نور التقوى وظلمات المعاصي في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((نور التقوى وظلمات المعاصي)) أوضحت فيها نور التقوى، ومفهومها، وأهميتها، وصفات المتقين، وثمرات التقوى، وبيّنت فيها: ظلمات المعاصي، ومفهومها، وأسبابها، ومداخلها، وأصولها، وأقسامها، وأنواعها وآثارها، على الفرد والمجتمع، وعلاج المعاصي وأصحابها. لاشك أن الله - عز وجل - يحب المتقين، ويجعل لهم المكانة العالية في الدنيا والآخرة، ولهم الفوز والفلاح في الدارين، ويهديهم الله للعلم النافع، والعمل الصالح، ويحصل بها تيسير الأمور، ويجعل الله للمتقين نور العلم والإيمان يمشون به في ظلمات الجهل، والضلال، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ

وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). وأما أصحاب المعاصي فهم يتقلّبون في ظلماتها، ويُحرمون نور العلم النافع، ويجدون الظلمات في قلوبهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((إن للحسنة: ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، وَوَهَناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق)) (¬2). نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وقد قسَّمتُ هذا البحث إلى مبحثين، وتحت كل مبحث مطالب على النحو الآتي: المبحث الأول: نور التقوى وثمراتها: المطلب الأول: مفهوم التقوى. المطلب الثاني: أهمية التقوى. المطلب الثالث: صفات المتقين. المطلب الرابع: ثمرات التقوى. المبحث الثاني: ظلمات المعاصي وأضرارها: المطلب الأول: مفهوم المعاصي وأسماؤها. المطلب الثاني: أسباب المعاصي. المطلب الثالث: مداخل المعاصي. ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 28. (¬2) ذكره ابن القيم في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص106.

المطلب الرابع: أصول المعاصي. المطلب الخامس: أقسام المعاصي. المطلب السادس: أنواع المعاصي. المطلب السابع: آثار المعاصي على الفرد والمجتمع. المطلب الثامن: العلاج. والله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يجعل هذا العمل مباركاً، خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً لي في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه - عز وجل - خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف حرر في ليلة الأربعاء، الموافق 17/ 10/1419هـ‍

المبحث الأول: نور التقوى وثمراتها

المبحث الأول: نور التقوى وثمراتها المطلب الأول: مفهوم التقوى التقوى لغة: الحذر، يقال: اتقيت الشيء، وتَقَيْتُهُ أتقيه تُقَى، وتِقيَّةً، وتِقاءً: حذرتُه. وقوله - عز وجل -: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (¬1)، أي هو أهلٌ أن يُتّقى عقابه، وأهل أن يُعمل بما يُؤدّي إلى مغفرته (¬2). وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه: من غضبه وسخطه، وعقابه وقايةً من ذلك. وهو فعل طاعته واجتناب معصيته (¬3)، فظهر من ذلك أن حقيقة التقوى كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: ((التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله)) (¬4). ويدخل في التقوى الكاملة: فعل الواجبات، وترك المحرّمات، والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات، وترك المكروهات، وهو أعلى درجات التقوى (¬5)، وقد عرّف التقوى الكاملة ¬

(¬1) سورة المدثر، الآية: 56. (¬2) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الياء، فصل الواو، مادة ((وقي))، 15/ 402، والقاموس المحيط، باب الياء، فصل الواو، مادة ((وقى))، ص1731. (¬3) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 398، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير، 2/ 181. (¬4) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 400. (¬5) المرجع السابق، 1/ 399.

الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في تفسيره لقول الله - عز وجل -: {اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬1)، فقال: ((أن يُطاع فلا يُعصَى، ويُذكر فلا يُنسَى، وأن يُشكر فلا يُكفر)) (¬2)، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات، ومعنى ذكره فلا يُنسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته، وسكناته، وكلماته: فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها)) (¬3). وذكر الإمام القرطبي رحمه الله: ((أن قول الله - عز وجل -: {اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ} بَيَّنه قوله تعالى: {فاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)، وأن المعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وبيّن أن هذا أصوب من القول بالنسخ؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى)) (¬5). وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرّمات، كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - وسُئل عن التقوى؟ فقال: ((هل أخذت طريقاً ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوكَ عدلتُ عنه، أو جاوزتُه، أو قصرتُ عنه، قال: ذاك التقوى، وأخذ هذا المعنى ابن المعتز، فقال: خلِّ الذنوب صغيرَها ... وكبيرَها فهو التقى ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير، 9/ 92، برقم 8502، والحاكم في المستدرك، 2/ 294، وابن جرير في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/ 65، وذكر طرقاً كثيرة من رقم 7536 إلى رقم 7551. (¬3) جامع العلوم والحكم، 1/ 401. (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 4/ 166.

المطلب الثاني: أهمية التقوى

واصنع كماشٍ فوق ... أرض الشوك يحذر ما يَرَى لا تحقرنَّ صغيرة ... إن الجبالَ من الحصى (¬1) المطلب الثاني: أهمية التقوى التقوى من أهم أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؛ لأمور، منها: أولاً: أن الله - عز وجل - أوصى الأوّلين والآخرين بالتقوى فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله} (¬2)، فهذه وصية عظيمة للأولين والآخرين بالتقوى المتضمِّنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب، والمعاقبة لمن ضيَّعها وأهملها بأليم العقاب، ولهذا قال: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا}. قال العلامة السعدي رحمه الله: (({وَإِن تَكْفُرُواْ} بأن تتركوا تقوى الله وتشركوا بالله ما لم يُنزِّل به سلطاناً فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئاً، ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له، خاضعون لأمره؛ ولهذا رتّب على ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله غَنِيًّا حَمِيدًا} له الجود الكامل، والإحسان الشامل، الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق، ولا يغيضها نفقةـ سحّاء الليل والنهار)) (¬3). ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 402. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص171.

ثانيا: أمر الله عز وجل بالتقوى

والحميد من أسماء الله تعالى الحسنى الدال على أنه المستحق لكل حمد ومحبة، وثناء وإعظام، وذلك لما اتّصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال؛ ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال، وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين ((الغني الحميد))؛ فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وكمال من حمده، وكمال من اقترن أحدهما بالآخر)) (¬1). ثانياً: أمر الله - عز وجل - بالتقوى، وأوجب العمل بها على عباده في آيات كثيرة، منها: 1 - قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (¬2). 2 - وقال - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (¬3). 3 - وقال - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). 4 - قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬5). ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص171. (¬2) سورة البقرة، الآية: 281. (¬3) سورة البقرة، الآية: 48، وانظر: الآية: 123. (¬4) سورة البقرة، الآية: 231. (¬5) سورة النساء، الآية: 1.

ثالثا: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى وحث عليها

5 - وقال - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬1)، والآيات في الأمر بالتقوى كثيرة جداً (¬2). ثالثاً: أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى، وحث عليها في أحاديث كثيرة، منها: 1 - عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع فقال: ((اتقوا الله ربكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالِكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) (¬3). 2 - أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بالتقوى، ووصيّته لرجل واحد وصيّة للأمة فقال: ((اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيّئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقِ الله حيثما كنت))، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((مراده في السر والعلانية، حيث يراه الناس وحيث لا يرونه)) (¬5)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله - عز وجل - خشيته في السر والعلانية فيقول في دعائه: (( ... أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) (¬6)، ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 18. (¬2) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص759 - 760، فقد ذكر الأمر بالتقوى في تسعةٍ وسبعين موضعاً في القرآن الكريم. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، بابٌ منه: 1/ 2، برقم 616، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 190، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 867. (¬4) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس،4/ 355،برقم 1987،وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))،وأحمد في المسند،5/ 153،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي،1/ 54. (¬5) جامع العلوم والحكم، 1/ 407. (¬6) النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر: نوع آخر، 3/ 54، برقم 1305، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 280، وهو حديث طويل.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((وخشية الله في الغيب والشهادة: هي من المنجيات)) (¬1)، وقال: ((وكان الإمام أحمد ينشد: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوتُ ولكن قُل عليَّ رقيبُ ولا تحسبنّ الله يغفُُلُ ساعةً ... ولا أن ما يُخفى عليه يغيبُ (¬2) وقال ابنُ السَّمَّاك رحمه الله (¬3) ينشد: يا مُدمِن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوةِ ثانيكا غرَّك من ربك إمهالُهُ ... وسَتْرُهُ طُولَ مساويكا (¬4) وقال أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني رحمه الله في نونيته: وإذا ما خلوت بريبة في ظُلمةٍ ... والنفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيانِ فاستحي من نَظَرِ الإله وقُل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني (¬5) وقال آخر: يا من يرى مدَّ البعوض جناحه ... في ظلمة الليل البهيم الأليَلِ ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، 1/ 407. (¬2) المرجع السابق، 1/ 409. (¬3) هو الزاهد القدوة سيد الوعاظ، أبو العباس محمد بن صبيح العجلي ابن السماك، المتوفى سنة 193هـ‍، انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/ 328 - 330. (¬4) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 410. (¬5) نونية القحطاني، ص25.

رابعا: أكثر ما يدخل الجنة التقوى

ويرى نياط عروقها في نحرها ... والمخ يجري في تلك العظام النُّحَلِِ امنن عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ... ما كان مني في الزمانِ الأولِ 3 - وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسّمع والطاعة ... )) (¬1). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة)) (¬2). 4 - وعن بريدة - رضي الله عنه - أنه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّرَ أميراً على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصّتِهِ بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ... )) (¬3). 5 - لأَهمِّية التقوى دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه فسأله التُّقَى، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى)) (¬4). رابعاً: أكثر ما يُدخل الجنةَ التقوى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئل ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، 4/ 201، برقم 4607، والترمذي، 5/ 44، برقم 2676، وأحمد في المسند، 4/ 46، وابن ماجه، 1/ 15، برقم 43، 44. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 116. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، 3/ 1356، برقم 1731. (¬4) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما علم ومن شر ما لم يعلم، 4/ 2087، برقم 2721.

خامسا: التقوى أهم من اللباس الحسي

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناسَ الجنةَ، فقال: ((تقوى الله، وحسن الخلق))،وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: ((الفم، والفرج)) (¬1). خامساً: التقوى أهم من اللباس الحسّي الذي لا غنى للإنسان عنه؛ لأن لباس التقوى لا يبلى ولا يبيد، ويستمرّ مع العبد، وهو جمال القلب والروح، وأما اللباس الظاهر فغايته أن يستر العورة الظاهرة، في وقت من الأوقات، أو يكون جمالاً للإنسان، وليس وراء ذلك منه نفع، وبتقدير عدم هذا اللباس تنكشف عورته الظاهرة التي لا يضرّه كشفها مع الضرورة، أما بتقدير عدم لباس التقوى، فإنه تنكشف عورته الباطنة، وينال الخزي والفضيحة (¬2)، قال الله - عز وجل -: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬3)، وهذا اللباس هو الذي لا يستغني عنه الإنسان طرفة عين، وبدونه لا قيمة له ولا كرامة ولا فلاح، ولقد أحسن القائل حين قال: إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تقلّب عرياناً ولو كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصياً سادساً: التقوى أهم من الطعام والشراب، قال الله - عز وجل -: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬4)، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ¬

(¬1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، 4/ 363، برقم 2004، وقال: ((هذا حديث صحيح غريب))، وحسن الألباني إسناده، في صحيح سنن الترمذي، 2/ 194. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص248. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 26. (¬4) سورة البقرة، الآية: 197.

المطلب الثالث: صفات المتقين

((إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر)) (¬1). وأمر الله - عز وجل - بالتزود في السفر؛ لأن في التزوّد الاستغناء عن المخلوقين، والكفّ عن أموالهم؛ ولأن التزود فيه نفع وإعانة للمسافرين، وهذا الزاد المراد منه: إقامة البنية: بلغةً ومتاعاً. ولما أمر الله بالزاد للسفر في الدنيا أمر بالزاد الحقيقي: زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، وهو الزاد المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زاد التقوى، الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل إلى أكمل لذّة، وأجلِّ نعيم، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين (¬2)، وقد أحسن القائل: تزوَّدْ من التقى فإنك لا تدري ... إذا جُنَّ ليل هل تعيش إلى الفجرِ فكم من صحيح مات من غير علة ... وكم من عليل عاش حيناً من الدهر المطلب الثالث: صفات المتقين المتقون لهم صفات وأعمال نالوا بها السعادة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (¬3)، ففي ¬

(¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير،1/ 227،وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص74. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص74. (¬3) سورة البقرة، الآيات: 1 - 4.

