نور الهدى وظلمات الضلال في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة في ((نور الهدى وظلمات الضلالة))، بيّنت فيها بإيجاز نور الإسلام، والإيمان، والتوحيد، والإخلاص، والسُّنّة، والتقوى، كما بيّنت ظلمات الكفر، والشرك، والنفاق، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، والبدعة والمعاصي، وكل ذلك مقروناً بالأدلة من الكتاب الكريم، والسنة المطهرة. ولا شكّ أن الله - عز وجل - أنزل القرآن الكريم على محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى (¬1)، قال الله - سبحانه وتعالى -: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آيات القرآن، للطبري، 16/ 512. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 1.

وقد قسمت البحث إلى سبعة مباحث، وتحت كل مبحث مطالب، وتحت كل مطلب مسالك على النحو الآتي: المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب والسنة. المبحث الثاني: نور التوحيد، وظلمات الشرك. المبحث الثالث: نور الإخلاص، وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة. المبحث الرابع: نور الإسلام، وظلمات الكفر. المبحث الخامس: نور الإيمان، وظلمات النفاق. المبحث السادس: نور السنة، وظلمات البدعة. المبحث السابع: نور التقوى، وظلمات المعاصي. وأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل القليل مباركاً خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به، وينفع به كلّ من انتهى إليه، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيّد الناس أجمعين نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف حرر يوم الأربعاء الموافق 28/ 10/1419هـ

المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب والسنة

المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب والسنة المطلب الأول: النور والظلمات في الكتاب الكريم جاء في كتاب الله - عز وجل - ذكر النور والظلمات في آيات كثيرة، وهذا فيه دلالة على الترغيب في العمل لاكتساب النور، وسؤال الله ذلك، والترهيب من الظلمات والاستعاذة بالله من ذلك، ومن هذه الآيات ما يأتي: 1 - قال الله - عز وجل - في شأن المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (¬1). جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة، ومقاتل، والضّحاك، والسُّدّي أن هذه الآيات نزلت في المنافقين، يقول: مَثَلُهم في نفاقهم كمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ ورأى ما حوله، فاتقى مما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طَفئت نارُه، فبقي في ظلمة خائفاً متحيِّراً، فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أَمِنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، فذلك نورهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف (¬2). واختار الإمام ابن جرير الطبري هذا القول، فقال: ((وأولى التأويلات بالآية: ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس)) (¬3)، وذكر رحمه الله أن هؤلاء المنافقين أظهروا إيمانهم ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 17 - 18. (¬2) تفسير البغوي، 1/ 53. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1/ 324، وذكر سنده لقولهم في: 1/ 323.

بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، حتى حُكِمَ لهم بذلك في الدنيا: في حقن الدماء والأموال، والأمن على الذرِّية، كمثل استضاءة الموقد للنار بالنار، حتى إذا انتفع بضيائها، وأبصر ما حوله خمدت النار، فذهب نوره، وعاد في ظلمة وحيرة، فالله - عز وجل - يُطفئ نورهم يوم القيامة، فيستنظروا المؤمنين؛ ليقتبسوا من نورهم، فيقال لهم: ((ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)) (¬1)، فقد حصل لهم في الآخرة ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها (¬2). واختار الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن هؤلاء آمنوا ثم كفروا فقال: ((وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، واستأنس بها، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يُبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصمُّ لا يسمع، أبكمُ لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا)) (¬3)، وقال رحمه الله: ((وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،1/ 326،والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 1/ 230. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 1/ 51.

هُم بِمُؤْمِنِينَ} (¬1)، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينافي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه، وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (¬2) انتهى (¬3). قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: ((مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد ناراً: أي كان في ظلمة عظيمة، وحاجة إلى النار شديدة، فاستوقدها من غيره، ولم تكن عنده مُعدَّةً، بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله، ونظر المحل الذي هو فيه، وما فيه من المخاوف، وأمنها، وانتفع بتلك النار، وقرت بها عينه، وظن أنه قادر عليها، فبينما هو كذلك ذهب الله بنوره، فزال عنه النور، وذهب معه السرور، وبقي في الظلمة العظيمة، والنار محرقة فذهب ما فيها من الإشراق، وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، والظلمة الحاصلة بعد النور، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين، ولم تكن صفةً لهم، فاستضاؤوا بها مؤقتاً، وانتفعوا، فحُقنت بذلك دماؤهم، وسَلِمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم كذلك إذ هجم عليهم الموتُ فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كلُّ همٍّ وغمٍّ وعذاب، وحصل لهم: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 8. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 3. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 1/ 51.

ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي، على اختلاف أنواعها، وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار؛ فلهذا قال تعالى: {صُمٌّ} أي عن سماع الخير، {بُكْمٌ} أي عن النطق به، {عُمْيٌ} أي عن رؤية الحق، {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}؛ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل، فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعاً منهم)) (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((شبَّه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا ناراً؛ لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم قوم سَفَر ضلُّوا الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم وأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، وقد سُدّت عليهم أبواب الهدى الثلاثة؛ فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه، ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سُدَّت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئاً، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها)) (¬2). وبيَّن رحمه الله تعالى أن الله - سبحانه وتعالى -: ((سَمَّى كتابه نوراً، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - نوراً، ودينه نوراً، وهُدَاه نوراً، ومن أسمائه النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله)) (¬3)، وبيّن رحمه الله: ((أن الخارجين عن ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية، 2/ 63. (¬3) المرجع السابق، 2/ 35، وانظر: 2/ 44.

2 - {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من}

طاعة الرسل يتقلَّبون في عشر ظلمات: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار، فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث، وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يتقلبون في عشرة أنوار، ولهذه الأمة ونبيها - صلى الله عليه وسلم - من النور ما ليس لأمة غيرها، ولنبيها - صلى الله عليه وسلم - من النور ما ليس لنبي غيره)) (¬1). 2 - وقول الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ والله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (¬2)، وهذا مثل آخر ضربه الله - عز وجل - للمنافقين، بمعنى: إن شئت مثِّلْهم بالمستوقد، وإن شئت بأهل الصيِّب، وهو المطر الذي يصوب: أي ينزل من السماء إلى الأرض، وقيل: {أَوْ} بمعنى الواو، يريد: وكصيِّبٍ {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} أي: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، {وَرَعْدٌ}: وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، {وَبَرْقٌ}، وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} البرق في تلك الظلمات {مَّشَوْاْ فِيهِ}، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}: أي وقفوا متحيرين (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 43. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 19 - 20. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل القرآن، للطبري، 1/ 333 - 362، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 1/ 233 - 242، وتفسير البغوي، 1/ 53 - 54، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 53، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27.

فالله تعالى شَبَّههم في كفرهم ونفاقهم بقومٍ كانوا في مفازةٍ وسوادٍ في ليلةٍ مظلمة، أصابهم فيها مطرٌ فيه ظلمات، من صفتها أن السَّاري لا يمكنه المشي فيها، وصواعق من صفتها أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هولها، وقوة صوتها المخيفة، وبرق من صفته أن يقرب من خطف أبصارهم، ويعميها من شدة توقُّده. فهذا مَثَلٌ ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر: القرآن؛ لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأبدان، والظلمات: الكفر والشرك الذي حذَّر عنه القرآن، والرعد ما خوِّفوا به من الوعيد، وذكر النار، والبرق ما فيه من الهدى والبيان، والوعد، وذكر الجنة، فالمنافقون يسدُّون آذانهم عند قراءة القرآن، مخافةَ ميل القلب إليه؛ لأن الإيمان عندهم كفر، والكفر موت {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: أي يبهر قلوبهم (¬1). وقال العلامة السعدي رحمه الله بعد أن ذكر تفسير الآية: ((فهكذا حالة المنافقين إذا سمعوا القرآن، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ونهيه، ووعيده جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فيروعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصيِّب الذي يسمع الرعد فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا ربما حصلت له السلامة، وأما المنافقون فأنَّى لهم السلامة، وهو تعالى محيط بهم: قدرةً، وعلماً، فلا ¬

_ (¬1) تفسير البغوي، 1/ 54.

3 - {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت}

يفوتونه، ولا يعجزونه، بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها أتمَّ الجزاء، ولَمّا كانوا مُبتلين بالصَّمَمِ، والبكم، والعمى المعنوي، ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي الحسية، ففيه تخويف لهم، وتحذير من العقوبة الدنيوية؛ ليحذروا فيرتدعوا عن بعض شرهم، ونفاقهم {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئاً فعله من غير ممانع ولا معارض)) (¬1). وقد تكلَّم الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً بعد أن ذكر المثل الناري للمنافقين، فقال: ((ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي، فشبههم بأصحاب صيِّب، وهو المطر الذي يصوَّب: أي ينزل من السماء، فيه ظلمات، ورعد، وبرق؛ فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن، ووعده، ووعيده، وتهديده، وأوامره، ونواهيه، وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة، ورعد، وبرق؛ فلضعفه وخوفه جعل أصبعيه في أذنيه خشيةً من صاعقة تصيبه)) (¬2). 3 - قال الله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27. (¬2) أمثال القرآن، ص18، وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، 2/ 68، ففيه كلام عظيم النفع. (¬3) سورة البقرة، الآية: 257.

4 - {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا}

لا شك أن الله - عز وجل - نصير المؤمنين، وظهيرهم، ويتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات: الكفر، والشرك، والضلالة، إلى نور: الإيمان، والتوحيد، والهداية، وقد جعل سبحانه الظلمات للكفر مثلاً؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجبٌ أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحة أسبابه، فالله - عز وجل - وليُّ المؤمنين، ومُبصِّرهم حقيقة الإيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم فموفِّقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظُلَمِ سواتره عن إبصار القلوب، والذين كفروا بجحد وحدانيته، نُصَراؤهم وظُهراؤهم الذين يتولونهم {الطَّاغُوتُ} وهم: الأنداد، والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله، يخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، وشكوكه الحائلة دون إبصار القلوب، ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسُبُله (¬1). 4 - وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (¬2). فبيّن الله - عز وجل - أنه قد جاء جميع الناس حجة منه سبحانه، وبرهان قاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهة، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله حجة قطع بها أعذار الناس، وأنزل الله معه النور الواضح المبين ((وهو القرآن الكريم)) ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 1/ 318، و5/ 424، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 3/ 282. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 174 - 175.

5 - {قد جاءكم من الله نور}

الذي يُبيّن الحجة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه النجاة من عذاب الله، وأليم عقابه، لمن سلكها واستنار بضوئها (¬1). والله - عز وجل - قد جعل النور في كتبه التي أنزلها على رسله، قال الله - عز وجل -: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} (¬3)، وقال تعالى في عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} (¬4)، وقد أنزل الله - عز وجل - القرآن الكريم، وختم به هذه الأنوار، فهو النور الأعظم، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} (¬5). 5 - وقال الله - عز وجل -: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (¬6): يعني بالنور محمداً - صلى الله عليه وسلم - الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به، يُبيّن الحق، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (¬7)، ومن إنارته - صلى الله عليه وسلم - للحق تبيينه لليهود كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب، وقوله تعالى: {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} يعني كتاباً فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 9/ 427،وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 560. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 91. (¬4) سورة المائدة، الآية: 46. (¬5) سورة المائدة، الآية: 48. (¬6) سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16. (¬7) سورة الأحزاب، الآيتان: 45 - 46.

6 - {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض}

من توحيد الله، وحلاله، وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يُبين للناس ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله (¬1). {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} سبل السلام: طرق السلام، والسلام هو الله - عز وجل -، وسبيل الله الذي شرعه لعباده، ودعاهم إليه، وابتعث به رسله: هو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا به، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: يعني من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام وضيائه (¬2). وقال السعدي رحمه الله: ((ظلمات: الكفر، والبدعة، والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور: الإيمان، والسنة، والطاعة، والعلم والذكر)) (¬3). 6 - وقال - عز وجل -: {الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (¬4)، قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: ((واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال السدي، وقتادة، وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل، وضياء النهار، وقال الحسن: الكفر، والإيمان، قلت: اللفظ يعمُّه)) (¬5)، وقال السعدي رحمه الله: ((فحَمِد نفسه على خلق السموات والأرض ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 10/ 143. (¬2) المرجع السابق، 10/ 145. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص188. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 1. (¬5) الجامع لأحكام القرآن، 6/ 361.

7 - {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا}

الدّالّة على كمال قدرته، وسَعَة علمه، ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسِّي من ذلك: كالليل والنهار، والشمس والقمر، والمعنوي: ظلمات: الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم، والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله يدلّ دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة وإخلاص الدين له (¬1). 7 - وقال - سبحانه وتعالى -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). هذا مثل ضربه الله للمؤمن الذي كان ميتاً: أي في الضلالة حائراً، فأحيا الله قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتِّباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، فقد كان ميِّت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان، وبجهله بتوحيد الله وشرائع دينه، وتَرْكِهِ العمل لله بما يؤدي إلى نجاته، فأحياه الله بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه، وهي روح هدايته للإسلام، ومعرفة الله وتوحيده، ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، وجعل له نوراً يمشي به بين الناس، وهو نور القرآن والإسلام، فهل يستوي هذا بمن هو في الظلمات: ظلمات الجهل، والكفر، والشرك، والشكّ، والغيّ ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص212. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 163.

8 - {يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم}

والإعراض، والمعاصي؟ ليس بخارجٍ منها؛ قد التبست عليه الطرق وأظلمت عليه المسالك، فحضره الهمُّ، والغمُّ، والحزن، والشقاء، فنبه - عز وجل - العقول بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات، فكأنه قيل: فكيف يُؤثِر من له مسكة من عقل أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيِّراً؛ فأجاب بأنه {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، فلم يزل الشيطان يُحَسِّن لهم أعمالهم، ويُزَيِّنُها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقاً، وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم (¬1). 8 - وقال - سبحانه وتعالى -: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). بيّن وأوضح - سبحانه وتعالى - أن اليهود والنصارى ومن معهم من المشركين {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} ونور الله: دينه الذي أرسل به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وسمّاه الله نوراً؛ لأنه يستنار به في ظلمات الجهل، والأديان الباطلة؛ فإنه علمٌ بالحق، وعملٌ بالحق، ويدخل في هذا النور حجج الله على توحيده؛ فإنّ البراهين نور لما فيها من البيان، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهاهم من المشركين يريدون أن يطفئوا نور الله بمجرد أقوالهم الباطلة، وجدالهم، وافترائهم، فمثلهم كمثل من يريد أنْ ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 12/ 88، ومدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 258، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 163، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص234. (¬2) سورة التوبة، الآية: 32.

9 - {قل هل يستوي الأعمى والبصير}

يُطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فلا على مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها (¬1)، قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). 9 - وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (¬3)، قال قتادة: ((أما الأعمى والبصير: فالكافر والمؤمن، وأما الظلمات والنور: فالهدى والضلالة)) (¬4). 10 - وقال - عز وجل -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬5)، قال قتادة: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلالة إلى الهدى)) (¬6)، قال السعدي رحمه الله: ليخرج الناس من ظلمات الجهل، والكفر، والأخلاق السيئة، وأنواع المعاصي إلى نور العلم، والإيمان، والأخلاق الحسنة)) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 14/ 213 - 214، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 8/ 614، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 334، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص295، وص797. (¬2) سورة الصف، الآيتان: 7 - 8. (¬3) سورة الرعد، الآية: 16. (¬4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 16/ 407. (¬5) سورة إبراهيم، الآية: 1. (¬6) جامع البيان عن تأويل أي القرآن، للطبري، 16/ 512. (¬7) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص375.

11 - {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا}

11 - وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (¬1): أي ادعهم من الضلالة إلى الهدى (¬2). وقال السعدي رحمه الله: ((أي ظلمات الجهل والكفر، وفروعه إلى نور العلم والإيمان وتوابعه)) (¬3). 12 - وقال الله - عز وجل -: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). وقد فُسِّرَ قوله تعالى: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فقيل في تفسير ذلك أقوال: 1 - الله هادي أهل السموات والأرض. 2 - الله يُدبِّر الأمر في السموات والأرض: نجومها، وشمسها، وقمرها، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض. 3 - الله ضياء السموات والأرض (¬5). ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 5. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 16/ 518. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص316. (¬4) سورة النور، الآية: 35. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، 19/ 177، وتفسير البغوي، 3/ 345، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 11/ 258، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 280، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 44.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلِّها)) (¬1). فالله - عز وجل - هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من الضلالة ينجون، وهو سبحانه منوِّر السموات والأرض، ومُدَبِّر الأمر فيهما: بنجومها، وشمسها، وقمرها، وهو - عز وجل - نور؛ فقد سمَّى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ودينه نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نوراً تتلألأ (¬2). قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (({الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك المعنوي يرجع إلى الله: فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات؛ ولهذا كل محل يفقد نوره فَثمَّ الظلمة والحصر)) (¬3). والنور يضاف إلى الله - عز وجل - على وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله، فالأول كقوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 46. (¬2) انظر: المرجع السابق، 2/ 44. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص517.

رَبِّهَا} (¬1)، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء (¬2)، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات صفة النور والفعل لله - عز وجل -، وأنه نور السموات والأرض وما فيهما، ومُنوِّرهما وما فيهما، وهي على النحو الآتي: الحديث الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام يتهجَّد من الليل قال: ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيِّم السموات والأرض ومن فيهن ... )) الحديث (¬3). الحديث الثاني: حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: ((إن الله - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (¬4). فالله - عز وجل - لا ينام وهو منزه عن ذلك، قال الله - عز وجل -: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} (¬5)، والسِّنة: النعاس. وهو - عز وجل - يخفض الميزان ويرفعه، وسُمِّي الميزان قسطاً؛ لأن القسط العدل وبالميزان يقع العدل. والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة، وقيل: المراد بالقسط: الرزق ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 69. (¬2) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 45. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب التهجد بالليل، 1/ 532، برقم 1120، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 769. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينام))، 1/ 162، برقم 179. (¬5) سورة البقرة، الآية: 255.

الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسعه، والله أعلم (¬1)، وهو - عز وجل - يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده؛ فإن الملائكة الحَفَظَة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل، والله أعلم (¬2)، والله تبارك وتعالى حجابه النور: أي الحجاب المانع والساتر من رؤيته النور، وسبحات وجهه: نوره وجلاله، ولو كشف وأزال الحجاب المُسمَّى نوراً، وتجلّى لخلقه لأحرقت سبحات وجهه جميع مخلوقاته؛ لأن بصره - عز وجل - محيط بجميع الكائنات (¬3). الحديث الثالث: حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:هل رأيت ربك؟ قال: ((نورٌ أنَّى أراه))،وفي رواية: ((رأيتُ نوراً)) (¬4)،والمعنى حجابه النور فكيف أراه (¬5)،قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ((معناه كان ثَمَّ نور، أو حال دون رؤيته نور، فأنّى أراه)) (¬6). وقوله - عز وجل -: {مَثَلُ نُورِهِ} قيل في تفسير ((الهاء)) أقوال على النحو الآتي: القول الأول: مثل نور الله: أي مثل: هدى الله في قلب المؤمن. القول الثاني: مثل نور المؤمن الذي في قلبه من القرآن والإيمان. القول الثالث: مثل نور محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 16. (¬2) انظر: المرجع السابق، 3/ 17. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 17. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نور أنى أراه)) 1/ 161، برقم 178. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 15. (¬6) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 47.

القول الرابع: مثل نور القرآن (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والصحيح أنه يعود على الله - عز وجل -، والمعنى: مثل نور الله - سبحانه وتعالى - في قلب عبده، وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا مع تضمُّن عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتمّ معنىً ولفظاً، وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه، ويُضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل، وقابل، ومحل، وحامل، ومادة، وقد تضمَّنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل: فالفاعل هو الله تعالى، مُفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء، والقابل العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحامل: همته، وعزيمته، وإرادته، والمادة: قوله وعمله)) (¬2). وقوله - عز وجل -: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} فيه أقوال النحو الآتي: القول الأول: المشكاة: كلّ كُوَّةٍ لا منفذ لها، وهذا مثل ضربه الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمصباح قلبه، والزجاجة صدره. القول الثاني: المشكاة: صدر المؤمن، والمصباح القرآن والإيمان، والزجاجة قلبه. ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 178 - 179، وتفسير البغوي، 3/ 345، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 11/ 261، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 280. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 49 - 50.

القول الثالث: هو مثل للمؤمن غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده، والمشكاة مثل لجوفه، ومعنى نور على نور: يعني إيمانه وعمله. القول الرابع: مثل القرآن في قلب المؤمن. واختار الإمام ابن جرير رحمه الله أن أولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلوب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد الذي أنزله إليهم، فآمنوا به وصدّقوا بما فيه، في قلوب المؤمنين مثل مشكاة، وهي عمود القنديل الذي في الفتيلة، وذلك هو نظير الكوّة التي تكون في الحيطان لا منفذ لها، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ، وهو أجوف مفتوح الأعلى، فهو كالكوّة التي في الحائط لاتنفذ، {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: والمصباح هو السراج، وجعل السراج هو المصباح مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}: يعني أن السراج الذي في المشكاة في القنديل: وهو الزجاجة وذلك مثل القرآن، يقول القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله، والشك فيه واستنارته بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه البينات، ومواعظه فيها بالكوكب الدّريّ، فقال: {الزُّجَاجَةُ}، وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه، كأنه كوكب دُرّيّ)) (¬1). وقوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}، وفي تفسيرها أقوال: ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 184، بتصرف يسير.

1 - قيل: شرقية غربية تطلع عليها الشمس بالغداة، وتغرب عليها، فيصيبها حر الشمس بالغداة والعشي، وهذا أجود لزيتها. 2 - وقيل: هي شجرة وسط الشجر ليست من الشرق ولا من الغرب. 3 - وقيل: هي شجرة ليست من شجر الدنيا. قال الإمام الطبري رحمه الله: ((وأولى هذه الأقوال قول من قال: إنها شرقية غربية، وقال: ومعنى الكلام: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية)) (¬1). وقوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. والمعنى: هذا القرآن نور من عند الله أنزله إلى خلقه يستضيئون به {عَلَى نُورٍ} على الحجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن، مما يدل على حقيقة وحدانيته، وذلك بيان من الله، ونور على البيان، والنور الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله، والله - عز وجل - يوفق لاتّباع نوره من يشاء من عباده، ويُمثّل الأمثال والأشباه للناس، كما مثل لهم هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في هذه الآية من الأمثال، وهو سبحانه يضرب الأمثال عن علم سبحانه - عز وجل - (¬2). ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 187، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 11/ 261، وتفسير البغوي، 3/ 347، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 281، واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 51، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص517. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 188.

وذكر ابن كثير رحمه الله أن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال في تفسير: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} [إيمان العبد وعمله]: ((فهو يتقلب في خمسة أنوار: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة)) (¬1). وتكلّم العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله على تفسير: {مَثَلُ نُورِهِ} الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} أي كوة {فِيهَا مِصْبَاحٌ}؛ لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} من صفائها وبهائها {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي مضيء إضاءة الدُّرّ، {يُوقَدُ} ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ}: أي يوقد من زيت الزيتون، الذي ناره من أنور ما يكون {لا شَرْقِيَّةٍ} فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، {وَلا غَرْبِيَّةٍ} فقط، فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض كزيتون الشام، تصيبه الشمس أول النهار وآخره، فيحسن ويطيب، ويكون أصفى لزيتها؛ ولهذا قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا} من صفائها {يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فإذا مسته النار أضاء إضاءة بليغة {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور النار ونور الزيت ووجه هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فُطِر عليها بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة إشعال النار فتيلة ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، 3/ 281، وانظر: تفسير البغوي، 3/ 347.

ذلك المصباح، وهو صافي القلب: من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان أضاء إضاءةً عظيمة؛ لصفائها من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدّريّة، فيجتمع له: نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، ونور على نوره، ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} ممن يعلم زكاءه وطهارته، وأنه يزكى معه وينمو، {وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} ليعقلوا عنه، ويفهموا لطفاً منه بهم، وإحساناً إليهم؛ وليتضح الحق من الباطل، فإن الأمثال تُقرِّب المعاني المعقولة من المحسوسة، فيعلمها العباد علماً واضحاً {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فعلمه محيط بجميع الأشياء، فَلْتَعْلموا أن ضربه الأمثال ضربُ من يعلم حقائق الأشياء، وتفاصيلها، وأنها مصلحة للعباد، فليكُن اشتغالكم بتدبُّرها وتعقُّلها، لا بالاعتراض عليها، ولا بمعارضتها، وأنتم لا تعلمون)) (¬1)، وهذه الآية من أولها إلى آخرها فيها فوائد عظيمة، وأمثال حكيمة بليغة؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني، وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقرُّ به عيون أهله، وتبتهج به قلوبُهم، وفي التشبيه لأهل المعاني طريقتان: أحدهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذاً، وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمّتها بنور المؤمن من غير تعرض ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص517.

لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبَّه، ومقابلته بجزء من المشبَّه به، وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم، فتأمّل صفة مشكاة، وهو كوّة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء، وقد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدّرّيّ في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقوداً من زيت شجرة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}: بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل تصيبها الشمس أعدل إصابة، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به. والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصَّل، فقيل: المشكاة: صدر المؤمن، والزجاجة قلبه، وشُبِّه قلبه بالزجاجة لرقّتها، وصفائها، وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن، فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة: فهو يرحم، ويحسن، ويتحنّن، ويُشفق على الخلق برأفته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه، ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتدّ في أمر الله تعالى، ويتصلّب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى، وقد جعل الله القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: ((القلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه: أرقّها وأصلبها وأصفاها)) (¬1)، والمصباح: هو نور ¬

_ (¬1) عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة يرفعه: ((إن لله تبارك وتعالى في الأرض آنية، وأحب آنية الله إليه ما رقّ منها وصفا، وآنية الله في الأرض قلوب عباده الصالحين)). أحمد في الزهد، ص283، برقم 827، وصححه الألباني بعد أن ذكر طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 263، برقم 1691.

13 - {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة}

الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى، ودين الحق، وهي مادة المصباح، التي يَتَّقِد منها، والنور على النور: نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر، فيزداد العبد نوراً على نور؛ ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه، ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل، والشرع، والفطرة، والوحي، فيريه عقله، وفطرته، وذوقه أن الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة، بل يتصادقان ويتوافقان، فهذا علامة النور على النور عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشُّبَه الباطلة، والخيالات الفاسدة (¬1). 13 - وضرب الله - عز وجل - مثلين لبُطلان عمل الكفار فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬2). فالمثل الأول ضربه الله - عز وجل - لأعمال الكفرة الذين جحدوا توحيده، وكذّبوا بالقرآن وبما جاء به، مَثَلُ أعمالهم التي عملوها كسرابٍ بقِيعةٍ - ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 49 - 52، بتصرف يسير. (¬2) سورة النور، الآيتان: 39 - 40.

جمع قاعٍ - يحسبه العطشان ماءً، حتى إذا جاءه ملتمساً ماءً يستغيث به من عطشه لم يجد السراب شيئاً، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غرور، يحسبون أنها منجيتهم عند الله من عذابه كما حسب الظمآن السراب ماءً، فظنه يرويه من ظمئه، حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله لم يجده ينفعه شيئاً؛ لأنه عمله على كفرٍ بالله، ووجد هذا الكافرُ اللهَ عند هلاكه بالمرصاد، فوفّاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا، وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليها منه. والمثل الثاني: ضربه الله - عز وجل - في بطلان أعمال الكفار، مثل ظلمات في بحر عميق كثير الماء، يغشاه موج، ومن فوق الموج موج آخر يغشاه، ومن فوق الموج الثاني سحاب، فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم، والبحر اللُّجّيِّ مثلاً لقلب الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات: يغشاه الجهل بالله؛ لأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله، وختم على سمعه فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حق الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض (¬1)، وهذا كقوله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُون} (¬2)، قال السعدي رحمه الله: ((فالكفار تراكمت على قلوبهم الظلمات: ظلمة الطبيعة التي لا خير فيها، ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 195 - 199، وأمثال القرآن، لابن القيم، ص22، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 286. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 23.

الناس قسمان:

وفوقها ظلمة الكفر، وفوق ذلك ظلمة الجهل، وفوق ذلك ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر، فبقوا في الظلمة متحيّرين، وفي غمرتهم يعْمَهُون، وعن الصراط المستقيم مُدبرون، وفي طرق الغي والضلال يتردّدون، وهذا؛ لأن الله خذلهم فلم يُعطِهم من نوره)) (¬1). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً بعد أن فسَّر الآيات من قول الله تعالى: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}، هذا مضمونه: فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طوائف بني آدم كلّهم أتمّ انتظام، واشتملت عليهم أكمل اشتمال؛ فإن الناس قسمان: القسم الأول: أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله، وأن كل ما عارضه فشبهات تشتبه على من قلّ نصيبه من العقل والسمع ... وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح. القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، وهؤلاء قسمان: 1 - الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. 2 - أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاط ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص519.

الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أقسام:

بهم من كل جهة، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلاً، فأعمالهم التي عملوها على غير بصيرة، كظلمات: ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق؛ فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمداً - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق يتقلّب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة: فقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم (¬1). ثم ذكر رحمه الله أن شيخه ابن تيمية قال: الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أقسام: * القسم الأول: قبلوه ظاهراً وباطناً، وهم نوعان: - النوع الأول: أهل الفقه فيه، والفهم، والتعليم، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه، وفهموا مراده، وبلّغوه إلى الأمة، واستنبطوا أسراره، وكنوزه، فهؤلاء كمثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم، وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت، والدواء، وسائر ما يصلح لهم. - النوع الثاني: حفظوه، وضبطوه وبلّغوا ألفاظه إلى الأمة، فحفظوا عليهم النصوص، وليسوا من أهل الاستنباط والفقه في مراد الشارع، فهم أهل حفظ وضبط، وأداء لِمَا سمعوه، وهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس، فوردوه، وشربوا منه، وسقوا منه أنعامهم، وزرعوا به. ¬

_ (¬1) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على المعطلة والجهمية، 2/ 53 - 58.

القسم الثاني: من رده ظاهرا وباطنا، وكفر به ولم يرفع به رأسا وهؤلاء أيضا نوعان:

* القسم الثاني: من ردّه ظاهراً وباطناً، وكفر به، ولم يرفع به رأساً، وهؤلاء أيضاً نوعان: النوع الأول: عرفه وتيقَّن صحته، وأنه حق، ولكن حمله الحسد، والكِبر، وحب الرئاسة، والملك، والتقدم بين قومه على جحده، ودفعه بعد البصيرة واليقين. النوع الثاني: أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء سادتنا وكبراؤنا، وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه، ولنا أسوة بهم، ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم، ولو كان حقاً لكانوا هم أهله، وأولى بقبوله، وهؤلاء بمنزلة الدوّابّ والأنعام، يساقون حيث يسوقهم راعيهم (¬1). * القسم الثالث: الذين قبلوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وآمنوا به ظاهراً، وجحدوه وكفروا به باطناً، وهم المنافقون، وهم أيضاً نوعان: النوع الأول: من أبصر ثم عمي، وعلم ثم جهل، وأقرّ ثم أنكر، وآمن ثم كفر، فهؤلاء رؤوس أهل النفاق، وسادتهم، وأئمتهم، ومثلهم مثل من استوقد ناراً، ثم حصل بعدها على الظلمة. النوع الثاني: ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق فكاد أن يخطفها، لضعفها وقوته، وأصمّ آذانهم صوت الرعد، فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، فلا يقربون من سماع القرآن والإيمان؛ بل يهربون منه، ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد، ¬

_ (¬1) انظر: وصف الله لهم في سورة البقرة، الآيتان: 166 - 167، وسورة الأحزاب، الآيات: 66 - 68، وسورة غافر، الآيتان: 47 - 48، وسورة ص، الآيات: 57 - 61.

القسم الرابع: يكتمون إيمانهم في أقوامهم، ولا يتمكنون من إظهاره،

فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنيه. * القسم الرابع: يكتمون إيمانهم في أقوامهم، ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون، الذي يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان ملك نصارى الحبشة، وكان في الباطن مؤمناً، وغير هؤلاء كثير (¬1). 14 - وقال - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬2): أي الله - عز وجل - الذي يذكركم ويثني عليكم، وملائكته يدعون لكم، ويستغفرون لكم، وبسبب رحمته بكم وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال، والكفر، والمعاصي والذنوب إلى نور الهدى والإيمان، واليقين، والتوفيق، والعلم والعمل (¬3)، قال القرطبي رحمه الله: ((ومعنى هذا التثبيت على الهداية، لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية)) (¬4). 15 - وقال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 72 - 76، بتصرف يسير. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 43. (¬3) انظر: جامع البيان، للطبري، 2/ 280، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 446، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص614. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 14/ 193. (¬5) سورة فاطر، الآيات: 19 - 22.

هذه أمثال ضربها الله - عز وجل - للمؤمن والإيمان، والكافر والكفر، كما أن هذه الأشياء المذكورات المتباينة المختلفة لا تتساوى، فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى، فلا يستوي الكافر والمؤمن، والجاهل والعالم، والضال والمهتدي، ولا أصحاب النار وأصحاب الجنة، ولا أموات القلوب وأحياؤها؛ فإن بين هذه الأشياء من التفاوت ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإذا علمت المراتب، وميزت الأشياء، وبان الذي ينبغي أن يُتنافس في تحصيله من ضدّه، فليختر الحازم لنفسه ما هو أولى وأحق بالإيثار (¬1). وقد جاء هذا التفسير عن السلف الصالح، فقد ذكر الإمام ابن جرير رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}، قال: ((هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية، يقول: وما يستوي الأعمى، والظلمات، والحرور، ولا الأموات، فهو مثل أهل المعصية، ولا يستوي البصير، والنور، ولا الظل، والأحياء، فهو مثل أهل الطاعة)) (¬2)، وقال قتادة: (( ... خلقاً فُضِّل بعضه على بعض، فأما المؤمن فَعَبْدٌ حي الأثر، حي البصر، حي النية، حي العمل، وأما الكافر فعًبْدٌ ميت: ميت البصر، ميت القلب، ميت العمل)) (¬3) فاتضح بذلك أن الأعمى عن دين الله لا يستوي هو والذي ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 20/ 457، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 14/ 327، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 530، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص634. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 20/ 458. (¬3) المرجع السابق، 20/ 458.

16 - {أفمن شرح الله صدره للإسلام}

قد أبصر دينه، وعلم وعمل، قال الله - عز وجل -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1). وقد قال الله - عز وجل - عن أصحاب الظلمات: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ الله يُضْلله وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2)،فهم صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، فلا ينطقون إلا بالباطل، في الظلمات منغمسون: ظلمات الجهل، والكفر، والشرك، والظلم، والعناد، والإعراض، والمعاصي، وهذا من إضلال الله إيَّاهم؛ فإنه المنفرد بالهداية والإضلال بحسب ما اقتضاه فضله، وحكمته، وعدله (¬3). 16 - وقال الله - عز وجل -: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬4)، يقول تعالى: أفمن فسح الله قلبه، وشرح صدره لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته، فهو على نور من ربه، وعلى بصيرة مما هو عليه، ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك الأمر متَّبع، وعما نهاه الله عنه منتهٍ، وقد انشرح صدره للإسلام، فاتَّسع لتلقّي أحكام الله والعمل بها، منشرحاً قرير العين، كمن أقسى الله قلبه فأخلاه ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 39. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 11/ 350، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص218. (¬4) سورة الزمر، الآية: 22.

17 - {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}

من ذكره، وضيَّقه عن استماع الحق، واتّباع الهدى، والعمل بالصواب، فهو لا يلين لكتاب الله، ولا يتذكر آياته، ولا يطمئن بذكره؛ بل هو معرض عن ربه ملتفت إلى غيره، فهذا له الويل الشديد، والشر الكبير (¬1)، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬2). 17 - وقال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الأمُورُ} (¬3). كما كان الله - عز وجل - يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كذلك أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العظيم، وسمّاه روحاً؛ لأن الروح يُحْيى به الجسد، والقرآن تَحْيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين؛ لِمَا فيه من الخير الكثير والعلم الغزير، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول القرآن يدري ما شرائع الإيمان ومعالمه على التفصيل الذي شرع له في القرآن، ولكن جعل الله القرآن نوراً يرشد به، ويهدي من يشاء من ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 21/ 277، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 15/ 236، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 51، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص668. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬3) سورة الشورى، الآيتان: 52 - 53.

عباده، فيستضيئون بهذا القرآن في ظلمات الكفر، والشبهات، والضلال، والبدع، والشرك، والشهوات، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم (¬1)، كقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). فهذا القرآن يعظ عن الأعمال الموجبة لسخط الله المقتضية لعقابه، ويحذر عنها ببيان آثارها ومفاسدها، وهو شفاء لِمَا في الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن [عدم] (¬3) الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني؛ فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد مما يوجب للعبد الرغبة في الخير، والرهبة عن الشر (¬4)، وكقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬5)، فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين بها، وأما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياته إلا خساراً؛ لأن الحجة ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 21/ 599 - 561، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 16/ 53 - 59، وتفسير البغوي، 4/ 132، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 124، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 87 - 88، والضوء المنير على التفسير، من كتب ابن القيم، جمع: علي الصالحي، 5/ 323. (¬2) سورة يونس، الآية: 57. (¬3) زيادة يقتضيها السياق، أو الصادرة عن الانقياد للشرع. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص323. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 82.

تقوم عليهم به، فالشفاء الذي تضمنه القرآن عام لشفاء القلوب من الشُّبَه، والجهالات، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والقصود الرديئة؛ لأنه مشتمل على العلم اليقين الذي تزول به كل شبهة وجهالة، والوعظ والتذكير الذي يزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها، فمتى عمل به العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل (¬1)، كقوله - عز وجل -: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬2)، فهو يهديهم لطريق الرشد، والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة ما به تحصل الهداية التامة، وهو شفاء لهم من الأسقام القلبية؛ لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق، ويحث على التوبة النصوح، التي تغسل الذنوب، وتشفي القلوب، أما الذين لا يؤمنون بالقرآن ففي آذانهم صمم عن استماعه وإعراض عنه، وهو عليهم عمى، فلا يبصرون به رشداً، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالاً؛ لأنهم إذا ردّوا الحق ازدادوا عمىً إلى عماهم، وغيّاً إلى غيهم، وينادون إلى الإيمان ويدعون إليه فلا يستجيبون، بمنزلة الذي يُنادى وهو في مكان بعيد لا يسمع داعياً، ولا يجيب منادياً، والمقصود أن الذين لا يؤمنون بالقرآن لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيراً، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم وكفرهم (¬3). ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص416. (¬2) سورة فصلت، الآية: 44. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص697.

وفي قوله - عز وجل - في أول الآية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} مال الإمام ابن جرير رحمه الله إلى أن الروح هنا هو القرآن الكريم، وجزم به الحافظ ابن كثير رحمه الله، والسعدي رحمه الله، وقيل: إن الروح هنا: النبوة، وقيل: الرحمة، وقيل: الوحي (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية: ((أي جعلنا ذلك الروح نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، فَسمَّى وحيه روحاً، لِمَا يحصل به من حياة القلوب والأرواح، التي هي الحياة الحقيقية، ومن عدمها فهو ميت لا حي، والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن لم يحيَ به في الدنيا فهو ممن له جهنم، لا يموت فيها ولا يحيا، وأعظم حياة في الدور الثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الجزاء أعظمهم نصيباً من هذه الحياة بهذه الروح، وسمّاه نوراً لِمَا يحصل به من استنارة القلوب، وإضاءتها، وكمال الروح بهاتين الصفتين: بالحياة، والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، فإن كان العبد مشاراً إليه: بالزهد، والفقه، والفضيلة؛ فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل، والبحث، والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 559، وتفسير البغوي، 4/ 132، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 16/ 53، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 124.

باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال)) (¬1). وقد أمر الله - عز وجل - بالإيمان بهذا النور العظيم فقال: {فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬2). ولا شك أن ما في الكتاب الكريم من الأحكام، والشرائع، والأخبار أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل؛ ولهذا سماه الله نوراً (¬3). وقد كتب الله الفوز والفلاح لمن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ونصره، واتَّبع النور الذي أُنزل معه، فقال - عز وجل -: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4)، ومع هذا البيان الواضح، والنور الساطع فقد كذَّب المشركون واليهود النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فعزَّاه الله مُسلِّياً له (¬5) فقال: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (¬6)، وقال - عز وجل -: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (¬7). ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية، 2/ 88. (¬2) سورة التغابن، الآية: 8. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 23/ 419، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 18/ 132، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص803. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 7/ 450، 17/ 459، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 4/ 304، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 434، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص126. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 184. (¬7) سورة فاطر، الآية: 25.

18 - {هو الذي ينزل على عبده آيات}

وقد ذم الله - عز وجل - من يجادل بالباطل بغير علم صحيح، ولا هدى، ولا كتاب منير يوضح الحق ويبينه، فلا عقل مرشد، ولا متبوع مهتدٍ، ولا حجة عقلية ولا نقلية، قال الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (¬1). 18 - وقال الله - سبحانه وتعالى -: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬2)، الله - عز وجل - الذي ينزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - آياتٍ واضحات، وحججاً دامغاتٍ، ودلائل باهراتٍ، وبراهين قاطعات، وأعظمها القرآن الكريم؛ ليخرج الناس بإرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أنزله عليه من الكتاب والحكمة: من ظلمات الضلالة، والشرك والكفر، والجهل، والآراء المتضادة، إلى نور الإيمان والتوحيد، والعلم والهدى، وهذا من رحمته بعباده وإحسانه إليهم، فله الشكر والحمد والثناء الحسن، لا إله غيره ولا رب سواه (¬3)، وهذا كقوله - سبحانه وتعالى -: {فَاتَّقُوا الله يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 8، وسورة لقمان، الآية: 2، وانظر: تفسير السعدي، ص483، 598. (¬2) سورة الحديد، الآية: 9. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 23/ 173، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 230، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 307، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص778. (¬4) سورة الطلاق، الآيتان: 10 - 11.

19 - {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم}

19 - وقال - عز وجل -: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ*يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بِالله الْغَرُورُ*فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1). وفي قوله سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} جاء عن الضحاك أن معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى هداهم بين أيديهم، وبأيمانهم كتبهم (¬2). وقيل: {وَبِأَيْمَانِهِم} الباء بمعنى في: أي في أيمانهم، أو بمعنى عن: أي عن أيمانهم (¬3). وقال أكثر المفسرين يعطي الله المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم، يمشون به على الصراط، ويُعطى المنافقون أيضاً نوراً خديعة لهم، كما قال - سبحانه وتعالى -: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآيات: 12 - 15. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 179، واختاره ابن جرير في هذا الموضع. (¬3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 235. (¬4) سورة النساء، الآية: 142.

وقد جاء في هذا النور أحاديث وآثار كثيرة، منها

وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره؛ لنفاقه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين، ولا يُعطَون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فأطفأ بذلك نور المنافقين، فيخشى المؤمنون أن يُسْلَبوا نورهم كما سُلبه المنافقون، فيسألون الله - عز وجل - أن يتمَّ لهم نورهم، قال سبحانه عن ذلك: {يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1)، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (¬2). وقد جاء في هذا النور أحاديث وآثار كثيرة، منها ما يأتي: الحديث الأول: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سئل عن الورود، وفيه رؤية الله تعالى: ((فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلِقُ بهم ويتبعونه، ويُعطَى كل إنسانٍ منهم - منافق أو مؤمن - نوراً، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يُطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة ¬

_ (¬1) سورة التحريم، الآية: 8. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 23/ 178 - 187، و493 - 496، وتفسير البغوي، 4/ 295، و367، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 233 - 239، و18/ 191، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 308 - 310، و392، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 3/ 86، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص779 - 809.

الحديث الثاني

البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء ... )) (¬1). الحديث الثاني: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، قال: ((يُؤتَوْن نورهم على قدر أعمالهم: فمنهم من يُؤتى نوره كالجبل، ومنهم من يُؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يُؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأُ مرة ويَقِدُ مرة)) (¬2). الحديث الثالث: حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن إكثار المشي في الظلم إلى المساجد يُثمر إعطاء النور التام يوم القيامة، فعن بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بشّر المشَّائين في الظّلم إلى المساجد بالنُّور التَّامّ يوم القيامة)) (¬3). الحديث الرابع: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -،أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة، 1/ 178، برقم 191. (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 179، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي على شرط البخاري، 2/ 478. (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة، 1/ 154، برقم 561، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، 1/ 435، برقم 223، وقال: ((هو صحيح مسند موقوف إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)). وأخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد، وأنس رضي الله عنهما، في كتاب المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة 1/ 256، برقم 780، ورقم 781، والحاكم في المستدرك، 1/ 53، وقال الإمام المنذري عن رواية أبي داود والترمذي: ((ورجال إسناده ثقات)) الترغيب والترهيب، 1/ 289، وقال العلامة الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح للتبريزي، 1/ 224: ((الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، عن جماعة من الصحابة جاوزوا العشرة، وقد خرجتها في صحيح أبي داود، برقم 570)).

ليضيء للذين يتخلّلون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة)) (¬1)، وذكر الطيبي، والمناوي، ثم المباركفوري: أن هذا النور يحيط بالمشَّائين إلى المساجد في الظُّلَم من جميع جوانبهم على الصراط، لمَّا قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحيط بهم على الصراط ووصف النور بالتامّ، وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة، وقولهم فيه: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}، وإلى قصة المنافقين وقولهم للمؤمنين: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}، وفيه أن من انتهز هذه الفرص، وهي المشي إلى المساجد في الظلم في الدنيا كان مع النبيين، والذين آمنوا: من الصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً (¬2). ولا شك أن سرعة المرور على الصراط بحسب النور، فمن كان نوره أعظم كان مروره على الجسر أسرع، وهو أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعر، فمن الناس من يمرّ عليه ويتجاوزه كلمح البصر، ومنهم من يمرّ كالبرق، ومنهم من يمرّ كالريح، ومنهم من يتجاوزه كالطير، ومنهم من يمرّ كالفرس الجواد، ومنهم من يمرّ كركاب الإبل (¬3)، ومنهم من يزحف ¬

_ (¬1) الطبراني في المعجم الأوسط، 2/ 43، برقم 680، [مجمع البحرين في زوائد المعجمين]، وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 290: ((رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((وإسناده حسن)) 2/ 30. (¬2) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 3/ 941 - 942، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، 3/ 201، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري، 2/ 14. (¬3) هذه الدرجات الست في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، معرفة طريقة الرؤية، 1/ 169، برقم 183، قال أبو سعيد الخدري: ((بلغني أن الجسر أدق من الشعر، وأحد من السيف))، مسلم، 1/ 171، رواية الحديث رقم 183، والبخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، 8/ 228، برقم 7439.

زحفاً (¬1) حتى يجيء آخرهم يسحب سحباً (¬2). وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الأنوار تقسم دون الجسر على حسب الأعمال، فيُعطَى العبد من النور هناك بحسب قوة نوره، وإيمانه، ويقينه، وإخلاصه، ومتابعته للرسول - صلى الله عليه وسلم - في دار الدنيا، فقال رحمه الله: ((فمنهم من يكون نوره كالشمس (¬3)، ودون ذلك كالقمر، ودونه كأشدِّ كوكبٍ في السماء إضاءة، ومنهم من يكون نوره كالسراج في قوّته وضعفه، وما بين ذلك، ومنهم من يُعطَى نوراً على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، بحسب ما كان معه من نور الإيمان في دار الدنيا، فهو هذا النور الذي بعينه أبرزه الله لعبده في الآخرة ظاهراً يُرى عِياناً بالأبصار، ولا يستضيء به غيره، ولا يمشي أحدٌ إلا في نور نفسه، إن كان له نور مشى في نوره، وإن لم يكن له نورٌ أصلاً لم ينفعه نور غيره، ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه، ولا له مادة من الإيمان أُعطي في الآخرة نوراً ظاهراً لا مادة له، ثم يُطفأ عنه أحوج ما كان إليه)) (¬4). وبيّن رحمه الله أن مشي الناس على الصراط بحسب سرعتهم في الخير ¬

_ (¬1) من رواية لمسلم، 1/ 187، برقم 195. (¬2) من رواية للبخاري، برقم 7439، وانظر: معارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 850 - 857. (¬3) انظر: مسند الإمام أحمد، 2/ 77، 2/ 222، وشرح أحمد شاكر للمسند، برقم 6650، 7072. (¬4) اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 86.

20 - {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}

في الدنيا، فقال: ((مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرعهم سيراً هنا أسرعهم هناك، وأبطأهم هنا أبطأهم هناك، وأشدهم ثباتاً على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك، ومن خطفته كلاليب الشهوات، والشبهات، والبدع المضلّة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك، ويكون تأثير الكلاليب فيه هناك على حسب تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا، فناج مُسَلَّم، ومخدوش مُسَلَّم، ومخزول - أي مقطع بالكلاليب - مُكردس في النار كما أثَّرت فيه تلك الكلاليب في الدنيا {جَزَاءً وِفَاقًا}، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬1). 20 - وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). ضَمِن الله - عز وجل - للمؤمنين بالتقوى ثلاثة أمور: الأمر الأول: أعطاهم نصيبين من رحمته: نصيباً في الدنيا ونصيباً في الآخرة، وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين. الأمر الثاني: أعطاهم نوراً يمشون به في الظلمات. الأمر الثالث: مغفرة ذنوبهم، وهذا غاية التيسير، فقد جعل سبحانه التقوى سبباً لكل يسر، وتَرْكَ التقوى سبباً لكل عسر (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 86 - 87. (¬2) سورة الحديد، الآية: 28. (¬3) الضوء المنير على التفسير، من كتب ابن القيم، للصالحي، 5/ 624.

وهذا الخطاب في هذه الآية فيه قولان لأهل التفسير: 1 - قيل تُحمل على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يُؤتَوْن أجرهم مرتين؛ لإيمانهم بأنبيائهم، ثم إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيُعطَون بذلك: نصيبين من الأجر، كما قال - سبحانه وتعالى -: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (¬1). فلا شك أن من آمن من أهل الكتاب بنبيه، ثم آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يُعطَى أجرين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به، واتّبعه، وصدّقه، فله أجران، وعبد مملوك أدَّى حقّ الله تعالى، وحقَّ سيّده فله أجران، ورجل كانت له أمةٌ فغذَّاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوّجها، فله أجران)) (¬2). 2 - وقيل: هي في حق هذه الأُمَّة؛ لِمَا ذكره سعيد بن جبير أن أهل الكتاب افتخروا بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية في حق هذه الأمة (¬3). ومما يؤيّد هذا القول ما رواه أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجُلٍ استأجر قوماً يعملون له يوماً ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 54. (¬2) متفق عليه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، 4/ 25، برقم 3011، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 134، برقم 154، واللفظ له. (¬3) أخرجه ابن جرير بسنده، في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 209.

إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا، ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر، فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومَثَل ما قبلوا من هذا النور)) (¬1). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((ويُحتمل أن يكون الأمر عاماً يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم، وهذا هو الظاهر، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين: ظاهره وباطنه، أصوله وفروعه، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم أعطاهم {كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ}: لا يعلم قدرهما ولا وصفهما إلا الله تعالى: أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى)) (¬2). وقوله تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}: وفي هذا أقوال: 1 - قيل: النور هنا: القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل، 3/ 69، برقم 2271. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص782.

2 - وقيل: الهدى. قال الإمام الطبري رحمه الله: ((وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكْرُهُ: وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نوراً يمشون به، والقرآن مع اتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - نور لمن آمن بهما، وصدّقهما، وهدىً؛ لأن من آمن بذلك فقد اهتدى)) (¬1). وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((يعني هدى يتبصّرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم، ففضلهم بالنور والمغفرة ... وهذه الآية (¬2) كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬3). وقال العلامة السعدي رحمه الله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}: أي يُعطيكم علماً، وهدىً، ونوراً تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات {وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، فلا يستغرب كثرة هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم، الذي عمّ فضله أهل السموات والأرض، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين، ولا أقلّ من ذلك)) (¬4). وقوله تعالى: {تَمْشُونَ بِهِ}، قيل: تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام (¬5). ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 213. (¬2) تفسير القرآن العظيم، 4/ 318. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص783. (¬5) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 256.

وقيل: تمشون به على الصراط (¬1). وقد جمع بين هذين القولين الإمام ابن القيم رحمه الله، فقال: ((وفي قوله: {تَمْشُونَ بِهِ} إعلام بأن تصرفهم وتقلّبهم الذي ينفعهم إنما هو بالنور، وأنّ مشيهم بغير نور غير مجدٍ عليهم، ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر من نفعه، وفيه أن أهل النور هم أهل المشي، ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع، فلا مشي لقلوبهم، ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات، وكذلك لا تمشي على الصراط، إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم، وفي قوله تعالى: {تَمْشُونَ بِهِ} نكتة بديعة، وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدماً عن قدم على الصراط، فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه)) (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير البغوي، 4/ 302. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 43.

المطلب الثاني: النور والظلمات في السنة النبوية

المطلب الثاني: النور والظلمات في السنة النبوية جاء في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر النور والحث على اكتسابه والترغيب فيه، وسؤال الله - عز وجل - ذلك، وجاء ذكر الظلمات والتحذير من أسباب ذلك، ومن الأحاديث والآثار في ذلك ما يأتي: 1 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه في آخر الليل إذا ذهب إلى الصلاة في المسجد: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً، وعظِّم لي نوراً، واجعل لي نوراً، واجعلني نوراً، اللهم أعطني نوراً، واجعل في عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بشري نوراً)) (¬1). قال ابن الأثير رحمه الله: ((أراد ضياء الحق، وبيانه، كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء منِّي في الحق، واجعل تصرفي وتقلّبي فيها على سبيل الصواب والخير)) (¬2). وقال الإمام النووي رحمه الله: ((قال العلماء سأل النور في أعضائه، وجسمه، وتصرفاته، وتقلباته، وحالاته، وجملته في جهاته الست، حتى لا يزيغ شيء منها عنه)) (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، 7/ 191، برقم 6316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 525، برقم 763. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الواو، مادة ((نور)) 5/ 125. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 291، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 11/ 118.

ويزيد لك وضوحاً ما بيّنه الإمام القرطبي رحمه الله حيث قال: ((يمكن أن تحمل على ظاهرها، فيكون معنى سؤاله: أن يجعل الله له في كل عضو من أعضائه نوراً يوم القيامة يستضيء به في تلك الظلم، هو ومن تبعه، أو من شاء الله ممن تبعه، والأولى أن يقال: هذه الأنوار هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (¬1)، وكما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (¬2) أي علماً وهداية))، ثم قال: ((والتحقيق في معنى النور مظهرٌ ما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور الشمس: مظهرٌ للمبصرات، ونور القلب: كاشفٌ عن المعلومات، ونور الجوارح: ما يبدو عليها من أعمال الطاعات، فكأنه دعا بإظهار الطاعات عليها دائماً، والله أعلم)) (¬3). وذكر الطيبي رحمه الله: أن معنى طلب النور للأعضاء: عضواً عضواً، أن يتحلَّى بأنوار المعرفة والطاعة، ويتعرّى عن ظلمة الجهالة والمعاصي؛ فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس، فكان التخلص منها بالأنوار السادَّة لتلك الجهات، وكل هذه الأنوار راجعة إلى الهداية، والبيان، وضياء الحق، وإلى مطالع هذه الأنوار يرشد قوله تعالى (¬4): {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 22. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 395. (¬4) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1183، وفتح الباري، لابن حجر، 11/ 118.

2 - عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور شطر الإيمان

الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (¬1). 2 - عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور ... )) الحديث (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصلاة نور))، قال الإمام القرطبي رحمه الله في شرح ذلك: ((معناه: أن الصلاة إذا فُعِلَت بشروطها: المصححة، والمكملة نوَّرت القلب؛ بحيث تُشرق فيه أنوار المكاشفات والمعارف، حتى ينتهي أمر من يراعيها حق رعايتها أن يقول ((وجعلت قُرّة عيني في الصلاة)) (¬3)، أيضاً: فإنها تنوِّر بين يدي مراعيها يوم القيامة في تلك الظلم، وأيضاً: تنوِّر وجه المصلي يوم القيامة، فيكون ذا غُرّةٍ وتحجيل)) (¬4). وقال الإمام النووي: ((وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصلاة نور)) فمعناه: أنها تمنع صاحبها من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يُستضاء به، وقيل: معناه: أن يكون أجرها نوراً لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله تعالى، بظاهره وباطنه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 35. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، 1/ 203، برقم 223. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 3/ 128، 199، 285، والنسائي في كتاب عشرة النساء، باب: حب النساء، 7/ 62. (¬4) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1/ 476. (¬5) سورة البقرة، الآية: 45.

3 - أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك

وقيل: معناه: أنها تكون نوراً ظاهراً على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضاً على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلِّ، والله أعلم)) (¬1)، قلت: النور يشمل ذلك كله في كل ما ذُكِرَ والله أعلم. 3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً (¬2) من فوقه، فرفع رأسه فقال: ((هذا باب من السماء فُتح اليوم لم يُفتَح قطّ إلاّ اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أو تيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلاّ أُعطيته)) (¬3). وقد بيّن الإمام القرطبي رحمه الله معنى ذلك: وأن قول الملك: ((أبشر بنورين)) أي أبشر بأمرين عظيمين، نيِّرين، تنير لقارئهما، وتنوِّره، وخُصّت الفاتحة بهذا؛ لأنها تضمّنت جملة معانٍ: الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلى الجملة فهي آخذة بأصول القواعد الدينية، والمعاقد المعارفية، وخُصّت خواتيم سورة البقرة بذلك، لِمَا تضمّنته من الثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أصحابه - رضي الله عنهم -، بجميل انقيادهم لمقتضاها، وتسليمهم لمعناها، وابتهالهم إلى الله، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم، ولِمَا حصل فيها من إجابة دعواتهم، بعد أن علموها، فخفَّف عنهم، وغفر لهم، ونُصِروا، وفيها غير ذلك مما يطول تتبُّعه)) (¬4). ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 103. (¬2) نقيضاً: أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 339. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، 1/ 554، برقم 806. (¬4) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 434.

