والشمال والجنوب. من الصحراء الكبرى وأقصى المغرب إلى قلب إفريقيا، إلى أقاصي جزر أندونيسيا، إلى الثلوج المتراكمة على قمم جبال الأفغان وتركستان، إلى كل أرض يُتلى فيها القرآن ويُصدَح فيها بالأذان.

هذه الصفوف التي بدأت «قائمة» للصلاة، ثم تابعت «ماشية» إلى المعارك الخيّرة العادلة المنصورة، ثم «قعدت» في صدور مجالس الحكم والعلم على رؤوس الممالك والإمارات وكراسي المدارس والجامعات، فكان من أهلها أعدل حاكم وأفضل معلم. ثم تعبت «فنامت»! لقد مرّ بها ليلٌ طويل بعد ذلك النهار الحافل بالأعمال الجِسام، ولكنّ ليلَها بدأ يتصرّم وفجرها قد لاح؛ لقد طلع الآن الفجر الأول الذي يصحو فيه النائم، ولكن لا تصحّ فيه الصلاة إلا أن تكون صلاة التهجد قبل الفجر. لقد ظهرت خيوط من النور تمتد من الأفق إلى الأعالي، وسيأتي بعدها الفجر الصادق ويمتلئ الأفق بالضوء وينادي المنادي «الصلاة خير من النوم»، فتنهض لتجدد المسيرة الخيّرة ولتكتب في تاريخ المفاخر والأمجاد صفحة كالصفحة التي كتبها الأجداد. لقد كنا في الزمن الأول كما قال شوقي في الزمن الأخير: وإذا أتَوْنا بالصّفوفِ كثيرةً ... جئنا بصَفٍّ واحدٍ لن يُكسَرا صف واحد لا صفوف شتى، صف واحد له وجهة واحدة وله قائد واحد، هو سيد العرب، بل سيد العالم، بل خاتم الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله منهج واحد هو كتاب الله. لقد كنا نياماً فصحونا، فإذا شئتم أن تجعلوا هذه الصحوة صادقة مستمرّة لا صحوة عارضة نعود بعدها إلى المنام، وإذا صدقتم العزم على أن تجددوا المسيرة، فهذا هو الطريق. * * *

فيا أيها المسلمون، لا تصرفكم عن الطريق الصحيح صُوَىً (¬1) كاذبة ولا لوحات مزورة، فالطريق لَحْب (¬2) واضح، مشينا فيه أول مرة فوصلنا، فإن ضللنا عنه أو بدّلناه لم نصل أبداً. الطريق الذي خطّه وحدّ حدودَه اللهُ وبين مبتدأه ومنتهاه هو طريق الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، يبدأ بالصلاة وربط القلب بالله وينتهي بربط القلب بالله وبالصلاة، جمع الله به بين المسجدين فلا يُفَكّ رباطهما أبداً؛ إنه لا سبيل إلى تحرير القدس إلا إن سرتم على هذا الطريق، من هنا من حول هذا البيت الذي لبس من الديباج ثوباً أسود، لا من البيت الأبيض وراء البحر في الغرب ولا من البيت الأحمر في الشرق. لقد كانت القافلة تعرف طريقها، يقودها دليلها ويحدو بها حاديها، فلما صحونا بعد نومتنا وجدناها تمشي على ضلال، قد ملّ الحادي وحار الدليل. كنا نعرف منتهانا لأننا عرفنا مبتدانا، إن النهاية هي النصر المؤزَّر إن كانت البداية من الصلاة القائمة. الذين بدؤوا بالصلاة قياماً بين يدي الله وقاتلوا جهاداً في سبيل الله يطلبون النصر من عند الله، فيكون الله ناصرهم. ومن يقاتل لغير الله، للقومية وحدها أو للوطنية، أو لما شئتم أو شاؤوا من المبادئ والمذاهب التي لم ينزل بها كتاب ولم يُبعث بها رسول، فممّن -لعمري- يطلبون النصر إن لم يطلبوه من الله؟ ¬

_ (¬1) جمع صُوَّة، وهي العلامات أو الحجارة التي تُنصَب ليُستدَلّ بها على الطريق (مجاهد). (¬2) اللَحْب واللاحِب هو الطريق الواضح (مجاهد).

لما أهوى المسلمون الأولون بجباههم إلى الأرض، حيث تطأ النعال خضوعاً لله، جعل الله رؤوس الجبّارين تنحني خضوعاً لهم وتيجانَ الحكام تتهاوى على نعالهم، وجعلهم بالإسلام سادة الدنيا وأساتذتها. إن الله أعز العرب بالإسلام، فإن ابتغوا العزة بغيره ذلّوا. الإسلام الذي تخطى كتابُه فوارق الألوان والألسن والبلدان، الإسلام الذي يقسم الناس إلى قسمين فقط: الذين آمنوا، والذين كفروا. لم يقسمهم إلى عرب وعجم، ولا إلى أغنياء وفقراء، ولا إلى سادة وعبيد، ولا إلى برجوازيين وبروليتاريين؛ فكان الفضل عنده بالتقوى وحدها، أي بالمزية الشخصية التي يستطيع مَن شاء اكتسابها، على حين يتفاضل الناس بالأحساب والأنساب والمناصب والأموال. ولئن كان من ندعوهم بالمتمدنين يثيرون اليوم مشكلة الأجناس أو يتمسك فريق منهم بفوارق الألوان، فلقد جاء الإسلام بعبد أسود وهو بلال الحبشي فجعله وزير الدعاية لأول حكومة إسلامية. وهل المؤذّن إلاّ وزير الدعاية يعلن مبادئ الإسلام كل يوم خمس مرات؟ فقضى بذلك على فوارق الألوان. وعمد محمد عليه الصلاة والسلام إلى الرجل الفارسي، فلم يكفِه أن جعله من السادة بعد أن كان عبداً مملوكاً حتى أصدر قراراً ضمّه به إلى بيت النبوة، فقال: «سلمان منا أهلَ البيت»، فقضى بذلك على فوارق الجنسيات. * * *

إني أرى هذه الصفوف قد قامت من جديد لتعيد زحفها الخيّر مرة ثانية. ألا ترونها واقفة لا تحركها الرياح؛ لا رياح الفلوات ولا رياح المطامع والشهوات؟ لقد استوى فيها الحاكم والمحكوم، والملوك والسّوقة، والأغنياء والفقراء. لقد طالما رأيت بين المصلين ملوكاً ورؤساء ووزراء يَقدُمون حجاجاً أو معتمرين، نستنزلهم من طيّاراتهم التي كانوا يضربون بها في طباق الجو، يعلون بها السحاب حيث لا يبلغ نسر ولا عقاب، فلا نجد في الإكرام لهم عندنا ولا ما هو أحب إليهم منا من أن نقول لهم: انزعوا عنكم ثياب الدنيا التي ترتدونها كما يرتديها الناس، ثياب التفاخر والتكاثر، فما ها هنا مجال لتفاخر ولا لتكاثر، وارتدوا ما يستر الأجساد ويدفع حر الصيف وبرد الشتاء: الإزار والرداء. ثم نقول لهم: طوفوا حول هذا البيت مع الطائفين وادخلوا في هذه الصفوف مع المصلين، فمن هذه البقعة المباركة نبَعَ الخير الذي سالت به الجداول والأنهار حتى عمّ الأرضَ كلها بالخصب والنماء، ومن هنا، من جبل قريب، خرج النور الذي أزاح عن الدنيا ظلمات الشرك والجهل والخرافة ودلها على طريق العقل والحضارة والمدنية والعلم. إن هذه القَفْرة التي ما فيها إلا الصخر والرمل هي التي ولدت جنات الغوطة وبساتين العراق، ومصر التي كان يدعوها أهلها أم الدنيا. ومن قبل، من عشر سنين، كنت في الباكستان لمّا زارها الملك العربي السعودي المسلم، فلم يجدوا أبلغ في تكريمه من أن يدعوه ليؤمّ المصلين ويضع جبينه معهم على الأرض. ولم يكن في كراتشي يومئذ مسجد يتّسع لهذه الخلائق التي لا يحصيها العدّ

ولا يدرك آخرَها البصرُ، فجمعوهم في الميدان الكبير الذي كانوا يلعبون فيه البولو (¬1)، لم تمنعهم صلابة الأرض ولا حرارة الشمس من أن يملؤوها وأن يقوموا فيها صفوفاً بين يدي الله، كصفوفهم حينما يقفون للقتال جهاداً في سبيل الله. وحين يستشعر المسلم العبودية لله والذلة بين يديه يعطيه الله السيادة في الدنيا والعزّ في الأرض، ولا تذل هذه الجباه إلا لله وحده لأن الذُّل لله عزّ. * * * فإذا أردتم -وقد صحوتم هذه الصحوة المباركة- أن يعود لكم النصر الذي كان لأجدادكم فاسلكوا طريقه، فإن مَن لا يسلك الطريق لا يبلغ الغاية، وادخلوه من بابه، فإن من أخطأ الباب لم يصل إلى المحراب. ابدؤوا جهادكم في فلسطين (وفي غير فلسطين) بالصلاة. ألا ترون موقفنا مع اليهود، وهم أذل الأمم وهم أقل الأمم؟ لا تقولوا إنها تمدّهم أميركا، فإن أميركا لمّا وقف أمامها الفيتناميون يقاتلونها بإيمان (وإن كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) لم تقدر أن تخضعهم بسلاحها. يا أيها الناس، إن الذي يقاتل عن إيمان لا يمكن أن يُغلَب، فكيف إن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر؟ فكيف إن كان الناس يخافون الموت وكان هو يطلب الموت لأنه يرى في الموت الحياة الدائمة الباقية؟ ¬

_ (¬1) التي كان يسميها أجدادنا الكرة والصَّوْلَجان.

فاستبشروا -يا أيها المسلمون- بالنصر ما بقيت هذه الصفوف قائمة، يقودها الإمام ويسودها النظام، قانونها الإسلام، وشعارها دائماً: إلى الأمام. إن هذه الصفوف إذا عرفت كيف «تقوم» هنا حقاً، وربط أصحابها قلوبَهم بالله حقاً، وجاهدوا في سبيله حقاً، عرفت كيف «تسير» مرة ثانية إلى مرابع النصر ومراتع الفخر، وعرفت كيف «تقعد» مرة ثانية في الصدر، فيكون لها النهي والأمر ويكون لها عز الدهر. * * *

من روض النبوة

من رَوض النبّوة حديث أذيع من إذاعة دمشق سنة 1961 قال المذيع إنكم ستسمعون الآن حديثاً اجتماعياً للأستاذ علي الطنطاوي، وقد أصاب في هذا القول وأخطأ فيه؛ أصاب إذ وصفه بأنه حديث اجتماعي، وإن كان الحديثُ الذي ستسمعونه اليومَ من النمط العالي الذي لم يجِئ بمثله كاتب، لا من العرب ولا من غير العرب، وهو صادر عن فكر لا تدانيه ولا تقاربه أفكار الفلاسفة والعلماء، لا من العرب ولا من غير العرب. وأخطأ إذ نسبه إليّ، فليس حديث اليوم لي، ولا أقدر أن آتي بمثل هذا الحديث المُعجِز. إنه حديث لعظيم إذا قيس به العظماء عادوا وكأنهم من الدّهماء، كالشمس إن بارَتْها المصابيحُ غدت من نورها في ظلماء. إنه حديث سيد الرسل وخاتم الأنبياء، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. إن حكمة الحكماء -يا سادة- فكر ليس فيه روح من عاطفة، وأخْيِلَة الشعراء عاطفة ليس لها عماد من فكر. والنمط المفرد من الكلام هو الذي ستسمعونه اليوم، وهو الذي يسوق لك القضية العقلية المسلَّمة في الثوب العاطفي البارع، تستشرف له النفس فتقبله وتألفه، ويرضاه العقل فيؤمن به ويتبعه، وهو -فوق ذلك-

واضح بيّن يفهمه العامي الذي لم يطلب علماً ولم يَروِ أدباً، ويعجز عن مثله العالم والأديب. وإذا كان في توقيعات الخلفاء وأمثال الأدباء والقليل المتخيَّر من الكلام نفحة من هذا الأريج ووهج من هذه الشمس، فإننا نقرأ ذلك لمتعة البلاغة وهزّة البيان، وفي بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أكبر من البلاغة والبيان؛ هي أنها قانونٌ مَن عَمِلَ به نال سعادة الدنيا والأخرى. وبعد، فهاكم زهرات قليلة من ذلك الروض المُمرِع. * * * هذه كلمة واحدة جمعت الدين والخلق والتهذيب والأدب، فمَن ذكرها دائماً وعمل بها كان مَرضِيّاً عند الله مُقدَّماً بين الناس، هي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه» (¬1). فتصور نفسك دائماً في موضع مَن تعامله، وانظر ماذا تحب أن تعامَل به فعامله بمثله. إذا كنت بيّاعاً فتصور أنك أنت المشتري وأنك لا تحب أن تُخدَع ولا أن تُغبَن، فلا تخدع المشتري ولا تغبنه. وإذا كنت قوياً فتصور أن الذي أمامك هو أقوى منك، فعامل الضعيف بمثل ما تحب أن يعاملك به القوي. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (مجاهد).

وهذه كلمة فيها الدين كله، وهي موعظة جمعت المواعظ كلها والتقت فيها طرق الخير جميعاً، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬1). فمن كان يرى أمامه شيخه الذي يُجلّه أو أباه الذي يوقّره، هل يأتي المنكرات والحماقات؟ وهل يستطيع أن يسرق أو يزني مَن يعلم أن شيخه أو أباه ينظر إليه من نافذته ليرى ما يصنع؟ فكيف يقصّر في فريضة أو يُقدِم على محرَّم أو يَعمد إلى ظلمٍ مَن يعلمُ أن الله جلّ جلاله مطّلع عليه وأنه يراه؟ ولذلك جاء في الحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (¬2). * * * وكن قوياً لا تكن ضعيفاً، وكن معطياً لا تكن آخذاً، وكن غالباً أو عافياً لا تكن مغلوباً أو مَعفُوّاً عنه؛ فإن القوة هي جمال الرجل، لا جمال في الرجل إلا بالقوة: قوة الجسد، وقوة الفكر، وقوة المال، وقوة اللسان. وقد جمع فلسفةَ القوة كلها حديثٌ واحد في ست كلمات، وعرضها في صورة ملموسة لا في فكرة غامضة، هو قوله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) من الحديث المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان، أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد (مجاهد). (¬2) أخرجه الشيخان وأصحاب السنن (مجاهد).

«اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى» (¬1). وإذا كان الحديث الماضي دستوراً للفرد فهذا الحديث دستور للفرد وللجماعة وللواحد وللدولة. * * * والناس يتحاسدون في الغنى وفي الجاه: ترى من هو أغنى منك أو أوجه فتغبطه ترجو أن تكون مثله، وربما حسدتَه فتمنيت أن تكون أنت مكانه. فبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كله أقل من أن يُحسَد عليه، كله لا قيمة له، لا المال ولا الجاه، والحسد شر كله، فإن جاز يوماً فإنما يجوز في إحدى منزلتين: منزلة الغنيّ الذي يجود بماله في الخيرات، في الصدقات وأعمال البِرّ، ومنزلة العالِم الذي يعلّم الناس ما ينفعهم عند ربهم، أو يكون قاضياً فيقضي بينهم بعلمه قضاء الحق. قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد (أي لا غبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هَلَكَته بالحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلّمها» (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأبو داود (مجاهد). (¬2) الحديث أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه وأحمد. ومعنى قوله «هلكته» أي إنفاقه، يفسّره لفظُ الحديث في رواية أخرى عند البخاري وأحمد: «فهو يهلكه بالحق» وفي رواية ثالثة «فهو ينفقه في الحق» (مجاهد).

إن المرء لا يعرف قَدْر الصحة إلا عند المرض، فإذا مرض وعجز عن العمل نظر بعينيه وتحسّر وقال: آه، يا ليتني عملت وأنا صحيح! وإذا كثرت عليك الأشغال وضاق الوقت تمنيتَ أن تجد زيادة ساعة ولو دفعت ثمن كل دقيقة ليرة! يعرف هذا التلميذُ الذي تأتيه ساعةُ الامتحان ولا يزال عليه مئة صفحة من الكتاب، والمتعهد الذي تأتيه ساعةُ التسليم ولا يزال عليه إنجاز شيء من العمل، والمسافر المضطر الذي يصل إلى المطار بعدما طارت الطيّارة بخمس دقائق. بل ربما بلغ ثمن الدقيقة في تقدير الإنسان مئة ألف ليرة، كالوالد الذي يحمل العفو لولده المحكوم فيجد أن حكم الموت قد نُفِّذ فيه منذ دقيقة واحدة! وإذا كان معك المال الوفير فبذّرته وأضعته ثم احتجتَ إلى القليل فلم تجده، قعدتَ متحسراً. وإذا أدركك المشيب فعجزت وضعفت أسفت على أيام الشباب وتمنيت لو كنت صنعت فيها ما تتمنى الآن عمله وتعجز عنه. ثم إذا كان الموت، وطُوَيت صفحات الأعمال، ووجدتَ عِظَم ثواب الحسنات وعظم عقاب السيئات، تمنيت أن تسبّح تسبيحة واحدة أو تصلي ركعة فلا تستطيع. لقد جمع هذه المعاني كلها حديث واحد، حديث أرجو أن يكتبه كل واحد منكم بالخط الجميل ثم يعلقه في صدر مجلسه لينظر فيه دائماً ويجعله دستوراً له: «اغتنم خمساً قبل خمس؛ صحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك،

وشبابك قبل هَرَمك، وحياتك قبل موتك» (¬1). لا تضيّعْ أيام الصحة بالكسل ثم تأسى في المرض على العجز عن العمل. ولا تضيّع أوقات الفراغ باللهو والعبث ثم تبكي عليها إذا ازدحمت عليك الأشغال وضاقت الأوقات. ولا تبذّر أيام غناك، تنفق المال في غير مواضعه، ثم تُمضي الليالي متحسراً عليه أيام الحاجة. ولا تضيع شبابك وقواك في الفسوق والعصيان، فإذا انحنى ظهرك ورقّ عظمك وركبتك الأمراض قلت: يا ليت الشباب يعود! وهل رأيت شباباً عاد؟ كلا، إنه لا يعود الشباب إذا ولّى ولكن يبقى إذا لم تقتله بالمعاصي. وإنك لترى الرجل تحسبه في الستين وما جاوز الأربعين، وآخر تظنه ابن أربعين وهو في الستين. وما ذاك إلا لأن العفافَ والتقوى يحفظان على الرجل شبابه والفسوقَ والعصيان يهدمانه قبل أوان الهدم. وهذه مكافأة عاجلة في الدنيا، فكيف بالمكافأة الكبرى في الآخرة؟ فلا يغترّ الشاب الذي يركب هواه باللذة العاجلة، ولا يأسف الشاب التقي الذي فاتته هذه اللذات، فإنه لا خير في لذة ساعة وراءها عذاب الدنيا بالمرض والهرم وعذاب الآخرة في جهنم، وعذاب جهنم أشد وأنكى. * * * ¬

_ (¬1) صحّحه الشيخ ناصر الدين الألباني في «صحيح الجامع الصغير».

التجارة الرابحة

التجارة الرابحة حديث أذيع من مكة سنة 1968 هذا الحديث دعاية تجارية مجانية أذيعها لمصلحتكم أنتم. لو أُسِّسَت شركة جديدة حكم الخبراء أنها رابحة مئة بالمئة وطُرحت أسهمها في الأسواق لمدة محدودة، هل يتأخر مَن معه مال بشرائها أم يسرع إليها ويسابق عليها؟ إن أمامكم أسهماً معروضة بالبيع، إذا اشتريتم السهم منها بمئة ريال يصير بعد قليل بسبعين ألف ريال، وربما ارتفعت الأسعار فزاد ثمنها على ذلك أضعافاً، والمدة ثلاثة أيام فلا تتأخروا عن الشراء. والأرباح مضمونة مؤمَّن عليها، والذي يضمنها ليس شركة تأمين وليس المصرف ولا الحكومة، ولكنْ ربّ العالمين. إي والله يا أيها الإخوان والأخوات، وهذا هو الموسم فلا تضيّعوه. وإذا كان في الزراعة موسم للبِذار وفي التجارة موسم للاستيراد وفي السنة المدرسية موسم للاستعداد للامتحان، ففي سوق الصدقات موسم تزيد فيه الأرباح، وهو هذه الأيام من رمضان، فاغتنموها. ولست أقصد بهذا الكلام الأغنياء الذين يملكون الملايين

وحدهم، بل أقصد السامعين جميعاً. وإذا كان معك ثلاثة آلاف ريال فأنت غني بالنسبة لمن معه خمسمئة وعنده خمسة أولاد لا يعرف كيف يسدّد بها نفقاتهم في العيد، فلو أعطيته مئة لفرح بها. وهو غني بالنسبة لمن معه مئة فقط وله خمسة أولاد مثله، فلو أعطاه عشرين لفرح بها. وإذا كان عندك ثوب لا يزال صالحاً وكنت تقدر على شراء غيره، فأعطِه لمن يفرح به ويجده ثوب العيد واشترِ غيره، تلبس جديداً وتكسب الثواب. وإذا فتشت عن بيّاع للقماش صالح قليل المورد وقصدت بشرائك منه مساعدته، وبحثت عن خيّاط صالح قليل الزبائن وقصدت معونته، كان لك بهذا وبذاك صدقة. وابدأ في الصدقة بأقربائك، فإن إعطاءَ الفقير الغريب حسنةٌ وإعطاءَ القريب الفقير حسنتان، لأنه صدقة وصلة رحم، ولا يقبل الله صدقة عبد وفي قرابته مَحاويج. ثم بجيرانك، فمَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر لا يبيت شبعانَ على مائدته عشرة ألوان وجارُه جائع أو محروم ما عنده إلا صحن الفول. وفضّل الولد اليتيم والشيخ العاجز وطالب العلم، أما هؤلاء الشحادون الذين يتخذون السؤال حرفة وهم أقوياء أصحّاء يستطيع الواحد منهم أن يجرّ عربة فلا تُعطِهم، فإن إعطاءهم يشجعهم على هذه المهنة التي يأباها الإسلام. * * * إن صدقة الفطر التي لا بد منها لاستكمال العبادة في هذا الشهر تكاد تكون واجبة على أكثر الناس، فلا تقتصر فيها على

الحد الأدنى (وهو صاع من تمر أو صاع من بُرّ) بل أعطِ بمقدار طاقتك. فلو أوجبت الحكومة عليك أن تشتري من أسهم الشركة الرابحة سهماً واحداً على الأقل ثمنه مئة ريال، وكنت تملك مليوناً، هل تكتفي بهذا السهم الواحد أم تشتري آلاف الأسهم أملاً بربحها؟ فلماذا لا يُخرج كلّ واحد منا صدقةَ الفطر عن نفسه وعمّن يجب عليه إخراجها عنه واردَ يوم واحد من أيام الشهر؟ السنة ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً، فهل يصعب عليك أن تتصدق كل سنة في عيد الفطر بمورد يوم واحد منها؟ قد يكون مورد اليوم عشرةَ ريالات عند ناس وقد يكون عشرة آلاف عند آخرين، فليُعطِ كلٌّ بمقدار ما أعطاه الله يَزِد عليه اللهُ نعمَه ويضاعِفْ له عطاءه. وأنا لا أقول إن هذا المقدار واجبٌ شرعاً ولا أوجب ما لم يوجبه الشرع، بل أرغّب فيه لأن الشرع رغّب في الصدقة، والصدقة في كل الأزمان، ولا سيما في ختام رمضان. * * *

ما قدروا الله حق قدره!

ما قَدَروا الله حقّ قدره! حديث أذيع سنة 1969 كان حديث المجالس في الأسبوع الذي مضى هو وصول البشر إلى القمر. وهو حادث عظيم يستحق أن يُتكلَّم فيه وأن يُعلَّق عليه، وأن يُعجَب به ويُعجَب منه، ولكنه لا يستحق أن يزلزل عقائدنا أو يزعزع إيماننا. فلقد ظن قوم أن البشر قهروا الطبيعة وأنهم وصلوا إلى السماء، وسمعت هذه الأقوال من الأفواه وقرأتها في الصحف، فتعجبت والله من قائليها. وهَبْهُم فرحوا بصاروخ أوصلوه إلى القمر وحسبوا -من جهلهم- أنهم شاركوا بذلك الله في ملكه، فخبّروني: ما القمر بالنسبة إلى هذا الكون؟ أين القمر من السماء؟ بل أين القمر من الشمس؟ إذا فرضنا أن القمر يبعد عنا بمقدار ما يبعد باب الحرم عن مقام إبراهيم فإن الشمس تكون أبعدَ من جاوة عن باب الحرم! هل تصورتم الآن بُعد الشمس عنا؟ إن هذا البعد إذا قسناه بسرعة الضوء كان نحو ثمان دقائق، فاعلموا أن من بين هذه النجوم التي تبدو نقطة في الظلام أو هي تضيع في هذا الوهج الذي نسميه

«نهر المجرّة»، من بينها ما يصل ضوؤه إلينا في عشرة آلاف ألف ألف سنة، أي في عشرة مليارات سنة (¬1)؛ فالشمس بالنسبة إليها كأنها لاصقة بنا، وما قيمة ثمان دقائق بالنسبة لعشرة مليارات من السنين؟ فكيف إذن بالقمر؟ فما قيمة القمر؟ وما بعده عنا بالنسبة إلى هذا الفضاء وما فيه؟ هل تريدون أن تعرفوا ما هي السماء؟ لقد ذكرت لكم طرفاً من هذا في حديث مضى، لا أعرف تاريخه وليس عندي نصه، ولا بأس من العودة إليه. السماء -يا سادة- كرة عظيمة. وكلمة «عظيمة» لا تصف حقيقتها، ولكن ليس عندي غيرها. كرة مغلقة تحيط بهذا الفضاء كله، أي أن هذا الفضاء الهائل بكل ما فيه داخل هذه الكرة، وهذه الكرة هي السماء الدنيا وسمكُها اللهُ أعلم به. وبعدها أخرى أكبر منها هي السماء الثانية، إلى سبع سماوات؛ ¬

_ (¬1) عدد النجوم في مجرّتنا («دَرْب التبّانة» كما سمّاها العرب أو «الطريق اللبَني» كما هي في لغات الغرب) يزيد على مئتَي مليار نجم، وقطرها نحو مئة ألف سنة ضوئية. أقرب نجم إلينا من هذه النجوم -بعد الشمس- هو «بروكسيما قنطورس»، ويصل ضوؤه إلينا في نحو أربع سنوات وربع السنة. أما الأجرام القَصِيّة التي بلغت بُعداً حيّر العلماء فهي «الكوازَرات» (وتسمى أحياناً «أشباه النجوم»)، وأقصى ما اكتُشف منها إلى اليوم يبعد عن مجرّتنا نحو أربعة عشر مليار سنة ضوئية. ويُظَنّ أن هذه الكوازرات ليست سوى مراكز مجرات بالغة القوة تحتوي على ثقوب سوداء هائلة الضخامة، قد تبلغ كتلةُ الواحد منها كتلةَ مئة مليار شمس كشمسنا! (مجاهد).

كرات كل واحدة تحيط بالتي قبلها، وبين كل واحدة والأخرى فضاء لعله أكبر من هذا الفضاء، تأتي بعدها مخلوقات أكبر منها وأعظم لا يتصور عقل البشر مدى كبرها وعظمها، هي العرش والكرسي، والجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرض، والنار التي بين كل طبقة منها وطبقة مسيرة خمسمئة عام (¬1). وهذا الذي قلته لم أجده في كتاب ولم أنقله عن أحد، ولكن هو الذي فهمته من نصوص الكتاب والسنة. وقد فسّر شيخنا المغربي رحمه الله (في تفسير جزء تبارك) السماء بأنها مدارات الكواكب، وهذا خطأ مردود؛ فالله قد وصف السماء بأنها بناء، أي جسم مادي لا حدّ وهمي، وأنها سقف مرفوع، وأنهنّ سبع سماوات طِباقاً. ولا تكون طباقاً إلا إذا كانت مثل الكرة التي تحيط بها كرة أكبر. وجاء في حديث المعراج بأن لها أبواباً تُفتَح وتُغلَق، وفي القرآن {فَفَتَحْنا أبْوَابَ السّماء} وفيه {باباً مِنَ السّماء}. وورد فيه أن السماء تُفتَح يوم القيامة وأنها تنفطر وتتشقق. أما أن هذه الكواكب دون السماء فقد أخذته من قوله تعالى: {وَزَيَّنّا السّمَاءَ الدُّنْيا بِمَصابيحَ}، وهذه المصابيح هي الكواكب لقوله في الآية الثانية: {بِزينَةٍ الكَواكِب}. * * * فهل معنى الوصول إلى القمر الوصول إلى السماء؟ أين القمر ¬

_ (¬1) لهذا الإيجاز تفصيل في مقالة «ما هي السماء؟»، فمن أحب قراءتها فليرقبها في كتاب علي الطنطاوي: «فصول في الثقافة والأدب» الذي أرجو أن يصدر عمّا قريب بإذن الله (مجاهد).

من الشمس؟ ولو نحن وصلنا إلى الشمس فأين الشمس من أحد هذه الكواكب (أي النجوم)؟ فهل يمكن أن نصل إلى واحد منها؟ إننا لو اخترعنا مركبة تسير بسرعة الضوء، أي أنها تقطع ثلاثمئة ألف كيل في الثانية، لوصلنا إلى بعضها بعد مليارات من السنين. فكيف نصل إلى السماء؟ وفي مقابلة هذا العالَم الذي لا يتصور العقل البشري مدى اتساعه عالَم آخر لا يتصور العقل دقته؛ هو عالَم الذرة. إن في الذرّة التي لا يمكن أن تراها العين ولا بالمجهر الإلكتروني فضاء مصغراً عن هذا الفضاء، تسبح فيه أجسام صغيرة، كهارب (إلكترونات)، تدور من حول النواة كما تدور السيارات من حول الشمس. فتصوروا الفرق بين سعة عالَم السماء وضيق عالَم الذرة، هذه الدقة التي لا يتصورها العقل مقابل ذلك الكبر الذي لا يتخيله العقل! وما الإنسان بينهما؟ إنه إذا قاس نفسه بعالم الذرة فأخذته العزة لكبره فليقسها بعالم الكواكب، بالسماء، ليستشعر الهوان من صغره وضآلته. ولكنّ طبيعة البشر من الغرور: {قُتِلَ الإنْسَانُ ما أكْفَرَه}! * * * وهذا كله المخلوق، فما بالكم بالخالق؟ هل تظنون أننا إذا وصلنا إلى القمر أو إلى المريخ نكون قد شاركنا الله في ملكه؟ إن مَثَلَ الذين فتنهم عن دينهم أن البشر طيّروا صاروخاً إلى القمر مَثَلُ جماعة من النمل خرجت من وكرها في يوم عاصف،

فجرّت قشة حتى وضعتها في مهب الريح فحملتها الريحُ مسافة خمسة أذرع، فقالت: لقد سيّرنا كوكباً وصرنا آلهة! وكفرت بذلك بعض سخيفات النمل كما كفر بالصاروخ بعض سخفاء البشر. أمّا أهل الفكر فإنهم يجدون في كل كشف جديد لبعض ما أودع الله في هذا الكون من أسرار دليلاً جديداً على وجود الله ووحدانيته، وأنه لا إله إلا هو. إن الله قد أودع الكون هذه الأسرار لتكون داعية إلى الإيمان لا حافزاً إلى الكفر: {إنّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَيْلِ والنّهارِ لآياتٍ لأولي الألبَابِ، الذينَ يَذكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وَعَلى جُنُوبِهِم، وَيَتفكّرونَ في خَلْقِ السّماواتِ والأرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً، سُبحانَكَ فَقِنَا عَذابَ النّار}. فلا تغترّوا يا أيها الناس ولا تنسوا ربكم، فإن مُلك ربّنا أعظم مما يظن الجاهلون؛ إن ملك ربنا أكبر بكثير. لا إله إلا الله؛ ما قَدَروا الله حق قدره، سبحانه وتعالى عما يشركون! * * *

طريق الهدى

طريق الهُدى حديث أذيع سنة 1971 إذا كنتم مصطافين في قرية في الجبل فأصابها الزلزال وانبعث من رأس الجبل بركان، وهرب كل من كان فيها ولكنهم لا يدرون من أين يسيرون، وصار كلُّ مَن اختار وِجهةً يدعو إلى اتّباعه فيها ويزعم أنه لا نجاة إلا بالاتجاه إليها. وتداخلت الأصوات واشتدّ الزحام والصدام، وحِرْتُم فلا تدرون أي طريق تسلكون، وإذا بشرطي يقول لكم إنه موفَد من شيخ البلد ليصحبكم ويدلّكم على طريق النجاة. هل تثقون به وتتبعونه وتمشون معه، أم تُعرضون عنه وتضيّعون الوقت في التردد بين الطرق واتباع سالكيها؟ هذا هو مثالنا في هذه الأيام. لقد ضلّت القافلة وغاب الدليل، وتشابهت الطرق وكثر الاختلاف، كلٌّ يدعوك أن تذهب مذهبه وتتبع طريقه. وكلها مذاهب يضلّ سالكوها وطرق يضيع الذين يمشون فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ليدلك على الصراط المستقيم، صراط العزيز الحكيم. فهل تتبع صراط الله أم تسلك تلك السبل التي يدعو إليها ضُلاّل البشر؟

لا أريد أن أعدّد هذه المذاهب ولا اسم الداعين إليها، لأني ما أعددت هذه الأحاديث للرد على أحد ولا للتعريض بأحد، ما أعددتها إلا لإرشاد الناس. إن هذه المذاهب كلها من وضع أفراد من البشر، يخطئون ويصيبون ويقولون الحق ويقولون الباطل، والإسلام من عند رب البشر الذي يقول الحق ويهدي السبيل. فهل نترك شريعة الخالق لمذاهب المخلوقين؟ لقد جرّب أجدادنا اتّباع الشرع فكانوا بذلك سادة الدنيا وملوك الأرض، وكانوا بُناة الحضارة وكانوا أئمة العلم والأدب، ونالوا باتّباعه كل خير، وجرّبنا (أو جرّب ناسٌ منّا) اتّباعَ هذه النِّحَل وهذه المذاهب، فماذا كانوا؟ لقد فتحنا بالإسلام ثلث المعمور من الأرض في ثلث قرن، ورفرفت رايتنا على ما بين البحر الهادي والبحر الأطلنطي، فلما تركنا الإسلام رفرفت راية اليهود على القدس، ثالث الحرمين وأولى القبلتين. لقد غلَبْنا بالإسلام جبابرةَ الأرض وقهَرْنا مَرَدةَ الناس وظفرنا بكسرى وقيصر وخاقان، فلما تركنا الإسلام غَلَبنا على قلب بلادنا، على قلب بلاد العروبة والإسلام، فلسطين، حُثالةُ أهل الأرض، اليهود. ولن نطهر فلسطين من رجس قوم صهيون، ولن نغسل عن الأرض المسلمة بقايا الاستعمار، ولن نستعيد ما كان لنا من عزّ ومجد، ولن نسترجع مكانتنا في الدنيا إلا باتّباع الإسلام. * * *

هذا هو الطريق. أما تلك المذاهب وهاتيك النّحَل فليس لنا من اتّباعها إلا المزيد من التخلف والعجز والضعف والتفرق والضياع في الدنيا والخسران يوم القيامة. إنها السبل التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يفتحها على جوانب الطريق الموصل ليَدخل الناسُ فيها فيَضِلّوا فلا يبلغوا غايتهم. فلا تسمعوا لمَن يدعوكم لسلوك سُبُل الشيطان، ولكن استمعوا لمن يناديكم لتسلكوا صراط الرحمن، لمن يدعوكم بدعوة الإسلام. * * *

الإيمان يصنع النصر

الإيمان يصنع النصر حديث أذيع سنة 1967 كنت رائحاً عشية الأمس إلى منزلي، فوجدت في جانب الطريق كلباً أسود ضخماً مخيفاً قد استعد للقتال، وأمامه قطة صغيرة قد تجمدت وتسمرت في مكانها ووجهت إليه من عينها نظرات يكاد يتطاير منها الشرر. فوقفت أنظر، فإذا هما يلبثان على ذلك دقائق، ثم تحرك الكلب وخطا إليها خطوة، فكشرت عن أنيابها ووثبت إلى وجهه بسرعة القنبلة المنطلقة من المدفع، ونفخت نفخة جعلته على كبره وضخامته يرتدّ عنها فزعاً. فجعلت أفكر في عجيب صنع الله؛ إن قوة هذا الكلب وضخامة جسده وحدّة نابه لم تصنع كلها شيئاً أمام حماسة هذه القطة الصغيرة وشجاعتها وقوة نفسها، وهي لمّا تضايقت استعملت قوّتها المدَّخَرة فأفزعت الكلب. ورأيت في ذلك شاهداً على أن القوة النفسية تغلب القوة المادية. لو جئتَ دارك العشيّة وأنت تعبان نعسان جوعان، فوجدت ثلاثة رجال مسلحين يريدون أن يعتدوا على عرض امرأتك أو ابنتك، ولم تجد أمامك إلا عصا، ألا تهزم بعصاك هذه بنادقهم

أو رشّاشاتهم؟ ليست العصا في ذاتها أقوى من الرشاش، ولكن لما صار الرشاش في يد من يعلم أنه ظالم، والعصا في يد من يؤمن بأنه محق ومن يدافع عن عرضه أو دينه، صارت العصا في هذا المقام أقوى من الرشاش. ولذلك غلبت القطة الصغيرة الكلبَ الكبير؛ إنها تعلم أنها إن غُلبت ماتت وافترسها الكلب، فهي تدافع عن قضيتها الكبرى، إنها تخوض معركة حياة أو موت، أما الكلب فيحارب لمجرد الغلبة أو الظفر أو للتسلّي. ولذلك غلَبَنا اليهودُ لمّا حاربنا لغير القضية الكبرى. كان الجندي منا يمشي إلى الحرب ولكنه لا يدري لماذا يحارب، ولا يعرف إلاّ أن حكام بلده أخذوه من بيته وألبسوه هذه البزّة وحمّلوه هذه البندقية وقالوا له: امشِ. لا يدري لماذا مشى، ولا يعترف لهؤلاء الحكام في أعماق نفسه بحق الطاعة، لأنه يعتقد أنهم يعادون دينه ويوالون عدوّه ويريدون له ولأمته غيرَ ما تريد الأمة لنفسها ويريد الله لها. ولو أن الحاكمين كانوا مسلمين حقاً، ولو أنهم حاربوا لإعلاء كلمة الله حقاً، ولو أنهم أفهموا الجنود أنهم يمشون إلى الجهاد الذي أمر به الشرع وأنهم بين الحسنيين، إما أن يظفروا فينالوا شرف الظفر وإما أن يموتوا فيحظوا بثواب الشهادة ويكونوا أحياء عند الله ... لو قالوا لهم ذلك لَما انهزموا ولَما غُلبوا، ولَثَبتوا مثلما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أُحُد لمّا انهزم الناس، وفي حُنين، وفي غيرهما من المشاهد التي شهدها المسلمون الفاتحون.

الذي يقاتل دفاعاً عن قضية مقدسة عنده لا ينهزم. هل تتصورون أن الرجل الذي يحارب بالعصا دفاعاً عن عرض بنته أو زوجته ينهزم خوفاً على نفسه ويتركهما؟ لا والله؛ إنه يموت دونهما ولا يدعهما. وكذلك الذي يقاتل دفاعاً عن دينه، يستحيل أن ينهزم. وإذا فوجئ فانهزم أولاً فإنه لا يلبث أن يرجع إليه عقله فيعود، وإذا لم يستطع العودة وخسر الجولة فإنه يستعد لجولة أخرى. ورأس الأمر ومِلاكه أن نثير في نفس الجندي القوة الكامنة فيها، وهذا ما يفعله الإيمان. وصفت لكم في حديث مضى ما هي هذه القوة الكامنة، قلت لكم: إن الواحد منكم لا يستطيع أن يركض مسافة مئة متر، ولكن إذا كان في البرّية ولحقه وحش وما معه سلاح يركض ألف متر ولا يقف. هذه هي القوة الكامنة. لما كانت موقعة ميسلون في الشام من سبع وأربعين سنة ودخل الفرنسيون دمشق ظافرين، شهدتُ مشهداً لا يزال منقوشاً في ذاكرتي. كنت ذاهباً إلى المدرسة، وكنا في أوائل المرحلة الإعدادية، فوجدت ثلاثة من الجنود الفرنسيين المسلحين يلحقون امرأة مسلمة محجبة، يتحرشون بها ويمدون أيديهم إليها، وهي تصرخ مذعورة وهم يتضاحكون، والناس خائفون منهم وقلوبهم تتقطع ألماً. وإذا بسَمّان (بقّال) كهل يصرخ صرخة هائلة تخرج من أعماق قلبه كأنها ليست من أصوات البشر: ولك شو بَكُمْ؟ ما عاد في دين؟ ما عاد في نخوة؟ عليهم! ويثب إليهم بأربع خطوات فيصير بينهم، يهجم عليهم بيديه

بلا سلاح، وتسري عدوى الحماسة فيلحقه الناس. وأذكر وأنا ولد أني رميت حقيبة الكتب وهجمت معهم. ولم يكن مع أحد من المهاجمين قطعة حديد، ومع الجنود البنادق المحشوة بالرصاص، ومع ذلك غُلبوا وسقطوا على الأرض ونزل عليهم الناس ضرباً وركلاً، فلم يخرجوا إلا بثياب ممزقة وأعضاء محطمة. هذه القوة الكامنة هي مصدر العزة التي وصف الله بها المؤمنين. إنها موجودة في نفوسنا لا تزال، رغم الضعف والتفرق والانقسام، ولكنها تحتاج إلى مَن يوقظها. وهذه القوة لا يوقظها إلا الإيمان. * * * هذه الأمة المسلمة دُعيت إلى الجهاد والتضحية والبذل عشرة آلاف مرة، ولا تزال مستعدة للإجابة إن دُعيت من جديد، ولكنها تحتاج إلى من يدعوها باسم الدين، باسم العِرض. إذا تيقّن هذا الشعب أن عِرضه في خطر وأن دينه في خطر تظهر هذه القوة الكامنة ويصنع العجائب. لهذا قاتل في الماضي في بدر واليرموك وحطين، وقاتل بالأمس في غوطة دمشق ورُمَيثة العراق وجبال الجزائر، ولهذا يقاتل في المستقبل. أما القتال للقومية وللاشتراكية وللثأر، وللكلام الفارغ والملآن، فإنه يشترك فيه هو والعدو. اليهودي أيضاً يقاتل لقوميته ويقاتل لبلده ويقاتل للاشتراكية، لأن الاشتراكية بضاعة يهودية. ماركس الذي ابتدعها يهودي، ولينين يهودي، وستالين أصله يهودي، وتروتسكي يهودي، فما الفرق إذن بيننا وبينهم؟

إن اليهود (ومن ورائهم دول الشرق والغرب معاً) لا يريدون إلا أن يصرفونا عن إسلامنا ليسلبونا أمضى سلاح في أيدينا، فهل تبلغ الغفلة بنا أن نعاونهم على أنفسنا؟ كل مَن يدعو إلى مذهب يخالف الإسلام يعين العدوَّ علينا، وكل من يدعو إلى التحلل والفساد يعين العدوّ علينا، وكل رواية داعرة وكل صورة مكشوفة وكل أغنية بذيئة، وكل ما تأتي به المناهج الخبيثة في المدارس والقوانين الأجنبية في المحاكم، وما يأتي به السفور والحسور والتكشف والموضات، وكشف النساء العورات وسلوك الشبان سبيل الفساد، كل ذلك قنابل للعدو تتساقط علينا وتهدم كياننا وتصدع بنياننا وتُذهب قوانا. فهل نكون من غفلتنا عوناً للعدو على أنفسنا؟ يا أيها المسلمون، إنكم نائمون فاستيقظوا! استيقظوا، فقد طلع النهار وانقضى وقت المنام. * * *

الله أكبر

الله أكبر نشرت سنة 1971 لا يَحْزُنْكم أنّ أعداء الإسلام لا يزالون أشدَّ قوةً وأكثرَ عدداً وأجمعَ لوسائل النصر، فلقد قلت من قديم إنهم في مثل ضياء الأصيل، يملأ الدنيا ولكنه إلى الزوال، وما هو إلا أن يأتي الليل فيسدل على دنياهم ثوبه الأسود. ونحن في غَبَش الفجر، لا نزال نعالج بقايا الليل ولكنّ النهار أمامنا، ستطلع الشمس فتطرد فلول الظلام. ألا ترون إلى صفوف المصلين كيف يقوم فيها الكبير والأمير إلى جنب الصعلوك والفقير، يضعون جميعاً جباههم على الأرض؟ إن المسلمين الأوّلين لمّا أهووا بجباههم إلى الأرض حيث تطأ النعال، خضوعاً لله وحده، جعل الله رؤوس الملوك تنحني خضوعاً لهم وتيجانَهم تتهاوى على نعالهم. فما في الدنيا جبين أعز من جبين المسلم ولا جبهة أكرم؛ إنها لا تذلّ إلا لله، لا تذلّ لأحد سواه، والذُّل لله عز. هذه الجباه التي جعل الإسلام أصحابَها سادة الدنيا وقادتها. * * *

والصلاة في نظر المسلم ليست تكليفاً شاقاً يقوم به، ولكنها متعة من أعظم المُتَع يحظى بها. يروي الناس الحديث فيجعلونه «حُبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة». وليس في نص الحديث كلمة «ثلاث»؛ الحديث: «حُبِّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة» (¬1). ذلك لأن متعة الصلاة ليست من جنس مُتَع الدنيا. مُتَع الدنيا لا تدوم؛ إما أن تزول أنت عنها أو تزول هي عنك، إما أن تتركها أنت أو تتركك هي، ولو بقيَت عليك لما بقيت لها متعتها. ألا ترون الفقير حين تمرّ به سيارة الغني، فيتوهّم أنه إنْ مَلَكها ملك الدنيا وجُمعت له لذاذاتها ونعمها وإن ركب فيها يوماً فقد نال ما هو من الأحلام؟ ولكن سلوا صاحبها الغني: هل يجد فيها هذه المتعة؟ ويمرّ الفقير بقصر الغني فيحسب أنه إن كان له مثله فقد نال الأماني كلها، فسلوا صاحب القصر: هل يجد فيه هذه المتعة التي يتوهمها الفقير؟ إن لذائذ الدنيا إذا نالها الإنسان وأَلِفَها ذهبت الألفة بمتعتها، وصارت عادة له يَالَمُ لفقدها ولكنْ لا يحسّ بوجودها، إنها كالسراب. ألا تعرفون السراب؟ ترونه من بعيد ماءً صافياً، فإذا وصلتم إليه لم تجدوا إلا الرمل والتراب. وكذلك لذائذ الدنيا، لا تُرى إلا من بعيد. لقد كنتم في النهار وأنتم صائمون في هذا الحرّ تشتهون شربة ماء بارد وطبق طعام شهي، فها أنتم أولاء الآن وقد أكلتم حتى شبعتم وشربتم حتى رويتم، لو أُجبرتم على ما كنتم ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي وأحمد (مجاهد).

