نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي

السيوطي

مقدمة الإمام السيوطي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الإمام السيوطي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سبحان الله وبحمده منزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، آتيا من أساليب البلاغة بالعجب العُجاب، راقيا من ذرى الفصاحة مرقى لا يجال ولا يجاب، معجزة للنبي الهاد، سيد من ركب الجواد، وأهدى من سلك الجوادَّ، وأفصح من نطق بالضادِ، المبعوث بالمنهل العذب لِيَرْوِيَ (1) كل صادٍ، ويهدي كل صاد، المؤيد بالمعجزات التي لا يحصيها عدُّ (2) عادٍّ، المخصوص باستمرار معجزته إلى يوم التنادِ، وبقراءة كتابه في الجنان باللسان (3) العربي المستجادِ، المؤتى جوامعَ الكلم بالإيجادِ، لتقوم أمته إلى قيام الساعة بالاستنباط والاجتهاد. صلوات الله عليه وسلامه ما حدا حادٍ، وشدا شادٍ، وبدا باد، وعدا عادٍ، وما غدا أو راح رائح وغاد، وعلى آله الأمجاد وأصحابه الأنجادِ. أما بعد (4)، فإن التفسير في الصدر الأوّل كان مقصورا على السماع، محصورا في باب الاتّباع، يحفظ في الصدور عن الصدور، ويرجع إلى الأثر والنقل ويدور (5)، فلما حدث تدوين الكتب (6) وتصنيفها، وذلك في منتصف المائة الثانية أجروه مُجرى الأحاديث والآثار، وساقوه مساق (7) ما دوّنوه من الأخبار، فقلّ إمام من أئمة الحفظ ألّف جامعا أو مسندا إلاّ وألّف تفسيرا ساق فيه ما وقع له بالأسانيد موردا. ومفتتح هذه الطبقة مالك (8)؟. . . . . . . . .

_ (1) في د: فيروي. (2) في ح: عدد. (3) في ح، د: بلسانه. (4) في ت، ظ: وبعد. (5) في ح: وعلى النقل يدور. (6) في هامش نسخة ظ: تدوين الكتب في منتصف المائة الثانية من الهجرة. (7) في ت: سياق. (8) لم يدون الإمام مالك رحمه الله كتابًا في التفسير مستقلاً، أو مضافًا إلى الموطأ، ولكن كان له كلام في التفسير على حسب الحاجة، تلقاه عنه أصحابه ونقلوه، وقد بين ذلك القاضي أبو بكر ابن العربي حين قال في كتابه القبس في شرح موطأ مالك بن أنس 3/ 1047 كتاب التفسير: هذا كتاب التفسير، أرسل مالك رضي الله عنه كلامه فيه إرسالاً، فلقطه أصحابه عنه، ونقلوه=

ووكيع (1)، وسفيان (2)، وتبعهم من جاء بعدهم من الأئمة الأعيان، كعبد الرزاق (3)، والفريابي (4)، وسعيد بن منصور (5)، وآدم بن أبي إياس (6)، وابن أبي شيبة (7) وإسحاق بن راهويه (8) وعبد بن حميد (9)، وخلائق كلهم مليءٌ بالحفظ ريّان.

_ =كما سمعوه منه، ما خلا المخزومي، فإنه جمع له فيه أوراقًا فألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية، فكتبناها عن شيخنا أبي عبد الله المصيصي، الأجل الأمين المعدل، وكان كلامه رحمه الله في التفسير على جملة علوم القرآن. قلت: وجمع الحافظ محمد بن عمر بن محمد أبو بكر البغدادي الجعابي ت 355هـ جزءًا فيه التفسير المروي عن مالك، وقعت روايته للحافظ ابن حجر. انظر في المعجم المفهرس 109. (1) هو وكيع بن الجراح بن مليح أبو سفيان الرؤاسي، كان من بحور العلم، وأئمة الحفظ، صاحب التفسير الذي رواه عنه محمد بن إسماعيل الحساني، توفي سنة سبع وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 9/ 140، وطبقات المفسرين 2/ 357. (2) هو سفيان بن مسروق أبو عبد الله الثوري، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، توفي سنة ست وعشرين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 229، وبطقات المفسرين 1/ 186 وتفسيره مطبوع بتحقيق امتياز علي عرشي. (3) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع أبو بكر الصنعاني، عالم اليمن، توفي سنة إحدى عشرة ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 563، وطبقات المفسرين 1/ 278 وتفسيره مطبوع، حققه الدكتور مصطفى مسلم، والدكتور الطبيب عبد المعطي قلعجي. (4) هو جعفر بن محمد بن الحسن أبو بكر الفريابي، تميز في العلم، توفي سنة إحدى وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 96، وتذكرة الحفاظ 2/ 692 وتفسيره وصل إلى الحافظ ابن حجر، وأفاد منه في كتبه، فتح الباري 1/ 68، وتغليق التعليق 2/ 24، والعجاب في بيان الأسباب 1/ 24/. (5) هو سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراساني، كان ثقة صادقًا من أوعية العلم، توفي سنة سبع وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 586، وتذكرة الحفاظ 2/ 416 وتفسيره طبع بعضه بتحقيق الدكتور سعد عبد الله آل حميد. (6) هو آدم بن أبي إياس أبو الحسن الخراساني، محدث عسقلان، توفي سنة عشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 335، وتذكرة الحفاظ 1/ 409. (7) هو عبد الله بن محمد بن القاضي أبي شيبة إبراهيم أبو بكر العبسي، سيد الحفاظ، وصاحب المسند، والمصنف، والتفسير، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. سير أعلام النبلاء 11/ 122، وطبقات المفسرين 1/ 246. (8) هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو يعقوب المروزي، شيخ المشرق، صاحب المسند، والسنن، والتفسير المشهور الذي رواه عنه محمد بن يحيى بن خالد المروزي، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين سير أعلام النبلاء 11/ 358 وطبقات المفسرين 1/ 102. (9) هو عبد بن حميد بن نصر، أبو بكر الكسي، روى عن كثيرين مذكورين في تفسير الكبير، توفي سنة تسع وأربعين ومائتين. سير أعلام النبلاء 12/ 235، وطبقات المفسرين 1/ 368.

وجاءت بعدهم طبقة أخرى أصحاب نحو ولغة فألفوا في معاني القرآن ما يزيل الإغراب، وضموا إلى معانيه المقتبسة من اللغة ما تحتاج إليه تراكيبه من الإعراب، كالفراء (1)، والزجاج (2)، والنحاس (3)، وابن الأنباري (4)، في آخرين أتراب. ثم حدث في المائة الرابعة مصنّفون ألّفوا تفاسير لخصوا فيها من تفاسير الحفاظ الأقوال بترا، ومن كتب أصحاب المعاني معاني وأعاريب صاغوها بعد أن كانت تبرا. ثم جاءت فرقة أصحاب نظر في علوم البلاغة التي يُدرَكُ بها وجه الإعجاز وأسرار البلاغة (5) التي هي لحلل التراكيب طراز. وصاحب (6) الكشاف هو سلطان هذه الطريقة، والإمام السالك في هذا المجاز إلى الحقيقة، فلذا طار كتابه في أقصى الشرق والغرب، ودار عليه النظر إذ لم يكن لكتابه نظير في هذا الضرب.

_ (1) هو يحيى بن زياد بن عبد الله أبو زكرياء الفراء، كان فقيهًا عالمًا بأيام العرب وأخبارها وأشعارها متكلمًا يميل إلى الاعتزال، توفي سنة سبع ومائتين. معجم الأدباء 6/ 2812 وبغية الوعاة 2/ 333 حقق الأستاذ محمد علي النجار معاني القرآن للفراء. (2) هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق النحوي، كان من أهل الدين والفضل، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. معجم الأدباء 1/ 51 وإنباه الرواة 1/ 159 حقق الدكتور عبد الجليل عبده معاني القرآن وإعرابه للزجاج. (3) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر النحاس، صاحب الفضل الشائع والعلم الذائع، توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. معجم الأدباء 1/ 468 وإنباه الرواة 1/ 101 وللنحاس إعراب القرآن، حققه الدكتور زهير غازي زاهد، ومعاني القرآن، حققه الشيخ محمد علي الصابوني. (4) هو محمد بن القاسم بن محمد أبو بكر ابن الأنباري، كان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظًا للغة، له كتاب المشكل في معاني القرآن، بلغ فيه إلى سورة طه، وأملاه سنين كثيرًا ولم يتمه، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. معجم الأدباء 6/ 2614، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1/ 212. (5) في د: البراعة. (6) هو محمود بن عمر بن أحمد أبو القاسم الزمخشري جار الله، كان إمامًا في التفسير والنحو واللغة والأدب، وكان معتزلي الاعتقاد، متظاهرًا به، توفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. معجم الأدباء 6/ 2687 ووفيات الأعيان 5/ 168.

ولما علم مصنفه أنه بهذا الوصف قد تحلى (1) وترقى (2) إلى مرتبة ما دنا إليها غيره ولا تدلى قال -تحدثا بنعمة ربّه وشكرا، لا علوّا في الأرض ولا فخرا -: إِنَّ التَّفاسيرَ في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثلُ كشَّافي إِنْ كنت تبغي الهدى فالزم قراءتَهُ ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي (3) (4) وقد نبّه هو في خطبة كتابه على الوصف الذي به تميز (5) جليل نصابه، فقال:

_ (1) في د: تجلى (2) في ح: ورقى (3) لا تغيب عن أذهاننا في خضم هذا الثناء البالغ حقيقة الزمخشري وكشافه، فإنه -سامحه الله- رجل مجاهر بالاعتزال، مباه به، قد وظب مقدرته البلاغية، وملكته الأدبية في لَيِّ أعناق النصوص الشرعية، وقيادها إلى مذهبه، وفي محاولة إفساد استدلال أهل السنة بها على الحق الذي دلت عليه، وفي الازدراء بأهل السنة، ونبزهم بالألقاب الشنيعة وتشييد أركان الاعتزال ورفع أهله، فأصبح كتابه -بجانب إظهار النكت البلاغية، واللطائف الإعجازية التي تميز بها- حشو بدع وضلالات. ويحتال للألفاظ حتى يديرها لمذهب سوء فيه أصبح مارقًا وهاك بعض مقالات أهل العلم الذين سبروا كتابه، وخبروا شأنه، قال العلامة تاج الدين السبكي في كتابه: معيد النعم ومبيد النقم ص80: واعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمام في فنه إلا أنه رجل مبتدع متجاهر ببدعته، يضع من قدر النبوة كثيرًا، ويسيء أدبه على أهل السنة والجماعة، والواجب كشط ما في الكشاف من ذلك كله. ولقد كان الشيخ الإمام يقرئه فلما انتهى إلى الكلام على قوله تعالى في سورة التكوير: {إنه لقول رسول كريم} أعرض عنه صفحًا، وكتب ورقة حسنة سماها: سبب الانكفاف عن إقراء الكشاف. وقال فيها: قد رأيت كلامه على قوله تعالى: {عفا الله عنك} وكلامه في سورة التحريم في الزلة، وغير ذلك من الأماكن التي أساء أدبه فيها على خير خلق الله تعالى سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرضت عن إقراء كتابه حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما في كتابه من الفوائد والنكت البديعة. وقال السيوطي نفسه في كتابه التحبير في علم التفسير ص545: وممن لا يقبل تفسيره: المبتدع، خصوصًا الزمخشري في كشافه، فقد أكثر فيه من إخراج الآيات عن وجهها إلى معتقده الفاسد بحيث يسرق الإنسان من حيث لا يشعر، وأساء فيه الأدب على سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - في مواضع عديدة، فضلاً عن الصحابة وأهل السنة، وقد أحسن الذهبي إذ ذكره في الميزان وقال: كن حذرًا من كشافه. وانظر: في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 359 والبحر المحيط لأبي حيان 7/ 85. (4) لم أر هذين البيتين في ديوان الزمخشري. وانظر: في معجم الأدباء 6/ 2689، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 280. (5) في ت، د: الذي يميز.

اعلم أن متن كل علم، وعمود كل صناعة، طبقات العلماء فيه متدانية، وأقدام الصُنّاع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلاّ بخطى يسيرة، أو تقدّم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة. وإنما الذي تباينت فيه الرُّتب، وتحاكت فيه الرُّكب، ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عدّ ألف بواحد = ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفِقَر، ومن لطائف معان فيها (1) مباحث للفِكَر، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلاّ أوحَدِيُّهم (2) وأخصهم، وإلاّ واسطتهم وفَصُهُم، وعامتهم عُماةٌ عن إدراك حقائقها بأحداقهم، عُناةٌ في يد التقليد، لا يُمَنّ عليه بجزّ نواصيهم وإطلاقهم. ثم إن أملأ العلوم بما يَغمُرُ القرائح، وأنهضها بما يَبهرُ الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدقّ سلكها = علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ (3) في كتاب "نظم القرآن ". فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلّم وإن بَزّ (4) أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القِريِّة (5) حفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري (6) أوعظ، والنحويّ وإن

_ (1) كذا في النسخ: وفي الكشاف 1/ 2 معان يدق فيها مباحث للفكر. (2) في د: أوحدهم. (3) هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ، كان من الذكاء والحفظ بحيث شاع ذكره، وإليه تنسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين. معجم الأدباء 3/ 2010، ووفات الأعيان 3/ 470 وكتابه: نظم القرآن من الكتب التي تكرر تأليفها ثلاث مرات، ولا أعلم له نسخة مخطوطة. قال ياقوت: كتاب نظم القرآن له ثلاث نسخ. (4) بزه يبزه بزاه: أي سلبه. الصحاح/ مادة بز. (5) هو أيوب بن زيد بن قيس أبو سليمان الهلالي، المعروف بابن القرية، والقرية جدته، كان أعرابيًّا أميًّا، وكان يضرب به المثل في الفصاحة والبيان، قتله الحجاج سنة أربع وثمانين. وفيات الأعيان 1/ 250 وتاريخ الإسلام حوادث سنة 81 - 100 ص43. (6) هو الحسن بن أبي الحسن: يسار أبو سعيد البصري، كان من سادات التابعين وكبرائهم، توفي سنة عشر ومائة. وفيات الأعيان 2/ 69 وسير أعلام النبلاء 4/ 563.

كان أنحى من سيبويه (1) واللغوي وإن علك اللغات بقوّة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلاّ رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهّل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانّهما همّة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات طويل المراجعات، قد رجع زمانًا ورجع إليه، ورَدّ ورُدّ عليه، فارسًا في علم الإعراب، مقدمًا في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقّادها، يقظان النفس، درّاكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لاكزًا (2) جاسيًا (3) ولا غليظا جافيا، متصرّفا، ذا دربة بأساليب النظم والنثر، مرتاضا -غير رِّيضٍ (4) - بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلّف، وكيف ينظّم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه (5). هذا ما ذكره في خطبة الكشاف مشيرا إلى ما يجب في هذا الباب من الأوصاف، عرضا بأنه المتحلّي بهذا الوصف، وأن كتابه هو الآتي على سنن (6) هذا الوصف. ولقد صدق وبرّ ورسخ نظامه في القلوب فوقر وقرّ. وتعقّبه البلقيني (7) في الكشاف فلم يدرك مغزاه، ولا طابق ما أورده منطوق

_ (1) هو عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبويه، عمل كتابه المنسوب إليه، الكتاب، وهو مما لم يسبقه إليه أحد، توفي سنة ثمانين ومائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 346 وبغيية الوعاة 2/ 229. (2) الكززة الانقباض واليبس. الصحاح/ مادة كزز. (3) جسا ضد لطف. الصحاح/ مادة جسا. (4) يقال: ناقة مروضة وقد ارتاضت، وناقة ريض أول ما ريضت وهي صعبة بعد. الصحاح/ مادة روض. (5) الكشاف: 1/ 17. (6) في د: نسق. (7) هو عم بن سلان بن نصير سراج الدين أبو حفص الكناني البلقيني، كان أحفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك وطبقة شيوخه موجودون، توفي سنة خمس وثمانمائة. الضوء اللامع على الكشاف، ومنها قطعة مخطوطة في مجلد يشتمل على تفسير جزء من سورة النساء. انظر في فهرس دار الكتب المصرية 1/ 7 ملحق الجزء الأول.

ما ذكره ولا فحواه، قائلا: قصد الزمخشري بما أبان الإشارة إلى براعته في علم المعاني وعلم البيان. وكيف يترجح فنان جمعتهما أوراق يسيرة، وجدولان جاريان في جداول (1) صغيرة، قد وضعا بعد الصحابة والتابعين بمئين من السنين، وحفرا بعد البحار الزاخرة، ووشيا بالتحبير بعد تكملة الخِلع (2) الفاخرة = على الفنون التي طافت المشارق والمغارب كالطوفان؟. أين ذكرهما في الصحابة الذين هم أسد الغابة؟ أين ذكرهما في التابعين الذين كانوا للصحابة شاهدين سامعين؟ أين ذكرهما في عصر الفقهاء؟ من نبّه عليهما في الأقدمين من النبهاء. وما على الناس من اصطلاح أتى به عبد القاهر الجرجاني (3) واقتفاه السكاكي (4) فيما ذكر من المعاني، ولا يقوم لهما في كثير من المقامات دليل، وليس لهما إلى ذلك سبيل. وعلم التفسير إنما هو يتلقى من الأخبار، ويسلك فيه مسالك الآثار. وأقول: لم يتوارد البلقيني والزمخشري على محلّ واحد، وليس الزمخشري لانحصار تلقي التفسير من الأحاديث (5) والآثار بجاحد. كيف وانحصار التفسير في السماع كلمة إجماع، والنهي عن القول في القرآن بالرأي ملأ الأسماع. ولهذا لم يذكر أهل الحديث مع من عدد (6) من أرباب الفنون، ولا أدرجهم

_ (1) في ح، ق: أخاديد. (2) في ت: الحلل. (3) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر النحوي الجرجاني، عالم بالنحو والبلاغة، توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 188 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 106. (4) هو يوسف بن أبي بكر: محمد سراج الدين أبو يعقوب السكاكي الخوارزمي، كان علامة بارعًا في فنون شتى، خصوصًا المعاني والبيان، وله كتاب: مفتاح العلوم فيه اثنا عشر علما من علوم العربية، توفي سنة ست وعشرين وستمائة، بغية الوعاة 2/ 364 وتاج التراجم في من صنف من الحنفية 284. (5) في ظ: الأخبار. (6) في ت: عد.

في زمرة من ذكر وإن جالت من المعترض الظنون، وإنما مقصوده ما أشار إليه أوّلا أن القدر الزائد على التفسير من استخراج محاسن (1) النكت والفقر ولطائف المعاني التي يستعمل فيها الفكر، وكشف الأستار عن غوامض الأسرار، وبيان ما في القرآن من الأساليب، وما تضمنه من وجوه البلاغة في التراكيب = لا يتهيأ له إلاّ من برع في هذين العلمين، وتبحر في هذين الفنين، وصار مجتهدا في علوم البلاغة، ذا تصرّف في أفانين البراعة، خبيرا بأساليب الكلام، بصيرا بمسالك النظام؛ لأن لكل نوع (2) أصولا وقواعد، هي للوصول إلى حقيقته مصاعد، ولا يُدرك فنّ بقواعد فنّ آخر وإن شرف ذلك الفنّ، وفضل على الأوّل لما فاخر (4). والفقيه والمتكلّم بمعزل عن أسرار البلاغة، واللغوي والنحوي إنما يدركان من مدلول اللفظ وإعرابه بلاغة، والقاص والأخباري أقلّ من أن يُتَوَهّمَ فيهما الصلاحية للتكلّم في القرآن، وأذلّ من أن يجوز لهما الخوض في أسرار الفرقان. ومراده بحافظ الأخبار الحافظ لأيام الناس والمؤرخ الذي اقتصر على ما ليس له في بنيان العلم (5) أساس، ولهذا ضرب له المثل بابن القرِّيِّة، لأنه كان بهذه الصفة، ولم يكن له بالأخبار النبوية حفظ ولا معرفة. ولو أراد به حافظ الأحاديث لضرب المثل بمالك وسفيان (6)، أو بأحمد والبخاري، ونحوهما (7) من الأعيان، فعرف أن للزمخشري مقصدا غير ما فهمه المعترض، ومنحى لا ينخدش بما ذكره المتعقب ولا ينتقض. وقد كان الصحابة يعرفون هذا المعنى بالسليقة، وبه قامت عندهم المعجزة على الحقيقة، فاهتدوا بسببه إلى أقوم طريقة. ألم يثبت عن جبير بن مطعم أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم في

_ (1) في ظ: من (2) في د: فن. (3) في د: حقائقه. (4) في د: وفاخر. (5) في ح: العلوم. (6) في هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون، شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء 8/ 400 والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 4/ 591. (7) في د: ونحوه.

فداء أسرى بدر فوجدته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [سورة الطور 35] كاد قلبي يطير (1) وأدركه الإسلام. ومرّ أعرابي على قارئ يقرأ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [سورة الحجر 94] فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام (2). فكانوا يعرفون بالطبع وجوه بلاغته كما كانوا يعرفون وجوه إعرابه، ولم يحتاجوا إلى بيان النوعين في ذلك العصر؛ لأنه لم يكن يجهلهما أحد من أصحابه (3)، فلما ذهب أرباب (4) السليقة والتبس الإعراب باللحن، والمجاز بالحقيقة وضع لكل من الإعراب والبلاغة قواعد يدرك بها ما أدركه الأولون بالطبع وتُساعد، فكان حكم علم (5) المعاني والبيان كحكم علم النحو والإعراب، وكانت الحاجة إليهما داعية لإدراك وجه الإعجاز والإعراب. ولما كان كتاب الكشاف هو الكافل في هذا الفنّ بالبيان الشاف اشتهر في الآفاق اشتهار الشمس، وجهر به في محافل المجالس (6) بين الفضلاء من غير همس، واعتنى الأئمة والمحققون بالكتابة عليه، وتسارع العلماء والفضلاء في المناقشة والمنافسة إليه: فمن مميز لاعتزال (7) حاد فيه عن صوب الصواب، ومن مناقش له فيما أتى به من وجوه الإعراب، ومن محش وضّح ونقح، وتمم ويمم، وفسر وقرّر، وحبّر وحرّر، وجال وجاب، واستشكل وأجاب. ومن مخرّج لأحاديثه عزا وأسند، وصحح وانتقد. ومن مختصر لخص وأوجز، وكمّل ما أعوز. فممن كتب عليه الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد ابن المُنَيِّر الإسكندري

_ (1) رواه البخاري في 4/ 1839 ح4573، ومسلم 1/ 338 ح 463. (2) قال عبد الله الثعالبي: ثلاث كلمات اشتملت على شرائط الرسالة، وشرائعها، وأحكامها، وحلالها، وحرامها، الإعجاز والإيجاز 23. (3) في د، ق الصحابة. (4) في د: أصحاب. (5) في: علمي. (6) في ح: الفضلاء. (7) في ظ: للاعتزال.

