نور اليقين في سيرة سيد المرسلين

محمد الخضري

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدّمة الطبعة الثالثة الحمد لله والصلاة والسلام على خير نبي أرسله، لقد بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى التقى بالرفيق الأعلى، وعلى الصحابة الذين اقتفوا أثره ومن تبعهم إلى يوم الدين. وبعد: إنّ شخصية الرسول الكريم تعد نبراسا لكل من أحبّ أن يهتدي إلى الطريق السوي، هذا الإنسان الذي وهب حياته للخير أين ما كان وأين ما حلّ، ولما كانت الأمة الإسلامية مطالبة بتتبّع أثر الرسول لأنه ترجمان القران ولقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وكانت الصحابة تحرص حرصا شديدا على دراسة حياته لأولادها حتى قال سيدنا سعد بن أبي وقّاص: «كنا نعلّم أولادنا سيرة الرسول ومغازيه كما كنا نعلّمهم القران» لهذا تحتّم على الأمة معرفة حياته من أوّلها إلى اخرها ولا يوجد كتاب يلم بهذا الموضوع ككتاب نور اليقين للشيخ محمد الخضري. فإنه من أكثر الكتب المتداولة في السيرة النبوية في العالم الإسلامي. لقد انتهج المؤلّف منهجا جديدا في شرح سيرة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام شرحا لم تعرفه كتب السيرة من قبل. ولكن الكتاب يحتاج إلى بعض تراجم الرجال. وضبط بعض الأسماء. وتحقيق وتتمة بعض الروايات التاريخية. وتخريج الايات والأحاديث النبوية. وشرح العناوين والكلمات المبهمة ولهذا قمت بهذا العمل معتمدا على الله راجيا منه التوفيق إنه على ما يشاء قدير، كل ذلك جعلته في ذيل كل صفحة ودفعا للالتباس وضعت كلمة المؤلّف في نهاية كلامه فإذا أدخلت شيئا على كلامه وضعته بين قوسين.

ولمّا وجدت اقبالا على هذا الكتاب، فقد قمت بطبعه مرّة ثالثة. وتمتاز الطبعة الثالثة عن سابقتها بتحاشي جميع الأخطاء المطبعية السابقة، كما أنها أكثر شرحا للجوانب الهامّة، وأدقّ ضبطا للكلمات والأعلام. والله وليّ التوفيق. المحقّق

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرّحمن الرّحيم نحمدك يا من أوضحت لنا سبل الهداية، وأزحت عن بصائرنا غشاوة الغواية، ونصلّي ونسلم على من أرسلته شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. وعلى الأصحاب الذين هجروا الأوطان يبتغون من الله الفضلى والرضوان، والأنصار الذين اووا ونصروا وبذلوا لإعزاز الدين ما جمعوا وما ادخروا. أمّا بعد: فيقول محمد الخضري بن المرحوم الشيخ عفيفي الباجوري: كنت أجد من نفسي منذ النشأة الأولى ارتياحا لقراءة تواريخ السّالفين وقصص الغابرين وأجدها لعقل الإنسان أحسن مهذّب وأنصح معلم. وكنت أرى في تاريخ نبيّنا عليه الصلاة والسلام وما لقيه من أذى قومه حينما دعاهم إلى الحقّ وعظيم صبره حتى هجر أوطانه وبلاده أعظم مربّ لأفكار المسلمين، فإنه يدلّهم على ما يجب اتباعه وما يلزم اجتنابه ليسودوا كما ساد سابقوهم، وخصوصا ما يتعلّق بالحكّام من اجتذاب النفوس النافرة والتأليف بين القلوب المختلفة، وما يتعلّق بقواد الجيوش من تأليف الرجال وإحكام المعدّات حتى يتم لهم النصر على أعدائهم، وما يتعلّق بالعامّة من اتحاد قلوبهم وصيرورتهم يدا على من سواهم. فكنت أجد من قراءتها ارتياحا عظيما وكانت نفسي كثيرا ما تأسف على ترك المسلمين لها! فقلّما أجد من يشتغل بها ولكني كنت أقدم لهم العذر بتطويل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع. فلمّا قدمت مدينة المنصورة جمعتني النوادي مع محمود بك سالم القاضي بمحكمة المنصورة المختلطة فوجدت منه علما بدينه تقف دونه فحول الرجال وتتأخّر عن مسابقته فيه الأبطال، فقلّما توضع مسألة دينية إلّا وجدته مبرزا فيها مفصحا عن الجواب عنها، أمّا علمه بسيرة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم فعنده منها الخبر اليقين. وكنت كثيرا ما أسمعه يتشوّف لعمل سيرة خالية من الحشو والتعقيد تنتفع بها عامّة المسلمين فقلت: يا الله! لقد وافق هذا السيد الكريم ما في نفسي

قبل الهجرة

ولكني كنت أرى في عزيمتي قصورا عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته فإن المقام عظيم وصعوباته أعظم، ولكن لم أر من الأمر بدا تلقاء ما كنت أسمعه من كبار رجال المنصورة، فإنهم أكثروا من الأماني لعمل هذا الكتاب العميم النفع، الجزيل الفائدة. فقمت معتمدا على الله راجيا منه أن يوفقني لما فيه رضاه، وواصلت السير بالسرى حتى بلغت المنى فجاء بحمد الله سهل المنال عذب المورد تنتفع به العامّة وترجع إليه الخاصة. وقد كان موردي في تأليفه القران الشريف وصحيح السّنة ممّا رواه الإمامان البخاري ومسلم، ولم أخرج عنهما إلّا فيما لا بدّ من تفهيم العبارات، فكان يساعدني «الشفاء» للقاضي عياض، و «السيرة الحلبية» ، و «المواهب اللدنية» للقسطلاني، و «إحياء علوم الدين» للغزالي. هذا وأسأل الله من فيض فضله أن يوفق أئمتنا وأمراءنا للاقتداء بسيدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإحياء معالم دينه حتى يؤيدوا بروح من عند الله. وقد ان أن نشرع فيما قصدناه مستعينين بحول الله فنقول: النسب الشريف السيد الأكرم الذي شرّف الناس بوجوده هو (محمد بن عبد الله «1» ) من زوجه امنة بنت وهب الزّهرية «2» القرشية (ابن عبد المطلب «3» ) من زوجه فاطمة بنت عمر المخزومية «4» القرشية. وكان عبد المطلب شيخا معظّما في قريش يصدرون عن رأيه في مشكلاتهم ويقدمونه في مهماتهم. (ابن هاشم «5» ) من زوجه سلمى بنت عمرو النجّارية» الخزرجية (ابن عبد مناف «7» ) من زوجه عاتكة بنت مرّة

_ (1) فهو أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويكنى أبا قثم وهو أصغر أولاد عبد المطلب. (2) من بني زهرة بن كلاب من قريش. المؤلف. (3) اسمه شيبة وإنما قصد في تسميته بهذا الاسم للتفاؤل يؤثر عنه أنه جاء بسنن قد جاءت في القران والسنة وهو أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، وعاش مائة وأربعين سنة. (4) من بني مخزوم بن يقظة بن مرّة من قريش. المؤلف. (5) سمي هاشما لأنه وقعت في قريش مجاعة فهشم لهم كعكا كلّه هشما ودقه دقا ثم صنع للحجاج طعاما شبه الثريد. (6) من بني النجار من الخزرج والخزرج إحدى القبيلتين اللتين كانتا تقيمان بالمدينة وهما الأوس والخزرج وهما أخوان وسمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلاهما أنصارا. المؤلف. (7) مناف اسم صنم أضيف عبد إليه كما يقولون: عبد يغوث، وسمي به عبد مناة ثم نظر قصي فراه يوافق عبد مناة ابن كنانة فحوّله عبد مناف. واسم عبد مناف: المغيرة وهو منقول من الوصف، والهاء، فيه

السلمية «1» ) . (ابن قصيّ «2» ) من زوجه حبّى بنت حليل الخزاعية. وكان إلى قصيّ في الجاهلية حجابة البيت «3» ، وسقاية الحاج، وإطعامه المسمّى بالرفادة، والندوة هي الشورى لا يتم أمر إلّا في بيته، واللواء: لا تعقد راية لحرب إلّا بيده، ولمّا أشرف على الموت جعلها في يد أحد أولاده عبد الدار، لكن بنو عبد مناف أجمعوا رأيهم على ألايتركوا بني عمهم عبد الدار يستأثرون بهذه المفاخر، وكاد يفضي الأمر إلى القتال لولا أن تدارك الأمر عقلاء الفريقين، فأعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب ثم لبنيه من بعده، أمّا الحجابة فبقيت بيد بني عبد الدار، وأقرّها لهم الشرع فهي فيهم إلى الان. (وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار) ، وأمّا اللواء «4» فدام فيهم حتى أبطله الإسلام، وجعله حقا للخليفة على المسلمين يضعه فيمن يراه صالحا له وكذلك الندوة، (وقصي بن كلاب «5» ) من زوجه فاطمة بنت سعد وهي يمانية من أزد شنوءة (ابن مرّة «6» ) من زوجه هند بنت سرير من بني فهر بن مالك (ابن كعب «7» ) من زوجه وحشية بنت شيبان من بني فهر أيضا (ابن لؤيّ «8» ) من زوجه أم كعب مارية بنت كعب من قضاعة (ابن غالب «9» ) من زوجه أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي (ابن فهر «10» ) من زوجه أم غالب ليلى بنت سعد من هذيل، وفهر هو قريش- في قول الأكثرين- وكانت قريش

_ للمبالغة أي مغير على الأعداء. (1) من بني سليم بن منصور إحدى قبائل قيس عيلان بن مضر. المؤلف. (2) قصي يقال اسمه زيد وهو تصغير قصيّ ويقال اسمه مجمّع ولقب قصيا لأنه أبعد عن أهله ووطنه مع أمه بعد وفاة أبيه. (3) أن تكون مفاتيح البيت عنده فلا يدخله أحد إلّا باذنه. (4) يعني في الحرب لأنه كان لا يحمله عندهم إلّا قوم مخصوصون. (5) اسمه حكيم وقيل عروة ولقب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب. أو من كلاب جمع كلب لأنهم يريدون الكثرة. (6) منقول من وصف الحنظلة والعلقمة وكثيرا ما كانوا يسمونه بحنظلة وعلقمة. (7) منقول إما من الكعب وهو قطعة من السمن أو من كعب القدم وهو أقرب وهو أول من جمع يوم العروبة ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام فكانت تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم. (8) لؤي تصغير اللأي وهو الثور الوحشي. (9) لم يذكر السهيلي في نسب الرسول (غالبا) . (10) الفهر: الحجر الأملس يملأ الكف أو نحوه، وكان كريما.

اثنتي عشرة قبيلة: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة، وبنو تيم بن مرّة، وبنو عدي بن كعب، وبنو سهم بن هصيص بن عمرو بن كعب، وبنو عامر بن لؤي، وبنو تيم بن غالب، وبنو الحارث بن فهر، وبنو محارب بن فهر، والمقيمون منهم بمكّة يسمون «قريش البطاح» ، والذين بضواحيها «قريش الظواهر» (ابن مالك) من زوجه جندلة بنت الحرث من جرهم (ابن النضر «1» ) من زوجه عاتكة بنت عدوان من قيس عيلان (ابن كنانة) من زوجه برّة بنت مر بن أد (ابن خزيمة) «2» من زوجه عوانة بنت سعد من قيس عيلان (ابن مدركة «3» ) من زوجه سلمى بنت أسلم من قضاعة (ابن إلياس «4» ) من زوجه خندف المضروب بها المثل في الشرف والمنعة. (ابن مضر «5» ) من زوجه الرباب بنت جندة بن معد (ابن نزار «6» ) من زوجه سودة بنت عك. (ابن معد «7» ) من زوجه معانة بنت جوشم من جرهم. (ابن عدنان «8» ) . هذا هو النسب المتّفق على صحته من علماء التاريخ والمحدّثين، أمّا النسب فوق ذلك فلا يصحّ فيه طريق، غاية الأمر أنّهم أجمعوا على أن نسب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ينتهي إلى اسماعيل بن إبراهيم «9» أب العرب المستعربة. نسب شريف كما ترى؛ اباء طاهرون وأمّهات طاهرات، لم يزل عليه الصلاة والسلام ينتقل من أصلاب

_ (1) الذهب الأحمر ولقب به لنضارته وجماله. (2) تصغير خزمة وهي واحدة الخزم وقال أبو حنيفة: الخزم مثل الحبال الدّوم تتخذ من سعطه. (3) لقّب مدركة لأنه أدرك الإبل التي كانت قد ضلّت، والياس أبوه. (4) الياس مختلف فيه فمنهم من يقول الياس موافق للذي هو خلاف الرجاء وهو مصدر يئس وكان مثله كمثل لقمان الحكيم في قومه. وهو أول من أهدى البدن للبيت. (5) مضر: مشتق من اللبن الماضر وسمي مضر لبياضه وهو الحامض- وكان جميلا حكيما وهو أول سن للعرب حداء الابل وفي الحديث لا تسبوا مضر ولا ربيع فإنهما كانا مؤمنين. رواه الديلمي في مسند الفردوس. (6) نزار من النزارة وهي القلة، وهو أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا. وقال صاحب الأغاني سمي بذلك لأنه كان فريد عصره. (7) معد: من تمعد إذا اشتد. وأصله من المعد (بسكون العين) وهو القوة ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر. (8) عدنان: مأخوذ من عدن في المكان إذا أقام فيه ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود. (9) أمه هاجر ولد اسماعيل بن ابراهيم اثني عشر رجلا فهي بني مرسل أرسله الله إلى أخواله بن جرهم وعمر مائة سنة وثلاثين سنة ثم مات رحمه الله تأثر عليه ودفن في الحجر مع أمه هاجر.

زواج عبد الله بامنة وحملها

أولئك إلى أرحام هؤلاء حتى اختاره الله هاديا مهديا من أوسط العرب نسبا. فهو من صميم قريش التي لها القدم الأولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب، ولا تجد في سلسلة ابائه إلّا كراما ليس فيهم مسترذل بل كلّهم سادة قادة، وكذلك أمهات ابائه من أرفع قبائلهن شأنا، ولا شكّ أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوّة، وكل اجتماع بين ابائه وأمهاته كان شرعيّا بحسب الأصول العربية، ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهّره الله من ذلك والحمد لله. زواج عبد الله بامنة وحملها كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، فزوجه امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وسنه ثماني عشرة سنة، وهي يومئذ من أفضل نساء قريش نسبا وموضعا. ولما دخل عليها حملت بالرسول صلّى الله عليه وسلّم. ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين، ودفن بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام. فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع «1» ، ولمّا تمّت مدة حمل امنة وضعت ولدها، فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم «2» الذي بثّ في أرجائه روح الاداب وتمّم مكارم الأخلاق. وقد حقّق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان صبيحة يوم الاثنين تاسع ربيع الأوّل الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة 571 من الميلاد، وهو يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل «3» . وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم «4» . وكانت قابلته الشّفاء أم عبد

_ (1) دفن في دار النابغة في دار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت وله خمس وعشرون سنة. (2) روى مسلم في صحيحه أن أعرابيا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيام يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه، وروى أحمد في حديث تفرد به أنه ولد يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، والجمهور على أنه كان في ربيع الأول ويقول النووي: ونقل ابراهيم بن المنذر الخزاعي شيخ البخاري وخليفة ابن خياط واخرون الإجماع عليه أي على أنه ولد عام الفيل- واتفقوا على أنه ولد يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. (3) حادثة شهيرة حصلت بمكة فأرخت بها العرب كعادتهم وكل أمة في التاريخ بالأمور المهمة وقد ذكر القران هذه الحادثة في سورة الفيل وحاصلها أن ملكا من ملوك الحبشة- الذين امتلكوا اليمن بعد حمير أغار على مكة وقصد هدم كعبتها، وكان معه فيل عظيم لم يكن العرب رأوا مثله، فاكراما للنبي المنتظر وغيرة على بيته الكريم جعل الله كيد الأعداء في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، وأراح قريشا من عناء مقاومتهم أهـ. المؤلف. (4) في المكان المعروف بسوق الليل في الدار التي صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي

الرضاع

الرحمن بن عوف، ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشّره فأقبل مسرورا وسمّاه محمدا «1» ، ولم يكن هذا الاسم شائعا قبل عند العرب، ولكن أراد الله أن يحقّق ما قدره وذكره في الكتب التي جاءت بها الأنبياء كالتوراة والإنجيل، فألهم جدّه أن يسميه بذلك إنفاذا لأمره، وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية أمة أبيه عبد الله، وأول من أرضعه ثويبة «2» أمة عمه أبى لهب. الرضاع «3» وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجب للولد «4» ، وكانوا يقولون: إن المربّى في المدن يكون كليل الذهن فاتر العزيمة، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالا يرضعنهم، فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، واسم زوجها أبو كبشة «5» ، وهو الذي كانت قريش تنسب له الرسول صلّى الله عليه وسلّم حينما يريدون الاستهزاء به فيقولون: هذا ابن أبي كبشة يكلّم من السماء! ودرّت البركات على أهل ذاك البيت الذين أرضعوه مدة وجوده بينهم «6» وكانت تربو عن أربع سنوات «7» .

_ الحجاج بن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيرزان أم الهادي والرشيد فجعلته مسجدا يصلى فيه. (1) لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلّى الله عليه وسلّم إلّا ثلاثة طمع اباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم وبقرب زمانه، وأنه يبعث في الحجاز أن يكون ولدا لهم، وهم محمد بن سفيان بن مجاشع، والثاني محمد بن أحيحة والأخير محمد بن حمران بن ربيعة. (2) توفيت سنة سبع، قال ابن منده: واختلف في إسلامها وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا ذكره. (3) مرضعاته ثمان: امنة- ثويبة- خولة- أم أيمن- سعدية- وثلاث نسوة من العواتك. (4) لينشأ. (5) اسمه الحارث بن عبد العزى فأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه. (6) ذكر الواقدي أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء (مجدبة) فقدمت على أتان (حمار صغير) لي قمراء (القمراء التي يميل لونها إلى الخضراء) كانت قد أذمت (أبطأت عليهم) ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبضّ (ما ترشح) بقطرة وما كنا ننام ليلتنا أجمع مع صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.. فما هو إلّا أن أخذته فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي ثم نام، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك إنها لحافل، فحلب منها ما شرب، وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة. (7) السيرة الحلبية. المؤلف.

حادثة شق الصدر

حادثة شق الصدر «1» وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإخراج حظّ الشيطان منه «2» ، فأحدث ذلك عند حليمة خوفا فردّته إلى أمه وحدثتها قائلة: بينما هو وإخوته في بهم «3» لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقّا بطنه فهما يسوطانه «4» . فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعا لونه «5» ، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بنيّ؟ فقال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟؟ قال نعم. فأقبلا يبتدراني «6» فأضجعاني فشقا بطني، فالتمسا فيه شيئا، فأخذاه وطرحاه «7» ولا أدري ما هو. وفاة امنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب ثم إن أمه أخذته منها، وتوجّهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت بالأبواء «8» فحضنته أم

_ (1) هي في السنة الثالثة وشق صدره أيضا ليلة الإسراء كما رواه البخاري. (2) يشير إلى ما رواه البخاري ومسلم والترمذي «ما من مولود يولد إلّا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلّا ابن مريم وأمه، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم، (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قال عياض: يريد أن الله قبل دعاءها مع أن الأنبياء معصومون، وقال النووي: أشار عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى في هذه الخصوصية. (3) البهم: الصغار من الغنم، واحدتها: بهمة. (4) يحركانه بسوط. المؤلف. (5) شبيها بالنقع وهو التراب. المؤلف. أي متغيرا، يقال انتقع وجهه وامتقع (بالبناء للمجهول) إذا تغيّر. (6) يرعاني. (7) تتمة: ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني أصيب فانطلقي بنا نردّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف قالت حليمة فاحتملناه فلم ترع أمه إلّا به، فقالت: ما ردّكما به يا ظئر (المرضعة) فقد كنتما عليه حريصين؟ فقالا: لا والله إلّا أن الله قد أدّى عنا وقضينا الذي علينا وقلنا نخشى الاتلاف والأحداث نرده إلى أهله. فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان؟! كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله انه لكائن لابني هذا شأن إلّا أخبركما خبره؟ قلنا: بلى قالت: حملت به فما حملت حملا قط أخف علي منه (يوهم ذلك أنهما حملت بغيره وهو غير ثابت) فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما. هذا الحديث قد روي من طرق اخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين السير والمغازي. (8) قرية بين مكة والمدينة وهي أقرب إلى المدينة (المؤلف) وقد حصل ذلك وهو ابن ست سنين.

السفر إلى الشام

أيمن، وكفله جدّه عبد المطلب، ورقّ له رقة لم تعهد له في ولده، لما كان يظهر عليه مما يدل على أن له شأنا عظيما في المستقبل، وكان يكرمه غاية الإكرام، ولكن لم يلبث عبد المطلب أن توفي بعد ثماني سنوات من عمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم «1» ، فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيما وعليه غيورا، وكان أبو طالب مقلّا من المال فبارك الله له في قليله، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مدة كفالة عمه مثال القناعة، والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الأطفال عادة، كما روت ذلك أم أيمن حاضنته، فكان إذا أقبل وقت الأكل جاء الأولاد يختطفون وهو قانع بما سييسره الله له «2» . السفر إلى الشام ولما بلغت سنّه عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة سنة، أراد عمّه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام، فاستعظم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فراقه، فرقّ له، وأخذه معه، وهذه هي الرحلة الأولى، ولم يمكثوا فيها إلّا قليلا، وقد أشرف على رجال القافلة وهم بقرب بصرى «3» بحيرى الراهب «4» ، فسألهم عما راه في كتبهم المقدسة من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن، فقالوا إنه لم يظهر للان «5» ، وهذه العبارة كثيرا ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «6» . حرب الفجار «7» ولما بلغت سنّه عليه الصلاة والسلام عشرين سنة حضر حرب الفجار، وهي

_ (1) دفن بالحجون (جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصي) ولما حضرته الوفاة. أوصى به إلى عمه. (2) كان يقول في أول الطعام الحمد لله، ولم تر منه كذبة ولا ضحك ولا جاهلية، ولا وقف مع صبيان يلعبون، تفسير الرازي ج 6 ص 568. (3) قرية على الحدود بين بلاد الشام والأردن (وهي قرية من أعمال حوران) . (4) اسمه سرجس كان راهبا مسيحيّا وكان ينكر لاهوت المسيح (يقول إن تسميته باله غير جائزة) وكان قسا عالما فلكيّا منجما وقد اتّخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وكان يأمر بعبادة الله وينهى عن عبادة الأصنام. (5) ملخّص القصّة أن بحيرى الراهب صنع طعاما ودعا له كل قريش فاجتمعوا إلّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أحضروه بعد إلحاح من بحيرى فلما رأى من أوصافه ما يوافق ذلك ما عنده أقبل على عمه أبي طالب وأوصاه أن يعود بابن أخيه حذرا عليه من اليهود فعمل أبو طالب ما نبهه إليه بحيرى. (6) سورة البقرة اية 89. (7) معنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أن قتالا كان في الشهر الحرام ففجروا فيه وأيام الفجار أربعة

حرب كانت بين كنانة ومعها قريش، وبين قيس. وسببها أنه كان للنعمان بن المنذر ملك العرب بالحيرة «1» تجارة يرسلها كل عام إلى سوق عكاظ «2» لتباع له، وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعة وشرف في قومه ليجيزها «3» ، فجلس يوما وعنده البرّاض بن قيس الكناني وكان فاتكا خليعا خلعه قومه لكثرة شرّه وعروة بن عتبة الرحّال فقال: من يجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيزها على بني كنانة، فقال النعمان: إنّما أريد من يجيزها على الناس كلهم؟ فقال: عروة أبيت اللعن «4» أكلب خليع يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشّيح والقيصوم من أهل نجد «5» وتهامة «6» فقال البرّاض: أو تجيزها عل كنانة يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلّهم، فأسرّها في نفسه، وتربّص له حتى إذا خرج بالتجارة، قتله غدرا، ثم أرسلوا رسولا يخبر قومه كنانة بالخبر، ويحذرهم قيسا قوم عروة. وأما قيس فلم تلبث بعد أن بلغها الخبر أن همّت لتدرك ثأرها، حتى أدركوا قريشا وكنانة بنخلة «7» ، فاقتتلوا، ولما اشتدّ البأس، وحميت قيس، احتمت قريش بحرمها، وكان فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم أن قيسا قالوا لخصومهم: إنّا لا نترك دم عروة، فموعدنا عكاظ العام المقبل، وانصرفوا إلى بلادهم يحرّض بعضهم بعضا، فلما حال الحول جمعت قيس جموعها وكانت معها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها من كنانة والأحابيش (وهم حلفاء قريش) وكان رئيس بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه اخوته أبو طالب وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكان على بني أمية حرب بن أمية، وله القيادة العامّة لمكانه في قريش شرفا وسنّا. وهكذا كان على كل

_ فالفجار الأول كان بين كنانة وهوازن، والثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نضر بن معاوية والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها. (1) بلدة غرب الفرات كان يقيم بها ملك العرب من قبل ملوك فارس، فتحها خالد بن الوليد في السنة الثانية عشرة (راجع اتمام الوفاء) المؤلف. (2) سوق كانت تعقدها العرب كل عام لتعرض فيها تجارتها وما قاله فصحاؤها من قصائد الفخر وما أشبه ذلك من مفاخر العرب، وهي أشبه في ذلك بمعارض أوربا الان. المؤلف. (3) ليسوغها له (أي يسمح له بذلك) . (4) تحية عربية ومعناها باعدت كل ما استحق المذمة. المؤلف. (5) هو المرتفع من بلاد العرب وهو وسطها. المؤلف. (6) هو ما انخفض من سواحل البلاد العربية والشرقي منها يسمى البحرين الفاصل بين نجد وتهامة الحجاز في الغرب واليمامة في الشرق. المؤلف. (7) موضع بين مكة والطائف. المؤلف.

حلف الفضول

بطن من بطون قريش رئيس ثم تناجزوا «1» الحرب، فكان يوما من أشدّ أيام العرب هولا، ولمّا استحلّ فيه من حرمات مكة التي كانت مقدّسة عند العرب سمي يوم الفجار. وكادت الدائرة تدور على قيس حتى انهزم بعض قبائلها ولكن أدركهم من دعا المتحاربين للصلح «2» على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد، فكانت لقيس زيادة أخذوا ديتها من قريش، وتعهد بها حرب بن أمية، ورهن لسدادها ولده أبا سفيان. وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيرا ما تشبه حروب العرب تبدؤها صغيرات الأمور حتى ألّف الله بين قلوبهم وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم. حلف الفضول «3» وعند رجوع قريش من حرب الفجار تداعوا لحلف الفضول فتمّ في دار عبد الله بن جدعان التميمي «4» أحد رؤساء قريش، وكان المتحالفون بني هاشم، وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزى، وبني زهرة بن كلاب، وبني تيم بن مرة تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، حتى تردّ إليه مظلمته، وقد حضر هذا الحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أعمامه، وقال بعد أن شرّفه الله بالرسالة: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النّعم «5» ولو دعيت به في الإسلام لأجبت «6» » وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث بمكارم الأخلاق وهذا منها وقد أقرّ دين الإسلام كثيرا منها، يرشدك إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «7» » وقد دعا بهذا الحلف كثيرون فأنصفوا.

_ (1) أي حضروا الحرب. (2) هو عتبة بن ربيعة أحد ساداتها. (3) أي تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلا بظلمه أحدا إلا أخذوه له منه. (4) يكنى أبا زهير. وهو ابن عم عائشة رضي الله عنها، وكان بدء أمره صعلوكا. وكان مع ذلك فاتكا حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه، وحلف ألّا يؤويه أبدا لما أثقله من ديون، ثم أثرى بعد ذلك فأوسع في الكرم فصار أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية. (5) الشيء النفيس من الحيوانات وهي الإبل. (6) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ج 2 ص 291. (7) أورده مالك في الموطأ بلاغا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال ابن عبد البر هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعا.

رحلته إلى الشام المرة الثانية

رحلته إلى الشام المرّة الثانية ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين سنة سافر إلى الشام المرّة الثانية، وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت سيدة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم «1» إياه، فلما سمعت عن السيد من الأمانة وصدق الحديث ما لم تعرفه في غيره حتى سماه قومه الأمين، استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر مع غلامها ميسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحا عظيما، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حبّبه في قلب ميسرة غلام خديجة «2» . زواجه خديجة فلمّا قدما مكّة ورأت خديجة ربحها العظيم سرّت من الأمين عليه الصلاة والسلام، وأرسلت إليه تخطبه لنفسها، وكانت سنها نحو الأربعين وهي من أوسط «3» قريش حسبا وأوسعهم مالا. فقام الأمين عليه الصلاة والسلام مع أعمامه حتى دخل على عمّها عمرو بن أسد فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب فزوجها عمها. وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء «4» معدّ وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما امنا، وجعلنا حكّام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفا ونبلا وفضلا، وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصّداق (كذا) «5» وعلى ذلك تمّ الأمر. وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة

_ (1) المضاربة: شركة تكون بين طرفين، من أحدهما المال، ومن الاخر العمل بالتجارة. (2) كانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة مع ما أراد الله بها من كرامة، فلما أخبرها به غلامها ميسرة بعثت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه. (3) الوسط من أوصاف المدح والتفضيل فكان الوسط من أجل هذا مدحا في النسب. (4) أصل. «المؤلف» . (5) أصدقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اثنتي عشرة أوقية ونصفا من الذهب والأوقية أربعون درهما شرعيّا.

بناء البيت

توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة وهو ربيب «1» المصطفى عليه الصلاة والسلام. بناء البيت «2» ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمسا وثلاثين سنة. جاء سيل جارف فصدّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها. فإنها كانت رضيمة «3» فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك. ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المصلحين. وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل «4» . وهناك وجدوا صحافا نقش فيها كثير من الحكم «5» على عادة من يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدّمين. ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مهر بغيّ ولا بيع ربا «6» ، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم «7» ، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد اسماعيل، فأخرجوا منها الحجر «8» ، وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من

_ (1) ابن امرأة الرجل من غيره. (2) كان بناؤها في الدهر خمس مرّات الأولى: حين بناها شيث بن ادم والثانية: حين بناها ابراهيم على القواعد الأولى. والثالثة: حين بنتها قريش قبل الاسلام. والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير. والخامسة: في عهد أبي جعفر المنصور. (3) الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير طين. (4) في ابن هشام أساس ابراهيم. (5) مما وجدوا حجرا مكتوبا فيه «من يزرع خيرا، يحصد غبطة ومن يزرع شرّا يحصد ندامة. تعملون السيئات وتجزون الحسنات. أجل كما لا يجتنى من الشّوك العنب. (6) كان محرما عليهم في الجاهلية يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع ابراهيم عليه السّلام كما بقي عليهم وشيء من أحكام الطلاق والعتق وغير ذلك وفي قوله سبحانه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) دليل على تقدم التحريم. (7) يا قوم وقيل يا قوم أو يا قول. (8) قال عليه السّلام لعائشة لولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لهدمتها، وجعلت لها خلفا وألصقت بابها بالأرض، وأدخلت فيها الحجر أو كما قال وردت في معناه أحاديث رواها الشيخان وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.

الكعبة. ولمّا تمّ البناء ثماني عشرة ذراعا بحيث زيد فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يصعد إليها إلّا بدرج أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه، وتنافسوا في ذلك حتى كادت تشبّ بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليال، وكان أسنّ رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكّموا بينكم من ترضون بحكمه. فقالوا: نكل الأمر لأوّل داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون عليه الصلاة والسلام، فاطمأن الجميع له لما يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يداري ولا يماري. فلما أخبروه الخبر بسط رداءه، وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم وضع فيه الحجر «1» وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه. وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيرا ما يكون أمثالها سببا في انتشار حروب هائلة بين العرب لولا أن يمنّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقضي بينهم بما يرضي جميعهم، ولا يستغرب من قريش تنافسهم هذا لأن البيت قبلة العرب وكعبتهم التي يحجون إليها فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة وهو أول بيت وضع للعبادة بشهادة القران الكريم قال تعالى في سورة ال عمران: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «2» وكان يلي أمره بعد ولد اسماعيل قبيلة جرهم فلما بغوا وظلموا من دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلوهم عن البيت، ووليته خزاعة حينا من الدهر. ثم أخذته منهم قريش في عهد قصي بن كلاب وبسببه أمنوا في بلادهم فكانت قبائل العرب تهابهم. وإذا احتموا به كان حصنا أمينا من اعتداء العادين، وامتنّ الله عليهم بذلك في تنزيله فقال في سورة العنكبوت: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «3» .

_ (1) عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من اللبن فسوّدته خطايا بني ادم. رواه الترمذيّ. (2) اية 96- 97. (3) اية 67.

معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة

معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة لم يرث عليه الصلاة والسلام من والده شيئا. بل ولد يتيما عائلا «1» فاسترضع في بني سعد. ولما بلغ مبلغا يمكّنه أن يعمل عملا كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لما رجع إلى مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه «2» . ووجود الأنبياء في حال التجرّد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بد منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية. ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالفين أعظم شاهد على ذلك، فكان عيسى عليه الصلاة والسلام أزهد الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى وابراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سعة بل كلهم سواء، تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجا لمتّبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن. وكذلك رعاية الغنم، فما من نبي إلا رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث للبخاري، وهذه أيضا من بالغ الحكم، فإن الإنسان إذا استرعى الغنم وهي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما هذّب أولا من الحدّة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ولما شبّ عليه الصلاة والسلام كان يتجر، وكان شريكه السائب بن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة رضي الله عنها، إلى الشام على جعل «3» يأخذه، ولما شرّفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار عمل في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله. وحقّق الله ما امتنّ عليه به في سورة الضحى بقوله جل ذكره: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «4» بالإيواء والإغناء قبل النبوة والهداية بالنبوة، هداه للكتاب والإيمان ودين إبراهيم عليه السلام ولم يكن يدري ذلك قبل. قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا

_ (1) فقيرا لا مال له. (2) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بعث الله نبيا إلّا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وقراريط جمع قيراط وهو أحد أجزاء الدينار. (3) ما جعل للانسان من شيء على فعل يقوم به. (4) اية 6- 8.

سيرته في قومه قبل البعثة

الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1» . سيرته في قومه قبل البعثة كان عليه الصلاة والسلام أحسن قومه خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، فسمّوه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء. حتى شهد له بذلك ألد أعدائه النضر بن الحارث «2» من بني عبد الدار حيث يقول: قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، قال ذلك في معرض الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قائلا: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله. ورد ذلك في أول صحيح البخاري. وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها «3» وبغّضت إليه الأوثان بغضا شديدا حتى ما كان يحضر لها احتفالا أو عيدا ممّا يقوم به عبّادها. وقال عليه الصلاة والسلام: «لما نشأت بغّضت إليّ الأوثان، وبغّض إليّ الشعر، ولم أهمّ بشيء ممّا كانت الجاهلية تفعله إلّا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك. ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذنيّ فنمت فما أيقظني إلّا مسّ الشمس ولم أقض شيئا، ثم عراني مرّة أخرى مثل ذلك» . وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل ما ذبح

_ (1) اية 52. (2) قتل يوم بدر كافرا قتله علي بن أبي طالب. (3) الشفاء للقاضي عياض. المؤلف.

ما أكرمه الله به قبل النبوة

على النصب «1» وحرّم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعا عظيما. وذلك كلّه من الصفات التي يحلّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوة وبعدها: أمّا قبل النبوة فليتأهّلوا للأمر العظيم الذي سيسند إليهم. وأمّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم. عليهم من الله أفضل الصلوات وأتم التسليمات. ما أكرمه الله به قبل النبوّة أوّل منحة من الله ما حصل من البركات على ال حليمة الذين كان مسترضعا فيهم. فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين «2» فلمّا صار بينهم صارت غنيماتهم تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبنا ويرحم الله البوصيري حيث يقول في همزيته: وإذا سخّر الإله أناسا ... لسعيد فإنّهم سعداء ثمّ أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإخراج حظّ الشيطان منه «3» ، وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر. لا يعرف من قوّة الله شيئا، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب. ومن المكرمات الإلهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام حتى كانت تظله في اليوم الصائف لا يشترك معه أحد في القافلة، كما روى ذلك ميسرة غلام خديجة الذي كان مشاركا له في سفره وهذا ما حبّبه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها، وتيقّنت أن له في المستقبل شأنا. ولذلك لما جاءته النبوّة كانت أسرع الناس إيمانا به، ولم تنتظر اية أخرى زيادة على ما علمته من مكارم الأخلاق، وما سمعته من خوارق العادت. ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلام عليه من الأحجار والأشجار «4» ،

_ (1) هي حجارة تنصب وتصب عليها دماء الذبائح وتعبد. المؤلف. (2) الجدب ضد الخصب، وهي الأرض لا تكاد تخصب لاحتباس الماء عنها. (3) أي من قلبه. (4) السيرة الحلبية. المؤلف.

تبشير التوراة به

فكان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى ببناء ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا سمع: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله «1» ، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا وقد حدث بذلك عن نفسه. وليس في ذلك كبير اشكال فقد سخر الله الجمادات للأنبياء قبله، فعصا موسى التقمت ما صنع سحرة فرعون بعد أن تحوّلت حية تسعى ثم رجعت كما كانت، ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عينا، لكل سبط «2» من أسباط بني اسرائيل عين. وكذلك غيره من الأنبياء سخر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدل العقلاء على عظيم قدرهم وخطارة شأنهم. تبشير التوراة به أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن، ونوّه فيها بذكر كثير من الأنبياء الذين علم الله أنّه سيرسلهم، فممّا جاء فيها تبشيرا برسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم خطابا لسيّدنا موسى عليه السلام «3» (وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلّمهم بكل شيء امره به، ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه، فأما النبي الذي يجترئ عليّ بالكبرياء ويتكلّم باسمي بما لم امره به أو باسم الهة أخرى فليقتل، وإذا أحببت أن تميز بين النبي الصادق والكاذب فهذه علامتك أن ما قاله ذلك النبي باسم الربّ ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه) . ويقول اليهود: أن هذه البشارة ليوشع بن نون خليفة موسى عليه السلام، مع أنّهم كانوا ينتظرون في مدّة المسيح نبيّا اخر غير المسيح، فإنهم «4» أرسلوا ليوحنا المعمدان (يحيى) يسألونه عن نفسه فقالوا له: أنت إيليا؟ «5» فقال: لا فقالوا أنت المسيح؟ فقال: لا فقالوا: أنت النبي؟ فقال: لا فقالوا: ما بالك إذا تعمّد إذا

_ (1) الأحاديث التي وردت في تكلم الأحجار مع الرسول الكريم كثيرة منها ما رواه مسلم أن رسول صلّى الله عليه وسلّم قال: اني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الان. (2) القبيلة من اليهود. (3) الاصحاح الثامن: سفر التثنية. «المؤلف» . (4) الاصحاح الأول من انجيل يوحنا، اية 46. المؤلف. (5) قال ابن كثير في البداية والنهاية ذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب ابن منبه أن اسم الخضر بليا. ويقال ايليا بن بلكان ج 1 ص 326.

كنت لست إيليا ولا المسيح ولا النّبي فهذه تدل على أن التوراة تبشر بإيليا والمسيح ونبي لم يأت حتى زمن المسيح، ثم إن التوراة تقول في صفة النبي: أنه مثل موسى، وقد نصّت في اخر سفر التثنية على أنه لم يقم في بني اسرائيل نبي مثل موسى «1» ، وورد في هذه البشارة أن النبي الذي يفتري على الله يقتل ويشبه ذلك في القران قوله تعالى في سورة الحاقة وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» . ونبينا صلّى الله عليه وسلّم مكث بين أعدائه الألداء من مشركين ويهود ثلاثا وعشرين سنة يدعوهم فيها إلى الله، ومع ذلك عصمه الله منهم وأنزل عليه تطمينا لخاطره في سورة المائدة وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «3» أكان يعجز الله، وهو القادر على كل شيء، أن يعاقب من ينسب إليه ما لم يقله وهو الذي قال في سورة الشورى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «4» وقد أخبرتنا هذه البشارة عن العلامة التي تعرف بها صدق النبي من كذبه وهي الأخبار بما سيأتي. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن أشياء كثيرة فحدثت كما أخبر عنها. ومنها ما لا ينفع معه الحدس والتخمين كالإخبار بأن الروم سيغلبون بعد أن قهرهم الفرس قهرا شديدا حتى كادوا يحتلّون القسطنطينية عاصمة ملكهم، فالإخبار إذا بأن الروم سيردّون ما فقد منهم بعد بضع سنين لا يكون إلّا من عند الله، ولذلك استغربه جدا بعض المشركين من قريش وراهن على ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وقد حقّق الله الخبر فاستحق الصديق الرهن. وهذا قليل من كثير سيأتيك تفصيله إن شاء الله تعالى. وروى القاضي عياض في الشفاء أن عطاء بن يسار سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القران: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «5» : «وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكّل ليس بفظ ولا

_ (1) هذه النصوص المذكورة في التوراة والإنجيل ناطقة برسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وقد أخبر برسالته عليه الصلاة والسلام ورقة بن نوفل ابن عم خديجة. (2) عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. المؤلف. الاية من 44- 46. (3) اية 67. (4) اية 24. (5) سورة الأحزاب اية 45.

تبشير الإنجيل

غليظ ولا صخاب «1» في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله ويفتح به أعينا عميا واذانا صمّا وقلوبا غلفا» «2» . وروي مثله عن عبد الله بن سلام «3» رضي الله عنه وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تعمه الرياسة حتى يترك الدين القويم، وكذلك كعب الأحبار «4» وفي بعض طرق الحديث: ولا صخّاب في الأسواق ولا قوّال للخنا، أسدّده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى أمامه، والإسلام ملّته، أحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة. وأسمّي به بعد النكرة، وأكثّر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتّتة، وأمم متفرّقة، وأجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن صفته في التوراة فقال وهو الصادق الأمين: عبدي أحمد المختار مولده مكّة ومهاجره بالمدينة- أو قال طيبة- وأمته الحمّادون الله على كل حال. تبشير الإنجيل بشر عيسى عليه السلام قومه في الإنجيل بالفارقليط «5» ومعناه قريب من

_ (1) شديد الصوت. المؤلف. (2) رواه البخاري. (3) هو ولد يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل وكان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله لما أسلم وكنيته أبو يوسف كني بابنه وهو من بني قينقاع. ونزل في فضله (وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله فامن واستكبرتم) روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة وعشرون حديثا، وقد بشره الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالجنة وتوفي سنة 43 هـ بالمدينة. (4) هو التابعي المشهور وهو ابن مانع بن هينوع أدرك زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر وصحب عمر وأكثر الرواية عنه، وكان يسكن حمص، واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه، وكان قبل إسلامه على دين اليهود، وكان يسكن اليمن، توفي سنة 32 هـ ودفن في حمص. (5) جاء في قول يوحنا حكاية عن المسيح عليه السلام (ص 14 ف 25) ما يأتي: (إن كنتم تحبوني فاحافظوا وصاياي، فأنا أطلب من الاب فيعطيكم فارقليطا ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ومنكم.

حركة الأفكار قبل البعثة

محمد أو أحمد ويصدّقه في القران قول الله تعالى في سورة الصف: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «1» وقد وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف لا تنطبق إلّا على نبيّنا فقال: إنه يوبخ العالم على خطيئته وإنه يعلمهم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع، وهذا ما ورد في القران الكريم في سورة النجم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2» وقد ورد في إنجيل برنابا الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب «3» الجهالة ذكر اسم الرسول عليه الصلاة والسلام صراحة. حركة الأفكار قبل البعثة وهذا يسهّل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر. فقد حدّث عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا للإسلام مع رحمة الله تعالى لنا ما كنا نسمع من أحبار يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الان نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلمّا بعث الله رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فامنا وكفروا، وإنما قال لهم اليهود: نقتلكم معه قتل عاد وإرم لأن من صفته عليه الصلاة والسلام في كتبهم أن هذا النبي يستأصل المشركين بالقوة، ولم يكونوا يظنون أن الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القيم فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والاخرة. وكان أمية بن أبي الصلت «4» المتنصر العربي كثيرا ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا. وحدّث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن نفسه أنه صحب قسيسا «5»

_ (1) اية 6. (2) اية 3- 4. (3) ترجم إلى العربية وهو الان مطبوع بمصر، المؤلف. (4) قاله ابن اسحاق. (5) صاحب عمورية، والذين صحبوا سلمان من النصارى كانوا على الحق على دين عيسى بن مريم وكانوا بضعة عشر. وفي البخاري تداول سلمان بضعة عشر من رب إلى رب.

بدء الوحي

فكان يقول له: يا سلمان إن الله يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة، علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الحديث كان من أسباب إسلام سلمان. ولما راسل عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض لم يهن كتابه إلّا كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب، وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وقيصر ملك الروم، فأكرموا وفادة رسله. ومنهم من امن كالنجاشي، ومنهم من ردّ ردّا لطيفا وكاد يسلم لولا غلبة الملك كقيصر، ومنهم من هادى كالمقوقس ولم يكن عليه السلام في قوّة يرهب بها هؤلاء الملوك اللهم ما ذاك إلّا لأنهم يعلمون أن المسيح عليه الصلاة والسلام بشّر برسول يأتي من بعده. ووافقت صفات رسولنا ما عندهم فأجابوا بالتي هي أحسن، وأما ما سمع من الهواتف والكهان قبيل زمنه فهو ما لا يدخل تحت حصر.. وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر. ومع ذلك كله فالأعمال التي جاد الله بها على يديه والأقوال التي أتانا بها أعظم مقوّ لحجته ومؤيد لدعوته. وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان فتأمله ترشد هداك الله إلى الصراط السويّ. بدء الوحي لما بلغ عليه الصلاة والسلام سن الكمال وهي أربعون سنة «1» أرسله الله للعالمين بشيرا ونذيرا ليخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة 610 من الميلاد كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي تبيّن بعد دقّة البحث أن ذلك كان في 17 رمضان سنة 13 قبل الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة 610 وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح «2» وذلك لما جرت به عادة الله في خلقه من التدريج في

_ (1) وفي الفتح: فعلى الصحيح المشهور أنه مولود في ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وفي حديث رواه الشيخان والترمذي أنه بعث لأربعين سنة، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. (2) الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقران وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به لأن أمر النبوّة عظيم، وعبؤها ثقيل والبشر ضعيف وكان نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلّم في أحوال مختلفة فمنها النوم ومنها أن ينفث في روعه الكلام ومنها في مثل صلصلة الجرس ومنها أن يمثل له الملك رجلا ومنها أن يتراءى له جبريل في صورته ومنها أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كما كان في ليلة الإسراء وإما في النوم فهي ستة أحوال. وفلق الصبح: أي كضبائه وإنارته.

الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال. ومن الصعب جدا على البشر تلقّى الوحي من الملك لأول مرة، ثم حبّب إليه عليه الصلاة والسلام الخلاء «1» ليبتعد عن ظلمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن في العزلة صفاء السريرة. وكان يخلو بغار حراء «2» فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرا. وتارة أكثر إلى شهر. وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء: فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، فإنه عليه الصلاة والسلام أمي لم يتعلم القراءة قبلا. فأخذه فغطه «3» بالنمط الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ «4» قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطّه ثانية ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطه الثالثة، ثم أرسله فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «5» فرجع بها عليه الصلاة والسلام يرجف فؤاده ممّا ألمّ به من الرّوع «6» الذي استلزمته مقابلة الملك لأول مرة فدخل على خديجة زوجه، فقال: زمّلوني «7» زمّلوني، لتزول عنه هذه القشعريرة «8» فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي «9» لأن الملك غطّه حتى كاد يموت، ولم يكن له عليه الصلاة والسلام علم قبل ذلك

_ (1) الانفراد. (2) جبل على مقربة من مكة. المؤلف. والغار ثقب فيه، وهو أول موضع نزل فيه القران. (3) ذكر السهيلي أن الغط ثلاث إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له التدرج بعد ذلك، فكانت الأولى ادخال قريش له صلّى الله عليه وسلّم في الشعب والتضييق عليه، والثانية، اتفاقهم على الاجتماع على قتله، والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه. فغطه ضمه وعصره. (4) (اقرأ) هو أول ما نزل عليه من القران وهو الصواب الذي عليه جمهور السلف والخلف. (5) سورة الفلق اية 6. (6) الفزع. (7) لفوني في ثوبي (المؤلف) (من شدة ما حصل له، وعادة ما تخف الرعدة بالتلفف) . (8) أي رعدة. (9) تكلم العلم في هذه الخشية منها أي خشيتها ألا أنهض بأعباء النبوة وأن أضعف عنها فذهب أبو بكر الاسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه: مجنون.

بجبريل ولا بشكله فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم «1» وتقري الضيف «2» وتعين على نوائب الحق «3» ، فلا يسلط الله عليك الشياطين والأوهام ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك، ولتتأكّد خديجة مما ظنته أرادت أن تتثبت ممّن لهم علم بحال الرّسل ممن اطّلعوا على كتب الأقدمين، فانطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان أمرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي «4» ، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك «5» ، فقال يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره عليه الصلاة والسلام خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس «6» الذي نزّل الله على موسى، لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل، ثم قال: يا ليتني فيها جذعا (شابا جلدا) إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها لمعاداتهم إيّاك وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها اباءهم، فاستغرب عليه الصلاة والسلام ما نسب مع ما يعلمه من حبّهم له لاتّصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى سمّوه الأمين، وقال: أو مخرجيّ هم «7» ؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي. وقد نطق بذلك القران الكريم. قال تعالى في سورة إبراهيم

_ (1) الذي لا مال له. (2) أي تهيء له الضيافة. (3) شدائد الأمور. (4) وهم أربعة تفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين ابراهيم ورقه بن نوفل وعبيد الله بن جحش أسلم ثم هاجر إلى الحبشة مع امرأته حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فتنصر وعثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر زيد بن عمر وبن نفيل وكان على ملة ابراهيم وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيى المؤودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أكفيك مؤنتها، فيأخذها رواه البخاري وقد ثبت إيمان ورقة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقد ورد في حديث الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوتي المنام وعليه ثياب بيض إلى اخر الحديث. (5) قالت ذلك على سبيل الاحترام. (6) صاحب الوحي أي هو جبريل عليه السلام وهو صاحب سر الملك. (7) لا بد من تشديد الياء في مخرجي لأنه جمع الأصل مخرجوي فأدغمت الواو في الياء قال في المواهب واصله مخرجون حذفت اللام تخفيفا ونون الجمع للاضافة إلى ياء المتكلم، فصار: أو مخرجوي اجتمعت الواو والياء وسبقت الواو السكون فكانت ياء ثم أدغمت في ياء المتكلم وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء.

فترة الوحي

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «1» ولتمام تصديق ورقة برسالة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام قال: وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا «2» (معضدا) ثم لم يلبث ورقة أن توفي. فترة الوحي «3» وفتر الوحي مدّة لم يتّفق عليها المؤرخون، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوما، ليشتدّ شوق الرسول صلّى الله عليه وسلّم للوحي، وقد كان، فإن الحال اشتدّ به عليه الصلاة والسلام حتى صار كلّما أتى ذروة جبل بدا له أن يرمي نفسه منها حذرا من قطيعة الله له بعد أن أراه نعمته الكبرى، وهي اختياره لأن يكون واسطة بينه وبين خلقه، فيتبدّى له الملك قائلا: أنت رسول الله حقا، فيطمئن خاطره ويرجع عما عزم عليه، حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحي. عود الوحي فبينما هو يمشي إذ سمع صوتا من السماء فرفع إليه بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس بين السماء والأرض، فرعب منه لتذكر ما فعله في المرة الأولى فرجع وقال: دثروني دثروني، فأنزل الله تعالى عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عن غيّهم وما كان يعبد اباؤهم وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ خصه بالتعظيم ولا تشرك معه في ذلك غيره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ لتكون مستعدا للوقوف بين يدي الله إذ لا يليق بالمؤمن أن يكون مستقذرا نجسا وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اهجر أسباب الرّجز وهو العذاب بأن تطيع الله وتنفذ أمره وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ولا تهب أحدا هبة وأنت تطمع أن تستعيض من الموهوب أكثر مما وهبت، فهذا ليس من شأن الكرام وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ «4» على ما سيلحقك من أذى قومك حينما

_ (1) اية (13) . (2) شديدا. (3) أي عدم نزوله على الرسول عليه الصلاة والسلام. وكانت مدة الفترة هذه سنتين، أو سنتين ونصفا. فمن هنا يتفق ما قاله أنس بن مالك أن مكثه بمكة كان عشر سنين، وقول ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وكان قد ابتدئ بالرؤيا الصادقة ستة أشهر فمن عد مدة الفترة، وأضاف إليه الأشهر التي كانت كما قال ابن عباس، ومن عدها من حين حمي الوحي وتتابع كما في حديث جابر كانت عشر سنين. (4) سورة المدثر لايات 1- 7.

الدعوة سرا

تدعوهم إلى الله.. الدعوة سرا فقام عليه الصلاة والسلام بالأمر ودعا لعبادة الله أقواما جفاة لا دين لهم، إلّا أن يسجدوا لأصنام لا تنفع ولا تضرّ، ولا حجة لهم إلّا أنهم متّبعون لما كان يعبد اباؤهم، وليس عندهم من مكارم الأخلاق إلّا ما كان مرتبطا بالعزّة والأنفة وهو الذي كان كثيرا ما كان سببا في الغارات والحروب وإهراق الدماء فجاءهم رسول الله بما لا يعرفونه. فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع الأوثان، ومن أعمته الرياسة أدبر واستكبر كيلا تسلب منه عظمته. وكان أول من سطع عليه نور الإسلام خديجة بنت خويلد زوجه «1» وعلي ابن أبي طالب ابن عمه «2» وكان مقيما عنده يطعمه ويسقيه ويقوم بأمره، لأن قريشا كانوا قد أصابوا مجاعة وكان أبو طالب مقلا كثير الأولاد، فقال عليه الصلاة والسلام لعمه العباس بن عبد المطلب: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، والناس فيما ترى من الشدّة، فانطلق بنا لنخفّف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا، فانطلقا وعرضا عليه الأمر، فأخذ العباس جعفر بن أبي طالب، وأخذ عليه الصلاة والسلام عليّا، فكان في كفالته كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوّة وقد ناهز الاحتلام، فكان تابعا للنبي في كل أعماله، ولم يتدنس بدنس الجاهلية من عبادة الأوثان واتباع الهوى، وأجاب أيضا زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي مولاه عليه الصلاة والسلام، وكان يقال له زيد بن محمّد، لأنه لما اشتراه أعتقه وتبنّاه، وكان المتبنى معتبرا كابن حقيقي يرث ويورث، وأجابت أيضا أم أيمن حاضنته التي زوجها لمولاه زيد. وأول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر بن أبي قحافة بن

_ (1) فهي أول الناس إيمانا على الاطلاق. (2) أسلم علي رضي الله عنه وهو ابن عشر سنين ويقص ابن اسحق كيفية اسلامه فيقول: كان علي عند النبي، فجاء بعد ذلك بيوم والنبي يصلي مع خديجة، فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله فأدعوك إلى الله واحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم. فمكث علي تلك الليلة ثم أن الله أوقع في قلبه الاسلام.

عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيمي القرشي «1» كان صديقا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوّة يعلم ما اتّصف به من مكارم الأخلاق ولم يعهد عليه كذبا منذ اصطحبا، فأوّل ما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق «2» وقال: بأبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد ألاإله إلّا الله وأنك رسول الله، كان رضي الله عنه صدرا معظّما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق، وكان من أعفّ الناس، سخيا، يبذل المال، محبّبا في قومه حسن المجالسة، ولذلك كله كان من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، وقال في حقه: (ما دعوت أحد إلى الإسلام إلّا كانت له كبوة غير أبي بكر) «3» . وكانت الدعوة إلى الإسلام سرّا حذرا من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا، فيصعب استسلامهم فكان عليه الصلاة والسلام لا يدعو إلّا من يثق به. ودعا أبو بكر إلى الإسلام من يثق به من رجال قريش، فأجابه جمع منهم: عثمان بن عفّان «4» بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، ولمّا علم عمه الحكم بإسلامه، أوثقه كتافا وقال: ترغب عن دين ابائك إلى دين مستحدث!!! والله لا أحلّك حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه ولا أفارقه. فلمّا رأى الحكم صلابته في الحقّ تركه، وكان كهلا يناهز الثلاثين من عمره. (ومنهم) : الزبير بن العوام «5» بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشي، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وكان عم الزبير يرسل الدخان عليه وهو

_ (1) ولد أبو بكر سنة 573 م، وهو أوّل الخلفاء الراشدين وصاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار والهجرة، كني بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة وكانت له في الإسلام مواقف رفيعة منها قصته ليلة الاسراء وهجرته مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم كلامه يوم الحديبة ثم ثباته في وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة، ثم قيامه في قتال أهل الردة ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام وأجل فضائله وهو استخلافه على المسلمين عمر بن الخطاب وكم للصديق مواقف عظيمة لا يحصيها إلا الله. (2) كان من أسباب توفيق الله إياه- فيما ذكر رؤيا راها قبل ذلك، وذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم راه قد تفرق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فنصها على بعض الكتابيين، فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه. (3) أخرجه ابن الأثير الجزري في جامع الأصول من زيادات رزين بن معاوية في فضائل أبي بكر. (4) ولد في السنة السادسة بعد الفيل، هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقية، ولم يشهد بدرا لتخلّفه على تمريض زوجته رقية بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. (5) ولد هو وعلي وطلحة وسعد في عام واحد. وقتل رحمه الله في موقعة الجمل وكان عمره سبعا وستين سنة.

مقيد ليرجع إلى دين ابائه فقواه الله بالثبات وكان شابا لا يتجاوز سن الاحتلام. (ومنهم) : عبد الرحمن بن عوف «1» بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الهاشمي، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن. (ومنهم) : سعد بن أبي وقاص «2» مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي. ولما علمت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بإسلامه قالت له: يا سعد بلغني أنك قد صبأت «3» فو الله لا يظلّني سقف من الحر والبرد وإنّ الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمّد، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فجاء سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكا إليه أمر أمّه فنزل في ذلك تعليما، قول الله تعالى في سورة العنكبوت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «4» وصاه جلّ ذكره بوالديه وأمره بالإحسان إليهما مؤمنين كانا أو كافرين، أما إذا دعواه للإشراك فالمعصية متحتمة. لأن كل حق، وإن عظم، ساقط هنا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق «5» : ثم قال: إليّ مرجعكم من امن منكم ومن أشرك فأجازيكم حق جزائكم. وفي ختام هذه الاية فائدتان: التنبيه على أن الجزاء إلى الله فلا تحدّث نفسك بجفوتهما لإشراكهما، والحضّ على الثبات في الدين لئلا ينال شرّ جزاء في الاخرى. (ومنهم) : طلحة بن عبيد الله «6» بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم

_ (1) ولد بعد عام الفيل بعشر سنين وكان من السابقين الأولين وقد جمع الهجرتين جميعا، شهد بدرا والمشاهد كلها ومن مناقبه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلى وراءه في غزوة تبوك حين أدركه وجرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة، وقد تصدق على عهد الرسول بشطر ماله، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين ودفن بالبقيع. وهو ابن اثنين وسبعين. (2) يكنى بأبي اسحق وهو أحد العشرة، دعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسدد سهمه وأن تجاب دعوته. وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: احذروا دعوة سعد، مات في خلافة معاوية. (3) خرج من دين إلى دين اخر. (4) اية (8) . (5) من حديث رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين. (6) يكنى أبا محمد الفياض، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وهو من المهاجرين الأولين ولم يشهد بدرا ولكن ضرب له رسول الله بسهم وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر أحدا قال: ذلك يوم كان كله لطلحة، قتل يوم الجمل، وكان عمره أربعا وستين سنة، ودفن بالبصرة.

بن مرة التيمي القرشي وقد كان عرف من الرهبان ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصفته، فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول الله ما نفعه الله به، ورأى الدين متينا بعيدا عمّا عليه العرب من المثالب «1» بادر إلى الإسلام. (وممن) سبقوا إلى الإسلام: صهيب الرومي «2» وكان من الموالي وعمّار بن ياسر العنسي «3» وقد قال رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما معه إلّا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر، وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سمية. ومن السابقين الأولين: عبد الله بن مسعود «4» كان يرعى الغنم لبعض مشركي قريش، فلمّا رأى الايات الباهرة وما يدعو إليه الإسلام من مكارم الأخلاق، ترك عبادة الأوثان ولزم رسول الله، وكان رضي الله عنه كثير الدخول على الرسول لا يحجب، ويمشي أمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه. ومن السابقين الأولين: أبو ذر الغفاري «5» وكان من أعراب البادية فصيحا حلو الحديث، ولما بلغه مبعث رسول الله قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاما ما هو بالشعر، فقال: ما

_ (1) العيوب. (2) كناه الرسول أبا يحيى وكان ممن لاقوا العذاب بعد إسلامهم، وقد افتدى نفسه بماله أجمع حين منعته قريش من الهجرة. (3) كنيته أبو اليقطان، وكان هو وأبوه وأمه سمية ممن أسلم أولا وأسلم بعد بضعة وثلاثين رجلا. وهاجر مع رسول الله إلى المدينة وشهد بدرا وأحدا والخندق وجميع المشاهد وكان أول من بنى مسجدا، وشهد قتال اليمامة واستعمله عمر على الكوفة، قتل بصفين مع علي وأوصى أن يدفن بثيابه فدفن وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. (4) كان قصيرا جدا، خفيف اللحم، دقيق الرجلين، وقد هاجر وشهد سائر المشاهد مع رسول الله وشهد اليرموك، وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، وهو صاحب نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يلبسه إياها، وكان كثير الولوج على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان يعرف بصاحب السواد والسواك والنعل توفي بالمدينة ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستين سنة. (5) اسمه جندب وثبت في مسلم أنه قدم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أوّل الإسلام، وأنه أقام بمكّة ثلاثين وأسلم ثم رجع إلى قومه ثم هاجر إلى المدينة وصحبه حتى توفي بالربذة سنة 32 هجرية وصلى عليه ابنه مسعود.

شفيتني مما أردت. فتزوّد وحمل قربة له فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل من يخاطب رسول الله؛ حتى إذا أدركه الليل راه عليّ فعرف أنه غريب فأضافه عنده، ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب لا يسأل الضيف عن سبب قدومه إلّا بعد ثلاث) فلمّا أصبح احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظلّ ذلك اليوم ولا يراه الرسول حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: أما ان للرجل أن يعرف منزله الذي أضيف به بالأمس؟ فأقامه، فذهب معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث عاد عليّ مثل ذلك، ثم قال له علي ألا تحدّثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء «1» ، فإن مضيت فاتّبعني حتى تدخل مدخلي ففعل. فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم «2» . فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته أشهد ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه «3» ، وأتى العباس فأكبّ عليه وقال: ويلكم أولستم تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه! فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبّ العباس عليه (رواه البخاري) «4» . كان رضي الله عنه من أصدق الناس قولا وأزهداهم في الدنيا. ومن السابقين: سعيد بن زيد العدوي القرشي «5» وزوجه فاطمة بنت الخطاب

_ (1) أي وقفت بجوار الحائط كأني أبول. (2) أي لأجهرنّ بكلمة التوحيد في مجمعهم. (3) أي ألقوه في الأرض. (4) رواه أيضا مسلم. (5) هو من المهاجرين الأولين، وإسلامه قبل عمر بن الخطاب، وكان إسلام عمر عنده في بيته، ولم يشهد بدرا لأنه كان غائبا بالشام، قدم منها عقب غزوة بدر، فضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه وأجرّه، وشهد اليرموك وحصار دمشق، وكان مجاب الدعوة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، توفي بأرضه بالعقيق، ودفن بالمدينة في أيام معاوية سنة خمس وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة.

أخت عمر، وأم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف بن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» وأبو سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي القرشي «2» ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوجة أم سلمة، وعثمان بن مظعون الجمحي القرشي «3» وأخواه قدامة، وعبد الله، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي القرشي «4» ومن السابقين الأولين: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي «5» كان أبوه سيد قريش إذا اعتمّ لم يعتمّ قرشي إجلالا له، وكان خالد بن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية، فأدركه رسول الله وخلّصه منها فجاء إليه وقال: إلام تدعو يا محمّد؟ قال: أدعوك إلى عبادة الله واحده لا شريك له، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع، والإحسان إلى والديك، وألاتقتل ولدك خشية الفقر، وألاتقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وألاتقتل نفسا حرّم الله إلا بالحق. وأن لا تقرب مال اليتيم إلّا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه. وأن توفي الكيل والميزان بالقسط، وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك. وأن توفي لمن عاهدت، فأسلم رضي الله عنه، وحينئذ غضب عليه أبوه واذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة. وأسلم بعده أخوه عمرو بن سعيد. وهكذا دخل هؤلاء الأشراف في دين الإسلام، ولم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه

_ (1) يكنى أبا الحرث وكان إسلامه قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دار الأرقم بن أبي الأرقم وكانت هجرته مع أخويه الطفيل والحصين وكان له قدر ومنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد بدرا وأبلى بلاء حسنا وكان أسن المسلمين يومئذ وقطع عتبة بن ربيعة رجله فمات بالصفراء على أثرها وكان عمره ثلاثا وستين سنة. (2) أحد السابقين فكان الحادي عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة شهد بدرا وكان أخا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، واستخلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة حين خرج إلى غزوة العشيرة، وتوفي أبو سلمة سنة ثلاث من الهجرة. (3) من السابقين والمهاجرين الأولين في الإسلام توفي بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأوّل من دفن بالبقيع منهم. (4) أسلم بعد عشرة، وكانت داره بمكة على الصفا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم في داره حتى بلغوا الأربعين توفي سنة خمس وخمسين هـ. (5) ممن هاجر إلى أرض الحبشة، وشهد عمرة القضية وما بعدها، واستعمله النبي صلّى الله عليه وسلّم على صدقات مذحج، واستشهد يوم مرج الصفر والله أعلم.

الجهر بالتبليغ

صاغرين، وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤلاء العظماء اباءهم وذوي الثروة منهم ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله، بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه عليه الصلاة والسلام كأبي بكر وعثمان وخالد بن سعيد وغيرهم. والذين اتّبعوه من الموالي اختاروا الأذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول، بحيث لو اتّبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بالا وأنعم عيشة، اللهمّ ليس ذلك إلّا من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم، حتى أدركوا ما هم عليه من الضلالة وما عليه رسول الله من الهدى الجهر بالتبليغ مضت كل هذه المدة والنبي عليه الصلاة والسلام لا يظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية، ولم يكن المسلمون يتمكّنون من إظهار عبادتهم حذرا من تعصب قريش. فكان كلّما أراد العبادة ذهب إلى شعاب مكة يصلي مستخفيّا. ولمّا دخل في الدين ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلمهم، اختار لذلك دار الأرقم بن أبي الارقم وهو ممن ذكرنا اسلامهم- ومكث عليه الصلاة والسلام يدعو سرّا حتى نزل قوله تعالى في سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» فبدّل الدعوة سرا بالدعوة جهرا ممتثلا أمر ربه واثقا بوعده ونصره، فصعد على الصفا «2» فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر، فجاء أبو لهب بن عبد المطلب قريشا، فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله في شأنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «3» والقصد من حمل الحطب المشي بالنميمة لأنها كانت تقول على رسول

_ (1) اية 94. (2) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بمكة. (3) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس وهي سورة المسد.