تتمنونه في النهار من الطعام والشراب ألا ترونه تعذيباً؟ ذلك لأن اللذّات المادية لها حدّ تقف عنده، واللذة الباقية التي لا حدّ لها هي لذة الروح. يحرص الإنسان على جمع المال ونيل الجاه، يكِدّ ويتعب ويسعى ويذهب ليزداد مرتّبه ويعلو منصبه ويكثر ربحه ويرتفع جاهه، فإذا مرض المرض العضال أو ذهب سمعه أو بصره تمنى أن يخسر ماله فيعود فقيراً أو يضيع جاهه كله فيكون صعلوكاً ليخلص من مرضه وتعود صحته. وإذا ابتلي بداء العشق وعرف لوعة الحب، سهر ليله وترك طعامه وأفنى جسده وأذهب صحته، ليفوز من الحبيب بساعة لقاء وينعم منه بلحظة وصال. فإذا ذاق لذة الخلوة بالله ومتعة المناجاة في الأسحار والصلاة في الليل والناس نيام، وجد أوهام العشق قد تبددت وذهبت كما ذهب تمثال من الثلج سطعت عليه الشمس. فالمتع واللذات درجات أدناها اللذات المادية، لذة المال والجاه، وفوقها لذة الصحة التي يكون بها بقاء الجسد، وفوقها لذة العاطفة التي تكون بها متعة النفس، وفوقها كلها لذة الروح التي تكون بها سعادة الدنيا والآخرة. وكل هذا مشاهَد محسوس، ولكن من الناس من يقف عند الدرجة الأولى فلا يهمّه إلا المال، ومنهم من يرقى درجة أخرى فيهتم بالصحة، ومنهم من يرقى الدرجة الثالثة فيكون من أهل العاطفة وأرباب القلوب، ومنهم صفوة قليلة مختارة تبلغ ذروة السلّم وتصل إلى الدرجة العليا، وهؤلاء هم خِيار البشر.

لذلك جعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ متعة لا تعدلها متع الدنيا. هذا إذا أدرك المسلم وهو يصلي معنى الصلاة، فقام لله رب العالمين مخلصاً محتسباً، يفكر في معاني ما يقول وما يتلو، يَرِد عليه من الخواطر السامية ومن الإلهامات ما لا يمكن حصره بالألفاظ ونقله بالكلام. لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «جُعِلَت قُرّة عيني في الصلاة»، ولذلك كان يقول: «أرحنا بها يا بلال» (¬1)؛ أرحنا «بها» لا أرحنا «منها»! ولذلك قال بعض الصالحين: لو عرف الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف. فالذي يقوم هذا المقام خمس مرات كل يوم لا يمكن أن يصرّ على الفحشاء والمنكر، لأنه إذا زلّ ونسي لحظة ذكّرته الصلاة. ولذلك شبّه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمسَ بنهر على باب الإنسان يغتسل فيه خمسَ مرات كل يوم (¬2). من يغتسل خمس مرات كل يوم هل يكون وسخ الجلد؟ فكيف تكون وساخة النفس مع الصلوات الخمس؟ * * * والمسلم حين يقوم في الصلاة ويقول: «الله أكبر» تَصْغُرُ في قلبه الدنيا كلها. وما الدنيا كلها؟ إن كرة الأرض إذا قيست ¬

_ (¬1) من حديث أبي داود (مجاهد). (¬2) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَل الصلوات الخمس كمَثَل نهرٍ جَارٍ غَمْرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، فماذا يُبقي ذلك من الدّرَن؟». أخرجه مسلم وأحمد (مجاهد).

بالشمس كانت حصاة في جبل، والشمس كلها إذا ألقيت في بعض النجوم العملاقة التي تبدو لنا نقطاً مضيئة في الليلة الصافية كانت كرملة في صحراء. وهذه النجوم كلها، وهي ملايين، إذا قيست بالسماوات كانت كنقطة في بحر، والسماوات كلها أصغر من العرش والكرسي. فما هي قيمتك أنت في هذا الكون العظيم؟ وما عمرك على هذه الأرض؟ فإذا تصورت عظم هذه الكون وكبره الهائل فاذكر أن هذا هو المخلوق، وأن الله وحده هو الخالق، وأنك قائم بين يدي الله تقول: الله أكبر! لذلك كانت كلمة «الله أكبر» شعارَنا في سلمنا وحربنا، وكانت مدخلنا إلى صلاتنا. لذلك نرددها في كل حركة من حركات الصلاة: إذا جاء الشيطان يوسوس لك أنْ عجّل في صلاتك فإن أمامك عملاً كثيراً، فقل: الله أكبر. إذا قال لك: أسرع فإن ضيفاً كبيراً ينتظرك لتفرغ من صلاتك، فقل: الله أكبر. «الله أكبر»، هذا النشيد العلوي الذي لم يهتف لسان الأرض ومَن فيها، ولم تسمع أُذُن الكون نشيداً أسمى منه سُموّاً ولا أروع منه روعة، هذا الذي هتف به المسلمون في كل معركة خاضوها وأمام كل عدو واجهوه، هتفوا به في السهل والجبل، وفي البر والبحر، فكان النصر حليفهم في معاركهم كلها، لأن من كان مع الله لا يغلبه عدو مهما كبر لأن «الله أكبر». * * *

الباب الذي لا يغلق في وجه سائل

الباب الذي لا يُغلَق في وجه سائل نشرت سنة 1987 (¬1) أسرد عليكم قصة أسرة أميركية فيها ستة أولاد، أبوهم فلاح متين البناء قوي الجسد ماضي العزم وأمهم امرأة عاقلة مدبّرة حازمة، فتربى الأولاد على الصبر والاحتمال حتى صاروا رجالاً قبل أوان الرجولة. وخرج الصغير يوماً يلعب، وكان في الثالثة عشرة، فقفز من فوق صخرة عالية قفزة وقع منها على ركبته، وأحس بألم فيها، ألم شديد لا يصبر عليه ولدٌ مثله، ولكنه احتمله وصبر عليه ولم يخبر به أحداً، وأصبح فغدا على مدرسته يمشي على رجله، والألم يزداد وهو يزداد صبراً عليه، حتى مضى يومان، فظهر الورم في ¬

_ (¬1) * نُشرت هذه المقالة سنة 1987 في سلسلة «صور وخواطر» التي بدأ جدي رحمه الله بنشرها في جريدة «الشرق الأوسط» بعد الفراغ من نشر ذكرياته فيها. على أن لها أصلاً أقدم من ذلك؛ فقد أذيع جزء منها من إذاعة دمشق في أحاديث الدعوة إلى الاستسقاء سنة 1960، وخبرها في «الذكريات» (في أول الجزء السادس)، وبعضها أذيع من مكة بعد ذلك بنحو عشر سنين (مجاهد).

رجله وازْرَقّ وعجز عن أن يخطو عليها خطوة واحدة. فاضطربت أمه وجزع أبوه، وسألاه عن خبرها فأخبرهما الخبر، فأضجعوه في فراشه وجاؤوا بالطبيب، فلما رآها علم أنه قد فات أوان العلاج وأنها إن لم تُقطَع فوراً مات الولد من تسمم الدم، فانتحى بأبيه ناحية وخبّره بذلك همساً يحاذر أن يسمع الولد قوله، ولكن الولد سمع وعرف أنها ستقطع رجله، فصرخ: لا، لا تقطعوا رجلي، لا تقطعوا رجلي! أبي، أنقذني. وحاول أن يقفز على رجل واحدة ويهرب منهم، فأمسك به أبوه وردّه إلى فراشه، فنادى أمه نداء يقطع القلوب: أمي، أمي، أنقذيني! أمي، ساعديني! لا تقطعوا رجلي. ووقفت الأم المسكينة حائرة تحس كأن كبدها تتمزق: قلبها يدعوها إلى نجدة ابنها ويفيض حناناً عليه وحباً له، وعقلها يمنعها ويناديها أن تفتدي حياته برجله. ولم تدرِ ماذا تصنع، فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظنّ أنه سينقذه. فلما رآها لا تتحرك يئس منها كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه إدغار بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء بالعويل: إدغار، إدغار! أين أنت يا إدغار؟ أسرع فساعدني، إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي! وسمع أخوه إدغار (وهو أكبر منه بقليل) صراخه فأقبل مسرعاً، فشدّ قامته ونفخ صدره ووقف دون أخيه متنمّراً مستأسداً وفي عينيه بريق عزيمة لا تُقهَر، وأعلن أنه لن يدع أحداً يقترب منه. وكلمه أبوه ونصحته أمه، وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ

وراءه ويتمسك به فيشد ذلك من عزمه. وحاول أبوه أن يزيحه بالقوة، فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده. واستأسد واستيأس. والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب. ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحدٌ على فراخها كيف تنفش ريشها وتقوم دون فراخها؟ والقطة إذا ضويِقَت كيف تكشر عن أنيابها وتبدي مخالبها؟ إن الدجاجة تتحول صقراً جارحاً والقطة تغدو ذئباً كاسراً. وإدغار صار رجلاً قوياً وحارساً ثابتاً، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه. وتركوه آملين أن يملّ أو يكلّ فيبتعد عن أخيه، ولكنه لم يتحرك، وبقي يومين كاملين واقفاً على باب أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لُقَيمات قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجيء ويروح، ورجل الولد تزداد زُرقة وورَماً. فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده وأعلن أنها لم تبقَ فائدة من العملية الجراحية وأن الولد سيموت، وانصرف. ووقفوا جميعاً أمام الخطر المحدق. * * * ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟ إن كل إنسان -مؤمناً كان أو كافراً- يعود في ساعة الخطر إلى الله، لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له «كافر»، والكافر في لغة العرب «الساتر»، ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فُقد من نفسه، فإذا هزَّتْه الأحداث ألقت عنه غطاءه فظهر. قريش التي كانت تعبد هبل واللات والعزى إنما كانت تعبدها

ساعةَ الأمن، تعبدها هزلاً منها، فإذا جدّ الجِدّ وركب القرشيون السفينةَ وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كف الرياح، وظهر الخطر وعمّ الخوف، بدا الإيمان الكامن في أعماق النفس فلم يَدْعوا اللات ولا العزى ولا هاتيك المَسْخَرات، ولكن دَعَوا الله رب الأرض والسماوات. وعندما تغرق السفينة وتبقى أنت على لوح من الخشب بين الماء والسماء، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله». هذا فرعون الذي طغى وبغى وتكبر وتجبر، حتى قال أحمقَ مقالة قالها إنسان، قال: «أنا ربكم الأعلى»، لما أدركه الغرقُ قال: آمنتُ بالذي آمنَت به بنو إسرائيل! وعندما تضلّ في الصحراء ويحرّق العطش جوفك وترى الموت يأتيك من كل مكان، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله». وعندما تتعاقب سنوات القحط ويمتد انقطاع المطر، وفي غمرة المعركة العابسة التي يرقص فيها الموت، وعندما يدنف المريض ويعجز الأطباء، يكون الرجوع إلى الله؛ هنالك ينسى الملحد إلحاده والماديّ ماديّته والشيوعيّ شيوعيّته، ويقول الجميع: «يا الله»! * * * لما ذهب الطبيب واستحكم اليأسُ وملأ قلوبَ الجميع: قلب الولد الخائف وأخيه المستأسد المتنمّر وأبيه وأمه، واستشعروا العجز ولم تبقَ في أيديهم حيلة وبلغوا مرتبة المضطر، مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، يطلبونه بلا سبب يعرفونه لأنها

قد تقطّعت بهم الأسباب. والله الذي يشفي بسبب الدواء والطب قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء. مدّوا أيديهم وجعلوا يقولون: «يا الله»، يدعون دعاء المضطر، والله يجيب دعوة المضطر ولو كان فاسقاً، ولو كان كافراً، ما دام قد التجأ إليه واعتمد عليه ووقف ببابه وعلّق أمله به وحده، يجيب دعوته إن طلب الدنيا، أما الآخرة فلا تُجاب فيها دعوته لأنه كافر لا يؤمن بالآخرة. هؤلاء الكفار لمّا دَعَوا الله مخلصين له الدين استجاب دعاءهم ونجّاهم إلى البر، بل هذا شر الخلق إبليس لمّا دعا دعاء المضطر فقال: «رَبِّ أنْظِرْني إلى يَومِ يُبعَثون» قال له: «إنّك من المُنْظَرين». ولو أمعنتم النظر في أسلوب القرآن لوجدتم أن الله لم يخبر في القرآن إخباراً أنه يجيب دعوة المضطر، لأن ذلك مشاهَد معلوم، ولكنْ ذَكَره حجةً على المشركين فقال: {أمَّنْ خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ وَأنْزَلَ لكُمْ مِنَ السّماءِ مَاءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُم أنْ تُنْبِتوا شَجَرَها؟ أإلهٌ مَعَ الله؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلون. أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وجَعَلَ خِلالَها أنْهَاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَينِ حاجِزاً؟ أإلهٌ مَعَ الله؟ بَلْ أكثَرُهُم لا يَعْلَمون. أَمَّنْ يُجيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السّوءَ، ويَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ؟ أإلهٌ مَعَ الله؟ قَليلاً ما تَذَكّرون}. يا أيها القراء، إنهم لمّا دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخفّ والزرقة تمّحي والألم يتناقص، ثم لم يمضِ يومان حتى شفيت

الرِّجْل تماماً. وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه. ستقولون: هذه قصة خيالية أنت اخترعتها وتخيلتها. فما قولكم إن دللتكم على صاحبها؟ إن هذا الولد صار مشهوراً ومعروفاً في الدنيا كلها وهو الذي روى القصة بلسانه، هذا الولد هو آيزنْهاور، القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ورئيس أميركا بعد ذلك. * * * وقد وقعت لي أنا حوادث رأيتها وعشتها، أو وقعت لمن كان حولي سمعتها وتحققت منها. سنة 1957 مرضت مرضة طويلة لخيانة من طبيب شاب شيوعي وضع لي جرثومة يسمونها «العصيّات الزرقاء» قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها التي لا يعرف مداها إلا من قاساها، فانضمّت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهدٌ بها. وقضيت في المستشفى، مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق ثم في مستشفى كلية الطب، بضعة عشر شهراً، أقيم فيه ثم أخرج منه ثم أعود إليه، وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين وينظرون ما فيه. فلما طال بي الأمر وضاق مني الصدر توجّهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين، الشفاء إن كان الشفاء خيراً لي أو الموت إن كان في الموت خير لي. وكان يدعو لي كثير ممّن يحبني، وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء. فلما توجهت ذلك اليوم إلى الله مخلصاً له نيتي واثقاً بقدرته على شفائي، سكن الألم وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل

يوم فإذا به قد صفا وزال أكثر ما كان فيه. وعجب الأطباء ودُهشوا واجتمعوا يبحثون، فقلت لهم: لا تتعبوا أنفسكم، فهذا شيء جاء من وراء طبكم. إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء. * * * ولما قدمت المملكة سنة 1382هـ أقمت سنة في الرياض (ثم جئت مكة فلبثت فيها إلى الآن)، وكان معنا فيها رجل من الشام لا أسميه، كان مقيماً في الرياض هو وأمه، فعرض له عمل اقتضى سفره إلى لبنان. وكرهت أمه هذا السفر لئلا تبقى وحدها، فلما حلّ موعده حمل ثقله (أي حقائبه وأشياءه) إلى المطار، فسلمه إلى الشركة وذهب إلى بيته على أن يأتي الفجر ليسافر. ورجا أمّه أن توقظه قبيل الفجر، فلم توقظه حتى بقي لموعد قيام الطيارة ثلاثة أرباع الساعة، فقام مسرعاً وأخذ سيارة وحث السائق على أن يبلغ به المطار ويضاعف له الأجر، وجعل يدعو الله أن يلحق بالطيارة قبل أن تطير. ولما وصل وجد أنه لا يزال بينه وبين الموعد ربع ساعة، فدخل المقصف وقعد على الكرسي فنام، ونودي من المكبر على ركاب الطائرة أن يذهبوا إليها فلم يسمع هذا النداء، وما صحا حتى كانت الطيارة قد علت في الجو! وكنت معه، فجعل يعجب كيف دعا الله بهذا الإخلاص دعاء المضطر ولم يُستجَب له. وجعلت أهوّن الأمر عليه وأقول له: إن الله لا يرد دعوة داع مخلص مضطر أبداً، ولكن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، والله أعلم بمصلحته منه. وأهمّه الغضبُ والحزن عن إدراك ما أقوله. أفتدرون ماذا

كانت خاتمة هذه القصة؟ لعل منكم من يذكر طيّارة شركة الشرق الأوسط التي سقطت تلك السنة وهلك من كان فيها. هذه هي الطيارة التي حزن على أنها فاتته! إن الإنسان قد يطلب من الله ما يضره، ولكن الله أرحم به من نفسه. وإذا كان الأب يأخذ ولده الصغير إلى السوق فيرى اللعبة فيقول: أريدها، فيشتريها له، ويبصر الفاكهة الجميلة فيوصله إليها، ويطلب الشكلاطة فيشتري له ما يطلبه منها، فإذا مرّ على الصيدلية ورأى الدواء الملفوف بالورقة الحمراء فأعجبه لونه فطلبه، هل يشتريه له وهو يعلم أنه يضره؟ إذا كان الأب وهو أعرف بمصلحة ولده لا يعطيه كل ما يطلب لأنه قد يطلب ما لا يفيده، فالله أرحم بالعباد من آبائهم ومن أمهاتهم. * * * وقد وقع لي مرة (وذكرت هذا في بعض أحاديثي من قبل) أن دعانا كبير أسرتنا، الدكتور طاهر الطنطاوي الذي توفي من زمن بعيد رحمة الله عليه، إلى جمع في بيته يضم أفراد الأسرة جميعاً، وأعدّ لهم مائدة وضع لهم فيها كل ما يلذ ويطيب وهيأ لهم كل ما يسرهم ويرضيهم. وذهبت إلى الاجتماع وكنت منشرح الصدر، فما لبثت فيه إلا نصف ساعة حتى ضاق صدري وأحسست كأن دافعاً يدفعني إلى الخروج وأنني إن بقيت اختنقت. واستأذنت بالانصراف فعجبوا مني، وكنت أنا أعجب من نفسي ولا أعرف سبباً لهذا الذي حلّ بي. وفسد الاجتماع وضاع ما كانوا يتوقعونه من المسرّة والانبساط وألقوا اللوم عليّ، وأنا أعذرهم ولا أدري لما فعلت سبباً. وكانت داره في سفح جبل

قاسيون في منطقة اسمها حي العفيف، وخرجت، ومرّ بي الترام وكان فارغاً، وهممت بأن أصعد إليه، ثم أحسست كأن يداً قوية تصدّني عنه وتمنعني من ركوبه، فمشيت على رجلي ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب. وثقوا أني أصف لكم ما وقع كأنه وقع بالأمس، وقد مرّ عليه الآن أكثر من ثلاثين سنة. ما مشيت إلا قليلاً، وكان الطريق مقفراً والليل ساكناً، فوجدت امرأة تحمل ولداً وتسحب بيدها ولداً، وهي تنشج وتبكي وتدعو دعاء خافتاً لم أتبينه. فاقتربت منها وسألتها: ما لك يا أختي؟ فنفرت مني وحسبتني أبتغي السوء بها. ونظرَت إليّ، فلما رأت أنني كهل وأنه لا يبدو عليّ ما تخشاه نفضَت لي صدرها وشرحت لي أمرها، وإذا قصتها أنها من حلب وأن زوجها يعمل موظفاً في دمشق، وأنه طردها من بيته وهي لا تعرف أين تذهب، وما لها إلا خال لا تستطيع الوصول إلى مكانه. فقلت لها: أنا أوصلك إلى بيت خالك، واذهبي من الغد إلى المحكمة فارفعي شكواك إلى القاضي. فازداد بكاؤها وقالت: وكيف لي بالوصول إلى القاضي وأنا امرأة مسكينة، والقاضي لا يستقبل مثلي ولا يستمع إليه؟ وكنت أنا يومئذ قاضي دمشق، فقلت لها: لقد استجاب الله دعاءك يا امرأة لأنك مظلومة، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وأنا القاضي، وقد استخرجني الله من بين أهلي وجاء بي إليك لأقضي إن شاء الله حاجتك، وهذه بطاقتي تذهبين بها غداً إلى المحكمة فتلقينني. * * *

ولما جئت مكة كنت أقعد مع طائفة من الإخوان كل يوم في موضع المكبّرية قرب سدّة المؤذنين، وكان يقعد معنا كهل كبير السن فلسطيني صالح لا يكاد يفارق المسجد، جاء مَحْرَماً مع بنت له وبنت أخيه. وكنت أستمع إلى حديثه وأحبه لأنه كان صافي القلب صادق اللهجة صالحاً، فانقطع عنا أياماً طويلة، وسألت عنه فلم أجد من يعرف مكانه أو يعرف اسم بنته أو بنت أخيه، ثم جاءنا يمشي على رجليه بعد خمسة عشر يوماً، فقلت له: أهلاً يا أبا فلان، أين كنت وما هذه الغيبة التي غبتها عنا؟ فقال: اسمعوا أحدثكم حديثي، وثقوا أنني إن شاء الله لا أقول غير الحق. لقد أصابني ألم في رجلي لم أعد أستطيع معه أن أجلس عليها، فضلاً عن أن أقوم واقفاً أو أن أخطو ماشياً. وبقيت على ذلك هذه الأيام كلها، والبنتان تخدمانني وتعتنيان بي حتى أحسست منهما بعض الضيق والملل، فتوجهت إلى الله وصرخت صرخة سُمعت من أقصى الدار: يا الله! يا رب، لا اعتراض على قضائك، ولكن لماذا لا تشفيني؟ (يقولها بلهجته العامية المخلصة) ألم أدعُك؟ ألم تقل يا رب ادعوني أستجب لكم؟ فها أنا ذا دعوتك فلماذا لم تستجب لي؟ وقال كلاماً طويلاً لا يخرج عن هذه المعاني. قال: وسمعتني البنتان -وكان ذلك وسط الليل- فقامتا من فراشيهما، وأقبلتا عليّ تتعجبان مني تقولان: مع من تتكلم؟ وكنت غائباً عن نفسي متوجهاً إلى الله بكل قلبي ومشاعري، فنبهني كلامهما وأرجعني إلى نفسي وإلى ما حولي، وأحسستُ كأنني صحوت من حلم، أو كأنني كنت أحلّق في الجو بلا جناح وأنني هبطت إلى الأرض،

وسكتّ وصرفتهما إلى منامهما. وكانت رجلي متصلبة لا أستطيع تحريكها، وإذا بها تتحرك، وإذا بالآلام التي كنت أجدها قد زالت كلها. وجربت أن أقعد فقعدت كالذي ليس به مرض، ثم حاولت أن أقوم فقمت ليس بي شيء. وكنا بضعة عشر رجلاً نستمع منه هذا الحديث، فما شكّ واحدٌ منا في صدق كلمة مما جاء فيه. وعندي من أمثال هذه الأخبار الكثير، وفي كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي التَّنوخي، بل إن في كتاب «دع القلق وابدأ الحياة» كثيراً من أمثالها. * * * والدعاء لا ينافي اتخاذ الأسباب، والله الذي جعل الشفاء بالدواء جعله أحياناً بمجرد الدعاء، لكن لا تَدْعوا تجريباً؛ تقولون: سننظر هل نستفيد من دعائنا أم نبقى على حالنا؟ فإن من شرط استجابة الدعاء أن تكون واثقاً منها. ثم إن الله لا يضيع دعوة داع أبداً؛ فإما أن يعطيه الذي يطلبه، أو يعطيه ما هو خير له منه، أو يدّخر الدعوة له في الآخرة. وإن في صيغ الدعاء صيغة أقرب إلى الإجابة من صيغة، وزماناً أرجى لها من زمان، ومكاناً أفضل من مكان، ولكن المدار كله أو جلّه على ارتباط القلب بالله وعلى إخلاص الدعاء له، وعلى أن لا تدعو معه غيره ولا تبتغي وسيلة إليه إلا بما شرع هو. والمسلم لا يدعو دعاء العاجز الخامل، بل يبتغي الأسباب كلها ويعمل كل ما أقدره الله عليه، ويمتثل إن كان مريضاً أمرَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قال: «يا عباد الله تداووا» (¬1). وإذا أراد الرزق طرق كل أبواب الكسب المباح، ثم يمدّ يديه فيسأل الله. فالدعاء هو السبب الأخير الذي لا يخيب إن خابت الأسباب، والرسول عليه الصلاة والسلام دعا يوم بدر وألحّ في الدعاء حتى سقط رداؤه عن منكبه، ولكنه أعدّ قبل ذلك الجند وصفّهم للمعركة وخطط لها، عمل كل ما يقدر عليه البشر ثم دعا الله. واعلموا أن الله جعل للحوادث أسباباً وفتح للمطالب أبواباً، فاطلبوا الأمور بأسبابها وادخلوا البيوت من أبوابها؛ فلا يقعد الطالب عن الدراسة ويطلب النجاح، ولا ينتظر الفلاح الحصاد من غير حرث ولا بذار، ولا ترقُب الأمة النصر بلا استعداد ولا جهاد، فإن الذي قال لنا: ادعوا، هو الذي قال لنا: اعملوا. ونحن نؤمن بالكتاب كله لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، والقدوة والأسوة في سيرة رسول الله وأكرم الناس على الله، صلى الله عليه وسلم. فمن استنفد الأسباب وغُلِّقت في وجهه الأبواب فليمدد يديه وليقل: «يا الله»، يجد اللهَ سميعاً مجيباً كريماً رحيماً، وما خاب قط امرؤ قال: «يا الله»! * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (مجاهد).

يا الله!

يا الله! حديث أذيع سنة 1962 (¬1) حدثتكم في الأسبوع الماضي حديث تلك الأسرة الأميركية التي أصيبت رِجلُ ولدها بالمرض حتى قضى عليها الطبيب بالقَطع، وقلت لكم إنهم لما استشعروا العجز ولم تبقَ في أيديهم حيلة مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، يطلبونه بلا سبب يعرفونه لأنها قد تقطّعت بهم الأسباب. فلمّا دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخفّ والزرقة تمّحي والألم يتناقص، ثم لم يمضِ يومان حتى شفيت الرِّجْل تماماً، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه. وأنا لا أقول: اتركوا المريض بلا دواء واسألوا الله له الشفاء. ولا أقول: دعوا النار تمشي في الدار، لا تصبّوا عليها دلوَ ماء واسألوا الله الإطفاء. ولا أقول: اقعدوا لا تطلبوا الرزق وانتظروا أن يهبط عليكم الذهب من السماء. ¬

_ (¬1) * هذا هو حديث الاستسقاء الذي أذيع من إذاعة دمشق يوم الجمعة 21/ 10/1960، وقد سبقه حديث وأعقبه حديث أشار إليهما جدي -رحمه الله- في ذكرياته المنشورة ونقل فقرات منهما (انظر الحلقة 157 في أول الجزء السادس)، أما هذا الحديث فلم يُنشَر منه قبل اليوم شيء قط (مجاهد).

لا، بل اتخذوا الأسباب كلها واعملوا ما استطعتم، ولكن اعلموا أن الأسباب لا تخلق النتيجة؛ فقد تُحضر لمريضك مَهَرة الأطباء وتشتري غالي الدواء فلا يشفى، ويشفى مريضٌ مثله بلا عناية ولا علاج. وتُعِدّ لأولادك أطيبَ الطعام فلا يهضمونه ولا يستفيدون منه، ويصحّ أولاد الفقراء وهم لا يأكلون إلا الخبز والبصل. وقد تفتح الدكانَ وتعد فيها أجود الأشياء وتبيع بأرخص الأسعار وتتخذ لذلك ألوان الدعاية والإعلان، فلا تربح إلا ألفاً، ويقع جارك على صفقة عارضة فيربح منها عشرة آلاف بلا دعاية ولا إعلان. ذلك أن وراء الأسباب إرادةً عليا تصرّف هذا الكون، هي إرادة الله؛ فأنت حين تدعو الله تقول: يا الله، أنا عملت ما عليّ ولكن النفع والضرر بيدك وحدك، أنت إن شئت تجعل الدواء شافياً، وأنت تجعل إن شئت الطعام نافعاً، وأنت الرازق وأنت النافع، فاكتب لي النجاح وأجب السؤال. فالأسباب لا تُنكَر، ولكن الدعاء هو أقوى الأسباب. فإذا وصل الداعي إلى منزلة الاضطرار ويئس من الأسباب، وقنط من الخلق وعلق أمله بالله وحده، فإن الله يستجيب له كما استجاب لهذه الأسرة الأميركية. قال تعالى: {أمَّنْ يُجيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السّوءَ ويَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ؟ أإلهٌ مَعَ الله؟ قَليلاً ما تَذَكّرون}. يجيب المضطرَّ ولو كان كافراً، فلقد كان المشركون إذا ركبوا البحر وغَشِيهم موجٌ كالظُّلَل يدعون الله دعوة المضطر فيستجيب الله دعاءهم وهم مشركون، بل إن إبليس نفسه

لما دعا الله ربَّه دعوة المضطر فقال: «ربّ أنظرني إلى يومِ يُبعَثون» قال: «إنك من المنظَرين»! * * * فيا أيها السامعون، إن سُدَّت الطرق أمامكم وضاقت عليكم الأرض فإن طريق السماء لا يُسَدّ أبداً، وإنّ كرم الله لا يضيق بسائل. وإذا كانت أبواب الملوك عليها الأقفال والحُجّاب فباب ملك الملوك مفتوحٌ دائماً. وإذا رأيتم أنهارَكم قد صارت سواقي وجنّاتكم أوشكت أن تغدو صحاري، وينابيعكم شحّت بالماء ومواشيكم هلكت من العطش، ورأيتم أنكم في تشرين والجوّ كأنه جوّ آب ما في السماء قطعة سحاب، فلا تقنطوا ولا تيأسوا، واعلموا أنه ليس بينكم وبين الفرج إلا أن تَمُدّوا أكفَّ الضراعة وتتوجهوا إلى الله بقلوب قد أخلصت التوبة وصدقت التوجّه وتقولوا: يا الله. كلما دهمكم خَطْبٌ وابتغيتم المعونة فقولوا: «يا الله». وكلما أصابتكم شدة وفقدتم المساعد فقولوا: «يا الله». قولوا: «يا الله» تُحسّوا بأن قلوبكم قد غمرها الاطمئنان وبأن نفوسكم قد عاد إليها الأمل. ولكن لا تقولوها وأنتم مقيمون على المنكرات، تعصون الله وتنادون: يا الله! ولا تقولوها وأنتم ظالمون آكلون لحقوق الناس، ولا تقولوها تجربة لربكم، كما قال لي أمس أحد المشايخ: ألا تخاف أن نخرج إلى الاستسقاء ونحن علماء البلد، فلا ينزل المطر فيشمت الناس بنا؟ فقلت له: أرجو ألاّ تخرج، لأن الله لن يستجيب دعاءك ولا حاجة لنا بخروجك!

إننا نريد ناساً يخرجون معنا الجمعةَ القادمة للاستسقاء وهم يعلمون أنهم يُحيون سنّة ويقومون بعبادة، لا يفكرون بجاه ولا منزلة ولا يبالون بالناس. ولذلك كان من سنّة الاستسقاء أن يكون الخروج بالثياب العتيقة التي ليس فيها أناقة ولا مفاخرة، المقصود من ذلك أن نطرح الأنانية وحب الجاه ونخلص النية لله. علينا أن ندعو ونتضرع، أما نزول المطر فبيد الله وحده، إن أنزله علينا فبرحمته لا بعملنا، وإن منعه فبذنوبنا وبهذه المنكَرات الفاشية فينا. أفما سمعتم بحادثة بورسعيد التي روتها الجرائد كلها ومشى بحديثها الركبان؟ حين أشعل المستعمرون (أيام العدوان) الحرائق، وانحصرت فئة من المجاهدين في بقعة أحاطت بها من أطرافها كلها النار وعزّ منها الفرار، وأكلت النار كل شيء حتى التهبَ زفتُ الشارع ووصلت إليهم. وكان فيهم نفر قلائل سبّوا وشتموا، ولكن الأكثرين رجعوا إلى الله لمّا رأوا الموت، ورفعوا أعينهم إلى السماء حين قطعوا الأمل من الأرض، ونادوا نداء المضطر من قلوب قطعت علائقها بكل شيء ووصلتها بالله، يجأرون ينادون: يا الله! وكان الصيف وكانت الشمس ساطعة زرقاء، فما هي إلا أن ضجّوا بالدعاء حتى تلبّدت السحب وهطلت الأمطار كأفواه القِرَب، وأطفأ الله النار. أنزل الله المطر لمّا دعوا بإخلاص واثقين من الإجابة. أمّا الذي يقول مثل الذي قال لي الشيخ أمس، لا يهمّه إلا الناس وأقوال الناس، فليطلب المطر من الناس. * * *

إن كل إنسان يعود في ساعة الخطر مؤمناً، لأن الإيمان مستقر في كل نفس؛ عندما تغرق السفينة وتبقى وحدك على لوح من الخشب بين السماء والماء لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله»! وعندما تضلّ في الصحراء المقفرة ويحرق العطش جوفك، وترى الموت من كل مكان لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله»! وعندما يُزمِن المرض ويشرف المريض وينفض الأيدي الأطباءُ لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله»! وعندما تتعاقب سنوات القحط ويمتدّ انقطاع المطر وتغور الآبار وتشحّ العيون لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله»! هنالك لا يبقى إلا الله، وهنالك ينسى الملحدُ إلحادَه والماديّ ماديتَه ويقول الجميع: يا الله! ولكن لا تنتظروا ساعة الخطر لترجعوا إلى الله، فقد جاء في الحديث أن مَن دعا الله في الرخاء يستجيب له في الشدة. وإن على الداعي أن يدعو وهو واثق من الإجابة، فإن الله إن لم يعطِه ما سأل أعطاه غيره، والمرء لا يعرف مصلحته وقد يدعو بما فيه مضرّته، كالولد الذي يرى الدواء فيقول لأبيه: أريد منه. فالأب لمعرفته بمصلحته ورحمةً به لا يعطيه ما يضره. والله أرحم بعباده من الأب بولده، لأن الأب إذا سبّه ولده أو أساء إليه قطع عنه رِفْدَه وأعرض عنه، والبشر يسبّون الدين ويكفرون بالله وهو يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم كل خير. فإذا دعوتم ولم تجدوا الإجابة فلا تيأسوا؛ فإن الله أعرف بما يصلحكم. * * *

فيا أيها الناس، اكدحوا في الحياة واسعوا وجِدّوا وغامروا في هذه الدنيا وسابقوا الأمم، ولكن لا تعتمدوا على أنفسكم وحدها ولا تقطعوا الصلة بالله، بل كونوا معه دائماً، كونوا معه باتّباع أوامر الشرع، واجتناب المحرَّمات، وستر العورات، وابتغاء الصالحات. كونوا كمن يخترق الصحراء بسيارته أو يقتحم الجوّ بطيارته أو يركب مَتن الموج بسفينته، يعتمد على نفسه وخبرته ودقة آلاته، ولكنه لا يرفع سماعة اللاسلكي عن أذنه، حتى إذا ضلّ أو خاف استنجد بمَن يهديه أو يحميه. واللاسلكي عندكم هو الدعاء. ولكن لا تَدْعوا دعاء الكسالى الخاملين الذين يقعدون عن اتخاذ الأسباب ويتمنون على الله الأماني، ولا دعاء القوّالين الكذّابين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والذين يريدون بدعائهم إعجاب الناس وإظهار سعة الحفظ وكثرة العلم. إن الدعاء الذي هو «لاسلكيّ» الأمان هو ما يصدر عن قلب حاضر ولسان صادق وثقة من الإجابة، أما الدعاء باللسان فقط -مهما كان الداعي جيد اللفظ بليغ العبارة واسع المحفوظ- فهو كمن يتكلم في سماعة الهاتف كلاماً جميلاً جيداً، ولكن الشريط مقطوع! * * *

فطرة الإيمان

فطرة الإيمان نشرت سنة 1967 جاءني يوماً رجل أعرفه رقيق الدين، فقال لي: لقد أصابني البارحةَ مغصٌ موجِع جعلت أتلوّى من ألمه وحسبت أن أمعائي تقطعت منه، فرجعت إلى الله، فتبت من ذنوبي وعزمت على ألاّ أعود إليها. ومثل هذا يقع لكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم وعجز الطبيب؛ يعودون إلى ربهم ويُقبلون على عبادتهم. فهل سألتم أنفسكم: ما السبب في هذا وأمثاله؟ لماذا نجد كل مَن وقع في شدة يرجع إلى الله؟ نذكر جميعاً أيام الحرب الماضية والتي قبلها (¬1) كيف كان الناس يُقبلون على الدين ويلجؤون إلى الله، والرؤساء والقوّاد يَؤمّون المعابد ويَدْعون الجنود إلى الصلاة. ولقد قرأت في مجلة «المختار» (المترجَمة عن مجلة دايجست الأمريكية) مقالة نُشرت أيام الحرب لشاب من جنود المظلات -يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئاً جديداً- يروي قصته فيقول إنه نشأ في بيت ليس ¬

_ (¬1) يريد الحربين العالميتين (مجاهد).

فيه من يذكر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين ولا مدرّس متدين، ونشأ نشأة «علمانية» مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والسّفاد، ولكنه لمّا هبط أول مرة ورأى نفسه ساقطاً في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة جعل يقول: «يا الله، يا رب» ويدعو من قلبه. وهو يتعجب: من أين جاءه هذا الإيمان؟ وبنت ستالين نشرت من أيامٍ مذكراتها، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين وقد نشأت في غمرة الإلحاد، وتعجب هي نفسها من هذا المَعاد. وما في ذلك عجب؛ فالإيمان بوجود الله كامن في كل نفس. إنه فطرة (غريزة) من الفِطَر البشرية، والإنسان «حيوان ذو دين». ولكن هذه الفطرة قد تغطّيها الشهوات والرغبات والمطامع والمطالب الحيوية المادية، فإذا هزتها المخاوف والأخطار والشدائد ألقت عنها غطاءها فظهرت. ولذلك سُمّي غير المؤمن «كافراً»، ومعنى الكافر في لسان العرب «الساتر». ولقد وجدت تأييد هذه الفكرة في كلمتين متباعدتين في الزمان والمكان والظرف والقصد، ولكنهما متقاربتان في المعنى. كلمة لعابدة مسلمة تقية معروفة هي رابعة العدوية، وكلمة لكاتب فرنسي ملحد معروف هو أناتول فرانس. أناتول فرانس يقول في معرض كفره وإلحاده إن المرء يؤمن إذا ظهر بنتيجة فحص البول أنه مصاب بالداء السكري (يوم لم يكن قد عُرف الأنسولين). ورابعة قيل لها: إن فلاناً أقام ألف دليل على

وجود الله. فضحكت وقالت: دليل واحد يكفي. قيل: وما هو؟ قالت: لو كنت ماشياً وحدك في الصحراء وزُلّت قدمك فسقطت في بئر لم تستطع الخروج منها، ماذا تصنع؟ قال: أنادي «يا الله». قالت: ذاك هو الدليل. في قرارة نفس كل إنسان الإيمان بالله؛ هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين لأن الله خبّرنا أن ذلك فطرة فطَرَ الناسَ عليها، وقد عرفها الإفرنج من جديد. دوركايم، أستاذ الاجتماع الفرنسي المشهور، له كتاب في أن الإيمان بوجود إله بديهية. هل تعرفون ما البديهية؟ هي القضية التي لا تحتاج إلى دليل لأن كل العقول على اختلاف الأزمنة والأمكنة تقول بها. «الجزء أصغر من الكل»، هذه بديهية. مَن يشك أن الرغيف أكبر من نصف الرغيف؟ الطفل إذا أخذتَ منه قطعة حلوى وأعطيته نصف قطعة يبكي، إنه يعرف أن الجزء أصغر من الكل لأنها بديهية. وكذلك وجود الله؛ لا يمكن أن يعيش الإنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون. ربما يقصر عقله فلا يهتدي إلى المعبود بحق فيعبد من دونه أشياء، ولكنه يعبدها على توهّم أنها هي الله أو أنها تقرّب إلى الله، ثم إذا جَدّ الجِدّ وكانت ساعة الخطر رجع إلى الله. مشركو قريش كانوا يعبدون هُبَل واللات والعُزّى. أتعرفون ما هُبل؟ صنم من العقيق جاء به عمرو بن لحيّ من الشام، من

الحِمّة التي فيها الينابيع المعدنية (¬1)، قالوا له إنه عظيم قادر فحمله على جمل وجاء به، فسقط على الطريق فانكسرت يده فعملوا له يداً من ذهب. إله تنكسر يده! وكانوا مع ذلك يعبدونه. يعبدونه في ساعات الأمن، فإذا ركبوا البحر وهاجت الأمواج ولاح شبح الغرق لم يقولوا: يا هُبَل، بل قالوا: يا الله. وهذا مشاهَد إلى اليوم؛ عندما تغرق السفن أو تشب النيران أو يكون الخطر أو يشتد المرض، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين. لماذا؟ لأن الإيمان غريزة، وأصدق تعريف للإنسان أنه «حيوان مؤمن». وانظروا إلى هؤلاء الملحدين الماديين عندما يأتيهم الموت. هل تظنون أن ماركس ولينين لمّا أيقنا بالموت دَعَوا «وسائل الإنتاج» التي يؤلّهانها أم دَعَوا الله؟ ثقوا أنهما لم يموتا حتى دعوا الله، ولكن حين لا ينفع الدعاء. وفرعون تكبر وتجبر وقال: أنا ربكم الأعلى! فلما أدركه الغرق قال: آمنتُ بالذي آمنَت به بنو إسرائيل. آمن في الساعة التي لا يفيد فيها الإيمان. * * * قالوا: «الطبيعة»، الطبيعة أوجدت الإنسان، الطبيعة وهبت الغريزة للإنسان. قلنا: ما الطبيعة؟ كلمة «الطَبيعة» في اللغة معناها ¬

_ (¬1) والتي أخذها اليهود بعد حرب الثلاثة الأيام.

«مطبوعة» (¬1)، فمَن طبعها؟ قالوا: الطبيعة هي المصادفة، قانون الاحتمالات. هل تعرفون ما مثال هذا الكلام؟ إنه مثال اثنين ضاعا في الصحراء، فمرّا على قصر كبير عامر، فيه الجدران المزخرفة المنقوشة والسجاد الثمين والساعات والثُرَيّات. فقال الأول: إن رجلاً بنى هذا القصر وفَرَشه. فردّ عليه الثاني وقال: أنت رجعي متأخر، هذا كله من عمل الطبيعة. قال: كيف كان بفعل الطبيعة؟ قال: كان هنا حجارة فجاءها السيل والريح والعوامل الجوية فتراكمت، وبمرور القرون وبالمصادفة صارت جداراً. قال صاحبه: والسجاد؟ قال: أغنام تطايرت أصوافها وامتزجت، وجاءتها معادن ملوِّنة فانصبغت، وتداخلت فصارت سجّاداً. قال: والساعات؟ قال: حديد تآكل بتأثير العوامل الجوية وتقطع وصار دوائر وتداخل، وبمرور القرون صار على هذه الصورة. ألا تقولون: إن هذا مجنون! * * * يا سادة، إن الإيمان بالله موجود في قرارة كل نفس، ولكن هل يكفي أن نعتقد بوجود الله وأنه خالق كل شيء لنكون مؤمنين؟ إذا جاءك إنسان يقول إنه يؤمن بأن الله هو رب العالمين وهو خالق كل شيء وهو الذي تقوم به الكائنات كلها، هل تعده مع المؤمنين؟ ¬

_ (¬1) وزن «فَعيل» يأتي بمعنى «مفعول»، مثل قَتيل (بمعنى مقتول) وجَريح (بمعنى مجروح)، إلخ (مجاهد).

إن العرب الذين كانوا في مكة والذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسفّهَ عقائدَهم والذين سمّاهم القرآن مشركين كانوا يؤمنون بذلك، ويعترفون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله. فلو كان هذا الاعتراف يكفي وحده لكانوا مؤمنين لا مشركين. فإذا جاءك هذا الإنسان يقول لك إنه يؤمن أيضاً بأن الذي يملك الموت والحياة ويتصرف في هذا الكون، ويعطي ويمنع ويضر وينفع، هو الله. هل تقول إنه صار من المؤمنين؟ لا، بل لا بد من شرط ثالث؛ هو أن يسلك سلوكاً يوافق هذا الإيمان، فتكون عبادته لله وحده، لا يشرك معه أحداً فيها ولا يجعل وسيطاً يعبده معه ليقربه إليه. قال تعالى: {قُل أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ، مَلِكِ النّاسِ، إلهِ النّاس}. لقد علمني الله في تفسير هذه السورة معاني لم أجدها في كتاب من كتب التفاسير؛ هي أن الله قال {رَبّ الناس}، {مَلِك النّاس}، {إله النّاس}، ما قال: رب الناس وملكهم وإلههم، إشارة إلى أنها ثلاث حقائق، كل حقيقة قائمة بذاتها مستقلة عن الأخرى، وكلها حق وصدق، وأنتم -يا معشر قريش- تؤمنون بأنه رب الناس وأنه ملك الناس، ولكنكم ترفضون أن تؤمنوا بأنه إله الناس. فلماذا تفرّقون بين قضايا متماثلة؟ إنها حقائق ثلاث سواء في الثبوت والصحة، فلماذا تصدقون باثنتين منها ولا تصدقون بالثالثة؟ مع أن مَن آمن بأن الله رب الناس وملك الناس لزمه لزوماً عقلياً أن يؤمن بأنه إله الناس، فلا يتخذ معه إلهاً غيره ولا يوجّه إلى غيره قليلاً أو كثيراً من معاني العبادة ومظاهرها.