ثانيا: قال الله - عز وجل -: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}

هذه الآيات مجموعة مباركة من صفات المتقين، هي: 1 - الإيمان بالغيب. 2 - إقام الصلاة. 3 - الإنفاق الواجب والمستحب في جميع طرق الخير. 4 - الإيمان بالقرآن والكتب المنزلة السابقة. 5 - الإيقان والإيمان الكامل بالآخرة، واليقين هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك. ومن عمل بهذه الصفات كان على الهدى العظيم، وكان من المفلحين الفائزين في الدنيا والآخرة (¬1). ثانياً: قال الله - عز وجل -: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬2)، ففي هذه الآية العظيمة بيّن الله - عز وجل - كثيراً من أعمال المتقين، وصفاتهم الكريمة العظيمة، وهي: 1 - الإيمان بالله - عز وجل -. 2 - الإيمان باليوم الآخر. ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص24. (¬2) سورة البقرة، الآية: 177.

ثالثا: قال الله - عز وجل - بعد أن بين أن الشهوات زينت للناس: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم}

3 - الإيمان بالملائكة. 4 - الإيمان بالكتب التي أنزل الله - عز وجل -. 5 - الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 6 - إعطاء المال، للأقرباء، واليتامى، والمساكين، والمسافرين، والسائلين، وإعتاق الرقاب. 7 - إقام الصلاة. 8 - إيتاء الزكاة. 9 - الوفاء بالعهد. 10 - الصبر في الفقر، والمرض، ووقت قتال الأعداء. 11 - الصدق في الأقوال، والأفعال، والأحوال. فهؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال صدقوا في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدَّقت إيمانهم، وهم المفلحون؛ لأنهم تركوا المحظورات وفعلوا المأمورات؛ ولأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير: تضمناً ولزوماً؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ومن قام بهذه الأعمال كان لما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون، المتقون (¬1). ثالثاً: قال الله - عز وجل - بعد أن بيّن أن الشهوات زُيِّنت للناس: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص66.

رابعا: قال الله - عز وجل -: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}

وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (¬1)، وقد ظهرت أعمال مباركة، وصفات كريمة من صفات المتقين في هذه الآيات الثلاث، هي: 1 - التوسّل إلى الله - عز وجل - بالإيمان به. 2 - طلب المغفرة من الله - عز وجل -. 3 - طلبهم من الله - عز وجل - الوقاية من عذاب النار. 4 - الصبر على طاعة الله وعن محارم الله، وعلى أقدار الله المؤلمة. 5 - الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال. 6 - القنوت الذي هو دوام الطاعة مع الخشوع. 7 - الإنفاق في سبيل الخيرات على الفقراء وأهل الحاجات. 8 - الاستغفار خصوصاً وقت الأسحار؛ لأنهم مدّوا الصلاة إلى وقت السحر فجلسوا يستغفرون الله تعالى (¬2). فهؤلاء لهم أصناف الخيرات والنعيم المقيم، ولهم رضوان الله، الذي هو أكبر من كل شيء، ولهم الأزواج المطهّرة من كل آفة ونقص: جميلات الأخلاق، كاملات الخلائق (¬3). رابعاً: قال الله - عز وجل -: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 15 - 17. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص103. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، 6/ 259 - 267، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص103.

وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬1)، في هذه الآيات أعمال عظيمة وصفات كريمة لأهل التقوى، ذكرها الله بعد أن أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي أعدها للمتقين، وهذه الصفات على النحو الآتي: 1 - الإنفاق: في العسر واليسر، والشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض. 2 - كظم الغيظ وعدم إظهاره، والصبر على مقابلة المسيء إليهم، فلا ينتقمون منه. 3 - العفو عن كل من أساء إليهم بقول أو فعل. 4 - ذكر الله وما توعّد به العاصين، ووعد به المتقين فيسألوه المغفرة لذنوبهم. 5 - المبادرة للتوبة والاستغفار عند عمل السيئات الكبيرة والصغيرة. 6 - عدم الإصرار على الذنوب والاستمرار عليها، بل تابوا عن قريب. ثم بيّن الله - عز وجل - جزاءَهم على عمل هذه الصفات: مغفرة من ربهم وجنات فيها من النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬2). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 133 - 136. (¬2) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 384، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص116.

خامسا: قال الله - عز وجل -: {إن المتقين في جنات وعيون}

خامساً: قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1). في هذه الآيات أعمال عظيمة من أعمال المتقين، وصفات كريمة، هي: 1 - الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. 2 - صلاة الليل الدالة على الإخلاص وتواطؤ القلب واللسان، فكان نومهم بالليل قليلاً. 3 - الاستغفار بالأسحار قبيل الفجر، فقد مدّوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل يستغفرون الله. 4 - الإنفاق على المحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يسألونهم. وهذه صفات المتقين الذين أدخلهم الله الجنات المشتملات على جميع أصناف الأشجار والفواكه، وعلى العيون السارحة تشرب منها تلك البساتين، ويشرب منها عباد الله المتقون (¬2). وهذه نماذج وأمثلة من صفات المتقين، وهي كثيرة في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 19. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص751.

المطلب الرابع: ثمرات التقوى

المطلب الرابع: ثمرات التقوى التقوى لها ثمرات يجنيها المتقي في الدنيا والآخرة، وعلى حسب العمل بصفات المتقين يكون السبق في الحصول على هذه الثمرات، ومن هذه الثمار على سبيل المثال لا الحصر، ما يأتي: أولاً: الانتفاع بالقرآن الكريم، والفوز بهداية الإرشاد، وهداية التوفيق، قال الله - عز وجل -: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (¬1). ثانياً: معيّة الله مع المتقين، قال الله - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2)،وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬3)، وهذه معيّة التوفيق والتسديد، والنصرة، والتأييد، والإعانة، والحماية، كما قال الله - عز وجل - حكاية عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوله لأبي بكر - رضي الله عنه -: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} (¬4)، وأمّا المعيّة العامّة فهي معيّة شاملة لكل شيء، بسمعه، وبصره، وعلمه، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬5). ثالثاً: المكانة العالية عند الله يوم القيامة، قال الله - عز وجل -: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 1 - 2. (¬2) سورة البقرة، الآية: 194. (¬3) سورة النحل، الآية: 128. (¬4) سورة التوبة، الآية: 40. (¬5) سورة الحديد، الآية: 4. (¬6) سورة البقرة، الآية: 212.

رابعا: التوفيق لنيل العلم النافع وتحصيله

رابعاً: التوفيق لنيل العلم النافع وتحصيله، قال الله - عز وجل -: {وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). خامساً: التقوى تثمر دخول الجنة وما فيها من أنواع النعيم، ومن ذلك، ما يأتي: 1 - الفوز بالجنة، قال الله - عز وجل -: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬2). 2 - ميراث الجنة، قال - عز وجل -: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} (¬3)، وقال سبحانه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (¬5). 3 - المتقون لهم نعم الدرجات، قال الله - عز وجل -: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (¬6). 4 - نيل ما تشتهيه الأنفس، قال الله - عز وجل -: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ} (¬7)، وقال ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 282. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 15. (¬3) سورة مريم، الآية: 63. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 133. (¬5) سورة النساء، الآية: 77. (¬6) سورة النحل، الآية: 30. (¬7) سورة النحل، الآية: 31.

- سبحانه وتعالى -: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). 5 - المتقون يحشرون وفداً، قال الله - عز وجل -: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (¬2)، ذكر الإمام الطبري رحمه الله بسنده عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنهم يحشرون على نُوقٍ من الإبل عليها رحائل الذهب، وأزمّتها الزبرجد، يركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (¬3). 6 - المتقون تقرّب لهم الجنة، قال الله - عز وجل -: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (¬5). 7 - المتقون لهم في الجنة غرف مبنية من فوقها غرف، يُرى ظاهِرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قال الله - عز وجل -: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله الْمِيعَادَ} (¬6)،وقال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬7). 8 - المتقون لا يمسّهم العذاب بل ينجّيهم الله بنجاتهم، قال الله - عز وجل -: ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآية: 71. (¬2) سورة مريم، الآية: 85. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 254 - 255. (¬4) سورة الشعراء، الآية: 90. (¬5) سورة ق، الآية: 31. (¬6) سورة الزمر، الآية: 20. (¬7) سورة العنكبوت، الآية: 58.

{وَيُنَجِّي الله الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). 9 - المتقون يَسلمون من عذاب جهنم ويمرون على الصراط، قال الله - عز وجل -: {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (¬2). 10 - صحبة المتقين ومحبتهم دائمة في الدنيا والآخرة، وكل صحبة غيرها فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوة، قال الله - عز وجل -: {الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (¬3). 11 - المتقون لهم المقام الأمين، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). 12 - التقوى تثمر ورود أنهار الجنة والشرب منها، قال الله - عز وجل -: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 61. (¬2) سورة مريم، الآية: 71 - 72. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 67. (¬4) سورة الدخان، الآيات: 51 - 57.

سادسا: محبة الله للمتقين

حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬1). 13 - المتقون في مقعد صدق عند الله - عز وجل -، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬2). 14 - المتقون أثمرت لهم تقواهم السير تحت ظلال أشجار الجنة، والتنعم بما يشتهون، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬3)، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمّر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها)) (¬4). 15 - المتقون لهم حسن المرجع في الجنة، قال الله - عز وجل -: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (¬5). سادساً: محبة الله للمتقين، قال الله - عز وجل -: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 15. (¬2) سورة القمر، الآيتان: 54 - 55. (¬3) سورة المرسلات، الآيات: 41 - 43. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 7/ 256، برقم 6553، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، 4/ 2175، برقم 2866. (¬5) سورة ص، الآيات: 49 - 54.

سابعا: عدم الخوف من ضرر وكيد الأعداء

الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب العبدَ التَّقِيََّ، الغنيَّ، الخفيَّ)) (¬3)، وذكر الإمام القرطبي، والإمام النووي، رحمهما الله: أن المراد بالغني غني النفس، هذا هو المعنى المحبوب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)) (¬4)، وقيل: يعني به: من استغنى بالله، ورضي بما قسم الله له، والخفيّ: يعني به الخامل الذي لا يريد العلوَّ في الدنيا، ولا الظهور في مناصبها، وجاء في بعض الروايات: ((إن الله يحب العبد التقي، الغني، الحفيّ))، ومعنى: الحفي: أي العالم من قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} (¬5)، وقيل: الوصول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والساعي في حوائجهم (¬6)، وقال النووي: ((والصحيح بالمعجمة)) أي: الخفي (¬7). سابعاً: عدم الخوف من ضرر وكيد الأعداء، قال الله - عز وجل -: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬8). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 76. (¬2) سورة التوبة، الآية: 4، والآية: 7. (¬3) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب،4/ 2277،برقم 2965،من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬4) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس، 7/ 228، برقم 6446، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، 2/ 726، برقم 1051. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 187. (¬6) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 120، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 314. (¬7) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 314. (¬8) سورة آل عمران، الآية: 120.

ثامنا: التقوى سبب لنزول المدد من السماء

ثامناً: التقوى سبب لنزول المدد من السماء، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (¬1). تاسعاً: التقوى تثمر عدم العدوان، وعدم إيذاء عباد الله، قال الله - عز وجل -: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى - في قصة مريم: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} (¬3). عاشراً: قبول الأعمال الصالحة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬4). الحادي عشر: حصول الفلاح؛ لأن من اتقى الله أفلح كل الفلاح، ومن ترك تقواه حصل له الخسران، وفاتته الأرباح، قال الله - عز وجل -: {فَاتَّقُواْ الله يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5). الثاني عشر: التقوى تمنع صاحبها الزيغ والضلال بعد الهداية، قال الله - عز وجل -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 123 - 125. (¬2) سورة المائدة، الآية: 2. (¬3) سورة مريم، الآيتان: 17 - 18. (¬4) سورة المائدة، الآية: 27. (¬5) سورة المائدة، الآية: 100.

الثالث عشر: السلامة من الخوف والحزن

سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1)، وصراط الله الموصل إليه وإلى جنته ما بيّنه الله - عز وجل - في كتابه من الأحكام والشرائع، والأخلاق الكريمة، فمن اتبع صراط الله - عز وجل - بالقيام بالمأمورات والابتعاد عن المنهيات -اعتقاداً، وعلماً، وعملاً، وقولاًً-نال الفوز والفلاح، وكان من عباد الله المتقين، وسلم من الزيغ والضلال (¬2). الثالث عشر: السلامة من الخوف والحزن، فمن اتقى ما حرّم الله عليه: من الشرك، والكبائر، والصغائر، وأصلح أعماله الظاهرة والباطنة، فلا خوف عليه من الشر، ولا يحزن على ما مضى، فإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام، والسعادة والفلاح الأبدي (¬3)، قال الله - عز وجل -: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬4). الرابع عشر: التقوى تثمر البركات من السماء والأرض، قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (¬5)، وقال - عز وجل - في أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 153. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص243. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص250. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 35. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬6) سورة المائدة، الآية: 66.