المالكي (1) كتابه " الانتصاف " بيّن فيه ما تضمنه من الاعتزال، وناقشه في أعاريب أحسن فيها الجدال. وتلاه الإمام علم الدين عبد الكريم بن علي العراقي (2) في كتابه " الإنصاف " جعله حكما بين " الكشاف " و " الانتصاف ". ولخصهما الإمام جمال الدين ابن هشام (3) في مختصر لطيف مع يسير زيادة، خفيفة. وأكثر الإمام أبو حيان (4) في بحره من مناقشته في الإعراب ومجادلته في الإضراب (5). وتلاه تلميذاه الشهاب أحمد بن يوسف الحلبي المشهور بـ " السمين " (6)، البرهان إبراهيم بن محمد بن السفاقسي (7). . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (1) هو أحمد بن محمد بن منصور أبو العباس الاسكندري المعروف بابن المنير -بضم الميم وفتح النون وياء مثناة من تحت مشددة مكسورة- له الباع الطويل في علم التفسير والقراءات، توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 1/ 243 وفوات الوفيات 1/ 149 وحاشيته مطبوعة في هامش الكشاف في بعض طبعاته. (2) هو عبد الكريم بن علي بن عمر علم الدين الأنصاري العراقي، له في التفسير اليد الباسطة، صنف فيه: الإنصاف في مسائل الخلاف بين الزمخشري وابن المنير، توفي سنة أربع وسبعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 10/ 95 والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 399، وحاشته مخطوطة ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، مخطوطات التفسير وعلومه 1/ 351. (3) هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بنه هشام أبو محمد النحوي، أتقن العربية ففاق الأقران، بل الشيوخ، توفي سنة واحدة وستين وسبعمائة. الدرر الكامنة 2/ 308 وبغية الوعاة 2/ 68 وحاشتيه مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 416. (4) هو محمد بن يوسف بن علي أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجياني، كان عارفا باللغة وأما النحو والتصريف فهو الإمام المطلق، توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة 4/ 302 وبغية الوعاة 1/ 28. (5) في ت، ظ: بالإضراب. (6) هو أحمد بن يوسف بن محمد أبو العباس الحلبي المعروف بالسمين، لازم أبا حيان إلى أن مهر في حياته، توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة، كتاب المقفى الكبير 1/ 750 والدرر الكامنة 1/ 360. (7) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحياق السفاقسي المالكي النحوي، جمع إعراب القرآن،=

في إعرابهما (1)، ثم قد يوافقانه، وقد يتبعانه بالجواب، ويقرران أن الذي قاله الزمخشري هو الصواب. ولخص الشيخ تاج الدين ابن مكتوم (2) مناقشات شيخه أبي حيان في تأليف مفرد سمّاه " الدرّ اللقيط من البحر المحيط ". وممن كتب عليه حاشية العلاّمة قطب الدين الشيرازي (3) في مجلدين لطيفين، والعلاّمة فخر الدين أحمد بن الحسن الجابردي (4)، والعلاّمة شرف الدين الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي (5) وهي أجلّ حواشيه، في ست مجلّدات ضخمات، والعلاّمة أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي (6)، رأيت منها مجلّدا

_ =توفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 61 وبغية الوعاة 1/ 425 وإعراب القرآن له اسمه: المجيد في إعراب القرآن المجيد، حقق موسى محمد إعراب الفاتحة والجزء الأول من سورة البقرة، ثم حقق الدكتور حاتم الضامن إعراب الفاتحة ضمن نصوص محققة في علوم القرآن الكريم. (1) في د، ق: في إعرابهما. (2) هو أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم أبو محمد النحوي، جمع من تفسير أبي حيان مجلدا سماه: الدر اللقيط من البحر المحيط، قصره على مباحث أبي حيان مع ابن عطية والزمخشري، توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة. الدر الكامنة 1/ 174 وبغية لوعاة 1/ 326. (3) هو محمود بن مسعود بن مصلح قطب الدين الشيرازي، كان من بحور العلم ومن أذكياء العالم، له حاشية على الكشاف في مجلدين لطيفين، توفي سنة عشر وسبعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 10/ 386 وبغية الوعاة 2/ 282 وكشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/ 1477 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 352. (4) هو أحمد بن الحسن بن يوسف فخر الدين الجابردي، كان إماما فاضلا دينا مواظبا على الشغل في العلم وإفادة الطلبة، له حواش على الكشاف مشهورة، توفي سنة ست وأربعين وسبعمائة. الطبقات الكبرى 9/ 8 والدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 242 وحاشتيه مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 404. (5) هو الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي، كان مقبلاً على نشر العلم، آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن، شرح الكشاف شرحا كبيرا، توفي سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 185 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 1/ 522 حققت حاشيته على الكشاف رسائل علمية في الجامعة الإسلامية. (6) هو محمد بن محمود بن أحمد بن أحمد أكمل الدين البابرتي، كان فاضلاً صاحب فنون، وافر العقل له حاشية على الكشاف، توفي سنة ست وثمانين وسبعمائة. الدرر الكامنة 4/ 250، وتاج التراجم ص276.

على الفاتحة، وقطعة من البقرة، ولا أدري أكمّلها أم لا (1)، والعلاّمة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (2)، وهي ملخصة من حاشية الطيبي، مع زيادة تعقيد في العبارة، ولم يتمها (3)، والعلاّمة السيد الجرجاني (4)، رأيت منها كراريس، ولا أدري إلى أين وصل (5)، وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وهي أسلوب آخر غير أساليب المذكورين. وإنما كتب منها اليسير (6)، والشيخ وليّ الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ الكبير زين الدين عبد الرحيم العراقي (7) في مجلدين لخص فيهما كلام ابن المنير،

_ (1) قال قاسم بن قطلوبغا زين الدين في: تاج التاجم ... : وحاشيته على الكشاف إلى تمام الزهراوين. ص277 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 424. (2) هو مسعود بن عمر بن عمر بن عبد الله سعد الدين التفتازاني، العلامة الكبير، له شرحا التخليص، وحاشية الكشاف، توفي سنة واحدة وتسعين وسبعمائة. الدرر الكامنة 5/ 350 وبغية الوعاة 2/ 285 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسخ، انظر في: الفهرس الشامل 1/ 425. (3) قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: والذي تحرر منها من أول القرآن إلى أثناء سورة يونس، ومن سورة الفتح. وقال حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1478 وصل فيها إلى سورة الفتح. وفي آخر نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 536 ل784 التفسير في أثناء سورة الفتح: هذا آخر ما وفق الشارح العلامة، وهو السعد التفتازاني لتحريره وتحقيقه وتصنيفه وتعليقه على الكشاف، جزاه الله. (4) هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن الجرجاني، يعرف بالسيد الشريف، عالم الشرق، كان بينه وبين التفتازاني مباحثات ومحاورات في مجلس تمرلنك، وله من الحواشي: حاشية على أوائل الكشاف، توفي سنة ست عشرة وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 5/ 328 والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 488 وحاشيته مطبوعة في هامش الكشاف في بعض الطبعات. (5) وصل إلى تحشية تفسير الآية السادسة والعشرين من سورة البقرة. انظر في: الكشاف مع حاشية الجرجاني 1/ 261. (6) ذكر السيوطي في معجم شيوخه: المنجم في المعجم ص126 أن علم الدين صالح بن عمر البلقيني ولد المؤلف أكمل هذه الحاشية. (7) هو أحمد ابن الحافظ عبد الرحيم بن الحسين أبو زرعة الكردي، يعرف كأبيه بابن العراقي، كان عالما فاضلا، له تصانيف في الأصول والفروع، وفي شرح الأحاديث، ويد طولي في الإفتاء، اختصر الكشاف مع تخريجه أحاديث، وتتمات ونحوها، توفي سنة ست وعشرين وثمانمائة. الضوء اللامع 1/ 336 والبدر الطالع 1/ 72 وحاشيته مخطوطة، ومنها نسختان. انظر في: الفهرس الشامل 1/ 450.

والعلم العراقي، وأبي حيان، وأجوبة الحلبي، والسفاقسي مع زيادة تخريج أحاديثه. وممن خرّج أحاديثه الإمام المحدث فخر الدين الزيلعي (1)، ولخص كتابه حافظ العصر الشهاب أبو الفضل ابن حجر في مختصر لطيف. وسيد المختصرات منه كتاب " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " للقاضي ناصر الدين البيضاوي، لخصه فأجاد، وأتى بكل مستجاد، وماز منه أماكن الاعتزال، وطرح مواضع الدسائس وأزال (2)، وحرر مهمات، واستدرك تتمات، فبرز كأنه (3) سبيكة نُضَار، واشتهر اشتهار الشمس في وسط النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكبّ عليه العلماء والفضلاء تدريسا ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة، ومرّوا على ذلك طبقة بعد طبقة، ودرجوا عليه من زمن مصنفه إلى زمن شيوخنا متسقة. ولقد كان شيخاي الإمامان الأكملان، والأستاذان الأفضلان، بقية النحارير المدققين، وعمدة المشايخ المحققين تقي الدين الشمني (4)، ومحيي الدين الكافيجي (5)، سقى الله ثراهما شآبيب الغفران، وأمطر على مضجعهما سحائب

_ (1) هو عبد الله بن يوسف بن محمد أبو محمد جمال الدين الزيلعي، اشتغل كثيرا ولازم مطالعة كتب الحديث إلى أن خرج أحاديث الهداية، وأحاديث الكشاف، توفي سنة اثنتين وستين وسبعمائة، الدر الكامنة 3/ 310 والبدر الطالع 1/ 402. وتخريج أحاديث الكشاف له اسمه: كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف للزمخشري. حقق رسائل علمية في جامعة أم القرى، وطبع بعناية سلطان بن فهد الطبيشي. (2) ولكن بقيت مع ذلك فيه دسائس اعتزالية، وواسب فلسفية، تبع فيها الزمخشري وجاراه، سببه: التوغل في علوم الفلاسفة، وعدم التضلع بالأحاديث والآثار، ولقد أحصى السيوطي -رحمة الله عليه- أكثر من عشرين موضعا زلت فيها قدم البيضاوي، فناقشه فيها ورد عليه. انظر في الداسة. (3) في ت، ظ: كتابه. (4) هو أحمد بن محمد بن محمد أبو العباس الشمني -بضم الشين المعجمة والميم وتشديد النون- القسطيني الحنفي، إمام النحاة في زمانه وشيخ العلماء في أوانه، له شرح المغني لابن هشام، توفي سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 2/ 174 وبغية الوعا 1/ 375. (5) هو محمد بن سليمان بن سعد أبو عبد الله الكافيجي الحنفي: كان إماما كبيرا في المعقولات كلها، الكلام وأصول الفقه والنحو والتصريف والمعاني والبيان والجدل والمنطق والفلسفة، توفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة. الضوء اللامع 7/ 259 وبغية الوعاة 1/ 117.

الرضوان يقرآن هذا الكتاب فيأتيان في تقريره بالعجب العجاب، ويرشدان من كنوزه ورموزه إلى صوب الصواب. فلما توفاهما الحق إلى رحمته، ونقلهما من هذه الدنيا الدَّنِيَّةِ إلى فسيح جنته شغرت الديار المصرية من محقق، وخلت من مدرّس يبدي ضمائره مدقق، فصار الكتاب بما فيه من الكنوز كصندوق مقفل، وأصبح لفقد من فيه أهلية لتدريسه كأنّه مغفل، فألهمني الله سبحانه وتعالى أن جردت الهمّة لتدريسه، وشددت المئزر لتقرير ما فيه وتأسيسه، فشرعت في إقرائه مفتتح سنة ثمانين وثمانمائة، فأقرأت فيه (1) في مدة عشر سنين متوالية من أوّله إلى أثناء سورة هود، وبذلت المجهود في استقراء مواده، والتنقير عن معادنه، ولزمت النظر والسُهود والكواكب شُهود، وشرعت مع ذلك في تعليق حاشية عليه تحلل خفاياه، وتذلل مطاياه، فسمع بذلك السامعون، وطمع في الوصول إليها الطامعون، وجسر على إقرائه حينئذٍ كل جسور وهجم من متعرّبة ومن عجم، ممن لا يفرق في مقدمة التصريف بين باب ضرب يضرب، وباب نصر ينصر، فضلا عن أن يحوي عنده شتاتَ تلك العلوم التي هي أصول له ويحصر، وممن إذا قرأ الكرّاس نظرا يصحف التفقية بالتقفية، ويحرّف الترفية بالترقية، وإذا سمع باستعارة أو حجاز كان بينه وبين إدراك ذلك مجاز، بحيث سمع قولي في مقامة: " وأنا " الحامل للشريعة المحمدية على كاهلي، والراقم لها في تصانيفي بأناملي " فاستنكر ذلك وقال: " الشريعة لا تحمل على الكواهل، ولا ترقم، إنما ترقم الخطوط الدالة عليها بالأنامل ". فانظروا من بلغ به الجهل المفرط هذا الحد، ومن أدّاه السقوط والعامية إلى أن يعيب هذا الكلام البليغ، ويوجه نحوه الردّ! وبحيث سمع قولي: " أعلم خلق الله الآن قلما وفما " فاستثكر ذلك من حيث الإعراب وعده وهما، وقال: " إن نصب الاسمين على التمييز فرع أن يقال: قلم عالم، وفم عالم، وهو بعيد عن التجويز ".

_ (1) في د، ح، ق: منه.

فانظروا إلى من لم يسمع قط في علم المعاني بالإسناد المجازي، ولا مرّ على أذنه تمثيلهم بشعر شاعر، وقصيدة شاعرة، ونهار صائم، وما له يوازي، ولا قرأ القرآن وهو ممتلئ به على لغة كل عربيّ حجازي، وغير حجازي. ثم ارتقى من الجهل مصعدا يرتقي عنه أسفل السافلين، ويرتفع عنه (1) أجهل الجاهلين الغافلين، وقال: " إن هذه العبارة منكرة شرعا، ممنوعة من قبل الحكم الديني منعا؛ لأنها تشمل الملائكة وجبرائيل وميكائيل " فملأ بذلك وعاءه جهلا، لا وَزَنَهُ ولا كاله؛ لأنه لم يقف قط على قول العلماء في مثل ذلك: إنه موكول إلى تخصيص العقل بعالم القائل السالك، وعلى ذلك قوله تعالى لبني إسرائيل (وأني فضلتكم على العالمين) قالوا: لا تدخل فيه لما ذكر الأنبياء ولا الملائكة. ولولا اعتبار هذه القاعدة التي ليس عنها براحٌ لكان التلقيب بقاضي القضاة، وأقضى القضاة محرّما غير مباح، لأنه شامل لكل نبي، أجل، بل ولربِّ العالمين سبحانه عزّ وجلّ. لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا. . . ولكن لا حياةَ لمن تنادي (2) وممن إذا سمع بذكر الاجتهاد الذي هو من آكد فروض الشريعة تعجب منه، وعدّه من المنكرات الفظيعة (3) (4). الله أكبر! نزر العلم، وغزر الجهل، وتكلّم من ليس للخطاب بأهل. وممن إذا روي له حديث لم يفرّق بين الموقوف والمرفوع، ولا بين الموصول والمقطوع، ولا بين الصحيح والموضوع. وأعظم من ذلك أنه يعتمد الأخبار المختلقة الموضوعة، ويرد الأحاديث الصحيحة المسموعة، سنة بني إسرائيل، وتحريف ابن صوريا على جبرائيل (5).

_ (1) في ت، ح، د: عنده. (2) لكثير عزة، انظر في: ديوان كثير ص222 قال شارح الديوان: قيل البيت في الرثاء، ثم أصبح مثلاً يضرب لمن يوعظ فلا يقبل ولا يفهم. (3) في د: القطيعة. (4) انظر في تحدث السيوطي عن إنكار ابن الكركي الاجتهاد على السيوطي في شرح مقامات جلال الدين السيوطي 1/ 388. (5) المقصود بهذا الكلام هو: إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد أبو الوفاء الكركي الأصلي، القاهري المولد والدار 835 - 922 الذي نعته السخاوي في الضوء اللامع 1/ 62 بقوله: =

أفتارك (1) أنا هذا الكتاب البديع المثال، المنيع المنال عرضة لهؤلاء، كأنه خبز شعير، وفيه من فرائد الفوائد ما يجلّ عن مقابلته من الذهب الناض بحمل بعير، ففرقة تأكله وتذمه، وتتوهّم فيه بحسب فهمها السقيم أدنى خلل فلا ترمه. ومنهم من يريد أن يعربه فيعجمه (2)، ويصبح ظمآن وفي البحر فمه (3).

_ ="وقد درس وصنف، وأفتى، وحدث وروى، ونظر ونثر، ونقب وتعب، وخطب ووعظ، وقطع ووصل، وقدم وأخر، كل هذا مع الفصاحة والبلاغة وحسن العبارة". وذلك أنه كان بينه وبين جلال الدين السيوطي خصومة عنيفة أملتها المعاصرة، واقتضتها المنافسة، فنال أحدهما من الآخر، وصوب إليه سهام الطعن، وفوق إليه نصال الأذى، فألف السيوطي عنه مقام سماها: الدوران الفلكي على ابن الكركي، قال فيها: "وأذكر بناء البروز إذ أفتيت بأنه لا يجوز، فغضب من ذلك وزمجر، ونبع الشر من فيه وتفجر وقال: ما له وللتكلم في هذا! فقد ضر الناس بذلك وآذى. وذلك لأن له بروزا أحدثه خشي من هدمه، فيا فضيحة الإنسان من ربه إذا لم يعمل بعلمه، ثم يطوق تلك الأرض في عنقه من سبع أرضين، وكيف لا أتكلم في ذلك وأنا الحامل للشريعة المحمدية على كاهلي، والراقم لها في تصانيفي بأناملي، وأنا الذي بالعلم حقيق وقمن، أعلم خلق الله الآن قلما وفما، إن لم أكن أحق بالتكلم فمن"؟ شرح مقامات جلال الدين السيوطي 1/ 408 ثم إن إبراهيم الكركي ألف مقامة دفاعاً عن نفسه، وردا على مقامة السيوطي، لم أقف عليها، لكن في مكتبة الأزهر كتاب جمع فيه إبراهيم الكركي مسائل فقهية، سماه: فيض الكريم على عبده إبراهيم، ربما تكون المقامة من محتوياته، انظر في: فهرس الأزهر 2/ 234. ثم ألف السيوطي مقامة أخرى سماها: طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة، ردا على مقامة ابن الكركي جال وصال فيها، وأبدأ وأعاد فيها، واستفرغ وسعه، وبذل قصارى جهده في نقضها، والنيل منه، والوقيعة فيه. ثم وصل أمرها إلى الخليفة العباسي المتوكل على الله أبي العز عبد العزيز بن يعقوب، ففض بينهما، وردعهما من التهارش، ومنعهما من التناوش. انظر في: شرح مقامات السيوطي 2/ 813. (1) في ح: أفأترك. (2) مقتبس من رجز الحطيئة جرول بن أوس: فالشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه يريد أن يعربه فيعجمه ديوان الحطيئة 239 (3) مقتبس من رجز لرؤبة بن العجاج: كالحوت لا يرويه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه انظر في: مجموع أشعار العرب 159.

فحبست ما كتبت منه عشرين سنة، ولم أسمح به لأحد، لا في يقظة ولا في سنة. ولقد جاءني رائد منهم ناصبا لي الحبالة يريد ليوصله إلى من يستعين به على إقرائه، لا أبا له، فألقمت الحجر فاه، وتلوت على قفاه: أتت بجرابها تكتال فيه. . . فردت وهي فارغة الجراب ألم تر إلى الذي توسل إلينا بأبناء الحنفاء، وتوصل إلينا بأولاد الخلفاء، وتطفل علينا في الموائد فأذنّا لبعض تلامذتنا أن يسمحوا له ببعض ما لنا من الفوائد، فكان أوّل أمره نصب، وآخره غصب، وأغار على كتابنا " المعجزات والخصائص " وغيره، وخان وجنى ثمار غروسنا، وهو فيما جناه جان، فسوّد بذلك وجهه، وتوجه من ترك أداء الأمانة إلى شر وجهة، وسرق من عدة كتب لنا جواهر، لا ملك له فيها ولا شبهة، فنبهنا على خيانته، وإنا لصادقون، وبعثنا في ناديه مؤذنا يؤذن (أيتها العير إنكم لسارقون) [سورة يوسف 70] وعلمنا بذلك بخس ميزانه في الوازنين (1)، وتلونا على قفاه (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) [سورة يوسف 52] (2).