الله الأكاذيب في نوادي النساء. ثم نزل عليه في سورة الشعراء وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» وهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو نوفل وبنو عبد شمس أولاد عبد مناف وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ أي العشيرة والأقربون فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فجمعهم عليه الصلاة والسلام وقال لهم: إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلّا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان احسانا وبالسوء سوا، وأنها لجنة أبدا أو لنار أبدا «2» . فتكلّم القوم كلاما ليّنا غير عمه أبي لهب الذي كان خصما لدودا فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن سلمتوه إذا اذللتم، وأن منعتموه قتلتم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنّه ما بقينا، ثم انصرف الجمع. ولمّا جهر رسول الله عليه الصلاة والسلام بالدعوة سخرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم، فكان إذا مرّ عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشة يكلّم من السماء! وهذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء لا يزيدون على ذلك، فلمّا عاب الهتهم وسفّه عقولهم وقال لهم: والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم، ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية غيرة على تلك الالهة التي كان يعبدها اباؤهم فذهبوا «3» إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه فطلبوا منه أن يخلي بينهم وبينه أو يكفّه عما يقول، فردّهم ردّا جميلا فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما يريده لا يصدّه عن مراده شيء، فتزايد الأمر، وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحثّ بعضهم بعضا على ذلك. ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له: إن لك سنّا وشرفا ومنزلة منّا، وإنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنّا والله لا نصبر على هذا

_ (1) اية 214- 215- 216. (2) رواه الشيخان. (3) وهم عتبة وشيبة وأبو سفيان والعاص بن هشام والأسود بن عبد المطلب وأبو جهل والوليد بن المغيرة ونبيه ومنبّه والعاص بن وائل السهمي.

من شتم ابائنا، وتسفيه عقولنا، وعيب الهتنا فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم اتّباع الحقّ ذمّهم لعدم استعمال عقولهم فيما خلقت له قال الله تعالى في سورة البقرة وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ «1» وقال في سورة المائدة وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ «2» وقال في سورة لقمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ «3» وقال في سورة الزخرف في بيان حجتهم الداحضة قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «4» ولما شبههم بمن قبلهم من الأمم في هذه المقالة الدالة على التعصب والعناد قال: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «5» فلمّا تمسكوا بحجة التقليد لابائهم جرّ ذلك إلى وصف ابائهم بعدم العقل وعدم الهداية، فهاج ذلك أضغانهم «6» ، وقالوا لأبي طالب: إما أن تكفّه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفسا بخذلان ابن أخيه، فقال له: يا ابن أخي إن القوم جاؤوني فقالوا لي كذا، فأبق على نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ الرسول أن عمّه خاذله فقال: والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ثم بكى وولى. فقال أبو طالب: أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: اذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك «7» .

_ (1) اية 170. (2) اية 104. (3) اية 21. (4) اية 23. (5) سورة الزخرف الاية 24. (6) أحقادهم. (7) رواه البيهقي في دلائل النبوة.

الإيذاء

الإيذاء ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصا إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين. فأولهم وأشدهم: أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي قال يوما: يا معشر قريش إن محمّدا قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم الهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ ابائكم، إني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلمّا أصبح أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلمّا سجد عليه الصلاة والسلام احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا «1» لونه من الفزع، ورمى حجره من يده، فقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلمّا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثله قطّ همّ بي أن يأكلني! فلمّا ذكر ذلك لرسول الله قال: ذاك جبريل ولو دنا لأخذه «2» . وكان أبو جهل كثيرا ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت فقال له مرّة بعد أن راه يصلي: ألم أنهك عن هذا، فأغلظ له رسول الله القول وهدّده، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا «3» ، فأنزل الله تهديدا له في اخر سورة اقرأ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «4» ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد الله بن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فرث «5» جزور بني فلان فيلقيه على محمّد وهو

_ (1) متغيرا. (2) رواه مسلم. (3) رواه أحمد والترمذي. والنسائي وابن جرير، وهذا لفظه من طريق داود ابن أبي هند وقال الترمذي: حسن صحيح. (4) اية 19. (5) الكرش.

ساجد؟ فقام عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على القائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام ساجدا حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلمّا قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال: اللهمّ عليك الملأ من قريش وسمّى أقواما «1» ، قال ابن مسعود: فرأيتهم قتلوا يوم بدر «2» . ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أنّ هذا ابتاع «3» أجمالا من رجل يقال له: الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله فدلوه على رسول الله لينصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول، فتوجّه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال محمّد: فخرج منتقعا لونه فقال له الرسول: أعط هذا حقه، فقال أبو جهل: لا تبرح حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دينه، فقالت قريش: ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت! قال: ويحكم والله ما هو إلّا ضرب على بابي حتى سمعت صوتا فملئت منه رعبا، وأن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله «4» . ومن جماعة المستهزئين: أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جارا له، فكان الرسول يطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا، وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أمّ جميل بنت حرب بن أمية، فكانت كثيرا ما تسبّ رسول الله، وتتكلّم فيه بالنمائم، وخصوصا بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب. ومن المستهزئين: عقبة بن أبي معيط كان الجار الثاني لرسول الله وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله فقال عليه

_ (1) وعين في دعائه سبعة وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم: وهم عتبة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة وأبو جهل، وعقبة بن أبي معيط، وأمية ابن خلف. قال ابن اسحاق: ونسيت السابع قلت: وهو عمارة ابن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري. (2) وقد رواه البخاري في مواضع متعدّدة من صحيحه. (3) أي اشترى. (4) رويت هذه القصة عن يونس بكير عن محمد بن اسحق عن عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي.

الصلاة والسلام: والله لا اكل طعامك حتى تؤمن بالله، فتشهّد، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي القرشي، وكان صديقا له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له. قال أبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمّدا فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلمّا رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه سورة الفرقان وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا «1» ومن أشد ما صنعه ذلك الشقي برسول الله ما رواه البخاري في صحيحه قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ «2» . ومن جماعة المستهزئين العاص بن وائل السهمي القرشي والد عمرو بن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرّ محمّد أصحابه أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلّا الدهر، فقال الله ردا عليه في دعواه في سورة الجاثية: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «3» . وكان عليه دين لخبّاب بن الأرتّ أحد رجال المسلمين «4» فتقاضاه إياه فقال العاص: أليس يزعم محمّد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال: فأنظرني إلى هذا اليوم فسأوتى مالا وولدا وأقضيك دينك، فأنزل الله فيه في سورة مريم: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ

_ (1) اية 27- 29. (2) رواه البخاري عن عروة بن الزبير سألت ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرواية.. قال البيهقي: وكذلك رواه سليمان عن بلال بن هشام عن عروة كما رواه عبدة، وهذه الاية من سورة المؤمن اية 28. (3) اية 24. (4) سبي في الجاهلية فبيع بمكة، وكان من السابقين الأولين وممن تعذّب في الله، وكان سادس ستة في الإسلام، ثم شهد المشاهد كلّها، نزل الكوفة، ومرض مرضا شديدا طويلا، ومات بها سنة سبع وثلاثين، وعاش ثلاثا وسبعين سنة.

الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً «1» . ومن جماعة المستهزئين: الأسود بن عبد يغوث الزهري القرشي من بني زهرة أخوال رسول الله كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول قد جاءكم ملوك الأرض استهزاء بهم لأنهم متقشفين: ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كلمات اليوم من السماء؟ ومنهم: الأسود بن عبد المطلب الأسدي ابن عم خديجة كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة التطفيف إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «2» . ومنهم: الوليد بن المغيرة عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش سمع القران مرة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمّد انفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإنّ له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فتوجه وقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمّدا مجنون فهل رأيتموه يهوّس؟ وتقولون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قطّ؟ وتزعمون أنه كذّاب فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهمّ لا، ثم قالوا فما هو؟ ففكر قليلا ثم قال: ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فارتج النادي فرحا «3» فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدثر مخاطبا لرسوله

_ (1) اية 77- 80 والحديث أخرجه الشيخان. (2) اية 29- 32. (3) وفي رواية عن البيهقي أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفرا من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا. فقيل: يا أبا عبد شمس (الوليد بن المغيرة) فقل وأقم لنا رأيا نقول به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. فقالوا نقول شاعر. فقال: ما هو

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ «1» وأنزل فيه أيضا في سورة ن وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف وكفى بهذا زاجرا لمن اعتاد الحلف مَهِينٍ حقير، وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه هَمَّازٍ عيّاب طعان مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ينقل الأحاديث للإفساد بين الناس مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ غليظ جاف (بعد ذلك زنيم) دخيل أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «2» كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه ولذلك اشتقّوا منه كل ما يدلّ على العظمة كالأنفة وهي الحمية فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة. ومن المستهزئين: النضر بن الحارث العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان إذا جلس رسول الله مجلسا يحدّثهم ويذكّرهم ما أصاب من قبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أحسن منه حديثا ثم يحدّث عن ملوك فارس، كان يعلم أحاديثهم، ويقول ما أحاديث محمّد إلّا أساطير الأولين وفيه نزل في سورة لقمان وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» وكل هؤلاء انتقم الله منهم كما قال الله تعالى في سورة الحجر إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «4» وقد وضع الله جلّ ذكره الوعد في صورة الماضي للتحقّق من وقوعه، لأن الاية مكية وهلاك هذه الفئة كان بعد الهجرة، فمنهم من قتل كأبي جهل

_ بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول هو ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس. قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق (النخلة) وإن فرعه لجني (ما يجنى من الثمر) فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلّا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته. (1) اية 10- 26. (2) اية 10- 16. (3) اية 6- 7. (4) اية 95- 96.

إسلام حمزة

والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، ومنهم من ابتلاه الله بأمراض شديدة فهلك منها كأبي لهب والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة. إسلام حمزة وكان بعض إيذائهم هذا سببا لإسلام عمّه حمزة بن عبد المطلب، فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بايذاء أبي جهل لابن أخيه، فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه، وقال: كيف تسبّ محمدّا وأنا على دينه، ثم أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاما، وأشدّهم غيرة على المسلمين، وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسد الله «2» . وكما أوذي الرسول عليه الصلاة والسلام أوذي أصحابه لاتباعهم له، خصوصا من ليس له عشيرة تحميه وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلوا في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبّتهم الله حتى أتم أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «3» وقد حقق ما أراد. ومن الذين أوذوا في الله: بلال بن رباح «4» كان مملوكا لأمية بن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلا ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به وهو

_ (1) أمه هالة بنت وهب. وهو أخو رسول الله من الرضاعة، وكان رضي الله عنه أسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وهو سيد الشهداء، واخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين زيد بن حارثة. أسلم سنة ست من النبوة وكنيته أبو عمارة وكان شجاعا، قوي الجسم، هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء عظيما، وشهد أحدا فقتل في السنة الثالثة من الهجرة رماه وحشي بحربة فقتله، ومثل به المشركون، ودفن عند أحد في موضعه، وكان عمره تسعا وخمسين سنة. (2) وزاد غير ابن اسحق في إسلام حمزة أنه قال: لما احتملني الغضب وقلت: أنا على قوله، أدركني الندم على فراق دين ابائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة وتضرّعت إلى الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدري للحقّ، ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زاح عني الباطل، وامتلأ قلبي يقينا، فغدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بما كان من أمري. فدعا بأن يثبتني الله. (3) اية 5. (4) مؤذن الرسول، قديم الإسلام والهجرة شهد المشاهد كلها مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو أول من أذن في الإسلام، وفضائله مشهورة، توفي بدمشق سنة عشرين وهو ابن أربع وستين سنة.

يقول: أحد أحد، لم يشغله ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء- وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت- ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد وتعبد اللات والعزى، فيقول: أحد أحد. مرّ به أبو بكر يوما فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل. فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أمية بن خلف الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الصدّيق الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى «1» بما يعطيه الله في الاخرى جزاء أعماله. وقد نبه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن الا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفا وفضلا للصديق رضي الله عنه وأرضاه «2» ، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعابهم مواليهم. ومنهم حمامة أم بلال وعامر بن فهيرة «3» كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فكيهة «4» كان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف. ومنهم امرأة تسمى زنيّرة «5» عذبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلّا إيمانا، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم لو كان ما أتى به محمّد خيرا ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد فأنزل الله في سورة الأحقاف

_ (1) من 14 إلى 21. (2) أجمع المفسّرون على أن هذه الاية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا علي بن أبي طالب لأمرين الأول (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) هذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكان يطعمه ويسقيه ويربيه، وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه نعمة دنيوية بل كان أبو بكر ينفق على الرسول عليه الصلاة والسلام، والثاني المراد بالأتقى هو أفضل الخلق وأفضلهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو أبو بكر لا على. (3) مولى الطفيل بن عبد الله، وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه وهاجر مع الرسول وأبي بكر إلى المدينة يخدمهما. وشهد عامر بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة. (4) مولى صفوان بن أمية أسلم قديما فربط أمية بن خلف في رجله حبلا فجرّه حتى ألقاه في الرمضاء وجعل يخنقه، فجاء أخوه أبي بن خلف فقال اده فلم يزل على ذلك حتى ظن أنه مات، فمر أبو بكر الصديق فاشتراه وأعتقه واسمه يسار. (5) كانت من السابقات إلى الإسلام وممن يعذّب في الله، وكان أبو جهل يعذّبها، وهي مذكورة في السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق وأنقذهم من التعذيب.

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «1» . وممن أعتق أبو بكر بعد شرائه: أم عنيس «2» كانت أمة لبني زهرة وكان يعذبها الأسود بن عبد يغوث. وممن عذب في الله: عمار بن ياسر وأخوه وأبوه وأمه كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: صبرا ال ياسر فموعدكم الجنة اللهم اغفر لال ياسر وقد فعلت. أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعا من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال عليه الصلاة والسلام: عمار مليء إيمانا من فرقه «3» إلى قدمه، وأنزل الله في شأنه استثناء في حكم المرتد، فقال جل ذكره في سورة النحل مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «4» . وممن أوذي في الله خبّاب بن الأرت سبي في الجاهلية فاشترته أم أنمار، وكان حدادا وكان النبي يألفه قبل النبوة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده إلا إيمانا. وجاء خباب مرّة إلى رسول الله وهو متوسد بردة «5» في ظل الكعبة فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد عليه الصلاة والسلام محمّرا وجهه فقال: إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت «6» لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه «7» . قال ذلك عليه الصلاة والسلام وهو في هذه

_ (1) اية 11. (2) وقد وردت في ابن هشام أم عبيس. (3) هو وسط الرأس وهو الموضع الذي يفرق فيه الشعر. (4) اية 106. (5) كساء أسود مربع فيه صغر تلبسه الأعراب جعلها وسادة له. (6) موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل موضع في أقصى أراضي هجر اه من ياقوت (المؤلف) . (7) رواه البخاري.

الحال الشديدة التي لا يتصوّر فيها أعقل العقلاء وأنبل النبلاء قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة اللهم الا أن ذلك وحي يوحى إليه. ثم أنزل الله تعالى تثبيتا للمؤمنين أول سورة العنكبوت الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ. وممن أوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتدّ عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برك الغماد «1» فلقيه ابن الدّغنّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القارة) فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار، فارجع وأعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يخرج مثله. أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القران فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا قد أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وأنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وأن أبى ألا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك «2» ولسنا مقرين لابي بكر الإستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فأما أن تقصر على ذلك، وأما أن ترجع إليّ

_ (1) منطقة باليمن. (2) أن ننقض العهد.

ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفزت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله (رواه البخاري) وكان ذلك سببا لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر رضي الله عنه. وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أذيّة لحقته ولكن كل ذلك ضاع سدى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل ارجاعهم، ولكن وفّقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلا. ولما رأى كفار قريش أن ذلك الأذى لم يجدهم نفعا، بل كلّما زادوا المسلمين أذى أزداد يقينهم، اجتمعوا للشورى فيما بينهم فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي من بني عبد شمس بن عبد مناف وكان سيّدا مطاعا في قومه: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا عله يقبل بعضها فنعطيه إياها، ويكف عنا، فقالوا يا أبا الوليد: فقم إليه فكلّمه. فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يا ابن أخي إنك منّا حيث قد علمت من خيارنا حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم. وعبت الهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من ابائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: فقال عليه الصلاة والسلام: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا من الجن «1» لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، وإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول سورة فصلت: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

_ (1) ما يتراءى للإنسان من الجن.

يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «1» . فأمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يكفّ عن ذلك، فلمّا رجع عتبة سألوه فقال: والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها بي، خلّوا بين الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزّه عزّكم، فقالوا: لقد سحرك محمّد، فقال: هذه رأيي «2» . ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل الله في ذلك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «3» فلا تتوهموا أني أجيبكم لطلبكم من الإشراك بالله، فأيسوا منه، وطلبوا بعد ذلك أن ينزع من القران ما يغيظهم من ذم الأوثان والوعيد الشديد، فيأتي بقران غيره أو يبدّله الله جوابا لهم في سورة يونس قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ «4» وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به، وهو أنه بينما الرسول عليه الصلاة والسلام مع كبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القران وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد الله

_ (1) اية 1- 14. (2) قال ابن اسحق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي. (3) سورة الكافرون. (4) اية 15.

بن أم مكتوم الأعمى «1» - وهو ممن أسلموا قديما- والنبي مشتغل بالقوم، وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلامهم، فقال له عبد الله: يا رسول الله علّمني مما علّمك الله وأكثر عليه القول، فشق ذلك على الرسول، وكره قطعه لكلامه، وخاف عليه الصلاة والسلام أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الأشراف فأعرض عنه فعاتبه الله على ذلك بقوله أول سورة عبس عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى «2» فما عبس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها في وجه فقير، وكان إذا أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم يقول له: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي. ولمّا رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها لا تقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب اخر، وهو تعجيز الرسول بطلب الايات، فاجتمعوا وقالوا: يا محمد إن كنت صادقا فأرنا اية نطلبها منك وهي أن تشق لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، وانشقّ القمر فرقتين، فقال رسول الله: اشهدوا، وهذه القصة رواها عبد الله بن مسعود وهو من السابقين الأولين رويت عنه من طرق كثيرة، ورواها عبد الله بن عباس وغيره، ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر «3» وقد ذكرها القران الكريم في قوله تعالى أول سورة القمر اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ فحينما رأى المعاندون هذه الاية الكبرى قال بعضهم: لقد سحركم ابن أبي كبشة فأنزل الله فيهم وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «4»

_ (1) مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هاجر إلى المدينة واستخلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة ثلاث عشر مرّة في غزواته على الصلاة فقط. وشهد فتح القادسية ومعه اللواء. قيل: إنه قتل بالقادسية شهيدا. (2) اية 1- 10. (3) وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الكفار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اية فانشقّ القمر مرتين، قال ابن عباس: انفلق القمر فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت، وقال ابن مسعود رأيت حراء بين فلقتي القمر. قال القسطلاني شارح البخاري: وهذه المعجزة من أمهات المعجزات الفائقة على سائر معجزات الأنبياء لأن معجزاتهم عليهم السلام لم تتجاوز الأرضيات. وقد ذكرت الجرائد الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان العربية التي كانت تطبع بالأستانة العلية حاصلها: أنه عثر في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه أنه بني عام كذا الذي وقع فيه حادث سماوي عظيم وهو انشقاق القمر نصفين فحرّر الحساب فوافق سنة انشقاقه لسيدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (4) سورة القمر الاية 1- 2.

ثم سألوا الرسول بعد ذلك ايات لا يقصدون بذلك إلّا التعنّت والعناد، فمنها أن قالوا كما في سورة الاسراء لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ولم يجبهم الله إلّا بقوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «1» لأن الله علم ما تكنّه جوانحهم من التعصب والعناد، فلا يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال جل ذكره في سورة الأنعام وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «2» وكيف يرجى الخير ممّن قالوا كما في سورة الانفال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا إليه، وهذه سنة من سنن الأنبياء إذا رأوا من طلاب الايات عنادا، وإنهم يطلبونها تعجيزا لا يسألون الله إنفاذ هذه الايات كيلا يحلّ بقومهم الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم، وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الإسراء وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «4» وقد حصل للمسيح عليه السلام أنه لما وقف أمام هيردوس طلب منه اية فلم يجبه إلى طلبه، فلما رأى ذلك سخر منه وردّه بيلاطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه، وذلك مذكور في الإصحاح الثالث والعشرون من إنجيل لوقا. (هذا) ولمّا رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان تحوّلوا إلى سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ كما في سورة الأنبياء «5» أما هؤلاء فازدادوا بالأذى على كل من أسلم رجاء صدّهم عن اتباع الرسول عليه السلام، ولم يتركوا بابا إلّا ولجوه، فقال عليه الصلاة السلام لأصحابه: تفرّقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم، فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.

_ (1) اية 90- 93. (2) اية 109. (3) اية 32. (4) اية 59. (5) اية 68.

هجرة الحبشة الأولى

هجرة الحبشة الأولى فعند ذلك تجهز ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم كما أشار عليه الصلاة والسلام، وهذه هي أول- هجرة من مكة، وعدة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة وهم» : عثمان بن عفّان، وزوجه رقيّة بنت رسول الله. وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وأخوه لأمه أبو سبرة ابن أبي رهم. وزوجه أم كلثوم، وعامر بن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل. وعبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن مظعون. ومصعب بن عمير، وسهيل ابن البيضاء، والزّبير بن العوام. وجلّهم من قريش «2» ، وكان عليهم فيما روى ابن هشام عثمان بن مظعون. فساروا على بركة الله، ولمّا انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا امنين من أذى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي عليه السلام إلا القليل. إسلام عمر «3» وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمر بن الخطاب العدوي القرشي «4» بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدّة أذاهم، قالت ليلى «5» : - إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها- كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلمّا ركبت بعيري أريد أن أتوجّه إلى أرض الحبشة إذا أنابه، فقال لي: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت قد اذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض الله

_ (1) في فتح الباري أن الهجرة وقعت مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، فان أول من هاجر أحد عشر رجلا وأربع نسوة. (2) وممن خرج من بني هاشم جعفر بن أبي طالب معه امرأته أسماء بنت عميش ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر. (3) عن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة وثلاثون رجلا وامرأة. ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين» . (4) ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وكان تاجرا مشهورا من أشراف قريش، وكانت إليه السفارة في الجاهلية. وكان إسلامه في السنة السادسة من النبوّة، وسمّاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفاروق، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وطعن عمر يوم الأربعاء سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور. (5) أسلمت قديما وبايعت، كانت من المهاجرات الأول، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، يقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة.

رجوع مهاجري الحبشة

حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال ترجين أن يسلم والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب! وذلك لما كان يراه من قسوته وشدّته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعز الإسلام بعمر «1» وكان إسلامه في دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقّق الله بإسلامه ما رجاه عليه الصلاة والسلام، فقد قال عبد الله بن مسعود من رواية البخاري (ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر) فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلاته في المسجد ففعل، وقد أدرك الكفار كابة شديدة حينما رأوا عمر أسلم، وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه، فجاء العاص بن وائل السّهمي (وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر) وعليه حلّة حبرة «2» وقميص مكفوف بحرير، فقال لعمر: ما بالك؟ فقال: زعم قومك أنهم سيقتلونني ان أسلمت. قال: لا سبيل إليك فأنا لك جار، فأمن عمر. وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فرجع الناس من حيث أتوا «3» . رجوع مهاجري الحبشة وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلوا العدد- وفي الكثرة بعض الأنس- وأضف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.

_ (1) ولفظه (اللهم أعز الإسلام) بأحب الرجلين، بأبي جهل أو بعمر، فكان أحبهما إليه عمرا رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه ابن حبان وفي اسناده خارجة بن عبد الله صدوق فيه مقال، وكان له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي أيضا، ومن حديث أنس وروى أحمد نحوه، ورواه الحاكم بلفظ، أيد بدل: أعز، فأخرجه الحاكم، وصححه من نافع عن ابن عمر عن ابن عباس رفعه (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة) ، وأخرجه ابن ماجة وابن حبان وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي من حديث عائشة والرواية الجارية على الألسنة، بأحب العمرين لا أصل لها في شيء من طرق الحديث. (2) أي بردة مخططه بالوشي، وهو النقش. (3) رواه البخاري.

وقد أولع بعض المؤرّخين بحكاية يجعلونها سببا في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلّم فيها كلاما حسنا عن الهتهم حيث قال بعد أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» تلك الغرانيق «جمع غرنوق وهي الطيور ويراد بها الملائكة» «2» العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، فسجدوا إعظاما لذلك وفرحا. وهذا ممّا لا تجوز روايته إلّا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته. وها نحن أولاء نسوق لك أدلّة النقل والعقل على بطلان ما ذكر. أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفاء: لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسند سليم «3» ، وأمّا المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحا أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فالكلام غير منتظم. ولو كان ذلك قد حصل لاتّخذه الكفار عليه حجّة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم

_ (1) اية 19- 20. (2) المراد بالغرانيق: الأصنام وهي في الأصل: الذكور من طير الماء وقد شبهوا أصنامهم بالغرانيق وهي الطيور التي تعلو في السماء وترتفع. وكيف يسجد محمد لصنم، ويثني على صنم، ويفتري على الله الكذب؟ أيخفى على محمد- وقد هداه القران- حقيقة الكفر وألفاظ الكفر ويعبث الشيطان به؟ .. وقد عصمه الله عن كل هذه الترهات. (3) سئل محمد بن اسحق بن خزيمة عن هذه القصة فقال هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا. وقال الإمام البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. قال القاضي أبو بكر بن العلاء المالكي: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب روآياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته بعد ما أتى باختلاف الروايات ثم قال ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين ولم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيها حديث شعبة عن أبي بشر من سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فيما أحسب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بمكة وذكر القصة. قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبه إلا أمين بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فقد بين لك أبو بكر أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه- كما ذكرنا- الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه- وأما حديث الكلبي فمما لا يجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار. ويقول الرازي في تفسيره: هذه القصة باطلة وموضوعة ولا يجوز القول بهما. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.

في سورة البقرة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها «1» : ولكن لم يسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: مالك ذممت الهتنا بعد أن مدحتها. وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مهج الرجال. على أن المؤرّخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سببا لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال. ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها، لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابة بعد ذلك إن قلنا: أن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منّ علينا بحفظ كتابنا المجيد، الذي يحكم بيننا وبين كل مفتر كذّاب ففي السورة نفسها وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «2» والذي يلقيه الشيطان من أقبح ما يروى، فكيف يقوله عليه الصلاة والسلام أو يجري على لسانه مما يثبت الشكوك في الوحي؟ الأمر الذي يريده السفهاء ردّ الله كيدهم في نحرهم. والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد الله بن مسعود «أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ والنجم، فسجد، وسجد من كان معه إلّا رجلا «3» أخذ كفا من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قتل بعد كافرا» «4» ، وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: «فرأيته قتل بعد كافرا» أنه كان مسلما ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحمّلوا الأذى، فكفروا منهم: علي بن أمية بن خلف. هذا ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن

_ (1) اية 142. (2) سورة النجم اية 3. (3) فبعض الناس يقول إنما الذي رفع التراب وسجد عليه الوليد، وبعضهم يقول: أبو أحيحة سعيد بن العاص، وبعضهم يقول كلاهما فعل ذلك. والظاهر حسب قول المؤلف أبو أحيحة لأن الوليد لم يسلم بل عاش طول حياته كافرا ومات كافرا. (4) رواه البخاري.

كتابة الصحيفة

من الدخول إليها إلّا من وجد له مجيرا، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم ير أن يكون مرتاحا وإخوانه يعذبون «1» . كتابة الصحيفة ولمّا ضاقت الحيل بكفار قريش عرضوا على بني عبد مناف الذين منهم الرسول عليه الصلاة والسلام دية مضاعفة ويسلمونه فأبوا عليهم ذلك، ثم عرضوا على أبي طالب أن يعطوه سيدا «2» من شبابهم يتبناه، ويسلّم إليهم ابن أخيه، فقال: عجبا لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف وإخراجهم من مكة، والتضييق عليهم، فلا يبيعونهم شيئا، ولا يبتاعون منهم حتى يسلّموا محمدا للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف الكعبة «3» ، فانحاز بنو هاشم- بسبب ذلك في شعب أبي طالب، ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب، فإنه كان مع قريش، وانخزل عنهم بنو عمّيهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر «4» ، وكان أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدّمة المانعين أبو لهب. هجرة الحبشة الثانية وبعد دخول الرسول وقومه الشّعب أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضا على الاغتراب، فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشر امرأة، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجه

_ (1) جميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا. (2) ذكر ابن اسحاق أنه عمارة بن الوليد. (3) قال السهيلي وللنسابة من قريش في كاتب الصحيفة قولان، أحدهما أن كاتب هذه الصحيفة هو بغيض ابن عامر والقول الثاني أنه منصور بن عبد شرحبيل وهو خلاف قول ابن اسحاق. (4) وفي رواية يونس أن سعدا قال: خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء، فقويت بها ثلاثا.

نقض الصحيفة

أسماء بنت عميس، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، وعبيد الله بن جحش، وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتوجّه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون: أبو موسى وبنو عمه «1» . ولما رأت قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليسلّم المسلمين، فرجعا شرّ رجعة، ولم ينالا من النجاشي إلّا إهانة لما خاطبوه به من اخفار ذمته في قوم لاذوا به، أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريبا من ثلاث سنوات في شدّة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلّا خفية. نقض الصحيفة وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وهو أعظمهم في ذلك بلاء، وزهير ابن أبي أميّة المخزومي ابن عمة الرسول عاتكة، والمطعم بن عديّ النوفلي، وأبو البختريّ ابن هشام الأسدي، وزمعة بن الأسود الأسدي، واتفقوا على ذلك ليلا، فلمّا أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة، فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يبيعون ولا يبتاعون! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال أبو جهل: كذبت، فقال زمعة لأبي جهل: أنت والله أكذب! ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، وصدّق على ما قيل هشام بن عمرو، فقام إليها المطعم بن عدي فشقها، وكانت الأرضة قد أكلتها فلم يبق فيها إلّا ما فيه اسم الله «2» ، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر، فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه الشدة «3» .

_ (1) رواه البخاري. (2) يقول الحافظ في نفس المكان أيضا عما أكلته الأرضة من الصحيفة: أيضا أما ابن اسحاق وموسى بن عقية وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعه قال البرهان ما حاصله: وهذا أثبت من الأول راجع شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 290. (3) قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي طالب: يا عم، إن ربي الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلّا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان، فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فو الله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش، فقال يا

وفود نجران

وفود نجران وقد وفد على الرسول بعد الخروج من الشّعب وفد من نصارى نجران «1» بلغهم خبره من مهاجري الحبشة، فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم، وكانوا عشرين رجلا أو قريبا من ذلك، فقرأ عليهم القران فامنوا كلّهم، فقال لهم أبو جهل «2» : ما رأينا ركبا أحمق منكم أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم! فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لكم ما أنتم عليه ولنا ما أخترناه، فأنزل الله في ذلك في سورة القصص «3» الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «4» . وقد كان أهل مكة حينما عجزوا عن أمر رسول الله ولم يتمكّنوا من مقارعة الحجة بالحجة رموه بالسحر مرّة وبالكذب أخرى، وبالجنون طورا وبالكهانة تارة، كل ذلك شأن العاجز المعاند الذي لا يستحي لمزيد عناده أن يقول: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «5» .

_ معشر قريش، ان ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا وأنزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرّهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا. (1) بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة. (2) ورد في سيرة ابن هشام فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله في ركب: بعثكم من ورائكم من أهل دنيكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال: ما نعلم ركبا أحمق منكم. (3) الاية 52- 55. (4) قال ابن اسحق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الايات فيمن أنزلن فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهنّ أنزلن في النجاشي وأصحابه. والاية من سورة المائدة من قوله (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) إلى قوله: (فاكتبنا مع الشاهدين) . (5) سورة الانفال الاية 32.

وفاة خديجة رضي الله عنها

وفاة خديجة رضي الله عنها «1» وبعد خروجه عليه السلام من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها، كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يذكرها ويترحّم عليها، ولا غرابة فهي أوّل نفس زكية صدّقت رسول الله فيما جاء به عن ربّه، وقد جاء منها بأولاده كلّهم ما عدا إبراهيم «2» ، فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوّجها في الجاهلية أبو العاص بن الربيع «3» ، وأعقب منها أمامة التي تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة «4» ، ومنها رقية «5» وأم كلثوم تزوجهما عثمان، الأولى بمكة قبل الهجرة، وهاجر بها إلى الحبشة، والثانية بالمدينة بعد أن ماتت أختها، ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها علي بن أبي طالب، وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغارا، ولم يعش بعد رسول الله من أولاده إلّا فاطمة عاشت بعده قليلا. ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله حزنا شديدا لما كانت عليه من الرّقة لرسول الله ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد، ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله الملقب بالطّيب والطّاهر. زواج سودة وعقد عليه الصلاة والسلام في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سودة بنت

_ (1) توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام في شهر رمضان ولها خمس وستون سنة وكان مقامها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تزوّجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ودفنها بالحجون وحزن عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم ونزل في حفرتها. (2) هو من زوجته مارية وتوفي وعمره سبعة عشر شهرا فلما مات دمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر النبي بدفن إبراهيم في البقيع وصلى عليه وكبر عليه أربع تكبيرات ولما دفن أمر برش قربة ماء على قبره. (3) هو ابن خالة خديجة ثم لم يتفق أنه أسلم إلّا بعد الهجرة، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، ولما هاجرت زينب كانت تحت أبي العاص على دينه. قدم المدينة مهاجرا ومات في خلافة أبي بكر. (4) تلقب بالزهراء وكانت أصغر بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحبهن إليه، وتزوجها علي بعد عائشة بأربعة أشهر وانقطع نسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا من فاطمة، وهي أول أهل بيت رسول الله لحوقا به، وقد عاشت بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر، وقد أوصت عليا أن يغسلها هو وأسماء بنت عميس وقد صلّى علي عليها، ودفنها بليل بالبقيع. (5) تزوّجها عثمان وهاجر بها إلى الحبشة، فولدت له عبد الله، فكان يكنى به، ومرضت بالمدينة لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بدر فتخلف عليها عثمان، ولما ماتت رقية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إلحقي بسلفنا عثمان بن مظعون» ، وهي أكبر بناته صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب.

زواج عائشة رضي الله عنها

زمعة العامرية القرشية «1» بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمّها السكران بن عمرو، وقد كانت امنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرّة الثانية خوف الفتنة، وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها، فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بزوج رجل امن به، ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها، وكرم نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقلّ منها نسبا وشرفا. زواج عائشة رضي الله عنها وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج عليه السلام بكرا غيرها، ودخل عليها بالمدينة أما سودة فدخل عليها بمكة. وبعد وفاة خديجة بنحو شهر توفي عمه أبو طالب الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يكذّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى اخر لحظة من حياته، وفيه نزل في سورة القصص إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «2» . ولكن لأعماله العظيمة التي عملها مع رسول الله نرجو أن يخفف عنه «3» . وعدم إسلامه هو وغالب أقارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيه من الحكمة ما لا يخفى. فإنهم لو بادروا باتّباعه لقيل: قوم يطلبون سيادة وفخرا ليسا لهم فجاؤوا بهذا الأمر المفترى، ولكن لما رأى المعاندون أن متّبعيه هم الغرباء عنه الذين ليسوا من عشيرته بل من أعدائها أحيانا كعثمان بن عفان من بني أمية، لم يكن عندهم أدنى حجة يقيمونها، اللهم إلّا

_ (1) كانت أول امرأة تزوجها بعد خديجة، فبنى بها بمكة، وكان بها حدة وكانت تضحكه بالشيء أحيانا، وكانت زاهدة في الدنيا، وتوفيت في اخر زمان عمر بن الخطاب. (2) اية 56. قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها خشية أن تعيره قريش عليها. وقد ربى الرسول صغيرا. فالمشهور أنه مات كافرا. وكان له من الولد جعفر وعلي وعقيل وطالب وأم هانئ واسمها فاختة وجمانة، وكلهم أعقب إلّا طالبا، وكان أبو طالب أعرجا، وتوفي بعد النبوة بعشر سنين، وقبل الهجرة بثلاث سنين بالغا من العمر نحو ثمانين سنة. (3) رواه البخاري باب قصة أبي طالب قال العباس للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أغنيت عن عمك، فإن كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار «والضحضاح، ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، واستعير للنار هنا.

هجرة الطائف

دعاويهم الكاذبة التي كانوا يتمسّكون بها حينما تصدعهم الحجة من قولهم: ساحر يفرّق بين المرء وزوجه وكاهن يتكهن بالغيب. وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه. «عام الحزن» . ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب. واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التّراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلّقت به كفار قريش مرّة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الالهة إلها واحدا؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلّصه منهم لما هم عليه من الضعف إلّا أبو بكر فإنه تقدم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟!. هجرة الطائف فلمّا رأى عليه الصلاة والسلام استهانة قريش به أراد أن يتوجّه إلى ثقيف بالطائف «1» يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤوله «2» فإنّ أم هاشم بن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سليم بن منصور وهم حلفاء ثقيف. فلما توجّه إليهم ومعه مولاه زيد بن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثة: عبد يا ليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير الثقفي. فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته فردّوا عليه ردا قبيحا ولم ير منهم خيرا. وحينذاك طلب منهم ألايشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتد أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم، فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم عليه الصلاة والسلام بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه. وكان زيد بن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرم واستظل بها، وكانت بجوار بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان، فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلا (اللهم اني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، إلى من تكلني؟ إلى

_ (1) بلدة في الحجاز على مسافة 65 ميلا جنوب شرقي مكة وهي مشهورة بجودة مناخها وفواكهها ومياهها الجارية ويطل عليها جبل غزوان وهي مصيف مكة وهي أبرد مكان في الحجاز. (2) لأنهم كانوا أخواله، ولم يكن بينه وبينهم عداوة.

عدو يتجهّمني «1» أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا عليّ فلا أبالي غير أنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظّلمات وصلح عليه أمر الدّنيا والاخرة، ان تحلّ عليّ غضبك أو تنزل عليّ سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك) «2» . فلما راه ابنا ربيعة رقّا له وأرسلا إليه بقطف من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه عدّاس، فلما ابتدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل قال: (بسم الله الرّحمن الرّحيم) فقال عداس: هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال عليه الصلاة والسلام: من أي البلاد أنت وما دينك؟ فقال: نصراني من نينوى «3» ، فقال له عليه الصلاة والسلام: من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ قال: وما علمك بيونس؟ «4» فقرأ له من القران ما فيه قصة يونس، فلمّا سمع ذلك عداس أسلم، وأتى جبريل برسالة من الله جلّ ذكره، وقال: إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه معك فقال عليه الصلاة والسلام (اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون) فقال جبريل: صدق من سمّاك الرؤوف الرحيم «5» . ولما كان بنخلة «6» وفد عليه نفر من الجن يستمعون القران وهم ممّن ينتمون إلى موسى صلوات الله عليه، فلمّا سمعوه أنصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين وأبلغوهم خبر رسول الله وفيهم نزل في سورة الأحقاف وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا

_ (1) أي بلقاني بغلظة ووجه كريه. (2) رواه الطبراني: والنص أخذ من كتاب الجامع الصغير للسيوطي بلفظه. (3) بلد على شاطئ دجلة وهي اخر ما ينتهي إليه العراق وأمامها مدينة الموصل (المؤلف) . (4) تتمة القصة: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك أخي كان نبيّا وأنا نبي فأكبّ عداس على رسول الله صلّى الله عليه يقبل رأسه ويديه وقدميه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه. أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه. (5) وفي الصحيحين ما خلاصته أن الله أرسل ملك الجبال مع جبريل، فقال ملك الجبال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله قد بعثني إليك لتأمرني بما شئت. فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين) لفعلت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله واحده ولا يشرك به شيئا» . (6) موضع على بعد ليلة من مكة.

الاحتماء بالمطعم بن عدي

بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» وقد قصّ الله قصة الجن بعبارة أطول في سورة سميت باسمهم أولها قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً «2» . الاحتماء بالمطعم بن عديّ ولما رجع عليه السلام من الطائف هكذا لم يتمكّن من دخوله مكة لما علمه كفار قريش من أنه توجّه إلى الطائف يستنصر بأهليها عليهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف يخبره أنه سيدخل مكة في جواره فأجاب إلى ذلك «3» ، وتسلّح هو وبنوه وتوجّهوا مع رسول الله إلى المطاف، فقال له بعض المشركين: أمجير أنت أم تابع؟ فقال: بل مجير، قالوا: إذا لا تخفر ذمتك. وفد دوس وقدّم على رسول الله وهو بمكة الطّفيل بن عمرو الدّوسي «4» من قبيلة دوس عشيرة أبي هريرة الصحابي الشهير، وكان الطفيل شريفا في قومه شاعرا نبيلا، فلما قرأ عليه القران أسلم «5» ، فقال له رسول الله اذهب إلى قومك فادعهم إلى

_ (1) من 29 إلى 32. (2) الاية من 1- 2. (3) وفي الطبري ما خلاصته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طلب أن يجيره الأخنس بن شريق وسهيل بن عمرو ومطعم بن عدي فرفض الأولان وقبل الأخير فدخل يوما المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة فلما راه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني مناف. قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك؟ فأخبر بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم أو سمعه فأتاهم فقال: أما أنت يا عتبة بن ربيعة فو الله ما حميت لله ولا لرسوله ولكن حميت لأنفك. وأما أنت يا أبا جهل فو الله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا. وأما أنتم يا معشر الملأ من قريش فو الله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون. (4) يلقب ذا النون أسلم وصدق النبي بمكة ثم رجع إلى قومه فلم يزل مقيما بها حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بخيبر بمن تبعه من قومه فلم يزل مقيما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قبض صلّى الله عليه وسلّم، ثم كان مع المسلمين حتى قتل باليمامة شهيدا، وجرح ابنه ثم قتل باليرموك بعد ذلك في زمن عمر بن الخطاب. (5) وفي سيرة ابن هشام وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام

الاسراء والمعراج

الإسلام، ودعا لهم رسول الله فقال: اللهمّ اهد دوسا «1» ، فتوجّه إليهم الطفيل ودعاهم فامن بدعوته كثير منهم. وستأتي وفادته على الرسول مرّة ثانية بقومه في المدينة. الاسراء والمعراج «2» وقبل الهجرة أكرمه الله بالإسراء والمعراج، أمّا الإسراء فهو توجّهه ليلا إلى بيت المقدس بإيلياء ورجوعه من ليلته، وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي، وقد قال جمهور أهل السنة: أن ذلك كان بجسمه الشريف «3» ، وكانت عائشة رضي الله عنها تمنع رؤية رسول الله ربّه، وتقول: من قال: إنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله، «4» والإسراء مذكور في القران الكريم قال تعالى في

_ فادع الله أن يجعل لي اية تكون لي عونا فيما أدعوهم إليه فقال: اللهم اجعل له اية. قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت: اللهم في غير وجهي اني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراق دينهم. قال: فتحول فوقع في رأس سوطي قال: فجعل الحاضرون يتراؤون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلّق وأنا أهبط إليهم من الثّنية، قال: حتى جئتهم فأصبحت فيهم. هذا الكلام رواه الطبري. (1) رواه الشيخان. (2) كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وبه جزم ابن حزم في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب وهو المشهور وعليه عمل الناس وكان ليلة الاثنين وكان بعد خروجه إلى الطائف قال القاضي أبو بكر بن العربي: إن الإسراء كان مرتين، أحدهما، كان في نومه وتوطئة له وتيسيرا عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة، ليسهل عليه أمر النبوة فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهله عليه بالرؤيا، لأن هو له عظيم فجاءه في اليقظة على توطئة وتقدمة رفقا من الله بعبده وتسهيلا عليه. (3) يقول الإمام الشوكاني: وقد اختلف أهل العلم: هل كان الإسراء بجسده مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأولى، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم. منهم عائشة ومعاوية والحسين وابن اسحاق وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان، وذهبت طائفة إلى التفصيل، فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح واستدلوا على هذا التفصيل بقوله: إلى المسجد الأقصى، فجعله غاية للإسراء بذاته. فلو كان الإسراء من بيت المقدّس إلى السماء وقع بذاته لذكره، والذي دلّت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس، ثم إلى السماوات، ولا حاجة إلى التأويل. (4) روي عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب رضي الله عنهما وكان الحسن رحمه الله يحلف على ذلك ومن القائلين بالرؤية أيضا ابن مسعود وأحمد بن حنبل وجماعة من الصحابة. قال النووي في شرح صحيح مسلم بإيجاز: الأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات، ولا يقدح في حديث عائشة رضي الله عنها وإذا صحّت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فيقدم الإثبات على النفي، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس.

أول سورة الاسراء سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وأمّا المعراج فقد ورد في صحيح السنة وأصح أحاديثه ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في شفائه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتيت بالبراق (وهو دابّة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدّس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة «1» ، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا بادم فرحّب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى بن مريم فرحبا بي ودعوا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول، ففتح لنا وإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. قال تعالى في سورة مريم وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «2» ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فذكر مثله، فإذا أنا بهارون فرحّب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فذكر مثله، فإذا أنا بموسى فرحّب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه «3» ، ثم

_ (1) الإسلام. (2) اية 57. (3) روى ابن سنجر عن علي- رحمه الله- قال: البيت المعمور بيت في سماء السابعة يقال له الضرّاح وروى ابن سنجر أيضا من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بجبال مكة.

ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا أوراقها كاذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال «1» فلما غشيها من أمر ربي ما غشيها تغيّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إليّ ما أوحي، ففرض عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فسله التّخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربي وقلت له: يا ربي خفّف عن أمتي فحطّ عني خمسا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حطّ عني خمسا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تعالى وبين موسى حتى قال سبحانه: يا محمد إنهنّ خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئا، ومن همّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه» . ثم رجع عليه الصلاة والسلام من ليلته، فلما أصبح إلى نادي قريش فجاء إليه أبو جهل بن هشام فحدّثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما جرى له فقال أبو جهل: يا بني كعب بن لؤي هلمّوا، فأقبل عليه كفار قريش، فأخبرهم الرسول الخبر، فصاروا بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتدّ ناس ممّن كان امن به من ضعاف القلوب، وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمّي من ذلك اليوم صدّيقا، ثم قام الكفار يمتحنون رسول الله فسألوه نعت بيت المقدّس وفيهم رجال رأوه، أما رسول الله فلم يكن راه قبل ذلك فجلّاه الله له فصار يصفه لهم بابا بابا وموضعا موضعا «2» ، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فأخبرنا عن عيرنا، وكانت لهم عبر قادمة من الشام، فأخبرهم بعدد جمالها

_ (1) مراده أن ثمرها في الكبر كالجرار التي توضع بها وكانت معروفة عند المخاطبين. ورد في نيل الأوطار للإمام الشوكاني: وأما التقييد بقلال هجر، فلم يثبت إلا من رواية المغيرة بن صقلاب عند ابن عدي، وهو منكر الحديث. قال النفيل لم يكن مؤتمنا على الحديث، وقال ابن عدي لا يتابع على عامة حديثه ج 1 ص 31. (2) رواه البخاري.

العرض على القبائل

وأحوالها، وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق «1» فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت، فقال اخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، فلم يزدهم ذلك إلّا كبرا وعنادا، حتى قالوا: هذا سحر مبين، وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلّم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها: فيصلي ركعتين إذا ظهر الفجر، وأربع ركعات إذا زالت الشمس، ومثلها إذا ضوعف ظلّ الشيء، وثلاثا إذا غربت، وأربعا إذا غاب الشفق الأحمر. وكان عليه الصلاة والسلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثلهما مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام. العرض على القبائل ولما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه يجد من قريش منعه من تأدية الرسالة وتسلّط الكبر والعظمة على قلوبهم، أراد الله أن يظهر أمر الدين على أيدي غيرهم من العرب، فكان عليه الصلاة والسلام يخرج في المواسم العربية (وهي أسواق كانت العرب تعقدها للتجارة والمفاخرة) «2» ويعرض نفسه على القبائل ليحموه حتى يؤدي رسالة ربه، فكان بعضهم يردّ ردّا جميلا. واخرون ردا قبيحا. وكان من أقبح القبائل ردا بنو حنيفة «3» (رهط مسيلمة الكذاب) ، وطلب منه بنو عامر إن هم آمنوا به أن يجعل لهم أمر الرياسة من بعده، فقال لهم: الأمر لله يضعه حيث يشاء، وكان من الذين يحجّون البيت عرب يثرب (وهي مدينة بين مكة والشام) يقطنها قبيلتان: إحداهما من ولد الأوس. والثانية من ولد الخزرج (وهما أخوان) وكان بين أولادهما من العداوة ما يجعل الحرب لا تضع أوزارها بين الفريقين، فكانوا دائما في شقاق ونزاع، وكان يجاورهم في المدينة أقوام من اليهود وهم بنو قينقاع، وبنو قريظة وبنو النّضير وكان لهم الغلبة على يثرب أولا، فحاربهم العرب حتى صاروا ذوي النفوذ فيها والقوّة، وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على أعدائهم باسم نبي يبعث قد قرب زمانه. ولما اختلفت كلمة العرب فيما بينهم

_ (1) الذي لونه بين الغبرة والسواد. (2) وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز، وكانت العرب إذا حجت بعكاظ شهر شوال ثم بمجنة عشرون يوما وأيام الحج بذي مجاز. (3) كما جاء في الحديث شر قبائل العرب بنو حنيفة.

بدء إسلام الأنصار

وشقت عصا الألفة حالفوا اليهود على أنفسهم، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع واخر الأيام بينهم يوم بعاث قتل فيه أكثر رؤسائهم ولم يبق إلّا عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج، وأبو عامر الراهب من الأوس، ولذلك كانت عائشة تقول: كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد خطر ببال رؤساء الأوس أن يحالفوا قريشا على الخزرج، فأرسلوا إياس بن معاذ وأبا الحيسر أنس بن رافع مع جماعة يلتمسون ذلك الحلف في قريش، فلما جاؤوا مكة جاءهم رسول الله وقال: هل لكم في خير مما جئتم له أن تؤمنوا بالله واحده ولا تشركوا به شيئا، وقد أرسلني الله إلى الناس كافة، ثم تلا عليهم القران، فقال إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله خير مما جئنا له، فحصبه أبو الحيسر وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا فسكت. بدء إسلام الأنصار ولما جاء الموسم تعرّض رسول الله لنفر منهم يبلغون الستة، وكلّهم من الخزرج وهم أسعد بن زرارة «1» ، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك من بني زريق، وقطبة بن عامر من بني سلمة، وعقبة بن عامر من بني حرام، وجابر بن عبد الله من بني عبيد بن عدي، ودعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه، فقال بعضهم لبعض: إنه للنّبيّ الذي كانت تعدكم به يهود فلا يسبقنّكم إليه، فامنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنّا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل، وهذا هو بدء الإسلام لعرب يثرب. العقبة الأولى «2» فلمّا كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجلا، منهم عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، ورافع بن مالك،

_ (1) كنيته أبو أمامة، وكان نقيبا شهد العقبة الأولى والثانية ومات قبل بدر في السنة الأولى من الهجرة ودفن بالبقيع وهو أول مدفون به من الأنصار. (2) هي العقبة التي تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة وهي على يسار القاصد منى من مكة، وذلك سنة اثنتي عشرة من النبوة (621 م) .

وذكوان بن قيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة، وعقبة ابن عامر، وقطبة بن عامر، وهؤلاء من الخزرج وأبو الهيثم بن التّيهان، وعويم بن ساعدة وهما من الأوس، فاجتمعوا به عند العقبة، وأسلموا وبايعوا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب على ألّا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وفّوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئا فأمرهم إلى الله عزّ وجلّ إن شاء غفر وإن شاء عذب «1» ، وهذه هي العقبة الأولى. فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير العبدري «2» وعبد الله ابن أم مكتوم- وهو ابن خالة خديجة- يقرانهم القران، ويفقهانهم في الدين، ونزل مصعب على أحد المبايعين أبي أمامة أسعد بن زرارة وصار يدعو بقية الأوس والخزرج للإسلام. وبينما هو في بستان مع أسعد بن زرارة إذ قال سعد بن معاذ «3» رئيس قبيلة الأوس، لأسيد بن حضير «4» ابن عم سعد: ألا تقوم إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفّهان ضعفاءنا لتزجرهما، فقام لهما أسيد بحربته، فلمّا راه أسعد قال لمصعب: هذا سيّد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، فلما وقف عليهما قال: ما جاء بكما تسفّهان- ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وان كرهته كففنا عنك ما تكره، فقرأ عليه مصعب القران فاستحسن دين الإسلام، وهداه الله له فتشهد ورجع إلى سعد، فسأله عمّا فعل فقال: والله ما رأيت بالرجلين بأسا، فغضب سعد وقام لهما متغيظا، ففعل معه مصعب كسابقه فهداه الله للإسلام، ورجع لرجال بني عبد الأشهل (وهم بطن من الأوس) فقال لهم: ما تعدّونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا. قال:

_ (1) هذا حديث رواه البخاري وأوّله عن عبادة عن الصامت: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة الأولى الحديث. (2) أحد السابقين إلى الإسلام يكنى أبا عبد الله أسلم قديما والنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الأرقم وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه فعلمه عثمان بن طلحة فأعلم أهله فأوثقوه فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة وشهد بدرا ثم شهد أحدا ومعه اللواء فاستشهد. (3) يكنى أبا عمر شهد بدرا وأحدا والخندق ورمي يوم الخندق بسهم فعاش شهرا ثم انتقض جرحه وتوفي سنة خمس من الهجرة. (4) يكنى أبا يحيى، وكان من السابقين إلى الإسلام اخاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع زيد بن حارثة وكان ممن ثبت يوم أحد وجرح حينئذ سبع جراحات وتوفي على أثرها.

العقبة الثانية

كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تسلموا، فلم يبق بيت من بيوت بني عبد الأشهل إلّا أجابه، وقد انتشر الإسلام في دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث إلّا أمر الاسلام. العقبة الثانية ولما كان وقت الحجّ في العام الذي يلي البيعة الأولى، قدم مكّة كثيرون منهم يريدون الحجّ وبينهم كثير من مشركيهم، ولما قابل وفدهم رسول الله، واعدوه المقابلة ليلا عند العقبة، فأمرهم ألاينبّهوا في ذلك الوقت نائما، ولا ينتظروا غائبا، لأن كل هذه الأعمال كانت خفية من قريش كيلا يطّلعوا على الأمر، فيسعوا في نقض ما أبرم، شأنهم مع رسول الله في أول أمره. ولما فرغ الأنصار من حجّهم توجّهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم عمّن معهم من المشركين، وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، فكانوا يتسلّلون الرجل والرجلين حتى تمّ عددهم ثلاثا وسبعين رجلا، منهم اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر من الأوس، ومعهم امرأتان وهما نسيبة بنت كعب من بني النجار، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة ووافقهم رسول الله هناك وليس معه إلّا عمه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه، ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه ليكون متوثقا له، فلمّا اجتمعوا عرّفهم العباس بأن ابن أخيه لم يزل في منعة من قومه حيث لم يمكّنوا منه أحدا ممن أظهر له العداوة والبغضاء وتحمّلوا من ذلك أعظم الشدّة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك وإلّا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم. فقال كبيرهم المتكلّم عنهم البراء ابن معرور «1» : والله لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مهجنا دون رسول الله، وعند ذلك قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خذ لنفسك ولربك ما أحببت. فقال: اشترط لربي أن تعبدوه واحده ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم.

_ (1) يكنى أبو بشر وهو أحد النقباء ليلة العقبة الأولى وكان سيد الأنصار وكبيرهم وهو أول من استقبل الكعبة للصلاة إليها، وأوّل من أوصى بثلث ماله، مات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما حضره الموت قال لأهله: استقبلوا بي الكعبة.

هجرة المسلمين إلى المدينة

فقال له أبو الهيثم ابن التيهان «1» : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم عليه الصلاة والسلام، وقال: بل الدّم الدّم والهدم الهدم، أي: ان طالبتم بدم طالبت به وأن أهدرتموه أهدرته. وحينذاك ابتدأت المبايعة وهي العقبة الثانية، فبايعه الرجال على ما طلب، وأول من بايع أسعد بن زرارة وقيل البراء بن معرور، ثم تخير منهم اثني عشر نقيبا لكل عشيرة منهم واحد تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس وهم أبو الهيثم بن التّيّهان، وأسعد بن زرارة، وأسيد بن حضير، والبراء بن معرور، ورافع بن مالك وسعد بن أبي خيثمة «2» ، وسعد بن الربيع، وسعد بن عبادة «3» ، وعبد الله بن رواحة «4» ، وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت «5» ، والمنذر بن عمرو، ثم قال لهم: أنتم كفلاء على قومكم، ككفالة الحواريّين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، ولأمر ما أراده الله بلغ خبر هذه البيعة مشركي قريش، فجاؤا ودخلوا شعب الأنصار وقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم لصاحبنا تخرجونه من أرضنا، وتبايعونه على حربنا «6» ؟ فأنكروا ذلك، وصار بعض المشركين الذين لم يحضروا المبايعة يحلفون لهم أنهم لم يحصل منهم شيء في ليلتهم وعبد الله بن أبيّ كبير الخزرج يقول: ما كان قومي ليفتاتوا «7» عليّ بشيء من ذلك. هجرة المسلمين إلى المدينة ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام أكثر من المرة الأولى. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوما

_ (1) التيهان لقبه واسمه مالك وهو مشهور بكنيته اخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين عثمان بن مظعون وشهد المشاهد كلها وكان أول من بايع وقد مات سنة عشرين. (2) شهد بدرا فقتل بها شهيدا. (3) كان سيدا جوادا، وهو صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها وكان غيورا شديد الغيرة سار إلى الشام فمات في حوران سنة خمس عشرة (4) شهد بدرا والمشاهد كلها إلا الفتح وما بعدها وقتل يوم مؤتة. (5) شهد بدرا والمشاهد كلها، وقد جمع القران في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يعلم أهل الصفة القران، وهو أول من ولي قضاء فلسطين، توفي سنة أربع وثلاثين بالرملة، وهو ابن اثنين وسبعين سنة. (6) تتمتها وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب. بينا وبينهم منكم. (7) أي: لا يفوت

دار الندوة

عليهم، فأمر عليه الصلاة والسلام جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يتسلّلون خيفة قريش أن تمنعهم. وأول من خرج أبو سلمة المخزومي زوج أم سلمة «1» ومعه زوجه، وكان قومها منعوها منه، ولكنهم أطلقوها بعد فلحقت به «2» ، وتتابع المهاجرون فرارا «3» بدينهم ليتمكّنوا من عبادة الله الذي امتزج حبّه بلحمهم ودمهم، حتى صاروا لا يعبؤون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن ابائهم وأبنائهم ما دام في ذلك رضى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. ولم يبق منهم إلّا أبو بكر وعلي وصهيب وزيد بن حارثة، وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكّنهم حالهم من الهجرة، وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصلاة والسلام: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر «4» استعدادا لذلك. دار الندوة أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمسّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذّود عنه حتى الموت، فاجتمع رؤساؤهم «5» وقادتهم في دار الندوة (وهي دار قصيّ بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلّا فيها) يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خافوه، فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرفض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال اخر: نوثقه ونحبسه حتى يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموت. فرفض هذا الرأي كسابقه لأنهم قالوا: إن الخبر لا يلبث أن يبلغ أنصاره، ونحن أدرى الناس بمن دخل دينه حيث يفضّلونه على الاباء

_ (1) أخو المصطفى من الرضاعة وهو أول من يعطى كتابه بيمينه. (2) راجع سيرة ابن هشام فلها قصة طويلة. (3) وهم باختصار عامر بن ربيعة من امرأته ليلى ثم عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد الضرير فقد نزلوا على مبشر عبد المنذر بقباء ثم قدم المهاجرون أرسالا (4) الشجر (5) وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل، طعيمة بن عدي، وجبير ابن مطعم. والحارث بن عامر. ومن بني عبد الدار النضر بن الحارث، ومن بني أسد: أو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بني جمح: أمية بن خلف.

هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

والأبناء، فإذا سمعوا ذلك جاؤوا لتخليصه وربما جرّ هذا من الحرب علينا ما نحن في غنى عنه. وقال لهم طاغيتهم «1» : بل نقتله. ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شابا جلدا يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن ارادة الله فوق كل إرادة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «2» فأعلم نبيّه بما دبّره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم العزّة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكّة لقال المبغضون: إن قريشا أرادوا ملك العرب، فعمدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أن يدّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل ماربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدّاء اذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم. هجرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم «3» فتوجّه من ساعته إلى صديقه أبي بكر، وأعلمه أنّ الله قد أذن له في الهجرة فسأله أبو بكر: الصحبة، فقال: نعم، ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدّتين لذلك، فجهزهما أحثّ «4» الجهاز، وصنعت لهما سفرة «5» في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر «6» نطاقها «7» وربطت به على فم الجراب، واستأجرا

_ (1) أبو جهل. (2) سورة الأنفال اية 30. (3) كان خروجه عليه الصلاة والسلام من مكة يوم الخميس أوّل يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه وذلك يوم الإثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 حزيران (622 م) . كما يؤكّد تواتر الأخبار أنه خرج يوم الاثنين وأن دخوله المدينة كان يوم الاثنين. (4) اسرع. (5) زادا (6) أمها قيلة وكانت أسماء تحت الزبير بن العوام وكان إسلامها قديما قال ابن اسحاق: أسلمت بعد إسلام سبعة عشر انسانا، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فوضعته بقباء وهو أوّل مولود في المدينة. وكانت تسمى ذات النطاقين وإنما قيل لها ذلك لأنها صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم سفرة حين أراد الهجرة إلى المدينة فعسر عليها ما تشدها به، فشقّت خمارها، وشدّت السفرة بنصفه، وانتطقت النصف الثاني، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات النطاقين وقد ذهب بصرها، وماتت، وقد بلغت من العمر مائة سنة. (7) النطاق ما يشد به الوسط.

عبد الله بن أريقط من بني الدّيل بن بكر، وكان هاديا ماهرا، وهو على دين كفار قريش فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلا خارج مكّة، وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه، فاجتمعوا حول باب الدار، ورسول الله داخله، فلمّا جاء ميعاد الخروج، أمر ابن عمه عليا بالمبيت مكانه كي لا يقع الشكّ في وجوده أثناء الليل، فإنهم كانوا يردّدون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده، ثم سجّى «1» عليّا ببرده وخرج على القوم وهو يقرأ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «2» فألقى الله النوم عليهم حتى لم يره أحد، ولم يزل عليه الصلاة والسلام سائرا حتى تقابل مع الصدّيق، وسارا حتى بلغا غار ثور «3» فاختفيا فيه. أما المشركون فلمّا علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون علي بن أبي طالب لا محمّد بن عبد الله، هاجت عواطفهم فأرسلوا الطلب من كل جهة، وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمّد أو يدلّ عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طلبتهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما حتى أبكى ذلك أبا بكر فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «4» فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار «5» بل صار أعدى الأعداء أمية بن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار «6» فأقاما فيه ثلاث ليال حتى ينقطع الطلب، وكان يبيت عندهم عبد الله بن أبي بكر «7» (وهو

_ (1) غطى. (2) سورة يس اية 9. (3) جبل بمكة يبعد عنها حوالي اثنين كيلومتر شرقا ويعرف أطحل وأطحل. (4) سورة التوبة اية 40. (5) وفي صحيح البخاري (لو أن أحدكم نظر إلى قدمه لرانا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وأخرجه أيضا مسلم والترمذي وأحمد. (6) وفي مسند البزار: أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار. (7) أمه وأم أسماء واحدة وكان إسلامه قديما وشهد الطائف مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرمي بسهم رماه به أبو محجن الثقفي فدمل جرحه حتى انتقض به فمات منه في أول خلافة أبيه، وذلك في شوال من سنة إحدى عشرة ودفن بعد الظهر وصلّى عليه أبوه.

شاب ثقف «1» ولقن) «2» فيدلج «3» من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت «4» بها، فلا يسمع أمرا يكتادان «5» به إلّا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطعة من غنم، يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء، ويغدو بها عليهما، فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع أثره عامر بالغنم كيلا يظهر لقدميه أثر. ولما انقطع الطلب خرجا بعد أن جاءهما الدليل «6» بالراحلتين صبح ثلاث، وسارا متّبعين طريق الساحل، وفي الطريق لحقهم طالبا، سراقة بن مالك المدلجي «7» وكان قد رأى رسل مشركي قريش يجعلون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره. فبينما هو في مجلس من مجالس قومه بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام عليهم وهم جلوس فقال: يا سراقة إني رأيت انفا أسودة «8» بالساحل أراها محمدا وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراد أن يثني عزم مخبره عن طلبهم، فقال: إنّك رأيت فلانا فلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبث في المجلس ساعة، وقام وركب فرسه ثم سار حتى دنا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، فعثرت به فرسه فخرّ عنها ثم ركبها ثانيا وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت «9» قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخرّ عنها، ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطح لأثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنّ عمله ضائع سدى، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان فوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى جاءهم،

_ (1) حاذق. (2) سريع الفهم. (3) يخرج. (4) لشدة رجوعه بالغلس. (5) أي يطلب لهما ما فيه المكروه. (6) وهو عبد الله بن أريقط. (7) يكنى أبا سفيان، روى البخاري قصته في إدراكه النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة، وكتب له أمانا، وأسلم يوم الفتح، وقد قال رسول الله لسراقة «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» قال فلما أتي عمر بسواري كسرى وتاجه دعا سراقة فألبسه، فقال له ارفع يديك وقل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة، وقد مات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين. (8) يكنى بها عن الشخص. (9) غاصت.

النزول بقباء

ويقول سراقة: وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهم بما يريد بهم الناس، وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئا بل قالا له: اخف عنا. فسأله سراقة أن يكتب له كتاب أمن، فأمر أبا بكر فكتب «1» . وبذلك انقضت هذه المشكلة التي أظهر الله فيها مزيد عنايته برسوله صلّى الله عليه وسلّم. وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله وقدومه عليهم يخرجون إلى الحرة «2» حتى يردهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد أن أطالوا انتظارهم، فلمّا أووا إلى بيوتهم أو فى رجل من يهود أطم «3» من اطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم أخرى، فقال اليهوديّ بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدّكم أي حظكم الذي تنتظرون، فثاروا إلى السلاح فتلقّوا رسول الله بظهر الحرة «4» . النزول بقباء «5» فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء، والذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر سنة 622، وهذا أول تاريخ جديد «6» لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة، وهو مضيق عليه من مشركي قريش، ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه، أما الان فقد اواه الله هو وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليلا يتخطفهم الناس.

_ (1) وفي سيرة ابن كثير عن الزهري أنه أمر عامر بن فهيرة فكتب له في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في البخاري باختصار. (2) هي الأرض ذات الحجارة السود وكانت المدينة محاطة بجملة حرات (المؤلف) . (3) تل. (المؤلف) . (4) وقد تقدّم مثل ذلك في سياق البخاري، وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه. (5) وصل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل قرب الظهر ونزل بقباء على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس وأقام عنده أربعة أيام، وقرية قباء على ميلين من جنوب المدينة، وهي خصبة بها حدائق، وأقام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعة أيام، أسس فيها مسجد قباء. (6) لما أراد المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وضع التاريخ، جعلوا مبدأه من هذه الهجرة الشريفة، ولعدم المخالفة بين مبدأ الهجرة وبدء السنة الهلالية قدموا ميعاد الهجرة شهرين وأياما، وجعلوا بدء الهجرة من محرم سنتها. (المؤلف) .