الخامس عشر: الحصول على رحمة الله - عز وجل -

الخامس عشر: الحصول على رحمة الله - عز وجل -،قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). السادس عشر: التقوى تثمر الفوز بولاية الله، قال الله - عز وجل -: {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالله وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬4). السابع عشر: التقوى تثمر توفيق صاحبها للتفريق بين الحق والباطل، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬5). فقد بيّن الله - عز وجل - أن من اتّقاه حصل له أربعة أمور عظيمة، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها: الأول: الفرقان، وهو العلم والهدى الذي يُفرِّق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام. والثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق، وعند الاجتماع: يفسر تكفير ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 155. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 34. (¬4) سورة الجاثية، الآية: 19. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 29.

الثامن عشر: التقوى تثمر حماية الإنسان من ضرر الشيطان

السيئات، بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل (¬1). وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬3). الثامن عشر: التقوى تثمر حماية الإنسان من ضرر الشيطان، فيذكر صاحبها ما أوجب الله عليه، ويبصر ويستغفر، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (¬4). التاسع عشر: البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال الله - عز وجل -: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬5)، أما البشرى في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرّؤيا الصالحة (¬6)، وما يراه العبد من لطف الله به، وتيسيره لأحسن الأعمال، والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق. ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص281. (¬2) سورة الحديد، الآية: 28. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 201. (¬5) سورة يونس، الآيات: 62 - 64. (¬6) انظر: صحيح مسلم، كتاب الرؤيا، 4/ 1774، برقم 2263، 2264.

العشرون: حفظ الأجر

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضا الله تعالى عنه، ومحبته له فَيُحَبِّبه إلى الخلق ... هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم)) (¬2). وأما البشارة في الآخرة فأولها البشارة عند قبض أرواحهم كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬3)، والبشارة في القبر برضى الله والنعيم المقيم، وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم (¬4). العشرون: حفظ الأجر؛ فإنه من يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الطاعات، وعن المحرمات، وعلى أقدار الله المؤلمة لا يضيع أجره، قال الله - عز وجل -: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5). الحادي والعشرون: العاقبة الحميدة الحسنة في الدنيا والآخرة للمتقين، قال الله - عز وجل -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب إذا أُثنيَ على الصالح فهي بشرى ولا تضره،4/ 2034،برقم 2642. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 428. (¬3) سورة فصلت، الآية: 30. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص324،والطبعة القديمة،3/ 367. (¬5) سورة يوسف، الآية: 90.

الثاني والعشرون: الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة

نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬1)، وقال - عز وجل -: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3)، وقال - سبحانه وتعالى -: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بحسن العاقبة فيقول: ((اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)) (¬5). الثاني والعشرون: الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة للمتقين، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬6). الثالث والعشرون: التقوى تفرق بين المؤمنين والفجار، قال الله - عز وجل -: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬7)، وقال - عز وجل -: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬8)، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 132. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 128. (¬3) سورة هود، الآية: 49. (¬4) سورة القصص، الآية: 83. (¬5) أحمد في المسند، 4/ 181، والطبراني في الكبير، 2/ 33، برقم 1196، 1197، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 78: ((رجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني ثقات)). (¬6) سورة النور، الآية: 52. (¬7) سورة ص، الآية: 28. (¬8) سورة الجاثية، الآية: 21.

الرابع والعشرون: التقوى سبب لتعظيم شعائر الله

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (¬1)، فالله - عز وجل - لا يجعل المتقين القائمين بما أمر به المبتعدين عما نهى عنه، كالمفسدين في الأرض والمكثرين من الذنوب المقصّرين في حقوق ربهم؛ فإن حكمته تعالى لا تقتضي أن يجعل المتقين القانتين لربهم المنقادين لأوامره، المتبعين مراضيه كالمجرمين الذين وقعوا في معاصيه والكفر بآياته، ومن ظن أنه تعالى يسوِّي بين هؤلاء في الدنيا والآخرة فقد أساء الحكم وحكمه باطل ورأيه فاسد؛ فإن الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين المتقين لهم النصر، والفلاح، والسعادة في العاجل والآجل كلٌّ على قدر عمله، وأن المجرمين المسيئين لهم الغضب والإهانة، والعذاب، والشقاء في الدنيا والآخرة (¬2). الرابع والعشرون: التقوى سبب لتعظيم شعائر الله؛ لأن شعائر الله أعلام الدين الظاهرة، وتعظيمها إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وهذا التعظيم صادر من تقوى القلوب، فالمعظِّم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله، وإجلاله (¬3)،قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬4). الخامس والعشرون: التقوى تصلح بها الأعمال وتُقبل، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ¬

(¬1) سورة القلم، الآيات: 34 - 36. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص722، 815. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص487. (¬4) سورة الحج، الآية: 32.

السادس والعشرون: التقوى سبب للإكرام عند الله

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1)، فأمر سبحانه بالتقوى في السر والعلانية، وخصّ منها القول السديد، وهذا القول الموافق للصواب أو المقارب له عند تعذّر اليقين: من قراءة، وذكرٍ، وأمرٍ بالمعروف، ونهي عن المنكر، وتعلّم العلم وتعليمه، والحرص على إصابة الصواب في المسائل العلمية، ولين الكلام، ولطفه، ويترتّب على ذلك صلاح العمل فلا يفسد، ومغفرة الذنوب، فبالتقوى تستقيم الأمور، ويندفع بها كل محذور (¬2). السادس والعشرون: التقوى سببٌ للإكرام عند الله، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3)،فأكرم الناس عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة، وانكفافاً عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقوماً، ولا أشرفهم نسباً، ولكن الله - عز وجل - عليم خبير يعلم من يقوم بتقوى الله ظاهراً وباطناً، مِمَّن لا يقوم بذلك ظاهراً، ولا باطناً، فيجازي كلاً بما يستحق (¬4). السابع والعشرون: التقوى يحصل بها الفرج والمخرج من كل شدة ومشقة وكرب، ويسوق الله بها الرزق للمتقي من حيث لا يحتسبه، ولا يشعر به، ولا يخطر له على بال، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص620. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص745.

الثامن والعشرون: التقوى يحصل بها تيسير الأمور

أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬1). الثامن والعشرون: التقوى يحصل بها تيسير الأمور، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬2)، فمن اتقى الله - عز وجل - يسّر له كلّ أموره، وسهّل عليه كل عسير. التاسع والعشرون: التقوى تُكفّر بها السيئات، وتُعظم بها الأجور لمن اتقى، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬3)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (¬4). الثلاثون: التقوى تثمر الاهتداء والاتعاظ للمتقين؛ لأنهم هم المنتفعون بالآيات، فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، قال الله - عز وجل -: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (¬5)، وقوله - عز وجل -: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي هذا القرآن جعله الله بياناً للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خاصة، قاله الحسن وقتادة (¬6)،وجزم بها الحافظ ابن كثير رحمه الله (¬7)،وقيل: {هَذَا} إشارة إلى ما تقدم هذه الآية، وهو قوله تعالى: ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 4. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 5. (¬4) سورة المائدة، الآية: 65. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 138. (¬6) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 7/ 232. (¬7) انظر: تفسير القرآن العظيم، 1/ 386.

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} (¬1)،قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وكلا المعنيين حق)) (¬2). وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وجميع المؤمنين من هؤلاء المتقين الذين يفوزون بهذه الثمرات العظيمة؛ فإنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 137، واختار هذا القول ابن جرير، انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/ 232. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص117.

المبحث الثاني: ظلمات المعاصي وأضرارها

المبحث الثاني: ظلمات المعاصي وأضرارها المطلب الأول: مفهوم المعاصي وأسماؤها أولاً: مفهوم المعاصي: المعاصي لغة: العصيان خلاف الطاعة، يقال: عصى العبد ربه: إذا خالف أمره، وعصى فلانٌ أميره يعصيه عَصْياً وعِصْياناً، ومعصيةً إذا لم يطعه، فهو عاص (¬1)، قال الله - عز وجل -: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (¬2)، وقال الجرجاني رحمه الله: ((العصيان: هو ترك الانقياد)) (¬3). والمعاصي في الاصطلاح الشرعي: هي ترك المأمورات، وفعل المحظورات، فتبين بذلك أن المعاصي هي ترك ما أمر الله به أو أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل ما نهى الله عنه، أو نهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: من الأقوال، والأعمال، والمقاصد الظاهرة والباطنة (¬4)، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬5)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً ¬

(¬1) لسان العرب، لابن منظور، باب الياء، فصل العين، مادة ((عصا))، 15/ 67. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 7. (¬3) التعريفات، ص195. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص221، والمعاصي وأثرها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص30. (¬5) سورة النساء، الآية: 14.

ثانيا: أسماء المعاصي:

مُّبِينًا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬2). ثانياً: أسماء المعاصي: قد جاء معنى المعصية بألفاظ كثيرة، ومن ذلك ما يأتي: 1 - الفسوق والعصيان، قال الله - عز وجل -: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬3). 2 - الحُوب، قال الله - عز وجل -: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (¬4). 3 - الذنب، قال الله - سبحانه وتعالى - بعد أن ذكر قوم لوط، ومدين، وعاد، وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬5). 4 - الخطيئة، قال الله - عز وجل - في ذكره لقول إخوة يوسف - صلى الله عليه وسلم -: {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬2) سورة الجن، الآية: 23. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 7. (¬4) سورة النساء، الآية: 2. (¬5) سورة العنكبوت، الآية: 40. (¬6) سورة يوسف، الآية: 97.

5 - السيئة

5 - السيئة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1). 6 - الإثم، قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). 7 - الفساد، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). 8 - العتوّ، قال الله - عز وجل -: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬4). المطلب الثاني: أسباب المعاصي المعاصي لها أسباب كثيرة تحصل بسببها، وتكثر وتقل بذلك، وهذه الأسباب نوعان، على النحو الآتي: النوع الأول: الابتلاء والاختبار، ومن ذلك: 1 - الابتلاء بالخير والشر، قال الله - عز وجل -: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 114. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬3) سورة المائدة، الآية: 33. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 166.

2 - الابتلاء بالمال والولد

وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬1)،فالله سبحانه يبتلي عباده بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، فبالخير يختبر هل يؤدّى شكره، وبالشر يختبر هل يصبر على ضرّه (¬2). 2 - الابتلاء بالمال والولد، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَالله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬3)،فالأموال والأولاد فتنة: أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه (¬4)،قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مُضلاّت الفتن)) (¬5). 3 - وقد تكون الفتنة أعمَّ مما تقدّم، قال الله - عز وجل -: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (¬6)، وهذه الفتن وغيرها مما في معناها تكون من أسباب النجاة عند النجاح في الاختبار، وتكون من أسباب المعاصي والهلاك عند الإخفاق والرسوب في الامتحان، والله نسأل التوفيق والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 18/ 440. (¬3) سورة التغابن، الآية: 15. (¬4) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 376. (¬5) إغاثة اللهفان، لابن القيم، 2/ 160. (¬6) سورة الفرقان، الآية: 20.

النوع الثاني: أسباب الوقوع في المعاصي، ومنها:

النوع الثاني: أسباب الوقوع في المعاصي، ومنها: 1 - ضعف الإيمان واليقين بالله - عز وجل -، والجهل به سبحانه؛ فإن عدم المراقبة لله - عز وجل - وعدم الخوف منه، وعدم محبته وإجلاله وتعظيمه وخشيته تجعل الإنسان يستخف بوعد الله - عز وجل - ووعيده، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية، قال الله - عز وجل -: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (¬2). 2 - الشبهات، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والفتنة نوعان: فتنة الشبهات، وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما)) (¬3). ففتنة الشبهات تنشأ من ضعف البصيرة، وقلّة العلم، وفساد القصد، وحصول الهوى، وتنشأ أيضاً من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حقٍّ ثابت خفيٍّ على الرجل، فلم يظفر به، وتارة من غَرَضٍ فاسدٍ وهوىً متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة (¬4). 3 - الشهوات، وقد جمع الله بين الشبهات والشهوات في قوله - سبحانه وتعالى -: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 19. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 218 - 219. (¬3) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، 2/ 165. (¬4) انظر: المرجع السابق، 2/ 166.