ولعلي أعود -إن شاء الله- إلى عرض المعاني التي انجلت لي عند تلاوة هذه السورة، التي لا يتنبّه لروائع معانيها إلا الأقل الأقل من العلماء (¬1). وما أقول هذا فخراً ولا ادّعاء، فما أنا إلا طالب علم صغير، ولكن الله ربما منّ على الصغير فكشف له ما يخفى مثله على العالم الكبير. * * * ¬

_ (¬1) تفسير هذه السورة وغيرها (كالفاتحة والعصر والإخلاص والفلق والتكاثر) ستكون بين أيدي القراء حينما يصدر كتاب «نور من القرآن» إن شاء الله (مجاهد).

عبرة السيرة

عبرة السيرة نشرت سنة 1938 إن مئة ألف قارئ في مشارق الأرض ومغاربها سيأخذون غداً العدد الممتاز من «الرسالة» وسيقرؤونه، وسيحيي في نفوسهم هذه الذكرى العظيمة المحبوبة التي نقف عندها في كل رأس عام هجري كما يقف المُصْحِر في واحة مخضَرّة ظليلة، ننشق منها عبير المجد ونتسمّع أغاريد النصر، ونجتلي في طلعتها طيف الأيام الباسمة التي كان من قُطوفها ألف معركة ظافرة حملت غارَها الرايةُ الإسلامية، وألف مدرسة وألف مكتبة نالت فخارَها وجنت ثمارَها البلادُ الإسلامية، وكان من حصادها هذه الحضارة التي نعمت في أفيائها الإنسانية، وكانت إحدى الحضارات العالمية الثلاث، بل كانت أسماها -من غير شك- وأحفلها بالعظمة والفضيلة والحق. نقف كل عام لنُحْيي ذكرى الهجرة ونُحَيّيها، فنكتب فيها ونقرأ ونذكر ونتأمل، ونرتفع على جناح هذه الذكرى إلى جوّ عالٍ من العظمة والفضيلة والشرف نبقى فيها ما بقي المحرَّم، فإذا مرّ مر معه كل شيء: صوّحت الآمال وهجعت الذكريات، وعدنا نتخبط في سواد اللجّة؛ لا نربح من هذه الذكرى إلا ما

يسيل على أقلام أولئك الأعلام البلغاء من طرائف البيان يحويها عدد «الرسالة» الممتاز، ولا نفيد من المحرَّم إلا ما قد نقرؤه في الصحف والمجلات من القصص والقصائد والمقالات. وكثيرٌ مما يُكتب في العدد الممتاز وبعضٌ مما ينشر في الصحف والمجلات قيّم ثمين، نعتدّه ثروةً جديدة تُضَمّ إلى آدابنا الغنية الحافلة بثمرات القرائح الخصبة الممرعة في الأعصار الطويلة، ولكن ذلك لا يكاد يجدي علينا في نهضتنا إذا نحن لم نُحيِ هذه الذكرى إحياءً، ونكتبها مرة ثانية على صفحات الوجود، ونأخذ منها عبرة تنفعنا في نهضتنا. وهذا ما أنشئ له العدد الممتاز، وهذا ما يُراد من إصداره. وفي هذه السيرة من القوة والسموّ والحياة ما يغذّي عشرين نهضة ويَمُدّها بالقوة، لا تدانيها في هذا سيرةٌ في التاريخ ولا تشبهها؛ بل إن هذه السيرة أعجوبة التاريخ ومعجزته، وهي خيال بالغت الدنيا في تزيينه وتزويقه وأودعته مُثُلها العليا كلها، فجعله الله حقيقة واقعة. ولقد قرأت هذه السيرة مراتٍ اللهُ أعلم بعددها في كتب لا أكاد أحصيها، ثم عدت اليوم أقرؤها لأجد في ثَنِيّة من ثناياها قصة مطوية أو حادثة مختبئة أبني عليها فصلاً أكتبه للعدد الممتاز، وفي ظني أني لن أسير في قراءتها إلا قليلاً حتى أملّها وأعزف عنها، لأني لا أجد فيها -وقد قرأتها حتى حفظتها- خبراً جديداً. وأقسم أني لم أَسِرْ فيها غيرَ قليل حتى أحسست بلذة فنية تمتلك عليّ أمري وتستأثر بنفسي، كاللذة التي أحسها عندما أقرأ الأثر الأدبي البارع لأول مرة، وتغلبني حتى تضطرني أحياناً إلى قطع القراءة

لأمسك بقلبي الواجب أو أمسح عيني المستعبرة، أو أصغي إلى صوت الحق في ضميري ومنادي الفضيلة في قلبي. ثم أسير فيها، فأنتقل من اللذة الفنية والشعور بالجمال إلى شيء أعلى من الفن وأسمى من الجمال؛ أحس بحلاوة الإيمان. وإن للإيمان لَحلاوة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، فمن عرف درى ما أقول، ومن جهل لم يرَ إلا حروفاً فارغة من المعنى. وإذا جاء الإيمان جاءت معه البطولة بأروع أشكالها والتضحية بأعجب أنواعها، وجاء معه الصبر والإيثار والقوة والشعور وكل فضيلة من فضائل البشر، وكذلك كانت حياة أصحاب هذه السيرة. كانت حياةً أسمى وأجمل من كل حياة عرفتها أو قرأت عنها أو تخيلتها: معرفة للغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وجهاد في سبيل هذه الغاية، وجري على هذا الجهاد، وترفّع عن خُدَع الحياة وألاعيبها، واتصال بالله يكاد والله يرفعهم من رتبة الإنسانية إلى رتبة الملائكة، ويخرج بهم من ثوب الجسم المادّي حتى يكونوا روحاً خالصاً. عرفوا ما هي الغاية من الحياة وفهموها، على حين جهل الناس هذه الغاية فهم يسألون أبداً: لماذا نعيش؟ أو خُدعوا عنها بغايات دنيئة قريبة. أما هؤلاء الغربيون فحسبوا أن الغاية من الحياة هي الحياة. جعلوا السبب هو المسبَّب والوسيلة هي الغاية، فعمدوا إلى ترفيه الحياة واستخدموا لأجل ذلك ما قدروا عليه، فصارت حضارتهم آلية جامدة، وصاروا لطول ما اشتغلوا بالحديد والنحاس يفكرون بعقول من حديد ونحاس، وانقطعت صلتهم

بالروح وانبَتّوا مما وراء المادة. وأما هؤلاء المشرقيون، من الهنود وأمثالهم، فساروا على الضد وأهملوا الجسم وعاشوا للروح، فظنوا بأن غايةَ الحياة الفناءُ في المطمح الروحي، فقتلوا أجسامهم وأعرضوا عن دنياهم، وأغرقوا أعمارهم في تأمل لا أوّل له ولا آخر، ولا جَدا منه ولا منفعة. أما الفلاسفة فكان منهم الماديون الذين بلغ من رقاعتهم أن أنكروا الروح إنكاراً وجحدوا الله، وقال متكلمهم: إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبدُ الصفراءَ. فجعل الفكرَ مادة سائلة! ومنهم الروحيون الذين كانوا أصحّ نظراً وأدنى إلى الحق، ولكنهم لم يصلوا إليه، تساءلوا منذ بدؤوا يفكرون: لماذا نعيش؟ ولا يزالون مختلفين يتساءلون هذا السؤال الذي عرف المسلمون وحدهم جوابه حين قرؤوا قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدونِ}. استدّل المسلمون بالمخلوق على الخالق، وأرشدهم الله إلى عظمة هذا الكون (المكوَّن) فعرفوا منها ما لم يعرفه أصحاب الفلك من العلماء الماديين. غايةُ ما يعرف هؤلاء أن بيننا وبين الشمس كذا وأنها أكبر من أرضنا هذه بكذا، وما بين مشرق نجم منها ومغربه أضعاف أضعاف ما بين الشمس والأرض، وغاب عنهم ما بَعُدَ من النجوم ووقفت دون رؤيته نظّاراتهم ومكبّراتهم وعجزت عن الإحاطة به عقولهم وتصوراتهم، فسمّوه فضاءً غيرَ مُتَناهٍ. كما يظن الطفل أن البحر لا ينتهي وليس له آخر! وهل شيء ليس له آخر إلاّ مَن هو الأول والآخر؟ * * *

أما المسلمون فعرفوا أن وراء هذا الفضاء مخلوقاً عظيماً، يحيط به كالسقف المرفوع، تهون عنده هذه الكواكب العظيمة وتَضْؤُل لأن له من الكِبَر والجلال ما لا نجد في لغتنا هذه التي وُضعت لهذه الأرض الحقيرة كلمةً تدل عليه؛ هذا المخلوق هو السماء الدنيا، ومن فوقها ستّ سماوات أخرى طِباقٌ بعضها فوق بعض، ومن فوقها أشياء أجلّ وأكبر لا تكاد هذه السماوات تُعَدّ -إذا قيست بها- شيئاً؛ هي العرش والكرسي، وهناك الجنة، عرضها السماوات كلها والأرض. هذه هي المخلوقات التي كانت بكافٍ ونون، فما ظنك بالمكوِّن الباقي؟ ومن عرف هذا الجلال للمخلوق كيف يكون إجلاله للخالق؟ وهل يجد لحياته غاية إلا الاتصال به وعبادته؟ وهل يقف به عقله وهمّته في هذه الأرض؟ أي شيء هي الأرض في هذا الكون؟ ما هي في جَنْب الله؟ فهموا عقيدة القضاء والقدر أصحَّ فهم وأجودَه. وعقيدةُ القدَر محنة العقل البشري، تَزِلّ فيها العقول الكبيرة وتَضِلّ المدارك العالية، فكان فهمهم إياها أعونَ شيء لهم على ما وُفِّقوا إليه من عمل وأمضى سلاح بلغوا به ما بلغوا من ظفر؛ علموا أن كل شيء بخلق الله وبعلمه، ولكن الله لم يَضطرَّ أحداً إلى الخير اضطراراً ولم يجبره على الشر إجباراً، وإنما أعطاه العقل المميِّز ودلّه على الطريقين المختلفين، وقال له: هذا إلى الجنة والسعادة وهذا إلى النار والعذاب، وتركه وعقله. وأنه قدّر الأرزاقَ فلا زيادة ولا نقصان، وحدد الآجال فلا تقديم ولا تأخير، فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوّتك؛ وإذا جاء

أجلك فلا تستأخر لحظة ولا تستقدم، رُفِعت الأقلام وجَفّت الصحف. فمضوا لا يهابون الموت في سبيل الله ولا يخافونه، لأنهم آمنوا بأن المرء ليس أدنى إلى الموت وهو في غمار المعركة الحمراء منه وهو في بيته بين أهله وولده. ولكن المسلمين الأولين لم يُلقوا بأيديهم إلى التهلُكة اعتماداً على أن الأجل محدود، ولم يُعرضوا عن سنن الحياة التي لا تجد لها تبديلاً، بل اتبعوا قوانين الوجود وساروا على نهج الحق، وحرصوا على الحياة حين يكون الواجب داعياً إلى الحياة، ورضوا بالموت حين يدعوهم الواجب إلى الموت، ولم يعرفوا هذا التوكل السخيف فيناموا ويتقاعسوا عن العمل، لأنهم علموا أن السماء لا تُمطر ذهباً ولا فضة ولكن الله يزرق الناس بعضهم من بعض. وقرؤوا في القرآن قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله: {فإذا عَزمْتَ فتَوَكّلْ عَلى الله}، فعزموا على العمل وتوكلوا فلم يتكاسلوا عنه، ولم يتكالبوا على الدنيا، وجدّوا كل الجدّ ولكنهم لم يطلبوا شيئاً إلا من طريقه المشروع، وعملوا لدنياهم كأنهم يحيون أبداً ولكنهم عملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غداً. عرفوا هذه العقيدة على وجهها فكانوا أعزَّ الناس على الناس، ولكنهم كانوا أذلّهم لله وللمؤمنين. وكان منهم أزهد الناس وهو أغناهم لأن المال كان في يده لا في قلبه؛ وكان منهم الملك الزاهد والعالم الغني والفقير العزيز، وما شئت من خصلة من خصال الخير إلا وجدتها فيهم. كانوا إذا قرؤوا في الصلاة قوله تعالى: {إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ

نَسْتَعينُ} كانوا صادقين، لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا به؛ لا يسألون غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعينون بالأموات الذين عجزوا عن معونة أنفسهم. لقد قرأت السيرة وتلوت القرآن فلم أجد في القرآن إلا أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر في تركيب جسمه وصحته ومرضه وطبيعة فكره وخطئه وصوابه، ولكن الله اختاره للرسالة الكبرى فعصمه من كل ما يُدخل الخطأ على الرسالة أو يؤدي إليه أو يشين الرسول، فكان صادقاً مصدَّقاً، لا ينطق عن الهوى ولا يقول إذا بلّغ عن ربه إلا الحق، ولا يشرّع من الدين إلا ما أذن به الله. وكان منزَّهاً عن الذنوب والمعايب التي لا يليق بصاحب الرسالة أن يتصف بها، فإذا جاوز الأمر تبليغ الرسالة وما يتصل بالدين إلى أمور الدنيا فهو بشر يخطئ ويصيب، وإن كان من أكثر الناس صواباً وأقلهم غلطاً لأنه كان أكمل الناس عقلاً وأثقبهم بصيرة. وما دام بشراً فإنه يموت إذا جاء أجله، وإنه الآن ميت ليس حياً في قبره كما يظن الجَهَلة من العوام وأشباه العوام، وقد قال الله ذلك في كتابه وقاله أبو بكر صاحب الرسول وصدّيقه على منبر الرسول في مسجده بحضرة أصحابه وعترته. أما الذي قاله عمر ساعةً من نهار فإنما كان مصدره الألم المفاجئ والحب الطاغي على الفكر، فلما سمع من أبي بكر ما سمع لم تحمله رجلاه فسقط. قرأت السيرة من ألفها إلى يائها فلم أجد أحداً من المسلمين دعا الرسول أو لجأ إليه إذا حاق به الخطب الذي لا يقدر البشر على دفعه، وإنما كانوا يلجؤون إلى الله ويدعونه، لا يقولون مقالة البوصيري:

يا أكرم الرُّسْل، ما لي مَن ألوذ به ... سواكَ عند حُلول الحادث العَمَمِ ولا قول الآخر يخاطب عبد الله ورسوله بهذا الخطاب الذي لا يخاطب به مؤمنٌ إلا الله وحده: يا أكرم الرسل على ربه ... عجِّلْ بإذهابِ الذي أشتكي ... فإنْ تأخّرْتَ فمَن أسألُ؟ لا يدري مَن يسأل إذا تأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذهاب الذي يشتكي وهو يقرأ كل يوم سبع عشرة مرة (على أقل تقدير): {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نستعين}! ولم أجد صحابياً لجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته يستشيره في أمر أو يراه في منام فيبني على رؤياه حكماً ويأخذ منها علماً، ولقد اختلفوا على الخلافة والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مسجَّىً في بيته لم يُدفَن، فما فكروا أن يلجؤوا إليه وأن يستشيروه. وهل يُستشار الميت؟ صدّقوا بإمكان المعجزات والكرامات، وهي ممكنة والإيمانُ بإمكانها من أصول الدين، ولكنهم لم يكونوا يفهمونها على نحو ما نفهمها اليوم. ولم أجد للصحابة -وهم أفضل المسلمين- مثل هذه الكرامات التي نقرأ حديثها ونسمعه كل يوم! ووجدت كتب السيرة كلما تأخر بها الزمن زادت فيها أحاديث المعجزات حتى بلغت هذه الموالد العامية، مولد البرزنجي وشبهه، التي جاء فيها ما نصه: "ونطقت بحمله صلى الله عليه وسلم كل دابة لقريش بفصيح الألسن القرشية"، "وتباشرت

به وحوش المشارق والمغارب"، "وحضرت أمَّه ليلةَ مولده آسيةُ ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية"! * * * وقرأت السيرة كلها ودقّقت في كل سطر منها فما شممت رائحة اختلاف بين المسلمين، لا في العقيدة ولا في المذهب ولا في الطريقة، وإنما المسلمون كلهم إخوة في أسرة واحدة عقيدتهم واحدة، عقيدة بلغت من الوضوح واليُسر والبساطة إلى حيث لا تدع مجالاً لاختلاف. وهل يُختلَف في أن الواحد يساوي الواحد؟ هذه هي عقيدتنا، ولكن المتكلمين أدخلوا فيها مسائل ليست من العقيدة في شيء، وملؤوا بها كتبهم التي عقّدوا فيها هذه العقيدة حين حشوها بحكاية كل مذهب مخالف والرد عليه. وجئنا نحن نزيد البلاء بلاء حين نحفّظ الطلابَ هذه المذاهب والردّ عليها وقد انقرض أصحابها منذ دهور! أما هذه الطرق الصوفية فليست في أصل ولا فرع ولا تكاد تمشي مع المأثور من الذكر، وإن أكثرها مَسْخَرة ولهو ولعب: رقص سمّوه ذكراً وغناء دعوه عبادة! فما أدري ألَهُم أنبياء بعد محمد أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ وإلا فما بال هذه الحَمْحَمات وهذه الدَّمْدَمات وهذه الطامّات المخزيات التي نشهدها في تكيّة الدراويش المولوية وأشباهها من دور أصحاب الطرق؟ ولقد قرأت السيرة كلها وأجهدت نفسي لأجد شيئاً من الأشياء أو مكاناً من الأمكنة قدّسه المسلمون وتبرّكوا به، فلم

أجد إلا ما كان من تقبيل الحجر الأسود أو استلامه، وقول عمر: «إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك». وأجد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان -وهو يعاني آلام مرض الموت- ينهى عن اتخاذ القبور مساجد، فأعجب من حال المسلمين اليوم إذ لا أرى مسجداً كبيراً إلا بُني على قبر أو كان فيه قبر. * * * هذا قليل من كثير عرضته مثالاً لما في السيرة من عبرة تنفعنا في نهضتنا ودرس يفيدنا في حاضرنا، فكرت قبل عرضه وترددتُ، ثم آثرت إرضاء الحق ومصلحة الأمة، ففتحت هذا الباب لندخل إلى هذه السيرة العظيمة، فلا نخرج منها إلا بالحياة والعز والمجد والمزايا التي تعيد للأمة الإسلامية مكانتها في الدنيا. (بيروت) * * *

بين الدنيا والآخرة

بين الدّنيا والآخرة حديث أذيع من مكة سنة 1966 [يقول لي السامعون: إنك تتكلم دائماً عن نفسك. أنا ما أتكلم عن نفسي حباً بنفسي، ولكنه أسلوب من أساليب البيان. ثم إنني حين أتكلم عن نفسي أتكلم عن أكثر النفوس، وهاكم الدليل في حديث اليوم، فانظروا تروا أن ما شعرت به وجئت أصفه لكم هو ما يشعر به كل واحد منكم ويريد أن يسمع وصفه.] أنا أسكن في عمارة كبيرة فيها عشرة طوابق، في كل طابق أكثر من عشرة منازل. وقد كانت فارغة إلا من قليل من السكان، فلما كان الحج امتلأت غُرَفها ورِحابها وممرّاتها، فكان في كل غرفة عشرة أو عشرون، وفي الرّحَبات أناس يقعدون وينامون، وفي الممرات وعند الأدراج ناس من جميع الأجناس، يتكلمون بكل لسان ويتراءون في كل زيّ؛ هنود وجاويّون وأتراك ومغاربة وشاميون وعراقيون، فما كنت أستطيع أن أصل إلى المصعد من الزحام ولا أن أمرّ إلى البيت من كثرة الناس. فإذا دخلت البيت وجدت حشداً آخر؛ ستّ أسر وأربعة

أجيال، فيهم البنت وأمها وجدّتها وأم جدّتها، إي والله، وما فيهم غريب؛ ما فيهم إلا بنت أو صهر أو حماة أو حفيد (¬1). وكنت أُعِدّ هذا الحديث في هذا الجو، فتصوروا كيف يمكن التفكير في هذه الحال. هذا ما كان. أما ما هو كائن الآن فقد خلت الدور ورحل الحُجّاج وفرغ البيت، فصرت أركب المصعد وحدي وأمرّ إلى الدار فلا ألقى أحداً، وأدخل البيت فلا أحسّ إلا الفراغ والسكون. فماذا تظنون أني شعرت؟ شعرت بالراحة بعد التعب والهدوء بعد الضجة؟ لا والله؛ بل شعرت بالوَحشة والفراغ. وما منكم إلا من كان في داره أو في جواره حجّاج، ورحلوا فخلت منهم الدار ونأى المَزار، أفما شعرتم بمِثْل هذه الوحشة وهذا الفراغ؟ * * * أما فكّرتم فرأيتم أن هذا هو مثال الدنيا؟ ناس يعيشون معاً، يأكلون ويشربون ويختصمون ويصطلحون، ثم يفترقون كأنهم ما التقَوا ويرحلون كأنهم ما أقاموا. ¬

_ (¬1) سكن جدي رحمه الله في تلك الأيام في عمارة الكعكي في أَجْياد، غيرَ بعيد عن الحرم. وفي تلك السنة اجتمعت عنده بناته وأسرهنّ، جاؤوا للحج. وأذكر أنه كان في البيت نحن الحَفَدة وأمهاتنا، وكان فيه جدتنا وأمها رحمهما الله، فهذه هي الأجيال الأربعة التي أشار إليها (مجاهد).

كان يجتمع على المصعد الجاوي والليبي والتركي والهندي والشامي والمصري، فأين هم الآن؟ لمّا جئت السنةَ الماضية إلى المملكة ركبت من بيروت، وكان معي أخي ناجي، فقعدنا في المقصف (البوفيه) نأكل شيئاً قبل السفر ونشرب الشاي. وكان المقصف ممتلئاً بالناس، كراسيّهم مزدحمة يكاد الكرسي يمسّ الكرسي، وكلٌّ يأكل ويشرب كما كنا نشرب ونأكل، فإذا بالمكبّر يخرج منه الصوت: "ركاب الطيارة الهولندية المسافرون إلى جزيرة جاوة"، فيترك ناسٌ طعامَهم وشرابهم ويقومون، ثم ينادي ركابَ الطائرة البريطانية المسافرة إلى لندن فيقوم ناس، ثم ينادي ركابَ الطائرة البلجيكية المسافرة إلى الكونغو وطائرة البان أميركان المسافرة إلى نيويورك ... فرأيت أن هذا هو مثال الدنيا: ناس يعيشون، يأكلون ويشربون ويجمعون الأموال ويحرصون عليها ويظنون أنهم خالدون، لا يدرون متى يخرج النداء يدعو هذا أو يدعو ذاك، فمَن دُعي ترك كل ما كان فيه وأسرع؛ لا يأخذ معه إلى الطيارة مائدةَ المطعم ولا كرسيّ القهوة، بل يتركها ليأتي غيره فيجلس عليها، لا يأخذ معه إلا حقيبته؛ إن كانت حقيبته معدَّة معلقة حملها وسار، فإن كان عند وصول الطيارة مفرَّقَ الأمتعة لم يجمع أمتعته ولم يُعِدّ حقيبته، اضطرّ أن يدعها ويرحل بغيرها. فإذا أردتم أن تحملوا معكم من حسناتكم حينما تُدعَون الدعوة التي لا بدّ منها للقاء ربكم فكونوا مستعدين. وكما يجمع المسافر متاعه في الحقيبة ليحملها ويمشي، يستعدّ المرء بالتوبة

وقضاء الحقوق؛ فكونوا دائماً في حال التوبة، انظروا كل يوم فيما اقترفتم من سيئات فتوبوا إلى الله منها، وإن كان عليكم حقوق فأدّوها حتى تكونوا مستعدين، فإذا دُعيتم إلى ذلك السفر الذي لا بدّ منه، السفر إلى الآخرة، كنتم دائماً متهيئين له. وكما كان الناس في مطار بيروت قاعدين معاً ثم أُخذوا، هذا إلى حَرّ الكونغو وهذا إلى وَحشة الصحراء وهذا إلى ملاهي باريس، كذلك يكون الناس في الدنيا؛ يكونون متجاورين في المساكن مشتركين في التسابق إلى خيرات الدنيا والحرص عليها، وإذا بهم يُدعَون فجأة، فيذهب هذا إلى النعيم المقيم وهذا إلى العذاب الأليم. أما رأيتم «عرفات» يوم الموقف؟ أما بقيتم على الطريق منها إلى مِنى أو إلى المزدلفة ساعات لا تستطيعون أن تمروا رغم كثرة الطرق وسعة الشوارع؟ اذهبوا إليها الآن ترَوا فضاءً خالياً وسكوناً بالغاً وقَفرة ما فيها أحد. أين تلك الخيام ومَن كان تحتها وأين تلك السيارات ومن كان فيها؟ لقد كانت الخَيمة تكاد تلتصق بالخيمة والسيارةُ تكاد تلمس السيارة، فأين أولئك الناس؟ إن أهل خيمة من هذه الخيم يعيشون الآن في دهلي أو لَكْنَو، وأهل الخيمة التي تجاورها يقيمون في السنغال أو نيجيريا، وركاب سيارة في إسطنبول وركاب السيارة التي كانت إلى جنبها في فاس! * * *

يا إخوان، كنتم كلما أزمعتم أمراً أو طلبتم من أحد شيئاً قلتم لأنفسكم أو قيل لكم: بعد الحج. وكنتم تترقبون الحج، منكم مَن يرتقبه ليستقبل أهله ويلقاهم، ومَن يرتقبه ليربح من ورائه مالاً ويبيع بضاعة، ومنكم من يرتقبه للثواب. فها هو ذا الحجّ قد انقضى، ولقيتم الأقرباء والأهل ثم فارقتموهم، وربحتم المال وستنفقون ما ربحتم من مال، ونال منكم مَن نال مِن الثواب. وكذلك الحياة؛ أيام تمرّ وسنون تكرّ، ومستقبل يصبح حاضراً وحاضر يصير ذكرى، ثم يُطوى الزمان ويذهب الماضي والحاضر ولا يبقى إلا أمل واحد في مستقبل واحد: جنة فيها النعيم المقيم أو نار فيها العذاب الأليم. فاعملوا لذلك المستقبل. * * *

النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة

النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة نشرت سنة 1962 سألني سائل عن الشيطان: هل هو النفس ذاتها أم أن الشيطان غير النفس؟ وإن كان الشيطان غير النفس فما هي النفس الأمّارة بالسوء؟ وأنا أعتذر إلى القراء من ذكر مثل سأسوقه كنت قد ذكرته من قبل، وعذري أن من المعاني ما لا بد من تكراره لتكرر مناسباته، وأنا أكتب من خمس وثلاثين سنة وأخوض في موضوعات كنت خضت فيها من قبل، فآتي بما كان القراء قرؤوا لي مثله. وإن كنت لا أعيد شيئاً بحروفه وكلماته ولكن أعرض المعنى كل مرة من جانب، وهذا شيء لا يقدح بالبلاغة لأن القرآن -وهو كلام الله الذي لا يتعلق بغباره أبلغ كاتب- أعاد قصة موسى مثلاً غير مرة يوجّهها كل مرة الوجهة التي تناسب المقام. ومن يقرأ هذا الاستطراد الطويل يظن أني أعيد هنا مقالة كاملة منشورة، وما أعدت إلا المثل الآتي وحده، ولكن أطلت هذا الاستطراد ليكون معذرة لي في هذه وفي أمثالها حينما يجد القراء لها أمثالاً.

وبعد، فهذا هو المثال الذي مهدت له بهذا الاعتذار: إذا سمعت رنين الساعة المنبِّهة في فجر يوم من أيام الشتاء الباردة يدعوك إلى القيام إلى الصلاة، تتصور مشقة القيام وبرد الصباح وتجد لذة النوم ودفء الفراش، فتحسّ كأن صوتاً من داخلك يناديك أن: نَمْ فإنّ في الوقت فسحة. فتميل إلى مواصلة المنام، فتسمع صوتاً آخر يهتف بك أن: قُمْ فإن الوقت ضيق والصلاة خير من النوم. فيعود الصوت الأول يقول لك: استمتع بالدفء والراحة لحظات أخرى. فيرجع الأول يذكّرك بثواب الطاعة وعقاب المعصية. ولا تزال بين «قُم»، «نَم»، «قُم»، «نَم»، تتعاقبان مثل دقات الساعة، حتى تعزم فتَثب عند واحدة من دقّات «قُم»، أو يغلبك الهوى ويطول بك التردد حتى تطلع الشمس وتفوتك الصلاة. ولهذا المثال الذي كررتُه أمثلة لا تحصى تعرفها من نفسك؛ إذا كنت شاباً وعرضَت لك في الطريق فتاة فتّانة من هؤلاء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، وسمعت صوتاً من داخلك يقول لك: انظر إليها، ما أجملها! وصوتاً يقول لك: لا، دعها، فإن لك النظرة الأولى التي لا بدّ منها وعليك ما بعدها. وإذا عُرض عليك مال حرام تحسّ صوتاً يدعوك إلى أخذه ويحرك طمعك إليه، وصوتاً يمنعك منه ويذكّرك حكم الله فيه. فالصوت الأول الداعي إلى المعصية التي فيها اللذة العاجلة هو صوت النفس الأمّارة بالسوء، والصوت الثاني الصارف عنها الداعي إلى الخير، هو صوت الضمير، صوت العقل. وربما اشتد الأول وعَلا حتى ملأت أصداؤه كيانَك كله

ووجدتَه في كل شعبة من عصبك وفي كل قطرة من دمك، وخرج الثاني ضعيفاً خافتاً، وذلك إذا اشتدت الشهوة وتهيأت دواعي إشباعها بالزنا، أو إذا تمكن الغضب وأمكن التنفيس عنه بالبطش. واتّباع صوت الحق هنا أصعب، لا سيما للشاب الذي يعيش في بلاد الإفرنج حيث يسهل الزنا وتتيسر دواعيه وحيث يكثر الجمال المعروض والمتع المبذولة، ولذلك جعل الله ثواب من ينصرف عن المتعة المحرَّمة بعد التمكن منها أعظم. وقد ورد أن من يتمكن من الزنا بامرأة وتتهيأ له أسبابه كلها، ثم ينصرف عنه خوفاً من الله، يكون يوم القيامة أحدَ السبعة الأصناف الذين يظلّهم الله بظل عرش الرحمن يومَ لا ظلّ إلا ظله. وعلى مقدار عظم الثواب تكون مشقة العمل. وهذا موقف لا يقدر عليه في الواقع إلا من أوتي إيماناً راسخاً وعزيمة قوية، والله المستعان. ومَن علم من الشبّان الذين يدرسون في أوربا أنه لا يستطيع أن يمتنع عن الزنا وأنه يغلب عن ظنه الوقوع فيه، حَرُم عليه حرمة تامة الإقامة في هذه الديار مهما كان له منها من منافع دنيوية، لأن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ولو كان في هذه البلاد مرض من الأمراض السارية وغلب على ظن هذا الطالب أو ظن أهله أنه سيصاب في جسده لمنعوه من السفر وأرجعوه إلى بلده، ولم يعودوا يبالون بعلم يحصله أو شهادة ينالها إن كان في ذلك مرض جسده، فكيف لا يبالون بمرض قلبه وذهاب دينه؟ * * * والله عز وجل وضع أمامنا طريقين: طريقاً ينتهي إلى الجنة

وإلى النعيم الدائم، وطريقاً ينتهي إلى جهنم وإلى العذاب الدائم. وأعطانا قوة نميز بها هذا من ذاك، قال تعالى: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْن}. وهذه القوة موجودة عند كل إنسان، عالماً كان أم كان جاهلاً، كبيراً كان أم صغيراً. كل إنسان يعرف أن الزنا مثلاً شر وأن الزواج خير، لذلك يختفي الزاني ويستتر بزناه من الناس، ويعلن المتزوج عن زواجه ويدعو له الناس. وكلنا يعرف أن السرقة شر وأن الإحسان خير، لذلك ينكر السارق ولا يحب أن يتحدث عنه الناس بأنه سرق، ويسر المحسن أن تحدثوا عنه بأنه أحسن. حتى السكّير الخِمّير لا يحب أن ينشأ ابنه على الخمر والسكر لأنه يعرف قبح ما هو فيه. بل إن الحيوان يميز الخير من الشر، فإذا رميت إلى القط بقطعة لحم أكلها آمناً بين يديك، وإن خطفها خطفاً فرّ بها إلى الطريق. والكلب يعمل عملاً صالحاً فيقترب من صاحبه ويتحسس به كأنه يطلب منه المكافأة، وإذا أساء ابتعد ووقف كالنادم المعترف! ثم إن الله عز وجل أقام على كل من الطريقين مَن يدعو إليه ويرغّب فيه. فالأنبياء يقومون على طريق الجنة يقولون للناس: تعالوا، امشوا من هنا، هذا طريق الجنة. والشياطين، شياطين الجن وأعوانهم من شياطين الإنس، يقومون على طريق النار يدعون إليه، يقولون: تعالوا، هذا الطريق أجمل وأسهل، ألا ترون البساتين على جانبيه والأنهار تجري من تحته، وفيه الطعام

والشراب واللهو والطرب، وذاك طريق متعب من حواليه الصحراء وقد حُفّ بالمتاعب؟ فيقول الأنبياء: لا تخافوا من مشقة طريقنا، فإن بعد هذه المشقة المقام الآمن والنعيم الدائم، ولا تغترّوا بجمال الطريق الآخر، فإن أوله سهل ممتع ولكن مصير سالكه الضياع والهلاك. وجعل الله في الإنسان قوتين متقابلتين، واحدة تنصر الأنبياء وترغّب في الحق، وهي التي عرفتم أن اسمها العقل أو الضمير، وأخرى تنصر الشياطين وتزيّن لصاحبها باطلهم، وهي النفس الأمّارة بالسوء. فالشيطان يوسوس لهذه النفس، وهي حليفته وناصرته، فتحاول أن تدفع بصاحبها إلى السير في طريق النار، ويقف الضمير يحذّر من اتّباعها وينبه إلى غشها ومكرها. فإذا ذكر العبد ربه وتعوّذ به من الشيطان خنس الشيطان وهدأت النفس، وإن أعرض عن صوت الضمير واتبع النفس وُضعت على قلبه نقطة سوداء، فإن عاد فتاب مُحِيَت، فإن عمل ذنباً آخر وُضعت نقطة أخرى، فإن تكررت الذنوب زادت النقط السود حتى يصير قلبه كله أسود، فلا تنفع معه حينئذ موعظة ولا يفيد نصح، ويصير من الذين قال الله عنهم: {كَلاّ، بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبون}. هذا هو الرَّان أو الرَّيْن، وهذه حال أكثر شبّان هذه الأيام من غير المتدينين الناشئين في طاعة الله، لا يسمعون موعظة ولا يرجون رحمة ربهم ولا يخافون عذابه. * * *

هذه هي النفس الأمّارة بالسوء. فإذا كان الإنسان في جهاد مع نفسه؛ تغلِبُ نفسُه ضميرَه ثم تندم على ما وقع منها وتحاول أن تسلك سبيل الهدى، فتنجح مرة وتخيب مرة، فهي تكرر الذنب ولكنها لا تنسى الله ولا تترك التوبة، فهذه هي النفس التي سماها الله «النفس اللوّامة». فإذا تغلبت على وسواس الشيطان ونقضت الحلف بينها وبينه وصارت متّبعة لصوت الضمير ماشية مع الشرع، كلما عرض لها الشيطان يزيّن لها المعصية استعاذت منه بالله واحتمت به، صارت نفساً مطمئنّة وقيل لها: {يَا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلي في عِبَادي وادْخُلي جَنَّتي}. هذا، على أن يعلم كل قارئ لهذا الفصل أن الأصل في النفس أنها أمارة بالسوء، فلا يقل أحد: أنا واثق من نفسي، أخلو بالمرأة الأجنبية ولكني أملك أمري وأضبط غريزتي، لأن هذا هو قول الأحمق المغرور، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثَهما». ما خلا رجل بامرأة، أي كل رجل بكل امرأة، على التعميم بلا استثناء (¬1). وكيف تبرّئ نفسك وهناك من هو خير منك، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، النبي ابن النبي ابن النبي ابن ¬

_ (¬1) من حديث ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، وفيه: «ألا لا يَخْلُوَنّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»، أخرجه الترمذي. وفي رواية لأحمد: «ألا لا يخلونّ رجل بامرأة لا تحلّ له فإن ثالثهما الشيطان» (مجاهد).

النبي، وليس في البشر كلهم أربعة أنبياء على نسق واحد إلا هؤلاء الأربعة، ويقول عن النساء: {إلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ}. فالنفس إن تركتَها كانت سفيرة إبليس لديك وعونه عليك، وإن ألزمتها الموعظة الدائمة والندم على كل ذنب صارت نفساً لوّامة، وإن استمر ذلك منها حتى صار عادة لها، ابتعد الشيطان عنها فصارت نفساً مطمئنة. {وَنَفْسٍ وَما سَوّاها، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْوَاها، قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاهَا}. * * *

الرزق مقسوم ولكن العمل له واجب

الرزق مقسوم ولكن العمل له واجب نشرت سنة 1987 كلُّ مَن في الوجودِ يَطلُبُ صَيداً ... غيرَ أنّ الشِّبَاكَ مُخْتَلِفاتُ فمن كان أوسع حيلة وأكمل وسيلة أخذ حظاً أكبر. هذا ما يراه الراؤون، أما العارفون فيعلمون أنه مشهد من تمثيلية، والتمثيلية مكتوبة كلها قبل أن توزَّع أدوارها، والأدوار وُزِّعت على أصحابها لتكتمل بها القصة ويحصل بها المراد، فلا يستطيع ممثل أن يقول غيرَ ما أُعِدّ له، ولا يأخذ أكثرَ مما قُدِّر أن يأخذه. وأستغفر الله، فما أضرب الأمثال من عمل البشر لقَدَرِ الله، ولكن أُقرِّب المسألة إلى أفهام القرّاء. ما خلق الله حيّاً من الأحياء، إنساناً ولا حيواناً، إلا تعهد له برزقه، ولكن من الناس من وضع الله رِزقه على المكتب أمامه، يقعد مستريحاً على كرسيّه ويُمسك قلمه بيده فيُجريه على الورق. ومنهم من وضع الله رِزقَه أمام الفرن أو التّنور ومَنْ رِزقُه في مصنع الثلج، هذا أبداً عند حرارة النار وهذا عند برودة الجليد. ومَن رِزْقُه مع الأولاد الصغار في المدرسة أو العمال الكبار في المصنع، ومَن رِزْقُه وسط لُجَّة البحر فهو يغوص ليستخرجه، أو فوق طبقات

الهواء فهو يركب الطيارة ليأتي به. ومَن رِزْقُه وسط الصَّخر الصَّلد فهو يكسره ليستخرجه، ومن رزقه في باطن الأرض فهو يهبط إلى المنجم ليصل إليه. تعددت الأسباب وكَثُرَت الطرق، وكلٌّ إذا نظر إلى مَن هو أشقّ عملاً منه رأى نفسه في خير. إننا جميعاً في سباق، فما منا إلا مَن يجد أمامه من سبقه ووراءه من تخلّف عنه. كلّ امرئ منّا سابق ومسبوق، فإن كان من رفاق مدرستك وأصدقاء صباك من كان مثلَك فصار فوقَك، فلا تأسَ على نفسك ولا تبكِ حظك، فإن منهم من صرتَ أنت فوقه. فلماذا تنظر إلى الأول ولا تنظر إلى الثاني؟ إن الله هو الذي قسم الأرزاق وكتب لكل نفس رِزقَها وأجلها، ولكنه ما قال لنا اقعدوا حتى يأتي الرزق إليكم، بل قال لنا امشوا في مناكبها وكلوا من رزقه؛ أي اعملوا، فإن السماء -كما قال عمر العبقري- لا تمطر ذهباً ولا فضّة، ولكن الله يرزق الناسَ بعضَهم من بعض. لقد أقسم ربنا في كتابه بكثير من مخلوقاته؛ أقسم بالشمس وضحاها، وأقسم بالليل، وبالفجر، فلمّا ذكر الرزق أقسم بذاته جلّ جلاله فقال: {وَفي السّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون. فَوَرَبِّ السّمَاءِ والأرْضِ إنّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُون}. كلام الله حقٌّ وصدق، ولكنه أقسم عليه تأكيداً له، ثم أكده بمثال ظاهر لا يستطيع أحدٌ أن ينازع أو أن يشكّ فيه. هل تشكّ إذا نطقت أنك أنت الناطق؟ فجاء منا -بعد قول الله، وبعد تأكيده

بالقسَم، وبعد تثبيته بالمثال- مَن يشكّ في أن الرزّاق هو الله! نسمع كل يوم قائلاً يقول: "إن فلاناً قطع رزقي". إنّ رزقَك لا يستطيع أحدٌ أن يصرفه عنك ورزقَ غيرك لا يقدر أحدٌ أن يُوصله إليك؛ ما كان لك فسوف يأتيك على ضَعفِك، وما كان لغيرك لن تناله بِقوّتك، رُفِعت الأقلام وجفّت الصحف. وربما أعدّت لك زوجتك الطعام ووضعته على سفرتك فلم تأكله لأنه مقسوم لغيرك، وربما وصل الدينار إلى يدك فلم تنتفع به لأنه رزق سواك. حدّثني الشيخ صادق المُجَدّدي رحمة الله عليه، الذي كان من علماء أفغانستان الكبار والذي كان عميد السلك الدبلوماسي في مصر أيام الملكية زمناً طويلاً، أنه كُلِّف يوماً بمهمة رسمية في البلاد الروسية، فخاف أن لا يجد فيها لحماً ذبحه مسلم (ولا يجوز للمسلم أن يأكل ذبيحة شيوعي ملحد لا يؤمن باليوم الآخر) فأمر فذُبحت له دجاجتان كانتا في داره، وطبختهما زوجته ووُضعتا في سُفرة (¬1) حملها معه لتكون طعامه. فلما وصل وجد في المدينة مسلمين، ودعاه شيخ مسلم يعرفه صالحاً إلى الغداء، فاستحيا أن يحمل الدجاجتين معه. فما استقرّ به المقام حتى جاءته برقية بأن المهمة قد أُلغيت وأن عليه الرجوع إلى أفغانستان، ووجد أسرة مسلمة فقيرة دلّوه عليها فدفع الدجاجتين إليها. فكأنه ما سافر هذه السَّفرة ولا قطع مسافة ألفَي كيل ولا حمل هذه المشقة إلاّ لأن الدجاجتين اللتين كانتا ملكه، واللتين طبختهما زوجته، لم تكونا رزقه بل كانتا رزق هذه الأسرة المسلمة ¬

_ (¬1) السّفرة في الأصل زاد المسافر.

في الأرض التي ابتُليت بحكم الشيوعيين. وقرأت مرة للقاضي التَّنوخي ... وإذا كان المؤرخون قد عُنوا بتاريخ القصور وأهلها والمعارك وأبطالها وأهملوا عادات الشعوب وأوضاعهم، فإن القاضي التنوخي طرق في كتابيه العظيمين: «الفرج بعد الشدة» و «نشوار المحاضرة» باباً لم يطرقه إلاّ قليل جداً من المؤرخين، فارجعوا إليهما فاقرؤوهما. وكتابُ «الفرج بعد الشّدة» من أوائل الكتب التي قرأتها في صغري، وأحسب أني أعدت قراءته ثلاثين مرة، وكانت طبعته سقيمة مملوءة بالتطبيعات وبالأغلاط فكنت أصحّح الكثير منها من حفظي أكتبه على هامش الكتاب، حتى قيّض الله لهذين الكتابين أستاذاً عراقياً فاضلاً هو عبود الشالجي، فطبعهما طبعة مصحَّحة مقابَلة على نسخ خطية صحيحة وعلّق عليهما تعليقات نافعة، أهدى إليّ الأولَ ولدي الأستاذ الفاضل زهير الشاويش، ولم أطّلع على الثاني إلى الآن. قرأت فيه: أن تاجراً في بغداد ضاقت به الحال وقلّ في يده المال وسُدّت في وجهه أبواب الأعمال، فكان إذا أوى إلى فراشه رأى في منامه كأن هاتفاً (¬1) يهتف به: "إن رزقك في مدينة القَطائع في مصر" ... ويُعيّن له البيت الذي فيه الرزق والحارة التي فيها البيت. وكان ذلك أيام النزاع بين الموفَّق أخي الخليفة العباسي وأحمد بن طولون الذي استقلّ بمُلك مصر وخرج على الدولة العباسية وبنى مدينة القطائع، وهي بين الفسطاط (مصر القديمة) ¬

_ (¬1) الهاتف في الأصل صوت تسمعه ولا ترى صاحبه.

والقاهرة (التي أُنشئت بعدها) (¬1)، وأقام فيها مسجدَه الجامع الذي لا يزال باقياً بمنارته. ومنارتُه صورة معدَّلة من منارة مسجد «سُرّ مَن رأى» الذي تكلمت عنه فيه ذكرياتي (¬2). فلما تكرّر هذا الهاتف واستمرّ يرى هذه الرؤيا جمع من المال ما استطاع جمعه وسافر إلى مصر، وذهب إلى البيت الذي حُدِّد في المنام فإذا هو دار صاحب الشرطة (مدير الشرطة)، فحسبوه جاسوساً وأمسكوا به، وقرّروه فلم يقرّ بشيء لأنه لا يُخفي شيئاً، فوضعوا رجليه في الفلق (¬3) وضربوه ليَصلوا إلى إقراره، وهو يقسم لهم أنه لا يعرف شيئاً وإنما هو منام رآه. وقصّ عليهم ما رأى، فقال له صاحب الشرطة: إنك لأحمق؛ أنا أرى من سنين مثل هذا المنام وأسمع قائلاً يقول لي: إنّ رزقك في بغداد في الدار الفلانية في الطريق الفلاني تحت نخلة فيها، فأُعرِضُ عن المنام ولا أهتم به. وتنبّه الرجل إلى أن الدار التي ذكرها صاحب الشرطة هي دارُه، والنخلة التي عيّنها فيها، فقال لهم: اتركوني فإنني أعود الآن إلى بغداد. وعاد وحفر تحت النخلة واستخرج منها جرّة ممتلئة بالدنانير. * * * ¬

_ (¬1) وفي موضع القطائع الآن حيّ السيدة زينب. (¬2) انظر مقالة «سُرّ مَن رأى» في كتاب «بغداد»، والحديث عنها أيضاً في الحلقة رقم (101) من الذكريات (مجاهد). (¬3) الفَلَق الذي يسميه الناس الفَلَقة أو الفلكة.