_ (1) في د، ق: في الموازين. (2) كان بين السيوطي وبين بعض علماء عصره منازعات أدبية ومخاصمات علمية، فألف عددا من المقامات ردا عليهم وانتصافا منهم، مصرحا بأسمائهم، فمن ذلك: ما ألفه ردا على شمس الدين السخاوي سماها: الكاوي في تاريخ السخاوي، وما ألفه ردا على إبراهيم الكركي، وهي عدة مقامات: الدوران الفلكي على ابن الكركي، الجواب الزكي عن قمامة ابن الكركي، الصارم الهندي في عنق ابن الكركي، وما ألفه ردا على شمي الدين الجوجري سماه: اللفظ الجوهري في رد خباط الجوجري. ومن هذه المقامات مقامة أخرى سماها: الفارق بين المصنف والسارق ألفها ردا على مؤلف اتخذ قرصنة الكتب بضاعة بعد أن أفلس في عالم العلم والتأليف، وتعرض له في مقامة له أخرى سماها: ساحب سيف على صاحب حيف. شرح مقامات السيوطي 1/ 564. اتهمه السيوطي بأنه سلخ أربع كتب له، كتاب الخصائص والمعجزات، وكتاب أنموذج اللبيب، وكتاب طي اللسان عن ذم الطيلسان، وكتاب مسالك الحنفا في والدي المصطفى، ثم امتد سلخه، ووصلت إغارته إلى كتب قطب الدين الخيضري، وشمس الدين السخاوي. ولم يصرح باسم السارق في هاتين المقامتين، وأجهل السبب الذي جعله يبهم اسمه، ويصرح بأسماء الآخرين. بيد أن جمهرة من الباحثين، الدكتور سمير الدروبي في تحقيق شرح مقامات السيوطي 1/ 54 وصالح آل الشيخ في كتابه هذه مفاهيمنا 24 - ولم يجزم- وعبد الإله نبهان في تحقيق بهجة العابدين 140 والدكتور هلال ناجي في تحقيق الفارق بين المصنف والسارق 26 فسروا هذا=

فلما كان هذا العام الذي هو ختام القرن رأيت أن أنظر في تبييض هذا الكتاب وتحريره، وتكميل ما بقي منه إلى أخيره، فجمعت الموادَّ، وسلكت الجوادَّ، وحبرته تحبيرا، وبالغت في تهذيبه تقريرا وتحريرا، وسميته " نواهد الأبكار وشوارد الأفكار ". واعلم أني لخصت فيه مهمات مما في حواشي الكشاف السابق ذكرها ما له تعلّق بعبارة الكتاب، وضممت إلى ذلك نفائس تستجاد وتستطاب، مما لخصته من كتب الأئمة الحافلة (1)، كتذكرة أبي عليّ الفارسي (2)، والخصائص، والمحتسب،

_ =السارق الذي أبهمه السيوطي بالعلامة شهاب الدين القسطلاني صاحب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. قلت: إن السيوطي ذكر في مقامته الفارق بين المصنف والسارق بعض الملامح عن ذلك السالخ، فإذا هي لا تنطبق على شهاب الدين القسطلاني. قال السيوطي: "قال -أي السالخ-: تتبعت وجمعت ووقع لي" شرح مقامات السيوطي 2/ 819 وهذه العبارات ليست في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. وقال أيضا: "وهذا الرجل لست أعرفه في سر ولا جهر، وإنما قيل لي عند السؤال -وأنا بالروضة-: رجل من أهل ما وراء النهر، فما أجدر هذا السارق الأعجم بأن تقطع منه اليمنى، ويؤخذ منه باليمين" شرح مقامات السيوطي 2/ 829. وشهاب الدين القسطلاني أولاً: ليس مجهولاً عن السيوطي، ب هو معروف لديه، جرت بينهما خصومة عند زكريا الأنصاري. وثانيا: ليس رجلاً أعجميا من بلاد ما وراء النهر، بل هو مصري المولد والمنشأ من أصول إفريقية، وعليه فليس هذا السارق الذي ألف السيوطي مقامة الفارق بين المصنف والسرق ردا عليه، وذكره في كتابه هذا نواهد الأبكار = شهاب الدين القسطلاني. دعا السيوطي على هذا السارق فقال: إن كان سارقا سالخا، وناسخا ماسخا، وكاذبا في دعوى اطلاعه على الأصول، ومدعيا ما لا حاصل عنده به، ولا محصول، ومغيرا على تصنيفي، ومنتحلا لتأليفي فلا يأمن أن يحرمه الله نفعه وثوابه، وأن يعدم عليه نفسه وكتابه. شرح مقامات السيوطي 2/ 827. ولعل دعوة السيوطي عليه قبلت فيه، فلم يبارك في عمله وتأليفه، ولم ينتشر بين الناس، ولم ينتفع به. (1) في د، ق: الكافلة. (2) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي النحوي الفارسي، صنف كتبا عجيبة لم يسبق إلى مثلها واشتهر ذكره في الآفاق، له كتاب التذكرة في العربية عشرون مجلدا، توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 1/ 273 ومعجم الأدباء 2/ 811 وفهرست ابن خير الإشبيلي 318. والتذكرة مفقودة.

وذا القد لابن جني (1)، وأمالي ابن الشجري (2)، وأمالي ابن الحاجب (3)، وتذكرة (4) الشيخ جمال الدين ابن هشام، ومغنيه، وحاشية الإمام (5) بدر الدين الدماميني (6)، وشيخنا الإمام تقي الدين الشمني، غير ناقل حرفا من كلام أحد إلا معزواً إليه؛ لأن بركة العلم عزوه إلى قائله (7). وحيث كان المحل من المشكلات التي كثر كلام الناس عليها أشبعت القول (8)

_ (1) هو عثمان بن جني أبو الفتح النحوي الموصلي، صاحب التصانيف البديعة في علم الأدب، له كتاب التذكرة الأصبهانية، مختار تذكرة أبي علي وتهذيب، وكتاب ذي القد في النحو، وهو ما استملاه من أبي علي، وكتاب المحتسب في علل شواذ القراءات، وكتاب الخصائص، توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 335 ومعجم الأدباء 4/ 1585 ذو القد مفقود، والآخران مطبوعان. (2) هو هبة الله بن علي بن محمد أبو السعادات المعروف بابن الشجري، أحد أئمة النحاة، وله معرفة تامة باللغة والنحو، صنف الأمالي، وهو أكبر تصانيفه وأمتعها، أملاه في أربعة وثمانين مجلسا، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 3/ 356، ومعجم الأدباء 6/ 2775 حقق الأمالي الدكتور المحقق المتضلع من علوم العربية، محمود الطناحي، وطبعت في ثلاث مجلدات بدار الخانجي. (3) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر المصري الإسكندري المعروف بابن الحاجب، كان وحيد عصره علما وفضلا واطلاعا، له الأمالي في ثلاث مجلدات في غاية الإفادة، توفي سنة ست وأربعين وستمائة. الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 86، وبغية الوعاة 2/ 235 والأمالي هي إعراب آيات من القرآن، وشرح مواضع من المفصل والكافية، وشرح مسائل خلافية في النحو، وأمالي مطلقة، حققها الدكتور فخر صالح سليمان، وطبعت بدار الجيل. (4) قال عنها الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة 3/ 94 والسيوطي في بغية الوعاة 2/ 69: إنها في خمسة عشر مجلدا وقد اقتبس منها السيوطي أكثر من عشرين نصا في الأشباه والنظائر في النحو 1/ 45، 61، 74، 103، 164، 247. (5) في ت، ح، ظ: وحاشيته للإمام. (6) هو محمد بن أبي بكر بن عمر بدر الدين الإسكندري المعروف بابن الدماميني، فاق في النحو، والنظم والنثر والخط، وشارك في الفقه وغيره، له تحفة الغريب في حاشية مغني اللبيب، توفي سنة سبع وثلاثين وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 7/ 184 وبغية الوعاة 2/ 66 ومن حاشيتي بدر الدين، وتقي الدين نسخ مخطوطة كثيرة، وطبعتا بمصر قديما. انظر في تاريخ الأدب العربي 6/ 77 ومعجم المطبوعات العربية والمعربة 1/ 880. (7) في ت، ظ: قائليه. (8) في ت، ظ: الكلام.

فيه بذكر كلام كل من تكلم عليه تكثيرا للفائدة. ومن المواضع ما وقع فيه تنازع وتباحث بين الأئمة قديما وحديثا بحيث أفردوه بالتأليف فأسوق خلاصة ذلك المؤلف. فدونك كتابا تشد إليه الرحال، وتخضع له أعناق فحول الرجال. جعله الله تعالى خالصا لوجهه الكريم، ونورا يهديني به إلى الصراط المستقيم، إلى جنات النعيم بمنّه وكرمه.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلّف هو الإمام القاضي ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي البيضاوي، من قرية يقال لها: البيضاء من عمل شيراز. قال الأسنوي (1) في " طبقات الشافعية ": كان عالما بعلوم كثيرة صالحا خيرا، صنّف التصانيف المشهورة في أنواع العلوم. منها مختصر الكشاف، ومختصر الوسيط في الفقه المسمى بـ " الغاية " و " المنهاج " في أصول الفقه. وتولى قضاء القضاة بإقليمه. وتوفي سنة إحدى وتسعين وستمائة (2). وقال القاضي تاج الدين السبكي (3) في " الطبقات الكبرى ": كان إماما مبرزا، نظارا صالحا متعبدا زاهدا، صنّف " الطوالع " و " المصباح " في أصول الدين، و " شرح المصابيح " في الحديث، وولي قضاء القضاة بشيراز، ودخل تبريز وناظر بها، وصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء فجلس في أخريات القوم بحيث لم يعلم به أحد، فذكر المدرّس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها، وطلب من القوم حلّها، والجواب عنها، فإن لم يقدروا فالحل فقط، فإن لم يقدروا فإعادتها، فلما انتهى من ذكرها شرع البيضاوي في الجواب، فقال له: لا أسمع حتى أعلم أنك فهمتها، فخيره بين إعادتها بلفظها أو معناها، فبهت المدرس، وقال: أعدها بلفظها، فأعادها ثم حلها، وبيّن أن في تركيبه إيَّاها خللا، ثم أجاب عنها وقابلها في الحال بمثلها، ودعا المدرّس إلى حلّها، فتعذّر عليه ذلك فأقامه الوزير من مجلسه، وأدناه إلى جانبه، وسأله من

_ (1) هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي أبو محمد الإسنوي، كان بحرا في الفروع والأصول، تخرج به الفضلاء، وانتفع به العلماء، صنف التصانيف المفيدة، منها المهمات على الروضة، وشرح المنهاج للبيضاوي، وشرح المنهاج للنووي، توفي سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. الدر الكامنة، 2/ 354، وبغية الوعاة 2/ 92. (2) طبقات الشافعية 1/ 283. (3) هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي أبو نصر تاج الدين السبكي، طلب الحديث مع ملازمة الاشتغال بالفقه والأصول والعربية حتى مهر وهو شاب، توفي سنة واحد وسبعين وسبعمائة. الدرر الكامنة 2/ 425، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 410.

أنت؟ فأخبره أنه البيضاوي، وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز، فأكرمه وخلع عليه في يومه، ورده، وقد قضى حاجته (1). وقال الصلاح الصفدي (2) في تاريخه: قال لي الحافظ نجم الدين سعيد الدهلي (3): توفي القاضي ناصر الدين البيضاوي سنة خمس وثمانين وستمائة بتبريز، ودفن بها. وهو صاحب التصانيف المشهورة البديعة. منها: " المنهاج " في الأصول، وشرحه أيضاً و " شرح مختصر ابن الحاجب " في الأصول، و " وشرح الكافية " في النحو لابن الحاجب، و " شرح المنتخب " في الأصول للإمام فخر الدين، و " شرح المطالع " في المنطق (4).

_ (1) طبقات الشافعية الكبرى 8/ 157. (2) هو خليل بن أبيك بن عبد الله أبو الصفاء صلاح الدين الصفدي، حبب إليه الأدب فولع به، وكتب الخط الجيد، وأكثر من النظم والنثر والترسل، له الوافي بالوفيات في نحو ثلاثين مجلدة، توفي سنة أربع وستين وسبعمائة، الدرر الكامنة 1/ 87، والبدر الطالع 1/ 243. (3) هو سعيد بن عبد الله نجم الدين أبو الخير الدهلي، الحافظ الإمام، حافظ الشام بعد الذهبي، توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 269، وكتاب الوافي بالوفيات 15/ 233. (4) كتاب الوافي بالوفيات 17/ 379.

الكلام على الخطبة

الكلام على الخطبة قوله: (الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) هو من الاقتباس، وقد أجمع على جوازه في النثر (1)، واستعمله العلماء قاطبة في خطبهم وإنشاءاتهم، وللمصنّف في ذلك خصوصية، وهي: أن تفسيره هذا مبني كالكشاف على أساليب علم المعاني والبيان والبديع، والاقتباس من تلك الأساليب، فكان في افتتاحه براعة استهلال (2) من وجهين: أحدهما: الإشارة إلى أن هذا المصنف الذي شرع في افتتاحه تفسير للقرآن. والثاني: الإشارة إلى أن هذا التفسير على قوانين وأساليب البراعة، ولمثل ذلك افتتح الطيبي والتفتازاني معا حاشيتي الكشاف بقوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (3)) [الكهف 1]. فإن قلت: نرى في هذا الزمان قوما يستنكرون ذلك، ويقولون: ألفاظ القرآن لا تستعمل في غيره. قلت: إنّما استنكره هؤلاء جهلا منهم بالنصوص والنقول، فقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلّم في غير ما حديث، والصحابة، والتابعون، والعلماء قديما وحديثا، ونصوا في كتب الفقه على جوازه. فإن قلت: لعلّ المالكية يشددون في ذلك ما لا يشدده أهل مذهبكم. قلت: قد استعمله إمامهم الإمام مالك بن أنس، ونصّ على جوازه غير واحد، منهم ابن عبد البر (4)؟. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (1) انظر في: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 2/ 223 والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر 14/ 321 وشرح مقامات السيوطي 2/ 726 - 729. (2) هي أن يكون افتتاح الخطبة أو الرسالة أو غيرهما دالا على غرض المتكلم. شرح الكافية البديعية لصفي الدين الحلي 59 وشرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان 172، 173. (3) فتوح الغيب 1/ 1 وحاشية سعيد الدين ل1. (4) هو يوسف بن عبد الله بن محمد أبو عمر النمري القرطبي المالكي، فقيه حافظ، عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي، توفي سنة ثلاث=

والقاضي عياض (1)، واستعمله في خطبة " الشفا (2) " وابن المنير، واستعمله في " الانتصاف (3) " وفي خطبه المنبرية. ونص الشيخ داود الباقلي (4) في تأليف له على أن المالكية والشافعية اتفقوا على جوازه. فإن قلت: سمعنا الإنكار ممن يزعم أنه متمذهب بمذهب أبي حنيفة رحمه الله. قلت: هو غير عالم بمذهبه، فلو رأى " شرح مجمع البحرين " لابن الساعاتي (5) - خصوصا في باب الاستسقاء - لظلت عنقه لجوازه خاضعة، ولاعترف بجهله حيث أنكر ما قامت عليه الأدلة الساطعة. ولأجل ذلك ألّفت في المسألة كتابا حافلاً (6) فيه جمل من النصوص والنقول،

_ =وستين وأربعمائة. سير أعمال النبلاء 18/ 153 والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 367. (1) هو عياض بن موسى بن عياض أبو الفضل اليحصبي السبتي، كان إمام وقته في الحديث وعلومه عالما بالتفسير وجميع علومه، فقيها أصوليا، عالما بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، له إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى، توفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة. الديباج المذهب 1/ 2 ولشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني كتاب: أزهار الرياض في أخبار عياض، في خمس مجلدات، ظريف مشحون بالفوائد. (2) انظر إكمال المعلم بفوائد مسلم 6/ 180 والشفا بتعريف حقوق المصطفى 2. (3) الانتصاف من الكشاف 1/ 133، 157. (4) لم أعرف عنه سوى أن له رسالة في جواز الاقتباس من القرآن، تسمى "اللطيفة المرضية" انظر في: شرح مقامات السيوطي 2/ 726 وكشف الظنون 2/ 1556. (5) هو أحمد بن علي بن تغلب مظفر الدين المعروف بابن الساعاتي، كان علامة بارعا، له البديع في أصول الفقه، ومجمع البحرين، وشرحه في مجلدين، توفي سنة أربع وتسعين وستمائة. الطبقات السنية في تراجم الحنفية 1/ 400 وتاج التراجم فيمن صنف من الحنفية 16 وقد أحصى محقق البديع في أصول الفقه للمؤلف مخطوطات مجمع البحرين فبلغت أكثر من خمس عشرة مخطوطة. (6) واسمه: رفع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس. طبع ضمن الحاوي للفتاوي 1/ 399 - 441 وأحفل منه كتاب الاقتباس من القرآن الكريم، لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في جزأين، إذ جمع فيه اقتباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب وأحسنهم بيانا، والسلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمان المؤلف من معاني القرآن وألفاظه في أمور معاشهم ومعادهم، وأداره على خمس وعشرين بابا، فجاء كتابا أحفل في بابه وأجمع لقضايا الاقتباس.

فليطلبه من أراد تحقيق ذلك. واعلم أن الاقتباس أنواع؛ لأنه تارة يورد فيه نظم القرآن بنصه كما في هذا المطلع، وتارة يزاد فيه الكلمة ونحوها، أو ينقص منه، أو يغير بعض عبارته وإعرابه، وقد استعمل المصنف جميع هذه الأنواع في الخطبة تنبيها منه على جوازها شرعا وبلاغة. فمن الزيادة قوله: (ثم بيّن للناس ما نزّل إليهم حسبما عنَّ لهم من مصالحهم، ليدبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب تذكيرا) فزاد لفظة " تذكيرا " ومن التغيير قوله: (فكشف قناع الانغلاق عن آياتٍ محكماتٍ، هن أُم الكتاب وأخر متشابهات، هن رموز الخطاب، تأويلا وتفسيرا) وقوله: (فَمَنْ كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فهو في الدارين حميد وسعيد) ومن النقص والتغيير والنقل عن المنزل فيه قوله: (ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وإلماعها؛ ليذهب عنهم الرجز، ويطهرهم تطهيرا) وكلّ ذلك سائغ شائع، فقد استعمله الأئمة، والعلماء، والبلغاء قديما وحديثا، ولا ينكره إلاّ من هو في عداد البهائم. قوله: (فتحدى) الضمير فيه وفي الأفعال بعده راجع إلى (عبده) والتحدي طلب المعارضة والمقابلة. قال في الصحاح: تحديت فلانا إذا باريته في فعل ونازعته الغلبة (1). وقال في الأساس: حدا حدوا، وهو حادي الإبل، واحتدى بها حُداء إذا غنى لها. ومن المجاز: تحدى أقرانه إذا باراهم، وأصله في الحُداء يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدى كل واحد منهما صاحبه، أي يطلب حداءه، كما يقال: توفاه، بمعنى استوفاه (2). وقال غيره: كانوا عند الحَدْوِ يقوم حاد عن يمين القطار، وحاد عن يساره يتحدى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي يطلب حداءه، ثم اتسع فيه

_ (1) الصحاح/ مادة حدا. (2) أساس البلاغة/ مادة حدا. وفيه: وحدى بها بدل: واحتدى بها.

حتى استعمل في كل مباراة. قوله: (مصاقع) جمع مصقع، وهو الفصيح. قال الجوهري: خطيب مصقع، أي بليغ (1). زاد غيره: يجهر بخطبته، من صقع الديك إذا صاح، وقيل: لأنه يأخذ في كل صقع، أي جانب من الكلام. قوله: (العرب) هم ولد إسماعيل عليه السلام، والعاربة والعرباء الخلص منهم، أخذ من لفظه وأكّد به، كليل أليل، وظلّ ظليل. قوله: (وأفحم) أي أسكت. قال في الصحاح: كلمته حتى أفحمته، إذا أسكته في خصومة (2). قوله: (تصدّى) أي تعرض، والمصاداة المعارضة. قوله: (عدنان) الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلّم، وسائر العرب، وهو عدنان بن أدّ بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار (3) بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وقحطان أبو اليمن. كذا في الصحاح (4). وقال الكلبي (5): هو الهميسع بن نبت (6) بن إسماعيل بن إبراهيم. كذا نقله المبرد (7) في كتاب " نسب عدنان وقحطان " وبين في الكتاب المذكور رجوع جميع العرب إليهما (8).

_ (1) الصحاح/ مادة صقع. (2) الصحاح/ مادة فحم. (3) في ح: قيذر. (4) الصحاح/ مادة قحط. (5) هو هشام بن محمد بن السائب أبو المنذر الكلبي، كان عالما بالنسب وأخبار العرب وأيامها ووقائعها ومثالبها، توفي سنة أربع ومائتين. معجم الأدباء 6/ 2779 وسير أعمال النبلاء 10/ 101. (6) في نسب عدنان وقحطان 28 ونسب ابن الكلبي قحطان إلى إسماعيل عليه السلام فقال: قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت. (7) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس النحوي، كان إمام العربية في بغداد، وإليه انتهى علمها، توفي سنة خمس وثمانين ومائتين. معجم الأدباء 6/ 2678 وسير أعمال النبلاء 13/ 576. (8) نسب عدنان وقحطان 9، 28.

قوله: (حسب) أي قدر، وهو بفتح السين. قال في الصحاح: وربما سكن للضرورة (1). قوله: (عنَّ) بالتشديد، أي عرض. قوله: (قناع الإنغلاق) القناع بكسر القاف ما تغطي به المرأة رأسها. وفي الصحاح: كلام غلق، أي مشكل (2). ففيه استعارة بالكناية (3): شَبَّهَ الكلام الغلق بالمرأة المخدرة، أي المحتجبة، فأضْمَرَ التشبيه في النفس، وحذف المشبه به، ودلّ عليه بلازمه، وهو القناع. قوله: (وأبرز) أي أظهر. قوله: (غوامض) جمع غامض، وهو خلاف الواضح. قوله: (ولطائف) جمع لطيفة، وهي الكلام الدقيق المؤثر في النفس. قوله: (لتتجلى لهم خفايا الملك والملكوت، وخبايا قدس الجبروت) قال الغزالي (4) في إملائه: حد عالم الملك: ما ظهر للحواس، ويكون بقدرة الله، بعضه من بعض، ويصحبه التغيير. وحد عالم الملكوت: ما أوجده سبحانه بالأمر الأزليّ بلا تدريج، وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه. وحد عالم الجبروت هو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك، فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت (5). انتهى.