4 - إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها

4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله - عز وجل - ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬1). قال الطيبي رحمه الله: ((أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً)) إلى آخره، فكالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة له، لينوَّر قبره ... )) (¬2). 5 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة عند إغماضه: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)) (¬3)، وهذا دعاء عظيم لأبي سلمة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له برفع الدرجة: أي: ارفع درجته واجعله في زمرة الذين هديتهم للإسلام، وكن الخليفة على من يتركه من عقبه: كأهله وأولاده، فاحفظ أمورهم ومصالحهم، ولا تكِلْهم إلى غيرك؛ فإنهم عقبة: أي الذين تأخروا عنه، ويعني بالغابرين: الباقين، كما قال الله - عز وجل -: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (¬4): أي من الباقين في العذاب، وغبر من الأضداد، يأتي بمعنى بقي، وبمعنى ذهب (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 2/ 659، برقم 956. (¬2) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1395، وانظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 4/ 17. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، 2/ 634، برقم 920. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 83. (¬5) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 573، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 478، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1374.

6 - وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه)) أي وسّع في قبره، وادفع عنه ظلمة القبر)) (¬1). 6 - وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فَحِمَد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال: ((أمّا بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله: فيه الهدى والنور [وهو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغّب فيه .. )) الحديث (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو حبل الله)) قيل: ((المراد بحبل الله: عهده، وقيل: السبب الموصل إلى رضاه، ورحمته، وقيل: هو نوره الذي يهدي به)) (¬3). ولا شك أن العمل بكتاب الله يوصل إلى رحمته، ورضاه، وهدايته وتوفيقه، والله المستعان. 7 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتنة القبر، وإجابة المسلم على الأسئلة: ((ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم يُنوّر له فيه)) (¬4)، والمعنى أنه يُوسَّع له في قبره سبعون ذراعاً في الطول وسبعون ¬

_ (¬1) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 4/ 87. (¬2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، 4/ 1873، برقم 2408. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 191. (¬4) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 4/ 274، برقم 1071، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 2/ 416، برقم 864، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243.

8 - النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب وقال: "إنه نور المسلم

ذراعاً في العرض، ثم يجعل له النور في هذا القبر الذي وُسِّع له (¬1). 8 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب وقال: ((إنه نور المسلم)) (¬2). 9 - وعن كعب بن مُرّة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَنْ شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة)) (¬3). 10 - وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 4/ 683. (¬2) الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب، 5/ 125، برقم 2821، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب نتف الشيب، 2/ 1226، برقم 3721، وأحمد في المسند، 2/ 179، 207، 210، 212،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 369،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. (¬3) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، 4/ 172، برقم 1634، والنسائي، في كتاب الزينة، باب النهي عن نتف الشيب، 8/ 136، برقم 5068، وابن حبان في صحيحه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، 7/ 251، برقم 2983، وأبو داود بنحوه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في كتاب الترجّل، بابٌ: في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202، وأحمد في المسند، 4/ 413، 236، 6/ 20، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 248، برقم 1244، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 126. (¬4) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، 4/ 172، برقم 1635، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي نجيح السلمي، 7/ 252، برقم 2984.

11 - الشيب نور المؤمن

11 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورُفِع بها درجة)) (¬1). 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نورٌ يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام، كُتب له بها حسنة، وحُطّ عنه بها خطيئة، ورُفِع له بها درجة)) (¬2). وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى عن أكثر من عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأحاديث الخمسة السابقة تبيّن فضل الشيب، وأنه لا يُنتف؛ لأنه نور المسلم، ووقاره؛ لأن الوقار يمنع الشخص عن الغرور والطرب، ويميل إلى الطاعة والتوبة، وتنكسر نفسه عن الشهوات، فيصير ذلك نوراً يسعى بين يديه في ظلمات الحشر إلى أن يدخله الجنة (¬3). فالشيب يصير نفسه نوراً يهتدي به صاحبه، ويسعى بين يديه يوم القيامة، والشيب وإن لم يكن من كسب العبد، لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاد أو خوف من الله ينزل منزلة سعيه، فيُكره نتف الشيب من نحو: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 5/ 205، برقم 6387، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. ورواه أبو داود بنحوه، في كتاب الترجل، باب في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202. (¬2) ابن حبان في صحيحه 7/ 253، برقم 2985، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 247، برقم 1243. (¬3) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2934.

لحية، وشارب، وعنفقة، وحاجب، قال النووي: لو قيل يحرم لم يبعد (¬1). ومن غيّر بالسواد لا يحصل على هذا النور إلاّ أن يتوب أو يعفو الله عنه (¬2). وهذا الشعر الأبيض يؤدي إلى نور الأعمال الصالحة، فيصير نوراً في قبر المسلم، ويسعى بين يديه في ظلمات حشره (¬3)، ويحصل هذا الفضل بشعرة واحدة بيضاء، تكون ضياء ومخلصاً عن ظلمات الموقف، وشدائده (¬4). وهذا الفضل في هذه الأحاديث يرغِّب المسلم في ترك نتف الشيب، وأعظم من النتف التغيير بالسواد، فقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذّر منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)) (¬5)، والثغامة نبت أبيض الزهر، والثمر، شُبِّه بياض الشيب به، وقيل: شجرة تبيضّ كأنها الثلجة، أو كأنها الملح (¬6). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيّروا هذا بشيء)) أمرٌ بتغيير الشيب، قال به جماعة من: الخلفاء، والصحابة، لكن لم يَصِر أحد إلى أنه للوجوب، وإنما هو مستحبٌّ (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، 6/ 156. (¬2) انظر: المرجع السابق، 6/ 157. (¬3) انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري، 8/ 235. (¬4) انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 5/ 261. (¬5) صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، 3/ 1663، برقم 4212. (¬6) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418. (¬7) المرجع السابق، 5/ 418، وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الحديث رقم 5073، من سنن النسائي في: 21/ 8/1418هـ يقول: ((الخضاب سنة مؤكدة وليس واجباً)).

قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((أما قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخضب فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصّفرة)) (¬1)، ولعل القرطبي رحمه الله يشير إلى حديث أبي رمثة - رضي الله عنه - حيث قال: ((أتيت أنا وأبي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد لطّخ لحيته بالحنّاء)) (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأيته قد لطّخ لحيته بالصّفرة)) (¬3). وعن زيد بن أسلم قال: ((رأيت ابن عمر يُصفِّر لحيته، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، تُصفِّر لحيتك بالخلوق؛ قال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصفِّر بها لحيته ولم يكن شيء من الصبغ أحب إليه منها)) (¬4)، وهذا من فعله - صلى الله عليه وسلم -، أما من قوله فقد ثبت عنه أحاديث: فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحسن ما غيرتم به الشيب: الحناءُ والكتم)) (¬5). ¬

_ (¬1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418. (¬2) النسائي، في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5083، وأبو داود، كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4206، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1044. (¬3) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5084، وأبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4208، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1044، وفي مختصر الشمائل المحمدية، ص40 - 41، برقم 36 - 37. (¬4) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة، 8/ 140، برقم 1085، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 3/ 1044. (¬5) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 139، برقم 5077 - 5080، ومن حديث عبد الله بن بريدة، برقم 5081 - 5082، وأخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب الخضاب، 4/ 85، برقم 4205.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قد خضب بالحناء فقال: ((ما أحسن هذا؟))، قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: ((هذا أحسن من هذا))، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: ((هذا أحسن من هذا كله)) (¬1). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال السبتية، ويصفِّر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعله)) (¬2). وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وقد جاء التصفير عن ابن عمر في الصحيحين، ويستثنى من التزعفر: ما كان في اللحية، أو الشارب، أو الرأس)) (¬3)، وسمعته أيضاً يقول: ((والسنة الخضاب بالحناء أو بالصفرة، أو بالحناء والكتم)) (¬4). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وأما الصباغ بالحناء بحتاً، وبالحناء والكتم، فلا ينبغي أن يختلف فيه؛ لصحة الأحاديث بذلك، غير أنه قد ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4211، وقال العلامة الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح: ((وإسناده جيد))، 2/ 1266. (¬2) النسائي، كتاب الزينة، باب تصفير اللحية بالورس والزعفران، 8/ 186، برقم 5244، وأبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4210، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 1065، برقم 4839، وصحيح سنن أبي داود، 2/ 792. (¬3) سمعته من سماحته، يوم الأحد بعد المغرب، في جامع الأميرة سارة أثناء شرحه لحديث رقم 5244، من سنن النسائي، بتاريخ 10/ 11/1418هـ. (¬4) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 5085، من سنن النسائي في المكان السابق، بتاريخ 24/ 8/1418هـ.

قال بعض العلماء: إن الأمر في ذلك محمول على حالين: * أحدهما: عادة البلد، فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تَقْبُح وتكره. * وثانيهما: اختلاف حال الناس في شيبهم، فربَّ شيبة نقية هي أجمل بيضاء منها مصبوغة، وبالعكس فمن قبَّحه الخضاب اجتنبه، ومن حسنه استعمله، وللخضاب فائدتان: إحداهما: تنظيف الشعر مما يتعلق به من الغبار والدخان. والأخرى: مخالفة أهل الكتاب (¬1)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) (¬2)، ثم قال رحمه الله: ((ولكن هذا الصباغ بغير السواد، تمسكاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واجتنبوا السواد))، والله أعلم (¬3)، وقال رحمه الله: ((وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واجتنبوا السواد)) أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعة منهم: علي بن أبي طالب، ومالك، وهو الظاهر من هذا الحديث، وقد عُلِّلَ ذلك بأنه من باب التدليس على النساء؛ وبأنه سواد في الوجه، فيكره؛ لأنه تشبه بسيما أهل النار)) (¬4)، ثم ذكر رحمه الله جماعة كثيرة من السلف كانوا يخضبون بالسواد، وقال: ((ولا أدري عذر هؤلاء عن ¬

_ (¬1) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 4/ 175، برقم 3462، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ، 3/ 6316، برقم 2103. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420. (¬4) المرجع السابق، 5/ 419.

حديث أبي قحافة ما هو؟ فأقل درجاته الكراهة كما ذهب إليه مالك)) (¬1). قلت: أما عذر السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد، فيحمل على أنه لم يبلغهم حديث النهي الصريح عن الصبغ بالسواد، والله أعلم. وقال الإمام النووي رحمه الله: ((ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة، أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح)) (¬2). ويؤكد اختيار الإمام النووي ومن سلك مسلكه في تحريم الخضاب بالسواد ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)) (¬3)، وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن هذا الحديث: ((إسناده جيد، وهذا يدل على تحريم تغيير الشيب بالسواد، ويقتضي أنه كبيرة؛ لأنه وعيد)) (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كحواصل الحمام)) أي كصدور الحمام في الغالب؛ لأن صدور بعض الحمام ليست بسود (¬5). ¬

_ (¬1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 419. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 325. (¬3) أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، 4/ 87، برقم 4212، والنسائي في كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد، 8/ 138، برقم 5075، وأحمد في المسند، 1/ 273، وقال ابن حجر في فتح الباري، 6/ 499: ((إسناده قوي))، وصحح إسناده العلامة الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، وقال: على شرط الشيخين، ص84. (¬4) سمعته منه أثناء شرحه لحديث رقم 5075، من سنن النسائي، في جامع الأميرة سارة بالبديعة، بعد مغرب يوم الأحد الموافق 21/ 8/1418هـ. (¬5) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2933، ومرقاة المفاتيح، للملاّ علي القاري، 8/ 232.

ومما يدل على قُبح الخضاب بالسواد ما بيَّنه بعض السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد حيث قيل: إنه قال: نُسَوِّدُ أعلاها وتأبى أصُولُها ... ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل (¬1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه؛ فإن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تغيير الشيب أمران: أحدهما: نتفه. والثاني: خضابه بالسواد ... والذي أذن فيه: هو صبغه وتغييره بغير السواد: كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة - رضي الله عنهم - ... وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب لِمَا تقدم، وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله، وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها ... ورخص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك عن الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جعفر، وعقبه بن عامر، وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنته أحق بالاتباع، ولو خالفها من خالفها)) (¬2). ويستخلص من الأحاديث الواردة في الشيب وخضابه ما يأتي: ¬

_ (¬1) شرح مشكل الآثار، للطحاوي، 9/ 314. (¬2) تهذيب ابن القيم المطبوع مع معالم السنن للخطابي، 6/ 104.

أولاً: الشيب نور المسلم في الدنيا والآخرة. ثانياً: المنع من نتف الشيب ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: الشيب تُزاد به الحسنات. رابعاً: الشيب تُرفع به الدرجات. خامساً: الشيب تُحطّ به الخطايا. سادساً: تحريم صبغ الشيب بالسواد. سابعاً: صبغ الشيب بالحناء، أو الصفرة، أو الحناء والكتم سنة مؤكدة. ثامناً: الحناء: لونه أحمر، والحناء والكتم: لونه بين السواد والحمرة. تاسعاً: من صبغ الشيب بالسواد من السلف فلا دليل له من كتاب ولا سنة. عاشراً: لا قول لأحد مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كائناً من كان. الحادي عشر: الشيب له أسباب غير كبر السن، فقد يكون مبكراً؛ لخوف الله - عز وجل -، أو لغيره من الأسباب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله قد شبت؟ قال: ((شيبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوِّرت)) (¬1). وعن أبي جحيفة - رضي الله عنه -، قال: قالوا: يا رسول الله، نراك قد شبت؟ قال: ((شيبتني هودٌ وأخواتها)) (¬2)، والله - عز وجل - الموفق للصواب. 13 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ((كنت أرجو أن يعيش ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الواقعة، 5/ 402، برقم 3297، وحسنه، وصححه الألباني مختصر شمائل الترمذي، ص40، برقم 34. (¬2) أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40، برقم 35.

فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يَدْبُرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد - صلى الله عليه وسلم - قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). والمقصود بالنور الذي قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:هو القرآن العظيم؛ لأن فيه الهدى والنور، فمن عمل بما فيه كان على الصراط المستقيم وعلى الحق المبين (¬2). 14 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) (¬3)، وهذا الحديث يبيّن أن الله - عز وجل - خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم شيئاً من نوره، فمن أصابه شيء من ذلك النور اهتدى إلى طريق الجنة، ومن أخطأه ذلك النور وجاوزه ولم يصل إليه ضل وخرج عن طريق الحق؛ لأن الاهتداء والضلال قد جرى على علم الله وحكم به في الأزل لا يتغير ولا يتبدل، وجفاف القلم عبارة عنه. وقيل: من أجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره: من الإيمان، والطاعة، والكفر، والمعصية، أقول: جف القلم (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، 8/ 160، برقم 7219. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 209، وإرشاد الساري، للقسطلاني، 15/ 180. (¬3) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 26، برقم 2642، وقال: ((هذا حديث حسن))، وأخرجه أحمد، 2/ 176، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 30، وصحح إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1076. (¬4) تحفة الأحوذي، للمباركفوري، 7/ 401.

وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما

15 - عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلين خرجا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة، وإذا نور بين أيديهما حتى تفرّقا فتفرّق النور معهما))، وقال معمر عن ثابت عن أنس: ((إن أسيد بن حضير ورجلاً من الأنصار))، وقال حماد: أخبرنا ثابت عن أنس: ((كان أسيد بن حُضير وعبّاد بن بشر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((فأما رواية معمر فوصلها عبد الرزاق في مصنفه عنه، ومن طريقه الإسماعيلي بلفظ: ((إن أسيد بن حضير ورجلاً من الأنصار تحدثا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عُصية فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله))، وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها أحمد والحاكم في المستدرك بلفظ: ((إن أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر)) (¬2). وهذه من كرامات الأولياء؛ فإن أهل الصلاح إذا حصل لهم أمر خارق للعادة فهي كرامة، أما إذا حصل ذلك لفاسق فهي من عمل الشيطان، وإذا حصل لإنسان مجهول مستور فيعرض أمره على الكتاب ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر،3/ 270،برقم 3805. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/ 125.

من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور

والسنة. وهذا النور الذي حصل لهذين الصحابيين مبني على نور الإيمان والتقوى، فاستنار الباطن، وجعل الله نوراً في عصا كل واحد منهما، فاستنار الظاهر، وليس من شرطٍ أن يحصل ذلك لكل مؤمن، وإنما ذلك راجع إلى الله - عز وجل -. 16 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) (¬1). ذكر العلامة الملاّ علي القاري أن معنى: ((أضاء له من النور)) أي: في قلبه، أو قبره، أو يوم حشره في الجمع الأكبر، ((ما بين الجمعتين)) أي: مقدار الجمعة التي تليها من الزمان، وهكذا كل جمعة تلا فيها هذه السورة)) (¬2). قال الطيبي رحمه الله: ((أضاء له)) يجوز أن يكون لازماً، وقوله: ((ما بين الجمعتين)) ظرف، فيكون إشراق ضوء النور فيما بين الجمعتين، بمنزلة إشراق النور نفسه مبالغة، ويجوز أن يكون متعدياً، والظرف مفعول به)) (¬3). 17 - وذكر مالك رحمه الله: أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: ((يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بالركب، فإن الله يُحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء)) (¬4). ¬

_ (¬1) البيهقي 3/ 249، والحاكم في المستدرك وصحح إسناده، 2/ 368، والدارمي موقوفاً في حكم الرفع، في فضائل القرآن، باب في فضل سورة الكهف، 2/ 326، برقم 3410، وصححه الألباني بطرقه، في إرواء الغليل، 3/ 94، برقم 626. (¬2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 4/ 678. (¬3) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 5/ 1675. (¬4) موطأ الإمام مالك، 2/ 1002.

إن الله يحيي الأرض بنور الحكمة

فقوله: ((جالس العلماء وزاحمهم بالركب)) عبارة عن مزيد القرب منهم، وقوله: ((فإن الله يحيي الأرض بنور الحكمة)) هي تحقيق العلم وإتقان العمل، والإصابة في القول والفعل، وهي العلم المشتمل على الفقه في الدين، والمعرفة بالله مع نفاذ البصيرة، وتحقيق الحق للعمل، والكف عن الباطل (¬1). فالله سبحانه يحيي القلوب بذلك كما يحيي الأرض بالمطر، وهذا يؤكد على فضل العلم النافع والعمل الصالح؛ ولهذا الفضل قال محمد بن سيرين رحمه الله: ((إن قوماً تركوا طلب العلم، ومجالسة العلماء، وأخذوا في الصلاة، والصيام حتى يبس جلدُ أحدهم على عظمه، ثم خالفوا السنة فهلكوا، وسفكوا دماء المسلمين، فوالذي لا إله غيره ما عمل أحد عملاً على جهل إلا كان يفسد أكثر مما يصلح)) (¬2). 18 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً، فأيُّ قلب أُشربها نُكت فيه نكتٌ سوداءٌ، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضّرهُ فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مربادّاً كالكُوز مجخيّاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه)) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك،4/ 553،والحكمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -،لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص27. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار بسنده، 27/ 434، برقم 41779. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً،1/ 128،برقم 144.

الفتنة أصلها في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان، والاختبار، ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء، فقيل: فُتن الرجل إذا وقع في الفتنة وتحوّل من حال حسنة إلى سيئة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عُوداً عُوداً)) والمعنى أن الفتن تلصق بعرض القلوب: أي بجانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم، ويؤثر فيه شدة التصاقها به، وتُعاد وتُكرر شيئاً بعد شيء، فأي قلب أُشربها فدخلت فيه دخولاً تاماً وألزمها وحلّت منه محلّ الشراب نقط فيه نقطة سوداء، ولا يزال هذا القلب يشرب الفتن كلما عُرضت عليه كما يشرب الإسفنج الماء حتى يسودّ وينتكس، فيكون كالكُوز المائل المنكوس، ((والكوز هو ما اتَّسع رأسه من أواني الشرب إذا كانت بِعُرى وآذان، فإن لم يكن لها عُرى فهي أكواب)) (¬1). فإذا انتكس القلب وصار مكبوباً منكوساً عرض له اشتباه المعروف عليه بالمنكر، وربما استحكم عليه المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً، وبذلك يحكم هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وينقاد له ويتبعه. والقلب الآخر: قلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتن أنكرها، وردّها فازداد نوره، وإشراقه، وقوته؛ ولقوة هذا القلب وشدّته على عقد الإيمان، وسلامته من الخلل شُبِّه بالحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، فهذا القلب لا تلصق به ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار، للقاضي عياض، 1/ 349.

القلوب أربعة

الفتن ولا تؤثر فيه، بخلاف القلب الأسود المربادّ ((والمربادّ: هو الذي بين البياض والسواد والغبرة، مثل لون الرمادة)) (¬1)، فهذا القلب قد اسودَّ، وقُلِبَ، ونُكِسَ حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، فَشُبِّهَ بالكوز المنحرف الذي لا يثبت فيه الماء، فإنه قد دخل قلبه بكل معصية تعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكبّ انصبّ ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات، وفتن الغي والضلال، وفتن المعاصي، والبدع: فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد)) (¬3)،وقال رحمه الله: ((وقد قسم الصحابة - رضي الله عنهم - القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قوله (¬4): ((القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر، وقلب فيه مادتان: إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدّها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدّها قيح ودم، فأيهما ¬

_ (¬1) انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، 1/ 279. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 530 - 531، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم، 1/ 16. (¬3) المرجع السابق، 1/ 17. (¬4) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 1/ 17.

فالقلب الأجرد: المتجرد مما سوى الله - سبحانه وتعالى -

غلب عليه غلب)) (¬1). فالقلب الأجرد: المتجرِّد مما سوى الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تجرَّد وسلم مما سوى الحق، وفيه سراج يزهر، وهو مصباح الإيمان ونوره، فهو متجرّد سالم من شبهات الباطل وشهوات الغي، وقد أشرق واستنار بنور العمل والإيمان. والقلب الأغلف: قلب الكافر، لأنه داخل في غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، فإذا ذكر له تجريد التوحيد وتجريد المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولَّى مدبراً. والقلب المنكوس المكبوب: قلب المنافق وهذا شر القلوب وأخبثها؛ فإنه يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه، والحق باطلاً ويعادي أهله، ومع ذلك يُبطن الكفر، ويُظهر الإيمان. وأما القلب الذي له مادتان: فهو القلب الذي لم يتمكّن فيه الإيمان، ولم يُزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرّد للحق المحض، الذي بعث الله - عز وجل - به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب وإليه يرجع (¬2). 19 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يرفعه: ((طوبى ¬

_ (¬1) ذكره ابن تيمية موقوفاً على حذيفة - رضي الله عنه -، وعزاه إلى أبي داود السجستاني وذكر إسناده، ثم قال: وقد روي مرفوعاً، وهو في المسند مرفوعاً. كتاب الإيمان لابن تيمية، ص288، قلت: هو في المسند، 2/ 17، وقال العلامة الألباني: ((قلت: والمرفوع إسناده ضعيف، والصحيح موقوف))، كتاب الإيمان لابن تيمية، ص288 ح. (¬2) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 1/ 18 - 19.

سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس

للغرباء)) فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) قال: وكنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً آخر حين طلعت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس)) قلنا: من أولئك يا رسول الله؟ فقال: ((فقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره، يُحشرون في أقطار الأرض)) (¬1)، وهذا النور أعظم ما ورد للمؤمن يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله عند ذكره لنور المؤمنين يوم القيامة، وأنه يكون على حسب قوة إيمانهم، ويقينهم، وإخلاصهم: ((فمنهم من يكون نوره كالشمس، ودون ذلك القمر، ودونه كأشدِّ كوكب في السماء إضاءة ... )) (¬2). 20 - قال يهودي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أين يكون الناس يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هم في الظلمة دون الجسر)) (¬3)، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((والجَسر - بفتح الجيم وكسرها - ما يُعبر عليه، وهو الصراط هنا، و ((دون)) بمعنى فوق، كما قال في حديث عائشة رضي الله عنها: ((على الصراط)) (¬4)، وقد جاءت الأحاديث ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 177، وصححه الألباني بطرقه، في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 153، برقم 1619، وصححه أحمد محمد شاكر، في ترتيبه وشرحه للمسند، 10/ 135 - 136، برقم 6650، و12/ 28، برقم 7072، و12/ 79، برقم 7072. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية لغزو المعطلة والجهمية، 2/ 86. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما، 1/ 252، برقم 315. (¬4) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1/ 574، 7/ 352، وانظر: إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي، 2/ 156.

التي تدلّ على أن الناس عند تبديل الأرض غير الأرض يكونون على الصراط بألفاظ متقاربة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - عز وجل -: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ}، فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ فقال: ((على الصراط)) (¬1)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وفي رواية الترمذي ((على جسر جهنم))؛ ولأحمد من طريق ابن عباس عن عائشة: ((على متن جهنم)) (¬2)، فظاهر الأدلة تقتضي أنه يذهب بهذه الأرض ويُؤتى بأرض أخرى (¬3)، وقد جاء الحديث الصحيح في صفة الأرض المبدَّلة، وأنها بيضاء عفراء، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد)) (¬4)، والأرض العفراء: البيضاء بياضاً ليس ناصعاً بل يضرب إلى الحمرة، وقوله ((كقرصة النقي)) القرصة: الخبزة، والنقي: هي النقي من الغش والنخال، وقوله: ((ليس فيها علم لأحد)): أي ليس فيها علامة لأحد، ولا علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يُهتدى ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صفة القيامة، والجنة والنار، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، 4/ 2150، برقم 2791، والآية: 48، من سورة إبراهيم. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 376، ورواية الترمذي هي في سننه، برقم 3121. (¬3) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 351. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب قبض الله الأرض يوم القيامة،4/ 248، برقم 6521، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، 4/ 2150، برقم 2790.

اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة،

بها في الطرقات: كالجبل، والصخرة البارزة، وفيه تعريض بأرض الدنيا، وأنها ذهبت (¬1). 21 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)) (¬2). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((ظاهره أن الظالم يعاقب يوم القيامة، بأن يكون في ظلمات متوالية، يوم يكون المؤمنون في نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، حين يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}، فيقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا})) (¬3)، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات ¬

_ (¬1) انظر: الفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 350، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 140، وفتح الباري، لابن حجر، 11/ 375. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، 4/ 1996، برقم 2578، وأخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((الظلم ظلمات يوم القيامة))، 3/ 136، برقم 2447. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6/ 556، والآية: 13 من سورة الحديد، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 370، وإكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم، للأبي، 8/ 534.

الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً)) (¬1)، وقوله: ((اتقوا الشحّ، فإنّ الشحّ أهلك من كان قبلكم)) قال جماعة: الشحّ: أشدّ البخل، وأبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: الشحّ: الحرص على ما ليس عندك، والبخل: الامتناع عن إخراج ما حصل عندك (¬2). ولا شك أن الظلم ثلاثة أنواع: 1 - ظلم الشرك، 2 - ظلم المعاصي، 3 - ظلم النفس، وبمعنى أوضح: نوعان: ظلم العبد نفسه، وهو نوعان: الظلم بالشرك، والظلم بالمعاصي، وظلم العبد غيره. والله - عز وجل - الموفق والمعين والهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 5/ 100. (¬2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/ 557، وشرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 171، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، للأبي، 8/ 534.

المبحث الثاني: نور التوحيد وظلمات الشرك

المبحث الثاني: نور التوحيد وظلمات الشرك المطلب الأول: نور التوحيد * المسلك الأول: مفهوم التوحيد: التوحيد المطلق: هو: العلم والاعتراف المقرون بالاعتقاد الجازم، بتفرّد الله - عز وجل - بالأسماء الحسنى، وتَوَحُّدِهِ بِصفات الكمال، والعظمة والجلال، وإفراده وحده بالعبادة (¬1)، قال - سبحانه وتعالى -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((أي متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك: في ذاته، ولا سَمِيٌّ له، ولا كفءٌ، ولا مثلٌ، ولا نظيرٌ، ولا خالقُ ولا مدبرُ غيره؛ فإذا كان كذلك فهو المستحق؛ لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه)) (¬3). والتوحيد على هذه المعاني: هو إفراد الله تعالى بما يختص به: من الأسماء، والصفات، والألوهية، والربوبية. * المسلك الثاني: البراهين الساطعات في إثبات التوحيد البراهين الساطعات، والبينات الواضحات في كتاب الله - عز وجل -، وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على إثبات التوحيد كثيرة لا تحصر، ولكن منها على سبيل ¬

_ (¬1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص18. (¬2) سورة البقرة، الآية: 163. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص60.

أولا: قال الله - عز وجل -: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

المثال ما يأتي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1) والمعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا ليُوحِّدونِ (¬2). ثانياً: قال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (¬3): يخبر الله - عز وجل - أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمّة متقدّمة، أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلهم متفقون على دعوة واحدة، ودين واحد، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل قسمين: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} فاتبعوا المرسلين، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} فاتبع سبيل الغي (¬4). ثالثاً: قال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬5)، فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -: زبدة رسالتهم وأصلها: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة (¬6)؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {وَاسْأَلْ مَنْ ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58. (¬2) الجامع لأحكام القرآن الكريم، للقرطبي، 17/ 57. (¬3) سورة النحل، الآية: 36. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص393. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬6) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 18/ 427، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص470.

رابعا: قال الله - سبحانه وتعالى -: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}

أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} (¬1). رابعاً: قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬2)، فالله - عز وجل - قَضَى، وَوَصَّى، وحَكَم، وأمر بالتوحيد فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ} قضاءً دينيًا، وأمراً شرعيًّا، {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أحدًا: من أهل الأرض والسموات، الأحياء، والأموات، {إِلاَّ إِيَّاهُ}؛ لأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد (¬3). خامساً: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون لأممهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬4)، والمعنى: اعبدوا الله وحده؛ لأنه الخالق، الرازق، المدبر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق مُدبَّر ليس له من الأمر شيء (¬5)، فهو المستحق للعبادة وحده. سادساً: قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬6). سابعاً: قال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬7): أمر الله ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 23. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 17/ 413، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 34، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص407. (¬4) سورة الأعراف، الآيات: 59 - 65. (¬5) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص255. (¬6) سورة البينة، الآية: 5. (¬7) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163.

ثامنا: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: له: ((يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده))؟

- عز وجل - نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين: إن صلاتي وذبحي، وحياتي، وما آتيه فيها، وما يجريه الله عليَّ، وما يُقَدِّر عليَّ فالجميع لله رب العالمين، لا شريك له في العبادة، كما أنه لا شريك له في الملك والتدبير، وبذلك أمرني ربي، وأنا أول من أقرَّ، وأذعن، وخضع من هذه الأمة لربه (¬1). ثامناً: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: له: ((يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده))؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا))، ثم سار ساعة ثم قال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. ال: ((حقّ العباد على الله أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئًا)) (¬2)، وهذا الحديث العظيم يبيّن أن حقّ الله على عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له بما شرعه لهم من العبادات، ولا يشركوا معه غيره، وأن حق العباد على الله - عز وجل - أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، ولا شك أن حق العباد على الله: هو ما وعدهم به من الثواب، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فهو حق جعله الله سبحانه على نفسه، تفضلاً، وكرمًا، فهو سبحانه الذي أوجب على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما حرّم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 12/ 283، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص245. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 7/ 89، برقم 5967، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، قطعًا، 1/ 58، برقم 30، واللفظ للبخاري، برقم 2856، ورقم 6500.

تاسعا: عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه -، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( .. فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله))

بحكم رحمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة، وحرّم على نفسه الظلم (¬1). تاسعاً: عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه -، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( .. فإن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) (¬2). * المسلك الثالث: أنواع التوحيد الله - سبحانه وتعالى -: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، فإفراده تعالى وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين كله لله، هذا هو توحيد الألوهية: وهو معنى ((لا إله إلا الله))، وهذا التوحيد يتضمن جميع أنواع التوحيد (¬3) ويستلزمها؛ فإن التوحيد نوعان: النوع الأول: التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي (¬4): وهو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو: توحيد الربوبية، والأسماء، والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلّمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمته، وتنزيهه عمَّا لا يليق به. النوع الثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي: وهو توحيد في ¬

_ (¬1) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 1/ 203، وشرح النووي على صحيح مسلم، 1/ 345، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 1/ 213. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت،1/ 125،برقم 425،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، 1/ 455،برقم 33. (¬3) انظر: تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص74، والقول السديد، للسعدي، ص17، وبيان حقيقة التوحيد، للشيخ صالح الفوزان، ص20. (¬4) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 449.

أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع

الطلب والقصد: وهو توحيد الإلهية أو العبادة (¬1). وتكون أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: توحيد الربوبية، وهو: الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو الرب المتفرّد بالخلق، والملك، والرِّزْق، والتدبير، الذي ربّى جميع خلقه بالنعم، وربّى خواص خلقه - وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم المخلصون - بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدنيا والآخرة. وتوحيد الربوبية باختصار: هو توحيد الله تعالى بأفعاله. النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المنفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفيٍ لشيءٍ منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف. ونفي ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله. وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات قد وضَّحه الله في كتابه كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة آل ¬

_ (¬1) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، 2/ 94، ومعارج القبول، لحافظ الحكمي، 1/ 98، وفتح المجيد، لعبد الرحمن بن حسن، ص 17.

النوع الثالث: توحيد الإلهية

عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك (¬1). النوع الثالث: توحيد الإلهية، ويقال له: توحيد العبادة، وهو الاعتقاد الجازم - مع العلم والعمل والاعتراف - بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين كله لله، وهو يستلزم توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعمُّ أوصاف الكمال، وجميع أوصاف الربوبية والعظمة؛ فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال، فتوحُّدُهُ سبحانه بصفات الكمال، وتفرّدُه بالربوبية، يلزم منه أن لا يستحقّ العبادة أحد سواه. وتوحيد الألوهية باختصار: هو إفراد الله تعالى بعبادة العباد. وتوحيد الألوهية: هو مقصود دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. وهذا النوع قد تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2)، وأول سورة السجدة وآخرها، وأول سورة غافر ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وغالب سور القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص17، والقول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن السعدي، ص14 - 17، ومعارج القبول، 1/ 99. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 64.

* المسلك الرابع: ثمرات التوحيد وفوائده

وكل سور القرآن قد تضمنت أنواع التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله: إما خبر عن الله تعالى وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: ((توحيد الربوبية والأسماء والصفات)). وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي - ((توحيد الألوهية)) -. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلّ بهم في الآخرة من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم (¬1). * المسلك الرابع: ثمرات التوحيد وفوائده التوحيد له فضائل عظيمة، وآثار حميدة، ونتائج جميلة، ومن ذلك ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 450، وفتح المجيد، ص17 - 18، والقول السديد، ص16، ومعارج القبول، 1/ 98.

أولا: خير الدنيا والآخرة من فضائل التوحيد

أولاً: خير الدنيا والآخرة من فضائل التوحيد وثمراته. ثانياً: التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، يدفع الله به العقوبات في الدارين، ويبسط به النعم والخيرات. ثالثاً: التوحيد الخالص يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬1). رابعاً: يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والتوفيق لكل أجر وغنيمة. خامساً: يغفر الله بالتوحيد الذنوب، ويكفّر به السيئات، ففي الحديث القدسي عن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬2). سادساً: يدخل الله به الجنة، فعن عبادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) (¬3). وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب فضل التوبة والاستغفار، 5/ 548، برقم 3540، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 176، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 127، 128. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} 4/ 168، برقم 3252، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 57، برقم 28.

سابعا: التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب

مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)) (¬1). سابعاً: التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب، ففي حديث عتبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬2). ثامناً: يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة من خردل من إيمان (¬3). تاسعاً: التوحيد هو السبب الأعظم في نيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه)) (¬4). عاشراً: جميع الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمّت. الحادي عشر: يُسَهِّل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسلِّيه عن المصائب، فالموحِّد المخلص لله في توحيده تخفُّ عليه الطاعات؛ لِمَا يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، 1/ 94، برقم 93. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، 1/ 126، برقم 425، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، 1/ 455 - 456، برقم 33. (¬3) انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، برقم 7410، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/ 170، برقم 183، ورقم 193. (¬4) البخاري، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، 1/ 38، برقم 99.

الثاني عشر: التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان

النفس من المعاصي؛ لِمَا يخشى من سخط الله وعقابه. الثاني عشر: التوحيد إذا كَمُل في القلب حبّب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين. الثالث عشر: التوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، فبحسب كمال التوحيد في قلب العبد يتلقَّى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة، وتسليمٍ ورضًا بأقدار الله المؤلمة، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر. الرابع عشر: يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متعبِّدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقّق نجاحه. الخامس عشر: التوحيد إذا كَمُلَ في القلب، وتحقَّق تحققًا كاملاً بالإخلاص التامّ فإنه يصير القليل من عمل العبد كثيرًا، وتُضاعف أعماله وأقواله الطيبة بغير حصر، ولا حساب. السادس عشر: تكفَّل الله لأهل التوحيد بالفتح، والنصر في الدنيا، والعزّ والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال. السابع عشر: الله - عز وجل - يدفع عن الموحِّدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمنُّ عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والأُنس بذكره.

قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة، والله أعلم)) (¬1). وقال ابن تيمية رحمه الله: ((وليس للقلوب سرور ولذة تامة إلا في محبة الله تعالى، والتقرّب إليه بما يحبّه، ولا تتمّ محبّة الله إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله)) (¬2). ¬

_ (¬1) القول السديد في مقاصد التوحيد، ص25. (¬2) مجموع الفتاوى، 28/ 32.

المطلب الثاني: ظلمات الشرك

المطلب الثاني: ظلمات الشرك * المسلك الأول: مفهوم الشرك الشِّرْكُ، والشِّرْكَةُ بمعنىً، وقد اشتركا، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، وأشرك بالله: كفر، فهو مشركٌ ومشركي، والاسم الشرك فيهما، ورغبنا في شرككم: مشاركتكم في النسب (¬1)، وأشرك بالله: جعل له شريكًا في ملكه، أو عبادته، فالشرك: هو أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، وهو أكبر الكبائر، وهو الماحق للأعمال، والمبطل لها، والحارم المانع من ثوابها، فكل من عدل بالله غيره: بالحب، أو التعظيم، أو اتبع خطواته، ومبادئه المخالفة لملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فهو مشرك (¬2). والشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى، كما في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين} (¬3). والشرك شركان: شرك أكبر يخرج من المِلَّة، وشرك أصغر لا يخرج من الملة (¬4). وذكر العلامة السعدي رحمه الله أن حدَّ الشرك الأكبر الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعًا أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله، ¬

_ (¬1) انظر: القاموس المحيط، باب الكاف، فصل الشين، ص1240. (¬2) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، لعبد الرحمن الدوسري، ص41. (¬3) سورة الشعراء، الآيتان: 97 - 98. (¬4) انظر: قضية التكفير، للمؤلف، ص119.

* المسلك الثاني: البراهين الواضحات في إبطال الشرك

فكل: اعتقاد، أو قول، أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، وهذا ضابط للشرك الأكبر لا يشذ عنه شيء. وأما حدّ الشرك الأصغر فهو: كل وسيلة وذريعة يتطرّق منها إلى الشرك الأكبر، من: الإرادات، والأقوال، والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة (¬1). * المسلك الثاني: البراهين الواضحات في إبطال الشرك الأدلّة القاطعة الواضحة في إبطال الشرك، وذمّ أهله كثيرة، منها ما يأتي: أولاً: كل من دعا نبيًّا، أو وليًّا، أو مَلَكًا، أو جنيًّا، أو صرف له شيئًا من أنواع العبادة فقد اتخذه إلهًا من دون الله (¬2)، وهذا هو حقيقة الشّرك الأكبر الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬3). ثانياً: من البراهين القطعية التي ينبغي تبيينها وتوضيحها لمن اتَّخَذَ من دون الله آلهة أخرى، قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬4). فقد أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت ¬

_ (¬1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص31، 32، 54. (¬2) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص242. (¬3) سورة النساء، الآية: 48. (¬4) سورة الأنبياء، الآيات: 21 - 23.

أحجارًا أو خشبًا، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون الله! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ الجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كان في السَّموات والأرض آلهة تستحق العبادة غير الله لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئًا والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة! وذلك: * لأنه يستحيل وجود مرادهما معًا، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعًا للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيًّا ميتًا، متحركًا ساكنًا. * وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية. * وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر، والآخر عاجز ضعيف مخذول. * واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن. وحينئذ يتعيَّن أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده غير مُمانع ولا مُدافع، ولا مُنازع، ولا مُخالف، ولا شريك، وهو الله الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه؛ ولهذا ذكر سبحانه دليل التمانع في قوله - عز وجل -: {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا

من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عبد من دون الله من الآلهة ضعيف

لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباط بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (¬2). وكل ذلك مُسخَّر، ومُدَبَّر بالحكمة لمصالح الخلق كلِّهم، يدل على أن مُدبِّره واحد، وربّه واحد، وإلهه واحد، لا معبود غيره، ولا خالق سواه (¬3). ثالثاً: من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عُبِدَ من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئًا من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عزّ أو ذلّ، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسئَل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91 - 92. (¬2) سورة الملك، الآية: 3. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 9/ 352، 354، 337 - 382، 1/ 35 - 37، وتفسير البغوي، 3/ 241، 316،وابن كثير، 3/ 255، 176،وفتح القدير للشوكاني، 3/ 402، 496، وتفسير عبد الرحمن السعدي، 5/ 220، 374، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري، 3/ 99، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص158 - 161. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 83، 219، 277، 417، 3/ 47، 211، 310، وتفسير السعدي، 2/ 327، 420، 3/ 290، 451، 5/ 279، 457، 6/ 153، وأضواء البيان للشنقيطي، 2/ 482، 3/ 101، 322، 598، 5/ 44، 6/ 268.

وقد بيّن الله - عز وجل - ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَالله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} (¬3). وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 76. (¬2) سورة الأعراف، الآيات: 191 - 198. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 3.

من المعلوم يقينا أن ما يعبده المشركون من دون الله

عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (¬1). رابعاً: من المعلوم يقينًا أن ما يعبده المشركون من دون الله: الأنبياء، أو الصالحين، أو الملائكة، أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغلٍ شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل الصالح، والتنافس في القُرْبِ من ربهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فكيف يُعبَدُ من هذا حاله؟ (¬2) قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬3). خامساً: وقد أوضح الله تعالى، وبيّن سبحانه أن ما عُبِدَ من دونه قد توافرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السَّمَوات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس لله من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (¬4)، قال - عز وجل -: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه ُ} (¬5)، وقال - سبحانه وتعالى -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 56. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 48، وتفسير السعدي، 4/ 291. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 57. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 37، وتفسير السعدي، 6/ 274. (¬5) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23.

{قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر}

يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬1). سادساً: قال الله - عز وجل -: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬2). سابعاً: قال - سبحانه وتعالى -: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} (¬3)، وهذا وصف لكل مخلوق، وأنه لا ينفع ولا يضرّ، وإنما النافع الضارّ هو الله، ومن دعا ما لا يضرّه ولا ينفعه فقد ظلم نفسه بالوقوع في الشرك الأكبر، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله لكان من الظالمين المشركين، فكيف بغيره (¬4)؟، فالنافع الضار هو المستحق للعبادة وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (¬5). ثامناً: قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين} (¬6)، فهل هناك أضلُّ ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآيتان: 13 - 14. (¬2) سورة الزمر، الآية: 38. (¬3) سورة يونس، الآيتان: 106 - 107. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص331. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 17. (¬6) سورة الأحقاف، الآيتان: 5 - 6.

ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح

من هؤلاء الذين يعبدون من لا يستجيب لهم مدة مقامهم في الدنيا، لا ينتفعون بهم مثقال ذرة، وهم لا يسمعون منهم دعاءً، ولا يجيبون لهم نداءً، وهذا حالهم في الدنيا، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويكونون لهم أعداء يلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض (¬1). تاسعاً: ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم سأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود على النحو الآتي: 1 - قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). حقٌّ على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص724. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 73 - 74.

2 - {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت}

على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟! وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (¬1). 2 - ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} (¬2). فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزُّز والتقوي والنفع، فبيّن سبحانه أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتًا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفًا إلى ضعفهم (¬3). 3 - ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتّت شمله، واحتار ¬

_ (¬1) انظر: أمثال القرآن، لابن القيم، ص47، والتفسير القيم، لابن القيم، ص368، وتفسير البغوي، 3/ 298، وتفسير ابن كثير، 3/ 236، وفتح القدير للشوكاني، 3/ 470، وتفسير السعدي، 5/ 326. (¬2) سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43. (¬3) انظر: تفسير البغوي،3/ 468،وأمثال القرآن لابن القيم، ص21،وفتح القدير للشوكاني، 4/ 204.

الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء

في أمره، ما بيّنه تعالى بقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬1). فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحِّد، فالمشرك لمّا كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحِّد لمّا كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبدًا (¬2). عاشراً: الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء، والإحاطة بكل شيءٍ، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيءٍ، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه فإنه حقيق بأن يُذكَر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ولا يُشرك معه غيره (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 29. (¬2) انظر: تفسير البغوي 4/ 78، وابن كثير 4/ 52، والتفسير القيم، لابن القيم، ص423، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 462، وتفسير السعدي، 6/ 468، وتفسير الجزائري، 4/ 43. (¬3) انظر: تفسير البغوي، 1/ 237، 3/ 71، 2/ 88، 372، وتفسير ابن كثير، 1/ 309، 2/ 572، 3/ 42، 2/ 127، 435، 570، 1/ 344، 2/ 138، وتفسير السعدي، 1/ 313، 7/ 686، 2/ 381، 3/ 397، 4/ 204، 6/ 364، 1/ 356، 2/ 372، وأضواء البيان، 2/ 187، 3/ 271.

المتفرد بالألوهية

وصفات الكمال المطلق لله تعالى، لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال، ما يأتي: 1 - المتفرِّد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا الله وحده، الحيّ الذي لا يموت أبدًا، القيّوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيّوميّته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السَّموات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (¬1). ومن تمام ملكه وعظمته وكبريائه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطّلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كُرْسِيَّه وسع السَّموات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العلي بذاته على جميع مخلوقاته، والعلّي بعظمته وصفاته، العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دلّ على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآيتان: 93 - 94.

وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه

هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1). 2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها، وحيواناتها، وإنسها، وجنّها، وملائكتها {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (¬2). 3 - وهو الإله الذي بيده النفع والضرّ، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقًا لم ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضرّوه بشيء لم يضرّوه إذا لم يرد الله ذلك: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). 4 - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬4). 5 - إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون (¬5): {إِنَّ الله لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 83. (¬3) سورة يونس، الآية: 107. (¬4) سورة يس، الآية: 82. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 344، 2/ 138، والسعدي، 2/ 356، 372.

* المسلك الثالث: الشفاعة

الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (¬1)، {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬2)، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬3)، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد الله وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة. * المسلك الثالث: الشفاعة أولاً: مفهوم الشفاعة لغةً: يُقال شفع الشيء: ضمَّ مثله إليه، فجعل الوتر شفعًا (¬5). واصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرّةٍ (¬6). من الحكمة القولية في دعوة من يتعلّق بغير الله تعالى، ويطلب الشفاعة منه أن يُبيَّن له أن الشفاعة ملكٌ لله وحده: {قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 5. (¬2) سورة يونس: الآية: 61. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 59. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 75. (¬5) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين، ص947، والنهاية في غريب الحديث، 2/ 485، والمعجم الوسيط، 1/ 487. (¬6) انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد صالح العثيمين، ص80. (¬7) سورة الزمر، الآية: 44.

ثانيا: يرد على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية

ثانيًا: يُرَدُّ على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية: 1 - ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء والصالحين والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند الله جاهٌ عظيمٌ، ومقاماتٌ عاليةٌ، فهم يشفعون لنا عنده، كما يُتقرّب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسّلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبَّه اللهَ العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم؛ فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة: الوجه الأول: إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه. الوجه الثاني: أو يكون الملِكُ عاجزًا عن تدبير رعيته، فلا بد له من أعوان؛ لذُلِّهِ وعجزه. الوجه الثالث: أو يكون الملك لا يُريدُ نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبه من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمّته في قضاء حوائج رعيته. والله - عز وجل - ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغني عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكون شريكًا لهم، وقد يكون معاونًا لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور: أ - تارة لحاجتهم إليه. ب - وتارة لخوفهم منه. جـ - وتارة لجزاء إحسانه إليهم.

2 ـ الشفاعة: شفاعتان

وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، والله - عز وجل - لا يرجو أحدًا ولا يخافه، ولا يحتاج إليه (¬1)؛ ولهذا قطع الله جميع أنواع التعلّقات بغيره، وبيّن بطلانها، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). فقد سدّت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سدٍّ وأحكمه؛ فإن العابد إنما يتعلّق بالمعبود لِمَا يرجو من نفعه، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكًا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا، أو وزيرًا، أو معاونًا له، أو وجيهًا ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادِّه (¬3). 2 - الشفاعة: شفاعتان: الشفاعة الأولى: الشفاعة المثبتة: وهي التي تطلب من الله ولها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشّافع أن يشفع، لقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 126 - 129. (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23. (¬3) انظر: التفسير القيم، لابن القيم، ص408. (¬4) سورة البقرة، الآية: 255.

الشرط الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع له

الشرط الثاني: رضا الله عن الشّافع والمشفوع له، لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} (¬1)، {يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً} (¬2). الشفاعة الثانية: الشفاعة المنفية: وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشفاعة بغير إذنه ورضاه، والشفاعة للكفار: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (¬3)،ويستثنى شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف عذاب أبي طالب (¬4). 3 - الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله بالنص والإجماع، فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستَحِبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد لله رب العالمين (¬5). * المسلك الرابع: مسبغ النعم المستحق للعبادة من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله تعالى لفت أنظارهم وقلوبهم إلى ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 28. (¬2) سورة طه، الآية: 109. (¬3) سورة المدثر، الآية: 48. (¬4) انظر: البخاري مع الفتح، مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، 7/ 193، برقم 3883، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابًا، 1/ 195، برقم 211. (¬5) انظر: فتاوى ابن تيمية،1/ 112،158، 14/ 399 - 414، 1/ 108 - 165، 14/ 380، 409، 1/ 160 - 166، 195، 228، 229، 241، ودرء تعارض العقل والنقل، له، 5/ 147، وأضواء البيان، 1/ 137.

أولا: على وجه الإجمال

نعم الله العظيمة: الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} (¬1)، وسخر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان. وقد بيّن سبحانه هذه النعم، وامتنَّ بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتنّ به عليهم ما يأتي: أولاً: على وجه الإجمال: قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (¬2)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (¬3)، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4). فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسّيّة والمعنوية، فجميع ما في السموات والأرض قد سُخِّر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السموات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس والقمر، والكواكب، والثوابت، والسيارات، والجبال، والبحار، والأنهار، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) سورة البقرة، الآية: 29. (¬3) سورة لقمان، الآية: 20. (¬4) الجاثية، الآية: 13.

ثانيا: على وجه التفصيل

وكل ذلك دالّ على أن الله وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذلّ والمحبة إلا له، وهذه أدلّة عقلية لا تقبل ريبًا ولا شكًا على أن الله هو الحق، وأن ما يُدعَى من دونه هو الباطل (¬1): {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). ثانيًا: على وجه التفصيل: ومن ذلك قوله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬3). وقال - عز وجل - بعد أن ذكر نعمًا كثيرة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬4). أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئًا ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي، 1/ 59، 3/ 72، وابن كثير، 3/ 451، 4/ 149، والشوكاني، 1/ 60، 4/ 420، والسعدي، 1/ 69، 6/ 161، 7/ 21، وأضواء البيان للشنقيطي، 3/ 225 - 253. (¬2) سورة الحج، الآية: 62، وانظر: سورة لقمان، الآية: 30. (¬3) سورة إبراهيم، الآيات: 32 - 34. (¬4) سورة النحل، الآيات: 14 - 18، وانظر: الآيات: 3 - 12 من السورة نفسها.

* المسلك الخامس: أسباب ووسائل الشرك

منها؟ ومن المعلوم قطعًا أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يُحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسّة من حواسّه، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوّعها واختلاف أجناسها؟ (¬1). ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله الذي أسدى لعباده هذه النعم ولا يشرك به شيئًا؛ لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه. * المسلك الخامس: أسباب ووسائل الشرك حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كل ما يوصل إلى الشرك ويسبب وقوعه، وبيّن ذلك بيانًا واضحًا، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي: أولاً: الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) (¬2). وبعد ذلك تعلّق الناس بالصالحين، ودبّ الشرك في الأرض، فبعث الله نوحًا - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (¬3)، وردّ ¬

_ (¬1) انظر: فتح القدير، 3/ 154، 3/ 110، وأضواء البيان، 3/ 253. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/ 546، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/ 101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري، 6/ 372. (¬3) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 1/ 106.

عليه قومه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (¬1). وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وَسَمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت (¬2). وهذا سببه الغلوّ في الصالحين؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلوّ في الصالحين، وإلى عبادة القبور. ثم يُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب. ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تُعلَّق عليه الستور، ويُطاف به، ويُستلم ويُقبّل، ويُذبح عنده. ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا. ¬

_ (¬1) سورة نوح، الآية: 23. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة نوح، 8/ 667، برقم 4920.

ثانيا: الإفراط في المدح والتجاوز فيه والغلو في الدين

ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنَقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (¬1). ولهذا حذّر الله عباده من الغلوّ في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفْع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (¬2). ثانياً: الإفراط في المدح والتجاوز فيه، والغلو في الدين: حذّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإطراء في المدح فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين)) (¬4). ثالثاً: بناء المساجد على القبور، وتصوير الصُّوَر فيها: حذَّر - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور، وعن اتخاذها مساجد؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم؛ ولهذا لَمَّا ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئكِ إذا كان فيهم ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري، 29/ 62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص246. (¬2) سورة النساء، الآية: 171. (¬3) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ .. }، 6/ 478، 12/ 144، وانظر: شرحه في الفتح، 12/ 149. (¬4) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، 5/ 260، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، 2/ 1008، وأحمد، 1/ 347.

رابعا: اتخاذ القبور مساجد

الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬1). وَمِنْ حرصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: ((لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).قالت عائشة رضي الله عنها: يُحذِّر ما صنعوا (¬2). وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬3). رابعاً: اتخاذ القبور مساجد: حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: ((اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح، كتاب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، 1/ 523، 3/ 208، 7/ 187، وأخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 375. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب: حدثنا أبو اليمان، 1/ 532، 3/ 200، 6/ 494، 7/ 186، 8/ 140، 10/ 277، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، 1/ 337. (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377. (¬4) الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، 1/ 172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد، 2/ 246: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وأبو نعيم في الحلية، 7/ 317، وانظر: فتح المجيد، ص150.

خامسا: إسراج القبور وزيارة النساء لها

خامساً: إسراج القبور وزيارة النساء لها: حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إسراج القبور؛ لأن البناء عليها، وإسراجها، وتجصيصها، والكتابة عليها، واتخاذ المساجد عليها من وسائل الشرك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (¬1). سادساً: الجلوس على القبور والصلاة إليها: لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بابًا من أبواب الشرك التي تُوصِّل إليه إلاّ سدَّه (¬2)، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إليها)) (¬3). سابعاً: اتخاذ القبور عيدًا، وهجر الصلاة في البيوت، بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته، سواء كان بعيدًا عن قبره أو قريبًا، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيدًا: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬4). وقال النبي الرحيم - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين يبلّغوني من أمتي ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، 4/ 94، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، 3/ 218، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجدًا، 2/ 136،وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور،1/ 502، وأحمد، 1/ 229، 287، 324، 2/ 337، 3/ 442، 443، والحاكم، 1/ 374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية، ص276. (¬2) انظر: فتح المجيد، ص281. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، 2/ 668، برقم 972. (¬4) أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/ 218 بإسناد حسن، وأحمد، 2/ 357، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 383.

ثامنا: الصور وبناء القباب على القبور

السلام)) (¬1). فإذا كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا، فغيره أولى بالنهي كائنًا من كان (¬2). ثامناً: الصور وبناء القباب على القبور: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطهِّر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ((ألا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلاّ سويته)) (¬3). تاسعاً: شدّ الرّحال إلى غير المساجد الثلاثة: وكما سدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدّوا الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (¬4). فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا عندما ذهب أبو هريرة - رضي الله عنه - إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري: فقال: من أين جئت؟ قال: ¬

_ (¬1) النسائي في السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، 3/ 43، وأحمد، 1/ 452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 21، ص24، وسنده صحيح. (¬2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر، 2/ 666، برقم 969. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 3/ 63، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، 2/ 976، برقم 827.

عاشرا: الزيارة البدعية للقبور من وسائل الشرك

من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تُعمل المطيّ إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... )) (¬1). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل يُنهى عن ذلك)) (¬2). عاشراً: الزيارة البدعية للقبور من وسائل الشرك؛ لأن زيارة القبور نوعان: النوع الأول: زيارة شرعية يُقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة؛ وَلِتذكِّر الموت - بشرط عدم شدِّ الرِّحال -؛ ولاتّباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية (¬3)، وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام. 2 - من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحقّ الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام كما يُخرِج الأول. ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، 3/ 114، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 1/ 109، وأحمد في المسند، 6/ 7، 397، وانظر: فتح المجيد، ص289، وصحيح النسائي، 1/ 309. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 234. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 233، والبداية والنهاية، 14/ 123.