الرّزق مقسوم، هذا حقٌّ نؤمن به، ولكنْ لا بدّ من اتخاذ الأسباب. وقد ذهب الناس في أمر الأسباب مذهبين كلاهما يحيد عن الصواب ولا يوصل إلى الغاية؛ فمنهم من ظن أنه ما دام الرزق مقسوماً فما عليّ إلاّ أن أقعد وأنتظره، فتركوا العمل واحتجّوا بحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «لو توكّلتم على الله حقّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً (أي جائعة) وتعود بِطاناً (أي ممتلئةً بطونُها)» (¬1) وغفلوا عن أن هذا الحديث حجّة عليهم لا لهم، فالطير ما قعدت في أعشاشها وانتظرت أرزاقها، ولكنها غدت وراحت، وهل تملك الطير إلا الغدوّ والرَّواح؟ ومن غير المسلمين مَن اتّكل على الأسباب وحدها وظن أن النتائج مَنوطة أبداً بها لا تخرج عنها، وغفلوا عن أن وراء الأسباب مُسبِّباً. ولم يتنبّهوا إلى أنه طالما مات الرجل عن ولدين متماثلين صحّةً وشباباً وقوة وذكاء، فاقتسما ماله، وإذا بأحدهما يُفتَح عليه باب رزق لم يكن مُنتظَراً، تأتيه مثلاً وكالة شركة من الشركات الكبرى فلا تمرّ سنوات حتى يصير من كبار أرباب الأموال، ويبقى الثاني على حاله. وقد يكون في الغرفة الواحدة من المستشفى مريضان، مرضُهما واحد وطبيبُهما واحد والدواءُ الذي يأخذانه واحد، وإذا بأحدهما يرجع إلى بيته معافى والثاني يُحمَل ميتاً إلى المقبرة. ونحن لا نتوكل هذا التوكّل الذي لم يأمر به الإسلام، بل ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وصحّحه (مجاهد).

نمشي في مناكب الأرض. نمشي مشياً لا نسعى سعياً، لأن الله قال لنا في مجال الرزق: {فَامْشُوا في مَنَاكِبِها} وقال في مجال العبادة: {فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ}؛ هذا هو الفهم الصحيح لمسألة الرزق. فإن كنت تاجراً فاعمل دائماً على توسيع تجارتك وعلى تكثير بضاعتك وعلى زيادة دخلك، ولكن لا تغشّ ولا تسرق ولا تحتكر وعامل الناس بما تُحب أن يعاملوك به، ثم ارضَ بما قسم الله لك، فلا تأسَ على ما فاتك أسىً يملأ نفسك حزناً واكتئاباً، ولا تفرَحْ بما آتاك فرحاً يطغيك ويخرجك عما يرضيه عنك. وإن كنت موظفاً فاعمل على أن ترتفع درجتك وأن يزيد مرتّبك، لكن لا تسلك غير طريق الحق ولا تُضِعْ كرامتك ولا تخالف شرع ربك. وإن اعترضتك العقبات فاعمل على تخطي العقبات، وإن عرضَت لك الشدائد فلا تفلّ عزيمتَك الشدائدُ، فرُبّ شدّة أعقبها فرج وضيق جاءت بعده السّعة: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فيهِ خَيْراً كَثِيراً}. حدّث ديل كارنيجي في كتابه النافع الذي سمّاه مترجمه «دع القلق وابدأ الحياة» (وكان أَولى أن يسميه «دع الهمّ» فالذي يتكلم عنه مؤلف الكتاب هو الهمّ لا القلق)، حدّث أنه لما كانت الهجرة إلى غرب أميركا، إلى الأرض البِكر التي لم تُمَسّ خيراتها ولم تستخرَج كنوزها، باع رجل كلَّ ما يملك وأخذ ما جمعه فاشترى به أرضاً في الغرب، طمع أن تكون أرضاً خصبة يستثمرها بزراعتها ويجمع المال من ثمرتها، فلما بلغها رآها مملوءة بالحيّات والثعابين، كلما قتل واحداً منها رأى عشرة، فكاد يفقد من هول الصدمة عقله ويهيم على وجهه مجنوناً أو يعلق حبلاً في شجرة

فيشنق به نفسه، ثم قعد يفكر فرأى أن هذه النقمة يمكن أن تنقلب نعمة، لأنه ما في الدنيا شيء إلا وفيه بعض النفع وإن كان فيه كثير من الضرر. فهداه الله بتفكيره إلى أن يجعل الأرض لتربية الحيّات والثعابين يبيع منها للحُواة (أي الذين يربّون الحيّات)، وجاء بخبراء يأخذون جلودها لتصنع منها الحقائب والأحذية للنساء ويستخرجون سُمّها ليكون منه ترياق فيه الدواء بعد أن كان منه الداء، فاغتنى من ذلك. ولولا هذا التفكير لانتحر! أما المسلم فلا ينتحر أبداً ولا ييأس أبداً، لأنه يعلم أنها مهما سُدَّت من حوله الطرق وتعذّر عليه المسير وحاقت به الشدائد فإن طريق السماء لا يُغلَق أبداً، وإنْ سُدّت الأبواب كلّها فإنّ باب الله مفتوح دائماً، فمُدّوا أيديكم -إذا ضاقت بكم أبواب الرزق أو حاقت بكم المصائب- وقولوا: يا رب! إن كنت في ضيق تبحث عمّن يُقرضك ألفاً فجاءك شيك بعشرة آلاف، أكنت باقياً على ضيقك؟ هذا صكّ من أكرم الأكرمين يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحتَسِبُ}. فإذا أردتم مخرجاً من ضيقكم فبتقوى الله، وإذا أردتم رزقاً من جهة لا تعرفونها فبتقوى الله، وتقوى الله فيها -من بعد ذلك كله- اطمئنان النفس، واطمئنانُ النفس أعظم نِعَم الحياة. * * * ومن أقوى الوسائل اليوم إلى الرزق العلمُ، فإن فاتك قطاره صغيراً فلا تتردد عن اللحاق به كبيراً، فإن العلماء الذين أعرفهم أنا درسوا على كبر فبلغوا في العلم أعلى الذّرى كثير كثير، وربما

كتبت يوماً عنهم. منهم من أساتذتنا الشاعر الفحل محمد البِزِم الذي لم يعرفه ولم يطّلع على ديوانه هنا إلاّ القليل من الأدباء، وكنا نعدّه أحد شعراء دمشق الأربعة الكبار وهم خير الدين الزِّرِكْلي وشفيق جَبري وخليل مَرْدَم بك والبِزِم، بلغ العشرين وهو بعيد عن العلم والأدب. بل لقد خبّرني الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) بلسانه أنه قارب الثلاثين ولم يقرأ شيئاً لأبي تمام ولا للبحتري ولا لتلك الطبقة من الشعراء الكبار الذين كانوا يُعرَفون عند الأوّلين بالشعراء الشاميين، وإنما كان عاكفاً على شعراء عصر الانحطاط. وممّن أعرف رجل صالح يبيع الكتب في مكتبة صغيرة بجوار الجامع الأموي، اضطرته الحاجة إلى إخراج ولده من المدرسة. وكان الولد ذكياً فعكف على كتب المدرسة وحده يقرؤها، فلما كان امتحان الشهادة الابتدائية دخله فنجح فيه، ثم دخل امتحان الكفاية (التي تُدعى شهادة الكفاءة) فنالها، ثم نال الثانوية، ثم دخل الجامعة. وهو في هذه الأحوال كلها لم يَدَع مكتبة أبيه ولم يترك مساعدته، فلما أتم الجامعة ذهب فأتى بالدكتوراة من فرنسا، وكان من خبره أنه قدم المملكة معاقداً (أي متعاقداً) من نحو خمس عشرة سنة فدرّس في كلية التربية فيها. والدنيا لا تخلو من المصاعب ومن المتاعب: خُلِقَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها ... صَفْواً من الأقذارِ والأكدارِ؟ ومُكلِّفُ الأيامِ ضِدَّ طِباعها ... مُتطَلِّبٌ في الماءِ جَذوةَ نارِ! فإذا دهمتك مصيبة فلا تقنط ولا تيأس من رحمة الله وابدأ

من جديد، فلقد ذكروا في ترجمة يحيى النحوي (وكان أيام الفتح الإسلامي لمصر) أنه رغب في طلب العلم فلم يفلح فيه، فكاد ييأس، واضطجع يفكر فرأى نملة تحاول أن تصعد الجدار، فإذا بلغت ذراعاً أو ذارعين سقطت، فعاودت الصعود ثم سقطت، فعاودت الصعود ... فعدّ عليها أربعين مرة حتى وصلت إلى أعلى الجدار واجتازته! فأخذ من النملة درساً وعاود الجدّ والتحصيل حتى نجح. وأنا أعرف مما قرأت في الكتب ومما رأيت في الحياة حوادث وحوادث كلها واقع، فيها لمن أراد أن يعتبر عبرة بالغة. لما كنت أدرّس في ثانويات العراق سنة 1937، من خمسين سنة كاملة، كان عندنا طالب رضيّ الخُلُق متفتح الذهن مستقيم السيرة، أخذ الشهادة الثانوية فدخل الكلية الحربية وتخرج فيها ضابطاً، وترقّى في السلك العسكري حتى بلغ رتبة العقيد، فتبدلت الأحوال في بغداد واضطر إلى التخلي عن رتبته وترك سلكه العسكري، فدخل كلية الحقوق وتخرج فيها وصار محامياً، فاضطر إلى ترك العراق والهجرة منها إلى النمسا، فتعلم اللغة الألمانية ودخل كلية الطب وتخرج فيها بعد سبع سنين طبيباً، وجاء مكة حاجّاً من بضع سنين وزارني وسمعت قصته. * * * الرزق مقسوم؛ فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، ولكن اذكر دائماً أنّ الذي كتب لك هذا الرزق أوجب عليك العمل، وأن التوكل على الله لا يكون بترك

الأسباب. والأعرابي الذي ترك ناقته على باب مسجد رسول الله طليقة ودخل عليه، فافتقدها، لقَّنَه الرسول صلى الله عليه وسلم درساً من دروسه النبوية التي تظل إلى يوم القيامة نبراساً لكل من أراد أن يهتدي بها في ظلمة الحياة فقال له: «اعقِلْها وتوكّل» (¬1). فالله هو المُعطي وهو المانع، وما يمنع الله أحداً شيئاً إلاّ عوضه بشيء خير له منه، وكم من إخوة عرفناهم رُبّوا في بيت واحد من أمّ واحدة وأب واحد، وكم من رفاق في المدرسة الواحدة بل على المقعد الواحد، صار هذا غنياً وغدا ذلك فقيراً، لأسباب أدركنا بعضها وغاب عنا علم بعض. فليذكر الذي اغتنى أنه كان يمكن أن يكون هو الفقير وأن يحتاج إلى أخيه، فليعامله الآن بما كان يحبّ أن يعامله به. وليذكر الذي يعطي أنه لا يعطي أحداً إلاّ رِزْقَه، كالمعلمين في المدرسة أو الموظفين في الدائرة يُوكّلون أحدهم أن يقبض لهم رواتبهم، فإذا أوصلها إليهم لا يكون قد مَنّ بها عليهم. فالذي يعطي غيره إنما يُوصل إليه رزقه الذي كتبه الله له، ولكنّ الله جعل إيصاله على يديه ليعطيه على ذلك أجراً من هذا الراتب. وليكن المال عبداً لصاحبه ولا يكن صاحبُ المال عبداً لماله، فقد ورد: «تَعِسَ عبدُ الدرهم، تَعِسَ عبدُ الدينار». وما مالك؟ ليس مالك الذي تملكه؛ ولكن لك منه ما أكلت فأفنيتَ، أو لبست فأبْلَيتَ، أو تصدّقتَ فأبقيت. ¬

_ (¬1) عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: يا رسول الله، أعقلُها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل»، أخرجه الترمذي (مجاهد).

فيا أيها القراء: إن الرزق مقسوم، والعمل له واجب، والتوكل لا يكون بترك الأسباب، والله هو المعطي وهو المانع. * * *

رحلة الحج

رحلة الحج نشرت سنة 1966 يا عازمين على الحج، يا من يَشُدّ الرحال ويُعِدُّ الأحمال، ليصل إلى فناء الحرم ويقوم عند المُلتزَم ويشرب من ماء زمزم. قفوا قليلاً فاستمعوا مني كلمة، ثم امضوا على بركة الله. إنكم ما حملتم مشاق السفر ولا رضيتم بفراق الأهل ولا أنفقتم هذا المال، إلا ابتغاء ثواب الله وادّخاراً من الحسنات ليوم الحساب. فهل علمتم قبل أن تمشوا أن الحج حَجّان: حج مبرور وردت الأحاديث الصحاح بأنه ليس له ثواب إلا الجنة وأن صاحبه يرجع منه كيوم ولدته أمه، وحج ما فيه إلا إنفاق المال وإرهاق الجسد وفراق العيال؟ فماذا تعملون ليرفع الله حجكم إليه ولا يرده عليكم فيضرب به وجوهكم؟ أنا أقول لكم. هل ترتفع الطيارة إذا أثقلتها بالحديد وحمّلتها أضعاف ما تطيق ثم ربطتها بحبال الفولاذ إلى صخور الجبل؟ إنها لا ترتفع إلا إذا خففت أحمالها وقطعت عنها حبالها؛ وكذلك الأعمال. فإذا أردتم أن يصعد حجّكم فخفّفوا عن عواتقكم أثقال

الذنوب، واقطعوا الحبال التي توثقكم بأرض الشهوات أو حلّوها. فاقعد يا أخي الحاج وحدك، واحصر فكرك قبل أن تخطو أول خطوة في طريق الحج، وحاسب نفسك، وانظر في حياتك في بيتك، وصلاتك بأهلك، وروابطك بأصحابك، وسلوكك في وظيفتك أو تجارتك، وفي مصادر ثروتك وطرق إنفاقك؛ فكر فيها كلها وقِسْها بمقياس الشرع، فما وجدتَه منها محرَّماً فتُبْ منه واستسمح أصحابَه قبل أن تمضي إلى الحج. انظر: هل أنت تاركٌ لفريضة من الفرائض؟ هل أنت مرتكبٌ لمحرّم من المحرمات؟ هل أسأت رعاية من استرعاك الله أمره من أهلك وولدك؟ هل أنت ظالم لزوجتك قد كرَّهت إليها بسوء معاملتك عيشها، أو أنت منقاد إليها تتبع رغباتها التي تغضب ربها؟ هل رضيت بترك أولادك الصلاة؟ هل وضعتهم في مدارس غير المسلمين؟ هل أكلت مال أحد أو تعديت عليه؟ هل لأحد في ذمتك دَين لم تقضِه أو حق لم تسدّده؟ هل تقصر في عمل الوظيفة إن كنت موظفاً؟ هل تأخذ الرشوة؟ هل تعامل الناس بالربا إن كنت تاجراً؟ هل تعقد عقوداً مخالفة للشرع؟ انظر في هذا كله وأمثاله فتُبْ منه. وليس يكفي أن تعزم على ترك الذنب بقلبك أو أن تعلنه بلسانك، بل أن تتخذ الأسباب لذلك. فإن كنت تتعامل بالربا وأردت أن تتوب منه وألاّ تعود إليه، فصَفِّ حساب عملائه واقطع صِلاتك بهم، وخذ رأس مالك ودع موارد الربا. ولا يغرُرْك أن الربا سُمّي بالفائدة، فلقد ورد أن الناس في آخر الزمان يسمون المحرمات بغير أسمائها ليستحلّوها.

وإن كنت تتكسب من عمل محرَّم، كأن تكون عاملاً في ناد يسقي الخمر ويجمع الجنسين، أو في مصرف يرابي وأنت تشتغل فيه كاتباً للربا، أو كنت في مؤسسة أو مصلحة تنشر الإلحاد أو تؤذي المسلمين، وأردت أن تتوب، ففتش لنفسك عن عمل آخر، وإلاّ لم تنفعك توبتك عنه وأنت ملازم له. واعلم أن الله هو الرزاق، وأن من يتّقِ الله (لا مَن يعصِ الله) يجعَلْ له مخرجاً ويرزُقْهُ من حيث لا يحتسب. وكذلك الحال في كل محرَّم. ثم تدبّر أمورك وأمور عيالك في غيبتك، لتريحَ بالك منها فلا تفكرَ فيها وأنت في الحج. فتعطي أهلك من النفقة ما يكفيهم في غيابك، وتوكل بهم من يقوم بأمرهم إلى حين عودتك، وتعهد بعملك إلى من تثق به وتعتمد بعد الله عليه. واعلم يا أخي الحاج أن الحج غسل للقلب من أوضار الذنوب، فهل يغسل أحدٌ جسده من الأوساخ بالماء الوسخ؟ فكيف إذن تبغي أن تتخلص بالحج من تبعات الحرام إذا كان حجك بمال حرام؟ إن الله طيّب لا يقبل إلا طيباً؛ فليكن أول ما تصنعه أن تعدّ لنفقات حجك مالاً حلالاً. لا أريد بالمال الحلال أن يكون خالياً من كل شبهة، فلقد ذكر العلماء من قرون طِوال أن ذلك كان كالمتعذر في أزمانهم، فكيف بزماننا؟ ولكن أريد ألاّ يكون المال الذي أعددته للحج مالاً ظاهر الحرمة، كأن يكون مغصوباً أو متحصَّلاً من الربا أو من مهنة يحرمها الشرع كالاتّجار بالخمر أو زراعة الحشيش أو نشر

الكتب والمجلات المفسدة للدين وللأخلاق. المال الحرام ردّوه إلى أصحابه الذين أخذ منهم ظلماً، فهذا أفضل من الحج، ثم إن وجدتم بعد ذلك ما تحجون به من المال الحلال، وإلا فانتظروا حتى يبعثه الله إليكم فتحجوا. ومن كان منكم موسِراً فليحمل معه ما يزيد عن نفقات حجه ونفقات أهله في غيابه، ولْيَنْوِ بذلك مساعدة المحتاج وإسعاف المنقطع، لا يوزعه على الشحّادين الذين اتخذوا السؤال حرفة ولعل فيهم من هو غني، بل يعطي من يثق بحاجته، ومن يكون عفيفاً فيظنه الناس من عفته وإبائه غنياً وهو في أشد الفقر. أمثال هؤلاء فأعطوهم، وإذا لم تعرفوهم فاسألوا عنهم من تثقون به من أفاضل أهل الحرمين. * * * واعلموا أن على ألسنة الناس أقوالاً سائرة يلقونها لا يفكرون بمعناها، وكأنها من كثرة الترداد قد صارت ألفاظاً بلا معان، وهي ثمرة تجارب بشرية طويلة. منها قولهم: «الرفيق قبل الطريق». وأَولى سفرة باختيار الرفيق الصالح سفرة الحج، ورُبّ رفيق حججتَ معه فاستفدت من علمه واسترحت إلى حِلمه واطمأننت إلى أمانته، ورب رفيق نغّص عليك حجتك وأضاع عليك ثوابك. رفيق يجعل الحج مردوداً مرفوضاً، ورفيق يجعله مبروراً مقبولاً. فاختر لك رفيقاً عالماً بالمناسك، فإن لم تجد فخذ كتاباً من كتب المناسك لعالم موثوق به، ولا تركن إلى هذه الكتب التي يؤلفها من ليسوا بعلماء ولو رأيت الإعلان عنها والدعوة إليها،

فإن فيها خطأ كثيراً. ولا تأخذ كلام المطوِّفين قضيةً مسلَّمة، فإن أكثرهم من غير العلماء. ولا تقبل من كل من يتكلم في العلم، فربما تكلم في العلم في زماننا وتصدّر للإفتاء من ليس بعالم ولا بطالب علم. فإذا أعددتم المال الحلال وانتقيتم الرفيق الصالح، وتبتم من ذنوبكم وأدّيتم الحقوق التي عليكم، فأخْلُوا أذهانَكم من هموم العيش وخلّفوها وراءكم، وفرّغوا قلوبكم ما استطعتم لربكم، فإنكم تفكرون في الدنيا العمرَ كله ففكروا في الآخرة هذه الأيام فقط، وتعملون طولَ حياتكم لما لا ينفعكم بعد موتكم، فاعملوا هذه الأيام فقط لما يبقى لكم ويفيدكم يوم العرض على ربكم. * * * يا إخوتي الحجاج، إنكم تقومون للصلاة، تنظرون إلى مسير الشمس في النهار وتبحثون عن نجم القطب في الليل، وتضعون البوصلة أمامكم وتستحضرون موقع البلد في أذهانكم، لتعرفوا أين الكعبة فتجعلوها قبلتكم في صلاتكم، وبينكم وبينها الأبعاد والآماد وبينكم وبينها الصحارى والبحار والجبال والأنهار، لا يمنعكم بعدها ولا تصدّكم العوائق دونها عن أن تتوجهوا إليها بأجسادكم وقلوبكم، وأن تتصوروها على الغيبة وتحنّوا إليها على البعد، فها أنتم هؤلاء تمشون إليها كما يمشي المحبّ إلى لقاء المحبوب ودونه الحجب والأستار، فكلما جُزتم إليها بادية أو ركبتم بحراً رُفع لكم من دونها حجاب، وكلما دنوتم منها شبراً رُفع لكم ستر، حتى وصلتم إلى «المواقيت».

هذه مواقيت الحرم يا حُجّاج فقفوا؛ هذه أعتاب ديار المحبوب، هذه مشارف بيت المَليك. إن من يدخل حضرة ملك من ملوك الدنيا يلبس للمقابلة لباسها الرسمي، وهذه أبواب حضرة ملك الملوك، رب العالمين، فاخلعوا عن أجسادكم ثياب الدنيا والبسوا للنسك لباسه الرسمي. البسوا ثياب الإحرام التي لا يمتاز فيها غني عن فقير ولا أمير من أجير، وانزعوا معها حب الدنيا، وانزعوا مشاغلها ومشكلاتها عن قلوبكم، واغسلوا بالماء أجسادكم، واغسلوا بتجديد التوبة نفوسكم، وانووا إمّا الحجَّ وحده. وإما العمرةَ والحجّ مقرونَين؛ فتدخلون بالعمرة فتطوفون وتسعَون وتبقون محرمين إلى انتهاء أعمال الحج. وإما العمرة وحدها، فإذا أكملتم مناسكها (أي طفتم وسعيتم) حلقتم ولبستم ثيابكم وحَلَلْتُم، ثم أحرمتم بالحج يوم الحج. الأول هو «الإفراد»، والثاني «القِران»، والثالث «التَمَتُّع»، وكل ما تنوون حسن، وكلٌّ من الثلاثة هو الأفضل في أحد المذاهب، وإن كان التمتّع هو آخر ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به أولى. * * * ثم أصغوا تسمعوا صوت الشرع في قلوبكم يأمركم بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، واتّباع سبل الخير والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. اسمعوا أوامر الله في آيات كتابه وأقوال نبيه، فإذا تمثّلت لأذهانكم فأجيبوا بألسنتكم وبقلوبكم: لَبّيْكَ اللهُمَّ لبّيكَ، لبّيكَ لا شريك لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلْكَ، لا شريك لك.

لبيك؛ أمرتنا فأطعنا، ونهيتنا فاجتنبنا، فأعِنّا اللهمّ على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، فإنا لا نستطيع أن نقوم بها بغير معونتك. لا شريك لك فنطلب منه، ولا إله سواك فنفرّ إليه. لقد فررنا إليك وجئنا قاصدين بيتك، فهل تردّنا عن بابك خائبين وأنت أكرم الأكرمين؟ هذه -يا حجّاج- مواقيت الحرم، «آبار عليّ» على أبواب المدينة، و «الجَحْفَة» عند رابِغ، و «قَرْن» عند السَّيل الكبير، و «وادي مُحرم» قرب الطائف، و «يَلَمْلَم» في الجنوب الشرقي من مكة. هذه حدود منزل الوحي. لقد جزتموها الآن مُحرِمين، فجدّوا السير واحْدُوا المَطِيّ (أو استحثّوا سائق السيارة). * * * لقد دنوتم الآن من الحرم. أتعرفون يا إخوان ما الحرم؟ هنا دار السلام إن عمّت الأرضَ الحروبُ، هنا دار الأمن إن شمل الناسَ الخوفُ. كل حي ها هنا آمن، الناس والحيوان والنبات، ليس ها هنا حرب ولا قتال، الحيوان ها هنا لا يُصاد والأشجار لا تُقطع. لا عدوانَ على أحد ولا تجاوزَ على شيء. هذه حدود الحرم، ألا ترون أعلامها؟ لقد أقام هذه العلامات أبو الأنبياء إبراهيم، وبقيت حيث أقامها. لقد دخلتم الآن الحرم، فجدّدوا التلبية واجهروا بها، وقولوا بقلوبكم مع ألسنتكم: لبيك اللهمّ، قد دعوتَنا فأجبنا، سمعنا المؤذن يؤذن بالحج فجئنا رجالاً وعلى كل ضامِر، أتينا من مكان بعيد، نجزع الأرض، نطوي البيد، نركب الريح ونمتطي اللُّجَج،

امتثالاً لأمرك وابتغاءَ رضاك. لبّوا يا حجاج واجهروا بالتلبية، لبّوا عند كل رابية وجبل تُلَبِّ معكم الروابي والجبال، لبّوا كلما صعدتم نَشْزاً (¬1)، لبوا كلما هبطتم وادياً، لبّوا فهذه جبال مكة بَدَت لكم. لقد وصلتم، لم يبقَ إلا قليل فجِدّوا المسير. هذه مكة فادخلوها من أعلاها، من جهة ذي طوى (¬2) ثم اهبطوا من الحُجُون، من عند المقبرة، فمِن هناك دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم امشوا من عند المسعى حتى تدخلوا من باب السلام، باب بني شَيبة. لقد زالت الحُجُب حجاباً بعد حجاب، وتقاربت الأبعاد ساعة بعد ساعة، حتى بلغتم الأرَب فنسيتم التعب، فهنيئاً لكم نلتم المرام؛ هذا باب السلام وهذه زمزم وهذا المَقام، وهذه الكعبة البيت الحرام. فلبّوا وهلّلوا وادعوا، فإن دعاء المسلم أولَ ما يرى الكعبة مستجاب. هذا هو المشهد الذي قطعتم من أجل رؤيته الآفاق وحملتم المشاق. إني لن أنسى يوم وقفت هذا الموقف أول مرة من إحدى وثلاثين سنة؛ لقد سلكنا الصحارى من دمشق، فكنا ¬

_ (¬1) النشز كل ما ارتفع من الأرض (مجاهد). (¬2) كان ذو طوى وادياً بظاهر مكة، وهو حي الزّاهِر اليوم. وكلمة «طوى» مثلثة الطاء، أي أنها تلفظ بضم الطاء أو بفتحها أو بكسرها، كل ذلك صحيح (مجاهد).

كلما دنونا يوماً زاد الشوق بنا شهراً، حتى تمنيت أن تطوى لي الأرض وأن ينصرم الزمن. حتى إذا وقفتُ على باب السلام صفّق من الفرحة القلبُ وبكت من السرور العينُ، فما رأيت الكعبة إلا من خلال الدموع: هذه دارُهُم وأنت مُحِبُّ ... ما بقاءُ الدّموعِ في الآماقِ؟ إني لا أتمنى إلا أمنيّة واحدة، هي أن أنسى هذا المشهد لأستمتع برؤيته من جديد. هذه مكافأة الحاجّ؛ إنها لذة من لذائذ الروح لا مثيل لها، لذة لا يدرك مداها إلا من ذاقها، لذة لا توصف ولا تعرف. أسأل الله أن يَمُنّ بالحج على كل راغب فيه مشتاق إليه. * * *

أعرابي في بلودان

أعرابي في بلودان نشرت سنة 1962 لا يعجبني قول من يقابل بين القرآن والعلم ويفخر بأن القرآن سبق العلم الحديث إلى كذا وكذا، وجوابه هذه القصة. هل قرأتم قصص الأعرابي الذي صَحِبَنا دليلاً لنا لمّا سافرنا من سبع وعشرين سنة لنفتح طريقاً للسيارات من دمشق إلى مكة؟ لقد كتبتُ عنه في «الرسالة» فصولاً وصفت فيها قدومه الشام من بَعدُ (¬1)، وكان ذلك سنة 1935، ثم انقطعت أخباره عني حتى ¬

_ (¬1) انظر مقالة «أعرابي في حمام» وأخواتها، وهي منشورة في كتاب «صور وخواطر». وهذا الأعرابي لم يكن قَطّ، بل هو خيال ابتكره علي الطنطاوي ليبني عليه هاتيك الفصول، استوحى شخصيته من شخصية دليل صحبه في رحلة الحجاز. وإن شئت فانظر تفصيل خبره في الجزء الثالث من «الذكريات»، في الحلقة الثالثة والسبعين. وذكره أيضاً في الحلقة الثامنة والتسعين فقال: كتبت مرّة قصصاً متخيَّلة عن أعرابي صَحِبَنا في رحلة الحجاز، منها «أعرابي في حمّام» ... إلخ. وكذلك الحال في قصة هذا المقال، ليس لها أصل من الواقع، بل هي قصة نسجها -للعبرة- من الخيال (مجاهد).

سافرت من سنوات وجزعت عرض الجزيرة من البحر إلى البحر، من جدة إلى الظهران، فلقيت صاحبنا في إحدى المحطات التي وقف عليها قطارنا في نجد، ووجدته قد أثرى واغتنى وصار ذا مال وبنين، ولكنه لا يزال على جفوته، لا يعرف من مظاهر الحضارة التي يتمتع بها الناس إلا خيمته والوعاء الذي يستقي به الماء من البئر والسّراج الذي يشعله إذا أظلم الليل؛ لا يدخل مدن نجد ولا يرى ما فيها فضلاً عن أن يؤمّ غيرها، ولا يعرف ضوء الكهرباء، ولا ركب الطيارة ولا سمع بالرادّ ولا بشيء من أدوات المدنية الحديثة. فتركت القطار وبقيت معه يوماً أنِستُ فيه بلقائه وجدّدت العهد به، ثم دعوته لزيارة الشام كَرّةً أخرى، فتأبّى ثم لان ولبّى، فأخذتُه معي إلى الظهران ومعه ثلاثة من أولاده، ثم ركبنا الطيارة إلى دمشق. وكان معه مال كثير، فأحببت أن أريه من مظاهر الحضارة ونِعَم الله على أهلها (وإن كان أكثرهم لا يحسن الشكر عليها)، فاستأجرت له في بلودان (¬1) قصراً مُنيفاً لواحد من المُترَفين المسرفين لم يَدَعْ شيئاً مما وصلت إليه مدنية العصر إلا أودع منه في هذا القصر، ففيه التدفئة المركزية للشتاء وفيه المكيفات للصيف، وفيه المصعد الآلي، وفي مطبخه البرّاد والغسّالة والعصّارة وأجهزة تقشير الخُضَر وغسل الأواني وتقطيع الخبز وتجميره، كل ذلك على الكهرباء، وفيه الماء جارياً أبداً حاراً وبارداً. ¬

_ (¬1) يلفظونها بباء ساكنة في أولها. وهي بُلَيدة إلى الغرب من دمشق غيرَ بعيد عنها ذات هواء عليل وجو جميل، يتخذها أهل دمشق مَصيفاً هي والبلدات القريبة منها، بُقَّيْن ومَضَايا والزَّبَداني (مجاهد).

أوصلته إليه وتركته فغبت عنه في دمشق أسبوعين، ثم عدت إليه فوجدته قد ترك القصر بكل ما كان فيه، وأقام في رحبة أمامَه خيمةً ينام فيها هو وأولاده على نحو ما كان يصنع في البادية، واشترى قِربة وطلب عينَ الماء البعيدة فكان يملأ قربته فيها ويعود بها، لا يدخل القصر ولا يعلم أن الماء في الحنفيّة. وابتاع شمعاً، فكان إذا أظلم الليل أشعل شمعة، فإذا انتهت أو أطفأتها الريح نام مكانه، لا يعرف الكهرباء ولا يهتدي إلى مفتاح ضوئها. ولبث على ذلك أياماً. إلى أن كانت ليلة من ليالي السَّرار غاب فيها القمر، ولم يجد ما يشعل به السراج فدخل الدار وهو خائف يتلمّس الجدران بيديه، فوقعت يده بالمصادفة على مفتاح الكهرباء، وكان في بهو الدار الثُّرَيّات ذوات العشرات من المصابيح الصغار فأضاءت كلها معاً. فغارت جرأة الأعرابي كما يغور ماءُ الحوض انشقّت من تحته الأرض، وغاص قلبه في صدره حتى أحس به في قدميه، وأراد الصياح فلم يطاوعه صوته، وطلب الهرب فما حملته رجلاه. وظن أن الجنّ هي التي أشعلت الأنوار، ووقف أمام الباب ينتظر أن يذهب الجني فينطفئ الضوء، فوجده لا يزال مشتعلاً، فتشجع ودخل يلمس الجدران كما كان يفعل أول مرة، فوقعت يده على الزر فانطفأ، فخاف وكاد يهرب، ولكن يده مست الزر مرة ثانية فأضاء، فعرف أن النور يشتعل وينطفئ من هنا. ورأى الأولاد النور فدخلوا، فوجدوا في الدار ما لم ترَ مثلَه عينُ أحد في القبيلة ولم تسمع به أذناه، وجالوا فيها فرحين، وزال

عن الأب ما كان فيه فجال معهم حتى دخلوا المطبخ، فوجدوا فيه طعاماً كثيراً طيباً لم يروا مثله ولم يعرفوا ما هو، ولكن رأوا سَواغه في حلوقهم وعرفوا خفته على بطونهم. وعبث الرجل بالحَنَفيّة فسال منها الماء، فدخل عليه الغرور ولم يبقَ عنده شك في أنه قد أصبح من السحَرة وأنه غدا فوق البشر، إذ أشعل النور بلا كبريت وأسال الماء من الحديد وعمل هذه المعجزات. وبلغني أنه لما جاء صاحب القصر بعد ذلك يطلب الأجرة تنكّر له صلبي وجحده حقه ومنعه أجرته، وقال له: لقد كنت أتعرف إليك وأنا في عهد الشمعة والقِرْبة، أما الآن وأنا في عهد الكهرباء والحنفيات، في عهد التقدمية والرقي، فلست أعرفك. قال: ويحك، أنا الذي بنى هذه الدار ووضع فيها أسلاك الكهرباء وأنابيب الماء، ولقد وضعت لك أشياء أُخَر أعجبَ من هذا وأغرب، فإذا كان وقوفك على مفتاح الكهرباء وحنفية الماء جعلك تنكر حقي، فكيف إذا عرفت سرّ ما بقي؟ أفما كان أولى بك أن تشكرني على ما أعددت لك وتخجل مني لأنك لبثت أسبوعاً لا تدري به، وأنك لا تعرف إلى الآن بقية ما في الدار؟ وكيف إذا عرفت المصعد فرأيت غرفة تصعد بك وتنزل، والغسّالة وهي حديد تعمل عمل الأيدي، ولو عرفت -بعدُ- الرادَّ والرائي وشريط التسجيل وهاتيك العجائب؟ * * * يا سادة، هذا هو مثال البشر إذ يغترّ ناسٌ منهم بهذه المكتشَفات العلمية ويظنون أنهم شاركوا الله في ملكه وقدروا على

ما لا يقدر عليه البشر. تقول للرجل: اتّقِ الله واتبع سبيل الشرع، فيقول لك: ما لنا وللدين؟ نحن في عصر الذرّة والصاروخ والقمر الصناعي والتقدمية والرقي. ولو عقلنا لأقررنا بعجزنا إذ لم نكشف هذه الأسرار كلها من أول يوم، ولازددنا إيماناً بالذي خبّأها لنا، والذي عنده من الأسرار ما لا يبلغ كلُّ ما اكتشفنا نقطةً من بحره. إننا مثل ذلك الأعرابي الذي عرف قليلاً مما وضعه له صاحب الدار، فبدلاً من أن يشكره عليه ويعترف بفضله ويسعى لمعرفة المزيد أنكر عليه حقه وقصر في أدائه وامتنع عن دفع الأجرة. هذا هو المثال، ولله المَثَل الأعلى. إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي وضع فيه هذه الأسرار الهائلة وهذه القوانين الطبيعية العجيبة. إنه جعل لكل مرض دواء، ووضع ذلك أمام أعيننا كما وضع صاحبُ الدار المفروشات والأدوات أمام الأعرابي، فكنا مثله في جهالته وأمضينا الدهر الأطول فلم نبصر إلا الأقل الأقل منها، عرفناه مصادفة كما عرف الأعرابي وأولاده مفتاحَ النور وحنفيةَ الماء، لم نعرفه بخطة مرسومة ولا نهج بيّن. ما علمنا أن في هذا العفن الأخضر مادة البنسيلين التي تقتل الجراثيم وتشفي الناس إلا من عشر سنين، مع أن هذه المادة موجودة فيه وضعها الله تحت أبصارنا من يوم خلق العالم. وهو الذي جعل في الهواء القدرة على حمل الطيارات وجعل في الذرة هذا القوة الهائلة، وكان ذلك موجوداً من أول الدنيا ولكنّا لم نعرفه

إلا من قريب. فلما عرفناه حسبنا أننا نحن طيّرنا الطيارة، وأننا نحن خلقنا البنسلين، وأننا نحن سيّرنا الصاروخ، وأننا نحن وضعنا هذه القوة العظيمة في الذرة الصغيرة! الله أودع في الكون هذه الأسرار من يوم خلق العالم، وقال لنا: فكروا واعملوا بعقولكم وابحثوا عن هذه الأسرار. فلما فكرنا ووقفنا على بعضها لم نحمد الله لأنه وضعها لنا ووفقنا إلى اكتشافها، بل جحَدْنا بها فضلَ ربنا وكدنا نكفر بديننا! * * * إن هذه المخترعات تزيد الإيمان بالله ولا تنقصه. كفار قريش وكبار عقلائهم لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنه ذهب من مكة إلى القدس ورجع في ليلة واحدة كذّبوه ولم يستطيعوا أن يصدقوا أن هذا الأمر ممكن. وأجهل رجل اليوم لو قلت له: "أنا ذاهب إلى الشام وأعود غداً" لقال لك: "مع السلامة"، وما تعجّب ولا اندهش. لم يعد يكذّب أحدٌ بمعجزة الإسراء لأن اختراع الطيارة قوى إيماننا بها. والذين كانوا يسمعون أن اليد تنطق والرجل تنطق يوم القيامة كانوا يشكّون في هذا ويقولون: كيف تنطق اليد؟ وهل لليد لسان؟ فلما رأوا شريط التسجيل ينطق وأسطوانة الحاكي تنطق علموا أن الله الذي أنطق الشريط والأسطوانة في الدنيا قادر على أن يُنطق اليدَ والرجل في الآخرة، فزالت شكوكهم وقوي إيمانهم. يا سادة، إن البشر كلما ازداد علمهم بأسرار هذه الطبيعة

التي طبعها الله وبما أودع فيها من أسرار زاد إيمانُ العقلاء منهم بالله، أما الذين يتزعزع منها إيمانهم فإن مثلهم مثل ذلك الأعرابي الأحمق الذي ظن أنه هو الذي أسال الماء من الحديد وأخرج الضياء من الجدار! لقد أودع الله الكونَ هذه الأسرارَ لتكون داعياً إلى الإيمان لا حافزاً على الكفر. اللهم اجعلنا من أولي الألباب. * * *

روح الصلاة

روح الصلاة نُشرت سنة 1967 كنت في زيارة صديق لي، شيخ من المشايخ الصالحين المُرَبيّن، وكان في المجلس اثنان من رفاق ولده من الشباب الأحداث المتأنّقين. فأذن المغرب فاستعددنا للصلاة، ولكن أحد الشابين لم يتحرك، فقال له الشيخ: ألا تصلي؟ قال: لستُ متوضئاً. قال: هذا الماء. قال: شكراً، لا أريد الوضوء. قال الشيخ: الأمر سهل ما فيه مشقة. قال: لا، شكراً. فتركناهما وصلينا. فلما قُضيت الصلاة فكّر الشيخ فرأى أنه يأثم إن تركهما، فقال لهما: يا أولادي، يقولون إن المغرب غريب، أي أن وقته قصير، وإذا أردتما الصلاة في داركما لم تلحقاها. قال الشاب الثاني: أقول لك الصحيح؟ نحن لا نصلي. قال: ولماذا لا تصليان؟ فقال (بلهجة نابية وجفاء ظاهر): هذه أمور شخصية لا دخل لأحد فيها، ويكفي أني لا أضرّ أحداً ولا أسرق مال أحد. قال الشيخ: هذه أمور شخصية في نظرك ونظر من أخذوا

برأي الأجانب، أما في نظر الإسلام فلا؛ إن من الواجب على كل مسلم أن ينصح أخاه وأن يرشده، وأن يأمره بالمعروف وأن ينهاه عن المنكر. قال الشاب: وهل الدين بالصلاة؟ فقلت أنا: نعم، بالصلاة؛ لا الإسلام فقط بل الأديان كلها. ليس في الدنيا دين، سواء في ذلك الدين الصحيح الذي هو الإسلام والأديان الباطلة، إلا وعماده الصلاة. وإلا ففيمَ يكون الدين؟ هل يكون بالرقص والتمثيل والقفز على الحبل؟ إن الشيخ يدعوك إلى فرض فرضه الله عليك لم يفرضه عليك هو. قال: أنا لا أنكر أن الصلاة فرض، وأنا أحبّ أن أصلي، ولكني عندما أرى بعض المصلين أنفر من الصلاة. عندنا في المدرسة شاب يصلي دائماً ويقرأ الأوراد، وهو دجال محتال بعيد عن الأمانة مجانب للاستقامة. قلت: لهذا تركت الصلاة؟ قال: نعم. قلت: لماذا تأكل إذن؟ قال: لماذا لا آكل؟! قلت: لأن بين من يأكلون من هو لص خبيث ساقط محتال. قال: ما لي وما له؟ الأكل ضروري لحياة الجسد. قلت: والصلاة ضرورية لحياة الروح، فما لك ولهذا الذي قلت إنه دجال؟ فسكت. قلت: وشيء آخر، هل تعتقد أن رفيقك الدجال المحتال يصلي؟ قال: نعم. قلت: لا يا بني، إنه ما صلّى. {إنّ الصّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحْشَاءِ

والمُنْكَر}؛ هذا قول الله، وقد شرحه رسوله صلى الله عليه وسلم فبيّن أن مَن لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، وكان قد فعلها رياء وتظاهراً، لم يزدد من الله إلا بعداً. انظر إلى كاتب الأمير الذي يدخل عليه كل ساعة مرة، هل يخرج من عنده فيتكلم عليه أو يشتغل بما لا يرضيه ويخالف عن أمره؟ وكيف، وهو يعلم أنه سيدخل عليه بعد ساعة وسيسأله عمّا فعله؟ فكيف يأتي الفحشاءَ والمنكر من يدخل الحضرة الإلهية ويقوم بين يدي الله خمس مرات كل يوم؟ لذلك شبه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلوات الخمس بنهر على باب المسلم يغتسل فيه خمس مرات في اليوم. هل يكون وسِخَ الجلد قذر الجسد من يغتسل خمس مرات في اليوم؟ لا، إن صاحبك ما صلى، ولو قام وقعد وركع وسجد وتلا وذكر، وأدى الشروط الظاهرة والأركان والواجبات والسنن. هذا كله جسد الصلاة، فإن لم يكن معه الإخلاص وحضور القلب كانت صلاته جسداً بلا روح. قال أحد الحاضرين: وكيف يكون الإخلاص؟ قلت: بأن يكون قصدك من الصلاة امتثال أمر الله وعبادته وطلب رضاه، لا أن يكون قصدك تقدير الناس وأن يقولوا: فلان متعبد. ولا أن تتخذ من حسن رأيهم فيك وسيلة إلى مالهم أو جاههم، فتكون قد جعلت الدين سلماً إلى الدنيا. والصلاة أهم الأعمال كلها في نظر المسلم، وقد يترك من أجلها كلّ عمل من الأعمال مهما كان كبيراً، ولا يتركها من أجل عمل من الأعمال مهما كان كبيراً.

وينبغي أن تحدَّد مواعيد الأعمال كلها في المجتمع الإسلامي تبعاً لأوقات الصلاة، مواعيد الدروس في المدارس، والدوام في الوظائف، والتجارات في الأسواق، والحفلات والرحلات والمباريات، وألاّ يُسمَح في المجتمع الإسلامي لعمل من الأعمال أن يعطل الصلاة أو يؤخرها عن وقتها. وقد غضب الناس في دمشق مرة لأن المجلس النيابي جعل بداية موعد جلسة من جلساته قبل المغرب بنصف ساعة، فاستمرت الجلسة إلى هزيع من الليل فضاعت صلاة المغرب. وقد يقوم من يشاء من الأعضاء فيصلي، ومع ذلك غضب المسلمون لأن هذا التهاون بالصلاة في بلد إسلامي لا يجوز. وكان في دمشق من سنين احتفال رسمي كبير في الملعب البلدي، يضم أكثر من ثلاثين ألفاً، فبدؤوه قبل المغرب بقليل. فلما حان موعد الصلاة كان الوزير يخطب خطبة الافتتاح، فوقف أحد المشايخ وأذّن بصوت عال وأقام الصلاة، فقام معه جمهور الحاضرين وتركوا الوزير يخطب وحده، فاضطر إلى السكوت. وكان فيمن قام إلى الصلاة هاشم بك الأتاسي رحمة الله عليه، وكان يومئذ رئيس الجمهورية. وقد لام ناسٌ هذا الشيخَ وكتبوا في الجرائد ينقدونه، فكتبت أدافع عنه وقلت: إن الذنب ذنب مَن حدّد وقت هذا الاحتفال. وقلت لهم: لو أن الاحتفال بدأ الضحوة واستمر إلى الليل ولم يُراعَ فيه وقت الغداء، فهل يُلامُ مَن يترك الاجتماع ويقوم ليأكل أم يلام من دعا إلى الاجتماع وقت الغداء؟ فلماذا لا تنكر على

من يدعو إلى الاجتماع وقت الصلاةِ والصلاةُ خير من النوم ومن الطعام؟ ثم إن الصلاة ليست للفرد وحده ولكن الصلاة للناس كلهم، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي التي تُصلح المجتمع وتمنع العدوان وتهذب الأخلاق، ولا سيما إن صُلِّيت في المساجد مع الجماعات. * * * نحن لا نعرف قيمة صلاة الجماعة. إن هذه الجماعة مثل المجالس المحلية التي تعمل على كل ما فيه خير للحارة، تقر التكافل الاجتماعي فتعين المحتاج وتساعد الفقير وتداوي المريض، وإن احتاجت الحارة إلى إصلاح طريق راجعت الجماعةُ الحكومةَ لإصلاحه، وإن ضاقت المدرسة سعت لتوسيعها، وإن كان فيها مَفسَدة أو منكر عملت على إزالته. والمجالس المحلية عند الناس تجتمع مرة في الأسبوع، ولكن مجالسنا المحلية تجتمع خمس مرات كل يوم. هذه هي المجالس المحلية للحارات. وهناك مجلس محلي للحي كله يجتمع مرة في الأسبوع، وهو صلاة الجمعة، ومجلس للمدينة كلها يجتمع مرتين في السنة، وهو صلاة العيد، ومجلس إسلامي عام، وهو المؤتمر الذي ليس له نظير في الدنيا ولم يعرف البشر قبله ولا معه مثله، وهو الحج. إن هذه الصلاة هي أساس صرح الحضارة الإسلامية، وهي الدافع لهذه الفتوحات، هي الركيزة لهذا المجد الذي نطح النجم ودان الدهر.