_ (1) الصحاح/ مادة حسب. (2) الصحاح/ مادة غلق. (3) وذلك أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، فيسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية، ومكنيا عنها، لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه. شرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان 98 ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها 1/ 145. (4) هو محمد بن محمد بن محمد زين الدين أبو حامد الغزالي الطوسي، كانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين، توفي سنة خمس وخمسمائة، سير أعمال النبلاء 9/ 322 وطبقات الشافعية الكبرى 6/ 191. (5) الإملاء في إشكالات الإحياء 38 قلت: تفسير أبي حامد الغزالي هذه الألفاظ بهذه المعاني فيه نظر، وذلك أن الفلاسفة وضعت هذه الألفاظ لهذه المعاني، واستعملها الغزالي فيها موافقا لهم، وهي غير المعاني التي استعملت في اللغة والشرع، ولا شك أن هذا محاداة للغة، ومشاقة=

وفي " الحقائق " و " الدقائق " جناس لاحق. وفي " خبايا " و " خفايا " جناس مضارع؛ لأن الاختلاف بحرف مقارب في المخرج. قوله: (ومهد) أي وطَّأ وسوى وأصلح. قوله: (وإلماعها) كنى به عن الآيات المشيرة إلى الأحكام إشارة خفية؛ لذكره في مقابلة النصوص، وهو لغة الاختلاس. قوله: (نبراسه) هو المصباح، وفيه مع " رأسه " جناس مُذَيَلٌ (1). وفي " الوجود " و " الجود " جناس ناقص (2). قوله: (ذميما) أي مذموما. قوله: (توازي) أي تحاذي. قوله: (غناءه) بفتح المعجمة والمدّ. قوله: (وتجازي عناءه) بفتح المهملة والمد، هو التعب، وفي " توازي " و "

_ =للشرع، وتلاعب بالألفاظ، وتلبيس على المسلمين. قال مرتضى الزبيدي في تاج العروس -آثرا عن غيره-: والجبروت فعلوت من الجبر والقهر والقسر، والتاء فيه زائدة للإلحاق بقبروس، ومثله ملكوت من الملك، ورهبوت من الرهبة، ورغبوت من الرغبة، ورحموت من الرحمة، قيل: ولا سادس لها. وقال أبو جعفر الطبري في جامع البيان 11/ 470: ملكوت السماوات والأرض يعني ملكه، وزيدت فيه التاء كما زيدت في الجبروت من الجبر، وكما قيل: رهبوت خير من رحموت، بمعنى رهبة خير من رحمة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة عظيمة نافعة في العبادات 52: وابن سيناء ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشارع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه لحاء الشريعة، وهذا كلفظ الملك، والملكوت، والجبروت، واللوح المحفوظ، والملك، والشيطان، والحدوث، والقدم، وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحاد لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، والذين يحرفون كلام الله ورسوله عن موضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. وانظر في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 210. (1) هو أن يقع الاختلاف بأكثر من حرف، وهو مخصوص بما كانت الزيادة في الآخر مثاله قوله تعالى "وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ" شرح عقود الجمان 145 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 84. (2) هو أن يختلفا في عدد الحروف. شرح عقود الجمان 145 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 107.

تجازي " جناس لاحق (1)، وفي " غناءه " و " عناءه " جناس مُصَحَف (2). قوله: (ومنارا) هو علم الطريق يوضع ليهتدي به المارون (3). وبيان كون التفسير أعظم العلوم مقرر في " الإتقان " بما لا مزيد عليه، وكذا حده، والفرق بينه وبين التأويل (4) قوله: (برع) في الصحاح: برع الرجل بالضم والفتح براعة، أي فاق أصحابه في العلم وغيره (5). قوله: (في العلوم الدينية) هي التفسير والحديث والفقه وأصول الدين وأصول الفقه. أمّا العلوم الشرعية فذكر الفقهاء في الوصية اختصاصها بالثلاثة الأوَّل، وحكوا في الرابع خلافا، والأكثرون على عدم دخوله فيها. واختار المتولي (6) دخوله (7)، وقال الرافعي (8): إنه قريب (9). وقال السبكي (10): العلم بالله وصفاته وما يجب له وما يستحيل عليه ليُردّ على

_ (1) هو ما وقع الاختلاف فيه في أنواع الحروف، ويشترط أن [لا] يكون بأكثر من حرف واحد، وإلا يبعد التشابه ويفقد التجانس، وهو قسمان: ما يكون التحالف بحرف مقارب في المخرج، وما يكون بغيره، والأول يسمى المضارع، والثاني اللاحق. شرح عقود الجمان 146 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 76. (2) هو ما اختلفت الحروف في النقط، وبعضهم يسميه جناس الخط. شرح عقود الجمان 144 ومعجم المصطلحات البلاغية 2/ 70. (3) في ظ: المار. (4) الإتقان 2/ 1189 - 1196. (5) الصحاح/ مادة برع. (6) هو عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي، صاحب التتمة، أحد الأئمة الرفعاء، برع في المذهب وبعد صيته، توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 106 ووفيات الأعيان 3/ 133. (7) انظر في: روضة الطالبين للنووي 6/ 169. (8) وهو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم أبو القاسم الرافعي، كان متضلعا من علوم الشريعة تفسيرا وحديثا وأصولا، له فتح العزيز في شرح الوجيز، والمحرر، توفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن بغزوين. تهذيب الأسماء واللغات 2/ 264 وطبقات الشافعة الكبرى 8/ 281. (9) انظر في: المحرر في الفقه 3/ 859 وفتح العزيز 7/ 90. (10) هو علي بن عبد الكافي بن علي أبو الحسن تقي الدين السبكي، جامع أشتات العلوم المبرز=

المبتدعة، ويميز بين الاعتقاد الفاسد والصحيح، وتقريرُ الحق ونصرُهُ من العلوم الشرعية، والعالم به من أفضلهم. ومن دأبه الجدال والشُبَهُ وخَبْطُ عَشْواءَ وتضييع الزمان فيه والزيادة عليه إلى أن يكون مبتدعا، أو داعيا إلى ضلال (1) فذاك باسم الجهل أحقّ. ولم يعدّ أحد من الفقهاء أصول الفقه في العلوم الشرعية. قوله: (وفاق) في الصحاح: فاق أصحابه يفوقهم، أي علاهم بالشرف (2). قوله: (في الصناعات العربية، والفنون الأدبية) أحسن المصنف جدا في تفريقه بين العلوم الدينية، والآلات، حيث أطلق على الأولى اسم العلوم، وعلى الأخرى اسم الصناعات والفنون؛ لشرف تلك وشرف لفظ العلم، بخلاف لفظ الصناعات والفنّ. قال في الصحاح: الصناعة حرفة الصانع، وعمله الصنعة. والفنّ النوع (3). وقال الشيخ سعد الدين في حاشية الكشاف: معلومات العلم إن حصلت بالتمرن على العمل فربما خصت باسم الصناعة، أو بمجرّد النظر والاستدلال فبالعلم، وقد يقال: الصناعة لما تدرّب فيه صاحبه وتمكّن، أو لما يكون المقصود الأصلي منه هو العمل. وبالجملة الصناعة تعلق بالعمل؛ ولذا قالوا: هي ملكة نفسانية يقتدر بها الإنسان على استعمال موضوعات مّا نحو غرض من الأغراض صادرا عن البصيرة بحسب ما يمكن فيها (4). وقال الطيبي -بعد ما حكى القول الأول ممثلا للتمرن بحصول معلومات النحو بمطارحات الأعراب، ومعلومات صناعتي البلاغة والفصاحة بتتبع خواص تراكيب البلغاء إفادة ودلالة وترتيبا-: والحق أن كل علم مارسه الرجل سواء كان استدلاليا أو غيره حتى صار كالحرفة لة يسمى صناعة.

_ =في المنقول منها والمفهوم، طار اسمه فملأ الأقطار، وحلق على الدنيا، توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 10/ 139 وطبقات المفسرين 1/ 412. (1) في ح: ضلالة. (2) الصحاح/ مادة فوق. (3) الصحاح/ مادة صنع، وفنن. (4) حاشية سعد الدين ل4 - 5.

قال صاحب " الكشاف " في قوله (لبئس ما كانوا يصنعون) [سورة المائدة 63] " كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه (1) ". قوله: (بأنواعها) قال ابن الكمال الأنباري (2): أنواع علوم الأدب ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف والعروض والقوافي، وصنعة الشعر، وأنساب العرب، وأخبارهم. قال: وألحقنا بها علمين وضعناهما: علم جدل النحو، وعلم أصول النحو (3). ومعلوم أن الخمسة الأخيرة من الثمانية غير محتاج إليها في التفسير إلا صنعة الشعر، فإنه إشارة إلى علم البلاغة وتوابعها، فإن ذلك كان يسمى قديما صنعة الشعر، ونقد الشعر، ونقد الكلام. وفيه ألّف العسكري (4) كتابا سماه " الصناعتين " يعني صناعة النثر، وصناعة النظم. وألف قدامة (5) كتابا سماه " نقد الشعر " وإنما التسمية بالمعاني والبيان والبديع حادثة من المتأخرين. قوله: (ولطالما) قال الشيخ سعد الدين: " ما " فيه وفي " قلما " قيل: مصدرية، والمصدر فاعل، وقيل: كافة للفعل عن طلب الفاعل، ولذا (6) تكتب متصلة،

_ (1) الكشاف 1/ 627 وفتوح الغيب 1/ 35. (2) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله كمال الدين أبو البركات الأنباري النحوي، كان إماما ثقة صدوقا، فقيها مناظرا غزير العلم، له المؤلفات المشهورة، توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 169 وبغية الوعاة 2/ 86. (3) نزهة الألباء في طبقات الأدباء 76. (4) هو الحسن بن عبد الله بن سهل أبو هلال اللغوي العسكري، كان الغالب عليه الأدب والشعر، له كتاب صناعتي النظر والنثر مفيد جدا. معجم الأدباء 2/ 918 طبع كتابه بعنوان كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، بتحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. (5) هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج، كان أحد البلغاء، له كتاب نقد الشعر، وكتاب في الخراج وصناعة الكتابة، توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. معجم الأدباء 5/ 2235 طبع كتابه نقد الشعر بتحقيق كمال مصطفى. (6) في ح: ولهذا.

ويجوز الفصل (1). قوله: (يحتوي) في الصحاح: حواه يحويه جمعه، واحتوى مثله، واحتوى على الشيء أَلْمَأ - يعني اشتمل - عليه (2). قوله: (صفوة) في الصحاح: صفوة الشيء خالصه، مثلث الصاد، فإذا أسقطت التاء قيل: صفو، بالفتح لا غير (3). قوله: (وينطوي) بمعنى يحتوي. قوله: (نكت) جمع نكتة. قال الشيخ سعد الدين: النكتة. كل نقطة من بياض في سواد، أو عكسه. ونكت الكلام لطائفه ودقائقه التي تفتقر إلى تفكر. ونَكَت في الأرض، أي ضرب فيها بالقضيب إذا أثّر فيها (4). قوله: (رائعة) بمهملة، من راعني الشيء، أي أعجبني. قوله: (وأماثل) في الصحاح: أماثل القوم خيارهم، وقد مثُل الرجل بالضم مثالة، أي صار فاضلا (5)، والواحد أمثل. قوله: (يثبطني) يقال: ثبطه عن الأمر تثبيطا، شغله عنه. قوله: (فسنح) بمهملتين بينهما نون. في الصحاح: سنح لي رأي في كذا، أي عرض (6).

_ (1) حاشية سعد الدين ل6. (2) الصحاح/ مادة حوا. (3) الصحاح/ مادة صفا. (4) حاشية سعد الدين 5. (5) الصحاح/ مادة مثل. (6) الصحاح/ مادة سنح.

(سورة فاتحة الكتاب)

قوله: (سورة فاتحة الكتاب) قال الشيخ أكمل الدين: الفاتحة في الأصل إمّا مصدر كالعافية، سمي بها أوّل ما يفتتح به الشيء، من باب إطلاق المصدر على المفعول، والتاء للنقل إلى الاسمية، كما في " النطيحة " وإمّا صفة والتاء للمبالغة، كما في " راوية " نقلت إلى أوّل ما يفتتح به، على معنى الباعث للفتح. قيل: وهذا أشبه؛ لأن " فاعلة " في المصادر قليل. وإضافتها إلى الكتاب بمعنى " من "؛ لأن أوّل الشيء بعضه، ثم جعلت علَماً للسورة المعيّنة؛ لأنها أوّل الكتاب المعجز. وقد تستعمل غير مضافة، إما اختصارا لعدم اللبس، وإما أن تكون علما لمضاف على سبيل الغلبة (1). وقال الشيخ سعد الدين: فاتحة الشيء أوله، وخاتمته آخره، إذ بهما الفتح والدخول في الأمر، والختم والخروج منه. ولعدم اختصاصها بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية دون تأنيث الموصوف في الأصل. ولكون أَوّلِ الشيءِ بعضَهُ والمضافِ إليه كلَّه، لا سيما الكتاب المفتتح بالتحميد المختتم بالاستعاذة، فإنه هو المجموع الشخصي، لا المفهوم الكلي الصادق على الآية والسورة = كانت الإضافة بمعنى اللام، كما في جزء الشيء، دون " من " كما في " خاتم حديد ". وقد يتوهم أن كل ما هو جزء من الشيء فإضافته إليه بمعنى " من " كأنهار دجلة، وفساده بيّن (2). وقال الشريف الجرجاني: قال صاحب الكشف (3): الإضافة في فاتحة الكتاب

_ (1) حاشية أكمل الدين 7. (2) حاشية سعد الدين ل7. (3) هو عم بن عبد الرحمن بن عمر سراج الدين الفارسي الغزويني، كان له حظ وافر من العلوم، سيما العربية، له الكشف على الكشاف، توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة. شذرات الذهب في أخبار من ذهب 8/ 249 والأعلام 5/ 49 انظر الكشف على الكشاف ل5 نسخة مخطوطة أصلية بجامعة أم القرى برقم 2699.

بمعنى " من "؛ لأن أول الشيء بعضه. وردّ عليه بأن البعض قد يطلق على ما هو فرد من الشيء، كما يقال: زيد بعض الإنسان، وعلى ما هو جزء له، كما يقال: اليد بعض زيد، وإضافة الأوّل إلى الشيء بمعنى " من "، دون الثاني، ومن ثمّ اشترط في الإضافة بمعنى " من " كون المضاف إليه جنسا للمضاف صادقا عليه، وجعل " من " بيانية كخاتم فضة (1). فإن قلت: لعلّه يجعل الكتاب بمعنى القدر المشترك الصادق على سورة الحمد، وغيرها، أي فاتحة هي الكتاب. قلت: يأباه أن كونها فاتحة وَأَوَّلاً إنما هو بالقياس إلى مجموع المنزل، لا القدر المشترك. فإن قلت: جوّز صاحب " الكشاف " في سورة لقمان الإضافة بمعنى " من " التبعيضية، وجعلها قسيمة للإضافة بمعنى " من " البيانية، حيث قال: معنى إضافة اللهو إلى الحديث التبيين، وهي الإضافة بمعنى " من " كقولك: باب ساج. والمعنى من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث، ومن غيره، فبيّن بالحديث. والمراد بالحديث المنكر كما جاء في الحديث " الحديث في المسجد يأكل الحسنات (2) " ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى " من " التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث، الذي اللهو منه (3). فنقول -على التقدير الثاني-: إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو منه، صادقا عليه كما يصدق عليه الحديث المنكر، فتكون الإضافة بيانية، ولا مقابلة،

_ (1) في ح زيادة جملة هنا: وإضافة الثاني إليه بمعنى اللام كيد زيد. (2) بيض للحديث الحافظ جمال الدين الزيلعي في كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف 2/ 57 وساقه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 6/ 294 في الفصل الذي جمع فيه أحاديث إحياء علوم الدين التي لم يحد لها إسنادا. وقال الحافظ العراقي: لم أقف له على أصل. المعنى عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الآثار 1/ 107. (3) الكشاف 3/ 229.

وإن أريد بالحديث العموم والاستغراق كان لهو الحديث جزءا منه، فقد ثبت إضافة الجزء إلى كلّه، بمعنى " من " التبعيضية وإن كانت غير مشهورة. قلت: الظاهر أن المراد مطلق الحديث، لكنه دقق النظر في إضافة الشيء إلى ما هو صادق عليه، فما كان فيه المضاف إليه يحسن جعله بيانا وتمييزا للمضاف كالساج للباب، والحديث المنكر للهو جعلها بيانية، وما لم يحسن ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلا إلى جانب المعنى. ثم قال: ولما كانت تسمية هذه السورة بفاتحة الكتاب ظاهرة لم يتعرّض لها، بخلاف تسميتها ب " أم القرآن "، وسائر الأسماء، فتعرّض (1). لبيانها " انتهى. قوله: (وتسمى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه) توجيه تسميتها بذلك ذكره أبو عبيدة (2) في مجازه، وجزم به البخاري في صحيحه، وعبارته: لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، وبقراءتها في الصلاة قبل السورة (3). قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: وقد استشكل بأن ذلك يناسب تسميتها فاتحة الكتاب، لا أم القرآن. وأجيب بأن ذلك بالنظر إلى أن الأمّ مبدأ الولد (4). قلت: وهو معنى قول المصنّف: (فكأنها أصله ومنشؤه) قال الماوردي (5): سميت بذلك لتقدمها وتأخر ما سواها تبعا لها؛ لأنها أمّته، أي تقدمته، ولهذا يقال لراية الحرب: أُمٌّ؛ لتقدمها واتباع الجيش لها. وقد سألني بعض الأفاضل عن قوله: (لأنها مفتتحه ومبدؤه) هل المراد من

_ (1) حاشية الشريف 1/ 22. (2) هو معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي البصري النحوي العلامة، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، وهو أول من صنف في غريب الحديث، له مجاز القرآن، توفي سنة تسع ومائتين. إنباه الرواة على أنباه النحاة 3/ 276 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 294 وانظر في: مجاز القرآن 1/ 20. (3) صحيح البخاري 4/ 1623. (4) فتح الباري 8/ 195. (5) هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، كان من وجوه الفقهاء الشافعيين، توفي سنة خمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 5/ 267 وطبقات المفسرين 1/ 421 وانظر في: النكت والعيون 1/ 49.

اللفظين واحد، وكذا عن قوله: (فكأنها أصله ومنشؤه) أم متغايران؟ فقلت: يحتمل الاتحاد في الموضعين على ما جرت به عادة البلغاء في الخطابات، ويحتمل التغاير، وإليه تشير عبارة أبي عبيدة السابقة، فكان المراد بـ " مفتتحه " أنها يفتتح بها المصاحف كتابة، وبـ " مبدئه " أنها يبدأ بها في الصلاة قراءة أو يراد بـ " المفتتح " ما ذكر، وبـ " المبدإ " أنها بدئ بها في النزول، وعلى هذين يحتمل الاتحاد في قوله: (فكأنها أصله ومنشؤه) لصلاحية ذلك للأمرين، مع تقارب ما بين الأصل والمنشأ، ويحتمل التغاير، ويكون من باب اللف والنشر المرتب، فليتأمل. قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده) قال القاضي بهاء الدين ابن عقيل (1) في تفسيره: بسط هذا أن آيات القرآن العظيم لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة: الثناء على الله تعالى، والتكليف، والحث على الطاعة، وكل من هذه الثلاثة على قسمين: فالثناء يكون بالرأفة والرحمة، والجبروت والعظمة، والتكليف يكون بالأمر والنهي، والحث بالوعد والوعيد. وأهمّ المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل التكليف بالإيمان وفروعه؛ لما فيه من مصالح العباد وانتظام العالم، فهو كالمقصود لذاته، وكل من القسمين الأخيرين (2) إنما جيء به لأجله، فالثناء بالرحمة والرأفة والحث بالوعد مرغبان في المأمور به، والثناء بالجبروت والعظمة والحث بالوعيد محذران عن المنهي عنه. ولذلك وسط المصنّف - كالزمخشري - التعبد بالأمر والنهي، فأوقع ما هو كالمقصود لذاته مُكتَنَفاً بالأمرين المسبوقين لتقريره.

_ (1) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل بهاء الدين، قال أبو حيان ما تحت أديم السماء أنحى من ابن عقيل، له تصانيف منها التفسير، وصل إلى أواخر سورة آل عمران، وله آخر مختصر لم يكمله، سماه بالتعليق الوجيز على الكتاب العزيز، توفي سنة تسع وستين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 3/ 42 وطبقات المفسرين 1/ 233. (2) في ح: الآخرين.

وهكذا وقع الترتيب في الفاتحة، قدم فيها الثناء، وهو من أولها إلى قوله (يوم الدين) ووسط الدال على التكليف، وهو من قوله (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين) إلى قوله (المستقيم) وأتى بعد ذلك بالدال على الحث، وهو من قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) إلى آخرها. قال: وفي الفاتحة لطيفة أخرى، وهي تقديم الدالِّ على الرحمة، وهو (الرحمن الرحيم) على الدالُّ على الجبروت، وهو (مالك يوم الدين) وتقديم الدالّ على الوعد، وهو (أنعمت عليهم) على الدالّ على الوعيد، وهو (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) لأن الترغيب أبعث للنفوس، ولأن رحمته تعالى سبقت غضبه. انتهى. الشيخ أكمل الدين: أما الثناء فمن قوله (الحمد لله) إلى (مالك يوم الدين) وأما الأمر فمن قوله (إيَّاك نعبد) فإن العبادة ما يكون مأمورا به. وردّ بأنها إذا كانت أول منزل لم يسبق أمر. وأجيب -على تقدير تسليم أوليتها- أن رأس العبادة التوحيد، وفي إجراء الصفات الكمالية على الله تعالى في صدر السورة ما يرشد إلى ذلك، لا سيما وقد سبقها تكليف النبي صلى الله عليه وسلّم بالتوحيد، وتبليغ السورة، ويكفي ذلك في السبق. ومن الناس من قال: الأمر مستفاد من قوله تعالى (الحمد لله) فإن معناه إحماد الغير، أي جعله حامدا. وأما النهي فقد قيل: إنه مستفاد من قوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأن معناه نستعينك في الاجتناب عما نهيت عنه. وردّ بأنه يقتضي نهيا سابقا ولم يكن، وتنزيل جواب الأمر المتقدم على النهي متكلف (1). وقيل: إنه مستفاد من قوله تعالى (الحمد لله) إذا كان معناه احمدوا؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وإن وقع الاختلاف في كيفية ذلك. وأمّا الوعد والوعيد فقوله (أنعمت عليهم) يتضمن الوعد، وقوله (غير

_ (1) في ح: بتكلف.

المغضوب عليهم) يتضمن الوعيد. قال: ويجوز أن يقال: وجه اشتمالها على ذلك أن ما في القرآن كله إما أن يكون متعلقا بالألوهية خاصة، أو العبودية كذلك، أو جامعا بينهما، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: " إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله تعالى: مجدني عبدي " وهذا كله ثناء يتعلّق بالألوهية. ثم قال: " وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي " وهذا كما ترى دخل فيه الأمر والنهي؛ لأن فيها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، فالأمر والنهي من جانب الله تعالى، والامتثال والاجتناب من جانب العبد. ثم قال: " وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخره، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " (1) يعني ما يشير إلى الوعد والوعيد (2). انتهى. الشريف: أما الثناء أعني إجراء صفات الله تعالى فظاهر، وأما التعبد فقوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإن العبادة قيام العبد بحق العبودية وما تعبد به من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، أو في قوله (الصراط المستقيم) إذا أريد به ملة الإسلام المشتملة على الأحكام، أو في قوله (يوم الدين) أي الجزاء، فإنه يتناول الثواب والعقاب. والوجه في انحصار مقاصد الكتاب المجيد في الأصول الثلاثة: أن القرآن أنزل إرشادا للعباد إلى معرفة المبدإ والمعاد ليعرفوا حق المبدإ بامتثال ما أمر ونهى، ويدخروا بذلك للمعاد مثوبة كبرى. وبعبارة أخرى: أنزل القرآن كافلا لسعادة الإنسان، وذلك بأن يعرف مولاه، ويتوصل إليه بما يقرّب منه، ويتنصل عما عداه مما يبعده عنه، ولابد في التوصل من باعث هو الوعد، وفي التنصل من زاجر هو الوعيد، ولولاه هنا لاستقر الكسل

_ (1) رواه الإمام مالك في الموطأ 1/ 136 ح 224 ومسلم1/ 296 ح 38 وأبو داود 1/ 520 ح817 والترمذي 5/ 67 ح2953 والنسائي 2/ 163 ح909 وابن ماجة 3/ 586 ح3852 من حديث أبي هريرة. (2) حاشية أكمل الدين ل7.