3 - من يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب

3 - من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬1). الحادي عشر: الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها من وسائل الشرك؛ لِمَا في ذلك من التشبّه بالذين يسجدون لها في هذين الوقتين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)) (¬2). والخلاصة: أن وسائل الشرك التي تُوصل إليه: هي كل وسيلة وذريعة تكون طريقًا إلى الشرك الأكبر، ومن الوسائل التي لم تُذكر هنا: تصوير ذوات الأرواح، والوفاء بالنذر في مكان يُعبد فيه صنم، أو يُقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، وغير ذلك من الوسائل (¬3). * المسلك السادس: أنواع الشرك وأقسامه أولاً: الشرك أنواع، منها ما يأتي: النوع الأول: شرك أكبر يُخرج من الملّة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬4)، وهو أربعة أقسام: القسم الأول: شرك الدعوة: لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا ¬

_ (¬1) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 6/ 165 - 174. (¬2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها،1/ 568،برقم 828. (¬3) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص54 - 70، 113 - 152. (¬4) سورة النساء، الآية: 116.

القسم الثاني: شرك النية والإرادة والقصد

الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬1). القسم الثاني: شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). القسم الثالث: شرك الطاعة: وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى، قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬3). القسم الرابع: شرك المحبة: لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} (¬4). والخلاصة: أن الشرك الأكبر هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله - عز وجل -: كأن يدعو غير الله، أو يذبح لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو يتقرّب لأصحاب القبور، أو الجن والشياطين بشيء من أنواع العبادة، أو يخاف الموتى أن يضرّوه، أو يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 65، وانظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص230 - 244، ومدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 339 - 346. (¬2) سورة هود، الآيتان: 15 - 16، وانظر: سورة الإسراء، الآية: 8، وسورة الشورى، الآية: 20. (¬3) سورة التوبة، الآية: 31. (¬4) سورة البقرة، الآية: 165.

النوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة

تصرف إلا لله - عز وجل - (¬1). النوع الثاني: شرك أصغر لا يُخرج من الملة، وهو: كل وسيلة وذريعة توصل إلى الشرك الأكبر: من الإرادات، والأقوال، والأفعال، التي لم تبلغ رتبة العبادة. وهو أيضاً: كل ما ورد في الشرع تسميته شركاً، ولم يصل إلى حدّ الشرك الأكبر. ومنه يسير الرياء، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬2). ومنه الحلف بغير الله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬3). ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت، أو ما شاء الله وشئت. ومن أنواع الشرك: شرك خفي: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل)) (¬4)، وكفارته هي أن يقول العبد: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم)) (¬5)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الفوزان، ص11. (¬2) سورة الكهف، الآية: 110. (¬3) رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، 4/ 110، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 99. (¬4) أخرجه الحكيم الترمذي، انظر: صحيح الجامع، 3/ 233،وتخريج الطحاوية للأرنؤوط، ص83. (¬5) أخرجه الحكيم الترمذي، وانظر: صحيح الجامع، 3/ 233، ومجموعة التوحيد لمحمد بن عبدالوهاب، وابن تيمية، ص6.

تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1)، قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان (¬2). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬3)، قال الترمذي: فُسِّرَ عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) (¬4). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)) (¬5). * ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر، فيكون الشرك شركين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله (¬6). والخلاصة: أن الشرك الأصغر قسمان: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 22. (¬2) ذكره ابن كثير في تفسيره، 1/ 56، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬3) رواه الترمذي عن ابن عمر،4/ 110، وتقدم تخريجه. (¬4) رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، 4/ 110، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 92. (¬5) رواه الترمذي عن أبي هريرة في الكتاب والباب المشار إليهما آنفًا، 4/ 110، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 92. (¬6) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص233.

القسم الأول: شرك ظاهر

القسم الأول: شرك ظاهر، وهونوعان: ألفاظ، وأفعال: النوع الأول: الألفاظ: كالحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وأنت، أو هذا من الله ومنك، أو هذا من بركات الله وبركاتك، ونحو ذلك. والصواب أن يقول: ما شاء الله وحده، أو ما شاء الله ثم شئت، ولولا الله وحده، أو لولا الله ثم أنت، وهذا من الله وحده، أو هذا من الله ثم منك. النوع الثاني: الأفعال: مثل: لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، وتعليق التمائم خوفًا من العين أو الجنّ، فمن فعل ذلك يعتقد أن هذه الأشياء ترفع البلاء بعد نزوله، أو تدفعه قبل نزوله، فقد أشرك شركًا أكبر، وهو شرك في الربوبية؛ حيث اعتقد شريكًا مع الله في الخلق والتدبير، وشرك في العبودية حيث تألَّه لذلك، وعلّق به قلبه طمعًا ورجاءً لنفعه، وإن اعتقد أن الله - عز وجل - الدافع للبلاء، والرافع له وحده، ولكن اعتقدها سببًا يستدفع بها البلاء، فقد جعل ما ليس سببًا شرعيًا ولا قدريًا سببًا، وهذا محرّم وكذب على الشرع وعلى القدر: أما الشرع؛ فإنه نهى عن ذلك أشد النهي، وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة. وأما القدر: فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود، ولا من الأدوية المباحة النافعة، وهو من جملة وسائل الشرك؛ فإنه لابد أن يتعلق قلب متعلقها بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه. القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي وهو الشرك في الإردات، والنيات، والمقاصد، وهو نوعان:

النوع الأول: الرياء، والسمعة

النوع الأول: الرياء، والسمعة، والرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدوه عليها، والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء لِمَا يُرى من العمل: كالصلاة، والصدقة، والحج، والجهاد، والسمعة لِمَا يُسمع: كقراءة القرآن، والوعظ، والذكر، ويدخل في ذلك تحدّث الإنسان عن أعماله، وإخباره بها. النوع الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا: وهو إرادته بالعمل الذي يُبتغى به وجه الله عَرَضًا من مطامع الدنيا، وهو شرك في النيات والمقاصد، وينافي كمال التوحيد، ويحبط العمل الذي قارنه (¬1). نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ثانيًا: الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر: 1 - الشرك الأكبر يخرج من الإسلام، والأصغر لا يُخرج من الإسلام. 2 - الشرك الأكبر يُخلّد صاحبه في النار، والأصغر لا يُخلّد صاحبه في النار إن دخلها. 3 - الشرك الأكبر يُحبط جميع الأعمال، والشرك الأصغر لا يحبط جميع الأعمال وإنما يُحبط الرياء والعمل للدنيا العمل الذي خالطه. 4 - الشرك الأكبر يُبيح الدم والمال، والأصغر ليس كذلك (¬2). 5 - الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز ¬

_ (¬1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص43، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص240، وكتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، ص11 - 12، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد له، ص134 - 143. (¬2) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص12.

* المسلك السابع: أضرار الشرك وآثاره

للمؤمنين موالاته، ولو كان أقرب قريب، وأما الشرك الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحبّ ويُوالَى بقدر ما معه من التوحيد، ويُبغض ويُعادى بقدر ما فيه من الشرك الأصغر (¬1). * المسلك السابع: أضرار الشرك وآثاره الشرك له آثار خطيرة، ومفاسد جسيمة، وأضرار مهلكة، منها على سبيل الاختصار والإجمال، ما يأتي: أولاً: شرّ الدنيا والآخرة من أضرار الشرك وآثاره. ثانياً: الشرك هو السبب الأعظم لحصول الكربات في الدنيا والآخرة. ثالثاً: الشرك يسبب الخوف، وينزع الأمن في الدنيا والآخرة. رابعاً: يحصل لصاحب الشرك الضلال في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬2). خامساً: الشرك الأكبر لا يغفره الله إذا مات صاحبه قبل التوبة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬3). سادساً: الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4)، وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص15. (¬2) سورة النساء، الآية: 116. (¬3) سورة النساء، الآية: 48. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 88. (¬5) سورة الزمر، الآية: 65.

سابعا: الشرك الأكبر يوجب الله لصاحبه النار ويحرم عليه الجنة

سابعاً: الشرك الأكبر يوجب الله لصاحبه النار ويحرم عليه الجنة، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار)) (¬1). وقد قال الله - عز وجل -: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬2). ثامناً: الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (¬3). تاسعاً: الشرك أعظم الظلم والافتراء، قال الله - سبحانه وتعالى - يحكي قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬5). عاشراً: الله تعالى بريء من المشركين ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، قال - عز وجل -: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ الله بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (¬6). الحادي عشر: الشرك هو السبب الأعظم في نيل غضب الله وعقابه، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار، 1/ 94، برقم 93. (¬2) سورة المائدة، الآية: 72. (¬3) سورة البينة، الآية: 6. (¬4) سورة لقمان، الآية: 13. (¬5) سورة النساء، الآية: 48. (¬6) سورة التوبة، الآية: 3.

الثاني عشر: الشرك يطفئ نور الفطرة

والبعد عن رحمته نعوذ بالله من كل ما يغضبه. الثاني عشر: الشرك يطفئ نور الفطرة؛ لأن الله - عز وجل - فطر الناس على توحيده وطاعته، قال سبحانه: {فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬1). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على الفطر، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)) (¬2)، وفي الحديث القدسي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن ربه تعالى: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا)) (¬3). الثالث عشر: يقضي على الأخلاق الفاضلة؛ لأن أخلاق النفس الفاضلة من الفطرة، وإذا كان الشرك يقضي على الفطرة فمن باب أولى أن يقضي على ما انبنى على فطرة الله من الأخلاق الطيّبة الحسنة. الرابع عشر: يقضي على عزّة النفس؛ لأن المشرك يذلّ لجميع طواغيت الأرض كلّها؛ لأنه يعتقد أنه لا معتصم له إلا هم، فيذلّ ويخضع لمن لا يسمع ولا يرى، ولا يعقل، فيعبد غير الله، ويذلّ له، وهذا غاية الإهانة والتعاسة، نسأل الله العافية. ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 30. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، 2/ 119، برقم 1358، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، 4/ 2047، برقم 2658. (¬3) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار، 1/ 2197، برقم 2865.

الخامس عشر: الشرك الأكبر يبيح الدم والمال

الخامس عشر: الشرك الأكبر يبيح الدم والمال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (¬1). السادس عشر: الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز لهم موالاته ولو كان أقرب قريب. السابع عشر: الشرك الأصغر يُنقص الإيمان، وهو من وسائل الشرك الأكبر. الثامن عشر: الشرك الخفي، وهو شرك الرياء، والعمل لأجل الدنيا، يُحبط العمل الذي قارنه، وهو أخوف من المسيح الدجال؛ لعظم خفائه، وخطره على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬2). فاحذر يا عبد الله الشرك كلَّه: كبيره، وصغيره، نعوذ بالله منه، ونسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}، 1/ 14، برقم 25، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، 1/ 53، برقم 20. (¬2) سورة الماعون، الآيات: 4 - 7.

المبحث الثالث: نور الإخلاص وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة

المبحث الثالث: نور الإخلاص وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة المطلب الأول: نور الإخلاص * المسلك الأول: مفهوم الإخلاص الإخلاص في اللغة: خَلَص يخلص خلوصًا: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها، ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصًا: أي نجّاه. والإخلاص في الطاعة: ترك الرياء (¬1). وحقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله تعالى وحده. وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض: فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة. وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعْمَرَ من ظاهره. وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه (¬2). وعلى ما تقدّم: يتّضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرّب به إلى الله وحده، لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلبًا للعَرَض الزائل، ولا تصنّعًا، وإنما يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه. ولهذا قال القاضي عياض: ((تَرْك العمل من أجل الناس رياءٌ، ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط، 1/ 249، ومختار الصحاح، ص77. (¬2) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 91.

* المسلك الثاني: أهمية الإخلاص

والعملُ من أجل الناس شركٌ، والإخلاصُ أن يعافيَكَ الله منهما)) (¬1). والإخلاص: في حياة المسلم أن يَقصد بعمله، وقوله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك له ولا رب سواه. * المسلك الثاني: أهمية الإخلاص لقد خلق الله الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين *، أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬3)، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬4)، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (¬5). قال الفضيل بن عياض: هو أخلَصُهُ وأصوَبُهُ. قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (¬6). ثم قرأ ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 91. (¬2) سورة البينة، الآية: 5. (¬3) سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3. (¬4) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬5) سورة الملك، الآية: 2. (¬6) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 89.

{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}

قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬2). فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته (¬3). وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تُحيط من ورائهم)) (¬4). والإخلاص هو روح عمل المسلم، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهده وعمله هباءً منثورًا. والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة الله ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص له، والخوف منه، والرجاء له، وأعمال الجوارح تَبَعٌ؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح. فيجب على المسلم أن يكون مخلصًا لله - عز وجل - لا يريد رياءً ولا سمعة، ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 110. (¬2) سورة النساء، الآية: 125. (¬3) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 90. (¬4) أخرجه الترمذي، في كتاب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، 5/ 34، برقم 2658 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد، 5/ 183 من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/ 78.

* المسلك الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها

ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يعمل الصالحات، ويدعو إلى الله يريد وجهه - تعالى - كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله} (¬1)، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} (¬2). والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على جميع المسلمين، فيريدون بدعوتهم وعملهم وجه الله والدار الآخرة، ويريدون إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور (¬3). * المسلك الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنِيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة (¬4)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... )) (¬5). وقال الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ الله ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 108. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33. (¬3) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 349 و4/ 229. (¬4) انظر: النية وأثرها في الأحكام الشرعية للدكتور صالح بن غانم السدلان، 1/ 151. (¬5) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 9، برقم 1. ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنية))، 3/ 1515، برقم 1907.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا))

فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وهذا يدل على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى الله وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير، والثواب العظيم، ولو لم يعمل إنما نوى نية صادقة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كُتبَ له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر، لا ينقص ذلك من أجره شيئًا)) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) (¬5). وهذا يدل على فضل الله - سبحانه وتعالى -، وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 114. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة،4/ 200،برقم 2996. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من نوى القيام فنام، 2/ 24، برقم 1314. والنسائي، كتاب قيام الليل، وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بليل فغلبه عليها نوم، 3/ 275، برقم 1784. وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 204، وصحيح الجامع، 5/ 160 برقم 5567. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها، 1/ 154، برقم 564. والنسائي، كتاب الإمامة، باب حد إدراك الجماعة، 2/ 111، برقم 855. وقال ابن حجر في فتح الباري: ((إسناده قوي))، 6/ 137. (¬5) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، 3/ 1517، برقم 1909.

((لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه))

في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سِرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه))، قالوا: يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العذر)) (¬1). وبالنية الصالحة يضاعف الله الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلم ثم قاتل))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِلَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأُجر كثيرًا)) (¬2). وجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل في الإسلام، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خُفّ بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأُجر كثيرًا)) قالها حماد ثلاثًا (¬3). وبالنية الصالحة يُبارك الله في الأعمال المباحة، فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ((إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، 3/ 280، برقم 2839، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب الرخصة في القعود من العذر، 3/ 12، برقم 2058، واللفظ له. (¬2) متفق عليه من حديث البراء - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: عمل صالح قبل الجهاد، 3/ 271، برقم 2808، واللفظ له. ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1509، برقم 1900. (¬3) مسند الإمام أحمد، 4/ 357. (¬4) متفق عليه من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، 1/ 24، برقم 55. ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، 2/ 625، برقم 1002.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الدنيا لأربعة نفر .. ))

بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعلُ في في امرأتك)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقّي فيه ربه، ويَصِلُ فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((إن الله - عز وجل - كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ... )) (¬3). * المسلك الرابع: ثمار الإخلاص وفوائده الإخلاص له ثمرات حميدة وفوائد جليلة عظيمة، منها ما يأتي: ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، 1/ 24، برقم 56. ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، 3/ 1250، برقم 1628. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، 4/ 562، برقم 2325، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية، برقم 4228، وأحمد، 4/ 130، وصححه الألباني، في صحيح الترمذي، 2/ 270. (¬3) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الرقاق، باب من همّ بحسنة أو سيئة، 7/ 239، برقم 6491، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت له وإذا همّ بسيئة لم تكتب، 1/ 117، برقم 131.

أولا: خير الدنيا والآخرة من فضائل الإخلاص وثمراته

أولاً: خير الدنيا والآخرة من فضائل الإخلاص وثمراته. ثانياً: الإخلاص هو السبب الأعظم في قبول الأعمال مع متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: الإخلاص يُثمر محبة الله للعبد، ثم محبة الملائكة، ووضع القبول في الأرض. رابعاً: الإخلاص أساس العمل، وروحه. خامساً: يُثمر الأجر الكبير والثواب العظيم بالعمل اليسير، والدعاء القليل. سادساً: يُكتب لصاحب الإخلاص كل عمل يقصد به وجه الله، ولو كان مباحًا. سابعاً: يُكتب لصاحب الإخلاص ما نوى من العمل ولو لم يعمله. ثامناً: إذا نام أو نسي كُتب له عمله الذي كان يعمله. تاسعاً: إذا مرض العبد أو سافر كُتب له بإخلاصه ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا. عاشراً: ينصر الله الأمة بالإخلاص. الحادي عشر: الإخلاص يُثمر النجاة من عذاب الآخرة. الثاني عشر: تفريج كروب الدنيا والآخرة من ثمرات الإخلاص. الثالث عشر: رفع المنزلة في الآخرة يحصل بالإخلاص. الرابع عشر: الإنقاذ من الضلال. الخامس عشر: الإخلاص سبب لزيادة الهدى. السادس عشر: الصِّيت الطيب عند الناس من ثمار الإخلاص. السابع عشر: طمأنينة القلب والشعور بالسعادة. الثامن عشر: تزيين الإيمان في النفس.

التاسع عشر: التوفيق لمصاحبة أهل الإخلاص

التاسع عشر: التوفيق لمصاحبة أهل الإخلاص. العشرون: حسن الخاتمة. الحادي والعشرون: استجابة الدعاء. الثاني والعشرون: النعيم في القبر والتبشير بالسرور. الثالث والعشرون: دخول الجنة والنجاة من النار. وهذه الثمرات والفوائد أدلتها كثيرة من الكتاب والسنة (¬1). فأسأل الله لي ولإخواني المسلمين الإخلاص في القول والعمل. ¬

_ (¬1) يدل على ذلك ما تقدم في المطلبين السابقين، وانظر: كتاب الإخلاص لحسين العوايشة، ص64.

المطلب الثاني: ظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة

المطلب الثاني: ظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة * المسلك الأول: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة من الخطر العظيم أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا يريد به عرضًا من الدنيا، وهذا شِرْكٌ يُنافي كمال التوحيد الواجب، ويُحبط العمل، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا. والفرق بين الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا: هو أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، يجتمعان في أن الإنسان إذا أراد بعمله التزين عند الناس؛ ليروه ويعظِّموه، ويمدحوه، فهذا رياء، وهو أيضًا إرادة للدنيا؛ لأنه تصنّع عند الناس، وطلب الإكرام منهم والمدح والثناء. أما العمل للدنيا فهو أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا لا يقصد به الرياء للناس، وإنما يقصد به عرضًا من الدنيا: كمن يحجّ عن غيره؛ ليأخذ مالاً، أو يجاهد للمغنم، أو غير ذلك، فالمرائي عمل لأجل المدح والثناء من الناس، والعامل للدنيا يعمل العمل الصالح يريد به عرض الدنيا، وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من مُوجبات غضبه، وأليم عقابه (¬1). وقد جاءت النصوص تدل على خسران صاحب هذا العمل في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص442، وتيسير العزيز الحميد، ص534.

قال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه}

إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} (¬2). وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلم علمًا ما يُبتغى به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمُهُ إلا ليُصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها (¬5). وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا تعلَّموا العلم لتُباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)) (¬6). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا تعلَّموا العلم لثلاث: لتُماروا به السفهاء، ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 16. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 17. (¬3) سورة الشورى، الآية: 20. (¬4) سورة البقرة، الآية: 200. (¬5) أبو داود، كتاب العلم، باب: في طلب العلم لغير الله،3/ 323،برقم 3664،وابن ماجه، في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، 1/ 93، برقم 252،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 48. (¬6) ابن ماجه 1/ 93، في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 93، برقم 254، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 48، وصحيح الترغيب للألباني، 1/ 46، وفي الموضعين أحاديث أخرى.

((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ... ))

وتُجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى، وينفد ما سواه)) (¬1). ولهذا تَكَفَّل الله بالسعادة لمن عمل لله، فعن أنس يرفعه: ((من كانت الآخرة همّهُ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له)) (¬2). * المسلك الثاني: أنواع العمل للدنيا العمل للدنيا أنواع متعددة، وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه جاء عن السلف في ذلك أربعة أنواع: النوع الأول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله تعالى: من صدقةٍ، وصلاةٍ، وإحسانٍ إلى الناس، وردِّ ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصًا لله تعالى؛ لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله، وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليه وعليهم، ولا همّةَ له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يُعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من ¬

_ (¬1) الدرامي، 1/ 70 موقوفًا، وابن ماجه عن أبي هريرة، في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 96، برقم 260، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 48، وصحيح الترغيب والترهيب، 1/ 48. (¬2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، بابٌ: حدثنا قتيبة، 4/ 642، برقم 2465، وابن ماجه بنحوه من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، كتاب الزهد، 2/ 1375، برقم 4105، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 5/ 351، والأحاديث الصحيحة، 950.

النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس

نصيب. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة. وهو ما ذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى. النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج عن غيره لمال يأخذه، ولا يقصد بذلك وجه الله ولا الدار الآخرة، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، أو يتعلَّم العلم ليحصل على الشهادة وعلى الجاه، ولا يقصد بذلك وجه الله مطلقًا، أو يتعلَّم القرآن، ويواظب على الصلاة؛ لأجل وظيفة المسجد، أو غيره من الوظائف الدينية، ولا يريد بذلك ثوابًا مطلقًا. النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يُكَفِّره كفرًا يخرجه عن الإسلام، كمن يأتي بناقض من نواقض الإسلام. ذُكِرَ ذلك عن أنس - رضي الله عنه - وغيره (¬1). فليحذر المسلم مما يحبط عمله، ويعرّضه لسخط الله وغضبه، وليحذر جميع المسلمين من هذه الأنواع الفاسدة، نعوذ بالله منها. * المسلك الثالث: خطر الرياء وآثاره الرياء خطره عظيم جدًّا على الفرد والمجتمع والأمة؛ لأنه يُحبط العمل والعياذ بالله ويظهر خطره في الأمور الآتية: ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص444، وتسير العزيز الحميد، ص536، والقول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص126.

أولا: الرياء أخطر على المسلمين من المسيح الدجال

أولاً: الرياء أخطر على المسلمين من المسيح الدجال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟: الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته لما يرى من نظر رجل)) (¬1). ثانياً: الرياء أشدّ فتكًا من الذئب في الغنم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسَدَ من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) (¬2). وهذا مثل ضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيّن فيه أن الدين يفسد بالحرص على المال، وذلك بأن يشغله عن طاعة الله، وبالحرص على الشرف في الدنيا بالدين، وذلك إذا قصد الرياء والسمعة. ثالثاً: خطورة الرياء على الأعمال الصالحة خطر عظيم؛ لأنه يذهب بركتها، ويُبطلها والعياذ بالله: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬3). هذه هي آثار الرياء تمحق العمل الصالح محقًا في وقت لا يملك صاحبه قوة ولا عونًا، ولا يستطيع لذلك ردًّا. قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: الرياء والسمعة، 2/ 1406، برقم 4204، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 410. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، بابٌ: حدثنا سويد، برقم 2376، 4/ 588، وأحمد، 3/ 456، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 280. (¬3) سورة البقرة، الآية: 264.

رابعا: يسبب عذاب الآخرة

مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬1). فهذا العمل الصالح أصله كالبستان العظيم كثير الثمار، فهل هناك أحد يحب أن تكون له هذه الثمار والبستان العظيم، ثم يرسل عليها الرياء فيمحقها محقًّا، وهو في أشدِّ الحاجة إليها!! ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) (¬2). وفي الحديث: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليومٍ لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عَمَلٍ عَمِلَهُ لله أحدًا فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)) (¬3). رابعاً: يسبب عذاب الآخرة؛ ولهذا أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدّق بماله، الذين فعلوا ذلك ليُقال: فلانٌ قارئ، فلانٌ شجاعٌ، فلانٌ كريم متصدّق. ولم تكن أعمالهم خالصةً لله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 266. (¬2) مسلم، كتاب الزهد، باب: من أشرك في عمله غير الله، 4/ 2289، برقم 2985. (¬3) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ: ومن سورة الكهف،5/ 314،برقم 3154،من حديث أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري - رضي الله عنه -،وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة، 2/ 1406، برقم 4203،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 18،وفي صحيح الترمذي، 3/ 74. (¬4) انظر: الحديث في صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1514، برقم 1905.

خامسا: الرياء يورث الذل والصغار

خامساً: الرياء يُورث الذلّ والصّغار والهوان والفضيحة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمَّع سمَّع الله به، ومن يُرائي يُرائي الله به)) (¬1). سادساً: الرياء يحرم ثواب الآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر هذه الأمة بالسناء (¬2) والدين، والرفعة، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) (¬3). سابعاً: الرياء سبب في هزيمة الأمة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم)) (¬4)، وهذا يبيّن أن الإخلاص لله سبب في نصر الأمة على أعدائها، وأن الرياء سبب في هزيمة الأمة! ثامناً: الرياء يزيد الضلال، قال الله تعالى عن المنافقين: {يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬5). * المسلك الرابع: أنواع الرياء ودقائقه أبواب الرياء كثيرة نعوذ بالله من ذلك وهذه الأنواع على النحو الآتي: ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، 7/ 242، برقم 6499. ومسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، 4/ 2289، برقم 2986. (¬2) معناه: ارتفاع المنزلة؛ لأن السناء هو الرفعة. انظر: المصباح المنير، 1/ 293. (¬3) مسند أحمد، 5/ 134، والحاكم، 4/ 418، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 15. (¬4) رواه النسائي بلفظه، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، 6/ 45، برقم 3178، وأصله في صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، 3/ 296، برقم 2896، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 6. (¬5) سورة البقرة، الآيتان: 9 - 10.

أولا: أن يكون مراد العبد غير الله

أولاً: أن يكون مراد العبد غير الله، ويريد ويحب أن يعرف الناس أنه يفعل ذلك، ولا يقصد الإخلاص مطلقًا، نعوذ بالله من ذلك، فهذا نوع من النفاق. ثانياً: أن يكون قصد العبد ومراده لله تعالى، فإذا اطّلع عليه الناس نشط في العبادة وزيّنها، وهذا شرك السرائر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر))، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: ((يقوم الرجل فيصلِّي فيُزيِّن صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شِرْك السرائر)) (¬1). ثالثاً: أن يدخل العبد في العبادة لله، ويخرج منها لله، فَعُرِفَ بذلك ومُدِح، فسكن قلبه إلى ذلك المدح، ومنّى النفس بأن يحمدوه ويمجِّدوه، وينال ما يريده من الدنيا، وهذا السرور والرغبة في الازدياد منه، والحصول على مطلوبه يدل على رياء خفي. رابعاً: وهناك رياء بدني: كمن يظهر الصّفار والنّحول، ليُرِيَ الناس بذلك أنه صاحب عبادة قد غلب عليه خوف الآخرة. وقد يكون الرياء بخفض الصوت، وذبول الشفتين؛ ليدل الناس على أنه صائم. خامساً: رياء من جهة الِّلباس أو الزي: كمن يلبس ثيابًا مرقعة؛ ليقول الناس إنه زاهد في الدنيا، أو من يلبس لباسًا معيَّنًا يرتديه ويلبسه طائفة من الناس يَعدُّهم الناس علماء، فيلبس هذا اللباس ليقال عالم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 2/ 67، برقم 937، وأخرجه البيهقي في السنن، 2/ 291، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 7.

سادسا: الرياء بالقول

سادساً: الرياء بالقول: وهو على الغالب رياء أهل الدين بالوعظ والتذكير، وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، والمجادلة، والمناظرة، وإظهار غزارة العلم. سابعاً: الرياء بالعمل: كمراءاة المصلِّي بطول الصلاة والركوع والسجود، وإظهار الخشوع، والمراءاة في الصوم والحجّ والصدقة. ثامناً: الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يكلَّف أن يستزير عالمًا؛ ليقال إن فلانًا قد زار فلانًا، ودعوة الناس لزيارته كي يُقال: إن أهل الدين يتردّدون عليه. تاسعاً: الرياء بذمّ النفس بين الناس: ويريد بذلك أن يُرِيَ الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء. عاشراً: ومن دقائق الرياء وخفاياه: أن يخفي العامل طاعته بحيث لا يريد أن يطّلع عليها أحدٌ، ولا يُسرَّ بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام، وأن يُقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يُثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يُسامحوه في البيع والشراء، فإن لم يجد ذلك وجد ألمًا في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها. الحادي عشر: ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة لما يريد من المطالب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((حُكِيَ أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يومًا تفجَّرت الحكمة من قلبه على لسانه.

* المسلك الخامس: أقسام الرياء وأثره على العمل

قال: فأخلصت أربعين يومًا، فلم يتفجَّر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخلص لله)) (¬1)، وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل الحلم والحكمة، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم له، أو غير ذلك من المطالب. وهذا لم يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه؛ وإنما حصل هذا العمل لنيل ذلك المطلوب. * المسلك الخامس: أقسام الرياء وأثره على العمل الرياء أعاذنا الله منه أقسام ودركات، ينبغي لكل مسلم أن يعرف هذه الأقسام؛ ليهرب منها وهي على النحو الآتي: أولاً: أن يكون العمل رياء محضًا، ولا يُراد به إلا مراءاة المخلوقين، كحال المنافقين: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمنٍ في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، وهذا العمل لا شك في بطلانه، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، والعياذ بالله. ثانياً: أن يكون العمل لله ويشاركه الرياء من أصله - أي من أوّله إلى آخره - فالنصوص الصحيحة تدل على بُطلانه وحُبوطه أيضًا. ثالثاً: أن يكون أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء أثناء ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 6/ 66، ومنهاج القاصدين، ص214 - 221، والإخلاص للعوايشة، ص24، والإخلاص والشرك الأصغر للدكتور عبد العزيز بن عبداللطيف، ص9، والرياء لسليم الهلالي، ص17. (¬2) سورة النساء، الآية: 142.

1 - أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها

العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين: 1 - أن لا يرتبط أوّل العبادة بآخرها، فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل. مثل ذلك: إنسان عنده عشرون ريالاً يريد أن يتصدّق بها، فتصدق بعشرة خالصة لله، ثم طرأ عليه الرياء في العشرة الباقية، فالصدقة الأولى صحيحة مقبولة، والثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص. 2 - أن يرتبط أوّل العبادة بآخرها، فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرياء خاطرًا، ثم دفعه الإنسان ولم يسكن إليه، وأعرض عنه وكرهه، فإنه لا يضرّه بغير خلاف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلَّموا أو يعملوا)) (¬1). الأمر الثاني: أن يسترسل معه الرياء ويطمئن إليه، ولا يُدافعه ويُحبّه، فتبطل جميع العبادة على الصحيح؛ لأن أولها مرتبط بآخرها، مثال ذلك من ابتدأ الصلاة مخلصًا بها لله تعالى، ثم طرأ عليه الرياء في الركعة الثانية واسترسل معه إلى نهاية صلاته، ولم يُدافعه، فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخرها (¬2). رابعاً: أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، 1/ 116، برقم 127. (¬2) انظر: هذه الأقسام بالتفصيل في جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1/ 79 - 84، وفتح المجيد، ص438، وفتاوى ابن عثيمين، 2/ 29. (¬3) انظر: فتاوى ابن عثيمين، 2/ 30.

* المسلك السادس: أسباب الرياء ودوافعه

وأما إذا عمل المسلم العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضرَّه ذلك، فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، ثم يحمدهُ الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بُشرَى المؤمن)) (¬1). * المسلك السادس: أسباب الرياء ودوافعه أصل الرياء حبّ الجاه والمنزلة، ومن غلب على قلبه حُبّ هذا صار مقصور الهَمِّ على مراعاة الخلق، مشغوفًا بالترّدد إليهم، والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله وتصرّفاته ملتفتًا إلى كل ما يعظِّم منزلته عند الناس، وهذا أصل الداء والبلاء؛ فإن من رغب في ذلك احتاج إلى الرياء في العبادات، واقتحام المحظورات. وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله، العارفون به، المحبون له. وإذا فُصِّل هذا السبب والمرض الفتاك رجع إلى ثلاثة أصول: أولاً: حب لذّة الحمد والثناء والمدح. ثانياً: الفرار من الذمّ. ثالثاً: الطمع فيما في أيدي الناس (¬2). ويشهد لهذا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، 4/ 2034، برقم 2642. (¬2) انظر: مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص221 - 222.

* المسلك السابع: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء

فهو في سبيل الله)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقاتل شجاعة)) أي ليُذكر، ويُشكر، ويُمدح، ويُثنى عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقاتل حمية)) أي يأنف أن يُغلب ويُقهر أو يُذمّ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقاتل رياءً)) أي ليُرى مكانه، وهذا هو لذّة الجاه والمنزلة في القلوب. وقد يرغب الإنسان في المدح ولكنه يحذر من الذمّ كالجبان بين الشجعان، فإنه يثبت ولا يفرّ؛ لئلا يذمّ، وقد يُفتي الإنسان بغير علم حذرًا من الذم بالجهل، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرّك إلى الرياء وتدعو إليه فاحذرها! * المسلك السابع: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء قد عُرِفَ أن الرياء مُحبط للعمل، وسبب لغضب الله ومقته، وأنه من المهلكات، وأشدّ خطرًا على المسلم من المسيح الدجال. ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجدّ في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يُزيل الرياء ويُحصِّل الإخلاص بإذن الله تعالى ما يأتي: أولاً: معرفة أنواع العمل للدنيا، وأنواع الرياء، وأقسامه، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدّمت هذه الدوافع والأسباب. ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 3/ 272، برقم 2810، ومسلم، كتاب الصلاة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، 3/ 1512، برقم 1904.

ثانيا: معرفة عظمة الله تعالى

ثانياً: معرفة عظمة الله تعالى، بمعرفة: أسمائه، وصفاته، وأفعاله معرفةً صحيحةً مبنية على فهم الكتاب والسنة، على مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإن العبد إذا عرف أن الله وحده هو الذي ينفع ويضرّ، ويُعزّ ويّذلّ، ويخفض ويرفع، ويّعطي ويمنع، ويُحيي ويُميت، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، إذا عرف ذلك، وعلم بأن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فسيُثمرُ ذلك إخلاصًا وصدقًا مع الله، فلابد من معرفة أنواع التوحيد كلّها معرفةً صحيحة سليمة. ثالثاً: معرفة ما أعدّه الله في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص. رابعاً: الخوف من خطر العمل للدنيا والرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمرًا بقي حَذِرًا منه فينجو؛ ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة. فينبغي للمرء، بل يجب عليه، إذا هاجت رغبته إلى آفة حبّ الحمد والمدح أن يُذَكِّرَ نفسه بآفات الرياء، والتعرّض لمقت الله، ومن عرف فقر الناس وضعفهم استراح كما قال بعض السلف: ((جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، واحرص أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان، فلا تفرِّق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقْنَعْ بعلم الله وحده)) (¬1). وبالله وحده، ثم بالخوف من حُبوط العمل نجا أهل العلم والإيمان ¬

_ (¬1) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، ص15.

خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير

من الرياء وحبوط العمل، فعن محمد بن لبيد - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله - عز وجل - لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) (¬1). ولهذا الخطر العظيم خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير، ومن ذلك الأمثلة الآتية: 1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬2)، قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله: أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر (أو يا بنت الصدّيق) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويصلّي وهو يخاف ألا يُتقبَّل منه)) (¬3). 2 - قال ابن أبي مُليكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل)) (¬4). 3 - وقال إبراهيم التيميّ: ((ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 5/ 428، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 2/ 45. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬3) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: التوقي في العمل، 2/ 1404، برقم 4198، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ: ومن سورة ((المؤمنون))، 5/ 327، برقم 3175، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 162، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 409. (¬4) البخاري معلقًا مجزومًأ به، قال ابن حجر: وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه. انظر: فتح الباري، 1/ 110.

4 - ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق

أكون مُكذِّبًا)) (¬1). 4 - ويُذكر عن الحسن أنه قال: ((ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنه إلا منافق)) (¬2). 5 - وقال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: ((نشدتك بالله هل سمّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم - يعني من المنافقين - قال: لا. ولا أُزَكِّي بعدك أحدًا)) (¬3). 6 - ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((اللهمّ إني أعوذ بك من خشوع النفاق))، قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: ((أن ترى البدن خاشعًا والقلب ليس بخاشع)) (¬4). 7 - ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((لئن أستيقن أن الله تقبَّل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬5). 8 - وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ((أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح معلقًا ومجزومًا به. قال ابن حجر: وصله المصنف في التاريخ. انظر: فتح الباري، 1/ 110. (¬2) البخاري مع الفتح، وقال ابن حجر: وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافقين، وصححه. انظر: الفتح، 1/ 111. (¬3) ابن كثير بنحوه، في البداية والنهاية، 5/ 19، وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص36. (¬4) ذكره ابن القيم في صفات المنافقين، ص36. (¬5) ذكره ابن كثير في تفسيره، 2/ 41، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والآية: 27 من سورة المائدة.

خامسا: الفرار من ذم الله

رجل إلا ودَّ أن أخاه كفاه)) (¬1). خامساً: الفرار من ذم الله؛ فإن من أسباب الرياء الفرار من ذم الناس، ولكن العاقل يعلم أن الفرار من ذم الله أولى؛ لأن ذمه شين، كما قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إن مدحي زينٌ، وذمّي شينٌ. فقال - صلى الله عليه وسلم - ((ذاك الله)) (¬2). ولا شكّ أن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بسخط الله سخط الله عليه، وغضب وأسخط الناس عليه. فهل أنت تخشى غضب الناس؟ فالله أحق أن تخشاه إن كنت صادقًا. سادساً: معرفة ما يفرّ منه الشيطان؛ لأن الشيطان منبع الرياء، وأصل البلاء، والشيطان يفرّ من أمور كثيرة، منها: الأذان، وقراءة القرآن، وسجود التلاوة، والاستعاذة بالله منه، والتسمية عند الخروج من البيت والدخول في المسجد مع الذكر المشروع في ذلك، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وجميع الأذكار المشروعة (¬3). سابعاً: الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خاليًا من خشية الله، وصلاة النوافل، والدعاء للإخوة في الله بظهر الغيب، والله - عز وجل - يحب العبد التقيّ ¬

_ (¬1) الدارمي في سننه، 1/ 53، وابن المبارك في الزهد، 1/ 140، برقم 49. (¬2) أحمد في المسند، 3/ 488، 6/ 394، من حديث الأقرع بن حابس - رضي الله عنه -، وإسناده حسن، ورواه الترمذي وحسنه، برقم 3263. (¬3) انظر التفصيل في ذلك: كتاب مقامع الشيطان في ضوء الكتاب والسنة لسليم الهلالي، وهو مهم جدًّا، والإخلاص لحسين العوايشة، ص57 - 63.

ثامنا: عدم الاكتراث بذم الناس ومدحهم

الخفيّ، قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يحبّ العبد التقيّ الغنيّ الخفيّ)) (¬1). ثامناً: عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم؛ لأن ذلك لا يضرّ ولا ينفع، بل يجب أن يكون الخوف من ذمّ الله، والفرح بفضل الله {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2). فيا عبد الله أقبل على حب المدح والثناء فازهد فيهما زهد عُشَّاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك سَهُل عليك الإخلاص (¬3). ويسهِّلُ الزهدَ في حب المدح والثناء: العلمُ يقينًا أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضرّ ذمّه ويشين إلا الله وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمِّ من لا يشينك ذمّهُ، وارغب في مدح مَنْ كلُّ الزين في مدحه، وكلُّ الشَّين في ذمّه، ولن يُقدَر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمن فقد الصبر واليقين كان كمن أراد السفر في البحر بغير مركب (¬4). وانظر إلى من ذمَّك فإن يك صادقًا قاصدًا النصح لك فاقبل هديته ونصحه؛ فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن كان كاذبًا فقد جنى على نفسه وانتفعتَ بقوله؛ لأنه عرَّفك ما لم تكن تعرف، وذكَّرك من خطاياك ما نسيتَ، وإن كان ذلك افتراءً عليك، فإنك إن خلوتَ من هذا العيب لم ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الزهد، 4/ 2277، برقم 2965. (¬2) سورة يونس، الآية: 58. (¬3) الفوائد لابن القيم، ص67. (¬4) انظر: الفوائد لابن القيم، ص268.

تاسعا: تذكر الموت وقصر الأمل

تخلُ من غيره، فاذكر نعمة الله عليك إذ لم يُطْلِعْ هذا المفتري على عيوبك، وهذا الافتراء كفّارات لذنوبك إن صبرتَ واحتسبتَ، وعليك أن تعلم أن هذا الجاهل جنى على نفسه، وتعرّض لمقت الله تعالى، فكن خيرًا منه: فاعفُ واصفحْ، واستغفر له {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). تاسعاً: تذكّرِ الموت وقَصْر الأمل {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2)، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3). عاشراً: الخوف من سوء الخاتمة، فعلى العبد أن يخاف أن تكون أعمال الرياء هي خاتمة عمله، ونهاية أجله، فيخسر خسارة فادحة عظيمة؛ لأن الإنسان يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه، والناس يُبعثون على نياتهم، وخير الأعمال خواتمها. الحادي عشر: مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى؛ فإن الجليس المخلص لا يعدمك الخير، وتجد منه قدوة لك صالحة، وأما المرائي والمشرك فيحرقك في نار جهنم إن أخذت بعمله. الثاني عشر: الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، وقد علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سورةالنور، الآية: 22. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬3) سورة لقمان، الآية: 34.

الثالث عشر: حب العبد ذكر الله له وتقديم حب ذكره له على حب مدح الخلق

ذلك فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال بعض الصحابة: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهمّ إنا نعوذ بك أن نُشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لِمَا لا نعلمه)) (¬1). الثالث عشر: حبّ العبد ذكر الله له وتقديم حبّ ذكره له على حبّ مدح الخلق {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (¬2)،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرَّب إليّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إلي ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (¬3)، والله المستعان (¬4). الرابع عشر: عدم الطمع فيما في أيدي الناس؛ فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 4/ 403، وإسناده جيد، وغيره، وانظر: صحيح الجامع، 3/ 233، وصحيح الترغيب والترهيب للألباني، 1/ 19. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري واللفظ له، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ}، 8/ 216، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله، 4/ 2061، برقم 2675. (¬4) انظر ما تقدم في: منهاج القاصدين، ص221 - 223، وكتاب الإخلاص لحسين العوايشة، ص41 - 64، والرياء ذمه وأثره السيئ في الأمة لسليم الهلالي، ص61 - 72، والإخلاص والشرك الأصغر للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف، ص13.

الخامس عشر: معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده

الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقينًا أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يُؤتي العبد منها شيئًا سواه (¬1). الخامس عشر: معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب الله، ورفْع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحب الله للعبد، وحب أهل السماء والأرض، والصِّيت الطيِّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، والله الموفق سبحانه (¬2). فالمسلم الذي يريد رضى الله، والفوز بنجاته ومحبة الله له، عليه أن يعمل جاهدًا في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل الله أن يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص267 - 268. (¬2) انظر: كتاب الإخلاص للعوايشة، ص64 - 66.

المبحث الرابع: نور الإسلام وظلمات الكفر

المبحث الرابع: نور الإسلام وظلمات الكفر المطلب الأول: نور الإسلام * المسلك الأول: مفهوم الإسلام الإسلام لغة: الانقياد والإذعان، أما في الشرع، فلإطلاقه حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذٍ يُراد به الدين كله: أصوله، وفروعه: من اعتقاداته، وأقواله، وأفعاله، فتبيّن بذلك أن الإسلام عند إطلاقه مفردًا: هو الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والاستسلام لله في جميع ما قضى وقدَّر، كما ذُكِرَ عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في قوله (¬1): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، وكقوله - عز وجل -: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬4)، وقوله - سبحانه وتعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬5). فظهر أن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترنًا بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به ¬

_ (¬1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للعلامة الراغب الأصفهاني، مادة ((سلم))، ص423، ومعارج القبول، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، 2/ 595. (¬2) سورة البقرة، الآية: 131. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 85.

* المسلك الثاني: مراتب دين الإسلام

الأعمال، والأقوال الظاهرة، وبه يحقن الدم، سواء حصل معه الاعتقاد، أو لم يحصل معه (¬1)؛ كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬2). * المسلك الثاني: مراتب دين الإسلام لا شكّ أن أصول الدين التي يجب على كل مسلم معرفتها والعمل بها ثلاثة: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. فالإسلام هو الأصل الثاني من أصول الدين، وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وكل مرتبة من هذه المراتب لها أركان على النحو الآتي: أولاً: مرتبة الإسلام، وأركانه خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابه لجبريل - عليه السلام -: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) (¬3)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام ¬

_ (¬1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للعلامة الراغب الأصفهاني، مادة ((سلم))، ص423، وجامع العلوم والحكم لابن رجب، 1/ 104، ومعارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 596. (¬2) سورة الحجرات: الآية: 14. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان، والإسلام، والإحسان،1/ 37، برقم 8،من حديث عمر - رضي الله عنه -.

ثانيا: مرتبة الإيمان

الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) (¬1). ثانيًا: مرتبة الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه ستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬2). ثالثًا: مرتبة الإحسان، وهو ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حينما سأله عن الإحسان فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). ولا شكّ أن معنى الإحسان في اللغة: إجادة العمل وإتقانه، وإخلاصه، وفي الشرع: هو ما فسّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - فسّر الإحسان بتحسين الظاهر والباطن، وأن ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((بني الإسلام على خمس))، 1/ 9، برقم 8، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام، 1/ 45، برقم 16، وانظر: ثلاثة الأصول، للشيخ محمد بن عبد الوهاب المطبوع مع حاشية ابن القاسم، ص25، و47، فقد ذكر لكل ركن من هذه الأركان دليلاً من الكتاب، ودليلاً من السنة. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل.

يستحضر قُرب الله - عز وجل -، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية، والخوف، والهيبة، والتعظيم، ويوجب النصح في العبادة بتحسينها، وبذل الجهد في إتمامها، وإكمالها (¬1). ولأهمية الإحسان فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع: تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونًا بالإسلام، وتارة مقرونًا بالتقوى، وتارة مقرونًا بالعمل. فالمقرون بالإيمان كقول الله - عز وجل -: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). والمقرون بالإسلام كقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬3)، وقوله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (¬4). والمقرون بالتقوى كقوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬5). وقد يذكر مفردًا كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 126،ومعارج القبول، لحافظ الحكمي، 2/ 611، وثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب المطبوع مع حاشية ابن القاسم، ص62،وص65، فقد ذكر لجميع أركان الإيمان، وركن الإحسان دليلاً من الكتاب، ودليلاً من السنة لكل ركن. (¬2) سورة المائدة، الآية: 93. (¬3) سورة البقرة، الآية: 112. (¬4) سورة لقمان، الآية: 22. (¬5) سورة النحل، الآية: 128. (¬6) سورة يونس، الآية: 26.

* المسلك الثالث: ثمرات الإسلام ومحاسنه

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله - عز وجل - في الجنة (¬1)،وهذا مناسب لجعله جزاءً لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاءُ ذلك النظر إلى الله عِيانًا في الآخرة (¬2). * المسلك الثالث: ثمرات الإسلام ومحاسنه الإسلام له فضائل عظيمة، وآثار حميدة، ونتائج كريمة، منها ما يأتي: أولاً: الإسلام الصحيح يثمر كل خير في الدنيا والآخرة. ثانياً: أعظم أسباب الحياة الطيّبة والسعادة في الدنيا والآخرة. قال الله - عز وجل -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬3). ثالثاً: الإسلام يخرج الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام والإيمان. رابعاً: الإسلام يغفر الله به جميع الذنوب والسيئات؛ لقول الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (¬4)، وفي حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في قصة إسلامه، قال: ((فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك، فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: ((تشترط بماذا؟))، قلت: أن يُغفَرَ لي، قال: ((أما علمت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم - سبحانه وتعالى -،1/ 163،برقم 180. (¬2) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 126. (¬3) سورة النحل، الآية: 97. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 38.

خامسا: إذا أحسن المسلم الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في كفره

أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) (¬1). خامساً: إذا أحسن المسلم الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في كفره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل سأله: ((إذا أحسنتَ في الإسلام لم تُؤاخذ بما عملت في الجاهلية، وإذا أسأتَ في الإسلام أُخذتَ بالأوّل والآخر)) (¬2). سادساً: الإسلام يجمع الله به للعبد حسناته في الكفر والإسلام؛ لحديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنّثُ بها في الجاهلية، من: صدقةٍ، وعتاقٍ، وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلمتَ على ما سلفَ لك من خيرٍ)) (¬3). سابعاً: الإسلام يُدخل الله به الجنة، ففي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رسالته، وعن الصلوات الخمس، والزّكاة، والصّوم، والحجّ، وهذه أركان الإسلام، فقال الرجل: والذي بعثك بالحقّ لا أزيد عليهنّ، ولا أنقص منهنّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لئن صدق ليدخلنَّ الجنة)) (¬4). ثامناً: سبب في النجاة من النار، فقد ثبت في حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسلام يهدم ما قبله، 1/ 112، برقم 121. (¬2) أخرجه أحمد في المسند،1/ 379،وصححه أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند،5/ 309،برقم 3596. (¬3) البخاري، كتاب الزكاة، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، 2/ 146، برقم 1436، ورقم 2220، و2538، و5992. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، 1/ 41، برقم 12، وانظر: حديث رقم 13، في الكتاب نفسه.

تاسعا: الفلاح والفوز العظيم من ثمرات الإسلام

عند رأسه، فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمَ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) (¬1). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّه لا يدخل الجنة إلاّ نفسٌ مسلمةٌ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) (¬2). تاسعاً: الفلاح والفوز العظيم من ثمرات الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قد أفلح مَنْ أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه)) (¬3). عاشراً: الإسلام يضاعف الله به الحسنات، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتبُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة تكتب له بمثلها حتى يلقى الله)) (¬4). الحادي عشر: يكون العمل القليل كثيرًا بالإسلام الصحيح؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء إليه مقنّع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أُقاتلُ أو أسلمُ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلمْ ثم قاتلْ))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِلَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عَمِل قليلاً وأُجر كثيرًا)) (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري، في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، 2/ 118، برقم 1356. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، بابٌ: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، برقم 3062، وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5/ 89، برقم 4203، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 105، برقم 111. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، 2/ 730، برقم 1054. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همّ بسيئة لم تكتب،1/ 118، برقم 129. (¬5) متفق عليه من حديث البراء - رضي الله عنه -، البخاري كتاب الجهاد والسير، بابٌ: عمل صالح قبل الجهاد، 3/ 371، برقم 2808، واللفظ له، ومسلم كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1509، برقم 1900.

الثاني عشر: الخير كله في الإسلام، ولا خير في العرب ولا في العجم إلا بالإسلام

الثاني عشر: الخير كله في الإسلام، ولا خير في العرب، ولا في العجم إلا بالإسلام، وقد ثبت في الحديث: ((أيما أهل بيتٍ من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرًا أدخل عليهم الإسلام)) (¬1). الثالث عشر: الإسلام يثمر الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً يُعطَى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها)) (¬2). الرابع عشر: الإسلام يشرح الله به صدر صاحبه، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬3). الخامس عشر: الإسلام يثمر النور لصاحبه في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬4). السادس عشر: الإسلام يجعل لصاحبه المكانة العالية عند الله - عز وجل -، فقد ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 3/ 477، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 34، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 51. (¬2) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، 4/ 2162، برقم 2808. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬4) سورة الزمر، الآية: 22.

السابع عشر: الإسلام الكامل يثمر لصاحبه حلاوة الإيمان

ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَزَوال الدنيا أهونُ على الله من قتل رجلٍ مسلم)) (¬1). السابع عشر: الإسلام الكامل يثمر لصاحبه حلاوة الإيمان، فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ثلاث مَنْ كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: مَنْ كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار)) (¬2). وعن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً)) (¬3) - صلى الله عليه وسلم -. الثامن عشر: الإسلام صراط الله المستقيم، ومن سلكه كان من الفائزين، فعن النوَّاس بن سمعان - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجُّوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، 4/ 16، برقم 1395، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 56. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان، 1/ 13، برقم 21، ومسلم، كتاب الإيمان، باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 1/ 66، برقم 43. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً فهو مؤمن، 1/ 62، برقم 34.

التاسع عشر: من رضي بالإسلام دينا أرضاه الله في الدنيا والآخرة

تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله - عز وجل -، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم)) (¬1)، زاد الترمذي: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2). التاسع عشر: من رضي بالإسلام دينًا أرضاه الله في الدنيا والآخرة، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يُمسي وحين يُصبح: رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ثلاث مرات إلاّ كان حقًا على الله أن يرضيه)) (¬3). العشرون: الإسلام هو الدين الذي كمَّله الله ورضيه، فختم به الأديان، قال الله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬4). الحادي والعشرون: الإسلام يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وضرر، فما من مصلحة دقيقة ولا جليلة إلا أرشد إليها، ولا خير إلا دلَّ عليه، ولا شرٍّ إلا حذّر منه: فهو يأمر بتوحيد الله، والإيمان به، ويحثّ على العلم والمعرفة، ويأمر بالعدل والصّدق في الأقوال والأفعال، وبالبرّ ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 4/ 182، 183، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 73، والترمذي، في كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الله لعباده، 5/ 144، برقم 2859، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/ 67. (¬2) سورة يونس، الآية: 25. (¬3) أحمد في المسند، 4/ 367، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 4، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 68، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 518، وأبو داود، برقم 5072، والترمذي، برقم 3389، وحسنه ابن باز في تحفة الأخيار، ص39. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3.

الثاني والعشرون: اختص الإسلام بخصائص عظيمة كريمة منها:

والصِّلة والإحسان إلى الأقارب والجيران والأصحاب وجميع الخلق، وينهى عن الكذب، والظلم، والقسوة، والعقوق، والبخل، وسوء الخلق، ويأمر بالوفاء، وينهى عن الغدر، والغشِّ، ويأمر بالنّصح، والاجتماع، والتآلف، والتّحابب والإنفاق، وينهى عن التّعادي والتّباغض والافتراق، والمعاملات السيئة، وأكل المال بالباطل، ويأمر بأداء الحقوق، وينهى عن ضدها، ويأمر بكل معروف، وطيِّب، ونافع، ومستحسن شرعًا، وعقلاً، وفطرةً، وينهى عن كل فاحشة، ومنكر، وخبيث شرعًا، وعقلاً، وفطرةً، ويأمر بالتعاون على البر والتقوى، وينهى عن التعاون على الإثم والعدوان، والتعلّق بالمخلوقين والعمل لأجلهم، ويأمر بعبادة الله وحده، ويحفظ الدين، والنفس، والعِرْض، والعقل، والمال، وهذا الدين صالح لكل زمان، ومكان، ولكل أمّةٍ، ونبيُّ هذا الدين محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أعلى الخلق في كل صفة كمال إنساني، ولذلك صار سيِّدَ الخلق - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الثاني والعشرون: اختصّ الإسلام بخصائص عظيمة كريمة، منها: 1 - الإسلام من عند الله، قال الله - عز وجل - يمدح نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬2). 2 - شامل لجميع نظم الحياة، وسلوك الإنسان شمولاً تامًا. 3 - عام لكلِّ مُكلَّف من الجن والإنس في كل زمان ومكان، قال الله ¬

_ (¬1) انظر: وجوب التعاون بين المسلمين، للسعدي، ص22. (¬2) سورة النجم، الآيتان: 3 - 4.

4 - والإسلام من حيث الثواب والعقاب ذو جزاء أخروي

تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). 4 - والإسلام من حيثُ الثواب والعقاب ذو جزاء أخروي، بالإضافة إلى جزائه الدنيوي. 5 - الإسلام يحرص على إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني، وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام. 6 - الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬2)، وهذه خصائص جميلة (¬3). * المسلك الرابع: نواقض الإسلام نواقض الإسلام كثيرة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتدّ أن المسلم قد يرتدّ عن دينه بأمور وأنواع كثيرة من النواقض التي تُحلّ دمه وماله، ويكون بها خارجًا من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعًا عشرة نواقض (¬4): الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬5)، وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143. (¬3) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص 117. (¬4) انظر: هذه النواقض في مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، ومجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص27، ص28. (¬5) سورة النساء، الآية: 116.

الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم

بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬1)، ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجنّ أو للقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعًا. الثالث: من لم يكفِّر المشركين، أو شكّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم كَفَر. الرابع: من اعتقد أنّ هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكملُ من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه – كالذين يفضّلون حكم الطواغيت على حكمه – فهو كافر. ويدخل في هذا الناقض: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنّها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلّف المسلمين، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخّل في شؤون الحياة الأخرى، ويدخل فيه أيضًا من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن، لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضًا كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات، أو الحدود، أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعًا، وكلّ من استباح ما حرم الله مما هو معلوم تحريمه من الدين بالضرورة: كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله، فهو كافر بإجماع المسلمين. نعوذ بالله من ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 72.