هجرة الأنبياء

هجرة الأنبياء وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا صلّى الله عليه وسلّم سنّة إخوانه من الأنبياء من قبله، فما من نبي منهم إلّا نبت به بلاد نشأته «1» ، فهاجر عنها، من إبراهيم أبي الأنبياء خليل الله إلى عيسى كلمة الله وروحه كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالا لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام في طاعة الله. فسل مصر وتاريخها تنبئك عن اسرائيل وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بنيها ترحيبا بهم، وتركهم وما يعبدون إكراما ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني اسرائيل واذوهم، خرج بهم موسى وهارون ليتمكّنوا من إعطاء الله حقه في عبادته، وهرب المسيح عليه السلام من اليهود حينما كذّبوه، فأرادوا الفتك به حتى كان من ضمن تعاليمه لتلاميذه (طوبى للمطرودين من أجل البرّ لأنّ لهم ملكوت السموات) ثم قال بعد (افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم طردوا الأنبياء الذين قبلكم) وسل القرى التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مهاجرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة، فلا غرابة أن هاجر عليه الصلاة والسلام من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «2» . أعمال مكّة هذا ولنبين لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام بمكّة من أصول الدين وذلك أمران: الأول: الاعتقاد بواحدانية الله وألايشرك معه في العبادة غيره، سواء كان ذلك الغير صنما كما يفعل مشركو مكّة، أو أبا أو زوجة أو بنتا كما عليه بعض الطوائف الاخرى كالنصارى، ولولا الاعتقاد بواحدانية الله ما كلّف أحد نفسه تكاليف الحياة من اداب الأخلاق بل كان يسير فيما تأمره به نفسه من شهواتها وملذّاتها ما دام ذلك خافيا عن الناس.

_ (1) لم يجد بها قرارا. (2) سورة الأحزاب اية 62.

مسجد قباء

الثاني: الاعتقاد بالبعث والنشور وأنّ هناك يوما ثانيا للإنسان يجازى فيه على ما صنعه في الدنيا إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وعلى هذين الأمرين جاء غالب الاي المكية، فقلّما نرى سورة من سور مكّة إلّا مشحونة بالاستدلال عليهما وتوبيخ من تركهما، وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل، وبراهين لا تحتاج لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما لا طائل تحته مما يضيع الوقت سدى. ونزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة من القران معظمه، وهو ما عدا ثلاثا وعشرين سورة منه، وهي: البقرة، ال عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، الحجّ، النور، الأحزاب، القتال «1» ، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن، الطلاق، التحريم، النصر، هذه كلها مدنية وباقي القران مكي. ولما نزل عليه الصلاة والسلام بقباء، نزل على شيخ بني عمرو كلثوم بن الهدم «2» وكان يجلس للناس ويتحدّث لهم في بيت سعد بن خيثمة «3» لأنه كان عزبا ونزل أبو بكر بالسّنح- محلة بالمدينة- على خارجة بن زيد «4» من بني الحارث من الخزرج. مسجد قباء وأقام رسول الله بقباء ليالي «5» أسس فيها مسجد قباء الذي وصفه الله بأنه مسجد أسس على التقوى من أول يوم «6» ، وصلّى فيه عليه الصلاة والسلام بمن

_ (1) سورة محمد. (2) يعرف بصاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان شيخا كبيرا أسلم قبل وصول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وأقام عنده أربعة أيام، وتوفي قبل بدر بيسير، ولم يدرك شيئا من المشاهد وهو أول من مات من الأنصار بعد قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقال لبيته بيت الأعزب. (3) الأنصاري الأوسي- يكنى أبا خيثمة وكان أحد النقباء بالعقبة وقد شهد بدرا واستشهد فيها. (4) هو ممن شهد بدرا، وقتل يوم أحد، وهو صهر أبي بكر الصديق، ويقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم اخى بينه وبين أبي بكر. (5) قال ابن اسحاق: أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة. وقد أخرج عبد الرزاق والنجار عن ابن عباس الذي بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. ولكن ورد في مسلم وأحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه مسجد المدينة. وبهذا جزم الإمام مالك. (6) هو أوّل الذين عرفته الإسلام، وعبد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه امنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى من أول يوم أنه أول أيام التاريخ الإسلامي. كذا قال السهيلي، ويعقب الحافظ على هذا بقوله: والمتبادر أن معنى قوله من أول يوم أي دخل فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم فأصحابه المدنية والله أعلم.

الوصول إلى المدينة

معه من الأنصار والمهاجرين، وهم امنون مطمئنون، وكانت المساجد على عهد رسول الله في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده بناة المساجد في القرون الأخيرة، لأن الرسول وأصحابه لم يكن جلّ همّهم إلّا منصرفا لتزيين القلوب، وتنظيفها من حظ الشيطان، فكان سور المسجد لا يتجاوز القامة وفوقه مظلة يتّقى بها حرّ الشمس. الوصول إلى المدينة ثم تحوّل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة والأنصار محيطون به متقلدي سيوفهم، وهنا حدّث ولا حرج عن سرور أهل المدينة، فكان يوم تحوّله إليهم يوما سعيدا لم يروا فرحين بشيء فرحهم برسول الله، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع «1» وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع وكان الناس يسيرون وراء رسول الله ما بين ماش وراكب يتنازعون زمام ناقته كلّ يريد أن يكون نزيله. أول جمعة «2» وأدركته عليه الصلاة والسلام صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف «3» ، فنزل وصلّاها وهذه أول جمعة له عليه الصلاة والسلام، وأول خطبة خطبها عليه الصلاة والسلام؛ حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيّها الناس فقدّموا لأنفسكم، تعلّمنّ والله ليصعقنّ أحدكم، ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنّ له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلّغك وأتيتك مالا وأفضلت عليك؟، فما قدّمت لنفسك؟ فلينظرنّ يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرنّ قدّامه فلا يرى غير جهنم، فمن أستطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقّ

_ (1) المنطقة التي يصل إليها المشيعون. (2) صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول جمعة بالمدينة في المسجد الذي في بطن الوادي بمن معه من المسلمين وهم مائة وسمي هذا المسجد بمسجد الجمعة وهو على يمين السالك نحو قباء. (3) ابن مالك الأشجعي- له ولأبيه صحبة.

النزول على أبي أيوب

تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنّ بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته «1» . النزول على أبي أيوب ثم ساروا وكلّما مرّوا على دار من دور الأنصار يتضرّع إليه أهلها بأن ينزل عندهم، ويأخذون بزمام الناقة، فيقول: دعوها فإنها مأمورة، ولم تزل سائرة حتى أتت بفناء بني عدي بن النجار- وهم أخواله الذين تزوج منهم هاشم جده- فبركت بمحلة من محلاتهم أمام دار أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد «2» وذلك محل مسجده الشريف، فقال عليه الصلاة والسلام: ههنا المنزل إن شاء الله رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «3» فاحتمل أبو أيوب رحله ووضعه في منزله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقته فكانت عنده، وخرجت ولائد النجار يقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبّذا محمّد من جار فخرج إليهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتحببنني؟ فقلن: نعم فقال: الله يعلم أنّ قلبي يحبكن «4» واختار عليه الصلاة والسلام النزول في الدور الأسفل من دار أبي أيوب ليكون أريح لزائريه، ولكن لم يرض رضي الله عنه ذلك كرامة لرسول الله لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي يحدثه وطء الأقدام أو الماء الذي يهراق، فقد اتفق أن كسرت من زوجته جرّة ماء بالليل، فقام هو وهي بقطيفتهما التي ليس لهما غيرها يمسحان الماء خوفا على رسول الله، ولذلك لم يزل أبو أيوب

_ (1) ووردت في تاريخ الطبراني غير ذلك فلتراجع. (2) توفي زمن معاوية في حصار القسطنطينية ودفن هناك خارج المدينة. (المؤلف) وهو (ابن زيد بن كليب ابن ثعلبة بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، وغزا أيام معاوية أرض الروم مع يزيد بن معاوية) . (3) سورة المؤمنين اية 29. (4) هذا الحديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروى، وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس «ويعلم الله أن قلبي يحبكم» وفي صحيح البخاري عن معمر عن عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال: رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم النساء والصبيان مقبلين، حسبت أنه قال من عرس، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم ممثلا فقال «اللهم أنتم من أحب الناس اليّ» قالها ثلاث مرّات.

نزول المهاجرين

يستعطفه حتى كان في العلو، وكانت تأتيه الجفان «1» كل ليلة من سراة «2» الأنصار كسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وأم زيد بن ثابت «3» فما من ليلة إلّا وعلى بابه الثلاث أو الأربع من جفان الثريد. نزول المهاجرين ولما تحوّل مع رسول الله أغلب المهاجرين تنافس فيهم الأنصار، فحكّموا القرعة بينهم، فما نزل مهاجري على أنصاري إلّا بقرعة. إخوة الإسلام ومن يتأمّل إلى هذه المحبّة التي يستحيل أن تكون بتأثير بشر بل بفضل من الله ورحمته، يفهم كيف انتصر هؤلاء الأقوام على معانديهم من المشركين وأهل الكتاب مع قلة العدد والعدد. وكان الأنصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم قال تعالى في سورة الحشر وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «4» . وهذا أعلى درجات الأخوة، وكل ذلك كانوا يرونه قليلا بالنسبة لما وجب عليهم لإخوانهم، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمكّن بينهم الإخاء، اخى بين المهاجرين والأنصار، فكان كل أنصاري ونزيله أخوين في الله. ومن العبث أن نكلّف القلم أن يوضح للقارىء أن هذه الاخوة كانت أرقى بكثير من الإخوة العصبية بل نكل ذلك للإحساس الإسلامي فإنه أفصح منطقا من القلم. وعلى الإجمال فتلك قلوب ألف الله بينها حتى صارت شيئا واحدا في أجسام متفرقة، وعسى الله أن يوفق مسلمي عصرنا إلى هذا الإخاء حتى يسودوا كما ساد المتحدون، وكان هذا الإخاء على المواساة والحق، وأن يتوارثوا بعد الموت دون

_ (1) القصعة ومفردها جفنة. (2) سراة كل شيء أعلاه وهم الزعماء. (3) هي النوار بنت مالك، تزوجها بعد ثابت عمارة بن حزم. (4) اية 9.

هجرة أهل البيت

ذوي الأرحام، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لكل اثنين تاخيا في الله: أخوين أخوين) «1» ودام هذا الميراث إلى أن نزل الله سبحانه قوله في سورة الأحزاب وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «2» . هجرة أهل البيت ولما استقرّ عليه الصلاة والسلام بالمدينة أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكّة ليأتيا بمن تخلّف من أهله، وأرسل معهما عبد الله بن أريقط «3» يدلهما على الطريق، فقدما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه عليه السلام، وسودة زوجه، وأم أيمن زوج زيد وابنها أسامه، أما زينب فمنعها زوجها أبو العاص بن الربيع، وخرج مع الجميع عبد الله بن أبي بكر بأم رومان «4» زوج أبيه، وعائشة أخته، واسماء زوج الزبير بن العوام، وكانت حاملا بابنها عبد الله، وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة. حمّى المدينة ولم يكن هواء المدينة في البدء موافقا للمهاجرين من أهل مكّة، فأصاب كثيرا منهم الحمّى «5» ، وكان رسول الله يعودهم فلمّا شكوا إليه الأمر قال: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكّة وأشدّ وبارك في مدّها وفي صاعها، وانقل وباءها إلى الجحفة «6» ، فاستجاب الله جلّ وعلا دعوته، وعاش المهاجرون في المدينة بسلام.

_ (1) قاله محمد بن اسحاق. ويقول الإمام ابن القيم، وقد قيل: إنه اخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية واتخذ فيها عليا أخا لنفسه. (2) اية 6. (3) الليثي الدئلي دليل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر لما هاجر إلى المدينة وأنه على دين قومه. (4) هي بنت عامر، امرأة أبي بكر الصديق وأم عائشة وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم، توفيت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك في سنة ستة من الهجرة، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبرها واستغفر لها. (5) أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة. (6) قرية على اثنين وثمانين ميلا من مكة وهي ميقات أهل الشام. (المؤلف) (وكان بها يهود حينئذ) . والحديث رواه البخاري في صحيحه.

منع المستضعفين من الهجرة

منع المستضعفين من الهجرة ومنع مشركو مكّة بعضا من المسلمين عن الهجرة، وحبسوهم وعذبوهم منهم الوليد بن الوليد «1» وعياش بن ربيعة، وهشام بن العاص «2» فكان عليه الصلاة والسلام يدعو لهم في صلاته، وهذا أصل القنوت، وقد حصل في أوقات مختلفة ومحالّ في الصلاة مختلفة، فكان في وتر العشاء، وصلاة الصبح بعد الركوع وقبله، فروى كل صحابي ما راه، وهذا سبب اختلاف الائمة في مكان القنوت «3» .

_ (1) ابن المغيرة المخزومي أخو خالد بن الوليد كان حضر بدرا مع المشركين فأسر فافتداه أخواه هشام وخالد، ولما أسلم حبسه أخواله فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو له في القنوت، ثم أفلت من أسرهم ولحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرة القضية، ولما مات كفنه النبي صلّى الله عليه وسلّم في قميصه. (2) ابن وائل بن هشام بن سعيد القرشي السهمي أخو عمرو بن العاص، وكان قديم الإسلام، أسلم بمكة، وهاجر إلى أرض الحبشة، قدم مكة حين بلغه مهاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحبسه أبوه بمكة، حتى قدم بعد الخندق على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان أصغر سنا من أخيه عمرو، وقتل بالشام يوم أجنادين في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة. (3) دعاء القنوت سنة عند مالك والشافعي، ومذهب الحنفي لا دعاء في جميع الصلوات ولا بأس بالدعاء في الفجر عند النازلة. ومذهب الإمام أحمد: في الفجر إلا عند النازلة.

السنة الأولى

السنة الأولى بناء المسجد «1» ثم شرع عليه الصلاة والسلام في بناء مسجده في مبرك ناقته أمام محلّة بني النجار، وكان محله مربدا للتمر يملكه غلامان يتيمان «2» في حجر أسعد بن زرارة، فدعا الغلامين، وساومهما المربد ليتّخذه مسجدا، فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى عليه الصلاة والسلام أن يقبله منهما هبة بل ابتاعه منهما، وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل، فأمر بالقبور فنبشت، وبالحفر فسوّيت، وبالنخل فقطع، ثم أمر باتّخاذ اللبن فاتّخذ وشرعوا في البناء، به، وجعلوا عضادتي الباب من الحجارة، وسقفوه بالجريد، وجعلت عمده من جذوع النخل، ولا يزيد ارتفاعه عن القامة إلّا قليلا، وقد عمل فيه رسول الله بنفسه ليرغب المسلمين في العمل، وصاروا يرتجزون وهو يقول معهم. اللهم لا خير إلا خير الاخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة وجعلت قبلة المسجد في شماله إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب ثم حصبت أرضه لأن المطر كان قد أثّر فيه، فأمر عليه الصلاة والسلام بحصبه، ولم يزين المسجد بفرش حتى ولا بالحصر، وبنى بجانبه حجرتان، احداهما لسودة بنت زمعة، والاخرى لعائشة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام متزوجا غيرهما إذ

_ (1) كان بناء المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، فزاد فيه عمر وبناه على ما كان عليه من بنائه ثم غيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والجص، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالخشب. وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك وأدخل الحجرة النبوية فيه، ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة، حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدّمة كما هو مشاهد اليوم. (2) وفي الصحيح دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين (هما سهل وسهيل) فساومهما بالمربد (وهو الموضع الذي يحصل فيه الزرع والتمر لليبس) ليتخذه مسجدا، فقالا؛ بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا وفي بعض الروايات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه.

بدء الأذان

ذاك، وكانت الحجرتان متجاورتين وملاصقتين للمسجد على شكل بنائه، وصارت الحجرات تبنى كلّما جاءت زوج «1» . بدء الأذان أوجب الله الصلاة على المسلمين ليكونوا دائما متذكرين عظمة العلي الأعلى، فيتبعون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ولذلك قال في محكم كتابه في سورة العنكبوت إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «2» . وجعل أفضل الصلاة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضا في شؤونهم واحتياجاتهم، ويقووا روابط الألفة والاتّحاد بينهم، ومتى حان وقت الصلاة فلا بدّ من عمل ينبّه الغافل، ويذكر الساهي حتى يكون الاجتماع عاما، فائتمر «3» النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة فيما يفعل لذلك، فقال بعضهم: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فلم يرضوا ذلك لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل، وقال الاخرون نشعل نارا على مرتفع من الهضاب فلم يقبل أيضا، وأشار اخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم- فكرهه رسول الله لأنه لم يكن يحب تقليد اليهود في عمل ما، وأشار بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى- فكرهه الرسول أيضا، وأشار بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فقبل هذا الرأي، وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الانصاري «4» ، فبينما هو بين النائم واليقظان «5» إذ عرض له شخص وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال: بلى، فقال له: قل: الله أكبر الله أكبر مرتين، وتشهّد مرتين، ثم قل: حيّ على الصلاة مرتين ثم حيّ على الفلاح مرتين، ثم كبّر ربك مرتين، ثم قل: لا اله إلا الله فلمّا استيقظ توجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره خبر

_ (1) يقول الذهبي في بلبل الروض: لم يبلغنا أنه عليه السلام بني له تسعة أبيات حين بنى المسجد، ولا أحسبه بعد ذلك. إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت اخر حتى بنى بعائشة في شوال سنة اثنتين، وكأنه عليه الصلاة والسلام بناها في أزمان مختلفة. (2) اية 45. (3) أي تشاور. (4) عبد الله بن زيد من بني عمرو بن مازن بن النجار وقد شهد بدرا وجعل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم القيام على النفل الذي هو الغنائم مقفلة من بدر إلى المدينة. وذكر أنه جمع له ست أو سبعة أحاديث في جزء مفرد. (5) في رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد أو لو قلت: إني لم أكن نائما لصدقت.

رؤياه، فقال: إنها لرؤيا حق، ثم قال له: لقّن ذلك بلالا فإنه أندى «1» صوتا منك، وبينما بلال يؤذن إذ جاء عمر يجر رداءه، فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله «2» . وكان بلال أحد مؤذنيه بالمدينة، والاخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين، وأقره الرسول على ذلك، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر في فجر رمضان بأذانين أولهما يوقظ به الغافلون حتى ينتبهوا للسحور، والثاني للصلاة. أما الأذان للجمعة. فكان أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلمّا كان عثمان وكثر الناس زاد نداء اخر على الزوراء. رواه البخاري. ولمّا تولى هشام بن عبد الملك أخذ الأذان الذي زاده عثمان بالزوراء وجعله على المنار، ثم نقل الأذان الذي كان على المنار حين صعود الإمام على المنبر في العهد الأول بين يديه. فعلم بذلك أن الأذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشام بن عبد الملك، ولا معنى لهذا الأذان لأنه هو نداء إلى الصلاة، ومن هو في المسجد لا معنى لندائه ومن هو خارج المسجد لا يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد. ذكر ذلك الشيخ محمد بن الحاج في المدخل. قال الحافظ في فتح الباري: وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى. فعلم من ذلك كلّه أن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على المنبر أذن مؤذّنه على المنار، فإذا انتهت الخطبة أقيمت الصلاة وما عدا ذلك فكله ابتداع «3» .

_ (1) أي أحسن وأعذب. (2) قال ابن هشام: فذهب عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخبره بما رأى. وقد جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي بذلك، فما راع عمر إلّا بلال يؤذن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أخبره بذلك. قد سبقك بذلك الوحي. وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقدير ما راه عبد الله بن زيد ابن عبد ربه وقوّى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصاري مع أن السكنية تنطق على لسان عمر واقتضت الحكمة الالهية أن يكون الأذان على لسانه غير النبي صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين لما فيه من النبوية من الله لعبده، والرفع لذكره، فلأن يكون ذلك على غير لسان أنوه وأفخم لشأنه، وهذا معنى بين، فإن الله سبحانه يقول: (ورفعنا لك ذكرك) . (3) قول المصنف انه بدعة أو ابتداع لأن كل شيء لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم يكون بدعة لكن منها ما يكون

يهود المدينة

أما الإقامة وهي الدعوة للصلاة في المسجد، فقد اختلفت الروايات في نصّها فرواها محمّد بن ادريس الشافعي مفردة إلّا لفظ قد قامت الصلاة فمثنى، ورواها مالك بن أنس مفردة كلها، ورواها أبو حنيفة النعمان مثنى كلها. يهود المدينة هذا وكما ابتلى الله المسلمين في مكّة بمشركي قريش ابتلاهم في المدينة بيهودها وهم بنو قينقاع وقريظة والنّضير-، فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم أنه الحقّ، وكانوا قبل مجيء الرسول يستفتحون على المشركين من العرب إذا شبّت الحرب بين الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه، فلمّا جاءهم ما عرفوا استعظم رؤساؤهم أن تكون النبوة في ولد اسماعيل، فكفروا بما أنزل الله بغيا، مع أنهم يرون أن رسول الله محمدا لم يأت إلا مصدقا لما بين يديه من كتب الله التي أنزلها على من سبقه من المرسلين مبيّنا ما أفسده التأويل منها، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. ومما عابوه على الإسلام نسخ الأحكام، وما دروا أن القادر العليم يعلم ما يحتاجه الإنسان أكثر منهم، فإنه ميال بطبعه للترقّي، والرسول عليه الصلاة والسلام وجد بادىء بدء بين جماعة من العرب أميين ليسوا على شيء من الاعتقادات الإلهية، فكانت الحكمة داعية لأن يكون التشريع لهم على التدريج، لأنه لو حرّم الله عليهم شرب الخمر وأكل الربا، وأمرهم بالصلاة والزكاة وهكذا إلى اخر الأوامر والمناهي التي جاء بها الشرع الإسلامي لما أجابه أحد من هؤلاء النافرة قلوبهم، المختلفة أهواؤهم الذين كانوا منغمسين في كثير من الأضاليل، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر شيئا فشيئا حتى روّضت عقولهم، وهذّبت نفوسهم، وكانت الأحكام لا ينزلها الله عليه إلا عقب الحوادث التي تقتضيها، ليكون التأثير في النفوس أشدّ، ولكن اليهود أرادوا غل يد القدرة عن أن تفعل إلّا ما يشتهون، وقد حجّهم القران الشريف بما يدلّ على أنهم يعلمون من نفوسهم البعد عن الحق، فقال في سورة

_ حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك. وتبين مما مضى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أحدث الأذان على الزوراء (موضع بالسوق بالمدينة) ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت قياسا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله فعلم مما مرّ أن الأذان بين يدي الخطيب بدعة حسنة لا سيئة.

المنافقون

البقرة قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» ثم حتّم جلّ ذكره عدم اجابتهم بقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «2» فلو كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم على الحقّ لما تأخّروا عمّا طلب منهم مع سهولته وحرصهم على تكذيب الصادق الأمين، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنّى ذلك ولو نطقا باللسان. وقد تبيّن الهدى لأحد رؤساء بني قينقاع وهو عبد الله بن سلام، فترك هواه وأسلم بعد أن سمع القران بعد أن كان اليهود يعدّونه من رؤسائهم عدوه من سفهائهم حينما بلغهم إسلامه، فبئسما اشتروا لأنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولما استحكمت في قلوبهم عداوة الإسلام صاروا يجهدون أنفسهم في إطفاء نوره فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «3» . المنافقون وكان يساعدهم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى الله بصائرهم، فأخفوا كفرهم خوفا على حياتهم، وكان يرأس هذه الجماعة عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي الذي كان مرشحا لرياسة أهل المدينة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا شكّ أن ضرر المنافقين أشدّ على المسلمين من ضرر الكفار، لأن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم، ويشيعونها بين الأعداء من اليهود وغيرهم كما حصل ذلك مرارا، والأساس الذي كان عليه رسول الله أن يقبل ما ظهر ويترك لله ما بطن، ولكنه عليه الصلاة والسلام مع ذلك كان لا يأمنهم في عمل ما. فكثيرا ما كان يتغيب عن المدينة، ويولي عليها بعض الأنصار، ولكن لم يعهد أنه ولّى رجلا ممّن عهد عليه النفاق، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم ما يكون منهم لو ولّوا عملا، فإنهم بلا شكّ يتّخذون ذلك فرصة لإضرار المسلمين، وهذا درس مهمّ لرؤساء الإسلام يعلّمهم أنهم لا يثقون في الأعمال المهمّة إلّا بمن لم تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد.

_ (1) سورة البقرة اية 94. (2) سورة التوبة اية 32. (3) سورة البقرة اية 59.

معاهدة اليهود

معاهدة اليهود هذا وقد علمت أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان: اليهود، والمنافقون، ولكنّ الرسول قبل من هؤلاء ظواهرهم، وعقد مع أولئك عهدا مقتضاه ترك الحرب والأذى، فلا يحاربهم ولا يؤذيهم، ولا يعينون عليه أحدا، وإن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه، وأقرّهم على دينهم. مشروعية القتال «1» قد علم ممّا تقدّم أنّ رسول الله عليه الصلاة السلام لم يقاتل أحدا على الدخول في الدّين، بل كان الأمر قاصرا على التبشير والإنذار، وكان الله سبحانه ينزل عليه من الاي ما يقوّيه على الصبر أمام ما كان يلاقيه من أذى قريش، ومن ذلك قوله في سورة الأحقاف فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ «2» وكان كثيرا ما يقصّ الله عليه أنباء إخوانه من المرسلين قبله ليثبت به فؤاده، ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على قتله، فكانوا هم البادئين بالعداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حقّ، فبعد الهجرة أذن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله في سورة الحجّ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ «3» ثم أمرهم بذلك في سورة البقرة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

_ (1) أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القتال لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر صفر في السنة الثانية من الهجرة، وكان الصحابة رضي الله عنهم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وسعد بن أبي وقاص يقولون: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما امنا صرنا أذلة فأذن لنا في قتال هؤلاء، فقال: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أومر بقتالهم. ولما هاجر المسلمون إلى المدينة أذن الرسول لهم بالقتال، وأول ما أنزل في أمر القتال «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ... » الاية المذكورة في مشروعية القتال، وهذا أول ما أنزل في الأذن بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين اية. (2) اية 35. (3) اية 39- 40.

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ «1» . وبذلك لم يكن الرسول يتعرّض إلّا لقريش دون سائر العرب فلما تمالأ على المسلمين غير أهل مكّة من مشركي العرب واتّحدوا عليهم مع الأعداء أمر الله بقتال المشركين كافة بقوله في سورة التوبة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً «2» وبذلك صار الجهاد عاما لكل من ليس له كتاب من الوثنيين وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحق الإسلام وحسابهم على الله) «3» ولما وجد المسلمون من اليهود خيانة للعهود حيث أنهم ساعدوا المشركين في حروبهم، أمر الله بقتالهم بقوله في سورة الأنفال وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «4» وقتالهم واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ليأمن المسلمون جانبهم، وصار قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأعداء على هذه المبادئ الاتية: (1) اعتبار مشركي قريش محاربين لأنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم حتى يأذن الله بفتح مكّة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين. (2) متى رئي من اليهود خيانة وتحيّز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل. (3) متى تعدّت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشا قوتلت حتى تدين بالإسلام. (4) كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن بالإسلام أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر. (5) كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إلّا بحقه. والإسلام يقطع ما قبله. وقد أنزل الله في القران الكريم كثيرا من الاي تحريضا على الإقدام في قتال

_ (1) اية 190- 193. (2) اية 36. (3) رواه الشيخان. (4) اية 58.

بدء القتال

الأعداء وتبعيدا عن الفرار من الزحف فقال في الموضوع الأول في سورة النساء فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً «1» ، وقال في الموضوع الثاني في سورة الأنفال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «2» . بدء القتال كانت عادة قريش أن تذهب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع، ويسمى الركب السائر بهذه التجارة عيرا، وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم وسراتهم. ولا بدّ لوصولهم إلى الشام من المرور على دار الهجرة، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يصادر تجارتهم ذاهبة وايبة. ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكّة، حتى تضعف قوتهم المالية، فيكون ذلك أدعى لخذلانهم في ميدان القتال، الذي لا بدّ أن يكون. لأنّ قريشا لم تكن لتسكت عمن سفّه أحلامهم، وعاب عبادتهم خصوصا وهم قدوة العرب في الدين. سرية «3» ففي شهر رمضان أرسل عمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلا من المهاجرين، وعقد لهم لواء أبيض حملة أبو مرثد «4» حليف حمزة، ليعترض عيرا لقريش ايبة من الشام، فيها أبو جهل وثلاثمائة من أصحابه المشركين، فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية العيص «5» فصادف العير هناك، فلمّا تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني فأطاعوه وانصرفوا، وشكر عليه الصلاة والسلام مجديا على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم.

_ (1) اية 74. (2) اية 15- 16. (3) السرية قطعة من الجيش ونريد بها كل غزاة لم يكن فيها رسول الله، والتي كان فيها تسمى غزوة (المؤلف) . (4) هو كنّاز بن حصين الغنوي، شهد هو وابنه بدرا، وتوفي أبو مرثد سنة 12 هـ. (5) عرض من أعراض المدينة أي ناحية منها (المؤلف) .

سرية

سرية «1» وفي شوال أرسل عبيدة بن الحارث «2» بن عم حمزة في ثمانين راكبا «3» من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله مسطح بن أثاثة «4» ليعترض عيرا لقريش، فيها مائتا رجل، فوافوا العير ببطن رابغ «5» فكان بينهم الرمي بالنبل، ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن الأسود وعتبة بن غزوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا بالمسلمين. وفيات وفي هذه السنة توفّي من المهاجرين عثمان بن مظعون أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاع أسلم قديما، وهاجر الهجرتين، ولما دفن أمر عليه الصلاة والسلام بأن يرشّ قبره بالماء، ووضع على قبره حجرا، وقال: أتعلّم به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي، وهذا كان القصد من وضع الأحجار على المقابر لا ما يقصده أهل العصور الأخيرة من تشييد الهياكل على القبور، وتصويرها بصور ترى في عين الناظر كالأصنام، ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفالات كثيرة، تشبه ما كان يفعله مشركو مكّة عند معابدهم، ومن العبث فعل شيء لم يفعله رسول الله ممّا يتعلّق بأمور الاخرة. ومات من الأنصار أسعد بن زرارة أحد النقباء الاثني عشر كان رضي الله عنه نقيب بني النجار، ولمّا مات اختار رسول الله نفسه للنقابة عليهم لأن ابن أخت القوم منهم، ومات أيضا البراء بن معرور أحد النقباء، وهو الذي كان يتكلّم عن القوم في العقبة الثانية، ومات من مشركي مكّة في هذه السنة الوليد بن المغيرة، ولما احتضر جزع، فقال له أبو جهل ما جزعك يا عم، فقال: والله ما بي من جزع الموت، ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكّة، فقال: أبو سفيان لا

_ (1) هي سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ. (2) في الأصل ابن عم حمزة وهو خطأ. (3) ذكر ابن كثير في سيرته أن عددهم كان ستين. (4) اسمه عوف ومسطح لقبه، أسلم قديما، ومات سنة 34 هـ في خلافة عثمان. (5) واد بين الحرمين قرب البحر (المؤلف) .

تخف إني ضامن ألّا يظهر، وفيها أيضا مات العاص بن وائل السهمي. وقد كفى الله المسلمين شرّ هذين الشّقيّين.

السنة الثانية

السنة الثانية غزوة ودّان ولاثنتي عشرة ليلة خلت من السنة الثانية خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة بعد أن استخلف عليها سعد بن عبادة ليعترض عيرا لقريش، فسار حتى بلغ ودّان «1» وكان يحمل لواءه عمه حمزة، ولم يلق هناك حربا لأن العير كانت قد سبقته، وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم امنون على أنفسهم ولهم النصر على من رامهم، وأنّ عليهم نصرة المسلمين إذا دعوا، ثم رجع إلى المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة. غزوة بواط ولم يمض على رجوعه غير قليل حتى بلغه أن عيرا لقريش ايبة من الشام، فيها أمية بن خلف ومائة من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فسار إليها في مائتين من المهاجرين، وذلك في ربيع الأول، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، فسار حتى بلغ بواط «2» فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلق كيدا «3» ، وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على أنفسهم والاجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل المدينة.

_ (1) قرية بين مكة والمدينة بينها وبين الأبواء ستة أميال (المؤلف) . (وهي قرية جامعة من أمّهات القرى) قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها. (2) جبال جهينة على أبراد من المدينة جهة ينبع (المؤلف) . وبواط: جبلان فرعان لأصل فأحدهما: جلسي والاخر غوري وفي الجلسي بنو دينار. (3) حربا.

غزوة العشيرة

غزوة العشيرة «1» وأعقب رجوعه عليه السلام خروج قريش بأعظم عير لها، فقد جمعوا فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقال فصاعدا إلا بعث به في تلك العير، وكان يرأسها أبو سفيان بن حرب «2» ومعه بضعة وعشرون رجلا، فخرج لها الرسول في جمادى الأولى، ومعه مائة وخمسون من المهاجرين، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل لواءه عمه حمزة، ولم يزل سائرا حتى بلغ العشيرة فوجد العير قد مضت، وحالف عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة بني مدلج وحلفاءهم، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع. غزوة بدر الأولى وبعد رجوعه عليه الصلاة والسلام بقليل جاء كرز بن جابر الفهري «3» ، وأغار على سرح «4» المدينة وهرب، فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طلبه، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة الأنصاري، وحمل لواءه على بن أبي طالب، فسار حتى بلغ سفوان «5» وفاته كرز فلم يلق حربا، وتسمى هذه الغزوة بدرا الأولى.

_ (1) العشيرة مصغرة وتروى بالسين والعشير مصغرة بدون هاء في اخره وتروى كذلك بالسين. والعشيراء مصغرة ممدودة وتروى بالسين. والعسيراء اسم مصغر من العسراء أو العسرى وإذا صغر تصغير الترخيم قيل عسيرة، وهي بقلة تكون أذنة أي عصيفة ثم تكون سحاء ثم يقال لها العسرى فروى البخاري عن زيد ابن أرقم فقيل له كم غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم من غزوة وقال: تسع عشرة قيل كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة. قلت فأيهم كانت أول؟ قال: العسيرة أو العشير. (2) هو والد معاوية، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان تاجرا، أسلم يوم الفتح وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينا وأعطاه من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وكانت له كنية أخرى أبو حنظلة بابنه حنظلة المقتول يوم بدر كافرا، وشهد يوم الطائف وفقئت عينه بها، فلم يزل أعور حتى فقئت عينه الاخرى يوم اليرموك ومات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، وصلّى عليه ابنه معاوية ودفن بالبقيع، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. (3) كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم ثم أسلم. (4) واد من ناحية بدر (المؤلف) . (5) هي غزوة سفوان وسفوان وادي من ناحية بدر وقد ذكر ابن اسحاق هذه الغزوة بعد العشيرة قال ابن حزم: بعشرة أيام.

سرية

سرية «1» وفي رجب من هذه السنة أرسل سرية عدّتها ثمانية رجال، يرأسها عبد الله بن جحش «2» ، وأعطاه كتابا مختوما لا يفضه إلّا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه، فسار عبد الله يومين، ثم فتح الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة «3» ، فترصّد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم» وإنما لم يخبرهم عليه الصلاة والسلام بمقصدهم وهم بالمدينة حذرا من شيوع الخبر، فيدل عليهم أحد الأعداء من المنافقين أو اليهود فتترصّد لهم قريش. ولا يخفى أن عدد السرية قليل لا يمكنه المقاومة، ثم سار عبد الله رضي الله عنه، وفي أثناء السير تخلّف سعد بن أبي وقاص وعتبه بن غزوان لأنهما أضلا بعيرهما الذي كانا يعتقبانه، وسار الباقون حتى وصلوا نخلة فمرّت بهم عير قرشية تريد مكّة فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان، فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في اخر يوم من رجب، فقتلوا عمرو بن الحضرمي «4» ، وأسروا عثمان والحكم، وهرب نوفل، واستاقوا العير وهي أول غنيمة غنمها المسلمون من أعدائهم قريش ثم رجعوا، ولم يتمكّن المشركون من اللحاق بهم، فلمّا قدموا المدينة وشاع أنهم قاتلوا في الأشهر الحرم، وعابتهم قريش واليهود بذلك، عنّفهم المسلمون، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم فندموا، فأنزل الله في سورة البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «5» فسرّي عنهم. وقد طلب المشركون فداء أسيريهما، فقال عليه الصلاة والسلام: حتى يرجع سعد وعتبة، فلمّا رجعا قبل عليه الصلاة والسلام الفدية في الأسيرين، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه مع المسلمين، وأما عثمان فلحق بمكة كافرا.

_ (1) سرية عبد الله بن جحش. (2) أحد السابقين، هاجر إلى الحبشة، واستشهد بأحد، ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وعاش نيف وأربعون سنة. (3) بين مكة والطائف. (4) رمى واقد بن عبد التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله. (5) اية 217.

تحويل القبلة

تحويل القبلة «1» مكث عليه الصلاة والسلام بالمدينة ستة عشر شهرا يستقبل بيت المقدس في صلاته «2» وكان يحب أن تكون قبلته الكعبة ويقلّب وجهه في السماء داعيا الله بذلك. فبينما هو في صلاته إذ أوحى الله إليه بتحويل القبلة إلى الكعبة فتحوّل وتحوّل من وراءه. وكانت هذه الحادثة سببا لافتتان بعض المسلمين الذين ضعفت قلوبهم فارتدّوا على أعقابهم، وقد أكثر اليهود من التنديد على الإسلام بهذا التحويل، وما دروا أنّ لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. صوم رمضان «3» وفي شعبان من هذه السنة أوجب الله صوم شهر رمضان على الأمة الإسلامية، وكان عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، والصيام من دعائم هذا الدين، والفرائض التي يتمّ بها النظام، فإن الإنسان مجبول على حب نفسه، والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاصّ، تاركا ما وراء ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين، فلا بدّ من وازع يزعه لحاجات قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك حاجاتهم، ولا أقوى من ذوق قوارص الجوع والعطش، إذ بهما تلين نفسه ويتهذّب خلقه، فيسهل عليه بذل الصدقات.

_ (1) قال الجمهور الأعظم من العلماء: إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة. (2) وفي البخاري وعن البراء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدّس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وكذلك في مسلم وعند ابن أبي حاتم، ويحكي القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام ويرى ابن عباس وغيره أن التوجه كان بأمر الله. وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت الحرام وأنه صلّى أول صلاة صلاها إلى الكعبة العصر وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان معه فمرّ على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صلّيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتوجّهوا إلى الكعبة وهم في الصلاة. (3) إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء ثم أن الله فرض عليه الصيام وأنزل «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... » ثم أنزل الاية الاخرى «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... » إلى قوله «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا منعوا حتى أنزل الله «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ» إلى قوله «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» .

صدقة الفطر

صدقة الفطر ولذلك أوجب الشّارع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى الإنسان يبذلها بسخاء ومحبّة خالصة. زكاة المال «1» وفي هذا العام فرضت زكاة الأموال، وهذه هي النظام الوحيد الذي به يأكل الفقراء والمساكين من إخوانهم الأغنياء بلا ضرر على هؤلاء، فإذا بلغت الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين، وحال عليها الحول، وجب عليك أن تؤدّي ربع عشرها- أي اثنين ونصفا في كل مائة- وما زاد فبحسابه. وإذا بلغت الشياه أربعين، والبقر ثلاثين، والإبل خمسا، وحال عليها الحول وجب عليك كذلك أن تؤدّي منها جزا مخصوصا حدّده الشّارع «2» . ومثلها عروض التجارة ومحصولات الزراعة كل هذا يقبضه الإمام، ويوزعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين وبقية المذكورين في اية الصدقة إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «3» واللبيب العاقل البعيد عن التعصّب يحكم لأول نظرة أنّ هذا النظام مع عدم اضراره بالأغنياء مقلّل لمصائب الفقر التي ألجأت كثيرا من فقراء الأمم أن يخالفوا نظام دولهم، ويؤسسوا مبادىء تقويض العمران وتداعي الأمن كما يفعله الإشتراكيون وغيرهم. غزوة بدر الكبرى «4» لم يطل العهد بتلك العير العظيمة التي خرج لها عليه الصلاة والسلام وهي

_ (1) وهي لغة: التطهير والإصلاح والنماء والمدح، وشرعا: اسم لما يخرج من مال أو صدقة على وجه مخصوص وهي أحد أركان الاسلام ومن جحدها كفر ويقاتل الممتنع عن أدائها، وتؤخذ منه قهرا وإن لم يقاتل. (2) كل أربعين شاة إلى مائة وعشرين شاة شاة وفي ثلاثين من البقر تبيع (له سنة) وفي كل أربعين مسنة (لها سنتان) وفي خمس من الإبل إلى عشرين جذعة، أو جذع ضأن (له سنة) . (3) سورة التوبة اية 60. (4) حدثت في 17 رمضان في السنة الثانية من الهجرة سنة 924 م في يوم الجمعة على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة. وبدر بلدة بالحجاز إلى الجنوب الشرقي من ساحل البحر، ويسمونها بدر حنين

متوجّهة إلى الشام، فلم يدركها ولم يزل مترقبا رجوعها. فلما سمع برجوعها ندب إليها أصحابه وقال: هذه عير قريش فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها فأجاب قوم وثقل اخرون لظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرد حربا، فإنه لم يحتفل بها بل قال: من كان ظهره حاضرا فليركب معنا. ولم ينتظر من كان ظهره غائبا، فخرج لثلاث ليال خلون من رمضان بعد أن ولّى على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا: مائتان ونيف وأربعون من الأنصار. والباقون من المهاجرين، ومعهم فرسان، وسبعون بعيرا يعتقبونها «1» . والحامل للواء مصعب بن عمير العبدري. ولما علم أبو سفيان بخروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم استأجر راكبا «2» ليأتي قريشا ويخبرهم الخبر، فلمّا علموا بذلك أدركتهم حميتهم، وخافوا على تجارتهم، فنفروا سراعا ولم يتخلّف من أشرافهم إلّا أبو لهب بن عبد المطلب، فإنه أرسل بدله العاص بن هشام بن المغيرة «3» . وأراد أمية بن خلف أن يتخلّف لحديث حدثه إياه سعد بن معاذ حينما كان معتمرا بعد الهجرة بقليل، حيث قال كما رواه البخاري: سمعت من رسول الله يقول: إنهم قاتلوك بمكّة؟ قال لا أدري، ففزع لذلك، وحلف ألّا يخرج، فعابه أبو جهل ولم يزل به حتى خرج قاصدا الرجوع بعد قليل. ولكن إرادة الله فوق كل إرادة فإن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه. وكذلك عزم جماعة من الأشراف «4» على القعود فعيب عليهم ذلك، وبهذا أجمعت رجال قريش على الخروج، فخرجوا على الصعب والذلول، أمامهم القينات يغنين بهجاء المسلمين وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ «5» . وقد ضرب الله عمل الشيطان هذا مثلا يعتبر به ذوو الرأي من بعدهم، فقال في سورة الحشر: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ»

_ وهي في سهل يليه من الشمال إلى الشرق جبال وعرة ومن الجنوب اكام صخرية، ومن الغرب كثبان رملية. (1) يتناوبون ركوبها. (2) ضمضم بن عمرو. (3) استأجره بأربعة الاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها. (4) عتبة بن ربيعة وأبو سفيان وحكيم بن حزام. (5) سورة الأنفال اية 48. (6) اية 16.

وهكذا كان عمله في هذه الواقعة فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ «1» وكان عدة من خرج من المشركين تسعمائة وخمسين رجلا معهم مائة فرس وسبعمائة بعير «2» أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يكن يعرف شيئا مما فعله المشركون، ولم يكن خروجه إلّا للعير، فعسكر ببيوت السقيا خارج المدينة، واستعرض الجيش فردّ من ليس له قدرة على الحرب، ثم أرسل اثنين يتجسّسان الأخبار «3» عن العير. ولما بلغ الروحاء «4» جاءه الخبر بمسير قريش لمنع عيرهم، وجاءه كبراء الجيش وقال لهم: «أيها الناس إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم العير أو النفير» فتبيّن له عليه الصلاة والسلام أن بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير ليستعينوا بما فيها من الأموال، فقد قالوا هلا ذكرت لنا القتال فنستعد، وجاء مصداق ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «5» . ثم قام المقداد بن الأسود «6» رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فو الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو سرت بنا إلى برك الغماد «7» لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه فدعا له بخير، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا عليّ أيها الناس وهو يريد الأنصار، لأن بيعة العقبة ربما يفهم منها أنه لا تجب عليهم نصرته إلّا ما دام بين أظهرهم. فإن فيها: يا رسول الله إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، فإذا

_ (1) سورة الأنفال اية 48. (2) قال الأموي: كان مع المشركين ستون فرسا وستمائة درع، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسان وستون درعا. (3) وهما بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزّغباء حليف بني النجار قال موسى بن عقبة: عدى بن أبي الزغباء مات في خلافة عمر وكان قد شهد بدرا وأحدا والخندق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (4) موضع على ثلاثين أو أربعين ميلا جنوب المدينة الغربي (المؤلف) . (قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر. وقال الهمداني: هو في أقصى اليمن) . (5) اية 7. (6) يكنى أبا الأسود أسلم قديما، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان فارسا، واتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان قيل وهو ابن سبعين سنة. (7) بالغين المعجمة تضم وتكسر لغتان بعد ميم وألف ودال مهملة وقال ياقوت في المشترك «باب برك ثمانية مواضع بكسر الباء وسكون الراء وكاف وهو أقصى حجر باليمن.

وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فقال سعد بن معاذ سيد الأوس: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال أجل، فقال سعد: قد امنا بك وصدّقناك، وأعطيناك عهودنا، فامض لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر على بركة الله، فأشرق وجهه عليه الصلاة والسلام وسرّ بذلك وقال كما في رواية البخاري « (أبشروا والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) » فعلم القوم من هذه الجملة أنّ الحرب لا بدّ حاصلة وحقيقة حصلت، فإنّ أبا سفيان لما علم بخروج المسلمين له ترك الطريق المسلوكة، وسار متبعا ساحل البحر فنجا، وأرسل إلى قريش يعلمهم بذلك، ويشير عليهم بالرجوع، فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نحضر بدرا «1» فنقيم فيه ثلاثا ننحر الجزر «2» ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا. فقال الأخنس بن شريق الثقفي لبني زهرة وكان حليفا لهم: ارجعوا يا قوم فقد نجّى الله أموالكم، فرجعوا، ولم يشهد بدرا زهري ولا عدوي، ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى «3» عن المدينة في أرض سهلة لينة أما جيش المسلمين، فإنّه لمّا قارب بدرا أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ليعرفا الأخبار «4» فصادفا سقاة لقريش فيهم غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص السهميين، فأتيا بهما والرسول عليه الصلاة والسلام قائم يصلي، ثم سألاهما عن أنفسهما فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء، فضرباهما لأنهما ظنا أن الغلامين لأبي سفيان، فقال الغلامان: نحن لأبي سفيان فتركاهما. ولما أتمّ الرسول عليه الصلاة والسلام صلاته قال: إذا صدقاكم ضربتموهما. وإذا كذباكم تركتموهما؟! صدقا «5» . والله إنهما لقريش. ثم قال لهما: أخبراني عن قريش؟

_ (1) محل بين مكة والمدينة وهو إلى المدينة أقرب في الجنوب الغربي منها على الطريق السلطاني، وكان به سوق تعقد كل سنة ثمانية أيام (المؤلف) . (2) الجزر: ما يذبح من الشاة واحدتها جزرة. والعبارة في سيرة ابن هشام ننحر الجزور. (3) عدوة الوادي: شاطئه (المؤلف) . (4) وزاد ابن اسحاق سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحابه كما حدثه يزيد ابن رومان عن عروة بن الزبير. (5) اسمهما: أسلم غلام بني الحجاج وعريض أبو يسار.

قالا: هم وراء هذا الكثيب، فقال لهما: كم هم؟ فقالا: لا ندري. قال كم ينحرون كل يوم. قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. قال: القوم ما بين التسعمائة والألف، ثم سألهما عمن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عددا عظيما «1» فقال عليه الصلاة والسلام لاصحابه: هذه مكّة قد ألقت اليكم أفلاذ كبدها «2» ، ثم ساروا حتى نزلوا بعدوة الوادي الدنيا من المدينة بعيدا عن الماء في أرض سبخة «3» ، فأصبح المسلمون عطاشا بعضهم جنب وبعضهم محدث، فحدّثهم الشيطان بوسوسته، ولولا فضل الله عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم، فإنه قال لهم: ما ينتظر المشركون منكم إلّا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا. فأرسل الله لهم الغيث حتى سال الوادي، فشربوا واتّخذوا الحياض على عدوة الوادي، واغتسلوا وتوضؤوا وملؤوا الأسقية، ولبدت الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام، على حين أنّ كان هذا المطر مصيبة على المشركين، فإنه وحّل الأرض حتى لم يعودوا يقدرون على الارتحال. ومصداق هذا قوله تعالى في سورة الأنفال وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «4» وقد أرى الله رسوله في منامه الأعداء كما أراهموه وقت اللقاء قليلي العدة كيلا يفشل المسلمون، وليقضي الله أمرا كان مفعولا. قال تعالى في سورة الأنفال إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «5» ثم سار جيش المسلمين حتى نزل أدنى ماء من بدر، فقال له الحباب بن المنذر «6» الأنصاري وكان مشهورا بجودة الرأي:

_ (1) هم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية ابن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ودّ. (2) قطع كبدها. (3) مالحة. (4) اية 11 (5) اية 43- 44. (6) يكنى أبا عمرو شهد بدرا وكان يدعى بأبي الرأي مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين.

يا رسول الله هذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّم عنه أو نتأخّر أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله: ليس لك هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارة مائه وكثرته فننزله ونغور «1» ما عداه من الابار، ثم نبني عليه حوضا، فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: لقد أشرت بالرأي. ونهض حتى أتى أدنى ماء من القوم، ثم أمر بالابار التي خلفهم فغوّرت لينقطع أمل المشركين في الشرب من وراء المسلمين، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه. ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس: يا نبي الله ألا نبني لك عريشا «2» تكون فيه، ونعدّ عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزّنا الله تعالى وأظهرنا على عدّونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام، يا نبيّ الله، ما نحن بأشدّ حبّا منهم، ولا أطوع لك منهم لهم رغبة في الجهاد ونيّة، ولو ظنّوا أنك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، إنما ظنّوا أنها العير، يمنعك الله بهم، ويناصحونك ويجاهدون معك، فقال عليه الصلاة والسلام: أو يقضي الله خيرا من ذلك. ثم بني للرسول عريش فوق تل مشرف على ميدان الحرب، ولما اجتمعوا عدل عليه الصلاة والسلام صفوفهم مناكبهم متلاصقة، فصاروا كأنهم بنيان مرصوص ثم نظر لقريش فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها «3» وفخرها تحادّك «4» وتكذب رسولك اللهمّ فنصرك الذي وعدتني به» . وفي هذا الوقت وقع خلف بين رؤساء عسكر المشركين، فإن عتبة بن ربيعة أراد أن يمنع الناس من الحرب ويحمل دم حليفه عمرو بن الحضرمي الذي قتل في سرية عبد الله بن جحش، ويحمل ما أصيب من عيره ودعا الناس إلى ذلك، فلمّا بلغ أبا جهل الخبر وسمه بالجبن وقال: والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وقبل أن تقوم الحرب على ساقها، خرج من صفوف المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب

_ (1) أي ندفن ونطمس. (2) العرش كل ما أظلك وعلاك من فوقك. (3) كبريائها. (4) تعاديك.

وضربه ضربة قطع بها قدمه بنصف ساقه فوقع على ظهره، فزحف على الحوض حتى اقتحم فيه ليبرّ قسمه فأتبعه حمزه فقتله، ثم وقف عليه الصلاة والسلام يحرض الناس على الثبات والصبر وكان فيما قال: «وأن الصبر في مواطن البأس ما يفرّج الله به الهمّ وينجّي به من الغم» . ثم ابتدأ القتال بالمبارزة فخرج من صفوف المشركين ثلاثة نفر: عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فطلبوا أكفاءهم فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار «1» . فقالوا لا حاجة، لنا بكم، إنما نريد أكفاءنا من بني عمنا، فأخرج لهم عليه الصلاة والسلام عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب للأول، وحمزة بن عبد المطلب للثاني. وعلي بن أبي طالب للثالث. فأما حمزة وعلي فقتلا صاحبيهما، وأما عبيدة وعتبة فأختلفا بضربتين كلاهما جرح صاحبه؛ فحمل رفيقا عبيدة على عتبة فأجهزا عليه. وحمل عبيدة بين الصفوف جريحا يسيل مخ ساقه، وأضجعوه إلى جانب موقفه صلّى الله عليه وسلّم فأفرشه رسول الله قدمه الشريفة. فوضع خده عليها وبشّره عليه الصلاة والسلام بالشهادة. فقال: وددت والله أن أبا طالب كان حيّا ليعلم أننا أحقّ منه بقوله: ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وبعد انقضاء هذه المبارزة وقف عليه الصلاة والسلام بين الصفوف يعدلها بقضيب في يده. فمرّ بسوّاد بن غزيّة، حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فضربه بالقضيب في بطنه وقال: «استقم يا سوّاد» ، فقال: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثت بالحقّ والعدل، فأقدني من نفسك. فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه، وقال: استقد يا سواد، فاعتنقه سواد وقبّل بطنه. فقال عليه الصلاة والسلام: ما حملك على ذلك؟ فقال: يا رسول الله: قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون اخر العهد أن يمسّ جلدي جلدك «2» فدعا له بخير، ثم ابتدأ عليه الصلاة والسلام يوصي الجيش فقال: ( «لا تحملوا حتى امركم وأن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل «3» ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» ثم حضّهم على الصبر

_ (1) وهم عوف ومعوّذ- ابنا الحارث- ورجل اخر يقال هو عبد الله بن رواحة. (2) رواه ابن منده وأبو نعيم وأبو عمر بن عبد البر وقال أبو عمر قد رويت هذه القصة لسواد بن عمرو لا لسواد بن غزيّة. (3) رواه ابن اسحاق.

والثبات، ثم رجع إلى عريشه ومعه رفيقه أبو بكر وحارسه سعد بن معاذ واقف على باب العريش متوشّح سيفه، وكان من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام ذاك الوقت كما جاء في صحيح البخاري «اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان شئت لم تعبد» ) فقال أبو بكر: حسبك فإن الله سينجز لك وعدك «1» . فخرج عليه الصلاة والسلام من العريش وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «2» . ثم قال عليه الصلاة والسلام يحرض الجيش: «والذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنّة، ومن قتل قتيلا فله سلبه» فقال عمير بن الحمام «3» وبيده تمرات يأكلها: بخ بخ «4» ، ما بيني وبين أن أدخل الجنّة ألا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، وقاتل حتى قتل «5» ، واشتدّ القتال، وحمي الوطيس. وأيّد الله المسلمين بالملائكة بشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم، فلم تكن إلّا ساعة حتى هزم الجمع، وولوا الدّبر، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقتل من المشركين نحو السبعين منهم من قريش عتبة «6» وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة قتلوا مبارزة أول القتال» ، وأبو البختري بن هشام «8» ، والجرّاح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر، وقتل أمية بن خلف وابنه علي، اشترك في قتلهما جماعة من الأنصار مع بلال بن رباح وعمّار بن ياسر، وقد سعيا في ذلك لما كان يفعله بهما أمية في مكّة. ومن القتلى حنظلة بن أبي سفيان، وأبو جهل بن هشام أثخنه فتيان صغيران «9» من الأنصار،

_ (1) رواه الشيخان والترمذي. (2) سورة القمر اية 45. (3) كان أول قتيل في سبيل الله في الحرب. وفي حديث مسلم والبخاري: أن هذه القصة كانت أيضا يوم أحد لكنه لم يسمّ فيها عميرا، ولا غيره فالله أعلم. (4) هي كلمة معناها التعجب وفيها لغات بسكون الخاء وبكسرها مع التنوين وبتشديدها منوّنة وغير منونة. (5) قتله خالد بن الأعلم. (6) قال ابن هشام: اشترك فيه هو وحمزة وعلي. (7) قال ابن إسحاق: شيبة قتله حمزة والوليد قتله علي بن أبي طالب. (8) قتله المجذّر بن زياد البلوي. (9) ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح فقطع رجله وضرب ابنه عكرمة يد معاذ فطرحها ثم ضربه معوّذ بن عفراء حتى أثبته، ثم تركه وبه رمق، ثم دفق عليه عبد الله بن مسعود واحتز رأسه، حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلتمس في القتلى. وفي صحيح مسلم أنهما معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمر بن الجموح وأصح من هذا كله حديث أنس حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من يأتيني بخبر أبي جهل، في الحديث وفيه أن بني عفراء قتلاه.

لما كانا يسمعانه من أنه كان شديد الإيذاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وقتل نوفل بن خويلد قتله علي بن أبي طالب، وقتل عبيدة والعاص «1» والد أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، وقتل كثيرون غيرهم، أما الأسرى فكانوا سبعين أيضا، قتل منهم عليه الصلاة والسلام وهو راجع بن أبي معيط «2» ، والنضر بن الحارث «3» اللذين كانا بمكّة من أشدّ المستهزئين. وكانت هذه الواقعة في 17 رمضان، وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القران وبين التاريخين 14 سنة قمرية كاملة. وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقتلى فنقلوا من مصارعهم التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر، لأنه عليه الصلاة والسلام كان من سننه في مغازيه إذا مرّ بجيفة إنسان أمر بها فدفنت لا يسأل عنه مؤمنا، أو كافرا «4» . ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة «5» أحد السابقين إلى الإسلام تغير وجه ابنه، ففطن الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك، فقال: لعلّك دخلك من شأن أبيك شيء! فقال لا والله ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له الرسول عليه الصلاة والسلام بخير، ثم أمر عليه الصلاة والسلام براحلته، فشدّ عليها حتى قام على شفة القليب الذي رمى فيه المشركون، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء ابائهم: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله، فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا. فقال عمر: يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح فيها! فقال: والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، وتقول عائشة رضي الله عنها: إنما قال إنهم الان ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حقّ، ثم

_ (1) قتله عمر بن الخطاب. (2) قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. (3) قتله علي ابن أبي طالب. (4) هكذا وقع في السن للدار قطني. (5) يكنى سالما هاجر الهجرتين، وصلّى إلى القبلتين، وأسلم بعد ثلاثة وأربعين انسانا، وكان ممن شهد بدرا، واستشهد يوم اليمامة وهو ابن ست وخمسين سنة.

قرأت: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «1» وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «2» ، تقول يعلمون ذلك حينما تبوؤوا مقاعدهم من النار- رواه البخاري- ثم أرسل عليه الصلاة والسلام المبشرين، فأرسل عبد الله بن أبي رواحة لأهل العالية «3» ، وأرسل زيد بن حارثة لأهل السافلة راكبا على ناقة رسول الله، وكان المنافقون والكفّار من اليهود قد أرجفوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، عادة الأعداء في إذاعة الضرّاء يقصدون بذلك فتنة المسلمين، فجاء أولئك المبشّرون بما سرّ أهل المدينة، وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت رسول الله زوج عثمان. ثم قفل رسول الله راجعا، وهنا وقع خلف بين بعض المسلمين في قسمة الغنائم، فالشبان يقولون: باشرنا القتال، فهي لنا خالصة، والشيوخ يقولون: كنّا ردا لكم فنشارككم. ولمّا كان هذا الاختلاف مما يدعو إلى الضعف، ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى تشتت الشمل، أنزل الله حسما لهذا الخلاف أول سورة الأنفال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» فسطع على أفئدتهم نور القران، فتألفت بعد أن كادت تفترق، وتركوا أمر الغنائم لرسول الله يضعها كيف شاء كما حكم القران، فقسّمها عليه الصلاة والسلام على السواء الراجل مع الراجل، والفارس مع الفارس، وأدخل في الإسهام بعض من لم يحضر لأمر كلّف به وهم: أبو لبابة الأنصاري «5» لأنه كان مخلّفا على أهل المدينة والحارث بن حاطب «6» لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلّفه على بني عمرو بن عوف ليحقّق أمرا بلغه، والحارث بن الصمّة «7» وخوّات بن جبير لأنهما كسرا بالروحاء، فلم يتمكّنا من السير، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد لأنهما أرسلا يتجسّسان الأخبار، فلم

_ (1) سورة الروم الاية 52. (2) سورة فاطر الاية 22. (3) قرى بظاهر المدينة وهي العوالي- (المؤلف) . (4) اية رقم 1. (5) وكان أحد نقباء ليلة العقبة وكانت راية بني عمرو بن عوف يوم الفتح معه ويقال مات في خلافة علي رضي الله عنه. (6) أخو ثعلبة وروى الطبراني بسند ضعيف أن هذا شهد صفين مع علي رضي الله عنه. (7) اخى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين صهيب بن سنان وشهد أحدا إلى جنب الجبل وروى ابن اسحاق في المغازي أنه استشهد ببئر معونة.

أسرى بدر

يرجعا إلّا بعد انتهاء الحرب، وعثمان بن عفّان لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلّفه على ابنته رقيّة يمرضها، وعاصم بن عدي «1» لأنه خلفه على أهل قباء والعالية، وكذلك أسهم لمن قتل ببدر وهم أربعة عشر منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الذي جرح في المبارزة الأولى، فإنه رضي الله عنه مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصّفراء «2» . ولما قارب عليه الصلاة والسلام المدينة تلقته الولائد بالدفوف يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع أسرى بدر ولما دخلوا المدينة استشار عليه الصلاة السلام أصحابه فيما يفعل بالأسرى، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله قد كذّبوك وقاتلوك وأخرجوك فأرى أن تمكّنني من فلان لقريب له فأضرب عنقه، وتمكّن حمزة من أخيه العباس، وعليّا من أخيه عقيل «3» . وهكذا حتى يعلم الناس أنه ليس في قلوبنا مودّة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى، فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. ووافقه على ذلك سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة، وقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء أهلك وقومك قد أعطاك الله الظفر والنصر عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفّار، وعسى أن الله يهداهم بك فيكونوا لك عضدا. فقال عليه الصلاة والسلام: إنّ الله ليلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن، وإنّ الله ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ

_ (1) حليف الأنصار كان سيد بني عجلان وهو أخو معن بن عدي يكنى أبا عمرو وشهد أحدا وما بعدها مات سنة خمس وأربعين وهو ابن مائة وخمس عشرة. (2) بقعة بين مكّة والمدينة. (3) أسلم عام الحديبية وفي الإصابة تأخر إسلامه إلى عام الفتح. سكن البصرة، ومات بالشام، في خلافة معاوية. روى عن النبي أحاديث. وكان أسن من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أسن من علي بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بمثل ذلك.

الفداء

رَحِيمٌ «1» وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» ورأى عليه الصلاة والسلام رأي أبي بكر بعد أن مدح كلا من الصاحبين لأن الوجهة واحدة وهي إعزاز الدين، وخذلان المشركين ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة «3» فلا يفلتن أحد من أسراكم إلّا بفداء، وقد بلغ قريشا ما عزم عليه الرسول في أمر الأسرى، فناحت على القتلى شهرا ثم أشير عليهم من كبارهم ألّا يفعلوا كيلا يبلغ محمّدا وأصحابه جزعهم فيشمتوا بهم، فسكتوا وصمموا على ألّا يبكوا قتلاهم حتى يأخذوا بثأرهم، وتواصوا فيما بينهم ألّا يعجلوا في طلب الفداء لئلا يتغالى المسلمون فيه. الفداء فلم يلتفت إلى ذلك المطلب ابن أبي وداعة السهمي. وكان أبوه من الأسرى، فخرج خفية حتى أتى المدينة وفدى أباه بأربعة الاف درهم، وعند ذلك بعثت قريش في فداء أسراها، وكان أربعة الاف درهم، ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة يعلّمهم، وكان ذلك فداءه. ومن الأسرى: عمرو بن أبي سفيان، ولما طلب من أبيه فداؤه أبى وقال: والله لا يجمع محمّد بين ابني ومالي دعوه يمسكوه في أيديهم ما بدا لهم. فبينما أبو سفيان بمكّة إذ وجد سعد بن النعمان الأنصاري معتمرا، فعدا عليه فحبسه بابنه عمرو، فمضى قوم سعد إلى رسول الله وأخبروه فأعطاهم عمرا ففكّوا به سعدا ومن الأسرى: أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول، وكان عليه الصلاة والسلام قد أثنى عليه خيرا في مصاهرته، فإنه لما استحكمت العداوة بين قريش ورسول الله بمكّة، طلبوا من أبي العاص أن يطلّق زينب، كما فعل ابنا أبي لهب بابنتي الرسول، فامتنع وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وأحب أنّ لي بها امرأة من قريش، ولما أسر أرسلت زينب في فدائه قلادة لها كانت حلّتها بها أمها خديجة

_ (1) سورة إبراهيم اية 36. (2) سورة نوح اية 26، رواه الإمام أحمد في مسنده. (3) فقراء.

ليلة عرسها. فلمّا رأى عليه الصلاة والسلام تلك القلادة رقّ لها رقة شديدة، وقال لأصحابه: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا لها قلادتها فافعلوا، فرضي الأصحاب بذلك، فأطلقه عليه الصلاة والسلام بشرط أن يترك زينت تهاجر إلى المدينة. فلمّا وصل إلى مكّة أمرها باللحاق بأبيها، وكان الرسول أرسل لها من يأتي بها فاحتملوها. هذا ولما أسلم أبو العاص بن الربيع قبيل الفتح ردّ عليه امرأته بالنكاح الأول «1» . ومن الأسرى: سهيل بن عمرو «2» وكان من خطباء قريش وفصحائها وطالما اذى المسلمين بلسانه، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل، يدلع «3» لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فقال عليه الصلاة والسلام «لا أمثّل فيمثّل الله بي وإن كنت نبيّا، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمّه» وقدم بفدائه مكرز بن حفص، ولما ارتضى معهم على مقدار حبس نفسه بدله حتى جاء بالفداء. هذا وقد حقق الله خبر الرسول في سهيل، فإنه لمّا مات عليه الصلاة والسلام أراد أهل مكّة الارتداد كما فعل غيرهم من الأعراب، فقام سهيل هذا خطيبا وقال: بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله: أيها الناس من كان يعبد محمّدا فإن محمّدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت ألم تعلموا أن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4» وقال وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ «5» ثم قال: والله وأني أعلم أنّ هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها فلا يغرّنكم هذا- يريد أبا سفيان من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم لكنه قد ختم على صدره حسد

_ (1) لم يحدث شيئا بعد ست سنين، ويعارض هذا الحديث ما رواه عنه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ردها عليه بنكاح جديد وهذا الحديث هو الذي عليه العمل ومنه جمع بين الحديثين قال حديث ابن عباس معنى ردها عليه على النكاح الأول، أي أعلى مثل النكاح الأول، في الصداق والحياء لم يحدث زيادة على ذلك شرط، ولا غيره. (2) القرشي العامري خطيب قريش أبو يزيد، قال البخاري سكن مكة ثم المدينة، وهو الذي تولى أمر صلح الحديبية وكلامه ومراجعته للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووقف موقفا قيما عند وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين ومات بالطاعون سنة ثمان عشرة. (3) يخرج. (4) سورة الزمر اية 30. (5) سورة ال عمران اية 144.