إن المسلمين سادوا الدنيا وكانوا هم ملوكها وكانوا أساتذتها، وكانوا هم حَمَلة منار الحضارة فيها، لمّا كانوا يصلّون حقيقة وكانت صلاتهم جسداً وروحاً، لم تكن كصلاة كثير منا: جسداً بلا روح. فهل نعود إلى مثل تلك الصلاة ليعود لنا مثل ذلك المجد؟ * * *

أين التائبون؟

أين التائبون؟ حديث أذيع من دمشق سنة 1959 حديث اليوم -يا أيها السادة- موعظة من شيخ وليس طرفة من أديب، فلا تنتظروا منه تسلية ومتعة بل فائدة ومنفعة، واستحضروا قلوبكم، فإن مثل هذا الحديث يُسمَع بالقلوب لا بالآذان. إنها موعظة أخذتها من فِلم، فلا تعجبوا من موعظة تكون في الأفلام، فإن القلب قد يصحو صحوة فيرى الموعظة في لوحة الرائي ونكتة المهرج، وقد يغفل فلا يراها في حلقة الواعظ أو مسجده. وقديماً رووا أن رجلاً صالحاً كان يفكر في الله دائماً، فسمع بياع الصّعتر ينادي: «يا سعتر برّي»، فسمعها «اسعَ تَرَ برّي» فأغمي عليه. كانوا يعرضون جريدة الأخبار المصوَّرة وفيها مشاهد من الامتحان، حيث التلاميذ الصغار يقعدون مفكّرين أقلامُهم في أيديهم وعيونهم في أوراقهم، فمَن كان عارفاً الجوابَ أسرع في الكتابة باسماً، ومن كان ناسياً نظر عابساً، ومن كان جاهلاً أطرق حزيناً أو بكى يائساً. وظهر في الصورة ولدٌ ألقى نظرة من عينيه يسرق بهما من ورقة جاره فجاء المدرس فأمسكه.

وضحك بعض الحاضرين من هذا المشهد، ولكني لم أضحك. رأوه بعين اللاهي ورأيته بنظر الجادّ، لأني كنت في لحظة من هذه اللحظات المفاجئة التي يتفطّر فيها القلب وتتفتح النفس. ولست أدّعي الصلاح، وما وجدت في عمري كله إلا قليلاً من هذه اللحظات كانت هذه واحدة منها. تصورتُ هذا التلميذ المسكين وقد ألقى نظرة ظنّ أنه لا يراها أحدٌ وإنما تمرّ وتُنسَى، فجاءت الآلة فسجّلتها وأعلنتها وعرضتها على الناس، فافتُضح بها ولم يعد يستطيع إنكارها. وقلت في نفسي: إذا كان هذا كله من عمل آلة بشرية سجّلت هذه الخطيئة وأبقتها دائماً، فكيف الحال والمَلَكان يسجّلان عليّ كل صغيرة وكبيرة أعملها؟ أحسب أني قد نجوت ولم يرَني أحدٌ كما حسب هذا التلميذ المسكين أن نظرته مرّت لم يَرَها المراقب، لا أدري أن كل صغيرة وكبيرة عملتها قد سُجِّلت في الشريط الخالد، شريط المَلَكين! كل كلمةٍ بشرٍّ زلَّ بها لساني، وكل نظرة إلى عورة نظرَتها عيني، وكل خطوة إلى حرام خطَتها رجلي، وكل حركة بظلم تحركتها يدي، كله قد سُجِّل وحُفظ في هذا الشريط، وكل لقمة حرام أكلتها وكل قرش حرام أخذته. وسيعرض هذا الشريط لا في فِلم يراه ألوفٌ من الناس ثم ينسونه، بل هو سيعرض على الخلائق كلهم، من كان منهم في أيامنا ومن كان قبلُ أو يكون بعدُ، من عهد آدم إلى آخر الزمان يجمعهم الله جميعاً، وهنالك الفضيحة الكبرى لا فضيحة التلميذ سرق بنظره كلمة من ورقة جاره. الفضيحة على رؤوس الأشهاد جميعاً، وإذا أنا أنكرت (وأنّى لي الإنكار؟)

أُجبرتُ على تمثيل خطيئتي من جديد كما يمثّل المتهم جرمه أمام المحقق، فتحكي يدي ما كان من ذنب أنكرتُه بلساني، وتنطق رجلي ويشهد عليّ جلدي! * * * إن التلاميذ اليوم يخشون هذا الامتحان، مع أن الراسب فيه يعيد الدورة أو يُرَدّ إلى صفه فيخسر سنة من عمره. فما بال ذلك الامتحان، الامتحان الأكبر يوم القيامة، وليس فيه دورة ثانية ولا يُرَدّ مَن يرسب فيه إلى الدنيا ليعيد التجربة، وليس فيه خسارة سنة ولا سنوات ولكن فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد، فيه النعيم الخالد أو الشقاء الخالد، فيه الجنة أو جهنم؟ إن نار الدنيا إذا قيست بنار جهنم كانت نعمة، ونحن مع ذلك لا نستطيع أن نتحمل عذابها. من يقدر أن يجلس ربع ساعة على الموقدة المشتعلة المحمرّة؟ فكيف نلقي بأنفسنا في نار جهنم؟! إن أكثركم إذ يسمع ذكر الآخرة يُعرِض عنه أو يسخر بقائله، لأن أفكاركم مشغولة بحوادث يومكم وعمل ساعتكم. إن منكم من يسمع هذا الحديث وهو على موعد قد استعدّ للذهاب إليه أو شغل يهمّ بقضائه، ومن يضع الرادّ إلى جنب السرير يستجلب بسماعه النوم إلى أجفانه، هذا كل ما يريده منه، أما أمر الآخرة فلا يباليه ولا يفكر فيه، كأننا خالدون في الدنيا وكأن الموت ما نزل بأحد حتى ينزل بنا. كنت مرة في زيارة صديق لي، وكان مريضاً مرضاً عارضاً

فهو قاعد في فراشه، وكان عنده ولده وهو يسأله شيئاً من المال فلا يعطيه مع أن عنده من الأموال ما لا تأكله النيران، وتطاول الولد عليه وهو يردّه ويأبى عليه القليل، وكان يتكلم فشَرِقَ بريقه فوقف في وسط الجملة، وانتظرنا أن يكملها فما أكملها، وطالت السكتة فمسَسْناه فإذا هو قد مات! ونظرتُ مفكراً وسألت نفسي: ما الموت وما الحياة؟ إن الرجل لا يزال أمامنا كما كان، ما تبدل منه شيء ولا نقص منه شيء، ولكنه مات. كان المال له يمنعه الولد، فغدا في نصف ثانية من الزمان غريباً عنه لا يملك منه شيئاً وصار المال كله للولد، ما أخذ منه شيئاً ولا حمل معه منه قليلاً ولا كثيراً، فلماذا كان يحرص عليه ويبخل به؟ إنه ما أخذ معه إلا عمله، فلماذا نتمسك بما لا ينفع ونترك النافع؟ إذا كنتَ على سفر بالطيارة وكنت لا تستطيع أن تحمل معك إلا حقيبة واحدة، وكان عندك جواهر غالية أو أموال وعندك قناطير مقنطرة من الحطب، وكنت لا تدري متى تدعى للسفر، فهل تلبس وتُعِدّ حقيبتك وتلمؤها بالمال والجواهر، أم أنك تقعد من غير استعداد، لا تلبس ثيابك ولا تعد حقيبتك وإنما تحرس الحطب حتى لا تذهب منه حطبة؟ إن كل ما في الدنيا من متاع ولذة ومال كَوْمة حطب لا تقدر أن تحمل معك منه شيئاً، وعملك الصالح هو الجواهر التي تحملها أو تنتفع في سفرك إلى الآخرة بها.

وقلت لنفسي: يا رجل، مهما عشتَ فإنك ميت، وإنك واقف للحساب، وسيُعرَض الشريط الذي سَجّل عليك كلَّ حركة وكل لفظة وكل صغيرة وكل كبيرة، حتى ما نسيته أنت ولم تعد تذكره، وستكون فضيحتك على رؤوس الأشهاد كما افتُضح الصبي المسكين الذي سرق بعينه من ورقة جاره. فماذا أعددت لهذا اليوم؟ وامتلأت نفسي رهبة وخوفاً، وتصورت ذنوبي التي لا تُعَدّ ولا تُحصى: ما أصنع بها؟ ثم وجدت الخلاص؛ وجدت وسيلة إلى محو هذا الشريط بكل ما فيه. فهل تحبون أن أدلكم عليها؟ إنها طريقة سهلة تَضطرون بها الملكين إلى محو كل ما سجّلا عليكم من ذنوب؛ هي التوبة. التوبة -يا أيها الناس- هي التي تمحو الذنوب حتى كأنها لم تكن، بل لقد تكون التوبة حسنة من الحسنات، فلا تتخلصون بها من الذنوب فقط بل يكون لكم منها مكانَ السيئات حسنات. وليس في الذنوب ما لا تمحوه التوبة: {قُلْ يَا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله، إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً}. * * * فيا أيها العصاة المذنبون (وأنا والله واحد منكم): هل يقدر أحدٌ أن يحارب الله؟ هل يقدر أحد أن يهرب من لقاء الله؟ هل يقدر أحد أن يخلد في الدنيا؟ مهما نال من القوة والسلطان لا بد أن ينزل في هذه الحفرة وحده، لا ينزل معه والد ولا ولد ولا زوجة

ولا إخوة، كلهم يتركهم ويعود فيبقى في القبر وحده، ويَقْدُم على الله وحده ويقوم في الحساب وحده. فهل لكم طاقة بحساب الله؟ فلماذا إذن لا تستفيدون من هذا العفو العام؟ ولا يقل أحد: إن ذنوبي كثيرة. أما سمعتم في الحديث الصحيح قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ثم أراد أن يتوب، فسأل راهباً جاهلاً: هل لي من توبة؟ قال: لا. فقتله فكمل به المئة. ثم سأل عالماً: هل لي من توبة. قال: نعم. وتاب وذهب ليعبد الله في بلد آخر، فمات على الطريق، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ هؤلاء يقولون: مات تائباً، وهؤلاء يقولون: ما عمل خيراً قط. فأرسل الله مَلَكاً على هيئة رجل فقال: قيسوا الأرضين فإلى أيهما كان أقرب كان لها. وأمر الله الأرض التي قَتَل فيها أن تبتعد والأرض التي يريدها أن تقترب، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى أرض التوبة فغُفر له. * * * وهذا شهر رمضان أوشك أن يولي، فصفّوا حسابكم مع الله لتخرجوا من رمضان بصحف بيض ونفوس زكية، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً. وللتوبة شروط يا أيها الإخوة. أولها: أن تترك الذنب الذي تتوب منه، فمَن تاب من ذنب وهو لا يزال مقيماً عليه كان كالمستهزئ بربه والعياذ بالله. وثانيها: أن تندم على الماضي وتعزم عزماً أكيداً على أن لا تعود إليه أبداً. هذا في حقوق الله، أما في

حقوق الناس فلا بدّ من أن تُرجِع الحقوق لأصحابها أو يسامحوك بها، فلا يكفي أن تتوب منها وأنت لم ترجعها. وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس (أي المفلس الحقيقي) من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار (¬1). وهذا سيد الاستغفار: جاء في الحديث الصحيح أن من وفّى حقوقَ الناس وقاله من نهاره موقناً به فمات في هذا النهار كان من أهل الجنة ومن قاله من ليلته موقناً به فمات في هذه الليلة دخل الجنة، وهو: «اللهمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (¬2). * * * يا أيها السامعون، لو أن الحكومة نشرت بياناً تقول فيه إنها تسامح كل مكلَّف بضريبة لم يؤدِّها بشرط أن يقدم طلباً بذلك، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد (مجاهد). (¬2) سماه النبي صلى الله عليه وسلم «سيد الاستغفار» في حديث شدّاد بن أوس الذي أخرجه البخاري وأحمد وأصحاب السنن (مجاهد).

وكان عليك ضرائب كثيرة لم تدفعها، ألا تقدّم هذا الطلب لتتخلص منها؟ هذا بيان من رب الأرباب يقول: {يَا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله، إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً، إنّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ. وأَنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِموا لَهُ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُون}. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» (¬1). الله يدعوكم لتتوبوا إليه في كل يوم وليلة، فأين التائبون المستغفرون؟ * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأحمد (مجاهد).

طريق الإسلام

طريق الإسلام نشرت سنة 1988 [وجدت اليوم شيئاً فرحتُ به: شريطاً مسجّلاً عليه خطبة الجمعة التي كنت ألقيتها في مسجد عمّان الكبير يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الأولى سنة 1391هـ (9 تموز 1971)، وأُذيعت من الإذاعة الأردنية. ولم يكن من عادتي أن أُعِدّ خطبي أو أن أكتبها، ولكن هذه الخطبة قد سُجّلت، ففرحت بها واستخرجتها من الشريط وبعثت بها إلى «الشرق الأوسط» لتعم الفائدة إن شاء الله منها.] إن مثَلَنا مَثَل قافلة كانت ماشية في طريقها، تتبع دليلها ويحدو بها حاديها، ففُقد الدليل وسكت الحادي، ثم كثر الأدلاّء وتعدد الحُداة وتشعّبت الطرق، فانقسمنا، ثم اختلفنا، ثم افترقنا فمشى كلٌّ في طريق واتخذ كلٌّ لنفسه غاية. فقفوا قليلاً وانظروا: إلى أين نمشي؟ ومن منا الذي يمشي على الصواب؟ منّا مَن مشى غرباً ومِنّا مَن مشى شرقاً، فما انتهى المشرّقون ولا المغرّبون إلا إلى الفرقة والهوان. والطريق واضح والقبلة

معروفة، ليست قبلتنا البيت «الأبيض» ولا البيت «الأحمر»، ولكن قبلتنا بيت عليه ستار أسود. وليست وجهتنا الشرق ولا الغرب، ولكن وجهتنا إلى حيث يقوم هذا البيت. فحين ندع الشرق والغرب ونتوجه إليه، إلى منزل الوحي، إلى الكعبة، نكون قد عرفنا الطريق. يا إخواني، أنا ما جئت أدعو إلى خيالات وأوهام، ولا أتعمّد اليوم تزويق الكلام، بل جئت بالحقيقة. وهذه الحقيقة ماثلة أمامكم، لا تحتاج إلى قيل وقال ولا تحتمل الجدال. فلو مرض عندك مريض فراجعت طبيبين وأعطياك دواءين، جربت هذا الدواء فكان فيه الشفاء وجربت الثاني فاشتدّ منه الداء، فأي الدواءين تختار؟ لقد جربَت هذه الأمة الإسلام وجرّبت المذاهب والنِّحَل من دونه ومن ورائه: لما كانت في جاهليتها، في مرض الجهل والانقسام والعزلة والبعد عن دنيا التمدن والعلم، جعلها الإسلام أمة التمدن والعلم وسلمها مفاتيح الأرض. وكانت يوماً بعد إسلامها في مثل حالنا اليوم: كانت متفرقة شيعاً ومنقسمة دولاً، تتجادل وتتقاتل وتتصايح وتتذابح والأجنبي الغاصب الصليبي يحتل الساحل السوري كله، وتنصرف إلى اللغو واللهو وتتبع الهوى وتعيش في الغفلة، والعدو إلى جنبها ما بينها وبين العدو حاجز ولا ستار. كانت في معركة غاب الإسلام عنها حيناً، فأخذ الصليبيون القدس وبقيت في أيديهم أكثر من تسعين سنة. مات منا جيل ووُلد

جيل، ثم مات الجيل المولود ووُلد الثالث والقدس في أيديهم، فلما دخل الإسلام المعركةَ على يد عماد الدين، ثم نور الدين، ثم صلاح الدين، كانت معركة حطين وكان النصر المبين، واسترددنا القدس وطهّرنا بلادنا كلها من الغاصب الدخيل. والإسلام لا يزال كما كان، وهو يستطيع -إن أدخلناه في المعركة- أن يكسبنا بعون الله المعركة، ولكن ناساً يدّعون أنهم منا يفزعون كلما ذُكر الإسلام. يفزعون من ذكر الإسلام لأنهم لم يعرفوه؛ للإسلام في أذهانهم صورة مشوهة، لذلك يفزعون من ذكر الإسلام. يظنون الإسلام هو ما كنا عليه منذ مئة سنة وأن ما عليه المتمدنون اليوم لا يكون إلا بمخالفة الإسلام، لذلك جاءت صورة الإسلام مقرونةً عندهم بالتخلف والجهل بعلوم العصر، وصورة الدعوات المخالفة له مقرونة بمنجزات العلم وثمرات الحضارة والصعود إلى القمر! المرأة تظن أن الإسلام هو ما كانت عليه في القرن الماضي حين كانت تنادي بتحرير المرأة، وأعداء الإسلام والمغفلون من أبناء المسلمين يحسبون أننا إن دعونا إلى الإسلام إنما ندعو إلى هجر المدارس وترك العلوم الحديثة، وأن نتداوى بوصفات العجائز وندع الطب، وأن نركب الجمل بدلاً من السيارة، وأن نحارب بالسيف والرمح بدل المدافع والصواريخ! لا يا سادة، ليس هذا هو الإسلام، بل إن هذا كله ليس من الإسلام؛ الإسلام أن نُقبل على العلم، العلم كله: علم الأديان، وعلم الأبدان، وعلم الأكوان، وعلم البلدان، وعلم الحيوان، وعلم الإنسان، حتى نكون في ذلك كله أعلم الأمم. الإسلام أن

نكون نحن سادة الدنيا، وأن نكون نحن أساتذتها، وأن نكون حكامها. فإذا كنتم تريدون استرداد مقدساتكم واسترجاع مسجدكم الأقصى، واستعادة بلادكم والعودة إلى أمجادكم التي كانت لأجدادكم، فبالإسلام وحده تستطيعون ذلك ولا تستطيعونه بغير الإسلام. والتجربة أكبر برهان: صلاح الدين استردّها من جيوش أوربا كلها بعدما لبثت في أيديهم قريباً من القرن، استردها بالإسلام، ونحن نعجز أن نستردّها من أيدي اليهود لأننا نحاول أن نصل إلى ذلك من غير طريق الإسلام، فأقنعوا هؤلاء الذين يفزعون من ذكر الإسلام ويتصورونه رجعية وتخلفاً أنهم على خطأ مُبين، أثبتوا لهم أن الخطوة الأولى في طريق الظفر أن نتفق على مبدأ الرجوع إلى الإسلام. * * * أنا أسأل هؤلاء: ماذا يريدون من خير ولا يجدونه في الإسلام؟ أيريدون عدالة تحمي الضعيف من ظلم القوي، وتدفع عن الفقير تحكم الغني، وتنصف العامل والفلاح، وتطرد من بلادنا الغاصب الدخيل وتعيد إلينا السيادة والمجد؟ الإسلام يحقق ذلك كله. بل لقد حقق الإسلام ذلك كله في الصدر الأول، حين أجرى أول إحصاء عام للسكان في الدنيا ثم جعل لكل فرد في الأمة، نعم، لكل فرد حتى الذي وُلد من ساعة، راتباً من خزانة الدولة، وكان ذلك على عهد عمر.

وعلى عهد أمية حين جعل الوليدُ لكل أعمى مرافقاً يقوده وراتب هذا المرافق من خزانة الدولة، ولكل مريض مزمن ممرّضاً يصحبه وراتب هذا الممرض من خزانة الدولة، وحين جاء -من بعد- عمر بن عبد العزيز فأعاد حكومة المَثَل الأعلى التي تحققت على عهد أبي بكر وعمر. بل لقد تحققت هذه العدالة في عهد التأخر والانحطاط على أيدي أمراء تلك الدول الصغيرة، على يد واحد منهم هو الملك المظفَّر صاحب إربل في العراق، حين جعل الخبز مجانياً كالماء يصل إليه أي إنسان. ولقد أقرت الدولة الإسلامية من تلك القرون البعيدة مجانية الطب ومجانية التعليم، فأباحتهما للجميع. أتطلبون العدالة بغير الإسلام وعندكم مبدأ نفقات الأقارب وعندكم الزكاة، وعندكم مبدأ إسهام بيت المال في نفقة كل فقيرة ليس لها معين ولكل فقير عاجز عن الكسب؟ لا تستقلّوا الزكاة، فلقد خبّرني الثقة أن الأموال التي تجب فيها الزكاة في عمّان وحدها (ولا تنسوا أن الخطبة أُلقيت سنة 1971)، أموال الشركات والتجّار والموسرين والمدّخرين العاديين، تزيد عن أربعمئة مليون، زكاتها عشرة ملايين دينار. فتصوروا حال البلد لو وُزِّع فيه على وجوه البِرّ والخير التي هي مصارف الزكاة عشرة ملايين دينار في كل سنة، تعطى للفقير يتّخذ منها رأسَ مال يبدأ به عملاً شريفاً يقوم به على قدميه لا يحتاج إلى أحد، ويكون منها سداد دين المدين، وثمن أدوات عمل للصانع، ونفقات دراسة للطالب النابغة الفقير، وللمرأة يعصمها من ويلات

الحاجة. لا تُعطى صدقةً يكون فيها هوان للفقير وفيها تحقير له، فهي ليست صدقة، إنها حق معلوم للسائل والمحروم. ونفقة الأقارب مبدأ للتضامن الاجتماعي ما له نظير، ألقيت فيه بحثاً مرة أمام حلقة الدراسات الاجتماعية التي تقيمها جامعة الدول العربية بمشاركة الأمم المتحدة (¬1)، فدُهش منها السامعون. كل امرأة فقيرة وكل رجل فقير عاجز عن العمل يستطيع أن يطلب من القاضي فرضَ نفقة له على وارثه الغني، فإن لم يدفع طوعاً أجبره القاضي على الدفع بقوة القانون. لقد اكتفى من المرأة بالفقر واشترط على الرجل العجزَ عن العمل، لأن من مبادئ الإسلام أن المرأة لا تكلَّف العمل وأن الرجل لا يُسمَح له بالبطالة والكسل. فإن لم يكن لهما قريب فالنفقة على بيت المال يحكم بها القاضي. هذه هي عدالة الإسلام الاجتماعية، ليست مجرد كلام ولا مذهباً ولا ميثاقاً يُدوَّن على الورق، ولكنها مبادئ عملية طُبقت قروناً وقروناً. * * * أتريدون قانوناً يحقق العدالة ويضمن لكم أفضل ما عند الأمم من مبادئ حقوقية؟ نحن نقدّمه لكم من الإسلام. لا نقتصر على الكتب المدوَّنة في المذاهب الأربعة وحدها، لأن هذه ¬

_ (¬1) هذا البحث منشور في كتاب «فِكَر ومباحث» بعنوان «النفقات والتكافل الاجتماعي» (مجاهد).

الكتب ليست هي الإسلام كله كما يظن البعض؛ هذه الكتب كالصيدليات، إن لم نلقَ الدواء في مذهب من المذاهب طلبناه في المذهب الآخر، فإن لم نجده فيها كلها عمدنا إلى عمله بأيدينا، والمواد موجودة والطريقة معروفة: المواد هي ما جاء في الكتاب والسنة، والطريقة هي أصول الاجتهاد. ففي كتب المذاهب الأربعة أحكام اجتماعية استُنبطت في زمانهم ويمكن استنباط مثلها في زماننا، لأن القاعدة الشرعية في هذا المقام أنه «لا يُنكَر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان». أما الأصول التي نستمدها منها -وهي الكتاب والسنة الثابتة- فلا نحتاج إلى تبديلها لأنها تصلح لكل زمان، بل إنها تُصلح كلَّ زمان. أفتريدون أن ندع شرع ربنا لشرع نابليون، أي لقانونه الذي هو أبو القوانين المدنية؟ إن اللجنة التي وضعت قانون نابليون استندت إلى كتب كثيرة في الفقه أخذتها من مصر واعتمدت عليها، ولا سيما كتب المالكية. يقول هذا أستاذ القانون المدني في جامعة ليون، وفيها أرقى كلية حقوق في فرنسا، مستنداً إلى ضبوط جلسات اللجنة التي وضعت هذا القانون. فلماذا نترك رأس العين ثم نمشي حتى نشرب من السواقي التي تفرعت عنها بعدما تعكّر ماؤها؟ مَن ترك له أهله ثلاجة مملوءة بشهيّ الأطعمة وهو جوعان يشتهي رغيفاً، أفيترك الثلاجة بما فيها ويدور على بيوت الناس يشحد رغيفاً؟ أتريد المرأة التحرر من ظلم بعض الرجال، ومنع العبث بحق الطلاق الذي وضعه الله في أيديهم، وأن لا يتخذ أحدٌ من

إباحة تعدد الزوجات دليلاً للإساءة إلى النساء والإضرار بهن، وأن تتحقق لها المساواة مع الرجال في الحقوق المدنية وفي الواجبات؟ هذا كله يحققه لها الإسلام. فلماذا يفزع بعض النساء من العودة إلى أحكام الإسلام؟ الإسلام يقول للمرأة: صوني جمالك عمّن يريد أن يجعلك عبدة مسخّرة لشهواته، عمّن ألغى رقّ الأجساد فشرع رقّ الأعراض، يُقبل عليك ما دام فيك ماء الشباب فإذا جفّ رمى بك كما تُرمى برتقالة قد امتُصّ ما فيها من ماء. الإسلام يقول للمرأة: لا تمنحي الرجل شيئاً من المتعة بهذا الجمال إلا بعد أن تربطيه من رقبته برباط الزواج، لتكوني في شيخوختك أمّاً وجدة في موضع الاحترام من الأبناء والأحفاد، لا عجوزاً منبوذة لا يبالي بها أحد. إن معك جوهرة إن ضاعت منك لا تعوَّض، والسوق أمامك فيه التجار الأمناء يشترونها بأغلى الأثمان، وعلى الطريق لصوص يريدون أن يضحكوا عليك وأن يسلبوها منك. فهل تجزعين إن قال لك الإسلام أخفي الجوهرة حتى لا تراها أعين اللصوص ولا تبذليها إلا بثمنها المشروع، أي بالزواج الدائم لا باللذة العارضة التي تستمتعين بها مع الرجل دقيقة، ثم يمضي هو خفيفاً وتحملين أنت نتائجها ثقلاً في بطنك ووصمة على جبينك؟ * * *

هل يفزع ناس من الإسلام لأنه يقيد النفس الأمّارة بالسوء حتى لا تنساق وراء الكفر والشرك والفسق والضلال وتهوي بصاحبها في جهنم؟ هل يجزعون لأن الإسلام يقيّد الشهوة أن لا تنطلق فتصبح بالتكشف والاختلاط ناراً مدمرة محرقة، لا تدع في نفوس الشباب طاقة على قتال ولا على نافع من الأعمال لأنها تغرقهم في بحر من الغرائز؟ هل يجزعون لأن الإسلام يقول: يا ناس، إن بعد الحياة موتاً وبعد الدنيا آخرة، وإن لهذا الكون رباً سيحاسبكم غداً على الصغيرة والكبيرة، لا منجى لأحد ولا مهرب من هذا الحساب، فأعدوا لما لا بد منه وفكروا من الآن في الجواب؟ هل يجزعون لأن الإسلام يقول لهم: اتركوا الظلم والعدوان وكونوا أهل عدالة وإحسان، وفكروا وتعلموا ولا تسمحوا لليهود والموضات التي يخترعها اليهود وللمذاهب الباطلة التي يضع أسسها اليهود، لا تسمحوا لليهود ولا لعملاء اليهود أن يعبثوا بكم ويحققوا مآربهم على أيديكم؟ هل يجزعون لأن الإسلام يقول لهم: لا تتبعوا الهوى ولا تأكلوا الربا، ولا تسمعوا كلام الشيطان بل اتبعوا شرع الرحمن؟ فماذا تريدون من خير لا يقدمه لكم الإسلام؟ عندنا في الإسلام دواء لكل داء من أدواء الفرد والمجتمع، عندنا حل كل مشكلة، عندنا جواب كل معضلة. فيا أيتها المرأة التي تستمع إليّ الآن في بيتها، ويا من يستمع إليّ هنا في المسجد، ويا من يصل صوتي إليه اليوم من المذياع أو يسمعه مسجَّلاً غداً على الشريط: هذا والله الحق والذي يدعونك إليه الباطل، هذا الحق مؤيَّداً بالأدلة

والبراهين والوقائع والأرقام، وما يَدْعون إليه خيالات ونظريات وأوهام. ولقد جربنا المذاهب كلها وسلكنا الطرق كلها فما أوصلتنا إلا إلى ما ترون، أفما آن لنا أن نعود إلى تجربة طريق الإسلام؟ * * * يا ناس، الطريقان أمامكم، فإن أعجبكم ما نحن فيه فتابعوا مسيركم، وإن أردتم أن يبدّلنا الله بما نحن عليه حالاً خيراً من حالنا، وأن يردّ علينا ما خسرنا من أمجادنا وفضائلنا، وأن يعود إلينا تحت الشمس مكاننا، فعودوا إلى الإسلام، فهذا هو الطريق. * * *

جواب على سؤال

جواب على سؤال حديث أذيع سنة 1972 [ورد عليّ سؤال طويل من رجل يقول إنه متدين لكنه قليل العلم، وهو يخالط مسلمين غير ملتزمين وأشخاصاً غير مسلمين فيطرحون عليه من الأسئلة ما يجعله في حيرة، ويقول إنه يخشى أن لا يقف الأمر عند عجزه عن الجواب بل أن يهتز إيمانه، ويسأل: لماذا وضع الله الغريزة في الإنسان ثم يحاسبه على الاستجابة لبواعثها؟ ويريد جواباً عقلياً يقنع من لا يؤمن بالدين لا جواباً من القرآن.] لو أن لهذا السائل سيّارة وسمع بسباق عالمي للسيارات للمُجلّي فيه (أي الفائز) جائزة كبيرة، هل يُقْدِم على دخوله رأساً أم ينظر أولاً في سيارته: ما هي أقصى سرعة لها؟ وينظر إلى نفسه: ما مدى خبرته بسَوْق السيارات؟ فإن وجد أن غاية سرعة سيارته مئتا كيل في الساعة وأن سيارات السباق تصل سرعتها إلى ثلاثمئة أو أكثر، أو وجد أن مهارته في السَّوْق لا تصل إلى ما يستلزمه السباق من مهارة، فإنه يمتنع حتماً عن دخوله.

فلنطبق هذا المبدأ الصحيح على سؤاله الذي يطلب مني جواباً عقلياً عليه ليقنع به مناظريه الذين لا يؤمنون بالقرآن إذا ناظرهم به، ولننظر ما مدى طاقة العقل الذي نصل به إلى الجواب كما نصل بالسيارة إلى نهاية السباق. هل طاقته مطلقة أم هي محدودة؟ وإن كانت محدودة فما حدّها؟ ثم لننظر إلى ثقافة مناظريه هؤلاء، هل لهم دراسات ومعارف فلسفية تؤهّلهم لخوض هذا البحر أم هم يناظرون من غير هذه المعارف؟ فإن كانوا مطّلعين على مذاهب الفلاسفة أو قرؤوا على الأقل كتابَي أكبر فيلسوف عقلاني (راسْيونالِسْت) في العصر الحديث، عمانويل كانط، وهما «نقد العقل المجرد» و «نقد العقل العلمي»، أو لو نظروا إلى مباحث علماء الكلام وفلاسفة الإسلام، لا سيما كتاب «شرح المواقف» للسيد (أو لو رجعوا على أدنى الدرجات إلى كتابي «تعريف عام بدين الإسلام») إذن لرأوا أن من المقرَّر الذي لم يبقَ فيه شك أن حكم العقل قاصر على عالم المادة (أي الفيزيك)، فإن وصل إلى حدود ما وراء المادة (الميتافيزيك) ضلّ وعجز ولم يبقَ له عمل أصلاً. لذلك كان العلم (أقصد ما يقال له «سيانْس») مشاهَدة، ثم فَرَضية أو نظرية، فتجرِبة، فالوصول إلى الحقيقة العلمية، أي القانون الطبيعي. فإن جاوز ذلك وقف وصار العمل من هنا للفلسفة، ومعروف أن بحوث الفلسفة فيما وراء المادة -من عهد أفلاطون إلى عهد هنري برجسون- لم تَنْجَلِ يوماً عن حقيقة علمية، أي قانون كقوانين الكيمياء أو الفيزياء، وإنما هي افتراضات واحتمالات. فالجواب العقلي إذن على سؤال من عالم الميتافيزيك، فضلاً

عن سؤال يتعلق بالله جلّ جلاله، مستحيل. مستحيل مثل استحالة دخول سباق ثلاثمئة كيل في الساعة بسيارة جعل المصنعُ الذي صنعها سرعتَها القصوى مئتَي كيل فقط. * * * والمعارف البشرية لها منبعان: منبع كَسْبيّ، وهو قاصر على عالم المادة. ومنبع عَينيّ، أي أنه آتٍ من خارج النفس وخارج العقل، من الوحي، وهو المنبع الوحيد لمعارفنا عن عالم الغيب (الميتافيزيك). وفي القرآن، وهو المنبع العيني، جواب سؤال الأخ السائل. ولكنه يقول إن الذين يناظرونه لا يؤمنون به، وأنا أقول: لماذا لا نقنعهم أولاً بأن يؤمنوا به؟ كيف؟ أرجو أن يتكرم بقراءة كتابي «تعريف عام بدين الإسلام»، ثم يسألني بعد قراءته «كيف؟» إذا وجد بعد قراءته ما يدعو لهذا السؤال. إن كل ما في الكون من كواكب ونجوم وحيوان ونبات يمشي على الطريق الذي رسمه الله، فلا الشمس تستطيع أن تقترب إصبعاً من الأرض أو تبتعد عنها، ولا الأرض تقدر أن تزيد سرعتها أو تنقص منها، ولا تملك ذرة الأكسجين أن تتحد مع أكثر من ذرتين من الهيدروجين، ولا يستطيع معدن أن يبدّل وزنه النوعي ... كل ما في الكون مسيَّر مجبَر، حتى الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون. المخلوق الوحيد الذي أُعطي «اختياراً»، فهو يستطيع أن يطيع أو يعصي ويصلح أو يفسد، وكانت حياته هذه اختياراً بين

اتّباع شهوته أو امتثال أمر ربه، لذلك كان مستحقاً للمثوبة إن أصلح والعقوبة إن أفسد، هذا المخلوق هو الإنسان (¬1). لماذا انفرد وحده بهذا؟ لأنه هو الذي اختار ذلك. مَن قال إن الإنسان خُيِّر فاختار؟ الله هو الذي قال، قال: {إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ (وهذه هي الأمانة) على السّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وَحَمَلها الإنسانُ}. قد يقول الأخ السائل: إني لا أعرف متى كان ذلك ولا أذكره. صحيح، ولا أنا؛ أنا أيضاً لا أذكره. وأزيدك شيئاً قد لا تصدقه وقد تعجب منه: أنا أجهل أكبر حادث في حياتي ولا أذكر والله شيئاً عنه، هو ولادتي! صدِّق أنّي لا أذكر يومَ ولادتي ولا وجه القابلة التي أخرجتني إلى الدنيا! بل إن مرحلة مهمة من حياتي نسيتها كلها، هي المرحلة التي كنت فيها جَنيناً في بطن أمي. أقسم لك أني لا أتذكر عنها شيئاً! والسؤال هو: هل يحق لي أن أنكرها لأني لا أذكرها؟ لقد صدّقتُ بها لأن الذين خبّروني خبَرَها كانوا صادقين. أفلا نصدّق بما أخبر به رب العالمين؟ وما دامت الحياة اختباراً، ابتلاءً، امتحاناً كامتحان المدرسة، ¬

_ (¬1) والجن أيضاً مكلَّفون كالإنس، لكنه قصد هنا المخلوقات المألوفة التي نراها ونعيش معها. انظر فصل «الإيمان بالملائكة والجن» في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام»، وفيه: "والجن مكلَّفون مثلنا، يحاسَبون على أعمالهم كما نحاسَب ويثابون ويعاقَبون كما نُثاب نحن ونعاقَب" (مجاهد).

أفلا ترى -يا أخي السائل- أن سؤالك كسؤال الطالب: لماذا لا يعطوننا أسئلة الامتحان من أول يوم في السنة؟ لو أعطوك أسئلة الامتحان من أول السنة لما عاد امتحاناً! (¬1) ولو سألتك: لماذا وُجدنا في هذا العصر ولم نوجَد في عصر النبوة؟ لماذا لم أكن أنا ابن شيخ الإسلام أو ابن مليونير؟ لماذا كنت متوسط القامة ولم أكن طويلاً؟ وألف سؤال مثل هذه الأسئلة، لا تستطيع جواباً على واحد منها. إذن في الوجود أمورٌ صُنعت رغماً عنّا ولم نعرف سببها ولا علّتها، وموضوع سؤالك واحد منها. فإذا عرفتَ تعليل كل موجود مشاهَد ولم يبقَ إلا هذا فسوف نستأنف الحديث. قد تقولون لي: إنك ما أجبت. نعم؛ ما أجبت لأن الجواب غير ممكن، مستحيل. مستحيل لأن العقل لا عمل له في عالم ما وراء المادة، ولأن الوحي لم ينزل بجواب السؤال، فكيف أجيب على سؤالٍ العقلُ لا يدرك جوابَه والوحيُ ما وضّحه؟ هل أقدر على تحقيق المستحيل؟ * * * ¬

_ (¬1) انظر في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» موضوع «شبهة وردّها»، وهو في فصل «الإيمان بالملائكة والجن» (مجاهد).

هذا هو الطريق

هذا هو الطريق نشرت نحو سنة 1969 إن المسلمين اليوم في نكبات وفي أخطار، قد أحاط بهم أعداؤهم، يرسمون الخطط لحربهم وحرب دينهم، ويبذلون لذلك كرائم الأموال ويسخّرون لذلك أكابر المفكرين ويستعينون على ذلك بكل وسيلة. فما النجاة وأين الطريق؟ إن الجواب في التاريخ، فسائلوا صحائف التاريخ: ما الجواب؟ بل خذوا صفحة منه واحدة، فإن هذا الفصل القصير يضيق عن سرد الصحف الطِّوال. اذكروا يوم قامت أوربا كلها على ساقيها، فمشت إلينا بقضّها وقضيضها على اختلاف أجناسها ولغاتها، يحدوها التعصب الأعمى ويدفعها الحقد الذي يأكل الأكباد، وحطّت بثقلها على فلسطين، على هذه البقعة الضيقة من الوطن الإسلامي. من الذي وقف يومئذ في وجهها ونهض لردّها؟ إنه -يا سادة- البطل التركي المسلم نور الدين، والبطل الكردي المسلم الذي جاء من بعده، صلاح الدين. لقد وضع

الأول الأساس ورفع الثاني الشُّرُفات والذُّرى، وفتح الأول بابَ المعركة وتابع الثاني حتى جنى النصر. فبماذا انتصر صلاح الدين في حطين، وبِمَ استرجع القدس بعدما لبثت في أيدي الصليبيين لا عشرين سنة ولا ثلاثين ولكن أكثر من تسعين؟ إن صلاح الدين انتصر لأنه دعا بدعوة الإسلام، لم يدعُ بدعوة الجاهلية ولا نادى بشعائر الكفار، ولم يرفع راية مذهب باطل ابتدعه أهل الضلال من البشر بل رفع راية القرآن الذي أنزله رب العالمين وخالق البشر، انتصر لأنه ضرب بسيف محمد، وسيف محمد صلى الله عليه وسلم لا ينبو ولا يكِلّ، وسيف محمد صلى الله عليه وسلم لم يضرب به أحدٌ إلا انتصر. ويوم جاء السيل الطامي من الشرق يقوده هولاكو، يجرف في طريقه المدن والحكومات ويمحو كل ما يمر عليه من مظاهر العمران. وانهارت أمامه بغداد، بغداد العظيمة التي كانت سرّة الدنيا وعاصمة الأرض. مَن وقف أمامه في عين جالوت؟ جيش مصر؟ لا والله، بل وقف أمامه شيخ من دمشق هو قاضي مصر وإمامها، العالم العامل المؤمن العزّ بن عبد السلام، الذي باع المماليك في سوق العبيد يوم كان المماليك أمراء مصر! هذا الذي وقف في وجهه. لا، بل وقف في وجهه الإيمان الذي أثاره هذا الشيخ في نفوس الجند والأمراء والعامة، وقفت أمامه دعوة الإسلام التي تجد اليوم من أبناء المسلمين من يفزع من ذكرها ويؤذيه سماعها. الإسلام هو الذي جعل من مصر الضعيفة ومن جيوش

المماليك التي كانت قليلة مفككة، جعل من ذلك قوة استطاعت أن تردّ سيل المغول وتنقذ الإسلام والحضارة. فيا أيها المسلمون، هذا التاريخ تشهد صفحاته أنه ما نزل بالمسلمين خطب إلا ردّته عنهم دعوة الإسلام إذا صدقوا الدعوة بها، وإن الخطوب التي تحيط بالمسلمين اليوم لا يردها عنهم ولا ينجيهم منها إلا دعوة الإسلام. * * * وهذا شاهد آخر على أن المسلمين ما أحاطت بهم يوماً النكبات إلا كانت نجاتهم منها بدعوة الإسلام والرجوع إلى الله. وما أكثر الشواهد على هذه الحقيقة في تاريخنا! أترون هذا البحر الأبيض المتوسط؟ لقد كان يوماً من الأيام بحيرة إسلامية، وكان المسلمون يملكون معظم شطآنه وأكثر جزائره، ومن ذلك جزيرة كريت (التي كنا نسميها إقريطِش). وكانت تخرج منها السفن المجاهدة المسلمة فتغزو أطراف بلاد الروم، وكان أكثر المجاهدين من قرية معتزلة في طرف الجزيرة الشرقي، حتى تأذّى قيصر الروم وغضب، وحلف ليدمرّنّ هذه القرية ولو كلفه ذلك ملكه. وأعد لها جيشاً عظيماً وأسطولاً ضخماً نزل عليها فجأة، وحاصرها وسدّ عليها الطرق فلا تستطيع أن تبعث في طلب النجدة. ولم يكن في تلك الأيام برقيات ولا إذاعات، وعلم أهل القرية أنهم لا يقدرون على الحرب فأغلقوا الأبواب وتحصّنوا

بالجدران. وطال الحصار حتى قلَّتْ المُؤَن وشَحّت المياه وبدت بوادر المجاعة والمرض، فتداولوا الرأي وتبادلوا المشورة، ثم قرروا التسليم. قال أحمد بن يوسف في كتاب «المكافأة»: وحدّثني رجل مسنّ من أهل القرية (وكان شاهد عيان لما كان) قال: وكان في القرية شيخ صالح متّصل القلب بالله، وكان معتزلاً في مسجده يرقب الحوادث، فلما رآهم قد عزموا على التسليم قال لهم: هل بَقِيت لكم قوة تلجؤون إليها أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا. قال: فاستمعوا مني إذن أدلّكم على طريق النجاة؛ اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، ولا يَبْقَ في بيته أحدٌ، لا طفل ولا امرأة ولا عجوز ولا مريض، وأخرجوا ما عندكم من المواشي والأنعام. ثم افصلوا الأولاد عن الأمهات والإخوة عن الأخوات، وقفوا كلَّ ناس على حدة، وافصلوا كذلك الأنعام والمواشي. ففعلوا، وعلا بكاء الأطفال وثُغاء الماشية. قال: أحضروا الآن قلوبكم وأخلوها من أمور الدنيا كلها، وتوبوا إلى الله توبة صادقة نصوحاً. ففعلوا. قال: عُجّوا الآن إلى الله عَجَّةً واحدة، وقولوا من أعماق قلوبكم: يا الله! ففعلوا. قال: افتحوا الأبواب وكبّروا واخرجوا إليهم. فنادوا: «الله أكبر» بصوت ارتجّت له الأرض، وخرجوا

وليس في قلوبهم إلا عظمة الله والإيمان به، قد هانت عليهم الدنيا وصغرت في عيونهم جيوش العدو وأساطيله حتى رأوها في جنب الله كلا شيء، وهجموا على العدو. يا سادة، لمّا هجموا بهذه القلوب وهذا الإيمان وقعت الأعجوبة؛ شُدِه العدوّ وقطع الرّعبُ أفئدةَ أبطاله، فلم يستطع أحد منهم أن يقف في وجه هذه السيل الأتِيّ الفوّار، وانهزموا لا يلوون على شيء حتى نزلوا البحر، وغلب العددُ القليل هذا الجيشَ العظيم، وانتصروا. وما انتصروا، وما انتصر أجدادنا في كل معركة خاضوها، ولن ننتصر نحن على إسرائيل وغير إسرائيل، إلا بشيء واحد هو الإيمان. * * * وهاكم تاريخ الأمس القريب، أفنسيتم تاريخ الأمس القريب؟ بماذا وقف عبد الكريم الخطابي في وجه فرنسا وإسبانيا معاً، يواجه جيشين فيهما مئة وخمسون ألفاً؟ بماذا قابل حسن الخرّاط في الشام، وهو خفير ليلي عامي، جيشَ فرنسا لمّا كانت فرنسا أقوى دولة برية في العالم في أعقاب الحرب الأولى، حتى احتل دمشق ثلاثة أيام؟ بماذا ناضل الثائرون في فلسطين سنة ست وثلاثين؟ بماذا حارب مجاهدو الجزائر حتى نالوا الاستقلال؟ أما حاربوا بالقرآن الذي تعلّموه في كتاتيب جمعية العلماء التي افتتحها الشيخ ابن باديس؟ فلماذا -يا إخوان- نلقي هذا السلاح؟ لماذا ندع الإسلام فلا نرفع رايته ولا نضرب بسيفه؟

لقد فتح أجدادُنا بالإسلام الأرضَ، وفتح اليهودُ قلبَ بلادنا وقبلتنا الأولى لمّا تركنا الإسلام. فهل اعتبرنا أم نحن نحتاج إلى درس آخر؟ لقد مشيتم أولاً على الطريق فوصلتم، فلماذا تنحرفون عمداً عن الطريق الموصل؟ لماذا تتعمدون الضلال في المتاهات وتسلكون المهالك، والطريق أمامكم؟ يا قرائي ويا إخواني، هذا هو الطريق! * * *

هل تهدي الفطرة إلى الدين؟

هل تهدي الفطرة إلى الدين؟ نشرت سنة 1967 خطرت على بالي فكرة غريبة، هي أن أتصور في مكاني رجلاً لم يُنعم عليه الله فيُنسِله من أب مسلم وينشئه في أسرة مسلمة، وأن أتأمل وأفكر وأنظر: هل أستطيع بالحدس والعقل الاهتداء إلى الدين؟ وجربت الفكرة، فوجدت أني سأنظر إلى نفسي فأرى أني درت مع الأرض نحو ستين دورة، شهدت فيها تعاقب الصيف والشتاء وتتابع النعيم والشقاء، ورأيت فيها خيراً ورأيت شراً وذقت حلواً وذقت مراً. فما وجدت حلاوة تبقى ولا مرارة تدوم، ووجدت اللّذاذَات كلها محدودة، إذا بلغتَ غايتها ووصلت إلى حدها لم تعد اللذة لذة، ولكن صارت عادة فذهب طعمها وبطل سحرها، وصارت كالنكتة المحفوظة والحديث المعاد. أي أنها كالسراب، تراه من بعيد ماء فإن جئته لم تجد إلا التراب. يبصر الفقير سيارة الغني تمرّ به وعمارة الغني يمر بها، فيحسب أنه يحوز الدنيا إن حاز مثلها، فإن صارت له لم يعد يشعر بالمتعة بها. ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب، يظن أن متع

الدنيا كله بحبه والأماني كلها في قربه، فإذا تزوج التي يحب ومر على الزواج سنتان اضمحلّت تلك الأماني وماتت تلك المُتَع، ولم يبقَ له منها إلا ذكراها. ويمرض المريض ويتألم، فيتصور اللذة كلها في ذهاب الألم والشفاء من المرض، فإذا عاودته الصحة ونسي أيام المرض لم يعد يرى في الصحة شيئاً من تلك اللذاذات. ويتمنى الشاب الشهرة ويفرح إن أذاعت الإذاعةُ اسمَه ونشرت الصحفُ رسمَه، فإذا هو اشتهر وصار اسمه ملء السمع وشخصه ملء البصر صارت الشهرة أمراً معتاداً. فأيقنت أن اللذاذات المادية ضيقة المدى قريبة الحدود. ووجدت أني سأرجع النظر إلى نفسي، فأراها تسمع الأغنية الحالمة في الليلة الساجية، قد خرجت من قلب مغن عاشق، فهزت منها حبة القلب وأطلت بها على عالم الروح. وتقرأ القصة العبقرية للأديب البارع، فتحس كأنه يمشي بها في مسارب عالم مسحور فيه مع السحر شعر وعطر، فإذا انتهت القصة رأت كأنها كانت في حلم لذيذ فتّان وصحت منه، فهي تحاول عَبَثاً أن تعود إلى لذته وفتونه. وتعيش في لحظات التجلي، حين تصفو النفوس بالتأمل فتتخفف من أثقال المادة، فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد، حتى تصل إلى حيث ترى الأرض وما عليها أصغرَ من أن يُنظَر إليها لما تجد من لذة الروح التي لا تعدلها لذة الطعام للجائع، ولا لذة الوصال للمحروم، ولا لذائذ الجاه والمال للمغمور الفقير. وإذا بالنفس تتشوق أبداً إلى هذا العالَم الروحي العلوي،

العالم المجهول الذي لا تعرف منه إلا هذه اللمحات التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي، وهذه النفحات التي لا تهبّ حتى تسكن. وإذا أنا حين رأيت ما رأيت من أن اللذات المادية محدودة، وأن اللذات الروحية أكبر منها كبراً وأعمق في النفس أثراً، قد أيقنت -بالحدس النفسي لا بالدليل العقلي- أن هذه الحياة المادية ليست كل شيء، وأن العالم المجهول المختبئ وراء عالم المادة حقيقة قائمة، تحن إليها الأرواح وتحاول أن تطير إليها، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها ويمسكها عن أن تنطلق وراءها. وهذا اليقين أولُ الطريق إلى الدين. * * * وأستمرُّ في هذه التجربة الفكرية. فأجد أني قد داخلت الرجال واستكشفت الطوايا واستطلعت الأفكار، أفكار الأحياء من الناس والأموات من المؤلفين، فوجدت أن الناس جميعاً، المؤمن منهم والكافر، والناشئ في صوامع العبادة والمتربي في مخادع الفسوق، إذا ألمّت بهم مُلِمّة ضاقوا بها ذرعاً ولم يجدوا لها دفعاً لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات: قوة عظيمة لا يرونها ولكنهم يشعرون بوجودها بأرواحهم وقلوبهم وكل عصب من أعصابهم. كلهم ينادي في هذه الحال: «يا رب» وإن لم يكن يدري ما الربّ!