الطبيعي على النفوس، وتسلط عليها دواعي الهوى، وحجبت عن حضرة النور بظلمات بعضها فوق بعض. وقد يظن أن هاهنا مقصدا رابعا: هو الدعاء والسؤال في قوله تعالى (اهدنا الصراط) ويجاب بأنه متفرعّ على ما ذكر، فإن المعتد به من الدعاء ما كان في أمر الآخرة أو أداء الطاعة وترك المعصية. لا يقال: كثير من السور تشتمل على هذه المعاني ولم تسم أم القرآن؛ لأنا نقول: لما كانت هذه السورة متقدمة على سائر السور وضعا، بل نزولا -على قول الأكثر (1) - وكانت مشتملة على تلك المعاني مجملة على أحسن ترتيب، ثم صارت مفصلة في السور ثانية نزلت منها منزلة مكة من سائر القرى، حيث مهدت أرضها أولا، ثم دحيت الأرض من تحتها، فكما أن مكة أم القرى كذلك الفاتحة أم القرآن (2)، على أن ما ذكرناه وجه التسمية، ولا يجب اطراده (3). انتهى. قوله: (والتعبد) الأساس: تعبدني فلان: صيرني كالعبد له، وتعبّد فلان تنسك (4)، وعدّي بالباء، لتضمنه معنى التكليف، أي كلّفه بالأمر والنهي تعبدا، أي بالمأمور والمنهي، ويجوز أن تكون كالباء كما في كتبت بالقلم، والأمر والنهي على حقيقتهما (5). قوله: (أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء) هذا تعليل ثالث لتسميتها أم (6) القرآن مزيد على الكشاف. وبسطه -على ما ذكره الطيبي- أنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم، هي مناط الدين:

_ (1) قال الحافظ ابن حجر: قال صاحب الكشاف (4/ 270) ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن سورة اقرأ سورة نزلت، وأكثر المفسرين إلى أن سورة نزلت فاتحة الكتاب. كذا قال! والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. فتح الباري 8/ 714 وانظر في: الإتقان 1/ 97. (2) انظر في: جامع البيان 1/ 108. (3) حاشية الشريف 1/ 23. (4) أساس البلاغة/ مادة عبد. (5) انظر في: فتوح الغيب 1/ 67. (6) في ح: بأم.

أحدها علم الأصول، ومعاقده معرفة الله تعالى وصفاته، وإليها الإشارة بقوله (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) ومعرفة النبوات، وهي المرادة بقوله (أنعمت عليهم) ومعرفة المعاد، وهو المومأ إليه بقوله (مالك يوم الدين) ثانيها: علم الفروع وأسه العبادات، وهو المراد بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ثالثها: علم التصوف (1)، وأجله الوصول إلى الحضرة والسلوك لطريقة

_ (1) برز هذا الاسم كمصطلح في القرن الثاني الهجري -حسب علمي- ولم يتفق له على معنى، ولا على اشتقاق، وأدخل في مفهومه بعض مقامات الدين، مما عرف الاعتناء به والاهتمام من قبل بعض رجال القرون الفاضلة، كالزهد والورع والصبر على أوامر الله وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضا به وعنه، والإخبات إليه، والتوكل عليه، والمراقبة له، والرجاء له، وأدخل في مفهومه أيضاً كثير من الاعتقادات الباطلة، والسلوكيات الفاسدة، وكلما تأخر بالتصرف والصوفية الزمن كلما اتسعت مفاهيمه، حتى أصبح ثوبا فضفاضا يستع لكل لابسه من ملحد ماكر، أو حلواني زائغ. فإن كان المقصود بالتصوف تلك المقامات من مقامات الدين فلا إنكار في المعنى، ولا بدعة، وإنما يبقى الاختلاف في اللفظ، فبعض الناس يسميها تصوفا، وبعض آخر يسميها بأسمائها من الزهد والورع. وعلى ذلك فمن نسب إلى التصوف، وسلم من الاعتقادات الفاسدة، والعبادة الكاسدة، والتصورات الخاطئة فهو من أهل السنة والاستقامة ولا يضره أن ينسب إلى التصوف ويلصق به، ككثير من الزهاد في القرن الثاني والثالث أمثال أويس بين عامر القرني، وهرم بن حيان، وإبراهيم بن أدهم، وفضيل بن عياض، وأمثالهم، وقد نسب إلى التصوف بهذا المعنى هؤلاء وأمثالهم من خيرة الصالحين. وإن كان المقصود به ما أدخله أهله في مفهومه من الضلالات العقدية، والانحرافات السلوكية فلا كرامة في اللفظ، ولا في المضمون. وعلى ذلك يحمل ما ورد عن أئمة السنة في ذم التصوف والصوفية، فمن ذلك ما رواه أبو بكر أحمد بن محمد الخلال موجزا في كتابه: الحث على التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل 75، وفصله القاضي عياض في ترتيب المدارك 2/ 53 قال التنيسي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: عندنا قوم يقال لهم: الصوفية، يأكلون كثيرا، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون، فقال مالمك: أ صبيان هم؟ قال: لا، قال: أ مجانين هم؟ قال: لا، هم قوم مشايخ، وغير ذلك، عقلاء، فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا. ومن ذلك أيضا ما رواه أبو بكر الخلال في الحث على التجارة 72 قال إسحاق بن داود بن صبيح: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: يا أبا سعيد إن ببلدنا قوما من هؤلاء الصوفية، قال: لا تقرب هؤلاء، فإنا رأينا من هؤلاء قوما، فبعضهم أخرجهم الأمر إلى الجنون، وبعضهم=

الاستقامة، وإليه الإشارة بقوله (اهدنا الصراط المستقيم) رابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة والقرون الخالية، السعداء منهم والأشقياء، وما يتصل بها من وعد محسنهم، ووعيد مسيئهم، وهو المراد بقوله (أنعمت عليهم) إلى آخر السورة (1). وللإمامين الغزالي (2) والرازي (3) في تقرير اشتمالها على علوم (4) القرآن كلامان آخَران ذكرتهما في " الإتقان " وفي " أسرار التنزيل " وبينت فيه وجه الجمع بين ذلك، وبين حديث " إنها ثلثا القزآن (5) " فليطلب (6) منه (7) (8).

_ =أخرجهم إلى الزندقة. وما رواه أيضا 75 عن عبد الله بن المبارك قال: ما رأينا أحدا منهم عاقلا، يعني الصوفيين. وما رواه أيضا البيهقي في مناقب الشافعي 2/ 207 عن يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول: لو أن رجلا تصوف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق. وما رواه أيضاً 2/ 207 قال الشافعي: لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون فيه أربع خصال: كسوال، أكول، نؤوم، كثير الفضول. وإذا كان الأمر كذلك فمن البعد عن الحقيقة والواقع وإطلاق القول على عواهنه أن يقال: إن التصوف مقتبس من الفاتحة. (1) انظر المصدر السابق 1/ 67. (2) انظر في: جواهر القرآن 93. (3) هو محمد بن عمر بن حسين فخر الدين الرازي، خاض من العلوم في بحار عميقة، توفي على طريقة حميدة سنة ست وستمائة. سير أعلام النبلاء 21/ 500 وطبقات الشافعية الكبرى 8/ 18 وانظر في: التفسير الكبير 1/ 173. (4) في د، ق: معاني. (5) رواه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب 1/ 573) من حديث ابن عباس. ضعف السيوطي سنده في الدر المنثور في التفسير المأثور 1/ 15. (6) في ح: فيطلب. (7) انظر في: الإتقان في علوم القرآن 2/ 1136 وقطف الأزهار في كشف الأسرار 1/ 105. (8) وللإمام ابن القيم في مدارج السالكين 1/ 43 استنباط ظريف، واستخراج لطيف، حيث رجع مطالب الدين كلها إلى الفاتحة بأسلوب ماتع، وتقرير جامع، دون التواء مانع، وتكلف قاطع قال: اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن: فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها، وهي: الله، والرب، والرحمن،=

قوله (وسورة الكنز، والوافية، والكافية لذلك) أي لاشتمالها على معاني القرآن. وقيل: إنما سميت الوافية لأنها لا تقبل التنصيف في الصلاة، بخلاف غيرها. قاله الثعلبي (1). وقيل: لأنها جمعت بين ما لله وبين ما للعبد. قاله المرسي (2). وقيل: إنما سميت كافية لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. وقال الشيخ أكمل الدين: سميت سورة الكنز لما رويناه عن عليّ رضي الله عنه (3). قلت: يشير إلى ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عليّ رضي الله عنه أنه سئل عن فاتحة الكتاب فقال: حدثنا نبي الله صلى الله عليه وسلّم أنها أنزلت من كنز تحت العرش (4).

_ =وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة، فإياك نعبد مبني على الإلهية، وإياك نستعين على الربوبية، وطلب الهداية إلى صراط مستقيم بصفة الرحمة، والحمد يتضمن الأمور الثلاثة، فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثناء والمجد كمالان لحمده. وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، حسنها وسيئها، وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل، وكل هذا تحت قوله مالك يوم الدين، وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة. ثم أخذ يفصل هذه الجمل، ويوضح هذه المطالب في الكتاب كله، فما أوضح أسلوبه، وما أكثر فرائده، وما أبعده عن التعقيد! (1) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي، كان أوحد زمانه في علم القرآن، له الكشف والبيان عن تفسير القرآن، توفي سنة ست وعشرين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 4/ 58 وطبقات المفسرين 1/ 65. (2) هو محمد بن عبد الله بن محمد شرف الدين المرسي، كان محدثا فقيها، صنف تفسيرا حسنا، توفي سنة خمس وخمسين وستمائة. طبقات الشافعية الكبرى 8/ 69 وطبقات المفسرين 2/ 168 والإتقان 2/ 153. (3) حاشية أكمل الدين ل7. (4) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر 14/ 429 حدثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو زيد عبثر، عن العلاء بن المسيب، عن فضيل بن عمر، عن علي، ورواه الثعلبي في الكشف والبيان عن تفسير القرآن 1/ 418 وعنه الواحدي في أسباب=

قوله: (وسورة الحمد، والشكر، والدعاء، وتعليم المسألة لاشتمالها عليها) على أي الأمور المذكورة، الحمد وما بعده. قوله: (والصلاة) أي ومن أسمائها. سورة الصلاة، فيكون مجرورا معطوفا على الحمد وما بعده، ويجوز أن يكون مراده أن من أسمائها الصلاة من غير تقدير سورة، وهو قول ذكره بعضهم، لحديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " قال المرسي: لأنها من لوازمها، فهو من باب تسمية الشيء باسم لازمه، فيكون منصوبا معطوفا على سورة والأوّل هو الذي في الكشاف (1). قوله: (لوجوب قراءتها، أو استحبابها فيها) " أو " لتنويع الخلاف بين الأئمة في ذلك، فإن الوجوب مذهب الشافعي (2) رحمه الله، والاستحباب مذهب أبي حنيفة (3) رحمه الله. قوله (والشفاء، والشافية لقوله: " هي شفاء لكل داء ") أخرجه الدارمي (4) في مسنده، والبيهقي (5) في شعب الإيمان بسند صحيح من مرسل عبد الملك بن عمير (6) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في

_ =نزول القرآن 17 من طريق مروان بن معاوية، كلاهما (عبثر، ومروان) عن العلاء بن المسيب. وعند الثعلبي زيادة ... بمكة. ورجال إسحاق بن راهويه رجال الشيخين ما عدا فضيلا فإنه من رجال مسلم، غير أن في السند انقطاعا، فإن فضيلا لم يلق أحدا من الصحابة. انظر في: جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي 252 وتحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل لأبي زرعة العراقي 409 قال الشيخ الألباني: ضعيف. ضعيف الجامع الصغير 576. (1) الكشاف 1/ 24. (2) انظر في: الأم 2/ 154. (3) انظر في: كتاب الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن 1/ 106. (4) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل أبو محمد الدارمي التميمي السمرقندي، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين, تهذيب الكمال في أسماء الرجال 15/ 210 وسير أعلام النبلاء 12/ 224. (5) هو أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي: كان أحد أئمة المسلمين، وهداة المؤمنين، توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. طبقات الشافعية الكبرى 4/ 8 وسير أعلام النبلاء 18/ 313. (6) هو عبد الملك بن عمير بن سويد أبو عمر القرشي، كان سفيان الثوري يعجب من حفظ عبد الملك، توفي سنة ست وثلاثين ومائة. تهذيب الكمال 18/ 370 وسير أعلام النبلاء 5/ 438.

فاتحة الكتاب: " شفاء من كل داء " (1) وأخرج أحمد في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن جابر (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له: " ألا أخبرك بأخير سورة نزلت في القرآن، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاتحة الكتاب، وأحسبه قال: فيها شفاء من كل داء (3) " وأخرج الثعلبي من طريق معاوية بن صالح (4)، عن أبي سليمان (5) قال: مرّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في بعض غزواتهم على رجل قد صرع، فقرأ بعضهم في أذنه بأم القرآن، فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " هي أم القرآن، وهي شفاء من كل داء (6) ". وفي سنن سعيد بن منصور، وشعب الإيمان للبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: " فاتحة الكتاب شفاء من السُّمِّ (7) " وأخرجه أبو الشيخ ابن حيّان (8) في " الثواب " من حديث أبي سعيد، وأبي

_ (1) رواه الدارمي في مسنده 4/ 2122 ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان 2/ 450. (2) هو عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي، ذكره البخاري في الصحابة، وقال ابن حبان: له صحبة. التاريخ الكبير للبخاري 5/ 22 والإصابة في تمييز الصحابة 4/ 33. (3) رواه أحمد في مسنده 29/ 139 والبيهقي في شعب الإيمان 2/ 450. جواد السيوطي سنده في الدر المنثور 1/ 14. (4) هو معاوية بن صالح بن حدير أبو عمرو مخضرم، روي عنه الليث بن سعد وهو في سند الثعلبي وهو ثقة، توفي سنة ثلاث وستين ومائتين. تهذيب الكمال 28/ 186 وسير أعلام النبلاء 7/ 158. (5) لعله المترجم له في كتاب الكنى للبخاري 9/ 37 وكتاب الجرح التعديل لابن أبي حاتم 9/ 379 أبو سليمان روى عن أبي هريرة، روى عنه معاوية بن صالح. (6) رواه الثعلبي في الكشف والبيان 2/ 615. (7) رواه سعيد بن منصور في سننه 2/ 535 ومن طريقه الثعلبي في الكشف والبيان 1/ 424 والبيهقي في شعب الإيمان 2/ 450 ورواه الثعلبي 2/ 614 من طريق أبي عمر الحوضي 2/ 614 كلاهما (سعيد بن منصور، وأبو عمر الحوضي) عن سلام الطويل، عن زيد العمي، عن ابن سيرين، عن أبي سعيد الخدري. وفي سنده سلام الطويل، قال الحاف ابن حجر عنه: متروك. التقريب 425 وقال الشيخ الألباني: موضوع. ضعيف الجامع الصغير 576. (8) هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أبو محمد المعروف بأبي الشيخ، كان أحد الأعلام، صنف الأحكام، والتفسير، له كتاب ثواب الأعمال في خمس مجلدات، يروي عنه أنه قال: ما عملت فيه حديثاً إلا بعد أن استعملته، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 16/ 276 وطبقات المفسرين 1/ 240.

هريرة معا. قوله: (والسبع المثاني؛ لأنها سبع آيات بالاتفاق) هو تعليل للسبع فقط، ويأتي تعليل المثاني. وما ذكره من الاتفاق قد يعترض عليه بما ذكره حسين الجعفي (1): أنها ست آيات بإسقاط البسملة. وعن الحسن البصري، وعمرو بن عبيد (2) أنها ثمان، بعد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وعن بعضهم أنها تسع بعدّها، وعدّ (أنعمت عليهم) إلا أنها أقوال شاذة، لا يعتد بها. الشريف: المثاني جمع مُثَنَّى، على صيغة المفعول من التثنية مردَّدٌ ومكرر، ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية، أو مَثْناة مفعلة من الثَنْي (3). * * * فائدة (4): ليس في القرآن سورة هي سبع آيات سوى " الفاتحة "، و " أرأيت " ولا ثالث لهما. قال جعفر بن أحمد بن الحسين السرّاج البغدادي (5) في أرجوزته التي نظم فيها النظائر. فَسُوْرَةُ الحَمْدِ لَهَا نَظِيْرَهْ. . . أَرَأَيْتَ إِنْ أَنْتَ قَرَأْتَ السُّوْرَه كلاهما إذا عددتَّ سبعُ. . . وليس للحق اليقين دفعُ (6) قوله: (إلا أن منهم من عدّ التسمية، دون (أنعمت عليهم) (7) ومنهم من عكس)

_ (1) هو حسين بن علي بن الوليد أبو عبد الله الجعفي، الإمام القدوة الحافظ المقرئ، توفي سنة ثلاث ومائتين. سير أعلام النبلاء 9/ 397 وتهذيب الكمال 6/ 449. (2) هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري، الزاهد العابد القدري، كبير المعتزلة، توفي سنة أربع وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء 6/ 104 وغاية النهاية في طبقات القراء 1/ 602. (3) حاشية الشريف 1/ 24. (4) في ح: تبنيه. (5) هو جعفر بن أحمد بن الحسين أبو محمد السراج البغدادي القارئ، كان عالما بالقراءات والنحو واللغة، كثير التصنيف، توفي سنة خمسمائة. سير أعلام النبلاء 19/ 288 وبغية الوعاة 1/ 485. (6) أرجوزة في نظائر القرآن العظيم ل20 نسخة مكتبة بلدية الإسكندرية، ومنها نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 1143. (7) انظر في: البيان في عد آي القرآن، لأبي عمرو الداني 139.

أي عدّ (أنعمت عليهم) كما عبّره في الكشاف (1) قال الشيخ أكمل الدين: وظاهره ليس بمراد؛ لأن (أنعمت عليهم) ليس بآية بالاتفاق، وإنما المراد (أنعمت عليهم) مع قوله (صراط الذين) لأنه صلة (الذين) وقد أضيف إليه (صراط) فاستغنى به عن ذكرهما (2). وكذا قال الشريف: أراد (صراط الذين أنعمت عليهم) إلا أنه اختصر لظهور أن الصلة بدون الموصول، والمضاف إليه بدون المضاف لا يعدّ آية؛ لأن الكل في حكم كلمة واحدة (3). قال الطيبي: قال في " المرشد (4) ": إن وقفت على (أنعمت عليهم) كان آخر آية على مذهب أهل المدينة والبصرة، وهو جائز، وليس بحسن؛ لأن (غير) مجرورا متعلّق به على الوصفية، أو البدلية، ومنصوبا على الحالية، أو الاستثنائية. وجوازه إنما يكون بالخبر المروي أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقف عند أواخر الآيات، وهذا آخر آية عند من ذكرت، فهذا وجه جوازه (5). قال الطيبي: وعدّ التسمية أولى؛ لأن (أنعمت عليهم) لا يناسب وزانه وزان فواصل السور، ولما روى البغوي (6) في " شرح السنة " عن ابن عباس أنه قال: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الآية السابعة (7) "

_ (1) الكشاف 1/ 24. (2) حاشية أكمال الدين ل7. (3) حاشية الشريف 1/ 24. (4) المرشد: كتاب في الوقف والابتداء، للمقرئ الحسن بن علي بن سعد أبي محمد العماني، قال ابن الجزي: له في الوقوف كتابان: أحدهما: ... والآخر: المرشد، وهو أتم منه وأبسط، أحسن فيه وأفاد. غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 223 وكشف الظنون 2/ 1654. (5) كتاب المرشد في الوقف ل18 نسخة المتحف البريطاني، ولدى صورة منها. (6) هو الحسن بن مسعود بن محمد محيي السنة أبو محمد البغوي الشافعي المفسر، كان سيدا إماما، عالما علامة، زاهدا قانعا بالسير، توفي سنة ست عشرة وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 19/ 439 وطبقات الشافعية الكبرى 7/ 75. (7) رواه الشافعي في المسند 79 ومن طريقه البغوي في شرح السنة 3/ 50 من طريق عبد المجيد، والطبري في جامع البيان 14/ 55 من طريق يحيى الأموي، والحاكم في المستدرك 2/ 257 من طريق حفص بن غياث، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 44 من طريق حجاج بن محمد الأعور، وحفص بن غياث، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 200 من طريق أبي عاصم،=

قلت: ورواه الدارقطني (1)، والبيهقي عن عليّ (2) وأبي هريرة (3) أيضاً. ورواه الطبراني، والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا. وقال أبو عبد الله نصر بن علي الشيرازي (4) في كتابه " الموضح ": ليس قول

_ =كلهم (عبد المجيد، ويحيى وحفص، وحجاج، وأبو عاصم) عن ابن جريح عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وصحح السيوطي سنده في الإتقان 1/ 246 وفي التصحيح نظر، فإن في سنده عبد العزيز بن جريج، قال الحافظ بن حجر عنه: لين، التقريب 611. (1) هو علي بن عمر بن أحمد أبو الحسن الدارقطني، كان من بحور العلم، ومن أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 16/ 449 وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 462. (2) رواه الدارقطني في السنن 1/ 313 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 45 من طريق أسباط بن نصر، عن السدي، عن عبد خير، عن علي موقوفا. صحح السيوطي سنده في الدر المنثور 1/ 12 وفي الإتقان 1/ 247. قلت: أني له الصحة! وفي سنده أسباط بن نصر، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق كثير الخطأ يغرب. التقريب 124 وفي سنده أيضا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق يهم، ورمي بالتشيع. التقريب 141 وانظر في: الجوهر النقي حاشية السنن الكبرى لعلاء الدين ابن التركماني 2/ 45. (3) رواه الطبراني في المعجم الأوسط 5/ 208 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 45 من طريق علي بن ثابت الجزري، والدارقطني 1/ 312 من طريق أبي بكر الحنفي كلاهما عن عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا، قال أبو بكر الحنفي: ثم لقيت نوحا فحدثتني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة بمثله، ولم يرفعه. ال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن نوح بن أبي بلال إلا عبد الحميد بن جعفر، تفرد به علي بن ثابت. قلت: رواية أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر واردة عليه. قال البيهقي: روي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا، والموقوف أصح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الزائد 2/ 282 رجاله ثقات. وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1183 وهذا إسناد صحيح مرفوعا وموقوفا، فإن نوحا ثقة، وكذا من دونه، والموقوف لا يعل المرفوع، لأن الراوي قد يوقف الحديث أحيانا، فإذا رواه مرفوعا وهو ثقة -فهو زيادة يجب قبولها منه. (4) هو نصر بن علي بن محمد أبو عبد الله الشيرازي الفسوي، له كتاب في القراءات الثمان، سماه "الموضح" يدل على تمكنه في الفن. غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 337 وبغية الوعاة 2/ 314.