موجبات غضبه وأليم عقابه (¬1). والخلاصة أن الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل، وإليك الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3). وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4). قال طاووس وعطاء: كُفر دون كُفر، وظُلم دون ظُلم، وفسق دون فسق (¬5)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((هي به كُفر، وليس كُفرًا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله)) (¬6). وقال - رضي الله عنه -: ((من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم: فهو ظالم فاسق)) (¬7). والصواب أن من حكم بغير ما أنزل الله قد يكون مرتدًا، وقد يكون مسلمًا عاصيًا مرتكبًا لكبيرة من كبائر الذنوب؛ فلهذا نجد أن أهل العلم قد قسموا الكلمات الآتية إلى قسمين، وهي كلمة: كافر، وفاسق، وظالم، ومنافق، ومشرك. فكُفر دون كُفر، وظُلم دون ظُلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للعلامة ابن باز، 1/ 137. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة المائدة، الآية: 45. (¬4) سورة المائدة، الآية: 47. (¬5) تفسير ابن كثير، 2/ 58، وانظر: تفسير الطبري، 10/ 355 - 358. (¬6) تفسير ابن جرير، 10/ 356. (¬7) المرجع السابق، 10/ 356.

فالأكبر يُخرج من الملّة، لمنافاته أصل الدين بالكلّية، والأصغر ينقص الإيمان، ويُنافي كماله، ولا يُخرج صاحبه من الملّة؛ ولهذا فصَّل العلماءُ القول في حكم من حكم بغير ما أنزل الله تعالى: قال سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى: ((من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع: 1 - من قال أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية، فهو كافر كفرًا أكبر. 2 - ومن قال أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفرًا أكبر. 3 - ومن قال أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفرًا أكبر. 4 - ومن قال أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمرٍ صادر من حُكَّامه، فهو كافر كفرًا أصغر لا يخرج من الملّة، ويُعتبر من أكبر الكبائر)) (¬1). ولا مُنافاة بين تسمية العمل فسقًا، أو عامله فاسقًا، وبين تسميته مسلمًا وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفرًا، ولا كل ما يسمى كفرًا، وظلمًا، يكون مخرجًا من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته؛ وذلك لأنَّ كلاً من الكفر، والشرك، والظلم، ¬

_ (¬1) حدثنا بهذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهو مسجل في شريط في مكتبتي الخاصة، وانظر: فتاوى سماحته رحمه الله، 1/ 137، وانظر التفصيل، ومتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبر: كتاب ((نواقض الإيمان القولية والعملية))، للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، ص249 - 343.

الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -

والفسوق، والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: القسم الأول: أكبر يُخرج من الملّة لمنافاته أصل الدين. القسم الثاني: أصغر يُنقص الإيمان ويُنافي كماله، ولا يُخرج صاحبه منه، فكُفر دون كُفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق. والفاسق بالمعاصي التي لا تُوجب الكفر لا يخلد في النار، بل أمره مردود إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله، وإن شاء عاقبه بقدر الذنب الذي مات مصرًا عليه، ولا يُخلده في النار، بل يُخرجه برحمته، ثم بشفاعة الشافعين، إن كان مات على الإيمان (¬1). الخامس: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به كفر إجماعًا؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬2). السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ثوابه، أو عقابه، كفر. والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬3). السابع: السحر، ومنه: الصرف (¬4)، والعطف (¬5)، فمن فعله، أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ ¬

_ (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، للشيح حافظ الحكمي، 2/ 423. (¬2) سورة محمد، الآية: 9. (¬3) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66. (¬4) الصرف: عمل سحري يقصد منه تغيير الإنسان وصرفه عما يهواه، كصرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها. (¬5) العطف: عمل سحري يقصد منه ترغيب الإنسان فيما لا يهواه، فيحبه بطرق شيطانية.

الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين

فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (¬1). الثامن: مظاهرة (¬2) المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3). التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى - عليه السلام - فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (¬4)، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجادّ، والخائف، إلا المُكره، وكلها أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 102. (¬2) المظاهرة: المناصرة والتعاون معهم على المسلمين. (¬3) سورة المائدة، الآية: 51. (¬4) سورة السجدة، الآية: 22. (¬5) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، ص27، 28، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، 387، ومجموعة فتاوى ابن باز، 1/ 135.

المطلب الثاني: ظلمات الكفر

المطلب الثاني: ظلمات الكفر * المسلك الأول: مفهوم الكفر أولاً: الكفر: بالفتح: الستر والتغطية، يُقال: كفر الزارع البذر في الأرض: إذا غطّاه بالتراب. وبالضم: ضِدُّ الإيمان، وكفر نعمة الله، وبها كُفُورًا وكفرانًا: جحدها، وسترها، وكافره حقه: جحده، والمكفَّرُ كَمُعَظَّمٍ: المجحُودُ النِّعمةِ مع إحسانِهِ. وكَافرٌ: جاحدٌ لأنْعُمِ الله تعالى (¬1). فالكفر: هو الستر، وجحود الحق، وإنكاره، والكافر: ضدّ المسلم، والمرتدّ: هو الذي كفر بعد إسلامه؛ بقول، أو فعل، أو اعتقاد، أو شكّ، وحدُّ الكفر الجامع لجميع أجناسه، وأنواعه، وأفراده: هو جحد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان: اعتقاد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتزامه، والعمل به جملة وتفصيلاً (¬2)، والكفر هو: أوّل ما ذُكِرَ من المعاصي في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬3)، وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر (¬4)، والكفر كفران: الكفر الأول: كُفر يُخرج من الملّة، وهو ((الكفر الأكبر)). الكفر الثاني: كفر لا يُخرج من الملّة، وهو ((الكفر الأصغر)) أو كُفر دون كفر (¬5). ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، فصل الكاف، باب الراء، والمعجم الوسيط، ص791. (¬2) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، للسعدي رحمه الله، ص191. (¬3) سورة البقرة، الآية: 6. (¬4) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، ص5. (¬5) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص6.

ثانيا: الإلحاد

ثانيًا: الإلحاد: إلحاد ولحود، ولحد القبر كمنع، وألحده، عمل له لحدًا، والميت دفنه، وإليه مال كالْتحد. وألْحدَ مالَ، وعدلَ، ومارَى، وجادل (¬1)، ويلاحظ أن المعاجم الحديثة استعملت كلمة إلحاد، وفسرتها بأنها الكفر. وفَهمُ المفسرين لمادة ((لحد)) في القرآن الكريم، يمكن تلخيصه في أنه الميل عن دين الله إلى درجة الكفر، وفسّروا الإلحاد في سورة الحجّ، بأنه أيّ معصيةٍ في الحرم، ولكن المعصية في الحرم إذا قيست بغيرها في مكان آخر كانت شديدة جدًا (¬2). قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله: ((الإلحاد هو الميل عن الحق والانحراف عنه بشتى الاعتقادات، والتأويلات، ولذا سُمّي لحد القبر لحدًا، لميله عن وسطه إلى أحد جوانبه، فالمنحرف عن صراط الله، والمعاكس لحكمه بالتأويل الفاسد، وإبداء التشكيك، يُسمَّى مُلحدًا ... وأول الناس إلحادًا المشركون الذين اشتقّوا لآلهتهم من أسماء الله، كالّلات، والعُزّى، ومن الإلّ الذي هو الإله ... ثم كلّ من ألحد في أسمائه، وصفاته، وصرفها عن ظاهرها ... فهو ملحد)) (¬3). * المسلك الثاني: أنواع الكفر أولاً: الكفر الأكبر المُخرج من الملّة: وهو خمسة أنواع (¬4): ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، فصل اللام، باب الدال، والمعجم الوسيط، ص817. (¬2) جهود المفكرين المسلمين المحدثين في مقاومة التيار الإلحادي، ص21. (¬3) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة لعبد الرحمن الدوسري، ص40. (¬4) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 335 - 338.

النوع الأول: كفر التكذيب

النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (¬1). النوع الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التّصديق، والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬2). النوع الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظنّ، والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (¬3). النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} (¬4). النوع الخامس: كفر النفاق، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 68. (¬2) سورة البقرة، الآية: 34. (¬3) سورة الكهف، الآيات: 35 - 38. (¬4) سورة الأحقاف، الآية: 3. (¬5) سورة المنافقون، الآية: 3.

ثانيا: كفر أصغر لا يخرج من الملة:

ثانيًا: كفر أصغر لا يُخرج من الملّة: وهو كفر النعمة: والدليل قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (¬1)، والله المستعان (¬2). ومما يدل من السُّنة على الكفر الذي لا يُخرج من الملّة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)) (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها ... فقد كفر بما أُنزل على محمد)) (¬5)، ونظائر ذلك كثيرة. وهذا النوع لا يُبطل الإسلام ولكن يُنقصه ويُضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعالى وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي التي يعرف صاحبها أنها معاصي، كالزنا، ولكن لا يستحلّها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة بإيمانه وعمله الصالح وإن شاء غفر له (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 112. (¬2) مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ ابن تيمية رحمهما الله، ص6. (¬3) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الأدب، باب ما يُنهى عنه من السباب واللعن، 7/ 110، رقم 6044، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، 1/ 81، برقم 64. (¬4) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، 7/ 126، برقم 6104، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال من قال لأخيه المسلم: يا كافر، 1/ 79، 60. (¬5) مسند الإمام أحمد، 2/ 408، وصححه الألباني في آداب الزفاف، ص31. (¬6) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 4/ 20، و45.

ثالثا: الفروق بين الكفر الأكبر والأصغر:

ثالثًا: الفروق بين الكفر الأكبر والأصغر: 1 - الكفر الأكبر يُخرج من الملّة، والأصغر لا يُخرج من الملّة. 2 - الكفر الأكبر يُحبط جميع الأعمال، والأصغر لا يُحبطها لكنه يُنقصها. 3 - الكفر الأكبر يُخلّد في النار، والأصغر لا يُخلّد، وهذا إذا دخلها فإن الله قد يعفو عنه. 4 - الكفر الأكبر يُبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يُبيح الدم والمال. 5 - الكفر الأكبر يُوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، ولا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته، ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحَبُّ ويُوالَى بقدر ما معه من الإيمان، ويُبغض ويُعادَى بقدر ما فيه من العصيان (¬1). * المسلك الثالث: خطورة التكفير الذي ينبغي أن نؤصّله هنا: أن الحكم بالكفر على إنسان ما حكم خطير، لِمَا يترتب عليه من آثار، هي غاية في الخطر، منها: أولاً: أنه لا يحلّ لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرّق بينها وبينه؛ لأن المسلمة لا يصحُّ أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقّن. ثانياً: أن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنه لا يُؤتمن عليهم، ويُخشى أن يؤثِّر عليهم بكفره، وبخاصة أن عودهم طريّ؛ وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كلّه. ثالثاً: إنه فقد حق الولاية والنصرة من المجتمع الإسلامي بعد أن مرق ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص15.

* المسلك الرابع: أصول المكفرات

منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والرّدَّة البواح. رابعاً: أنه يجب أن يُحاكم أمام القضاء الإسلامي؛ ليُنفَّذ فيه حكم المرتدّ، بعد أن يُستتاب، وتُزال من ذهنه الشبهات، وتُقام عليه الحجة. خامساً: أنه إذا مات على ردّته لا تُجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يُغسّل، ولا يُصلّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورِّث له قبله. سادساً: أنه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله، وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم، وهذه الأحكام الخطيرة تُوجب على من يتصدى للحكم بتكفير أحدٍ من المسلمين، أن يتريَّث مراتٍ ومراتٍ قبل أن يقول ما يقول (¬1). سابعاً: أنه لا يُدعى له بالرحمة، ولا يُستغفر له؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2)، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ((الكفر حقّ الله ورسوله، فلا كافر إلا من كفَّره الله ورسوله)) (¬3). * المسلك الرابع: أصول المكفِّرات أولاً: الكفّار نوعان: النوع الأول: الكفّار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولا انتسبوا ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، 6/ 49، وقد قرأتُ هذه المسائل على معالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، في 20/ 6/1417، فأقرّها جزاه الله خيرًا. (¬2) سورة التوبة، الآية: 113. (¬3) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص198.

النوع الثاني

للإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من: أُميين، ومشركين، وأهل كتاب، من: يهود ونصارى، ومن: مجوس، وعبدة أوثان، ودهريين، وفلاسفة ... وغيرهم من أصناف الكفار، فهؤلاء الجنس، دلّ الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، على كفرهم، وشقائهم، وخلودهم في النار، وتحريم الجنة عليهم، ولا فرق بين عالمهم وجاهلهم، وأُمِّيهم، وكتابيِّهم، وعوامِّهِم، وخواصِّهِم، وهذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام. النوع الثاني: الذين ينتسبون لدين الإسلام، ويزعمون أنهم مؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصدر منهم ما يناقض هذا الأصل، ويزعمون بقاءهم على دين الإسلام، وأنهم من أهله، فهؤلاء لتكفيرهم أسباب متعددة ترجع كلها إلى تكذيب الله ورسوله، وعدم التزام دينه ولوازم ذلك (¬1). ثانيًا: جميع المكفِّرات تدخل تحت نواقض أربعة: القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو الشك والتوقف. قال سماحة العلامة إمام علماء هذا العصر، عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله ورفع درجاته: ((العقيدة الإسلامية لها قوادح، وهذه القوادح قسمان: قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها، ويكون صاحبه كافرًا نعوذ بالله، وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها: القسم الأول: القوادح المكفِّرة: نواقض الإسلام هي الموجبة للرِّدَّة، هذه تسمى نواقض، والناقض يكون قولاً، ويكون عملاً، ويكون اعتقادًا، ويكون شَكًّا. ¬

_ (¬1) انظر: إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأسر الأسباب، للسعدي، ص191 - 193.

فقد يرتدُّ الإنسان بقولٍ يقوله، أو بعملٍ يعمله، أو باعتقادٍ يعتقده، أو بشكٍّ يطرؤ عليه، وهذه الأمور الأربعة كلُّها يأتي منها الناقض الذي يقدح في العقيدة ويبطلها، وقد ذَكَرَها أهل العلم في كتبهم، وسَمَّو بابها: ((باب حكم المرتد))، فكلُّ مذهب من مذاهب العلماء، وكلُّ فقيهٍ من الفقهاء ألَّفَ كُتُبًا – في الغالب – عندما يذكر الحدود – يذكر باب حكم المرتدّ، وهو الذي يكفر بعد الإسلام، وهذا مرتدّ، يعني أنه رَجَع عن دين الله وارتدَّ عنه، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينَهُ فاقتلوه)) خرَّجه البخاري في ((الصحيح)) (¬1). وفي ((الصحيحين)) (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - إلى اليمن، ثم أتْبَعَهُ معاذ بن جبل، فلما قَدِمَ عليه قال: انزل، وألقى له وسادة، وإذا رجلٌ عنده مُوثَق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًّا فأسلم، ثم راجع دينه – دين السَّوء – فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس، نعم، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فَقُتِل. فدلَّ ذلك على أن المرتدّ عن الإسلام يُقتل، إذا لم يتب، يُستتاب فإن تاب ورجع فالحمد لله، وإن لم يرجع وأصرَّ على كفره وضلاله يُقْتَل، ويُعجَّل به إلى النار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجهاد، باب: لا يعذَّب بعذاب الله، 4/ 27، برقم 3017. (¬2) متفق عليه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب استتابة المرتدين، 8/ 64، برقم 6923، ومسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة، 3/ 1456، برقم 1733. (¬3) رواه البخاري، برقم 3017، وتقدم تخريجه.

الردة بالقول

1 - الرّدّة بالقول: النواقض التي تنقض الإسلام كثيرة، منها قولٌ، مثل: سبّ الله: هذا قولٌ ينقض الدين، وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يعني: اللعن، والسّبّ لله ولرسوله، أو العيب، مثل أن يقول: إنَّ الله ظالم، إنَّ الله بخيل، إنَّ الله فقير، إنَّ الله - جل وعلا - لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، كُلُّ هذه الأقوال رِدَّةٌ عن الإسلام. من انتقص الله، أو سبَّه، أو عابه بشيء فهو كافر مرتدٌّ عن الإسلام - نعوذ بالله - هذه ردّةٌ قولية، إذا سبَّ الله، أو استهزأ به، أو تنقَّصه، أو وصفه بأمرٍ لا يليق، كما تقول اليهود: إن الله بخيل، إن الله فقير ونحن أغنياء، وهكذا لو قال: إن الله لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، أو نفى صفات الله ولم يؤمن بها، فهذا يكون مرتدًا بأقواله السيئة. أو قال مثلاً: إنَّ الله لم يوجب علينا الصلاة، هذه ردّة عن الإسلام، من قال إن الله لم يوجب الصلاة فقد ارتدَّ عن الإسلام بإجماع المسلمين، إلا إذا كان جاهلاً بعيدًا عن المسلمين لا يعرف، فيُعلَّم، فإنْ أصرَّ كَفَر. وأما إذا كان بين المسلمين، ويعرف أمور الدِّين، فإن قال: ليست الصلاة بواجبة؛ فهذه رِدَّة، يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. أو قال: الزكاة غير واجبة على الناس، أو قال: صوم رمضان غير واجب على الناس، أو الحج مع الاستطاعة غير واجب على الناس، من قال هذه المقالات كَفَر إجماعًا، ويُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل - نعوذ بالله-. وهذه الأمور ردَّةٌ قولية.

الردة بالفعل

2 - الرّدّة بالفعل: والردة الفعلية: مثل: ترك الصلاة، فكونه لا يصلي، وإن قال: إنها واجبة - لكن لا يصلي - هذه رِدَّة على الأصحِّ من أقوال العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العَهْدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تَرَكَها فقد كفر)) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بإسناد صحيح (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (¬2). وقال شَقِيقُ بن عبد الله العُقَيلي التابعي المتّفق على جلالته - رحمه الله -: ((كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة)) رواه الترمذي (¬3)، وإسناده صحيح. وهذه ردّةٌ فعلية، وهي ترك الصلاة عمدًا. ومن ذلك: لو استهان بالمصحف الشريف، وقعد عليه مستهينًا به، أو لطَّخه بالنجاسة عمدًا، أو وطأه بقدمه يستهين به، فإنه يرتدّ بذلك عن الإسلام. ومن الرِّدَّة الفعلية: كونه يطوف بالقبور يتقرَّب لأهلها بذلك، أو يصلّي لهم، أو للجنّ، وهذه رِدَّةٌ فعلية. ¬

_ (¬1) المسند، 5/ 346، وسنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، 5/ 14، برقم 2621، وسنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، 1/ 231، 232، برقم 463، وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، 1/ 342، برقم 1079، من حديث بريدة - رضي الله عنه -، وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 329. (¬2) كتاب الإيمان، باب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، 1/ 88، برقم 82. (¬3) السنن، كتاب الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة، 5/ 14، برقم 2622.

الردة بالاعتقاد

أما دعاؤه إيَّاهم والاستعانة بهم والنذر لهم: فردَّة قولية. أما من طاف بالقبور يقصد بذلك عبادة الله، فهو بدعةٌ قادحةٌ في الدِّين، لا يكون رِدَّة، إنما يكون بدعة قادحة في الدين، إذا لم يقصد التقرّب إليه بذلك، وإنما فعل ذلك تقرّبًا إلى الله سبحانه جهلاً منه. ومن الكفر الفعلي: كونه يذبح لغير الله ويتقرب لغيره سبحانه بالذبائح، يذبح البعير أو الشاة أو الدجاجة أو البقرة لأصحاب القبور تقربًا إليهم يعبُدُهم بها، أو للجِنِّ يعبدهم بها، أو للكواكب يتقرب إليها بذلك، وهذا ما أُهِلَّ به لغير الله، فيكون ميتةً، ويكون كفرًا أكبر - نسأل الله العافية -. هذه كلُّها من أنواع الردة عن الإسلام والنواقض الفعلية. 3 - الرّدّة بالاعتقاد: ومن أنواع الرّدّة العقدية: التي يعتقدُها بقلبه وإن لم يتكلم، ولم يفعل - بل بقلبه يعتقد - إذا اعتقد بقلبه أنَّ الله جل وعلا فقيرٌ، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئًا، هذا كفر بمجرد هذه العقيدة بإجماع المسلمين. أو اعتقد بقلبه أنه لا يُوجد بعثٌ ولا نشور، وأن كلَّ ما جاء هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جَنَّة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه، ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفرٌ ورِدَّةٌ عن الإسلام - نعوذ بالله -، وتكون أعمالُهُ باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة.

وهكذا لو اعتقد بقلبه – ولو لم يتكلم – أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصادق، أو أنَّه ليس بخاتم الأنبياء، وأنَّ بعده أنبياء، أو اعتقد أنَّ مُسيلمة الكذَّاب نبيٌّ صادق، فإنه يكون كافرًا بهذه العقيدة. أو اعتقد – بقلبه – أنَّ نوحًا، أو موسى، أو عيسى، أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون، أو أحدًا منهم، فهذا رِدّةٌ عن الإسلام. أو اعتقد أنه لا بأس أنْ يُدعى مع الله غيره، كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مُرتدًّا عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3)، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬4). وقال: {فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬5). وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬6)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فمن زَعَم أو اعتقد أنه يجوزُ أن يُعْبَدَ مع الله غيرُهُ من مَلَكٍ، أو نبيٍّ، أو ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 62. (¬2) سورة البقرة، الآية: 163. (¬3) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬4) سورة الإسراء، جزء من الآية: 23. (¬5) سورة غافر، جزء من الآية: 14. (¬6) سورة الزمر، الآية: 65.

الردة بالشك

شجرٍ، أو جِنٍّ، أو غير ذلك فهو كافر وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافرًا بالقول والعقيدة جميعًا، وإن فعل ذلك ودعا غير الله، واستغاث بغير الله، صار كافرًا بالقول والعمل والعقيدة جميعًا، نسأل الله العافية. ومما يدخل في هذا ما يفعله عُبَّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وطلب المَدَدِ منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي المَدَدَ المَدَدَ، يا سيدي الغوثَ الغوثَ، أنا بجوارك، اشفِ مريضي، ورُدَّ غائبي وأصلح قلبي. يخاطبون الأموات الذين يُسمّونهم الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نَسُوا الله وأشركوا معه غيره - تعالى الله عن ذلك -. فهذا كفرٌ قوليٌّ، وعقديٌّ، وفعليّ. وبعضُهم ينادي من مكانٍ بعيد وفي أمصارٍ متباعدة: يا رسول الله انصرني ... ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله اشفِ مريضي، يا رسول الله المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصُرنا على أعدائنا. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي العملي، وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به، صار شركًا قوليًّا، وفعليًّا، وعقديًّا، نسأل الله العافية. 4 - الرّدّة بالشك: عَرَضْنَا للرِّدَّة التي تكون بالقول، والرّدّة في العمل، والرّدة في العقيدة،

أما الرّدّة بالشكّ، فمثل الذي يقول: أنا لا أدري هل الله حقٌّ أم لا؟ ... أنا شاكٌّ، هذا كافرٌ كُفْرَ شكٍّ، أو قال: أنا لا أعلم هل البعث حقٌّ أم لا؟ أو قال: أنا لا أدري هل الجنة والنار حقٌّ أم لا؟ ... أنا لا أدري، أنا شاكٌّ؟. فمثلُ هذا يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل كافرًا لشكِّه فيما هو معلومٌ من الدِّين بالضرورة، وبالنَّصِّ، والإجماع. فالذي يشكّ في دينه ويقول: أنا لا أدري هل الله حقٌّ، أو هل الرسول حقٌّ، وهل هو صادق أم كاذب؟ أو قال: لا أدري هل هو خاتم النبيين، أو قال: لا أدري مسيلمة كاذب أم لا؟ أو قال: ما أدري هل الأسود العنسي - الذي ادَّعى النبوة في اليمن - كاذبٌ أم لا؟ هذه الشكوك كلُّها ردَّةٌ عن الإسلام يُستتاب صاحبها، ويُبيَّن له الحقّ، فإن تاب وإلا قُتِل. ومثل لو قال: أشك في الصلاة هل هي واجبةٌ أم لا؟ والزكاة هل هي واجبةٌ أم لا؟ وصيام رمضان هل هو واجبٌ أم لا؟ أو شك في الحج مع الاستطاعة هل هو واجبٌ في العُمُرِ مَرَّةً أم لا؟ فهذه الشكوك كلها كفر أكبر، يُستتاب صاحبها، فإن تاب وآمن وإلا قُتِلَ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري في ((الصحيح)) (¬1). فلا بُدَّ من الإيمان بأنَّ هذه الأمور - أعني الصلاة والزكاة والصيام والحج - كلها حقّ، وواجبة على المسلمين بشروطها الشرعية (¬2). ¬

_ (¬1) ورقمه (3017)، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، ص27 - 42، بتصرف يسير جدًا.

القسم الثاني: قوادح دون الكفر

أما الوسوسة العارضة والخطرات، فإنها لا تضرّ إذا دفعها المؤمن، ولم يسكن إليها، ولم تستقرّ في قلبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) (¬1). وعليه أن يعمل الآتي: يستعيذ بالله من الشيطان. ينتهي عما يدور في نفسه (¬2). يقول آمنت بالله ورسله (¬3). القسم الثاني: قوادح دون الكفر: تضعف الإيمان وتنقصه، وتجعل صاحبها معرضًا للنار وغضب الله، لكن لا يكون صاحبها كافرًا، مثل: أكل الربا، وارتكاب المحرَّمات: كالزنا، والبدع، إذا آمن بأن ذلك حرام، ولم يستحلَّه، أما إذا اعتقد أن ذلك حلالٌ صار كافرًا، وغير ذلك مثل الاحتفال بالمولد، وهو ما أحدثه الناس في القرن الرابع وما بعده من الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك إضعافًا للعقيدة، إلا إذا كان هناك في المولد استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه البدعة تكون من النوع الأول المُخرِج عن الإسلام. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، 1/ 116. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 110، برقم 3276، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، 1/ 120، برقم 134. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما قوله من وجدها، 1/ 119، برقم 134.

* المسلك الخامس: آثار الكفر وأضراره

ومن النوع الثاني كذلك التطيّر كما يفعل أهل الجاهلية، وقد ردَّ الله عليهم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬1). فالطيرة شرك دون كفر ... وكذلك الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) (¬2)، انتهى ملخصًا (¬3). * المسلك الخامس: آثار الكفر وأضراره الكفر له آثار خطيرة، وأضرار جسيمة، منها ما يأتي: أولاً: شرّ الدنيا والآخرة من أضرار الكفر وآثاره. ثانياً: الكفر يُسبِّب لصاحبه الضّلال، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬4). ثالثاً: الكفر الأكبر لا يغفره الله لمن مات عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 47. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، 3/ 222، برقم 2697. ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ومحدثات الأمور، 3/ 1344، برقم 718. (¬3) القوادح في العقيدة للعلامة ابن باز وهي محاضرة ألقاها في الجامع الكبير في شهر صفر عام 1403هـ، وهي مسجلة عندي بمكتبتي الخاصة، ثم طبعت والحمد لله تعالى في عام 1416هـ، بعنوان: القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها، اعتنى بنشرها وعرضها على مؤلفها: خالد بن عبد الرحمن الشايع جزاه الله خيرًا. (¬4) سورة النساء، الآية: 167. (¬5) سورة النساء، الآيتان: 168 - 169.

رابعا: الكفر أعظم أسباب الخزي والعار

رابعاً: الكفر أعظم أسباب الخزي والعار، قال الله - عز وجل -: {وَأَنَّ الله مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (¬1). خامساً: يوجب الله لصاحبه النار قال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (¬2). سادساً: يُحبط جميع الأعمال، قال الله - عز وجل -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (¬3)، وقال سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4)، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬5)، وقال - عز وجل -: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (¬6). سابعاً: يوجب الخلود في النار، قال الله - عز وجل -: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (¬7). ثامناً: يسبب الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، قال الله سبحانه: {إِنَّ الله لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} (¬8). تاسعاً: أعظم أسباب غضب الله وأليم عقابه، قال الله - عز وجل -: {وَلَكِن ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 2. (¬2) سورة فاطر، الآية: 36. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬4) سورة المائدة، الآية: 5. (¬5) سورة النور، الآية: 39. (¬6) سورة إبراهيم، الآية: 18. (¬7) سورة البقرة، الآية: 167. (¬8) سورة الأحزاب، الآية: 64.

عاشرا: الكفر يجعل صاحبه أضيق الناس صدرا

مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). عاشراً: الكفر يجعل صاحبه أضيق الناس صدرًا، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬2). الحادي عشر: الكفر يطبع على القلب، قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬3). الثاني عشر: الكفر الأكبر يُبيح الدم والمال عن طريق الجهاد، أو عن طريق ولاة أمر المسلمين. الثالث عشر: الكفر الأكبر يُوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، ولا يجوز للمؤمنين محبته، ومُوالاته، ولو كان أقرب قريب. الرابع عشر: الكفر الأصغر يُنقص الإيمان ويُضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعا لى وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 106. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬3) سورة النساء، الآية: 155. (¬4) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 4/ 20، 45.

المبحث الخامس: نور الإيمان وظلمات النفاق

المبحث الخامس: نور الإِيمان وظلمات النفاق المطلب الأول: نور الإِيمان * المسلك الأول: مفهوم الإِيمان أولاً: مفهوم الإِيمان: لغةً واصطلاحاً: الإِيمان لغةً: التصديق، قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} (¬1) أي بمصدّق لنا. وحقيقة الإِيمان: أنه مُركّب من قولٍ وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح. فهذه أربعة أمور جامعة لأمور دين الإسلام: الأول: قول القلب: وهو تصديقه، وإيقانه، واعتقاده. الثاني: قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمها. الثالث: عمل القلب: وهو النيّة، والإخلاص، والمحبّة، والانقياد، والإقبال على الله - عز وجل -، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه. الرابع: عمل اللسان والجوارح: فعمل اللسان ما لا يؤدَّى إلا به: كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك. وعمل الجوارح ما لا يؤدَّى إلا بها، مثل: القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضاة الله، كنقل الخطا إلى المساجد، وإلى الحج، والجهاد في ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 17.

ثانيا: الفرق بين الإيمان والإسلام:

سبيل الله - عز وجل -، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإِيمان (¬1). قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ((الإِيمان ... التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإِيمان به، والانقياد ظاهراً وباطناً، فهو تصديق القلب، واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب، وأعمال البدن، وذلك شامل للقيام بالدين كله؛ ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون: الإِيمان: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وهو: قول، وعمل، واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فهو يشمل عقائد الإِيمان، وأخلاقه، وأعماله)) (¬2). ثانياً: الفرق بين الإِيمان والإسلام: في الشرع: أن الإِيمان على حالتين: الحالة الأولى: أن يُطلق الإِيمان على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام، فحينئذٍ يراد به الدين كله، كقوله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬3)، وهذا المعنى هو الذي قصده السلف بقولهم رحمهم الله: ((إن الإِيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وإن الأعمال كلها داخلة في مُسمَّى الإِيمان)). ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص373، ومعارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 587 - 591، وأصول وضوابط في التكفير، للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ص 34، وكتاب الإيمان لابن منده، 1/ 300، 341. (¬2) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص9، وانظر: كتاب الإيمان لابن منده، 1/ 341، وفتاوى ابن تيمية، 7/ 505. (¬3) سورة البقرة، الآية: 257.

* المسلك الثاني: طرق تحصيل الإيمان وزيادته

والحالة الثانية: أن يطلق الإِيمان مقروناً بالإسلام، وحينئذٍ يُفَسَّر الإِيمان بالاعتقادات الباطنة: كالإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، كقوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (¬1). ويُفسَّر الإسلام بأعمال الجوارح الظاهرة: كالنطق بالشهادتين والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من الأعمال (¬2) , كقوله - عز وجل -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬3) الآية، فالإِيمان والإسلام إذا افترقا اجتمعا، وإن اجتمعا افترقا، وذلك كالفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحدٍ مسمى يخصه (¬4). * المسلك الثاني: طرق تحصيل الإِيمان وزيادته الإِيمان كمال العبد، وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة، وهو السبب والطريق لكل خيرٍ عاجلٍ وآجلٍ، ولا يحصل ولا يقوى، ولا يتمّ إلا بمعرفة ما منه يستمدّ؛ فإنه يحصل ويقوى ويزيد بأمور كثيرة، منها: أولاً: معرفة أسماء الله الحسنى، الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبُّد لله بها، قال الله - عز وجل -: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬5) , وقال ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية:57. (¬2) انظر فتاوى ابن تيمية، 7/ 13 - 15، و551 - 555، ومعارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 597 - 608. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬4) انظر فتاوى ابن تيمية، 7/ 551، 575 - 623، وجامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 104. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 180.

ثانيا: تدبر القرآن على وجه العموم

النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)) (¬1)، أي من حفظها، وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبَّد لله بها، دخل الجنة، فَعُلِمَ أن ذلك أعظم ينبوع الإِيمان، ومادّة لحصوله، وقوته، وثباته؛ ومعرفة أسماء الله - عز وجل -: هي أصل الإِيمان، وتتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإِيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه، وقوي يقينه، فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومُستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، بلا تمثيلٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تحريفٍ (¬2). ثانياً: تدبّر القرآن على وجه العموم، فإن المتدبِّر لا يزال يستفيد من علوم القرآن، ومعارفه ما يزداد به إيماناً، وكذلك إذا نظر إلى انتظامه وأحكامه، وأنه يُصدِّق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف، إذا فعل ذلك تيقَّن أنه من عند الله، وهذا من أعظم مقويّات الإِيمان (¬3). ثالثاً: معرفة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما تدعو إليه من علوم الإِيمان، وأعماله، كل ذلك من مُحصِّلات الإِيمان ومقويّاته، فكلّما ازداد العبد ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز في الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، 3/ 242، برقم 2736، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، 4/ 2063، واللفظ له. (¬2) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للعلامة السعدي، ص40. (¬3) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم،2/ 28،والتوضيح والتبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص41.

رابعا: معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية

معرفة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ازداد إيمانه ويقينه. رابعاً: معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة؛ فإن من عرفه حق المعرفة لم يَرْتَبْ في صدقه، وصدق ما جاء به من الكتاب والدين الحق. خامساً: التفكر في الكون: في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات؛ فإن ذلك داعٍ قويٌّ للإيمان؛ لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدالة على قدرة خالقها، وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يُحيِّر العقول، وكذلك النظر إلى فقر المخلوقات كلِّها، واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفة عين، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء، والافتقار إلى الله، والتضرّع إليه في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضرّه في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه، وكمال الثقة بوعده، وشدّة الطّمع في برّه وإحسانه، وبهذا يتحقق الإِيمان ويقوى. وكذلك التفكر في كثرة نعم الله العامّة والخاصّة التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. سادساً: الإِكثار من ذكر الله في كل وقت، ومن الدعاء الذي هو العبادة؛ فإن الذكر يغرس شجرة الإِيمان في القلب، ويُغذِّيها، ويقوّيها، وكلّما ازداد العبد ذكراً لله قوي إيمانه، ويكون الذكر على كلّ حال: باللسان، والقلب، والعمل، والحال؛ فنصيب العبد من الإيمان على قدر نصيبه من

سابعا: معرفة محاسن الإسلام

هذا الذكر. سابعاً: معرفة محاسن الإسلام؛ فإن الدين الإسلامي كله محاسن: عقائده أصحّ العقائد، وأصدقها، وأنفعها، وأخلاقه أجمل الأخلاق، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها، وبهذا النظر يزيّن الله الإيمان في قلب العبد، ويحبّبه إليه، فيجد حلاوة الإيمان، فيتجمّل الباطن بأصول الإيمان، وحقائقه، ويتجمّل الظاهر بأعمال الإيمان. ثامناً: الاجتهاد في الإِحسان في عبادة الله - عز وجل -، والإِحسان إلى خلقه؛ فيجتهد الإِنسان في عبادة الله كأنه يشاهده، فإن لم يقوَ على ذلك استحضر أن الله يشاهده ويراه، فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه، وكذلك الإِحسان إلى الخلق: بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وأنواع المنافع، فإذا أحسن عبادة الخالق، وأحسن إلى خلقه، وواظب على ذلك قوي إيمانه، ويقينه، ويصل ذلك إلى حقِّ اليقين، الذي هو أعلى مراتب اليقين، فيذوق حلاوة الطاعات، ويجد ثمرة المعاملات، وهذا هو الإيمان الكامل. تاسعاً: الاتّصاف بصفات المؤمنين؛ من الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها، وأداء الزكاة، والإِعراض عن اللغو الذي هو كلُّ كلامٍ لا خير فيه، وكل فعلٍ لا خير فيه، بل يقول المسلم الخير، ويفعله، ويترك الشرّ: قولاً، وفعلاً، لاشكّ أن ذلك كله يزيد الإيمان، ويقوِّيه، وكذلك العِفَّة عن الفواحش، ورعاية الأمانات والعهود، وحفظها من علامات الإيمان. عاشراً: الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتّواصي بالحقّ والتواصّي بالصّبر، والدعوة إلى أصل الدين، والتزام شرائعه بالأمر بالمعروف،

الحادي عشر: الابتعاد عن شعب الكفر والنفاق، والفسوق والعصيان

والنهي عن المنكر، وبذلك يُكَمِّل العبد نفسه، ويكمِّل غيره. الحادي عشر: الابتعاد عن شُعَبِ الكفر والنفاق، والفسوق والعصيان؛ فإنه لابدّ في الإيمان من فعل جميع الأسباب المقويّة المنميّة له، ولابدّ مع ذلك من دفع الموانع والعوائق، وهي الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان. الثاني عشر: التقرُّب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتقديم كل ما يحبّه الله على ما سواه عند غَلَبة الهوى. الثالث عشر: الخلوة بالله وقت نزوله؛ لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدّب بآداب العبودية بين يديه، ثم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة. الرابع عشر: مجالسة العلماء الصادقين المخلصين؛ وانتقاء أطايب ثمرات كلامهم كما يُنتقى أطايب الثمر (¬1). * المسلك الثالث: ثمرات الإيمان وفوائده الإيمان له فوائد وثمرات لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، فكم له من ذلك في القلب، والبدن، والراحة، والحياة الطيّبة، في الدنيا والآخرة، ومُجملها أن خيرات الدنيا والآخرة، ودفع الشرور كلّها من ثمرات الإيمان، ومن هذه الثمرات والفوائد ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 17، والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص40 - 62.

أولا: الاغتباط بولاية الله - عز وجل -

أولاً: الاغتباط بولاية الله - عز وجل -، قال الله - عز وجل -: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (¬1) , وقوله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬2) أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر. ثانياً: الفوز برضا الله، قال الله - عز وجل -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (¬3) , فنالوا رضوان الله ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة، بإيمانهم الذي كمَّلوا به أنفسهم، وكمَّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحصلوا على أعظم الفوز والفلاح. ثالثاً: الإيمان الكامل يمنع من دخول النار، والإيمان الضعيف يمنع من الخلود فيها، فإنّ من آمن إيماناً أدّى به جميع الواجبات، وترك جميع المحرَّمات؛ فإنه لا يدخل النار، كما أنه لا يُخلّد في النار من كان في قلبه ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآيتان: 62 - 63. (¬2) سورة البقرة, الآية: 257. (¬3) سورة التوبة، الآيتان: 71 - 72.

رابعا: إن الله يدفع عن الذين آمنوا جميع المكاره

شيء من الإيمان. رابعاً: إن الله يدفع عن الذين آمنوا جميع المكاره، وينجيهم من الشدائد، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) أي: يدافع عنهم كل مكروه، وشرّ شياطين الإنس والجنّ، ويدافع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخفّفها بعد نزولها، قال الله - عز وجل -: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬4). وقال - عز وجل -: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا} (¬5) , أي من كل ما ضاق على الناس {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬6)، فالمؤمن المتقي يُيسِّر الله له أموره، ويُيسِّره لليُسرَى، ويجنِّبه العُسْرَى، ويُسهِّل عليه الصعاب، ويجعل له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من حيث لا ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 38. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان: 87 - 88. (¬3) سورة يونس، الآية: 103. (¬4) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173. (¬5) سورة الطلاق، الآية: 2. (¬6) سورة الطلاق، الآية: 4.

خامسا: الإيمان يثمر الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة

يحتسب، وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة. خامساً: الإيمان يثمر الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، وذلك أنه من خصائص الإيمان أنه يثمر طمأنينة القلب، وراحته، وقناعته بما رزقه الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيّبة، فإن أصل الحياة الطيّبة: راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوّشه مما يتشوّش منه الفاقد للإيمان الصحيح (¬2) , والحياة الطيّبة تشمل: الرِّزق الحلال الطيِّب، والقناعة، والسعادة، ولذَّة العبادة في الدنيا، والعمل بالطاعة والانشراح بها (¬3). قال الإمام ابن كثير: ((والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله)) (¬4) , قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه)) (¬5) , وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها)) (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 97. (¬2) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص68. (¬3) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 566. (¬4) المرجع السابق، 2/ 566. (¬5) مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة, 2/ 730، برقم 1054. (¬6) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، 4/ 2162، برقم 2808.

سادسا: إن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها

سادساً: إن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها؛ من الإيمان والإخلاص، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (¬1) , أي لا يُجحد سعيه، ولا يضيع عمله، بل يُضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال - عز وجل -: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (¬2) , والسعي للآخرة، هو العمل بكل ما يقرب إليها من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. سابعاً: صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويهديه في الصراط المستقيم إلى علم الحقّ، والعمل به، وإلى تلقّي المحابّ والمسارّ بالشكر، وتلقّي المكاره والمصائب بالرّضا والصّبر، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (¬3) , قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يُحتمل أن تكون الباء هنا سببية، فتقديره: أي بحسب إيمانهم في الدنيا، يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم، حتى يجوزوه، ويخلصوا إلى الجنة، ويُحتمل أن تكون للاستعانة))، كما قال مجاهد: ((يهديهم ربهم بإيمانهم)) قال: ((يكون لهم نوراً يمشون به)) (¬4) , وقيل: يُمثّل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة، إذا قام من قبره ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 94. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 19. (¬3) سورة يونس، الآية: 9، وانظر: سورة الحج، الآية: 54، وانظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص70. (¬4) تفسير القرآن العظيم، 2/ 390.

ثامنا: الإيمان يثمر محبة الله للعبد ويجعل محبته في قلوب المؤمنين

يُعارض صاحبه، ويُبشّره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك، فيجعل له نوراً من بين يديه، حتى يُدخله الجنة (¬1). ثامناً: الإيمان يثمر محبّة الله للعبد، ويجعل محبّته في قلوب المؤمنين، ومن أحبّه الله، وأحبّه المؤمنون حصلت له السعادة، والفلاح، والفوائد الكثيرة من محبّة المؤمنين: من الثناء الحسن، والدعاء له حيّاً وميتاً، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬2). تاسعاً: حصول الإمامة في الدين، وهذا من أجمل ثمرات الإيمان، أن يجعل الله للمؤمنين الذين كملوا إيمانهم بالعلم والعمل لسان صدق، ويجعلهم أئمةً يهدون بأمره، ويُقتدى بهم، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬3) , فبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين؛ لأن رأس الإيمان وكماله: الصبر واليقين. عاشراً: حصول رفع الدرجات، قال الله - عز وجل -: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} (¬4)، فهم أعلى الخلق درجة عند الله، وعند عباده في الدنيا والآخرة، وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح، وعلمهم ويقينهم. الحادي عشر: حصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه، ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 15/ 27، وأسنده إلى قتادة. (¬2) سورة مريم، الآية: 96. (¬3) سورة السجدة، الآية: 24. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 11.

الثاني عشر: يحصل بالإيمان الثواب المضاعف

كما قال - عز وجل -: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) ,فأطلقها ليعمَّ الخير العاجل والآجل، وقيّدها في مثل قوله - عز وجل -: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬2) ,فلهم البشارة المُطلقة والمُقيّدة، ولهم الأمن المطلق في الدنيا والآخرة في مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬3)، ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬4) , فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى، وبذلك يتمُّ لهم الأمن، فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة، وله البشارة بكلّ خير (¬5). الثاني عشر: يحصل بالإيمان الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته، ويمشي به يوم القيامة، ففي الدنيا: يسير بنور علمه وإيمانه، وإذا طفئت الأنوار يوم القيامة مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتَّب الله المغفرة على الإيمان، ومن غفر سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 223، وسورة التوبة، الآية: 112، وسورة يونس، الآية: 87، وسورة الأحزاب، الآية: 47، وسورة الصف، الآية: 13. (¬2) سورة البقرة الآية: 25. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 48. (¬5) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص77 - 88. (¬6) سورة الحديد, الآية: 28، وانظر: سورة الأنفال، الآية:29.

الثالث عشر: حصول الفلاح والهدى للمؤمنين

الثالث عشر: حصول الفلاح والهدى للمؤمنين بسبب إيمانهم، قال الله - عز وجل - بعد ذكره إيمان المؤمنين بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما أنزل على من قبله، والإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) , فهذا هو الهدى التامّ، والفلاح الكامل، فلا سبيل إلى الهدى والفلاح إلا بالإيمان التامّ. الرابع عشر: الانتفاع بالمواعظ من ثمرات الإيمان، قال الله - عز وجل -: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) , وهذا؛ لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق، واتباعه، علماً وعملاً، ومعه الآلة العظيمة، والاستعداد لتلقّي المواعظ النافعة، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به. الخامس عشر: الإيمان يحمل صاحبه على الشكر في حالة السرَّاء، والصبر في حالة الضرَّاء، وكسب الخير في كلّ أوقاته، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3) , وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬4) , ولو لم يكن من ثمرات الإيمان إلا أنه يُسلِّي صاحبه عن المصائب والمكاره التي كلُّ أحدٍ عرضة لها في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 5. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 55. (¬3) سورة الحديد، الآيتان: 22 - 23. (¬4) سورة التغابن، الآية: 11.

السادس عشر: الإيمان الصحيح يدفع الريبة والشك

كل وقت، ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسلٍّ عنها؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سرّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر، فكان خيراً له)) (¬1) , والشكر والصبر هما جماع كلّ خير، فالمؤمن مغتنم للخيرات في كل أوقاته، رابح في كل حالاته، ويجتمع له عند النّعم والسرّاء، نعمتان: نعمة حصول المحبوب، ونعمة التوفيق للشّكر الذي هو أعلى من ذلك، وبذلك تتمّ عليه النعمة، ويجتمع له عند حصول الضرّاء ثلاث نِعَمٍ: نعمة تكفير السيئات، ونعمة حصول مرتبة الصبر التي هي أعلى من ذلك، ونعمة سهولة الضراء عليه؛ لأنه متى عرف حصول الأجر، والثواب، والتمرّن على الصبر هانت عليه المصيبة (¬2). السادس عشر: الإيمان الصحيح يدفع الريبة والشك، ويقاوم ويقطع جميع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضرّهم في دينهم، وليس لعلل الشكوك التي تُلْقيها شياطين الإنس والجنّ، والنّفوس الأمّارة بالسّوء دواء إلا تحقيق الإيمان، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (¬3). وعلاج هذه الوساوس بأربعة أمور: الانتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية. الاستعاذة من شرّ من ألقاها، وهو الشيطان. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير، 4/ 2295، برقم 2999. (¬2) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص71، و88. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 15.

السابع عشر: الإيمان بالله عز وجل ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم

الاعتصام بعصمة الإيمان فيقول: ((آمنت بالله)). الانتهاء عن التفكير فيها (¬1). السابع عشر: الإيمان بالله - عز وجل - ملجأ المؤمنين في كل ما يلمُّ بهم: من سرور، وحزن، وخوفٍ، وأمنٍ، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابدّ لكل أحد منها، فعند المحابّ والسّرور يلجؤون إلى الإيمان، فيحمدون الله، ويُثنون عليه، ويستعملون النعم فيما يحبّ، وعند المكاره والأحزان يلجؤون إلى الإيمان من جهات عديدة: يتسلَّون بإيمانهم وحلاوته، ويتسلَّون بما يترتّب على ذلك, من الثواب، ويقابلون الأحزان والقلق براحة القلب، والرجوع إلى الحياة الطيبة المقاومة للأحزان، ويلجؤون إلى الإيمان عند الخوف، فيطمئنّون إليه ويزيدهم إيماناً، وثباتاً، وقوة، وشجاعة، ويضمحلُّ الخوف الذي أصابهم، كما قال الله تعالى عن الصحابة - رضي الله عنهم -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬2). الثامن عشر: الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في المُوبقات المُهلكة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ... )) (¬3) ,ومن وقع منه ذلك؛ فلضعف إيمانه، وذهاب نوره، ¬

_ (¬1) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص83. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 173 - 174. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، 3/ 146، برقم 2475، ومسلم واللفظ له، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي، 1/ 76، برقم 57.

التاسع عشر: خير الخليقة قسمان هم أهل الإيمان

وزوال الحياء من الله، وهذا معروف مُشاهد، والإيمان الصحيح الصادق، يصحبه الحياء من الله، والحبّ له، والرّجاء القويّ لثوابه، والخوف من عقابه، ورغبته في اكتساب النور، وهذه الأمور تأمر صاحبها بكل خير، وتزجره عن كل شرّ. التاسع عشر: خير الخليقة قسمان: هم أهل الإيمان، فعن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ريحها طيّب، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلوٌ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ)) (¬1) , فالناس أربعة أقسام: القسم الأول: خير في نفسه، متعدٍ خيره إلى غيره، وهو خير الأقسام، فهذا المؤمن الذي قرأ القرآن، وتعلّم علوم الدين، فهو نافع لنفسه، نافع لغيره، مبارك أينما كان. القسم الثاني: طيّب في نفسه، صاحب خير، وهو المؤمن الذي ليس عنده من العلم ما يعود به على غيره، فهذان القسمان هما خير الخليقة، والخير الذي فيهم عائد إلى ما معهم من الإيمان القاصر، والمتعدي نفعه إلى الغير بحسب أحوال المؤمنين. القسم الثالث: من هو عادم للخير، ولكنه لا يتعدَّى ضرره إلى غيره. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، 1/ 549، برقم 797.

القسم الرابع: من هو صاحب شر على نفسه وعلى غيره

القسم الرابع: من هو صاحب شر على نفسه وعلى غيره، فهذا شرّ الأقسام. فعاد الخير كله إلى الإيمان وتوابعه، وعاد الشر إلى فقد الإيمان والاتّصاف بضدِّه (¬1). العشرون: الإيمان يثمر الاستخلاف في الأرض، قال الله - عز وجل -: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). الحادي والعشرون: الإيمان ينصر الله به العبد، قال الله - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). الثاني والعشرون: الإيمان يثمر للعبد العزّة، قال الله - عز وجل -: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬4). الثالث والعشرون: الإيمان يثمر عدم تسليط الأعداء على المؤمنين، قال الله - عز وجل -: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (¬5). الرابع والعشرون: الأمن التامّ والاهتداء، قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص63 - 90. (¬2) سورة النور، الآية: 55. (¬3) سورة الروم، الآية: 47. (¬4) سورة المنافقين، الآية: 8. (¬5) سورة النساء، الآية: 141. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 82.

الخامس والعشرون: حفظ سعي المؤمنين

الخامس والعشرون: حفظ سعي المؤمنين؛ قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (¬1). السادس والعشرون: زيادة الإيمان للمؤمنين؛ قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬2). السابع والعشرون: نجاة المؤمنين، قال الله - عز وجل - في قصة يونس: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). الثامن والعشرون: الأجر العظيم لأهل الإيمان، قال الله - عز وجل -: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬4). التاسع والعشرون: معيّة الله لأهل الإيمان، وهي المعية الخاصة: معية التوفيق والإلهام والتسديد، قال الله - عز وجل -: {وَأَنَّ الله مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5). الثلاثون: أهل الإيمان في أمنٍ منَ الخوف والحزن، قال الله - عز وجل -: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬6). الحادي والثلاثون: الأجر الكبير: قال الله - عز وجل -: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 30. (¬2) سورة التوبة، الآية: 124. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 88. (¬4) سورة النساء، الآية: 146. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 19. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 48. (¬7) سورة الإسراء، الآية: 9.

الثاني والثلاثون: الأجر غير الممنون

الثاني والثلاثون: الأجر غير الممنون، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (¬1). الثالث والثلاثون: القرآن إنما هو هُدىً ورحمةٌ للمؤمنين (¬2) , وشفاءٌ ورحمة (¬3)، وهو لهم هدى وشفاء (¬4). الرابع والثلاثون: أهل الإيمان: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬5). * المسلك الرابع: شُعَب الإيمان الإيمان له شُعَبٌ كثيرة، وهذا يدلّ على أن الإيمان إذا أُفرد شمل الدين كله، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - شُعب الإيمان إجمالاً وتفصيلاً. أمّا الإجمال، فقد ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان))، وفي رواية: ((الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستّون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬6). ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 8. (¬2) انظر: سورة يونس، الآية: 57. (¬3) انظر سورة الإسراء، الآية: 82. (¬4) انظر سورة فصلت، الآية: 24. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 4. (¬6) متفق عليه، واللفظ لمسلم: البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، 1/ 10، برقم 9، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، 1/ 63، برقم35.

الإيمان بالله - عز وجل -

وقد ذكر الإمام أبو بكر البيهقي سبعاً وسبعين شعبة من شعب الإيمان (¬1)، وهذه الشعب باختصار على النحو الآتي: الإيمان بالله - عز وجل -. الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام. الإيمان بالملائكة. الإيمان بالقرآن الكريم، وجميع الكتب المنزلة. الإيمان بالقدر خيره وشره من الله - عز وجل -. الإيمان باليوم الآخر. الإيمان بالبعث بعد الموت. الإيمان بحشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى الموقف. الإيمان بأن دار المؤمنين الجنة، ودار الكافرين النار. الإيمان بوجوب محبة الله - عز وجل -. الإيمان بوجوب الخوف من الله - عز وجل - (¬2). الإيمان بوجوب الرجاء من الله - عز وجل -. الإيمان بوجوب التوكل على الله - عز وجل -. الإيمان بوجوب محبّة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الإيمان بوجوب تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتبجيله، وتوقيره بدون غلوّ. حبّ المرء لدينه حتى يكون القذف في النار أحبّ إليه من الكفر. طلب العلم: وهو معرفة الله، ودينه، ونبيّه - صلى الله عليه وسلم - بالأدلّة. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في سبعة مجلدات، وشرحها شرحاً نفيساً بالأحاديث بسنده. (¬2) هذه الشعب في المجلد الأول من شعب الإيمان للبيهقي، 1/ 103 - 463.

نشر العلم، وتعليمه للناس

نشر العلم، وتعليمه للناس. تعظيم القرآن الكريم: بتعلّمه، وتعليمه، وحفظ حدوده، وأحكامه، وعلم حلاله، وحرامه، وتبجيل أهله، وحفظه (¬1). الطهارة والمحافظة على الوضوء. المحافظة على الصلوات الخمس. أداء الزكاة. الصيام: الفرض والنفل. الاعتكاف. الحج (¬2). الجهاد في سبيل الله - عز وجل -. المرابطة في سبيل الله - عز وجل -. الثبات للعدو وترك الفرار من الزّحف. أداء الخُمس من المغنم إلى الإمام، أو نائبه على الغانمين. العتق بوجه التقرّب إلى الله - عز وجل -. الكفّارات الواجبة بالجنايات، وهي في الكتاب والسنة أربع: كفّارة القتل، وكفّارة الظهار، وكفّارة اليمين، وكفّارة المسيس في صوم رمضان. الإيفاء بالعقود. تعديد نعم الله - عز وجل -، وما يجب من شكرها. حفظ اللسان عمّا لا يُحتاج إليه. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 12 - 19، في المجلد الثاني من شعب الإيمان للبيهقي، 2/ 3 - 548. (¬2) هذه الشعب من رقم 20 - 25، في المجلد الثالث من شعب الإيمان للبيهقي، 3/ 3 - 494.

حفظ الأمانات ووجوب أدائها إلى أهلها

حفظ الأمانات، ووجوب أدائها إلى أهلها. تحريم قتل النفس، والجنايات عليها. تحريم الفروج وما يجب فيها من التعفّف. قبض اليد عن الأموال المحرّمة، ويدخل فيها: تحريم السرقة، وقطع الطريق، وأكل الرّشاء، وأكل ما لا يستحقّه شرعاً (¬1). وجوب التورّع في المطاعم والمشارب، واجتناب ما لا يحلّ منها. ترك الملابس والزّيّ والأواني المحرّمة والمكروهة. تحريم الملاعب والملاهي المخالفة للشريعة. الاقتصاد في النفقة، وتحريم أكل المال بالباطل. ترك الغلّ والحسد. تحريم أعراض الناس، وما يلزم من ترك الوقوع فيها. إخلاص العمل لله - عز وجل -، وترك الرّياء. السرور بالحسنة، والاغتمام بالسيئة. معالجة كلّ ذنبٍ بالتّوبة النصوح. القرابين وجملتها: الهدي، والأضحية، والعقيقة (¬2). طاعة أولي الأمر. التمسك بما عليه الجماعة. الحكم بين الناس بالعدل. الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 26 - 38، في المجلد الرابع من شعب الإيمان للبيهقي، 4/ 3 - 398. (¬2) هذه الشعب من رقم 39 - 48، في المجلد الخامس من شعب الإيمان للبيهقي، 5/ 3 - 485.

التعاون على البر والتقوى

التعاون على البر والتقوى. الحياء. برّ الوالدين. صلة الأرحام. حسن الخلق. الإحسان إلى المماليك. حقّ السّادة على المماليك. القيام بحقوق الأولاد والأهلين. مقاربة أهل الدين، وموادتهم، وإفشاء السلام، والمصافحة لهم. ردّ السلام. عيادة المريض (¬1). الصلاة على من مات من أهل القبلة. تشميت العاطس. مباعدة الكفار والمفسدين، والغلظة عليهم. إكرام الجار. إكرام الضيف. الستر على أصحاب الذّنوب. الصبر على المصائب وعما تنزع النفس إليه من لذَّة وشهوةٍ. الزّهد، وقصر الأمل. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 49 - 63، في المجلد السادس من شعب الإيمان للبيهقي، 6/ 3 - 547.