فأدركتُ بالحدس أن التصديق بوجود الرب المعبود عقيدة فطرية في نفس كل بشر، ولكن الأمن والصحة والمطامع والشهوات قد تلقي ستاراً عليها يخفيها ويغطيها. وهذا هو «الكفر»، وهو في اللغة «الستر»، ومعنى الكافر الساتر. وجاء العقل فأيّد هذا الحدس حين رأى في كل شيء دليلاً عليه؛ في هذا العالَم وإتقانه، وهذا الجسد وعجائبه، وفي سنن الكون وأسراره التي أودعها فيه خالق الكون وأعطانا العقول وقال لنا: اكشفوا بعقولكم هذه السنن والأسرار، فسعينا حتى عرفنا بعضاً منها في عالم الكيمياء والفيزياء والطب والفلك، وفي الأرض وفي الفضاء القريب الذي يحيط بالأرض، ولم نعرف إلى اليوم إلا الأقل الأقل منها. فآمن العقل بأن هذه الصنعة العجيبة لا تكون من غير صانع، وهذه الطبيعة لا بدّ لها من طابع، وهذا الخلق لا يكون بغير خالق. وأن هذا الخالق لا يمكن أن يشبه المخلوقات، وإلا كان منها واحتاج -مثلها- إلى الخالق، وأنه لا يكون إلا قديماً باقياً لا أوّلَ له ولا آخر، ولا يكون إلا مفرداً واحداً لا شريكَ له ولا مثيل، ولا يكون إلا قادراً قدرة لا يُعجِزها شيء، ثم لا يكون إلا عادلاً. * * * ونظر العقل في هذه الدنيا فرأى بأن فيها مَن يعيش ظالماً ويموت ظالماً، وأن فيها من يعيش مظلوماً ويموت مظلوماً. والربّ العادل لا يقر الظلم ولا يدع صاحبه بغير عقاب ولا يترك من يقع

عليه من غير إنصاف، فأيقن العقلُ أنه لا بد من حياة أخرى يُنصَف فيها المظلوم ويُعاقَب فيها الظالم، ويكافَأ فيها المحسن ويُجازى فيها المسيء. وأن الرواية لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا. ولو أنه عُرض فِلم في الرائي (التلفزيون) فقُطع من وسطه وقيل: انتهى، لما صدق أحدٌ من المشاهدين أنه انتهى ولنادَوا: ماذا جرى للبطل؟ وأين تتمة القصة؟ ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يُتِمّ القصة ويسدّد حساب أبطالها. هذا والمؤلف بشر، فكيف يصدّق عاقل أن قصة الحياة تنتهي بالموت؟ كيف ولم يُسدَّد -بعدُ- الحساب ولا اكتملت الرواية؟ فأيقن العقل -من هنا- أن لهذا الكون رباً وأن بعد الدنيا آخرة، وأن ذاك العالَم المجهول الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الأغنية الحالمة والقصة البارعة، واستروحت نفحة من عطره في ساعة التجلي، ليس عالَم «المُثُل» الذي كان خيالاً صاغه أفلاطون، ولكنه عالم الآخرة الذي هو «حقيقة» أبدعها خالق أفلاطون. ورأيت أني وصلت -بعد هذا- بالحدس النفسي، ثم بالفكر العقلي، إلى الإيمان بالله واليوم الآخر. * * *

يا سيدي يا رسول الله

يا سيدي يا رسول الله نشرت سنة 1954 وأين أنا من جنابك العالي ولي -يا سيدي يا رسول الله- قلب قد ملأه حب الدنيا فهو قاسٍ لا يلين لموعظة ولا ذكر، ولي عين قد أسكرها النظر إلى المحرمات فهي جامدة لا تفيض من خشية الله، ولي نفس قد أثقلتها الذنوب وقعدت بها الأوزار؟ كيف لي بدخول حماك الطاهر وأنا ملطّخ بالوحل؟ وكيف لي بالسمو إلى جنابك العالي وأنا مُثقَل بالخطايا؟ إني لأرفع هذه الشَّكاة إليك وأنا أعلم أنك بشر مثلنا، وإن ميزك الله بالوحي وبالكمال علينا، وأنك لا تهدي من أحببت، وأنه ليس لك من الأمر شيء، وأنك جئت بعقيدة التوحيد وبأن النافع الضارّ هو الله، لا يُسأَل غيره ولا يُستعان بسواه ولو كان سيدَ الخلائق محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكنها شَكاة متألم ونفثة مصدور. هذه يا سيدي يا رسول الله ليلة اثني عشر من ربيع، الليلة المباركة التي كانت رحمة للعالمين وهدى ونوراً، ليلة الخير، ليلة البر، ليلة الفرحة الكبرى في تاريخ البشرية والعيد الأعظم للناس:

ليلة مولدك يا رسول الله (¬1). وها هم أولاء المسلمون، وهم أربعمئة مليون (¬2)، يحتفلون في مشرق الشمس ومغربها بهذه الذكرى. وها هي ذي المنابر، وهي مئة ألف منبر من فاس إلى لاهور، كلها يحدّث اليوم حديث المولد. وها هم أولاء القرّاء، وهم ملايين، يرتّلون آي الذكر الحكيم بأعذب الألحان من أطرى الحناجر. قد عظّمنا الذكرى، فأقمنا الزينات في كل مكان ونشرنا الأعلام وأوقدنا المصابيح، وفرشنا الطرق بالزهر وملأنا الجو خطباً فِصاحاً وأغاني عذاباً، فهل بقي شيء لتكريمك لم نصنعه؟ لم يبقَ إلا شيء واحد؛ هو أن نعود إلى دينك حقاً، فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام، ونكون في أفرادنا وجماعاتنا وظواهرنا وبواطننا كما أحببتَ أن نكون. وهذا هو الشيء الذي نسينا أن نصنعه في منهج الاحتفال بالمولد. أربعمئة مليون، ولكن الأربعين الذين كانوا معك في دار الأرقم كانوا أشدّ حماسة وأقوى إيماناً وأرجل رجولة وأعظم في الأرض أثراً، لأنهم حملوا سكان ثلث المعمور في ثلث قرن على ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة سنة 1954 كما هو مثبت في أولها، وقد درج جدّي من بعدُ على ترجيح أن مولده صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول لا الثاني عشر منه. انظر المقدّمة التي كتبها لرسالة «نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام وفي تحقيق مولده وعمره عليه السلام» لمحمود باشا الفلكي، والرسالة من نشر «دار المنارة» التي تنشر هذا الكتاب وسائر كتب الشيخ رحمه الله (مجاهد). (¬2) أي يوم نُشرت هذه المقالة، وهم اليوم أربعة أمثال ذلك (مجاهد).

اتباع الإسلام، ونحن لا نستطيع أن نحمل على اتّباعه أبناءنا في بيوتنا ولا بناتنا. ومئة ألف منبر، ولكن المنبر الواحد الذي نُصب لك في المدينة، والذي كان درجات من الخشب لا قبّةَ فوقه ولا بابَ له ولا زخارفَ ولا نقوش، كان أعلى صوتاً وأكبر عملاً، لأنك دعوت منه بصدق وإخلاص فاستجابت لك الدنيا، ونحن ندعو من هذه المنابر المزخرفة المنقوشة التي تذاع خطبُها في الأرض كلها فلا يلبي أحد، لأننا قلنا من ألسنتنا فقط فسمع الناس بآذانهم فقط. وملايين من القراء، ولكن النفر القلائل من صحابتك الذين كانوا يحفظون الآيات القلائل كانوا أقرأ منهم، لأنهم فهموها وتذوقوها واستنبطوا الأحكام منها وعملوا بها، ونحن نغني بالقرآن كما نغني بالأشعار، كل همنا النغم والإيقاع. لقد جئت بعقيدة التوحيد وبُعثت بـ «لا إله إلا الله»، ليعلم المسلم أنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله فلا يخاف في الحق أحداً، ونهيت أن ندعو بدعوة الجاهلية ليكون المؤمنون كلهم إخوة، تجمعهم القبلة إن فرقتهم البلدان ويوحّدهم القرآن إن اختلفت الألسن والألوان، فاعتقد المسلمون بعدك عقائد شتى وصاروا دولاً وأمماً وأقواماً. انقسمنا وتنازعنا الإمارة والتجارة، وفرقتنا السياسة والرياسة والآراء والمذاهب والنزعات والقوميات. علمتَنا الصدق. سألوك: هل يسرق المؤمن؟ قلت: لعله،

ويتوب. وسألوك: هل يكذب المؤمن؟ قلت: لا. وجعلتَ الكذب ثلث النفاق، وجعلت إخلاف الوعد الثلث الثاني وخيانة الأمانة الثلث الثالث. وقلت: من غشّ فليس منا. وعظّمت أمر الغيبة والنميمة، وأنذرت ذلاً وخراباً وغضب الله كلّ بلد يفشو فيه الزنا والخمر والربا والقمار. وعلمتنا النظام، وأن تكون حياتنا كأنها -من دقة التوقيت- حياة جنود في ثكنة أو طلاب في مدرسة. بل لقد أردتها أضبط وأحكم، لأن التدريب في الثكنة قد يسبق موعده دقائق ولكن الصلاة لا تصحّ إن سبقت وقتها، والصوم يبطل إن تأخر الإمساك عن موعده، والحج لا يصحّ إن صعدت عرفة بعد ميقات الصعود، ولو كان السبق أو التأخير دقائق معدودات. فأين نحن اليوم من هذا كله؟ أين نحن اليوم من الإسلام؟ لقد علمتنا غضّ البصر، وستر العورة، وصدق المعاملة، والعزة والإباء، واللين والتواضع، وأن نكون أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، وأن يوقّر صغيرُنا كبيرَنا ويرحم الكبيرُ الصغيرَ، وتطيع المرأة زوجها ويُنصف الزوج المرأة، ويبرّ الولد والديه ويربي الوالدان على الخير الولدَ، وأن يعرف كلٌّ منا ما عليه فلا يقصر فيه وما له فلا يجاوزه، وأن تقوم البيوت على المحبة والإخلاص والمجامعُ والأسواقُ على الصدق والأمانة. فأين نحن اليوم من هذا كله؟ أين نحن اليوم من الإسلام؟ * * *

لقد عدنا -يا سيدي يا رسول الله- إلى جاهلية شر من الجاهلية الأولى. أضعنا سلائق العروبة، وأضعنا أخلاق الإسلام، ودعونا بدعوة العصبية، فقال التركي المسلم: أتراك، وقال العربي المسلم: عرب، وقال الكردي المسلم: أكراد؛ ففرقنا بأنفسنا جمعَنا ومزّقنا وَحدتَنا، وهدمنا بأيدينا المسجد الذي بنيته لنا. الراية التي عقدتها بيمينك، فنصبها الفاتحون من جندك وأتباعك على روابي البيرنيه ورمال التركستان وثلوج روسيا وأسوار فينا وذُرى الهند، لم تعد ترفرف بأجنحة النصر. والجيش الذي حمّلته رسالة الحق والهدى والعدالة، فأبلغها أهل الدنيا جميعاً ونسف في سبيلها عروش الطغاة وداس تيجان الجبارين، وكان حامي الحضارة في الدنيا، لم يبقَ منه إلا سطور على الأرض خُطَّت بدماء الشهداء وسطور في التاريخ كُتبت بمداد الفخار. قد طُوِيَت -يا رسول الله- راية الفتوح، وصَدِئَت في الأغماد السيوف، وخمدت في النفوس الحماسة، وأقفرت من أبطالنا الميادين، واختُصر الجيش الضخم الذي فتح الأرض وتضاءل وانكمش حتى وسعه ميدان صغير أمام عدو حقير. لقد ذلّ الأسد حتى كُتب عليه أن يقاتل ضَبُعاً منتنة تعيش على جثث الأموات! لقد امتُحن العرب بقتال اليهود. وما كان اليهود أكفاءنا، ولَنحن -على ضعفنا- أقوى من اليهود، ولكنا انقسمنا وتنازعنا وسمعنا نصيحة من غشّنا، حتى غلبَتنا على أرضنا أذل الأمم، غلبتنا بانقسامنا وتنازعنا لا بقوتها وضعفنا.

ولكنا لم نيأس، لأنك علمتنا يا سيدي يا رسول الله أنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون، وعلمتنا أنها لا تزال طائفة من أمتك على الحق، لا يضرّها من خالفها حتى تقوم الساعة. ولقد حقق الله لك المعجزة فظهرت فينا هذه الطائفة. إن فينا -رغم الفتن والفساد- شباباً نشؤوا في طاعة الله وباعوا الله نفوسهم، أعرضوا عن وسواس الشيطان وأوامر النفس وزخارف الدنيا، ومغريات الجمال والمال والجاه والمنصب، حبسوا أنفسهم في المساجد يتلون الكتاب ويتدارسون الفقه، على حين قد انطلق غيرهم يؤمّون المقاهي والملاهي، يملؤون عيونهم من الجمال المحرَّم ويُشبعون أعصابهم من اللذة الممنوعة. وإن فينا بنات هن أمثال أولئك الشباب الطائعين، وإن فينا شيوخَ صلاح وهدى، لهم من سنهم حكمة الشيوخ ولهم من حماستهم وغضبهم للحرمات المستباحة مثل عزم الشباب. وهذه المساجد يا رسول الله ممتلئة بالمصلين، وهذه المطابع تُخرج كل يوم عشرات من كتب الدين. واليقظة قد عمّت، لقد أذّن فينا مؤذن النهضة بعد ليل الخمول الطويل، فأفقنا وأزمعنا ألاّ نعود إلى المنام. لقد بطلت فتنتنا بالغرب وبطل سحر الغرب فينا، وصرنا نميز خيره من شره ونفرق حقه من باطله، ولا نأخذ منه إلا العلم المادي الذي كان له السبق به علينا، أما الدين، أما الأخلاق، فحسبنا أخلاقنا وديننا. ونحن إن شاء الله إلى خير. وإنّا في طريق العودة إلى هديك،

إلى دينك؛ حتى نكون مسلمين حقاً، مسلمين بأقوالنا وأفعالنا وظواهرنا وبواطننا، لا بالمظاهر وحدها والأقوال. ويومئذ نكون قد احتفلنا بمولدك، وكرّمنا هذه الذكرى التي ليس في ذكريات الضمير الإنساني كله أكرم منها ولا أنفع ولا أبقى. صلى الله وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله. * * *

النية الصالحة أصل كل خير

النية الصالحة أصل كل خير نشرت سنة 1959 يستطيع المسلم أن يتزوج ويشتغل ويخوض غمرات الحياة ويجاهد ويناضل، ويكون مع ذلك زاهداً ويكون متعبداً ويكون عمله كله لله، وذلك بتصحيح النية. بالنية يقدر المسلم أن يكون مع الله من غير أن يهجر الزوجة أو يترك العمل أو يعيش في صومعة منفردة أو مغارة منقطعة، وبالنية يكون طعامه وشرابه واستمتاعه بملذات الجسد عبادة كالصلاة والصيام، ويكون إنفاقه على زوجته وأولاده صدقة كالتصدق على الفقراء والمساكين. فإذا نويت بالطعام التقوّي على طاعة الله، ونويت بالنكاح الاستعفاف عن الزنا، ونويت بالعمل الاستغناء عن الحرام، ونويت الصبر على كل مزعج في الحياة امتثالاً لأمر الله ورضا بقضائه، كان لك بكل ذلك حسنة. النية روح العمل، والعمل بلا نية جسم بلا روح. ولقد هاجر المسلمون الأولون من مكة فتكبدوا مشاقّ الرحلة

وفراق الوطن والبعد عن الأهل، وكانوا سواء في ذلك، ولكن لم يكونوا سواء في المثوبة والأجر؛ لأن من هاجر هرباً بدينه ونصرة لنبيه وابتغاء لرضا الله فهو المهاجر، أما من هاجر ليتزوج امرأة في المدينة أو ينال ربحاً أو يصيب مالاً فهجرته للمرأة وللربح. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (¬1). وكذلك الحج؛ يحج كل سنة مئات ومئات من ألوف الناس، فمَن حج امتثالاً لأمر الله ورغبة في ثوابه فهذا هو الحاج، ومن أراد التجارة وحمل معه البضائع أو قصد التفرّج برؤية البلدان فإنه لم يحج، ولكن تاجر وساح. * * * ومن نعم الله ومظاهر رحمته أنه جعل نية الخير حَسَنة، ونية الشر إن لم يحققها العبد بالفعل حسنة أيضاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن همَّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (¬2). فإن نويت أن تتصدق بليرة ولم تفعل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه (مجاهد). (¬2) أخرجه الشيخان (مجاهد).

سُجّل لك في دفتر المَلَكين ليرةٌ لحسابك تلقاها يوم القيامة، فإن تصدقت بها كُتِبت في حسابك عشرَ ليرات أو سبعمئة ليرة أو أكثر من ذلك، وليس على عطاء الله حساب. حتى الأعمال العادية تكون بالنية قربات وطاعات؛ روى سعد بن أبي وقّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك» (¬1)؛ أي حتى ما تطعمه امرأتك وأولادك إن قصدت به وجه الله كان لك به أجر. وفي الحديث: «يا رسول الله، أيأتي أحدنا أهله (أي يقارب زوجته) ويكون له ثواب؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؟» (¬2)؛ أي كما أن الاجتماع الجنسي المحرم عليه العقاب فالاجتماع المشروع -إن كان بنيّة- كان معه الثواب. والنية ليست تظاهراً وقولاً باللسان، كمَن يرفع صوته في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومالك في الموطأ (مجاهد). (¬2) في حديث أبي ذرّ أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: «أوَليس قد جعل الله لكم ما تَصَدّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً» أخرجه مسلم (مجاهد).

المسجد ليقول للناس: تعالوا انظروا إلى صلاحي وتقواي، يصيح: نويت أن أصلي لله تعالى أربع ركعات فرض صلاة الظهر، مستقبلاً الكعبة الشريفة، مخلصاً وجهي لله، الله أكبر! كلا، بل النية هي العزم القلبي. هل يقول أحد منكم: "نويت أن أنهض عن فراشي فألبس ثيابي وآكل فطوري وأذهب إلى عملي"؟ وإن رأى صديقاً فأسرع للسلام عليه هل يقول: "نويت أن أبشّ وجهي وأمدّ يدي وأقول: السلام عليك يا صديقي"؟ لا، وليس للظواهر في الإسلام قيمة، إن القيمة للقلب؛ جاء في الحديث: «التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا»، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى قلبه (¬1). الدين المعاملة، والتقوى بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات ومراقبة الله دائماً وإخلاص النية لله في كل عمل، ولقد قال عليّ رضي الله عنه: إن أصدق الزهد إخفاء الزهد. ولا يقبل الله من الأعمال إلا ما خلص له. روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يُقضَى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأتُي به فعرّفه نِعَمه عليه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت ¬

_ (¬1) من حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم والترمذي (مجاهد). (¬2) أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد (مجاهد).

فيك حتى استُشهدتُ. قال: كذبت، ولكن قاتلت ليقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِيَ في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جَواد، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِب على وجهه ثم ألقي في النار» (¬1). فيا أيها الإخوان، الخطوة الثانية بعد التوبة هي تصحيح النية، وإخلاص العمل لله، وأن تذكروا دائماً أن النية تجعل أعمالكم كلها عبادة تثابون عليها. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد (مجاهد).

هل نحن مؤمنون؟

هل نحن مؤمنون؟ حديث أذيع سنة 1973 أحب أن أسألكم الليلة سؤالاً أرجو ألاّ تغضبوا منه ولا تعتبوا ولا تعجبوا، وهو: هل أنتم مؤمنون؟ وتعالوا أدخل نفسي معكم فأسأل: هل نحن مؤمنون؟ تقولون: نعم، ما في ذلك شك. طيّب، ولكن أحب أن تفكروا قليلاً. لو قالت الحكومة أن كل موظف يعطى مكافأة قدرها ألف ريال لَمَدّ يدَه كلُّ موظف يطلب مكافأته. ولكن لو حدّدت الحكومة الموظفَ المقصود بأنه الذي يحمل شهادة عالية وأمضى في الوظيفة أكثر من عشر سنين وكان فوق المرتبة الخامسة، لنظر كل في نفسه: هل فيه هذه الصفات أم لا؟ والله يعرّف المؤمنين ويصفهم بصفات فيقول: {إنّمَا المُؤْمِنونَ الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زادَتْهُمْ إيمَاناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكّلون}. واسمحوا لي أن أقرر لكم مسألة من علم العربية. كلمة «إنما» تفيد الحَصْر، ومعنى الآية أن وصف المؤمن محصور فيمَن اتصف بهذه الصفات.

فتعالوا نمتحن أنفسنا: {الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ أي خافت واضطربت عند سماع اسمه من تصور عظمته وخشية عقابه. فهل نحسّ في قلوبنا هذا الوَجَل إذا ذُكر اسم الله أمامنا، أم نحن نسمع الأغنية فنقول «الله» بلا فكر ولا وجل! وربما ذكرنا اسمه على المعصية؟ والمؤمنون {إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زادَتْهُمْ إيمَاناً}، فهل نحن من الذين يسمعون آيات الله فيزدادون إيماناً أم أننا (أو أن أكثرنا) يسمع آيات القرآن للطرب أو للعجب، فإذا سمعها لم تجاوز أذنيه ولم تصل إلى قلبه أو عقله؟ ثم وصف الله المؤمنين فقال: {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلون}، فهل نحن من المتوكلين على الله؟ لو وزّعوا الرواتب على موظفي الدائرة وتركوا واحداً لم يعطوه وقالوا له: تركناك لله. ماذا يقول؟ يقول: كلهم أخذوا وأنا على الله؟ يريد أنه بقي بلا شيء! فأين نحن من هاجر لمّا جاء بها إبراهيم هي وولدها إسماعيل، جاء بها من بلد بعيد بعيد إلى هذا الوادي. تصوروا مكة وليس فيها الكعبة ولا الحرم ولا البيوت ولا الشوارع، تصوروها وهي واد مقفر لا ماء فيها ولا شجرَ ولا بشرَ. إنها مثل هذه الأودية المخيفة التي تحتويها جبال الحجاز. وتصوروا لو أن أحدكم كُلِّف بأن يحمل زوجته الشابة وولده الوحيد الحبيب، فيضعهما في هذا الوادي ويرجع! هكذا فعل إبراهيم. وجزعت هاجر وخافت وقالت: لمن

تتركنا هنا؟ قال: لله. قالت: إذن رضيت. أين هذا من موقفنا نحن؟ فأين نحن من الذين على ربهم يتوكلون؟ * * * وهل تعرفون ما هو التوكل؟ لا؛ ليس كما يقول متأخرو الصوفية الذين يدّعون أن المتوكل يقعد بلا عمل وينتظر الرزق أو يمشي في البرّية بلا رفيق ولا زاد! لا، ليس التوكل بترك الأسباب. وعمر بن الخطّاب -وهو أعرف من هؤلاء بالدين وأتقى لله منهم- قال: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهمّ ارزقني، فإن السماء لا تُمطر ذهباً ولا فضة، ولكن الله يرزق الناس بعضَهم من بعض». الله وضع لهذا الكون نواميس وسنناً، وسننُ الله لا تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، فالذي يخالفها لا يُكتب له الفلاح. الزارع إذا لم يحرث الأرض ويبذر البذر لا يحصد الثمرة، ولو قال أنا متوكل على الله، لأنه خالف سنن الله ولم يفهم حقيقة التوكل. والتلميذ الذي يلعب السنةَ كلها ولا يدرس، إذا دخل الامتحان يسقط ولو ادّعى التوكل. والمرأة إذا أرادت أن تنظّف الثياب الوسخة فكوّمتها في الحمام وتركتها كما هي وقالت توكلت على الله، فإنها لا تتنظف ولا تُغسَل. فماذا نصنع إذن؟ وكيف يكون التوكل؟ الله -يا سادة- جعل لكل شيء سبباً، فعلينا أن نتخذ الأسباب، ولكن علينا أن نعتقد أن السبب وحده لا يكفي. فالذي

لا يزرع لا يحصد، ولكن ربما زرع الزارع ووضع السماد وتعهد الزرع وعمل كل شيء، فجاءت آفة زراعية، حشرة أو دودة، فأكلت المحصول، أو جرفه السيل أو احترقت البيادر. والذي لا يداوي ولده لا يبرأ غالباً، ولكن ربما أخذه إلى أحسن طبيب وأدخله أفخم مستشفى وأعطاه أغلى دواء، فأدركه الأجل فمات. وقد يكون -كما قلت لكم مرات- مريضان في مستشفى واحد، مرضهما واحد وطبيبهما واحد والدواء واحد، فيموت الواحد ويشفى الآخر. وقد يفتح أخوان دكانين متجاورين، ويكون لكل منهما من المال والذكاء مثل الذي للآخر، فيقع هذا على صفقة نادرة يصير بها من الأغنياء ويبقى الثاني بقّالاً. فالسبب لا بدّ منه، ولكن السبب وحده لا يكفي والله من وراء السبب؛ فهو الذي يسلّم المحصول، وهو الذي يَشفي المريض، وهو الذي يُنجّح التلميذ. فالمسلم عليه أن يعمل كل ما يستطيع، ثم يتوجه إلى الله فيطلب منه النجاح، وهذا هو التوكل. والذي يعمل بالأسباب ويقصد بها اتّباع أمر الله يكون عمله بالأسباب عبادة. الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بمداواة المريض فقال: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء» (¬1)، فانووا بالتداوي امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي معنى التوكل؛ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (مجاهد).

الأعرابي الذي جاء إلى النبي وترك ناقته بلا عقال، فلما خرج لم يجدها، فقال له: «اعقلها وتوكل» (¬1). فالحقيقة إذن وسط بين إفراط الإفرنج وتفريط بعض الصوفية؛ الإفرنج المادّيون يعتقدون أن الأسباب المادية هي كل شيء ولا يفكرون في الله ولا يلجؤون إليه، وهذا باطل. ومن الصوفية من يترك السعي ويحتجّ بحديث رزق الطير، وما ذهب إليه باطل؛ فالحديث يقول: «لو توكلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً وتعود بِطاناً» (¬2). الطير لم تبقَ في مكانها ولكن ذهبت ومشت وراء الرزق فرجعت وقد شبعت، فالحديث حجّة عليهم لا لهم. فإذا أردتم أن تكونوا من المتوكلين فاعملوا للدنيا ما استطعتم، واطلبوا الرزق من كل طريق حلال، واسعوا لكل ما فيه النفع لكم، ولكن لا ترتكبوا في هذا السعي حراماً، ولا تنسوا أن النجاح بيد الله فارجعوا إليه واطلبوه منه. * * * ¬

_ (¬1) معنى عَقْل البعير هو أن يُضَمّ رُسغُ يده إلى عَضُده ويُربَطا معاً بالعِقال ليبقى باركاً. والحديث أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك وفيه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أعقلُها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل» (مجاهد). (¬2) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد (مجاهد).

يا أيها المذنبون

يا أيّها المذنبون حديث أذيع سنة 1956 (¬1) سأحدثكم اليوم عن واحد من ذوي الجاه والسلطان، كان له ولد عني به وربّاه ويسّر له أسباب السعادة وأمدّه بالمال الوفير، ولم يكلفه إلا شيئاً واحداً، قال له: إن فلاناً مفسد شرير وهو عدو لي ولك، فابتعد عنه ولا تستمع إليه، فإنه لا يقول إلا الكذب ولا يريد بك إلا الأذى. فما كان من الولد إلا أن أسرع إلى هذا العدو فصادقه وصافاه ونسي أباه، فأورده موارد الفجور ودله على طريق المعاصي، وأعرض عن أبيه ونسيه وصار يقع كل يوم في ورطة. فإذا اضطر ولم يجد أحداً يدعوه يدعو أباه فينقذه، فإذا نجا منها عاد إلى قطيعة أبيه وجفائه. حتى إذا أحاط به الأعداء واشتدّ عليه البلاء وتعاقبت عليه الورطات، جاء مَن ينصحه يقول له: إنه ليس لك إلا أبوك، فاعتذر إليه وعد إلى حِماه، واسأله بعد ذلك ما شئت. هذا هو مَثَلنا مع الله، وله المَثَل الأعلى. ¬

_ (¬1) * هذا الحديث هو خطبة الجمعة التي ألقاها علي الطنطاوي في مسجد الجامعة بدمشق يوم 23/ 11/1956، ونقلته الإذاعة على الهواء، وكان المألوف أن تذيع خطبه التي يلقيها في ذلك المسجد (مجاهد).

لقد أنعم الله علينا النعم التي لا تحصى، وأمدّنا بالصحة والمال والقوة والعقل، وتكفل لنا بالرزق، وأعطانا كل ما نريد، فكل خير عندنا منه. وقال لنا: إن الشيطان عدو لي ولكم وإنه يريد أن يغويكم ويضلكم، فلا تتّبعوا خطوات الشيطان. وشقّ لنا طريقين، طريقاً طويلاً شاقاً ولكنه يوصل إلى عزّ الدنيا وسعادة الآخرة، وطريقاً سهلاً قصيراً فيه اللذائذ والمتع، ولكنه لا يوصل إلا إلى جهنم. وأقام لنا أدلّة على مفرق الطريقين: رسلاً مبشِّرين ومُنذِرين، ينادون: يا أيها السالكون، لا تغترّوا بقِصَر هذا الطريق وجماله، ولا تخافوا من طول هذا الطريق ووعورته، فالعبرة بالغايات، وهذا غايته جنة فيها النعيم الدائم، وهذا غايته جهنم التي فيها العذاب المقيم. ووسوس لنا الشيطان أن لا تبيعوا بعاجل ملموس آجلاً مجهولاً، وامشوا من هنا! فمشينا من حيث دعانا الشيطان، وأعلنّا على الله العصيان، وجاهرناه بالمعاصي، وهو مع ذلك يمدنا بالمال والبنين وبالنعم التي لا تحصى. تركنا هَديَ الرّسل وحِدْنا عن طريق الفلاح، فتكاثرت علينا الأمم وتعاقبت علينا المحن، بعدما كنا بالإسلام ملوكَ الأمم وأساتذة العالم وبعدما نشرنا لسان العربية ودين محمد ما بين قلب فرنسا وآخر الشرق. كان أجدادنا يعودون إلى الله يدعونه يبتغون منه النصر، فنسينا نحن الدعاء وغفلنا عن ذكر الله. فمَن ينصرنا من بعده؟ هل في الوجود رب آخر نهرب من الله لنلجأ إليه، كما يهرب الرجل من حكومة ليلجأ إلى حكومة أخرى؟ {يَا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ:

إنِ اسْتَطَعْتُم أنْ تَنْفُذوا مِنْ أقْطَارِ السّمَاواتِ والأرْضِ فَانْفُذوا، لا تَنْفُذونَ إلاّ بِسُلْطان}. هل من إله غير الله ينصرنا؟ لا إله إلا الله. أفلا نعود إليه فنعتذر إليه ونسأله العفو؟ ألم يحن الوقت لنصلح ما بيننا وبين الله؟ {ألَمْ يَانِ للذينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ الله؟}. * * * يا أيها الناس، هذا أوان الرجوع إليه بالتوبة والاستغفار، ثم بالدعاء والتضرع وطلب المغفرة. وما النصر إلا من عند الله. ولا تستكثروا الذنوب، فليس في الذنوب ما يجِلّ عن العفو إلا من مات مشركاً: {إنّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. فيا مَن يسمع كلامي من العصاة المذنبين، ممّن يصغي إلى الرادّ وهو في داره أو في قهوته وهو تارك لصلاة الجمعة، أو من هو مقيم على معصية، يا من اتبع الشهوات وانغمس في الذنوب، إن باب التوبة مفتوح، والدعوة عامة، والخير عميم، فادخلوها بسلام آمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الذين أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً}. إن الله أعطى التائبين ثلاث خصال هي: حبّ الله، ومن أحبه الله لم يغدر به. وأن الملائكة تستغفر له، ومن استغفرت له الملائكة غفر الله له. وأن الله يبدل بالتوبة سيئاتهم حسنات. قال تعالى: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابينَ}. وقال: {الذينَ يَحْمِلونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذينَ آمَنُوا،

رَبَّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْمَاً فَاغْفِرْ للذينَ تَابوا وَاتَّبَعُوا سَبيلَكَ}. وقال: {إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحَاً، فَأولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ}. والتوبة هي أول محطة في طريق الوصول إلى الله وإلى سعادة الآخرة. وليست التوبة كلمة باللسان مع البقاء على الذنوب، فإن التائب من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربّه والعياذ بالله. ولكن التوبة النَّصوح هي التي يكون معها الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألاّ يعود. فمن ترك الذنب نادماً على ما فات ناوياً ألاّ يرجع إليه، فهذا الذي يقبل الله توبته، وهذا الذي ورد فيه أن التائب من الذنب كمَن لا ذَنْبَ له. فإن تاب بهذه الشروط، ثم غلبته نفسه فعاد إلى الذنب ثم تاب قُبلت توبته، ولو تكررت عودته. هذا في حقوق الله، أما حقوق العباد فلا بد فيها من شرط آخر، وهو أداء الحق أو مسامحة صاحبه؛ فمَن أكل أموال الناس أو أساء إليهم بقول أو فعل، أو أعان عدوّهم عليهم فأخفى أقواتهم واحتكر أرزاقهم وتمنى أن تقوم الحرب فتهلك الحرث والنسل وتدمر البلاد والعباد ليملأ صندوقه بالذهب، والمرأة التي تخدع زوجها وتكذب عليه، والرجل الذي يخون زوجته ويسيء إليها، والغشّاش والمخادع والمرابي ... كل هؤلاء وأمثالهم لا تُقبَل توبتهم حتى يؤدّوا ما عليهم من حق أو يسامحَهم صاحبُ الحق. فتوبوا إلى الله جميعاً يا أيها المؤمنون. * * *

التوبة

التوبة حديث أذيع من دمشق سنة 1958 إذا قصرت في دفع الضرائب وتراكمت عليك حقوق للخزانة حُجز من أجلها على مالك ونودي عليها بالمزاد، ثم صدر قانون بأن من طلب الإعفاء من حقوق الخزانة كلها أُعفي منها وسقطت عنه، بشرط أن يقدم اعتذاراً عن التقصير فيها في الماضي وتعهداً بأدائها في وقتها في المستقبل، فهل تتردد في تقديم الاعتذار والتعهد؟ وإذا أغراك الشيطان فأجرمت جريمة الشرطةُ تلاحقك من أجلها وأنت تفرّ وتختفي من جرّائها، لا يَقِرّ لك قرار ولا يستريح لك بال، ثم صدر قانون بالعفو عنك عفواً كاملاً إذا قدمت الاعتذار عنها والتعهد بألاّ تعود إلى مثلها، هل تتردد في تقديم التعهد والاعتذار؟ وإذا قيل للمسجونين في سجن القلعة: من قدّم منكم اعتذاراً عما كان منه وتعهداً ألا يعود إلى مثله أطلقناه فوراً وأسقطنا عنه بقية العقوبة ومَحَونا من سجلّه أثر الذنوب، هل يتردد أحد في تقديم التعهد والاعتذار؟

وإذا تردد أو أجّل أو أبى، فهل يكون عاقلاً أم يكون مجنوناً حقّه سكنى المارستان؟ لا، لا تقولوا «مجنون» لئلا نكون جميعاً مجانين؛ ذلك أن علينا من حقوق الله التي قصّرنا فيها أكثر مما على المقصّر في أداء الضرائب من حقوق الخزانة، وإن كانت عاقبةُ ذاك خسارةَ ماله فعاقبةُ المقصّر في حق الله خسارة نفسه وخسارة سعادته الدائمة في آخرته. وإن أجرم المجرم في الدنيا فلاحقته الشرطة فهرب أو اختفى أو قُبض عليه فأودع السجن، فإننا قد اجترمنا مع الله جرائم لا نستطيع أن نهرب بها منه. وأين المهرب والكون كله ملكه والسماوات والأرض له؟ هل من إله غيره نلجأ إليه كما يهرب اللاجئ السياسي من دولة إلى دولة؟ لا إله إلا هو. ولا نستطيع أن نختفي منه. وأين نختفي وهو معنا أينما كنا يسمعنا ويرانا؟ وليست عقوبة الله سجناً نأكل فيه ونشرب وننام، وإن اشتد علينا الأمر نشتغل ونتعب. لا؛ بل إن للمجرمين ناراً وَقودها الناس والحجارة: {إذَا أُلْقُوا فيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهيقاً وَهِيَ تَفورُ}، {وَإذا أُلْقُوا مِنْهَا مَكاناً ضَيِّقَاً مُقَرَّنينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبوراً}، {لا يُقضَى عَلَيْهِم فَيَموتوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِنْ عَذَابِها}، {لَهُمْ مِن فَوْقِهِم ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِم ظُلَل}، {هذِه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمون}، {إنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصَاداً، لِلطّاغينَ مَآباً، لابِثينَ فيها أحْقَاباً، لا يَذوقونَ فيها بَرْداً ولا شَراباً، إلاّ حَميماً وَغَسّاقاً}. فإذا صدر قانون بأن هذا المؤمن المقصّر في حقوق الله،

وهذا المؤمن الذي أجرم هذه الجرائم وأذنب هذه الذنوب مع الله، ستُسقَط عنه هذه الحقوق وتمحى هذه الجرائم إذا قدّم اعتذاراً صادقاً وتعهّد تعهداً مخلصاً بألاّ يعود إلى مثله. ولكن لم يرضَ أن يقدّم الاعتذار والتعهد، أو أجّل تقديمه وماطل به، أو تردّد وفكر وتحيّر هل يقدمه أو لا يقدمه، ألا يكون مجنوناً؟ إذن فنحن جميعاً مجانين، لأننا قصرنا وأذنبنا فقال لنا الله: أنا أسامحكم بحقوقي وأمحو من سجلاتكم المحفوظة عندي ذكر جرائمكم إذا تبتم. فقلنا: لا، لا نتوب! أو أجّلنا التوبة يوماً بعد يوم. يقول الفاسق الذي يتبع شهوته: كيف أدع هذه المتع وهذه اللذائذ وأنصرف عنها؟ لا، ولكن أنغمس فيها ما دمت شاباً، فإذا صرت كهلاً تبت عنها. ويقول الذي يأكل المال الحرام من الربا أو من الظلم: إني الآن في سن الشباب وهو سن العمل والكدح وجمع المال، فإذا صرت كهلاً تبت. والفتاة التي تخرج كاشفة الشعر بادية النحر ظاهرة الساق والزند، تقول: أنا الآن صغيرة، فكيف ألبس لباس العجائز وماذا تقول عني رفيقاتي؟ ولكن إذا كبرت تبت واستترت واتخذت الحجاب الذي أمر الله به. والذي يظلم الناس ويتعدى عليهم بقوة ساعده أو بقوة جاهه أو بقوة ماله، يقول: سأتوب إذا صرت كهلاً. وما أدراك أن العمر سيمتد بك حتى تصير كهلاً؟ وإذا صرت كهلاً فمن أدراك أنك ستتوب؟ ها أنا ذا صرت كهلاً ولا أزال منغمساً بالذنوب، اسألوا الله التوبة لي ولكم.

يقول الفاسق: إذا تزوجت أتوب. فيتزوج ولا يتوب. ويقول: إذا جاء رمضان تبت. فيجيء رمضان فلا يتوب. ويقول: سأحجّ وأتوب. فيحج ولا يتوب. يؤجّل التوبة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى يأتي يومٌ لا يومَ له بعده في هذه الدنيا ويرى الموت الذي كان يتناساه ويبعده عن ذهنه ويكره الحديث عنه قد نزل به، فيتوب في تلك الساعة فلا تنفعه التوبة. قال الله عزّ وجل: {إنّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ للّذينَ يَعْمَلونَ السّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمّ يَتوبونَ مِنْ قَريبٍ، فَأولئِكَ يَتوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللهُ عَليماً حَكيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ للذينَ يَعْمَلونَ السيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنّي تُبْتُ الآنَ، وَلا الذينَ يَموتونَ وَهُمْ كُفّارٌ، أولئكَ أعْتَدْنا لَهُم عَذَاباً أليماً}. أي أن الله يتوب على من يعمل الذنب فيرجع إلى الله ويندم ويتركه، أو يسمع الموعظة فيتبعها ويدع الذنب {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، أما الذي يصرّ ويبقى مُصِرّاً على الذنب، والذي يؤجّل التوبة حتى ينزل به الموت وتصل روحه إلى الحلقوم، والذي يموت وهو كافر، فلا تُقبَل له توبة وليس أمامه إلا النار. * * * ولا يقل أحدٌ: إن ذنوبي كثيرة وإني منغمس في المعاصي، فليس في الذنوب ما لا يُغفَر إلا الشرك والكفر: {إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبّر عن رجل من

الأمم الماضية كان مجرماً سفّاكاً قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ندم وفكر في التوبة، وخاف ألاّ تقبل توبته، فسأل عن أعلم أهل الأرض ليستفتيه، فدلوه على راهب ليس بعالم، فسأله فقال له إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله فكمّل المئة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على رجل عالم، فأتاه فقال له إنه قتل مئة نفس فهل له توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق إليها، حتى إذا انتصف الطريق أتاه ملَك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً ومقبلاً بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم مَلَك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي قصدها تائباً، فقبضته ملائكة الرحمة (¬1). فيا أيها السامعون، إن باب التوبة مفتوح، والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. وشرط التوبة ترك الذنب، والندم على الماضي، وعقد العزم على عدم العودة إليه. هذه حقوق الله، أما حقوق الناس فلا تصحّ التوبة منها إلا بأداء الحق لصاحبه أو أن يسامحك به؛ فإن أكلت ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الشيخان وابن ماجه وأحمد (مجاهد).