من قال (أنعمت عليهم) رأس آية بصحيح؛ لأنه ليس بمشاكل لآيات السورة، ولا مقارب لها، ومقاطع القرآن إما متشاكلة، أو متقاربة. ثم إن الابتداء ب (غير) في أوّل الآية ليس بمستقيم (1). وقال سليم الرازي (2): ليس في القرآن آية آخرها عليهم، خصوصا وما بعد (أنعمت عليهم) غير مستقل بنفسه. قوله: (وتُثَنى في الصلاة) هذا تعليل للمثاني، أي تكرر فيها بأن تقرأ في كل ركعة. وهو مراد الكشاف بقوله: " لأنها تثنى في كل ركعة " أي صلاة، كما فسره الطيبي، وأكمل الدين، وقالا: كما في قوله (واركعوا مع الراكعين) سورة البقرة 43] أي صلوا مع المصلين (3). قال الشريف: تسمية للكل باسم الجزء. قال: وهذه العبارة أعني لأثها تثنى في كل ركعة وردت في صحاح الجوهري (4)، ولعل فائدة المجاز المبالغة في أن كل صلاة فعلة واحدة، ركعة واحدة، وقد تعددت الفاتحة فيها فيتضح تكريرها زيادة إيضاح، وقيل: إنها تكرر في كل ركعة بالقياس إلى أخرى، ففي الثانية لوقوعها مرة في الأولى، وفي الأولى عند انضمام الثانية إليها. قال: والأشبه أن يراد بيان محل التكرير، على أن الفاتحة مما تتكرر بحسب الركعة، لا بحسب أركانها كالطمأنينة، ولا بحسب كل صلاة كالتسليم، فإن تعددت الركعة تكررت الفاتحة، وإلاّ فلا. كأنه قيل: لأنها تُثَنى باعتبار تعدد الركعة. قال: وهذا المعنى وإن كان واضخا في نفسه إلا أن دلالة هذه العبارة عليه في غاية الخفاء (5)

_ (1) الموضح في وجوه علل القراءات ل26 - 27 نسخة مكتبة راغب باشا، ومنها نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 1009 التفسير. (2) هو سليم بن أيوب بن سليم أبو الفتح الرازي، سكن الشام مرابطا، ناشرا للعلم احتباسا، له كتاب البسملة، توفي سنة سبع وأربعين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 645 وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 388. (3) الكشاف 1/ 24 وفتوح الغيب 1/ 68 وحاشية أكمل الدين ل7. (4) الصحاح/ مادة ثنى. (5) حاشية الشريف 1/ 24.

قلت: وبسبب ذلك عدل المصنّف إلى عبارة أوضح، لكن صاحب الكشاف آثر العبارة الأولى؛ لأنها وردت في صحاح الجوهري كما أشار إليه الشريف، بل هي مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أخرجه ابن جرير في تفسيره بسند حسن عنه قال: " السبع المثاني فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة (1) " وعادة الأئمة المصنفين اتباع اللفظ الوارد في الحديث والأثر تبركا به، وليحتمل من التأويل ما احتمله. قوله: (أو الإنزال) تعليل ثان لتسميتها بالمثاني على تقدير أو ثنيت في الإنزال، إذ لا يصح العطف على تقدير الفعل الأوّل كما لا يخفى، وإنما دعاه إلى ذلك إرادة الإيجاز وسهله (2) وضوح المراد. قوله: (إن صحت أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، وبالمدينة حين حولت القبلة) أشار بهذا التشكيك إلى أنه لم يثبت في ذلك حديث ولا أثر، وإنما هو شيء قاله بعض العلماء اجتهادا، والوارد (3) أنها نزلت بمكة أول بدء الوحي. كذا أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنّف "، وأبو نعيم (4)، والبيهقي كلاهما في " دلائل النبوة (5) " من مرسل أبي ميسرة (6). وقد علل كونها مثاني أيضاً بأنها مشتملة على الثناء على الله تعالى، وبأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة، فلم ينزلها على غيرها.

_ (1) لم أر هذا اللفظ في جامع البيان عن عمر، ولكن رأيت فيه: ما لهم رغبة عن فاتحة الكتاب، وما يبتغي بعد المثاني 14/ 54. (2) في ح: وسهولة. (3) في ظ: إذ الوارد. (4) هو أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو نعيم الأصبهاني، كان في وقته مرحولا إليه، ولم يكن في أفق من الآفاق أسند ولا أحف منه، توفي سنة ثلاثين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 453 وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 18. (5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 14/ 292 والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 158 قال البيهقي: هذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه "اقرأ باسم ربك" و"يا أيها المدثر". وقال ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 24: هو مرسل، وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل. (6) هو عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني، قال أبو وائل: ما اشتملت همدانية على مثل أبي ميسرة، توفي في ولاية عبيد الله بن زياد. سير أعلام النبلاء 4/ 135 وتهذيب الكمال 22/ 60.

فالأولان من التثنية، والثالث من الثناء، والرابع من الاستثناء. وأقوى الأربعة الأوّل؛ لما تقدم عن عمر رضي الله عنه. قال البلقيني في " كشافه ": وبعضهم يعبر بقوله: السبع من المثاني، ويفسر المثاني بالقرآن؛ لأن القصص تُثَنّى فيه وتكرر للإفهام. قوله: (وقد صحّ أنها مكية) قلت: أخرجه الواحدي (1)، والثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2)، وأخرجه أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " المصاحف " عن قتادة (3). قوله: (لقوله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) [سورة الحجر 88] وهو مكي بالنص) قلت: إن أرد نص المفسرين فقريب، إلا أنه غير المصطلح عليه في إطلاق النص، إذ لا يفهم منه عند الإطلاق إلا الكتاب والسنة، وليس فيهما ما يدلّ على مكيته. وقد يجاب بأن ذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه (4)، وكلام الصحابي في القرآن -خصوصا في النزول- له حكم المرفوع، فجاز إطلاق النص عليه بهذا الاعتبار. ثم استدلاله على أن الفاتحة مكية بآية الحجر لهج به الناس كثيرا، ولكن غيره ْأقوى منه؛ لأنه موقوف. أولا: على تفسير السبع المثاني بالفاتحة، وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث (5) فقد صح أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره تفسيرها بالسبع

_ (1) هو علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن الواحدي النيسابوري، صاحب التفسر، إمام علماء التأويل، صنف التفاسير الثلاثة، البسيط، والوسيط، والوجيز، وتوفي سنة ثمان وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/ 339 وطبقات الشافعية الكبرى 5/ 240. (2) سبق تخريجه في ص42. (3) هو قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب السدوسي، حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، توفي سنة ثماني عشرة ومائة. سير أعلام النبلاء 5/ 269 وتهذيب الكمال 23/ 498. (4) رواه أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في فضائل القرآن وما أنزل من القرآن بمكة وما أنزل بالمدينة 33 والبيهقي في دلائل النبوة 7/ 142 وانظر في: الإتقان في علوم القرآن 1/ 29 - 31. (5) كحديث أبي سعيد بن المعلى ... "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته" رواه البخاري 4/ 1623 ح4204 وأبو داود 2/ 270 ح1452 والنسائي 2/ 139 ح913 وابن ماجة 3/ 587 ح3853.

الطوال (1). وثانيا: -بعد ثبوت الأوّل- على أنه يمتنع الامتنان بالشيء قبل إيتائه. وهذا وإن ذكره كثيرون ففيه نظر واضح، وأيّ مانع من تقدم الامتنان على الإيتاء تعظيما للمؤتى وتفخيما لشأنه؛ لتتشوف النفس إلى حصوله، ولتتلقى عند حصوله بغاية الإقبال والقبول ما كما امتنّ عليه بأمور قبل إيتائه إيَّاها (2)، كقوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) [سورة الفتح 1] وذلك قبل حصول الفتح بسنتين، والتعبير بالماضي في المقيس والمقيس عليه تحقيقا للوقوع. فالأولى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل. تنبيهان: الأوّل: حاصل ما ذكره المصنّف لها أربعة عشر اسما، وبقي من أسمائها عشرة أخرى: فاتحة القرآن، وأم الكتاب، والقرآن العظيم، والنور، وسورة الحمد الأولى، وسورة الحمد القصرى، والرقية، وسورة السؤال، وسورة المناجاة،

_ (1) أخرج عنه أبو جعفر الطبري في جامع البيان 14/ 52 بسند صحيح، وقال 1/ 110 وليس في وجوب اسم السبع المثاني لفاتحة الكتاب ما يدفع صحة وجوب اسم الماني للقرآن كله، ومائتي المئين من السور، لأن لكل وجها ومعنى مفهوما لا يفسد بتسمية بعض ذلك بالمثاني تسمية غيره بها. (2) في النظر نظر، فإن الامتنان بالفتح لم يكن قبل إيتائه، بل بل الفتح هو صلح الحديبية، وقد نزلت سورة الفتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من الحديبية في السنة السادسة من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى البيت والاعتمار فيه. قال البراء - رضي الله عنه -: "أنتم تعدون الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية" فثبت إذن أن كلتي الآيتين المقيسة والمقسية عليها قرّرت منة منجزة، لا موعودة في المستقبل، وعلى ذلك صح الاستدلال بآية الحجر المكية على أن سورة الفاتحة مكية، وسلم الدليلان من الخدش. قال السيوطي في الإتقان: الأكثرون على أنها مكية ... واستدل لذلك بقوله تعالى "ولقد آتيناك سبعا من المثاني" وفسرها - صلى الله عليه وسلم - بالفاتحة كما في الصحيح، وسورة الحجر مكية بالإتقان، وقد امتن على رسوله فيها بها، فتدل على تقدم نزول الفاتحة عليها، إذ يبعد أن يمتن عليه بما لم ينزل بعد. وانظر في: صحيح البخاري 4/ 1525 ح3919 وجامع البيان 26/ 69 والمحرر الوجيز 13/ 427 وزاد المسير 7/ 418 والتفسير الكبير 1/ 177 وتفسير القرآن العظيم 7/ 325 والإتقان في علوم القرآن 1/ 34.

(بسم الله الرحمن الرحيم

وسورة التفويض. وقد ذكرتها بتوجيهها في " الإتقان (1) ". الثاني: اسم السورة الذي تشتهر به توقيفي، وأما الأسماء المتعددة فهل هي توقيفية أيضاً؟ فيه بحث ذكرته في " الإتقان " أيضاً (2). قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من الفاتحة) هي من مهمات المسائل، وحق لها أن تكون كذلك؛ لأنه كلام يتعلّق بإثبات آية من كتاب الله تعالى، أو نفيها عنه. وقد أفردها بالتصنيف خلق من الأئمة: منهم الإمام أبو بكر ابن خزيمة صاحب الصحيح (3)، والحافظ أبو بكر الخطيب (4)، والحافظ أبو عمر ابن عبد البر، ومال إلى مذهب الشافعي (5)، وهو من أئمة المالكية ومجتهديهم، وحجة الإسلام

_ (1) الإتقان 1/ 167 وانظر في: الكشف والبيان 2/ 604 فقد ذكر لها أسماء عشرة، وقال: وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. (2) الإتقان 1/ 166. (3) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري، عني بالحديث والفقه حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 14/ 365 وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 109. قال ابن خزيمة في صحيحه 1/ 248: أمليت مسألة قدر جزأين في الاحتجاج في هذه المسألة أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من كتاب الله في أوائل سور القرآن. (4) هو أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، صاحب التصانيف، وخاتمة الحفاظ، له كتاب البسملة وأنها من الفاتحة، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/ 270 وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 29. (5) ألف الإمام أبو عمر ابن عبد البر رسالة في البسملة سماها "الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب من الاختلاف" سرد فيها مذاهب العلماء في البسملة، في قرآنيتها وعدم قرآنيتها، في الجهر بها والإسرار بها، وساق فيها ما استدل به كل على مذهبه، ولم يمل فيها إلى مذهب الشافعي كما قاله المؤلف، وسبقه إليه عبد الرحمن بن إسماعيل شهاب الدين أبو محمد المشهور بأبي شامة في كتاب البسملة ل2 - بل مال إلى مذهب إمامه مالك بن أنس، فإنه قال فيها 192: أجمع علماء المسلمين على أنها سبع آيات، فدل هذا الحديث على أن أنعمت عليهم آية، وبسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من أول السورة، وهذا عد أهل المدينة والشام والبصرة، وأما أهل مكة وأهل الكوفة من العلماء والقراء فيعدون بسم الله الرحمن الرحيم أول آية من أم القرآن، وليست أنعمت عليهم بآية عندهم، فهذا حديث قد رفع الإشكال في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم، ورجاله ثقات.

أبو حامد الغزالي (1)، والفقيه سلطان بن إبراهيم المقدسي (2)، وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي، وأبو المعالي مُجَلِّي صاحب (3) " الذخائر "، والحافظ أبو شامة (4). قوله: (وعليه قراء مكة) كابن كثير (5) (والكوفة) كعاصم (6) حمزة (7) والكسائي (8). قوله: (وخالفهم قراء المدينة) كنافع (9) (والبصرة) كأبي عمرو (10))

_ (1) سرد العلامة محمد بن محمد الحسيني الزبيدي في مقدمة شرح إحياء علوم الدين "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" مؤلفات الغزالي، ثم ألف عبد الرحمن بدوي كتابا حافلا في مؤلفات الغزالي، ولم يرد في واحد من الكتابين كتاب مفرد للغزالي في البسملة، بيد أن الغزالي تعرض لمسألة البسملة في كتابه "المستصفى" 2/ 13 - 23 وذكر أنه أورد أدلة كون البسملة من القرآن في كتاب حقيقة القولين، فلعله التصنيف الذي عناه السيوطي. (2) هو سلطان بن إبراهيم بن المسلم أبو الفتح المقدسي، كان من أفقه الفقهاء بمصر، تفقه عليه صاحب الذخائر، توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. طبقات الشافعية الكبرى 7/ 94 وحسن الخاضرة في أخبار مصر والقاهرة 1/ 405. (3) هو مُجَلِّي بن جميع بضم الجيم بن نجا أبو المعالي المخزومي، صاحب الذخائر وغيره من المصنفات، له إثبات الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، توفي سنة خمسين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 20/ 325 وطبقات الشافعية الكبرى 7/ 277. (4) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم شهاب الدين أبو شامة الدمشقي، كان أحد الأئمة، برع في فنون العلم، توفي سنة خمس وستين وستمائة. طبقات الشافعية الكبرى 8/ 165 وبغية الوعاة 2/ 77. (5) هو عبد الله بن كثير بن عمرو أبو معبد الكناني المكي المقرئ، انتهت إليه الإمامة بمكة في تجويد الأداء، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة. معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار 1/ 197 وغاية النهاية في طبقات القراء 1/ 443. (6) هو عاصم بن أبي النجود بهدلة أبو بكر الأسدي الكوفي المقرئ، واسم أبيه بهدلة على الصحيح، وقيل هي أمه، وليس ذا بشيء، انتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، توفي سنة سبع وعشرين ومائة. معرفة القراء الكبار 1/ 204 وغاية النهاية 1/ 346. (7) هو حمزة بن حبيب بن عمارة أبو عمارة القارئ، كان إماما حجة، قيما بحفظ كتاب الله، توفي سنة ست وخمسين ومائة. معرفة القراء 1/ 250 وغاية النهاية 1/ 261. (8) هو علي بن حمزة بن عبد الله أبو الحسن الكسائي الكوفي المقرئ النحوي، انتهت إليه الإمامة في القراءة والعربية، توفي سنة تسع وثمانين ومائة. معرفة القراء 1/ 269 وغاية النهاية 1/ 535. (9) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقرئ المدني، قرأ على سبعين من التابعين، توفي سنة تسع وستين ومائة. معرفة القراء /241 وغاية النهاية 2/ 330. (10) هو زبان بن العلاء بن عمار أبو عمرو البصري المقرئ النحوي، شيخ القراء بالبصرة، توفي سنة=

والشام) كابن عامر (1). قوله: " وفقهاؤهما (2) " كذا في النسخة التي وقفت عليها بضمير التثنية -ونعمّا هي- رجوعا إلى البصرة والشام فقط. وفي " الكشاف ": وفقهاؤها بضمير جمع المؤنث رجوعا إلى المدينة أيضاً. وقل تعقبه البلقيني في " كشافه " بأنه يقتضي إجماع أهل المدينة عليه، وليس كذلك، فإن جماعة من فقهاء المدينة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عمر والزهري ومن غيرهما يرون أنها آية من الفاتحة ومن غيرها. فكأن المصنّف أصلح العبارة إشارة إلى ذلك. ثم قوله: (من الفاتحة) يصدق بقول من جعلها آية منها ومن غيرها، ومن جعلها آية منها وبعض آية من غيرها، ومن جعلها آية منها وأنها بين السور قرآن مستقل، كسورة قصيرة، لا آية من السورة، ولا بعض آية. وهي أقوال معروفة، ومقابلها النفي، فهي أربعة، وفيها قول خامس أنها آية من الفاتحة، وليست في سائر السور قرآناً أصلا. قال الحافظ أبو شامة: سبب الاختلاف في البسملة أنه قد وقع الإجماع على استحباب ذكر الله تعالى عند ابتداء كل أمر له بال حين الشروع فيه، وقد ورد فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل ذلك فيقولون: باسمك اللهم، ويدلّ عليه ما في قصة هدنة الحديبية (3)، ثم إنه شرع للنبي صلى الله عليه وسلّم في ذلك لفظ البسملة. وذكر الله تعالى في كتابه حكاية عن كتاب سليمان عليه السلام أنها

_ =أربع وخمسين ومائة. معرفة القراء 1/ 223 وغاية النهاية 1/ 288. (1) هو عبد الله بن عامر بن يزيد أبو عمران اليحصبي الدمشقي، إمام الشاميين في القراءة، توفي سنة ثماني عشرة ومائة. معرفة القراء 1/ 186 وغاية النهاية 1/ 423. (2) الكشاف 1/ 24. (3) بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء اختلفو فيها، فمنهم من شددها، ومنهم من خففها، قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتها، وبين الحديبية ومكة مرحلة، ويقال لها اليوم: الشميسي. معجم البلدان 2/ 229 وصحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار 2/ 139 وانظر هدنة الحديبية في صحيح البخاري 4/ 1524 وصحيح مسلم 3/ 1410.

كانت في أوله. ثم أثبتها الصحابة في المصحف خطًّا في أوّل كل سورة سوى براءة، فاختلف العلماء هل كان ذلك لأنها أنزلت حيث كتبت، أو فعل ذلك للتبرك كما في غيره، ولم يكتف بها في أول الفاتحة، بل أعطيت كل سورة حكم الاستقلال إرشادا لمن أراد افتتاح أيّ سورة منها إلى البسملة في أولها. ولما فقد هذا المعنى حين التلاوة بوصل السورة اختلف القراء فيه: فمنهم من اتبع المصحف فبسمل مستمرا على ذلك، إذ القراءة في اتباع الرسم شأن يُخَالَفُ لأجله قياس اللغة، على ما قد عرف في علم القراءة، فما الظن بهذا؟. وقد كان تقرر عندهم أن المصحف لم تكتبه الصحابة إلاّ ليرجع إليه فيما كانوا اختلفوا فيه. ومنهم من فهم المعنى فلم يبسمل إلاّ في أوّل سورة يبتدئ بها (1). وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أنزلت الكوثر وتلاها على الناس بسمل في أوّلها (2). وكذا لما قرأ سورة حم السجدة على عتبة بن ربيعة (3)، ولما تلا سورة

_ (1) قال أبو شامة في إبراز المعاني من حرز الأماني 1/ 227 في شرح بيت: وبسمل بين السورتين بسنة ... رجال نموها درية وتحملا لمبسملون من القراء هم الذين رمز لهم في هذا البيت من قوله: بسنة، رجال، نموها، درية [وهم قالون والكسائي، وعاصم، وابن كثير] وعلم من ذلك أن الباقين لا يبسملون، لأن هذا من قبيل الإثبات والحذف. (2) رواه مسلم 1/ 300 ح 54 وأبو داود 1/ 507 ح 780 والنسائي 2/ 134 ح904 من حديث أنس. (3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 14/ 295 وعنه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب 3/ 62) وأبو يعلى في مسنده 3/ 349 من طريق علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال. فذكره. ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 299 من طريق منجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر، ورواه البيهقي في دلائل النبوة 2/ 202 وابن عساكر في تاريخ دمشق 38/ 242 من طريق يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل، عن الأجلح، ورواه الحاكم في المستدرك 2/ 253 من طريق جعفر بن العون، عن الأجلح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/ 17 فيه الأجلح الكندي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق شيعي. التقريب 120 قلت: الحديث حسن إذن.