الشيطان من أعظم أسباب وقوع المعاصي

بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} (¬1)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((أي تمتّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتهم، والخلاق: هو النصيب المقدَّر، ثم قال: وخُضتم كالذي خاضوا، فهذا الخوضُ بالباطل وهو الشبهات، فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان: من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد باطل، والتكلّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح، فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني فسق الأعمال، فالأول فساد من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات)) (¬2)، وفتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر؛ ولهذا جعل الله - عز وجل - إمامة الدين بالصبر واليقين، فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬3)، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفع فتنة الشبهة (¬4). ولا شك أن الشهوات منها ما يكون مباحاً حلالاً، ومنها ما يكون حراماً، فحلالها ما أحلَّه الله ورسوله، وحرامها ما حرّمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - الشيطان من أعظم أسباب وقوع المعاصي: لأنه أخبث عدو للإنسان، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 69. (¬2) إغاثة اللهفان، 2/ 166. (¬3) سورة السجدة، الآية: 24. (¬4) انظر: إغاثة اللهفان، لابن القيم، 2/ 167.

الشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من سبع عقبات

حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬1)،والشياطين نوعان: شياطين الإنس، وشياطين الجن، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬2)، والمخرج من شياطين الإنس، بالإحسان إليهم، والدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة السيئة بالحسنة. أما شياطين الجن، فالمخرج منها الاستعاذة بالله منهم، قال الله - عز وجل -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3). والشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها: العقبة الأولى: عقبة الكفر والشرك بالله وبدينه، ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه على: العقبة الثانية: عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -،وإما بالتعبّد بما لم يأذن به الله من الأمور المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً، فإن وفّق الله العبد لقطع هذه العقبة طلبه الشيطان على: العقبة الثالثة: عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زيّنها له، وحسَّنها في ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 6. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 112. (¬3) سورة فصلت، الآية: 36.

الرابعة: عقبة الصغائر

عينه، فإن قطع العبد هذه العقبة بتوفيق الله طلبه على: العقبة الرابعة: عقبة الصغائر، فكال له منها بالمكاييل العظيمة، ولا يزال يهوِّن عليه أمرها حتى يُصِرَّ عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه الشيطان على: العقبة الخامسة: عقبة المباحات التي لا حرج فيها، فيشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزوّد لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم مِنْ ترك السُّنن إلى ترْك الواجبات، وأقل ما ينال منه تفويت الأرباح والمكاسب العظيمة، فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة، ونور هادٍ، ومعرفة بقدر الطاعات، طلبه على: العقبة السادسة: عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسَّنها في عينه، وزيَّنها له؛ ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، فإن نجا من هذه العقبة بفقه الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، لم يبق هناك عقبة يطلبه عليها سوى واحدة لابد منها، وهي: العقبة السابعة: تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد، واللسان، والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدوّ بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلّط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جدَّ

المطلب الثالث: مداخل المعاصي

في الاستقامة والدعوة إلى الله جدّ العدوّ في إغراء السفهاء به، والله المستعان، وعليه التكلان (¬1). المطلب الثالث: مداخل المعاصي أولاً: النفس الأمارة يدخل عليها الشيطان وأعوانه وجنوده من مرادها، ومحبوباتها، وشهواتها، فإذا صارت النفس الأمّارة مع الشيطان وجنوده ملكوا ستة ثغور يدخلون منها على القلب؛ لإفساده، وهذه الثغرات على النحو الآتي: 1 - ثغر العين، فيجعلون نظرها تفرّجاً وتلهّياً لا اعتباراً. 2 - ثغر الأذن، فَيُدْخِلون معها الباطل، ويمنعون دخول الحق. 3 - ثغر اللسان، فيجرون عليه من الكلام ما يضرّه ولا ينفعه، ويمنعونه مما ينفعه. 4 - ثغر الفم، فيدخلون معه إلى البطن أنواع المحرمات. 5 - ثغر اليد، فيجعلونها تبطش بالباطل، وتتوقف عن الحق. 6 - ثغر الرجل، فيجعلونها تمشي إلى الباطل (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله يحكي عن الشيطان كلامه مع جنوده، وحثّهم على الاستيلاء على هذه الثغور: ((فرابطوا على هذه الثغور كلّ المرابطة، فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أسير، أو جريح مُثخن بالجراحات)) (¬3). ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 222 - 226. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص180 - 189. (¬3) المرجع السابق، ص181.

ثانيا: أبواب الشيطان التي يدخل الناس معها إلى النار ثلاثة

ثانياً: أبواب الشيطان التي يُدخِل الناسَ معها إلى النار ثلاثة: 1 - باب شبهة أورثت شكّاً في دين الله. 2 - باب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته. 3 - باب غضب أورث العدوان على خلق الله - عز وجل - (¬1). ثالثاً: طرق الشيطان على الإنسان من ثلاث جهات: الجهة الأولى: التزيّد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة، فتصير فَضْلَةً، وهي حظُّ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق الاحتراز منه عدم إعطاء النفس تمام مطلوبها: من غذاء، أو نوم، أو لذّة، أو راحة، فمتى أُغلِق هذا الباب حصل الأمان من دخول العدوِّ منه. الجهة الثانية: الغفلة؛ فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فُتِحَ باب الحصن، فولجه العدوّ، فيعسر عليه أو يصعب إخراجه. الجهة الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء (¬2). رابعاً: المداخل التي من حفظها نجا من المهالك، ولهذا قيل: ((من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات)) (¬3). وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة: 1 - النظرة: فاللحظات رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ ¬

(¬1) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص105. (¬2) الفوائد، لابن القيم، ص334. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص266.

الخطرة

الفرج، ومن أطلق بصره في ما حرَّم الله أورد نفسه موارد الهلاك، قال الله - عز وجل -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (¬1)، ولا شك أن النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، قال الشاعر: كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة بلغت من قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر والعبد مادام ذا طرف يقلبه ... في أعين الغير موقوف على الخطر يسر مُقلتَهُ ما ضرَّ مُهجتَهُ ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر (¬2) 2 - الخطرة: والخطرات شأنها أصعب؛ لأنها مبدأ الخير والشر، ومنها تولد الإرادات، والهمّ والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه، ومن استهان بالخطرات قادته إلى الهلكات. والخطرات المحمودة أقسام تدور على أربعة أصول: * خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه. * وخطرات يستدفع بها مضارّ دنياه. * وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته. * وخطرات يستدفع بها مضارّ آخرته. ¬

(¬1) سورة النور، الآيتان: 30 - 31. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص268.

اللفظة

فليحصر العبد خطراته، وأفكاره، وهمومه في هذه الأقسام الأربعة (¬1). 3 - اللفظة: واللفظات حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة، فلا يتكلّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، وإذا أراد أن يتكلّم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوتُ بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيّعها بهذه، وإذا أردت أن تستدلّ على ما في القلب فاستدلّ عليه بحركة اللسان؛ فإنه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى؛ ولهذا قال يحيى بن معاذ رحمه الله: ((القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر حتى يتكلم الرجل، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلوٍ وحامضٍ، وعذبٍ وأجاجٍ يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه)) (¬2)، والمعنى أنك كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقة ذلك، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القِدْر بلسانك (¬3)، فيجب على المرء المسلم أن يحفظ لسانه؛ فإن أكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج، واللسان يكبّ الناس على مناخرهم في النار، وربما تكلّم الرجل بكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم أبعد ما بين المشرق والمغرب، أو يهوي بها في النار سبعين خريفاً، أو يتكلّم بكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه. ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص269 - 276. (¬2) حلية الأولياء، لأبي نعيم، 10/ 63، وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص276. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص276.

الخطوة

والمؤمن بالله واليوم الآخر يتكلّم بالخير أو يسكت، وإذا حَسُن إسلامه فإنه لا يتكلم إلا فيما يعنيه، واللسان أخوف ما خاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلم، وكلّ كلام ابن آدم عليه لا له: إلا أمراً بمعروفٍ، أو نهياً عن منكرٍ، أو ذكراً لله - عز وجل -، والكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، والله لا يخفى عليه قول القائل، قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬1). واللسان فيه آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، فالمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله، والساكت عن الحق شيطان أخرس عاصٍ لله مراءٍ مداهنٌ إذا لم يخف على نفسه، وأهل الوسط من أهل الحق كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله - عز وجل - وما اتصل به (¬2). 4 - الخطوة: والخطوات حفظها بأن لا ينقل العبد قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له، ويمكنه أن يستخرج من كل مباح بخطوة إليه قُربةً ينويها لله، فتقع خطاه كلها قربة بالنية الصالحة (¬3). ¬

(¬1) سورة ق، الآية: 18. (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص276 - 281. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص282.

المطلب الرابع: أصول المعاصي

وقد وصف الله - عز وجل - عباد الرحمن بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬1)، كما جمع الله - عز وجل - بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬2). المطلب الرابع: أصول المعاصي قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((أصول الخطايا كلها ثلاثة: 1 - الكِبْر: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره. 2 - الحِرْص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة. 3 - الحَسَد: وهو الذي جرَّأَ أحد ابني آدم على أخيه. فمن وُقِيَ شر هذه الثلاثة فقد وُقِيَ الشر، فالكفر من الكِبْر، والمعاصي من الحِرص، والبغي والظلم من الحسَد)) (¬3). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: 1 - تعلق القلب بغير الله، وهو الشرك، فغاية التعلّق بغير الله شرك، وأن يُدعى معه إله آخر. 2 - طاعة القوة الغضبية، وهي الظلم، وغاية ذلك القتل. 3 - طاعة القوة الشهوانية، وهي الفواحش، وغاية ذلك الزنا. ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬2) سورة غافر، الآية: 19. (¬3) الفوائد، ص105.

أركان الكفر أربعة:

وقد جمع الله سبحانه بين هذه الثلاثة في قوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (¬1). وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض: فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش، كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه، قال الله - عز وجل -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬2)، فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا، وكذلك الظلم يدعو إلى الشرك والفاحشة؛ فإن الشرك أظلم الظلم، كما أن أعدل العدل التوحيد، فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك، والفاحشة تدعو إلى الشرك والظلم. فهذه الثلاثة يجر بعضها إلى بعض، ويأمر بعضها ببعض (¬3). وبيّن رحمه الله تعالى: أن أركان الكفر أربعة: 1 - الكبر 2 - الحسد 3 - الغضب 4 - الشهوة. فالكبر يمنع العبد الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة، فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآيتان: 68 - 69. (¬2) سورة يوسف، الآية: 24. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص154.

المطلب الخامس: أقسام المعاصي

ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة، وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن ابتلي بها، ولاسيما إذا صارت هيئات راسخة، وملكات وصفات ثابتة؛ فإنه لا يستقيم له معها عمل البتة، ولا تزكو نفسه، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وإذا استحكمت هذه الأربعة في القلب أرته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف، وقربت منه الدنيا، وبعّدت منه الآخرة (¬1). المطلب الخامس: أقسام المعاصي الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام هي على النحو الآتي: القسم الأول: الذنوب الملكية وهي أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية: كالعظمة، والكبرياء، والجبروت، والقهر، والعلو، واستعباد الخلق، ونحو ذلك. القسم الثاني: الذنوب الشيطانية، وهي الذنوب التي يتشبه الإنسان بالشيطان في عملها، فالتشبه بالشيطان: في الحسد، والبغي، والغش، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بمعاصي الله، وتحسينها، والنهي عن طاعة الله، وتهجينها، والابتداع في الدين، والدعوة إلى البدع والضلال، وهذا القسم يلي القسم الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه. القسم الثالث: الذنوب السبعية، وهي التي يشبه الإنسان في فعلها السباع، وهي ذنوب العدوان، والغضب، وسفك الدماء، والتوثّب على ¬

(¬1) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص281.

القسم الرابع: الذنوب البهيمية

الضعفاء والعاجزين، ويتولّد من هذا القسم أنواع أذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان. القسم الرابع: الذنوب البهيمية، وهي الذنوب التي يشبه الإنسان في فعلها البهائم، مثل: الشره، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولّد الزنا، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل، والشحّ، والجبن، والهلع، والجزع، وغير ذلك، وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب الملكية، والسبعية، ومن هذا القسم يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرّهم إليها بالزّمام (¬1). المطلب السادس: أنواع المعاصي المعاصي نوعان: كبائر وصغائر، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وقد دلّ القرآن، والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم، والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر)) (¬2)، قال الله - عز وجل -: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (¬3)، وقال - عز وجل -: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ} (¬4)، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك))، قلت: إن ذلك لعظيم. قال قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدَك مخافةَ أن يَطعمَ معك))، قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم أن تزاني ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص222 - 223. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص223. (¬3) سورة النساء، الآية: 31. (¬4) سورة النجم، الآية: 32.