مال أحد فردّه إليه، وإن ظلمته فعوّضه عن مَظلَمته، وإن اغتبته في مجلس فاذكره بالخير في مجلس مثله واستغفر له. ومَن عفا عن أخيه المسلم أو سامحه عوّضه الله أكثر مما كان يطلب منه؛ ورد أنه يختصم اثنان عند الله يوم القيامة، فيقول أحدهما: يا ربّ هذا ظلمني، فيقول الله للظالم: أعطِه من حسناتك. فيعطيه حتى لا يبقى عنده شيء. فيقول: يا ربّ لم يبق عندي شيء. فيقول الله للظالم: احمل من سيئاته. فيحمل من سيئات المظلوم حتى لا يبقى عليه من السيئات شيء، ويبقى له عنده حق، فيقول: يا ربّ حقي. فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، فيرفع رأسه فيرى قصراً في الجنة يأخذ العقول. فيقول: يا ربّ لمن هذا؟ فيقول: لمن يسامح أخاه ويعفو عنه. فيقول: يا رب قد سامحته وعفوت عنه. فيقول الله أكرم الأكرمين: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. يا أيها الناس، توبوا إلى الله توبة نصوحاً. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الذين أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذّنوبَ جَميعاً}. * * *

طريق الدنيا وطريق الآخرة

طريق الدنيا وطريق الآخرة نشرت سنة 1988 (¬1) قلت إنها ظهرت فينا أفكار غريبة ما كنا نعرفها ونحن صغار، وسَرَت فينا كلمات جاءتنا على عهد الاستعمار، وردّدها ولا يزال يرددها مَن تخرجوا في مدارس المستعمرين وتربوا على أيديهم، وصدّق بها كثير من الناشئين وظنوها -لسكوتنا عن إنكارها- حقائق مسلَّمة. من ذلك قولهم: «الدين لله والوطن للجميع»، وقولهم بفصل الدين عن السياسة، وتسميتهم العلماء برجال الدين. وأمثال ذلك من الكلمات التي قَبِلها قومٌ منا على أنها حقائق، وشكّ فيها قوم وسألوا عن صحتها. ولا يمكن الحكم عليها إلا بعد معرفة معنى كلمة «الدين». إن الذين وضعوا هذه القواعد هم من النصارى، ونحن ¬

_ (¬1) * نُشرت هذه المقالة في سلسلة «صور وخواطر» في جريدة «الشرق الأوسط» يوم الخميس 28/ 1/1988، ثم أصدرتها دار المنارة في رسالة مستقلّة كتب لها الشيخ رحمه الله مقدمة قصيرة لطيفة، فمن شاء قرأها فيها (مجاهد).

أخذناها منهم وطبّقناها على الإسلام، مع اختلاف معنى كلمة «الدين» عندنا وعندهم. الدين عند النصارى -كما جاء في أكبر المعاجم، كدائرة المعارف البريطانية ومعجم لاروس الكبير- هو ما يحدد صلة العبد بالله؛ أي أن الدين عندهم قاصر على الكنيسة ولا علاقة له بالحياة ونظمها ومعاملاتها، وذلك ما يقابل عندنا «باب العبادات». ولكن الإسلام ليس ديناً فقط لأنه لا يقتصر على العبادات، ويكفي أن تمدوا أيديكم إلى كتاب من كتب الفقه وتنظروا في أبوابه لتروا أن فيه باب العبادات (وهذا هو الدين بعرف النصارى) وباب المعاملات (وهو ما يسمى بالقانون المدني) وباب الزواج والطلاق (وهو ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية) وباب السِّيَر أو الجهاد (وهو ما يعرف بالحقوق الدولية) وباب الإمامة العظمى (وهو ما يسمى بالحقوق الدستورية) وباب الحدود (وهو القانون الجنائي أو الجزائي) وباب الوصايا والمواريث وباب الآداب. فالإسلام دين، وقانون مدني، وقانون جزائي، ودستور وقانون دولي، وأخلاق وتوجيه وآداب. فإذا قالوا بفصل الدين عن السياسة وأخذنا بهذا القول كان معناه أن لا ندخل باب العبادات في السياسة. والعبادات لا دخل لها في السياسة ولا دخل للسياسة فيها، ولكن ماذا نصنع إذا كانت السياسة نفسها جزءاً من ديننا؟ لا أعني بالسياسة النزاع الحزبي ولا التزاحم على كرسي الوزارة ولا السباق إلى مقاعد النيابة، بل أعني المبادئ السياسية والخطوط العريضة فيها.

وإذا سمّوا قساوستهم رجال الدين فلأن القساوسة لا عمل لهم إلا إقامة الصلاة وما يدعونه بالقُدّاس وسماع الاعترافات، أما العالِم المسلم فهو رجل دين ورجل دنيا، لأن الدين والدنيا في الإسلام أخَوان لا ينفصلان، لا كما يقول بعض جَهَلة الخطباء على منابر الجمعة أنهما ضرتان لا تأتلفان. وإذا قال النصارى إن الغني لا يدخل ملكوت السماوات فإن الإسلام سمّى المال في القرآن «خيراً» فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الوّصِيَّةُ}، وقال عن الإنسان: {وإنّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَديد}. وقرّر أن الغني الشاكر والفقير الصابر في الفضل سواء. وإذا ألزم النصارى دينهُم (أو ما يقولون إنه دينهم) أن يدير المضروب على خده الأيمن خدّه الأيسر للضارب فإن الإسلام أمر المسلمين بأن يردوا العدوان بمثله فقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} وقال: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وهذا هو العدل، {فَمَنْ عَفَا وَأصْلَحَ فأجْرُهُ عَلَى اللهِ} وهذا هو الإحسان، والله يأمر بالعدل والإحسان. أي أن الإسلام أمر المسلمين أن يدفعوا القوة الظالمة الباغية بالقوة العادلة الرادعة، فإذا ظفروا وتمكنوا من الخصم وعفوا فإن العفو أفضل. والمسلم إنما يعفو عن حقه الشخصي لأنه صاحبه يتنازل إن شاء عنه، أما حق الله فليس لأحد أن يتنازل عنه. * * * فالإسلام -إذن- دين ودنيا وعبادة وأخلاق وقانون، لا ينطبق

عليه ما ينطبق على غيره؛ فلا ينفصل الإسلام عن السياسة لأن سورة براءة مثلاً -وهي من القرآن- من صميم السياسة الدولية، فهل نفصل سورة براءة عن القرآن ونقرّ مَحْوَها من المصاحف؟ والإسلام فيه حل لكل المشكلات البشرية، وفيه نظام اقتصادي كامل هو الحق بين الباطلين: باطل الرأسمالية المعروفة بالأثرة وباطل الشيوعية. والإسلام لكل زمان ومكان. في الكتاب والسنة حكم المعاملات المصرفية على اختلافها، لكنها ليست مذكورة في كتب الفقه. وكيف تُذكَر فيها ولم تكن في الدنيا مصارف لمّا أُلِّفت هذه الكتب ولا معاملات مصرفية؟ كيف يذكر كتاب «المغني» حكم التأمين على السيارة وقد أُلِّف قبل أن تخترع السيارة وقبل أن يوجد نظام التأمين؟ إن علماءنا الأوّلين استنبطوا من الكتاب والسنة الحلول الكاملة لمشكلات عصورهم، فعلينا أن نستخرج نحن الحلول لمشكلات عصرنا. إن الحل موجود ولكنه يحتاج إلى تنقيب وبحث عنه لاستخراجه، كما نستخرج من المناجم التي نشقّها المعادنَ التي أودعها الله باطن الأرض. وهذا فرض كفاية على القادرين عليه من العلماء، فإذا لم يَقُم به أحد منهم أثموا جميعاً، ودفعوا الحكام إلى أخذ القوانين الأجنبية التي لم تُستمَدّ من الإسلام ولم توضع لبلاد المسلمين. إنها كالثياب الجاهزة المُعَدّة على مقياس واحد، والإسلام ثوب فصّله الله لنا على مقياس أجسامنا، فسد فيه حاجاتنا وحقق فيه آمالنا ودلنا فيه على طريق السعادة في دنيانا وأخرانا.

ولقد صدق ابن القيم رحمه الله حين قرر في كتابه العظيم «الطرُق الحُكميّة» أن جمود الفقهاء وتضييقهم الواسعَ من شرع الله هو الذي دفع الحكام إلى أخذ الأحكام من عند غير المسلمين. ولما كنت أيام الوحدة مستشاراً في محكمة النقض، في القاهرة وفي دمشق، كانت مناقشات بيننا وبين إخواننا المستشارين، فكتبت مقالة في مجلة القانون التي كانت تصدرها وزارة العدل في سوريا عنوانها «حلول قديمة لمشكلات جديدة» استخرجت فيها من كتب الفقه حلولاً لمشكلات يحسبها الناس قد جَدّت الآن، فمَن شاء منكم رجع إليها فاطّلع عليها (¬1). إن من مشكلاتنا أننا نمشي مع الناس، لا ننظر أيسيرون في طريق الحق أو في طريق الباطل، نتخذ ذلك سنة لنا في حياتنا الفردية وفي حياتنا العامة، حتى إننا أخذنا من غيرنا مبدأ اتّباع الأكثرية ولو كانت على ضلال. إن مما يعوقنا عن سلوك سبيل الشرع هو اتّباع الناس. وأنا لا أقول لكم خالفوا الناس واخرجوا عن مألوف العادات، فإذا لبس الناس الحذاء بأرجلهم علقتموه أنتم بأعناقكم، وإذا ناموا على الفراش ناموا أنتم في مغطس (بانيو) الحمّام، ولا أقول لكم: إذا رأيتموهم يمشون إلى اليمين فامشوا أنتم إلى اليسار لتخالفوهم! بل أقول لكم: اجعلوا الدين هو المقياس، فإن رأيتم الناس يمشون في طريق الحرام فلا تمشوا معهم، ولا تحتجّوا بالأكثرية ¬

_ (¬1) وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد).

فإن أكثر الناس غالباً على ضلال، والله يقول: {وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ في الأرْضِ يُضِلّوكَ عَنْ سَبيلِ الله} ويقول: {وَمَا أكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنين}. وهل الحق دائماً مع الكثرة؟ لو قرر أطباء المستشفى الثلاثة وجوب إجراء العملية الجراحية للمريض، واجتمع الخدم والممرّضون والبوّابون والفرّاشون، وكانوا ثلاثين، وطالبوا بترك العملية وإهمالها، هل نتّبع رأي الثلاثين من الخدم والممرضين والبوابين والفراشين أم نتبع رأي الأطباء الثلاثة؟ ولو قرر ربان الطيارة الهبوط بها لأن الوقود أوشك أن ينفد منها وطالب الركابُ الثمانون باستمرار الطيران، هل نأخذ برأي الثمانين لأنهم هم الأكثرية أم برأي الربان الواحد؟ يا إخواننا، الرجال تُعرف بالحق والحق لا يُعرَف بالرجال، ورأي الواحد إن كان معه الدليل الساطع أولى من رأي الألف إن لم يكن معهم دليل. لو بلغ أتباع المبطلين مئة مليون، بل ألف مليون، وبقي على الأرض محق واحد، لكان هذا الواحد أهدى سبيلاً من ألف المليون (¬1). ألا تذكرون أن هتلر وموسوليني وأمثالهما من المتسلطين كانوا يخطبون في الدعوة إلى باطل النازية والفاشية فيهتف لهم مئة ألف أو يزيدون، فأين اليوم هؤلاء الهاتفون؟ وكم رأينا من زعماء ¬

_ (¬1) هذا هو التعبير الفصيح، ولو قلت «الألف المليون» لصحّ قولك أيضاً.

العرب من يخطب قوماً يَسمعون ولا يفهمون! والدليل على ذلك أنهم يقاطعون الخطيب ويتركونه بين المبتدأ والخبر أو بين الفعل والفاعل، قبل أن يتم الجملة، ليهتفوا ويهرّجوا ويصرخوا مثل المجانين! أليس هؤلاء الهاتفون هم أنفسهم الذين كانوا يُجمَعون فيهتفون لمن كان قبله على عهده؟ وإنهم سيُجمَعون فيهتفون لمن سيجيء من بعده؛ يقولون ما يُقال لهم ويرددون ما ألقي عليهم، الطبل يجمعهم والعصا تفرقهم! كلا؛ لا يعبأ الله بهم. * * * يقولون إنه لا يَصِحّ إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأصلح، هذا هو عندهم قانون التطور، ولعله سنّة من سنن الله في الكائنات. فإذا كانت هذه المذاهب الأرضية الملحدة هي الصحيحة وكانت هي الأصلح فستبقى، وإن كان الصحيح هو دين الله وكان الأصلح ما شرعه الله لعباده فإن الباقي هو كتاب الله الذي أنزله وتعهد بحفظه، وستذهب ضلالات العصر كما ذهبت من قبلها مئات من الضلالات. أين ما كان يدعو إليه هتلر وموسوليني؟ وأين مِن قبلهما ما دعا إليه فرعون وهامان؟ إنها ستُنسى هذه المذاهب ولا يبقى من الناس من يعرفها إلا طلاب الدراسات العليا في الجامعات، وسيأتي يومٌ يسأل عنها الطلاب ليعرفوا ما هي، كما يسألون اليوم: ما هي القُرْمُطية؟ وما هي المَزْدَكية؟ وما هي المانَويّة؟ إن للباطل جولة، ولكن العاقبة للحق. فلا تغترّوا بجولة الباطل، ولا تشكّوا في إسلامكم، ولا تقدّموا واقع الناس على حقيقة دينكم، ولا تكونوا إمّعة تقولون: إنْ أحسنَ الناس أحسنّا

وإن أساؤوا أسأنا، إن تعامل الناس بالربا تعاملنا بالربا مثل الناس، وإن كشف الناس العورات كشف نساؤنا العورات مثل الناس، وإن ترك الناس حكم الله وأخذوا قوانين البشر فحكموا بها في محاكمهم عملنا مثل ما يعمل الناس. لا، ولكن اتبعوا الحق. كثير من المسلمين قد انحرفوا اليوم عن طريق الشرع، وتعارفوا ما ينكره الدين، ورجع بعضهم في بعض بلاد الإسلام إلى أخلاق الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو شر منها، لأن الجاهلية الأولى كان فيها الشرك، وهو رأس الذنوب وأكبر الخطايا، ولكن كان فيها الصدق والشهامة والغيرة على الأعراض. هل قرأتم أو سمعتم بحفلة يختلط فيها النساء متكشفات بالرجال الأجانب، فيراقص فيها أبو لهب زوجةَ أبي جهل؟ هل سمعتم عن نساء الجاهليين من كانت تُبدي للرجال عورتها أو تنزل البحر لتسبح أمامهم وما في جسمها مستور إلا السوأتان والثديان؟ أوَليس فيمن يدّعي اليوم أنه من المسلمين (الذين سمّاهم الأمير شكيب أرسلان بالمسلمين الجغرافيين) من يصنع هذا؟ أنا لا أذمّ أحداً بعينه ولا أتكلم عن أحد، وهذه حال المسلمين ظاهرة تعرفونها بأنفسكم ولا تحتاجون لمن يصفها لكم. * * * يا إخوان، الذي أريد أن أقوله لكم هو أن تتبعوا حكم الشرع ولو خالف ما عليه الناس، ولا تتبعوا الناس إذا خالفوا الشرع، فإن الناس لا يغنون عنكم من الله شيئاً والله يعصمكم من الناس.

وهذا الذي أطلبه منكم أعلمُ أنه صعبٌ عليكم، لا يقدر عليه إلا مَن أمدّه الله بقوة من عنده. ونحن الآن في آخر الزمان، الذي خبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر. والصبر على مثل جمر الدنيا أهون من الصبر على جمر الآخرة، واذكروا دائماً حديثاً من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، أتمنى أن يكتبه كل واحد منا وأن يضعه أمامه على مكتبه، أو أن يعلقه في جدار مجلسه حتى يراه في صباحه ومسائه. يقول صلى الله عليه وسلم: «من طلب رضا الله بسَخَط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله سخط عليه الله وأسخط عليه الناس» (¬1). إن في هذه البقعة من الأرض دعوات كثيرات: دعوات يسارية، ودعوات قومية، ودعوات إلى حزبيات متعددة مختلفة، فدعوها كلها وتمسكوا بدعوة الإسلام. أنا أضرب لكم مثلاً (¬2): صحراء كبيرة يمر فيها طريق ¬

_ (¬1) أخرج الألباني في السلسلة الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها: «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله الناسَ، ومن أسخط الله برضا الناس وَكَلَه الله إلى الناس». وأخرج فيها عن عبد الله بن عباس: «من أسخط الله في رضا الناس سخِط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى اللهَ في سخط الناس رضيَ الله عنه وأرضى عنه مَن أسخطه في رضاه حتى يُزيّنه ويُزيّن قوله وعمله في عينه» (مجاهد). (¬2) انظروا أول كتابي «تعريف عام بدين الإسلام».

للسيارات يصل بلدانها الشرقية العامرة ببلدانها الغربية العامرة، وفي وسط الطريق مناطق قد جرف السيل فيها الطريق المعبد فصار وعراً صعباً كله حجارة متراكمة، ولكن لا بد من المرور عليها ريثما يتم إصلاح الطريق. وقد اغتنم بعض المفسدين هذه الفرصة، وهم عصابات كثيرة في تلك البلاد، فشقّوا على جوانب الطريق الوعر طرقاً فرعية عبّدوا أولها ليخدعوا الناس، وأقاموا على جانبيها المقاهي والملاهي والمطاعم تخرج منها أصوات الموسيقى والغناء، يحسبها الجاهل مقاهي ومطاعم حقيقية مع أنها أماكن خادعة أُعِدّت لسلب الأموال عن طريق الخمر والنساء والمفاسد، فمن دخلها لم يخرج منها إلا مفلساً، وربما خرج وقد حمل معه بعض الأمراض السارية التي لا تفارقه حتى تفارق جسده روحه. وقد كتبت الحكومة لوحات فيها تحذير منها وبيان للطريق الموصل، ولو كان وعراً. فإذا جئت تلك البلاد ورأيت أمامك الطريق الوعر الذي فيه الحجارة والمصاعب، ولكنه يوصل إلى الأمان والاطمئنان والمدن الكبيرة التي تبتغي فيها الإقامة الدائمة، ورأيت فيها هذه الطرق الفرعية السهلة المعبَّدة التي فيها الطعام والشراب واللذة والراحة، ولكنّ مَن سلكها يخسر صحته وماله ولا يرجع منها إلا مريضاً مفلساً. فأي الطريقين تسلك؟ هل تصبر على صعوبة الطريق المستقيم ووعورته أملاً ببلوغ الأمن والسعادة في نهايته، أم أنت تغترّ باللذة العاجلة في هذه الطرق الفرعية؟

هذا -يا إخوان- مثال طريق الجنة وطريق النار، هذا هو المثال تماماً. طريق الجنة صعب ولكن آخره السعادة الدائمة، وطريق النار سهل ولكن آخره الشقاء الباقي. حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفَّت النار بالشهوات. الداعي إلى النار عنده كل شيء لذيذ، يقول لك: انظر إلى العورات الجميلة، تمتع بالمال الحرام، افعل كل ما تميل إليه نفسك، إذا اشتهيت فآت نفسَك شهوتها، وإذا غضبت فابطش، وإذا رغبت في شيء فخذه، لا تفكر إلا في الساعة التي أنت فيها، كن إباحياً، كن وجودياً، لا تذكر الموت ولا تشغل فكرك بالآخرة. وهذا كله سهل لذيذ على النفس. الإفساد سهل لأن المفسد يأخذك إلى المرقص لترى ما تميل إليه نفسك، يعطيك المجلات الخليعة والقصص المكشوفة والصور الداعرة، وقد يدلك على أماكن وجودها، وربما ساقك إليها. أما المصلح فماذا عنده؟ ما عنده إلا المنع من اتباع الهوى؛ إذا عرض لك الجمال المحرم قال لك: إياك أن تنظر. وإن أمكنك الربح المحرم قال لك: إياك أن تأخذ، إياك أن تتبع الهوى. ويقول لك: اترك نومك اللذيذ وقم إلى صلاة الفجر، خالف رغبتك في الطعام وصم رمضان، احمل المشاقّ واذهب إلى الحج. وإن سمعت الغيبة ومالت نفسك إلى المشاركة فيها قال لك: لا تغتب، بل اترك المجلس وقُم إذا لم يبدّلوا الحديث. وإن اتبع النساء الموضة ولبسن القصير قال لكِ: لا تعملي مثلهنّ واثبتي على الحجاب.

طريق الجنة أوله صعب، ولكن إن صبرت على صعوبته وصلت إلى دار اللذة الدائمة. وطريق النار أوله سهل جميل، ولكن إذا غرّك جماله أبلغك دار الشقاء الدائم. كالطالب ليلةَ الامتحان إذا كان أهله كلهم مجتمعين على الرائي (التلفزيون) يرون الفلم الجميل وكانت نفسه تميل إلى مشاركتهم، إذا اتبع هوى نفسه وآثر هذه اللذة المؤقتة سقط في الامتحان، وإن قاوم رغبة نفسه وقام إلى كتابه ودرسه، نال لذة النجاح التي هي أكبر من لذة النظر إلى الفلم. والقوة في مقاومة النفس. إذا سمعت من الإذاعة حديثاً دينياً جدياً أو قرأته في الجريدة، وسمعت من المحطة الأخرى أغنية لذيذة لفلانة المغنية أو فلان، وتركت الأغنية للحديث، فأنت قوي الإرادة لأنك سلكت الطريق الأصعب. إنك تكون قد صعدت، والصعود إلى العلاء صعب، أما الهبوط فهو هيّن. اتباع الشهوات مثل الصخرة التي تتدحرج من رأس الجبل، حرّكْها من مكانها تنزِلْ وحدَها بلا تعب، إن التعب والصعوبة في إعادتها إلى مكانها. خزّان الماء المبني في رأس الجبل اثقبه بالمحفار ينزل ماؤه كله إلى الوادي بلا تعب، إنما التعب والصعوبة في إعادته إلى مكانه. فمن كان يحب الراحة ولا يريد أن ينزعج ولا أن يخالف نفسه ولا أن يتحمل مشقة، فهذا لا يستطيع سلوك طريق الجنة. إن من يريد أن يسلك طريقها عليه أن يعد نفسه للمتاعب والمشقات، وأن يصبر عن المعاصي اللذيذة فلا يقربها، وأن يصبر

على الطاعات الصعبة فلا يقصّر فيها. {أمْ حَسِبْتُم أنْ تَدْخُلوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الذينَ جَاهَدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرين؟}. إني أرى الناس عندما تُقرَأ في الإذاعة أحاديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها النور وفيها الهدى لا يكاد أكثرهم يهتمّ، إلا إن سمع أنّ دعاء يُدعَى به أو كلمات تقال فيكون منها الغفران ويكون بسببها دخول الجنة. أمّا إن سمع في الحديث دعوة إلى عمل فلا يكاد يتنبه إليه. يا أيها الإخوان، يبدو أننا لا نريد أن نعمل وإنما نريد أن ندخل الجنة بالكلام! * * *

يا شباب الإسلام

يا شباب الإسلام حديث أذيع سنة 1972 رأيت مرّةً في الترام في الشام رأسَ راكب من وراء الحاجز، تأملته فما عرفت أهو لرجل أو امرأة، ثم تكلم فإذا هو شاب، مصقول الوجه حليق الشعر، يلبس قميصاً فيه ألوان زاهية مما يلبس النساء. وكان يقف متثنّياً متخلّعاً يكاد ينهدم، كأنه خُلِق بلا عظام أو كأن عظامه من شُكلاطة. وإذا بامرأة كهلة شديدة تزاحم لتمرّ، فدفعته في صدره فهوى. فرجعَت ووقفت تتأمله كما يتأمل زائرُ الحديقة حيواناً غريباً، ثم وضعت يدها في خصرها وقالت: يوه! وقعت؟ تعوا شوفوا شباب آخر زمان! فزُلزل الترام من الضحك. هذا النمط من الشباب موجود في كثير من البلاد المسلمة. لا أقول إن الشبان عندنا كلهم من هذا النمط، ولا نصفهم ولا ربعهم ولا عشرهم، ولكنْ عندنا من هذا النمط عددٌ إذا كان اليومَ قليلاً فإنه يُخشى أن يكثر؛ لأن المرض يُعدي والفسادَ يغلب الصلاح. مريضٌ واحد يعدي عشرةَ أصحّاء، وبرتقالةٌ واحدة فاسدة في الصندوق تفسد برتقالَ الصندوق.

ومن يوم ظهر هذا النمط من الشبّان بدأنا نفقد بعض سلائق النّضال وإرث البطولة؛ فإياكم -يا شباب الإسلام- أن يكون فيكم مثل هؤلاء. إننا نريد شباناً أقوياء الأجسام، قاماتهم مشدودة وعضلاتهم بارزة، يمشون مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يمشي كأنّما يَنْحَطّ عن صبَب؛ أي مِشيةَ مَن ينزل إلى الطريق الهابط من الجبل، مرفوعَ الرأس منتصبَ الظهر. لا نريد مَن يمشي متخاذلاً، رأسه بين كتفيه وظهره منحنٍ وبطنه بارز ورجلاه ملتويتان، فلقد كان عمر إذا رأى مَن هذا شأنه ضربه بالدِّرّة وقال له: انتصب لا تُمِتْ علينا دينَنا. نريد شباناً أقوياء في الجسد، أقوياء في اللسان، أقوياء الجنان، يقحمون الأهوال في سبيل الحق، قد تمرّسوا بالصعاب وأَلِفوا الجهاد. فلقد ولى زماننا نحن الكهول ومضت أيامنا، وعملنا ما استطعنا فأصبنا وأخطأنا، وهذا زمان الشباب. * * * فيا أيها الشبان، لقد فسد الزمان وتزعزع الإيمان، وضلّت قافلة البشرية في بَيداء الفِتَن والشهوات والإلحاد والفساد، وعمّ الكونَ ليلٌ أسود مظلم، ولا يهدي القافلةَ الضالّةَ ولا يحمل المنارَ الهادي في هذا الليل المُدلَهِمّ إلا أنتم، أنتم يا شباب المسلمين. لا أعني شاب الترام الذي لم أعرف أرجل هو أم امرأة، بل الشباب الذين امتلأت بالإيمان قلوبهم، وسارت على نهج الإسلام أعمالهم، وتحققت معاني الرجولة والقوة فيهم.

فأعدّوا أنفسكم يا شبابُ لحمل هذه الأعباء. قَوّوا أنفسكم وأجسادكم، فلا جمال للرجل إلا بالقوة. وروضوا ألسنتكم وأقلامكم على البيان، فلا تنجح دعوة لا تَمُدّها الألسنة والأقلام. وتعلموا حقائق الإسلام لتدعوا إليه على هدى وبصيرة، فإن الجاهل إذا دعا أخطأ وهو يريد الصواب. وصحّحوا نياتكم، وكونوا مع الله بقلوبكم، فإن من كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه لا تغلبه جبابرة الأرض. يا شباب، خذوا الأمثلة من شباب الصحابة، من الذين كانوا يتزاحمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبلهم جنوداً في الجيش الذي يمشي إلى المعركة، وكان أحدهم يتطاول ويقف على رؤوس أصابعه ليجيزه رسول الله. هؤلاء الشباب الذين تخرجوا من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فضربوا للناس في البطولات أروع الأمثال. لقد مشى محمد بن القاسم، ابن الطائف، من العراق إلى أقصى المشرق في فتح الهند وهو في سن السابعة عشرة، بسنّ تلميذ في السنة الثانوية الأولى! كونوا مثل أولئك الذين صُبَّت عضلاتهم صَبّ الفولاذ، واشتملت صدورهم على قلوب فيها النور، وكانت مطامحهم أوسعَ من الدنيا لأنها لم تقنع بها، وإنما رمت إلى الجنة التي عرضها السماوات والأرض. هؤلاء، لا مثل شاب الترام الذي خُلقت عظامه من الشكلاطة أو الذي خُلق بلا عظام! * * *

في ذكرى المولد

في ذكرى المولد نشرت سنة 1937 احتفل العالم الإسلامي كله أول أمس بذكرى مولد سيد العالم وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الاحتفال فرصة من فرص الدعوة إلى الإسلام والسعي في سبيل الإصلاح، تفيدنا فائدة كبيرة إذا نحن عرفنا طريق الاستفادة منها ولم نجعلها قاصرة على إقامة السرادقات الفخمة، وإيقاد آلاف من المصابيح الكهربائية، وإطلاق البارود في الجو، والاجتماع على ترتيل قصة المولد والتطريب فيها، وتلاوة الأغاني والأناشيد، وأكل الحلويات والأنقال، والتسلي واللهو والطرب وإضاعة الأموال بلا حساب. وطريق الاستفادة منها أن يبحث الخاصّة من رجال وأولياء الأمر في مجالسهم واحتفالاتهم أدواء المسلمين اليوم، ويصوروها ويفتشوا عن أدويتها، وأن يضعوا خططاً جديدة للدعوة ومناهج للعمل المثمر، وأن تُشرَح السيرة النبوية للعامة في مجامعهم واحتفالاتهم وينبَّهوا إلى مواطن العبرة فيها؛ لأن ذلك هو المراد من الاحتفال بالمولد، لا سردَ الأخبار الموضوعة والعجائب

والخرافات واللهو والطرب. وأن تُبيَّن لهم مزايا الإسلام وفوائده وأصوله ومبادئه، لأن الكثيرين منهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يفرقون بين طبيعة الإسلام وطبائع الأديان الأخرى، ولا يعلمون أن الأديان كلها أديان فقط، بمعنى أنها جاءت بعقائد وعبادات وأخلاق، أما الإسلام فهو دين، وهو تشريع، وهو سياسة، وهو أدب. وانظر في أي مسألة من مسائل الفكر الكبرى أو أي أمر من أمور الحياة، تَرَ للإسلام رأياً فيه وحكماً، فالتشريع الإسلامي أغزر (أو من أغزر) وأصفى المنابع التشريعية في العالم. والإسلام قد أقرّ الحرية الفكرية ووضع أصول البحث العلمي بما أمر به من دراسة الكون والنظر في ملكوت السماوات والأرض، والإسلام قد وضع أسس السياسة العامة والشرع الدولي، والإسلام وحده هو الذي يحل المشكلة الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، وينقذ الإنسانية من استبداد المتموّلين وجحود الفرديين، ومن خيالات الاشتراكيين وبلاء الشيوعيين، بما جاء به من قواعد حكيمة عادلة للزكاة والمساواة ونظام الحكم. وللإسلام بعد ذلك كله حكمه في كل عمل من أعمال الإنسان، فلا يخلو عمل على الإطلاق من أن يكون له حكم في الدين وللدين دخل فيه، فيكون مباحاً أو مندوباً أو واجباً أو مكروهاً أو حراماً، ولا يستطيع المسلم أن ينسى الإسلام لحظة أو يمشي بدونه خطوة. ثم إن هذه الأحكام كلها مساوقة للعقل موافقة له سائرة مع العلم. والإسلام يقدّر العقل حق قدره ويجعله الموجِب الأول ويربط المسؤولية والتكليف به، ويخاطبه دائماً ويعتمد عليه ولا

يخالفه أبداً. ولم يستطع أحدٌ إلى اليوم ولن يستطيع في الغد أن يجد قضية شرعية قطعية تناقض قضية عقلية قطعية، فلا يُثبت الشرعُ مُحالاً في العقل (¬1) ولا يُحيل ثابتاً ولا يخالف أصلاً من الأصول الثابتة في العلم. وأعني بالأصول الثابتة الحقائقَ والقوانين العلمية لا الفروضَ والنظريات (¬2)، وأيسر نظرة يلقيها العاقل البصير على كتب الدين وأقل إلمامة بعلومه تُثبت هذا الذي ذكرنا. * * * فإذا كان هذا هو الإسلام وهذه منزلته من العلم والمدنية، فلماذا ينصرف عنه أكثر الشباب؟ إنهم منصرفون عنه لأنهم لا يعرفونه. ومن أين يعرفون وهم لا يدرسون منه في المدارس إلا شيئاً تافهاً لا يُحِلّ حلالاً ولا يُحَرّم حراماً؟ ثم إنهم لا يجعلونه إلا دون الدروس كلها، وسبب ذلك أن الطلاب إنما يقرؤون ويَجِدّون ابتغاء النجاح في الامتحان، والدينُ لا يدخل في امتحان رسمي أبداً، لا في الشام ولا مصر ولا العراق. وهذه مناهج الكفاءة وما دونها والبكالوريا (¬3) وما فوقها، فيها كل علم إلا علوم الدين! وليس الغرضُ من حذفها والمانعُ من إثباتها وجودَ طلاب غير مسلمين في هذه الامتحانات، فإن ذلك يمكن تلافيه بأن يُمتحَن كل طالب في دينه وتدعى كل أمة إلى كتابها. ¬

_ (¬1) كاستحالة كون الثلاثة واحداً. (¬2) كنظرية لابْلاس في أصل الأرض ونظرية دارون في أصل الإنسان. (¬3) «الكفاءة» هي الشهادة الإعدادية، و «البكالوريا» هي الثانوية العامة (مجاهد).

ولكن ذلك شيء تعمّده الأجانب يوم كانت سياسة البلاد وإدارتها ومناهجها في أيديهم، وكان أمضى سلاح حاربونا به في ديننا وأبنائنا، فكيف نبقى عليه وقد انتقلت سياسة البلاد ومناهجها إلى أيد وطنية يريد أصحابها الخير لبلادهم والصلاح؟ ثم إن هؤلاء الطلاب إذا خرجوا من المدرسة وبقي فريق منهم على شيء من التدين وأحبوا أن يطالعوا علوم الإسلام، لم يجدوا كتاباً سهلاً جامعاً بين دفتيه خلاصة ما يجب على الشاب المسلم أن يعرف من أصول الدين وفروعه، وإنما يجدون كتباً في علم الكلام مشحونة بالمجادلات الجوفاء والرد على مِلَل قد بادت ونِحَل قد نُسيت منذ مئات السنين وعرض شُبَهها وضلالاتها، وكتباً في الأصول معقدة غامضة لا يفهم الشاب شيئاً منها، وكتباً في الفقه مملوءة بالمناقشات اللفظية والفروض البعيدة والاحتمالات الغريبة، لا تكاد تخلو من اختصار مخل أو تطويل ممل، وكتباً في التفسير مطوَّلة ومختصرة فيها كل شيء من نحو وصرف ولغة وبلاغة وتاريخ وفلسفة وإسرائيليات، ولكن ليس فيها تفسير واحد يرضي الشاب وينفعه ويجد فيه المراد من الآية ويعينه على التدبر الذي أمر الله به، وكتباً في الحديث مرتَّبة على غير حاجة العصر مبوَّبة بحسب أبواب الفقه أو أسماء الرواة، فينصدع رأس الشاب ويفنى صبره قبل أن يصل إلى حديث واحد يفتش عنه ويطلبه، ورسائل في علم المصطلح غامضة فيها تعقيد، وقل مثل ذلك في سائر العلوم. وهذه الكتب مؤلفة على طريقة لا تخلو من غرابة وشذوذ، فالكتاب الواحد متن وشرح للمتن، ومختصَر للشرح وشرح

للمختصر، وحاشية على شرح المتن وتقرير على حاشية الشرح! ولست أفهم لماذا ارتقت أساليب الكتابة في كافة العلوم وأخذت شكلاً جديداً، ولماذا يؤلَّف اليومَ الكتابُ في الأدب على غير ما كان يؤلَّف عليه قبل خمسين سنة، ولا تزال هذه الكتب على ما كانت عليه منذ مئات السنين لم تصل إليها موجة الحياة؟ ولماذا نجد في علماء كل فرع مؤلفين مجدّدين ولا نكاد نجد في علماء الدين إلا مقلّدين مردّدين؟ فماذا يصنع الشاب الذي لم يدرس الإسلام في مدرسة ولم يفهم كتبه؟ أيسأل المشايخ؟ إنه إن فعل لم يجد أكثرهم إلا مجلدات تمشي ليس في ثيابهم وتحت عمائمهم إلا أوراق الكتاب، فهم يسردون عليك ما حفظوا كأنهم يتناولونه من مستودعات أدمغتهم باليد، ومَن كان منهم ذا فكر جوّال وعقل باحث كان في كثير من الأحيان ضعيفاً في مادته العلمية، فهو يخالف الأولين والآخرين ويتنكب سبيل الدين. وقليل منهم من جمع إلى العلم سرعةَ الفهم وفهمَ روح العصر وحسنَ مخاطبة الناس. ثم إن أكثر هؤلاء المشايخ بعيدون عن الأدب ليس لهم في صناعة البيان يد، قلّ أن ترى فيهم من يُعَدّ كاتباً مُجيداً أو لَسِناً مُفوَّهاً. على أننا بعد هذا كله نخشى أن ينقرض هؤلاء المشايخ ولا نجد لهم خَلَفاً، وعلى أنني لا أحمّلهم الذنبَ وحدهم فالذنب على المسلمين كلهم، وليس في الإسلام رجال دين مسؤولون عنه وقائمون به ووكلاء عليه، ولكن رجال الدين عندنا هم كافة أهله وأتباعه، لا فرق في ذلك بين شيخ الإسلام وآخر مسلم في إفريقيا الوسطى أو القطب الشمالي. ولو أن أكبر شيخ في حلقته أو خطيب

على منبره أخطأ في حكم أو حرّف آية لَرَدّ عليه من يحفظ الآية ويعرف الحكم، ولو كان طفلاً صغيراً أو امرأة. وما هذه المرأة بأقل من تلك العجوز ولا هذا الخطيب بأجلّ من عمر. ثم إن الشبان المسلمين كلهم يذكرون الإعجاز ويعتقدون به، ولكن مَن منهم يعرف أوجه الإعجاز على حقيقتها؟ وإذا أراد أن يفهمها ففي أي كتاب يجدها؟ بل مَن منهم يفهم القرآن فهماً صحيحاً يتجاوز التفسير العادي؟ بل كم من الناس يعرفون تفسيره العادي؟ وكم منهم يسمعه ليعتبر ويتدبر؟ ألا يسمع أكثر المسلمين القرآن ليطربوا بنغمته وأصوات تلاوته؟ وكلنا يعتقد بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن أي دولة، بل أي جمعية إسلامية، حاولت أن تستخلص من كتب الفقه ونظريات الفقهاء قانوناً مدنياً ينطبق على عصرنا الحاضر، ويكون تتمةَ العمل الكبير الذي بُدئ بوضع مجلة الأحكام الشرعية؟ وفي الفقه متسع لهذا العمل، وفي إنجازه إنقاذ البلاد الإسلامية من الحكم بغير ما أنزل الله والتعرض لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد، فضلاً عما فيه من المسّ بالكرامة الوطنية والسيادة القومية. ومن حاول أن يؤلف في بيان رأي الإسلام في الاشتراكية وموقفه منها، وحكمه في الديمقراطية وأساليب الحكم المعروفة؟ * * * أليس اغتنام فرصة ذكرى المولد الشريف للبحث في هذا وشبهه جزءاً من هذه الحفلات التي لا معنى لها والمظاهر التي لا طائل تحتها؟

وإني لأرجو من الله -لما أرى من انصراف مصر، علمائها وأدبائها وشبابها المثقف، إلى الإسلام وإقبالها عليه- أن يكون يوم ذكرى المولد من هذا العام فاتحة عهد جديد في تاريخ الإسلام، كما كان يوم المولد الشريف فاتحة عهد جديد في تاريخ العالم. (بغداد) * * *

أياصوفيا

أياصوفيا نشرت سنة 1966 كانت الدولة العثمانية ثالثة الدولتين الكبيرتين: الأموية والعباسية، تسلّمت الحكمَ والوطنُ الإسلامي رقع ممزَّقة ومِزَق مرقَّعة، فوحّدت صِبْغَتَه ومدّدت رقعته، وضمّت إليه بلاداً لم يبلغها فتح عُقبة ولا قُتَيبة ولا طارق، حتى رفرفت رايةُ الهلال على ما بين الأهواز والنمسا وأدرنَة وصنعاء. وهال دولَ النصرانية أن يلوح هلال الدولة المسلمة فوق الصلبان وأن يعلو على رنين النواقيس صوتُ الأذان، فاجتمعت كلها عليها ودأبت الدهرَ الأطولَ عامِلةً على حربها، وأعانها عليها نفرٌ منها، ظواهرهم مسلمة وبواطنهم كافرة، هم جماعة الاتحاديين. وهم من يهود سُلانيك الذين اتخذوا الإسلام جُنّة يسترون بها كفرَ قلوبهم، خرجوا على السلطان عبد الحميد وافتروا عليه الكذب وصوّروه بغير صورته، فأخذنا الصورة التي صوّروها وصدقنا الفِرى (¬1) التي افترَوها. وما نقموا منه إلا أنه كان -على سوء أسلوبه في الحكم- مسلماً عاملاً لرفعة الإسلام ووحدة المسلمين. ¬

_ (¬1) جمع فِرية.

ثم جاؤوا للأمة الواحدة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي يجمع الإسلامُ بين عربيّها وعجميّها وهنديّها وكرديّها فقالوا «تُرك»، فقال المقلّدون من العرب «عرب»، فقال الفُرس «فُرس» والأكراد «كُرد»، فانقسمت الأمة الواحدة أمماً واستحالت قوتها ضعفاً، وكان بأسها على عدوّها فصار بأسها بينها، وكان ذلك ما يريد أعداؤها. ثم دخلوا الحرب التي لم يكن للعثمانيين فيها ناقة ولا جمل فأضاعوا بها الدولة وأضاعوا المسلمين. ولما تحقق لأعداء الإسلام الأملُ الذي أمّلوه قروناً طِوالاً وبلغوا ما كانوا يبتغون وهوى هذا الصرح العظيم، صرح الخلافة الثالثة، هزّت الفرحة أعداء الإسلام هزة سقطت منها الأقنعة عن وجوههم فبدوا على طبيعتهم، وجهروا بالعداوة وأظهروا الشماتة، وكتب صحفي نصراني كان في الشام تلك الأيام مقالة حشوها السم وملؤها اللؤم، عنوانها: «مات الرجل المريض»، وتألمنا منها ولكن ما تكلّمنا. فلما قام مصطفى كمال متظاهراً بالدفاع عن عزة الدين وكرامة المسلمين، ووثبت معه تلك النفوس المؤمنة من أهل الأناضول فحاربوا مجاهدين في سبيل الله، وطردوا اليونان من إزمير وأخرجوا الحلفاء من البلاد وبنوا النصر من أنقاض الهزيمة، انقلبت الآية، فكانت الفرحة للمسلمين والغصة في قلوب الكافرين، فكتب الأستاذ معروف الأرناؤوط رحمه الله مقالة عنوانها «بُعِث الرجل الميّت»، كانت إحدى روائع ذلك القلم العبقري. * * *

ومرت الأيام فظهرت الخوافي وبرزت المخبَّآت، فإذا الرجل ينزع عنه جلد الغازي مصطفى كمال ويلبس جلد أتاتورك، ويأخذ في محاربة الإسلام ونقض بنائه في بلاد الترك حجراً حجراً وحلّ عُراه عُروةً عروة، حتى وصل إلى «أياصوفيا» التي أكرمها الله حين شرّف تلك الديار بالإسلام فجعلها مسجداً، فعاد بها فجعلها متحفاً، ولولا الخوف لأرجعها كنيسة! وروّع ذلك القلوبَ المسلمة وآلمها وحزّ فيها، وانطلقت تقول فيه الألسنة والأقلام، فكان مما قيل مطلع قصيدة لحافظ إبراهيم ما أتمّها، ولو أتمها لكانت أروع ما قال: أيا صوفيا حان التفرّقُ فاذكري ... عهودَ كِرامٍ فيكِ صَلّوا وسَلّموا إذا عدتِ يوماً للصّليبِ وأهلِهِ ... وحلّى نواحِيَكِ المسيحُ ومَريمُ فلا تُنكري عهدَ المآذن إنه ... على الله من عهد النّواقيسِ أكْرَمُ وكنت يومئذ في مكة، فكتبت مقالة نُشرت بعدُ في الرسالة (سنة 1935) (¬1) كان مما قلت فيها: إن تلك العصبة لم يَشْفِ غيظَ قلوبها كلُّ ما صنعته بالإسلام وما أنزلته بأهله، فعمدت إلى بيت من بيوت الله تقام فيه شعائر الله فجعلته بيتاً للأصنام ومثابة للوثنية! أماتت فيه التوحيدَ وأحيت فيه الشرك، وطمست منه آيَ القرآن وأظهرت فيه الصور والأوثان. لم تَضِقْ بها الأرضُ حتى ما تجد مكاناً لمتحفها هذا إلا المسجد الجامع، ولكنّ النفوس ¬

_ (¬1) انظر مقالة «الشريف عدنان»، وهي منشورة في كتاب «من نفحات الحرم» (مجاهد).

الملحدة ضاقت بهذا المسجد، وأحس أصحابها كأن هذه المآذن في عيونهم وكأن هذه القبة على ظهورهم، وغشيت أبصارُهم من نور الله فأرادوا ليطفئوه بأفواههم ويمنعوا مساجد الله أن يُذكَر فيها اسمه، فعُطّلت الصلاة في أياصوفيا فلا تقام فيه صلاة بعد اليوم، وسكت المؤذن فلا يدعو في مآذنها إلى الله ولا يصعد بالتهليل والتكبير، ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلا مستعبرين باكين، يندُبون فيها مجد الإسلام وعظمة الخلافة وجلالة السلطان. وذلّ فيها المسلمون وصاروا غرباء عنها، وهم أصحابها وأهلوها، وعزّ فيها المشركون، وشعروا أن أياصوفيا قد خُتمت فيها صفحة الإسلام باسم أتاتورك كما فُتحت باسم محمد الفاتح. أياصوفيا التي صيح في مآذنها 872350 مرة «حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله»، فاصطفّ فيها المسلمون خاشعة أبصارهم، مؤمنة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، قد وضعوا الدنيا تحت أقدامهم ودَبْرَ آذانهم وأقبلوا على الله بخشوع وإخلاص، فجزاهم بما خشعوا وأخلصوا قلوباً استنارت بالإيمان وعمرت باليقين، كان القلب منها وهو يخفق بين جوانح صاحبه أكبرَ من الأرض وهي تجري في ملكوت الله، فملكوا بهذه القلوب الأرض وفتحوا بها العالم. أياصوفيا، التي بات فيها المسلمون 174470 ليلة، ولهم في جوفها دَوِيّ بالتسبيح والتكبير والتهليل كدويّ النحل، وما في أرضها شبر لم يكن موطئ قدم مصلٍّ أو مجلس قارئ أو مقام ذاكر أو مقعد مدرّس أو سامع، ولم يكن يحصي إلا الله كم خُتم

فيها من ختمة وكم ألقي فيها من درس، وكم ذُكر فيها الله وكم أقيمت فيها الصلاة! أياصوفيا، التي يشهد كل حجر فيها وتشهد أرضها وسماؤها، وتشهد قبتها المشمَخِرّة وتشهد مآذنها السامقة، ويشهد الناس ويشهد الله وملائكته، أنها بيت من بيوت الله وحصن من حصون التوحيد ودار من دور العبادة. أياصوفيا تعود للجبت والطاغوت وتحمل الصور والأصنام، ويخسرها الإسلام والشرق ليربحها الكفر والغرب؟ لقد أريقت حول أياصوفيا دماء زكية وأُزهِقت في سبيل أياصوفيا أرواح طاهرة، من لَدُنْ معاوية (¬1) إلى عهد الفاتح، إلى عهد عبد?الحميد؛?أفَراحت الدماء هدراً وذهبت النفوس ضياعاً، وعادت بعد ثمان وسبعين وأربعمئة سنة وكأنه لم يُذكَر فيها الله ولم يُتلَ فيها القرآن، ولم يقف في محرابها الأئمة ولم تتجاوب مآذنها بالأذان؟ لقد بنى المسلمون هذا المجد على جماجمهم، وسقوه بدمائهم، وحموه بسيوفهم، ثم وقفوه على الإسلام. أفيأتي في ذيل الزمان مَن يعبث بالوقف ويهزأ بالدماء ويلعب بالجماجم، ثم لا يردعه رادعٌ ولا يَعِظه واعظ؟! * * * وانتهت المقالة، ولكن لم ينتهِ العقل من التفكّر ولا القلب من التحسّر. لقد كنا نردّ كذب أقوال أعدائنا بصادق أفعالنا، يقولون ¬

_ (¬1) يوم حاول المسلمون فتحها لنور الإسلام يقودهم مَسْلَمة بن عبد الملك.