بني هاشم، وتوكّلوا على ربكم، فإنّ دين الله قائم، وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره ومقوّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يريد أبا بكر وإن ذلك لم يزد الإسلام إلّا قوة فمن رأيناه ارتدّ ضربنا عنقه، فتراجع الناس عمّا كانوا عزموا عليه، وكان هذا الخبر من معجزات نبينا صلّى الله عليه وسلّم. ومن الأسرى: الوليد بن الوليد «1» أفتكّه أخواه خالد وهشام، فلمّا افتدى ورجع إلى مكّة أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل الفداء؟ فقال: خفت أن يعدّوا إسلامي خوفا. ولما أراد الهجرة منعه أخواه ففرّ إلى النبي في عمرة القضاء. ومن الأسرى: السائب بن يزيد «2» وكان صاحب الراية في تلك الحرب فدى نفسه وهو الجد الخامس للإمام محمّد بن إدريس الشافعي. ومنهم: وهب بن عمير الجمحي «3» كان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش كثير الإيذاء لرسول الله، جلس يوما بعد انتهاء هذه الحرب مع صفوان بن أمية «4» يتذكران مصاب بدر، فقال عمير: والله لولا دين عليّ ليس عندي قضاؤه وعيال أخشى عليهم الفقر بعدي، كنت اتي محمدا فأقتله، فإن ابني أسير في أيديهم، فقال صفوان: دينك عليّ وعيالك مع عيالي، فأخذ عمير سيفه وشحذه وسمّه، وانطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر مع نفر من المسلمين إذ نظر إلى عمير متوشحا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله ما جاء إلّا بشرّ، ثم قال للنبي عليه الصلاة والسلام هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا سيفه فقال: أدخله عليّ. فأخذ عمر

_ (1) حضر بدرا مع المشركين فأسر فافتداه أخواه هشام وخالد، ولما أسلم حبسه أخواله فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو له في القنوت ثم أفلت من أسرهم ولحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرة القضاء، ويقال أنه مات ببئر أبي عتبة. (2) يعرف بابن أخت النمر بن جبل، ولما ألمّ به وجع في رأسه مسح النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسه ودعا له، وتوضأ فشرب من وضوء النبي، ونظر إلى خاتم النبوة. وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث، واستعمله عمر على سوق المدينة، ومات سنة 82 هـ. (3) شهد فتح مصر، وولي بحر مصر في غزوة عمورية، وكان من أحفظ الناس، فكانت قريش تقول: «له قلبان» من شدّة حفظه. (4) يكنى أبا وهب، وأبوه أمية بن خلف، وهرب صفوان يوم الفتح ثم رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فشهد معه حنينا والطائف وهو كافر، وامرأته مسلمة أسلمت يوم الفتح قبل صفوان بشهر، ثم أسلم صفوان، وكان أحد الأشراف في الجاهلية، وكان أحد المطعمين وهو أحد المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم، وكان من أفصح قريش لسانا، ومات بمكة سنة 42 في أول خلافة معاوية.

بحمائل «1» سيفه وأدخله، فلمّا راه عليه الصلاة والسلام قال: أطلقه يا عمر، أدن يا عمير فدنا وقال: أنعموا صباحا، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أبدلنا الله تحية خيرا من تحيتك وهي: السلام، ثم قال ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف؟ قال قبّحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا؟ قال عليه الصلاة والسلام: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلّا لذلك. قال عليه الصلاة والسلام: كلا بل قعدت أنت وصفوان في الحجر وقلتما كيت وكيت فأسلم عمير وقال: كنّا نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلّا أنا وصفوان!! فقال عليه الصلاة والسلام: فقّهوا أخاكم في دينه وأقرؤوه القران، وأطلقوا أسيره، فعاد عمير إلى مكة وأظهر أسلامه. ومن الأسرى: أبو عزيز بن عمير «2» أخو مصعب بن عمير مرّ به أخوه فقال للذي أسره: شدّ يدك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك. فقال له: يا أخي هذه وصايتك بي! ثم بعثت أمه بفدائه أربعة الاف درهم. ومن الأسرى: العباس بن عبد المطلب» عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان قد خرج لهذه الحرب مكرها، ولما وقع في الأسر طلب منه فداء نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب، فقال: علام ندفع وقد استكرهنا على الخروج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كنت في الظاهر علينا، فأخذت منه فدية نفسه وابن أخيه، ثم قال للرسول: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت، قال كيف وقد تركت لأم الفضل أموالا؟ وقلت لها إن متّ فقد تركتك غنية! فقال العباس: والله ما اطّلع على ذلك أحد. وهذا العمل غاية ما يفعل من العدل والمساواة فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعف عمّه مع علمه بأنه إنما خرج مكرها، وقد أعفى غيره جماعة تحقق له فقرهم فهكذا العدل، ولا غرابة فذلك أدب قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ

_ (1) جمع حمل وهي علاقته. (2) اسم أبي عزيز هذا زرارة له صحبة وسماع من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل قتل مع أخيه في أحد شهيدا. (3) عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكنى بأبي الفضل، ولد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وكان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد الفتح، وثبت يوم حنين، وكان العباس أعظم الناس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والصحابة يعترفون للعباس بفضله ويشاورونه ويأخذون رأيه، ومات بالمدينة سنة 32.

العتاب في الفداء

بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ «1» ومن الأسرى: أبو عزة الجمحي الشاعر، كان شديد الإيذاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة فلمّا أسر قال: يا محمد إني فقير، وذو عيال، وذو حاجة قد عرفتها فامنن، فمن عليه فضلا منه. العتاب في الفداء ولما تمّ الفداء أنزل الله في شأنه ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» نهى سبحانه عن اتّخاذ الأسرى قبل الإثخان في قتل الذين يصدّون عن سبيل الله ويمنعون دين الله من الإنتشار، وعاب بعض المسلمين على إرادة عرض الدّنيا وهو الفدية، ولولا حكم سابق من الله أن لا يعاقب مجتهدا على اجتهاده ما دام المقصد خيرا لكان العذاب، ثم أباح لهم الأكل من تلك الفدية المبني أخذها على النظر الصحيح. وهذا من أقوى الأدلة على صدق نبيّنا عليه الصلاة والسلام فيما جاء به، لأنه لو كان من عنده ما كان يعاتب نفسه على عمل عمله بناء على رأي كثير من الصحابة. وقد وعد الله الأسرى الذين يعلم في قلوبهم خيرا بأن يؤتيهم خيرا ممّا أخذ منهم ويغفر لهم فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3» وهذه الغزوة هي التي أعزّ الله بها الإسلام وقوّى أهله، ودمغ فيه الشرك، وخرّب محلّه مع قلّة المسلمين وكثرة عدوهم، فهي اية ظاهرة على عناية الله تعالى بالإسلام وأهله مع ما كان عليه العدو من القوة بسوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيل المسومة، والخيلاء الزائدة، ولذلك قال الله ممتنا على عباده بهذا النصر وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «4» أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله فهي أعظم غزوات الإسلام إذ بها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الافاق نوره، فقد قتل فيها

_ (1) سورة النساء اية 135. (2) سورة الأنفال اية 67- 68. (3) سورة الأنفال اية 70. (4) سورة ال عمران اية 123.

غزوة قينقاع

من صناديد قريش «1» من كانوا الأعداء الألداء للإسلام، ودخل الرعب في قلوب العرب الاخرين، فكانت للمسلمين هيبة بها يكسرون الجيوش، ويهزمون الرجال، فلا جرم أن شكرنا العلي الأعلى على هذه العناية، واتّخذنا يوم النصر في بدر وهو السابع عشر من شهر رمضان عيدا نتذكر فيه نعمة الله على رسوله وعلى المسلمين. غزوة قينقاع هذا، وإذا كان للشخص عدّوان فانتصر على أحدهما حرّك ذلك شجو «2» الاخر وهاج فؤاده، فتبدو بغضاؤه غير مكترث بعاقبة عدائه، وهذا ما حصل من يهود بني قينقاع عند تمام الظفر في بدر، فإنهم نبذوا ما عاهدوا المسلمين عليه، وأظهروا مكنون ضمائرهم، فبدت البغضاء من أفواههم، وانتهكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار، وهذا مما يدعو المسلمين للتحرز منهم وعدم ائتمانهم في المستقبل إذا شبّت الحرب في المدينة بين المسلمين وغيرهم فأنزل الله في سورة الأنفال وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ «3» إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «4» فدعا عليه الصلاة والسلام رؤساءهم وحذرهم عاقبة البغي ونكث العهد، فقالوا: يا محمد لا يغرنك ما لقيت من قومك فإنهم لا علم لهم بالحرب ولو لقيتنا لتعلمن أنّا نحن الناس وكانوا أشجع يهود فأنزل الله في سورة ال عمران قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «5» وعند ذلك تبرأ من حلفهم عبادة بن الصامت أحد رؤساء الخزرج وتشبّث بالحلف عبد الله بن أبي، وقال إني رجل أخشى الدوائر، فأنزل الله تعليما للمسلمين في سورة المائدة

_ (1) منهم أبي البختري بن هشام وأمية بن خلف وأبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة والعاص ابن هشام. (2) أوقعه في الحزن. (3) أي فاطرح لهم العهد على طريق مستو، قصد بأن تظهر لهم نبذ العهود ولا تناجزهم الحرب أو هم على توهم بقاء العهد لأن ذلك خيانة ولذا قال: (إن الله لا يحب الخائنين) - (المؤلف) . (4) اية 58. (5) اية 12- 13.

جلاء قينقاع

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «1» . وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم، سار إليهم عليه الصلاة والسلام في نصف شوال من هذه السنة يحمل لواءه عمه حمزة، وخلف على المدينة أبا لبابة الأنصاري «2» ، فحاصرهم خمسة عشرة ليلة. جلاء قينقاع ولمّا رأوا من أنفسهم العجز عن مقاومة المسلمين وأدركهم الرعب سألوا رسول الله أن يخلي سبيلهم، فيخرجوا من المدينة ولهم النساء والذرية، وللمسلمين الأموال فقبل ذلك عليه الصلاة والسلام، ووكّل بجلائهم عبادة بن الصامت وأمهلهم ثلاث ليال، فذهبوا إلى أذرعات «3» ولم يحل عليهم الحول حتى هلكوا، وخمّس عليه الصلاة والسلام وأموالهم، وأعطى سهم ذوي القربي لبني هاشم ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل، ولما سئل عن ذلك قال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد في الجاهلية والإسلام هكذا وشبك بين أصابعه. غزوة السّويق «4» كان أبو سفيان متهيجا لأنه لم يشهد بدرا التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه، فحلف ألايمسّ رأسه الماء «5» حتى يغزو محمّدا، وليبرّ بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة، ولما قاربها أراد أن يقابل اليهود من بني النضير ليهيجهم ويستعين بهم على حرب المسلمين، فأتى سيدهم حيي بن أخطب فلم يرض مقابلته،

_ (1) اية 51- 52. (2) كان نقيبا شهد العقبة، وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وكانت معه راية بني عمرو بن عوف في غزوة السويق، مات في خلافة علي. (3) بلد في الشام (المؤلف) (قرية واقعة بين السويداء ودمشق وتسمّى الان ازرع وهي تابعة لمنطقة حوران وتبعد عن دمشق 100 كم جنوبا) . (4) وقعت في ذي الحجة وتسمى أيضا غزوة قرقرة الكدر (والقرقرة: الأرض الملساء. والكدر: هو الذي في ألوانها كدرة) . (5) أي لا يقرب النساء.

صلاة العيد

فأتى سلّام بن مشكم فأذن له واجتمع به، ثم خرج من عنده، وأرسل رجالا من قريش إلى المدينة فحرّقوا في بعض نخلها، ووجدوا أنصاريا فقتلوه، ولما علم بذلك رسول الله خرج في أثرهم في مائتين من أصحابه لخمس خلون من ذي الحجة بعد أن ولّى على المدينة بشير بن عبد المنذر «1» ، ولكن لم يلحقهم لأنهم هربوا، وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على الإسراع، فألقوا ما معهم من جرب السّويق «2» فأخذه المسلمون، ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة السّويق. صلاة العيد وفي هذا العام سنّ الله للعالم الإسلامي سنّة عظيمة، بها يتمكّن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن يجددوا عهود الإخاء، ويقووا عروة الدين الوثقى، وهي الإجتماع في يومي عيد الفطر وعيد الأضحى. وكان عليه الصلاة والسلام يجمع المسلمين في صعيد واحد. ويصلي بهم ركعتين تضرعا إلى الله ألايفصم عروتهم، وأن ينصرهم على عدوهم، ثم يخطبهم حاضّا لهم على الائتلاف. ومذكرا ما يجب عليهم لأنفسهم، ثم يصافح المسلمون بعضهم بعضا. وبعد ذلك يخرجون لأداء الصدقات للفقراء والمساكين، حتى يكون السرور عامّا لجميع المسلمين، فبعد الفطر زكاته، وبعد الأضحى تضحيته، نسأله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا، ويوفّقنا لأعمال سلفنا. زواج علي بفاطمة «3» عليهما السلام وفي هذه السنة تزوج علي بن أبي طالب وعمره احدى وعشرون سنة بفاطمة بنت رسول الله وسنها خمس عشرة سنة، وكان منها عقب رسول الله بنوه الحسن والحسين وزينب «4» وفيها دخل عليه الصلاة والسلام بعائشة بنت أبي بكر وسنها إذ ذاك تسع سنوات.

_ (1) المكنى بأبي لبابة. (2) وهو قمح أو شعير مع سمنة وعسل. (3) كان مهر فاطمة درعا قيمته أربعة دراهم وجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة في خميل وقربة ووسادة أدم حشوها اذخر. (4) قال ابن اسحاق: فولدت فاطمة لعلي حسنا وحسينا ومحسنا- مات صغيرا- وأم كلثوم وزينب.

السنة الثالثة

السنة الثالثة يا لله يقضي على الشقي بالشقاوة حتى لا يسمع ولا يبصر، فيتّخذ الغدر رداء والخيانة شعارا، فلا ينجح معه إلّا إراحة العالم من شرّه، هذا كعب بن الأشرف اليهودي عظيم بني النضير، أعمته عداوة المسلمين حتى خلع برقع الحياء، وصار يحرّض قريشا على حرب رسول الله، ويهجوه بالشعر، ويجتهد في إثارة الشحناء «1» بين المسلمين، فكلّما جبر عليه الصلاة والسلام كسرا هاضه «2» هذا الشقي بما ينفثه من سموم لسانه. قتل كعب بن الأشرف ولمّا انتصر المسلمون ببدر، ورأى الأسرى مقرّنين في الحبال خرج إلى قريش يبكي قتلاهم، ويحرّضهم على حرب المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: من لكعب بن الأشرف فإنه قد اذى الله ورسوله «3» ؟! فقال محمّد بن مسلمة «4» الأنصاري الأوسي: أتحبّ أن أقتله؟ قال: نعم، قال: أنا لك به، وأذن لي أقول شيئا أتمكن به، فأذن له، ثم خرج ومعه أربعة من قومه حتى أتى كعبا فقال له: إن هذا الرجل يريد رسول الله قد سألنا صدقة وإنه قد عنانا «5» وإني قد

_ (1) البغضاء. (2) أعاد كسره. (3) هذه رواية البخاري عن جابر. يعني من ينتدب لقتله. (4) ابن الحارثي أبو عبد الرحمن المدني، ولد قبل البعثة ب 22 سنة وهو من سمي في الجاهلية محمدا ويكنى أبا عبد الله، وأسلم قديما على يدي مصعب بن عمير، واخى الرسول بينه وبين أبي عبيدة، وشهد المشاهد إلّا غزوة تبوك فإنه تخلف بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من فضلاء الصحابة، واستخلفه النبي صلّى الله عليه وسلّم على المدينة في بعض غزواته، وكان ممن اعتزل الفتنة، فلم يشهد الجمل ولا صفين، مات بالمدينة سنة 43، وله سبع وسبعون سنة. (5) أتعبنا.

أتيتك أستسلفك، قال: وأيضا والله لتملّنّه «1» ، قال: إنا قد اتّبعناه فلا نحبّ أن ندعه حتى ننظر إلى أيّ شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين «2» ، قال: نعم ولكن ارهنوني. قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسبّ أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة- يعني السلاح- فرضي، فواعده ليلا أن يأتيه فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة «3» أخو كعب من الرضاع وعبّاد بن بشر «4» والحارث بن أوس «5» وأبو عبس بن جبر- وكلهم أوسيون- فناداه محمّد بن مسلمة فأراد أن ينزل فقالت له امرأته: أين تخرج الساعة: وإنك امرؤ محارب؟ فقال: إنما هو ابن أخي محمّد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. ثم قال محمّد لمن معه: إذا جاءني فإني اخذ بشعره فأشمّه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فاضربوه، فنزل إليهم كعب متوشّحا سيفه، وهو ينفح منه ريح المسك، فقال محمد: ما رأيت كاليوم، ريحا أطيب، أتأذن لي أن أشمّ رأسك؟ قال: نعم فشمّه، فلما استمكن منه قال: دونكم فاقتلوه ففعلوا «6» ، وأراح الله المسلمين من شرّ أعماله التي كان يقصدها بهم، ثم أتوا النبي فأخبروه، وكان قتل هذا الشقي في ربيع الأول من هذا العام، وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى من رئيس غدرا ومقاصد سوء ومحبة لإثارة الحرب، أرسل له من يريحه من شرّه. وقد فعل كذلك مع أبي عفك اليهودي وكان مثل كعب في الشرّ.

_ (1) لتضجرن منه. (2) الوسق: ستون صاعا أو حمل بعير. (3) اسمه سلطان الانصاري الأوسي الأشهلي أخو سلمة بن سلامة بن وقس، شهد أحدا وغيرها، وكان شاعرا ومن الرماة المذكورين. (4) شهد بدرا، واستشهد باليمامة وهو ابن 45 سنة، وصح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع صوت عباد بن بشر فقال: «اللهم ارحم عبادا» . (5) ابن عتاب بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعوراء بن جشم بن الحارث بن الخزرج وشهد بدرا والخندق. (6) رواه الشيخان قال السهيلي وذكر في الذين قتلوا كعبا أبا عبس به جبر، واسمه: عبد الرحمن، وذكر سلكان بن سلامه، واسمه سعد.

غزوة غطفان

غزوة غطفان «1» بلغ رسول الله انّ بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمّعوا برياسة رئيس منهم اسمه دعثور «2» يريدون الغارة على المدينة، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يغلّ أيديهم كيلا يتمكّنوا من هذا الاعتداء، فخرج إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجلا لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وخلف على المدينة عثمان بن عفّان. ولمّا سمعوا بسير رسول الله هربوا إلى رؤوس الجبال، ولم يزل المسلمون سائرين حتى وصلوا ماء يسمى ذا أمر، فعكسروا به، وحدث أنه عليه الصلاة والسلام نزع ثوبه يجفّفه من مطر بلّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون، فأبصره دعثور فأقبل إليه بسيفه حتى وقف على رأسه وقال: من يمنعك مني يا محمّد؟ فقال: الله. فأدركت الرجل هيبة ورعب أسقطا السيف من يده، فتناوله عليه الصلاة والسلام وقال لدعثور: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد. فعفا عنه» فأسلم الرجل ودعا قومه للإسلام، وحول الله قلبه من عداوة رسول الله وجمع الناس لحربه إلى محبته وجمع الناس له ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ «4» وهذا ما ينتجه حسن المعاملة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «5» . غزوة بحران «6» بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعا من بين سليم يريدون الغارة على المدينة،

_ (1) قال ابن اسحاق: فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة السّويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها، ثم غزا نجدا يريد غطفان وهي ذي أمر (موضع من ديار غطفان. وقال ابن سعد: بناحية النخيل) فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس. (2) أو غورث بن الحارث. (3) رواه الشيخان وقال البيهقي: وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان. قال ابن كثير: إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا، لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضا لم يسلم بل استمرّ على دينه، ولم يكن عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا يقاتله والله أعلم. (4) سورة المائدة اية 54. (5) سورة ال عمران اية 159. (6) هو مكان بالحجاز من ناحية الفرع (بضم الفاء والراء وفي المواهب بفتحهما) .

سرية

فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لست خلون من جمادى الأولى، وخلف على المدينة ابن أم مكتوم ولما وصل بحران «1» تفرقوا ولم يلق كيدا فرجع. سرية «2» لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة أغلق في وجه تجارتهم، ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم، أرسلوا عيرا إلى الشام من طريق العراق، وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، فجاءت أخبارهم لرسول الله فأرسل لهم زيد بن حارثة في مائة راكب يترقبونهم، وكان ذلك في جمادى الاخرة فسارت السرية حتى لقيت وما فيها وهرب الرجال، وقد خمّس الرسول عليه الصلاة والسلام هذه حينما وصلت له. غزوة أحد «3» ولما أصاب قريشا ما أصابها ببدر، وأغلقت في وجوههم طرق التجارة، اجتمع من بقي من أشرافهم إلى أبي سفيان رئيس تلك العير التي جلبت عليهم المصائب- وكانت موقوفة بدار الندوة، ولم تكن سلّمت لأصحابها بعد- فقالوا: إن محمّدا قد وترنا «4» وقتل خيارنا، وإنا رضينا أن نترك ربح أموالنا فيها استعدادا لحرب محمّد وأصحابه، وقد رضي بذلك كلّ من له فيها نصيب، وكان ربحها نحوا من خمسين ألف دينار، فجمعوا لذلك الرجال، فاجتمع من قريش ثلاثة الاف رجل ومعهم الأحابيش وهم حلفاؤهم من بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة ومعهم أبو عامر الراهب الأوسي، وكان قد فارق المدينة كراهية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه عدد ممّن هم على شاكلته، وخرج معهم جماعات من أعراب كنانة

_ (1) موضع بناحية الفرع وهذا موضع من أضخم أعراض المدينة- (المؤلف) (بحران: بضم الباء وفتحها) . (2) تسمى سرية زيد بن حارثة إلى القرده. (3) كانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث. قاله الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن اسحاق ومالك، وقال ابن اسحاق: للنصف من شوال، وقال قتادة: يوم السبت الحادي عشر منه. قال مالك: وكانت الواقعة في أول النهار وهي على المشهور. وسميت غزوة أحد لقربها من جبل أحد (سمي أحد لتواحده من بين تلك الجبال) وهو جبل العرب بقرب المدينة من جهة الشام. (4) الذي قتل له قتيل فلم يدرك دمه.

وتهامة، وقال صفوان بن أمية لأبي عزّة الشاعر الذي لا ينسى القارىء أن الرسول منّ عليه ببدر، وأطلقه من غير فداء: إنك رجل شاعر، فأعنّا بلسانك، فقال: إني عاهدت محمّدا ألاأعين عليه، وأخاف أن وقعت في يده مرة ثانية ألّا أنجو، فلم يزل به صفوان حتى أطاعه، وذهب يستنفر الناس لحرب المسلمين، ودعا جبير بن مطعم غلاما حبشيا له اسمه وحشي، وكان راميا قلّما يخطىء. فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمّي طعيمة فأنت حرّ. ثم خرج الجيش، ومعهم القيان والدفوف والمعازف والخمور، واصطحب الأشراف منهم نساءهم كيلا ينهزموا، ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة. أما رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباس بن عبد المطلب الذي لم يخرج مع المشركين في هذه الحرب محتجّا بما أصابه يوم بدر. ولمّا وصلت الأخبار باقتراب المشركين، جمع عليه الصلاة والسلام أصحابه وأخبرهم الخبر. وقال: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم، فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين والأنصار، ورأى ذلك أيضا عبد الله بن أبي، أما الأحداث وخصوصا من لم يشهد بدرا منهم فأشاروا عليه بالخروج، وكان مع رأيهم حمزة بن عبد المطلب، وما زال هؤلاء بالرسول حتى تبع رأيهم، لأنهم الأكثرون عددا والأقوون جلدا، فصلى الجمعة بالناس في يومها لعشر خلون من شوال وحضّهم في خطبتها على الثبات والصبر وقال لهم: «لكم النصر ما صبرتم» ثم دخل حجرته ولبس عدّته فظاهر بين درعين «1» ، وتقلّد السيف، وألقى الترس وراء ظهره. ولما رأى ذوو الرأي من الأنصار أنّ الأحداث استكرهوا الرسول على الخروج لاموهم، وقالوا ردوا الأمر لرسول الله، فما أمر ائتمرنا، فلمّا خرج عليه الصلاة والسلام قالوا: يا رسول الله نتّبع رأيك فقال: ما كان لنبي لبس سلاحه أن يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، ثم عقد الألوية فأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الخزرج للحباب بن المنذر، ولواء الأوس لأسيد بن الحضير، وخرج من المدينة بألف رجل. فلمّا وصلوا رأس الثنية نظر عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة كبيرة، فسأل عنها فقيل هؤلاء حلفاء عبد الله بن

_ (1) أي لبس درعا فوق درع وهما ذات الفضول وفضة التي أصابها من قينقاع (المؤلف) .

أبي من اليهود، فقال: إنا لا نستعين بكافر على مشرك، وأمر بردهم لأنه لا يأمن جانبهم من حيث لهم اليد الطولى في الخيانة. ثم استعرض الجيش فرد من استصغر «1» وكان فيمن ردّ رافع بن خديج «2» وسمرة بن جندب «3» ثم أجاز رافعا لما قيل له أنه رام فبكى سمرة، وقال لزوج أمه: أجاز رسول الله رافعا وردّني مع أني أصرعه، فبلغ رسول الله الخبر، فأمرهما بالمصارعة فكان الغالب سمرة فأجازه، ثم بات عليه الصلاة والسلام محله ليلة السبت، واستعمل على حرس الجيش محمّد بن مسلمة، وعلى حرسه الخاص ذكوان بن عبد قيس «4» . وفي السّحر سار الجيش حتى إذا كان بالشوط- وهو بستان بين أحد والمدينة- رجع عبد الله بن أبي بثلاثمائة من أصحابه وقال: عصاني وأطاع الولدان فعلام نقتل أنفسنا؟ فتبعهم عبد الله بن عمرو والد جابر، وقال: يا قوم أذكّركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم: قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ «5» فقال لهم: أبعدكم الله فسيغني الله عنكم نبيّه. ولمّا فعل ذلك عبد الله بن أبي، همّت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا: بنو حارثة من الخزرج، وبنو سلمة من الأوس، فيعصمهما الله وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين، فقوم يقولون نقاتلهم، وقوم يقولون نتركهم، فأنزل الله في سورة النساء فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا «6» ، ثم سار الجيش حتى نزل الشعب من أحد «7» ، وجعل ظهره للجبل، ووجهه للمدينة، أما المشركون فنزلوا ببطن الوادي من قبل أحد، وكان على ميمنتهم خالد بن

_ (1) ورد أيضا ابن عمر وأسامه بن زيد وزيد بن ثابت والبراء بن عازب وعمر بن حزم وسعد بن بجير وأسيد ابن ظهير وعرابة بن أوس بن قيظي وابن سعد بن خيثمة وأجازهم كلهم يوم الخندق وهم أبناء خمس عشرة سنة. (2) يكنى أبا عبد الله أبو خديج عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج بها وشهد ما بعدها، واستوطن المدينة إلى أن انتقضت جراحته في أول سنة 74 فمات وهو ابن 86 سنة. (3) يكنى أبا سليمان، وكان من حلفاء الأنصار، وكان يحفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونزل سمرة البصرة ومات قبل سنة ستين. (4) يكنى أبا سبع شهد العقبة الأولى وشهد بدرا وقتل يوم أحد شهيدا وقتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق. (5) سورة ال عمران اية 167. (6) اية رقم 88. (7) جبل شمالي المدينة الشرقي (المؤلف) .

الوليد «1» ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل «2» . وعلى المشاة صفوان بن أمية، فجعل عليه الصلاة والسلام الزبير بن العوام بازاء خالد، وجعل اخرين أمام الباقين، واستحضر الرماة وكانوا خمسين رجلا يرأسهم عبد الله بن جبير «3» الأنصاري فوقفهم خلف الجيش على ظهر الجبل وقال: «لا تبرحوا: إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تبرحوا «4» » ثم عدّل عليه الصلاة والسلام الصفوف، وخطب المسلمين، وكان فيما قال: «ألقى في قلبي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وأن أبطأ عنها فاتّقوا ربكم وأجملوا في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله. والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى له سائر جسده» ثم. ابتدأ القتال بالمبارزة، فخرج رجل «5» من صفوف المشركين فبرز له الزبير فقتله، ثم حمل اللواء طلحة بن أبي طلحة فقتله عليّ، فحمل اللواء أخوه عثمان فقتله حمزة، فحمله أخ لهما اسمه أبو سعيد فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم قضى عليه، فتناوب اللواء بعده أربعة من أولاد طلحة بن أبي طلحة، وكلهم يقتلون، وخرج من صفوف المشركين عبد الرحمن بن أبي بكر «6» يطلب البراز فأراد أبوه أن يبرز له، فقال عليه الصلاة والسلام: متعنا بنفسك يا أبا بكر، ثم

_ (1) سيف الله أبو سليمان، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية، ثم أسلم في سنة سبع بعد خيبر ثم شهد غزوة مؤته فلما استشهد عبد الله بن رواحة أخذ الراية فانحاز بالناس ونجى الجيش وشهد فتح مكة ثم شهد حنينا والطائف في هدم العزى، وأرسله أبو بكر إلى قتال أهل الردة، ثم ولاه حرب فارس والروم، فأثر فيهم تأثيرا شديدا، وفتح دمشق، ومات بمدينة حمص سنة 21. (2) كان كأبيه من أشد الناس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أسلم عام الفتح، وخرج إلى المدينة، ثم إلى قتال أهل الردة، ووجهه أبو بكر إلى جيش نعمان فظهر عليهم ثم إلى اليمن ثم رجع فخرج إلى الجهاد عام وفاته فاستشهد، وذكر الطبري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعمله على صدقات هوازن عام وفاته وأنه قتل بأجنادين. (3) كان أمير الرماة يومئذ، وقد شهد العقبة ثم شهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، وهو أخو خوات بن جبير بن النعمان لأبيه وأمه. (4) هذا له شاهد في الصحيحين. (5) يدعى طلحة بن أبي طلحة العبدري. (6) شهد بدرا أو أحدا وكان كافرا، ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي صلّى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية، وكان اسمه عبد الكعبة، فغير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمه وسماه عبد الرحمن، وكان من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من كبارهم، وشهد الجمل مع أخته عائشة، مات في مكّة في سنة 53.

حملت خيّالة المشركين على المسلمين ثلاث مرّات وفي كلّها ينضحهم المسلمون بالنبل فيتقهقرون. ولما التقت الصفوف، وحميت الحرب ابتدأ نساء المشركين يضربن بالدفوف، وينشدن الأشعار تهييجا لعواطف الرجال، وكان عليه الصلاة والسلام كلما سمع نشيد النساء يقول: «اللهم بك أحول وبك أصول وفيك أقاتل «1» ، حسبي الله ونعم الوكيل» . وفي هذه المعمة قتل حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله سيّد الشهداء، غافله وحشي «2» وهو يجول في الصفوف وضربه بحربة لم تخطىء ثنايا بطنه. هذا، ولما قتل حملة اللواء من المشركين، ولم يقدر أحد على الدنو منه ولّوا الأدبار ونساؤهم يبكين ويولولن، وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم والأسلاب، فلمّا رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور المسلمون فوق الجبل، قالوا: ما لنا في الوقوف من حاجة، ونسوا أمر السيد الحكيم صلّى الله عليه وسلّم، فذكّرهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون. أما رئيسهم فثبت وثبت معه قليل منهم، فلمّا رأى خالد بن الوليد أحد رؤساء المشركين خلوّ الجبل من الرماة انطلق ببعض الجيش، فقتل من ثبت من الرماة، وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم، فلمّا رأوا ذلك البلاء دهشوا وتركوا ما بأيديهم، وانتقضت صفوفهم، واختلطوا من غير شعور، حتى صار يضرب بعضهم بعضا، ورفعت إحدى نساء المشركين «3» . اللواء فاجتمعوا حوله، وكان من المشركين رجل يقال له ابن قمئة قتل مصعب بن عمير صاحب اللواء، وأشاع أن محمّدا قد قتل، فدخل الفشل في المسلمين حتى قال بعضهم: علام نقاتل إذا كان محمّد صلّى الله عليه وسلّم قد قتل؟ فارجعوا إلى قومكم يؤمّنوكم، وقال جماعة: إذا كان محمّد قد قتل، فقاتلوا عن دينكم، وكان نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعة من المسلمين من بينهم الوليد بن عقبة، وخارجة

_ (1) رواه أبو داود- واللفظ له- والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: حسن غريب بلفظ اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل (2) المشهور أن وحشيا هو الذي قتل حمزة لما روى ابن اسحاق عن عبد الله بن عمر وكذلك روى البخاري عن ابن عمرو بن أمية الضمري، ووحشي هو ابن حرب الحبشي من سودان مكة مولى لطعيمة بن عدي، ويقال مولى جبير بن مطعم بن عدي كذا قال ابن اسحاق، وكان يكنى أبا دسمة ثم أسلم بعد أخذ الطائف وشهد اليمامة، وقتل مسيلمة الكذاب بحربته التي قتل بها حمزة، ثم سكن حمص. (3) عمرة بنت علقمة.

ابن زيد، ورفاعة بن المعلى، وعثمان بن عفان، وتوجّهوا إلى المدينة، ولكنهم استحيوا أن يدخلوها فرجعوا بعد ثلاث، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جماعة منهم: أبو طلحة الأنصاري «1» استمرّ بين يديه يمنع عنه بجحفته «2» ، وكان راميا شديد الرمي. فنثر كنانته «3» بين يدي رسول الله، وصار يقول: وجهي لوجهك فداء، وكل من كان يمر ومعه كنانة يقول له عليه الصلاة والسلام: انثرها لأبي طلحة، وكان ينظر إلى القوم ليرى ماذا يفعلون، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، لا تنظر يصيبك سهم من سهام القوم! نحري دون نحرك. وممن ثبت سعد بن أبي وقاص، فكان عليه الصلاة والسلام يقول له: «إرم سعد! فداك أبي وأمي» . ومنهم سهل بن حنيف «4» وكان من مشاهير الرماة نضح عن رسول الله بالنبل حتى انفرج عنه الناس. ومنهم أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري «5» تترّس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصار النبل يقع على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه. وكان يقاتل عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم زيادة بن السكن «6» حتى أصابت الجراح مقاتله، فأمر به فأدني منه ووسده قدمه حتى مات. وقد أصابه عليه الصلاة والسلام شدائد عظيمة تحمّلها بما أعطاه الله من الثبات، فقد أقبل أبي بن خلف يريد قتله، فأخذ عليه الصلاة والسلام الحربة ممّن كانوا معه، وقال: خلّوا طريقه، فلمّا قرب منه ضربه ضربة كانت سبب هلاكه وهو راجع، ولم يقتل رسول الله غيره لا في هذه الغزوة ولا في غيرها. وكان أبو عامر الراهب قد حفر حفرا وغطاها ليقع فيها المسلمون، فوقع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حفرة منها، فأغمي عليه، وخدشت ركبتاه، فأخذ عليّ بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله وهما ممن ثبت حتى

_ (1) مشهور بكنية، كان من فضلاء الصحابة وهو زوج أم سليم وقد شهد بدرا. مات سنة 34 هـ وصلّى عليه عثمان. (2) الترس من الجلد. (3) هي التي تجعل فيها السهام. (4) يكنى أبا سعد وأبا عبد الله من أهل بدر، وكان من السابقين، وشهد بدرا، وثبت يوم أحد حين انكشف الناس وبايع يومئذ على الموت، وكان ينفح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنبل فيقول: نبلوا سهلا فإنه سهل، وشهد أيضا الخندق والمشاهد كلها، واستخلفه علي على البصرة بعد الجمل، ثم شهد معه صفين ومات سنة 38 هـ. (5) أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج متفق على شهوده بدرا، قال علي: إنه استشهد باليمامة، وهو من اشترك في قتل مسيلمة الكذاب مع عبد الله بن زيد بن عاصم ووحشي بن حرب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اخى بينه وبين عتبة بن غزوان. (6) الأصل: زيادة بن الحارث وهو خطأ.

استوى قائما، فرماه عتبه بن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته فتبعه حاطب بن أبي بلتعه «1» فقتله، وشجّ وجهه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن شهاب الزهري، وجرحت وجنتاه بسبب دخول حلقتي المغفر فيهما من ضربة ضربه بها ابن قمئة غضب الله عليه، فجاء أبو عبيدة وعالج الحلقتين حتى نزعهما، فكسرت في ذلك ثنيتاه، وقال حينئذ عليه الصلاة والسلام: كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم؟ فأنزل الله في سورة ال عمران لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» وكان أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الدهشة كعب بن مالك الأنصاري «3» فنادى: يا معشر المسلمين أبشروا، فأشار إليه الرسول أن اصمت. ثم سار بين سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة يريد الشّعب ومعه جمع منهم: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمّة، وأقبل عليه إذ ذاك عثمان بن عبد المغيرة يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، فعثر به فرسه، ووقع في حفرة فمشى إليه الحارث بن الصمّة وقتله. ولما وصل الشّعب جاءت فاطمة فغسلت عنه الدم، وكان علي يسكب الماء، ثم أخذت قطعة من حصير فأحرقتها ووضعتها على الجرح فاستمسك الدّم. ثم أراد عليه الصلاة والسلام أن يعلو الصخرة التي في الشّعب فلم يمكنه القيام لكثرة ما نزل من دمه، فحمله طلحة بن عبيد الله حتى أصعده، فنظر إلى جماعة من المشركين على ظهر الجبل فقال: لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوة لنا إلا بك، ثم أرسل إليهم عمر بن الخطاب في جماعة فأنزلوهم. وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول الله كثير من الجراحات لأنّ الشخص منهم كان يتلقى السهم خوفا أن يصل للرسول صلّى الله عليه وسلّم فوجد بطلحة نيف وسبعون جراحة، وشلّت يده، وأصاب كعب بن مالك سبع عشرة جراحة. أما القتلى فكانوا نيّفا وسبعين، منهم ستة من المهاجرين، والباقون من الأنصار.

_ (1) حليف بني أسد بن عبد العزى، اتفقوا على شهوده بدرا، بعثه رسول الله رسولا إلى المقوقس، وقال المرزباني: كان أحد فرسان قريش في الجاهلية وشعرائها، مات في سنة 30. (2) اية 128. (3) أبو عبد الله الأنصاري السلمي ولم يكن لمالك ولد غير كعب الشاعر المشهور، شهد العقبة وبايع بها، وتخلف عن بدر وشهد أحدا وما بعدها، وتخلف في تبوك، قال ابن حبان: مات أيام قتل علي بن أبي طالب.

ومن المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، ومن الأنصار حنظلة بن أبي عامر «1» وعمرو بن الجموح، وابنه خلّاد بن عمرو وأخو زوجه والد جابر بن عبد الله، فأتت زوج عمرو هند بنت حرام وحملتهم زوجها وابنها وأخاها على بعير لتدفنهم بالمدينة، فنهى عليه الصلاة والسلام عن الدفن خارج أحد فرجعوا وقتل سعد بن الربيع، وأرسل عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبره فوجده بين القتلى وبه رمق، فقيل له إن رسول الله يسأل عنك، فقال لمبلغه: قل لقومي: يقول لكم سعد بن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسوله ليلة العقبة، فو الله مالكم عندي عذر، وقتل أنس بن النضر «2» عم أنس بن مالك، فإنه لما سمع بقتل رسول الله قال: يا قوم ما تصنعون بالبقاء بعده؟ موتوا على ما مات عليه إخوانكم، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضي الله عنه. ومثّلت قريش بقتلى أحد حتى إن هندا زوج أبي سفيان «3» بقرت بطن حمزة، وأخذت كبده لتأكلها، فلاكتها ثم أرسلتها، وفعلوا قريبا من ذلك بإخوانه الشهداء، ثم إن أبا سفيان صعد الجبل، ونادى بأعلى صوته: أنعمت فعال، إنّ الحرب سجال يوم بيوم بدر، وموعدكم بدر العام المقبل، ثم قال: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة لم امر بها ولم تسؤني «4» . ثم إن المشركين رجعوا إلى مكّة، ولم يعرجوا على المدينة، وهذا مما يدل على أن المسلمين لم ينهزموا في ذلك اليوم، وإلّا لم يكن بدّ من تعقب المشركين لهم حتى يغيروا على مدينتهم. ثم تفقّد عليه الصلاة والسلام القتلى وحزن على عمه حمزة حزنا شديدا، ودفن الشهداء كلّهم بأحد، كل شهيد بثوبه الذي قتل فيه، وكان يدفن الرجلين والثلاثة في لحد واحد

_ (1) المعروف بغسيل الملائكة لأنه استشهد بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة ولم يرو حديث تغسيل الملائكة لحنظلة سوى ابن اسحاق في مغازيه وقد أخرجه الحاكم في المستدرك وفي إسناده معلى ابن عبد الرحمن وهو متروك والطبراني، وفي اسناده حجاج وهو مدلس، والبيهقي وفي اسناده أبو شيبة الواسطي وهو ضعيف جدا، والسرقطي في غريبيه من طريق الزهري مرسلا (2) عم أنس بن مالك خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم غاب عن بدر وشهد أحدا فقاتل فيها قتالا شديدا واستشهد فمثل به وقطع قطعا صغيرة حتى أنه لم يعرفه أحد إلّا أخته من بنانه. (3) أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها، وكانت امرأة لها نفس وأنفة، شهدت أحدا كافرة مع زوجها، ثم ختم لها بالإسلام فأسلمت يوم الفتح، وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (4) رواية ابن اسحاق بإيجاز وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل، وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس، وله شواهد من وجوه كثيرة.

غزوة حمراء الأسد

لما كان عليه المسلمون من التعب، فكان يشقّ عليهم أن يحفروا لكل شهيد حفرة. ولما رجع المسلمون إلى المدينة سخر منهم اليهود والمنافقون، وأظهروا ما في قلوبهم من البغضاء، وقالوا لإخوانهم: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا «1» . وهذا الذي ابتلي به المسلمون درس مهمّ لهم يذكرهم بأمرين عظيمين تركهما المسلمون فأصيبوا: أولهما: طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمره، فقد قال للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن نحن نصرنا أو قهرنا، فعصوا أمره ونزلوا. الثاني: أن تكون الأعمال كلها لله غير منظور فيها لهذه الدنيا التي كثيرا ما تكون سببا في مصائب عظيمة، وهؤلاء أرادوا عرض الدّنيا، والتهوا بالغنائم حتى عوقبوا، وفي ذلك أنزل الله في سورة ال عمران التي فصّلت غزوة أحد وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «2» فسبب هذا الابتلاء؛ التنازع فينبغي الاتفاق، والفشل فينبغي الثبات، والعصيان فينبغي طاعة الرئيس. نسأل الله التوفيق. غزوة حمراء الأسد لمّا رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصبح حذرا من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمّموا انتصارهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو، وأن لا يخرج إلّا من كان معه بالأمس، فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح «3» ، فضمّدوا جراحاتهم، وخرجوا واللواء معقود لم يحلّ، فأعطاه عليّ بن أبي طالب، وولّى على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء

_ (1) سورة ال عمران اية 156. (2) اية 152. (3) الجرح.

حوادث

الأسد «1» ، وقد كان ما ظنّه الرسول صلّى الله عليه وسلّم حقّا. فإن المشركين تلاوموا على ترك المسلمين من غير شنّ الغارة على المدينة حتى يتمّ لهم النصر، فأصرّوا على الرجوع، ولكن لمّا بلغهم خروج الرسول في أثرهم ظنوا أنه قد حضر معه من لم يحضر بالأمس، وألقى الله الرعب في قلوبهم، فتمادوا في سيرهم إلى مكّة، وظفر عليه الصلاة والسلام وهم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الذي منّ عليه ببدر بعد أن تعهّد ألا يكون على المسلمين فأمر بقتله، فقال: يا محمد أقلني، وامنن عليّ، ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا ألّا أعود لمثل ما فعلت، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا والله لا تمسح عارضيك بمكّة تقول: خدعت محمّدا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين «2» » ، اضرب عنقه يا زيد «3» ، فضرب عنقه، وفي هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع الشريف، فإن الرجل الذي لا يحترز مما أصيب منه ليس بعاقل، فلا بدّ من الحزم لإقامة دعائم الملك. حوادث وفي هذه السنة زوّج عليه الصلاة والسلام بنته أم كلثوم لعثمان بن عفّان بعد أن ماتت رقية عنده، ولذلك كان يسمّى ذا النورين وفيها تزوّج عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب، وأمها أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي «4» رضي الله عنه، فتوفّي عنها بجراحة أصابته ببدر، وفيها تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت خزيمة «5» الهلالية من بني هلال ابن عامر، كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها بأحد وهي أخت ميمونة بنت الحارث

_ (1) موضع على ثمانية أميال من المدينة بطريق مكة (المؤلف) . (2) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجة والعسكري كلهم عن أبي هريرة مرفوعا وليس عند الاخرين لفظ واحد. (3) روى ابن هشام: أنه الزبير وقال ابن هشام: وبلغني عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (الحديث) اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت فضرب عنقه. (4) كان من السابقين، وهاجر إلى الحبشة ثم رجع فهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وأصابته جراحة يوم بدر فمات منها. (5) أم المؤمنين، وكان دخوله صلّى الله عليه وسلّم بها بعد دخوله على حفصة بنت عمر، ثم لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة وماتت.

لأمها، وفيها ولد الحسن بن علي «1» رضي الله عنهما. وفيها حرّمت الخمر، وكان تحريمها بالتدريج لما عليه العرب من المحبة الشديدة لها، فيصعب إذا تحريمها دفعة واحدة، وكان ذلك التحريم تابعا لحوادث تنفّر عنها لأن المنكر إذا أسند تحريمه لحادثة أقرّ الجميع على تقبيحها، كان ذلك أشدّ تأثيرا في النفس. فأول ما بين فيها قوله تعالى في سورة البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «2» فمنفعة الميسر التصدق بربحه على الفقراء كما كانت عادة العرب، ومنفعة الخمر تقوية الجسم «3» ، ولما شربها بعض المسلمين وخلط في القراءة حرّمت الصلاة على السكران، فقال تعالى في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4» ، ولما حدث من شربها اعتداء بعض المسلمين على إخوانهم حرّمت قطعيا بقوله تعالى في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ «5» وَالْأَزْلامُ «6» رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «7» وقد أجاب المسلمون على ذلك بقولهم: انتهينا، فليجب المسلمون الان.

_ (1) سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وريحانته وابن فاطمة، كان شبيها بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وعق عنه يوم سابعه، وحلق شعره، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضه، وكناه أبا محمد كان عاقلا حليما كريما فصيحا، من أحسن الناس منطقا وبديهة، حج عشرين حجة ماشيا، تنازل عن الخلافة لمعاوية عام 41 هـ وانصرف إلى المدينة حيث أقام إلى أن توفي مسموما سنة تسع وأربعين هجرية. (2) اية 219. (3) الخمر لا تقوي الجسم بل تضعفه بإجماع الأطباء مؤمنهم وكافرهم- راجع رسالة أضرار الخمر للدكتور نبيل الطويل. (4) اية 43. (5) هي حجارة تصب عليها دماء الذبح وتعبد. (المؤلف) . (6) هي القداح التي كانوا يستقسمون بها؛ وفي قرن الخمر والميسر بالأنصاب والازلام نهاية التنفير، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: شارب الخمر كعابد الوثن. (المؤلف) . (7) سورة المائدة الاية 90- 91.

السنة الرابعة

السنة الرابعة (سرية) «1» في بدء السنة الرابعة بلغ رسول الله أن طلحة وسلمة ابني خويلد الأسديين يدعوان قومهما بني أسد لحربه عليه الصلاة والسلام، فدعا أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعقد له لواء وقال له: سرّ حتى نزل أرض بني أسد بن خزيمة فأغر عليهم، وأرسل معه رجالا، فسار في هلال المحرم حتى بلغ قطنا «2» فأغار عليهم، فهربوا من منازلهم، ووجد أبو سلمة إبلا وشاء فأخذها، ولم يلق حربا ورجع بعد عشرة أيام من خروجه. وفي بدئها أيضا بلغه عليه الصلاة والسلام أنّ سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي المقيم بعرنة «3» يجمع الجموع لحربه، فأرسل له عبد الله بن أنيس الجهني واحده ليقتله، فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتقول حتى يتمكّن، فأذن له، وقال: انتسب لخزاعة، فخرج لخمس خلون من المحرم، ولما وصل إليه قال له سفيان: ممن الرجل؟ قال: من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ فجئت لأكون معك، فقال له: أجل إني لفي الجمع له، فمشى عبد الله معه وحدّثه وسفيان يستحلي حديثه، فلمّا انتهى إلى خبائه تفرّق الناس عنه فجلس معه عبد الله حتى نام، فقام وقتله، ثم ارتحل حتى أتى المدينة، ولم يلحقه الطلب وكفى الله المؤمنين القتال. سرية «4» وفي صفر أرسل عليه الصلاة والسلام عشرة رجال عيونا «5» على قريش مع

_ (1) هي سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد إلى قطن. (2) جبل لبني أسد بناحية فيد شرقي المدينة. (المؤلف) . (3) موضع بين منى وعرفات وهي ليست من الموقف. (4) سرية عاصم بن ثابت إلى الرجيع. (5) عيون: جواسيس. وفي الجامع الصحيح للبخاري أنهم كانوا عشرة.

رهط «1» عضل والقارة «2» الذين جاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلبون من يفقّههم في الدين، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري «3» ، فخرجوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار حتى إذا كانوا بالرجيع «4» غدر بهم أولئك الرهط، ودلّوا عليهم هذيلا قوم سفيان ابن خالد الهذلي الذي كان قتله عبد الله بن أنيس، فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي رام، واقتفوا اثارهم حتى قربوا منهم، فلمّا أحسّ بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك، فقال لهم الأعداء: انزلوا، ولكم العهد ألّا نقتلكم، فنزل إليهم ثلاثة اغترّوا بعهداهم، وقاتلهم الباقون، ومعهم عاصم غير راضين بالنزول في ذمة مشرك. ولمّا رأى الثلاثة الذين سلموا عين الغدر، امتنع أحدهم فقتلوه، وأما الاثنان، فباعوهما بمكّة ممن كان له ثأر عند المسلمين، وهناك قتلا. وقد قال أحدهما وهو خبيب بن عدي «5» حين أرادوا قتله: «6» . ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع»

_ (1) جماعة أقل من العشرة. (2) قال السهيلي هما بطنان من بني الهون، والهون هم بنو الريش ويثيع ابنى الهون بن خزيمة وقال المصعب الزبيري في نسب قريش فأما الهون بن خزيمة فهم عضل وديش والقارة بنو يثيع بن الهون وهم بطنان من خزاعة يقال لهما: الحيا والمصطلق. (3) جد عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، من السابقين الأولين كان قتل عظيما من قريش فلما سمعت قريش بقتله، أرسلت جماعة لتأخذ شيئا من جسده فيتشفوا منه، فأرسل الله على جسده مثل الظلة من الدبر فحمته منهم، فلم يقدروا على أخذ شيء من جسمه. (4) ماء لبني هذيل بين مكة وعسفان (المؤلف) (على ثمانية أميال من عسفان) . (5) شهد بدرا، وأسر يوم الرجيع في السرية التي خرج فيها مرثد بن أبي مرثد وعاصم بن ثابت وخالد بن البكير في سبعة نفر فقتلوا وأسر خبيب وزيد بن الدثنة، فانطلق المشركون بهما إلى مكة فباعوهما، فاشترى خبيبا بنو الحارث، وكان خبيب قد قتل الحرث بن عامر يوم بدر، فمكث عندهم خبيب أسيرا حتى أجمعوا على قتله، ثم خرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال دعوني أصلي ركعتين. ثم قال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت. فكان أول من صلّى ركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا. (6) قال السهيلي وذكر أن أبا ميسرة هو الذي طعن خبيبا في الخشبة والذي طعنه معه عقبة بن الحارث (7) وقصيدة خبيب في السيرة لم يرو منها البخاري غير هذين البيتين. الأوصال: الأعضاء. والشّلو: الجسد. والممزع: المقطع

سرية

سرية «1» وفي صفر وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة «2» ، وهو من رؤوس بني عامر، فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، بل قال: إني أرى أمرك هذا حسنا شريفا ولو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو عامر: أنا لهم جار، فأرسل معه المنذر بن عمرو «3» في سبعين من أصحابه كانوا يسمّون القرّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القران، فساروا حتى نزلوا بئر معونة «4» فبعثوا حرام بن ملحان «5» بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيد بني عامر، فلمّا وصل إليه، لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حرام فقتله «6» ، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر، فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم، وهم رعل وذكوان وعصيّة فأجابوه وذهبوا معه، حتى إذا التقوا بالقرّاء أحاطوا بهم، وقاتلوهم حتى قتلوهم عن اخرهم، بعد دفاع شديد لم يجدهم نفعا لقلّة عددهم، ولم ينج إلّا كعب بن زيد «7» وقع بين القتلى حتى ظنّ أنه منهم، وعمرو بن أميّة «8» كان في سرح «9» القوم. وأبلغ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه، وكان فيما قال: «إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم،

_ (1) سرية بئر معونة. (2) كان سبب تسميته ملاعب الأسنة أن أخاه طفيل بن مالك كان أسلم في ذلك اليوم وفر، فسمى بذلك ملاعب الأسنة في يوم سوبال. (3) الخزرجي الأنصاري الساعدي، شهد العقبة وبدرا. واستشهد في بئر معونة. (4) شرقي المدينة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم (المؤلف) . (5) وهو خال أنس بن مالك واتفق أهل المغازي على أنه استشهد يوم بئر معونة. (6) وفي البخاري وأومأ إلى رجل فأتاه من خلفه وطعنه قال حرام: الله أكبر فزت ورب الكعبة. (7) شهد بدرا وأستشهد بالخندق. (8) قال ابن هشام ورجل من الأنصار هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاج قال ابن اسحاق فلم ينبئها بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: إن لهذه الطير لشأنا، فاقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أميه: ما ترى؟ قال أرى أن نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنخبره الخبر فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، ثم قاتل حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم من مضر تركوه. (9) (سرح القوم) أي داوبهم التي ترعى.

غزوة بني النضير

وإنهم قالوا: ربنا بلّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا» ، وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرّجيع في يوم واحد، فحزن عليهم صلّى الله عليه وسلّم حزنا شديدا، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهرا في الصلاة. غزوة بني النضير «1» يا لله ما أسوأ عاقبة الطيش، فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم، وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج الذين كانوا يجاورون المدينة، فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلّ منهم الاخر، ولكن بنو النضير لم يوفّوا بهذه العهود حسدا منهم وبغيا. فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه «2» في ديار بني النضير إذ إئتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ أحد منهم «3» صخرة ويلقيها عليه من علو، فأطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمّد بن مسلمة يقول لهم: اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر «إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع من عرف منه بالغدر» فتهيأ القوم للرحيل فأرسل لهم اخوانهم المنافقون يقولون: لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ «4» ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد، وتأخّروا عن الجلاء، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتهيؤ لقتالهم، فلمّا اجتمع الناس خرج بهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى رايته عليّا، أما بنو النضير فتحصّنوا في حصونهم، وظنّوا أنهم مانعتهم من الله فحاصرهم عليه الصلاة والسلام ستّ ليال، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون أدعى إلى تسليمهم،

_ (1) هي التي أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد. (2) فيهم أبو بكر وعمر وعلي. (3) عمر بن جحاش بن كعب. (4) سورة الحشر اية 11- 12.

غزوة ذات الرقاع

فقذف الله في قلوبهم الرعب، ولم يروا من عبد الله بن أبي مساعدة، بل خذلهم كما خذل بني قينقاع من قبلهم، فسألوا رسول الله أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، وأنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم، إلّا الة الحرب ففعل، وصار اليهود يخرّبون بيوتهم بأيديهم كيلا يسكنها المسلمون. ولمّا سار اليهود نزل بعضهم بخيبر، ومنهم أكابرهم حييّ بن أخطب وسلّام بن أبي الحقيق، ومنهم من سار إلى أذرعات بالشام، وأسلم منهم اثنان يامين ابن عمرو «1» وأبو سعد بن وهب، ولم يخمّس رسول الله ما أخذ من بني النضير، فإنه فيء لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب «2» ، ومثل هذا يكون لمعدات الحرب، وللرسول يطعم منه أهله، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كما قال تعالى في سورة الحشر ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ «3» فأعطى عليه الصلاة والسلام من هذا الفيء فقراء المهاجرين «4» الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وردّوا لأخوانهم من الأنصار ما كانوا قد أخذوه منهم أيام هجرتهم، وأخذ عليه الصلاة والسلام أرضا يزرعها ويدخر منها قوت أهله عاما. غزوة ذات الرقاع «5» وفي ربيع الاخر بلغه عليه الصلاة والسلام أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه،

_ (1) كان من كبار الصحابة، أسلم فأحرز ماله، ولم يحرز ماله من بني النضير غيره، وغير أبي سعد بن عمرو ابن وهب، وكان كريما يبذل ماله في سبيل الدفاع عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد أعطى مالا لرجل، على أن يقتل ابن عمه عمر بن جحاش الذي هم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) الفيء كل ما أخذ من الكفار من غير قتال، والإيجاف: هو الإسراع، أي لم يعدوا في تحصيله خيلا ولا إبلا بل حصل بلا قتال، والركاب: هي الإبل التي يسافر عليها. (3) اية 7 والحشر كما يقول الراغب: «اخراج الجماعة عن نفرهم وازعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، وأصح من هذه الأقوال كلها ما رواه الشيخان من طريقة أبي موسى الأشعري. قال: خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير. نعتقبه ونقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع، كما كنا نعصب من الحزم على أرجلنا (4) الاسهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (5) قال الحافظ في الفتح وقد اختلفت في ميقاتها على أقوال بل الذي ينبغي الجزم به بعد غزوة بني قريظه، لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع على تأخرها بعد الخندق.

غزوة بدر الاخرة

وهم بنو محارب وبنو ثعلبة، فتجهز لهم وخرج في سبعمائة مقاتل، وولّى على المدينة عثمان بن عفّان «1» ، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم فلم يجدوا فيها أحدا غير نسوة فأخذهنّ، فبلغ الخبر رجالهم، فخافوا وتفرّقوا في رؤوس الجبال، ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب، فتقارب الناس، وأخاف بعضهم بعضا. ولما حانت صلاة العصر وخاف عليه الصلاة والسلام أن يغدر بهم الأعداء وهم يصلون صلّى بالمسلمين صلاة الخوف «2» فألقى الله الرعب في قلوب الأعداء وهم يصلّون. وتفرقت جموعهم خائفين منه صلّى الله عليه وسلّم. ومال الإمام البخاري إلى أن هذه الغزوة كانت في السنة الرابعة وأجمع أهل السير على خلافه. غزوة بدر الاخرة لمّا أهلّ شعبان هذا العام كان موعد أبي سفيان، فإنه بعد انقضاء غزوة أحد قال للمسلمين: موعدنا بدر العام المقبل، فأجابه الرسول إلى ذلك. وكان بدر محل سوق تعقد كل عام للتجارة في شعبان يقيم التجار فيه ثمانيا. فلمّا حلّ الأجل، وقريش مجدبون، لم يتمكّن أبو سفيان من الإيفاء بوعده، فأراد أن يخذل المسلمين عن الخروج كيلا يوسم بخلف الوعد، فاستأجر نعيم بن مسعود الأشجعي «3» ليأتي المدينة ويرجف بما جمعه أبو سفيان من الجموع العظيمة، فقدم نعيم المدينة وقال للمسلمين: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ «4» ، ولم يلتفت عليه الصلاة والسلام لهذا الإرجاف اتّكالا على ربه بل خرج بألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي «5» . ولم يزالوا سائرين حتى أتوا بدرا، فلم

_ (1) قال ابن اسحاق: استعمل على المدينة أبا ذر. (2) روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة- عمن صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع- أن طائفة صفت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وطائفة وجاه العدو- أي تجاهه مراقبة له- فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الاخرى، فصلّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم. (3) يكنى أبا سلمة صحابي مشهور له ذكر في البخاري أسلم ليالي الخندق، وهو الذي أوقع الخلف بين الحيين قريظة وغطفان في وقعة الخندق، قتل أول خلافة علي قبل قدومه البصرة في وقعة الجمل. (4) سورة ال عمران اية 173. (5) ابن سلول، وكان أبوه رأس المنافقين، وكان اسم هذا الحباب وبه يكنى أبوه فسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وشهد بدرا وأحدا والمشاهد، ويقال إنه أستأذن النبي في قتل أبيه فقال بل أحسن صحبته فلما مات

حوادث

يجدوا أحدا لأن أبا سفيان أشار على قريش بالخروج على نية الرجوع بعد مسير ليلة أو ليلتين ظانا أن إرجاف نعيم يفيد فيكون المخلف هم المسلمون، فسار حتى أتى مجنّة وهي سوق معروفة من ناحية مرّ الظهران «1» فقال لقومه: إن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام عشب فارجعوا، أما المسلمون فأقاموا ببدر لا يشاركهم في تجارته أحد فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ «2» ولما سمع بذلك صفوان بن أمية قال لأبي سفيان: قد والله نهيتك أن تعد القوم قد اجترؤوا علينا ورأوا أنّا أخلفناهم. حوادث وفي هذا العام ولد الحسين بن علي «3» ، وفيه توفيت زينب بنت خزيمة أم المؤمنين «4» ، وفيه توفّي أبو سلمة رضي الله عنه ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخوه من الرضاعة وأول من هاجر إلى الحبشة، وفيه تزوّج عليه الصلاة والسلام أم سلمة هندا زوج أبي سلمة بعد وفاته.

_ والده سأله ابنه الصلاة عليه فنزلت (ولا تصل على أحد منهم الاية) فسأله أن يكسوه قميصه يكفن فيه لعله يخفف عنه ففعل، واستشهد باليمامة في قتال الردة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. (1) هو على مرحلة من مكة. (2) سورة ال عمران اية 174. (3) أبو عبد الله ريخانة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشبهه من الصدر إلى ما أسفل منه، وقد أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أذنه، وهو سيد شباب أهل الجنة، وقد سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم الحسين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حقه: حسين مني وأنا من حسين، أحب حسين، حسين سبط من الأسباط، حج الحسين خمسا وعشرين حجة ماشيا كان فاضلا كثير الصوم والصلاة والحج والصدقة وأفعال الخير جميعها، وقتل يوم الجمعة احدى وستين وهو يوم عاشوراء. (4) أم المؤمنين مشهورة بكنيتها، وكانت تحت أبي سلمة، وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة، فيقال إنها أول ظعينة دخلت إلى المدينة مهاجرة، روت أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا وعن أبي سلمة، أوصت أن يصلّي عليها سعيد بن زيد أمير المدينة في مرضة مرضتها ثم عوفيت، ومات سعيد قبلها.

السنة الخامسة

السنة الخامسة غزوة دومة الجندل «1» وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن جمعا من الأعراب بدومة الجندل يظلمون من مرّ بهم، وأنهم يريدون الدنوّ من المدينة، فتجهز لغزوتهم، وخرج في ألف من أصحابه بعد أن ولّى على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري «2» ، ولم يزل يسير الليل ويكمن النهار حتى قرب منهم، فلمّا بلغهم الخبر تفرّقوا، فهجم المسلمون على ما شيتهم ورعائهم، فأصيب من أصيب، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلق أحدا، وبث السرايا فلم تجد منهم أحدا، فرجع عليه الصلاة والسلام غانما، وصالح وهو عائد عيينة بن حصن الفزاري، وهو الذي كان يسميه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع «3» لأنه يتّبعه ألف قناة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضا يرعى فيها بهمه «4» على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت. غزوة بني المصطلق «5» في شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارث بن ضرار سيّد بني المصطلق

_ (1) مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين طيبة خمس عشرة ليلة (المؤلف) . (دومة بضم الدال عند أهل اللغة، وأصحاب الحديث يفتحونها. هكذا في الصحاح. قال البكري: سميت بدومي بن اسماعيل، وكان نزلها، وأنها على عشر مراحل من المدينة وعشر من الكوفة وثمان من دمشق واثنتي عشر من مصر. (2) ويقال له الكناني وقد استخلفه النبي صلّى الله عليه وسلّم على المدينة وهو بخيبر. (3) أسلم ثم أرتد، وامن بطليحة حيث تنبّأ وأخذ أسيرا، فأتي به أبو بكر أسيرا فمنّ عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات. (4) صغار غنمه. (5) قال البخاري: وهي غزوة المريسيع قال محمد بن اسحاق: وذلك في سنة ست وقال موسى بن عقبة سنة أربع. وقد اختلف في زمن هذه الغزوة والراجح أنها في شعبان تشهد لها الأحاديث الصحيحة.

الذين ساعدوا قريشا على حرب المسلمين في أحد يجمع الجموع لحربه، فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير، وولّى على المدينة زيد بن حارثة، وخرج معه من نسائه عائشة وأم سلمة، وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قط في غزوة قبلها يرجون أن يصيبوا من عرض الدنيا، وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعين بني المصطلق، فسأله عن أحوال العدو فلم يجب فأمر بقتله. ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه، وأنهم قتلوا جاسوسه خاف هو وجيشه خوفا شديدا حتى تفرّق عنه بعضهم، ولما وصل المسلمون إلى المريسيع «1» تصافّ الفريقان للقتال، بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا، فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالا للهرب، بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذّرية واستاقوا الإبل والشياه، وكانت الإبل ألفي بعير، والشياه خمسة الاف استعمل الرسول على ضبطها مولاه شقران «2» ، وعلى الأسرى بريدة «3» . وكان في نساء المشركين برّة بنت الحارث «4» سيد القوم، وقد أخذ من قومها مئتا بنت أسرى وزّعت على المسلمين، وهنا يظهر حسن السياسة، ومنتهى الكرم، فإن بني المصطلق من أعزّ العرب دارا، فأسر نسائهم بهذه الحال صعب جدا، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يمنّون على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم، فتزوّج برة بنت الحارث التي سمّاها جويرية، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينبغي أسرهم في أيدينا، فمنّوا عليهم بالعتق، فكانت جويرية أيمن امرأة على قومها «5» كما قالت عائشة رضى الله عنها، وتسبّب عن هذا الكرم العظيم،

_ (1) ماء لخزاعة على يوم من الفرع (المؤلف) . (2) كان شقران عبدا حبشيا لعبد الرحمن بن عوف، فوهبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيمن حضر غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته، وشهد بدرا وهو عبد فلم يسهم له، وقد نزل في قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان شقران قد أخذ قطيفة كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبسها فدفنها في قبره. ويقال كانت له دار بالبصرة. (3) يكنى أبا عبد الله: أسلم قبل بدر ولم يشهدها، وشهد الحديبية، فكان ممن بايع الرضوان، وقد تعلم شيئا من القران، ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أحد فشهد معه مشاهده، وكان من ساكني المدينة ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج منها إلى خراسان غازيا فمات بمرو في إمرة يزيد بن معاوية. (4) زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قبله تحت مسامع بن صفوان المصطلقي، كان اسمها برة فغير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمها وسماها جويرية، حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروت عنه، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين من الهجرة. (5) أقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، فلما بلغ العقيق نظر إلى الإبل فرغب في بعيرين منها،

وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم، وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم. وقد حصل في هذه الغزوة نادرتان، لولا أن صاحبتهما حكمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعادتا بالتفريق على المسلمين. فأولاهما أنّ أجيرا «1» لعمر بن الخطاب اختصم مع حليف للخزرج «2» ، فضرب الأجير الحليف حتى سال دمه، فاستصرخ بقومه الخزرج، واستصرخ الأجير بالمهاجرين، فأقبل الذعر من الفريقين، وكادوا يقتتلون لولا أن خرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ - وهي ما يقال في الاستغاثة يا لفلان- فأخبر الخبر، فقال: دعوا هذه الكلمة فإنها منتنة، ثم كلّم المضروب حتى أسقط حقّه، وبذلك سكنت الفتنة، فلمّا بلغ عبد الله بن أبي هذا الخصام غضب، وكان عنده رهط من الخزرج فقال: ما رأيت كاليوم مذلة أوقد فعلوها؟ نافرونا «3» في ديارنا، والله ما نحن والمهاجرون إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «4» ثم التفت إلى من معه، وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضا للمنايا دون محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضّوا من عنده، وكان في مجلسه شاب حديث السن قوي الإسلام اسمه زيد بن أرقم «5» ، فأخبر رسول الله الخبر، فتغير وجهه. قال: يا غلام لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت، فقال: والله يا رسول الله لقد سمعته. قال لعلّه أخطأ سمعك، فاستأذن عمر الرسول في قتل ابن

_ فاخفاهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي وقال: يا محمد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق؟ فقال الحارث: أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك إلا الله فأسلم وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إليه البعيرين. وحديث جويرية بنت الحارث في غزوة بني المصطلق رواه الشيخان وأبو داود. (1) من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود. (2) سنان بن وبر حليف بني عوف بن الخزرج. (3) أي غلبونا وكاثرونا في بلادنا، أي وأنكروا ملّتنا. (4) سورة المنافقين اية 8. (5) استصغر يوم أحد وأول مشاهده الخندق، وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم سبع عشرة غزوة، وله أحاديث كثيرة وشهد صفين مع علي ومات بالكوفة سنة 66 هـ.