حَليلةَ جارك)) (¬1). وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وجلس وكان متكئاً فقال: ((ألا وقول الزور))، فمازال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنِبَتِ الكبائر))، وفي رواية: ((ما لم تُغْشَ الكبائر)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، 5/ 172، برقم 4477، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أعظم الذنوب وبيان أعظمها بعده، 1/ 90، برقم 86. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 2/ 204، برقم 2654، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، 1/ 91، برقم 87. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، 1/ 209، برقم 2332. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، 3/ 256، برقم 2766، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92، برقم 89.

حد الكبيرة

واختُلِفَ في حدِّ الكبيرة وفي عدد الكبائر فقيل: إنها أربع، وقيل: سبع، وقيل: تسع، وقيل: إحدى عشرة، وقيل: سبعون، وقيل: إن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: كم الكبائر أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار (¬1). والصواب: أن الكبائر لم تُضبطْ بعدٍّ، وأنها كل ذنب ترتّب عليه حدٌّ في الدنيا، أو تُوعِّد عليه بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو العقوبة، أو نفي إيمان، وما لم يترتّب عليه حدٌّ في الدنيا، ولا وعيدٌ في الآخرة، فهو صغيرة (¬2)، ولكن قد تكون الصغائر من الكبائر لأسباب، منها: 1 - الإصرار والمداومة عليها، كما في قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار)) (¬3). 2 - استصغار المعصية واحتقارها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة إيَّاكِ ومُحقرَاتِ الأعمال فإن لها من الله طالباً)) (¬4). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومحقرات ¬

(¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 8/ 245، برقم 9207، وانظر: الأقوال في عدد الكبائر هذا المرجع، 8/ 233 - 258، والفتح، لابن حجر، 12/ 183. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 444، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص418، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص225 - 226. (¬3) تقدم تخريجه قبل الهامش السابق. (¬4) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، 2/ 1417، برقم 4243، وأحمد، 6/ 70، وصححه الألباني، في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 416، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 513، 2731.

الفرح بالصغيرة والافتخار بها

الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)) (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا))، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه (¬2). 3 - الفرح بالصغيرة والافتخار بها، كأن يقول ما رأيتني كيف مَزَّقت عِرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجَّلته، أو خدعته، أو غبنته. 4 - أن يكون عالماً يُقتدى به، فإذا فعل العالم الصغيرة، وظهرت أمام الناس كبر ذنبه. 5 - إذا فعل الذنب ثم جاهر به؛ لأن المجاهر غير معافى (¬3)، فينبغي لكل مسلم أن يبتعد عن جميع الذنوب صغيرها وكبيرها؛ ليكون من الفائزين في الدنيا والآخرة. المطلب السابع: آثار المعاصي على الفرد والمجتمع أولاً: آثار المعاصي على الفرد: أنواع، منها: النوع الأول: آثارها على القلب: 1 - ضرر المعاصي على القلب كضرر السموم على الأبدان، على ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، 5/ 331،وصحح إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد،10/ 190،وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،1/ 129،برقم 389: ((وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين)). (¬2) البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، 7/ 188، برقم 6308. (¬3) انظر: مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي، ص258.

2 - حرمان العلم

اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرٌّ وداءٌ إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ (¬1). 2 - حرمان العلم؛ فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور، وتُعمي بصيرة القلب، وتسدُّ طرق العلم، وتحجب موارد الهداية، قال الله - عز وجل -: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬2)، ولما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقّد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: ((إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية)) (¬3)، وقال الشافعي رحمه الله: شكوتُ إلى وكيعٍ سُوءَ حِفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ... ونورُ الله لا يُهدَى لعاصي (¬4) 3 - الوحشة في القلب بأنواعها: وحشة بين العاصي وبين ربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الخلق، وكلّما كثرت الذنوب اشتدّت الوحشة، والوحشة التي بين العاصي وبين ربه لا توازنها، ولا تقارنها لذة أصلاً، ولو اجتمعت له لذّات الدنيا بأسرها لم تفِ بتلك الوحشة، ولو لم تُترك الذنوب إلا حذراً من الوقوع في تلك الوحشة لكان العاقل حريّاً بتركها. ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص84. (¬2) سورة الحج، الآية: 46. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص104، 148، 173، 212. (¬4) ديوان الشافعي، ص88، وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص104.

4 - الظلمة في القلب

وأما الوحشة التي بين العاصي وبين الناس، ولاسيما أهل الخير منهم؛ فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلّما قويت تلك الوحشة بَعُد منهم ومن مجالستهم، وحُرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان، بقدر ما بَعُدَ من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشاً بنفسه، قال بعض السلف: ((إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلقِ دابتي وامرأتي)) (¬1)، وقال الفضيل بين عياض رحمه الله: ((إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي)) (¬2). وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الربِّ سبحانه، فكلّما قوي القرب قوي الأنس، والمعصية توجب البعد من الربّ، وكلما ازداد البعد قويت الوحشة، والوحشة سببها الحجاب، وكلما غلظ الحجاب زادت الوحشة، فالغفلة تُوجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشة الشرك والكفر، ولا تجد أحداً ملابساً شيئاً من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابسه منه، فتعلو الوحشة وجهه، وقلبه، فيستوحِشُ، ويُستوحشُ منه (¬3). 4 - الظلمة في القلب؛ فإن العاصي يجد ظلمة في قلبه حقيقة يُحسّ بها كما يُحسّ بظلمة الليل البهيم، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسِّية ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص105، 144. (¬2) حلية الأولياء، لأبي نعيم، 8/ 109. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص144.

5 - توهن القلب وتضعفه:

لبصره؛ فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع، والضلالات، والأمور المهلكة، وهو لا يشعر، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً فيه يراه كل أحد (¬1)،قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق)) (¬2). 5 - تُوهن القلب وتُضعفه: أما وهن القلب؛ فإن المعاصي لا تزال تُوهنه حتى تُزيل حياته بالكلية (¬3). وأما ضعف القلب؛ فإن المعاصي تُضعفه من عدّة وجوه، هي: الوجه الأول: تُضعف في القلب تعظيم الربّ - جل جلاله -، وتُضعف وقاره في قلب العبد ولابدّ شاء أم أبى، ولو تمكّن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرّأ على معاصيه؛ فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬4)، وتعظيم حرمات الله - عز وجل - في القلب تحول بين العبد وبين الذنوب (¬5). ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص105 - 106. (¬2) المرجع السابق، ص106. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص106. (¬4) سورة الحج، الآية: 30. (¬5) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص134.

الوجه الثاني: تُضعف المعصية إرادة الخير في قلب العبد، وتُقوّي إرادة المعصية، فتُضعف في قلبه إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكليّة، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، يأتي من الاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مصرّ عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك (¬1). الوجه الثالث: تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه أو توقفه وتقطعه عن السير، فالذنب إما أن يُميت القلب، أو يُمرضه مرضاً مخوِّفاً، أو يُضعف قوته ولابد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزَن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَعِ الدين، وغَلَبةِ الرجال)) (¬2)، والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة لـ: ((جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) (¬3)، ومن أقوى الأسباب الجالبة لـ: ((زوال نعمة الله، ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص110، وص200. (¬2) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من غلبة الرجال، 7/ 203، برقم 6363، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل، 4/ 2079، برقم 2706. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء، 7/ 199، برقم 6347، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، 4/ 2080، برقم 2707.

6 - تحجب القلب عن الرب

وتحول عافيته، وفجأة نقمته، وجميع سخطه)) (¬1). 6 - تحجب القلب عن الربّ في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة، كما قال الله - عز وجل -: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (¬2)، فكانت الذنوب حجاباً بينهم وبين قلوبهم، وحجاباً بينهم وبين ربهم وخالقهم (¬3). 7 - يألف المعصية، فينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أصحاب الفسوق هو غاية التهتّك، وتمام الّلذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه علمها، وهذا الضرب من الناس لا يعافون ويُسدّ عليهم طريق التوبة، وتُغلق عنهم أبوابها في الغالب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كلُّ أمتي معافىً إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) (¬4). 8 - هوان المعاصي على المصرّين عليها، فلا يزال العبد يرتكب المعاصي حتى تهون عليه، وتصغر في قلبه وعينه، وذلك علامة الهلاك؛ لأن الذنب كلما ¬

(¬1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء،4/ 2097،برقم 2739، وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص140. (¬2) سورة المطففين، الآيتان: 14 - 15. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص215. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه،7/ 117،برقم 6069،ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، 4/ 2291، برقم 2990.

9 - تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله

صغر في قلب العبد وعينه عَظُم عند الله؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرّ على أنفه فقال به هكذا)) (¬1). فالمؤمن قلبه فيه نور، فهو على يقين من الذنب الصغير، وليس على يقين من المغفرة، فيخاف الذنب الصغير أن يهلكه كالجبل، والفاجر قليل المعرفة بالله، ولذلك قلّ خوفه من الله، واستهان بالمعصية (¬2). 9 - تُورث الذلّ، فإنّ العزّ كلّ العزّ في طاعة الله - عز وجل -،والذلّ كلّ الذلّ في معصية الله - سبحانه وتعالى -،قال الله - عز وجل -: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬4)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِل الذّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم)) (¬5). فمن أراد العزّة فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته، وكان من دعاء بعض السلف: ((اللهم أعزّني بطاعتك ولا تذلّني بمعصيتك))، ¬

(¬1) البخاري في صحيحه، 7/ 188، برقم 6308، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 11/ 105. (¬3) سورة فاطر، الآية: 10. (¬4) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 50، 92، وابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 313، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 109.

10 - تفسد العقل وتؤثر فيه

وقال الحسن البصري رحمه الله: ((إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذلّ المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلَّ من عصاه)) (¬1). وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: رأيت الذنوب تُميتُ القلوب ... وقد يورثُ الذلَّ إدمانُها وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوب ... وخيرٌ لنفسك عصيانُها وهل أفسد الدِّينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها (¬2) 10 - تُفسد العقل وتُؤثر فيه؛ فإن للعقل نوراً، والمعصية تُطفئ نور العقل، فإذا طفئ نورُه ضعف ونقص، وغاب، وما عصى الله أحد حتى يغيب عقله؛ لأن واعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله ذو عقل سليم؟ ولا شك أن المعصية إن لم تُفسد العقل فهي تُنقص من كماله، فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع لله والآخر عاصٍ إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل، وفكره أصحّ، ورأيه أسدّ، والصواب قرينه (¬3). 11 - تطبع على القلب، فإذا تكاثرت طبعت على قلب صاحبها ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص113. (¬2) المرجع السابق، ص114. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص114.

12 - الذنوب تطفئ غيرة القلب

فكان من الغافلين؛ لأن القلب يصدأ من المعصية، فإذا ازدادت غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وختماً، وقفلاً، فيصير في غشاوة وغلاف (¬1)، قال الله - عز وجل -: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). 12 - الذنوب تطفئ غيرة القلب؛ فإنّ أشرف الناس وأعلاهم همّةً أشدّهم غيرةً على نفسه وخاصته، وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أغير الخلق على الأمة، والله - عز وجل - أشد غيرة منه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحبّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مُبشّرين ومُنذِرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أُمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته يزني، يا أُمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يغار، وإن ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص153. (¬2) سورة المطففين، الآية: 14. (¬3) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا شخص أغير من الله)) 8/ 220،برقم 7416، ومسلم، كتاب اللعان،2/ 1136،برقم 1499. (¬4) البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، 6/ 191، برقم 5221.

المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم [الله] عليه)) (¬1). وعن جابر بن عتيك مرفوعاً: ((إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يُبغض الله، ومن الخيلاء ما يحب الله، ومنها ما يُبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في ريبة، وأما التي يُبغض الله فالغيرة في غير الريبة، والاختيال الذي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله - عز وجل - الخيلاء في الباطل)) (¬2)، والمقصود بالغيرة في الريبة: الغيرة في مواضع التهمة والتردّد، فتظهر فائدتها، وهي الرهبة والانزجار، وإن كانت الغيرة بدون ريبة فإنها تورث البغض والفتن (¬3)، والاختيال في الصدقة أن يكون سخياً، فيعطي طيبة بها نفسه، فلا يستكثر كثيراً، ولا يعطي منها شيئاً إلا وهو مستقلّ، وأما الحرب: فأن يتقدم فيها بنشاط وقوة وعدم جبن (¬4). والمقصود أن المعاصي كلما اشتدّت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه، وأهله، وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جداً حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه، ولا من غيره، وإذا وصل ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، 6/ 196، برقم 5223، ومسلم، كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4/ 2114، برقم 2761، واللفظ له، وما بين المعقوفين من صحيح البخاري. (¬2) النسائي، كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة، 5/ 78، برقم 2558، وأحمد في المسند، 5/ 445، وله شاهد عند ابن ماجه، برقم 1996، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والحديث حسنه الألباني بطرقه في إرواء الغليل، 7/ 58، برقم 1999. (¬3) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 5/ 79. (¬4) انظر: شرح السيوطي على سنن النسائي، 5/ 79.