الغيرة وترك المذاء

الغيرة، وترك المذاء. الإعراض عن الغلوّ. الجود والسّخاء. رحمة الصغير، وتوقير الكبير. إصلاح ذات البين. أن يحبّ المرء لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق، المشار إليه في الحديث (¬1). * المسلك الخامس: صفات المؤمنين المؤمنون لهم صفات كريمة وأعمال عظيمة، وصفهم الله بها، وأثنى عليهم، ومن هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (¬2). وقد ظهر في هذه الآيات صفات عظيمة من صفات المؤمنين وهي: طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. خوف الله ورهبته وخشيته - عز وجل -. زيادة الإيمان عند سماع القرآن، لتدبرهم له. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 64 - 77، في المجلد السابع من شعب الإيمان للبيهقي، 7/ 3 - 540. (¬2) سورة الأنفال، الآيات: 1 - 3.

ثانيا: قول الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}

التوكل والاعتماد على الله - عز وجل - مع العمل بالأسباب. إقام الصلاة: من فرائض ونوافل بأعمالها الظاهرة والباطنة. الإنفاق الواجب: كالزكوات، والكفّارات، والنفقة على من تجب نفقته، والصّدقة في طريق الخير. ثانياً: قول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). ففي هذه الآية صفات عظيمة اتصف بها المؤمنون وهي: موالاة المؤمنين، ومحبّتهم في الله تعالى، ونصرتهم. الأمر بالمعروف، وهو اسم جامعٌ لكلّ ما عُرف حسنه: من العقائد الحسنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة. النهي عن المنكر، وهو كلّ ما خالف المعروف، وناقضه: من العقائد الباطلة، والأعمال الخبيثة، والأخلاق الرذيلة. إقام الصلاة بأعمالها الظاهرة والباطنة، من فرضٍ ونفل. إعطاء الزكاة لأهلها بأصنافهم الثمانية. طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وملازمة ذلك في جميع الأحوال. ثالثاً: قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 71.

الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). فظهر في هاتين الآيتين صفات عظيمة من صفات أهل الإيمان، وهي على النحو الآتي: القتال في سبيل الله، وبذل الجهد والطاقة في ذلك. التوبة من جميع الذنوب وملازمتها في جميع الأوقات. العبودية لله - عز وجل - بالقيام بجميع الواجبات، والمستحبّات، والابتعاد عن جميع المحرّمات والمكروهات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين. الحمد لله في السّراء والضرّاء، والثناء عليه بنعمه، والاعتراف بالنعم الظاهرة والباطنة. السياحة في السفر بطلب العلم، والحجّ والعمرة، والجهاد، وصلة الأقارب ونحو ذلك، كصيام النفل المشروع. الإكثار من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود. الأمر بالمعروف، ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبّات. النهي عن المنكر: ويدخل فيه كل ما نهى عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. تعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لذلك فعلاً وتركاً. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان: 111 - 112.

رابعا: قال الله - عز وجل -: {قد أفلح المؤمنون}

رابعاً: قال الله - عز وجل -: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1) , وهذه الصفات في هذه الآيات على النحو الآتي: الخشوع في الصلاة، وحضور القلب بين يدي الله - عز وجل - فيها. الإعراض عن اللغو الذي لا خير فيه؛ فإن من أعرض عن ذلك كان إعراضه عن المحرّم من بابِ أولى. تأدية زكاة الأموال وتزكية النفوس من أدناس الأخلاق، وذلك بتركها. حفظ الفروج عن الزنا، وتجنّب ما يكون وسيلة إلى ذلك: كالنظر، والخلوة، واللّمس. حفظ الأمانات سواء كانت من حقوق الله أو حقوق العباد، والآية عامة. حفظ العهود والمواثيق بين العبد وبين الله وبين الإنسان وبين العباد. المحافظة على الصلاة بأركانها وشروطها وواجباتها ومستحبّاتها. وغير ذلك من صفات المؤمنين في كتاب الله - عز وجل -، وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقني وجميع المسلمين للاتّصاف بهذه الصفات الكريمة. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 11.

المطلب الثاني: ظلمات النفاق

المطلب الثاني: ظلمات النفاق * المسلك الأول: مفهوم النفاق أولاً: مفهوم النفاق لغةً وشرعاً: النفاق: لغةً: النفق سرب في الأرض، مشتق إلى موضع آخر، وفي التهذيب: له مخلص إلى مكان آخر، والنفقة والنافقاء، جحر الضبّ واليربوع، وقيل: النفقة والنافقاء موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أُتيَ من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج، ونفِق اليربوع ونَفق ((بالفتح)) وانتفق، ونفق: خرج منه. ونفق اليربوع تنفيقاً، ونافق، أي دخل في نافقائه، ومنه اشتقاق المنافق في الدين، والنِّفاق بالكسر، فعل النافق، والنفاق الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر (¬1). وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعُنَّ سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍّ لاتَّبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَنْ؟)) (¬2). والنفاق: شرعاً: كما قال ابن كثير رحمه الله: ((النفاق: هو إظهار الخير، وإسرار الشرّ، وهو أنواع: اعتقاديٌّ، وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعمليٌّ وهو أكبر من الذنوب، قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه)) (¬3). ¬

_ (¬1) النفاق وآثاره ومفاهيمه، تأليف الشيخ عبد الرحمن الدوسري، ص105 - 106. (¬2) مسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054، برقم 2669. (¬3) تفسير ابن كثير، 1/ 48 عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري، 1/ 268 - 272.

ثانيا: مفهوم الزنديق:

والنفاق نوعان: أكبر يُخرج من الملّة، وأصغر لا يُخرج من الملّة (¬1). ثانياً: مفهوم الزنديق: الزنديق: الزنديق بالكسر من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة، وبالرّبوبية، أو من يُبطن الكفر ويُظهر الإيمان (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الزنديق في عُرْف الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يُظهر الإسلام، ويُبطن غيره، سواء أبطن ديناً من الأديان، كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطِّلاً جاحداً للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة. ومن الناس من يقول: الزنديق هو الجاحد المعطِّل، وهذا يُسمَّى في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس، ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأوّل؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر، وغير الكافر، والمرتدّ وغير المرتدّ، ومن أظهر ذلك أو أسرَّه. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفّار، والمرتدّين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة؛ فإن الله أخبر بزيادة الكفر، كما أخبر بزيادة الإيمان بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (¬3) , وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض ¬

_ (¬1) انظر: قضية التكفير، للمؤلف، ص68، 132 - 134. (¬2) القاموس المحيط، فصل الزاي، باب القاف، ص1151. (¬3) سورة التوبة، الآية: 37.

* المسلك الثاني: أنواع النفاق

الكفّار على بعض في الآخرة بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (¬1). فهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه مهمٌّ في هذا الباب؛ فإن كثيراً ممن تكلّم في ((مسائل الإيمان والكفر)) لتكفير أهل الأهواء لم يلحظوا هذا الباب، ولم يُميِّزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبَّر هذا علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون: مؤمناً مخطئاً، جاهلاً ضالاً عن بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد يكون منافقاً زنديقاً يظهر خلاف ما يبطن)) (¬2). * المسلك الثاني: أنواع النفاق النفاق: نفاقان: نفاق دون نفاق، أو نفاق مُخْرِجٌ من الملّة، ونفاق لا يُخرج من الملّة (¬3). أولاً: النفاق الأكبر: وهو أن يُظهر الإنسان الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ويُبطن ما يُناقض ذلك كلّه أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 88. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 7/ 471. (¬3) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 347 - 359. (¬4) جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب رحمه الله تعالى، 2/ 480، وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص4.

تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض صور النفاق الأكبر فقال: ((فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أُبيٍّ وغيره، بأن يُظهر: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحود بعض ما جاء به، أو بُغضه، أو عدم اعتقاد وجوب طاعته، أو المسرّة بانخفاض دينه، أو المساءَة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومازال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده - صلى الله عليه وسلم - ... )) (¬1). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (( ... فأما النفاق الاعتقاديّ فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو المسرّة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو الكراهية بانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدّرك الأسفل من النار)) (¬2). فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان أنواعٌ أو صفاتٌ للنفاق الأكبر، وهي على النحو الآتي: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -. بغض بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، 28/ 434. (¬2) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ص7.

المسرة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -

المسرَّة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. عدم اعتقاد وجوب تصديقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به. عدم اعتقاد وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر به. وغير ذلك مما دلّ القرآن الكريم أو السنة المطهَّرة على أنه من النفاق الأكبر المخرج من ملّة الإسلام (¬1). ثانياً: النفاق الأصغر: وهو النفاق العملي: وهو أن يظهر الإنسان علانيةً صالحةً، ويُبطن ما يُخالف ذلك وأصول هذا النفاق ترجع إلى حديث عبد الله بن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم -، وهي خمسة أنواع: أن يحدّث بحديث لمن يصُدّقه به، وهو كاذبٌ له. إذا وعد أخلف، وهو على نوعين: النوع الأول: أن يعِدَ ومن نيّته أن لا يفي بوعده، وهذا أَشرُّ الخلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيّته أن لا يفعل كان كذباً وخُلْفاً. قاله: الأوزاعي. النوع الثاني: أن يعِدَ ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له، فيخلف من غير عذر له في الخلف. إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمداً حتى ¬

_ (¬1) انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي،2/ 160.

ثالثا: الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر:

يصير الحق باطلاً، والباطل حقاً، وهذا مما يدعو إلى الكذب. إذا عاهد غدر ولم يفِ بالعهد، والغدر حرام في كل عهدٍ بين المسلمين وغيرهم، ولو كان المعاهَد كافراً. الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن المسلم أمانة، فالواجب عليه أن يؤدّيها. وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كُلّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، واختلاف القلب واللسان، واختلاف الدخول والخروج؛ ولهذا قالت طائفة من السلف: خشوع النفاق: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع (¬1). وهذا النفاق لا يُخرج من الملّة، فهو ((نفاق دون نفاق))؛ لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان)) (¬3). ثالثاً: الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر: النفاق الأكبر يُخرج من الملّة، والأصغر لا يُخرج من الملّة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 2/ 480 - 495، فقد أعطى الموضوع حقه، وذكر فوائد جمة فلتراجع. وانظر: مجموعة التوحيد، ص7. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 17، برقم 34، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78، برقم 58. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 16، برقم 33، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78، برقم 59. (¬4) انظر؛ كتاب التوحيد، للدكتور، صالح الفوزان، ص18.

النفاق الأكبر يحبط جميع الأعمال

النفاق الأكبر يُحبط جميع الأعمال. النفاق الأكبر اختلاف السرّ والعلانية في الاعتقاد، والأصغر اختلاف السرّ والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد (¬1). النفاق الأكبر يُخلّد صاحبه في النار إذا مات عليه، والأصغر لا يُخلده. النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، أما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن. النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه (¬2)، وإذا تاب فقد اختلف في توبته في الظاهر عند الحاكم؛ لكون ذلك لا يُعلَم، إذْ هم دائماً يُظهرون الإسلام (¬3). * المسلك الثالث: صفات المنافقين المنافقون لهم صفات كثيرة، بيّنها الله - عز وجل - في كتابه الكريم، وبيّنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن ذكر الله - عز وجل - لصفات المنافقين فيه فوائد عظيمة، منها: نعمة الله - عز وجل - على المؤمنين بإخبارهم عن أحوال المنافقين وصفاتهم حتى يبتعدوا عنها. تهديد المؤمنين من سلوك مسالك المنافقين والتحذير من الاتصاف بصفاتهم. حض المؤمنين على الصدق مع الله، وتصفية سرائرهم، وإسلام وجوههم لله. وصفات المنافقين كثيرة، منها على سبيل المثال ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التوحيد، للفوزان، ص18. (¬2) انظر: كتاب التوحيد، للفوزان، ص18. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 334.

أولا: قال الله - عز وجل -: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}

أولاً: قال الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1)، فظهر في هذه الآيات أن من صفات المنافقين هذه الخصال القبيحة الآتية: يقولون آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا. فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ. وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى كبرائهم ورؤسائهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ. يشترون الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. ثانياً: قال الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬2)، فظهر من صفات المنافقين في هذه الآيات ما يأتي: حُسن القول المُعجب الذي يكون له وقع في القلوب. توسيط الله بجعله شاهداً على هذا القول، وموثقاً له، وهذا من ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات: 8 - 20. (¬2) سورة البقرة، الآيات: 204 - 206.

المهارة في الجدل، وقوة الإقناع

أعظم الجناية على الله - عز وجل -. المهارة في الجدل، وقوة الإقناع؛ لقمع كل معارضة تقف أمامه. إذا اختفى عن الناس وذهب عنهم وانصرف، اجتهد في عمل المعاصي التي هي فساد في الأرض. إذا أُمر بتقوى الله تكبّر، وأخذته العزّة بالإثم، فجمع بين العمل بالجرائم والتكبر. ثالثاً: قال الله - عز وجل -: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا} (¬1) , فمن صفات المنافقين في هاتين الآيتين ما يأتي: أنهم يوالون الكفار، ويحبّونهم وينصرونهم. يعتزّون بالكفّار، ويستنصرون بهم. رابعاً: قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (¬2) , فظهر في هاتين الآيتين أن من صفات المنافقين ما يأتي: يخادعون الله، وهو خادعهم. إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. يراؤن الناس بأعمالهم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيتان: 138 - 139. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 142 - 143.

مترددون بين فريق من المؤمنين وفريق من الكافرين

لا يذكرون الله إلا قليلاً. متردِّدون بين فريقٍ من المؤمنين وفريقٍ من الكافرين. خامساً: قال الله تعالى في شأن المنافقين: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (¬1) , فظهر في هاتين الآيتين صفات قبيحة من صفات المنافقين، هي على النحو الآتي: وصفهم الله بالفسق فقال: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}. كفروا بالله وبرسوله. لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى. لا ينفقون إلا وهم كارهون. وفي هذه الصفات غاية الذمّ للمنافقين ولمن فعل فعلهم، فينبغي لكل أحد أن يبتعد عن الفسق، ويُؤمن بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويأتي الصلاة وهو نشيط البدن والقلب، ويُنفق وهو مُنشرح الصدر، ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من الله وحده، ولا يتشبّه بالمنافقين. سادساً: قال الله - عز وجل -: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان: 53 - 54.

سابعا: قال الله - عز وجل -: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر}

طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} (¬1) , فالمنافقون يستهزئون بالله ورسوله، والمؤمنين، وقد فضحهم الله - عز وجل - وبيّن صفاتهم للمؤمنين. سابعاً: قال الله - عز وجل -: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (¬2) , فظهر في هاتين الآيتين بعض صفات المنافقين الآتية: المنافقون بعضهم من بعض: يتولّى بعضهم بعضاً. يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. يقبضون أيديهم عن الصدقة وطرق الإحسان، فهم من أبخل الناس. نسوا الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، فنسيهم من رحمته، فلا يوفّقهم لخير. إن المنافقين هم الفاسقون. ثامناً: قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَالله لاَ ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيات: 64 - 66. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 67 - 68.

يلمزون المطوعين في الصدقات

يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1)، فالمنافقون ظهر لهم صفات في هاتين الآيتين، منها ما يأتي: يلمزون المطوّعين في الصدقات: يلمزون المكثر في الصدقة فيقولون: قصد بنفقته الرياء، والسّمعة، ويلمزون المقلّ الفقير فيقولون: إن الله غنيٌّ عن صدقة هذا. السخرية بالمؤمنين. كفروا بالله ورسوله. تاسعاً: قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} (¬2) , فالمنافقون إذا أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض جازمين على ترك العمل بها، وينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ثم انصرفوا مُتسلّلين، وانقلبوا مُعرضين، فجازاهم الله بعقوبةٍ من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل صرف الله قلوبهم، وصدّها عن الحق، وخذلها بأنهم قوم لا يفقهون فقهاً ينفعهم؛ فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا أُنزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا لأمرها (¬3) , كما قال - عز وجل -: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان: 79 - 80. (¬2) سورة التوبة، الآية: 127. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص313. (¬4) سورة محمد، الآية: 16.

عاشرا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس

وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬1). عاشراً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)) (¬2) , فظهر في هذا الحديث صفتان من صفات المنافقين، هما: تأخير الصلاة عن وقتها. ينقر الصلاة، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً. الحادي عشر: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوها ولو حبواً ... )) (¬3). فظهر أن صفات المنافقين إجمالاً على النحو الآتي: يدَّعون الإيمان، وهم كاذبون. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم. في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضاً. يدَّعون الإصلاح، وهم المفسدون. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 434, برقم 622. (¬3) متفق عليه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة العشاء في جماعة، 1/ 181، برقم 658، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، 1/ 451، برقم 651.

يرمون المؤمنين بالسفه

يرمون المؤمنين بالسَّفَه. يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم. يشترون الضلالة بالهدى. قولهم حسن، وهم ألدُّ الخصام. يُشهدون الله على ما في قلوبهم، وهم كاذبون. ماهرون في الجدل بالباطل. إذا اختفوا عن الناس اجتهدوا في الباطل. إذا قيل لهم اتّقوا الله أخذتهم العزة بالإثم. يوالون الكفار، وينصرونهم، ويخدمونهم. يعتزّون بالكفار، ويستنصرون بهم. إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. يراؤن الناس بأعمالهم. لا يذكرون الله إلا قليلاً. متردِّدون بين الكفار والمؤمنين. يكفرون بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. المنافقون هم الفاسقون. لا ينفقون إلا وهم كارهون. المنافقون يتولّى بعضهم بعضاً. يقبضون أيديهم فلا ينفقون في طرق الخير. يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. نسوا الله فنسيهم.

يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات

يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات. يؤخّرون الصلاة عن وقتها. ينقرون الصلاة، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً. أثقل الصلوات عليهم العشاء والفجر. يتأخّرون عن صلاة الجماعة. قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة. لم يرضوا بالإسلام ديناً. يأخذون من الدين ما وافق رغباتهم. يقولون ما لا يفعلون. يُظهرون الشجاعة في السلم، وجبناء في الحرب. لا يتحاكمون إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. يجدون الحرج والضيق في أنفسهم من حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. يُخذِّلون المؤمنين عن الجهاد. ييأسون من رحمة الله، وينقطع أملهم في نصره. يقصدون بجهادهم الدنيا، وإذا يئسوا من ذلك تثاقلوا. يفجرون في المخاصمة. يحاربون الإسلام وأهله عن طريق الخفية والتسمِّي به. لا يهمّهم إلا مصالحهم الذاتية. يطعنون في العلماء المخلصين بالكذب وتغيير الحقائق. يُثيرون الشبهات حول الإسلام، ليصدّوا الناس عن الدخول فيه. يُبغضون أنصار الدين.

يكذبون في الحديث

يكذبون في الحديث. يخونون الله ورسوله والمؤمنين. يُخلفون الوعد. لكل واحد منهم وجهان: وجه للمؤمنين، ووجه لأعداء الدين. لا يعقلون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يُفيدهم، ولا ينظرون إلى آيات الله التي تدلّ على قدرته. تسبق يمين أحدهم كلامه لعلمه أن قلوب المؤمنين لا تطمئن إليه. قلوبهم عن الخير لاهية، وأجسادهم إليه ساعية. أخبث الناس قلوباً، وأحسنهم أجساماً. يُسِرُّون سرائر النفاق، فأظهرها الله على وجوههم وألسنتهم. ينقضون العهد من أجل الدنيا. يسخرون بالقرآن الكريم. فهذه صفات المنافقين، فاحذرها أيها المسلم قبل أن تنزل بك القاضية. وهذه الصفات من باب الأمثلة (¬1) , وصفات المنافقين كثيرة في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. * المسلك الرابع: آثار النفاق وأضراره: النفاق له آثار خطيرة، وأضرار مُهلكة، منها ما يأتي: ¬

_ (¬1) وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص4، والمنافقون في القرآن الكريم للدكتور عبد العزيز الحميدي، ص441.

النفاق الأكبر يسبب الخوف والرعب

النفاق الأكبر يسبّب الخوف والرّعب في القلوب، قال الله - عز وجل -: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} (¬1). النفاق الأكبر يُوجب لعنة الله تعالى، قال الله - عز وجل -: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (¬2). وقال سبحانه: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} (¬3). النفاق الأكبر يُخرج صاحبه من الإسلام؛ لأنه إسرار الكفر، وإظهار الخير، بل هو أشدُّ من الكفر الظاهر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (¬4). النفاق الأكبر لا يغفره الله إذا مات عليه صاحبه؛ لأنه أشدُّ من الكفر الظاهر الذي قال الله تعالى في أصحابه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 64. (¬2) سورة التوبة: الآية: 68. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 60 - 61. (¬4) سورة النساء، الآية: 145. (¬5) سورة النساء، الآيتان: 168 - 169.

النفاق الأكبر يوجب لصاحبه النار

النفاق الأكبر يوجب لصاحبه النار، ويُحرِّم عليه الجنة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬1). النفاق الأكبر يُخلِّد صاحبه في النار، فلا يخرج منها أبداً؛ لقول الله - عز وجل -: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (¬2). النفاق الأكبر يُسبّب نسيان الله لصاحبه، قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). النفاق الأكبر يُحبط جميع الأعمال، قال الله - عز وجل -: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (¬4). النفاق الأكبر يُطفئ الله نور أصحابه يوم القيامة، قال الله - عز وجل -: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 140. (¬2) سورة التوبة، جزء من الآية: 68. (¬3) سورة التوبة، الآية: 67. (¬4) سورة التوبة، الآيتان: 53 - 54. (¬5) سورة الحديد، الآية: 13.

النفاق الأكبر يحرم العبد دعاء المؤمنين والصلاة عليه عند موته

النفاق الأكبر يَحرِمُ العبد دعاء المؤمنين والصلاة عليه عند موته، قال الله - عز وجل -: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). النفاق الأكبر يُسبّب عذاب الدنيا والآخرة, قال الله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (¬2). النفاق الأكبر إذا أظهره صاحبه وأعلنه كان مرتدّاً عن الإسلام، فيكون حلال الدم والمال، وتُطبّق عليه أحكام المرتدّ، إلا أن قبول توبته عند الحاكم فيها خلاف في الظاهر؛ لأن المنافقين يُظهرون الإسلام دائماً (¬3). أما إذا أخفى المنافق نفاقه وكفره؛ فإنه معصوم الدم والمال بما أظهر من الإيمان، والله يتولى السّرائر (¬4). النفاق الأكبر إذا أظهر صاحبه كفره يُوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين، فلا يُوالونه ولو كان أقرب قريب، وأما إذا لم يُظهر كفره فيُعامل بالظاهر، والله يتولَّى السّرائر. النفاق الأصغر، وهو النفاق العملي، ينقص الإيمان ويضعفه، ويكون صاحبه على خطر من عذاب الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 84. (¬2) سورة التوبة، الآية: 55. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 334. (¬4) انظر: المنافقون في القرآن، للدكتور عبد العزيز الحميدي، ص450.

النفاق الأصغر صاحبه على خطر

النفاق الأصغر صاحبه على خطر؛ لئلا يجرّه إلى النفاق الأكبر. ونعوذ بالله من غضبه، ومن جميع أنواع النفاق صغيره وكبيره، ونسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

المبحث السادس: نور السنة وظلمات البدعة

المبحث السادس: نور السنة وظلمات البدعة المطلب الأول: نور السنة * المسلك الأول: مفهومها: السنة لها أهل، ولهم عقيدة، واجتماع على الحق، فمن المناسب أن أذكر التعريف لهذه الكلمات الثلاث: ((عقيدة أهل السنة والجماعة)). أولاً: مفهوم العقيدة لغةً واصطلاحاً: العقيدة لغةً: كلمة ((عقيدة)) مأخوذة من العقد والربط، والشدّ بقوة، ومنه الإحكام والإبرام، والتماسك والمراصّة، يقال: عقد الحبل يعقده: شدّه، ويقال: عقد العهدَ والبيع: شدّه، وعقد الإزارَ: شدّه بإحكام، والعقد: ضدّ الحل (¬1). مفهوم العقيدة اصطلاحاً: العقيدة تطلق على الإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرّق إليه شكٌّ، وهي ما يُؤمن به الإنسانُ، ويعقد عليه قلبه وضميره، ويتخذه مذهباً وديناً يدين به؛ فإن كان هذا الإيمان الجازم، والحكم القاطع صحيحاً كانت العقيدة صحيحةً كاعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن كان باطلاً كانت العقيدة باطلةً كاعتقاد فرق الضلالة (¬2). ثانياً: مفهوم أهل السنة: السنة في اللغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أم قبيحة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل العين،3/ 296،والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الدال، فصل العين، ص383،ومعجم المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب العين، ص 679. (¬2) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ الدكتور ناصر العقل ص 9 - 10. (¬3) لسان العرب، لابن منظور، باب النون، فصل السين، 13/ 225.

والسنة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية

والسنة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: الهدي الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: علماً واعتقاداً، وقولاً، وعملاً، وهي السنة التي يجب اتباعها ويُحمد أهلُها، ويُذمُّ من خَالَفها؛ ولهذا قيل: فلان من أهل السنة: أي من أهل الطريقة الصحيحة المستقيمة المحمودة (¬1). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((والسنة هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - هو وخلفاؤه الراشدون: من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، وهذه هي السُّنة الكاملة)) (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه؛ بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فُعِل في زمانه، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضى حينئذٍ لفعله، أو وجود المانع منه)) (¬3)، وبهذا المعنى تكون السنة: ((اتّباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باطناً وظاهراً، واتّباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار)) (¬4). ثالثاً: مفهوم الجماعة: الجماعة في اللغة: مأخوذة من مادة جمع، وهي تدور حول الجمع والإجماع والاجتماع، وهو ضدّ التفرق، قال ابن فارس رحمه الله: ((الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على تضامّ الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعاً)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة، للدكتور ناصر العقل، ص13. (¬2) جامع العلوم والحكم، 1/ 120. (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية، 21/ 317. (¬4) مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/ 157. (¬5) معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم، ص 224.

والجماعة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية

والجماعة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: هم سلف الأمة: من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من الكتاب والسنة (¬1). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك))، قال نُعيم بن حمّاد: ((يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة، قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذٍ)) (¬2). * المسلك الثاني: أسماء أهل السُّنَّةِ وصِفَاتِهم: 1 - أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم المتمسكون بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المُتَّبِعون لَهُم، وهم الذين استقاموا على الاتِّباع وابتعدوا عن الابتداع في أي مكان وفي أي زمان، وهم باقون منصورون إلى يوم القيامة (¬3)، وسُمُّوا بذلك لانتسابهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعهم على الأخذ بها: ظاهراً وباطناً، في القول، والعمل، والاعتقاد (¬4). فعن عوف بن مالك ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص68، وشرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، ص61. (¬2) ذكره الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان، 1/ 70، وعزاه إلى البيهقي. (¬3) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ص 13 - 14. (¬4) انظر: فتح رب البرية بتخليص الحموية، للعلامة محمد بن عثيمين رحمه الله، ص 10، وشرح العقيدة الواسطية، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص 10.

2 - الفرقة الناجية

- رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقةً، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعين فرقة في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لَتَفْتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، واحدةٌ في الجنة، واثنتان وسبعون في النار))، قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: ((الجماعة)) (¬1)، وفي رواية الترمذي عن عبد الله بن عمرو: قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬2). 2 - الفرقة الناجية: أي الناجية من النار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناها عندما ذكر الفرق، وقال: ((كلها في النار إلا واحدة)) أي ليست في النار (¬3). 3 - الطائفة المنصورة: فعن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) (¬4)، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - نحوه (¬5)، وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه بلفظه، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 321، برقم 3992، وأبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197، برقم 4596، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 1/ 32، برقم 63، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 364. (¬2) سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 26، برقم 2641. (¬3) انظر: من أصول أهل السنة والجماعة، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص 11. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، 4/ 225، برقم 3641، ومسلم بلفظه، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) 2/ 1524، برقم 1037. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، 4/ 225، برقم 3640، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) 2/ 1523، برقم 1921.

4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله

طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (¬1)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه (¬2). 4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬3)، أي هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. 5 - هم القدوة الصالحة الذين يهدون إلى الحق وبه يعملون، قال أيوب السختياني رحمه الله: ((إن من سعادة الحدَث (¬4)، والأعجمي أن يوفقهما الله لعالِمٍ من أهل السنة)) (¬5)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ((إن لله عباداً يُحيي بِهمُ البلادَ، وهم أصحاب السنة، ومن كان يعقل ما يَدخُلُ جَوفَهُ من حلّه كان من حزب الله)) (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) 2/ 1523، برقم 1920. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، 2/ 1523، برقم 1923. (¬3) سنن الترمذي، برقم 2641، وتقدم تخريجه. (¬4) الحَدَث: الشاب. النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الدال، مادة: ((حدث))،1/ 351. (¬5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 66، برقم 30. (¬6) المرجع السابق، 1/ 72، برقم 51.

6 - أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع وأهلها،

6 - أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع وأهلها، قيل لأبي بكر بن عياش مَنِ السُّنّي؟ قال: ((الذي إذا ذُكِرَتِ الأهواء لم يتعصبْ إلى شيءٍ منها)) (¬1). وذكر ابن تيمية رحمه الله: أن أهل السنة هم خيار الأمة، ووسطها الذين على الصراط المستقيم: طريق الحق والاعتدال (¬2). 7 - أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء)) (¬3)، وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قيل: ومن الغرباء؟ قال: ((النُّزَّاع (¬4) من القبائل)) (¬5)، وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((أناس صالحون في أناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) (¬6)، وفي رواية من طريق آخر: ((الذين يصلحون إذا فسد الناس)) (¬7)، فأهل السنة الغرباء بين جموع أصحاب البدع والأهواء والفرق. ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 72، برقم 53. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، 3/ 368 - 369. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، 1/ 130، برقم 145. (¬4) هو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته: أي بَعُدَ وغاب، والمعنى طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى. النهاية لابن الأثير، 5/ 41. (¬5) المسند، 1/ 398. (¬6) المسند، 2/ 177، و222. (¬7) مسند الإمام أحمد، 4/ 173.

8 - أهل السنة هم الذين يحملون العلم:

8 - أهل السنة هم الذين يحملون العلم: أهل السنة هم الذين يحملون العلم، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ولهذا قال ابن سيرين رحمه الله: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فَيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخَذ حديثهم)) (¬1). 9 - أهل السنة هم الذين يحزنُ الناسُ لفراقهم: قال أيوب السختياني رحمه الله: ((إني أُخْبَرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأنما أفقد بعض أعضائي)) (¬2)، وقال: ((إن الذين يتمنون موتَ أهل السُّنَّةِ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون)) (¬3). * المسلك الثالث: السنة نعمةٌ مطلقة: النعمة نعمتان: نعمة مطلقة، ونعمة مقيدة: أولاً: النعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي: نعمة الإسلام، والسنة؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة، مبنية على أركان ثلاثة: الإسلام، والسنة، والعافية في الدنيا والآخرة. ونعمة الإسلام والسنة هي النعمة التي أمرنا الله - عز وجل - أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم، في المقدمة، باب الإسناد من الدين، 1/ 15. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 66، برقم 29. (¬3) المرجع السابق، 1/ 68، برقم 35. (¬4) سورة النساء، الآية: 69.

ثانيا: النعمة المقيدة

فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها المعنيون بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬1)، فكان الكمال في جانب الدين، والتمام في جانب النعمة، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ((إن للإيمان حدوداً، وفرائض، وسنناً، وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان)) (¬2). ودين الله هو شرعه المتضمِّن لأمره ونهيه، ومحابّه، والمقصود أن النعمة المطلقة هي التي اختُصَّت بالمؤمنين، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهذه النعمة هي التي يُفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه، قال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬3)، وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: ((الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشدَّ فرحاً، حتى أن القلب ليرقص فرحاً إذا باشر روح السنة أحزن ما يكون الناس وهو ممتلىء أمناً أخوف ما يكون الناس)) (¬4). ثانياً: النعمة المقيدة: كنعمة الصحة، والغنى، وعافية الجسد، وبسط الجاه، وكثرة الولد، والزوجة الحسنة، وأمثال هذا، فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر؛ وإذا قيل: لله على الكافر نعمة بهذا ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 3. (¬2) البخاري معلقاً، في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس))، 1/ 9. (¬3) سورة يونس، الآية: 58. (¬4) مقتبس من كلام الإمام ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 33 - 36، و38.

* المسلك الرابع: منزلة السنة:

الاعتبار فهو حق، والنعمة المقيدة تكون استدراجاً للكافر والفاجر، ومآلها إلى العذاب والشقاء لمن لم يُرزق النعمة المطلقة (¬1). * المسلك الرابع: منزلة السنة: السنة: حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين، وهي تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، ويسعى نورها بين أيديهم إذا طفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم، وأهل السنة هم المبيَّضة وجوههم إذا اسودَّت وجوه أهل البدعة، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬2)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((تبيَضُّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والتفرُّق)) (¬3). والسنة هي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه وفوزه، قال الله جل وعلا: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4)، والله الموفق (¬5). * المسلك الخامس: منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة: أولاً: منزلة صاحب السنة: ¬

_ (¬1) مقتبس من كلام الإمام ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 36. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 106. (¬3) ذكره ابن القيم، في اجتماع الجيوش، 2/ 39، وابن كثير في تفسيره، 1/ 369، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير، 7/ 93. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬5) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، 2/ 38.

ثانيا: علامات أهل السنة

صاحب السنة حيُّ القلب، مستنير القلب، وقد ذكر الله - عز وجل - الحياة والنور في كتابه في غير موضع، وجعلهما صفة أهل الإيمان؛ فإن القلب الحي المستنير: هو الذي عقل عن الله، وأذعن، وفهم عنه، وانقاد لتوحيده، ومتابعة ما بعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله تعالى أن يجعل له نوراً: في قلبه، وسمعه، وبصره، ولسانه، ومن فوقه، ومن تحته، وعن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه ومن أمامه، وأن يجعل له نوراً، وأن يجعل ذاته نوراً، وفي بشره، ولحمه، وعظمه، ولحمه، ودمه، فطلب - صلى الله عليه وسلم - النور لذاته، ولأبعاضه، ولحواسه الظاهرة والباطنة، ولجهاته الست، والمؤمن مدخله نور، ومخرجه نور، وقوله نور، وعمله نور، وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة، فيسعى بين يديه، و [عن] يمينه، فمن الناس من يكون نوره: كالشمس، وآخر كالنجم، وآخر كالنخلة الطويلة، وآخر كالرجل القائم، وآخر دون ذلك، حتى أن منهم من يُعطى نوراً على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحسّ، والعيان (¬1). ثانياً: علامات أهل السنة كثيرة، يدركها العقلاء من البشر، ومن أهمّ تلك العلامات: الاعتصام بالكتاب والسنة، والعضّ على ذلك بالنواجذ. التحاكم إلى الكتاب والسنة في الأصول والفروع. ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، 2/ 38 - 41 بتصرف.

3 - حبهم لأهل السنة والمتمسكين بها، وبغضهم لأهل البدع

حبهم لأهل السنة والمتمسّكين بها، وبُغضهم لأهل البدع. لا يستوحشون من قلّة السالكين؛ لأن الحق ضالة المؤمن، يأخذ به ولو خالفه الناس. الصدق في الأقوال والأفعال، بالتطبيق الصحيح لهدي الكتاب والسنة. التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان خلقه القرآن (¬1). ثالثًا: منزلة صاحب البدعة: صاحب البدعة ميت القلب، مظلمه، وقد جعل الله الموت والظلمة صفة من خرج عن الإيمان، والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله، ولا انقاد لما بُعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا وصف الله - سبحانه وتعالى - هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها؛ ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع حياتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة، وإذا قسمت الأنوار يوم القيامة دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النار مظلم، وهذه الظلمة، التي خلق فيها الخلق أولاً، فمن أراد الله - سبحانه وتعالى - به السعادة أخرجه منها إلى النور، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ص 147، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ص 264. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 39 - 40 بتصرف.

المطلب الثاني: ظلمات البدعة

المطلب الثاني: ظلمات البدعة * المسلك الأول: مفهومها: البدعة: لغة: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأهواء والأعمال (¬1)، ويقال: ((ابتدعتُ الشيء، قولاً أو فعلاً إذا ابتدأته عن غير مثال سابق)) (¬2)، وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬3)، أي: مخترعهما من غير مثال سابق متقدم (¬4). والبدعة في الاصطلاح الشرعي لها عدة تعريفات عند العلماء ويكمِّل بعضها بعضاً، منها: 1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((البدعة في الدين: هي ما لم يشرعْه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب، ولا استحباب)) (¬5). ((والبدعة نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمَّن الأوّل، كما أن الأوّل يدعو إلى الثاني)) (¬6). ((وكان الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم: أن الأعمال ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، باب العين، فصل الدال، ص 906، ولسان العرب، 8/ 6، وفتاوى ابن تيمية، 35/ 414. (¬2) معجم المقاييس في اللغة لابن فارس، ص 119. (¬3) سورة البقرة، الآية: 117، وسورة الأنعام، الآية: 101. (¬4) الاعتصام للشاطبي،1/ 49،وانظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة ((بدع))، ص 111. (¬5) فتاوى ابن تيمية، 4/ 107 - 108. (¬6) المرجع السابق، 22/ 306.

عبادات وعادات))، فالأصل في العبادات أنه لا يُشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أنه لا يحظر منها إلا ما حظر الله)) (¬1). وقال أيضاً: ((والبدعة ما خالف الكتاب والسنة، أو إجماع سلف الأمة: من الاعتقادات، والعبادات: كأقوال الخوارج، والروافض، والقدرية، والجهمية، وكالذين يتعبّدون بالرقص والغناء في المساجد، والذين يتعبّدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبّد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة، والله أعلم)) (¬2). 2 - قال الشاطبي رحمه الله تعالى: ((البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي (¬3) الشرعيَّة، يُقصدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه)). وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصُّها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العاديّة في معنى البدعة، فيقول ((البدعة: طريقة في الدِّين مخترعةٌ، تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) (¬4). ثم قرّر رحمه الله تعالى على تعريفه الثاني أن العادات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبّد بها، أو تُوضع وضع التّعبُّد تدخلها البدعة، فحصل بذلك أنه جمع بين التعريفين، ومثل للأمور ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 4/ 196. (¬2) فتاوى ابن تيمية، 18/ 346، وانظر: 35/ 414 من المرجع نفسه. (¬3) تضاهي: يعني أنها تشبه الطريقة الشرعية من غير أن تكون الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها. انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 53. (¬4) الاعتصام، 1/ 50 - 56.

العادية التي لابدّ فيها من التعبُّد: بالبيع، والشراء، والنكاح، والطلاق، والإيجارات، والجنايات ... لأنها مقيّدة بأمور وشروط وضوابط شرعية لا خيرة للمكلَّف فيها (¬1). 3 - وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (¬2): ((والمراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعةً لغةً، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدِّين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك قال: ((نعمة البدعة هذه)) (¬3) ... ومراده - رضي الله عنه - أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها. فمنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان، ويرغِّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك مُعلِّلاً، بأنه خشي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 568، 569، 570، 594. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 127 - 128 بتصرف يسير جداً. (¬3) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان،2/ 308،برقم 2010.

* المسلك الثاني: شروط قبول العمل:

أن يُكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمن بعده - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومنها: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتّباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين)) (¬2). والبدعة بدعتان: بدعة مكفِّرة تُخرج عن الإسلام، وبدعة مُفَسِّقة لا تُخرج عن الإسلام (¬3). * المسلك الثاني: شروط قبول العمل: لا يقبل أي عمل مما يُتقرّب به إلى الله - عز وجل - إلا بشرطين: الشرط الأول: إخلاص العمل لله وحده لا شريك له، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى)) (¬4). الشرط الثاني: المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬5). فمن أخلص أعماله لله، متّبعاً في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الذي عمله مقبول، ومن فقد الإخلاص، والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدهما فعمله ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان،2/ 309،برقم 2012. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 129. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 516. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 9، برقم 1،ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات))،2/ 1515،برقم 1907. (¬5) مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/ 1344، برقم 1718، ولفظ البخاري، ومسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718.

مردود داخل في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (¬1)، ومن جمع الأمرين فهو داخل في قوله - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬2)، وفي قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3)، فحديث عمر - رضي الله عنه -: ((إنما الأعمال بالنيات)) ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة رضي الله عنها: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ميزان للأعمال الظاهرة، فهما حديثان عظيمان يدخل فيهما الدين كلّه: أصوله، وفروعه، ظاهره وباطنه، أقواله، وأفعاله (¬4). وقد تكلّم الإمام النووي على حديث عائشة رضي الله عنها كلاماً نفيساً، قال فيه: ((قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))، وفي الرواية الثانية: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))،قال أهل العربية: الردّ هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه صريح في ردِّ كل البدع، والمخترعات (¬5)،وفي الرواية الثانية زيادة وهي: أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سُبِقَ إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً، فيُحتجّ عليه بالثانية التي فيها التصريح بردّ كل ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬2) سورة النساء، الآية: 125. (¬3) سورة البقرة، الآية: 112. (¬4) انظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي، ص 10. (¬5) المخترعات: أي في الدين.

* المسلك الثالث: ذم البدعة في الدين:

المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو غيره سبق بإحداثها)) (¬1). * المسلك الثالث: ذم البدعة في الدين: جاء في ذمّ البدعة نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وحذّر منها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي: أولاً: من القرآن: 1 - قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} (¬2)، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله آثاراً تدل على أن هذه الآية في الذين يجادلون في القرآن، وفي الخوارج ومن وافقهم (¬3). 2 - وقال - عز وجل -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4)، فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط وهم أهل البدع (¬5)، فهذه الآية تشمل ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 257، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/ 171. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 7. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 70 - 76. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 153. (¬5) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 76.

النهي عن جميع طرق أهل البدع (¬1). 3 - وقال - سبحانه وتعالى -: {وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2)، فالسبيل: القصد هو: طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق: أي عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات (¬3). 4 - وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (¬4)، وهؤلاء هم أصحاب الأهواء، والضلالات، والبدع من هذه الأمة (¬5). 5 - وقال - عز وجل -: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬6). 6 - وقال - سبحانه وتعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬7). 7 - وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 78. (¬2) سورة النحل، الآية: 9. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 78. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 159. (¬5) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 179. (¬6) سورة الروم، الآيتان: 31 - 32. (¬7) سورة النور، الآية: 63. (¬8) سورة الأنعام، الآية: 65.

ثانيا: من السنة النبوية:

8 - وقال الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (¬1)، والله - عز وجل - أعلم (¬2). ثانياً: من السنة النبوية: جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذم البدع والتحذير منها، ومن ذلك ما يأتي: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬3). 2 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (¬4). 3 - وفي رواية النسائي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: ((من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور مُحدَثاتُها، وكل مُحدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة هود، الآيتان: 118 - 119. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 70 - 91. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 1/ 592، برقم 867. (¬5) أصله في صحيح مسلم في الحديث السابق، وأخرجه النسائي بلفظه، في كتاب صلاة العيدين، باب كيف الخطبة، 3/ 188، برقم 1578.

4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬1). 5 - وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ)) (¬2). 6 - وعن العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَتْ منها القلوب، وذَرَفَتْ منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصنا؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4/ 2060، برقم 2674. (¬2) مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، 2/ 705، برقم 1017. (¬3) أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 201، برقم 4707، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44 برقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/ 15 - 16، برقم 42، 43، 44، وأحمد، 4/ 46 - 47.

7 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَنٌ))، قلت: وما دَخَنُهُ؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر))، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دُعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا، قال: ((نعم: قومٌ من جِلدتنا، يتكلّمون بألسنتنا))، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزلْ تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1)، قال الإمام النووي رحمه الله: قوله: ((يهدون بغير هديي)) الهدي الهيئة، والسيرة، والطريقة، قوله: ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعون إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج، والقرامطة، وأصحاب المحنة)) (¬2). 8 - وفي حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما بعد، ألا أيها ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، 8/ 119، برقم 7084، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة، 3/ 1475، برقم 1847. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 479.

ثالثا: من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في البدع:

الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، [هو حبل الله المتين من اتّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به))، فحثَّ على كتاب الله، ورغَّب فيه (¬1). 9 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون في آخر الزمان دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يُضلّونكم ولا يفتنونكم)) (¬2). ثالثاً: من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في البدع: 1 - ذكر ابن سعد رحمه الله بإسناده أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: ((أيها الناس إنما أنا متّبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني)) (¬3). 2 - وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((إيّاكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلُّوا وأضلُّوا)) (¬4). 3 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، كل بدعة ضلالة)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، 4/ 1873، برقم 2408. (¬2) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/ 12، برقم 6، 7، وابن وضاح في ما جاء في البدع، ص 67، برقم 65. (¬3) الطبقات الكبرى، 3/ 136. (¬4) أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 139، برقم 201، والدارمي في سننه، 1/ 47، برقم 121، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1041، برقم 2001، ورقم 2003، ورقم 2005. (¬5) أخرجه ابن وضاح في ما جاء في البدع، ص43، برقم 14، 12، والطبراني في المعجم الكبير، 9/ 154، برقم 8770، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/ 181: ((ورجاله رجال الصحيح))، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 96، برقم 102، وانظر: آثارًا أخرى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في ما جاء في البدع لابن وضاح، ص 45، ومجمع الزوائد، 1/ 181.

رابعا: من أقوال التابعين وأتباعهم بإحسان:

رابعاً: من أقوال التابعين وأتباعهم بإحسان: 1 - كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل فقال: ((أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتّباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته)) (¬1). 2 - وقال الحسن البصري رحمه الله: ((لا يصحُّ القول إلا بعمل، ولا يصحُّ قول وعمل إلا بنية، ولا يصحُّ قول وعمل ونية إلا بالسنة)) (¬2). 3 - وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ((حُكْمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام)) (¬3). 4 - وقال الإمام مالك رحمه الله: ((من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4)، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً)) (¬5). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 203، برقم 4612، وانظر: صحيح سنن أبي داود، للألباني، 3/ 873. (¬2) أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 63، برقم 18. (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/ 116. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3. (¬5) الاعتصام، للإمام الشاطبي، 1/ 65.

خامسا: البدع مذمومة من وجوه:

5 - وقال الإمام أحمد رحمه الله: ((أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين)) (¬1). خامساً: البدع مذمومة من وجوه: 1 - قد عُلم بالتجارب أن العقول غير مستقلة بمصالحها دون الوحي، والابتداعُ مضادّ لهذا العمل. 2 - الشريعة جاءت كاملة، لا تحمل الزيادة ولا النقصان. 3 - المبتدع معاند للشرع ومشاقّ له. 4 - المبتدع متّبع لهواه؛ لأن العقل إذا لم يكن متَّبِعاً للشرع لم يبق له إلا اتّباع الهوى. 5 - المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم المكلَّفين بالجري على سننها (¬2). * المسلك الرابع: أسباب البدع: البدع لها أسباب أدت إليها ومن هذه الأسباب (¬3) ما يأتي: أولاً: الجهل، فهو آفة خطيرة، قال الله - عز وجل -: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 176. (¬2) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/ 61 - 70. (¬3) انظر كثيراً من هذه الأسباب: الاعتصام للشاطبي، 1/ 287 - 365.

ثانيا: اتباع الهوى

عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬1)، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء، فيرفَعُ العلم معهم، ويُبقي في الناس رُؤوساً جُهَّالاً يفتون بغير علم، فَيَضِلُّون ويُضِلُّون)) (¬3). ثانياً: اتباع الهوى، من الأسباب الخطيرة التي توقع الناس في البدع، والأهواء، قال الله - عز وجل -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬5). وقال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 8/ 187، برقم 7307، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن آخر الزمان، 4/ 2058، برقم 2673. (¬4) سورة ص، الآية: 26. (¬5) سورة الكهف، الآية: 28.

ثالثا: التعلق بالشبهات

أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} (¬2). وقال - عز وجل -: {إِن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (¬3). ثالثاً: التعلق بالشبهات: فإن المبتدعة يتعلقون بالشبهات فيقعون في البدع، قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (¬4). رابعاً: الاعتماد على العقل المجرَّد، فإن من اعتمد على عقله وترك النص من القرآن والسنة أو من أحدهما ضلّ، والله - عز وجل - يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬5)، وقال - عز وجل -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬2) سورة القصص، الآية: 50. (¬3) سورة النجم، الآية: 23. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 7. (¬5) سورة الحشر، الآية: 7. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 36.

خامسا: التقليد والتعصب

خامساً: التقليد والتعصب: فإن أكثر أهل البدع يقلِّدون آباءهم ومشايخهم، ويتعصبون لمذاهبهم، قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (¬2)، وأهل البدع زُيِّنت لهم أعمالهم، قال الله - عز وجل -: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬3)، وقال الله - عز وجل - مُبَيِّناً حال أهل البدع والأهواء: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولاْ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (¬4). سادساً: مخالطة أهل الشر ومجالستهم، من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في البدع وانتشارها بين الناس، وقد بين الله - عز وجل - أن المُجالِس لأهل السوء يندم، قال - سبحانه وتعالى -: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} (¬5)، وقال - عز وجل -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 170. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 22. (¬3) سورة فاطر، الآية: 8. (¬4) سورة الأحزاب، الآيات: 66 - 68. (¬5) سورة الفرقان، الآيات: 27 - 29.

سابعا: سكوت العلماء وكتم العلم

يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة)) (¬3). سابعاً: سكوت العلماء وكتم العلم، من أسباب انتشار البدع والفساد بين الناس، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5)، وقال - سبحانه وتعالى -: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 68. (¬2) سورة النساء، الآية: 140. (¬3) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، 6/ 287، برقم 5534، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء، 4/ 2026، برقم 2628. (¬4) سورة البقرة، الآيتان: 159 - 160. (¬5) سورة البقرة، الآية: 174.

{وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (¬1)، وقد أوجب الله على طائفة من الأمة الدعوة إلى الله - عز وجل - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2)، وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬3)، وهذا الحديث يبيّن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل أحدٍ على حسب هذه الدرجات. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من نبيّ بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حورايُّون وأصحاب، يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبهم فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّةُ خرْدل)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سُئِلَ عن علم ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 187. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 104. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، 1/ 69، برقم 49. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 70، برقم 50.

ثامنا: التشبه بالكفار وتقليدهم

يعلمُهُ فكتمه أُلجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار)) (¬1). ثامناً: التشبه بالكفار وتقليدهم من أعظم ما يُحدث البدع بين المسلمين، ومما يدل على ذلك حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حديثو عهدٍ بكفر، وكانوا أسلموا يوم الفتح، قال: فمررنا بشجرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلِّقون بها أسلحتهم، يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الله أكبر وقلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬2)، لتركبنَّ سنن من كان قبلكم)) (¬3)، وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل على أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو الذي حمل أصحاب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبَّركون بها من دون الله - عز وجل -، وهكذا غالب الناس من المسلمين، ¬

_ (¬1) الترمذي، في كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، 5/ 29، برقم 2649، وأبو داود، في العلم، باب كراهية منع العلم، 3/ 321، برقم 3658، وابن ماجه، في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، 1/ 98، برقم 266، ومسند أحمد، 2/ 263، 305، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 336، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 49. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 138. (¬3) أخرجه بلفظه، أبو عاصم في كتاب السنة، 1/ 37، برقم 76، وحسن إسناده الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، المطبوع مع كتاب السنة، 1/ 37، وأخرجه الترمذي بنحوه، في كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، 4/ 475، برقم 2180، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، لجاسم بن فهيد الدوسري، ص64 - 65.

قلّدوا الكفار في عمل البدع والشركيات، كأعياد المواليد، وبدع الجنائز، والبناء على القبور، ولا شك أن اتباع السَّنَن باب من أبواب الأهواء، والبدع (¬1) ويزيد ذلك وضوحاً حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لَتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم: شِبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍّ لاتّبعتموهم)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن))؟ (¬2)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((السَّنَن، بفتح السين والنون: وهو الطريق، والمراد بالشبر، والذراع، وجحر الضب: التمثيل بشدّة الموافقة في المعاصي والمخالفات، لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فقد وقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). فظهر أن الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمّه (¬4)، وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبّه بغير أهل الإسلام، فقال: ((بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص147، ورسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 2/ 170، وكتاب التوحيد، للدكتور العلامة صالح الفوزان، ص87. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، 8/ 191، برقم 7320، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054، برقم 2669. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 460. (¬4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 301. (¬5) أحمد في المسند، 2/ 50، 92، وصحح إسناده أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند، برقم 5114، 5115، 5667، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

تاسعا: الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة

تاسعاً: الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، من الأسباب التي تؤدّي إلى البدع وانتشارها؛ فإن كثيراً من أهل البدع اعتمدوا على الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها، وردّوا الأحاديث الصحيحة التي تخالف ما هم عليه من البدع، فوقعوا بذلك في المهالك والعطب، والخسارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬1). عاشراً: الغلو أعظم أسباب انتشار البدع، وظهورها، وهو سبب شرك البشر؛ لأن الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام كانوا على التوحيد عشرة قرون، وبعد ذلك تعلَّق الناس بالصالحين، وغلَوا فيهم حتى عبدوهم من دون الله - عز وجل -؛ فأرسل الله تعالى نوحاً - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى التوحيد، ثم تتابع الرسل عليهم الصلاة والسلام (¬2)، والغلوّ يكون: في الأشخاص، كتقديس الأئمة، والأولياء، ورفعهم فوق منازلهم، ويصل ذلك في النهاية إلى عبادتهم، ويكون الغلوّ في الدين، وذلك بالزيادة على ما شرعه الله، أو التشدّد والتكفير بغير حق، والغلوّ في الحقيقة: هو مجاوزة الحد في الاعتقادات، والأعمال، وذلك بأن يزاد في حمد الشيء، أو ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 22/ 361 - 363، والاعتصام للشاطبي، 1/ 287 - 294، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص848، ورسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 2/ 180. (¬2) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، 1/ 106.

* المسلك الخامس: أقسام البدع:

يُزاد في ذمّه على ما يستحق (¬1)، وقد حذَّر الله عن الغلوّ فقال - عز وجل - لأهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} (¬2)، وحذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلوّ في الدين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إياكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين)) (¬3)، فظهر أن الغلوّ في الدين من أعظم أسباب الشرك، والبدع، والأهواء (¬4)؛ ولخطر الغلوّ في الدين حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإطراء فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬5). * المسلك الخامس: أقسام البدع: البدع أقسام مختلفة باعتبارات مختلفة، وإليك التفصيل بإيجاز واختصار: القسم الأول: البدعة الحقيقية والإضافية: 1 - البدعة الحقيقية: وهي التي لم يدلّ عليها دليل شرعي لا من ¬

_ (¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/ 289. (¬2) سورة النساء، الآية: 171. (¬3) النسائي، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى، 5/ 268، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، 2/ 1008، وأحمد 1/ 347، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 289. (¬4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/ 289، والاعتصام للشاطبي، 1/ 329 - 331، ورسائل ودراسات في الأهواء والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 1/ 171، 183، والغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، للدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص77 - 81، والحكمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -، لسعيد بن علي [المؤلف]، ص379. (¬5) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... }،4/ 171،برقم 3445.

2 - البدعة الإضافية: وهي التي لها جهتان أو شائبتان

كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلالٍ مُعتبَر عند أهل العلم، لا في الجملة، ولا في التفصيل؛ ولذلك سمّيت بدعة؛ لأنها شيء مُخترع في الدين على غير مثال سابق (¬1)، ومن أمثلة ذلك: التقرّب إلى الله - عز وجل - بالرّهبانية: أي اعتزال الخلق في الجبال ونبذ الدنيا ولذّاتها تعبّداً لله - عز وجل -، والذين فعلوا ذلك ابتدعوا عبادة من عند أنفسهم، وألزموا أنفسهم بها (¬2)، ومن أمثلة ذلك: تحريم ما أحلّ الله من الطيّبات تعبّداً لله - عز وجل - (¬3)، وغير ذلك من الأمثلة (¬4). 2 - البدعة الإضافية: وهي التي لها جهتان أو شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلَّق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة. والأخرى: ليس لها متعلَّق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية: أي أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، ولأنها مستندة إلى شيء، والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها محتاجة إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العادات ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 367. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 370، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 316، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 782. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 417. (¬4) انظر: المرجع السابق، 1/ 370 - 445.

القسم الثاني: البدعة الفعلية والتركية:

المحضة (¬1)، ومن أمثلة ذلك: الذكر أدبار الصلوات، أو في أي وقت على هيئة الاجتماع بصوت واحد، أو يدعو الإمام والناس يؤمِّنون أدبار الصلوات، فالذكر مشروع، ولكن أداءه على هذه الكيفية غير مشروع، وبدعة مخالفة للسنة (¬2)، ومن ذلك تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام، وصلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من رجب، وهذه بدع منكرة، وهي بدعة إضافية؛ لأن عبادات الصلاة والصيام الأصل فيها المشروعية، لكن يأتي الابتداع في تخصيص الزمان، أو المكان، أو الكيفية؛ فإن ذلك لم يأت في كتاب ولا سنة، فهي مشروعة باعتبار ذاتها، بدعة باعتبار ما عَرَض لها (¬3). القسم الثاني: البدعة الفعلية والتَّركية: 1 - البدعة الفعلية: تدخل في تعريف البدعة: فهي طريقة في الدين مُخترَعة، تشبه الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه (¬4)، ومن أمثلة ذلك: الزيادة في شرع الله ما ليس منه، كمن يزيد في الصلاة ركعة، أو يدخل في الدين ما ليس منه، أو يفعل العبادة على كيفية يخالف فيها هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، أو يخصّص وقتاً للعبادة ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 367، 445. (¬2) انظر: المرجع السابق، 1/ 452، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص 96. (¬3) انظر: أصول في البدع والسنن، للشيخ العدوي، ص30، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للسحيمي، ص96. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 50 - 56. (¬5) انظر: المرجع السابق،1/ 367 - 445،وتنبيه أولي الأبصار، للدكتور صالح السحيمي، ص99، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد الغامدي، 2/ 37، وأصول في البدع والسنن للعدوي، ص70، وعلم أصول البدع، لعلي بن حسن الأثري، ص107.