المجادلة على امرأة (1) أوس بن الصامت (2)، ولما قرأ سورة الروم على المشركين (3)، ولإيلاف قريش -أخرج البيهقي حديثهما في " الخلافيات (4) " - ولما

_ (1) هي: خولة بنت ثعلبة، ويقال: خويلة، وخولة أكثر، وقيل: خولة بنت حكيم، وقيل: خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقيل: جميلة، وقيل: بل هي خولة بنت دليج، ولا يثبت شيء من ذلك، والله أعلم، والذي قدمنا أثبت وأصح إن شاء الله. الاستيعاب 4/ 1830 والإصابة 7/ 618. (2) هو أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، أخو عبادة بن الصامت، شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ظاهر من امرأته فوطئها قبل أن يكفر، مات في أيام عثمان، وله خمس وثمانون سنة. الاستيعاب 1/ 118 والإصابة 1/ 156. وقصة ظهاره من امرأته رواها أحمد 45/ 300 وأبو داود 3/ 83 ح 2209 وابن حبان (الإحسان 10/ 107) والطبري في جامع البيان 28/ 5 من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة. وليس فيها البسملة، ورواها ابن أبي حاتم -وفيها البسملة- في تفسير القرآن العظيم (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 8/ 38) والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 385 عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية مرسلاً. وزاد السيوطي في الدر المنثور 7/ 77 نسبته إلى عبد بن حميد -ولم أرها في المسند المنتخب- وابن مردويه. (3) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1/ 404 ومن طريقه البيهقي في الخلافيات ل44 وأبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة 1/ 291 من طريق محمد بن يحيى، عن سريج بن النعمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم مرفوعاً. وفيه البسملة. ورواه البخاري في كتاب التاريخ الكبير 8/ 139 من طريق إسماعيل بن أبي أويس، وأبو الحسن بن قانع في معجم الصحابة 3/ 172 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 7/ 442 من طريق محمد بن سليمان لوين، والطبراني في المعجم الأوسط 7/ 200 من طريق ابن جريج، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة 1/ 143 ومن طريقه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات 1/ 585 وفي الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد 10/ 108 من طريق أبي معمر الهذلي، عن سريج بن النعمان، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 5/ 2704 من طريق محمد بن العباس المؤدب، عن سريج بن النعمان كلهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به، وليس في هذه الطرق البسملة، وهي المحفوظة. (4) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 536 وعنه البيهقي في الخلافيات ل44 من طريق يعقوب بن محمد الزهري والبسملة في روايته والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 321 والطبراني في المعجم الكبير 24/ 409 وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 260 من طريق أبي مصعب الزهري، كلاهما (يعقوب بن محمد، وأبو مصعب الزهري) عن إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن عبد الله بن أبي عتيق، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن أبيه، عن جدته أم هانئ.=

قرأ سورة الحجر أخرجه ابن أبي هاشم (1) بسنده (2).

_ =قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: يعقوب ضعيف، وإبراهيم صاحب مناكير، هذا أنكرها. تلخيص المستدرك. وخالفه سليمان بن بلال فروى البخاري في التاريخ الكبير من طريق سليمان بن بلال، عن عثمان بن عبد الله بن أبي عتيق، عن ابن جعدة المخزومي، عن ابن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. قال أبو عبد الله: هذا بإرساله أشبه. قال الحافظ العراقي في محجة القرب إلى محبة العرب 233: هذا حديث حسن، ورجاله كلهم ثقات معروفون إلا عمرو بن جعدة بن هبيرة فلم أجد فيه تعديلاً ولا جرحاً، وهو ابن ابن أخت علي بن أبي طالب، وهو أخو يحيى بن جعدة بن هبيرة أحد الثقات. قلت: هنا وقفات: الأولى: إن رواية البسملة في الحديث ضعيفة، تفرد بها يعقوب بن محمد الزهري، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء. التقريب 1090. الثانية: إن إبراهيم بن محمد اختلف فيه، فقال عنه ابن عدي في الكامل: مدني، روى عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره مناكير، وقال أيضاً: وأحاديثه صالحة محتملة، ولعله أتي ممن قد روى عنه. وقال عنه الذهبي: ذو مناكير. الميزان 1/ 56 وسبق قوله فيه في تلخيص المستدرك. ثم إنه خالف سليمان بن بلال الثقة، فروايته حينئذٍ منكرة، ورواية سليمان معروفة، ولهذا رجح البخاري رواية سليمان فقال: هذا بإرساله أشبه. الثالثة: قول الحافظ العراقي: هذا حديث حسن ورجاله كلهم ثقات معروفون. فيه نظر يعرف مما سبق، لكن يشهد لمرسل ابن شهاب هذا حديث الزبير الذي رواه الطبراني في المعجم الأوسط 9/ 76 من طريق عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير نحوه. قال الحافظ العراقي فيه: هذا حديث يصلح أن يخرج للاعتبار والاستشهاد، فإن عبد الله بن مصعب بن ثابت ذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن معين. قلت: وخلاصة القول أن رواية البسملة في حديث أم هانئ ضعيفة، وباقي الحديث حسن لغيره. (1) هو عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم أبو طاهر البغدادي المقرئ، انتهى إليه الحذق بأداء القرآن، قرأ بالروايات على ابن مجاهد، له كتاب البيان، وكتاب الفصل بين أبي عمرو والكسائي، ورسالة في الجهر بالبسملة، توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. معرفة القراء الكبار 2/ 603 وغاية النهاية 1/ 475 وإيضاح المكنون 5/ 562. (2) رواه الطبري في جامع البيان 14/ 2 من طريق علي بن سعيد بن مسروق الكندي، وأبو بكر ابن أبي عاصم في السنة 1/ 582 والطبراني في المعجم الكبير (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 525) والحاكم في المستدرك 2/ 242 وعنه البيهقي في كتاب البعث والنشور القسم الثاني 1/ 207 من طريق أبي الشعثاء علي بن الحسن كلاهما عن خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى مرفوعاً، وليس فيه البسملة.=

وصحّ أنه صلى الله عليه وسلّم لما تلا الآيات التي أنزلت في شأن براءة عائشة لم يبسمل، ففهم من ذلك أمر زائد على ما مضى، وهو أن البسملة من خواص أوائل السور، وأن هذا ليس من باب ذكرها للتبرك عند ابتداء كل أمر ذي بال، وإلا لكانت قضية عائشة رضي الله عنها من أبلغ مقتض لذلك. ثم الظن بالصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما أثبتوها في المصحف حيث أثبتوها لتلقيهم من النبي صلى الله عليه وسلّم النصوصية على أنها من أوّل كل سورة، أو لظنهم ذلك، وكان هذا عندهم من الأمور الواضحة الجلية، ولهذا لم يقع بينهم فيها نزاع حين كتبت، ولو كانت من باب التبرك لم تكتب كما لم يكتبوا التعوذ المأمور به قبل البسملة، ولا " آمين " المأمور بها بعد قراءة القاتحة، ولا وقع بينهم نزاع في ذلك، فحصل ظنّ غالب أنها من القرآن (1). انتهى. وقد حكى النووي في " شرح المهذّب " في البسملة (2) وجهين: أحدهما: -وصححه- أن إثباتها قرآنا على وجه الظن. والثاني: أنه على وجه القطع (3). وقد شنّع القاضي أبو بكر الباقلاني (4) وغيره على الشافعي في ذلك بأن القرآن لا يثبت بالظن، إثما يثبت بالتواتر (5). وأجاب عنه القاضي تاج الدين السبكي في " رفع الحاجب " بأنا لا ندعي تواتر

_ =قال الحافظ ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به، وزاد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. قال الهيثمي: وفيه خالد بن نافع الأشعري، قال أبو داود: متروك. مجمع الزوائد 7/ 131. قال الذهبي: وهذا تجاوز في الحد، فإن الرجل قد حدث عنه أحمد بن حنبل، ومسدد، فلا يستحق الترك، ميزان الاعتدال 1/ 644. (1) كتاب البسملة ل65. (2) في ت، ح، ظ: المسألة. (3) المجموع شرح المهذب 3/ 294. (4) هو محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر الباقلاني، كان إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية، توفي سنة ثلاث وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/ 190 والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 228. (5) الانتصار للقرآن 1/ 251 - 252.

البسملة الآن، فإنا نحن لم نثبتها، إنما المثبت لها إمامنا الشافعي، فلعلّها تواترت عنده، ورب متواتر عند قوم دون آخرين، وفي وقت دون آخر. واستشكل قوم النفي على وجه القطع، فإن المقطوع بكونه قرآنا يكفر نافيه. وأجاب جماعة بأن قوّة الشبهة منعت التكفير من الجانبين (1). قال ابن الصباغ (2) في " الشامل ": من أصحابنا من أثبتها قطعا لكونها في المصحف، ولم يكفر جاحدها، كما لم يكفر مثبتها، وإنما كان كذلك لحصول ضرب من الشبهة، كما قامت لابن مسعود في المعوذتين (4).

_ (1) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب 2/ 86. (2) هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر المعروف بابن الصباغ، مصنف كتاب الشامل، كان تقيا صالحا، وشامله من أصح كتب أصحابنا، وأثبتها أدلة، توفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة. وفيات الأعيان وأنباه الزمان 3/ 217 وطبقات الشافعية الكبرى 5/ 122 وقفت من كتابه الشامل على أجزاء متفرقة ليس منها الجزء الذي فيه كتاب الصلاة. (3) هنا وقفتان: الأولى: في تخريج الحديث، فأقول: روى البخاري 4/ 1904 عن قتيبة بن سعيد، وعلي بن عبد الله، عن ابن عيينة، عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم، عن زر قال: سألت أبي بن كعب قلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، قال أبي: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: قيل لي: فقلت، قال: فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه الشافعي في السنن 1/ 203 - ومن طريقه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 11 - والحميدي في مسنده 1/ 367 - ومن طريقه الطحاوي 1/ 112 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 393، 394 - وأحمد في مسنده 35/ 114 عن وكيع، و115 عن عبد الرحمن بن مهدي، وأبو عبيد في فضائل القرآن ومعالجه وآدابه 2/ 80 عن عبد الرحمن أيضا كلهم (الشافعي، والحميدي، ووكيع، وعبد الرحمن) عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم، عن زر بنحوه. ورواه أبو عبيد 2/ 81 وأحمد 35/ 115 عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الزبير ابن عدي، عن أبي رزين، عن زر، عن أبي بن كعب بنحوه. ورواه أحمد 35/ 118 حدثنا سفيان، عن عبدة وعاصم، عن زر قال: قلت لأبي: إن أخاك يحكهما من المصحف - قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر - قال: سألت رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي: فقلت، فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال سفيان: يحكهما: المعوذتين، وليس في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته، فظن أنهما عوذتان، وأصر على ظنه، وتحقق الباقون من القرآن، فأودعوهما إياه.=

واستشكل آخرون الأمرين معا: الإثبات، والنفي، فإن القرآن لا يثبت بالظن، ولا ينفى بالظن، ولا شكَّ أنه إشكال قويّ كالجبل. وقد أخبرني بعض الفضلاء بأنه سمع الحافظ ابن حجر يقرر في درسه في الجواب عنه: أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة، فتكون قطعية الإثبات، والنفي معا، ولهذا قرأ (1) بعض السبعة بإثباتها، وبعضهم بإسقاطها، فاستحسنت ذلك جدا. ثم رأيت تلميذه الشيخ برهان الدين البقاعي (2) حكى ذلك عنه في ترجمته من معجمه (3). ثم رأيت خاتمة القراء الشيخ شمس الدين ابن الجزري سبقه إلى ذلك فقال

_ =ثبوت ذلك عن عبد الله، ويحكمون بوضعه واختلافه، ورفع الإشكال لا يكون عن طريق رد صحيح الحديث وإنكاره، فإن هذا ليس طريقة أهل السنة والجماعة. ويحمل إنكار عبد الله على أنه لم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما في الصلاة، وسمع يعوذ بهما الحسن والحسين فظن أنهما مما يعوذ به من الأذكار النبوية، وليستا من القرآن، وسمع غيره يقرأ بهما في الصلاة كعقبة بن عامر عند مسلم 1/ 558 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 114 ورجل من الصحابة عند الصحابة أيضا 1/ 117 وعمرو بن عبسة عند أبي يعلى في مسنده (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 9/ 92) وتلك شبهة تمنع من تهويل الأمر وتفظيعه على الله. والله أعلم. قال الحافظ ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 8/ 531 وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء: أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة كتبوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، وانظر في تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 42. (1) في ظ: اقرأ. (2) هو إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بضم الراء بعدها موحدة خفيفة أبو الحسن البقاعي، كان من أوعية العلم، الجامعيين بين علمي المعقول والمنقول، توفي سنة خمس وثمانين وثمانمائة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 1/ 101 والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 19. (3) انظر في: عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران 1/ 173. (4) هو محمد بن محمد بن محمد أبو الخير، يعرف بابن الجزري، له تصانيف مفيدة كالنشر في القراءات العشر، تفرد بعلو الرواية، وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل، ومعرفة الرواة المتقدمين والمتأخرين، توفي سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. الضوء اللامع 9/ 255 والبدر الطالع 2/ 775.

في كتابه " النشر " - بعد أن حكى الأقوال الخمسة السابقة في البسملة: - وهذه الأقوال ترجع إلى النفي، والإثبات. والذي نعتقده أن كليهما صحيح، وأن كلّ ذلك حق، فيكون الاختلاف فيها كالاختلاف في القراءات (1). هذا لفظه (2). ثم رأيت أبا شامة حكى ذلك في كتاب " البسملة " فقال: ونقل عن بعض المتأخرين (3) أنها آية حيث كتبت في بعض الأحرف السبعة، دون بعض، قال: وهذا قول غريب، ولا بأس به إن شاء الله تعالى. وكأنه نزّل اختلاف القراء في قراءتها بين السور منزلة اختلافهم في غيرها، فكما اختلفوا في حركات وحروف اختلفوا أيضاً في إثبات كلمات وحذفها كقوله تعالى في سورة الحديد (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [سورة الحديد 24] اختلف القراء في إثبات (هو) وحذفها، وكذلك (من) في آخر سورة التوبة (تجري من تحتها الأنهار) [سورة التوبة 89] فلا بعد أن يكون الاختلاف في البسملة من ذلك، وإن كانت المصاحف أجمعت عليها فإن من القراآت ما جاء على خلاف خط المصحف كـ (الصراط) و (يبصط) و (مصيطر) اتفقت المصاحف على كتابتها بالصاد، وفيها قراءة أخرى ثابتة بالسين، وقوله تعالى (وما هو على الغيب بضنين) يقرأ بالضاد وبالظاء، ولم يكتب في مصاحف الأئمة إلا بالضاد، وقراءة القرآن تكون في بعض الأحرف السبعة أتم حروفا وكَلِماً من بعض، ولا مانع من ذلك يخشى، فالبسملة في قراءةٍ صحيحةٍ آيةٌ من أم القرآن، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن، والقرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها حق، وهذا كله من تلك الأحرف لصحته، فقد وجب -إذ كلّها حقّ- أن يفعل الإنسان في قراءته أيّ ذلك شاء. قال: وقد تكلّم القاضي أبو بكر على صحة مجيء بعض الأحرف أتم من غيرها، وبيّنه في كتاب " الانتصار " (4).

_ (1) في ح، د، ق: كاختلاف القراءات. (2) النشر في القراءات العشر 1/ 270. (3) في كتاب في البسملة: عن بعض متأخري الظاهرية. (4) الانتصار للقرآن 1/ 386 وكتاب البسملة ل4.

ثم قال أبو شامة: فإن قلت: يتفرَّع على القول بهذا -بعد تقريره- أن المكلف بالصلاة مخير في قراءة البسملة فيها، إن شاء قرأها، وإن شاء تركها، كغير هذا الحرف مما اختلف فيه القراء، كلا الأمرين له واسع، وفي مذهبك تتحتم قراءتها. قلت: إنما تتحتم قراءتها في مذهب الشافعي في الفاتحة وحدها، ولا ينافي هذا القول ذلك، فإن القراء مجمعون على قراءتها أول الفاتحة (1) إلا ما شذّ روايته عن بعضهم، فليس فيها في الفاتحة تخيير، بخلاف غيرها من السور، وإنما وجبت في الفاتحة احتياطا لما أمر به، وخروجا من عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما سماه الشرع فاتحة الكتاب (2). هذا كله كلام أبي شامة. قوله: (ما بين الدفتين كلام الله تعالى) في الصحاح: الدفّ الجنب (4)، وكذا في " الغريبين " قال: ومنه دفتا المصحف، لمشابهتهما الجنبين (5). قوله: (لنا أحاديث كثيرة): منها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: " فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ") أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن مرويه في تفسيره، والبيهقي في سننه بلفظ: " الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إحداهن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب " وأخرجه الدارقطني -وصححه- والبيهقي بلفظ: " إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إحدى آياتها (5) قوله: (وقول أم سلمة رضي الله عنها قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاتحة، وعدّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين آية)

_ (1) قال أبو شامة في إبراز المعاني من حرز الأماني 1/ 236 قال بعض العلماء: لا خلاف بين القراء في البسملة في أول فاتحة الكتاب، سواء وصلها القارئ بسورة أخرى قبلها، أو ابتدأ بها. (2) كتاب البسملة ل5. (3) الصحاح/ مادة دفف. (4) المجموع المغيث فيغريبي القرآن والحديث/ مادة دفف. (5) سبق تخريج هذا الحديث في ص47 غير أني لم أر التصحيح الذي عزاه السيوطي إلى الدارقطني في السنن للدارقطني المطبوع.

قلت: الحديث ليس بهذا اللفظ، وإنما الوارد في كل طرقه أنه عدّ البسملة آية. فأخرجه أبو عبيد في " فضائل القرآن " وأحمد، وأبو داود بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقطع قراءته آية آية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين " وأخرجه ابن الأنباري في كتاب " الوقف والابتداء " والبيهقي في " الخلافيات " - وصححه بلفظ: " كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية، يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ويقف، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، ويقف، ثم يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ويقف ثم يقول: مالك يوم الدين " وأخرجه ابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي في سننه بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ في الصلاة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فعدّها آية، الحمد لله رب العالمين آيتين، الرحمن الرحيم، ثلاث آيات، مالك يوم الدين، أربع آيات وقال هكذا، إيَّاك نعبد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وجمع خمس أصابعه " وأخرجه الدارقطني بلفظ: " كان يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، إلى آخرها، فقطّعها آية آية، وعدّها عَدَّ الأعراب، وعدّ بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، ولم يعدّ عليهم (1) "

_ (1) هذا الحديث رواه عبد الله بن أبي مليكة، واختلف عليه، فرواه نافع بن عمر الجمحي عنه، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة، عند أحمد 44/ 46. ورواه ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة، واختلف على ابن جريج، فرواه يحيى بن سعيد الأموي عند أبي عبيد في فضائل القرآن ومعالمه وآدابه 1/ 325 ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير 23/ 278 وأحمد 44/ 206 وأبي داود 4/ 379 ح3997 والترمذي 5/ 47 ح2927 وأبي بكر بن الأنباري في كتاب إيضاح الوقف والابتداء 1/ 258 والدارقطني 1/ 312 وأبي يعلى في مسنده 12/ 452 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 14/ 8 والحاكم في المستدرك 2/ 231، 232 والبيهقي في الخلافيات ل44 وعمر بن هارون عند الطحاوي 14/ 8 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 44، وحفص بن غياث عند ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 520، 10/ 524 وعنه أبو يعلى في مسنده 12/ 351 وابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 373 وهمام عند أحمد 44/ 324 والبيهقي 2/ 324 والبيهقي 2/ 44 كلهم (يحيى بن سعيد، وحفص، وهمام، وعمر بن هارون) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة. ورواه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 38 وعنه أحمد في المسند 44/ 170 ومن طريق عبد الرزاق الطبراني في المعجم الكبير 23/ 292 ومحمد بن بكر عند أحمد أيضاً 44/ 170 وابن حبان=

قال أبو شامة: ومما يجب أن ينبه عليه أن إمام الحرمين قال في " النهاية ": إن هذا الحديث رواه البخاري (1)، وتبعه في ذلك صاحبه أبو حامد الغزالي في البسيط، والوسيط (2)، وليس ذلك في " صحيح البخاري "، ولا في " تاريخه "، ولا في كتاب " القراءة خلف الإمام " له. وقد اغترّ بذلك جماعة من المتفقهة الذين لا عناية لهم بعلم الحديث. قال: وأظنّ الإمام بلغه أن ذلك في كتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة الصحيح، فلما صنّف " النهاية " سبق لفظه إلى تسمية البخاري، من جهة اتفاق اسمي الإمامين بمحمد، واسمي الكتابين بالصحيح، وذلك وهم (3). انتهى. وقد نبّه على ذلك أيضاً النووي (4)، وطائفة آخرهم الحافظ أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير (5).

_ = (الإحسان 6/ 366) كلاهما (عبد الرزاق، ومحمد بن بكر) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم سلمة. ورواه أبو عاصم عند أبي بكر الفريابي في كتاب فضائل القرآن 206 والطبراني في المعجم الكبير = 23/ 407 عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم سلمة. ورواه الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة أيضاً، واختلف على الليث، فرواه أبو صالح عند الطبراني في المعجم الكبير 23/ 292 عن الليث، عن ابن لهيعة، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة. ورواه عبد الله بن المبارك عند أبي عبيد في فضائل القرآن، 1/ 325 وقتيبة بن سعيد عند الفريابي في كتاب فضائل القرآن 205 والنسائي 2/ 181 ح1022 ويزيد بن موهب عند الفريابي أيضاً، وشعيب بن الليث عند ابن خزيمة في الصحيح 2/ 188 والطحاوي في شرح مشكل الآثار 14/ 9 وشرح معاني الآثار 1/ 201 ويحيى بن بكير عند الحاكم 1/ 309 وعنه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 13 كلهم (عبد الله، وقتيبة، ويزيد، وشعيب، ويحيى) عن الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة، وهو الصواب. (1) نهاية المطلب في دراية المذهب ج2 ل37 نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم 9857. (2) كتاب البسيط ل99 نسخة مصورة بجامعة الإمام محمد بن سعود برقم 1277 والوسيط في المذهب 2/ 729. (3) كتاب البسملة ل24. (4) التنقيح في شرح الوسيط 2/ 111. (5) تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير 1/ 422.