13 - الذنوب تذهب الحياء من القلب

إلى هذا الحدّ، فقد دخل في باب الهلاك؛ ولهذا كان الدّيوث من أخبث الخلق، والجنة حرام عليه؛ لأنه لا غيرة له؛ ولهذا رضي بالسوء في أهله، وهذا يدلّ على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب وتحمي له الجوارح، وتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب، فتموت له الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة، وهذا يبين أهمية الغيرة ومكانتها (¬1). 13 - الذنوب تذهب الحياء من القلب، وهو أصل كلّ خير، وذهابه ذهاب الخير كله، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياءُ خير كله))، أو قال: ((الحياءُ كله خير)) (¬2). وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬3). والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء عند العبد حتى ربما انسلخ منه بالكليّة، فلا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، بل كثير من أهل المعاصي يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع (¬4)، وهذا ينطبق عليه أحد المعنيين لحديث أبي مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص130 - 131. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، 1/ 64، برقم 37. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، 7/ 130، برقم 6117، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، 1/ 64، برقم 37. (¬4) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص131 - 133.

14 - المعاصي تلقي الخوف والرعب في القلوب

شئت)) (¬1)، وهذا الحديث له تفسيران: التفسير الأول: أنه للتهديد والوعيد، والمعنى من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح؛ لأن الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح وقع فيها، وهذا المعنى هو المشهور. التفسير الثاني: أن الفعل إذا لم تستح من الله من فعله فافعله وإنما ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله، فالمعنى الأول تهديداً كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬2)، والمعنى الثاني: يكون إذناً وإباحة (¬3). 14 - المعاصي تلقي الخوف والرعب في القلوب، فلا ترى العاصي دائماً إلا خائفاً مرعوباً؛ فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة، ومن خرج منه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقّه أمناً، ومن عصاه انقلبت مآمنه منه مخاوف، فمن خاف الله أمَّنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء (¬4). 15 - تُمْرِضُ القلب، وتَصْرِفُهُ عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، وتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب، ولا دواء لها إلا تركها، وكما أن من نهى نفسه ¬

(¬1) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، بابٌ، 4/ 183، برقم 3483. (¬2) سورة فصلت، الآية: 40. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص132، وجامع الأصول، لابن الأثير، 3/ 621. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص143 - 144.

16 - المعاصي تصغر النفوس

عن الهوى كانت الجنة مأواه، فكذا يكون قلبه في هذا الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيماً البتة، ولا تحسبن أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬1) مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة: دار الدنيا، والبرزخ، والقرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب، وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ ولهذا قال بعض الصالحين: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. ويقول آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (¬2). 16 - المعاصي تُصغّر النفوس، وتقمعها، وتدسِّيها، وتحقِّرها حتى تصير أصغر شيء وأحقره، كما أن الطاعة تنميها وتزكيها، وتكبِّرها، قال الله - عز وجل -: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (¬3)، والمعنى قد أفلح من كبَّرها وأعلاها بطاعة الله، وأظهرها، وقد خاب وخسر من أخفاها، وحقَّرها وصغَّرها بمعصية الله، فالطاعة تُكبر النفوس وتُعزّها وتُعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه، فما كبَّر النفوس وشرّفها، ورفعها، وأعزّها مثل طاعة الله، وما صغّر النفوس وأذلّها، وحقّرها مثل معصية الله - عز وجل - (¬4). 17 - خسف القلب ومسخه، وعلامة خسف القلب أنه لا يزال ¬

(¬1) سورة الانفطار، الآيتان: 13 - 14. (¬2) الجواب الكافي، لابن القيم، ص147. (¬3) سورة الشمس، الآيتان: 9 - 10. (¬4) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص149.

18 - المعاصي تنكس القلب

جوّالاً حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقرَّبه إليه لا يزال جوالاً حول العرش، وأما مسخ القلب، فإن من القلوب ما يمسخ بسبب المعاصي كما تمسخ الصورة فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه، وأعماله، وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير، لشدة شبه صاحبه به، ومنها ما يمسخ على قلب كلب، أو حمار، أو حية، أو عقرب، ومن الناس من يكون على أخلاق السباع العادية، ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليداً كالحمار، وغير ذلك (¬1). 18 - المعاصي تُنكّس القلب حتى يرى الباطل حقاً والحق باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على الهدى، وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب (¬2). 19 - تُضَيِّق الصدر، فالذي يقع في الجرائم، ويُعرض عن طاعة الله يضيق صدره بحسب إعراضه، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬3)، فمِنْ أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة ما سواه؛ فإن من أحبّ شيئاً غير الله عُذِّب به، ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص213 - 214. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص215. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 125.

النوع الثاني: آثار المعاصي على الدين:

وسجن قلبه في محبته (¬1). النوع الثاني: آثار المعاصي على الدين: 20 [1] تزرع المعاصي أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، حتى يصعب على العبد التخلص منها، كما قال بعض السلف: ((إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها)). وهكذا حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، فلو عطَّل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت حتى يعود إلى الطاعة، ولو عطل المجرم المعصية، وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره حتى يعاود المعصية (¬2)، فعلى المسلم أن يُقبل على الطاعة، ويترك المعصية، ويسأل الله - عز وجل - أن يُحبِّب إليه الإيمان، ويزيّنه في قلبه، ويكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله من الراشدين. 21 [2] تَحْرِمُ الطاعة وتُثَبِّطُ عنها، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصدّ عن طاعة، وتكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى، لكان كافياً في ضرره، فالمعاصي تحرم الطاعات، وتقطع طرق الأعمال الصالحة (¬3). 22 [3] المعصية سبب لهوان العبد العاصي على الله وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري رحمه الله: ((هانوا عليه فعصوه، ولو عزّوا عليه ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 2/ 25. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص108. (¬3) انظر: الجواب الكافي، ص106، 212.

23 [4] تدخل الذنوب العبد تحت لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

لعصمهم)) (¬1)، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬2)، ولو عظَّمهم الناس في الظاهر خوفاً من شرهم، أو لحاجتهم إليهم، فإنهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه (¬3). 23 [4] تُدخل الذنوب العبد تحت لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لعن على معاصٍ وغيرها أكبر منها، فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة، فلعن: الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة (¬4). ولعن النامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى (¬5). ولعن آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (¬6). ومرَّ على حمار قد وُسِمَ في وجهه فقال: ((لعن الله الذي وسمه)) (¬7). ولعن السارق يسرق البيضة فتُقطع يده، ويسرق الحبل فتُقطع يده (¬8). ولعن من ذبح لغير الله، ومن آوى مُحدِثاً، ومن لعن والديه، ومن غيّر منار الأرض (¬9). ¬

(¬1) المرجع السابق، ص112. (¬2) سورة الحج، الآية: 18. (¬3) الجواب الكافي، لابن القيم، ص112. (¬4) البخاري، كتاب اللباس، باب وصل الشعر، 7/ 81، برقم 5933، ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم فعل الواصلة، 3/ 1677، برقم 2124. (¬5) البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، 7/ 81، برقم 5931، ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم فعل الواصلة، 3/ 1678، برقم 2125. (¬6) مسلم، كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله، 3/ 1218، برقم 1597. (¬7) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه،3/ 1673، برقم 2117. (¬8) مسلم، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1314، برقم 1687. (¬9) مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله، 3/ 1567، برقم 1978.

ولعن المتشبّهات بالرجال من النساء، والمتشبّهين بالنساء من الرجال (¬1). ولعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه [وآكل ثمنها] (¬2). ولعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً يرميه (¬3). ولعن المصور (¬4). ولعن من سبَّ أباه، ومن سبَّ أمه، ومن كمه أعمى عن الطريق، ومن وقع على بهيمة، ومن عمل بعمل قوم لوط (¬5). ولعن الراشي والمرتشي (¬6). ولعن زوّارات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج (¬7). ولعن من أتى امرأة في دبرها (¬8). ¬

(¬1) البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، برقم 5885. (¬2) أبو داود، كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر، 3/ 326، برقم 3674، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه، 2/ 1122، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 700، وما بين المعقوفين لابن ماجه. (¬3) مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم، 3/ 1550، برقم 1958. (¬4) البخاري، كتاب اللباس، باب من لعن المصور، 7/ 88، برقم 5962. (¬5) أحمد في المسند،1/ 217،وصحح إسناده أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند،3/ 266،برقم 1875. (¬6) الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي، 3/ 613، برقم 1336، وأبو داود، كتاب الأقضية، باب كراهة الرشوة، 3/ 300، برقم 3580، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 34، وإرواء الغليل، برقم 2626، وفي صحيح سنن أبي داود، برقم 3055. (¬7) أبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء للقبور، 3/ 218، برقم 3236، والترمذي، 2/ 136، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 308. (¬8) أبو داود، كتاب النكاح، باب في جامع النكاح، 2/ 249، برقم 2162، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 406.

24 [5] حرمان دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والملائكة

وأخبر أن من باتت مهاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح (¬1). وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه (¬2). وقد لعن الله - عز وجل - في كتابه من آذاه وآذى رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ولعن من أفسد في الأرض، ونقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل (¬4). ولعن من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى (¬5). ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة (¬6). ولعن من جعل سبيل الكافرين أهدى من سبيل المؤمنين (¬7). ولعن الله ورسوله على أشياء غير هذه، فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضاء فاعله بأن يكون ممن يلعنه الله ورسوله وملائكته لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه، فليبتعد العاقل عن كل معصية حتى ينجو، والله المستعان (¬8). 24 [5] حرمان دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والملائكة، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وبيّن سبحانه أن الملائكة يستغفرون ¬

(¬1) البخاري، كتاب النكاح، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، 6/ 183، برقم 5193. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى المسلم،4/ 2020،برقم 2616. (¬3) انظر: سورة الأحزاب، الآية: 57. (¬4) انظر: سورة الرعد، الآية: 25. (¬5) انظر: سورة البقرة، الآية: 159. (¬6) انظر: سورة النور، الآية: 23. (¬7) انظر: سورة النساء، الآيتان: 51 - 52. (¬8) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص115 - 119.

25 [6] المعاصي تسبب نسيان الله لعبده ونسيان العبد نفسه

لهم، قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1)، فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين المتّبعين لكتابه وسنة رسوله الذين لا سبيل لهم غيرها، فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة (¬2). 25 [6] المعاصي تُسبّب نسيان الله لعبده ونسيان العبد نفسه، فإذا نسي الله العبد فهناك الهلاك الذي لا يُرجى معه نجاة، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3)، فقد أخبر الله - عز وجل - أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه: أي أنساه مصالحها وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها وسرورها، ونعيمها، فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمة الله وخوفه، والقيام بأمره، فترى العاصي مهملاً لمصالح نفسه، مضيِّعاً لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتَّبع هواه، وانفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته، وفرَّط في سعادته الأبدية، واستبدل بها أدنى ¬

(¬1) سورة غافر، الآيات: 7 - 9. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص119 - 120. (¬3) سورة الحشر، الآيتان: 18 - 19.

26 [7] تخرج صاحبها من دائرة الإحسان

ما يكون من لذة، وإنما ذلك متاع زائل لا خير فيه، كما قيل: أحلام نوم أو كظلٍّ زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه وإهماله لها، وإضاعة حظها، ونصيرها من الله، وبيعها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن، فضيع ما لا غنى له عنه ولا عوض له منه: من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ ... وما من الله إن ضيعته عوضُ فالله - عز وجل - يعوِّض عن كل ما سواه ولا يعوِّض عنه شيء (¬1). 26 [7] تخرج صاحبها من دائرة الإحسان، فإن من عقوبات المعاصي أن تمنع العاصي ثواب المحسنين؛ فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي؛ لأن المحسن يعبد الله كأنه يراه، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية فضلاً عن الوقوع فيها (¬2). 27 [8] تفوِّت ثواب المؤمنين، ومن فاته ثواب المؤمنين وحسن دفاع الله عنهم فاته كل خير رتبه الله في كتابه على الإيمان، وهو نحو مائة خصلة كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها، ومنها: أ - الأجر العظيم: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). ب - الدفع عنهم شرور الدنيا والآخرة: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4). ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، ص135 - 136، و 190 - 195. (¬2) انظر: الجواب الكافي، ص137. (¬3) سورة النساء، الآية: 146. (¬4) سورة الحج، الآية: 38.