ونفعل، فهل صاروا يفعلون ولا نملك نحن إلا الأقوال؟ وانتظرت أن تنجلي الغمة فأكتب مقالة مثل مقالة معروف، ولكن الغمة لم تَنْجَلِ بل ازدادت شدة؛ لقد كرّت السنة بعد السنة والخطب يعظُم والكفر يَقْوَى، والمؤمنون ينتظرون الفرج فلا يلقونه، حتى شك الضِّعاف وارتاع أصحاب اليقين وقالوا: متى نصر الله؟ من يقف في وجوه هؤلاء الطغاة والدولة لهم، ومال الأمة معهم، وسلاحها الذي اشترته بمالها وأعدته لمحاربة عدوّها وضعوا أيديهم عليه، ثم وجهوه إلى صدور الذين دفعوا ثمنه يرغمونهم به على ترك دينهم والخروج من إسلامهم، وهم إنما اشتروه ليحموا به الدين ويدفعوا به عن الإسلام؟ لقد صال هؤلاء الطغاة وجالوا، ووقفوا وحدهم في الميدان يتحدَّون الشعب الأعزل العاجز، ينادون: هل من مبارز؟ فكيف يبارز المدجَّجَ بالسلاح المؤيَّدَ بالمال من لا مال لديه ولا سلاح؟ أتردّ الرصاصَ الصدورُ أم هل تدفع الأسنّةَ النحورُ؟ وكدت أيأس، لولا أن ذكرت أن اليأس حرام في نظر الإسلام وأنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون، ولولا أن ذكرت موقفاً مماثلاً. وما أكثر ما تتشابه مواقف التاريخ! يوم قام الإمبراطور «أكبر»، وكان يحكم الهند باسم الإسلام، فزيّن له الشيطان الذي اسمه إبليس وشيطان من الناس نسيت اسمه (فسلوا عنه صديقنا الأستاذ أبا الحسن الندوي)، زيّن له أن يكفر بالله وأن يستبدل بشريعة الإسلام شريعة لفّقها ما أنزل الله بها من سلطان، وجعل

شعار دولته «الله أكبر»، وما يريد بها معناها بل يريد الخبيث أن يقول أنه هو الله (أي أن الله هو الإمبراطور أكبر)! وكان يحكم الهند إلا أقلها ويسيطر على قواها كلها، فتصدى له شيخ ضعيف في جسده قوي في إيمانه، وما زال يعمل بمواعظه ورسائله حتى استخلص من حَفَدة الإمبراطور طفلاً نشّأه على الإسلام وربّاه على الدين، فكتب الله أن يرث هذا الطفل مُلك «أكبر» وأن يكون منه الإمام العادل العالم، مَن كان من خيرة ملوك المسلمين وكان بقيةَ الخلفاء الراشدين، هو أورَنْك زيب (¬1). أما الشيخ فهو مجدد الألف الثاني، الشيخ السَّرْهَنديّ النقشبندي. أفلا نجد في هؤلاء الإخوة المسلمين شيخاً كالسرهندي؟ شيخاً يحمل المصباح الهادي فيردّ به القافلة الضالّة إلى الطريق؟ لقد أمّلنا، ولكن طال الأمد وما تحقق الأمل، وما رأينا النور الذي يبدد الظلمات، بل رأينا الظلام يشمل بلاداً أخرى من بلاد المسلمين كانت في ضياء. لقد نجم في تلك البلاد «أتاتوركون» آخرون، ولكنهم كانوا من العرب، نَحَوْا نَحوَ إمامهم وسلكوا طريقه، بيد أنهم كانوا شراً منه، فكفره كفر معلن يراه الناس فيحذرونه ويعرفونه فيتحامَونه، وأولئك كفروا كفراً مبطّناً لا يعرفه ولا يراه إلا القلة من العلماء، أما العامة والدهماء فلا يفرّقون بين السراب وبين الماء. ¬

_ (¬1) ومن شاء أن يقرأ قصته فهي في كتاب «رجال من التاريخ» في فصل عنوانه «بقية الخلفاء الراشدين» (مجاهد).

«ذلك» كالكأس فيها السم الظاهر، و «هذا» كالكأس خُلط فيها السم الناقع الذي لا طعم له ولا مرارة فيه بشراب الليمون! جاء «ذلك» بالكفر كما يجيء الذئب الكاسر، تسمع عواءه فتغلق الأبواب دونه، وجاء به «هؤلاء» كما تجيء الحية، تدخل عليك وأنت نائم من شِقّ الباب أو من ثقب الجدار، فلا تحس بها إلا وهي ملتفّة عليك. * * * لما كدنا نيأس فتح الله لنا باب الفرج. كنا نظن أنه لا يستطيع أحدٌ أن يقف في وجوه هؤلاء الملحدين لأن معهم السلاح ومعهم الدولة ومعهم المال، فأراد الله أن يري الناس أن النصر ليس بالسلاح ولا بالدولة ولا بالمال، بل بالإخلاص لله والعمل ابتغاءَ وجهه، فبعث من يقف في وجوههم. لم يبعثه قائداً معه الجند ولا زعيماً له الأعوان ولا غنياً عنده الملايين، بل شيخاً ليس عنده شيء من ذلك كله، ولكن عنده ما هو أكبر من ذلك كله، عنده الإيمان. وحمل الشيخ (¬1) مشعل «النور» فأقبل عليه الشبان، الشبان الذين عمل الملحدون من نحو خمسين سنة إلى الآن على نزع الإسلام من قلوبهم، بمناهج المدارس ومقالات الصحف والقوانين والنظم والترغيب والترهيب، حتى إذا ظنوا أنهم قد نجحوا وأنهم وصلوا، وأنهم نالوا ما أمّلوا وبلغوا ما تمنّوا وحسبوا ¬

_ (¬1) الشيخ سعيد، وعامة الناس عندنا يلفظون اسمه «النَّوْرَسي»، وهو خطأ صوابه «النُّورْسي»؛ نسبةً إلى النُّور (مجاهد).

أن الإسلام قد مات في تركيا الجديدة، ألهم الله شيخاً واحداً أن يقول كلمة الإسلام بإخلاص، فإذا هو يهدم في يوم واحد ما بنوه في خمسين سنة، وإذا الإسلام ينبعث حياً قوياً، لا في نفوس الشيوخ والعجائز الذين أدركوا عهد ما قبل الجمهورية، بل في نفوس هؤلاء «الشبان النوريين». وسرت دعوته كما تسري أشعة الفجر الأولى في ظلمة السَّحَر ومشت كمشي البُرْء في أوصال المريض، قوية ولكنها خفية، حتى إذا حان موعد الفجر الأول بدت للعيان على يد مَنْدَريس وصحبه، فعاد المسلمون إلى المساجد ورجعوا إلى القرآن، وعزّ الدين، وسمع المسلمون في تركيا الأذان العربي، أذان بلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الله أكبر» بعد أن لبثوا ثلث قرن يسمعون «تنري بيوكتر، تنري بيوكتر». لقد حدثني مَن شهد الإخوان الأتراك لمّا سمعوه كيف أثارتهم الفرحة حتى خفَّتْ لها أحلامُ ذوي الحُلُم والمكانة فيهم، فصاروا يضحكون ويبكون ولا يدرون من شدة الفرح ما هم فاعلون. إن فجر مندريس كان الفجر الأول، ولا بد أن تعقبه ظلمة طفيفة هي ذيل سجف الليل. لقد جمع الكفر قوته ووثب مثل وثبة الديك المذبوح، فظنها الرائي من بعيد علامة الحياة، وإنها لأمارة الموت. لقد ذهب في هذه الوثبة مندريس رحمه الله، ولكن ضياء الفجر لم يذهب. لقد طلع الفجر صادقاً هذه المرة وعبَّر الشعب في تركيا عن إيمانه. * * *

فيا أيها القراء، إن العاقبة للإسلام؛ إن نور الإسلام لا يمكن أن ينطفئ، وإذا جال الباطل جَولة فإن العاقبة دائماً للحق. أرأيتم السنديانة الضخمة التي مشت في الأرض جذورُها وامتدّت في الجو فروعُها، يأتي مَن يقطع غصناً من غصونها أو يُعمل فأسَه في ساقها حتى يظنّ أنه قد اجتثّها من فوق الأرض وأنها لن تُنبت أبداً؟ إنها تنام قليلاً حتى ينمو من حولها الكلأ وتعلو الحشائش حتى تغطيها، فإذا هي تنشقّ عن فرع جديد يظهر صغيراً ضعيفاً كأنه بعض ذلك الكلأ، ولكن يجفّ الكلأ ويموت ويبقى هذا الفرع، حتى يقوى ويعلو ويصير دوحة جديدة باسقة الذُّرى وارفة الظلال. هذا هو مثال الإسلام؛ كلما كاد له أعداؤه وحاولوا أن يطفئوا نوره انتفض فعاد أقوى مما كان، وكلما حاقت به الشدائد والمحن كانت له حياة جديدة. فثقوا بأن العاقبة للتقوى، وكونوا مع الله يكن الله معكم، وليعلم كل عدو للإسلام أن العاقبة للإسلام، وليؤمّل المبتلَون المعذَّبون بنصر الله في الدنيا ويثقوا بحسن ثوابه في الآخرة. إن الليل مهما طال لا بد له من آخر، وستطلع شمس الإسلام على النفوس فتكسِف فيها شموعَ المذاهب والنِّحَل والأباطيل، وتجيء عصا موسى فتلقُف تهاويلَ السِّحْر، ويصحو النائمون فتمّحي مشاهد الرؤى وتذهب أضغاث الأحلام. * * *

الحرب والإيمان

الحرب والإيمان محاضرة أُلقيت ارتجالاً سنة 1969، سُجِّلت وكُتبت نقلاً عن شريط تسجيل (¬1) أنا أرتاد هذه المنابر من أربع وأربعين سنة حتى زعمتُ أنّي صرت من فرسانها ولم أعد أتهيبها، لكني أقف اليوم بينكم متهيباً! قلت في محاضرة ماضية إنني وقعت في ورطة، أما الورطة الحقيقية فهي التي وقعت فيها اليوم؛ إذ فوجئت بحضور هذا الحشد من القادة الكبار والسادة الكرام، ووقفت هنا موقف الامتحان، وجاء هذا الأخ الكريم فمدحني قبل أن تسمعوا مني، فصرت كالتلميذ الذي مدحه أستاذه فقال: هاكم التلميذ النابه. ثم كان غير ذلك فكانت سقطته أشدّ، لأن مَن يسقط عن الكرسي ليس كمَن يسقط عن المنارة! ¬

_ (¬1) ألقى علي الطنطاوي هذه المحاضرة أمام عدد كبير من ضباط الجيش الأردني، ثم نُشرت بعد نقلها من شريط تسجيل في عدد أيار 1971 من «المجلة العسكرية» التي تُصدرها مديرية التوجيه المعنوي في الجيش، وقد صدّرتها المجلة بكلمة قالت فيها: "كان فضيلة=

إنني والله في خجل أن أقدم لكم كلاماً وأنتم تقدمون دماء وأرواحاً؛ تجودون بالنفوس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. فما الذي أجود به عليكم؟ أدعوكم إلى البذل؟ لقد بذلتم وتبذلون. أعلّمكم فنون القتال؟ أنتم الذين تعلّمون الناسَ القتال. لذلك أعترف بأني ما جئت لأقويّكم بل لأستمدّ القوة منكم، ما جئت لأعطيكم بل لآخذ منكم، ما جئت لأعلمكم ما تجهلون بل لأذكّركم بما تعلمون، ما جئت لأضع في نفوسكم بطولات ليست فيها، بل جئت لأثير البطولة التي وضعها الله في نفوسكم. * * * ¬

_ = الأستاذ علي الطنطاوي في زيارة عائلية إلى عمان قبل سنتين، فطلب إليه مدير التوجيه المعنوي أن يلقي محاضرة عن الإيمان والجيوش الإسلامية، فتكرم فضيلته بالحضور إلى نادي الضباط في الزرقاء، وقد غصّت قاعته الخارجية بأكثر من ألف ضابط من كبار ضباط الجيش العربي (الأردني). وكانت هذه المحاضرة التي ننشرها اليوم لما لها من أهمية. وقد نال إعجاب جميع الضباط وتقديرهم فناشدوه الاستمرار في الحديث، لكن عريف الندوة اعتذر عن فضيلة الأستاذ لأنه كان على سفر". وقد أعاد جدي -رحمه الله- نشر جزء من هذه المحاضرة في مقدمته التي كتبها لكتاب «عبقرية خالد بن الوليد العسكرية»، الذي ألفه أحمد بك اللحّام وأعادت نشرَه من قريب «دار المنارة» التي نشرت كتب الشيخ كلها والتي تنشر اليوم هذا الكتاب (مجاهد).

أيها السادة: إن الأمم التي لا ماضي لها تخترع لها ماضياً، لأن حاضر الأمة وليدُ ماضيها وهو الذي يلد مستقبلها. فهل نهمل نحن ماضينا العظيم؟ إن أعداءنا يتعمدون إهمال ماضينا، أفنعين أعداءنا على أنفسنا؟ أعداؤنا اصطلحوا على أن يطمسوا صفحة تاريخنا من تاريخ الحضارة الإنسانية، فتراهم في كلياتهم يُقرؤون الطلابَ تاريخ العلوم من أيام اليونان والرومان، ثم يتخطّون ما فعلنا نحن فينتقلون إلى عهد النهضة رأساً. وفي الكليات العسكرية يتخطون عمداً صفحة أمجادنا مع أنها أروع صفحة في تاريخ الأمجاد العسكرية. اعذروني أن أتكلم في الفن العسكري أمام كبار القادة العسكريين، فأنا مولع بكتب التاريخ من صغري أقرأ كل ما يقع تحت يدي منها، وأستطيع أن أقول إن المعجزة الكبرى في التاريخ العسكري للأمم كلها هي الفتح الإسلامي. قد يقول قائل: إن الإسكندر فتح بلاداً ربما بلغت ما فتحه المسلمون، وكذلك جنكيز خان وتيمور لنك ونابليون وهتلر، ولكن الفرق بين هؤلاء جميعاً وبين الفتح الإسلامي أن فتح هؤلاء القادة كان فتحاً عسكرياً قام على القهر وبقي فيه غالبٌ ومغلوب، بقي الغالب يقظاً محترساً وبقي المغلوب متربصاً متحفزاً للأخذ بالثأر. أما الفتح الإسلامي فهو عجيب في طبيعته. انظروا إلى البلدان التي فتحناها. لقد فتحنا بلاد الشام، فأين في بلاد الشام الآن الغالبون وأين المغلوبون؟ فتحنا هذه البلاد

كلها فما دخل الفتح الإسلامي بلداً إلا استقرّ فيه وبقي. هذه أندونيسيا دخلها الإسلام منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، وقريباً منه دخل الاستعمار إلى تلك البلاد، وها هو ذا الاستعمار قد ذهب وبقي الإسلام إلى يوم القيامة إن شاء الله؛ ذلك أن الفتح الإسلامي ليس فتحاً عسكرياً، وما فتح المسلمون البلاد ليأخذوا منها الغنائم ولا ليظلموا أهلها، بل ليشركوا أهلها في الخير الذي جاؤوا به (¬1). * * * إن العالم اليوم تقوده قوتان كبيرتان: أميركا من هنا وروسيا من هناك. فلو جاء شخص أمّي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يدخل في حياته مدرسة ولا زار مدينة من المدن الكبرى؛ شخص نشأ في قرية ضائعة متوارية خلف رمال الصحراء، لو قال هذا الرجل: إن عندي دستوراً للبشرية، فتعالي يا روسيا وتعالي يا أميركا وتعالي يا أمم الأرض أجمع، اتبعوا هذا المنهج أضمن لكم السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة. ماذا تقولون عنه؟ تقولون إنه مجنون! فما رأيكم إذا لم تمضِ على هذا الشخص وعلى دعوته ثلاثون سنة حتى حكم ثلث المسكون من الكرة الأرضية، وحتى أزاح إحدى الدولتين الكبيرتين وأزالها من الوجود وأخضع الأخرى لهذا المنهج؟ ¬

_ (¬1) اقرأ مقالة «الفتح الإسلامي» في كتاب «فِكَر ومباحث». وفي كتاب «أخبار عمر» مقالةٌ أخرى غيرها تحمل العنوان ذاته، وفي كليهما تفصيل وتحليل لهذه المعجزة التاريخية الكبرى، معجزة الفتح الإسلامي (مجاهد).

هذا الذي صنعه محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاء محمد، وهذه هي قصة الفتح الإسلامي، الفتح العجيب؛ هذه المعجزة تحققت على يد الجندي العربي المسلم والقائد العربي المسلم. الجندي العربي المسلم الذي مشى من جزيرة العرب شرقاً إلى العراق وفارس وأفغانستان وإلى الهند وأوغل فيها إلى بلاد الصين، ومشى غرباً إلى مصر وإلى آخر إفريقيا حتى وصل البحر، فوقف عليه عقبة بن نافع بفرسه وقال: اللهمّ لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك. ثم تخطَّوا البحر إلى إسبانيا حتى بلغوا قلب فرنسا، حتى جاء يوم كان البحر الأبيض المتوسط فيه بحيرة إسلامية. تقولون: إن الجنود قد يصلون اليوم إلى أبعد من ذلك، فهذا الجندي الأميركي يأتي من أميركا إلى كوريا. إنهم -يا سادة- يأتون بالطيارات ويتنقلون بالسيارات، الجندي الأمريكي يأتيه غداؤه ساخناً ويأكله بالشوكة والسكين. أما الجندي العربي فكان يمشي على رجليه، وإن وجد دابة تعاقب عليها عدد من الجنود. في بدر تعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليٌّ ورجل ثالث على ناقة واحدة، يركب أحدهم ويمشي الآخران. واليوم تمشي مع الجيوش تشكيلات التموين والتزويد والنقل، ولم يكن مع الجيوش العربية الإسلامية شيء من ذلك كله، بل كانوا يُعدّون زادهم بأنفسهم. وما زادهم؟ تمرات يأكلها الجندي في اليوم، ويعيش كذلك أياماً طوالاً. كان الجندي المسلم عجيباً في صبره وكان عجيباً في

طاعته، وكان في إيثاره أعجبَ منه في صبره وفي طاعته. ألّفَ بين الجنود الترابطُ والمحبة والإيثار، ولا ينفع اجتماع الأجسام -أيها السادة- إذا لم تجتمع القلوب والنفوس. أذكر لكم حادثة واحدة من معركة اليرموك: ذهبوا بعد المعركة يفتّشون عن الجرحى، فوجدوا جريحاً يُحتضَر يطلب جرعة ماء، هي أثمن عنده من خزائن الأرض للإنسان الصحيح. فجاؤوه بها، فرأى زميلاً له جريحاً مثله يريد أن يشرب، فأبعدها عن فمه وقدّمها إليه، ورأى الثاني ثالثاً يطلب الماء فآثره على نفسه، فذهبوا إليه بالماء فمات قبل أن يصل إليه الماء، فعادوا إلى الثاني ثم إلى الأول فوجدوهما قد ماتا عَطِشين. هذا الإيثار العجيب لا تلقونه إلا في جيوش أسلافكم. والأمانة؟ تعلمون أن العرب كانوا يعيشون في فقر وفاقة، وعندما غنموا جواهر تاج كسرى (التي كانت أغنى وأثمن من التاج البريطاني) لم يمدَّ جندي واحد يدَه إلى جوهرة فيها قد تغنيه إلى أحفاد أحفاده، وعندما جاءت الكنوز إلى عمر بن الخطاب ونظر إليها قال: إن قوماً أدّوا هذا لأمناء. وكان عند قتيبة بن مسلم رجل أمين يجمع الغنائم ويقسمها اسمه ابن وَال، قال له أحد القادة: سأرسل إليك رسولاً ليأخذ حصة جندي من الغنائم لأوزعها عليهم. وانتظره ابن وأل فتأخر، ثم مرّ جندي فظنه هو الرسول، فدفعها إليه وقال له: خذها. فأخذها ومضى. وفي اليوم الثاني جاء القائد يطلبها، فقال له ابن وأل: سلمتها

لرسولك البارحة. قال: لم أرسل أحداً! فاختلفا، وسمع الجندي بذلك فجاء بها برباطها لم يفكّها، وكان فيها خمسمئة ألف. خمسمئة ألف! الجندي محتاج إلى خمسمئة منها، بل ربما كان محتاجاً إلى خمسين، فما مدّ يده إليها ولا حلّ رباطها وأدّاها على حالها، ذلك لأن الجنود كانوا يعملون لله لا يبتغون جزاء ولا وساماً. وكان القائد الأموي مَسْلَمة بن عبد الملك يحاصر حصناً. وأعياهم حصاره فاختار فرقة فدائية لاقتحامه، وتقدّم رجل من تلك الفرقة تحت السهام معرّضاً نفسه للخطر حتى نقَبَ نَقْباً (أي صنع ثغرة) دخل منه الجند، وفُتح الحصن وكان النصر. ثم اختفى ذلك الرجل، وسأل عنه مسلمة فلم يعرفه، فجمع الجند وقال: أقسمت على صاحب النَّقْب أن يخرج. فتقدم رجل مقنَّع لا تظهر منه إلا عيناه وقال: أنا صاحب النَّقْب، وما جئت إلا لأنك استحلفتني، وأسألك الله أن لا تسألني عن اسمي وإذا عرفته فلا تخبر به أحداً، لأني عملت ذلك لمن يعطيني أكثر مما تعطيني، فإن كان عندك مال أو جائزة فقد عملته لله الذي يعطي أكثر مما عندك. وأنتم تسمعون بالثغور. كانت على حدود البلاد يذهب إليها المتطوعون، وفي أحد هذه الثغور كان قتال بين جيش من المسلمين وآخر من الروم، ودار القتال على طريقة البِراز: خرج أحد أبطال الروم وطلب المبارزة، فخرج إليه أحد المسلمين، فقتله الرومي، ثم برز له ثان وثالث فقتلهم، ومرّ النهار على ذلك. فلما كان اليوم الثاني برز له من المسلمين فارس ملثَّم، وما زال به حتى قتله، فهلّل المسلمون وكبّروا. وبدلاً من أن يتجه الفارس إلى

الصف ليستقبله الناس هرب من خلفهم وتوارى عن الأنظار، فتبعه أحد الجند وما زال به حتى عرفه. أفتدرون من كان ذلك الرجل؟ إنه الإمام العالم المحدّث صاحب أبي حنيفة، عبد الله بن المبارك، الذي كان يحجّ سنة ويغزو سنة؛ ذلك أن علماء المسلمين كانوا يتطوعون ويسابقون الجنود إلى الجهاد في سبيل الله. * * * كذلك كان جنود الفتح الإسلامي، فكيف كان قادته؟ كانت القيادة العليا غالباً في يد الخليفة. وهذا عمر بن الخطاب كان يدير ثلاثَ جبهات، واحدة في الشام والثانية في العراق والثالثة في مصر، يديرها وهو في قلب المدينة، ليس أمامه هاتف (تلفون) ولا أي وسيلة من وسائل الاتصال التي نعرفها اليوم لتوصل الأخبار، وكان يقف على تفاصيل المعارك وأماكنها، فيكتب إلى قائده: اصعد إلى الجبل الفلاني، أو يقول له: استدر من هنا وهاجم من هناك! (¬1) وكان الحَجّاج يقول لقوّاده: صِفوا لي مكان المعركة، فيرسلون إليه وصف المكان تفصيلاً، فكان يضع الخطة ويترك للقائد أن يتصرف بها. ويوم القادسية كان قائد جيش الفرس رستم، وكان عسكرياً مثقفاً درس الفن العسكري في زمانه ودخل معارك كثيرة، وأراد عمر قائداً من العرب يقف في وجهه، فنادى سعد بن أبي وقّاص وقال له: اذهب لمواجهة رستم! ¬

_ (¬1) وفي كتابي «أخبار عمر» تفصيل واسع لهذا الإجمال.

فأين تخرّج أولئك القادة؟ لقد تخرجوا في جامعة مؤلَّفة من غرفة ونصف غرفة مظلمة لا نافذة لها، تحت جبل الصفا في مكة، هي دار الأرقم بن أبي الأرقم. تخرّجوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. وأضرب المثل بواحد من قُوّاد المسلمين، لو أنصفه التاريخ العسكري لاعتبره أعظم قادة التاريخ، أعظم من هانيبعل ومن الإسكندر، هو خالد بن الوليد الذي تجلّت عبقريته في الدفاع وفي الهجوم كما تجلّت في الانسحاب، يوم انسحب من معركة مؤتة بثلاثة آلاف كانوا وسط مئة ألف أو مئتَي ألف من الأعداء لو أطبقوا عليهم لسحقوهم سحقاً، ولكن هذا القائد العبقري استطاع أن يَسُلّهم من وسط المعركة سَلاً. وأنتم تعرفون خطورة عمليات الانسحاب في الحرب الحديثة، وإذا كان الحلفاء يفخرون بالانسحاب من دَنْكرك الذي طبّلوا له وزمّروا واعتبروه حدثاً عظيماً، فإن انسحاب خالد من مؤتة أعظم منه؛ لقد كان الانسحاب من مؤتة أعظم لأن جيش المسلمين لم يخرج للقتال، بل كان سرية استطلاع ما فيها إلا ثلاثة آلاف رجل. وهل يُعقَل أن يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف يحارب بهم دولة الروم الشرقية (بيزنطة) ومعها عرب الغساسنة وغيرهم؟ وفوجئت هذه السرية بجيش عظيم من الروم، وكان عدد الجيش -كما يذكر المُقِلّون المعتدلون من المؤرخين- مئة ألف جندي، ويقول آخرون إنه كان يقدَّر بأكثر من مئتَي ألف. وتعاقب القادة المسلمون فاستُشهدوا كما تعلمون، ثم استلم خالد بن الوليد القيادة فاستطاع أن ينجّي أولئك الثلاثة الآلاف من وسط مئة ألف!

ومن عبقريات خالد هذه الرحلة التي انتقل فيها من العراق إلى الشام لنجدة الجيوش المحاربة التي وجّهها عمر لفتح الشام. لقد تقدم خالد بحركة أجرؤ أن أقول -رغم جهلي بالعسكرية- أنها أعظم حركة في التاريخ العسكري. كان من الطبيعي أن يأتي من شمال العراق عن طريق الموصل إلى الجزيرة إلى حلب وينزل جنوباً، وكان هذا هو الطريق المأمون المعروف وفيه الماء والزاد، إلا أنه طريق يمتلئ بالمخافر الرومانية التي يمكن أن يشتبك معها بمعارك جانبية تصرفه عن المهمة الكبرى التي جاء من أجلها. فأقدم على عمل في غاية الجرأة: اخترق بادية الشام وعبَرَ الصحراء، أرضاً قَفْراً لا نبتَ فيها ولا ماء، بعد أن عطّش الإبل فشربت أضعاف ما كانت تشرب، فكانوا إذا احتاجوا الماء نحروها فاستخرجوه من أجوافها. مثل هذه الحركة قرأتها في حرب قرطاجنّة مع الروم بقيادة هانيبعل، إذ جاء الرومان من فوق جبال الألب، وهو طريق لم يتوقعوا أن يأتيهم منه فجاءهم من خلفهم، وأعاد القصة نفسها نابليون بعد ألفَي سنة. وعندما وصل خالد بن الوليد إلى الشام وجد جيشين للروم، أحدهما يتجمع جنوباً في فلسطين والآخر في الشمال، ففكر: هل يضرب الجيش الجنوبي أم يبدأ بالجيش الرئيسي في الشمال؟ خشي إن بدأ بالجيش الشمالي وانهزم أن يقطع عليه الجيش الجنوبي طريق الرجعة فيتمزق الجيش، وخشي إن هاجم الجيش الجنوبي أن ينشغل به أو يُهزَم فيخسر المعركة الأساسية. ثم اختار

الحل الثاني ففاجأ الجيش الجنوبي فضربه وهزمه، ولم يتعقّبه بل انصرف عنه إلى الجيش الشمالي، جيش اليرموك. وأعاد نابليون في معركة واترلو العملية نفسها؛ فقد كان أمامه جيشان، جيش بلوخر وجيش ولنغتون، فضرب الأول ولم يتعقّبه. وبين المؤرخين الذين كتبوا عن نابليون مَن قالوا إنه اقتدى بخالد بن الوليد، إلا أن نابليون لم يستطع أن يحقق الظفر على الجيش الثاني، فقد عاقته الأمطار فعاد جيش بلوخر وكان القضاء على نابليون. لقد وصل خالد فوجد الروم يقاتلون على نظام التعبئة، وكان المسلمون يقاتلون فُرادى على طريقة الكَرّ والفر، فراقب الروم واستوعب تعبئتهم، ثم صنع مثلها وعبأ الجيش الإسلامي تعبئة كانت هي الفاتحة لكل التعبئات التي جاءت بعدها. وكان القائد المسلم لا تفاجئه مشكلة إلا أسعفته عبقريته وأمدّه إيمانه بحلّ لهذه المشكلة، فلا يفزع ولا يرتبك. فمن جملة المواقف التي فاجأت المسلمين يوم القادسية هجوم الفِيَلة التي لم يعرفها العرب من قبل، حتى فزعت منها خيولهم في اليوم الأول وهربت واضطرب الجيش الإسلامي، لكنهم لم يفقدوا أعصابهم بل أسعفتهم عبقريتهم بخطة معاكسة، فجاؤوا بالجمال وبَرْقَعوها ببراقع ذات ألوان مختلفة وجعلوا فيها الأجراس، ثم فاجؤوا بها خيل الفرس وأفيالها ففزعت منها كما فزعت بالأمس خيول المسلمين من أفيال الفرس. * * *

ومن أعظم الأسلحة التي اعتمد عليها القادة المسلمون في كافة العهود سلاح الكتمان؛ سَنّ لهم ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. كانوا في صحراء لا حدود لها، ومع ذلك فقد اتخذ من الاحتياطات ما منع وصول أي خبر إلى قريش، حتى فوجئوا بنيران الجيش الإسلامي على جبال مكة من جهاتها كلها، وكان الفتح. وقد تقولون إن هذا من البديهيات، ولكنه عند كثير من الناس ليس كذلك، بل هو ممّا ينبغي أن يتعلموه. ولا أريد أن أعرّض بأحد، ولكنّ مَن سمع منكم ما كنّا نصنعه أيام حرب حَزيران، حين كانت الإذاعات تعلن عن تحركات الجيوش ومواقعها وكأنها تقول لليهود: تفضلوا فاضربوها! من سمع ذلك أدرك أننا نخطئ حتى في البديهيات! * * * أيها السادة، هل تظنون أن معارك المسلمين كانت كلها بالسيف والرمح فقط؟ لقد كانوا يستعملون أنواع الأسلحة عمَلاً بقوله تعالى: {وَأعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوّة}. وهل تعرفون أنها كانت عندهم أسلحة للحصار، منها ما كان يسمى «الدبّابة»، ومنها «الكَبْش» لنَقْب الأسوار؟ وفي حصار عكا كان الصليبيون يحاصرونها فجاء المسلمون وضربوا حصاراً حول المحاصِرين، وتجلت في تلك الحرب فنون من المهارة ومن الحيل الحربية. جاء الصليبيون ببرج من ثلاث طبقات كأنه عمارة عالية تمشي على دواليب فوضعوه عند السور لاقتحامه، وحاول المسلمون إحراقه فلم ينجحوا لأنه كان مغطى

بجلود مدهونة بمادة لا تؤثّر فيها النار، فجاء جندي إلى رئيس مهندسي صلاح الدين (القائد الأمين والمهندس العظيم الذي افترت عليه كتب الأدب فظلمته، وهو قراقوش) وقال له: أنا أستطيع أن أصنع لكم ناراً تحرق هذا البرج. وطلب مواد ركّب بعضها مع بعض وصبّها في قُدور وأحكم إغلاقها، فصارت مثل القنابل في هذه الأيام، ثم ألقوها على ذلك البرج فانفجرت بدويّ كالرعد واحترق البرج. هل تظنون أن المسلمين تركوه وقعدوا ينظرون إليه ويهتفون الهتافات الحماسية وينشدون الأناشيد العسكرية؟ لا، بل سحبوه بالحبال وبالكلاليب واستفادوا مما كان فيه من قناطر الحديد. ولا تعجبوا أن يستفيد القوّاد الكبار من عبقريات العامة ومن كفاءاتهم، فهذا صلاح الدين انتبه هو وغيره من القادة إلى أن الجندي ليس الذي يقاتل في الميدان فقط، بل إن كل جندي في الميدان وراءه عشرة ينبغي أن يعملوا ليستطيع هو القتال، فحشد صلاح الدين (ومن قبله نور الدين) جميع الطاقات، بل لقد استفاد حتى من اللصوص، إذ أحضرهم وقال لهم: ألا تريدون أن تسرقوا؟ اسرقوا لي وأنا أدفع لكم! فهل تعرفون ما الذي كانوا يسرقونه؟ كانوا يسرقون قادة الصليبين! ومِن الذين سرقوهم جوسلان، أحد أبطالهم الكبار الذين دوّخوا المسلمين؛ تسلل إليه اللصوص وكمّموه بملاءة فيها مخدّر فلم يُفِق إلا وهو بين يدي صلاح الدين! * * *

إن أجدادنا لم ينتصروا ولم يفتحوا البلاد بكثرة عددهم أو عُدّتهم وسلاحهم، وأستطيع أن أقول إن المسلمين لم ينتصروا في معركة قط إلا كانوا أقلّ من عدوهم عدداً وأضعف منه عدّة. كانوا يقاتلون بسيوف ملفوفة بالخِرَق، فانتصروا بالإيمان الذي يحرك في الإنسان القوى المُدَّخَرة التي لا تُظهرها إلا الحاجة. إنني الآن رجل كبير، لو أردت الجري لما استطعت أكثر من خمس دقائق، لكني لو لحقني عدو مُؤذٍ مسلح أو وحش كاسر لا أستطيع أن أقاومه لجريت نصف ساعة؛ هذه القوة المدخرة تظهر عند الهزّات، والإيمان هو الذي يُظهرها. انظروا أولئك الذين يقاتلون في فيتنام، عندما آمنوا بما آمنوا به دفعهم إيمانهم لفعل الأعاجيب، فكيف بمَن يؤمن بأن الذي يُقتَل يُنقَل إلى حياة أسمى وأكمل، وأن ثوابه عند ربه أعظم من الدنيا كلها؟ وليس معنى هذا أن نهمل السلاح، بل السلاح لا بد منه، وقد أمرنا الله بإعداده فقال: {وَأعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة}. لكن هل هذا الإعداد لتحقيق النصر؟ لا؛ اقرؤوا آخر الآية: {تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم}. أما النصر: {وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ الله}. حتى الملائكة الذين أرسلهم الله يوم بدر، هل أرسلهم من أجل النصر؟ لا، {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلاّ بُشْرَى لَكُم، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكم، وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ الله}. إنه لا بد من السلاح كما قدّمت، ولكنه لا يكفي. لو أعطينا رجلاً جباناً رعديداً مخلوع القلب أحسن السلاح وأحدثه، ثم جاءه

رجل شجاع قوي بعصا، فإنه يرمي سلاحه ويهرب أو يقتل نفسه بسلاحه! لقد دعوت من أكثر من عشرين عاماً إلى التسلّح وكتبت مقالات في مجلة «الرسالة» بعنوان «إلى السلاح يا عرب» (¬1)، ولكن ناشدتكم الله: هل مَلَك العرب وهل مَلَك المسلمون من السلاح في عهودهم كلها ما ملكه العرب في حرب حزيران؟ فلماذا غُلبوا؟ إننا ما هُزمنا في حَزيران، بل هُزمت فينا المبادئ المخالفة للإسلام، هُزمت فينا الخلائق التي أخذناها من عدونا، هُزم فينا خلق الانقسام وخلق التردد والانحراف. على أن الهزائم لا تقتل الأمم، فكل أمة تصيبها الهزائم، بولندا مُسِحت من خريطة أوربا عدة مرات وأُعيدت! وكل واحد في الدنيا وكل جيش يَغلِب ويُغلَب، ولكن العاقبة لمَن يثبت على حقه ويستأنف المعركة من جديد. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزم جيشه مرتين، ولكنه سرعان ما ردّ الهزيمة وحولها إلى نصر. فإذا كانت هذه النكبة قد حاقت بنا اليومَ في فلسطين واحتلّ اليهود القدس فإني أذكّركم بواقع تاريخي: لقد جاء علينا وقت رأينا فيه غزواً أعظم وأقوى وأكبر؛ جاءتنا أوربا بأسرها، حملات كان في بعضها مليون جندي، ومليون جندي في تلك الأيام تعدل عشرة ملايين في أيامنا. كان جيش إحدى هذه الحملات أوله في عكا وآخره عند أسوار القسطنطينية! وملكت هذه الجيوش الغازية المستعمِرة هذه البلادَ وحكمت القدس نحواً من مئة سنة، ¬

_ (¬1) منشورة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

فأين هذه الجيوش اليوم؟ لقد ذهبت، قضى عليها أبطال ثلاثة: نور الدين وصلاح الدين والملك الظاهر لما نشروا راية الإسلام وضربوا بسيف محمد الذي لا يُثلَم، فاصنعوا مثل الذي صنعوا تنتصروا كما انتصروا. لقد جربنا تجربة صلاح الدين فأنقذنا بها بلادنا من أيدي عدونا، وجربنا تجارب أخرى فأضعنا فيها ما كان بأيدينا من بلادنا. والعاقل يعتبر بتجارب الماضي، ولا أريد أن ألقي عليكم مفاخر الماضي لتناموا عليها، فإنه لا يُشبع الجائعَ أن يكون أبوه صاحبَ موائد ولا يكسو العاري أن يكون أبوه تاجرَ ثياب، ولكن سردتُ ذلك لكي تصمّموا على أن تعيدوا هذا الماضي، وأنتم أهل لإعادته لأن هذه الأمجاد ما انقطعت فينا؛ فأنتم بنو الحرب، بنو الضرب، بنو المعارك الحمر والتضحيات والبطولات. إن في دماء كل واحد منكم ذكرى عشرة آلاف معركة خاضها الجدود، في عروق كل واحد دماء مئة مليون شهيد نثرناهم بين مشارق الأرض ومغاربها. فإذا انهزمنا في معركة فإن أمامنا معارك. إن لهم وعد بلفور، وإن لنا وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سنقاتل اليهود ونغلبهم، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله (¬1). ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» أخرجه البخاري (واللفظ له) ومسلم والترمذي وأحمد، وفي لفظ لمسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود=

وقد يقول قائل: يبشّرنا بقتل اليهود ودولة إسرائيل قائمة؟ إن قيام دولة إسرائيل دليل على تلك البشرى، فكيف نقاتل اليهود وهم متفرقون؟ وهل يكون القتال إلا بين دولة ودولة وبين جيش وجيش؟ فلو لم يتجمعوا في فلسطين فكيف نقاتلهم وهم بضع مئات هنا وبضعة آلاف هناك، متفرقون تحت كل كوكب؟ لا تشكّوا بأنفسكم ولا ينقص يقينكم بوعد ربّكم، فالمستقبل لكم والنصر ينتظركم، ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب، فالله هو الذي يشفي المريض، ولكن إذا لم يأخذ المريض الدواء فلا يشفى المريض. لكل شيء سبب، فما هو سبب النصر؟ قلنا إن النصر ليس بالسلاح وليس بالملائكة، وإنما النصر كما قال الله عز وجل: {إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقْدَامَكُم}؛ فالنصر من عند الله. وانظروا إلى هذه البطولات في حروب الاستقلال، فهذا عبد?الكريم الخطابي الذي خرج على الإسبان والفرنسيين في المغرب، جاء وقت وقف فيه في وجه جيشين عظيمين، الجيش الفرنسي وعدده مئة وخمسون ألفاً والجيش الإسباني وعدده مئة ألف. وهذه حوادث قريبة ليست مخترَعة ولا مرتجلة. في سوريا بعد أن دخل الفرنسيون كانت البرقيات والصحف تتحدث عن ¬

_ = فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَد فإنه من شجر اليهود» (مجاهد).

معركة جسر تورا بين الفرنسيين والثوّار، فما هو جسر تورا هذا؟ إن من يقرأ صحف تلك الأيام يظن أنه مثل جسر سان فرانسيسكو. إنه جسر من خشب وخلفه استحكامات من الطين، على مسافة عرضها أربعة أمتار! وقفت أمامه جيوش فرنسا (التي خرجت من الحرب العالمية الأولى أقوى دولة برية في العالم) ثمانية عشر شهراً، لأنه كان جسراً يحميه الثوار بقيادة حسن الخراط الذي لم يتخرج من مدرسة عسكرية ولا غير عسكرية؛ لقد كان خفيراً ليلياً، رجلاً أمّياً ثارت في نفسه النخوة العربية والكرامة الإسلامية، واستطاع أن يحتل دمشق ويستخلصها من أيدي الفرنسيين ثلاثة أيام! واذكروا ما صنع العراقيون في الرُّمَيثة بعد الحرب العالمية الأولى في معارك الاستقلال، وما صنع الجزائريون بالأمس القريب. هذه البطولات ما تزال فيكم؛ إن هذا الشعب أطيب شعوب الدنيا وأشجع شعوب الدنيا، لقد دُعي للتضحية أكثر من عشرة آلاف مرة ولبى، ولو دُعي عشرة آلاف مرة أخرى فإنه يلبي. * * * وشيء أخير أقوله لكم، نصيحة من أخ لكم: أنتم نذرتم أنفسكم للجهاد، وقد تتعرضون لمخاطر لا بدّ للجندي منها، فإذا انسدّت يوماً في وجوهكم السُّبُل، إذا رأيتم أنفسكم في ضَنْك، إذا لم تجدوا ملجأ أو مخرجاً على الأرض، فاذكروا أن هناك باباً لا يُسَدّ أبداً، هو باب الله، هو باب السماء. فمُدّوا أيديكم وقولوا «يا الله» قبل أن تمضوا.

أيها الإخوة، قبل أن تمضوا إلى المعركة ليَقُل العاصي: يا ربّ، إني أتيت إليك، إني أترك أهلي وأمضي مجاهداً في سبيلك ولإعلاء كلمتك، فاكتبها لي شهادة، ولا تحرمني الحياة الدنيا بالموت والحياة الأخرى بخسران الجنة. توجّهوا إلى الله، واجعلوا شعاركم الذي تهتفون به أمام كل قلعة وفي كل واد وعلى كل رابية هتافَ آبائكم الذي كان يأتيهم به النصر، ذلك النشيد الذي لم تسمع أذن الزمان أعظم منه روعة ولا أعلى منه رفعة، نشيد «الله أكبر». ومهما كبر العدو فاعلموا أن الله أكبر منه، وثقوا أنكم إن كنتم جنداً لله فإن جند الله منصورون دائماً، وإذا كنتم مع الله بقلوبكم فلن يغلبكم أحد، لا إسرائيل ولا من هم وراء إسرائيل: {وإنّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبونَ}. والسلام عليكم ورحمة الله. * * *

المحتويات

المحتويات مقدمة 5 موسم العبادة 9 هذا هو الدليل 15 الاستعداد ليوم المَعاد 23 بين يدي الله 29 حيّ على الصلاة 37 من رَوض النبوة 45 التجارة الرابحة 51 ما قَدَروا الله حق قدره! 55 طريق الهدى 61 الإيمان يصنع النصر 65 الله أكبر 71 الباب الذي لا يُغلَق في وجه سائل 77 يا الله! 89 فطرة الإيمان 95 عبرة السيرة 103 بين الدنيا والآخرة 113 النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة 119 الرزق مقسوم ولكن العمل له واجب 127

رحلة الحج 139 أعرابي في بلودان 149 روح الصلاة 157 أين التائبون؟ 163 طريق الإسلام 171 جواب على سؤال 181 هذا هو الطريق 187 هل تهدي الفطرة إلى الدين؟ 193 يا سيدي يا رسول الله 199 النية الصالحة أصل كل خير 207 هل نحن مؤمنون؟ 213 يا أيها المذنبون 219 التوبة 223 طريق الدنيا وطريق الآخرة 229 يا شباب الإسلام 243 في ذكرى المولد 247 أياصوفيا 255 الحرب والإيمان 265

من آثار المؤلف

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق 1935 2 ـ قصص من التاريخ 1957 3 ـ رجال من التاريخ 1958 4 ـ صور وخواطر 1958 5 ـ قصص من الحياة 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح 1959 7 ـ دمشق 1959 8 ـ أخبار عمر 1959 9 ـ مقالات في كلمات 1959 10ـ من نفحات الحرم 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960 12ـ هتاف المجد 1960 13ـ من حديث النفس 1960 14ـ الجامع الأموي 1960 15ـ في أندونيسيا 1960 16ـ فصول إسلامية 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960 18ـ فِكَر ومباحث 1960

19ـ مع الناس 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) 2001 27ـ فصول اجتماعية 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) 2002 28ـ نور وهداية 2006 * * *

§1/1