2 - البدعة التركية

المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام وليلته بقيام (¬1). 2 - البدعة التَّركية: تدخل في عموم تعريف البدعة، من حيث إنها ((طريقة في الدين مخترعة)) (¬2)، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك، أو غير تحريم؛ فإن الفعل ((مثلاً)) قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه، أو يقصد تركه قصداً، فهذا الترك إما أن يكون لأمر يُعتبر شرعاً، أو لا: فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه؛ لأنه ترك ما يجوز تركه، أو ما يُطلب بتركه، كالذي يمنع نفسه من الطعام الفلاني من أجل أنه يضرّه في جسمه، أو عقله، أو دينه، وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك، وهذا راجع إلى الحمية من المضرّات، وأصله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) (¬3)، وكذلك لو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وهذا كترك المشتبه حذراً من الوقوع في الحرام، واستبراءً للدين والعرض. ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص82. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 57. (¬3) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 2/ 280، برقم 1905، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنته، 2/ 1018، برقم 1400.

أما إن كان الترك تدينا فهو الابتداع في الدين

وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديُّناً أو لا؛ فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل، أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة؛ لأنه لا يدخل تحت لفظ الحدّ، إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات، وأما على الطريقة الأولى، فلا يدخل، لكن هذا التارك يكون مخالفاً بتركه، أو باعتقاده التحريم فيما أحلَّ الله، وإثم المخالفة يختلف باختلاف درجات المتروك: من حيث: الوجوب، والندب. أما إن كان الترك تديُّناً فهو الابتداع في الدين، سواءً كان المتروك مباحاً، أو مأموراً به، وسواءً كان في العبادات، أو المعاملات، أو العادات: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد، إذا قصد بتركه التعبّد لله كان مبتدعاً بتركه (¬1)، ومن الأدلّة على أن الترك في مثل ذلك يكون بدعة: قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها، فكأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني: أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/ 58. (¬2) متفق عليه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 6/ 142، برقم 5063، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، 2/ 1020، برقم 1401.

القسم الثالث: البدعة القولية الاعتقادية، والبدعة العملية:

والمراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري فليس مني (¬1). واتّضح مما سبق أن البدعة على قسمين: بدعة فعلية، وبدعة تركية، كما ظهر أن السنة على قسمين: سنة فعلية وسنة تركية، فسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله الذي يتقرب به إلى الله - إذا لم يكن من باب الخصوصيات -، كذلك طالبنا باتباعه في تركه، فيكون الترك سنة، والفعل سنة، وكما لا نتقرّب إلى الله بترك ما فعل، لا نتقرّب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك، كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما (¬2). القسم الثالث: البدعة القولية الاعتقادية، والبدعة العملية: 1 - البدعة القولية الاعتقادية: كمقالات الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وسائر الفرق الضالّة، واعتقاداتهم، ويدخل في ذلك الفرق التي ظهرت كالقاديانية، والبهائية، وجميع فرق الباطنية المتقدمة: ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 9/ 105. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 57 - 60، و 479، 485، 498، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، لجلال الدين السيوطي، ص205، وأصول في البدع، للشيخ محمد أحمد العدوي، ص70، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد بن ناصر الغامدي، 2/ 37 - 58، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص97، وعلم أصول البدع للشيخ علي بن حسن الأثري، ص107، وتحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، ص83.

2 - البدعة العملية وهي أنواع:

كالإسماعيلية، والنصيرية، والدروز، والرافضة وغيرهم. 2 - البدعة العملية وهي أنواع: النوع الأول: بدعة في أصل العبادة، كأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع، أو أعياداً غير مشروعة، كأعياد المواليد وغيرها. النوع الثاني: ما يكون من الزيادة على العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً. النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة، بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وكذلك أداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتعبد بالتشديد على النفس في العبادات إلى حدٍّ يخرج عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام؛ فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل (¬1). * المسلك السادس: حكم البدعة في الدين: لاشك أن كل بدعة في الدين ضلالة، ومحرّمة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 18/ 346، 35 - 414، وكتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص 81 - 82، ومجلة الدعوة، العدد 1139، 9 رمضان، 1408، مقال الدكتور صالح الفوزان في أنواع البدع، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص 100.

فمنها: ما هو كفر

ومُحدَثات الأمور، فإن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬2)، فدل الحديثان على أن كل مُحدَثٍٍ في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة، فالبدع في العبادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة: فمنها: ما هو كفر: كالطواف بالقبور تقرّباً إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وكأقوال غلاة الجهمية، والمعتزلة، والرافضة. ومنها: ما هو من وسائل الشرك: كالبناء على القبور، والصلاة والدعاء عندها. ومنها: ما هو من المعاصي: كبدعة التبتل ((ترك الزواج))، والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع الشهوة، وغير ذلك (¬3)، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله: أن إثم المبتدع ليس على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة، واختلافها يقع من جهات، على النحو الآتي: 1 - من جهة كون صاحب البدعة مُدَّعياً للاجتهاد أو مقلداً. 2 - من جهة وقوعها في الضروريات: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال أو غيرها. 3 - من جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً. ¬

_ (¬1) أبو داود، 4/ 201، برقم 4607، والترمذي، 5/ 44، برقم 2676، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، 3/ 222،برقم 2697،ومسلم، 3/ 1343، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، ص 82.

4 - من جهة كونه داعيا إليها أو غير داع لها

4 - من جهة كونه داعياً إليها أو غير داعٍ لها. 5 - من جهة كونه خارجاً على أهل السنة أو غير خارج. 6 - من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية. 7 - من جهة كون البدعة بيِّنة أو مشكلة. 8 - من جهة كون البدعة كفراً أو غير كفر. 9 - من جهة الإصرار على البدعة أو عدمه. وبيّن رحمه الله أن هذه المراتب تختلف في الإثم على حسب النظر إلى دركاتها (¬1). وأوضح رحمه الله أن هذه المراتب منها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، وأن وصف الضلال ملازم لها، وشامل لأنواعها (¬2). ولا شك أن البدع تنقسم على حسب مراتبها في الإثم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: كفر بواح (¬3). القسم الثاني: كبيرة من كبائر الذنوب (¬4). القسم الثالث: صغيرة من صغائر الذنوب (¬5)، وللبدعة الصغيرة شروط، هي: الشرط الأول: لا يداوم عليها، فإن المداومة تنقلها إلى كبيرة في حقه. ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام، 1/ 216 - 224، و2/ 515 - 559. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 530. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 516. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 517 و 2/ 543 - 550. (¬5) انظر: المرجع السابق، 2/ 517، و 2/ 539، 543 - 550.

الشرط الثاني: لا يدعو إليها؛ فإن ذلك يعظم الذنب لكثرة العمل بها

الشرط الثاني: لا يدعو إليها؛ فإن ذلك يعظم الذنب لكثرة العمل بها. الشرط الثالث: لا يفعلها في مجتمعات الناس، ولا في المواضع التي تقام فيها السنن. الشرط الرابع: لا يستصغرها ولا يستحقرها، فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب (¬1). واسم الضلالة يقع على هذه الأقسام الثلاثة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل كل بدعة ضلالة، وهذا يشمل البدعة المكفرة، والبدعة المفسقة: سواء كانت كبيرة أو صغيرة (¬2). ومنهم من قسم البدع إلى أقسام أحكام الشريعة الخمسة: فقال: قسم من البدع واجب، وقسم محرم، وقسم مندوب إليه، والقسم الرابع: بدعة مكروهة، والقسم الخامس: البدع المباحة. وهذا التقسيم مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) (¬3). وقد رد على هذا التقسيم الإمام الشاطبي رحمه الله بعد أن ذكر التقسيم وصاحبه: ((والجواب أن هذا التقسيم أمر مُخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي: لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوبٍ، أو ندبٍ، أو إباحةٍ؛ لما كان ثَمَّ بدعة، ولكان ¬

_ (¬1) انظر هذه الشروط مع شرحها النفيس: الاعتصام للشاطبي، 2/ 551 - 559. (¬2) انظر: المرجع السابق، 2/ 516. (¬3) أبو داوود، 4/ 201، برقم 4607، والترمذي، 5/ 44، برقم 2676، وتقدم تخريجه.

* المسلك السابع: أنواع البدع عند القبور:

العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخيّر فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها، أو ندبها، أو إباحتها جمع بين متنافيين، أما المكروه منها والمحرم، فمسلَّمٌ من جهة كونها بدعاً، لا من جهةٍ أخرى (¬1). * المسلك السابع: أنواع البدع عند القبور: النوع الأول: من يسأل الميت حاجته (¬2)، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬3)، فكل من دعا نبياً، أو ولياً، أو صالحاً، وجعل فيه نوعاً من الإلهيّة، فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوّاً، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا مَيِّتاً، أو غائباً: من الأنبياء، والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أعني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يُستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، ¬

_ (¬1) الاعتصام، 1/ 246. (¬2) انظر: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً، في المطلب الأول من المبحث الثاني من هذا الكتاب. (¬3) سورة الإسراء، الآيتان: 56 - 57.

النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت

وأنزل الكتب ليُعبد وحده، ولا يُجعل معه إله آخر. النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، وهذا ليس كالذي قبله فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحقّ الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، وهذه الأمور من البدع المحدثة المنكرة، والذي جاءت به السنة هو التوسّل والتوجّه بأسماء الله تعالى، وصفاته، وبالأعمال الصالحة، كما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة (أصحاب الغار)، وبدعاء المسلم الحي الحاضر لأخيه المسلم. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فإن هذا من المنكرات إجماعاً، ولم نعلم في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين، وهذا أمر لم يشرعه الله، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا أئمة المسلمين، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل خرج عمر بالعباس فاستسقى بدعائه، وقد كان السلف ينهون عن الدعاء عند القبور، فقد رأى علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم

* المسلك الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة:

قبوراً، وصلوا عليَّ، وسلّموا حيثما كنتم، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) (¬1)، ووجه الدلالة أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬3). * المسلك الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة: البدع المنتشرة المعاصرة كثيرة جداً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: أولاً: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي: الاحتفال بالمولد بدعة منكرة، وأول من أحدثها العبيديون في القرن الرابع الهجري، وقد بيّن العلماء قديماً وحديثاً بطلان هذه البدعة والرد على من ابتدعها وعمل بها، فلا يجوز الاحتفال بالمولد، لأمور وبراهين منها: أولاً: الاحتفال بالمولد من البدع المحدثة في الدين التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرعه لا بقوله، ولا فعله، ولا تقريره، وهو قدوتنا وإمامنا، قال الله - عز وجل -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4)،وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ¬

_ (¬1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص34، وصححه الألباني في المرجع نفسه، وله طرق وروايات ذكرها في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص140. (¬2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬3) رواه أبو داود، واللفظ له، في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/ 218، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وحسنه الشيخ الألباني في كتابه: تحذير الساجد، ص142. (¬4) سورة الحشر، الآية: 7.

ثانيا: الخلفاء الراشدون ومن معهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفلوا بالمولد

الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬1)،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) (¬2). ثانياً: الخلفاء الراشدون ومن معهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفلوا بالمولد، ولم يدعوا إلى الاحتفال به، وهم خير الأمة بعد نبيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حق الخلفاء الراشدين: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬3). ثالثاً: الاحتفال بالمولد من سنة أهل الزيغ والضلال؛ فإن أول من أحدث الاحتفال بالمولد الفاطميون، العبيديون في القرن الرابع الهجري، وقد انتسبوا إلى فاطمة رضي الله عنها ظلماً وزوراً، وبهتاناً؛ وهم في الحقيقة من اليهود، وقيل من المجوس، وقيل من الملاحدة (¬4)، وأولهم المعز لدين الله العبيدي المغربي الذي خرج من المغرب إلى مصر في شوال سنة 361هـ، وقدم إلى مصر في رمضان سنة 362هـ (¬5)، فهل لعاقل مسلم أن يقلد ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬3) أبو داود، برقم 4607، والترمذي، برقم 2676، وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، ص251، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، ص359 - 373، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص232. (¬5) انظر: البداية والنهاية: لابن كثير، 11/ 272 - 273، 345، 12/ 267 - 268، و 6/ 232، 11/ 161، 12/ 13، 63، 266، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 15/ 159 - 215، وذكر أن آخر ملوك العبيدية: العاضد لدين الله، قتله صلاح الدين الأيوبي سنة 564هـ، قال: ((تلاشى أمر العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه وخطب لبني العباس واستأصل شأفة بني عبيد ومحق دولة الرفض، وكانوا أربعة عشر متخلفاً لا خليفة، والعاضد في اللغة: القاطع، فكان هذا عاضداً لدولة أهل بيته))، 15/ 212.

رابعا: إن الله - عز وجل - قد كمل الدين،

الرافضة، ويتّبع سنتهم ويخالف هدي نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -؟. رابعاً: إن الله - عز وجل - قد كمَّل الدين، فقال - سبحانه وتعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬1)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلّغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة، ويُباعد من النار إلا بيَّنه للأمة، ومعلوم أن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء، وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً، ونصحاً لعباد الله، فلو كان الاحتفال بالمولد من الدين الذي يرضاه الله - عز وجل - لبيَّنه - صلى الله عليه وسلم - لأمته، أو فعله في حياته، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدلّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم)) (¬2). خامساً: إحداث مثل هذه الموالد البدعية يُفهم منه أن الله تعالى لم يُكمل الدين لهذه الأمة، فلا بد من تشريع ما يكمل به الدين! ويفهم منه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُبلّغ ما ينبغي للأمة حتى جاء هؤلاء المبتدعون المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به سبحانه، زاعمين أن ذلك يقرّبهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله - عز وجل -، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله - عز وجل - قد أكمل الدين، وأتمّ على عباده نعمته. سادساً: صرّح علماء الإسلام المحقّقون بإنكار الموالد، والتحذير منها ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 3. (¬2) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء: الأول فالأول،2/ 1473،برقم 1844.

سابعا: إن الاحتفال بالمولد لا يحقق محبة الرسول

عملاً بالنصوص من الكتاب والسنة، التي تحذّر من البدع في الدين، وتأمر باتّباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحذّر من مخالفته في القول وفي الفعل والعمل. سابعاً: إن الاحتفال بالمولد لا يحقّق محبّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يحقّق ذلك: اتّباعه، والعمل بسنته، وطاعته - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). ثامناً: الاحتفال بالمولد النبوي، واتخاذه عيداً فيه تشبه باليهود والنصارى في أعيادهم، وقد نُهينا عن التشبه بهم، وتقليدهم (¬2). تاسعاً: العاقل لا يغترّ بكثرة من يحتفل بالمولد من الناس في سائر البلدان، فإن الحقّ لا يُعرف بكثرة العاملين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬5). عاشراً: القاعدة الشرعية: ردّ ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، 2/ 614 - 615، وزاد المعاد، لابن القيم، 1/ 59. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 116. (¬4) سورة يوسف، الآية: 103. (¬5) سورة سبأ، الآية: 13.

الحادي عشر: إن المشروع للمسلم يوم الإثنين أن يصوم إذا أحب

إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} (¬2)، ولا شك أن من ردّ الاحتفال بالمولد إلى الله ورسوله يجد أن الله يأمر باتّباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬3)، ويبين - سبحانه وتعالى - أنه قد أكمل الدين، وأتمّ النعمة على المؤمنين، ويجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالاحتفال بالمولد، ولم يفعله، ولم يفعله أصحابه، فعلم بذلك أن الاحتفال بالمولد ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة. الحادي عشر: إن المشروع للمسلم يوم الإثنين أن يصوم إذا أحبّ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ((ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بعثت، أو أُنزل عليَّ فيه)) (¬4)، فالمشرع التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صيام يوم الإثنين، وعدم الاحتفال بالمولد. الثاني عشر: عيد المولد النبوي لا يخلو من وقوع المنكرات والمفاسد غالباً، ويعرف ذلك من شاهد هذا الاحتفال، ومن هذه المنكرات على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - أكثر القصائد والمدائح التي يتغنَّى بها أهل المولد لا تخلو من ألفاظ شركية، والغلوّ، والإطراء الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((لا تطروني ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) سورة الشورى، الآية: 10. (¬3) سورة الحشر، الآية: 7. (¬4) صحيح مسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء، والإثنين والخميس، 2/ 819، برقم 1162.

2 - يحصل في الاحتفالات بالموالد في الغالب بعض المحرمات الأخرى

كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬1). 2 - يحصل في الاحتفالات بالموالد في الغالب بعض المحرمات الأخرى: كاختلاط الرجال بالنساء، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وقد يحصل فيها الشرك الأكبر كالاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -،أو غيره من الأولياء، والاستهانة بكتاب الله - عز وجل -، فيشرب الدخان في مجلس القرآن، ويحصل الإسراف والتبذير في الأموال، وإقامة حلقات الذكر المحرَّف في المساجد أيام الموالد، مع ارتفاع أصوات المنشدين مع التصفيق القوي من رئيس الذاكرين، وكل ذلك غير مشروع بإجماع علماء أهل الحق (¬2). 3 - يحصل عمل قبيح في الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يكون بقيام البعض عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - إكراماً له وتعظيماً، لاعتقادهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد في مجلس احتفالهم؛ ولهذا يقومون له محيِّين ومرحبِّين، وهذا من أعظم الباطل، وأقبح الجهل؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة (¬3)، كما قال الله - عز وجل -: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (¬4)، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا سيّد ولد آدم يوم ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... } 4/ 171،برقم 3445. (¬2) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، ص 251 - 257. (¬3) انظر: التحذير من البدع، لسماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، ص13. (¬4) سورة المؤمنون، الآيتان: 15 - 16.

ثانيا: بدعة الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب:

القيامة، وأول من ينشقّ عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع)) (¬1)، فهذه الآية، والحديث الشريف، وما جاء في هذا المعنى من الآيات والأحاديث، كلّها تدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة. قال سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين، ليس فيه نزاعٌ بينهم)) (¬2). ثانياً: بدعة الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب: الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب بدعة منكرة، فقد ذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: أنه أخبره أبو محمد المقدسي فقال: ((وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمائة [480هـ]، وما كُنَّا رأيناها، ولا سمعنا بها قبل ذلك)) (¬3). وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: ((وأما صلاة الرغائب فالمشهور بين الناس اليوم أنها هي التي تُصلى بين العشائين ليلة أول جمعة من شهر رجب)) (¬4). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((فأما الصلاة فلم يصحَّ في شهر ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق،4/ 1782، برقم 2278. (¬2) التحذير من البدع، ص7 - 14، وانظر: الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ ص250 - 258، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، ص358 - 373، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، ص228 - 250. (¬3) الحوادث والبدع، لأبي بكر الطرطوشي، ص267، برقم 238. (¬4) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص138.

رجب صلاة مخصوصة، تختصُّ به، والأحاديث المرويّة في صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذبٌ وباطل لا تصحّ، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معيَّن، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه، حديث صحيح يصلح للحجة)) (¬2)، ثم بيّن رحمه الله أن الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه على قسمين: ضعيفة، وموضوعة (¬3)، ثم ذكر حديث صلاة الرغائب، وفيه: أنه يصوم أول خميس من رجب ثم يصلي بين العشائين ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرةً، و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثلاثَ مراتٍ، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرّةً، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، ثم ذكر كلاماً طويلاً في صفة التسبيح والاستغفار، والسجود، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم بيّن بأن هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيّن أن من يصلِّيها يحتاج إلى أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام لم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب، ثم يقف في صلاته، ويقع في ذلك التسبيح الطويل، والسجود الطويل، فيتأذّى غاية الأذى، وقال: ((وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح كيف زوحم بهذه، بل هذه عند العوام أعظم وأجلّ؛ فإنه ¬

_ (¬1) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ص228. (¬2) تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص23. (¬3) انظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص23.

تلخيص لكلام الإمام أبي شامة في بطلان صلاة الرغائب ومفاسدها

يحضرها من لا يحضر الجماعات)) (¬1). وقال الإمام ابن الصلاح رحمه الله، في صلاة الرغائب: ((حديثها موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي بدعة حدثت بعد أربعمائة من الهجرة)) (¬2). وأفتى الإمام العزّ بن عبد السلام سنة سبع وثلاثين وستمائة [637هـ] أن صلاة الرغائب بدعة منكرة، وأن حديثها كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وأختم كلام الأئمة بتلخيصٍ لكلام الإمام أبي شامة في بطلان صلاة الرغائب ومفاسدها، فقد بيَّن رحمه الله ذلك على النحو الآتي: 1 - مما يدلّ على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين: من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وغيرهم ممّن دوَّن الكتب في الشريعة، مع شدّة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن، لم ينقل عن واحدٍ منهم أنه ذكر هذه الصلاة، ولا دوّنها في كتابه، ولا تعرّض لها في مجلسه، والعادة تحيل أن تكون هذه سنة، وتغيب عن هؤلاء الأعلام. 2 - هذه الصلاة مخالفة للشرع من وجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: مخالفة لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص54. (¬2) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص145. (¬3) تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص 149.

الوجه الثاني

تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) (¬1)، فلا يجوز أن تُخصّ ليلة الجمعة بصلاة زائدة على سائر الليالي لهذا الحديث (¬2)، وهذا يعمُّ أوّل ليلة جمعة من رجب وغيرها. الوجه الثاني: صلاة رجب وشعبان صلاتا بدعة قد كُذِبَ فيهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بوضع ما ليس من حديثه، وكُذِبَ على الله بالتقدير عليه في جزاء الأعمال ما لم يُنَزِّل به سلطاناً، فمن الغيرة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - تعطيل ما كُذِبَ فيه على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهجره، واستقباحه، وتنفير الناس عنه؛ فإنه يلزم من الموافقة على ذلك مفاسد، هي: المفسدة الأولى: اعتماد العوام على ما جاء في فضلها وتكفيرها، فيحمل كثيراً منهم على أمرين: أحدهما: التفريط في الفرائض. والثاني: الانهماك في المعاصي، وينتظرون مجيء هذه الليلة ويصلون هذه الصلاة، فيرون ما فعلوه مجزئاً عما تركوه، وماحياً ما ارتكبوه، فعاد ما ظنه واضع الحديث في صلاة الرغائب حاملاً على مزيد الطاعات: مكثراً من مزيد ارتكاب المعاصي والمنكرات. المفسدة الثانية: أن فعل البدع مما يغري المبتدعين في إضلال الناس إذا ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 2/ 303، برقم 1985، ومسلم، كتاب الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفرداً، 2/ 801، برقم 1144. (¬2) انظر: كتاب الباعث على إنكار البدع، لأبي شامة، ص 156.

المفسدة الثالثة: أن الرجل العالم إذا فعل هذه البدعة كان موهما للعامة أنها من السنن

رأوا رواج ما وضعوه، وانهماك الناس عليه، فينقلونهم من بدعة إلى بدعة، أما ترك البدع ففيه زجر للمبتدعين والواضعين عن وضع البدع. المفسدة الثالثة: أن الرجل العالم إذا فعل هذه البدعة كان موهماً للعامة أنها من السنن، فيكون كاذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان الحال، ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال، وأكثر ما أُوتي الناس في البدع بهذا السبب. المفسدة الرابعة: أن العالم إذا صلَّى هذه الصلاة المبتدعة كان متسبِّباً إلى أن تكذب العامة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون هذه سنة من السنن. الوجه الثالث: أن هذه الصلاة البدعية مشتملة على مخالفة سنن الشرع في الصلاة لأمور: الأمر الأول: مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بسبب عدد السجدات، وعدد التسبيحات، وعدد قراءة سورتي: ((القدر))،و ((الإخلاص)) في كل ركعة. الأمر الثاني: مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة، وتفريغه لله، والوقوف على معاني القرآن. الأمر الثالث: مخالفة لسنة النوافل في البيوت؛ لأن فعلها في البيوت أولى من فعلها في المساجد، وفعلها على الانفراد، إلا صلاة التراويح في رمضان. الأمر الرابع: أن من كمال هذه الصلاة البدعية عند واضعيها صيام يوم الخميس ذلك اليوم، فيلزم بذلك تعطيل سنتين: سنة الإفطار، وسنة تفريغ القلب من ألم الجوع والعطش. الأمر الخامس: أن سجدتي هذه الصلاة بعد الفراغ منها سجدتان لا

ثالثا: بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:

سبب لهما (¬1). وكل ما تقدم من الأدلّة، وأقوال الأئمة، وأوجه البطلان، وأقسام المفاسد يُبيِّن للعاقل أن صلاة الرغائب بدعة منكرة قبيحة، محدثة في الإسلام. ثالثاً: بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج: ليلة الإسراء والمعراج من آيات الله - عز وجل - العظيمة الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعظم منزلته عند الله، وعلى عظم قدرة الله الباهرة، وعلى علوِّه - عز وجل - على جميع خلقه، قال - عز وجل -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} (¬2). وتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه عُرج به إلى السماء، وفُتحت له أبوابها، حتى جاوز السماء السابعة، فكلّمه ربّه - عز وجل - كما أراد - سبحانه وتعالى -، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله - عز وجل - فرضها خمسين صلاة، فلم يزل نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه، ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمساً في الفرض، وخمسين صلاة في الأجر؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه التي لا تعد ولا تحصى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي شامة، ص 153 - 196، وهذه المفاسد، وأوجه البطلان تشمل صلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، وليلة النصف من شعبان، كما صرح بذلك أبو شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص174. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 1. (¬3) انظر: التحذير من البدع، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، ص16.

وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء لا يحتفل بها

وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء لا يُحتفَل بها، ولا تُخصّ بشيء من أنواع العبادة التي لم تُشرع؛ لأمور منها: أولاً: هذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ خبر صحيح في تحديدها، ولا تعيينها، لا في رجب ولا في غيره، فقيل: إنها كانت بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر شهراً، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، وقيل: كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين (¬1) وقيل: ليلة سبعة وعشرين من شهر ربيع الأول (¬2)، وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: ((وذكر عن بعض القُصَّاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب)) (¬3)، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن ليلة الإسراء لا يُعرف أيّ ليلة كانت (¬4). قال العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا في غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها)) (¬5)، ولو ثبت تعيينها لم يجز أن تُخصَّ بشيءٍ من أنواع العبادة بدون دليل (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 267 - 268. (¬2) انظر: كتاب الحوادث والبدع، لأبي شامة، ص232. (¬3) المرجع السابق، ص232،وانظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، لابن حجر، ص 9، 19، 52، 64، 65. (¬4) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 1/ 58. (¬5) التحذير من البدع، ص17. (¬6) المرجع السابق، ص17.

ثانيا: لا يعرف عن أحد من المسلمين

ثانياً: لا يعرف عن أحد من المسلمين: أهل العلم والإيمان أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة عن غيرها؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والتابعين وأتباعهم بإحسان لم يحتفلوا بها، ولم يخصّوها بشيء من العبادة، ولم يذكروها، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً؛ لبيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأمة: إما بالقول، وإما بالفعل، ولو وقع أمر من ذلك؛ لعرف واشتهر، ونقله الصحابة - رضي الله عنهم - إلينا (¬1). ثالثاً: قد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتمّ النعمة، قال الله - عز وجل -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). رابعاً: حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع، وصرّح بأن كل بدعة ضلالة، وأنها مردودة على صاحبها، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) (¬4)، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬5). وحذّر السلف الصالح من البدع؛ لأنها زيادة في الدين وشرعٌ لم يأذن به الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتشبُّه بأعداء الله: من اليهود والنصارى في زياداتهم ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 58، والتحذير من البدع، للعلامة ابن باز، ص17. (¬2) سورة المائدة، الآية: 3. (¬3) سورة الشورى، الآية: 21. (¬4) البخاري 3/ 222، برقم 2697، ومسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه.

رابعا: الاحتفال بليلة النصف من شعبان:

في دينهم (¬1). رابعاً: الاحتفال بليلة النصف من شعبان: أخرج الإمام محمد بن وضَّاح القرطبي بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: لم أدرك أحداً من مشيختنا، ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحداً منهم يذكر حديث مكحول (¬2) ولا يرى لها فضلاً على ما سواها من الليالي)) (¬3). وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ((وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: ((لم تكن عندنا ببيت المقدس قطُّ صلاة الرغائب هذه التي تُصلّى في رجب وشعبان، وأوّل ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة [448هـ]، قَدِمَ علينا في بيت المقدس رجل من أهل نابلس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلَّى في المسجد ¬

_ (¬1) انظر: التحذير من البدع، لابن باز، ص19. (¬2) يعني بحديث مكحول ما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، برقم 512، وابن حبان برقم 5665 [12/ 481]، والطبراني في الكبير 20/ 109، برقم 215، وأبو نعيم في الحلية، 5/ 191، والبيهقي في شعب الإيمان، 5/ 272 برقم 6628، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يرفعه: ((يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن))، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً، وهم: معاذ بن جبل، وأبو ثعلبة الخشني، وعبد الله بن عمرو، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأبو بكر الصديق، وعوف بن مالك، وعائشة - رضي الله عنهم -، ثم خَرَّج هذه الطرق الثمانية، وتكلم على رجالها في أربع صفحات. قلت: فإن صحّ هذا الحديث في فضل ليلة النصف من شعبان كما يقول الألباني رحمه الله فليس فيه ما يدل على تخصيص ليلتها بقيام ولا يومها بصيام، إلا ما كان يعتاده المسلم من العبادات المشروعة في أيام السّنَة؛ لأن العبادات توقيفية. (¬3) كتاب فيه ما جاء في البدع، للإمام ابن وضَّاح، المتوفى سنة 287هـ ص100، برقم 119.

الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهم ثالث، ورابع، فما ختمها إلا وهم في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلّى معه خلق كثير، ثم جاء من العام القابل فصلَّى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس، ومنازلهم ثم استقرّت كأنها سُنَّة إلى يومنا هذا)) (¬1). وأخرج الإمام ابن وضاح بسنده أن ابن أبي مليكة قيل له إن زياداً النميري يقول: إن ليلة النصف من شعبان أجرها كأجر ليلة القدر، فقال ابن أبي مليكة: ((لو سمعته منه وبيدي عصاً لضربته بها، وكان زيادٌ قاضياً)) (¬2). وقال الإمام أبو شامة الشافعي رحمه الله: ((وأما الألفية فصلاة النصف من شعبان سُمِّيت بذلك لأنها يُقرأ فيها ألف مرة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} لأنها مائة ركعة, في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة, وسورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأتِ فيها خبر, ولا أثر, إلا ضعيف أو موضوع, وللعوامّ بها افتتان عظيم, والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد, التي تصلَّى فيها، ويستمر ذلك الليل كله, ويجري فيه الفسوق والعصيان, واختلاط الرجال بالنساء, ومن الفتن المختلفة ما شهرته تُغني عن وصفه, وللمتعبّدين من العوامِّ فيها اعتقاد متين, وزيّن لهم الشيطانُ جَعْلَها من أصل شعائر المسلمين)) (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب الحوادث والبدع، للطرطوشي، المتوفى سنة 474هـ، ص266، برقم 238. (¬2) كتاب فيه ما جاء في البدع، لابن وضاح، ص101، برقم 120، ورواه الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع عن ابن وضاح، ص263، برقم 235. (¬3) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لعبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، المتوفى سنة 665هـ، ص124.

اختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلام نفيس: ((وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام: كخالد بن معدان, ومكحول, ولقمان بن عامر, وغيرهم يعظّمونها ويجتهدون فيها في العبادة, وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها, وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثارٌ إسرائيلية, فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختُلف في تعظيمها، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عبّاد أهل البصرة، وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكه، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين: أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعةً في المساجد، كان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخّرون، ويكتحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرماني في مسائله. والثاني: أنه يُكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة، والقصص، والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي، إمام أهل الشام، وفقيههم، وعالمهم، وهذا الأقرب إن شاء الله تعالى ... ))، ثم قال: ((ولا يُعرف للإمام أحمد كلامٌ في ليلة نصف شعبان، ويُخرَّج في استحباب قيامها عنه روايتان، من الروايات عنه في

قيام ليلة العيد؛ فإنه في رواية لم يستحبّ قيامها جماعةً؛ لأنه لم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، واستحبّها في رواية؛ لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف من شعبان، لم يثبت فيها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام)) (¬1). قال الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف؛ لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجزْ للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفرداً أو جماعةً، وسواءً أسرّه أو أعلنه، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬2)، وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها)) (¬3). فمما تقدم من كلام الإمام ابن وضاح، والإمام الطرطوشي، والإمام عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، والحافظ ابن رجب رحمهم الله، وإمام هذا الزمان عبد العزيز ابن باز رحمه الله، يتضح أن تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة أو غيرها من العبادة غير المشروعة بدعة لا أصل لها من كتاب، ولا سنة، ولا عملها أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) لطائف المعارف، لابن رجب، ص263. (¬2) مسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬3) التحذير من البدع، ص26.

خامسا: التبرك:

خامساً: التبرّك: التّبرُّك: هو طلب البركة، والتبرّك بالشيء: طلب البركة بواسطته (¬1). ولا شك أن الخير والبركة بيد الله - عز وجل -، وقد اختص الله - عز وجل - بعض خلقه بما شاء من الفضل والبركة، وأصل البركة: الثبوت واللزوم، وتطلق على النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء، يقال: برَّك عليه: أي دعا له بالبركة، ويقال: بارك الله الشيءَ، وبارك فيه، أو بارك عليه: أي وضع فيه البركة، وتبارك لا يوصف به إلا الله تبارك وتعالى، فلا يُقال: تبارك فلان؛ لأن المعنى عَظُمَ وهذه صفة لا تنبغي إلا الله - عز وجل -، واليُمْنُ: هو البركة: فالبركة واليُمن لفظان مترادفان، وقد ظهر من معاني ألفاظ القرآن الكريم أن المقصود بالبركة عدة أمور، منها: 1 - ثبوت الخير ودوامه. 2 - كثرة الخير وزيادته، واستمراره شيئاً بعد شيء. 3 - وتبارك لا يوصف بها إلا الله، ولا تسند إلا إليه، وذكر ابن القيم رحمه الله أن تباركه - سبحانه وتعالى -: دوام جوده، وكثرة خيره، ومجده وعلوِّه، وعظمته وتقدّسه، ومجيء الخيرات كلها من عنده، وتبريكه على من شاء من خلقه، وهذا هو المعهود من ألفاظ القرآن أنها تكون دالة على جملة معان (¬2). والأمور المباركة أنواع، منها: 1 - القرآن الكريم مبارك: أي كثير البركات والخيرات؛ لأن فيه خير ¬

_ (¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الباء مع الراء، مادة ((برك))، 1/ 120، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص30. (¬2) انظر: جلاء الأفهام ص180، وتيسير الكريم الرحمن في تفسيره كلام المنان، للسعدي، 3/ 39.

2 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان:

الدنيا والآخرة، وطلب البركة من القرآن يكون بتلاوته حق تلاوته، والعمل بما فيه على الوجه الذي يرضي الله - عز وجل -. 2 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان: (أ) بركة معنوية: وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة؛ لأن الله أرسله رحمة للعالمين، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور, وأحلّ لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، وختم به الرسل، ودينه يحمل اليسر والسماحة. (ب) بركة حسّيّة، وهي على نوعين: النوع الأول: بركة في أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالّة على صدقه. النوع الثاني: بركة في ذاته، وآثاره الحسية: وهي ما جعل الله له - صلى الله عليه وسلم - من البركة في ذاته؛ ولهذا تبرّك به الصحابة في حياته، وبما بقي له من آثار جسده بعد وفاته (¬1). والتبرّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته لا يقاس عليه أحد من خلق الله - عز وجل -؛ لما جعل الله فيه من البركة، ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جعل الله فيهم البركة، وكذا الملائكة، والصالحين، ولكن لا يُتبرَّك بهم لعدم الدليل؛ وكذلك بعض الأماكن مباركة: كالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ثم سائر المساجد، وقد ¬

_ (¬1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص21 - 96.

والتبرك المشروع يكون بأمور، منها ما يأتي:

جعل الله في بعض الأزمنة بركة: كرمضان، وليلة القدر، وعشر ذي الحجة، والأشهر الحرم، ويوم الإثنين والخميس، والجمعة، ووقت النزول الإلهي في الثلث الآخر من الليل، وغير ذلك من الأزمنة المباركة، التي لا يتبرّك بها المسلم، وإنما يطلب البركة من الله - عز وجل - بقيامه بالأعمال الصالحة المشروعة فيها (¬1). 3 - هناك أشياء مباركة: كماء زمزم، وكالمطر؛ لأن من بركاته: شرب الناس منه والأنعام والدوابّ، وإنبات الثمار والأشجار، وشجرة الزيتون مباركة، واللبن مبارك، والخيل مباركة، والغنم مباركة، والنخيل مباركة (¬2). والتبرّك المشروع يكون بأمور، منها ما يأتي: 1 - التبرّك بذكر الله، وتلاوة القرآن الكريم، ويكون ذلك على الوجه المشروع، وهو طلب البركة من الله - عز وجل - بذكر القلب، واللسان، والعمل بالقرآن والسنة على الوجه المشروع؛ لأن من بركات ذلك اطمئنان القلب، وقوة القلب على الطاعة، والشفاء من الآفات، والسعادة في الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب، ونزول السكينة، وأن القرآن يكون شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، ولا يُتبرّك بالمصحف كوضعه في البيت أو في السيارة وإنما التبرّك يكون بالتلاوة، والعمل به (¬3). 2 - التبرّك المشروع بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبارك في ذاته، ¬

_ (¬1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص70 - 182. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص 183 - 197. (¬3) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص 201 - 241.

وما اتصل بذاته؛ ولهذا تبرك الصحابة - رضي الله عنهم - بذاته - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك، ما ثبت عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى مِنىً، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: ((خذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس))، وفي رواية: ((ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر)) (¬2)، فقال: ((احلق)) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال: ((اقسمه بين الناس)) (¬3). وكان الصحابة يتبركون بثياب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواضع أصابعه، وبماء وضوئه، وبفضل شربه، وهو كثير (¬4)، ويتبركون بالأشياء المنفصلة منه: كالشعر، والأشياء التي استعملها وبقيت بعده: كالثياب، والآنية، والنعل، وغير ذلك مما اتصل بجسده - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ولا يقاس عليه غيره - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتبرك بغيره من ¬

_ (¬1) البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، 4/ 200، برقم 3553. (¬2) أي: ناول الحلاق. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق، 2/ 947، برقم 1305. (¬4) انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 248 - 250. (¬5) انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 252 - 260.

3 - التبرك بشرب ماء زمزم؛

الصحابة - رضي الله عنهم - أو غيرهم، ولم ينقل أن الصحابة - رضي الله عنهم - فعلوا ذلك مع غيره لافي حياته ولا بعد مماته، ولم يفعلوه مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا مع الخلفاء الراشدين المهديين، ولا مع العشرة المشهود لهم بالجنة، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ((الصحابة - رضي الله عنهم - بعد موته عليه الصلاة والسلام، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر - رضي الله عنه -، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريقٍ صحيح معروف أن متبرّكاً تبرّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها)) (¬1)، ولا شكَّ أنَّ الانتفاع بعلم العلماء، والاستماع إلى وعظهم، ودعائهم، والحصول على فضل مجالس الذكر معهم فيها من الخير والبركة والنفع الشيء العظيم، ولكن لا يُتبرّك بذواتهم، وإنما يُعمل بعلمهم الصحيح، ويُقتدى بأهل السنة منهم (¬2). 3 - التبرّك بشرب ماء زمزم؛ لأنه أفضل مياه الأرض، ويُشبع من شربه، ويكفيه عن الطعام، ويُستشفى بشربه مع النية الصالحة من الأسقام؛ لأنه لما شرب له؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماء زمزم: ((إنها مباركة، إنها طعام طعم [وشفاء سقيم])) (¬3)، وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((ماء زمزم لما ¬

_ (¬1) الاعتصام للشاطبي،2/ 8، 9،ونظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص261 - 269. (¬2) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 269 - 278. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر - رضي الله عنه -، 4/ 1922، برقم 2473، وما بين المعقوفين عند البزار، والبيهقي، والطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((رجاله ثقات))، 3/ 286.

4 - التبرك بماء المطر،

شرب له)) (¬1)، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب، فكان يصبّ على المرضى ويسقيهم)) (¬2). 4 - التبرّك بماء المطر، لا شك أن المطر مبارك لما جعل الله فيه من البركة: من شرب الناس منه، والأنعام، والدوابّ، وإنبات الأشجار، والثمار، وأحيى به الله كل شيء، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر. قال: فحسر (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديثُ عهدٍ بربه)) (¬4)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((ومعنى حديث عهد بربه: أي بتكوين ربه إياه، ومعناه أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها، فيُتبرّك بها)) (¬5). والتبرّك الممنوع منه ما يأتي: 1 - التبرّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ممنوع إلا في أمرين: الأمر الأول: الإيمان به، وطاعته واتباعه، فمن فعل ذلك حصل له ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم، 2/ 1018، برقم 3062، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 183، وإرواء الغليل، 4/ 320. (¬2) الترمذي بنحوه، عن عائشة رضي الله عنها، كتاب الحج، بابٌ: حدثنا أبو كريب، 3/ 286، برقم 963، والبيهقي، 5/ 202، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 284، والأحاديث الصحيحة، 2/ 572. (¬3) أي: كشف بعض بدنه. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 448. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، 2/ 615، برقم 898. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 448.

الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه - صلى الله عليه وسلم -: كثيابه، أو شعره، أو آنيته

الخير الكثير، والأجر العظيم، والسعادة في الدنيا والآخرة. الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه - صلى الله عليه وسلم -: كثيابه، أو شعره، أو آنيته، وقد تقدّم بيان ذلك. وما عدا ذلك من التبرك فلا يُشرع، فلا يُتبرّك بقبره، ولا تشد الرحال لزيارة قبره، وإنما تُشدّ الرحال لزيارة أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، وإنما تُستحب الزيارة لقبره لمن كان في المدينة، أو زار المسجد ثم زار قبره، وصفة الزيارة: إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد، ثم يذهب إلى القبر ويقف بأدبٍ مستقبلاً الحجرة، فيقول بأدب وخفض صوت: ((السلام عليك يا رسول الله))، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يزيد على ذلك، وإن زاد ((السلام عليك يارسول الله، يا خيرة الله من خلقه، أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك قد بلَّغت الرسالة، وأدّيت الأمانة، وجاهدت في الله حق جهاده، ونصحت الأمة))، فلا بأس بذلك لأن ذلك من صفاته (¬1)، ولا يدعو عند القبر؛ لظنه أن الدعاء عنده مُستجاب، ولا يطلب منه الشفاعة، ولا يتمسح بالقبر، ولا يقبّله، ولا شيء من جدرانه، ولا يتبرّك بالمواضع التي جلس فيها أو صلى فيها، ولا بالطرق التي سار عليها، ولا بالمكان الذي أنزل عليه فيه الوحي، ولا بمكان ولادته، ولا بليلة مولده، ولا بالليلة التي أُسري به فيها، ولا بذكرى الهجرة، ولا غير ذلك مما لم يشرعه الله، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة، 5/ 289. (¬2) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 315 - 380.

2 - من التبرك الممنوع: التبرك بالصالحين

2 - من التبرك الممنوع: التبرك بالصالحين، فلا يُتبرّك بذواتهم، ولا آثارهم، ولا مواضع عباداتهم، ولا مكان إقامتهم، ولا بقبورهم، ولا تُشدّ الرحال إلى زيارتها، ولا يُصلّى عندها، ولا تُطلب الحوائج عند قبورهم، ولا يُتمسح بها، ولا يُعكف عندها، ولا يُتبرّك بمواليدهم، وغير ذلك ومن فعل شيئاً من ذلك تقرباً إليهم فقد أشرك بالله شركاً أكبر، إذا اعتقد أنهم يضرون أو ينفعون، أو يعطون أو يمنعون، أما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بهم فقد ابتدع بدعة نكراء، وعمل عملاً قبيحاً (¬1). 3 - من التبرك الممنوع: التبرك بالجبال والمواضع؛ لأن ذلك يخالف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتبرك بذلك يسبب تعظيم هذه الجبال والمواضع، ولا يجوز القياس على تقبيل الحجر الأسود، أو الطواف بالبيت؛ فإن ذلك عبادة لله - عز وجل - توقيفية، ولا يمسح غير الحجر الأسود والركن اليماني من الكعبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين باتفاق العلماء (¬2)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ليس عل وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني)) (¬3). وقال رحمه الله عند كلامه على خصائص مكة: ((ليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص 381 - 418. (¬2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 2/ 799. (¬3) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 48. (¬4) زاد المعاد، 1/ 48.

وأسباب التبرك الممنوع: الجهل بالدين، والغلو في الصالحين، والتشبه بالكفار

وقال شيخ الإسلام في حكم الطواف بغير الكعبة: ((وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه ديناً يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل)) (¬1). ولا يجوز التمسّح، ولا تقبيل مقام إبراهيم، ولا الحجر، ولا شيئاً من جدران المسجد، ولا يُتبرّك بجبل حراء، ويُسمَّى جبل النور، ولا تشرع زيارته، ولا الصعود إليه، ولا قصده للصلاة، ولا يُتبرّك بجبل ثور، ولا تُشرع زيارته، ولا جبل عرفات، ولا جبل أبي قبيس، ولا جبل ثبير، ولا يُتبرّك بالدور: كدار الأرقم ولا غيرها، ولا تشرع زيارة جبل الطور، ولا تُشدّ الرحال إليه، ولا يُتبرّك بالأشجار والأحجار ونحوها (¬2). وأسباب التبرك الممنوع: الجهل بالدين، والغلو في الصالحين، والتشبه بالكفار، وتعظيم الآثار المكانية (¬3). وآثار التبرك الممنوع كثيرة منها: الشرك الأكبر، وهو أعظم الآثار، وأشدها خطراً، إذا كان التبرّك في حد ذاته شركاً، وإذا كان التبرّك يؤدّي إلى الشرك فيكون من وسائل الشرك الأكبر. ومن آثار التبرّك الممنوع الابتداع في الدين، واقتراف المعاصي، والوقوع في أنواع الكذب، وتحريف النصوص، وتحميلها ما لا تحمل، وإضاعة السنن، والتغرير بالجهال، وإضاعة الأجيال، كل هذه الأمور من آثار التبرك المحرم المذموم. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 26/ 121. (¬2) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص419 - 464. (¬3) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 420 - 481.

أما وسائل مقاومة التبرك الممنوع، فمنها: نشر العلم، والدعوة إلى منهج الحق،

أما وسائل مقاومة التبرك الممنوع، فمنها: نشر العلم، والدعوة إلى منهج الحق، وإزالة وسائل الغلو ومظاهر التبرك، وتحطيم كل وسيلة من هذه الوسائل (¬1). قال العلامة السعدي رحمه الله في تعليقه على كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجرة أو حجرة أو نحوهما: ((أي فإن ذلك من الشرك، ومن أعمال المشركين؛ فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يشرع التبرك بشيء من الأشجار، والأحجار، والبقع، والمشاهد وغيرها؛ فإن هذا التبرك غلوٌّ فيها، وذلك يتدرّج به إلى دعائها وعبادتها وهذا هو الشرك الأكبر كما تقدم انطباق الحديث عليه، وهذا عام في كل شيء حتى مقام إبراهيم، وحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصخرة بيت المقدس، وغيرها من البقع الفاضلة. وأما استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني من الكعبة المشرّفة، فهذا عبودية لله، وتعظيم لله، وخضوع لعظمته، فهو روح التّعبُّد. فهذا تعظيم للخالق وتَعبُّدٌ له، وذلك تعظيم للمخلوق، وتألُّه له. والفرق بين الأمرين كالفرق بين الدعاء لله الذي هو إخلاصٌ وتوحيدٌ، والدعاء للمخلوق الذي هو شرك وتنديد)) (¬2). سادساً: بدع منكرة مختلفة، كثيرة جداً: منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص 483 - 506، واقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، ص 795 - 802، وكتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص 93. (¬2) القول السديد في مقاصد التوحيد، ص51.

1 - الجهر بالنية:

1 - الجهر بالنيّة: كأن يقول المسلم: نويت أن أصلي لله كذا وكذا، أو نويت أن أصوم هذا اليوم فرضاً، أو نفلاً لله تعالى، أو يقول نويت أن أتوضأ، أو نويت أن أغتسل، أو نحو ذلك، وهذا التلفّظ بالنيّة بدعة؛ لأن ذلك ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن الله - عز وجل - يقول: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ وَالله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1)، والنية محلّها القلب، فهي عمل قلبي لا عمل لساني، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((النية هي: قصد القلب ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات)) (¬2). 2 - الذكر الجماعي بعد الصلوات؛ والمشروع أن يقول كل واحد الذكر الوارد منفرداً، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله - عز وجل - أدبار الصلوات، وكما عمله الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنهم المطبّقون لسنته عليه الصلاة والسلام، فلا شك أن الذكر الجماعي بدعة مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - طلب قراءة الفاتحة على أرواح الأموات، أو تقرأ على الأموات، أو قراءتها بعد الدعاء للأموات، أو عند خطبة النكاح، كل ذلك من البدع المنكرة التي لم ترد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعلها الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم أعلم الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعُلم بذلك أن هذا الفعل بدعة مُحدثة مُنكرة. 4 - إقامة المآتم على الأموات، وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين لقراءة القرآن، يزعمون أن ذلك من باب العزاء، وأنه ينفع الميت، وكل ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 16. (¬2) جامع العلوم والحكم، 1/ 92.

5 - الأذكار الصوفية بأنواعها التي تخالف هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -،

ذلك من البدع، والأغلال التي ما أنزل الله بها من سلطان. 5 - الأذكار الصوفية بأنواعها التي تخالف هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، سواء كانت المخالفة في الصيغة، أو الهيئة، أو الوقت، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬1). 6 - البناء على القبور: واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، ودفن الأموات فيها، والصلاة إلى القبور، وزيارتها لأجل التبرّك بها، والتوسّل بأصحابها، أو غيرهم من الموتى، والتبرك بالصلاة عند قبورهم، أو الدعاء عندها، وزيارة النساء للقبور، واتّخاذ السّرُج عليها، كلّ ذلك من البدع المنكرة القبيحة (¬2). * المسلك التاسع: توبة المبتدع: لاشك أن البدعة أخطر من المعاصي؛ فإن المعاصي إذا اجتمعت على الإنسان، وأصرّ عليها أهلكته، والبدعة أشدّ إهلاكاً من المعاصي، كما قال سفيان الثوري رحمه الله: ((البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها)) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، وبأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب، ¬

_ (¬1) مسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص94. (¬3) شرح السنة، للبغوي، 1/ 216.

أو استحباب؛ ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً، وهو سيئ في نفس الأمر؛ فإنه لا يتوب)) (¬1)، ثم قال: ((ولكن التوبة ممكنة وواقعة بأن يهديه الله، ويرشده حتى يتبيّن له الحقّ، كما هدى - سبحانه وتعالى - من هدى من الكفار والمنافقين، وطوائف أهل البدع والضلال)) (¬2)، وقال رحمه الله: ((ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقاً فقد غلط غلطاً منكراً)) (¬3)، فقد فسّر شيخ الإسلام حديث حجب التوبة عن صاحب البدعة بكلامه هذا تفسيراً واضحاً ولله الحمد، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة)) (¬4)، وقد وضح المعنى لهذا الحديث في كلام ابن تيمية رحمه الله آنفاً، ولا شك أن النصوص يُفسّر بعضها بعضاً، والله - عز وجل - بيّن لعباده أنه يقبل توبة التائبين إذا أقلعوا عن جرائمهم، وندموا وعزموا على أن لا يعودوا، وردّوا الحقوق إلى أهلها إن وجدت، فقال سبحانه بعد أن ذكر المشركين، والقتلة، والزناة، وتوعّدهم بالإهانة: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/ 9. (¬2) المرجع السابق، 10/ 9 - 10. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11/ 685. (¬4) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، 8/ 62، برقم 4713 [مجمع البحرين في زوائد المعجمين. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة))، 10/ 189، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 154، برقم 1620، وذكر طرقه الأخرى. (¬5) سورة الفرقان، الآية: 70.

* المسلك العاشر: آثار البدع وأضرارها:

وقال - عز وجل -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬1). وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬3). وهذه التوبة تعمُّ من تاب من الملحدين، والكافرين، والمشركين، والمبتدعين، وغيرهم ممن تاب من أهل المعاصي، إذا اكتملت شروط التوبة، ولله الحمد. * المسلك العاشر: آثار البدع وأضرارها: البدع لها آثار خطيرة، وعواقب وخيمة، وأضرار مهلكة، منها ما يأتي: 1 - البدع بريد الكفر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ)) فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتتبعُنَّ سنن من كان ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 82. (¬2) سورة الزمر، الآية: 53. (¬3) سورة النساء، الآية: 110. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، 8/ 191، برقم 7319.

2 - القول على الله بغير علم؛

قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) (¬1). 2 - القول على الله بغير علم؛ لأن الناظر في سير المبتدعة يجدهم أكثر الناس كذباً على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حذر الله تعالى عن التّقوُّل عليه فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (¬2). وحذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكذب عليه، وتوعّد من فعل ذلك بالعذاب الشديد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعمَّد علي كذباً فليتبوَّأْ مقعده من النار)) (¬3). 3 - بُغض المبتدعة للسنة وأهلها، وهذا مما يدل على خطورة البدع، قال الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله: ((وعلامات أهل البدع ظاهرة على أهلها بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدّة معاداتهم لحَمَلَةِ أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتقارهم لهم)) (¬4). 4 - رد عمل المبتدع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))،وفي رواية للمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، 8/ 191، برقم 7320، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054، برقم 2669. (¬2) سورة الحاقة، الآيات: 44 - 46. (¬3) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 41، برقم 108، ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 7، برقم 2. (¬4) عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، ص299. (¬5) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، 1/ 9، برقم 1، ومسلم، 2/ 1515، برقم: 1907، وتقدم تخريجه.

5 - سوء عاقبة المبتدع؛

5 - سوء عاقبة المبتدع؛ لأن الشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من عدة عقبات: العقبة الأولى: الشرك بالله تعالى، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه الشيطان على عقبة البدعة، وهذا يؤكّد أن البدع أخطر من المعاصي (¬1)؛ ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: ((البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها)) (¬2)، وهذا في الغالب، والله - عز وجل - يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. 6 - انعكاس فهم المبتدع، فيرى الحسنة سيئة، والسيئة حسنة، والسنة بدعة، والبدعة سنة، فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: ((والله لتفشُوَنَّ البدع، حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة)) (¬3). 7 - عدم قبول شهادة المبتدع وروايته، فقد أجمع أهل العلم من المحدِّثين والفقهاء وأصحاب الأصول على أن المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته، وأما الذي لا يكفر ببدعته فاختلفوا في قبول روايته، ورجح الإمام النووي رحمه الله أن روايته تقبل إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية (¬4). 8 - المبتدعة أكثر من يقع في الفتن، وقد حذّر الله - عز وجل - من الفتن فقال: ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 222. (¬2) شرح السنة، للبغوي، 1/ 216. (¬3) أخرجه الإمام محمد بن وضاح، في كتاب فيه ما جاء في البدع، ص124، برقم 162، وانظر: آثاراً في ذلك لابن وضاح في كتابه هذا، ص124 - 156. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 1/ 176.

9 - المبتدع استدرك على الشريعة؛

{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2)، فهل هناك فتنة أخطر من مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعصيان أمره؟. وقد حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن فقال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (¬3). 9 - المبتدع استدرك على الشريعة؛ لأنه ببدعته نصب نفسه مشرّعاً مكمِّلاً للدين، والله - عز وجل - قد أكمل الدين، وأتمَّ النعمة، قال - سبحانه وتعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬4)، وبيَّن - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم كل شيء، قال - عز وجل -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬5). 10 - المبتدع يلتبس عليه الحقّ بالباطل؛ لأن العلم نور يهدي الله به من يشاء من عباده، والمبتدع حُرِمَ التقوى التي يُوفَّقُ صاحبها لإصابة الحق، قال الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ¬

_ (¬1) سورةالأنفال، الآية: 25. (¬2) سورة النور، الآية: 63. (¬3) أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، 1/ 110، برقم 118. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3. (¬5) سورة النحل، الآية: 89.

11 - المبتدع يحمل إثمه، وإثم من تبعه

وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬1). 11 - المبتدع يحمل إثمه، وإثم من تبعه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬2). 12 - البدعة تُدخِل صاحبها في اللعنة، ففي الحديث الذي رواه أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيمن أحدث في المدينة: ((من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدِثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) (¬3)، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ((وهذا الحديث في سياق العموم، فيشمل كل حدث أُحدث فيها مما يُنافي الشرع، والبدع من أقبح الحدث)) (¬4). 13 - المبتدع يحال بينه وبين الشرب من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم القيامة، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أنا فرطكم على الحوض، من وَرَد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم)) (¬5)، وفي لفظ فأقول: ((إنهم مني)) فيقال: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬2) مسلم، 4/ 2060، برقم 2674، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام، باب إثم من آوى محدثاً، 8/ 187، برقم 7306، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة، 2/ 994، برقم 1366. (¬4) الاعتصام، 1/ 96. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 264، برقم 6583، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 4/ 1793، برقم 2290.

14 - المبتدع معرض عن ذكر الله

إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: ((سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي)) (¬1)، وعن شقيق عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا ربّ أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (¬2). وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ من دوني فأقول: يا ربِّ مني ومن أمتي فيقال: هل شَعَرْت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم))، فكان ابن أبي مليكة يقول: ((اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو أن نُفتن في ديننا)) (¬3). 14 - المبتدع مُعْرِضٌ عن ذكر الله؛ لأن الله - عز وجل - شرع لنا أذكاراً ودعوات في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمنها ما هو مقيّد: كأذكار أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ منه، ومنها ما هو مُطلق لم يحدَّد بزمان ولا مكان، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (¬4)، فالمبتدعة معرضون عن هذه الأذكار: إما بانشغالهم ببدعهم وافتتانهم ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 264، برقم 6583. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقائق، باب في حوض - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 262، برقم 6575، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، 4/ 1796، برقم 2297. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقائق، باب في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 266، برقم 6593، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 4/ 1794، برقم 2293. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 41 - 42.