ج - موالاة الله لهم، ولا يذلّ من والاه: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} (¬1). د - {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬2). هـ - معية الله لهم: {وَأَنَّ الله مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). و الرفعة في الدنيا والآخرة: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬4). ز - العزة: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬5). ح - إعطاؤهم نصيبين من رحمته، وإعطاؤهم نوراً يمشون به ومغفرة ذنوبهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬6). ط - أمانهم من الخوف يوم يشتد الخوف: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬7). ي - القرآن هدى لهم وشفاء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 257. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 4. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 19. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬5) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬6) سورة الحديد، الآية: 28. (¬7) سورة الأنعام، الآية: 48.

28 [9] توجب القطيعة بين العبد والرب

مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬1). والمقصود أن الإيمان سبب جالب لكل خير في الدنيا والآخرة، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه عدم الإيمان، فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئاً يسبب له الخسارة في الدنيا والآخرة، فإن الإصرار على الذنوب يسبب الرين على القلوب، فيخاف أن يستمرّ على ذلك فيسبّب له ارتكاب ما يخرجه عن الإيمان بالكليّة، ومن هنا اشتدّ خوف السلف فقال بعضهم: ((أنتم تخافون الذنوب، وأنا أخاف الكفر)) (¬2). 28 [9] توجب القطيعة بين العبد والرب، وإذا وقعت القطيعة بين العبد وربه انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر، فأيّ فلاح، وأيُّ رجاء، وأيُّ عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه وبين وليّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين (¬3). 29 [10] المعاصي تجعل صاحبها أسيراً للشيطان، وفي سجن شهواته وقيود هواه، فهو أسير مسجون مُقيَّد، ولا أسير أسوأ حالاً من أسيرٍ أسَرَهُ أعدى عدوٍّ له، ولا سجن أضيق من سجن الهوى، ولا قيد أصعب من قيد الشهوة، فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ والله المستعان (¬4). 30 [11] المعاصي تجعل صاحبها من السفلة؛ فإن الله خلق خلقه ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 44. (¬2) انظر: الجواب الكافي، ص139، وص217 - 219. (¬3) انظر: الجواب الكافي، ص، 144، 155، 195. (¬4) انظر: الجواب الكافي، ص150.

31 [12] تسقط الكرامة

قسمين: عُلية، وسفلة، وجعل عليين مستقرّ العلية، وأسفل سافلين مستقر السفلة، وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة، وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة (¬1). 31 [12] تُسْقِط الكرامة، من عقوبات المعاصي: سقوط الجاه، والمنزلة والكرامة عند الله - عز وجل -؛ فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم (¬2)، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده، فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده، وإذا لم يبق له جاه عند الخلق، وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش: خامل الذكر، ساقط القدر، رزيّ الحال، لا حرمة له، ولا فرح له، ولا سرور؛ فإن خمول الذكر، وسقوط القدر والجاه جالب لكل غمٍّ وهمٍّ وحزن، ولا سرور معه، ومن أعظم نعم الله على العبد الطائع أن يرفع له بين العالمين ذكره، ويُعلي قدره (¬3). 32 [13] كراهية الله للعاصي، قال الله - عز وجل -: {وَالله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (¬5). النوع الثالث: آثار المعاصي على البدن: للمعاصي آثار على بدن العاصي، منها على سبيل المثال ما يأتي: ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص161. (¬2) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ} سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص151. (¬4) سورة البقرة، الآية: 276. (¬5) سورة النساء، الآية: 107.

33 [1] العقوبات الشرعية

33 [1] العقوبات الشرعية، إذا لم تَرُع العاصي العقوبات السابقة ولم يجد لها تأثيراً في قلبه، فلينظر إلى العقوبات الشرعية التي شرعها الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الجرائم، وهي: الحدود، والكفّارات، والتعزيرات. أما الحدود فهي: قتل المرتدّ، وحدّ الزنا، وحدّ السرقة، وحدّ القذف، وحدّ شرب الخمر، وهذه تحفظ الضرورات الخمس: ((حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال))، وما شرع الله - عز وجل - هذه الحدود والقصاص إلا لحفظ هذه الضرورات الخمس. وأما الكفّارات: فمنها: كفّارة قتل الخطأ، وكفّارة الظهار، وكفّارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة الوطء في الإحرام، وفي الحيض، والنفاس، وكفّارة اليمين. وأما التعزيرات: فهي حسب ما يراه الحاكم المسلم، وأنه يردع ويزجر (¬1)، ولا يصل التعزير إلى الحد، إلا إذا كان الجرم عظيماً، فقد يصل التعزير إلى القتل، وذلك حسب القواعد الشرعية، لا على حسب هواه (¬2). 34 [2] العقوبات القدريّة، وهي نوعان: نوع على القلوب والنفوس، ونوع على الأبدان والأموال، فالعقوبات القدرية على القلوب: آلام وجودية يضرب بها القلب، وقطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه، وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها. ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص201 - 207، والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص116 - 118. (¬2) انظر: مجلة البحوث الإسلامية، الصادرة من رئاسة البحوث العلمية، قرار هيئة كبار العلماء رقم138، في حكم مهرب ومروج المخدرات، العدد الحادي والعشرون، ص355.

35 [3] والمعاصي توهن البدن

والعقوبات على الأبدان نوعان: نوع في الدنيا، ونوع في الآخرة، والمقصود أن عقوبات السيئات تتنوّع إلى عقوبات شرعية، وعقوبات قدريّة، وهي إمّا في القلب، وإمّا في البدن، وإمّا فيهما، وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت، وعقوبات يوم حشر الأجساد مع الأرواح (¬1). والخلاصة أن العقوبات القدريّة: هي ما يصيب الإنسان في دينه، أو دنياه، أو كليهما: من الفتن، والمحن، والابتلاء، بسائر المصائب على اختلاف أشكالها، وهي على ثلاثة أنواع: منها ما يكون لرفع الدرجات. ومنها ما يكون لتكفير السيئات. ومنها ما يكون عقاباً للإنسان على ظلمه وعدوانه، وعصيانه لربه، وهذه الدرجة الأخيرة عامة للمسلم والكافر، كلٌّ على حسب ذنبه وجرمه (¬2). 35 [3] والمعاصي تُوهن البدن؛ فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنُه، وأما الفاجر فإنه وإن كان قويَّ البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم)) (¬3). ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص208 - 211. (¬2) انظر: المعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص118. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص106.

النوع الرابع: آثار المعاصي على الرزق:

النوع الرابع: آثار المعاصي على الرزق: 36 [1] المعاصي تحرم الرزق، ولا شك أن الرجل قد يُحرم الرزق بالذنب يُصيبه، وكما أن تقوى الله مجبلة للرزق كما قال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬1)، فكذلك ترك تقوى الله مجلبة للفقر، وهذا مفهوم الآية؛ فإن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجاً، ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي (¬2). 37 [2] تُزيل النعم، فالمعاصي تُزيل النعم، وتحلّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: ((ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)) (¬3)، قال الله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} (¬5)، فلا يغيّر الله تعالى نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيِّر عليه جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص104. (¬3) المرجع السابق، ص142. (¬4) سورة الشورى، الآية: 30. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 53.

38 [3] تزيل البركة في المال وقد تتلفه

فإن غيّر المعصية بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذلّ بالعزّ، قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (¬1). ولقد أحسن القائل: إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تُزيلُ النِّعَم وحطها بطاعة ربِّ العباد ... فربُّ العباد سريع النقم (¬2) 38 [3] تزيل البركة في المال، وقد تُتلفه، ومن ذلك أن من كذب في بيعه وشرائه، وكتم العيوب في السلعة، عُوقب بمحق البركة، فعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما)) (¬3)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (¬4)، والمعنى أن من أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله يفتح عليه في الدنيا، فييسّر له أداءه، أو يتكفّل الله به عنه يوم القيامة، ومن أخذها يريد إتلافها وقع له الإتلاف في معاشه وماله، وقيل: المراد بذلك عذاب الآخرة (¬5). ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 11. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص142. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، 3/ 14، برقم 2079، ومسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، 3/ 1164، برقم 1532. (¬4) البخاري، كتاب البيوع، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها،3/ 113،برقم 2387. (¬5) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 5/ 54.

النوع الخامس: آثار المعاصي العامة على الفرد:

النوع الخامس: آثار المعاصي العامة على الفرد: 39 [1] تمحق البركات: بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركات الدين والدنيا، فلا تجد أقلّ بركة في عمره، ودينه، ودنياه ممن عصى الله، قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬1)، فالمعاصي سبب لمحق البركات في كل شيء، فينبغي للمسلم أن يهرب من المعاصي حتى تحصل البركة في دينه ودنياه وآخرته (¬2). 40 [2] المعاصي مجلبة للذمّ، فإن من عقوباتها أن تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذمّ والصَّغار، فتسلبه اسم المؤمن، والبَرّ، والمحسن، والمتَقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والوَرِع، والصالح والعابد، والطيِّب، ونحو ذلك. وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والخبيث، والكاذب، والخائن، وقاطع الرحم، والغادر، والفاجر، وأمثالها، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء القبيحة وموجباتها، لكان في العقل ناهٍ عنها. والله المستعان (¬3). 41 [3] المعاصي تجرِّئ على الإنسان أعداءه، وهذا من عقوباتها على فاعلها، فتجرِّئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء، والوسوسة، ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص157 - 161. (¬3) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص152.

42 [4] تضعف العبد أمام نفسه

والتخويف، والتحزين، وإنسائه ما فيه مصلحته. وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره. وتجرئ عليه أهله، وخدمه وأولاده، وجيرانه، وهذا يكفي في قبح المعاصي. والله المستعان (¬1). 42 [4] تضعف العبد أمام نفسه، وهذا من أعظم عقوبات المعاصي، فإنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده، وأعلم الناس أعرفهم بذلك على التفصيل، والمعاصي تخون العبد في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظ العالي الدائم على الحظ الخسيس المنقطع، فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم، وعن الاشتغال بما هو أولى به وأنفع له في الدارين، فإذا وقع في مكروه واحتاج إلى التخلص منه خانه قلبه ونفسه وجوارحه، وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الصدأ، ولزمه في غمده بحيث لا ينجذب إذا جذبه، فعرض له عدوّ يريد قتله، فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه فلم يخرج معه، فدهمه العدو وظفر به، فكذلك القلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، إذا احتاج إلى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئاً، والعبد إنما يُحارب ويُصاول ويُقدم بقلبه، والجوارح تبع للقلب. والمقصود أن العبد إذا وقع في شدّة أو كربة أو بليِّة خانه قلبه، ولسانه، وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه، والتذلّل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، ص166.

43 [5] مكر الله بالماكر، ومخادعته للمخادع

وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فحينئذٍ يذكره بقلب لاهٍ ساهٍ غافل، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له، ولم تطاوعه، هذا كله أثر الذنوب والمعاصي. وهناك أمر أخوف من ذلك وأدهى منه، وهو أن يخون العاصي قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، كما شهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كثيراً من هذه الوقائع، منها: أن رجلاً شحَّاذاً قال عند موته: ((فلس لله، فِلْسٌ لله)) حتى خرجت روحه. وقيل لتاجر عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال: ((هذه القطعة رخيصة هذا مُشترَى جيد))، حتى قضى. ولُقِّن آخر ((لا إله إلا الله))، فقال: ((كلما أردت أن أقولها ولساني يمسك عنها)). وغير ذلك من القصص كثير (¬1). نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. 43 [5] مكر الله بالماكر، ومُخادعته للمُخادع، واستهزاؤه بالمستهزئ، وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق، وكل ذلك من عقوبات المعاصي، وأضرارها، نسأل الله العفو والعافية (¬2). ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص168 - 171. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص215.

44 [6] المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ، والعذاب في الآخرة

44 [6] المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ، والعذاب في الآخرة، كلّ ذلك من عقوبات المعاصي، قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده، ولا تقرّ العين، ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإلهها، ومعبودها الذي هو الحقّ، وكل معبود سواه باطل، فمن قرّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تقطَعت نفسه على الدنيا حسرات)) (¬2). 45 [7] تعسير أموره عليه، وهذا من أعظم ما يصيب العاصي، فلا يتوجَّهُ لأمر إلا يجده مُغلقاً دونه، أو متعسّراً عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسراً، فمن عطّل التقوى جعل له من أمره عسراً، ويا لله العجب كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه وطرقها معسرة عليه وهو لا يعلم من أين أُتي؟ (¬3). 46 [8] تُقصِّر المعاصي العمر، وتمحق بركته ولابدّ؛ فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور يقصّر العمر، وقد اختلف العلماء في ذلك فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه، وهذا حق وهو بعض تأثير المعاصي. ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 124. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص216. (¬3) المرجع السابق، ص105.