حديث الإفك

أبيّ أو أن يأمر أحدا غيره بقتله فنهاه عن ذلك. وقال: كيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه، ثم أذن بالرّحيل، في وقت لم يكن يرتحل فيه حين اشتدّ الحرّ، يقصد بذلك عليه الصلاة والسلام شغل الناس عن التكلّم في هذا الموضوع، فجاءه أسيد بن حضير، وسأله عن سبب الارتحال في هذا الوقت؟ فقال: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، قال: أنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم سار عليه الصلاة والسلام بالناس سيرا حثيثا «1» حتى اذتهم الشمس، فنزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما، وكلم رجال من الأنصار عبد الله بن أبيّ في أن يطلب من الرسول الاستغفار فلوى رأسه واستكبر. وهنا نزل على الرسول سورة المنافقين التي فضحت عبد الله بن أبيّ وإخوانه، وصدقت زيد بن أرقم، ولما بلغ ذلك عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، استأذن رسول الله في قتل أبيه حذرا من أن يكلف بذلك غيره، فيكون عنده من ذلك أضغان وأحقاد، فأمره عليه الصلاة والسلام بالإحسان إلى أبيه «2» . حديث الإفك النادرة الثانية وهي أفظع من الأولى وأجلب منها للمصائب وهي رمي عائشة الصّدّيقة زوج رسول الله بالإفك، فاتهموها بصفوان بن المعطّل «3» السّلمي وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه الصلاة والسلام ليله بالرحيل. وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش، فلمّا قضت شأنها أقبلت إلى

_ (1) سريعا. (2) وفي رواية ابن اسحاق أن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر لوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. (3) قال السهيلي: وكان يكون على ساقة العسكر يلتقط ما يسقط من متاع المسلمين، حتى يأتيهم به. سكن المدينة وشهد الخندق والمشاهد كلها يكنى أبا عمرو، وكان خيرا فاضلا شجاعا بطلا، وكان جلدا حصورا لا يأتي النساء، وقتل شهيدا في خلافة معاوية، واندقت رجله يوم قتل فطاعن بها، وهي منكسرة، حتى مات.

رحلها. فلمست صدرها فإذا عقد لها من جزع ظفار «1» قد انقطع، فرجعت تلتمس عقدها، فحبسها ابتغاؤه، فأقبل الرهط «2» الذين كانو يرحلونها فاحتملوا هودجها «3» ظانين أنها فيه لأن النساء كن إذ ذاك خفافا لم يغشهنّ اللحم، فلم يستنكر القوم خفّة الهودج، وكانت عائشة جارية حديثة السنّ، فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها، وليس بالمنزل داع ولا مجيب، فغلبتها عيناها فنامت، وكان الذي يسير وراء الجيش يفتقد ضائعه صفوان بن المعطّل. فأصبح عند منزلها فعرفها لأنه كان راها قبل الحجاب، فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه «4» ، وسترت وجهها بجلبابها «5» فأناخ راحلته، وأركبها من غير أن يتكلّما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش، وهو نازل للراحة، فقامت قيامة أهل الافك، قالوا ما قالوا في عائشة وصفوان. والذي تولّى كبر الإفك عبد الله بن أبيّ، ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهرا، والناس يفيضون «6» في قول أهل الإفك. وهي لا تشعر بشيء، وكانت تعرف في رسول الله رقّة إذا مرضت، فلم يعطها نصيبا منها في هذا المرض، بل كان يمرّ على باب الحجرة لا يزيد على قوله: كيف حالكم؟ مما جعلها في ريب عظيم، فلما نقهت «7» خرجت هي وأم مسطح بن أثاثة «8» أحد أهل الإفك للتبرز خارج البيوت، فعثرت أم مسطح في مرطها «9» فقالت: تعس مسطح! فقالت عائشة: بئس ما قلت!!! أتسبيّن رجلا شهد بدرا؟ فقالت: يا هنتاه «10» أولم تسمعي ما قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر، فازدادت مرضا على مرضها، ولما جاءها عليه الصلاة والسلام كعادته، استأذنته أن تمرّض في بيت أبيها، فأذن لها، فسألت أمها عمّا يقول الناس فقالت با بنيّة هوّني عليك،

_ (1) الجزع: الخرز. وظفار: مدينة باليمن. (2) قوم الرجل وقبيلته ومن ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة. (3) مركب النساء. (4) أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. (5) الجلباب هو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار (6) أي يخوضون. (7) أي أفاقت من المرض. (8) رائطة بنت صخر وهي مشهورة بكذبها، أسلمت فحسن إسلامها، وكانت من أشد الناس على مسطح حين تكلم مع أهل الإفك. (9) وأحد المروط وهي أكسية من صوف أو خز كان يؤتزر بها. (10) أي هذه.

فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة «1» عند رجل يحبّها لها ضرائر إلّا أكثرن عليها فقالت عائشة: سبحان الله! أو قد تحدّث الناس بهذا؟! وبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وفي خلال ذلك كان عليه الصلاة والسلام يستشير كبار أهل بيته فيما يفعل، فقال له أسامه بن زيد «2» لما يعلمه من براءة عائشة: أهلك أهلك ولا نعلم عليهم إلّا خيرا، وقال علي بن أبي طالب: لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فدعا عليه الصلاة والسلام بريرة «3» جارية عائشة وقال لها: هل رأيت من شيء يريبك؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه «4» غير أنها جارية حديثة السّن تنام عن عجينها، فتأتي الداجن «5» فتأكله. فقام عليه الصلاة والسلام من يومه، وصعد المنبر، والمسلمون مجتمعون، وقال: من يعذرني «6» من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيرا. ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما يدخل على أهلي إلّا معي. فقال سعد بن معاذ: أنا يا رسول الله أعذرك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة الخزرجي وقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أنه يقتل، فقام أسيد بن خضير، وقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل المنافقين. وكادت تكون فتنة بين الأوس والخزرج لولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل من فوق المنبر، وخفّضهم حتى سكتوا، أما عائشة فبقيت ليلتين لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم. وبينما هي مع أبويها إذ دخل النبي عليه

_ (1) أي حسنة جميلة. (2) الكلبي الحب ابن الحب يكنى أبا محمد فأمه أم أيمن حاضنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولد أسامه في الإسلام ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم وله عشرون سنة، وقد أمّره على جيش عظيم، فمات النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يتوجّه فأنفذه أبو بكر، وكان عمر يجلّه ويكرمه، اعتزل أسامة الفتن بعد قتل عثمان إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان سكن المزة من أعمال دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة، فمات بها بالجرف سنة 54 هـ، وفضائله كبيرة، أحاديثه شهيرة. (3) اشترتها عائشة فاعتقتها، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، وقصتها تلك في الصحيحين. والبريرة واحدة البرير وهو ثمر الأراك. (4) أعيبه عليها. (5) هي الشاة التي تألف في البيوت ولا تخرج إلى المرعى. (6) أي ينصرني إن جازيته على سوء صنيعه.

الصلاة والسلام فسلّم ثم جلس فقال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف وتاب تاب الله عليه، فتقلّص «1» دمع عائشة، وقالت لأبويها: أجيبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: والله ما ندري ما نقول، فقالت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدّقنّي، فو الله لا أجدلي ولكم مثلا إلّا أبا يوسف حيث قال فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ «2» . ثم تحولت واضطجعت على فراشها، ولم يزاول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه حتى نزلت عليه الايات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة الصديقة إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «3» فسرّي عن رسول وهو يضحك، وبشّر عائشة بالبراءة «4» ، فقالت لها أمها: قومي فاشكري رسول الله، فقالت: لا والله،

_ (1) أي بمعنى جف من شدّة الحزن. (2) سورة يوسف اية 18. (3) اية 11- 21 (4) وقد برأ الله أربعة بأربعة برأ يوسف بلسان الشاهد (وشهد شاهد من أهلها) وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها (إني عبد الله) وبرأ عائشة بهذه الايات العظام.

غزوة الخندق

لا أشكر إلّا الله الذي برّأني «1» . وبعد ذلك أمر عليه الصلاة والسلام بأن يجلد من صرّح بالإفك ثمانين جلدة وهي حد القاذف، وكانوا ثلاثة: حمنة بنت جحش «2» ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت. وكان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة «3» لقرابته منه، فلمّا تكلّم بالإفك قطع عنه النفقة، فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ «4» أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5» فقال أبو بكر: بل نحب ذلك يا رسول الله، وأعاد النفقة على مسطح. فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون بين الأمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقدا يتربصون الفتن، فمتى رأوا بابا لها ولجوه فنعوذ بالله منهم. غزوة الخندق «6» لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائما أن يأخذوا ثأرهم، ويستردّوا بلادهم، فذهب جمع منهم إلى مكّة، وقابلوا رؤساء قريش، وحرّضوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولا لما طلبوه، ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا

_ (1) وفي المسند من حديث عائشة أنه لما أنزل الله براءتها قام إليها أبو بكر، فقبل رأسها، فقالت له: هلّا كنت عذرتني، فقال: أي سماء تظلني وأني أرض تقلني، إن قلت بما لا أعلم. (2) كانت زوج مصعب بن عمير فقتل عنها يوم أحد فتزوجها طلحة بن عبد الله، فولدت له محمّدا وعمرا. وقال أبو عمر: كانت من المبايعات وشهدت أحدا فكانت تسقي العطشى وتحمل الجرحى وتداويهم، وهي والدة محمد بن طلحة المعروف بالسجاد. (3) كان اسمه عوفا وأما مسطح فهو لقبه وأمه بنت خالة أبي بكر أسلمت وأسلم أبوها قديما، فحديث الإفك ثبت في الصحيحين في حديث عائشة الطويل في الإفك، وفي الخبر الذي أخرجه أبو داود من وجه اخر عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد الذين قذفوا عائشة وعده منهم، ومات مسطح سنة 34 في خلافة عثمان. (4) ولا يحلف. (5) سورة النور اية 22 وقد روى هذه القصة الشيخان بالسند عن عائشة. (6) كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن اسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع، وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه. قال البيهقي: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس، والصحيح قول الجمهور: إن أحدا في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة والله أعلم.

رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، فوجدوا منهم ارتياحا، فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان، ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة الاف معهم ثلاثمائة فرس وألف بعير. وتجهزت غطفان يرأسهم عيينة بن حصن الذي جازى إحسان رسول الله كفرا، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضا يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهّزت بنو مرّة يرأسهم الحارث بن عوف المري وهم أربعمائة، وتجهّزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعود ابن رخيلة «1» ، وتجهّزت بنو سليم يرأسهم سفيان بن عبد شمس، وهم سبعمائة، وتجهّزت بنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي، وعدة الجميع عشرة الاف محارب قائدهم العام أبو سفيان. ولمّا بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاته التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية، وهذه هي الجهة التي كانت عورة تؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكّن العدو من الحرب جهتها، وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثّلا بشعر ابن رواحة: اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا «2» وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسندا ظهره إلى سلع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة الاف، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة. أما قريش فنزلت بمجمع الأسيال «3» ، وأما غطفان

_ (1) في الأصل أبو مسعود وهو خطأ وفي الإصابة وأسد الغاية مسعود بن رخيلة الأشجعي ثم أسلم فحسن اسلامه (2) في البخاري وفي رواية أخرى عن البراء فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ثم ذكر الرجز السابق. (3) الموضع الذي تجتمع فيه السيول.

فنزلت جهة أحد، وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليه أكره جماعة منهم على اقتحام الخندق، منهم: عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن ود واخرون، وقد برز عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لعمرو بن ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفل بن عبد الله فاندقت عنقه ورمي «1» سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم قطع أكحله وهو شريان الذراع واستمرّت المناوشة والمراماة بالنبل يوما كاملا حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حرّاسا حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثلمة «2» فيه مع شدّة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويعدهم الخير. أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدّة ما تكنّه ضمائرهم حتى قالوا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «3» وانسحبوا قائلين: إنّ بيوتنا عورة نخاف أن يغير عليها العدو وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً «4» ، واشتدّت الحال بالمسلمين، فإنّ هذا الحصار صاحبه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدّة عليهم ما بلغهم من أنّ يهود بني قريظة الذين يساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أنّ حييّ بن أخطب سيد بني النضير المجليّين توجّه إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، فحسّن له نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين، ولمّا بلغت هذه الأخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل مسلمة بن أسلم «5» في مائتين، وزيد ابن حارثة في ثلاثمائة لحراسة المدينة خوفا على النساء والذراري، وأرسل الزبير ابن العوّام يستجلي له الخبر، فلمّا وصلهم وجدهم حانقين يظهر على وجوههم الشرّ، ونالوا من رسول الله والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك. وهنالك اشتدّ وجل المسلمين وزلزلوا زلزالا شديدا، لأنّ العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنّوا بالله الظنون،

_ (1) رماه رجل من قريش يقال له حيان بن العرفة. (2) فرجة المكسور والمهدوم. (3) سورة الأحزاب اية 12. (4) سورة الأحزاب اية 13. (5) قتل يوم جسر أبي عبيد.

الخدعة في الحرب

وتكلّم المنافقون بما بدا لهم، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعيينة بن حصن، ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان، فأبى الأنصار ذلك قائلين: إنهم لم يكونوا ينالون منّا إلّا قليلا من ثمارنا ونحن كفار، أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟! وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث لا يعلمون. فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم. جاء نعيم بن مسعود الأشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي فمرني بأمرك حتى أساعدك. فقال: أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خذّل عنّا ما استطعت فإن الحرب خدعة «1» . الخدعة في الحرب فخرج من عنده وتوجّه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين، فلمّا رأوه أكرموه لصداقته معهم فقال: يا بني قريظة تعرفون ودّي لكم وخوفي عليكم، وإني محدّثكم حديثا فاكتموه عنّي، قالوا: نعم، فقال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وديارهم، وإنّ قريشا وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذ رأوا فرصة انتهزوها وإلّا انصرفوا لبلادهم. وأما أنتم فتساكنون الرجل يريد الرسول ولا طاقة لكم بحربه واحدكم فأرى ألاتدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفا منهم، فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك. ثم قام من عندهم وتوجّه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم، وقال: أنتم تعرفون ودّي لكم ومحبتي إيّاكم وإني محدّثكم حديثا فاكتموه عني، قالوا: نفعل، فقال لهم: إنّ بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه، فقالوا له: أيرضيك أن نأخذ جمعا من أشرافهم ونعطيهم لك، وتردّ جناحنا الذي كسرت- يريد بني النضير- فرضي بذلك منهم. وها هم مرسلون إليكم فاحذروهم ولا تذكروا مما قلت لكم حرفا. ثم أتى غطفان

_ (1) فتح الخاء وضمها والفتح أفصح.

هزيمة الأحزاب

فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشا فأرسل أبو سفيان وفدا «1» لقريظة يدعوهم للقتال غدا فأجابوا: إنّا لا يمكننا أن نقاتل في السبت وكان إرساله لهم ليلة السبت- ولم يصبنا ما أصابنا إلّا من التعدّي فيه، ومع ذلك فلا نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى لا تتركونا، وتذهبوا إلى بلادكم «2» ، فتحققت قريش وغطفان كلام نعيم بن مسعود، وتفرّقت القلوب فخاف بعضهم بعضا. وكان عليه الصلاة والسلام قد ابتهل إلى الله الذي لا ملجأ إلّا إليه ودعاه بقوله: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم» «3» وقد أجاب الله دعاءه عليه الصلاة والسلام فأرسل على الأعداء ريحا باردة في ليلة مظلمة، فخاف العرب أن تتفق اليهود مع المسلمين ويهجموا عليهم في الليلة المدلهمّة «4» فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح. ولمّا سمع عليه الصلاة والسلام الضوضاء في جيش العدو، قال لأصحابه: لا بدّ من حادث. فمن منكم ينظر لنا القوم؟ فسكتوا حتى كرّر ذلك ثلاثا. وكان فيهم حذيفة بن اليمان، فقال عليه الصلاة والسلام: تسمع صوتي منذ الليلة ولا تجيب! فقال: يا رسول الله البرد شديد، فقال: اذهب في حاجة رسول الله واكشف لنا خبر القوم فخاطر رضى الله عنه بنفسه في خدمة نبيّه حتى اطّلع على جليّة الخبر، وأن الأعداء عازمون على الرحلة «5» . هزيمة الأحزاب وقد بلغ من خوفهم أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم: ليتعرّف كلّ منكم أخاه، وليمسك بيده حذرا من أن يدخل بينكم عدو، وقد حلّ عقال بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل، فقال له صفوان بن أمية: إنك رئيس القوم فلا تتركهم وتمضي، فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل، وترك خالد بن الوليد في جماعة ليحموا ظهور المرتحلين حتى لا يدهموا من ورائهم، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي تحزّب فيها الأحزاب من عرب ويهود على المسلمين، ولولا لطف الله وعنايته

_ (1) عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. (2) رواه ابن اسحاق في المعنى. (3) ثبت في الصحيحين. (4) أدلهم الظلام إذا اشتد. (5) رواه مسلم في صحيحه عن يزيد عن أبيه وقد رواه الحاكم والحافظ البيهقي في الدلائل.

غزوة بني قريظة

بهذا الدين منّة منه وفضلا لساءت الحال. وكان جلاء الأحزاب في ذي القعدة، وكان حقا على الله أن يسمّيه نعمة بقوله في سورة الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً «1» . غزوة بني قريظة ولمّا رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة «2» ، حتى يطهّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدّة، فقال لأصحابه: «لا يصلينّ أحد منكم العصر إلّا في بني قريظة» فساروا مسرعين، وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكبا على حماره، ولواؤه بيد علي بن أبي طالب، وخليفته على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة الاف، وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق فصلّاها بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صلاتها على قصد السرعة، ولم يصلّها الاخرون إلّا في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يعنّف فريقا «3» منهم. ولمّا رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم، وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم وقت الشغل بعدو اخر، ولكن أنّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم، فلمّا رأوا ذلك تحصّنوا بحصونهم وحاصرهم

_ (1) اية 9 إلى 13. (2) وفي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الخندق، وضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل فقال قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه، فأخرج إليهم «قال فإلى اين» قال: هاهنا وأشار إلى قريظة فخرج إليهم (3) رواه البخاري ومسلم وفي هذا دليل على أن كل مختلفين في الفروع أن المجتهد فيه مصيب. وقد رواه أيضا البيهقي من طريقين ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها. وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف.

المسلمون خمسا وعشرين ليلة، فلمّا رأوا ألامناص من الحرب، وأنهم إن استمرّوا على ذلك ماتوا جوعا وطلبوا من المسلمين أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم من غير سلاح فلم يرض أيضا، بل قال: لا بدّ من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيرا كان أو شرّا، فقالوا له: أرسل لنا أبا لبابة نستشيره، وكان أوسيا من حلفاء بني قريظة، له بينهم أولاد وأموال، فلمّا توجّه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول. فقال لهم: انزلوا وأومأ بيده إلى حلقه يريد أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة «1» : لم أبارح موقفي حتى علمت أني خنت الله ورسوله، فنزل من عندهم قاصدا المدينة خجلا من مقابلة رسول الله، ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال: أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه «2» . ثم إن بني قريظة لمّا لم يروا بدّا من النزول على حكم رسول الله فعلوا، فأمر برجالهم فكتّفوا، فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعد بن معاذ الذي كان جريحا من السهم الذي أصيب به في الخندق، وكان مقيما بخيمة في المسجد معدة لمعاملة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام من يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك ألا ترى ما فعل ابن أبيّ في مواليه؟ فقال رضي الله عنه: لقد ان لسعد ألّا تأخذه في الله لومة لائم. ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه، ففعلوا وقالوا له: إن رسول الله قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول: احكم فيهم يا سعد فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى من هنا كذلك؟ وهو غاضّ طرفه إجلالا فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية، فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد حكمت فيهم

_ (1) هو بشير بن عبد المنذر بن المدني أحد النقباء، عاش إلى خلافة علي. (2) رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة كما ذكره محمد بن اسحاق في مغازيه في مثل سياق موسى بن عقبة عن الزهري وقد ذكره المؤلف باختصار.

زواج زينب بنت جحش

بحكم الله» «1» لأن هذا جزاء الخائن الغادر. ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم، وجمعت غنائمهم، فكانت ألفا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وجحفة، ووجد أثاثا كثيرا وانية وجمالا نواضح «2» وشياها فخمس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس، وأعطى النساء اللاتي يمرضنّ الجرحى، ووجد في الغنيمة جرار خمر فأريقت. وبعد اتمام هذا الأمر انفجر جرح سعد بن معاذ فمات «3» رضى الله عنه وأرضاه، كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين. وقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد التي تقدمت الخندق، وكان عليه الصلاة والسلام يحبّه كثيرا وبشّره بالجنّة على عظيم أعماله. وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب الله على أبي لبابة بقوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» وقد عاهد الله أن يهجر ديار بني قريظة التي حصلت فيها هذه الزلّة. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شرّ مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم تبق إلّا بقية من كبارهم بخيبر وأهلها وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. وسيأتي للقارىء قريبا اليوم الذي يعاقبون فيه. زواج زينب بنت جحش وفي هذا العام تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش- وأمها أميمة عمته- بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة، وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خطبها له فتأفف أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم، فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي، ويعتقدون ألاكفء من سواهم لبناتهم، وزيد وإن كان الرسول تبنّاه ولكن هذا لا يلحقه بالأشراف، فلمّا نزل قوله تعالى في سورة الأحزاب وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ

_ (1) رواه الشيخان وأبو داود. (2) النواضح جمع ناضح. وقال ابن هشام الناضح: البعير الذي عليه الماء لسقي النخل. (3) فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش وفي حديث اخر: قال عليه الصلاة والسلام: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطؤا الأرض قبلها، ويذكر أن قبره وجد منه رائحة المسك أخرجه ابن سعد وأبو نعيم. (4) سورة التوبة 102.

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً «1» . لم يروا بدّا من القبول، فلمّا دخل عليها زيد أرته من كبريائها وعظمتها ما لم يتحمّله، فاشتكاها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره باحتمالها والصبر عليها إلى أن ضاقت نفسه، فأخبره بالعزم على طلاقها وقرر ذلك، ولما كانت العشرة بين مثل هذين الزوجين ضربا من العبث، أمر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج زينب بعد طلاقها حسما لهذا الشقاق من جهة، وحفظا لشرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى من جهة أخرى، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خشي من لوم اليهود والعرب له في زواجه بزوج ابنه «2» فقال لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله، وأخفى في نفسه ما أبداه الله فبتّ الله حكمه بإبطال هذه القاعدة وهي تحريم زوج المتبنى بقوله في سورة الأحزاب فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا «3» ثم إن الله حرم التبني على المسلمين لما فيه من الإضرار، وأنزل فيه في سورة الأحزاب ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً «4» ومن هذا الحين صار اسم زيد «زيد بن حارثة» بدل «زيد بن محمد» . وأبدل بذلك أن ذكر اسمه في قران يتلى على مرّ الدهور والأعوام «5» يقول المؤرخون وذوو المقاصد السافلة منهم في هذه القصة أقوالا لا تجوز إلّا ممّن ضاع رشده، ولم يفقه حقيقة ما يقول، فإنهم يذكرون أن الرسول توجّه يوما لزيارة زيد فرأى زوجه مصادفة لأن الريح رفعت الستر عنها، فوقعت في قلبه، فقال: سبحان الله، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فرأى من الواجب عليه فراقها، فتوجّه وأخبر الرسول بعزمه، فنهاه عن ذلك إلخ. وهذا مما يكذبه أن نساء

_ (1) اية 36. (2) روى أن أبي حاتم والطبري عن علي بن الحسين بن علي قال: (أعلم الله نبيّه أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها فلما أتاه زيد يشكوها وقال له: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» قال الله قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه) وهذا ما ذهب إليه المحققون من المفسرين وغيرهم في تفسير الخشية كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في الشفاء. والحافظ المؤرخ ابن كثير في التفسير والبداية والنهاية. (3) اية 37. (4) اية 40. (5) رواه البخاري.

الحجاب

العرب لم تكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه، وزينب بنت عمته أسلمت قديما ورسول الله بمكّة، فكيف لم يرها، وقد مضى على إسلامها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته، إلّا حينما رفعت الريح الستر مصادفة، ورسول الله هو الذي زوجها زيدا، فلو كان له فيها رغبة حب أو عشق لتزوجها هو ولا مانع يمنعه من ذلك. ومن منا يتصوّر أن السيد الأكرم يقول لقومه: إنه مرسل من ربه، ويتلو عليهم صباح مساء أمر الله له بقوله في سورة الحجر المكية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ «1» وفي سورة طه المكية أيضا وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل من متّبعيه، وينظر إلى زوجه مصادفة، ثم يشتهي زواجها؟ إن هذا الأمر عظيم تشعر بذلك صدورنا. ولو حدث أمر مثل ذلك من أقلّ الناس لعيب عليه، فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس خلقا، وأبعدهم عن الدنايا، وأشدّهم ذكاء وفراسة حتى مدحه الله بقول في سورة ن وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» لا شكّ أنّ هذه الخرافة مما يلتحق بخرافة الغرانيق، وضعها أعداء الدين ليصلوا بها إلى أغراضهم، والحمد لله قد ناقضت النقل والعقل، فلم تبق شبهة في أن الحقيقة ما نقلناه لك أولا، وهو الذي يستفاد من القران الشريف قال تعالى في سورة الأحزاب وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا «4» . والذي أبداه الله هو زواجه بها، ولم يبد غير ذلك وهذا القران أعظم شاهد. الحجاب وفيه نزلت اية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» . وكان عمر بن

_ (1) اية 88. (2) اية 131. (3) اية 4. (4) اية 37. (5) قال جمهور المفسرين على أن هذه الاية وإن كانت خطابا لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فحكمها لجميع نساء الأمة، وإنما خص نساء النبي لمنزلتهن وعظم فضلهن، ومكانهن من النبي صلّى الله عليه وسلّم.

الخطاب قبل نزول ايته يحبه ويذكره كثيرا «1» . ويودّ أن ينزل فيه قران، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزل في سورة الأحزاب وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ «2» ، فقال بعضهم: أننهى أن نكلم بنات عمّنا إلّا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن عائشة! فنزل بعد الاية المتقدمة وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً «3» أما أزواجه عليه الصلاة والسلام من المؤمنات «4» ، فأمرن بغض الأبصار، وحفظ الفروج كما أمر بذلك الرجال، وأمرن ألايبدين زينتهن للأجانب إلّا ما ظهر منها كالخاتم في الإصبع، والخضاب في اليد، والكحل في العين أما ما خفي منها فلا يحل إبداؤه كالسوار للذراع، والدّملج للعضد، والخلخال للرجل، والقلادة للعنق، والإكليل للرأس، والوشاح للصدر، والقرط للأذن. والمراد بالزينة الظاهرة والخفية موضعها، وأمرن أيضا بأن يضربن بخمرهن على الجيوب كيلا تبقى صدورهنّ مكشوفة، فإن النساء إذ ذاك كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهنّ، ونهين عن أن يضربن بأرجلهنّ ليعلم أنهنّ ذوات خلخال. وإذا كان النهي عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ قال تعالى في سورة النور وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ

_ (1) قال عمر رضي الله عنه: قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل بعد اية الحجاب رواه البخاري. (2) اية 53. (3) اية 53 من سورة الأحزاب. (4) الحجاب عام بنساء المؤمنين بدليل قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فإن الله يأمر نساء النبي وبنات النبي لشرفهن أن يدنين عليهن من جلابيبهن ثم يعطف على ذلك بنساء المؤمنين. ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، والجلباب (هو الرداء فوق الخمار) قال ابن مسعود وجمع من الصحابة والتابعين هو بمنزلة الإزار اليوم قال الجوهري: الجلباب هو الملحفة. وعن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة، وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله عزّ وجلّ: يدنين عليهن من جلابيبهن فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. ولما نزلت هذه الاية: خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. راجع كتاب الحجاب لأبي الأعلى المودودي.

أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1» وكان النساء في أول الإسلام كما كن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فرق بين الحرّة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة «2» يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان «3» ، وربما تعرضوا للحرّة بعلّة الأمة يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ليغطي الوجه والأعطاف «4» ليحتشمن، ويهبن فلا يطمع فيهنّ طامع، قال تعالى في سورة الأحزاب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «5» . أما حجب المرأة عمّن يريد خطبتها فهو أمر لم يكن يفعل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا في عهد السلف الصالح، فإن الشارع الحكيم سنّ ذلك ليكون الرجل على علم مما يقدم عليه، حتى يتم الوفاق والوئام بين الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين. قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: «وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة، ولذلك استحبّ النظر، فقال: إذا أوقع الله في نفس أحدكم من امرأة، فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما «6» - أي يؤلف بينهما- من وقوع الأدمة على الأدمة والأدمة: هي الجلدة الباطنة، والبشرة: الجلدة الظاهرة، وإنما ذكر ذلك للمبالغة في الائتلاف، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن في أعين الأنصار شيئا فإذا أراد أحدكم أن يتزوج منهنّ فلينظر إليهنّ» «7» قيل: كان في أعينهن عمش وقيل: صغر. وكان بعض الصالحين لا ينكحون كرائمهم إلّا بعد

_ (1) اية 31. (2) الشاطر من أعيا أهله خبثا. (3) الغيظ دخول الشيء في الشيء. (4) عطفا (بالكسر) جانبا كل شيء وتنح عن عطف الطريق أي قارعته ويفتح. (5) اية 59. (6) رواه الترمذي وابن ماجه. (7) رواه مسلم والنسائي.

فرض الحج

النظر احترازا من الغرور، وقال الأعمش «1» : كل تزويج يقع على غير نظر فاخره همّ وغمّ، ولا يبعد أن يكون فساد الزمن والابتعاد عن التربية الدينية التي تسوق إلى مكارم الأخلاق قد حسّنا عند عامّة المسلمين في العصور الأولى حجب المرأة مطلقا حسما للمفاسد ودرا للفتنة. فرض الحج «2» وفي هذا العام على ما عليه الأكثرون «3» فرض الله على الأمة الإسلامية حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا، ليجتمع المسلمون من جميع الأقطار، فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ويعينهم على اتباع دينه القويم، وفي ذلك من تقوية الرابطة، واتّحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.

_ (1) هو سليمان بن مهران الكاهلي، كنيته الكوفي تابعي مشهور أحد الأعلام الحفاظ والقراء. (2) الحج: هو زيارة الأماكن المقدسة للنسك. ونزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله زمن الحديبية في قوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ولهذا ذهب إلى أن الحج فرض على التراخي لا على الفور لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يحج إلّا في سنة عشر، وخالفه الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور. (3) وقيل في السنة السادسة وإليه ذهب الشافعي.

السنة السادسة

السنة السادسة (سرية) «1» ولعشر خلون من محرّم السنة السادسة، أرسل عليه الصلاة والسلام محمّد بن مسلمة في ثلاثين راكبا لشن الغارة على بني بكر بن كلاب الذين كانوا نازلين بناحية ضربة «2» ، فسار إليهم يكمن في النهار، ويسير الليل حتى دهمهم، فقتل منهم عشرة، وهرب باقيهم، فاستاقت السرية النّعم والشياه، وعادوا راجعين إلى المدينة، وقد التقوا وهم عائدون بثمامة بن أثال الحنفي «3» من عظماء بني حنيفة فأسروه وهم لا يعرفونه، فلمّا أتوا به رسول الله عرفه وعامله بمنتهى مكارم الأخلاق، فإنه أطلق أساره بعد ثلاث أبى فيها الانقياد للإسلام بعد أن عرض عليه. ولما رأى ثمامة هذه المعاملة، وهذه المكارم، رأى من العبث أن يتبع هواه ويترك دينا عماده المحامد، فرجع إلى رسول الله وأسلم غير مكره، وخاطب الرسول بقوله: «يا محمّد والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح أحب البلاد إليّ» فسرّ عليه الصلاة والسلام كثيرا بإسلامه لأن من ورائه قوما يطيعونه. ولمّا رجع ثمامة إلى بلاده مرّ بمكّة معتمرا وأظهر فيها إسلامه، فأرادت قريش إيذاءه، فذكروا احتياجهم لحبوب اليمامة التي منها ثمامة فتركوه، ومع ذلك فقد حلف، هو الّا يرسل إليهم من اليمامة حبوبا

_ (1) سريه محمد بن مسلمة قبل نجد ويرى ابن كثير أن هذه السرية كانت بعد خيبر والبخاري يرى أنها سنة سبع بعد خيبر. (2) موضع على سبع ليال من المدينة في طريق البصرة. (المؤلف) . (3) أبو أمامة اليمامي فلما عصى بنو حنيفة رأيه وقد عزموا على اتّباع مسيلمة عزم على مفارقتهم، فخرج ممدا للعلاء بن الحضرمي ومعه أصحابه من المسلمين، فكان ذلك قد فت في أعضاء عدوهم، وحين بلغهم مدد بني حنيفة، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرات بن حيان إلى ثمامة في قتال مسيلمة وقتله.

غزوة بني لحيان

حتى يؤمنوا- فجاهدوا جدا ولم يروا بدّا من الاستغاثة برسول الله فعاملهم عليه الصلاة والسلام بما جبل عليه من الشفقة والمرحمة، وأرسل لثمامة أن يعيد عليهم ما كان يأتيهم من أقوات اليمامة ففعل. وقد كان لهذا الرجل الكريم الأصل، قدم راسخة في الإسلام عقب وفاة الرسول، حينما ارتدّ أكثر أهل بلاده، فكان ينهى قومه عن اتّباع مسيلمة، ويقول لهم: إيّاكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله على من اتّبعه، فثبت معه كثير من قومه رضي الله عنه. غزوة بني لحيان بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصم بن ثابت وإخوانه، ولم يزل رسول الله حزينا عليهم متشوقا للقصاص من عدوهم حتى ربيع الأول من هذه السنة، فأمر أصحابه بالتجهّز، ولم يظهر لهم مقصده كما هي عادته عليه الصلاة والسلام في غالب الغزوات، لتعمى الأخبار عن الأعداء، وولى على المدينة ابن أم مكتوم، وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرسا، ولم يزل سائرا حتى مقتل أصحاب الرجيع، فترحّم عليهم ودعا لهم، ولما سمع به بنو لحيان تفرّقوا في الجبال، فأقام عليه الصلاة والسلام بديارهم يومين يبعث السرايا، فلا يجدون أحدا، ثم أرسل بعضا من أصحابه ليأتوا عسفان «1» حتى يعلم بهم أهل مكّة فيداخلهم الرعب، فذهبوا إلى كراع الغميم «2» ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وهو يقول: «ايبون تائبون لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر وكابة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال» «3» . غزوة الغابة «4» كان للنبي عليه الصلاة والسلام عشرون لقحة ترعى بالغابة «5» فأغار عليها عيينة بن حصن في أربعين راكبا واستلبها من راعيها، فجاءت الأخبار رسول الله

_ (1) موضع قرب مكة. (المؤلف) ويسمى في زماننا مدرج عثمان وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل. (2) جبل جنوب عسفان بثمانية أميال. (المؤلف) . (3) رواه الشيخان والنسائي. (4) لها اسم اخر هو (غزوة ذي قرد) . (5) موضع على بريد من المدينة جهة غطفان. (المؤلف) . (واللقحة: الناقة اللبون) .

سرية

عليه الصلاة والسلام، والذي بلّغه هو سلمة بن الأكوع «1» أحد رماة الأنصار، وكان عدّاء فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون، فخرج يشتدّ في أثرهم حتى لحقهم، وجعل يرميهم بالنبل، فإذا وجهت الخيل نحوه رجع هاربا، فلا يلحق، فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبل، فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيرا مما بأيديهم من الرماح والأبراد «2» ليخففوا عن أنفسهم حتى لا يلحقهم الجيش «3» ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق به الجيش، فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه «4» وأول من انتهى إليه المقداد بن الأسود، فقال له: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك، وأعطاه اللواء فخرج، وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو، فحصلت بينهم مناوشات، قتل فيها مسلم ومشركان، واستنقذ المسلمون غالب اللّقاح، وهرب أوائل القوم بالبقية، وطلب سلمة بن الأكوع من رسول الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم ليأخذهم على غرة وهم نازلون على أحد مياههم فقال له عليه الصلاة والسلام: «ملكت فاسجح» «5» ثم رجع بعد خمس ليال. سرية «6» كان بنو أسد الذين مرّ ذكرهم كثيرا ما يؤذون من يمر بهم من المسلمين، فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام عكّاشة بن محصن في أربعين راكبا ليغير عليهم،

_ (1) المعروف بابن الأكوع، وأول مشاهده الحديبية، وكان من الشجعان ويسبق الفرس عدوا، وبايع النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الشجرة على الموت، ونزل المدينة ثم تحول إلى الربذة بعد قتل عثمان وتزوج بها وولد له حتى كان قبل أن يموت بليال نزل إلى المدينة فمات بها، وكان ذلك سنة 74 هـ. (2) الأبراد جمع برد وهو الثوب المخطط فإنه استلب واحده في ذلك اليوم من العدو وهو راجل قبل أن تلحق به الخيل ثلاثين برده وثلاثين درقة وقتل منهم بالنبل كثيرا، فكلما هربوا أدركهم، وكلما راموه أفلت منهم. (3) ورد في حديث رواه الشيخان «فحملت أرميهم بنبلي، وكنت راميا، وأقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع، وارتجز حتى استنفدت اللقاح منهم، واستلبت ثلاثين برده» واللقاح الإبل الحوامل ذات الألبان. وقد رواه الإمام أحمد مطولا وفيه: ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها» . (4) ثم استجاب له عباد بن بشر وسعد بن زيد وأسيد بن ظهير (يشك فيه) وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة وأبو قتادة الحارث بن ربعي وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت. (5) الأسجح: الحسن المعتدل وهو السهل وملكت فاسجح أي قدرت فسهل وأحسن العفو وهو مثل سائر. (6) هي سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر.

سرية

ولمّا قارب بلادهم علموا به فهربوا، وهنا وجدوا رجلا نائما فأمنوه ليدلهم على نعم القوم فدلهم عليها فاستاقوها، وكانت مائة بعير، ثم قدموا المدينة ولم يلقوا كيدا. سرية «1» وفي ربيع الأول بلغه عليه الصلاة والسلام أن من بذي القصة «2» يريدون الإغارة على نعم المسلمين التي ترعى بالهيفاء «3» فأرسل لهم محمّد بن مسلمة في عشرة من المسلمين، فبلغ ديارهم ليلا، وقد كمن المشركون حينما علموا بهم، فنام المسلمون ولم يشعروا إلّا والنبل قد خالطهم، فتواثبوا على أسلحتهم ولكن تغلّب عليهم الأعداء فقتلوهم غير محمّد بن مسلمة تركوه لظنّهم أنه قتل، فعاد إلى المدينة، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرسل أبا عبيدة عامر بن الجرّاح في ربيع الاخر ليقتص من الأعداء، فلمّا وصل ديارهم وجدهم تشتتوا هاربين فاستاق نعمهم ورجع. سرية «4» عاكس بنو سليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة في ربيع الاخر، ليغير عليهم في الجموم «5» فلمّا بغلوا ديارهم، وجدوهم تفرّقوا، ووجدوا هناك امرأة «6» من مزينة دلتهم على منازل بني سليم، أصابوا بها نعما وشاء، ووجدوا رجالا أسروهم، وفيهم زوج تلك المرأة فرجعوا بذلك إلى المدينة، فوهب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهذه المرأة نفسها وزوجها.

_ (1) هو سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة. (2) موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة في طريق الربذة (المؤلف) . (3) موضع قرب المدينة. (المؤلف) . (4) هي سرية زيد بن حارثة إلى الجموم. (5) ناحية من بطن نخل. (المؤلف) . (الأصل الحموم) . (6) يقال لها حليمة.

سرية

سرية «1» بلغ الرسول أن عيرا لقريش، أقبلت من الشام تريد مكّة، فأرسل لها زيد بن حارثة في مائة وسبعين راكبا ليعترضها، فأخذها وما فيها وأسر من معها من الرجال، وفيهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من رجال مكّة المعدودين تجارة ومالا وأمانة، فاستجار بزوجه زينب فأجارته، ونادت بذلك في مجمع قريش فقال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون يد واحدة يجير عليهم أدناهم وقد أجرنا من أجرت» وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين وردّ عليه الرسول ماله بأسره لا يفقد منه شيئا فذهب إلى مكّة، فأدى لكل ذي حقّ حقه، ورجع إلى المدينة مسلما فرد عليه رسول الله زوجه. سرية «2» وفي جمادى الاخرة أرسل عليه السلام زيد بن حارثة في خمسة عشر رجلا للإغارة على بني ثعلبه الذين قتلوا أصحاب محمّد بن مسلمة وهم مقيمون بالطرف «3» فتوجّهت السرية لذلك، ولمّا راهم الأعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهربوا وتركوا نعمهم وشاءهم، فاستاقها المسلمون، ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليال. سرية «4» وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ليغير على بني فزارة لأنهم تعرّضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام، فسلبوا ما معه، وكادوا يقتلونه، فلمّا جاء المدينة، وأخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم الخبر، أرسله مع رجاله للقصاص من فزارة المقيمين في وادي القرى «5» ، فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا بهم وقتلوا منهم جمعا كثيرا، وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة فاستوهبها عليه الصلاة والسلام ممن

_ (1) هي سرية زيد بن حارثة إلى العيص. (2) هي سرية زيد بن حارثة إلى الطرف. (3) ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة في طريق العراق. (المؤلف) . (4) هي سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى. (5) موضع شمالي المدينة. (المؤلف) .

سرية

أسرها وفدى بها أسيرا كان بمكّة. سرية «1» وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن بن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني كلب في دومة الجندل «2» وقد وصاهم عليه الصلاة والسلام قبل السفر بقوله: «اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا فهذا عهد الله وسيرة نبيّه فيكم» «3» ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حلوا بديار العدو، فدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم الأصبغ بن عمرو «4» النصراني، وأسلم معه جمع من قومه، وبقي اخرون راضين باعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمن بنت رئيسهم، كما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذه أقرب واسطة لتمكين صلات الود بين الأمراء، بحيث يهم كلا ما يهم الاخر فنعما هي سياسة السلم والمحبة. سرية «5» وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب في مائة لغزو بني سعد بن بكر بفدك «6» لأنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر يعطونه من تمر خيبر فسارت السرية، وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس العدو، وأرسلوه إلى خيبر، ليعقد المعاهدة مع يهودها، فطلبوا منه أن يدلهم على القوم وهو امن، فدلهم على موضعهم، فاستاق منه المسلمون نعم القوم، وهرب الرعاة، فحذورا قومهم، فداخلهم الرعب وتفرّقوا، فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة بعير وألفا شاة، وردّ الله كيد المشركين فلم

_ (1) هي سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل. (2) حصن وقرى بينها وبين دمشق خمس ليال وبين المدينة خمس عشرة ليلة (المؤلف) . (3) رواه الخمسة إلا البخاري. (4) ابن ثعلبة بن حصين (حصن) بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبي القضاعي وتزوج عبد الرحمن بن عوف بنته وهي تماضر التي ولدت له بعد ذلك أبا سلمة بن عبد الرحمن. (5) هي سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد (6) قرية بينها وبين المدينة ست ليال من جهة خيبر. (المؤلف) . الأصح بينها وبين المدينة يومان وبينها وبين خيبر دون مرحلة.

قتل أبي رافع

يمدّوا اليهود بشيء. قتل أبي رافع وكان المحرّك لأهل خيبر على حرب المسلمين وهو سيدهم أبو رافع سلّام ابن أبي الحقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز لما كان له من المهارة في التجارة، وكان ذا ثروة طائلة يقلّب بها قلوب اليهود كما يريد، فانتدب له عليه الصلاة والسلام من يقتله، فأجاب لذلك خمسة رجال «1» من الخزرج رئيسهم عبد الله بن عتيك ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعب بن الأشرف، فإن من نعم الله على رسوله أن كان الأوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله، فلا تعمل الأوس عملا إلّا اجتهد الخزرج في مثله، فأمرهم الرسول الله بذلك بعد أن وصاهم ألا يقتلوا وليدا ولا امرأة، فساروا حتى أتوا خيبر، فقال عبد الله لأصحابه: مكانكم. فإني منطلق للبواب ومتلطّف له لعلي أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنّع بثوب كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: ادخل يا عبد الله إن كنت تريد الدخول، فإنّي أريد أن أغلق الباب، فدخل وكمن حتى نام البوّاب، فأخذ المفاتيح، وفتح ليسهل له الهرب، ثم توجّه إلى بيت أبي رافع، وصار يفتح الأبواب التي توصل إليه، وكلّما فتح بابا أغلقه من داخل حتى انتهى إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، فلم يمكنه تمييزه، فنادى يا أبا رافع، قال: من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغن شيئا، وعند ذلك قالت امرأته: هذا صوت ابن أبي عتيك، فقال لها: ثكلتك أمك وأين ابن أبي عتيك الان؟ فعاد عبد الله للنداء مغيرا صوته قائلا: ما هذا الصوت الذي نسمعه يا أبا رافع؟ قال: لأمّك الويل أن رجلا في البيت ضربني بالسيف، فعمد إليه فضربه أخرى لم تغن شيئا، فتوارى ثم جاءه كالمغيث وغيّر صوته، فوجده مستلقيا على ظهره، فوضع السيف في بطنه، وتحامل عليه حتى سمع صوت العظم ثم خرج من البيت، وكان نظره ضعيفا فوقع من فوق السلم فكسرت رجله، فعصبها بعمامته ثم انطلق إلى أصحابه، وقال: النجاة قتل والله أبو رافع،

_ (1) وهم عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي ابن أسود حليف لهم من أسلم.

سرية

فانتهوا إلى الرسول، فحدّثوه ثم قال لعبد الله: أبسط رجلك فمسحها عليه الصلاة والسلام فكأنه لم يشتكها قط «1» ، وعادت أحسن ما كانت. فانظر رعاك الله إلى ما كان عليه المسلمون من استسهال المصاعب ما دامت في ارضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرضي الله عنهم وأرضاهم. سرية «2» ولمّا قتل كعب ولّى اليهود مكانه أسير بن رزام، فأرسل عليه الصلاة السلام من يستعلم له خبره، فجاءته الأخبار بأنه قال لقومه: سأصنع بمحمّد ما لم يصنعه أحد قبلي، أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه وسعى في ذلك. فأرسل عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة الخزرجي في ثلاثين من الأنصار لاستمالته فخرجوا حتى قدموا خيبر، وقالوا لأسير: نحن امنون حتى نعرض عليك ما جئنا له، قال: نعم ولي مثل ذلك، فأجابوه ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيوليه الرسول على خيبر، فيعيش أهلها بسلام، فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلاثين يهوديا كل يهودي رديف لمسلم، وبينما هم في الطريق ندم أسير على مجيئه، وأراد التخلص مما فعل بالغدر بمن أمنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة، فقال: أغدرا يا عدو الله! ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عامة فخذه، ولم يلبث أن هلك، فقام المسلمون على من معه من اليهود فقتلوهم عن اخرهم وهذا عاقبة الغدر. قصة عكل وعرينة قدم على رسول الله في شوّال جماعة من عكل وعرينة، فأظهروا الإسلام وبايعوا رسول الله وكانوا سقاما، مصفرة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فلم يوافقهم هواء المدينة، فأمر لهم عليه الصلاة والسلام بذود من الإبل معها راع، وأمرهم باللحوق بها في مرعاها ليشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، ولما تمّ شفاؤهم

_ (1) هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن اسحاق وأيضا الإمام البخاري عن البراء وقد تفرّد البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة، هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه مثل محمد بن اسحاق. (2) هي سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام.

سرية

جازوا الإحسان كفرا، فقتلوا الراعي ومثّلوا به، واستاقوا الإبل، فلمّا بلغ ذلك رسول الله أرسل وراءهم كرز بن جابر الفهري في عشرين فارسا فلحقوا بهم، وقبضوا على جميعهم، ولما جيء بهم إلى المدينة أمر عليه الصلاة والسلام أن يمثّل بهم كما مثلوا بالراعي، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم، وألقوا بالحرّة حتى ماتوا، فهكذا يكون جزاء الخائن الذي لا ينتظر منه صلاح، وعمل هؤلاء الشريرين مما يدل على فساد الأصل ولؤم العشيرة، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك عن المثلة «1» . سرية «2» جلس أبو سفيان بن حرب يوما في نادي قومه، فقال: ألا رجل يذهب لمحمّد فيقتله غدا فإنه يمشي بالأسواق لنستريح منه؟ فتقدم له رجل وتعهّد له بما أراد. فأعطاه راحلة ونفقة وجهّزه لذلك، فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة صبح سادسة من خروجه، فسأل عن رسول الله فدل عليه وهو بمسجد بني عبد الأشهل، فلما راه عليه الصلاة والسلام قال: إنّ هذا الرجل ليريد غدرا وإنّ الله مانعي منه فذهب لينحني على الرسول، فجذبه أسيد بن حضير من إزاره وهنالك سقط الخنجر، فندم الرجل على فعلته، ثم سأله عليه الصلاة والسلام عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثق من حفظ دمه فخلى عليه الصلاة والسلام سبيله، فقال الرجل: والله يا محمّد ما كنت أخاف الرجال فما هو إلّا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم إنك أطّلعت على ما هممت به مما لم يعلمه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان ثم أسلم. وعند ذلك أرسل عليه السلام عمرو بن أمية الضّمري «3» ، وكان رجلا جريئا فاتكا في الجاهلية وأصحبه برفيق، ليقتلا أبا سفيان غيلة جزاء اعتدائه، فلمّا قدما مكّة توجّها ليطوفا بالبيت قبل أن يؤديا ما أرسلا له، فعرف عمرا أحد رجال مكّة

_ (1) قال قتادة: فبلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة ونهى عن المثلة وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة ورواه جماعة عن أنس بن مالك. (2) هو سرية عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان بن حرب. (3) صحابي مشهور له أحاديث. وكان شجاعا وكان أول مشاهده بئر معونة، فأسره عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأطلقه، وبعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي في زواج أم حبيبة، وإلى مكة فحمل خبيبا من خشبته، وله ذكر في عدّة مواطن، وكان من رجال العرب جرأة، ونجدة، وعاش إلى خلافة معاوية فمات بالمدينة.

غزوة الحديبية

فقال: هذا عمرو بن أمية ما جاء إلّا بشر، فلمّا راهم علموا به لم يجد مناصا من الهرب، فاصطحب معه رفيقه، ورجعا إلى المدينة. وكأن الله سبحانه أراد أن يعيش أبو سفيان حتى يسلم بيده مفاتيح مكّة للمسلمين، ويعتنق الدّين الحنيفي القويم. غزوة الحديبية «1» رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام امنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذرا من أن تردّهم قريش عن عمرتهم ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألّا ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وتخلّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدتهم ألفا وخمسمائة «2» وولى على المدينة ابن أم مكتوم «3» ، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهدي ليعلم الناس أنه لم يأت محاربا، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلّا السيوف في القراب، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يرض أن يحملوا السيوف مجرّدة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عسفان «4» فجاءه عينه «5» يخبره أن قريشا أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكّة، وألايدخلوها عليهم عنوة أبدا، وتجهّزوا ليصدّوا المسلمين عن التقدّم، فقال عليه الصلاة والسلام: هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم؟ فقال رجل من أسلم «6» : أنا يا رسول الله. فسار بهم

_ (1) قال الخطابي أهل الحديث يقولون الحديبيّة بالتشديد وأهل اللغة بالتخفيف الحديبية: هي بئر في قرية سميت الغزوة باسمها، بينها وبين مكة مرحلة، وبينها وبين المدينة تسع مراحل. وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف. (2) روى البخاري عن البراء أنهم كانوا أربع عشرة مائة. وقاله الزهري وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن جابر أنهم كانوا خمس عشرة مائة وفي رواية للبخاري أنهم بضع عشرة مائة والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن اسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة. ويقول ابن القيم: القلب إلى هذا أميل. وفي الصحيحين: أيضا أنهم كانوا أربعمائة وألفا. (3) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي. (4) موضع على مرحلتين من مكة. (المؤلف) . (5) وهو بشر بن سفيان الكعبي. (6) قال السهيلي اسمه ذكوان فسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم ناجية حين نجا من كفار قريش، وعاش إلى زمن معاوية.

في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستو سهل يملك مكّة من أسفلها. فلمّا رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المرار «1» بركت ناقته. فزجرها فلم تقم، فقالوا: خلأت «2» القصواء، فقال عليه الصلاة والسلام: ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفس محمّد بيده لا تدعوني قريش إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلّا أجبتهم إليها «3» . مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم. ولكن كف الله أيدي المسلمين عن قريش. وكف أيدي قريش عن المسلمين كيلا تنتهك حرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرما امنا يوطّد المسلمون من جميع الأقطار دعائم أخواتهم فيه، ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية «4» وهناك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي رسولا من قريش يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلمّا رجع بديل إلى قريش وأخبرهم بذلك، لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله كما كانت كذلك لأجداده، وقالوا: أيريد محمّد أن يدخل علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبدا ومنّاعين تطرف «5» ! ثم أرسلوا حليس بن علقمة سيد الأحابيش- وهم حلفاء قريش، - فلمّا راه عليه الصلاة والسلام قال: هذا من قوم يعظمون الهدي ابعثوه في وجهه حتى يراه، ففعلوا واستقبله الناس يلبّون، فلمّا رأى ذلك حليس رجع وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا، أتحجّ لخم وجذام وحمير، ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكت قريش ورب البيت إن القوم أتوا معتمرين!! فلمّا سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي «6» سيد أهل الطائف فتوجّه إلى رسول

_ (1) مهبط الحديبية (المؤلف) (من أسفل مكة) وهو بين الجحفة ومكة. (2) خلأت: حرنت وبركت من غير علة. (3) رواه الإمام أحمد باختصار والبخاري وأبو داود. (4) بئر قرب مكة سميت الأرض باسمها. (المؤلف) . (5) ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما راه صلّى الله عليه وسلّم مقبلا قال: هذا رجل غادر، فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلمه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (6) وكان أحد الأكابر من قومه، وثبت ذكره في الحديث الصحيح في قصة الحديبية، وكانت له اليد

الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمّد قد جمعت أوباش الناس «1» ثم جئت إلى أصلك وعشيرتك لتفضّها بهم! إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألّا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك، فنال منه أبو بكر وقال: نحن ننكشف عنه؟ ويحك! وكان عروة يتكلّم وهو يمسّ لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان المغيرة بن شعبة «2» يقرع يده إذا أراد ذلك، ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، لا يتوضأ وضوا إلّا كادوا يقتتلون عليه يتمسّحون به، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه فقال: والله يا معشر قريش جئت كسرى في ملكه وقيصر في عظمته، فما رأيت ملكا في قومه مثل محمّد صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألّا تنصروا عليه «3» . فقالت قريش: لا نتكلم بهذا، ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل. ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اختار عثمان بن عفّان رسولا من عنده إلى قريش حتى يعلمهم مقصده، فتوجّه وتوجّه معه عشرة أستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في زيارة أقاربهم، وأمر عليه الصلاة والسلام عثمان أن يأتي المستضعفين من المؤمنين بمكّة، فيبشرهم بقرب الفتح وأنّ الله مظهر دينه، فدخل عثمان مكّة في جوار أبان بن سعيد الأموي «4» فبلّغ ما

_ البيضاء في تقرير الصلح، وفي رواية ابن اسحاق أنه أتبع أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أنصرف من الطائف فأسلم، وأستأذنه أن يرجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم فعصوه، ثم رماه رجل من ثقيف بسهم فقتله. (1) أوباش الناس: أي أخلاطهم. (2) أبو عيسى أو أبو محمد، أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان. قال ابن سعد: كان يقال له: مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق، وقال الشعبي: كان من دهاة العرب. قال البغوي: كان أول من وضع ديوان البصرة، وقال ابن حبان: كان أول من سلم عليه بالامرة ثم ولاه عمر الكوفة، وأقره عثمان ثم عزله، فلما قتل اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على أمرتها حتى مات. (3) قال ابن اسحق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له: الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكّة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني عثمان بن عفان. (4) كان أبوه من أكابر قريش، وله أولاد نجباء أسلم منهم قديما خالد وعمرو، ثم كان عمرو وخالد ممن

بيعة الرضوان

حمل، فقالوا: إن محمّدا لا يدخلها علينا عنوة أبدا. ثم طلبوا منه أن يطوف بالبيت، فقال: لا أطوف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممنوع، ثم إنهم حبسوه، فشاع عند المسلمين أنّ عثمان قتل، فقال عليه الصلاة والسلام حينما سمع ذلك: «لا نبرح حتى نناجزهم «1» الحرب» . بيعة الرضوان ودعا الناس للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك «2» - سمّيت بعد بشجرة الرضوان- على الموت، فشاع أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم، وكانوا قد أرسلوا خمسين رجلا مكرز بن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم غرّة، فأسرهم حارس الجيش محمّد بن مسلمة وهرب رئيسهم، ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجلا وقتل من المسلمين واحد. صلح الحديبية وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بن عمرو للمكالمة في الصلح، فلمّا جاء قال: يا محمّد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا من عندكم. وعندئذ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي: 1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات 2- من جاء المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده

_ هاجرا إلى الحبشة فأقاما بها، وشهد أبان بدرا مشركا فقتل بها أخواه العاص وعبيدة على الشرك ونجا هو فبقي بمكة حتى أجار عثمان زمن الحديبية، فبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم عمرو وخالد من الحبشة فراسلا أبانا فتبعهما حتى قدموا جميعا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم أبان أيام خيبر، وشهدها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسله في سرية، ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبان بن سعيد على البحرين، ثم قدم على أبي بكر وسار إلى الشام فقتل يوم اجنادين سنة 13 هـ. (1) نناجزهم: أي نقاتلهم. (2) أمر عمر بقطعها زمن خلافته لما رأى تبرك الناس بها فليتأمل. (المؤلف) . وأول من بايع بيعة الرضوان هو أبو سنان الأسدي وبايع سلمة بن الأكوع ثلاث مرات.

3- أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلّا السيف في القراب والقوس 4- من أراد أن يدخل في عهد محمّد من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط. أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم، وقالوا: سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلما، ولا يردون من جاءهم مرتدا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم، فسيجعل الله له فرجا ومخرجا. أما الأمر الثالث وهو صدّ المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشدّ تأثيرا في قلوبهم لأنّ الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت امنين وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي الله عنه: وهل ذكر أنّه في هذا العام «1» ؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب علي بن أبي طالب، فأملاه عليه الصلاة والسلام: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: اكتب باسمك اللهمّ «2» فأمره الرسول بذلك، ثم قال: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك اكتب محمّد بن عبد الله فأمر عليه الصلاة والسلام عليا بمحو ذلك وكتابة محمد بن عبد الله، فامتنع فمحاها النبي بيده، وكتبت نسختان نسخة لقريش، ونسخة للمسلمين. وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو جندل «3» بن سهيل يحجل في قيوده «4» ، وكاد من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه، فقال عليه الصلاة والسلام: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا،

_ (1) وفي غير رواية ابن اسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر: إني عبد الله ولست أعصيه، وهو ناصري، وأنه أتى أبا بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم فجاوبه أبو بكر مثل ما جاوبه به النبي صلّى الله عليه وسلّم حرفا بحرف، ثم قال له: يا عمر الزم غرزه (أي اتبع قوله وفعله ولا تخالفه) فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وما شككت منذ أسلمت إلا تلك الساعة. (2) كلمة كانت قريش تقولها وأول من قالها أمية بن أبي الصلت. (3) هو العاصي بن سهيل كان من السابقين إلى الإسلام، وممن عذب بسبب إسلامه، وذكره أهل المغازي فيمن شهد بدرا، وكان قبل مع المشركين فانحاز إلى المسلمين ثم أسر بعد ذلك، وعذب ليرجع عن دينه، ثم لما كان في فتح مكة كان هو الذي استأمن لأبيه، واستشهد باليمامة وهو ابن 38 سنة. (4) يرفع رجله ويتريث في مشيه عليها.

إنّا قد عقدنا بين القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا فلا نغدر بهم. هذا وقد دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله ودخل بنو بكر في عهد قريش. ولما انتهى الأمر أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا الهدي، ليتحللوا من عمرتهم، فاحتمل المسلمون من ذلك هما عظيما، حتى إنهم لم يبادروا بالامتثال، فدخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين أم سلمة، وقال لها: هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا، فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فقد حمّلت نفسك أمرا عظيما في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرج يا رسول، وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك، فتقدّم عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره ودعا بالحلاق فحلق رأسه «1» ، فلما راه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة، وقد أمن كل فريق الاخر. ولما قرّ قرارهم جاءتهم مهاجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط «2» أخت عثمان لأمه، فطلبها المشركون فقالت يا رسول الله: إني امرأة وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني فأنزل الله في سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «3» فكانت المرأة المهاجرة تستحلف أنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ولا من بغض زوج، ولا لالتماس دنيا ولا لرجل من المسلمين، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، ومتى حلفت لا ترد بل يعطى لزوجها المشرك ما أنفقه عليها، ويجوز للمسلم تزوجها. وفي الاية تحريم امساك الزوجة الكافرة بل ترد إلى أهليها بعد أن يعطوا ما أنفقوا عليها وقد تمكن أبو بصير عتبة بن أسيد الثقفي «4» رضي الله عنه من الفرار إلى رسول الله، فأرسلت

_ (1) كان الذي حلق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم خراش بن أمية. (2) كانت ممن أسلمت قديما وبايعت وهاجرت إلى المدينة، فتبعها أخوها عمارة والوليد ليرداها، فجاا يطلبانها فأبى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يردها إليهما، فتزوجت زيد بن حارثة، ثم تزوجها الزبير بن العوام بعد قتل زيد، فولدت له زينب، ثم فارقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف، فولدت له إبراهيم وحميدا، ثم مات عنها، فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرا وماتت. (3) اية 10 (4) مشهور بكنيته متفق على اسمه، ثبت ذكره في قصة الحديبية عند البخاري، ولما كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي

مكاتبة الملوك

قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره عليه الصلاة والسلام بالرجوع معهما، فقال يا رسول الله: أتردّني إلى الكفّار يفتنونني في ديني بعد أن خلصني الله منهم؟! فقال: إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجا، فلم يجد بدّا من اتّباعه، فرجع مع صاحبيه، ولمّا قارب ذا الحليفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب منه الاخر، فرجع إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفت ذمتك أما أنا فنجوت، فقال له: اذهب حيث شئت ولا تقم بالمدينة، فذهب إلى محل بطريق الشام «1» تمرّ به تجارة قريش، فأقام به، واجتمع معه جمع ممن كانوا مسلمين بمكّة ونجوا، وسار إليه أبو جندل بن سهيل، واجتمع إليه جمع من الأعراب، وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم الأمداد، فأرسل رجال قريش لرسول الله يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحقّ في امساك من جاءه مسلما، فقبل منهم ذلك، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي لم يتمكّنوا من تحمّلها في الحديبية حينما أمرهم عليه الصلاة والسلام بردّ أبي جندل، وعلموا أن رأي رسول الله أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه أمن، تسبب عنه اختلاط الكفّار بالمسلمين، فخالطت بشاشة الإسلام قلوبهم، حتى قال أبو بكر رضى الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية «2» . ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربّه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. وفي رجوعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح وقال سبحانه في أولها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وفي تسميه هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما قدّمنا لك عن الصديق. مكاتبة الملوك بعد رجوع المسلمين من الحديبية في أواخر سنة ست وأمن الطريق من قريش

_ جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، ورد الكتاب وأبو بصير يموت، فمات وكتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وصلّى عليه. (1) تدعى سيف البحر قفي رواية معمر عن الزهري، أنه كان يصلي بأصحابه هنالك، حتى لحق بها أبو جندل بن سهيل فقدموه، لأنه قرشي، فلم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاثمائة. (2) ذكر ابن كثير في سيرته أنه من قول الزهري لعله يكون في الحادثة قولان متشابهان لأبي بكر والزهري والله أعلم.

كتاب قيصر

كاتب عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام. واتّخذ إذ ذاك خاتما من فضة يختم به خطاباته وكان نقشه (محمّد رسول الله) فوجّه دحية الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليوصله إلى الملك. كتاب قيصر وكان في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك اثم الأريسيّين «1» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» . حديث أبي سفيان ولما وصل هذا الكتاب قيصر قال: انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه، وكان أبو سفيان بن حرب بالشام مع رجال من قريش في تجارة، فجاءت رسل قيصر لأبي سفيان ودعوه لمقابلة الملك فأجاب، ولما قدموا عليه في القدس قال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: أنا، لأنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره، فقال قيصر: أدن منّي، ثم أمر بأصحابه فجعلوا خلف ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه: إنما قدّمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وقد جعلتكم خلفه كيلا تخجلوا من ردّ كذبه عليه إذا كذب، ثم سأله كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: هل تكلّم بهذا القول أحد منكم قبله؟ قال: لا، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال لا، قال: فهل كان من ابائه من ملك؟ قال: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أم ينقصون، قال: بل يزيدون، قال: هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه قال: لا. قال: هل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، ونحن الان منه

_ (1) الفلاحين. (المؤلف) . (2) سورة ال عمران 64.

في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال مرة لنا ومرة علينا، قال: فبم يأمركم؟ قال: يقول اعبدوا الله واحده ولا تشركوا به شيئا، وينهى عما كان يعبد اباؤنا ويأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. فقال الملك: إني سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فزعمت أن لا، فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتمّ بقول قيل قبله، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقلت: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من ابائه من ملك؟ فقلت: لا، فلو كان من ابائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون، فقلت: بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه؟ فقلت: لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وإن الحرب بينكم وبينه سجال، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك بماذا يأمر؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن: لا، وكذلك الرسل لا تغدر، فعلمت أنّه نبيّ، وقد علمت أنه مبعوث، ولم أظن أنه فيكم، وإن كان ما كلمتني به حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه «1» لتكلفت ذلك، قال أبو سفيان: فعلت أصوات الذين عنده وكثر لغطهم فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا، فلمّا خرج أبو سفيان مع أصحابه قال: لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر «2» ! ولمّا سار قيصر إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له «3» ثم أمر بأبوابها فأغلقت ثم قال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا «4» حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها مغلقة،

_ (1) أي أصل إليه. (2) أي الروم. (3) القصر الذي حوله بيوت. (4) أي نفروا.