15 - المبتدعة يكتمون الحق، ويخفونه على أتباعهم

بها، وإما باستبدال الأذكار المشروعة بأذكار بدعية، استغنوا بها عما شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرضوا بها عن ذكر الله تعالى (¬1). 15 - المبتدعة يكتمون الحقّ، ويُخفونه على أتباعهم، وقد توعّد الله هؤلاء وأمثالهم باللعنة، قال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬2). 16 - عمل المبتدع يُنَفِّر عن الإسلام، فإذا عمل بخرافات بدعته سَبَّبَ ذلك سخرية أعداء الإسلام بالدين الإسلامي، وهو من هذه البدع بريء (¬3). 17 - المبتدع يفرّق الأمة؛ فإنه ببدعته يفرّق هو وأتباعه المسلمين، فيوجد بسبب ذلك أحزاباً وشيعاً متفرّقة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (¬4). 18 - المبتدع المجاهر ببدعته تجوز غيبته؛ لتحذير الأمة من بدعته، ولاشك أن من أظهر بدعته فهو أشدّ خطراً ممن أظهر فسقه، والغيبة ¬

_ (¬1) انظر: تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ص189 (¬2) سورة البقرة، الآية: 159. (¬3) انظر: تنبيه أولي الأبصار، للدكتور صالح السحيمي، ص195. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 159.

19 - المبتدع متبع لهواه معاند للشرع، ومشاق له

محرّمة بالكتاب والسنة، ولكن تُباح بغرض شرعي لستة أسباب (¬1): التظلّم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، وتحذير المسلمين من الشرّ، وإذا جاهر بفسقه، وبدعته، والتعريف (¬2)، وقد جمع بعضهم هذه الأمور الستة في قوله: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ ... متظلِّمٍ ومعرِّفٍ ومحذِّرٍ ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر (¬3) 19 - المبتدع متبع لهواه معاند للشرع، ومشاقّ له (¬4). 20 - المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الله وضع الشرائع، وألزم المكلفين بالجري على سننها (¬5). والله أسأل لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 142، وانظر: تنبيه أولي الأبصار، للدكتور السحيمي، ص 153 - 198. (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 10/ 471، 7/ 86. (¬3) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، مقدمة الألباني، ص43. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 61. (¬5) انظر: المرجع السابق، 1/ 61 - 70.

المبحث السابع: نور التقوى وظلمات المعاصي

المبحث السابع: نور التقوى وظلمات المعاصي المطلب الأول: نور التقوى وثمراتها * المسلك الأول: مفهوم التقوى: التقوى لغة: الحذر، يقال: اتقيت الشيء، وتَقَيْتُهُ أتقيه تُقَى، وتِقيَّةً، وتِقاءً: حذرتُه. وقوله - عز وجل -: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (¬1)، أي هو أهلٌ أن يُتّقى عقابه، وأهل أن يُعمل بما يُؤدّي إلى مغفرته (¬2). وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه: من غضبه وسخطه، وعقابه وقايةً من ذلك. وهو فعل طاعته واجتناب معصيته (¬3)، فظهر من ذلك أن حقيقة التقوى كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: ((التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله)) (¬4). ويدخل في التقوى الكاملة: فعل الواجبات، وترك المحرّمات، والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات، وترك المكروهات، وهو أعلى درجات التقوى (¬5)، وقد عرّف التقوى الكاملة ¬

_ (¬1) سورة المدثر، الآية: 56. (¬2) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الياء، فصل الواو، مادة ((وقي))، 15/ 402، والقاموس المحيط، باب الياء، فصل الواو، مادة ((وقى))، ص1731. (¬3) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 398، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير، 2/ 181. (¬4) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 400. (¬5) المرجع السابق، 1/ 399.

الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في تفسيره لقول الله - عز وجل -: {اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬1)، فقال: ((أن يُطاع فلا يُعصَى، ويُذكر فلا يُنسَى، وأن يُشكر فلا يُكفر)) (¬2)، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات، ومعنى ذكره فلا يُنسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته، وسكناته، وكلماته: فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها)) (¬3). وذكر الإمام القرطبي رحمه الله: ((أن قول الله - عز وجل -: {اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ} بَيَّنه قوله تعالى: {فاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)، وأن المعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وبيّن أن هذا أصوب من القول بالنسخ؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى)) (¬5). وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرّمات، كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - وسُئل عن التقوى؟ فقال: ((هل أخذت طريقاً ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوكَ عدلتُ عنه، أو جاوزتُه، أو قصرتُ عنه، قال: ذاك التقوى، وأخذ هذا المعنى ابن المعتز، فقال: خلِّ الذنوب صغيرَها ... وكبيرَها فهو التقى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير، 9/ 92، برقم 8502، والحاكم في المستدرك، 2/ 294، وابن جرير في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/ 65، وذكر طرقاً كثيرة من رقم 7536 إلى رقم 7551. (¬3) جامع العلوم والحكم، 1/ 401. (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 4/ 166.

* المسلك الثاني: أهمية التقوى:

واصنع كماشٍ فوق ... أرض الشوك يحذر ما يَرَى لا تحقرنَّ صغيرة ... إن الجبالَ من الحصى (¬1) * المسلك الثاني: أهمية التقوى: التقوى من أهم أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؛ لأمور، منها: أولاً: أن الله - عز وجل - أوصى الأوّلين والآخرين بالتقوى فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله} (¬2)، فهذه وصية عظيمة للأولين والآخرين بالتقوى المتضمِّنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب، والمعاقبة لمن ضيَّعها وأهملها بأليم العقاب، ولهذا قال: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا}. قال العلامة السعدي رحمه الله: (({وَإِن تَكْفُرُواْ} بأن تتركوا تقوى الله وتشركوا بالله ما لم يُنزِّل به سلطاناً فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئاً، ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له، خاضعون لأمره؛ ولهذا رتّب على ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا} له الجود الكامل، والإحسان الشامل، الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق، ولا يغيضها نفقةـ سحّاء الليل والنهار)) (¬3). ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 402. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص171.

ثانيا: أمر الله - عز وجل - بالتقوى، وأوجب العمل بها على عباده في آيات كثيرة، منها:

والحميد من أسماء الله تعالى الحسنى الدال على أنه المستحق لكل حمد ومحبة، وثناء وإعظام، وذلك لما اتّصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال؛ ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال، وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين ((الغني الحميد))؛ فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وكمال من حمده، وكمال من اقترن أحدهما بالآخر)) (¬1). ثانياً: أمر الله - عز وجل - بالتقوى، وأوجب العمل بها على عباده في آيات كثيرة، منها: 1 - قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (¬2). 2 - وقال - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (¬3). 3 - وقال - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). 4 - قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص171. (¬2) سورة البقرة، الآية: 281. (¬3) سورة البقرة، الآية: 48، وانظر: الآية: 123. (¬4) سورة البقرة، الآية: 231. (¬5) سورة النساء، الآية: 1.

ثالثا: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى، وحث عليها في أحاديث كثيرة، منها:

5 - وقال - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬6)، والآيات في الأمر بالتقوى كثيرة جداً (¬7). ثالثاً: أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى، وحث عليها في أحاديث كثيرة، منها: 1 - عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع فقال: ((اتقوا الله ربكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالِكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) (¬8). 2 - أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بالتقوى، ووصيّته لرجل واحد وصيّة للأمة فقال: ((اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيّئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (¬9)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقِ الله حيثما كنت))، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((مراده في السر والعلانية، حيث يراه الناس وحيث لا يرونه)) (¬10)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله - عز وجل - خشيته في السر والعلانية فيقول في دعائه: (( ... أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) (¬1)، ¬

_ (¬6) سورة الحشر، الآية: 18. (¬7) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص759 - 760، فقد ذكر الأمر بالتقوى في تسعةٍ وسبعين موضعاً في القرآن الكريم. (¬8) الترمذي، كتاب الصلاة، بابٌ منه: 1/ 2، برقم 616، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 190، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 867. (¬9) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس،4/ 355،برقم 1987،وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))،وأحمد في المسند،5/ 153،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي،1/ 54. (¬10) جامع العلوم والحكم، 1/ 407. (¬1) النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر: نوع آخر، 3/ 54، برقم 1305، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 280، وهو حديث طويل.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((وخشية الله في الغيب والشهادة: هي من المنجيات)) (¬2)، وقال: ((وكان الإمام أحمد ينشد: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوتُ ولكن قُل عليَّ رقيبُ ولا تحسبنّ الله يغفُُلُ ساعةً ... ولا أن ما يُخفى عليه يغيبُ (¬3) وقال ابنُ السَّمَّاك رحمه الله (¬4) ينشد: يا مُدمِن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوةِ ثانيكا غرَّك من ربك إمهالُهُ ... وسَتْرُهُ طُولَ مساويكا (¬5) وقال أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني رحمه الله في نونيته: وإذا ما خلوت بريبة في ظُلمةٍ ... والنفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيان فاستحي من نَظَرِ الإله وقُل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني (¬6) وقال آخر: يا من يرى مدَّ البعوض جناحه ... في ظلمة الليل البهيم الأليَل ¬

_ (¬2) جامع العلوم والحكم، 1/ 407. (¬3) المرجع السابق، 1/ 409. (¬4) هو الزاهد القدوة سيد الوعاظ، أبو العباس محمد بن صبيح العجلي ابن السماك، المتوفى سنة 193هـ‍، انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/ 328 - 330. (¬5) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 410. (¬6) نونية القحطاني، ص25.

رابعا: أكثر ما يدخل الجنة التقوى

ويرى نياط عروقها في نحرها ... والمخ يجري في تلك العظام النُّحَل امنن عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ... ما كان مني في الزمانِ الأول 3 - وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسّمع والطاعة ... )) (¬1). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة)) (¬2). 4 - وعن بريدة - رضي الله عنه - أنه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّرَ أميراً على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصّتِهِ بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ... )) (¬3). 5 - لأَهمِّية التقوى دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه فسأله التُّقَى، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى)) (¬4). رابعاً: أكثر ما يُدخل الجنةَ التقوى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، 4/ 201، برقم 4607، والترمذي، 5/ 44، برقم 2676، وأحمد في المسند، 4/ 46، وابن ماجه، 1/ 15، برقم 43، 44. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 116. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، 3/ 1356، برقم 1731. (¬4) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما علم ومن شر ما لم يعلم، 4/ 2087، برقم 2721.

خامسا: التقوى أهم من اللباس الحسي الذي لا غنى للإنسان عنه

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناسَ الجنةَ، فقال: ((تقوى الله، وحسن الخلق))،وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: ((الفم، والفرج)) (¬1). خامساً: التقوى أهم من اللباس الحسّي الذي لا غنى للإنسان عنه؛ لأن لباس التقوى لا يبلى ولا يبيد، ويستمرّ مع العبد، وهو جمال القلب والروح، وأما اللباس الظاهر فغايته أن يستر العورة الظاهرة، في وقت من الأوقات، أو يكون جمالاً للإنسان، وليس وراء ذلك منه نفع، وبتقدير عدم هذا اللباس تنكشف عورته الظاهرة التي لا يضرّه كشفها مع الضرورة، أما بتقدير عدم لباس التقوى، فإنه تنكشف عورته الباطنة، وينال الخزي والفضيحة (¬2)، قال الله - عز وجل -: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬3)، وهذا اللباس هو الذي لا يستغني عنه الإنسان طرفة عين، وبدونه لا قيمة له ولا كرامة ولا فلاح، ولقد أحسن القائل حين قال: إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تقلّب عرياناً ولو كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصياً سادساً: التقوى أهم من الطعام والشراب، قال الله - عز وجل -: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬4)، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، 4/ 363، برقم 2004، وقال: ((هذا حديث صحيح غريب))، وحسن الألباني إسناده، في صحيح سنن الترمذي، 2/ 194. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص248. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 26. (¬4) سورة البقرة، الآية: 197.

* المسلك الثالث: صفات المتقين

((إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر)) (¬1). وأمر الله - عز وجل - بالتزود في السفر؛ لأن في التزوّد الاستغناء عن المخلوقين، والكفّ عن أموالهم؛ ولأن التزود فيه نفع وإعانة للمسافرين، وهذا الزاد المراد منه: إقامة البنية: بلغةً ومتاعاً. ولما أمر الله بالزاد للسفر في الدنيا أمر بالزاد الحقيقي: زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، وهو الزاد المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زاد التقوى، الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل إلى أكمل لذّة، وأجلِّ نعيم، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين (¬2)، وقد أحسن القائل: تزوَّدْ من التقى فإنك لا تدري ... إذا جُنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من صحيح مات من غير علة ... وكم من عليل عاش حيناً من الدهر * المسلك الثالث: صفات المتقين: المتقون لهم صفات وأعمال نالوا بها السعادة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (¬3)، ففي ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير،1/ 227،وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص74. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص74. (¬3) سورة البقرة، الآيات: 1 - 4.

ثانيا: قال الله - عز وجل -: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}

هذه الآيات مجموعة مباركة من صفات المتقين، هي: الإيمان بالغيب. إقام الصلاة. الإنفاق الواجب والمستحب في جميع طرق الخير. الإيمان بالقرآن والكتب المنزلة السابقة. الإيقان والإيمان الكامل بالآخرة، واليقين هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك. ومن عمل بهذه الصفات كان على الهدى العظيم، وكان من المفلحين الفائزين في الدنيا والآخرة (¬1). ثانياً: قال الله - عز وجل -: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬2)، ففي هذه الآية العظيمة بيّن الله - عز وجل - كثيراً من أعمال المتقين، وصفاتهم الكريمة العظيمة، وهي: الإيمان بالله - عز وجل -. الإيمان باليوم الآخر. ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص24. (¬2) سورة البقرة، الآية: 177.

ثالثا: قال الله - عز وجل - بعد أن بين أن الشهوات زينت للناس: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم}

الإيمان بالملائكة. الإيمان بالكتب التي أنزل الله - عز وجل -. الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. إعطاء المال، للأقرباء، واليتامى، والمساكين، والمسافرين، والسائلين، وإعتاق الرقاب. إقام الصلاة. إيتاء الزكاة. الوفاء بالعهد. الصبر في الفقر، والمرض، ووقت قتال الأعداء. الصدق في الأقوال، والأفعال، والأحوال. فهؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال صدقوا في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدَّقت إيمانهم، وهم المفلحون؛ لأنهم تركوا المحظورات وفعلوا المأمورات؛ ولأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير: تضمناً ولزوماً؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ومن قام بهذه الأعمال كان لما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون، المتقون (¬1). ثالثاً: قال الله - عز وجل - بعد أن بيّن أن الشهوات زُيِّنت للناس: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص66.

رابعا: قال الله - عز وجل -: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات}:

وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (¬1)، وقد ظهرت أعمال مباركة، وصفات كريمة من صفات المتقين في هذه الآيات الثلاث، هي: التوسّل إلى الله - عز وجل - بالإيمان به. طلب المغفرة من الله - عز وجل -. طلبهم من الله - عز وجل - الوقاية من عذاب النار. الصبر على طاعة الله وعن محارم الله، وعلى أقدار الله المؤلمة. الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال. القنوت الذي هو دوام الطاعة مع الخشوع. الإنفاق في سبيل الخيرات على الفقراء وأهل الحاجات. الاستغفار خصوصاً وقت الأسحار؛ لأنهم مدّوا الصلاة إلى وقت السحر فجلسوا يستغفرون الله تعالى (¬2). فهؤلاء لهم أصناف الخيرات والنعيم المقيم، ولهم رضوان الله، الذي هو أكبر من كل شيء، ولهم الأزواج المطهّرة من كل آفة ونقص: جميلات الأخلاق، كاملات الخلائق (¬3). رابعاً: قال الله - عز وجل -: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآيات: 15 - 17. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص103. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، 6/ 259 - 267، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص103.

وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬1)، في هذه الآيات أعمال عظيمة وصفات كريمة لأهل التقوى، ذكرها الله بعد أن أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي أعدها للمتقين، وهذه الصفات على النحو الآتي: الإنفاق: في العسر واليسر، والشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض. كظم الغيظ وعدم إظهاره، والصبر على مقابلة المسيء إليهم، فلا ينتقمون منه. العفو عن كل من أساء إليهم بقول أو فعل. ذكر الله وما توعّد به العاصين، ووعد به المتقين فيسألوه المغفرة لذنوبهم. المبادرة للتوبة والاستغفار عند عمل السيئات الكبيرة والصغيرة. عدم الإصرار على الذنوب والاستمرار عليها، بل تابوا عن قريب. ثم بيّن الله - عز وجل - جزاءَهم على عمل هذه الصفات: مغفرة من ربهم وجنات فيها من النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬2). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآيات: 133 - 136. (¬2) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 384، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص116.

خامسا: قال الله - عز وجل -: {إن المتقين في جنات وعيون}

خامساً: قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1). في هذه الآيات أعمال عظيمة من أعمال المتقين، وصفات كريمة، هي: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. صلاة الليل الدالة على الإخلاص وتواطؤ القلب واللسان، فكان نومهم بالليل قليلاً. الاستغفار بالأسحار قبيل الفجر، فقد مدّوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل يستغفرون الله. الإنفاق على المحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يسألونهم. وهذه صفات المتقين الذين أدخلهم الله الجنات المشتملات على جميع أصناف الأشجار والفواكه، وعلى العيون السارحة تشرب منها تلك البساتين، ويشرب منها عباد الله المتقون (¬2). وهذه نماذج وأمثلة من صفات المتقين، وهي كثيرة في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 19. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص751.

* المسلك الرابع: ثمرات التقوى:

* المسلك الرابع: ثمرات التقوى: التقوى لها ثمرات يجنيها المتقي في الدنيا والآخرة، وعلى حسب العمل بصفات المتقين يكون السبق في الحصول على هذه الثمرات، ومن هذه الثمار على سبيل المثال لا الحصر، ما يأتي: أولاً: الانتفاع بالقرآن الكريم، والفوز بهداية الإرشاد، وهداية التوفيق، قال الله - عز وجل -: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (¬1). ثانياً: معيّة الله مع المتقين، قال الله - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2)،وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬3)، وهذه معيّة التوفيق والتسديد، والنصرة، والتأييد، والإعانة، والحماية، كما قال الله - عز وجل - حكاية عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوله لأبي بكر - رضي الله عنه -: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} (¬4)، وأمّا المعيّة العامّة فهي معيّة شاملة لكل شيء، بسمعه، وبصره، وعلمه، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬5). ثالثاً: المكانة العالية عند الله يوم القيامة، قال الله - عز وجل -: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 1 - 2. (¬2) سورة البقرة، الآية: 194. (¬3) سورة النحل، الآية: 128. (¬4) سورة التوبة، الآية: 40. (¬5) سورة الحديد، الآية: 4. (¬6) سورة البقرة، الآية: 212.

رابعا: التوفيق لنيل العلم النافع وتحصيله،

رابعاً: التوفيق لنيل العلم النافع وتحصيله، قال الله - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). خامساً: التقوى تثمر دخول الجنة وما فيها من أنواع النعيم، ومن ذلك، ما يأتي: 1 - الفوز بالجنة، قال الله - عز وجل -: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬2). 2 - ميراث الجنة، قال - عز وجل -: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} (¬3)، وقال سبحانه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (¬5). 3 - المتقون لهم نعم الدرجات، قال الله - عز وجل -: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (¬6). 4 - نيل ما تشتهيه الأنفس، قال الله - عز وجل -: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ} (¬7)، وقال ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 282. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 15. (¬3) سورة مريم، الآية: 63. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 133. (¬5) سورة النساء، الآية: 77. (¬6) سورة النحل، الآية: 30. (¬7) سورة النحل، الآية: 31.

- سبحانه وتعالى -: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). 5 - المتقون يحشرون وفداً، قال الله - عز وجل -: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (¬2)، ذكر الإمام الطبري رحمه الله بسنده عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنهم يحشرون على نُوقٍ من الإبل عليها رحائل الذهب، وأزمّتها الزبرجد، يركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (¬3). 6 - المتقون تقرّب لهم الجنة، قال الله - عز وجل -: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (¬5). 7 - المتقون لهم في الجنة غرف مبنية من فوقها غرف، يُرى ظاهِرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قال الله - عز وجل -: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله الْمِيعَادَ} (¬6)،وقال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬7). 8 - المتقون لا يمسّهم العذاب بل ينجّيهم الله بنجاتهم، قال الله - عز وجل -: ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 71. (¬2) سورة مريم، الآية: 85. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 254 - 255. (¬4) سورة الشعراء، الآية: 90. (¬5) سورة ق، الآية: 31. (¬6) سورة الزمر، الآية: 20. (¬7) سورة العنكبوت، الآية: 58.

{وَيُنَجِّي الله الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). 9 - المتقون يَسلمون من عذاب جهنم ويمرون على الصراط، قال الله - عز وجل -: {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (¬2). 10 - صحبة المتقين ومحبتهم دائمة في الدنيا والآخرة، وكل صحبة غيرها فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوة، قال الله - عز وجل -: {الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (¬3). 11 - المتقون لهم المقام الأمين، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). 12 - التقوى تثمر ورود أنهار الجنة والشرب منها، قال الله - عز وجل -: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 61. (¬2) سورة مريم، الآية: 71 - 72. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 67. (¬4) سورة الدخان، الآيات: 51 - 57.

سادسا: محبة الله للمتقين

حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬1). 13 - المتقون في مقعد صدق عند الله - عز وجل -، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬2). 14 - المتقون أثمرت لهم تقواهم السير تحت ظلال أشجار الجنة، والتنعم بما يشتهون، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬3)، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمّر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها)) (¬4). 15 - المتقون لهم حسن المرجع في الجنة، قال الله - عز وجل -: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (¬5). سادساً: محبة الله للمتقين، قال الله - عز وجل -: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬6)، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬7)، وقال النبي ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 15. (¬2) سورة القمر، الآيتان: 54 - 55. (¬3) سورة المرسلات، الآيات: 41 - 43. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 7/ 256، برقم 6553، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، 4/ 2175، برقم 2866. (¬5) سورة ص، الآيات: 49 - 54. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 76. (¬7) سورة التوبة، الآية: 4، والآية: 7.

سابعا: عدم الخوف من ضرر وكيد الأعداء،

- صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب العبدَ التَّقِيََّ، الغنيَّ، الخفيَّ)) (¬1)، وذكر الإمام القرطبي، والإمام النووي، رحمهما الله: أن المراد بالغني غني النفس، هذا هو المعنى المحبوب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)) (¬2)، وقيل: يعني به: من استغنى بالله، ورضي بما قسم الله له، والخفيّ: يعني به الخامل الذي لا يريد العلوَّ في الدنيا، ولا الظهور في مناصبها، وجاء في بعض الروايات: ((إن الله يحب العبد التقي، الغني، الحفيّ))، ومعنى: الحفي: أي العالم من قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} (¬3)، وقيل: الوصول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والساعي في حوائجهم (¬4)، وقال النووي: ((والصحيح بالمعجمة)) أي: الخفي (¬5). سابعاً: عدم الخوف من ضرر وكيد الأعداء، قال الله - عز وجل -: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬6). ثامناً: التقوى سبب لنزول المدد من السماء، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب،4/ 2277،برقم 2965،من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس، 7/ 228، برقم 6446، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، 2/ 726، برقم 1051. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 187. (¬4) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 120، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 314. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 314. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 120.

تاسعا: التقوى تثمر عدم العدوان، وعدم إيذاء عباد الله

* بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (¬1). تاسعاً: التقوى تثمر عدم العدوان، وعدم إيذاء عباد الله، قال الله - عز وجل -: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى - في قصة مريم: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} (¬3). عاشراً: قبول الأعمال الصالحة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬4). الحادي عشر: حصول الفلاح؛ لأن من اتقى الله أفلح كل الفلاح، ومن ترك تقواه حصل له الخسران، وفاتته الأرباح، قال الله - عز وجل -: {فَاتَّقُواْ الله يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5). الثاني عشر: التقوى تمنع صاحبها الزيغ والضلال بعد الهداية، قال الله - عز وجل -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬6)، وصراط الله الموصل إليه وإلى جنته ما بيّنه الله - عز وجل - في كتابه من الأحكام والشرائع، والأخلاق الكريمة، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآيات: 123 - 125. (¬2) سورة المائدة، الآية: 2. (¬3) سورة مريم، الآيتان: 17 - 18. (¬4) سورة المائدة، الآية: 27. (¬5) سورة المائدة، الآية: 100. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 153.

الثالث عشر: السلامة من الخوف والحزن، فمن اتقى ما حرم الله عليه

فمن اتبع صراط الله - عز وجل - بالقيام بالمأمورات والابتعاد عن المنهيات -اعتقاداً، وعلماً، وعملاً، وقولاًً-نال الفوز والفلاح، وكان من عباد الله المتقين، وسلم من الزيغ والضلال (¬1). الثالث عشر: السلامة من الخوف والحزن، فمن اتقى ما حرّم الله عليه: من الشرك، والكبائر، والصغائر، وأصلح أعماله الظاهرة والباطنة، فلا خوف عليه من الشر، ولا يحزن على ما مضى، فإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام، والسعادة والفلاح الأبدي (¬2)، قال الله - عز وجل -: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3). الرابع عشر: التقوى تثمر البركات من السماء والأرض، قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (¬4)، وقال - عز وجل - في أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (¬5). الخامس عشر: الحصول على رحمة الله - عز وجل -،قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (¬6)، وقال ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص243. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص250. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 35. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬5) سورة المائدة، الآية: 66. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 156.

السادس عشر: التقوى تثمر الفوز بولاية الله،

- عز وجل -: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1). السادس عشر: التقوى تثمر الفوز بولاية الله، قال الله - عز وجل -: {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالله وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬3). السابع عشر: التقوى تثمر توفيق صاحبها للتفريق بين الحق والباطل، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬4). فقد بيّن الله - عز وجل - أن من اتّقاه حصل له أربعة أمور عظيمة، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها: الأول: الفرقان، وهو العلم والهدى الذي يُفرِّق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام. والثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق، وعند الاجتماع: يفسر تكفير السيئات، بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل (¬5). وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 155. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 34. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 19. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬5) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص281.

الثامن عشر: التقوى تثمر حماية الإنسان من ضرر الشيطان

آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). الثامن عشر: التقوى تثمر حماية الإنسان من ضرر الشيطان، فيذكر صاحبها ما أوجب الله عليه، ويبصر ويستغفر، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (¬3). التاسع عشر: البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال الله - عز وجل -: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4)، أما البشرى في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرّؤيا الصالحة (¬5)، وما يراه العبد من لطف الله به، وتيسيره لأحسن الأعمال، والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 28. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 201. (¬4) سورة يونس، الآيات: 62 - 64. (¬5) انظر: صحيح مسلم، كتاب الرؤيا، 4/ 1774، برقم 2263، 2264. (¬6) مسلم، كتاب البر والصلة، باب إذا أُثنيَ على الصالح فهي بشرى ولا تضره،4/ 2034،برقم 2642.

العشرون: حفظ الأجر؛ فإنه من يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الطاعات

قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضا الله تعالى عنه، ومحبته له فَيُحَبِّبه إلى الخلق ... هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم)) (¬1). وأما البشارة في الآخرة فأولها البشارة عند قبض أرواحهم كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬2)، والبشارة في القبر برضى الله والنعيم المقيم، وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم (¬3). العشرون: حفظ الأجر؛ فإنه من يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الطاعات، وعن المحرمات، وعلى أقدار الله المؤلمة لا يضيع أجره، قال الله - عز وجل -: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬4). الحادي والعشرون: العاقبة الحميدة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين، قال الله - عز وجل -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬5)، وقال - عز وجل -: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬6)، ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 428. (¬2) سورة فصلت، الآية: 30. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص324،والطبعة القديمة،3/ 367. (¬4) سورة يوسف، الآية: 90. (¬5) سورة طه، الآية: 132. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 128.

الثاني والعشرون: الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة للمتقين

وقال - سبحانه وتعالى -: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى -: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بحسن العاقبة فيقول: ((اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)) (¬3). الثاني والعشرون: الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة للمتقين، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬4). الثالث والعشرون: التقوى تفرق بين المؤمنين والفجار، قال الله - عز وجل -: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬5)، وقال - عز وجل -: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬6)، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (¬7)، فالله - عز وجل - لا يجعل المتقين القائمين بما أمر به المبتعدين عما نهى عنه، كالمفسدين في الأرض والمكثرين من الذنوب المقصّرين في حقوق ربهم؛ فإن حكمته ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 49. (¬2) سورة القصص، الآية: 83. (¬3) أحمد في المسند، 4/ 181، والطبراني في الكبير، 2/ 33، برقم 1196، 1197، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 78: ((رجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني ثقات)). (¬4) سورة النور، الآية: 52. (¬5) سورة ص، الآية: 28. (¬6) سورة الجاثية، الآية: 21. (¬7) سورة القلم، الآيات: 34 - 36.

الرابع والعشرون: التقوى سبب لتعظيم شعائر الله

تعالى لا تقتضي أن يجعل المتقين القانتين لربهم المنقادين لأوامره، المتبعين مراضيه كالمجرمين الذين وقعوا في معاصيه والكفر بآياته، ومن ظن أنه تعالى يسوِّي بين هؤلاء في الدنيا والآخرة فقد أساء الحكم وحكمه باطل ورأيه فاسد؛ فإن الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين المتقين لهم النصر، والفلاح، والسعادة في العاجل والآجل كلٌّ على قدر عمله، وأن المجرمين المسيئين لهم الغضب والإهانة، والعذاب، والشقاء في الدنيا والآخرة (¬1). الرابع والعشرون: التقوى سبب لتعظيم شعائر الله؛ لأن شعائر الله أعلام الدين الظاهرة، وتعظيمها إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وهذا التعظيم صادر من تقوى القلوب، فالمعظِّم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله، وإجلاله (¬2)،قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬3). الخامس والعشرون: التقوى تصلح بها الأعمال وتُقبل، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬4)، فأمر سبحانه بالتقوى في السر والعلانية، وخصّ منها القول السديد، وهذا القول الموافق للصواب أو المقارب له عند تعذّر اليقين: من قراءة، وذكرٍ، وأمرٍ بالمعروف، ونهي عن المنكر، وتعلّم العلم وتعليمه، والحرص على ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص722، 815. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص487. (¬3) سورة الحج، الآية: 32. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71.

السادس والعشرون: التقوى سبب للإكرام عند الله

إصابة الصواب في المسائل العلمية، ولين الكلام، ولطفه، ويترتّب على ذلك صلاح العمل فلا يفسد، ومغفرة الذنوب، فبالتقوى تستقيم الأمور، ويندفع بها كل محذور (¬1). السادس والعشرون: التقوى سببٌ للإكرام عند الله، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2)،فأكرم الناس عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة، وانكفافاً عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقوماً، ولا أشرفهم نسباً، ولكن الله - عز وجل - عليم خبير يعلم من يقوم بتقوى الله ظاهراً وباطناً، مِمَّن لا يقوم بذلك ظاهراً، ولا باطناً، فيجازي كلاً بما يستحق (¬3). السابع والعشرون: التقوى يحصل بها الفرج والمخرج من كل شدة ومشقة وكرب، ويسوق الله بها الرزق للمتقي من حيث لا يحتسبه، ولا يشعر به، ولا يخطر له على بال، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬4). الثامن والعشرون: التقوى يحصل بها تيسير الأمور، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬5)، فمن اتقى الله - عز وجل - يسّر له كلّ أموره، ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص620. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص745. (¬4) سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3. (¬5) سورة الطلاق، الآية: 4.

التاسع والعشرون: التقوى تكفر بها السيئات

وسهّل عليه كل عسير. التاسع والعشرون: التقوى تُكفّر بها السيئات، وتُعظم بها الأجور لمن اتقى، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (¬2). الثلاثون: التقوى تثمر الاهتداء والاتعاظ للمتقين؛ لأنهم هم المنتفعون بالآيات، فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، قال الله - عز وجل -: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (¬3)، وقوله - عز وجل -: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي هذا القرآن جعله الله بياناً للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خاصة، قاله الحسن وقتادة (¬4)،وجزم بها الحافظ ابن كثير رحمه الله (¬5)،وقيل: {هَذَا} إشارة إلى ما تقدم هذه الآية، وهو قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} (¬6)،قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وكلا المعنيين حق)) (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآية: 5. (¬2) سورة المائدة، الآية: 65. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 138. (¬4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 7/ 232. (¬5) انظر: تفسير القرآن العظيم، 1/ 386. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 137، واختار هذا القول ابن جرير، انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/ 232. (¬7) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص117.

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وجميع المؤمنين من هؤلاء المتقين الذين يفوزون بهذه الثمرات العظيمة؛ فإنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

المطلب الثاني: ظلمات المعاصي وأضرارها

المطلب الثاني: ظلمات المعاصي وأضرارها * المسلك الأول: مفهوم المعاصي وأسماؤها: أولاً: مفهوم المعاصي: المعاصي لغة: العصيان خلاف الطاعة، يقال: عصى العبد ربه: إذا خالف أمره، وعصى فلانٌ أميره يعصيه عَصْياً وعِصْياناً، ومعصيةً إذا لم يطعه، فهو عاص (¬1)، قال الله - عز وجل -: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (¬2)، وقال الجرجاني رحمه الله: ((العصيان: هو ترك الانقياد)) (¬3). والمعاصي في الاصطلاح الشرعي: هي ترك المأمورات، وفعل المحظورات، فتبين بذلك أن المعاصي هي ترك ما أمر الله به أو أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل ما نهى الله عنه، أو نهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: من الأقوال، والأعمال، والمقاصد الظاهرة والباطنة (¬4)، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬5)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، باب الياء، فصل العين، مادة ((عصا))، 15/ 67. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 7. (¬3) التعريفات، ص195. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص221، والمعاصي وأثرها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص30. (¬5) سورة النساء، الآية: 14.

ثانيا: أسماء المعاصي:

مُّبِينًا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬2). ثانياً: أسماء المعاصي: قد جاء معنى المعصية بألفاظ كثيرة، ومن ذلك ما يأتي: 1 - الفسوق والعصيان، قال الله - عز وجل -: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬3). 2 - الحُوب، قال الله - عز وجل -: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (¬4). 3 - الذنب، قال الله - سبحانه وتعالى - بعد أن ذكر قوم لوط، ومدين، وعاد، وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬5). 4 - الخطيئة، قال الله - عز وجل - في ذكره لقول إخوة يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬2) سورة الجن، الآية: 23. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 7. (¬4) سورة النساء، الآية: 2. (¬5) سورة العنكبوت، الآية: 40. (¬6) سورة يوسف، الآية: 97.

5 - السيئة

5 - السيئة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1). 6 - الإثم، قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). 7 - الفساد، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). 8 - العتوّ، قال الله - عز وجل -: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬4). * المسلك الثاني: أسباب المعاصي: المعاصي لها أسباب كثيرة تحصل بسببها، وتكثر وتقل بذلك، وهذه الأسباب نوعان، على النحو الآتي: النوع الأول: الابتلاء والاختبار، ومن ذلك: 1 - الابتلاء بالخير والشر، قال الله - عز وجل -: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬5)،فالله سبحانه يبتلي عباده بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 114. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬3) سورة المائدة، الآية: 33. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 166. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 35.

2 - الابتلاء بالمال والولد

والضلالة، فبالخير يختبر هل يؤدّى شكره، وبالشر يختبر هل يصبر على ضرّه (¬1). 2 - الابتلاء بالمال والولد، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَالله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬2)،فالأموال والأولاد فتنة: أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه (¬3)،قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مُضلاّت الفتن)) (¬4). 3 - وقد تكون الفتنة أعمَّ مما تقدّم، قال الله - عز وجل -: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (¬5)، وهذه الفتن وغيرها مما في معناها تكون من أسباب النجاة عند النجاح في الاختبار، وتكون من أسباب المعاصي والهلاك عند الإخفاق والرسوب في الامتحان، والله نسأل التوفيق والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. النوع الثاني: أسباب الوقوع في المعاصي، ومنها: 1 - ضعف الإيمان واليقين بالله - عز وجل -، والجهل به سبحانه؛ فإن عدم المراقبة لله - عز وجل - وعدم الخوف منه، وعدم محبته وإجلاله وتعظيمه وخشيته تجعل الإنسان يستخف بوعد الله - عز وجل - ووعيده، والله سبحانه لا تخفى عليه ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 18/ 440. (¬2) سورة التغابن، الآية: 15. (¬3) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 376. (¬4) إغاثة اللهفان، لابن القيم، 2/ 160. (¬5) سورة الفرقان، الآية: 20.

2 - الشبهات،

خافية، قال الله - عز وجل -: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (¬2). 2 - الشبهات، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والفتنة نوعان: فتنة الشبهات، وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما)) (¬3). ففتنة الشبهات تنشأ من ضعف البصيرة، وقلّة العلم، وفساد القصد، وحصول الهوى، وتنشأ أيضاً من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حقٍّ ثابت خفيٍّ على الرجل، فلم يظفر به، وتارة من غَرَضٍ فاسدٍ وهوىً متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة (¬4). 3 - الشهوات، وقد جمع الله بين الشبهات والشهوات في قوله - سبحانه وتعالى -: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} (¬5)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((أي تمتّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتهم، والخلاق: هو النصيب المقدَّر، ثم قال: وخُضتم كالذي خاضوا، فهذا الخوضُ بالباطل وهو الشبهات، فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان: من ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 19. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 218 - 219. (¬3) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، 2/ 165. (¬4) انظر: المرجع السابق، 2/ 166. (¬5) سورة التوبة، الآية: 69.

4 - الشيطان من أعظم أسباب وقوع المعاصي

الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد باطل، والتكلّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح، فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني فسق الأعمال، فالأول فساد من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات)) (¬1)، وفتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر؛ ولهذا جعل الله - عز وجل - إمامة الدين بالصبر واليقين، فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬2)، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفع فتنة الشبهة (¬3). ولا شك أن الشهوات منها ما يكون مباحاً حلالاً، ومنها ما يكون حراماً، فحلالها ما أحلَّه الله ورسوله، وحرامها ما حرّمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - الشيطان من أعظم أسباب وقوع المعاصي: لأنه أخبث عدو للإنسان، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬4)،والشياطين نوعان: شياطين الإنس، وشياطين الجن، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬5)، ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان، 2/ 166. (¬2) سورة السجدة، الآية: 24. (¬3) انظر: إغاثة اللهفان، لابن القيم، 2/ 167. (¬4) سورة فاطر، الآية: 6. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 112.

والشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من سبع عقبات

والمخرج من شياطين الإنس، بالإحسان إليهم، والدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة السيئة بالحسنة. أما شياطين الجن، فالمخرج منها الاستعاذة بالله منهم، قال الله - عز وجل -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). والشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها: العقبة الأولى: عقبة الكفر والشرك بالله وبدينه، ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه على: العقبة الثانية: عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -،وإما بالتعبّد بما لم يأذن به الله من الأمور المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً، فإن وفّق الله العبد لقطع هذه العقبة طلبه الشيطان على: العقبة الثالثة: عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زيّنها له، وحسَّنها في عينه، فإن قطع العبد هذه العقبة بتوفيق الله طلبه على: العقبة الرابعة: عقبة الصغائر، فكال له منها بالمكاييل العظيمة، ولا يزال يهوِّن عليه أمرها حتى يُصِرَّ عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 36.

العقبة الخامسة: عقبة المباحات التي لا حرج فيها:

كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه الشيطان على: العقبة الخامسة: عقبة المباحات التي لا حرج فيها، فيشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزوّد لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم مِنْ ترك السُّنن إلى ترْك الواجبات، وأقل ما ينال منه تفويت الأرباح والمكاسب العظيمة، فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة، ونور هادٍ، ومعرفة بقدر الطاعات، طلبه على: العقبة السادسة: عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسَّنها في عينه، وزيَّنها له؛ ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، فإن نجا من هذه العقبة بفقه الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، لم يبق هناك عقبة يطلبه عليها سوى واحدة لابد منها، وهي: العقبة السابعة: تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد، واللسان، والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدوّ بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلّط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جدَّ في الاستقامة والدعوة إلى الله جدّ العدوّ في إغراء السفهاء به، والله المستعان، وعليه التكلان (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 222 - 226.

* المسلك الثالث: مداخل المعاصي:

* المسلك الثالث: مداخل المعاصي: أولاً: النفس الأمارة يدخل عليها الشيطان وأعوانه وجنوده من مرادها، ومحبوباتها، وشهواتها، فإذا صارت النفس الأمّارة مع الشيطان وجنوده ملكوا ستة ثغور يدخلون منها على القلب؛ لإفساده، وهذه الثغرات على النحو الآتي: ثغر العين، فيجعلون نظرها تفرّجاً وتلهّياً لا اعتباراً. ثغر الأذن، فَيُدْخِلون معها الباطل، ويمنعون دخول الحق. ثغر اللسان، فيجرون عليه من الكلام ما يضرّه ولا ينفعه، ويمنعونه مما ينفعه. ثغر الفم، فيدخلون معه إلى البطن أنواع المحرمات. ثغر اليد، فيجعلونها تبطش بالباطل، وتتوقف عن الحق. ثغر الرجل، فيجعلونها تمشي إلى الباطل (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله يحكي عن الشيطان كلامه مع جنوده، وحثّهم على الاستيلاء على هذه الثغور: ((فرابطوا على هذه الثغور كلّ المرابطة، فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أسير، أو جريح مُثخن بالجراحات)) (¬2). ثانياً: أبواب الشيطان التي يُدخِل الناسَ معها إلى النار ثلاثة: باب شبهة أورثت شكّاً في دين الله. باب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته. ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص180 - 189. (¬2) المرجع السابق، ص181.

3 - باب غضب أورث العدوان على خلق الله - عز وجل -

باب غضب أورث العدوان على خلق الله - عز وجل - (¬1). ثالثاً: طرق الشيطان على الإنسان من ثلاث جهات: الجهة الأولى: التزيّد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة، فتصير فَضْلَةً، وهي حظُّ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق الاحتراز منه عدم إعطاء النفس تمام مطلوبها: من غذاء، أو نوم، أو لذّة، أو راحة، فمتى أُغلِق هذا الباب حصل الأمان من دخول العدوِّ منه. الجهة الثانية: الغفلة؛ فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فُتِحَ باب الحصن، فولجه العدوّ، فيعسر عليه أو يصعب إخراجه. الجهة الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء (¬2). رابعاً: المداخل التي من حفظها نجا من المهالك، ولهذا قيل: ((من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات)) (¬3). وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة: 1 - النظرة: فاللحظات رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، ومن أطلق بصره في ما حرَّم الله أورد نفسه موارد الهلاك، قال الله - عز وجل -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ¬

_ (¬1) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص105. (¬2) الفوائد، لابن القيم، ص334. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص266.

2 - الخطرة:

وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (¬1)، ولا شك أن النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، قال الشاعر: كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة بلغت من قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر والعبد مادام ذا طرف يقلبه ... في أعين الغير موقوف على الخطر يسر مُقلتَهُ ما ضرَّ مُهجتَهُ ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر (¬2) 2 - الخطرة: والخطرات شأنها أصعب؛ لأنها مبدأ الخير والشر، ومنها تولد الإرادات، والهمّ والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه، ومن استهان بالخطرات قادته إلى الهلكات. والخطرات المحمودة أقسام تدور على أربعة أصول: * خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه. * وخطرات يستدفع بها مضارّ دنياه. * وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته. * وخطرات يستدفع بها مضارّ آخرته. فليحصر العبد خطراته، وأفكاره، وهمومه في هذه الأقسام الأربعة (¬3). 3 - اللفظة: واللفظات حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة، فلا يتكلّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، وإذا أراد أن يتكلّم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن ¬

_ (¬1) سورة النور، الآيتان: 30 - 31. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص268. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص269 - 276.

كان فيها ربح نظر: هل تفوتُ بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيّعها بهذه، وإذا أردت أن تستدلّ على ما في القلب فاستدلّ عليه بحركة اللسان؛ فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى؛ ولهذا قال يحيى بن معاذ رحمه الله: ((القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر حتى يتكلم الرجل، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلوٍ وحامضٍ، وعذبٍ وأجاجٍ يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه)) (¬1)، والمعنى أنك كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقة ذلك، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القِدْر بلسانك (¬2)، فيجب على المرء المسلم أن يحفظ لسانه؛ فإن أكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج، واللسان يكبّ الناس على مناخرهم في النار، وربما تكلّم الرجل بكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم أبعد ما بين المشرق والمغرب، أو يهوي بها في النار سبعين خريفاً، أو يتكلّم بكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه. والمؤمن بالله واليوم الآخر يتكلّم بالخير أو يسكت، وإذا حَسُن إسلامه فإنه لا يتكلم إلا فيما يعنيه، واللسان أخوف ما خاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلم، وكلّ كلام ابن آدم عليه لا له: إلا أمراً بمعروفٍ، أو نهياً عن منكرٍ، أو ذكراً لله - عز وجل -، والكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، والله لا يخفى عليه قول القائل، قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِن ¬

_ (¬1) حلية الأولياء، لأبي نعيم، 10/ 63، وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص276. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص276.

4 - الخطوة:

قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬1). واللسان فيه آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، فالمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله، والساكت عن الحق شيطان أخرس عاصٍ لله مراءٍ مداهنٌ إذا لم يخف على نفسه، وأهل الوسط من أهل الحق كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله - عز وجل - وما اتصل به (¬2). 4 - الخطوة: والخطوات حفظها بأن لا ينقل العبد قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له، ويمكنه أن يستخرج من كل مباح بخطوة إليه قُربةً ينويها لله، فتقع خطاه كلها قربة بالنية الصالحة (¬3). وقد وصف الله - عز وجل - عباد الرحمن بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬4)، كما جمع الله - عز وجل - بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة ق، الآية: 18. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص276 - 281. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص282. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬5) سورة غافر، الآية: 19.

* المسلك الرابع: أصول المعاصي:

* المسلك الرابع: أصول المعاصي: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((أصول الخطايا كلها ثلاثة: 1 - الكِبْر: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره. 2 - الحِرْص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة. 3 - الحَسَد: وهو الذي جرَّأَ أحد ابني آدم على أخيه. فمن وُقِيَ شر هذه الثلاثة فقد وُقِيَ الشر، فالكفر من الكِبْر، والمعاصي من الحِرص، والبغي والظلم من الحسَد)) (¬1). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: 1 - تعلق القلب بغير الله، وهو الشرك، فغاية التعلّق بغير الله شرك، وأن يُدعى معه إله آخر. 2 - طاعة القوة الغضبية، وهي الظلم، وغاية ذلك القتل. 3 - طاعة القوة الشهوانية، وهي الفواحش، وغاية ذلك الزنا. وقد جمع الله سبحانه بين هذه الثلاثة في قوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (¬2). وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض: فالشرك يدعو إلى الظلم ¬

_ (¬1) الفوائد، ص105. (¬2) سورة الفرقان، الآيتان: 68 - 69.

أركان الكفر أربعة:

والفواحش، كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه، قال الله - عز وجل -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬1)، فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا، وكذلك الظلم يدعو إلى الشرك والفاحشة؛ فإن الشرك أظلم الظلم، كما أن أعدل العدل التوحيد، فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك، والفاحشة تدعو إلى الشرك والظلم. فهذه الثلاثة يجر بعضها إلى بعض، ويأمر بعضها ببعض (¬2). وبيّن رحمه الله تعالى: أن أركان الكفر أربعة: 1 - الكبر 2 - الحسد 3 - الغضب 4 - الشهوة. فالكبر يمنع العبد الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة، فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة، وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن ابتلي بها، ولاسيما إذا صارت هيئات راسخة، وملكات وصفات ثابتة؛ فإنه لا يستقيم له معها عمل البتة، ولا تزكو نفسه، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وإذا استحكمت هذه الأربعة في القلب أرته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 24. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص154.

* المسلك الخامس: أقسام المعاصي:

المعروف، وقربت منه الدنيا، وبعّدت منه الآخرة (¬1). * المسلك الخامس: أقسام المعاصي: الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام هي على النحو الآتي: القسم الأول: الذنوب الملكية وهي أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية: كالعظمة، والكبرياء، والجبروت، والقهر، والعلو، واستعباد الخلق، ونحو ذلك. القسم الثاني: الذنوب الشيطانية، وهي الذنوب التي يتشبه الإنسان بالشيطان في عملها، فالتشبه بالشيطان: في الحسد، والبغي، والغش، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بمعاصي الله، وتحسينها، والنهي عن طاعة الله، وتهجينها، والابتداع في الدين، والدعوة إلى البدع والضلال، وهذا القسم يلي القسم الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه. القسم الثالث: الذنوب السبعية، وهي التي يشبه الإنسان في فعلها السباع، وهي ذنوب العدوان، والغضب، وسفك الدماء، والتوثّب على الضعفاء والعاجزين، ويتولّد من هذا القسم أنواع أذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان. القسم الرابع: الذنوب البهيمية، وهي الذنوب التي يشبه الإنسان في فعلها البهائم، مثل: الشره، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولّد الزنا، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل، والشحّ، ¬

_ (¬1) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص281.

* المسلك السادس: أنواع المعاصي:

والجبن، والهلع، والجزع، وغير ذلك، وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب الملكية، والسبعية، ومن هذا القسم يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرّهم إليها بالزّمام (¬1). * المسلك السادس: أنواع المعاصي: المعاصي نوعان: كبائر وصغائر، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وقد دلّ القرآن، والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم، والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر)) (¬2)، قال الله - عز وجل -: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (¬3)، وقال - عز وجل -: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ} (¬4)، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك))، قلت: إن ذلك لعظيم. قال قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدَك مخافةَ أن يَطعمَ معك))، قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم أن تزاني حَليلةَ جارك)) (¬5). وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص222 - 223. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص223. (¬3) سورة النساء، الآية: 31. (¬4) سورة النجم، الآية: 32. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، 5/ 172، برقم 4477، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أعظم الذنوب وبيان أعظمها بعده، 1/ 90، برقم 86.

ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وجلس وكان متكئاً فقال: ((ألا وقول الزور))، فمازال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنِبَتِ الكبائر))، وفي رواية: ((ما لم تُغْشَ الكبائر)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (¬3). واختُلِفَ في حدِّ الكبيرة وفي عدد الكبائر فقيل: إنها أربع، وقيل: سبع، وقيل: تسع، وقيل: إحدى عشرة، وقيل: سبعون، وقيل: إن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: كم الكبائر أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 2/ 204، برقم 2654، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، 1/ 91، برقم 87. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، 1/ 209، برقم 2332. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، 3/ 256، برقم 2766، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92، برقم 89. (¬4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 8/ 245، برقم 9207، وانظر: الأقوال في عدد الكبائر هذا المرجع، 8/ 233 - 258، والفتح، لابن حجر، 12/ 183.

1 - الإصرار والمداومة عليها

والصواب: أن الكبائر لم تُضبطْ بعدٍّ، وأنها كل ذنب ترتّب عليه حدٌّ في الدنيا، أو تُوعِّد عليه بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو العقوبة، أو نفي إيمان، وما لم يترتّب عليه حدٌّ في الدنيا، ولا وعيدٌ في الآخرة، فهو صغيرة (¬1)، ولكن قد تكون الصغائر من الكبائر لأسباب، منها: 1 - الإصرار والمداومة عليها، كما في قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار)) (¬2). 2 - استصغار المعصية واحتقارها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة إيَّاكِ ومُحقرَاتِ الأعمال فإن لها من الله طالباً)) (¬3). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)) (¬4). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 444، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص418، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص225 - 226. (¬2) تقدم تخريجه قبل الهامش السابق. (¬3) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، 2/ 1417، برقم 4243، وأحمد، 6/ 70، وصححه الألباني، في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 416، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 513، 2731. (¬4) أخرجه أحمد في المسند، 5/ 331،وصحح إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد،10/ 190،وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،1/ 129،برقم 389: ((وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين)).

3 - الفرح بالصغيرة والافتخار بها

تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا))، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه (¬1). 3 - الفرح بالصغيرة والافتخار بها، كأن يقول ما رأيتني كيف مَزَّقت عِرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجَّلته، أو خدعته، أو غبنته. 4 - أن يكون عالماً يُقتدى به، فإذا فعل العالم الصغيرة، وظهرت أمام الناس كبر ذنبه. 5 - إذا فعل الذنب ثم جاهر به؛ لأن المجاهر غير معافى (¬2)، فينبغي لكل مسلم أن يبتعد عن جميع الذنوب صغيرها وكبيرها؛ ليكون من الفائزين في الدنيا والآخرة. * المسلك السابع: آثار المعاصي على الفرد والمجتمع: أولاً: آثار المعاصي على الفرد: أنواع، منها: النوع الأول: آثارها على القلب: 1 - ضرر المعاصي على القلب كضرر السموم على الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرٌّ وداءٌ إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ (¬3). 2 - حرمان العلم؛ فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور، وتُعمي بصيرة القلب، وتسدُّ طرق العلم، وتحجب ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، 7/ 188، برقم 6308. (¬2) انظر: مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي، ص258. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص84.

3 - الوحشة في القلب بأنواعها

موارد الهداية، قال الله - عز وجل -: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬1)، ولما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقّد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: ((إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية)) (¬2)، وقال الشافعي رحمه الله: شكوتُ إلى وكيعٍ سُوءَ حِفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ... ونورُ الله لا يُهدَى لعاصي (¬3) 3 - الوحشة في القلب بأنواعها: وحشة بين العاصي وبين ربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الخلق، وكلّما كثرت الذنوب اشتدّت الوحشة، والوحشة التي بين العاصي وبين ربه لا توازنها، ولا تقارنها لذة أصلاً، ولو اجتمعت له لذّات الدنيا بأسرها لم تفِ بتلك الوحشة، ولو لم تُترك الذنوب إلا حذراً من الوقوع في تلك الوحشة لكان العاقل حريّاً بتركها. وأما الوحشة التي بين العاصي وبين الناس، ولاسيما أهل الخير منهم؛ فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلّما قويت تلك الوحشة بَعُد منهم ومن مجالستهم، وحُرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان، بقدر ما بَعُدَ من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشاً بنفسه، قال ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 46. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص104، 148، 173، 212. (¬3) ديوان الشافعي، ص88، وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص104.

بعض السلف: ((إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلقِ دابتي وامرأتي)) (¬1)، وقال الفضيل بين عياض رحمه الله: ((إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي)) (¬2). وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الربِّ سبحانه، فكلّما قوي القرب قوي الأنس، والمعصية توجب البعد من الربّ، وكلما ازداد البعد قويت الوحشة، والوحشة سببها الحجاب، وكلما غلظ الحجاب زادت الوحشة، فالغفلة تُوجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشة الشرك والكفر، ولا تجد أحداً ملابساً شيئاً من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابسه منه، فتعلو الوحشة وجهه، وقلبه، فيستوحِشُ، ويُستوحشُ منه (¬3). 4 - الظلمة في القلب؛ فإن العاصي يجد ظلمة في قلبه حقيقة يُحسّ بها كما يُحسّ بظلمة الليل البهيم، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسِّية لبصره؛ فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع، والضلالات، والأمور المهلكة، وهو لا يشعر، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً فيه يراه كل أحد (¬4)،قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في ¬

_ (¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص105، 144. (¬2) حلية الأولياء، لأبي نعيم، 8/ 109. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص144. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص105 - 106.

5 - توهن القلب وتضعفه:

البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق)) (¬1). 5 - تُوهن القلب وتُضعفه: أما وهن القلب؛ فإن المعاصي لا تزال تُوهنه حتى تُزيل حياته بالكلية (¬2). وأما ضعف القلب؛ فإن المعاصي تُضعفه من عدّة وجوه، هي: الوجه الأول: تُضعف في القلب تعظيم الربّ - جل جلاله -، وتُضعف وقاره في قلب العبد ولابدّ شاء أم أبى، ولو تمكّن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرّأ على معاصيه؛ فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬3)، وتعظيم حرمات الله - عز وجل - في القلب تحول بين العبد وبين الذنوب (¬4). الوجه الثاني: تُضعف المعصية إرادة الخير في قلب العبد، وتُقوّي إرادة المعصية، فتُضعف في قلبه إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكليّة، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، يأتي من الاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مصرّ عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص106. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص106. (¬3) سورة الحج، الآية: 30. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص134. (¬5) انظر: المرجع السابق، ص110، وص200.

6 - تحجب القلب عن الرب في الدنيا

الوجه الثالث: تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه أو توقفه وتقطعه عن السير، فالذنب إما أن يُميت القلب، أو يُمرضه مرضاً مخوِّفاً، أو يُضعف قوته ولابد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزَن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَعِ الدين، وغَلَبةِ الرجال)) (¬1)، والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة لـ: ((جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) (¬2)، ومن أقوى الأسباب الجالبة لـ: ((زوال نعمة الله، وتحول عافيته، وفجأة نقمته، وجميع سخطه)) (¬3). 6 - تحجب القلب عن الربّ في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة، كما قال الله - عز وجل -: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (¬4)، فكانت الذنوب حجاباً بينهم وبين قلوبهم، وحجاباً بينهم وبين ربهم وخالقهم (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من غلبة الرجال، 7/ 203، برقم 6363، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل، 4/ 2079، برقم 2706. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء، 7/ 199، برقم 6347، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، 4/ 2080، برقم 2707. (¬3) مسلم، كتاب الذكر والدعاء،4/ 2097،برقم 2739، وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص140. (¬4) سورة المطففين، الآيتان: 14 - 15. (¬5) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص215.