47 [9] يرفع الله مهابة العاصي من قلوب الخلق

وقالت طائفة بل تنقصه حقيقة كما تنقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسباباً كثيرة تكثره وتزيده، وللبركة في العمر أسباباً تكثره وتزيده. ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب، فالأرزاق والآجال، والصحة والمرض، والغنى والفقر، وإن كانت بقضاء الرب - عز وجل - فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها لمسبباتها مقتضية لها. وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها، فإذا أعرض العبد عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية (¬1). 47 [9] يرفع الله مهابة العاصي من قلوب الخلق، وهذا من بعض عقوبات المعاصي، فلاشك أنه يهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخفّ به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظّمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس، أم كيف يستخفّ بمعاصي الله ولا يستخفّ به الخلق؟ (¬2) قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬3). ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، ص107. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص134. (¬3) سورة الحج، الآية: 18.

النوع السادس: آثار المعاصي على الأعمال:

النوع السادس: آثار المعاصي على الأعمال: لاشك أن الأعمال تتأثر في بعض الأحوال بالمعاصي، ومن ذلك ما يأتي: 48 [1] عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لأعلمنَّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة، بيضاً فيجعلها الله - عز وجل - هباءً منثوراً))، قال ثوبان - رضي الله عنه -: يا رسول الله صفهم لنا، جَلِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) (¬1)، قلت: ولعل هؤلاء استحلّوا هذه المحارم، أو عملوا عملاً يخرجهم عن الإسلام، أو لهم غرماء أُعطوا هذه الحسنات كلها، والله - عز وجل - أعلم. 49 [2] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة: بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار)) (¬2). ثانياً: آثار المعاصي على المجتمع: المعاصي لها تأثير عظيم على المجتمعات والأمم، ومن ذلك على سبيل ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، 2/ 1418، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 17، برقم 505، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 417. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1997، برقم 2581.

50 [1] إهلاك الأمم بسبب المعاصي

المثال ما يأتي: 50 [1] إهلاك الأمم بسبب المعاصي، لاشك أن جميع الأضرار في الدنيا والآخرة تحصل بسبب المعاصي. فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة، والنعيم، والبهجة، والسرور، إلى دار الآلام، والأحزان، والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده، ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بُعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظّى، وبالإيمان كفراً؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماءُ فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلّط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمّرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟

51 [2] إزالة النعم

وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظّى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم: فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون، وداره، وماله، وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرَّها تدميراً؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ (¬1) لاشك أن الذي أصاب هؤلاء جميعاً وأهلكهم هي ذنوبهم. 51 [2] إزالة النعم، فالمعاصي تزيل النعم بأنواعها؛ فإن شكر الله على نعمه يزيدها، قال الله - عز وجل -: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} (¬2)، ونعم الله على عباده كثيرة لا تُحصى، كما قال - عز وجل -: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬4). ومن النعم على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: النوع الأول: نعمة الإيمان، وهي أعظم النعم على الإطلاق. النوع الثاني: نعمة المال والرزق الحلال. ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص84 - 86. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬3) سورة النحل، الآية: 18. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 34.

النوع الثالث: نعمة الأولاد

النوع الثالث: نعمة الأولاد. النوع الرابع: نعمة الأمن في الأوطان. النوع الخامس: نعمة العافية في الأبدان (¬1). وهذه النعم وغيرها تزيد بالشكر، وتزول أو تنقص، أو لا يبارك فيها للعبد بالذنوب والمعاصي، والإعراض عن الله - عز وجل -. قال الله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬2). 52 [3] نزول العقوبات العامة المهلكة، ومنها ما يأتي: أ - ظهور الطاعون. ب - نزول الأوجاع التي لم تكن في الأسلاف الذين مضوا. ج - الأخذ بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان. د - منع القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا. هـ‍- تسليط الأعداء. ويجعل الله بأسهم بينهم. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، ص142، والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص141 - 150. (¬2) سورة الشورى، الآية: 30.

53 [4] حلول الهزائم

أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (¬1). وهذا من أعلام نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد وقع ذلك كله بمن وقع في هذه المعاصي، ومن الأدلة المحسوسة على ذلك مرض الإيدز الذي وقع بمن أعلنوا بالفواحش، نسأل الله العفو والعافية (¬2). 53 [4] حلول الهزائم، فإن ذلك بأسباب المعاصي والإعراض عن دين الله - عز وجل -، كما أن من أسباب النصر الطاعة والإقبال على الله - سبحانه وتعالى -، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَالله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬3)، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬4)، وقال الله - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5)، وقال ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الفتن، باب العقوبات، 2/ 1332، برقم 4019، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 4/ 540، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 370، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 7، برقم 106. (¬2) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص506. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 45 - 47. (¬4) سورة غافر، الآية: 51. (¬5) سورة الروم، الآية: 47.

54 [5] المعاصي مواريث الأمم الظالمة

سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1)، وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (¬2)، فالأخذ بهذه الأسباب من أعظم أسباب النصر، وتركها من أعظم أسباب حلول الهزائم والخسارة في الدنيا والآخرة (¬3). 54 [5] المعاصي مواريث الأمم الظالمة، فليحذر المسلم أن يرث المعاصي عن الظالمين، فإن اللوطية: ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص: ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض بالفساد: ميراث عن قوم فرعون، والتكبر والتجبر: ميراث عن قوم هود، وغير ذلك، فالعاصي لابس ثياب هذه الأمم، وهم أعداء الله - عز وجل - (¬4). 55 [6] المعاصي تؤثر حتى على الدوابّ، والأشجار، والأرض وعلى المخلوقات. 56 [7] تسبب عذاب القبر، وعذاب يوم القيامة، وعذاب النار، نعوذ بالله من ذلك (¬5). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 40. (¬2) سورة محمد، الآيتان: 7 - 8. (¬3) انظر: المعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص153 - 154. (¬4) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص111. (¬5) انظر: المرجع السابق، ص120 - 124، والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، لحامد بن محمد المصلح، ص164 - 222.

المطلب الثامن: العلاج

المطلب الثامن: العلاج إن العباد لهم منجيات تنجيهم من المهالك والجرائم، والمصائب إذا حلت بهم، وتنجيهم من حلول العقوبات قبل نزولها، وتسبّب لهم السعادة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الأمور ما يأتي: أولاً: التوبة النصوح والاستغفار من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، قال الله - عز وجل -: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا} (¬2)، وقال - عز وجل -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3)، وقد مدح الله المسارعين إلى التوبة فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬4)، وقال الله - عز وجل -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬5). والتوبة لها فضائل عظيمة يجنيها التائب، ومنها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - محبّة الله للتوّابين، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 31. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8. (¬3) سورة الزمر، الآية: 53. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬5) سورة طه، الآية: 82.

الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬1). 2 - فرح الله - عز وجل - بتوبة عبده إليه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدّة الفرح)) (¬2). 3 - تبديل الله - عز وجل - السيئات حسنات، قال الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬3). 4 - التوبة الخالصة الصادقة من جميع الذنوب يدخل الله صاحبها الجنة، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 222. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، 7/ 189، برقم 6309، ومسلم واللفظ له، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، 4/ 2104، برقم 2747. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 68 - 70.

ثانيا: تقوى الله - عز وجل -، في السر والعلن

أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). والتوبة لها شروط وأركان لا تُقبل إلا بها، وهي: أ- الإقلاع عن المعصية وتركها. ب - العزيمة على عدم العودة إليها أبداً. ج - الندم على فعلها. د - إن كانت المعصية في حق آدمي فلها شرط أو ركن رابع، وهو التحلّل من صاحب ذلك الحق، وردّ الحقوق. ولا تنفع التوبة عند الغرغرة، أو بعد طلوع الشمس من مغربها (¬2). ثانياً: تقوى الله - عز وجل -، في السر والعلن، وهي أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله. ويجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك. ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله - عز وجل -: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 8. (¬2) انظر: مدارج السالكين، 1/ 201 - 440، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 59، والآداب الشرعية لابن مفلح، 1/ 85 - 156، وغذاء الألباب، للسفاريني، 2/ 568 - 596. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 104.

رابعا: الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُنُّه فلا يستجيب لكم)) (¬1)، وقال الله - عز وجل -: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (¬2). رابعاً: الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال (¬3). خامساً: الدعاء والالتجاء إلى الله - عز وجل -: 1 - الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلَّف عنه أثره: إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله - عز وجل -. وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو. وإما لعدم توافر شروط الدعاء المستجاب (¬4). 2 - الدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء: يدافعه ويعالجه، ويمنع ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،4/ 468،برقم 2169، وأحمد في اللفظ له في مسنده، 5/ 388،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 233. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 165. (¬3) انظر: المعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع، ص303 - 322. (¬4) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص22، 35.

3 - مقامات الدعاء مع البلاء ثلاثة

نزوله، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن (¬1). 3 - مقامات الدعاء مع البلاء ثلاثة: المقام الأول: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. المقام الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً. المقام الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه (¬2). فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)) (¬3)، وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يردُّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العُمرِ إلا البر)) (¬4). 4 - الإلحاح في الدعاء من أنفع الأدوية، فالمسلم الصادق يُقبل على الدعاء، ويلزمه، ويُواظب عليه، ويُكرره في أوقات الإجابة، وهذا من أعظم ما يُطلب به إجابة الدعاء (¬5). ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، ص23 - 24. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص24، 35 - 37. (¬3) الحاكم، 1/ 493، وأحمد في المسند، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، 3/ 151، برقم 3402. (¬4) الترمذي، في كتاب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا بالدعاء، 4/ 484، برقم 2139، بلفظه، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، وأخرجه الحاكم بنحوه، 1/ 493، من حديث ثوبان وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 76، برقم 154، وفي صحيح سنن الترمذي، لشاهده من حديث ثوبان عند الحاكم، وعند ابن ماجه، برقم 4022، وأحمد، 5/ 277. (¬5) انظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص25، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف [المؤلف]، ص51 - 52.

2 - آفات الدعاء

5 - آفات الدعاء: إن من آفات الدعاء التي تمنع ترتّب أثره، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويترك الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعهّده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله (¬1). 6 - أوقات إجابة الدعاء مهمة ينبغي أن يعتني الداعي في دعائه بها، ومن أعظمها: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى صلاة الجمعة، وآخر ساعة بعد عصر يوم الجمعة، فإذا حضر القلب في هذه الأوقات، وصادف خشوعاً وانكساراً بين يدي الرب، وذلاً له وتضرّعاً ورقّة، واستقبل الداعي القبلة؛ وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة، وتوسّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته، وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يُردّ أبداً (¬2). 7 - أهم ما يسأل العبد ربه، لا شك أن العبد يسأل الله كلّ شيء يحتاجه في أمر دينه ودنياه؛ لأن الخزائن كلها بيده - سبحانه وتعالى -، وهو - عز وجل - لا مانع لما ¬

(¬1) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص26، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف [المؤلف]، ص39. (¬2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص27 - 28، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف [المؤلف]، ص45 - 91.

أعطى، ولا مُعطي لما منع، ويحب - عز وجل - أن يُسأل، فليسألْه العبدُ كلّ شيء يحتاجه، حتى شِسعَ نعله، ويهتم العبد اهتماماً بالغاً بالأمور المهمّة العظيمة التي فيها السعادة الحقيقية، ومن أهمّ ذلك تسعة أمور، هي: ممم ف المصور منفض للأمر الأول حتى الرابع الأمر الأول: سؤال الله الهداية والسداد. الأمر الثاني: سؤال الله: المغفرة لجميع الذنوب. الأمر الثالث: سؤال الله - عز وجل -: الجنة والاستعاذة به من النار. الأمر الرابع: سؤال الله سبحانه: العفو والعافية في الدنيا والآخرة. الأمر الخامس: سؤال الله - عز وجل -: الثبات على دينه. الأمر السادس: سؤال الله سبحانه: حسن العاقبة في الدنيا والآخرة. الأمر السابع: سؤال الله تعالى: دوام النعمة والاستعاذة به من زوالها. الأمر الثامن: الاستعاذة بالله: من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعدا. الأمر التاسع: سؤال الله: صلاح الدين والدنيا والآخرة (¬1). والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وينفع به كل من انتهى إليه، فإنه تعالى خير مسؤول وأكرم مأمول وهو حسبي ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه: نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/ 38 - 40، وشروط الدعاء وموانع الإجابة، للمؤلف، ص13 6 - 149.

§1/1