كتاب أمير بصرى

فلمّا رأى قيصر نفرتهم قال: ردّوهم عليّ، فقال لهم: إني قلت مقالتي اختبر بها شدّتكم على دينكم، فسكتوا له ورضوا عنه «1» ، فغلبه حبّ ملكه على الإسلام، فذهب بإثمه وإثم رعيته كما قال عليه الصلاة والسلام، ولكنه ردّ دحية ردّا جميلا. كتاب أمير بصرى وأرسل عليه الصلاة والسلام الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى فلمّا بلغ مؤتة- وهي قرية من عمل البلقاء بالشام- تعرّض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال له: أين تريد! قال: الشام، قال: لعلك من رسل محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، فأمر به فضربت عنقه، ولم يقتل لرسول الله عليه الصلاة والسلام رسول غيره وقد وجد «2» لذلك وجدا شديدا. كتاب الحارث بن أبي شمر ووجه عليه الصلاة والسلام شجاع بن وهب «3» إلى أمير دمشق من قبل هرقل الحارث بن أبي شمر، وكان يقيم بغوطتها وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر سلام على من اتّبع الهدى وامن بالله وصدق وإني أدعوك أن تؤمن بالله واحده لا شريك له يبق ملكك» فلمّا قرأ الكتاب رمى به، وقال من ينزع ملكي منّي، واستعدّ ليرسل جيشا لحرب المسلمين، وقال لشجاع: أخبر صاحبك بما ترى، ثم أرسل إلى قيصر يستأذنه في ذلك، وصادف أن كان عنده دحية، فكتب قيصر إليه يثنيه عن هذا العزم، ويأمره أن يهيئ بإيليا «4» ما يلزم لزيارته، فإنه بعد أن قهر الفرس نذر زيارتها، فلمّا رأى الحارث كتاب قيصر صرف شجاع بن وهب بالحسنى ووصله بنفقة وكسوة. كتاب المقوقس «5» ووجّه عليه الصلاة والسلام حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى المقوقس أمير

_ (1) رواه الشيخان. (2) حزن (3) أبو وهب وهو من السابقين الأولين وفيمن هاجر إلى الحبشة وفيمن شهد بدرا استشهد باليمامة. (4) بيت المقدس. (5) هو لقب واسمه جريج بن مينا بن قرقب ذكره ابن منده في الصحابة، أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسلم،

كتاب النجاشي

مصر من جهة قيصر وكان فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمّد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتّبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم القبط، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة الاية «1» فأوصله له حاطب بإسكندرية، فلمّا قرأه قال: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه ألّا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه؟: قال أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم «2» . ثم قال: إني قد نظرت في أمر هذا النبيّ فوجدت أنه لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضّال، ولا الكاهن الكذّاب، ووجدت معه الة النبوة «3» : اخراج الغائب المستور، والإخبار بالنجوى وسأنظر. ثم كتب ردّ الجواب يقول فيه: «بسم الله الرجيم الرحيم لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيّا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط وبثياب، وأهديت إليك بغلة تركبها والسلام» وإحدى الجاريتين مارية التي تسرّى بها عليه الصلاة والسلام، وجاء منها بولده إبراهيم والاخرى أعطاها لحسان بن ثابت «4» ولم يسلم المقوقس. كتاب النّجاشي ووجّه عليه الصلاة والسلام عمرو بن أمية الضّمري بكتاب إلى النجاشي «5»

_ وما زال نصرانيا، ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر. (1) سورة ال عمران اية 64. (2) البداية والنهاية ج 4 ص 273. (3) علامة النبوة. (4) مما أهدي غلام خصى اسمه «مابور» وحمار اسم عفيرا أو يعفور، وقد أسمى النبي البغلة دلدلا، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي عرفتها بلاد العرب. (5) أصحمة بن أبجر النجاشي اسمه بالعربية عطية والنجاشي لقب له، أسلم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يهاجر إليه، وكان رداء للمسلمين نافعا، وقصته مشهورة في المغازي في إحسانه للمسلمين الذين هاجروا إليه

كتاب كسرى

ملك الحبشة وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة سلام، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق ادم بيده، وإني أدعوك إلى الله واحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ، وقد بلّغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتّبع الهدى» ولما وصله الكتاب احترمه غاية الاحترام، وقال لعمرو: إني أعلم والله أن عيسى بشّر به، ولكن أعواني بالحبشة قليل فأنظرني حتى أكثّر الأعوان وأليّن القلوب. وقد عرض عمرو على من بقي من مهاجري الحبشة الرجوع إلى رسول الله بالمدينة، وكان من المهاجرين أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج عبيد الله بن جحش الذي كان أسلم وهاجر بها، ولكن قد غلبت عليه الشقاوة فتنصّر فتزوج عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وهي بالحبشة، والذي زوّجها له النجاشي بتوكيل منه عليه الصلاة والسلام. كتاب كسرى ووجّه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن حذافة السهمي «1» بكتاب إلى كسرى ملك الفرس وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى وامن بالله ورسوله وشهد ألااله إلّا الله واحده لا شريك له وأن محمّدا عبده ورسوله أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لا نذر من كان حيّا ويحقّ القول على الكافرين، أسلم تسلم فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس» فلمّا وصله الكتاب مزّقه استكبارا ولما بلغه عليه الصلاة والسلام ذلك قال «مزّق الله ملكه كل ممزّق» وقد فعل، فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطا وقد بدأ هذا الشقي بالعدوان، فأرسل لعامله باليمن أن يوجّه إلى الرسول من يأتي به إليه فعاجله الله بقيام ابنه شيرويه عليه وقتله ثم

_ في صدر الإسلام، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته صلّى الله عليه وسلّم عليه صلاة الغائب، وكان ذلك في رجب سنة تسع. (1) أبو حذافة من السابقين الأولين، يقال شهد بدرا وفتح مصر. مات في خلافة عثمان.

كتاب المنذر بن ساوى

أرسل لعامله في اليمن ينهاه عمّا أمره به أبوه. كتاب المنذر بن ساوى «1» ووجّه عليه الصلاة والسلام العلاء بن الحضرمي «2» بكتاب إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين يدعوه إلى الإسلام وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد: فإن من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة الرسول، من أحب ذلك من المجوس فإنه امن، ومن أبى فإن عليه الجزية» فأسلم وكتب في ردّ الجواب: «أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحبّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إليّ في ذلك أمرك فكتب إليه عليه الصلاة والسلام «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو وأشهد ألاإله إلّا الله وأن محمّدا عبده ورسوله، أمّا بعد فإني أذكرك الله عزّ وجلّ فإنه من ينصح ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتّبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني شفّعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نغيرك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية» . كتاب ملكي عمان ووجّه عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص بكتاب إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما، وإن أبيتما فإن

_ (1) التميمي الدارمي. وكان أيضا عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم على هجر، ومات بالقرب من وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) استعمله النبي على البحرين، وأقره أبو بكر، ثم مات سنة 14 هـ يقال إنه مجاب الدعوة، وخاض البحر بطاعات قالها، وذلك مشهور في كتب الفتوح.

كتاب هوذة بن علي

ملككما زائل، وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) . فلمّا دخل بناديهما عمرو سأله عبد بن الجلندي عمّا يأمر به الرسول وينهى عنه، فقال: يأمر بطاعة الله عزّ وجلّ، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان والزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب، فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمّد ونصدّق به، ولكن أخي أضن «1» بملكه من أن يدعه ويصير تابعا. قال عمرو: إن أسلم أخوك ملّكه رسول الله على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردّها على فقيرهم، فقال عبد: إن هذا لخلق حسن وما الصدقة؟ فأخبره بما فرض الله من الصدقات في الأموال. ولما ذكر المواشي قال: يا عمرو يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وتردّ المياه؟ قال نعم، فقال عبد: والله ما أرى قومي على بعد دارهم وكثرة عددهم يرضون بهذا. ثم إن عبدا أوصل عمرا لأخيه جيفر فتكلّم معه عمرو بما ألان قلبه حتى أسلم هو وأخوه ومكّناه من الصدقات. كتاب هوذة بن علي ووجّه عليه: الصلاة والسلام سليط بن عمرو العامري «2» بكتاب إلى هوذة بن علي ملك اليمامة وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى هوذة ابن علي. سلام على من اتّبع الهدى وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر «3» ، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» فلمّا جاء الكتاب كتب في رده: «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر اتبعك» ولما بلغ ذلك رسول الله قال لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه «4» ، فلم يلبث أن مات منصرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فتح مكّة، وكان عليه الصلاة والسلام يولي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم.

_ (1) أبخل. (2) ذكره الواقدي وأبو معشر في البدريين وشهد اليمامة فاستشهد فيها. (3) الخف: الإبل، والحافر: الخيل والبغال والمراد يصل إلى أقصى ما يصلان إليه، فيؤمنون به. (4) أي هلك، وذهب عنه وتفرق ما في يديه.

السنة السابعة

السنة السابعة غزوة خيبر «1» وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهز لغزو يهود خيبر، الذين كانوا أعظم مهيّج للأحزاب ضدّ رسول الله في غزوة الخندق، والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضدّ رسول الله كما قدّمنا ذلك في قصة كعب بن الأشرف، وقد استنفر رسول الله لذلك من حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية. وجاء المخلّفون عنها ليؤذن لهم فقال عليه الصلاة والسلام: لا تخرجوا معي إلّا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئا، وأمر مناديا ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولّى على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري «2» . وكان معه من أزواجه أم سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء. فقال: عليه الصلاة والسلام «ارفقوا بأنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» «3» وكانت حصون خيبر ثلاثة منفصلا بعضها عن بعض وهي: حصون النطاة وحصون الكتيبة وحصون الشق والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلّة، والثانية حصنان: حصن أبي، وحصن البريء. والثالثة ثلاثة حصون: حصن القموص، وحصن الوطيح، وحصن السّلالم، فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النطاة، وعسكر المسلمون شرقيها بعيدا عن مدى النبل، وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم، حتى يسلموا، فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة. ولمّا رأى عليه الصلاة والسلام

_ (1) مدينة عظيمة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام (والبرد اثنا عشر ميلا عربيا فتكون المسافة كلها 96 ميلا عربيا) . (2) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي. (3) رواه البخاري.

تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع، ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة، وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئا، وفيه مات محمود بن مسلمة «1» أخو محمّد بن مسلمة، وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين حتى إذا كانوا في الليلة السابعة، ظفر حارس الجيش وهو عمر بن الخطاب بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمّنّتموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم. فقالوا دلنا فقد أمّنّاك، فقال إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب، وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشقّ، وسيخرجون لقتالكم غدا، فإذا فتح عليكم هذا الحصن غدا فإني أدّلكم على بيت فيه منجنيق ودبابات «2» ودروع وسيوف، يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصون فتفتحه من يومك، فقال عليه الصلاة والسلام لمحمّد بن مسلمة: سأعطي الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبّانه، فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمر بن الخطاب: ما تمنيت الإمارة إلّا ليلتئذ، فلمّا كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام عن علي بن أبي طالب فقيل له إنه أرمد، فأرسل من يأتيه به، ولما جاء تفل في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء «3» ثم أعطاه الراية، فتوجّه مع المسلمين للقتال، وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البراز فقتله علي، ثم خرج مرحب وهو أشجع القوم فألحقه برفيقه، فخرج أخوه ياسر فقتله الزبير بن العوّام، ثم حمل المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم، وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة، وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه وهو حصن الصعب وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيرا من الخبز والتمر، ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصعب، فقاتل عنه اليهود قتالا شديدا حتى ردّ عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباب بن المنذر ومن معه، وقاتلوا قتالا

_ (1) تقدم نسبه مع أخيه انفا، ذكروه في الصحابة، شهد أحدا والخندق والحديبية وخيبر وقتل يومئذ شهيدا برحى ألقيت عليه من حصن ناعم، ألقاها عليه مرحب اليهودي. (2) الدبابة الة تتخذ للحروب فتدفع في أصل الحصن فينقبونها وهم في جوفها. (المؤلف) وكان أهل خيبر 000، 10 مقاتل. (3) رواه الشيخان مختصرا.

شديدا حتى هزموا اليهود فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن، فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام، فأمر عليه الصلاة والسلام مناديا يقول: «كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئا» . ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حصن قلة فتبعهم المسلمون، وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه، وفي اليوم الرابع دلّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود، فمنعوها عنهم، فخرجوا، وقاتلوا قتالا شديدا انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشقّ، فتبعهم المسلمون وبدؤوا بحصن أبيّ فخرج أهله، وقاتلوا قتالا شديدا أبلى فيه أبو دجانة بلاء حسنا حتى تمكّن من دخول الحصن عنوة، ووجد المسلمون فيه أثاثا كثيرا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب المنهزمون منه إلى حصن البريء فتمنعوا به أشدّ التمنّع، وكان أهله أشدّ اليهود رميا بالنبل والحجارة حتى أصاب رسول الله بعض منه، فنصب المسلمون عليه المنجنيق، فوقع في قلب أهله الرعب، وهربوا منه من غير عناء شديد. فوجد فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار، فقال عليه الصلاة والسلام: اغسلوها واطبخوا فيها، ثم تتبّع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكثيبة، وبدؤوا بحصون القموص، فحاصروه عشرين ليلة، ثم فتحه الله على يد علي بن أبي طالب، ومنه سبيت صفية بنت حيي بن أخطب، ثم سار المسلمون لحصار حصني الوطيح والسلالم، فلم يقاوم أهلهما بل سلّموا طالبين حقن دمائهم، وأن يخرجوا من أرض خيبر بذراريهم، لا يصطحب الواحد منهم إلّا ثوبا واحدا على ظهره، فأجابهم رسول الله إلى ذلك، وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية، ووجدوا صحفا من التوراة فسلّموها لطالبيها. وقد أمر عليه الصلاة والسلام بقتل كنانة بن أبي الحقيق لأنه أنكر حلي حيي بن أخطب وقد عثر عليها المسلمون، فوجدوا فيها أساور ودمالج وخلاخيل وقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزمرد وغير ذلك. هذا والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رجلا «1» ، وقتل من

_ (1) ربيعة بن أكثم وعبد الله بن الهبيب وبشر بن البراء ومسعود بن سعد ومحمود بن مسلمة وأبو ضياح بن ثابت والحارث بن حطب وعروة بن مرة وأوس بن القائد وأنيف بن حبيب وثابت بن أثلة وطلحة بن يحيى وعمارة بن عقبة وعامر بن الأكوع ومسعود بن ربيعة.

زواج صفية

اليهود ثلاثة وتسعون رجلا، وفي هذه الغزوة أهدت احدى نساء اليهود «1» كراع شاة مسمومة لرسول الله فأخذ منها مضغة ثم لفظها حيث أعلم أنها مسمومة، وأكل منها بشر بن البراء «2» فمات لوقته، واحتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجيء له بالمرأة التي فعلت هذه الفعلة فسألها عن سبب ذلك فأجابت: قلت إن كان نبيّا لن يضرّه، وإن كان كاذبا أراحنا الله منه، فعفا عنها عليه الصلاة والسلام «3» . زواج صفية «3» وبعد تمام الظفر والنصر تزوّج عليه السلام صفية بنت حيي سيد بني النضير وأصدقها عتقها، وقد أسلمت رضي الله عنها، فشرّفت بأمومة المؤمنين. النهي عن نكاح المتعة «4» ونهى عليه الصلاة والسلام وهو بخيبر عن نكاح المتعة، (وهي النكاح لاجل) وقد كان حلالا في الجاهلية، واستعمل في بدء الإسلام حتى حرمه الشرع في هذه السنة ونهى كذلك عن أكل لحوم الحمر الاهلية فأكفأ المسلمون قدرها بعد أن نضجت ولم يطعموها.

_ (1) هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم وأخت مرحب انتقاما لقتل أبيها وزوجها وأخيها أخرجه البخاري. اختلف العلماء هل قتلها النبي صلّى الله عليه وسلّم أو لا، قال القاضي عياض: إنه لم يقتلها أولا حين أطلع على فعلها، فلما مات بشر بن البراء من ذلك فسلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا. (2) ابن معرور الأنصاري الخزرجي من بني سلمة- قد تقدم نسب أبيه شهد بشر العقبة وبدرا وأحدا والخندق، وكان من الرماة المذكورين من الصحابة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اخى بينه وبين واقد بن عبد الله التميمي حليف بني عدي. (3) كانت تحت سلام بن مشكم ثم خلف عليه كنانة بن أبي الحقيق فقتل كنانة يوم خيبر فصارت مع السبي، فأخذها دحية، ثم استعادها النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعتقها وتزوجها، وكانت صفية عاقلة وحليمة وفاضلة، وتوفيت سنة 52 هـ في خلافة معاوية. (4) تحريم نكاح المتعة قد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن لهم في المتعة زمن الفتح ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها، وقال: إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة. راجع كتاب المتعة حرام للشيخ محمد الحامد. فقد نص الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم غير نكاح المتعة. وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم أنه أدعى أنها أبيحت ثلاث مرات وحرمت ثلاث مرات. وقال اخرون أربع مرات، وهذا بعيد جدا والله أعلم.

رجوع مهاجري الحبشة

رجوع مهاجري الحبشة وحين رجوع المسلمين من خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه الاشعريون أبو موسى وقومه بعد أن أقاموا فيها نحوا من عشر سنين امنين مطمئنين، وفرح عليه الصلاة والسلام بمقدمهم فرحا عظيما، وأعطى للاشعريين من مغانم الحصون المفتوحة صلحا، وكان مع جعفر أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، وقدم في هذا الوقت على النبي عليه الصلاة والسلام الدوسيون إخوان أبي هريرة رضي الله عنه وهو معهم، فأعطاهم أيضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فتح فدك وبعد تمام الفتح أرسل عليه الصلاة والسلام من يطلب من يهود فدك «1» الانقياد والطاعة، فصالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم، ويتركوا الأموال، وكانت أرض فدك هذه لرسول الله خاصّة ينفق منها على نفسه، ويعول منها صغير بني هاشم ويزوج منها أيّمهم. صلح تيماء ولمّا بلغ يهود تيماء «2» ما فعله المسلمون بيهود خيبر، صالحوا على دفع الجزية ومكثوا في بلادهم امنين مطمئنين. فتح وادي القرى «3» ثم دعا عليه الصلاة والسلام يهود وادي القرى إلى الاستسلام فأبوا وقاتلوا، فقاتلهم المسلمون، وأصابوا منهم أحد عشر رجلا، وغنموا منهم مغانم كثيرة، خمّسها عليه الصلاة والسلام، وترك الأرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر ما يخرجون منها، وكذلك صنع بأرض خيبر، وكان يرسل إليهم عبد الله بن رواحة

_ (1) حصن قريب من خيبر على ست ليال من المدينة. (المؤلف) . (2) قرية على ثمان مراحل من المدينة (وهي حصن بين المدينة والشام) وفتحها، وولى عليها يزيد بن أبي سفيان. (3) هو واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر. فيه قرى كثيرة وبها سمي وادي القرى. ويجعل بعضهم غزوة خيبر وغزوة وادي القرى غزوة واحدة لأنه لم يرجع من خيبر.

إسلام خالد ورفيقيه

لتقدير الثمر، وكان تقديره شديدا عليهم، فأرادوا أن يرشوه، فقال لهم: يا أعداء الله تعطوني السحت «1» ! والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن ألّا أعدل. هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شرّ عدو، كان يتربص بهم الدوائر مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق. ورجع المسلمون مؤيدين ظافرين. إسلام خالد ورفيقيه وأعقب هذه الغزوة وهذا الفتح المبين إسلام ثلاثة طالما كانت لهم اليد الطولى في قيادة الجيوش لحرب المسلمين وهم خالد بن الوليد المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن «2» طلحة العبدري فسرّ بهم عليه الصلاة والسلام سرورا عظيما، وقال لخالد: «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألايسلمك إلّا إلى خير» : فقال يا رسول الله ادع الله أن يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يقطع ما قبله» «3» . سرية «4» وفي شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعا من هوزان بتربة «5» يظهرون العداوة للمسلمين فأرسل لهم عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلا. فسار إليهم. ولمّا بلغهم الخبر تفرّقوا فلم يجد بها عمر أحدا فرجع.

_ (1) الحرام. (2) في الأصل عثمان بن أبي طلحة وهو خطأ، لأن عثمان بن أبي طلحة قتل في غزوة أحد كافرا. (3) رواه الإمام أحمد بلفظ: فإن الإسلام يجب ما كان قبله. (4) هي سرية عمر بن الخطاب إلى تربة. (5) واد بالقرب من مكة على مسافة يومين منها. (المؤلف) .

سرية

سرية «1» ثم أرسل بشير بن سعد الأنصاري «2» لقتال بني مرّة بناحية فدك فلمّا ورد بلادهم لم ير منهم أحدا فأخذ نعمهم وانحدر إلى المدينة، أما القوم فكانوا في الوادي فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيرا ليلا وهو راجع فتراموا بالنبل، ولما أصبح الصبح اقتتل الفريقان قتالا شديدا حتى قتل غالب المسلمين، وجرح بشير جرحا شديدا حتى ظنّ أنه مات، ولمّا انصرف عنه العدو تحامل حتى جاء إلى رسول الله وأخبره الخبر. سرية «3» وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي «4» إلى أهل الميفعة «5» في مائة وثلاثين رجلا فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضا وأسروا اخرين، وفي أثناء الحرب طارد أسامة بن زيد رجلا من المشركين. ولمّا رأى المشرك الموت في يد أسامة تشهّد فظن أسامة أنّ عدوه إنما قال ذلك تخلصا فقتله، ولما رجع المسلمون إلى المدينة، وأخبر عليه السلام بفعلة أسامة قال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلّا الله فكيف تصنع بلا إله إلّا الله؟! قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا من القتل، قال عليه الصلاة والسلام: فهلا شققت عن قلبه، فتعلم أصادق أم كاذب؟! فقال يا رسول الله: استغفر لي. قال عليه الصلاة والسلام: فكيف بلا إله إلّا الله!! فما زال يكرّرها حتى تمنّى أسامة أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم «6» ، وأنزل الله في ذلك سورة النساء وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ «7»

_ (1) سرية بشير بن سعد لقتال بني مرة (2) البدري والد النعمان استشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة 12 هـ. (3) هي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة. (4) ذكر هشام بن الكلبي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى فدك فاستشهد دون فدك. (5) على ثمانية برد من المدينة بناحية نجد (المؤلف) . (6) نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنما قالها متعوذا فقال له: هل شققت عن قلبه؟ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء. (7) اية 94.

سرية

ثم أمر عليه الصلاة والسلام أسامة أن يعتق رقبة كفارة لأنه قتل خطأ. سرية «1» وفي شوال بلغه عليه الصلاة والسلام أن عيينة بن حصن واعد جماعة من غطفان كانوا مقيمين قريبا من خيبر بأرض اسمها يمن وجبار على المدينة، فأرسل لهم بشير بن سعد في ثلاثمائة رجل، فساروا إليهم يكمنون النهار، ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم، فأصابوا نعما كثيرة، وتفرّق الرّعاء، فأخبروا قومهم، ففزعوا، ولحقوا بعليا بلادهم ولم يظفر المسلمون إلّا برجلين أسلما، ثم رجعوا إلى المدينة. (عمرة القضاء) «2» لما حال الحول على عمرة الحديبية، خرج عليه الصلاة والسلام بمن صدّ معه فيها، ليقضي عمرته، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري، وساق معه الهدي ستين بدنة، وأخرج معه السلاح حذرا من غدر قريش، وكان معه مائة فرس عليها بشير بن سعد، وأحرم عليه الصلاة والسلام من باب المسجد المدني، ولما انتهى إلى ذي الحليفة «3» قدّم الخيل أمامه، فقيل: يا رسول الله، حملت السلاح، وقد شرطوا ألا تحمله؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا: ندخل الحرم به ولكن يكون قريبا منا، فإن هاجنا هائج فزعنا له. فلمّا كان بمرّ الظّهران «4» قابله نفر من قريش، ففزعوا من هذه العدّة، وأسرعوا إلى قومهم فأخبروهم، فجاءه فتيان منهم، وقالوا: والله يا محمّد ما عرفت بالغدر صغيرا ولا كبيرا، وأنا لم نحدث حدثا!! فقال: إنا لا ندخل الحرم بالسلاح. ولمّا حان وقت دخوله مكّة، خرج أهلوها كارهين رؤية المسلمين يطوفون بالبيت، فدخل عليه الصلاة والسلام وأصحابه متوشحين سيوفهم من ثنيّة كداء «5» وأمامه عبد الله بن رواحة يقول: «لا

_ (1) سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار (يمن) حصن و (جبار) ماء لبني خميس. (2) قد اختلف العلماء في تسمية هذه العمرة. فقال مالك والشافعي والجمهور لأنه قاضى قريشا سنة الحديبية فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الحكم لا لأنها قضاء عن العمرة التي صدّ عنها لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة وقال أبو حنيفة وأحمد أن من صدّ عن البيت فعليه القضاء فتسميتها قضاء على هذا ظاهر. (3) ميقات من توجه من المدينة وهو على نحو ستة أميال وهو ما يعادل ثلاث ساعات سيرا. (4) وادي قرب مكة (5) هو المكان المعروف من طريق جده.

زواج ميمونة

إله إلّا الله واحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب واحده» وطاف عليه الصلاة والسلام بالبيت وهو على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه «1» وأمر أصحابه أن يسرعوا ثلاثة أشواط اظهارا للقوة لأن المشركين قالوا: سيطوف اليوم بالكعبة قوم نهكتهم حمّى يثرب، فقال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة» ، واضطبع «2» عليه الصلاة والسلام بردائه، وكشف عضده اليمنى شأن الفتوة وفعل مثله المسلمون، وقد أتمّ المسلمون طوافهم بالبيت امنين محلقين رؤوسهم ومقصرين كما رأى عليه الصلاة والسلام في منامه. زواج ميمونة «3» وتزوج صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكّة ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج عمه حمزة بن عبد المطلب شهيد أحد، وخالة عبد الله بن العباس وهي اخر نسائه زواجا ولم يدخل بها إلّا بعد الخروج من مكّة حيث كان بسرف «4» ، ولمّا خرج عليه الصلاة والسلام أمر الذين كان تركهم لحراسة الخيل بالذهاب ليطوفوا ففعلوا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فرحا مسرورا بما حباه الله من تصديق رؤياه.

_ (1) عصا معطوفة الرأس معوجة. (2) أن يجعل الرجل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن عند إبطه ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا. (3) (أخت أم الفضل لبابة) كان اسمها برة، فسماها النبي صلّى الله عليه وسلّم ميمونة، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة سنة سبع لما اعتمر عمرة القضية، ماتت بسرف سنة 51 هـ. (4) موضع قرب التنعيم. وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وأصدقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع مائة درهم، واختلف الناس في تزويجه إياها أكان محرما أم حلالا والصحيح وهو حلال، وروى ذلك مسلم والدار قظي والترمذي، وتأول قول ابن عباس فتزوجها محرما أي في الشهر الحرام.

السنة الثامنة

السنة الثامنة سرية «1» وفي صفر أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوّح وهم قوم من العرب يسكنون بالكديد «2» فسار القوم حتى إذا كانوا بقديد «3» التقوا بالحارث بن مالك الليثي «4» المعروف بابن البرصاء، وكان خصما لدودا فأسروه، فقال لهم: ما جئت إلّا للإسلام، فقالوا له إن تكن مسلما لن يضرك رباط ليلة وإلّا استوثقنا منك، ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني الملوّح فاستاقوا النعم والشاء، وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما لا قبل لهم به ولكن منّ الله على المسلمين، فأرسل سيلا شديدا حال بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون نعمهم تساق وهم لا يقدرون على ردّها. سرية «5» ولمّا رجع غالب إلى المدينة ظافرا أرسله عليه الصلاة والسلام في مائتي رجل ليقتصّ من بني مرّة بفدك وهم الذين أصابوا سرية بشير بن سعد، فساروا حتى إذا كانوا قريبا من القوم خطب غالب فيمن معه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله واحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمرا فإنه لا رأي لمن لا يطاع» ثم اخى بين الجند فقال: يا فلان أنت

_ (1) هي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح. (2) ماء بين الحرمين شرفهما الله تعالى. (3) قديد: قرب التنعيم. (4) سكن مكة ثم المدينة وقد بقي إلى خلافة معاوية. وله حديث واحد وهو قوله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول يوم الفتح «لا تغزى مكة بعد اليوم إلى يوم القيامة» . (5) هي سرية غالب إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك.

سرية

وفلان، ويا فلان أنت وفلان لا يفارق أحد منكم زميله، وإياكم أن يرجع الرجل منكم فأقول له: أين صاحبك؟ فيقول لا أدري، فإذا كبّرت فكبّروا، فلمّا أحاطوا بالعدو، وكبّر كبّروا، وجرّدوا السيوف، فلم يفلت من عدوهم أحد واستاقوا نعمهم، فكان لكل واحد من الغزاة عشرة أبعرة. سرية «1» وفي ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام كعب بن عمير الغفاري «2» إلى ذات أطلاح «3» من أرض الشام في خمسة عشر رجلا، فوجدوا جمعا كثيرا فدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا وقاتلوا، وكانوا أكثر عددا، فاستشهد المسلمون عن اخرهم إلّا رئيسهم كعب بن عمير فإنه نجا، وأتى بالخبر إلى رسول الله فشقّ عليه، وأراد أن يبعث إليهم من يقتصّ منهم، فبلغه أنهم تحولوا من منزلهم فعدل عن ذلك. غزوة مؤتة جهّز عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى جيشا للقصاص ممّن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسوله إلى أمير بصرى، وأمّر عليهم زيد بن حارثة، وقال لهم: إن أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وكان عدة الجيش ثلاثة الاف، فساروا وشيعهم «4» عليه الصلاة والسلام، وكان فيما وصاهم به: «اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا، ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء» ولم يزالوا سائرين حتى

_ (1) سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات اطلاح. (2) كان من كبار الصحابة أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم على سرية فقتل. ذكره موسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة قالا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عمير الغفاري نحو ذات اطلاع من البلقاء، فأصيب كعب ومن معه. كذا قال وقد ساق شيخه الواقدي القصة ولكن فيها: فتحامله رجل جريح في القتل لما برد الليل فنجا ذكره ابن اسحاق وأن كعب بن عمير قتل يومئذ. (3) موضع قرب وادي القرى. (4) ودعهم.

وصلوا مؤتة «1» مقتل الحارث بن عمير، وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعا عظيما «2» منهم ومن العرب المتنصرة. فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه: أيرسلون لرسول الله يطلبون منه مددا أم يقدمون على الحرب؟؟ فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة، ونحن ما نقاتل بعدد ولا بقوة ولا بكثرة ما نقاتل إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإنما هي إحدى الحسنيين إما الظهور وإما الشهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. ومضوا للقتال، فلقوا هذه الجموع المتكاثرة، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله عنه حتى استشهد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب وهو يقول: يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبة وباردا شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليّ إذ لاقيتها ضرابها ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه «3» ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فتقدم ثم تردد بعض التردّد، فقال يخاطب نفسه: أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... طائعة أو لتكرهنّه إن أجلب الناس وشدّوا الرّنّة ... مالي أراك تكرهين الجنّة قد طالما قد كنت مطمئنّة ... هل أنت إلّا نطفة في شنّه؟ «4» ثم اقتحم بفرسه المعمعة، ولم يزل يقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، فهم بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء، فقال لهم عقبة بن عامر «5» : يا قوم يقتل

_ (1) قرية قريبة من الكرك وهي مشارف الشام. (المؤلف) . وهي على مرحلتين من بيت المقدس جنوب شرقي البحر الميت وتسمى أيضا غزوة جيش الأمراء وقد سمى البخاري هذه السرية غزوة إن لم يخرج فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم لكثرة جيش المسلمين فيها. (2) مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبليّ مائة ألف منهم وعليهم رجل من بليّ يقال له مالك بن زافلة. (3) الأصح أن جعفر مات وقد استوفى أربعين سنة وزاد عليها، وجزم ابن عبد البر أن سنه كان إحدى وأربعين سنة. وفي رواية للبخاري أنهم وجدوا بجسمه بضعا وتسعين من طعنة برمح ورمية بسهم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما: إذا سلم على ابن جعفر يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، رواه البخاري لأنه أخذ بيده راية الإسلام فقطعت يداه فعوضه الله منهما جناحان يطير بهما في الجنة. (4) إن أجلب الناس: صاموا واجتمعوا والرنة صوت ترجيع شبه البكاء. النطفة: الماء القليل الصافي. الشنه: السقاء البالي. (5) شهد بدرا بعد شهود العقبة الأولى، ثم شهد أحدا، وشهد الخندق، وسائر المشاهد، وقتل يوم اليمامة شهيدا.

سرية

الإنسان مقبلا خير من أن يقتل مدبرا، فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالد بن الوليد، وبهمّته ومهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع إذ ما تفعل ثلاثة الاف بمائة وخمسين ألفا، فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتالا شديدا. وفي غده خالف ترتيب العسكر. فجعل الساقة مقدمة، والمقدمة ساقة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، فظن الروم أن المدد جاء للمسلمين فرعبوا. ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى مؤتة، ثم مكث يناوش الأعداء سبعة أيام، ثم تحاجز الفريقان لأن الكفّار ظنوا أن الأمداد تتوالى للمسلمين، وخافوا أن يجروهم إلى وسط الصحارى حيث لا يمكنهم التخلّص، وبذلك انقطع القتال. «وقد نعى النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وكانت عينا رسول الله تذرفان «1» ، ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» ، وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين، فأمره أن ينهاهنّ، فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن فلم يطعن! فأمره فذهب ثانيا ثم جاء فقال: والله لقد غلبننا، فقال له عليه الصلاة والسلام: «أحث في أفواههنّ التراب» ، ولما أقبل الجيش إلى المدينة، قابلهم المسلمون يقولون لهم: يا فرّار «2» ، فقال عليه الصلاة والسلام بل هم الكرّار! ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراهم أن ذلك من مكايد الحرب وأثنى على خالد مهارته. سرية «3» وفي جمادى الاخرة بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعا من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القرى ليغيروا على المدينة، فأرسل لهم عمرو بن العاص

_ (1) رواه البخاري تذرفان: تبكيان. (2) عند الحاكم أن خالد قاتلهم. فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصاب غنيمة، وفي صحيح البخاري عن خالد لقد انقطعت في يدي يوم مؤته تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلّا صفيحة يمانية. كل هذا يدل على أن خالدا قاتل بالمسلمين الروم قتالا شديدا. ورواية الصحيح: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم، وهذا يؤكّد النصر؛ هذا الحديث والذي قبله أخرجهما البخاري. (3) هي سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل.

سرية

في ثلاثمائة رجل من سراة «1» المهاجرين، ثم أمده بأبي عبيدة بن الجراح في مائتي من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر، فلحقوا عمرا قبل أن يصل إلى القوم، وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو، فأنكر عليه عمر بن الخطاب، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله علينا رئيسا لمعرفته بالحرب أكثر منا فلا تعصه، فامتثل، ولما حلوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرّق الأعداء منهزمين، فجمعوا غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم، ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين، وبينما هم في الطريق أدركت عمرو بن العاص جنابة في ليلة باردة فلمّا أصبح قال: إن أنا اغتسلت هلكت والله يقول وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «2» ثم تيمم وصلّى، ثم أمر بالسير حتى إذا وصلوا إلى المدينة قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يسأل عن أنباء سفرهم كما هي عادته، فأخبروه بما نقموه من عمرو بن العاص من نهيهم عن إيقاد النار ونهيهم عن اتّباع العدو وصلاته جنبا، فسأله عليه الصلاة والسلام عن ذلك فقال: منعتهم من إيقاد النار لئلا يرى العدو قلتهم فيطمع فيهم، ونهيتهم عن اتّباع العدو لئلا يكون له كمين، وصليت جنبا لأن الله يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وإن أنا اغتسلت هلكت، فتبسم عليه الصلاة والسلام وأثنى على عمرو خيرا. سرية «3» وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام أبا عبيدة عامر بن الجرّاح في ثلاثمائة فارس لغزو قبيلة جهينه التي تسكن ساحل البحر «4» ، وزوّد عليه الصلاة والسلام هذا الجيش جرابا من التمر، فساروا حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو، وقد فني زادهم حتى أكلوا الخبط- وهو ورق السّمر يبلونه بالماء ويأكلونه إلى أن تقرّحت أشداقهم «5» ، وكان في القوم الكريم ابن

_ (1) جمع سرى وهو النفيس الشريف، ضبطها ابن الأثير في النهاية، والجمع سراة بالفتح على غير قياس، وقد تضم السين، وضبطها صاحب القاموس بفتح السين سميت باسم ماء بأرض جذام يقال له السلسل. (2) سورة البقرة اية 195. (3) هي سرية الخبط وسماها البخاري غزوة سيف البحر. (4) كما في البخاري ومسلم. (5) جمع ومفرده الشدق وهو جانب الفم.

غزوة الفتح الأعظم

الكريم قيس بن سعد بن عبادة «1» فنحر لهم ثلاث جزر في كل يوم جزور. وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر فنهاه رئيسه أبو عبيدة لأن قيسا كان أخذ تلك الجزر بدين على أبيه، فخاف أبو عبيدة ألّا يفي له أبوه بما استدان، فقال قيس: أترى سعدا يقضي ديون الناس، ويطعم في المجاعة، ولا يقضي دينا استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟! ولما يئسوا من لقاء عدوهم رجعوا إلى المدينة، فقال قيس بن سعد لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، قال انحر، قال نحرت، قال: ثم: جاعو قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نهيت. غزوة الفتح الأعظم إذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، ولا تنقاد البلاد حتى تنقاد مكّة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشا في الحديبية، وهو سيد من وفّى. ولكن إذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، فقد علمت أن قبيلة خزاعة دخلت في عهد رسول الله، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت «2» نارها بظهور الإسلام، فلمّا حصلت الهدنة، وقف رجل من بني بكر «3» يتغنّى بهجاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على مسمع من رجل خزاعي، فقام هذا وضربه فحرّك ذلك كامن الأحقاد، وتذكّر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم، واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرا بالعدّة والرجال، ثم توجّهوا إلى خزاعة وهم امنون، فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفدا برياسة عمرو بن سالم الخزاعي «4» ليخبر

_ (1) ابن دليم الأنصاري الخزرجي (تقدم نسبه في ترجمة والده) . كان قيس ضخما حسنا طويلا سخيا كريما داهية حامل راية الأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من ذوي الرأي من الناس، شهد فتح مصر، وكان من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، وقد خدم النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، وكان شريف قومه غير مدافع، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشاهد، وصحب قيس عليا وشهد معه مشاهده ثم كان مع الحسين بن علي حتى صالح معاوية، فرجع قيس إلى المدينة وأقام بها، مات في اخر خلافة معاوية بالمدينة. (2) اختفت. (3) هو نوفل بن معاوية الديلي. (4) هو عمرو بن سالم بن كلثوم الخزاعي وكان أحد من يحمل ألوية خزاعة يوم الفتح.

رسول الله بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلمّا حلّوا بين يديه، وأخبروه قال: والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه، أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد «1» ويزيد في المدة، فركب راحلته- وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة، نزل على أمّ المؤمنين أم حبيبة بنته، وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه، فقال يا بنيّة: أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج من عندها، وأتى النبي في المسجد، وعرض عليه ما جاء له فقال له عليه الصلاة والسلام: هل كان من حدث؟ قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: فنحن على مدتنا وصلحنا، ولم يزد عن ذلك. فقام أبو سفيان ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده، فلم يجد منهم معينا وكلهم قالوا: جوارنا في جوار رسول الله فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئا، فاتهموه بأنه خانهم واتّبع الإسلام، فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتجهّز للسفر، وأمر أصحابه بذلك، وأخبر الصدّيق بالوجهة فقال له: يا رسول الله أوليس بينك وبين قريش عهد؟ قال: نعم ولكن غدروا ونقضوا. ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليحضر رمضان بالمدينة» ، فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهنية، وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر، فتعلّم قريش فتستعد للحرب، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يقيم حربا بمكّة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحرمتها، فدعا مولاه جلّ ذكره وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها «2» في بلادها» فقام حاطب بن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدرا، وكتب كتابا لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جعل، فأعلم الله رسوله ذلك، فأرسل في أثرها عليا والزبير والمقداد وقال:

_ (1) أي ليجدد العهد. (2) أي نفاجئها.

انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ «1» ، فإن بها ظعينة «2» معها كتاب فخذوه منها، فانطلقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب! فقالوا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، فأخرجته من عقاصها «3» ، فأتوا به رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت حليفا لقريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: أما أنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرا وما يدر بك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدرا، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم «4» ، وفي ذلك أنزل الله سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «5» ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابن أم مكتوم «6» وكانت عدّة الجيش عدّة الجيش عشرة الاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه: وهما ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شقيق عبيدة بن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة «7» شقيق زوجه أم سلمة وكانا يريدان الإسلام فقبلهما عليه الصلاة والسلام وفرح بهما شديد الفرح

_ (1) قال السهيلي وكان هشيم يرويه حاج (بالحاء والجيم) وهو مما حفظ من تصحيف هشيم على أن البخاري، قد ذكر عن أبي عوانة أيضا أنه قال فيه: حاج لما قيل عن هشيم. (2) المرأة في الهودج. (3) أي ضفيرتها. (4) هكذا أورد ابن اسحاق هذه القصة مرسلة. وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم واحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده. وقد رواه البخاري وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح. فدل على أن من فعل مثل فعله، وليس بيدري أنه يقتل. (5) اية رقم 1. (6) ذكر ابن كثير أنه ولى على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري. (7) هو أخو أم سلمة لأبيها، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وهو عامر بن قيس الفراسي، واسم أبي أمية حذيفة.

وقال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «1» ولمّا وصل عليه الصلاة والسلام الكديد «2» رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضا، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباس ابن عبد المطلب مهاجرا بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكّة ويرسل عياله إلى المدينة. ولمّا وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة الاف نار، وكانت قريش قد بلغهم أن محمّدا زاحف بجيش عظيم لا تدري وجهته، فأرسلوا أبا سفيان بن حرب «3» وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرّ الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه لكأنها نيران عرفة! فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو «4» ، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فراهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله، فأسلم أبو سفيان، فلمّا سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الخيل «5» ، حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، وهو يسأل، ويقول مالي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامل رايتها سعد بن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة «6» ، اليوم تستحلّ الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبّذا يوم الذّمار «7» ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب «8» فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبير بن العوّام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد، فقال عليه الصلاة والسلام كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه

_ (1) سورة يوسف اية 92. (2) هو ما بين الحرمين. (3) كان أبو سفيان رضيع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرضعتهما حليمة، وكان الف الناس له قبل النبوة لا يفارقه، فلما نبئ كان أبعد الناس عنه. وأهجاهم له إلى أن أسلم، فكان أصح الناس إيمانا، وألزمهم له صلّى الله عليه وسلّم، ومات أبو سفيان في خلافة عمر رضي الله عنه، وقال عند موته: لا تبكنّ عليّ. فإني لم أنتطق بخطيئة منذ أسلمت. (4) يعني خزاعة. (5) هو المكان الناتىء منه في الطريق، ليتمكن من رؤية الجيش كله. (6) أي يوم حرب. (7) ما يلزم حفظه وحمايته. ومراده استعطاف العباس ليحميه من القتل. (8) لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم من القبائل.

الكعبة «1» ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحجون «2» وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكّة من كديّ «3» ودخل هو من أعلاها من كداء، ونادى مناديه: من دخل داره وأغلق بابه فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو امن «4» ، وهذه أعظم منّة له، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، واذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي أسلم وكتب لرسول الله الوحي ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمّدا كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول: كل جيد،! ومنهم عكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية، وهبار بن الأسود، والحارث بن هشام، وزهير بن أمية وكعب بن زهير «5» ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان وقليل غيرهم، ونهى عن قتل واحد سوى هؤلاء إلّا من قاتل، فأما جيش خالد بن الوليد فقابله الذعر من قريش يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقتل من جيشه اثنان، ودخلها عنوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يصادف مانعا، وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحن على الرحل، تواضعا لله، وشكرا له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تمسّ الرحل، وأسامة بن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل إلى الحجون موضع رايته، وقد نصبت له هناك قبة فيها أمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلا، ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح حتى بلغ البيت، وطاف سبعا على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذ ذاك ثلاثمائه وستون صنما، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول:

_ (1) هذا ما ذكره في صحيح البخاري، وذكر ابن اسحاق أن ذلك عند الدخول والذي نرجحه ما في الصحيح. (2) جبل بمعلاة مكة (المؤلف) وهو موضع بقرب مقبرة مكة. (3) كدى كقوى جبل مسفلة مكة على طريق اليمن. وكداء كسحاب جبل بأعلى مكة، (المؤلف) . قال السهيلي وكدى من ناحية عرفة وفي البخاري أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ خالد أن يدخل من أعلى مكة من كداء. (4) قطعة من حديث رواه مسلم. (5) المزني الشاعر المشهور- صحابي معروف أهدر دمه صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فبايع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسفر عن وجهه، فأنشده قصيدته المعروفة، فكساه النبي صلّى الله عليه وسلّم بردة له. كان كعب بن زهير شاعرا مجودا كثير الشعر مقدما في طبقته هو وأخوه بجير، وكعب أشعرهما.

العفو عند المقدرة

جاء الحق وزهق الباطل وما يبدىء الباطل وما يعيد «1» ، ثم أمر بالالهة فأخرجت من البيت وفيها صورة اسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قطّ!! وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة، وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب، باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلّا قليلا. ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء اثارها ومحو عبادتها بالكلية. العفو عند المقدرة ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل الكعبة وكبّر في نواحيها، ثم خرج إلى مقام إبراهيم، وصلّى فيه، ثم شرب من زمزم، وجلس في المسجد والناس حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل بمشركي قريش الذين اذوه، وأخرجوه من بلاده وقاتلوه، ولكن هنا تظهر مكارم الأخلاق التي يلزم أن يتعلّم منها المسلم، أن يكون رضاه وغضبه لله لا لهوى النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم» ؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال: وإذا كان القطع والوصل لله ... تساوى التّقريب والإقصاء وسواء عليه فيما أتاه ... من سواه الملام والإطراء ولو أن انتقامه لهوى النف ... س لدامت قطيعة وجفاء قام لله في الأمور فأرضى الله ... منه تباين ووفاء فعله كله جميل وهل ينض ... ح إلّا بما حواه الإناء ثم خطب عليه الصلاة والسلام خطبة أبان فيها كثيرا من الأحكام الإسلامية منها ألّا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملّتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، والبيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلّا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد الصبح والعصر، ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر، ثم قال: «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالاباء، والناس من ادم وادم من تراب، ثم تلا هذه الاية

_ (1) رواه الشيخان.

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» ثم شرع الناس يبايعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام، وممن أسلم في هذا اليوم معاوية بن أبي سفيان وأبو قحافة «2» والد الصديق، وقد فرح الرسول كثيرا بإسلامه. وجاء رجل يرتعد خوفا فقال له عليه الصلاة والسلام: «هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امراة من قريش كانت تأكل القديد» «3» . أما الذين أهدر رسول الله دمهم فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فمنهم من حقّت عليه كلمة العذاب فقتل، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم: فعبد الله بن سعد بن أبي سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمان بن عفّان، وطلب منه أن يستأمن له رسول الله، فغيّبه عثمان حتى هدأ الناس، ثم أتى به النبي وقال: يا رسول الله قد أمنّته فبايعه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام مرارا ثم بايعه، فلمّا خرج عثمان وعبد الله قال عليه الصلاة والسلام، أعرضت عنه ليقوم إليه أحدكم فيضرب عنقه، فقالوا: هلّا أشرت إلينا؟ فقال: لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين «4» . وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب فخرجت وراءه زوجته وبنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت قد أسلمت قبل الفتح «5» ، وقد أخذت له أمانا من رسول الله فلحقته، وقد أراد أن يركب البحر «6» فقالت: جئتك من عند أبرّ الناس وخيرهم، لا تهلك نفسك، وإني قد استأمنته لك فرجع، ولما راه عليه الصلاة والسلام وثب قائما فرحا به، وقال: مرحبا بمن جاءنا مهاجرا مسلما، ثم أسلم رضي الله عنه، وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل عداوة عاداه إياها فاستغفر

_ (1) سورة الحجرات اية 13. (2) اسمه عثمان بن عامر، ولم يعش له ولد ذكر إلا أبو بكر، ولا نعرف له بنت إلا أم فروة التي أنكحها أبو بكر بن الأشعث بن قيس، وكانت قبله تحت تميم الداري. (3) رواه البيهقي عن ابن مسعود. (4) ثم أسلم وحسن إسلامه وعرف فضله وجهاده، فكان على ميمنة عمرو العاص حين افتتح مصر، وهو الذي افتتح أفريقيا، واعتزل الفتنة، ودعا الله أن يقبضه إثر صلاة الفجر، فصلى الصبح، فقبضت نفسه بين التسليمتين، وكان وفاته بعسفان. (5) الصواب عند الفتح. (6) روى أبو داود والنسائي أنه ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فنادى عكرمة اللات والعزى، فقال أهل السفينة: أخلصوا فالهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة والله لئن لم ينجني من البحر إلّا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم لك عهد إن أنت عافيتني بما أنا فيه أن اتي محمدا أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا غفورا كريما.

له، وكان رضى الله عنه بعد ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على الإسلام «1» . وأما هبار بن الأسود فهرب واختفى حتى إذا كان رسول الله بالجعرانة «2» جاءه مسلما، وقال: يا رسول الله هربت منك وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل، فقال عليه الصلاة والسلام: قد عفوت عنك. وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزومي، فأجارتهما أم هانىء بنت أبي طالب، فأجاز عليه الصلاة والسلام جوارها، ولما قابل رسول الله الحارث بن هشام مسلما قال له الحمد الله الذي هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام، وقد كان بعد ذلك من فضلاء الصحابة. وأما صفوان بن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبيّ الله إن صفوان سيد قومه، هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمّنه فإنك قد أمّنت الأحمر والأسود، فقال عليه الصلاة والسلام: أدرك ابن عمك فهو امن، فقال: أعطني علامة فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس وأحلم الناس وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة علامة الأمان، فرجع إلى رسول الله وقال له: إن هذا يزعم أنك أمّنتني؟ قال: صدق، قال: أمهلني بالخيار فيه شهرين، قال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر، ثم أسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه. وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أسلمت، وجاءت إلى رسول الله فرحب بها، وقالت له: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم أهل خباء أحبّ إلي أن يعزوا من أهل خبائك «3» .

_ (1) خرج إلى قتال أهل الردة، ووجهه أبو بكر إلى جيش النعمان فظهر عليهم، ثم إلى اليمن، ثم رجع فخرج إلى الجهاد عام وفاته فاستشهد في أجنادين. (2) موضع بين مكة والطائف وبعضهم يضبطه بسكون العين وفتح الراء مخففة. (المؤلف) . (3) بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم مع نسوة من قريش يبايعن على الإسلام رواه الشيخان والخباء: خيمة من وبر أو

وفود كعب بن زهير

وفود كعب بن زهير وأما كعب بن زهير فلمّا ضاقت به الأرض، ولم يجد له مجيرا جاء المدينة بعد أن قدّمها رسول الله من مكّة «1» ، فأسلم وأنشد قصيدته التي يقول فيها: وقال كلّ صديق كنت امله ... لا ألهينّك «2» إني عنك مشغول فقلت خلوا سبيلي لا أبالكم «3» ... فكلّ ما قدّر الرّحمن مفعول كلّ ابن انثى وإن طالت سلامته ... يوما على الة «4» حدباء محمول نبّئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة «5» ال ... قران فيها مواعيظ وتفصيل وقال فيها مادحا: إنّ الرسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول ولمّا قال هذا البيت خلع عليه الرسول بردته. وأما وحشي قاتل حمزة، فكذلك أسلم وحسن إسلامه، وقبله عليه الصلاة والسلام، وقد جاءه ابنا أبي لهب عتبة ومعتب فأسلما وفرح بهما عليه الصلاة والسلام. وكان من الذين اختفوا سهيل بن عمرو، فاستأمن له ابنه عبد الله فأمّنه عليه الصلاة والسلام، وقال: إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام، فلمّا بلغت هذه المقالة سهيلا قال: كان والله برّا صغيرا برّا كبيرا ثم أسلم بعد ذلك.

_ صوف ثم أطلقت على البيت كيف ما كان. (1) فقال: يا رسول الله (وهو لا يعرفه) إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما. فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. (2) لا أشغلنك. (3) خلوا سبيلي: اتركوا طريقي لا ابالهم: ذم لهم، لأنهم لم يغنوا عنه شيئا. (4) النعش الذي يحمل عليه الميت. (5) الزيادة وسمى القران نافلة، لأنه عطية زائدة عن النبوة.

بيعة النساء

بيعة النساء هذا، ولما تمّت بيعة الرجال بايعه النساء، وكن يبايعن على ألّا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصين الرسول في معروف «1» . ثم أمر عليه السلام بلالا أن يؤذّن على ظهر الكعبة، وهذا بدء ظهور الإسلام على ظهر البيت الكريم، فلا عجب أن اتّخذ المسلمون هذا اليوم عيدا يحمدون فيه الله حقّ حمده على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم، وأقام عليه الصلاة والسلام بمكّة بعد فتحها تسعة عشر يوما كل يوم يقصر فيها الصلاة، وولّى عليها عتّاب بن أسيد «2» وجعل رزقه كل يوم درهما فكان عتاب رضي الله عنه يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم كلّ يوم. هدم العزّى وفي الخامس من مقامه عليه الصلاة والسلام بمكّة أرسل خالد بن الوليد في ثلاثين فارسا لهدم هيكل العزى وهي أكبر صنم لقريش وكان هيكلها ببطن نخلة، فتوجّه إليها خالد وهدمها. هدم سواع وأرسل عليه السلام عمرو بن العاص لهدم سواع وهو أعظم صنم لهذيل وهيكله على ثلاثة أميال من مكّة فذهب إليه وهدمه. هدم مناة وبعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا لهدم مناة وهي صنم لكلب وخزاعة وهيكلها بالمشلّل وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قديد فتوجّهوا إليها وهدموها.

_ (1) بيعة النساء وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان النبي يبايع النساء بالكلام بهذه الاية- لا يشركن بالله شيئا- قالت وما مست يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد امرأة إلّا امرأة يملكها. رواه الشيخان. (2) أسلم يوم الفتح وسنه عشرون سنة.

غزوة حنين

غزوة حنين «1» بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الأوثان دانت للإسلام جموع العرب ودخلوا فيه أفواجا. أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما حميّة الجاهلية، واجتمع الأشراف منهما للشورى، وقالوا: قد فرغ محمّد من قتال قومه ولا ناهية له عنا، فلنغزه قبل أن يغزونا. فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولّوا رياستهم مالك بن عوف النّصري، فاجتمع له من القبائل جموع كثيرة فيهم بنو سعد بن بكر الذين كان رسول الله مسترضعا فيهم، وكان في القوم دريد بن الصّمّة المشهور بأصالة الرأي، وشدّة البأس في الحرب، ولتقدم سنّه لم يكن له في هذه الحرب إلّا الرأي، ثم إن مالك ابن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءهم وذراريهم وأموالهم، فلمّا علم بذلك دريد سأل مالكا عن السبب، فقال: سقت مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم. فقال دريد: وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فلم يقبل مالك مشورته، وجعل النساء صفوفا وراء المقاتلة، ووراءهم الإبل، ثم البقر، ثم الغنم كيلا يفر أحد المقاتلين. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه، أجمع رأيه على المسير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألف غاز، ومنهم ألفان من أهل مكة، والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة، وخرج أهل مكة ركبانا ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضعف يرجون الغنائم، وخرج في الجيش ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ولما قرب الجيش من معسكر العدو صفّ عليه الصلاة والسلام الغزاة، وعقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لعليّ بن أبي طالب، ولواء الخزرج للحباب بن المنذر، ولواء الأوس لأسيد بن حضير، وكذلك أعطى ألوية القبائل العرب الاخرى، ثم ركب عليه الصلاة والسلام بغلته، ولبس درعين والبيضة «2» والمغفر «3» . هذا، وقد أعجب

_ (1) هو واد في طريق الطائف إلى جنب ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال وتسمى غزوة هوازن وهوازن اسم قبيلة كبيرة من العرب فيها عدّة بطون، وكانت هذه الغزوة في 10 شوال سنة ثمان من الهجرة سنة 630 م. (2) هي الخوذة التي توضع على الرأس. (3) ذرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.

المسلمون بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئا فإن مقدمة المسلمين توجّهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستترا في شعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنّة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة، أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثبت على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث «1» وأخوه ربيعة بن الحارث ومعتّب بن أبي لهب، وكان العباس اخذا بلجام البغلة «2» ، وأبو سفيان اخذ بالركاب، وكان عليه الصلاة والسلام ينادي: إليّ أيها الناس، ولا يلوي عليه أحد، وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت. أما رجال مكّة الذين هم حديثو عهد بالإسلام والذين لم ينزعوا عنهم ربقة الشرك فمنهم من فرح، ومنهم من ساءه هذا الإدبار، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وقال أخ لصفوان بن أمية: الان بطل السحر، فقال له صفوان وهو على شركه أسكت فضّ الله فاك «3» ! والله لأن يربّني «4» رجل من قريش خير من أن يربّني رجل من هوازن. ومرّ عليه رجل من قريش وهو يقول: أبشر بهزيمة محمّد وأصحابه، فو الله لا يجبرونها أبدا، فغضب صفوان وقال: ويلك أتبشرني بظهور الأعراب؟ وقال عكرمة بن أبي جهل لذاك الرجل: كونهم لا يجبرونها أبدا ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمّد منه شيء أن أديل عليه «5» اليوم، فإن العاقبة له غدا. فقال سهيل بن عمرو: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنّا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة نعبد حجرا لا يضر ولا ينفع. وبلغت هزيمة بعض الفارّين مكّة. كلّ هذا ورسول الله واقف مكانه يقول:

_ (1) ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخوه من الرضاعة، وكان ممن يشبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان ممن يؤذي صلّى الله عليه وسلّم ويهجوه ويؤذي المسلمين، وأسلم يوم الفتح، وشهد حنينا، وكان في اخر حياته يفتش عن موضع قبره حتى يدخله في داره، وأمر بأن يحفر في قاعها قبرا ففعل فقعد عليه ساعة ثم انصرف، فلم يلبث إلّا يومين حتى مات فدفن فيه. (2) قال السهيلي: والبغلة التي كان عليها يومئذ التي تسمى البيضاء، وقد روى مسلم أنه كان على بغلة له بيضاء ولكن في مسلم أيضا أنه كان على بغلته الشهباء أيضا وقد قال النووي: إن البيضاء والشهباء واحدة ولا يعرف له غيرها. (3) فض الله فاه: أي أسقط أسنانه. (4) يربني: يكون ربا لي، أي ملكا علي. (5) يعني أن نغلبه اليوم فإن الغلبة له غدا.

أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب «1» ثم قال للعباس وكان جهوريّ الصوت: ناد بالأنصار يا عباس، فنادى يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الرضوان، فأسمع من في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبّيك لبّيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عنان بعيره، فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله ويؤمّ الصوت حتى اجتمع حول رسول الله جمع عظيم منهم. وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم يروها «2» فكرّ المسلمون على عدوهم يدا واحدة، فانتكث فتل المشركين، وتفرّقوا في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري، وأسروا كثيرا من المحاربين، وهرب من هرب، وجرح في هذا اليوم خالد بن الوليد جراحات بالغة، وأسلم ناس كثيرون من مشركي مكّى لما رأوه من عناية الله بالمسلمين. هذا، والذي حصل في هذه الغزوة درس مهمّ في دروس الحرب، فإن هذا الجيش دخله أخلاط كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد بالإسلام، هؤلاء سيّان عندهم نصر الإسلام وخذلانه، ولذلك بادروا لأول صدمة إلى الهزيمة، وكادت تتم الكلمة على المسلمين لولا فضل الله، فلا ينبغي أن يكون في الجيش إلّا من يقاتل خالصا مخلصا من قلبه، ليكون مدافعا حقّا عن دينه، فلا تميل نفسه إلى الفرار خشية ما أعده الله للفارين من أليم العقاب. ثم أمر عليه الصلاة والسلام بجمع السبي والغنائم، وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة الاف أوقية من الفضة، فجمع ذلك كله بالجعرانة «3» . أما المشركون فتفرّقوا ثلاث فرق: فرقة لحقت

_ (1) قال السهيلي: هو كلام موزون، وأنه ليس بشعر حتى يقصد به الشعر. وللخطابي في كتاب الأعلام تنبيه على قوله: أنا ابن عبد المطلب: قال إنما خصّ عبد المطلب بالذكر في هذا المقام، وقد انهزم الناس لنبوته، وإزالة للشك لما اشتهر، وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي في رواية البخاري ومسلم. (2) قال ابن اسحاق قال جبير بن مطعم: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق وكانت الملائكة، فأراهم الله لذلك الهوازني على صور الخيل والرجال ترهيبا للعدو. (3) وقد تكسر العين وتشدد الراء قال الشافعي: التشديد خطأ هي بين مكة والطائف.

سرية

بالطائف، وفرقة لحقت بنخلة، وفرقة عسكرت بأوطاس» . سرية «2» فأرسل عليه الصلاة والسلام لهذه الفرقة أبا عامر الأشعري في جماعة منهم أبو موسى الأشعري «3» فسار إليهم وبددّهم، وظفر بما بقي معهم من الغنائم، وقد استشهد أبو عامر «4» في هذه الغزوة، وخلّف على الغزاة ابن أخيه أبا موسى فرجع ظافرا منصورا. غزوة الطائف «5» وسار عليه الصلاة والسلام بمن معه إلى الطائف، ليجهز على بقية حياة ثقيف، ومن تجمّع معهم من هوازن، وجعل على مقدمته خالد بن الوليد، ومرّ عليه الصلاة والسلام بحصن لعوف بن مالك النّصري «6» فأمر بهدمه، ومرّ ببستان لرجل من ثقيف قد تمنّع فيه، فأرسل إليه أن أخرج، وإلّا حرّقنا عليك بستانك، فامتنع الرجل فأمر عليه الصلاة والسلام بحرقه. ولما وصل المسلمون إلى الطائف وجدوا الأعداء قد تحصّنوا به، وأدخلوا معهم قوت سنتهم. فعسكر المسلمون قريب الحصن، فرماهم المشركون بالنّبل رميا شديدا حتى أصيب منهم كثيرون بجراحات منهم عبد الله بن أبي بكر. وقد طاوله جرحه حتى أماته في خلافة أبيه، ومنهم أبو سفيان بن حرب فقئت عينه، وقد مات بالجراحات اثنا عشر رجلا من

_ (1) واد بديار هوازن. (المؤلف) . (2) سرية أبي عامر الأشعري. (3) كان قد سكن الرملة وحالف سعيد بن العاص ثم أسلم، وهاجر إلى الحبشة، وقدم المدينة بعد فتح خيبر، صادفت سفينته جعفر بن أبي طالب فقدموا جميعا، واستعمله النبي صلّى الله عليه وسلّم على بعض اليمن كزبيد وعدن وأعمالها، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة فافتتح الأهواز ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، وكان حسن الصوت مات وهو ابن نيف وستين. (4) وفي البخاري ومسلم قال فدعا له الرسول صلّى الله عليه وسلّم (اللهم اغفر لعبيد أبي عامر اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك. (5) هي بلدة في الحجاز على مسافة 65 ميلا جنوبا شرقيا من مكة، وهي مشهورة بجودة مناخها وخصب أرضها، وهي مصيف مكة. وسميت الطائف أن ملك بن مالك أصاب دما من قومه، فلحق بثقيف، فأقام فيهم، وقال لهم: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمي به الطائف. (6) وهو خطأ، الصحيح مالك بن عوف النصري كما في ابن هشام والسيرة الحلبية.

المسلمين «1» . ولمّا رأى رسول الله أنّ العدو متمكّن من رميهم، ارتفع إلى محل مسجد الطائف الان، وضرب لأم سلمة وزينب قبتين هناك، واستمرّ الحصار ثمانية عشر يوما، كان فيها ينادي خالد بن الوليد بالبراز فلم يجبه أحد، وناداه عبد ياليل عظيم ثقيف لا ينزل إليك منّا أحد. ولكن نقيم في حصننا، فإنّ فيه من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن اخرنا، فأمر عليه الصلاة والسلام بأن ينصب عليهم المنجنيق «2» فنصب. ودخل جمع من الأصحاب تحت دبابتين «3» لينقبوا الحصن، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار حتى أرجعوهم. فأمر عليه الصلاة والسلام أن تقطع أعنابهم ونخيلهم، فقطع المسلمون فيها قطعا ذريعا، فناداه أهل الحصن أن دعها لله وللرحم، فقال: أدعها لله وللرحم. ثم أمر من ينادي بأن كل من ترك الحصن ونزل فهو امن، فخرج إليه بضعة عشر رجلا. ولما رأى عليه الصلاة والسلام أن تمنّع ثقيف شديد، وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفل بن معاوية الديلي «4» في الذهاب أو المقام، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته وأن تركته لم يضرّك، فأمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل «5» وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف فقال: «اللهم أهد ثقيفا وائت بهم مسلمين» «6» .

_ (1) سعيد بن سعيد بن العاص وعبد الله بن أبي أمية وعبد الله بن عامر بن ربيعة والسائب بن الحارث وأخوه عبد الله بن الحارث وحليحة بن عبد الله ومن الأنصار جليحة بن عبد الله وثابت بن الجذع والحارث بن سهل والمنذر بن عبد الله ورقيم بن ثابت فسبعة من قريش وأربعة من الأنصار ورجل من بني ليث. (2) هي من الات الحصار الثقيلة ونحوها، وأن أول من رمى بالمنجنيق في الجاهلية والإسلام النبي صلّى الله عليه وسلّم. (3) الدبابة الة تتخذ للحرب فتدفع في أصل الحصن فينقبون وهم في جوفها. (المؤلف) وقد كانت تكسى بالجلود الغليظة فلذلك أحرقتها كرات النار. (4) أسلم يوم الفتح، وحج مع أبي بكر سنة تسع، ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، وكان قد بلغ المائة، وقال أبو عمر: كان ممن عاش في الجاهلية ستين وفي الإسلام ستين مات في خلافة يزيد بن معاوية. (5) وفي الشيخين حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال: إنا قافلون إن شاء الله، قال: أصحابه ترجع ولم تفتحه، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: اغدوا على القتال فغدوا عليه، فأصابهم جراح فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا قافلون غدا. قال فأعجبهم ذلك فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم. (6) رواه الترمذي بلفظ ما عدا (وائت بهم مسلمين) بسند صحيح.

تقسيم السبي

تقسيم السبي ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة حيث ترك السبي فأحصاه، وخمّسه وأعطى منه شيئا كثيرا لأناس ضعف إسلامهم يتألّفهم بذلك، وأعطى أناسا لم يسلموا ليحبّب إليهم الإسلام، ومن الأوّلين: أبو سفيان أعطاه أربعين أوقية من الذهب ومائة من الإبل، وكذلك ابناه معاوية ويزيد، فقال له: بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب. ومنهم حكيم بن حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده فأعطاه. ثم استزاده فأعطاه مثلها. وقال: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السّفلى «1» فأخذ حكيم المائة الأولى وترك ما عداها، ثم قال: والذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحدا «2» بعدك شيئا حتى أفارق الدّنيا، فكان الخلفاء بعد رسول الله يعرضون عليه العطاء. الذي يستحقه من بيت المال فلا يأخذه. وأعطى عليه الصلاة والسلام عيينة بن حصن مائة من الإبل، وكذلك الأقرع بن حابس «3» والعباس بن مرداس «4» وأعطى صفوان ابن أمية شعبا مملوا نعما وشاء، كان راه يرمقه «5» فقال له: هل يعجبك هذا؟ قال نعم، قال: هو لك. فقال صفوان: ما طابت بمثل هذا نفس أحد، وكان سبب إسلامه «6» . وكان عليه الصلاة والسلام يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب وجمعها على الدين القويم، وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى جعل من الصدقات قسما للمؤلفة قلوبهم، وقد عاد ذلك بفائدة عظمى، فإن كثيرين ممّن

_ (1) رواه الشيخان والترمذي والنسائي باختصار. (2) يعني لن اخذ من أحد شيئا. (3) وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم وشهد فتح مكّة وحنينا والطائف وهو من المؤلفة قلوبهم، وقد حسن إسلامه، وشهد اليمامة، ومع شرحبيل بن حسنة دومة الجندل، وشهد مع خالد حرب أهل العراق وفتح الأنبار، استعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان، فأصيب بالجوزجان هو والجيش وذلك في خلافة عثمان. (4) السلمي شهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الفتح وحنينا ويقال أنه ممن حرم الخمر في الجاهلية، وكان من أشجع الناس في شعره، وكان ينزل البادية بناحية البصرة. (5) ينظر إليه. (6) أعطى دون المائة رجالا من قريش منهم مخرمة بن نوفل بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمر. وقال ابن اسحاق: لا أحفظ ما أعطاهم، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين وكذلك السهمي.

أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا أشربوا في قلوبهم حبّ الإسلام صاروا بعد من أجّلاء المسلمين، وأعظمهم نفعا كصفوان بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، والحارث بن هشام وغيرهم. ثم أمر عليه الصلاة والسلام زيد بن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم، وقسّمه على الغزاة بعد أن اجتمع إليه الأعراب، وصاروا يقولون له: اقسم علينا حتى ألجؤوه إلى شجرة فتعلق رداؤه فقال «ردّوا ردائي أيها الناس، فو الله إن كان لي شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» ثم قام إلى بعيره، وأخذ وبرة من سنامه، وقال: «أيها الناس، والله مالي من غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلّا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط، فإن الغلول «1» يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة» فصار كل من أخذ شيئا من الغنائم خلسة يرده ولو كان زهيدا، ثم شرع يقسم فأصاب الرجل أربعة من الإبل وأربعون شاة، والفارس ثلاثة أمثال ذلك، فقال رجل من المنافقين «2» : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى أحمر وجهه، وقال: «ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟!» «3» فلم يؤده غضبه أن ينتقم لنفسه حاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك بل لم يزد على أن نصح وحذّر، وقال له عمر وخالد بن الوليد: دعنا يا رسول الله نضرب عنقه، فقال: لا! لعلّه أن يكون يصلّي، فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال صلّى الله عليه وسلّم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس «4» ولا أشق عن بطونهم. ولما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا لقريش وقبائل العرب، وترك الأنصار غضب بعضهم حتى قالوا: إن هذا لهو العجب يعطي قريشا. ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!!! فبلغه ذلك فأمر بجمعهم وليس معهم غيرهم. فلمّا اجتمعوا قال: «يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم أجدكم ضلّالا فهداكم

_ (1) الاختلاس من الغنيمة. (المؤلف) . (2) قال السهيلي: فالرجل هو ذي الخويصرة كذلك جاء ذكره في الصحيحين وقال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج من ضئضئه قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فكان كما قال وظهر صدق الحديث في الخوارج وكان أولهم من أصله. (3) رواه الشيخان في المعنى. (4) هو البحث والتفتيش. وفي صحيح مسلم: إني لم أثقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم.

وفود هوازن

الله بي؟ وعالة «1» فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟ إن قريشا حديثو عهد بكفر ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأ تألّفهم، أغضبتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لشيء قليل من الدنيا ألّفت به قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يزلزل؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمّد بيده، لولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار «2» ، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» «3» . فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام وتفرّقوا. وفود هوازن وبعد بضعة عشرة ليلة جاءه صلّى الله عليه وسلّم وفد هوازن يرأسهم زهير بن صرد وقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والعمّات والخالات، وهنّ مخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله، وقال زهير أن في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ثم قال أبياتا يستعطفه بها: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك مملوءة من مخضها الدّرر انّا لنشكر للنعماء إن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر انّا نؤمّل عفوا منك نلبسه ... هذي البريّة أن تعفو وتنتصر فالبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إنّ العفو مشتهر فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن أحبّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين أما السبي وإما المال. وقد كنت انتظرتكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، أردد علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما مالي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا

_ (1) جمع عائل وهو الفقير. (المؤلف) . (2) رواه البخاري والترمذي فيه تقديم وتأخير ومسلم كتاب الزكاة. (3) رواه مسلم والترمذي.

عمرة الجعرانة

صليت الظهر فقوموا وقولوا: نحن نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله بعد أن تظهروا إسلامكم وتقولوا: نحن إخوانكم في الدّين» ، ففعلوا. فقال صلّى الله عليه وسلّم لاصحابه: «أما بعد فإنّ إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أردّ عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» «1» ، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وامتنع من ذلك جماعة من الأعراب كالأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والعباس بن مرداس، فأخذه الرسول منهم قرضا، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بأن تحبس عائلة مالك بن عوف النصري رئيس تلك الحرب بمكّة عند عمتهم أمّ عبد الله بن أمية. فقال له الوفد: أولئك سادتنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنما أريد بهم الخير، ثم سأل عن مالك فقالوا: هرب مع ثقيف، فقال: أخبروه أنه إن جاءني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل، فلمّا بلغ ذلك مالكا نزل من الحصن خفية حتى أتى رسول الله بالجعرانة فأسلم وأحرز ماله، واستعمله عليه الصلاة والسلام على من أسلم من هوازن. عمرة الجعرانة ثم إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم اعتمر فأحرم من الجعرانة ودخل مكّة بليل، فطاف واستلم الحجر ثم رجع من ليلته، وكانت إقامته بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بالرّحيل، فسار الجيش امنا مطمئنا حتى دخل المدينة لثلاث بقين من ذي القعدة. وغزوة حنين هي التي فرّق الله بها جموع الشرك، وأدال دولته، وأفقد سراة أهله، فإن هوازن لم تترك وراءها رجلا تمكّنه الحرب إلّا ساقته، ولم تترك لها بعيرا ولا شاة إلّا جاءت به معها، فأراد الله إعزاز الإسلام بخذلان أعدائه، وأخذ أموالهم، فانكسرت حدّة المشركين، ولم يبق فيهم من يمانع أو يدافع، ولذلك يمكننا أن نقول: إن انكسار هوازن كان خاتمة لحروب العرب، فلم يبق فيهم إلّا فئات قليلة يسوقهم الطيش إلى شهر السلاح، ثم لا يلبثون أن يغمدوا السيوف حينما تظهر لهم قوة الحقّ الساطعة.

_ (1) رواه البخاري: ومعنى يطيب: أي يرجع ما أخذ من السبي عن طيب نفس منه من غير عوض.

سرية

سرية «1» ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أرسل قيس بن سعد في أربعمائة ليدعو صداء- قبيلة تسكن اليمن- إلى الإسلام، فجاء إلى رسول الله رجل منهم، فقال يا رسول الله: إني جئتك وافدا عمن ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فأمر عليه الصلاة والسلام بردّ الجيش. وفود صداء وخرج الرجل إلى قومه فقدم بخمسة عشر رجلا منهم، فنزلوا ضيوفا على سعد بن عبادة. ثم بايعوا رسول الله على الإسلام، وقالوا: نحن لك على من وراءنا من قومنا، ولما رجعوا فشا فيهم الإسلام، وقدم على رسول الله منهم مائة في حجة الوداع. سرية «2» ثم أرسل عليه الصلاة والسلام بشر بن سفيان العدوي إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقات أموالهم، فمنعهم بنو تميم المجاورة لهم من أداء ما فرض عليهم، فلمّا علم بذلك رسول الله أرسل إليهم عيينة بن حصن «3» في خمسين فارسا من الأعراب فجاءهم وحاربهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيا، وتوجّه بالكل إلى المدينة، فأمر عليه الصلاة السلام بجعلهم في دار رملة بنت الحارث «4» . وفود تميم فجاء في أثرهم وفد تميم وفيه عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر «5» وعمرو

_ (1) هي سرية قيس بن سعد إلى صداء. (2) هي سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم. (3) يكنى أبا مالك أسلم بعد الفتح، وكان من الأعراب الجفاة، وكان يعد في الجاهلية من الجرارين يقود عشرة الاف وتزوج عثمان بن عفان ابنته. (4) الأنصارية النجارية ذكرها ابن حبيب في المبايعات. (5) كانت له ثلاثة أسماء: الزبرقان والقمر والحصين وثلاث كنى أبو العباس، وأبو شذرة، وأبو عياش.

سرية

ابن الأهتم، فجلسوا ينتظرون الرسول، فلمّا أبطأ عليهم نادوا من وراء الحجرات بصوت جاف: يا محمد اخرج إلينا نفاخرك، فإنّ مدحنا زين، وأن ذمّنا شين، فخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، وقد تأذّى من صياحهم، وفيهم نزل في أوائل سورة الحجرات إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وكان الوقت وقت الظهر، فأذن بلال، ودخل النّبي للصلاة، فتعلّقوا به يقولون: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ما بالشعر بعثنا ولا بالفخار أمرنا» ثم صلّى واجتمع حوله رجال الوفد يتفاخرون بمجدهم ومجد ابائهم، وقد مدح عمرو بن الأهتم الزبرقان بن بدر، فقال: إنه لمطاع في أنديته سيد في عشيرته، فقال: الزبرقان: حسدني يا رسول الله لشرفي، وقد علم أفضل مما قال. فقال عمرو: إنه لزمر المروءة، ضيّق العطن» ، أحمق الأب، لئيم الخال، فرئي الغضب في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لاختلاف قولي عمرو، فقال يا رسول الله: لقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الثانية، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمت. فقال عليه الصلاة والسلام «إن من البيان لسحرا «3» » ثم أسلم القوم فردّ النّبيّ عليه الصلاة والسلام عليهم أسراهم، وأحسن جائزتهم، وأقاموا مدّة يتعلمون فيها القران، ويتفقهون في الدّين. سرية «4» ثم بعث عليه الصلاة والسلام الوليد بن عقبة بن أبي معيط «5» لأخذ صدقات بني المصطلق، فلمّا علموا بقدومه خرج منهم عشرون رجلا متقلدين سلاحهم

_ (1) اية 4- 5. وقد كان عمر وأبو بكر اختلفا في أمر الزبرقان وعمر وبن الأهتم فأشار أحدهما بتقديم الزبرقان فأشار الاخر بتقديم عمرو بن الأهتم حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله سورة الحجرات فكان عمر بعد ذلك إذا كلم النبي عليه السلام لا يكلمه إلّا كأخي السرار وقد تفرد به البخاري ومسلم. (2) كناية عن ضيق الصدر. (3) رواه مالك وأحمد والبخاري وأبي داود والترمذي عن ابن عمر وأدخله مالك في باب ما يذم من القول من أجل أن السحر مذموم شرعا، وغيره يذهب إلى أنه مدح بالبيان واستمالة القلوب كالسحر. (4) هي سرية الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق. (5) أخو عثمان بن عفان لأمه قتل أبوه بعد الفراغ من غزوة بدر، أسلم وأخوه عمارة يوم الفتح، وكان الوليد شجاعا شاعرا جوادا، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة، وأقام بالرقة إلى أن مات في خلافة معاوية.

سرية

احتفالا بقدومه، ومعهم إبل الصدقة، فلمّا نظرهم ظنّهم يريدون حربه لما كان بينه وبينهم من العداوة في الجاهلية، فرجع مسرعا إلى المدينة، وأخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّ القوم ارتدوا ومنعوا الزكاة، فأرسل لهم خالد بن الوليد لاستكشاف الخبر، فسار إليهم في عسكر خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤذنهم يؤذن بالصبح، فأتاهم خالد فلم ير منهم إلّا طاعة، فرجع وأخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل عليه الصلاة والسلام لهم غير الوليد لأخذ الصدقات، وفي الوليد نزل في أوائل الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ «1» . سرية «2» ثم بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن جمعا من الحبشة راهم أهل جدّة في مراكبهم يريدون الإغارة عليها، فأرسل لهم علقمة بن مجزّر «3» في ثلاثمائة. فذهب حتى وصل جدة، ونزل في المراكب ليدركهم، وكان الأحباش متحصّنين في جزيرة هناك، فلمّا رأوا المسلمين يريدونهم هربوا، ولم يلق المسلمون كيدا، فرجع علقمة بمن معه. ولما كان بالطريق أذن لسرعان القوم أن يتعجلوا، وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، وكان فيه دعابة «4» ، فأوقد لهم في الطريق نارا، وقال لهم: ألستم مأمورين بطاعتي؟ قالوا: نعم، قال: عزمت عليكم إلّا ما تواثبتم في هذه النار، فقال بعضهم: ما أسلمنا إلّا فرارا من النار، وهمّ بذلك بعضهم فمنعهم عبد الله. وقال: كنت مازحا! فلمّا ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «5» .

_ (1) اية 6. (2) هي سرية علقمه بن مجزّر إلى طائفة من الحبشة. (3) شهد اليرموك وحضر الجايبة، وكان عاملا لعمر على حرب فلسطين، ثم بعثه إلى الحبشة فهلك هو وجيشه. (4) هي ما يستحسن من المزاح. (5) رواه أحمد والحاكم عن عمران بن الحصين ورواه أبو داود والنسائي. وخبر هذه السرية رواه الشيخان.

السنة التاسعة

السنة التاسعة سرية «1» في ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب في مائة راكب وخمسين فارسا لهدم الفلس «2» - صنم لطيىء- فسار إليه وهدمه وأحرقه، ولما حارب عبّاده هزمهم واستاق نعمهم وشاءهم وسبيهم، وكان فيه سفّانة بنت حاتم طيىء «3» . ولما رجع علي إلى المدينة طلبت سفّانة من رسول الله أن يمنّ عليها، فأجابها لأنه كان من سننه أن يكرم الكرام، فدعت له، وكان من دعائها «شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا مكانتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ولا سلب نعمة كريم إلّا وجعلك سببا لردّها عليه» . وكانت هذه المعاملة من رسول الله سببا في إسلام أخيها عدي بن حاتم الطائي «4» الذي كان فرّ إلى الشام عندما رأى الرايات الإسلامية قاصدة بلاده، وكان من حديث مجيئه أنّ أخته توجّهت إليه بالشام، وأخبرته بما عوملت به من الكرم، فقال لها: ما ترين في أمر هذا الرجل؟ فقالت: أرى أن تلحق به سريعا فإن يكن نبيّا فللسابق إليه فضل، وإن يكن ملكا فأنت أنت. قال: والله هذا هو الرأي.

_ (1) هي سرية علي إلى هدم صنم طيء. (2) بضم الفاء واللام، أو سكونها أو بفتح الفاء وسكون اللام. كان انفا أحمر في وسط أجأ كأنه تمثال إنسان. (3) بنت الجواد المشهور، وقد أسلمت وحسن إسلامها، وكانت سببا في إسلام أخيها عدي. (4) تقدم نسبه في ترجمة أخته سفّانة- كنيته أبو طريف أسلم في سنة تسع، وكان نصرانيا وثبت على إسلامه في الردة، وأحضر صدقة قومه إلى أبي بكر، وشهد فتح العراق ثم سكن الكوفة، وشهد صفين مع علي، ومات بعد الستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة.

وفود عدي بن حاتم

وفود عدي بن حاتم فخرج حتى جاء المدينة، ولقي رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: من الرجل؟ قال عدي بن حاتم، فأخذه إلى بيته وبينما يمشيان إذ لقيت رسول الله امرأة عجوز، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، فقال عدي: والله ما هو بملك. ثم مضى رسول الله حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من جلد محشوّة ليفا فقدمها إلى عدي، وقال: اجلس على هذه، فقال: بل أنت تجلس عليها، فامتنع عليه الصلاة والسلام، وأعطاها له، وجلس هو على الأرض، ثم قال: يا عدي أسلم تسلم قالها ثلاثا، فقال عدي: إني على دين وكان نصرانيا فقال عليه الصلاة والسلام: أنا أعلم بدينك منك، فقال عدي: أأنت أعلم بديني منّي؟ قال: نعم. ثم عدّد له أشياء كان يفعلها اتباعا لقواعد العرب وليست من دين المسيح في شيء كأخذه المرباع وهو ربع الغنائم. ثم قال: يا عدي إنما يمنعك من الدخول في الدّين ما ترى، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قدرة لهم، وقد رمتهم العرب مع حاجتهم، فو الله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلّة عددهم، أتعرف الحيرة؟ قال: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فو الله ليتمنّ هذا الأمر حتى تخرج المرأة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم «1» فأسلم عدي رضي الله عنه وعاش حتى رأى كل ذلك. غزوة تبوك «2» بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بلاده، وكان ذلك

_ (1) رواه البخاري بلفظ قريب من هذا وقال السهيلي: حديث إسلامه صحيح عجيب خرّجه الترمذي. (2) هو موضع بين وادي القرى والشام، بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وهي غزوة العسرة، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة وهي اخر غزواته صلّى الله عليه وسلّم. وتبوك سميت بعين تبوك وهي العين التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس ألا يمسوا من مائها شيئا فسبق إليها رجلان، وهي تبض بشيء من ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لها ما زلتما تبوكانها منذ اليوم. وقد روى مالك ومسلم بعد هذا اللفظ راجع فتح الباري.

في زمن عسرة الناس، وجدب البلاد، وشدّة الحرّ، حين طابت الثمار، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز، وكان قلّما يخرج في غزوة إلّا ورّى بغيرها «1» ليعمّي الأخبار على العدو إلّا في هذه الغزوة، فإنه أخبر بمقصده لبعد الشقة «2» ، ولشدّة العدو، ليأخذ الناس عدّتهم لذلك، وبعث إلى مكّة وقبائل الأعراب يستنفرهم لذلك، وحثّ الموسرين على تجهيز المعسرين، فأنفق عثمان بن عفّان عشرة الاف دينار، وأعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها «3» ، وخمسين فرسا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه» «4» . وجاء أبو بكر بكل ماله: وهو أربعة الاف درهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: هل أبقيت لأهلك شيئا؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس وطلحة بمال كثير. وتصدق عاصم بن عدي «5» بسبعين وسقا من تمر، وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهنّ، وجاءه صلّى الله عليه وسلّم سبعة أنفس من فقهاء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون. فجهز عثمان ثلاثة منهم، وجهز العباس إثنين، وجهز يامين ابن عمرو اثنين، ولمّا اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله وهم ثلاثون ألفا، وولّى على المدينة محمّد بن مسلمة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، وتخلّف كثير من المنافقين يرأسهم عبد الله بن أبيّ، وقال: يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد!! أيحسب محمّد أن قتال بني الأصفر معه اللعب؟ والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال، واجتمع جماعة منهم، فقالوا في حق رسول الله وأصحابه ما يريدون من الإرجاف، فبلغه ذلك، فأرسل إليهم عمار بن ياسر يسألهم عما قالوا، فقالوا: إنما كنّا نخوض ونلعب. وجاء إليه جماعة، منهم الجد ابن قيس، يعتذرون عن الخروج، فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا ولا تفتنا، لأنّا لا

_ (1) في مسلم من حديث كعب بن مالك. وورّى بغبرها: أي ورى الخبر تورية: أي ستره وأظهر غيره كأنه مأخوذ من وراء الانسان كأنه يجعله وراءه حيث لا يظهر. (2) بعد المسير. (3) الأحلاس جمع حلس وهو كساء رقيق تحت الرحل. والأقتاب: جمع قتب هو للجمل كالإكاف لغيره. (4) رواه الترمذي بلفظ (ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين) . (5) هو أخو معن بن عدي يكنى أبا عمرو، واتفقوا على ذكره في البدريين. وقال الواقدي: إنه شهد أحدا مات في سنة 45 هـ وهو ابن 115.

نأمن من نساء بني الأصفر، وجاء إليه المعذّرون من الأعراب- وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلة- ليؤذن لهم، فأذن لهم، وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم، وقد عتب الله عليه في ذلك الإذن بقوله في سورة براءة: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ «1» ثم قال في حقهم: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ «2» ثم كذبهم الله في عذرهم فقال: * وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ «3» ثم لكيلا ياسى المسلمون على قعود المنافقين عنهم قال جلّ ذكره: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «4» . وتخلّف جماعة من المسلمين لا يتّهمون في إسلامهم منهم كعب ابن مالك «5» ، وهلال بن أمية «6» ، ومرارة بن الربيع «7» وأبو خيثمة «8» . ولما خلّف صلّى الله عليه وسلّم عليا، قال المنافقون: قد استثقله فتركه، فأسرع إلى رسول الله وشكا له ما سمع، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» «9» . ثم سار صلّى الله عليه وسلّم بالجيش، وأعطى لواءه الأعظم أبا بكر الصّدّيق، وفي إعطاء اللواء لأبي بكر اخر غزوة للرسول وتخليف عليّ على أهل البيت حكمة لطيفة يفهمها القارىء. وفرّق عليه الصلاة والسلام الرايات، فأعطى الزبير راية المهاجرين، وأسيد بن حضير راية الأوس، والحباب بن المنذر راية الخزرج، ولمّا مرّ الجيش بالحجر وهي ديار ثمود قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لا تدخلوا ديار الذين ظلموا إلّا وأنتم

_ (1) اية 43. (2) سورة التوبة اية 45. (3) سورة التوبة اية 46. (4) سورة التوبة اية 47. والخبال: الهلاك والفساد الذي يورث الاضطراب. ولأوضعوا خلالكم: لأسرعوا في إيقاع الشر بينكم. (5) شهد العقبة وبايع فيها وتخلف عن بدر وشهد أحدا وما بعدها، ولم يشترك في حرب علي ومعاوية. مات بالشام في خلافة معاوية. (6) الأنصاري شهد بدرا وما بعدها. (7) الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف شهد بدرا على الصحيح. (8) الأنصاري السالمي أحد بني سالم من الخزرج شهد أحدا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبقي إلى أيام يزيد بن معاوية. (9) رواه الشيخان وتتمته غير أنه لا نبي بعدي.

وفود صاحب أيلة

باكون» «1» ليشعر قلوبهم رهبة الله، وكان مستعملا على حرس الجيش عبّاد بن بشر، وكان أبو بكر يصلي بالجيش، ولما وصلوا إلى تبوك، وكانت أرضا لا عمارية فيها، قال الرسول لمعاذ بن جبل: يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هنا مليء بساتين «2» ، وقد كان. ولمّا استراح الجيش لحقه أبو خيثمة، وكان من خبر مجيئه أن دخل على أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشتين لهما في بستان قد رشت كلّ منهما عريشتها، وبرّدت فيها ماء، وهيأت طعاما، وكان يوما شديد الحر، فلما نظر ذلك قال: يكون رسول الله في الحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وماء مهيأ وامرأة حسناء! ما هذا بالنّصف «3» . ثم قال: والله لا أدخل عريشة واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيئا لي زادا ففعلتا، ثم ركب بعيره، وأخذ سيفه ورمحه، وخرج يريد رسول الله فصادفه حين نزل بتبوك. وفود صاحب أيلة هذا ولم ير صلّى الله عليه وسلّم بتبوك جيشا كما كان قد سمع، فأقام هناك أياما جاءه في أثنائها يوحنا» صاحب أيلة، وصحبته أهل جرباء «5» وأهل أذرح «6» وأهل ميناء، فصالح يوحنا رسول الله على اعطاء الجزية ولم يسلم. وكتب له الرسول كتابا هذه صورته: كتاب صاحب أيلة بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمّد النبي رسول الله ليوحنا وأهل أيلة: سفنهم وسيارتهم في البرّ والبحر لهم ذمة الله ومحمّد النبي، ومن كان

_ (1) رواه الشيخان. والحجر: هي ديار ثمود بين تبوك والحجاز. وقنع رأسه: ستره. (2) أي العدل ولفظه «يوشك يا معاذ الله أن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا. (3) رواه مسلم. (4) بضم أوله وفتح الباقي- ابن رؤبة بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الباء في اخره تاء ملك أيلة في القاموس. (5) قرية في جنوب الشام (المؤلف) . (6) مدينة تلقاء السراة (المؤلف) .

كتاب أهل أذرح وجرباء

معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحوز ماله دون نفسه، وإنه لطيبة لمن أخذه من الناس وإنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. كتاب أهل أذرح وجرباء وكتب لأهل أذرح وجرباء كتابا صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمّد النبي لأهل أذرح وجرباء، إنهم امنون بأمان الله وأمان محمّد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإحسان للمسلمين» وصالح أهل ميناء على ربع ثمارهم. ثم إنّ الرسول استشار أصحابه في مجاوزة تبوك إلى ما هو أبعد منها من ديار الشام، فقال له عمر: إن كنت أمرت بالسير فسرّ. فقال عليه الصلاة والسلام: لو كنت أمرت بالسير لم أستشر، فقال: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بالشام أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرا، فتبع عليه الصلاة والسلام مشورته، وأمر بالقفول فرجع الجيش إلى المدينة. مسجد الضّرار ولمّا كان على مقربة منها «1» بلغه خبر مسجد الضّرار وهو مسجد أسسه جماعة من المنافقين «2» معارضة لمسجد قباء، ليفرقوا جماعة المسلمين. وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه أن يصلّي لهم فيه، فسألهم عن سبب بنائه، فحلفوا بالله إن أردنا إلّا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون، فأمر عليه الصلاة والسلام جماعة من أصحابه «3» لينطلقوا إليه ويهدموه ففعلوا. هذا ولمّا استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة جاءه جماعات من الذين تخلّفوا يعتذرون كذبا. فقبل منهم عليه الصلاة والسلام علانيتهم، ووكل ضمائرهم إلى الله واستغفر لهم.

_ (1) أي من المدينة بذي أوان، بينها وبين المدينة ساعة. وبلغه خبره من السماء. (2) قال السهيلي ذكر منهم جارية بن عامر وابنه مجمّع بن جارية وخذام بن خالد وثعلبه بن حاطب، ومعتّب ابن قشير وبنتل بن الحارث. (3) وهما مالك بن الدخشم ومعن بن عدي.

حديث الثلاثة الذين خلفوا

حديث الثلاثة الذين خلّفوا وجاءه كعب بن مالك الخزرجي، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة الأوسيان مقرّين بذنوبهم، فلمّا دخل عليه كعب تبسّم تبسّم الغضب، وقال: ما خلّفك؟ فقال: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أوتيت جدلا «1» ، ولكني والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخط عليّ فيه، ولئن حدّثتك حديث صدق تغضب عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر. فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك. وقال صاحباه مثل قوله، فقال لهما عليه الصلاة والسلام كما قال لكعب، ونهى المسلمين عن كلامهم، فاجتنبهم الناس، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، واستأذنت زوج هلال بن أمية في خدمة زوجها لأنه شيخ ضائع ليس له خادم فأذن لها، ولم يزالوا كذلك حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا ألا ملجأ من الله إلّا إليه، ثم تاب عليهم، فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام من يبشّرهم بهذه النّعمة الكبرى، فتلقاهم الناس أفواجا أفواجا يهنئونهم بتوبة الله. فلمّا دخل كعب المسجد تلقاه رسول الله مسرورا، فقال: أبشر يا كعب بخير يوم يمرّ عليك منذ ولدتك أمك، فقال: من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله. فقال كعب: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. ثم قرأ عليه الصلاة والسلام الايات التي فيها توبته هو وصاحباه في سورة براءة وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «2» . وفود ثقيف وعقب مقدمه عليه الصلاة والسلام من تبوك وفد عليه وفد ثقيف، وكان من خبرهم أنه لمّا انصرف رسول الله من محاصرتهم تبع أثره عروة بن مسعود الثقفي

_ (1) أي فصاحة وقوة كلام. (2) اية 118. وقصة توبة كعب مذكورة في الصحيحين.

كتاب أهل الطائف

حتى أدركه قبل أن يصل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى الإسلام، فقال له: إنهم قاتلوك، فقال: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم، فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لمرتبته فيهم، لأنه كان فيهم محببا مطاعا، فلمّا جاء الطائف وأظهر لهم ما جاء به رموه بالنبل فقتلوه، وبعد شهر من مقتله ائتمروا فيما بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فأجمعوا أمرهم على أن يرسلوا لرسول الله رجلا منهم يكلّمه، وطلبوا من عبد ياليل بن عمرو أن يكون ذلك الرجل فأبى، وقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا، فبعثوا معه خمسة من أشرافهم «1» فخرجوا متوجهين إلى المدينة، ولما قابلوا رسول الله ضرب لهم قبة في ناحية المسجد ليسمعوا القران ويروا الناس إذا صلّوا. وكانوا يغدون إلى رسول الله كل يوم ويخلّفون في رحالهم أصغرهم سنّا عثمان بن أبي العاص «2» فكان إذا رجعوا ذهب للنّبيّ واستقرأه القران، وإذا راه نائما استقرأ أبا بكر حتى حفظ شيئا من القران، وهو يكتم ذلك عن أصحابه، ثم أسلم القوم، وطلبوا أن يعيّن لهم من يؤمّهم، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص لما راه من حرصه على الإسلام وقراءة القران وتعلّم الدين. كتاب أهل الطائف ثم كتب لهم كتابا من جملته: «بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد النبي رسول الله إلى المؤمنين إن عضاه وجّ «3» وصيده حرام، لا يعضد شجره ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه» ثم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يؤجّل هدم صنمهم شهرا حتى يدخل الإسلام في قلوب القوم ولا يرتاع السفهاء من النساء من هدمه، فرضى عليه الصلاة والسلام، ولمّا خرجوا من عنده قال لهم رئيسهم: أنا أعلمكم بثقيف اكتموا عنهم إسلامكم خوّفوهم الحرب والقتال، وأخبروهم أن محمّدا طلب أمورا عظيمة أبيناها عليه، سألنا أن نهدم الطاغية، وأن نترك الزنا،

_ (1) عبد ياليل الحكم بن عمرو وشرحبيل بن غيلان وعثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف وغير بن قرشه ابن ربيعة. (2) ذكره البلاذري في الأنساب وقال: قتل أبوه يوم بدر كافرا، وأقره أبو بكر وعمر ثم استعمله عمر على عمان والبحرين، ثم سكن البصرة حتى مات فيها في خلافة معاوية سنة 55 هـ. (3) عضاه كل شجر له شوك، ووجّ: بلد الطائف، قال السهيلي: حرم عضاهه وشجره على غير أهله كتحريم المدينة ومكة.

هدم اللات

وشرب الخمر والرّبا، فلمّا حلّوا بلادهم جاءتهم ثقيف، فقال الوفد: جئنا رجلا فظا غليظا قد ظهر بالسيف، ودان النّاس له فعرض علينا أمورا شديدة، وذكروا ما تقدم. فقالوا: والله لا نطيعه أبدا، فقالوا لهم: أصلحوا سلاحكم، ورمّوا حصونكم، واستعدوا للقتال، فأجابوا، واستمروا على ذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم، فقالوا: والله مالنا بحربه من طاقة ارجعوا إليه وأعطوه ما سأل، فقال الوفد: قد قاضيناه وأسلمنا، فقالوا: لم كتمتم علينا ذلك؟ قالوا: حتى تذهب عنكم نخوة الشيطان فأسلموا. هدم اللّات ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم اسلام ثقيف أرسل أبا سفيان والمغيرة بن شعبة الثقفي لهدم اللات صنم ثقيف بالطائف، فتوجّهوا وهدموه حتى سوّوه بالأرض. حج أبي بكر وفي أخريات ذي القعدة أرسل عليه الصلاة والسلام أبا بكر ليحجّ بالناس فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة ومعه الهدي عشرون بدنة أهداها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وساق أبو بكر خمس بدنات، ولمّا سافر نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوائل سورة براءة، فأرسل بها عليا ليبلغها الناس في يوم الحج الأكبر، وقال: لا يبلغ عني إلّا رجل منّي، فلحق أبا بكر في الطريق، فقال الصّدّيق: هل استعملك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحج؟ قال: لا ولكن بعثني أقرأ أو أتلو براءة على الناس. فلمّا اجتمعوا بمنى يوم النحر قرأ عليهم عليّ ثلاث عشرة اية من أول سورة براءة «1» تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين لم يوّفوا عهودهم، وإمهالها أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض كيف شاؤوا، وإتمام عهد المشركين الذين لم يظاهروا على المسلمين، ولم يغدروا بهم إلى مدتهم، ثم نادى: لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان «2» ، وكان عليّ يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر رضي الله عنهما.

_ (1) سورة براءة هي التوبة. (2) رواه الشيخان كما روى الترمذي وحسنه وأحمد من حديث أنس قال: (بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم براءة أبي بكر، ثم دعا عليا فأعطاه إياها وقال لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلا رجل من أهل بيتي) .

وفاة ابن أبي

وفاة ابن أبي وفي ذي القعدة مات عبد الله بن أبي، وقد صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة لم يطل مثلها، وشيّع جنازته حتى وقف على قبره، وإنما فعل ذلك تطييبا لقلب ولده عبد الله بن عبد الله، وتأليفا لقلوب الخزرج، لمكانة عبد الله بن أبي فيهم، وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين «1» بعد هذا اليوم، لما رأوه من أعمال السيد الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وقد نهى الله رسوله عن الصلاة على المنافقين، فقال جلّ شأنه في سورة براءة: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ «2» . وفاة أم كلثوم وفي هذه السنة توفيت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وزوج عثمان رضي الله عنهما.

_ (1) أسلم منهم يومئذ ألف. (2) اية 84. ليس في القران نهي عن الصلاة على المنافقين قبل نزول اية (ولا تصل) والظاهر أن عمر فهم ذلك من قوله سبحانه (استغفر لهم) . أو من قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) صحيح البخاري- سورة التوبة- باب ولا تصل.

السنة العاشرة

السنة العاشرة سرية «1» في ربيع الاخر أرسل عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد في جمع لبني عبد المدان بنجران من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاث مرّات فإن أبوا قاتلهم، فلمّا قدم إليهم بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام ويقولون: أسلموا تسلموا، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجا، فأقام خالد بينهم يعلمهم الإسلام والقران، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل. وحين اجتمعوا به صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: صدقتم، وأمّر عليهم زيد بن الحصين «2» . سرية «3» وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام عليا في جمع إلى بني مذحج قبيلة يمانية وعمّمه بيده وقال: سر حتى تنزل بساحتهم، فادعهم إلى قول: لا إله إلّا الله، فإن قالوا: نعم فمرهم بالصلاة، ولا تبغ منهم غير ذلك، ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس «4» ، ولا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فلمّا انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، ورموا المسلمين بالنبل فصفّ علي، أصحابه، وأمرهم بالقتال، فقاتلوا حتى هزموا عدوهم فكفّ عن طلبهم، ثم لحقهم ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا، وبايعه رؤساؤهم وقالوا: نحن

_ (1) هي سرية خالد بن الوليد إلى نجران. (2) المازني وهو من بني مذحج. (3) هي سرية على بن أبي طالب إلى بني مذحج. (4) رواه الطبراني عن أبي رافع ورواه الشيخان وأبو داود خير لك من حمر النعم عوضا عن خير لك مما طلعت عليه الشمس.

بعث العمال إلى اليمن

على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوافاه بمكّة في حجة الوداع. بعث العمال إلى اليمن ثم بعث عليه الصلاة والسلام إلى اليمن عمالا من قبله، فبعث معاذ بن جبل على الكورة العليا من جهة عدن «1» ، وبعث أبا موسى الأشعري على الكورة السفلى، ووصّاهما صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفرا» «2» وقال لمعاذ: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألاإله إلّا الله وأن محمّدا رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإيّاك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» «3» وقد مكث معاذ باليمن حتى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أما أبو موسى فقدم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع. حجة الوداع وفي السنة العاشرة حجّ صلّى الله عليه وسلّم بالناس حجة ودّع فيها المسلمين، ولم يحجّ غيرها. وخرج يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة. وولّى على المدينة أبا دجانة الأنصاري، وكان مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم جمع عظيم يبلغ تسعين ألفا، وأحرم للحجّ حيث انبعثت به راحلته ثم لبّى، فقال: «لبّيك اللهمّ لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» «4» . ولم يزل صلّى الله عليه وسلّم سائرا حتى دخل مكّة ضحى من الثنية العليا وهي ثنية كداء. ولما رأى البيت قال: اللهمّ زده تشريفا وتعظيما ومهابة وبرّا، ثم طاف بالبيت سبعا واستلم الحجر الأسود، وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم شرب من ماء زمزم، ثم سعى بين الصفا والمروة

_ (1) جبل بمعلاة مكة (المؤلف) . (2) قطعة من حديث رواه البخاري عندما بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبا موسى ومعاذ إلى اليمن. (3) رواه البخاري وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة. (4) رواه الشيخان.

خطبة الوداع

سبعا راكبا على راحلته، وكان إذا صعد الصفا: يقول: «لا إله إلّا الله، الله أكبر، لا إله إلّا الله واحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب واحده» «1» وفي الثامن من ذي الحجة توجّه إلى منى فبات بها. خطبة الوداع وفي التاسع منه توجّه إلى عرفة، وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيّن فيها الدّين كله أسه وفرعه وهاك نصّها: الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستعفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلّا الله واحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله: أوصيكم عبّاد الله بتقوى الله وأحثّكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس اسمعوا منّي أبيّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها. إنّ ربا الجاهلية موضوع «2» ، وإنّ أول ربا أبدأ ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإنّ دماء الجاهلية موضوعة وأوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث «3» ، وإنّ ماثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس: إن النسيء «4» زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما،

_ (1) رواه مسلم في الحج باب حجة النبي. (2) أي باطل. (3) كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. (4) كانت العرب تحرم أربعة أشهر ثلاثة متواليات وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وشهر رجب، وكانوا ربما استطالوا هذه الأشهر المتوالية لحاجتهم إلى الحرب والقتال، فأحلوا المحرم، وحرموا صفرا من العام المقبل، فهذا هو الذي عابه القران عليهم لأتباعهم الهوى في عقيدتهم. (المؤلف) .

ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد. أيها الناس: إنّ لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهنّ حق ألايوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلّا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنّ الله أذن لكم أن تعضلوهنّ «1» وتهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان «2» ، لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد «3» . أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة ولا يحلّ لامرىء مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعنّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض «4» فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده كتاب الله. ألا هل بلّغت؟ اللهم أشهد. أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لادم وادم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلّا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس: إنّ الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصيته في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر «5» ، من ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم

_ (1) العضل: هو الحبس والتضييق. (المؤلف) . (2) جمع عانية وهي الأسيرة. (3) رواه مسلم باختصار وكذلك أبو داود ورواه النسائي مختصرا وللبخاري والترمذي بعضه. (4) صحيح البخاري- كتاب الحج- باب خطبة أيام منى. (5) أي الولد للزوج صاحب الفراش، أما الزاني فلا حق له في النسب، ولا حظّ له في الولد، وإنما له الرجم بالحجر إن كان محصنا حتى يموت.

الوفود

ورحمة الله» » وفي هذا اليوم أمتنّ الله على المؤمنين بقوله في سورة المائدة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» فلا غرابة أن اتخذه المسلمون عيدا ويوما سعيدا يظهرون فيه شكر الله على هذه النعمة الكبرى. ثم إنه عليه الصلاة والسلام أدّى مناسك الحجّ من رمي الجمار والنحر والحلق والطواف، وبعد أن أقام بمكّة عشرة أيام قفل إلى المدينة، ولما راها كبّر ثلاثا وقال: لا إله إلّا الله واحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ايبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب واحده «3» . الوفود في هذه السنة والتي قبلها كان وفود العرب إلى رسول الله ليبايعوه على الإسلام وكانوا يقدمون أفواجا، ولما في أخبار هذه الوفود من التعاليم الحميدة التي يحتاج ذو الأدب أن يعرفها رأينا أن نذكر لك منها ما يزيدك يقينا وينير بصيرتك فنقول: وفود نجران «4» ومن الوفود وفد نصارى نجران، وكانوا ستين راكبا، دخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرة، وأردية الحرير، مختمين بالذهب، ومعهم بسط فيها تماثيل ومسوح «5» جاؤوا بها هدية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يقبل البسط، وقبل المسوح. ولما جاء وقت صلاتهم صلوا في المسجد مستقبلين بيت المقدس، ولمّا أتموا صلاتهم دعاهم عليه الصلاة والسلام للإسلام، فأبوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، فقال عليه الصلاة والسلام: يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أنّ لله ولدا، قالو: فمن مثل عيسى خلق من غير أب؟ فأنزل الله في ذلك سورة ال عمران: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَ

_ (1) السيرة لابن هشام ج 4 ص 306، صحيح مسلم بشرح النووي ج 8 ص 182- 184 والبدآية والنهاية، ج 5 ص 170- 171. (2) آية 3. (3) رواه البخاري. (4) بفتح النون: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، وحوله قرى كثيرة. (5) هو ثوب من الشعر غليظ.

وفود ضمام بن ثعلبة

قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» وليظهر الله لهم أنهم في شك من أمرهم أنزل فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «2» . فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم لذلك فامتنعوا ورضوا بإعطاء الجزية وهي ألف حلّة في صفر وألف حلّة في رجب مع كل حلة أوقية من ذهب ثم قالوا: أرسل معنا أمينا فأرسل لهم أبا عبيدة عامر بن الجراح وكان لذلك يسمى أمين هذه الأمة «3» . وفود ضمام بن ثعلبة ومن الوفود ضمام بن ثعلبة «4» ، بينا رسول الله بين أصحابه متكئا جاء رجل من أهل البادية ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، فأناخ جمله في المسجد ثم قال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فدلّوه عليه فدنا منه وقال: إني سائلك فمشدّد عليك المسألة فلا تجد «5» عليّ في نفسك. فقال: سل ما بدا لك، فقال: أنشدك بالله: الله أرسلك إلى الناس كلّهم؟ فقال: نعم، فقال أنشدك بالله: الله أمرك أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، فقال أنشدك بالله: الله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فتردّه على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم، قال أنشدك بالله: الله أمرك أن نصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا؟ قال: اللهم نعم، قال أنشدك بالله: الله أمرك أن نحجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: اللهم نعم، قال: فإني قد امنت وصدقت وأنا ضمام بن ثعلبة «6» . ولمّا ولّى قال عليه الصلاة والسلام: فقه الرجل: ثم ذهب ضمام إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام وترك عبادة الأوثان فأسلموا كلهم. وفود عبد القيس ومن الوفود عبد القيس، وكان من خبرهم أن الرسول كان جالسا بين

_ (1) اية 59. (2) سورة ال عمران اية 61. (3) لفظ مسلم (هذا أمين هذه الأمة) . (4) السعدي من بني سعد بن بكر، وذكر ابن هشام أن قدومه كان سنة تسع. (5) أي لا تغضب. (المؤلف) . (6) رواه البخاري وابن ماجه.

أصحابه يوما، فقال لهم: سيطلع عليكم من هنا ركب هم خير أهل المشرق، لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا «1» الركائب وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس «2» فلمّا أتوا ورأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم رموا بأنفسهم عن الركائب بباب المسجد، وتبادروا إلى رسول الله يسلمون عليه، وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج، وكان أصغرهم سنّا فتخلّف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع، وأخرج ثوبين أبيضين فلبسهما، ثم جاء يمشي هونا حتى سلّم على رسول الله، وكان رجلا دميما ففطن لنظر الرسول إلى دمامته، فقال يا رسول الله: إنه لا يستقى في مسوك جلود الرجال «3» ، وإنما الرجل بأصغريه قلبه ولسانه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنّ فيك خلتين يحبّهما الله ورسوله: الحلم والأناة «4» . وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لهذا الوفد: مرحبا بالقوم غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله إنّا نأتيك من شقّة بعيدة «5» وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحيّ من كفار مضر، وإنّا لا نصل إليك إلّا في شهر حرام فمرنا بأمر فصل، فقال: امركم بالإيمان بالله. أتدرون ما الإيمان بالله. شهادة ألاإله إلّا الله وأن محمّدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن الدّباء «6» والحنتم «7» والنقير «8» والمزفت «9» والمراد بذلك ما ينبذ في هذه الأواني. فقال الأشج: يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة «10» وإنّا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فرخص لنا في مثل هذه وأشار إلى يده، فأومأ عليه الصلاة والسلام بكفيه وقال: يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه- وفرج بين يديه وبسطها- حتى إذا ثمل أحدكم

_ (1) أهزلوا. (2) رواه الطبراني ورواه ابن سعد والطبراني بلفظ (اللهم أغفر لعبد القيس إذا أسلموا طائعين غير مكرهين إذ بعض قوم لم يسلموا إلا خزايا موتورين) . (3) أي لا يشرب في جلودهم. (4) رواه مسلم والترمذي. (5) لأن ديارهم كانت بساحل الخليج الفارسي وهي ديار ربيعة، وبينهم وبين الحجاز أرض نجد. (المؤلف) . (6) القرع. (المؤلف) . (7) هو جرار مدهونة بدهان أخضر. (المؤلف) . (8) هو أصل النخلة ينقر. (المؤلف) . (9) ما طلي بالزفت. (المؤلف) . والحديث أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه. (10) أي رديئه.

وفود بني حنيفة

من شرابه قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف «1» . وإنما خصّ عليه الصلاة والسلام نهيهم بما ذكر لكثرة الأشربة بينهم. وفود بني حنيفة ومن الوفود بنو حنيفة، وكان معهم مسيلمة الكذاب، وكان مسيلمة يقول: إن جعل لي الأمر من بعده اتّبعته، فأقبل عليه الصلاة والسلام ومعه ثابت بن قيس بن شمّاس وفي يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، وإني لأراك الذي منه رأيت. وكان عليه الصلاة والسلام قد رأى في منامه أن في يده سوارين من ذهب، فأهمّه شأنهما، فأوحى الله إليه أن أنفخهما فنفخهما فطارا، فأوّلهما صلّى الله عليه وسلّم كذابين يخرجان من بعده «2» ، فكان مسيلمة أحدهما، والثاني الأسود العنسي صاحب صنعاء. وقد أسلم بنو حنيفة. وفود طيء ومن الوفود وفد طيء وفيهم زيد الخيل «3» رئيسهم، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في حقه: ما ذكر لي رجل من العرب إلّا رأيته دون ما قيل فيه إلّا زيد الخيل، وسمّاه صلّى الله عليه وسلّم زيد الخير. وفود كندة ومنهم وفد كندة وفيهم الأشعث بن قيس «4» وكان وجيها مطاعا في قومه. ولما دخلوا على رسول الله خبؤوا له شيئا، وقالوا: أخبرنا عما خبأناه لك؟ فقال: سبحان الله إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإنّ الكاهن والمتكهن في النار. ثم قال: إن

_ (1) رواه أحمد ومضى ثمل: سكر، وأحذقيه الشراب. (2) رواه البخاري. (3) هو زيد بن مهلهل كان شاعرا خطيبا شجاعا كريما يكنى أبا مكنف، وكان من أجمل الناس. قال أبو عمر مات زيد الخيل منصرفه من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأقام بقرددة ثلاثة أيام ومات ويقول البكري: وإنما سمي زيد الخيل لكثرة خيله. (4) يكنى أبا محمد وكان الأشعث، قد ارتدّ فيمن ارتد من الكنديين وأسر، فأحضر إلى أبي بكر فأسلم فأطلقه، وزوجه أخته أم فروة، ثم شهد الأشعث اليرموك بالشام والقادسية وغيرهما، وسكن الكوفة، وشهد مع علي صفين، مات بعد علي بأربعين يوما وصلّى عليه الحسن بن علي.

وفود أزدشنوءة

الله بعثني بالحق وأنزل عليّ كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقالوا: أسمعنا منه، فتلا عليه الصلاة والسلام وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ «1» ثم سكت وسكن ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنّا نراك تبكي؟ أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ قال: إن خشيتي منه أبكتني. بعثني على صراط مستقيم في مثل حدّ السيف إن زغت عنه هلكت. ثم تلا وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا «2» ثم قال لهم عليه الصلاة والسلام: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى، قال: ما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ فعند ذلك شقوه وألقوه. وفود أزدشنوءة «3» ومنهم وفد أزدشنوءة ورئيسهم صرد بن عبد الله الأزدي، فأسلموا وأمّره عليهم، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك. وفود رسول ملوك حمير ومنهم وفد رسول ملوك حمير وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين «4» ومعافر وهمدان وكانوا قد أسلموا، وأرسلوا رسولهم بذلك فكتب إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. كتاب ملوك حمير «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان. أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو، أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم «5» فلقيناه بالمدينة فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين،

_ (1) سورة الصافات اية 1- 5 (2) سورة الإسراء اية 86. (3) شنوءة: قبيلة، سميت لشنان بينهم، والشنان: البغض (4) القيل واحد الأقيال، وهم الملوك الذين دون الملك الأكبر. (5) أي عند رجوعه من غزوة تبوك.

وفود همدان

وأنّ الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، واتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم خمس الله، وسهم النبي وصفيّه «1» وما كتب على المؤمنين من الصدقة. أما بعد: فإن محمّدا النبي أرسل إلى زرعة بن ذي يزن «2» إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرّة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلّا راضيا، أما بعد: فإن محمّدا يشهد ألاإله إلّا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرّة الرّهاوي قد حدّثني أنك أسلمت من أوّل حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير وامرك بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول الله هو مولى غنيّكم وفقيركم، وإنّ الصدقة لا تحلّ لمحمّد ولا لأهل بيته، إنما هي زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكا قد بلّغ الخبر، وحفظ الغيب، وامركم به خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» . وفود همدان ومنها وفد همدان وفيهم مالك بن نمط، وكان شاعرا مجيدا، فلقوا رسول الله مرجعه من تبوك عليهم مقطّعات من الحبرات» اليمنية، والعمائم العدنية، وقد أنشد مالك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حلفت بربّ الرّاقصات إلى منى ... صوادر بالرّكبان من هضب قردد «4» بأنّ رسول الله فينا مصدّق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشدّ على أعدائه من محمّد وقد أمّره صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وقد قال الرسول في حق همدان: نعم الحيّ همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد وفيهم أبدال وفيهم أوتاد.

_ (1) الصفي ما يصطفيه الرئيس من الغنيمة لنفسه من الغنائم قبل أن تقسم المغانم. (2) أسلم وامن ولم ير النبي. (3) ثياب مخططة، والحبرات: برود يمنيه. (4) الراقصات الإيل، والرقص والرقصان: ضرب من السير فيه حركة، وصوادر: رواجع والهضب: جمع هضبة، وهي الجبل المنبسط الممتد على وجه الأرض، والقردد: ما ارتفع من الأرض.

وفود تجيب

وفود تجيب «1» ومنها وفد تجيب قبيلة من كندة وفد على رسول الله ثلاثة عشر رجلا منهم، ومعهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسرّ بهم عليه الصلاة والسلام وأكرم مثواهم، وقالوا: يا رسول الله إنا سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال عليه الصلاة والسلام: «ردوها فاقسموها على فقرائكم» فقالوا يا رسول الله: ما قدمنا عليك إلّا بما فضل عن فقرائنا، قال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب مثل هذا. فقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الهدى بيد الله، فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان، وجعلوا يسألونه عن القران، فازداد صلّى الله عليه وسلّم رغبة فيهم، ثم أرادوا الرجوع إلى أهليهم فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤية رسول الله ولقائنا إيّاه وما ردّ علينا، ثم جاؤوا إلى رسول الله فودّعوه، فأجازهم بأفضل ما كان يجيز به الوفود، ثم قال لهم: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلّفناه في رحالنا وهو أحدثنا سنا، قال: فأرسلوه إلينا فأرسلوه، فأقبل الغلام، وقال: يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك انفا فقضيت حاجتهم فاقض حاجتي: قال: وما حاجتك؟ قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي. فقال عليه الصلاة والسلام: اللهمّ اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه «2» ، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه. وفود ثعلبة ومنها وفد ثعلبة وفد على رسول الله أربعة منهم مقرّين بالإسلام فسلّموا عليه وقالوا: يا رسول الله إنا رسل من خلفنا من قومنا ونحن مقرّون بالإسلام، وقد قيل لنا: إنك تقول لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال عليه الصلاة والسلام: «حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضرّكم» ، ثم قال لهم: كيف بلادهم؟ فقالوا مخصبون، فقال: الحمد لله. ثم أقاموا في ضيافته أياما. وحين إرادتهم الإنصراف أجاز كل واحد منهم بخمس أواق من فضة «3» .

_ (1) ضم أوله وفتحه. (2) رواه الديلمي. (3) رواه ابن سعد في الطبقات وابن كثير في السيرة النبوية.

وفود بني سعد بن هذيم

وفود بني سعد بن هذيم «1» ومنها وفد بني سعد بن هذيم من قضاعة، قال النعمان منهم: قدمت على رسول الله وافدا في نفر من قومي: وقد أوطأ رسول الله البلاد، وأزاح العرب «2» . والناس صنفان إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف السيف. فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤمّ «3» المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فوجدنا رسول الله يصلي على جنازة في المسجد، فقمنا خلفه ناحية، ولم ندخل مع الناس في صلاتهم، وقلنا حتى يصلي رسول الله ونبايعه. ثم انصرف رسول الله فنظر إلينا فدعا بنا، فقال: ممّن أنتم؟ فقلنا: من بني سعد بن هذيم، فقال: أمسلمون أنتم؟ قلنا هلّا نعم، فقال: هلا صلّيتم على أخيكم؟ قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز حتى نبايعك، فقال عليه الصلاة والسلام: أينما أسلمتم، فأنتم مسلمون. قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله بأيدينا، ثم انصرفنا إلى رحالنا، وقد كنا خلّفنا أصغرنا، فبعث عليه الصلاة والسلام في طلبنا، فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا، فبايعه صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله إنه أصغرنا وأنه خادمنا فقال: سيد القوم خادمهم «4» بارك الله عليه. قال النعمان: فكان خيرنا وأقرأنا للقران لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له. ثم أجازهم وانصرفوا «5» . وفود بني فزارة ومنها وفد بني فزارة وفد على رسول الله جماعة منهم مقرّين بالإسلام وهم مسنتون «6» فسألهم عليه الصلاة والسلام عن بلادهم، فقال رجل منهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا «7» ، وجاعت عيالنا، فادع لنا ربك يغثنا، وأشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك، فقال عليه الصلاة

_ (1) بضم الهاء وفتح الذال. (2) أوطأ: أي جعلها مواطاة قهرا وغلبة، وأزاح العرب: أي استولى عليها. (3) نقصد. (4) رواه أبو عبد الرحمن السلمي في اداب الصحبة. فالحديث ضعيف على أنه قد يقال حسن لغيره لتعدد طرقه. (5) رواها ابن سعد في الطبقات مختصرة وذكرها بتمامها ابن سيد الناس في عيون الأثر. (6) مجدبون. (7) أي ما حول بيوتنا.

وفود بني أسد

والسلام: سبحان الله، ويلك هذا، أنا أشفع إلى ربي فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه! لا إله إلّا هو العلي العظيم وسع كرسيّه السموات والأرض فهي تئط «1» من عظمته وجلاله كما يئط الرّحل الحديث «2» ، أي ثقل الحمل. ثم صعد عليه الصلاة والسلام المنبر، ودعا الله عزّ وجلّ حتى أغاث بلاد هذا الوفد بالمطر الغزير والرحمة التامة. وفود بني أسد ومنها وفد بني أسد، وفيهم: ضرار بن الأزور وطليحة بن عبد الله «3» الذي ادّعى النبوّة بعد ذلك، فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله أتيناك نتدرّع الليل البهيم في سنة شهباء «4» ولم تبعث إلينا بعثا، فأنزل الله في ذلك يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «5» وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما كانوا يفعلون في الجاهلية من العيافة «6» والكهانة «7» وضرب الحصباء، فنهاهم عن ذلك، ثم سألوه عن ضرب الرمل، فقال: علّمه نبي، فمن صادف مثل علمه فذاك وإلّا فلا. ثم أقاموا أياما يتعلمون الفرائض، وبعد ذلك ودّعوا وانصرفوا بعد أن أجيزوا. وفود بني عذرة ومنها وفد بني عذرة ووفد بني بليّ، ووفد بني مرّة، ووفد خولان- وهي قبائل باليمن- وقد أمرهم عليه الصلاة والسلام بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وألايظلموا أحدا فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

_ (1) أي تصوت (المؤلف) . (2) رواه أبو داود قريبا منه. (3) الصواب طليحة بن خويلد. (4) أي بجعل الليل الشديد الظلمة درعا لنا في سنة جدباء. وسنة شهباء: مجدبة ذات قحط. (5) سورة الحجرات اية 17. (6) هي زجر الطير والتخريص على الغيب (المؤلف) . (7) هي الأخبار عن الكائنات. (المؤلف) أي في المستقبل.

وفود بني محارب

وفود بني محارب ومنها وفد بني محارب، وكانوا من الذين ردّوا الردّ القبيح حينما كان رسول الله بعكاظ يدعو القبائل إلى الله، فما أعظم منّة الله الذي أتى بهؤلاء وكانوا ألد الأعداء مسلمين منقادين. وفود غسّان ومنها وفد غسان، ووفد بني عبس، ووفد النّخع. وكان عليه الصلاة والسلام يقابل هذه الوفود بما جبله الله عليه من البشاشة وكرم الأخلاق، ويجيزهم بما يرضيهم، ويعلّمهم الإيمان والشرائع، ليعلّموا من وراءهم، وكانت هذه الوفود أعظم وصلة لإظهار الدّين بين الأعراب في البوادي. وفاة إبراهيم بن النّبي عليه السلام «1» وفي هذه السنة توفّى إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) هو ابن ستة عشر شهرا وكان حزنه عليه صلّى الله عليه وسلّم شديدا، وقد رحل عنه وهو يجود بنفسه فصارت عيناه تذرفان بالدموع، وثبت أنه لما توفي إبراهيم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن له مرضعا في الجنة ودفن في البقيع، وصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج البخاري في الجنائز أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ ابراهيم فقبله وشمه، وابراهيم يجود بنفسه، وقال: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا ابراهيم لمحزنون» .

السنة الحادية عشرة

السنة الحادية عشرة سرية «1» لأربع بقين من صفر جهّز عليه الصلاة والسلام جيشا برياسة أسامة بن زيد إلى أبني «2» حيث قتل زيد بن حارثة والد أسامة وقال له: «سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، فأغر صباحا على أهل أبنى، وحرّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فأقل اللبث فيهم، وخذ الأدلّاء، وقدم العيون والطلائع معك» . وكان مع أسامة في هذا الجيش كبار المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر «3» وأبو عبيدة وسعد. ثم عقد عليه الصلاة والسلام لأسامة اللواء، وقال له: أغز باسم الله في سبيل الله، وقاتل من كفر بالله. وقد انتقد جماعة على تأمير أسامة وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره على جيش فيه كبار المهاجرين، فأبلغ الرسول هذه المقالة فغضب غضبا شديدا، وخرج فقال: أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله؟! وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها «4» ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ «5» ، وإنهما لمظنة لكل خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم. ولم يتم لهذا الجيش الخروج في عهد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم لأنّ المرض بدأه فاختاره الله

_ (1) هي سرية أسامة بن زيد إلى أهل أبني. (2) محل قريب من مؤتة (المؤلف) . (3) الصحيح أن أبا بكر وعمر لم يكونا في بعث أسامة، بدليل أنهما كانا في المدينة يوم وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في حين كان جيش أسامة خارجها. (4) لجدير. (5) رواه الإمام مالك ورواه الشيخان عن أن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام صلّى الله عليه وسلّم، فقال «إن تطعنوا في امارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان خليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده» .

مرض الرسول صلى الله عليه وسلم

للرفيق الأعلى. وسيرى القارىء إن شاء الله خروج هذا الجيش متمما في كتابنا إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء. مرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما تمم عليه الصلاة والسلام ما كلّف به، وأدى ما اؤتمن عليه، وهدى الله به أمته اختاره الله للرفيق الأعلى، فجلس على المنبر مرّة، وكان فيما قال: «إن عبدا من عباد الله قد خيّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» «1» فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله فديناك بابائنا وأمهاتنا، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذا خليلا لا تّخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام. لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدّت إلّا خوخة أبي بكر» «2» . وقد بدأه عليه الصلاة والسلام مرضه في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة من الهجرة في بيت ميمونة، واستمرّ مريضا ثلاثة عشر يوما كان في خلالها ينتقل إلى بيوت أزواجه، ولما اشتدّ عليه المرض استأذن منهن أن يمرض في بيت عائشة الصديقية فأذن له، ولما دخل بيتها واشتدّ عليه وجعه قال: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأجلس في مخضب «3» وصب عليه الماء حتى أشار بيده أن قد فعلتن «4» ، وكان هذا الماء لتخفيف حرارة الحمى التي كانت تصيب من يضع يده فوق ثوبه. صلاة أبي بكر بالناس ولمّا تعذر عليه الخروج إلى الصلاة قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس «5» فرضيه عليه الصلاة والسلام خليفة له في حياته. ولما رأت الأنصار اشتداد وجع الرسول طافوا بالمسجد، فدخل العباس، وأعلمه بمكانهم واشفاقهم، فخرج صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) رواه البيهقي. (2) رواه مسلم في صحيحه. وحديث (لو كنت متخذا ... ) رواه البخاري، والخوخة هي كورة تؤدي إلى البيت، ومخترقه بين دارين، يعني الباب الصغير. (3) وعاء كبير يغتسل فيه (4) رواه البخاري. أوكيتهن: الأوكية: جمع وكاء والوكاء خيط تشد به القربة. (5) رواه البخاري.

متوكئا على عليّ والفضل «1» ، وتقدّم العباس أمامهم والنّبيّ معصوب الرأس يخطّ برجليه، حتى جلس في أسفل مرقاة المنبر، وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلّد نبي قبلي فيمن بعث الله فأخلّد فيكم؟، ألا إني لاحق بربي وأنكم لاحقون بي فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ «2» وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عزّ وجلّ لا يعجّل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم من الثمار؟ ألم يوسّعوا لكم في الدّيار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولّي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط «4» لكم، وأنتم لا حقون بي، ألا فإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي» . وبينما المسلمون في صلاة الفجر من يوم الإثنين ثالث عشر ربيع الأول وأبو بكر يصلي بهم إذا برسول صلّى الله عليه وسلّم قد كشف سجف «5» حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسّم يضحك، فنكص أبو بكر رضي الله عنه على عقبه ليصل الصّف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله، فأشار إليهم بيده أن أتمّوا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «6» .

_ (1) كان أكبر الإخوة وبه كان يكنى أبوه وأمه، كان أسن ولد العباس، وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مكّة وحنينا وثبت معه يومئذ، وشهد معه حجة الوداع، وكان يكنى أبا العباس مات في طاعون عمواس. (2) سورة العصر. (3) سورة محمد اية 22. (4) بفتحتين الذي يتقدم إلى الورد لإصلاح الحوض والدلاء. (5) السترة. (6) رواه الشيخان.

وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دنياه ولحق بمولاه، وكان ذلك في يوم الإثنين 13 ربيع أول سنة 11، (8 يونيو سنة 633) فيكون عمره عليه الصلاة والسلام 63 سنة قمرية كاملة، وثلاثة أيام، وإحدى وستين شمسية، وأربعة وثمانين يوما، وكان أبو بكر غائبا بالسّنح وهي منازل بني الحارث بن الخزرج عند زوجه حبيبة بنت خارجة بن زيد-، فسلّ عمر سيفه، وتوعد من يقول مات رسول الله، وقال: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطّع أيدي رجال وأرجلهم، فلمّا أقبل أبو بكر، وأخبر الخبر دخل بيت عائشة، وكشف عن وجه رسول الله، فجثا يقبّله، ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيّا وميتا: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين «1» ، ثم خرج فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ألا من كان يعبد محمّدا، فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت» وتلا قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وقوله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «3» قال عمر: فكأني لم أتل هذه الاية قطّ «4» ، ثم مكث عليه الصلاة والسلام في بيته بقية يوم الاثنين، وليلة الثلاثاء ويومه، وليلة الأربعاء حتى انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم، فغسّل ودفن، وكان الذي يغسله عليّ بن أبي طالب، ويساعده العباس وابناه الفضل وقثم «5» وأسامة بن زيد وشقران «6» مولى رسول الله، وكفّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، ولا عمامة. ولمّا فرغوا من تجهيزه وضع على سريره في بيته، ودخل الناس عليه أرسالا- أي جماعات- متتابعين يصلّون عليه، ولم يؤمّهم أحد. ثم حفر له لحد في حجرة عائشة حيث توفّي، وأنزله القبر عليّ والعباس

_ (1) رواه البخاري ونتمته الحديث أبدا أي في الدنيا بل هي واحدة. (2) سورة الزمر الاية 30. (3) سورة ال عمران الاية 144 (4) رواه البخاري (5) قال ابن حبان: خرج مع سعد وعثمان بن عفان إلى سمرقند فاستشهد هناك. (6) تقدم ترجمته سابقا.

شمائله عليه السلام

وولداه الفضل وقثم، ورشّ قبره بلال بالماء، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر. توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وترك للمسلمين ما أن اتبعوه لم يضرّهم شيء: كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وترك أصحابه البررة الكرام يوضّحون الدين، ويتمّمون فتح البلاد، ويظهرون في الدنيا شمس الدين الإسلامي القويم حتى يتمّ الله كلمته، ويحقّ وعده، وقد فعل، فنسأل الله أن يقدّرنا على أداء شكره على هذه المنة العظمى والنعمة الكبرى. شمائله عليه السلام منح الله سبحانه نبينا صلّى الله عليه وسلّم من كمالات الدنيا والاخرة ما لم يمنحه غيره ممن قبله أو بعده، ولا بدّ أن نأتي لك في هذا الباب «1» بنبذة يسيرة من محاسن صفاته وأحاسن ادابه، لتكون لك نموذجا تسير عليه، حتى تكون على قدم نبيّك صلّى الله عليه وسلّم، فتستحق الحمد في الدنيا والذخر في الاخرى. فاعلم أرشدني الله وإيّاك وهدانا للصراط السوي أنّ خصال الجلال والكمال في البشر نوعان: ضروري دنيوي اقتضته الجبلّة وضرورة الحياة، ومكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله ويقرّب إلى الله زلفى. فأما الضروري فما ليس للمرء فيه اختيار ولا اكتساب مثل ما كان في جبلّته عليه الصلاة والسلام من كمال الخلقة، وجمال الصورة، وقوة العقل، وصحّة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس والأعضاء، واعتدال الحركات وشرف النسب، وعزّة القوم، وكرم الأرض، ويلحق به ما تدعو ضرورة الحياة إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه. أما المكتسبة الاخروية: فسائر الأخلاق العليّة والاداب الشرعية من: الدين، والعلم، والحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والزهد، والتواضع، والعفو، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن الأدب، والمعاشرة وأخواتها، وهي التي يجمعها حسن الخلق. فإذا نظرت- رعاك الله- إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة وفي جبلّة الخلقة، وجدته عليه الصلاة والسلام حائزا لجميعها، محيطا بشتات محاسنها. فأما الصورة وجمالها، وتناسب أعضائه في حسنها، فقد جاءت الاثار الصحيحة

_ (1) جل ما ذكر في الشمائل والمعجزات مختصر من كتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله (المؤلف) .

والمشهورة الكثيرة بذلك. من أنه صلّى الله عليه وسلّم كان أزهر اللون «1» ، أدعج «2» ، أنجل «3» ، أشكل «4» ، أهدب الأشفار «5» ، أبلج «6» ، أزجّ «7» ، أقنى «8» ، أفلج «9» ، مدوّر الوجه، واسع الجبين، كثّ اللحية تملأ صدره، سواء البطن والصدر، عظيم المنكبين «10» ، ضخم العظام، عبل «11» العضدين والذراعين، والأسافل، رحب الكفّين والقدمين، سائل الأطراف «12» ، أنور المتجرّد «13» ، دقيق المسربة «14» ، ربعة القدّ «15» ، ليس بالطويل البائن «16» ، ولا بالقصير المتردّد «17» ، ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طاله صلّى الله عليه وسلّم، رجل الشعر «18» ، إذا افترّ ضاحكا افترّ عن مثل سنا البرق، وعن مثل حبّ الغمام، إذا تكلم رئي كالنّور يخرج من بين ثناياه، أحسن الناس عنقا، ليس بمطهّم «19» ولا مكلثم «20» متماسك البدن، ضرب اللّحم «21» . قال البراء بن عازب: ما رأيت من ذي لمّة2» في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله، كأن

_ (1) نير اللون أو حسنه (المؤلف) . (2) شديد سواد الحدقة مع سعة فيها (المؤلف) . (3) واسع العين مع حسن (المؤلف) . (4) في بياض عينه حمرة (المؤلف) . (5) كثير شعر حروف الأجفان (المؤلف) . (6) مضيء الوجه مشرقه (المؤلف) . (7) دقيق الحاجبين في طول (المؤلف) . (8) مرتفع قصبة الأنف مع أحديداب يسير فيها (المؤلف) . (9) مفرج بين الثنايا والرباعيات (المؤلف) . (10) المنكب مجمع رأس العضد والكتف (المؤلف) . (11) ضخم (المؤلف) . (12) أي طولا متدلا. (13) أي ما جرد عنه الثياب عن جسده يريد: أنه كان مشرق الجسد. (14) المسربة شعر دقيق من الصدر إلى البطن (المؤلف) . (15) المربوع أي لا طويل ولا قصير. (16) مفرط الطول (المؤلف) . (17) المتناهي في القصر (المؤلف) . (18) أي ما بين الجعودة والسبوطة. (19) المطهم البائن الكثير اللحم (المؤلف) . (20) المكلثم صغير الذقن (المؤلف) . أي المستدير الوجه. (21) أي خفيف اللحم. (22) هي ما طال من شعر الرأس في أحد جانبيه.