7 - يألف المعصية، فينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة

7 - يألف المعصية، فينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أصحاب الفسوق هو غاية التهتّك، وتمام الّلذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه علمها، وهذا الضرب من الناس لا يعافون ويُسدّ عليهم طريق التوبة، وتُغلق عنهم أبوابها في الغالب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كلُّ أمتي معافىً إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) (¬1). 8 - هوان المعاصي على المصرّين عليها، فلا يزال العبد يرتكب المعاصي حتى تهون عليه، وتصغر في قلبه وعينه، وذلك علامة الهلاك؛ لأن الذنب كلما صغر في قلب العبد وعينه عَظُم عند الله؛ ولهذا قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرّ على أنفه فقال به هكذا)) (¬2). فالمؤمن قلبه فيه نور، فهو على يقين من الذنب الصغير، وليس على يقين من المغفرة، فيخاف الذنب الصغير أن يهلكه كالجبل، والفاجر قليل المعرفة بالله، ولذلك قلّ خوفه من الله، واستهان بالمعصية (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه،7/ 117،برقم 6069،ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، 4/ 2291، برقم 2990. (¬2) البخاري في صحيحه، 7/ 188، برقم 6308، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 11/ 105.

9 - تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله - عز وجل -

9 - تُورث الذلّ، فإنّ العزّ كلّ العزّ في طاعة الله - عز وجل -،والذلّ كلّ الذلّ في معصية الله - سبحانه وتعالى -،قال الله - عز وجل -: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬2)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِل الذّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم)) (¬3). فمن أراد العزّة فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته، وكان من دعاء بعض السلف: ((اللهم أعزّني بطاعتك ولا تذلّني بمعصيتك))، وقال الحسن البصري رحمه الله: ((إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذلّ المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلَّ من عصاه)) (¬4). وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: رأيت الذنوب تُميتُ القلوب ... وقد يورثُ الذلَّ إدمانُها وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوب ... وخيرٌ لنفسك عصيانُها ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 10. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬3) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 50، 92، وابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 313، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 109. (¬4) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص113.

10 - تفسد العقل وتؤثر فيه

وهل أفسد الدِّينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها (¬1) 10 - تُفسد العقل وتُؤثر فيه؛ فإن للعقل نوراً، والمعصية تُطفئ نور العقل، فإذا طفئ نورُه ضعف ونقص، وغاب، وما عصى الله أحد حتى يغيب عقله؛ لأن واعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله ذو عقل سليم؟ ولا شك أن المعصية إن لم تُفسد العقل فهي تُنقص من كماله، فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع لله والآخر عاصٍ إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل، وفكره أصحّ، ورأيه أسدّ، والصواب قرينه (¬2). 11 - تطبع على القلب، فإذا تكاثرت طبعت على قلب صاحبها فكان من الغافلين؛ لأن القلب يصدأ من المعصية، فإذا ازدادت غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وختماً، وقفلاً، فيصير في غشاوة وغلاف (¬3)، قال الله - عز وجل -: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬4). 12 - الذنوب تطفئ غيرة القلب؛ فإنّ أشرف الناس وأعلاهم همّةً ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص114. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص114. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص153. (¬4) سورة المطففين، الآية: 14.

أشدّهم غيرةً على نفسه وخاصته، وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أغير الخلق على الأمة، والله - عز وجل - أشد غيرة منه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحبّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مُبشّرين ومُنذِرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أُمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته يزني، يا أُمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم [الله] عليه)) (¬3). وعن جابر بن عتيك مرفوعاً: ((إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يُبغض الله، ومن الخيلاء ما يحب الله، ومنها ما يُبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في ريبة، وأما التي يُبغض الله فالغيرة في غير الريبة، ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا شخص أغير من الله)) 8/ 220،برقم 7416، ومسلم، كتاب اللعان،2/ 1136،برقم 1499. (¬2) البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، 6/ 191، برقم 5221. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، 6/ 196، برقم 5223، ومسلم، كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4/ 2114، برقم 2761، واللفظ له، وما بين المعقوفين من صحيح البخاري.

والاختيال الذي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله - عز وجل - الخيلاء في الباطل)) (¬1)، والمقصود بالغيرة في الريبة: الغيرة في مواضع التهمة والتردّد، فتظهر فائدتها، وهي الرهبة والانزجار، وإن كانت الغيرة بدون ريبة فإنها تورث البغض والفتن (¬2)، والاختيال في الصدقة أن يكون سخياً، فيعطي طيبة بها نفسه، فلا يستكثر كثيراً، ولا يعطي منها شيئاً إلا وهو مستقلّ، وأما الحرب: فأن يتقدم فيها بنشاط وقوة وعدم جبن (¬3). والمقصود أن المعاصي كلما اشتدّت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه، وأهله، وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جداً حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه، ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحدّ، فقد دخل في باب الهلاك؛ ولهذا كان الدّيوث من أخبث الخلق، والجنة حرام عليه؛ لأنه لا غيرة له؛ ولهذا رضي بالسوء في أهله، وهذا يدلّ على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب وتحمي له الجوارح، وتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب، فتموت له الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة، وهذا يبين أهمية الغيرة ومكانتها (¬4). ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة، 5/ 78، برقم 2558، وأحمد في المسند، 5/ 445، وله شاهد عند ابن ماجه، برقم 1996، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والحديث حسنه الألباني بطرقه في إرواء الغليل، 7/ 58، برقم 1999. (¬2) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 5/ 79. (¬3) انظر: شرح السيوطي على سنن النسائي، 5/ 79. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص130 - 131.

13 - الذنوب تذهب الحياء من القلب

13 - الذنوب تذهب الحياء من القلب، وهو أصل كلّ خير، وذهابه ذهاب الخير كله، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياءُ خير كله))، أو قال: ((الحياءُ كله خير)) (¬1). وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬2). والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء عند العبد حتى ربما انسلخ منه بالكليّة، فلا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، بل كثير من أهل المعاصي يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع (¬3)، وهذا ينطبق عليه أحد المعنيين لحديث أبي مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت)) (¬4)، وهذا الحديث له تفسيران: التفسير الأول: أنه للتهديد والوعيد، والمعنى من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح؛ لأن الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح وقع فيها، وهذا المعنى هو المشهور. التفسير الثاني: أن الفعل إذا لم تستح من الله من فعله فافعله وإنما ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله، فالمعنى الأول تهديداً كقوله تعالى: {اعْمَلُوا ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، 1/ 64، برقم 37. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، 7/ 130، برقم 6117، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، 1/ 64، برقم 37. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص131 - 133. (¬4) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، بابٌ، 4/ 183، برقم 3483.

14 - المعاصي تلقي الخوف والرعب في القلوب

مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1)، والمعنى الثاني: يكون إذناً وإباحة (¬2). 14 - المعاصي تلقي الخوف والرعب في القلوب، فلا ترى العاصي دائماً إلا خائفاً مرعوباً؛ فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة، ومن خرج منه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقّه أمناً، ومن عصاه انقلبت مآمنه منه مخاوف، فمن خاف الله أمَّنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء (¬3). 15 - تُمْرِضُ القلب، وتَصْرِفُهُ عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، وتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب، ولا دواء لها إلا تركها، وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه، فكذا يكون قلبه في هذا الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيماً البتة، ولا تحسبن أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬4) مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة: دار الدنيا، والبرزخ، والقرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب، وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ ولهذا قال بعض الصالحين: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. ويقول آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 40. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص132، وجامع الأصول، لابن الأثير، 3/ 621. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص143 - 144. (¬4) سورة الانفطار، الآيتان: 13 - 14.

16 - المعاصي تصغر النفوس، وتقمعها، وتدسيها)

ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (¬1). 16 - المعاصي تُصغّر النفوس، وتقمعها، وتدسِّيها، وتحقِّرها حتى تصير أصغر شيء وأحقره، كما أن الطاعة تنميها وتزكيها، وتكبِّرها، قال الله - عز وجل -: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (¬2)، والمعنى قد أفلح من كبَّرها وأعلاها بطاعة الله، وأظهرها، وقد خاب وخسر من أخفاها، وحقَّرها وصغَّرها بمعصية الله، فالطاعة تُكبر النفوس وتُعزّها وتُعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه، فما كبَّر النفوس وشرّفها، ورفعها، وأعزّها مثل طاعة الله، وما صغّر النفوس وأذلّها، وحقّرها مثل معصية الله - عز وجل - (¬3). 17 - خسف القلب ومسخه، وعلامة خسف القلب أنه لا يزال جوّالاً حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقرَّبه إليه لا يزال جوالاً حول العرش، وأما مسخ القلب، فإن من القلوب ما يمسخ بسبب المعاصي كما تمسخ الصورة فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه، وأعماله، وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير، لشدة شبه صاحبه به، ومنها ما يمسخ على قلب كلب، أو حمار، أو حية، أو عقرب، ومن الناس من يكون على أخلاق السباع العادية، ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس ¬

_ (¬1) الجواب الكافي، لابن القيم، ص147. (¬2) سورة الشمس، الآيتان: 9 - 10. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص149.

18 - المعاصي تنكس القلب حتى يرى الباطل حقا والحق باطلا

الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليداً كالحمار، وغير ذلك (¬1). 18 - المعاصي تُنكّس القلب حتى يرى الباطل حقاً والحق باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على الهدى، وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب (¬2). 19 - تُضَيِّق الصدر، فالذي يقع في الجرائم، ويُعرض عن طاعة الله يضيق صدره بحسب إعراضه، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬3)، فمِنْ أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة ما سواه؛ فإن من أحبّ شيئاً غير الله عُذِّب به، وسجن قلبه في محبته (¬4). الوجه الثاني: آثار المعاصي على الدين: 20 [1] تزرع المعاصي أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، حتى يصعب على العبد التخلص منها، كما قال بعض السلف: ((إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها)). وهكذا حتى تصير ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص213 - 214. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص215. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬4) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 2/ 25.

21 [2] تحرم الطاعة وتثبط عنها

الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، فلو عطَّل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت حتى يعود إلى الطاعة، ولو عطل المجرم المعصية، وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره حتى يعاود المعصية (¬1)، فعلى المسلم أن يُقبل على الطاعة، ويترك المعصية، ويسأل الله - عز وجل - أن يُحبِّب إليه الإيمان، ويزيّنه في قلبه، ويكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله من الراشدين. 21 [2] تَحْرِمُ الطاعة وتُثَبِّطُ عنها، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصدّ عن طاعة، وتكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى، لكان كافياً في ضرره، فالمعاصي تحرم الطاعات، وتقطع طرق الأعمال الصالحة (¬2). 22 [3] المعصية سبب لهوان العبد العاصي على الله وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري رحمه الله: ((هانوا عليه فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم)) (¬3)، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬4)، ولو عظَّمهم الناس في الظاهر خوفاً من شرهم، أو لحاجتهم إليهم، فإنهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه (¬5). 23 [4] تُدخل الذنوب العبد تحت لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لعن على معاصٍ وغيرها أكبر منها، فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة، فلعن: ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص108. (¬2) انظر: الجواب الكافي، ص106، 212. (¬3) المرجع السابق، ص112. (¬4) سورة الحج، الآية: 18. (¬5) الجواب الكافي، لابن القيم، ص112.

الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة (¬1). ولعن النامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى (¬2). ولعن آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (¬3). ومرَّ على حمار قد وُسِمَ في وجهه فقال: ((لعن الله الذي وسمه)) (¬4). ولعن السارق يسرق البيضة فتُقطع يده، ويسرق الحبل فتُقطع يده (¬5). ولعن من ذبح لغير الله، ومن آوى مُحدِثاً، ومن لعن والديه، ومن غيّر منار الأرض (¬6). ولعن المتشبّهات بالرجال من النساء، والمتشبّهين بالنساء من الرجال (¬7). ولعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه [وآكل ثمنها] (¬8). ولعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً يرميه (¬9). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب اللباس، باب وصل الشعر، 7/ 81، برقم 5933، ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم فعل الواصلة، 3/ 1677، برقم 2124. (¬2) البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، 7/ 81، برقم 5931، ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم فعل الواصلة، 3/ 1678، برقم 2125. (¬3) مسلم، كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله، 3/ 1218، برقم 1597. (¬4) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه،3/ 1673، برقم 2117. (¬5) مسلم، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1314، برقم 1687. (¬6) مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله، 3/ 1567، برقم 1978. (¬7) البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، برقم 5885. (¬8) أبو داود، كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر، 3/ 326، برقم 3674، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه، 2/ 1122، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 700، وما بين المعقوفين لابن ماجه. (¬9) مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم، 3/ 1550، برقم 1958.

ولعن المصور (¬1). ولعن من سبَّ أباه، ومن سبَّ أمه، ومن كمه أعمى عن الطريق، ومن وقع على بهيمة، ومن عمل بعمل قوم لوط (¬2). ولعن الراشي والمرتشي (¬3). ولعن زوّارات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج (¬4). ولعن من أتى امرأة في دبرها (¬5). وأخبر أن من باتت مهاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح (¬6). وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه (¬7). وقد لعن الله - عز وجل - في كتابه من آذاه وآذى رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬8). ولعن من أفسد في الأرض، ونقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل (¬9). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب اللباس، باب من لعن المصور، 7/ 88، برقم 5962. (¬2) أحمد في المسند،1/ 217،وصحح إسناده أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند،3/ 266،برقم 1875. (¬3) الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي، 3/ 613، برقم 1336، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب كراهة الرشوة، 3/ 300، برقم 3580، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 34، وإرواء الغليل، برقم 2626، وفي صحيح سنن أبي داود، برقم 3055. (¬4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء للقبور، 3/ 218، برقم 3236، والترمذي، 2/ 136، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 308. (¬5) أبو داود، كتاب النكاح، باب في جامع النكاح، 2/ 249، برقم 2162، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 406. (¬6) البخاري، كتاب النكاح، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، 6/ 183، برقم 5193. (¬7) مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى المسلم،4/ 2020،برقم 2616. (¬8) انظر: سورة الأحزاب، الآية: 57. (¬9) انظر: سورة الرعد، الآية: 25.

24 [5] حرمان دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والملائكة

ولعن من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى (¬1). ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة (¬2). ولعن من جعل سبيل الكافرين أهدى من سبيل المؤمنين (¬3). ولعن الله ورسوله على أشياء غير هذه، فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضاء فاعله بأن يكون ممن يلعنه الله ورسوله وملائكته لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه، فليبتعد العاقل عن كل معصية حتى ينجو، والله المستعان (¬4). 24 [5] حرمان دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والملائكة، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وبيّن سبحانه أن الملائكة يستغفرون لهم، قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬5)، فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين المتّبعين لكتابه وسنة رسوله الذين لا سبيل لهم غيرها، ¬

_ (¬1) انظر: سورة البقرة، الآية: 159. (¬2) انظر: سورة النور، الآية: 23. (¬3) انظر: سورة النساء، الآيتان: 51 - 52. (¬4) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص115 - 119. (¬5) سورة غافر، الآيات: 7 - 9.

25 [6] المعاصي تسبب نسيان الله لعبده ونسيان العبد نفسه:

فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة (¬1). 25 [6] المعاصي تُسبّب نسيان الله لعبده ونسيان العبد نفسه، فإذا نسي الله العبد فهناك الهلاك الذي لا يُرجى معه نجاة، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2)، فقد أخبر الله - عز وجل - أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه: أي أنساه مصالحها وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها وسرورها، ونعيمها، فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمة الله وخوفه، والقيام بأمره، فترى العاصي مهملاً لمصالح نفسه، مضيِّعاً لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتَّبع هواه، وانفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته، وفرَّط في سعادته الأبدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة، وإنما ذلك متاع زائل لا خير فيه، كما قيل: أحلام نوم أو كظلٍّ زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه وإهماله لها، وإضاعة حظها، ونصيرها من الله، وبيعها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن، فضيع ما لا غنى له عنه ولا عوض له منه: من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ ... وما من الله إن ضيعته عوضُ ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص119 - 120. (¬2) سورة الحشر، الآيتان: 18 - 19.

26 [7] تخرج صاحبها من دائرة الإحسان

فالله - عز وجل - يعوِّض عن كل ما سواه ولا يعوِّض عنه شيء (¬1). 26 [7] تخرج صاحبها من دائرة الإحسان، فإن من عقوبات المعاصي أن تمنع العاصي ثواب المحسنين؛ فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي؛ لأن المحسن يعبد الله كأنه يراه، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية فضلاً عن الوقوع فيها (¬2). 27 [8] تفوِّت ثواب المؤمنين، ومن فاته ثواب المؤمنين وحسن دفاع الله عنهم فاته كل خير رتبه الله في كتابه على الإيمان، وهو نحو مائة خصلة كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها، ومنها: أ - الأجر العظيم: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). ب - الدفع عنهم شرور الدنيا والآخرة: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4). ج - موالاة الله لهم، ولا يذلّ من والاه: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} (¬5). د - {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬6). هـ - معية الله لهم: {وَأَنَّ الله مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬7). والرفعة في الدنيا والآخرة: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، ص135 - 136، و 190 - 195. (¬2) انظر: الجواب الكافي، ص137. (¬3) سورة النساء، الآية: 146. (¬4) سورة الحج، الآية: 38. (¬5) سورة البقرة، الآية: 257. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 4. (¬7) سورة الأنفال، الآية: 19.

أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬1). ز - العزة: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬2). ح - إعطاؤهم نصيبين من رحمته، وإعطاؤهم نوراً يمشون به ومغفرة ذنوبهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). ط - أمانهم من الخوف يوم يشتد الخوف: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬4). ي - القرآن هدى لهم وشفاء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬5). والمقصود أن الإيمان سبب جالب لكل خير في الدنيا والآخرة، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه عدم الإيمان، فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئاً يسبب له الخسارة في الدنيا والآخرة، فإن الإصرار على الذنوب يسبب الرين على القلوب، فيخاف أن يستمرّ على ذلك فيسبّب له ارتكاب ما يخرجه عن الإيمان بالكليّة، ومن هنا اشتدّ خوف السلف ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬3) سورة الحديد، الآية: 28. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 48. (¬5) سورة فصلت، الآية: 44.

28 [9] توجب القطيعة بين العبد والرب

فقال بعضهم: ((أنتم تخافون الذنوب، وأنا أخاف الكفر)) (¬1). 28 [9] توجب القطيعة بين العبد والرب، وإذا وقعت القطيعة بين العبد وربه انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر، فأيّ فلاح، وأيُّ رجاء، وأيُّ عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه وبين وليّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين (¬2). 29 [10] المعاصي تجعل صاحبها أسيراً للشيطان، وفي سجن شهواته وقيود هواه، فهو أسير مسجون مُقيَّد، ولا أسير أسوأ حالاً من أسيرٍ أسَرَهُ أعدى عدوٍّ له، ولا سجن أضيق من سجن الهوى، ولا قيد أصعب من قيد الشهوة، فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ والله المستعان (¬3). 30 [11] المعاصي تجعل صاحبها من السفلة؛ فإن الله خلق خلقه قسمين: عُلية، وسفلة، وجعل عليين مستقرّ العلية، وأسفل سافلين مستقر السفلة، وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة، وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة (¬4). 31 [12] تُسْقِط الكرامة، من عقوبات المعاصي: سقوط الجاه، ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، ص139، وص217 - 219. (¬2) انظر: الجواب الكافي، ص، 144، 155، 195. (¬3) انظر: الجواب الكافي، ص150. (¬4) انظر: المرجع السابق، ص161.

32 [13] كراهية الله للعاصي

والمنزلة والكرامة عند الله - عز وجل -؛ فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم (¬1)، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده، فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده، وإذا لم يبق له جاه عند الخلق، وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش: خامل الذكر، ساقط القدر، رزيّ الحال، لا حرمة له، ولا فرح له، ولا سرور؛ فإن خمول الذكر، وسقوط القدر والجاه جالب لكل غمٍّ وهمٍّ وحزن، ولا سرور معه، ومن أعظم نعم الله على العبد الطائع أن يرفع له بين العالمين ذكره، ويُعلي قدره (¬2). 32 [13] كراهية الله للعاصي، قال الله - عز وجل -: {وَالله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (¬4). النوع الثالث: آثار المعاصي على البدن: للمعاصي آثار على بدن العاصي، منها على سبيل المثال ما يأتي: 33 [1] العقوبات الشرعية، إذا لم تَرُع العاصي العقوبات السابقة ولم يجد لها تأثيراً في قلبه، فلينظر إلى العقوبات الشرعية التي شرعها الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الجرائم، وهي: الحدود، والكفّارات، والتعزيرات. أما الحدود فهي: قتل المرتدّ، وحدّ الزنا، وحدّ السرقة، وحدّ القذف، وحدّ شرب الخمر، وهذه تحفظ الضرورات الخمس: ((حفظ الدين، ¬

_ (¬1) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ} سورة الحجرات، الآية: 13. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص151. (¬3) سورة البقرة، الآية: 276. (¬4) سورة النساء، الآية: 107.

34 [2] العقوبات القدرية، وهي نوعان:

والنفس، والنسل، والعقل، والمال))، وما شرع الله - عز وجل - هذه الحدود والقصاص إلا لحفظ هذه الضرورات الخمس. وأما الكفّارات: فمنها: كفّارة قتل الخطأ، وكفّارة الظهار، وكفّارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة الوطء في الإحرام، وفي الحيض، والنفاس، وكفّارة اليمين. وأما التعزيرات: فهي حسب ما يراه الحاكم المسلم، وأنه يردع ويزجر (¬1)، ولا يصل التعزير إلى الحد، إلا إذا كان الجرم عظيماً، فقد يصل التعزير إلى القتل، وذلك حسب القواعد الشرعية، لا على حسب هواه (¬2). 34 [2] العقوبات القدريّة، وهي نوعان: نوع على القلوب والنفوس، ونوع على الأبدان والأموال، فالعقوبات القدرية على القلوب: آلام وجودية يضرب بها القلب، وقطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه، وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها. والعقوبات على الأبدان نوعان: نوع في الدنيا، ونوع في الآخرة، والمقصود أن عقوبات السيئات تتنوّع إلى عقوبات شرعية، وعقوبات قدريّة، وهي إمّا في القلب، وإمّا في البدن، وإمّا فيهما، وعقوبات في دار ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص201 - 207، والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص116 - 118. (¬2) انظر: مجلة البحوث الإسلامية، الصادرة من رئاسة البحوث العلمية، قرار هيئة كبار العلماء رقم138، في حكم مهرب ومروج المخدرات، العدد الحادي والعشرون، ص355.

والخلاصة أن العقوبات القدرية:

البرزخ بعد الموت، وعقوبات يوم حشر الأجساد مع الأرواح (¬1). والخلاصة أن العقوبات القدريّة: هي ما يصيب الإنسان في دينه، أو دنياه، أو كليهما: من الفتن، والمحن، والابتلاء، بسائر المصائب على اختلاف أشكالها، وهي على ثلاثة أنواع: منها ما يكون لرفع الدرجات. ومنها ما يكون لتكفير السيئات. ومنها ما يكون عقاباً للإنسان على ظلمه وعدوانه، وعصيانه لربه، وهذه الدرجة الأخيرة عامة للمسلم والكافر، كلٌّ على حسب ذنبه وجرمه (¬2). 35 [3] والمعاصي تُوهن البدن؛ فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنُه، وأما الفاجر فإنه وإن كان قويَّ البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم)) (¬3). النوع الرابع: آثار المعاصي على الرزق: 36 [1] المعاصي تحرم الرزق، ولا شك أن الرجل قد يُحرم الرزق بالذنب يُصيبه، وكما أن تقوى الله مجبلة للرزق كما قال سبحانه: {وَمَن ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص208 - 211. (¬2) انظر: المعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص118. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص106.

37 [2] تزيل النعم، فالمعاصي تزيل النعم، وتحل النقم،

يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬1)، فكذلك ترك تقوى الله مجلبة للفقر، وهذا مفهوم الآية؛ فإن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجاً، ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي (¬2). 37 [2] تُزيل النعم، فالمعاصي تُزيل النعم، وتحلّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: ((ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)) (¬3)، قال الله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} (¬5)، فلا يغيّر الله تعالى نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيِّر عليه جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد. فإن غيّر المعصية بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذلّ بالعزّ، قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص104. (¬3) المرجع السابق، ص142. (¬4) سورة الشورى، الآية: 30. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 53.

38 [3] تزيل البركة في المال، وقد تتلفه

الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (¬1). ولقد أحسن القائل: إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تُزيلُ النِّعَم وحطها بطاعة ربِّ العباد ... فربُّ العباد سريع النقم (¬2) 38 [3] تزيل البركة في المال، وقد تُتلفه، ومن ذلك أن من كذب في بيعه وشرائه، وكتم العيوب في السلعة، عُوقب بمحق البركة، فعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما)) (¬3)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (¬4)، والمعنى أن من أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله يفتح عليه في الدنيا، فييسّر له أداءه، أو يتكفّل الله به عنه يوم القيامة، ومن أخذها يريد إتلافها وقع له الإتلاف في معاشه وماله، وقيل: المراد بذلك عذاب الآخرة (¬5). النوع الخامس: آثار المعاصي العامة على الفرد: 39 [1] تمحق البركات: بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآية: 11. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص142. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، 3/ 14، برقم 2079، ومسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، 3/ 1164، برقم 1532. (¬4) البخاري، كتاب البيوع، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها،3/ 113،برقم 2387. (¬5) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 5/ 54.

40 [2] المعاصي مجلبة للذم،

وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركات الدين والدنيا، فلا تجد أقلّ بركة في عمره، ودينه، ودنياه ممن عصى الله، قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬1)، فالمعاصي سبب لمحق البركات في كل شيء، فينبغي للمسلم أن يهرب من المعاصي حتى تحصل البركة في دينه ودنياه وآخرته (¬2). 40 [2] المعاصي مجلبة للذمّ، فإن من عقوباتها أن تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذمّ والصَّغار، فتسلبه اسم المؤمن، والبَرّ، والمحسن، والمتَقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والوَرِع، والصالح والعابد، والطيِّب، ونحو ذلك. وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والخبيث، والكاذب، والخائن، وقاطع الرحم، والغادر، والفاجر، وأمثالها، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء القبيحة وموجباتها، لكان في العقل ناهٍ عنها. والله المستعان (¬3). 41 [3] المعاصي تجرِّئ على الإنسان أعداءه، وهذا من عقوباتها على فاعلها، فتجرِّئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء، والوسوسة، والتخويف، والتحزين، وإنسائه ما فيه مصلحته. وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص157 - 161. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص152.

42 [4] تضعف العبد أمام نفسه،

وتجرئ عليه أهله، وخدمه وأولاده، وجيرانه، وهذا يكفي في قبح المعاصي. والله المستعان (¬1). 42 [4] تضعف العبد أمام نفسه، وهذا من أعظم عقوبات المعاصي، فإنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده، وأعلم الناس أعرفهم بذلك على التفصيل، والمعاصي تخون العبد في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظ العالي الدائم على الحظ الخسيس المنقطع، فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم، وعن الاشتغال بما هو أولى به وأنفع له في الدارين، فإذا وقع في مكروه واحتاج إلى التخلص منه خانه قلبه ونفسه وجوارحه، وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الصدأ، ولزمه في غمده بحيث لا ينجذب إذا جذبه، فعرض له عدوّ يريد قتله، فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه فلم يخرج معه، فدهمه العدو وظفر به، فكذلك القلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، إذا احتاج إلى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئاً، والعبد إنما يُحارب ويُصاول ويُقدم بقلبه، والجوارح تبع للقلب. والمقصود أن العبد إذا وقع في شدّة أو كربة أو بليِّة خانه قلبه، ولسانه، وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه، والتذلّل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فحينئذٍ يذكره بقلب لاهٍ ساهٍ غافل، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له، ولم ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، ص166.

43 [5] مكر الله بالماكر، ومخادعته للمخادع، واستهزاؤه بالمستهزئ

تطاوعه، هذا كله أثر الذنوب والمعاصي. وهناك أمر أخوف من ذلك وأدهى منه، وهو أن يخون العاصي قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، كما شهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كثيراً من هذه الوقائع، منها: أن رجلاً شحَّاذاً قال عند موته: ((فلس لله، فِلْسٌ لله)) حتى خرجت روحه. وقيل لتاجر عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال: ((هذه القطعة رخيصة هذا مُشترَى جيد))، حتى قضى. ولُقِّن آخر ((لا إله إلا الله))، فقال: ((كلما أردت أن أقولها ولساني يمسك عنها)). وغير ذلك من القصص كثير (¬1). نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. 43 [5] مكر الله بالماكر، ومُخادعته للمُخادع، واستهزاؤه بالمستهزئ، وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق، وكل ذلك من عقوبات المعاصي، وأضرارها، نسأل الله العفو والعافية (¬2). 44 [6] المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ، والعذاب في الآخرة، كلّ ذلك من عقوبات المعاصي، قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص168 - 171. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص215.

45 [7] تعسير أموره عليه، وهذا من أعظم ما يصيب العاصي

فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده، ولا تقرّ العين، ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإلهها، ومعبودها الذي هو الحقّ، وكل معبود سواه باطل، فمن قرّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تقطَعت نفسه على الدنيا حسرات)) (¬2). 45 [7] تعسير أموره عليه، وهذا من أعظم ما يصيب العاصي، فلا يتوجَّهُ لأمر إلا يجده مُغلقاً دونه، أو متعسّراً عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسراً، فمن عطّل التقوى جعل له من أمره عسراً، ويا لله العجب كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه وطرقها معسرة عليه وهو لا يعلم من أين أُتي؟ (¬3). 46 [8] تُقصِّر المعاصي العمر، وتمحق بركته ولابدّ؛ فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور يقصّر العمر، وقد اختلف العلماء في ذلك فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه، وهذا حق وهو بعض تأثير المعاصي. وقالت طائفة بل تنقصه حقيقة كما تنقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسباباً كثيرة تكثره وتزيده، وللبركة في العمر أسباباً تكثره وتزيده. ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب، ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 124. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص216. (¬3) المرجع السابق، ص105.

47 [9] يرفع الله مهابة العاصي من قلوب الخلق،

فالأرزاق والآجال، والصحة والمرض، والغنى والفقر، وإن كانت بقضاء الرب - عز وجل - فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها لمسبباتها مقتضية لها. وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها، فإذا أعرض العبد عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية (¬1). 47 [9] يرفع الله مهابة العاصي من قلوب الخلق، وهذا من بعض عقوبات المعاصي، فلاشك أنه يهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخفّ به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظّمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس، أم كيف يستخفّ بمعاصي الله ولا يستخفّ به الخلق؟ (¬2) قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬3). النوع السادس: آثار المعاصي على الأعمال: لاشك أن الأعمال تتأثر في بعض الأحوال بالمعاصي، ومن ذلك ما يأتي: 48 [1] عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لأعلمنَّ أقواماً من أمتي ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، ص107. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص134. (¬3) سورة الحج، الآية: 18.

49 [2] أتدرون ما المفلس

يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة، بيضاً فيجعلها الله - عز وجل - هباءً منثوراً))، قال ثوبان - رضي الله عنه -: يا رسول الله صفهم لنا، جَلِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) (¬1)، قلت: ولعل هؤلاء استحلّوا هذه المحارم، أو عملوا عملاً يخرجهم عن الإسلام، أو لهم غرماء أُعطوا هذه الحسنات كلها، والله - عز وجل - أعلم. 49 [2] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة: بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار)) (¬2). ثانياً: آثار المعاصي على المجتمع: المعاصي لها تأثير عظيم على المجتمعات والأمم، ومن ذلك على سبيل المثال ما يأتي: 50 [1] إهلاك الأمم بسبب المعاصي، لاشك أن جميع الأضرار في الدنيا والآخرة تحصل بسبب المعاصي. فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة، والنعيم، والبهجة، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، 2/ 1418، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 17، برقم 505، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 417. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1997، برقم 2581.

والسرور، إلى دار الآلام، والأحزان، والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده، ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بُعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظّى، وبالإيمان كفراً؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماءُ فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلّط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمّرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظّى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم: فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون، وداره، وماله، وأهله؟

51 [2] إزالة النعم، فالمعاصي تزيل النعم بأنواعها

وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرَّها تدميراً؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ (¬1) لاشك أن الذي أصاب هؤلاء جميعاً وأهلكهم هي ذنوبهم. 51 [2] إزالة النعم، فالمعاصي تزيل النعم بأنواعها؛ فإن شكر الله على نعمه يزيدها، قال الله - عز وجل -: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} (¬2)، ونعم الله على عباده كثيرة لا تُحصى، كما قال - عز وجل -: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬4). ومن النعم على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: النوع الأول: نعمة الإيمان، وهي أعظم النعم على الإطلاق. النوع الثاني: نعمة المال والرزق الحلال. النوع الثالث: نعمة الأولاد. النوع الرابع: نعمة الأمن في الأوطان. النوع الخامس: نعمة العافية في الأبدان (¬5). وهذه النعم وغيرها تزيد بالشكر، وتزول أو تنقص، أو لا يبارك فيها ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص84 - 86. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬3) سورة النحل، الآية: 18. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 34. (¬5) انظر: الجواب الكافي، ص142، والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص141 - 150.

52 [3] نزول العقوبات العامة المهلكة، ومنها ما يأتي:

للعبد بالذنوب والمعاصي، والإعراض عن الله - عز وجل -. قال الله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬1). 52 [3] نزول العقوبات العامة المهلكة، ومنها ما يأتي: أ - ظهور الطاعون. ب - نزول الأوجاع التي لم تكن في الأسلاف الذين مضوا. ج - الأخذ بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان. د - منع القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا. هـ‍ - تسليط الأعداء. ويجعل الله بأسهم بينهم. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 30. (¬2) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الفتن، باب العقوبات، 2/ 1332، برقم 4019، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 4/ 540، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 370، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 7، برقم 106.

53 [4] حلول الهزائم،

وهذا من أعلام نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد وقع ذلك كله بمن وقع في هذه المعاصي، ومن الأدلة المحسوسة على ذلك مرض الإيدز الذي وقع بمن أعلنوا بالفواحش، نسأل الله العفو والعافية (¬1). 53 [4] حلول الهزائم، فإن ذلك بأسباب المعاصي والإعراض عن دين الله - عز وجل -، كما أن من أسباب النصر الطاعة والإقبال على الله - سبحانه وتعالى -، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَالله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬2)، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬3)، وقال الله - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬5)، وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (¬6)، فالأخذ بهذه الأسباب من أعظم ¬

_ (¬1) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص506. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 45 - 47. (¬3) سورة غافر، الآية: 51. (¬4) سورة الروم، الآية: 47. (¬5) سورة الحج، الآية: 40. (¬6) سورة محمد، الآيتان: 7 - 8.

54 [5] المعاصي مواريث الأمم الظالمة

أسباب النصر، وتركها من أعظم أسباب حلول الهزائم والخسارة في الدنيا والآخرة (¬1). 54 [5] المعاصي مواريث الأمم الظالمة، فليحذر المسلم أن يرث المعاصي عن الظالمين، فإن اللوطية: ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص: ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض بالفساد: ميراث عن قوم فرعون، والتكبر والتجبر: ميراث عن قوم هود، وغير ذلك، فالعاصي لابس ثياب هذه الأمم، وهم أعداء الله - عز وجل - (¬2). 55 [6] المعاصي تؤثر حتى على الدوابّ، والأشجار، والأرض وعلى المخلوقات. 56 [7] تسبب عذاب القبر، وعذاب يوم القيامة، وعذاب النار، نعوذ بالله من ذلك (¬3). * المسلك الثامن: العلاج: إن العباد لهم منجيات تنجيهم من المهالك والجرائم، والمصائب إذا حلت بهم، وتنجيهم من حلول العقوبات قبل نزولها، وتسبّب لهم السعادة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الأمور ما يأتي: أولاً: التوبة النصوح والاستغفار من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، ¬

_ (¬1) انظر: المعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص153 - 154. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص111. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص120 - 124، والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص164 - 222.

التوبة لها فضائل عظيمة يجنيها التائب، ومنها على سبيل المثال ما يأتي:

قال الله - عز وجل -: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا} (¬2)، وقال - عز وجل -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3)، وقد مدح الله المسارعين إلى التوبة فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬4)، وقال الله - عز وجل -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬5). والتوبة لها فضائل عظيمة يجنيها التائب، ومنها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - محبّة الله للتوّابين، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬6). 2 - فرح الله - عز وجل - بتوبة عبده إليه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 31. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8. (¬3) سورة الزمر، الآية: 53. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬5) سورة طه، الآية: 82. (¬6) سورة البقرة، الآية: 222.

3 - تبديل الله - عز وجل - السيئات حسنات

قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدّة الفرح)) (¬1). 3 - تبديل الله - عز وجل - السيئات حسنات، قال الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬2). 4 - التوبة الخالصة الصادقة من جميع الذنوب يدخل الله صاحبها الجنة، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3). والتوبة لها شروط وأركان لا تُقبل إلا بها، وهي: أ- الإقلاع عن المعصية وتركها. ب - العزيمة على عدم العودة إليها أبداً. ج - الندم على فعلها. د - إن كانت المعصية في حق آدمي فلها شرط أو ركن رابع، وهو ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، 7/ 189، برقم 6309، ومسلم واللفظ له، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، 4/ 2104، برقم 2747. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 68 - 70. (¬3) سورة التحريم، الآية: 8.

ثانيا: تقوى الله - عز وجل -، في السر والعلن

التحلّل من صاحب ذلك الحق، وردّ الحقوق. ولا تنفع التوبة عند الغرغرة، أو بعد طلوع الشمس من مغربها (¬1). ثانياً: تقوى الله - عز وجل -، في السر والعلن، وهي أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله. ويجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك. ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله - عز وجل -: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُنُّه فلا يستجيب لكم)) (¬3)، وقال الله - عز وجل -: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، 1/ 201 - 440، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 59، والآداب الشرعية لابن مفلح، 1/ 85 - 156، وغذاء الألباب، للسفاريني، 2/ 568 - 596. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 104. (¬3) الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،4/ 468،برقم 2169، وأحمد في اللفظ له في مسنده، 5/ 388،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 233. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 165.

رابعا: الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال

رابعاً: الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال (¬1). خامساً: الدعاء والالتجاء إلى الله - عز وجل -: 1 - الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلَّف عنه أثره: إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله - عز وجل -. وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو. وإما لعدم توافر شروط الدعاء المستجاب (¬2). 2 - الدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء: يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن (¬3). 3 - مقامات الدعاء مع البلاء ثلاثة: المقام الأول: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. المقام الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً. ¬

_ (¬1) انظر: المعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، ص303 - 322. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص22، 35. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص23 - 24.

المقام الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه

المقام الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه (¬1). فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)) (¬2)، وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يردُّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العُمرِ إلا البر)) (¬3). 4 - الإلحاح في الدعاء من أنفع الأدوية، فالمسلم الصادق يُقبل على الدعاء، ويلزمه، ويُواظب عليه، ويُكرره في أوقات الإجابة، وهذا من أعظم ما يُطلب به إجابة الدعاء (¬4). 5 - آفات الدعاء: إن من آفات الدعاء التي تمنع ترتّب أثره، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويترك الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعهّده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص24، 35 - 37. (¬2) الحاكم، 1/ 493، وأحمد في المسند، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، 3/ 151، برقم 3402. (¬3) الترمذي، في كتاب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا بالدعاء، 4/ 484، برقم 2139، بلفظه، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، وأخرجه الحاكم بنحوه، 1/ 493، من حديث ثوبان وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 76، برقم 154، وفي صحيح سنن الترمذي، لشاهده من حديث ثوبان عند الحاكم، وعند ابن ماجه، برقم 4022، وأحمد، 5/ 277. (¬4) انظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص25، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف [المؤلف]، ص51 - 52. (¬5) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص26، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف [المؤلف]، ص39.

6 - أوقات إجابة الدعاء مهمة ينبغي أن يعتني الداعي في دعائه بها

6 - أوقات إجابة الدعاء مهمة ينبغي أن يعتني الداعي في دعائه بها، ومن أعظمها: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى صلاة الجمعة، وآخر ساعة بعد عصر يوم الجمعة، فإذا حضر القلب في هذه الأوقات، وصادف خشوعاً وانكساراً بين يدي الرب، وذلاً له وتضرّعاً ورقّة، واستقبل الداعي القبلة؛ وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة، وتوسّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته، وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يُردّ أبداً (¬1). 7 - أهم ما يسأل العبد ربه، لا شك أن العبد يسأل الله كلّ شيء يحتاجه في أمر دينه ودنياه؛ لأن الخزائن كلها بيده - سبحانه وتعالى -، وهو - عز وجل - لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، ويحب - عز وجل - أن يُسأل، فليسألْه العبدُ كلّ شيء يحتاجه، حتى شِسعَ نعله، ويهتم العبد اهتماماً بالغاً بالأمور المهمّة العظيمة التي فيها السعادة الحقيقية، ومن أهمّ ذلك تسعة أمور، هي: الأمر الخامس: سؤال الله - عز وجل -: الثبات على دينه. الأمر السادس: سؤال الله سبحانه: حسن العاقبة في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص27 - 28، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف [المؤلف]، ص45 - 91.

الأمر السابع: سؤال الله تعالى: دوام النعمة والاستعاذة به من زوالها. الأمر الثامن: الاستعاذة بالله: من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعدا. الأمر التاسع: سؤال الله: صلاح الدين والدنيا والآخرة (¬1). والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وينفع به كل من انتهى إليه، فإنه تعالى خير مسؤول وأكرم مأمول وهو حسبي ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه: نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/ 38 - 40، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، للمؤلف، ص13 6 - 149.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع * القرآن الكريم آداب الزفاف في السنة المطهرة، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، بيروت. الآداب الشرعية، للإمام أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي (ت 673هـ)، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعمر القيام، الطبعة الأولى، 1416هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. اجتماع الجيوش الإسلامية، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الشهير بابن قيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق عواد عبد الله المعتق، الطبعة الأولى، 1408 هـ، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، المملكة العربية السعودية. الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، للشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري، الطبعة الأولى، 1402 هـ، دار الأرقم، الكويت. الإخلاص والشرك الأصغر، لعبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. أربعون حديثاً في مدح السنة وذم البدعة، يوسف بن إسماعيل النبهاني، بعناية بسام بن عبدالوهاب الجابي، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار ابن حزم، بيروت، لبنان. الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد، للدكتور صالح بن فوزان، الطبعة الثانية، 1413 هـ، توزيع المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد بسلطانة، الرياض، المملكة العربية السعودية. إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقة بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، طبعة 1402هـ، مكتبة دار المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. إرشاد أولي الساري لشرح صحيح البخاري، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، ت 923هـ، الطبعة السادسة، 1304هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. الاستذكار، للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، 1401هـ، دار قتيبة للطباعة والنشر، دمشق، بيروت.

إصلاح المساجد من البدع والعوائد، محمد بن جمال الدين القاسمي، تخريج ناصر الدين الألباني، الطبعة الخامسة، 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. أصول في البدع والسنن، محمد بن أحمد العدوي، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الفتح، الشارقة. أصول وضوابط في التكفير، العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، اعتنى به عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم، الطبعة الأولى 1413 هـ، دار المنارة، المملكة العربية السعودية. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، ت 1393هـ، طبعة 1403هـ، طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. الاعتصام، للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، ت 790 هـ، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، مكتبة حميدو، الإسكندرية، مصر. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728، تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة 1404 هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. إكمال إكمال المعلم، لمحمد بن خليفة الأشناني الأبي، ت 828هـ، ضبطه وصححه محمد سالم هاشم دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. أمثال القرآن، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي بن قيم الجوزية، ت751هـ، تحقيق د ناصر بن سعد الرشيد، الطبعة الأولى، 1400هـ، دار مكة، المملكة العربية السعودية. الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، للحافظ جلال الدين السيوطي، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، الطبعة الثانية، 1416 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. الإيمان، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728 هـ، الطبعة الثانية، 1392 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. البداية والنهاية، للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: 747هـ، الطبعة الثالثة، 1979م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان. البدع: أساليبها ومضارها، للشيخ محمود شلتوت، ت 1383 هـ، تحقيق علي بن حسن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1408هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية.

البدع والمحدثات وما لا أصل له، لابن باز، وابن عثيمين ومجموعة من العلماء، جمع حمود بن عبد الله المطر، الطبعة الأولى، 1419 هـ، دار ابن خزيمة، الرياض، المملكة العربية السعودية. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت376 1 هـ، تخريج بدر البدر، الطبعة الثالثة، 1408 هـ، مكتبة السندس، الكويت. بيان حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل، للدكتور صالح بن فوزان، طبعة 1414 هـ، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، الطبعة الثانية، 1413 هـ دار الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق طارق بن عوض الدارعي، طبع ونشر مؤسسة قرطبة، الأندلس. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، 1398 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، أحمد بن حجر آل بوطامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ، مكتبة ابن تيمية، الكويت. التحذير من البدع، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، الطبعة الثانية، 1412 هـ، دار إمام الدعوة، الرياض، المملكة العربية السعودية. تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، لأبي العُلا محمد عبد الرحمن عبد الرحيم المباركفوري، ت 1353 هـ، الطبعة الثانية، 1457 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت 656 هـ، تحقيق محيي الدين ديب مستو، سمير أحمد العطار، يوسف على بدوي، الطبعة الثانية، 1417 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، ت 816 هـ، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ، عالم الكتب، بيروت، لبنان. تفسير البغوي (معالم التنزيل)،للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت516 هـ، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، الطبعة الأولى، 1406 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 315 هـ، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر. تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن الخطيب عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، طبعة 1407 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمعه محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، الدكتور صالح بن سعد السميحي، الطبعة الأولى، 1410، دار ابن حزم، الرياض، المملكة العربية السعودية. تهذيب سنن أبي داود (المطبوع مع معالم السنن)، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمدبن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376هـ، طبعة 1406 هـ، مكتبة المعارف، الرياض المملكة العربية السعودية. تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، للعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب، ت 1233 هـ، الطبعة، 1406 هـ، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت1376هـ، تحقيق محمد زهري النجار، طبعة 1404 هـ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. ثلاثة الأصول، لمحمد بن عبد الوهاب، ت 1206 هـ، بحاشية عبد الرحمن بن محمدبن قاسم، ت 1392 هـ، الطبعة الخامسة، 1407 هـ. جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت656 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1453 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى 1414 هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبى، ت 671 هـ، تحقيق محمد إبراهيم الحفناوي، ومحمود حامد عثمان، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الحديث، القاهرة. جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، للإمام شمس الدين أبي عبد الله بن أبى بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الشهير بابن القيم، ت 751 هـ، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1407 هـ دار العروبة، الصفاة، الكويت. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت751هـ، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، الطبعة الأولى،1407هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، للعلامة عبد الهادي السندي، ت 1138 هـ، المطبوع مع سنن النسائي بعناية عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. حقيقة البدعة وأحكامها، سعيد بن ناصر الغامدي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الرشد، المملكة العربية السعودية. الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثالثة، 1417 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ت 430 هـ، بدون تاريخ، دار الكتب العربية، بيروت، لبنان. درء تعارض العقل والنقل، لأبي العباس تقي الدين أحمدبن عبدالحليم ابن تيمية، ت 728 هـ، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1450 هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، 1418، مركز الدراسات والإعلام، دار إشبيليا، الرياض، المملكة العربية السعودية. الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت 1392 هـ الطبعة الثانية، 1385 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. ديوان الإمام الشافعي، لأبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ت 254 هـ، جمعه وعلق عليه محمد عفيف الزعبي، الطبعة الثالثة، 1392 هـ، مؤسسة الزعبي، بيروت، لبنان. الرياء: ذمه وأثره السيئ في الأمة، سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1399 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. الزهد والرقائق، للإمام عبد الله بن المبارك المروزي، ت 181 هـ، تحقيق أحمد فريد، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار المعراج الدولية للنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية. سلسلة الأحاديث الصحيحة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر. سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة 1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية

والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، ت 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان. سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد لن الحسين بن على البيهقي، ت 458 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت 303 هـ، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، ت 911 هـ، وحاشية السندي، ت 1138 هـ، الطبعة الأولى، 1406 هـ، اعتنى به ورقمه عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام أبي القاسم هبة الله بن حسن الطبري اللالكائى، ت 418 هـ، تحقيق د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، الطبعة الرابعة، 1416 هـ، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية. شرح الزرقاني على الموطأ، محمد بن عبد الباقي بن يوسف، الزرقانى، ت 1122 هـ، الطبعة الأولى، 1411 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. شرح السنة، للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت 519 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1396 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. شرح السيوطي على سنن النسائي، للعلامة عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر محمد بن سابق الدين، ت 911 هـ، بعناية عبد الفتاح أبوغدة، الطبعة الثانية، 1456 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. شرح صحيح مسلم للنووي، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار القلم، بيروت، لبنان. شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، شرف الدين الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي، ت 743 هـ، تحقيق عبد الحميد هنداوي، الطبعة الأولى، 1417 هـ، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، المملكة العربية السعودية. شرح العقيدة الطحاويه، للعلامة علي بن علي بن محمدبن أبي العز الدمشقي، ت 792 هـ، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.

شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت 728 هـ، بقلم العلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، الطبعة الخامسة، 1411 هـ، طبع تحت إشراف الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، تخريج علوي السقاف، الطبعة الأولى، 1411 هـ، دار الهجرة، الرياض، المملكة العربية السعودية. شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، ت 728، بقلم محمد بن صالح العثيمين، جمع سعد فواز الجميل، الطبعة الثانية، 1415 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. شرح لمعة الاعتقاد، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، ت620 هـ بقلم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى، 1407 هـ، دار ابن القيم. شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، ت 321 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1415 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. شروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الأولى، 1416 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. شعب الإيمان، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. وطبعة 1315 هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. صحيح الترغيب والترهيب، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1412 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح الجامع الصغير، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1388 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، للإمام أبي حاتم محمدبن أحمدبن حبان البستي، ت354 هـ، رتبه الأمير علاء الدين علي بن سليمان بن بلبان الفارسي، ت 739 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ت 311 هـ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، طبعة 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى،

1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح سنن أبي داود باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1407 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح سنن النسائي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري االنيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. صفات المنافقين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ. صفة النفاق، للإمام جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي، 301 هـ، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى 1405 هـ.، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي. الضوء المنير على التفسير، جمع علي الحمد المحمد الصالحي من كتب ابن قيم الجوزية، بدون تاريخ، مؤسسة النور للطباعة والتجليد، عنيزة، مكتبة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية. الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، ت 235 هـ، تحقيق محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. ظلال الجنة في تخريج السنة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ت 449 هـ، تحقيق ناصر بن عبد الرحمن الجديع، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار العاصمة الرياض، المملكة العربية السعودية. علم أصول البدع، علي بن حسن بن عبد الحميد، الطبعة الثانية، 1417 هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية. غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، للشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفارينى، ت 1188 هـ، طبعة 1393 هـ، مؤسسة قرطبة، المملكة العربية السعودية. الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، الدكتور عبد الرحمن معلا اللويحق، الطبعة الثانية، 1416 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. فتاوى إسلامية، جمع وترتيب، محمد بن عبد العزيز المسند، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية.

فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويش، الطبعة الأولى، 1413 هـ، نشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. فتاوى محمد بن صالح العثيمين، جمع فهد بن ناصر السليمان، الطبعة الأولى، دار الوطن، المملكة العربية السعودية. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. فتح رب البرية بتلخيص الحموية، للشيخ الإسلام ابن تيمية، ت 728 هـ، بقلم العلامة محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الثانية، 1404 هـ، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية. فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي، ت 282هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، 1397هـ، المكتب الإسلامي. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت 1250 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، د. عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت 1285هـ، تحقيق د. الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية. وطبعة دار المنار، بعناية صادق بن سليم بن صادق، الرياض، المملكة العربية السعودية. الفوائد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزقية، ت 751هـ، تحقيق بشير محمد عيون، الطبعة الأولى، 1407هـ، مكتبة دار البيان، دمشق، سورية. فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة عبد الرؤوف المناوي، ت 1031 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت 817 هـ الطبعة الأولى، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثانية، 1417 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها، للعلامة عبد العزيز بن عبدالله ابن باز، اعتنى به، خالد بن عبد الرحمن الشايع، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار بلنسية. القول السديد في مقاصد التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، بعناية وتخريج د. المرتضى الزين أحمد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، مجموعة التحف النفائس الدولية، الرياض، المملكة العربية السعودية. كتاب الإخلاص، حسين العوايشة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن.

كتاب الإيمان، للحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحق بن يحيى بن منده، ت 395 هـ، تحقيق د. على بن محمد فقيهي، الطبعة الثانية، 1456 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام، شهاب الدين أبي محمدعبدالرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، ت 665 هـ، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية. كتاب التوحيد، للدكتور صالح بن فوزان الفوزان، طبعة خيرية بدون تاريخ. كتاب الحوادث والبدع، للعلامة إبراهيم بن أحمد الطرطوشي، ت 579 هـ، تحقيق عبدالمجيد تركي، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان. كتاب الزهد، للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت 241 هـ، تحقيق محمد السعيد بسيوني، الطبعة الأولى، 1456 هـ، دار الكتاب العربي، الرملة، بير وت، لبنان. كتاب السنة، للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، ت 287 هـ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة لمحمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. كتاب فيه ما جاء في البدع، للإمام محمد بن وضاح القرطبي، ت 287 هـ، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى، 1416 هـ دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية. الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المطبوع ضمن الجامع الفريد، بدون تاريخ، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن مكرم بن علي بن منظور، ت 711 هـ، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، دار صادر، بيروت، لبنان. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، للحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، ت 795 هـ، تحقيق ياسين بن محمد السواس، الطبعة الثالثة، 1416 هـ، دار ابن كثير، بيروت. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. مجلة البحوث الإسلامية، العدد 12، نشرة إدارة البحوث العلمية للإفتاء، المملكة العربية السعودية. مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للحافظ نور الدين علي بن أبى بكر الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، الطبعة الثانية، 1415 هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، الطبعة الثالثة، 1402 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

مجموع فتاوى ابن تيمية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ت 728 هـ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، بدون تاريخ، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، جمع وترتيب د. محمد بن سعد الشويعر، الطبعة الأولى 1408 هـ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث والعلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. مجموعة التوحيد، لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، بدون تاريخ، المكتبة السلفية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية. مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، جامعة الإمام محمدبن سعود الإسلامية. مختار الصحاح، للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، طبعة 1985م، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان. مختصر الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، ت 279 هـ، اختصره محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1415 هـ، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن. مختصر منهاج القاصدين، للإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسى، ت 689 هـ، تعليق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1398 هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة بدون تاريخ، مكتبة السنة المحمدية، ومكتبة تيمية، القاهرة. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، ت 1014 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، شرحه وضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر. مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241 هـ، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، لبنان. مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للإمام القاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي، بدون تاريخ، المكتبة العتيقة، تونس، دار التراث، القاهرة. مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، ت 737هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة 1405هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. المصنف، للحافظ أي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت 211هـ، تحقيق حبيب

الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، ت 377 هـ، تخريج عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة الثانية، 1413 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. المعاصي وأثرها على الفرد والمجتمع، لحامد المصلح، الطبعة الأولى، 1410 هـ، مكتبة الضياء، جدة، المملكة العربية السعودية. معجم الطبراني الكبير، للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ت 360هـ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، وزارة الأوقاف والشئون الدينية بالجمهورية العراقية. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمد فؤاد عبد الباقيبدون تاريخ، دار الدعوة، إستانبول. معجم المقاييس في اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395 هـ، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، 1392هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا. مفردات ألفاظ القرآن، العلامة الراغب الأصفهاني، ت 502 هـ، تحقيق صفوان عدنان داوودي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار القلم، دمشق، دار الشامية، بيروت. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت 656 هـ، تحقيق محيى الدين مستو وجماعة، الطبعة الأولى، 1417 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. مقامع الشيطان، لسليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408 هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية. المنافقون في القرآن الكريم، للدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الحميدي، الطبعة الأولى، 1409 هـ دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، المملكة العربية السعودية. مناهج الجدل في القرآن الكريم، للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، الطبعة الثالثة، 1404 هـ، مطابع الفرزدق، الرياض. موطأ الإمام مالك، للإمام مالك بن أنس، ت 179 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وأولاده. النفاق وآثاره ومفاهيمه، للشيخ عبد الرحمن الدوسري، الطبعة الأولى، 1400 هـ، دار الأرقم، الكويت. النهاية في غريب الحديث، للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، للدوسري.

نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، للدكتور محمد بن عبدالله الوهيبي، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار المسلم، الرياض، المملكة العربية السعودية. نواقض الإيمان القولية والعملية، للدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. نونية القحطاني، عبد الله بن محمد الأندلسي، ت 387 هـ، تصحيح وتعليق محمد بن أحمد سيد أحمد، الطبعة الأولى 1409 هـ، مكتبة السوادي، جدة، المملكة العربية السعودية. النية وأثرها في الأحكام الشرعية، الدكتور صالح بن غانم السدلان، الطبعة الثانية، 1414 هـ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية. وجوب التعاون بين المسلمين، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، طبعة 1402 هـ، مكتبة المعارف، الرياض المملكة العربية السعودية.

§1/1