نظافة جسمه وطيب ريحه ص

الشمس تجري في وجهه، وإذا ضحك يتلألأ في الجدر «1» . وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. وقال علي رضي الله عنه في اخر وصفه له: من راه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله، ولا بعده مثله صلّى الله عليه وسلّم «2» . [نظافة جسمه وطيب ريحه ص] وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد «3» ، فكان قد خصّه الله تعالى في ذلك بخصائص لم توجد في غيره، ثم تمّمها بنظافة الشرع. قال عليه الصلاة والسلام: «بني الدّين على النظافة «4» » . وقال أنس: ما شممت عنبرا قطّ، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسلام مسح خدّه؛ قال: فوجدت ليده بردا وريحا؛ كأنما أخرجها من جؤنة «5» عطار. قال غيره: مسّها بطيب أولم يمسّها، يصافح المصافح، فيظل يومه يجد ريحها؛ يضع يده على رأس الصبي، فيعرف من بين الصّبيان بريحها، وروى البخاري في تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يمرّ في طريق فيتبعه أحد إلّا عرف أنه سلكه من طيبه «6» . [وفور عقله ص] وأما وفور عقله صلّى الله عليه وسلّم، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية «7» أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسته للعامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلا عمّا أفاد من العلم، وقرّره من الشرع، دون تعلّم سبق، ولا ممارسة تقدّمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر في رجحان عقله، وثقوب فهمه «8» لأول بديهة؛ وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام في الصلاة يرى

_ (1) أي نور وجهه الشريف يشرق اشراقا يصل إلى الجدران المقابلة كما يكون ذلك من الشمس. (2) الشمائل المحمدية للترمذي والشيخان. (3) أي عيوبه. (4) رواه ابن حيان في الضعفاء عن عائشة بلفظ تنظفوا فإن الإسلام نظيف ورواه الطبراني في الأوسط والدارقطني ورواه الترمذي بسند ضعيف بلفظ أن الله نظيف يحب النظافة. (5) رواه مسلم. هي التي يعيد فيها الطيب ويدخره. (6) رواه البخاري في التاريخ الكبير والدرامي والبزار والطبراني في الأوسط وأبي الشيخ وجود اسناده السيوطي. (7) أي لا شك. (8) نافذ الرأي ينظر إليه بدقة.

فصاحة لسانه ص

من خلفه كما يرى من بين يديه. وبذلك فسّر قوله تعالى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «1» وقالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام يرى في الظلمة كما يرى في الضوء «2» ، وكان يعدّ في الثّريا أحد عشر نجما «3» . وجاءت الأخبار أنه صرع ركانة «4» أشدّ أهل وقته، وكان دعاه إلى الإسلام. وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أسرع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مشيه كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث «5» وفي صفته عليه الصلاة والسلام أن ضحكه كان تبسما، إذا التفت التفت معا، وإذا مشى مشى تقلّعا «6» كأنما ينحطّ من صبب «7» . [فصاحة لسانه ص] وأما فصاحة اللسان، وبلاغة القول، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم من ذلك بالمحلّ الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، وفصاحة لفظ، وجزالة قول، وصحّة معان، وقلّة تكلّف، أوتي جوامع الكلم، وخصّ ببدائع الحكم، وعلّم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن، عن شرح كلامه، وتفسير قوله. من تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحقّقه؛ وليس كلامه مع قريش ككلامه مع أقيال «8» حضرموت، وملوك اليمن، وعظماء نجد، بل يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته من الألفاظ، وما انتهجته من طرق البلاغة، ليبيّن للناس ما نزّل إليهم، وليحدّث الناس بما يعلمون. [كلامه وفصاحته ص] وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحكمه المأثورة، فقد ألف الناس فيها الدواوين، وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يوازى فصاحة ولا يبارى بلاغة. كقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم

_ (1) سورة الشعراء 219. (2) رواه ابن عدي والبهيقي في الدلائل. وقال ليس بالقوي. (3) جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس ذكره ابن خيثمة. وقال السيوطي في المناهل ولم أجده. (4) القرشي أسلم يوم الفتح توفي بالمدينة سنة 42 هـ. والحديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وأبو يعلى قال الترمذي حسن غريب. واسناده ليس بالقائم. (5) رواه الترمذي في شمائله والبيهقي في دلائله. غير مكترث: أي غير مبال به. (6) رفع الرجلين رفعا بائنا بدون اختيال. (كأنما ينحط من صبب) أي كأنه ينحدر من موضع عال (7) ما انحدر من الأرض. (8) أحد ملوك حمير دونه الملك الأعظم.

أدناهم، وهم يد على من سواهم» «1» . وقوله: «الناس كأسنان المشط» «2» ، و «المرء مع من أحبّ» «3» ، و «لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له» «4» و «الناس معادن» «5» و «ما هلك امرؤ عرف قدره» «6» و «المستشار مؤتمن» «7» ، ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم» «8» وقوله: «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين» «9» . «وإن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون» «10» . وقوله: «لعلّه كان يتكلّم بما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه» «11» ، وقوله: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» «12» . ونهيه عن «قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات «13» . وقوله: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» «14» و «خير الأمور أوساطها» «15» وقوله: «أحبب حبيبك هونا

_ (1) رواه ابو داود والنسائي. وهو حديث صحيح بشواهده (متكافأ دماؤهم) أي أنهم يتساوون في القصاص والديات. (2) رواه ابن لال في مكارم الأخلاق. القضاعي في مسند الشهاب وابن عدي في الكامل وأورده ابن الجوزي في الموضوعات والدولابي في الكنى والحسن بن سفيان في مسنده، وفي إسناده بكار بن شعيب وهو ضعيف. (3) رواه الشيخان. (4) رواه ابن عدي في كامله بسند ضعيف. (5) رواه الشيخان. (6) رواه ابن السمعاني في تاريخه بسند فيه مجهول. (7) رواه الأربعة والحاكم والترمذي أيضا في الشمائل. (8) رواه أحمد وأصحاب السند. السنن وهو حديث حسن مجموع طرقه ورواه الطبراني في الكبير والقضاعي وغيره. (9) متفق عليه وبقية الحديث عن مسلم. والحديث فقرة من رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل عظيم الروم. (10) رواه البخاري والترمذي وقال حديث حسن. غريب صححه ابن حبان (الموطؤون أكنافا) قال في النهاية: هذا مثل وحقيقة من التوطئة وهي التمهيد والتذليل. والأكناف: الجوانب. أراد الذين جوانبهم وطيئة، يتحكم فيها من يصاحبهم ولا يتأذى. (11) رواه الترمذي أبو يعلى وغيره قال الترمذي هذا حديث غريب. وإسناده ضعيف. (12) رواه الشيخان. بلفظ ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. (13) رواه الشيخان من حديث المغيرة عن شعبه. (14) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح (15) وفي لفظ أوساطها قال ابن الغرس ضعيف وقال في المقاصد رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد لكن يسند فيه مجهول عن علي.

شرف نسبه، وكرم بلده ص

مّا، عسى أن يكون بغيضك يوما مّا» » وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» «2» . وقوله في بعض دعائه: «اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم! إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السّعداء، والنّصر على الأعداء» «3» . إلى غير ذلك مما روته الكافّة عن الكافّة من مقاماته، ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته، ومخاطباته، وعهوده، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره، وحاز سبقا لا يقدر قدره. وقد قال أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: «وما يمنعني؟ وإنما نزل القران بلساني، لسان عربي مبين» «4» . وقال مرة أخرى: «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد» «5» . جمع بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها «6» ، ونصاعة ألفاظ الحاضرة، ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشر. [شرف نسبه، وكرم بلده ص] وأما شرف نسبه، وكرم بلده ومنشئه، فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، ولا بيان مشكل، ولا خفي منه. فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمها «7» ، وأشرف العرب، وأعزّهم نفرا من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكّة، من أكرم بلاد الله على الله، وعلى عباده. وقد قدّمنا لك في أول الكتاب ما فيه الكفاية في هذا المقام. وأما ما تدعو إليه ضرورة الحياة فمنه ما الفضل في قلته، ومنه ما الفضل في كثرته، ومنه ما تختلف الأحوال فيه، فالأول كالغذاء والنوم، ولم تزل العرب

_ (1) رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة والبخاري في تاريخه. وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن عدد الصحابة مرفوعا وموقوفا عن علي ورمز لحسن وجعفران الترمذي وقال هذا حديث غريب وقد استدرك العراقي على الترمذي دعواه غرابته وضعفه فقال رجاله رجال مسلم لكن تردد في رفعه. (2) رواه الشيخان. (3) رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس. ورمز لحسنه السيوطي في الجامع الصغير. (4) رواه البيهقي في شعب الإيمان. (5) رواه أصحاب الغرائب ولا يعرف له سند. (6) هي القوة والمتانة في اللفظ. (7) وقد ورد تأييد ذلك في صحيح مسلم والترمذي قوله صلّى الله عليه وسلّم أن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم.

والحكماء قديما تتمادح بقلّتهما، وتذمّ بكثرتهما، لأنّ كثرة الأكل والشرب دليل على النّهم «1» والحرص، والشّره، وغلبة الشهوة، مسبّب لمضار الدنيا والاخرة، جالب لأدواء الجسد، وخثارة النفس «2» ، وامتلاء الدماغ. وقلته دليل على القناعة، وملك النفس، وقمع الشهوة، مسبّب للصحة، وصفاء الخاطر، وحدّة الذّهن، كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة «3» والضعف، وعدم الذكاء، والفطنة، مسبّب للكسل، وعادة العجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب، وغفلته، وموته. وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ من الأكل والنوم بالأقل، وحضّ عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما ملأ ابن ادم وعاء شرا من بطنه! حسب ابن ادم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة. فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» «4» . ولأنّ كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب. وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلىء جوف النبي صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ. وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهّاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب «5» . وفي صحيح الحديث: «أما أنا فلا اكل متكئا» «6» والإتّكاء: هو التّمكن للأكل، والتقعدد في الجلوس له كالمتربّع، وشبهه من تمكّن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه. والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعيا «7» . ويقول: «إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» «8» وكذلك نومه كان قليلا ومع ذلك فقد قال: «إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» «9» . وأما ما الفضل في كثرته فكالجاه وهو محمود عند العقلاء عادة، وبقدر جاهه

_ (1) اشتد حرصه على الطعام والنهم أفراط الشهوة (2) ثقلها وعدم نشاطها. (3) كل مسترذل رديء وكسل النفس. (4) رواه الترمذي ابن ماجه والنسائي. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان وقال الترمذي هذا حديث صحيح. (5) أنظر جامع الأوصول والحديث الاتي. (6) رواه البخاري والترمذي واللفظ له. (7) رواه مسلم. المستوفر: المستعجل غير المتمكن في جلوسه. والإقعاء: أن يجلس على اليتيه وينصب إحدى ساقيه. (8) رواه البزار عن ابن عمر بسند ضعيف وأبو يعلى وحسن اسناده الهيثمي في مجمع الزوائد. (9) رواه الشيخان.

قدره ومنزلته ص

عظمه في القلوب. وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السلام «وجيها في الدّنيا والاخرة» وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رزق الحشمة، والمكانة في القلوب، والعظمة قبل النبوة عند الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره، وقضوا حاجته. كما ذكرنا ذلك مرارا، وقد كان يبهت ويفرق لرؤيته «1» من لم يره، كما روي عن قيلة: إنها لما رأته أرعدت من الفرق فقال: «يا مسكينة عليك السكينة» «2» . وفي حديث أبي مسعود: أنّ رجلا قام بين يديه، فأرعد، فقال له عليه الصلاة والسلام: «هون عليك فإني لست بملك» «3» . [قدره ومنزلته ص] وأما عظيم قدره بالنبوة، وشريف منزلته بالرسالة، وأنافة رتبته «4» بالاصطفاء والكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الاخرة سيد ولد ادم «5» . وأما ما تختلف فيه الحالات في التمدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله، ككثرة المال. فصاحبه على الجملة معظّم عند العامة، لاعتقادها توصّله به إلى حاجاته، وتمكّنه في أغراضه، وإلّا فليس فضيلة في نفسه، فمتى كان بهذه الصورة، وصاحبه منفقا له في مهماته، ومهمات من قصده وأمّله، تصريفه في مواضعه، مشتريا به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة من القلوب. كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البّر، وأنفقه في سبيل الخير، وقصد بذلك الله تعالى والدار الاخرة، كان فضيلة عند الكل بكل حال، ومتى كان صاحبه ممسكا له، غير موجّهه وجوهه، حريصا على جمعه، عاد كثره كالعدم، وكان منقصة في صاحبه، ولم يقف به على جدد السلامة؛ بل أوقعه في هوّة «6» رذيلة البخل، ومذمّة النذلة «7» ، فالتمدح بالمال ليس لذاته، بل للتوصّل به إلى غيره، وتصريفه في متصرفاته، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم أوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد،

_ (1) رواه الحاكم وصححه. (2) أي يدهشه ويفزع. (3) طرف من حديث طويل حسن. أخرجه بطوله ابن منده والطبراني في الكبير وغيره. وأخرج الفقرة الأولى منه أبو داود والترمذي في الشمال (أرعدت من الفرق) : رحفت واضطربت من الخوف (4) أي رفعتها وظهورها. (5) كما في صحيح مسلم قوله صلّى الله عليه وسلّم أنا سيد ولد ادم يوم القيام. (6) الهوّة: الحفرة البعيدة القعر. (7) السفالة.

الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة

وأحلّت له الغنائم، ولم تحلّ النبي قبله، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن، وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجلب إليه كثير من أخماسها وجزيتها وصدقاتها، وهاداه «1» جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلّا دينارا أرصده لديني» «2» وأتته دنانير مرة فقسّمها، وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال: «الان استرحت» ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله «3» . واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة «4» ، والكساء الخشن، والبرد «5» الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوّصة بالذهب «6» ، ويرفع لمن لم يحضره، فأنت ترى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاز فضيلة المال بالزهد فيه، وإنفاقه على مستحقيه. [الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة] وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة، والاداب الشريفة، وهي المسماة بحسن الخلق، فجميعها قد كانت خلق نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم على الإنتهاء في كمالها، والإعتدال إلى غايتها، حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «7» قالت عائشة: كان خلقه القران، يرضى برضاه ويسخط بسخطه «8» . وقال عليه الصلاة والسلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «9» وقال أنس: كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقا. وكانت له هذه الاداب الكريمة كما كانت لإخوانه من الأنبياء جبلّة خلقوا عليها. ثم يتمكن الأمر لهم، وتترادف نفحات الله عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم، حتى يصلوا الغاية، ويبلغوا

_ (1) أي أرسلوا إليه الهدايا. (2) رواه الشيخان. (3) عند يهودي إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير. (4) كساء يشتمل به بأنه يديره على جسده كله. (5) جمع بردة وهو كساء أسود مربع. (6) فارسي معرب جمعه دبابيج وهو الثوب المزين والمخوصة: المنسوجة. (7) سورة القلم اية 4. (8) عزاه السيوطي في المناهل إلى البيهقي وصدره ورواه مسلم. (9) رواه أحمد والبزار. والبخاري في الأدب المفرد والقضاعي ابن مسند الشهاب وصححه الحاكم.

الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره ص

باصطفاء الله لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة، وهذه الأخلاق المحمودة، والخصال الجميلة كثيرة، ولكنا نذكر أصولها. ونشير إلى جميعها، ونحقّق وصفه عليه الصلاة والسلام بها إن شاء الله. فأصل فروعها، وعنصر ينابيعها، ونقطة دائرتها: فالعقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرّع عن هذا ثقوب الرأي، وجودة الفطنة، والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة والتدبير، واقتناء الفضائل، وتجنّب الرذائل. وقد بلغ عليه الصلاة والسلام منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه. ويعلم ذلك من تتبّع مجاري أحواله، واطّراد سيره، وطالع جوامع كلمه، وحسن شمائله، وبدائع سيره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوارة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسير الأمم الخالية، وأيامها، وضرب الأمثال، وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع وتأصيل الاداب النفسية، والشيم الحميدة، إلى فنون العلوم التي اتّخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشارته حجة: كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون تعليم، ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدّم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبي أميّ لم يعرف شيء من ذلك، حتى شرح الله صدره، وأبان أمره، وعلّمه. وبحسب عقله كانت معارفه عليه الصلاة والسلام إلى سائر ما علّمه الله، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان، وعجائب قدرته، وعظيم ملكوته قال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً » . [الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره ص] وأما الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره، فمما أدب الله به نبيه، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» ، وقد سأل عليه الصلاة والسلام جبريل عن تأويلها. فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك «3» ، وقال له: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «4» وقال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ

_ (1) سورة النساء آية 113. (2) سورة الأعراف آية 199. (3) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيره من طريق مسلم. ووصله ابن برؤبه من حديث جابر. (4) سورة لقمان آية 17.

لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2» . وقد تضافرت الأخبار على اتّصافه عليه الصلاة والسلام بنهاية هذه الأوصاف، فما من حليم إلّا عرفت منه زلّة، وحفظت عنه هفوة «3» ، ونبيّنا لا يزيد مع كثرة الإيذاء إلّا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلّا حلما. قالت عائشة رضي الله عنها: ما خيّر عليه الصلاة والسلام في أمرين قطّ إلّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها «4» ، ولما فعل به المشركون ما فعلوا في أحد، وطلب منه أن يدعو عليهم قال: «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون» «5» . وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين اذوه واستهزؤوا به، وأخرجوه من دياره، هو وأصحابه، ثم قاتلوه، وحرّضوا عليه غيرهم من مشركي العرب، حتى تمالأ عليه جمعهم، ثم لمّا فتح الله عليه مكّة ما زاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون: إني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» «6» وعن أنس: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام وعليه برد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال: يا محمّد احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله عندك «7» ، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النّبيّ ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده، ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي، قال: لا، قال: لم؟ قال: لأنك لا تكافىء بالسيئة السيئة «8» فضحك عليه الصلاة والسلام، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الاخر تمر. قالت عائشة: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ، ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى، وما ضرب

_ (1) سورة النور اية 22. (2) سورة الشورى اية 43. (3) أي غلطة. (4) رواه الشيخان وأبو داود. (5) رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا. ورواه الشيخان بلفظ (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (6) رواه ابن سعد والنسائي وابن زنجوية. قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء رواه ابن الجوزي في الوفاء من طريق ابن أبي الدنيا فيه ضعف. (7) إلى هنا رواه الشيخان وأخرجه بلفظ المصنف البيهقي في الأدب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (8) أخرجه بلفظ المصنف- البيهقي الأدب وأخرجه مختصرا الشيخان (يقاد منك) : يقتص منك.

شجاعته ص

بيده شيئا قطّ إلّا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة «1» ، فصلى الله تعالى عليه، وأقر عينه باتّباع المسلمين سنّته. وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة، ولا يبارى بهذا وصفه كل من عرفه. قال جابر رضي الله عنه: ما سئل عليه الصلاة والسلام عن شيء فقال: لا «2» وقال ابن عباس: كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير، وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة «3» . وقالت خديجة في صفته عليه الصلاة والسلام مخاطبة له: إنك تحمل الكلّ، وتكسب المعدوم «4» . وحسبك شاهدا في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ردّ السبي إليها، وما فعله يوم تقسيم السبي من إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم الأعطية. وقد استوفينا ذلك في موضعه. وحمل إليه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا فوضعها على حصير، وأخذ يقسمها، فما قام حتى فرغ منها. وجاءه رجل فسأله فقال: «ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه» . فقال له عمر: ما كلّفك الله ما لا تقدر عليه، فكره ذلك عليه الصلاة والسلام، فقال له رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسّم عليه الصلاة والسلام وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت «5» والأخبار بجوده وكرمه عليه الصلاة والسلام كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه. [شجاعته ص] ومنها الشجاعة والنجدة، فكان عليه الصلاة والسلام منهما بالمكان الذي لا يجهل، قد حضر المواقف الصعبة، وفرّ الكماة «6» والأبطال عنه غير مرّة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح. وما من شجاع إلّا أحصيت له فرّة،

_ (1) أخرج الفقرة الأولى منه الترمذي في الشمائل وأبو يعلى وهي في الشيخان: «وما انتقم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل. (2) رواه الشيخان. (3) رواه الشيخان. (4) هذا بعض حديث صحيح رواه الشيخان. (5) هو بلال ولكنه من المهاجرين وقد يجمع بأنهما قالا له. ورواه الترمذي في الشمائل والبزار والخرائطي في المنتقى من مكارم الأخلاق وقال الهيثمى في المجمع: فيه: اسحاق بن ابراهيم الحنيفي، وقد ضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطئ (6) جمع كمي وهو الشجاع أو لا بس السلاح.

حياؤه ص

وحفظت عنه جولة، سواه. وحسبك ما فعله في حنين وأحد مما ذكرناه مستوفى. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع، ولا أنجد، ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» ، وقال عليّ: إنا كنّا إذا اشتدّ البأس واحمرّت الحدق اتّقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان أشدّ الناس يومئذ بأسا «2» ، وقال أنس: كان عليه السلام أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم عليه الصلاة والسلام راجعا. قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري، والسيف في عنقه، وهو يقول: «لن تراعوا» «3» . [حياؤه ص] وأما الحياء والإغضاء، فكان عليه الصلاة والسلام أشدّ الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان عليه الصلاة والسلام أشدّ حياء من العذراء في خدرها. وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه «4» ، وكان عليه الصلاة والسلام لطيف البشرة، رقيق الظاهر، لا يشافه أحدا بما يكرهه حياء وكرم نفس، قالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا، ولكن يقول: ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا «5» ؟ ينهى عنه، ولا يسمّى فاعله، وقالت رضى الله عنها: لم يكن عليه الصلاة والسلام فاحشا، ولا متفحّشا، ولا صخابا بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح «6» . [حسن عشرته وأدبه ص] وأما حسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه مع أصناف الخلق، فمما انتشرت به الأخبار الصحيحة، قال علي رضي الله عنه: كان عليه الصلاة والسلام أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة «7» ، وأكرمهم عشرة، وكان

_ (1) رواه الدارمي. ورجاله ثقات. (2) رواه أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي وأخرج مسلم بعضه. وأبو يعلى وأبو الشيخ واحمّرت الحدق كناية عن اشتداد القتال. (3) رواه الشيخان. لن تراعوا: أي لن تخافوا خوفا يضركم. (4) رواه الشيخان. (5) رواه أبو داود والخرائطي في المنتقى من مكارم الأخلاق وإسناده حسن. (6) رواه الترمذي في السنن وفي الشمائل وأحمد وقال الترمذي حديث حسن صحيح. (7) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعريكة أي طبيعة.

عليه الصلاة والسلام يؤلّفهم، ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذّر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره، ولا خلقه، يتفقّد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلّا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحقّ سواء، بهذا وصفه ابن أبي هالة «1» ، وكان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه. قال تعالى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «2» وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «3» وكان عليه الصلاة والسلام يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعا «4» ويكافئ عليها، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد، والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر. وقال أنس: ما التقم أحد أذن النبي فينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الاخر. وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم ير قطّ مادّا رجليه بين أصحابه حتى يضيّق بهما على أحد «5» ، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحبّ أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز، فيقطعه بنهي أو قيام، وكان أكثر الناس تبسما، وأطيبهم نفسا، ما لم ينزل عليه قران، أو يعظ، أو يخطب.

_ (1) هو هند بن أبي هالة، كان ربيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن خديجة رضي الله عنها من زوجها أبي هالة، وقد تزوجها قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) سورة ال عمران اية 159. (3) سورة فصلت اية 34. (4) وهو مستدق الساق في البقر والغنم. (5) رواه الدارقطني في غريب مالك وضعفه.

شفقته ورأفته ص

[شفقته ورأفته ص] وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه الله بها في قوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» وقال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» روي أنّ أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا فأعطاه، ثم قال: ل «أحسنت إليك» ؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم: «أن كفّوا» ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه، وزاده شيئا، ثم قال: «أأحسنت إليك؟» قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال عليه الصلاة والسلام: إنك قلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ، حتى يذهب ما في صدورهم عليك» ، قال: نعم، فلما كان الغد- أو العشي- جاء فقال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي، أكذلك؟» : قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام: «مثلي ومثل هذا، مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتّبعها الناس فلم يزيدوها إلّا نفورا، فناداهم صاحبها: خلّو بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجّه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه دخل النار» «وقال عليه الصلاة والسلام» : لا يبلّغني أحد منكم عن أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر «4» . وكان يسمع بكاء الصبي فيتجوّز في صلاته. وعن ابن مسعود كان عليه الصلاة والسلام يتخوّلنا بالموعظة مخافة السامة علينا «5» . [وفاؤه وصلته الرحم ص] وأما خلقه عليه الصلاة والسلام في الوفاء وحسن العهد وصلة الرحم، فروي عن عبد الله بن أبي الحمساء «6» قال: بايعت النبي عليه الصلاة والسلام ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن اتيه بها مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث،

_ (1) سورة التوبة اية 128. (2) سورة الأنبياء اية 107. (3) رواه البزار عن أبي هريرة بسند ضعيف وابن حبان وأبو الشيخ مسند ضعيف قال الهثيمى في مجمع الزوائد فيه ابراهيم بن الحكم بن ابان وهو متروك وشردت الناقة نفرت واستعصت وقمام جمع قمامة وهي الكناسة. (4) رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود. (5) رواه الشيخان وقال الترمذي هذا حديث غريب من هذه الوجه. (6) (بالمهملتين المفتوحتين والميم بينهما ساكنة) .

تواضعه ص

فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: «يا فتى لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك «1» ! وكان إذا أتي بهدية، قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة «2» . وكان عليه الصلاة والسلام يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. ووفد عليه وفد، فقام يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك؟ فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحبّ أن أكافئهم» «3» . وفي حديث خديجة: أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل «4» ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «5» . [تواضعه ص] وأما تواضعه عليه الصلاة والسلام، على علو منصبه ورفعة رتبته، فكان أشدّ الناس تواضعا، وأقلّهم كبرا، وحسبك أنه خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا أو نبيّا عبدا فاختار أن يكون نبيّا عبدا «6» ، وخرج عليه الصلاة والسلام مرة على أصحابه متوكئا على عصا، فقاموا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضا «7» ، وقال: «إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» «8» . وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم حيثما انتهى به المجلس جلس. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» «9» وحجّ عليه الصلاة والسلام على رحل رثّ، وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم؛ فقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة «10» . هذا وقد

_ (1) رواه أبو داود وابن منده في المعرفة والخرائطي في مكارم الأخلاق. قال العراقي ابن تخريج أحاديث الإحياء رواه أبو داود، واختلف في اسناده، وقال ابن مهدي: ما أظنه ابراهيم بن طهمان إلا أخطأ فيه. (2) رواه البخاري في الأدب المفرد. والبزار وغيره وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. (3) رواه البيهقي في دلائل النبوة. (4) تقبل الحمل. (5) رواه البخاري ومسلم. (6) رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى وصححه ابن حبان وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأولين رجال الصحيح. (7) رواه أبو داود وابن ماجه وإسناده ضعيف. (8) رواه البزار قال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه حفص بن عمارة الطاحي ولم أعرفه وبقية رجاله وثقوا. (9) رواه البخاري والأطراء: المدح بالباطل. (10) رواه ابن ماجه والترمذي في الشمائل وصححه الضياء في المختارة ورث أي خلق بال. وقطيفة: أي كساء له خمل.

عدله ص وأمانته، وعفته، وصدق لهجته

فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجّه ذلك مائة بدنة «1» ، ولما فتحت عليه مكّة، ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمسّ قادمته تواضعا لله تعالى «2» . وعن أبي هريرة رضى الله عنه: دخلت السوق مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فاشترى سراويل، وقال للوزّان: زن وأرجح، ثم قال: فوثب إلى يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبّلها، فجذب يده، وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم، ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحمله قال: صاحب الشيء أحقّ بشيئه أن يحمله «3» . [عدله ص وأمانته، وعفّته، وصدق لهجته] وأما عدله عليه السلام، وأمانته، وعفّته، وصدق لهجته، فكان امن الناس وأعدل الناس، وأعفّ الناس، وأصدقهم لهجة منذ كان، اعترف له بذلك محادّوه وعداه «4» ، وكان يسمّى قبل نبوّته الأمين. وقد قدّمنا في سيرته عليه الصلاة والسلام قبل النبوّة. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ما لمست يده يد امرأة قطّ لا يملك رقّها «5» . قال أبو العباس المبرّد: قسّم كسرى أيامه؛ فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج، ولكن نبيّنا عليه الصلاة والسلام جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء، جزا لله، وجزا لأهله، وجزا لنفسه، ثم جزّأ جزأه بين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي، فإن من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها امنه الله يوم الفزع الأكبر» «6» . وكان عليه الصلاة والسلام لا يأخذ أحدا بذنب أحد، ولا يصدق أحدا على أحده. «7»

_ (1) كما روى مسلم عنه وبدنه تقع على الجمل والناقة والبقرة. (2) رواه أبو يعلى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه عبد الله عن أبي بكر المقدمي وهو ضعيف وقادمته: أي قادمة الرجل هي الخشبة التي في مقدمة كور البعير بمنزلة قربوس السرج. (3) رواه الطبراني في الأوسط وفيه يوسف بن زياد البصري وهو ضعيف وفي اسناده عمر بن عبد العزيز بن وهيب قال الحافظ في التقريب مجهول أوقر الناس من الوقار: الحلم والرزانة. (4) أي مخالفوه واعداؤه. (5) رواه الشيخان. والترمذي ولفظه: ما لمست يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد امرأة إلا امرأة يملكها. (6) رواه الطبراني في الكبير بسند حسن. حديث رجاله ثقات لكنه مرسل أخرجه أبو داود في المراسيل. (7) حديث رجاله ثقات لكنه مرسل. أخرجه أبو داود في المراسيل.

وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته

[وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته] وأما وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته، وحسن هديه، فكان عليه الصلاة والسلام أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه «1» ، وكان إذا جلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبيا «2» . وكان كثير السكوت، لا يتكلّم في غير حاجة، يعرض عمن تكلّم بغير جميل، وكان ضحكه تبسّما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيرا له، واقتداء به، مجلسه مجلس حلم وحياء، وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن «3» فيه الحرم، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطّير. وقال ابن أبي هالة: كان سكوته صلّى الله عليه وسلّم على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكّر. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلّى الله عليه وسلّم يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه «4» ، وكان يحبّ الطيّب والرائحة الحسنة، ويستعملها كثيرا، ويحضّ عليهما. ومن مروءته صلّى الله عليه وسلّم نهيه عن النفخ في الطعام والشراب «5» . والأمر بالأكل مما يلي «6» . والأمر بالسواك «7» وانقاء البراجم «8» والرواجب «9» . [زهده ص في الدنيا] وأما زهده عليه السلام في الدنيا فقد قدمنا لك فيه ما فيه الكفاية، وحسبك شاهدا على تقلّله منها، وإعراضه عن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها إلى أن توفّي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله «10» . وهو يدعو ويقول: «اللهم اجعل رزق ال محمد قوتا» «11» .

_ (1) حديث مرسل أسنده المصنف عن طريقة أبي داود في المراسيل. وفي إسناده عمرو بن عبد العزيز بن وهيب قال الحافظ في التقريب: مجهول (أوقر الناس) من الوقار: الحلم والرزانة. (2) رواه الترمذي. (3) لا ترمي بصريح ولا تذكر بقبيح. (4) رواه الشيخان. (5) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. (6) رواه الشيخان. (7) رواه النسائي وأحمد وعبد الرزاق وغيره من حديث أبي هريرة وصححه ابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي وعلقه البخاري بصيغة الجزم وفي الصحيحين «مع كل صلاة» بدل «مع كل وضوء» وهو لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء. (8) جمع برجمة وهي مفصل الأصابع من ظاهر الكف. (9) رواه أحمد. والرواجب: مفاصل الأصابع من باطن الكف. (10) رواه الشيخان. (11) رواه الشيخان وقوتا: هو كفايتهم من غير اسراف.

وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما شبع عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام تباعا من خبز حتى مضى لسبيله» » . وقالت: ما ترك عليه الصلاة والسلام دينارا. ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا «2» ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رف لي «3» . وقال لي: «إني عرض عليّ أن تجعل لي بطحاء مكّة ذهبا فقلت: لا يا رب أجوع يوما، وأشبع يوما. فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك» «4» . وقالت عائشة: إن كنّا ال محمد لنمكث شهرا ما نستوقد نارا إن هو إلّا التمر والماء» «5» . وعن أنس: ما أكل عليه الصلاة والسلام على خوان ولا في سكرّجة ولا خبز له مرقّق، ولا رأى شاة سميطا قطّ «6» . وفي حديث حفصة: كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيته مسحا نثنيه ثنيتين. فينام عليه، فثنيناه ليلة بأربع، فلمّا أصبح قال: «ما فرشتم لي» ؟ فذكرنا له ذلك، فقال: ردّوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي» «7» وقالت عائشة: لم يمتلىء جوف النبي عليه الصلاة والسلام شبعا، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى. وإن كان ليظلّ جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلّغت من الدنيا بما يقوتك؟ فيقول: يا عائشة مالي وللدنيا، إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم، فأكرم مابهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصّر بي غدا دونهم، وما من شيء أحبّ إليّ من اللحوق بإخواني وأخلّائي. قالت: فما أقام بعد إلّا

_ (1) رواه مسلم. وفي زيادة من صحيح مسلم: برّ. (2) رواه مسلم. (3) رواه الشيخان والرف: خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الجدار يوقّى به ما يوضع عليه. (4) رواه الترمذي وأحمد وحسنه الترمذي قال العلائي: فيه ثلاثة ضعفاء. وقال العراقي ضعيف. (5) رواه الشيخان. (6) رواه البخاري مقطعا (الخوان) : ما يؤكل عليه (سكرجة) إناء صغير يأكل فيه الشيء القليل من الادم. (سميطا) مشوية. (7) رواه الترمذي في الشمائل قال المناوي في فيض القدير وليس بجيد، فقد قال الحافظ العراقي: هو منقطع، والمسح كساء خشن يعد للفرش من صوف (وطأته) : لينه

خوفه ص من ربه، وطاعته له، وشدة عبادته

أشهر حتى توفّى صلوات الله عليه وسلامه «1» . [خوفه ص من ربه، وطاعته له، وشدّة عبادته] وأما خوفه من ربه، وطاعته له، وشدّة عبادته، فعلى قدر علمه بربه، ولذلك قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «2» إني أرى مالا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطّت «صوتت» السماء وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني شجرة تعضد «3» . وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى ترم قدماه؛ فقيل له أتكلّف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ قال. «أفلا أكون عبدا شكورا!» «4» . وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديمة، وأيّكم يطيق ما كان يطيق «5» ؟ وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم «6» . وقال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه فاستفتح البقرة، فلا يمر باية رحمة إلّا وقف فسأل، ولا يمر باية عذاب إلّا وقف فتعوّذ، ثم ركع، فمكث بقدر قيامه، يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت والعظمة، ثم سجد، وقال مثل ذلك. ثم قرأ ال عمران، ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك «7» ، وقال بعضهم: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل «8» ، وفي وصف ابن أبي هالة: كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة «9» . وعن علي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سنته فقال:

_ (1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره قريبا من هذا المعنى. (2) أخرجه البخاري في الرقائق ورواه أحمد والبخاري أيضا ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس. (3) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن غريب ومعنى تعضد: أي تقطع وقوله «لوددت أني شجرة تعضد: مدرج في الحديث من كلام أبي ذر (الصعدات) : أي الطرق (تجأرون) تستغيثون وتدعون. (4) الشيخان. (5) رواه الشيخان وديمة: أي دائما في رفق واقتصاد. (6) رواه مسلم. (7) رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وصححه النووي في الأذكار. (8) رواه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وغيره وصححه ابن خزيمة وابن حبان في موارد الظمان والحاكم ووافقه الذهبي وصححه أيضا النووي في رياض الصالحين. (9) رواه الترمذي عن عائشة وأخرجه أحمد والنسائي بسند صحيح.

معجزاته عليه السلام

«المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحبّ أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي. والحزن رفيقي. والعلم سلاحي. والصّبر ردائي. والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوّتي، والصّدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرّة عيني في الصلاة، وثمرة فؤادي في ذكره. وغمّي لأجل أمتي. وشوقي إلى ربي» «1» فجزاه الله من نبي عن أمته خيرا، ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها، واتّبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر ويرضى الله عنه، فنسألك اللهمّ التوفيق لما فيه الخير بمنّك وكرمك يا أرحم الراحمين. معجزاته «2» عليه السلام إذا تأمل المتأمل ما قدّمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم. وحميد سيره، وبراعة علمه، ورجاحة عقله وحلمه، وجملة كماله، وجميع خصاله، وشاهد حاله، وصواب مقاله لم يمتر «3» في صحة نبوّته، وصدق دعوته، وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه، والإيمان به، كعبد الله بن سلام. فإنه قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة جئته لا نظر إليه؛ فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وروى مسلم أن ضمادا لما وفد عليه، قال له صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله واحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله» فقال له ضماد: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فلقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك. ولما بلغ ملك عمان أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعوه إلى الإسلام قال: والله لقد دلّني على هذا النبيّ الأمي أنه لا يأمر بخير إلّا كان أول اخذ به، ولا ينهى عن شيء إلّا كان أول تارك له، وإنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي. قال ابن رواحة: لو لم تكن فيه ايات مبيّنة ... لكان منظره ينبيك بالخبر

_ (1) قال العراقي لا أصل له وهو يشبه كلام الصوفية وقال الحافظ ابن حجر: لا أصل له وقال السيوطي في المناهل موضوع. (2) المعجزة: هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي، الدال على صدق الأنبياء عليهم السلام. (3) أي الشك.

إعجاز القرآن الكريم

كيف وقد أظهر الله على يده تصديقا لدعوته من المعجزات ما لا يفي به العدّ فهو أكثر الأنبياء اية، وأظهرهم برهانا، وسنذكر لك في هذا الفصل من الايات ما تقرّبه عينك، ويزداد به يقينك مما رواه الجمّ الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وأثبته المحدّثون في صحاحهم، ونبدأ منها بأظهرها شأنا، وأوضحها بيانا، وهو القران الشريف وإعجازه. [إعجاز القرآن الكريم] اعلم أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة: أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته ، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خصّوا من البلاغة والحكم بما لم يخصّ به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة «1» اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيّد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، يخطبون بديها في المقامات، وشديد الخطب، ويرتجزون «2» به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسّلون، ويتوصّلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال «3» ، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللال «4» ، فيخدعون الألباب، ويذلّلون الصعاب، ويذهبون الإحن «5» ، ويهيجون الدّمن «6» ويجرّئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان «7» ويصيرون الناقص كاملا، ويتركون النبيه خاملا. منهم البدوي ذو اللفظ الجزل «8» ، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطّبع الجوهري، والمنزع القوي «9» ، ومنهم الحضري، ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطّبع السّهل،

_ (1) فصاحته. (2) أي ينشدون شعرا من بحر الرجز. (3) وهو أن يأتوا الكلام البليغ الذي تأزر به النفوس واللال: اللالئ: جمع لؤلؤة وهي الدرة. (4) أي الخيط الذي عليه تنظم حبات العقد وتنجذب به القلوب. (5) الاحقاد والضغائن. (6) أي يهيجون الأحقاد الكامنة في قلوبهم. (7) المراد به: البخيل. (8) القوي الفصيح الجامع. (9) أي الجذب والأخذ.

والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرّونق، الرقيق الحاشية. وكلاهما له في الحجة البلاغة البالغة، والقوة الدامغة، والقدح الفالج «1» ، والمهيع الناهج «2» ، لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القّل والكثر، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعهم إلّا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «3» أحكمت آياته، وفصّلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتضافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كلّ البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السّجع والشعر ارتجالا «4» ، وأوسع في الغريب واللغة مقالا؛ بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخا بها في كل حين، ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «6» قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «7» ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «8» ، فلم يزل يقرّعهم أشدّ التقريع. ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتّت نظامهم. ويذمّ الهتم واباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون «9» عن معارضته.

_ (1) السهم الفائز. (2) أي الطريق الواضح. (3) سورة فصلت اية 42. (4) أي تكلّما به من غير فكر ورويّة. (5) سورة يونس اية 38. (6) سورة البقرة اية 23- 24. (7) سورة الإسراء اية 88. (8) سورة هود اية 13. (9) أي محجمون.

محجمون عن مماثلته. يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والاعتراء بالافتراء، وقولهم فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «1» وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» إِفْكٌ افْتَراهُ «3» أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «4» والمباهتة، والرضا بالدنية. كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ «5» وفِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «6» ولا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «7» والادعاء مع العجز كقولهم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا «8» وقد قال لهم وَلَنْ تَفْعَلُوا «9» فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة، كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلّا فلم يخف على أهل الميز «10» منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم؛ بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا إليه مذعنين من بيد مهتد وبين مفتون. وأنت إذا تأملت قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «11» وقوله وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «12» وقوله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «13» وقوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «14» وقوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «15» وأشباهها من الاي، بل أكثر ايات القران حقّقت ما بيّنته

_ (1) سورة المدثر الاية 24. (2) سورة القمر الاية 2. (3) سورة الفرقان الاية 4. (4) سورة الفرقان الاية 5. (5) سورة البقرة 88. (6) سورة فصلت اية 5. (7) سورة فصلت اية 26. (8) سورة الأنفال اية 31. (9) سورة البقرة 24. (10) أي أهل التمييز والعقل. (11) سورة البقرة 179. (12) سورة سبأ اية 51. (13) سورة فصلت اية 34. (14) سورة هود اية 44. (15) سورة العنكبوت اية 40.

الوجه الثاني من إعجاز القران: صورة نظمه العجيب

من إيجاز ألفاظها، وكثرة معانيها، وديباجة عبارتها، وحسن تأليف حروفها، وتلاؤم كلمها، وأنّ تحت كلّ لفظة منها جملا كثيرة، وفصولا جمّة، وعلوما زواخر، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها، وكثرة المقالات في المستنبطات عنها. ثم هو في سرد القصص الطوال، وأخبار القرون السوالف، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام، ويذهب ماء البيان، اية لمتأمّله، من ربط الكلام بعضه ببعض، والتئام سرده، وتناصف وجوهه، كقصة يوسف على طولها. ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة تردّدها، حتى تكاد كلّ واحدة ينسي في البيان صاحبتها. وتناصف في الحسن وجه مقابلتها، ولا نفور للنفوس من ترديدها، ولا معاداة لمعادها. الوجه الثاني من إعجاز القران: صورة نظمه العجيب ، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت عليه مقاطع ايه، وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلّهت «1» دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر، أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر. والإعجاز بكل واحد من النوعين، والإيجاز والبلاغة بذاتها، أو الأسلوب الغريب بذاته، كلّ واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما، إذ كل واحد منهما خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها. الوجه الثالث من الإعجاز: ما أنطوى عليه من الأخبار بالمغيّبات ، وما لم يكن ولم يقع، فوجد كما ورد، وعلى الوجه الذي أخبر به كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» وقوله عن الروم: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ «3» وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «4» وقوله: وَعَدَ اللَّهُ

_ (1) اندهشت. (2) سورة الفتح آية 27. (3) آية 3. (4) سورة التوبة: 33.

الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «1» وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «2» فكان جميع هذا، كما أخبر فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخلت الناس في الإسلام أفواجا، واتّسع ملك المسلمين حتى كان لهم في وقت من أقصى بلاد الأندلس غربا إلى أقاصي الهند شرقا، ومن بلاد الأناضول شمالا إلى أقاصي السودان جنوبا وقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «3» فكان كذلك إلى الان والحمد لله، وقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «4» فكان كذلك في بدر والاية نزلت بمكة، وقوله: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «5» فكان كذلك مما اطّلع عليه قارىء هذه السيرة، وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود، ومقالهم وكذبهم في حلفهم، كقوله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ «6» وقوله: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ «7» وقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ «8» إلى غير ذلك من الايات البيّنات. الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم البائدة، والشرائع الدّاثرة» مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب «10» ، الذي قطع عمره في تعلّم ذلك، فيورده عليه الصلاة والسلام على وجهه، ويأتي به على نصّه، فيقرّ العالم بذلك بصحّته وصدقه، وأنّ مثله لم ينله بتعليم. وقد علموا أنه صلّى الله عليه وسلّم أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا مجالسة، لم يغب عنهم، ولا جهل حاله أحد منهم.

_ (1) سورة النور اية 55. (2) النصر اية 1- 3. (3) سورة الحجر الاية 9. (4) سورة القمر اية 45. (5) سورة التوبة اية 14. (6) سورة المجادلة اية 8. (7) سورة ال عمران اية 154. (8) سورة النساء اية 46. (9) أي الدراسة التي لم يبق لها أثر. (10) الواحد النادر المنفرد من علماء أهل الكتاب.

وقد كان أهل الكتاب كثيرا ما يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن هذا، فينزل عليه من القران ما يتلو عليهم منه ذكرا: كقصص الأنبياء، وبدء الخلق، وما في الكتب السابقة، مما صدّقه فيها العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، ولم يؤثر أن واحدا منهم أظهر خلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحا ولا سقيما من صحفه بعد أن قرّعهم، ووبّخهم بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» . ومما يدل على أنّ أهل الكتاب يعلمون صدقه ما تحداهم فيه الله بقوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» ثم حتّم عدم إجابتهم بقوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «3» فما سمع عن أحد منهم أنه تمنّى ذلك، ولو بلسانه، مع أنهم كانوا أحرص الناس على تكذيبه. ومثل ذلك ما فعله أهل نجران حينما دعاهم للمباهلة «4» فأبوا، وقد قدّمنا ذلك في فصل وفودهم. ومما يدل على أن هذا القران ليس من كلام البشر: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوّة حاله، وإنافة «5» خطره؛ وهي على المكاذبين به أعظم، حتى كانوا يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفورا. ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن القران صعب مستصعب على من كرهه، وهو الحكم» «6» . وأما المؤمن فلا تزال روعته به، وهيبته إياه مع تلاوته، توليه انجذابا، وتكسبه هشاشة «7» لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «8» وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «9» .

_ (1) سورة ال عمران اية 93. (2) سورة البقرة اية 94. (3) سورة البقرة اية 95. (4) الملاعنة. (5) أي علو مرتبته. (6) رواه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير صعب: في نفسه بمعنى أنه لا يقدر أحد على محاكاته وضبط الفاظه بسهولة مستصعب: أي يعسر فهمه بالرأي ولا يمكن تغييره وتحريفه (الحكم) أي الحاكم الفاصل بين الحق والباطل. (7) أي مسرة وخفة. (8) سورة الزمر اية 23. (9) سورة الحشر اية 21.

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم: انشقاق القمر

ومن وجوه إعجاز القران كونه اية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفّل الله بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» وقال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «2» وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، فلم يبق إلّا خبرها «3» ، والقران إلى وقتنا هذا حجّته قاهرة، ومعارضته ممتنعة، والأعصار كلها طافحة بأهل البيان، وحملة علم اللسان، وأئمة البلاغة، وفرسان الكلام، وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد «4» ، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته، ولا ألّف كلمتين في مناقضته، ولا قدر فيه على مطعن صحيح، ولا قدح المتكلّف من ذهنه في ذلك إلّا بزند شحيح «5» ، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه «6» . ولنختم لك هذا الباب بحديثه عليه الصلاة والسلام في القران قال: إنّ الله أنزل هذا القران امرا وزاجرا، وسنّة خالية، ومثلا مضروبا، فيه نبؤكم، وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الردّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الحقّ ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن حكم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسّك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضلّه الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذّكر الحكيم، والنّور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشّفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوجّ فيقوّم، ولا يزيغ فيستعتب «7» . ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرّد. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم: انشقاق القمر «8» وقد قدّمنا حديثه مستوفى.

_ (1) سورة الحجر اية 9. (2) سورة فصلت اية 42. (3) أي انقضت بانقضاء أوقاتها. (4) أي حاضر في كل وقت للعدوان. (5) أي الذي لا يرى ولا يقدح. (6) أي رجع عما كان قد اعتزمه وأحجم عنه. (7) رواه الترمذي عن علي بلفظ قريب من هذا اللفظ قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلّا من هذا الوجه واسناده مجهول. سنة خاليه: طريقة متبعة. لا يخلقه طول الرد: لا تضعفه وتوهنه كثرة القراءة، فلج: ظفر بالغلبة. ولا يزيغ فيستعب: لا يميل عن الحق، فيستحق اللوم. (8) قد أجمع المسلمون على وقوع ذلك منه عليه الصلاة والسلام وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع. قال الفخر الرازي في تفسيره: روى انشقاق القمر عن أنس بن مالك وجبير

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم: نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره ببركته

ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم: نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره ببركته ، وقد روى هذا الجمّ الغفير من الصحابة منهم: أنس وجابر، وابن مسعود، قال أنس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بوضوء، فوضع في الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضّأ الناس حتى توضؤوا عن اخرهم، فقيل: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة «1» . وقال ابن مسعود: بينما نحن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. وليس معنا ماء، فقال لنا: «اطلبوا من معه فضل ماء» ، فأتي بماء فصبّه في إناء، ثم وضع كفّه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه «2» . وقال جابر: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله بين يديه ركوة، فتوضأ منها، وأقبل الناس نحوه، وقالوا ليس عندنا ماء إلّا ما في ركوتك، فوضع النبي يده في الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون: قيل: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة «3» ، وروى هذه القصة جمع عظيم من الصحابة، ومثل هذا في هذه المواطن الحفلة «4» ، والجموع الكثيرة، لا تتطرّق التهمة إلى المحدّث به، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه، لما جبلت عليه النفوس من ذلك، ولأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل، فهؤلاء قد رووا هذا، وأشاعوه، ونسبوا حضور الجمّاء الغفير «5» له، ولم ينكر عليهم من الناس ما حدّثوا به عنهم أنهم فعلوا، وشاهدوا، فصار كتصديق جميعهم له. ومما يشبه هذا تفجير الماء ببركته، وانبعاثه بمسّه ودعوته، كما ورد عن معاذ ابن جبل في قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين وهي تبضّ بشيء من ماء مثل الشّراك، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع في شيء، ثم غسل عليه الصلاة والسلام فيه وجهه ويديه، وأعاده فيها، فجرت بماء كثير، فاستقى الناس، وفي رواية ابن اسحاق: فانخرق من الماء ما له حسّ كحسّ الصّواعق، ثم قال: يوشك

_ ابن مطعم وحذيفة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود. (1) رواه الشيخان (زهاء) : قدر. (2) رواه البخاري والدارمي واللفظ له الفضل: ما بقي من الشيء يسيل وترشح. (3) رواه البخاري ومسلم مختصرا (الركوة) إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. (4) أي الأماكن التي احتشد فيها الناس. (5) أي العدد الكبير من الناس.

ومن معجزاته عليه السلام قصة حنين الجذع.

يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هنا قد ملىء جنانا «1» . وقد قدّمنا ذلك في غزوة تبوك. وروي عن البراء، وسلمة بن الأكوع تكثير عين الحديبية بدعوته عليه الصلاة والسلام. وروى أبو قتادة، أنّ النّاس شكوا إلى رسول الله العطش في بعض أسفاره فدعا بالميضأة، فجعلها في ضبنه- ما بين الكشح إلى الإبط- ثم التقم فمها، فالله أعلم- أنفث فيها أم لا- فشرب النّاس حتى رووا، وملؤوا كلّ إناء معهم، فخيّل إليّ أنها كما أخذها مني. وكانوا اثنين وسبعين رجلا «2» . ورويت قصص مشابهة لهذه عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم في محال مختلفة بحيث لا يشك أحد في صدقها بعد تضافر الثقات على روايتها. ومن ذلك تكثير الطعام ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم: روى أبو طلحة أنه عليه الصلاة والسلام أطعم ثمانين- أو سبعين- رجلا من أقراص من شعير، جاء بها أنس تحت يده- أي إبطه- فأمر بها عليه الصلاة والسلام ففتّت وقال فيها ما شاء الله أن يقول «3» . وروى جابر أنه عليه الصلاة والسلام أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق، وقال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا. وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي. وإنّ عجيننا ليخبز. وكان عليه الصلاة والسلام قد بصق في العجين والبرمة، وبارك «4» . وروى أبو أيوب أنه صنع لرسول الله وأبي بكر طعاما يكفيهما، فأطعم منه عليه الصلاة والسلام مائة وثمانين رجلا «5» . وروى مثل ذلك في كثير من الصحابة، كعبد الرحمن بن أبي بكر. وسلمة بن الأكوع. وأبي هريرة. وعمر بن الخطاب. وأنس بن مالك، رضوان الله عليهم أجمعين. ومن معجزاته عليه السلام قصة حنين الجذع. قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب يقوم إلى

_ (1) حديث معاذ رواه مالك بن الموطأ وأخره مسلم في الفضائل و (تبض) تسيل (الشراك) وهو سير النعل ومعناه ماء قليل جدّا (جنانا) أي بساتين وعمرانا. وقد تحققت وأصبحت تبوك الان من أفضل المناطق الزراعية في السعودية. (2) رواه مسلم (الميضأة) : هي الإناء الذي يتوضأ به (فجعلها في ضبنه) ، أي حضنه. (3) رواه الشيخان (أبو طلحة) زوج أم سليم. (4) رواه الشيخان والعناق: الأنثى من ولد المعز. والبرمة: القدر من الحجارة. تغط: تغلي بالطعام، ويسمع صوت غليانها. (5) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني، وفي اسناده من لم أعرفه.

ومن معجزاته عليه السلام: إبراء المرضى، وذوي العاهات.

جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار. وفي رواية أنس: حتى ارتجّ المسجد بخواره. وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوه به «1» . وفي رواية المطلب: حتى تصدّع وانشق، حتى جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليه فسكت. زاد غيره: فقال عليه الصلاة والسلام «إنّ هذا بكى لما فقد من الذكر» «2» ، وزاد غيره: «والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزّنا على رسول الله، فأمر به فدفن تحت المنبر» . وهذا الحديث خرّجه أهل الصحة. ورواه من الصحابة كثيرون ورواه عنهم من التابعين ضعفهم. وبمن دون عدتهم يقع العلم لمن عني بهذا الباب. والله المثبّت على الصواب. ومن معجزاته عليه السلام: إبراء المرضى، وذوي العاهات. فقد أصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. فردّها علي الصلاة والسلام، فكانت أحسن عينيه «3» وأحدّهما، وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد. فما ضرب عليه ولا قاح «4» . وأصاب ابن ملاعب الأسنّة استسقاء، فبعث إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فأخذ بيده حثوة من الأرض، فتفل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجّبا يرى أنه قد هزىء به، فأتاه بها، وهو على شفا فشربها، فشفاه الله «5» . وتقدّم حديث علي ورمده في غزوة خيبر وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن عدّه، ورواه ثقات المسلمين الأعلام. أما ما منحه الله إياه من إجابة دعواته، فروي عن أنس بن مالك قال: قالت أمي سليم: يا رسول الله خادمك أنس، أدع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله

_ (1) منهم أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وسهل بن سعيد وأبو سعيد الخدري وبريدة وأم سلمة والمطلب بن أبي وداعة كلهم حدث بمعنى هذا الحديث وروى حديث الجذع البخاري عن جابر بن عبد الله وقد وصلت أحاديث حنين الجذع إلى درجة التواتر. (2) أخرجه أحمد وابن خزيمة في صحيحه. (3) رواه ابن اسحاق في سيرته والبيهقي في الدلائل ووصله أبو نعيم، دلائل النبوّة وأبو يعلي كلاهما من طريق عاصم عن عمر بن قتادة عن أبيه عن قتادة بن النعمان: وقال السيوطي في المناهل ووصله ابن عدي والبيهقي عن عاصم عن جده قتادة وذكره الهيثمي في المجمع وقال رواه الطبراني وأبو يعلي وفي اسناد الطبراني من لم أعرفهم وفي اسناد أبي يعلى عبد الحميد الحماني وهو ضعيف. (4) رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل والواقدي في المغازي. قوله (ولا قاح) : قاح الجرح: صار فيه القح. (5) حديث مرسل قال السيوطي في المناهل: رواه الواقدي وأبو نعيم في الدلائل (ملاعب الأسنّة) هو عامر ابن مالك (استسقاء) الاستسقاء: تجمع سائل مصلي في التجويف البريتونى لا يكاد يبرأ منه (حثوة) أي قبضة (يرى) : يعتقد (وهو على شفا) : أي قارب الهلاك.

وولده، وبارك فيه فيما اتيته» ، قال أنس: فو الله إنّ مالي لكثير، وإنّ ولدي وولد ولدي ليعادّون اليوم نحو المائة «1» ، ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة فكان نصيب كل زوجة من زوجاته الأربع من تركته ثمانون ألفا. وتصدّق مرّة بعير «2» فيها سبعمائة بعير. وردت عليه تحمل من كل شيء، فتصدّق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها «3» . ودعا لمعاوية بالتمكين في الأرض فنال الخلافة «4» . ودعا لسعد بإجابة الدعوة. فما دعا على أحد إلّا استجيب له «5» . وتقدم دعاؤه لعمر بن الخطاب أن يعزّ الإسلام به «6» . وقال لأبي قتادة: أفلح وجهك، اللهم! بارك في شعره وبشره، فمات وهو ابن سبعين سنة، كأنه ابن خمس عشرة «7» . ودعواته عليه الصلاة والسلام المستجابة أكثر من أن تحصى يطّلع عليها قارىء سيرتنا هذه. أما ما أطلعه الله عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما. فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا راه عرفه «8» . وما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدّنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سمّاه لنا باسمه، واسم أبيه وقبيلته «9» . وقد خرّج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به أصحابه ممّا وعدهم به من الظّهور على أعدائه «10» ،

_ (1) أخرجه مسلم (ليعادون) أي ليزيدون. (2) العير: ما جلب عليه الطعام من قوافل الإبل والبغال والحمير. (3) أحلاسها: الجلس: كل ما ولي ظهر الدابة تحت الرحل والقتب والسرج. (4) رواه البيهقي في الدلائل وقال إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث غير أن لهذا الحديث شواهد. ونسبه في المناهل إلى ابن سعد. (5) رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. (6) رواه الترمذي وأحمد وغيره من حديث ابن عمر وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. (7) رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل. (8) رواه أبو داود والبخاري ومسلم. (9) رواه أبو داود وفي إسناده عبد الله بن فروخ، قال المنذري: وقد تكلم فيه غير واحد. (10) رواه البخاري من حديث خبّاب ... «وليتمّنّ الله هذا الأمر ... حتى يسير الراكب» ..

وفتح مكّة «1» ، وبيت المقدس «2» ، واليمن، والشام، والعراق، وظهور الأمن، حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة، لا تخاف إلّا الله «3» . وإنّ المدينة ستغزى «4» . وتفتح خيبر على يد علي في غد يومه «5» . وما يفتح الله على أمّته من الدّنيا. ويؤتون من زهرتها «6» . وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر «7» . وقد قدّمنا كثيرا من ذلك في هذه السيرة. وقدمنا ما في القران من ذلك. وهذا يغنينا عن الإطالة في هذا المقام فحسبك ما سمعت. ومما ينير بصيرتك أيها القارىء ما منّ الله به على رسولنا من عصمته له من النّاس. وكفايته من اذاه قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «8» وقال وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا «9» وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ «10» وقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «11» ، ولمّا نزل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ صرف حجابه. وقال: انصرفوا فقد عصمني ربي عزّ وجلّ «12» . وقدّمنا حديث دعثور وإرادته قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعصمة الله لنبيّنا. وذكرنا كثيرا مما حصل من أبي جهل لما أراد بالرسول المكايد. فكفاه الله شرّه. وما منّ به عليه ليلة الهجرة. وحديث سراقة في الطريق، وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه عليه الصلاة والسلام مكث بين أعداء الدّاء بمكّة ثلاث عشرة سنة، وبين مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين. فما تمكّن أحد من إيصال أذى إليه صلّى الله عليه وسلّم بل كفاه مولاه شرّ أعدائه حتى أظهر الدّين وتمّمه. والحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده. ونسأله أن يوفق قارئي هذه السيرة إلى اتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه وأنصاره.

_ (1) رواه البخاري. (2) رواه البخاري. (3) رواه البخاري (تظعن) ترتحل (الحيرة) بلد في العراق بين النجف والكوفة. (4) رواه الشيخان. (5) رواه الشيخان وله طرق أخرى عن عدد من الصحابة. (6) رواه الشيخان. (7) رواه الشيخان. (8) سورة المائدة اية 67. (9) سورة الطور اية 48. (10) سورة الزمر اية 36. (11) سورة الحجر اية 95. (12) رواه الترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ في الفتح.

المحتوى مقدّمة الطبعة الثالثة 3 النسب الشريف 6 زواج عبد الله بامنة وحملها 9 الرضاع 10 حادثة شق الصدر 11 وفاة امنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب 11 السفر إلى الشام (المرة الأولى) 13 حرب الفجار 13 حلف الفضول 14 رحلته إلى الشام (المرّة الثانية) 15 زواجه خديجة 15 بناء البيت 16 معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة 18 سيرته في قومه قبل البعثة 19 ما أكرمه الله به قبل النبوّة 20 تبشير التوراة به 21 تبشير الإنجيل 23 حركة الأفكار قبل البعثة 24 بدء الوحي 25 فترة الوحي 28 عود الوحي 28 الدعوة سرا 29 الجهر بالتبليغ 35 الإيذاء 38 إسلام حمزة 43 هجرة الحبشة الأولى 51 إسلام عمر 51 رجوع مهاجري الحبشة 52 كتابة الصحيفة 55 هجرة الحبشة الثانية 55 نقض الصحيفة 56 وفود نجران 57 وفاة خديجة رضي الله عنها 58 زواج سودة 58 زواج عائشة رضي الله عنها 59 هجرة الطائف 60 الاحتماء بالمطعم بن عديّ 62 وفد دوس 62 الاسراء والمعراج 63 العرض على القبائل 66 بدء إسلام الأنصار 67 العقبة الأولى 67 العقبة الثانية 69 هجرة المسلمين إلى المدينة 70 دار الندوة 71 هجرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 72

النزول بقباء 75 هجرة الأنبياء 76 أعمال مكّة 76 مسجد قباء 77 الوصول إلى المدينة 78 أول جمعة 78 النزول على أبي أيوب 79 نزول المهاجرين 80 إخوة الإسلام 80 هجرة أهل البيت 81 حمّى المدينة 81 منع المستضعفين من الهجرة 81 بدء الأذان 84 يهود المدينة 86 المنافقون 87 معاهدة اليهود 88 مشروعية القتال 88 بدء القتال 90 سرية عبيدة بن الحارث 90 سرية 91 وفيات 91 السنة الثانية غزوة ودان 93 غزوة بواط 93 غزوة العشيرة 94 غزوة بدر الأولى 94 سرية عبد الله بن جحش 95 تحويل القبلة 96 صوم رمضان 96 صدقة الفطر 97 زكاة المال 97 غزوة بدر الكبرى 97 أسرى بدر 107 الفداء 108 العتاب في الفداء 112 غزوة قينقاع 113 جلاء قينقاع 114 غزوة السّويق 114 صلاة العيد 115 زواج علي بفاطمة عليهما السّلام 115 السنة الثالثة 116 قتل كعب بن الأشرف 116 غزوة غطفان 118 غزوة بحران 118 سرية زيد بن حارثة إلى القردة 119 غزوة أحد 119 غزوة حمراء الأسد 127 حوادث 128 سرية أبي سلمة إلى قطن 130 سرية بئر معونة 132 غزوة بني النضير 133 غزوة ذات الرقاع 134 غزوة بدر الاخرة 135 حوادث 136 غزوة بني المصطلق 137 حديث الإفك 140 غزوة الخندق 144 الخدعة في الحرب 147 هزيمة الأحزاب 148 غزوة بني قريظة 149 زواج زينب بنت جحش 151 الحجاب 153 فرض الحج 156

غزوة بني لحيان 158 غزوة الغابة 158 سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر 159 سرية محمد بن سلمة إلى دي القصة 160 سرية زيد بن حارثة إلى الجموم 160 سرية زيد بن حارثة إلى العيص 161 سرية زيد بن حارثة إلى الطرف 161 سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى 161 سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل 162 سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد 162 قتل أبي رافع 163 سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام 164 قصة عكل وعرينة 164 سرية عمر بن أميه الضمري إلى أبي سفيان 165 غزوة الحديبية 166 بيعة الرضوان 169 صلح الحديبية 169 مكاتبة الملوك 172 كتاب قيصر 173 حديث أبي سفيان 173 كتاب أمير بصرى 175 كتاب الحارث بن أبي شمر 175 كتاب المقوقس 175 كتاب النّجاشي 176 كتاب كسرى 177 كتاب المنذر بن ساوى 178 كتاب ملكي عمان 178 كتاب هوذة بن علي 179 زواج صفية 183 النهي عن نكاح المتعة 183 رجوع مهاجري الحبشة 184 فتح فدك 184 صلح تيماء 184 فتح وادي القرى 184 إسلام خالد ورفيقيه 185 سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 185 سرية بشير بن سعد 186 سرية بشير إلى بني مرة 186 سرية بن سعد إلى يمن وجبار 187 (عمرة القضاء) 187 زواج ميمونة 188 السنة الثامنة 189 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح 189 سرية غالب بن عبد الله بشير بن سعد بفدك 190 غزوة مؤتة 190 سرية كعب بن عمير الغفاري 192 إلى ذات اطلاح سرية الخبط 193 غزوة الفتح الأعظم 194 العفو عند المقدرة 199 وفود كعب بن زهير 202 بيعة النساء 203 هدم العزّى 203 هدم سواع 203 هدم مناة 203 غزوة حنين 204

سرية أبي عامر الأشعري 207 غزوة الطائف 207 تقسيم السبي 209 وفود هوازن 211 عمرة الجعرانة 212 سرية قيس بن سعد إلى صداء 213 وفود صداء 213 سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم 213 وفود تميم 213 سرية الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق 214 سرية علقمة بن مجزر إلى 215 طائفة بن الحبشة وفود عدي بن حاتم 217 غزوة تبوك 217 وفود صاحب أيلة 220 كتاب أهل أذرح وجرباء 221 مسجد الضّرار 221 حديث الثلاثة الذين خلّفوا 222 وفود ثقيف 222 كتاب أهل الطائف 223 هدم اللّات 224 حج أبي بكر 224 وفاة ابن أبي 225 وفاة أم كلثوم 225 سرية علي بن أبي طالب 226 إلى بن مذحج بعث العمال إلى اليمن 227 حجة الوداع 227 خطبة الوداع 228 الوفود 230 وفود نجران 230 وفود ضمام بن ثعلبة 231 وفود عبد القيس 232 وفود بني حنيفة 233 وفود طيء 233 وفود كندة 233 وفود أزدشنوءة 234 وفود رسول ملوك حمير 234 كتاب ملوك حمير 234 وفود همدان 235 وفود تجيب 236 وفود ثعلبة 236 وفود بني سعد بن هذيم 237 وفود بني فزارة 237 وفود بني أسد 238 وفود بني عذرة 239 وفود بني محارب 239 وفود غسّان 239 وفاة إبراهيم بن النّبي عليه السلام 239 السنة الحادية عشر 240 سرية أسامة بن زيد إلى 240 أهل أبني مرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم 241 صلاة أبي بكر بالناس 241 وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 243 شمائله عليه السلام 244 معجزاته عليه السلام 264 المحتوى 276

§1/1