قال ابن خزيمة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث: لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الصلاة عدها آية، ولا قول لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلّم خلاف قوله، إذ الله تعالى لم يجعل لبشر مع قوله صلى الله عليه وسلّم قولا يخالف قوله، وجعله متبوعا لا تابعا، وفرض على العباد طاعتهن وأمرهم باتباعه. فيقال لمخالفينا: قد عدّها النبي صلى الله عليه وسلّم آية على ما روينا عن زوجته أم سلمة رضي الله عنها، هلمّوا دليلا إمّا بنقل خبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم يخالف خبرنا، أو غير خبر يؤيد مذهبكم في إنكاركم آية (1) من القرآن، وعدم وجود حجة تؤيّد مقالتكم بطلان دعواكم، وفي بطلان دعواكم صحة مذهبنا (2). وقال أبو شامة: قد قدح بعض المخالفين فقال: هذا من قول أم سلمة ورأيها، ولا ننكر (3) الاختلاف في ذلك. والجواب: أنه من قولها قطعا، ولكنها مخبرة عما رأت من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم ما فإنه لما عدّها بأصابعه على نحو ما عدت من باقي آيات الفاتحة جزمت بما قالت، وهو كما قالت. وقال الطحاوي: إنما نعتت أم سلمة رضي الله عنها بذلك قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم -كسائر القرآن- كيف كانت، وليس في ذلك دليل أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فانتفى أن يكون في حديث أم سلمة رضي الله عنها حجة لأحد (4). قال أبو شامة: الظاهر أنها حكت تلاوته للبسملة، وإلا لمثلت بغير ذلك؛ لأن الفاتحة هي التي كان يكررّها (5)، فعقلت هيئتها وكيفيتها عندها، فكانت لها أشد حفظا من كيفية قراءته لغيرها (6). وقال الغزالي: حديث أم سلمة حجة ظاهرة على أن البسملة آية من الحمد.

_ (1) في كتاب البسملة ل22: أنه. (2) كتاب البسملة ل22. (3) في ح: ينكر. (4) شرح معاني الآثار 1/ 201 وكتاب البسملة ل32. (5) في كتاب البسملة ل32: لأنها هي التي كانت تكرر قراءته لها. (6) كتاب البسملة ل32.

فإن فعل: روايتها ليست رواية لفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل هي ظن منها، إذ قالت: عدَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية منها، فلعلّها غلطت في ظنها. فالجواب إذا جزم الراوي الثقة العاقل في أمر محسوس لا يجوز حمله على الغلط، وإلا لجاز في أصل الرواية، وهو محال (1). قوله: (ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها، أو بما بعدها) أي ومن أجل الحديثين، فإن الأول يقتضي عدها آية مستقلة، والثاني يقتضي أنها مع ما بعدها آية. وهذا منه بناء على اللفظ الذي أورده، وقد عرفت أن الأمر بخلافه. قوله: (والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف، مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم يكتب " آمين ") ذكر البيهقي والغزالي وغيرهما أن هذا أقوى ما يستدلّ به في المسألة. قال البيهقي في " الخلافيات ": الأصل عندنا إجماع الصحابة، فإنهم أجمعوا على أن مصحف عثمان رضي الله عنه، وسائر المصاحف كتاب الله ووحيه وتنزيله، من غير تقييد فيه ولا استثناء، وكذلك الناقلون عنهم بعدهم لم يختلفوا فيما اتفقوا عليه، ووجدناه مكتوبا في تلك المصاحف كسائر القرآن (2). وقال في " المعرفة ": أحسن ما يحتج به في أن البسملة من القرآن، وأنها في فواتح السور منها سوى براءة = ما روينا من جمع الصحابة كتاب الله في مصاحف، وأنهم كتبوا فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ على رأس كل سورة، سوى سورة براءة، من غير استثناء ولا تقييد ولا إدخال شيء آخر فيها، وهم يقصدون بذلك نفي الخلاف عن القراءة، فكيف يُتوهم عليهم أنهم كتبوا فيها مائة وثلاث عشرة آية ليست من القرآن (3). وقال الغزالي: أظهر الأدلّة كونه مكتوبا بخط القرآن مع أوائل السور سوى سورة براءة.

_ (1) كتاب البسملة ل13. (2) الخلافيات ل39 نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم 3456. (3) معرفة السنن والآثار 2/ 364.

ووجه الدلالة: أنه لا يخلو إما أن يكون ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أو بدعة من عثمان رضي الله عنه، أو غيره، لغرض التبرك في البداءة، كذكر اسم السورة، وعدد الآيات، ولما ابتدعت كتبتها في زمن التابعين اشتد الإنكار من جميعهم عليها، حتى أنكروا النقط، والأعشار، وقالوا: هذه بدعة وزيادة، وإنما تركها من تركها اعتمادا على أنها تكتب بالحمرة، لا بخط القرآن، فإنها لا تلتبس بالقرآن، ولا ضرر فيها، بل فيها منفعة ليكون ذلك أَعْوَن على الحفظ، وإنما اعتذروا بذلك ولم يعتذر أحد بأنّا أبدعنا ذلك بالاجتهاد، كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبة البسملة، مع أنه (1) لا بيان فيها، ولا حاجة إليها. ثم إن كان تجاسر مبدع (2) على إبداعها (3) فكيف سكت (4) كافة المسلمين عنه، من غير إنكار وتبديع، وذلك مما يعلم استحالته قطعا، إذ النفوس لا تسمح بالسكوت في مثله. ولو كتب الآن كاتب في القرآن، أو في أوّل السور: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم احتجاجا بقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) [سورة النحل 99] فهل يتصور أن يسكت الناس عنه، أو يوافقوه عليه. هذا، والزمان زمان إهمال وتساهل في مهمات الدين، والوقت وقت فتور وضعف، فكيف يظن ذلك بالصحابة مع تصلبهم في الدين وشدتهم؟ وكيف سكتوا عن إبداع زيادة بخط القرآن شديدة الضرر، لكونها موهمة أنها من القرآن، خالية عن المنفعة، وإفادة نوع من البيان، وأسامي السور لا ضرر في إثباتها؛ إذ لا توهم كونها من القرآن، وفيها فائدة التمييز والتعريف، فينكر التابعون ذلك، مع كونهم دون الصحابة في الصلابة في الدين، ثم تسكت الصحابة عن إنكار ما فيه ضرر الاشتباه، وليس فيه فائدة البيان. هذا من المحال الذي لا ينشرح الوهم لقبوله أصلا. ثم كيف يظن بمسلم أن يستجيز ذلك من غير فائدة، وسبب باعث؟. فإن قيل: لعل الباعث قوله صلى الله عليه وسلّم: " كل أمر ذي بال لم يبدأ

_ (1) في ت، ظ: مع أنها. (2) في ح: مبتدع. (3) في ح، ابتداعها. (4) في ت، سكتت. (5) في ت، ح: من.

فيه ببسم الله فهو أبتر " (1) وإرادةُ الفصل بين السور. قلنا: فهلا كتب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في أول القرآن لقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وهذا للقرآن خاصة، وذلك أمر عام لا يختص بالقرآن؟. فإن قلت: إنما أمر بالاستعاذة عند القراءة، لا عند الكتبة. فنقول: وإنما أمر في بداءة الأمور بذكر اسم الله تعالى، لا بكتبه. ثم من أين تقاوم هذه الفائدة ضرر الاشتباه، وجراءة الزيادة في كتاب الله تعالى، وإثبات ما ليس منه فيه. وأما غرض الفصل فظاهر البطلان؛ إذ كان يمكن بإهمال خط كما في سورة براءة، أو بأن يكتب بالحمرة " سورة أخرى " وعدد آياتها كذلك حتى لا يلتبس، وكيف يعدل عنه إلى ما يلتبس بالقرآن (2)؟ فهذه الاحتمالات كلها فاسدة، ثم هو باطل بسورة براءة، وإثباتُها في جميع السور دون براءة على الخصوص كالقاطع بأن مأخذه التوقيف فقط. وعلى الجملة فيعلم أن كتبة ما ليس بقرآن ويشتبه بالقرآن وبخطه من الكبائر، فلا يتصور أن يتجاسر عليه مسلم، وإن تجاسر عليه فلا يتصور أن يسكت عنه المسلمون فضلا عن أن يوافقوه بأجمعهم حتى لا يخالف مخالف. فإن قلت: سلمنا أنه ليس مبدعا، بل هو مكتوب بالتوقيف، ولذلك لم يكتب في سورة براءة؛ لأنه لم يرد به التوقيف، ولكن هذا يدل على جواز كتبه، لا على كونه قرآنا، وليس يستحيل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بكتبة ما ليس بقرآن. وهذا السؤال ذكره القاضي (3). فالجواب: أن هذا إبعاد في التأويل تستبعده النفوس وتشمئز عن قبوله الطباع. وعلى الجملة فلا نقول: الإذن في كتبة ما ليس بقرآن مع القرآن محال في نفسه، ولكنا نقول: هو محال إلا أن يكون مقرونا بذكر أنه ليس بقرآن ذكرا صريحا متواترا حتى ينتفي به الوهم السابق إلى الأذهان.

_ (1) سيأتي تخريجه. (2) في د: إلى ما ليس في القرآن ويشتبه بالقرآن. (3) هو أبو بكر الباقلاني، انظر في: الانتصار للقرآن 1/ 257.

سلمنا أنه ليس بمحال، ولكنه لا يخفى أنه بعيد، وأن الأغلب على الظن أنه لا يكتب مع القرآن ما ليس بقرآن. فإذن حصل من هذا أن الكتبة ليست إلا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم، وأمره بها من غير نص متواتر ينفي كونها قرآنا قاطع، أو كالقاطع بأنها من القرآن. انتهى كلام الغزالي (1). وقال سليم الرازي: الدليل على أن البسملة من القرآن هو أن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في المصحف بخط سائر القرآن، مع قصدهم صيانة القرآن عن الاختلاط بغيره، وتوقيهم أن يثبتوا في المصحف ما ليس منه، فلولا أنه قرآن منزل ما فعلوا ذلك. ثم ساق الأحاديث في جمع الصحابة القرآن في المصحف، والأحاديث في قراءة السور والآيات، كحديث " تعلموا البقرة وآل عمران (2) " و " اقرأ عليّ سورة النساء (3) " و " من قرأ الآيتين من آخر البقرة (4) " و " من حفظ عشر آيات من سورة الكهف (5) " إلى غير ذلك. وقال: هذه الأخبار كلها دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج من الدنيا وسور القرآن معلومة، وآيات كل سورة مفهومة.

_ (1) نقله أبو شامة في كتاب البسملة ل12 - 13 ونقل المؤلف في مباحث البسملة هذه نقولاً عن الغزالي، وسليم الرازي، وابن خزيمة، والذي ظهر لي من صنيعه أنه لم ينقل عن مؤلفات هؤلاء في البسملة مباشرة، ولكنه نقل عنها بواسطة كتاب البسملة لأبي شامة. (2) رواه أحمد في المسند 5/ 249، 254، 257 ومسلم 1/ 553 ح 252 من حديث أبي أمامة. (3) رواه أحمد 1/ 94 والبخاري 4/ 1673 ح 4306 ومسلم 1/ 551 ح247 والترمذي 5/ 237 ح3024 والنسائي في السنن الكبرى 10/ 64 ح11039 وابن ماجة 4/ 205 ح4269 من حديث ابن مسعود. (4) رواه البخاري 4/ 1914 ح4722 ومسلم 1/ 554 ح807 وأبو داود 2/ 240 ح1392 والترمذي 5/ 10 ح2881 والنسائي في السنن الكبرى 5/ 9، 14 ح8003، 8018 وابن ماجة 2/ 54 ح1387 من حديث أبي مسعود. (5) رواه بهذا اللفظ أحمد في المسند 45/ 527 ومسلم 1/ 555 ح257 من طريق همام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء به، وفي الحديث بحث تجد استقصاء في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 122 والضعيفة 3/ 509.

وثبت بما ذكر أن جميع ما في المصحف قرآن منزل، ويؤكد (1) ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا؟ قال: لا، إلا ما في هذا المصحف، وقال محمد بن عليّ ابن الحنفية (2) لما سئل عن ذلك أيضاً: لا، إلا ما في هذين اللوحين (3). فهذا نفي وإثبات، فيقتضي أن جميع ما في المصحف يجري مجرى واحدا، وأن جميعه قرآن منزل، وأن ما ليس في المصحف مخالف له. وقد روى أبو طاهر ابن أبي هاشم في كتاب " الفصل (4) " بإسناده عن القاسم (5)، عن عائشة أنها قالت: " اقرؤوا ما في المصحف (6) " وظاهر ذلك تسويتها بين جميع ما في المصحف، والحكم بأنه كله قرآن منزل. هذا مع أن الرجوع إلى المصحف والائتمام به إجماع، فإن المسلمين من لدن الصحابة إلى زماننا هذا يرجعون فيما ينوبهم مما يتعلّق بالقرآن إليه، ويستدلون به، فيقال للذي يخالف في إثبات الكلمة: هي مكتوبة في المصحف. ويؤيد ذلك أيضاً أنهم لما اختلفوا في كتابة " التابوت " قالت الأنصار: بالهاء، وقال سعيد بن العاصي (7): بالتاء لم يكتبوه حتى قيل لهم: إنه أنزل بلغة قريش،

_ (1) في ت، ح: ويؤيد. (2) هو محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم القرشي الهاشمي المدني، أمه خولة بنت جعفر الحنفية، كان ورعا كثير العلم، توفي سنة ثمانين، سير أعلام النبلاء 4/ 110 والبداية والنهاية 12/ 313. (3) روى البخاري 4/ 1917 ح4731 أثر ابن عباس، وابن الحنفية بنحوه. (4) هو كتاب الفصل بين أبي عمرو والكسائي. انظر في: غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 475 وهدية العارفين 3/ 633. (5) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أبو محمد القرشي التيمي، كان أفضل أهل زمانه، وكان من أعلم الناس بحديث عائشة، روي عن عمته عائشة، توفي سنة ست ومائة. تهذيب الكمال 23/ 427 وسير أعلام النبلاء 5/ 53. (6) لم أقف عليه. (7) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية أبو عثمان الأموي، كان أحد أشراف قريش حمل السخاء والفصاحة، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، توفي خلافة معاوية سنة تسع وخمسين. الاستيعاب 2/ 621 والإصابة 3/ 107.

وهو في لغتهم بالتاء، فكتبوه بها (1)، فكيف يظن بهم مع هذا التثبت أن يكتبوا فيه ما ليس بقرآن؟. ومما يبين أن كتابتهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في المصحف إنما هو بالتوقيف من الرسبول صلى الله عليه وسلّم أنهم كتبوها في أوائل سور، وتركوها في أول براءة، فلو كانوا إنما فعلوا ذلك لأجل التبرك والافتتاح بها لوجب لهذه العلة افتتاح براءة بها. ويبين ذلك أن قوما كرهوا نقط المصاحف، والتعشير فيها، وكتابة عدد آيات السور (2). روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه (3)، وعن إبراهيم النخعي (4)، ومكحول (5)، ومجا هد، وعطاء (6).

_ (1) يأتي تخريجه قريباً. (2) في ح، ق: السورة. (3) روى عبد الرزاق في المصنف 4/ 323 ح7944 وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/ 230 ح895 وابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 472 ح421، 422 والداني في المحكم في نقط المصاحف 10 بلفظ: جردوا القرآن ولا تلبسوا به ما ليس منه. وروى عبد الرزاق في المصنف 4/ 322 ح7942 وأبو عبيد في فضائل القرآن 2/ 232 ح900، 901 وفي غريب الحديث 5/ 56 وابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 473 ح429 والداني في المحكم في نقط المصاحف 14 عن عبد الله أنه كره التعشير في المصاحف. وروي ابن أبي داود في كتاب المصاحف 1/ 470 والداني في المحكم 16 عن أبي حمزة قال: أتيت إبراهيم بمصحف لي، مكتوب فيه: سورة كذا، وكذا آية، فقال إبراهيم: امح هذا، فإن ابن مسعود كان يكره هذا، ويقول: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه. قلت: وقد فسر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه غريب الحديث 5/ 55 أثر عبد الله بن مسعود تفسيراً جيداً، يوقف عليه في محله. (4) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران الكوفي، فقيه أهل الكوفة، كان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانها، وكان رجلا صالحا فقيها، مات وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين. تهذيب الكمال /233 وسير أعلام النبلاء 4/ 520. (5) هو مكحول أبو عبد الله الشامي، فقيه الشام، لم يكن في زمانه أبصر بالفتيا منه، توفي سنة اثنتي عشرة ومائة، تهذيب الكمال 27/ 473 وسير أعلام النبلاء 5/ 155. (6) هو عطاء بن أبي رباح، واسمه أسلم أبو محمد المكي، مولى أل أبي خثيم، أدرك مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاق أهل مكة في الفتوى، توفي سنة أربع عشرة ومائة، تهذيب الكمال 20/ 69 وسير أعلام النبلاء 5/ 78.

هذا مع ظهور الحال في ذكر أسماء السور، وعدد أعشارها، وأنه لا شبهة على أحد أن ذلك ليس بقرآن، فلو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليست من القرآن لكان إثباتها بالإنكار أولى؛ لإشكال الأمر فيها، ولظهر اختلافهم في ذلك وإنكاره والخوض فيه، فلما لم يكن كذلك صح وثبت أن جميع ما في المصحف الذي كتبه (1) الصحابة رضي الله عنهم قرآن منزل من عند الله تعالى. ويوضح ذلك أيضاً ويكشفه أن الذين استجازوا من التابعين ومن بعدهم أن يكتبوا في المصحف أسماء السور، وعدد آي كل سورة، والتعشير، والنقط، خالفوا في الخط بين هذه الأشياء وبين ما وجدوه في المصحف، فكتبوا هذه الأشياء بالحمرة، أو الصفرة ونحوهما، وخط المصحف بالسواد، واعتذروا عن ذلك بأن الأمر لا يشكل فيه، ولم يحتجوا بكتب السلف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في فواتح السور، مع أنها ليست من القرآن، وإشكال الأمر فيها، فثبت أنهم اعتقدوا أنها قرآن منزل، لأنهم لو كانوا يعتقدون خلاف ذلك لسارعوا إلى الاحتجاج بما قلنا، ولم يجز على جميعهم إغفال هذا الأمر الظاهر الناقض لقول من خالفهم وبدّعهم. ومما يوضح ما قلنا أيضاً أنه لو ذهب ذاهب في يومنا هذا إلى أن المعوذتين ليستا من القرآن، واحتج بما رُوي عن ابن مسعود، أو ذهب إلى أن سورتي القنوت من القرآن، واحتج بما روي عن أبيّ بن كعب (2) لم يحتجّ عليه في إثبات المعوذتين قرآنا، وإسقاط سورتي القنوت من القرآن بابلغ من الرجوع إلى المصحف، فكذلك في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ومما يبينه أيضاً أن مخالفينا في كون البسملة آية من الفاتحة قد أجمعوا معنا على أن قوله (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [سورة التوبة 128] إلى آخر

_ (1) في ظ: كتبت. (2) روي قنوت أبي بالسورتين "اللهم إنا نستعينك" "اللهم إياك نعبد" عبد الرزاق في المصنف 3/ 112 وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 314. قال ابن قتيبة: وأما نقصان مصحف عبد الله بحذفه أم الكتاب والمعوذتين، وزيادة أبي بسورتي القنوت فإنا لا نقول: إن عبد الله وأبيًّا أصابا، وأخطأ المهاجرون والأنصار ... وإلى نحو هذا ذهب أبي في دعاء القنوت، لأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به في الصلاة دعاءً دائماً فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة. تأويل مشكل القرآن 42، 47.

السورة، وقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [سورة الأحزاب 23] من القرآن؛ لاتفاق المصاحف على ذلك، مع ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري (1)، لم أجدهما مع غيره. وفي رواية أخرى فقدت آية من الأحزاب: قد كنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ بها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) فألحقتها في سورتها في المصحف (2)، فكذلك يلزمهم أن يحكموا بأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من الفاتحة؛ لاتفاق المصاحف على كتابتها فيه، مع ما يذكرونه من أنه لم يرد فيها ماورد في سائر آيات الفاتحة. فإن قال قائل: إنا لا نعلم من دين الأمة المتفقة على كتب المصحف أنها وقفت على أن جميع ما فيه من فواتح السور قرآن منزل من عند الله، وإن علمنا أنهم قد أثبتوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فاتحة للسور (3). فالجواب أن يقال: بالذي علمت أنت من دينهم أنهم قد وقفوا على أن المعوذتين، والآيتين من آخر سورة التوبة، والآية من الأحزاب قرآن منزل من عند الله = علم خصمك من دينهم أنهم وقفوا على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من أول الفاتحة. ثم يقال: كلما كتب في المصحف في (4) أيام أبي بكر، وأقرّ هو وسائر الصحابة عليه سنة بعد سنة إلى انقراضهم محكوم بأنه قرآن منزل، وجار مجرى ما ورد به الخبر المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلّم للعلم بأنهم لم يدونوا فيه إلا ما وضح عندهم أنه قرآن منزل.

_ (1) هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه أبو عمار الخطمي الأنصاري، يعرف بذي الشهادتين، جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكان مع علي بصفين فلما قتل عمار جرد سيفه فقاتل حتى قتل، وكان صفين سنة سبع وثلاثين. الاستيعاب 2/ 448 والإصابة 2/ 278. (2) رواه أحمد 35/ 501 والبخاري 4/ 1720 ح4402 والترمذي 5/ 181 ح3104 والنسائي في السنن الكبرى 7/ 248 من حديث زيد بن ثابت. وانظر في: الفصل للوصل المدرج في النقل للخطيب البغدادي 1/ 417 - 432 فقد ساق طرق هذا الحديث ورواياته، وبيّن الألفاظ المدرجة في بعض طرقه. (3) في ظ: للسورة. (4) في ت، ظ: من.

فإن قال: ففي المصحف أسماء السور، وعدد الآي، والأعشار، والأخماس، وليس شيء من ذلك بقرآن فكذلك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فالجواب: أن هذه الأشياء حادثة أحدثتا في المصحف بعد الصدر الأول من الصحابة، وحين أحدثوها كتبوها بغير القلم واللون اللذين كتب بهما سائر المصاحف، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بخلاف ذلك. وجميع ما في " الإمام " كتبه كُتّاب المصحف في أيام أبي بكر رضي الله عنه بقلم واحد، ولون واحد، وأقرّهم سائر الصحابة على ذلك قاصدين به إلى حفظ التنزيل عن أن يضيع شيء منه، أو يختلط غيره به، فلم يجز أن يحكم بأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليس من جملة التنزيل، كما لا يجوز أن يحكم بمثل ذلك في المعوذتين، والآيتين من آخر التوبة، والآية من الأحزاب، فمن ادعى أن سطرا مما تضمنه " الإمام " ليس بقرآن كان كمن ادعى ذلك في المعوذتين، والآيات الثلاث. فإن قال قائل: أنا لا أصحح خلاف ابن مسعود في المعوذتين. قيل: الأمر في ذلك أشهر من أن يتهيأ لك جحده، ولو جاز لك ذلك -مع شهرة الأمر فيه- لجاز لخصمك أن يقول: وأنا لا أصحح اختلاف السلف في كون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآنا منزلا. فإن قال: إنما أثبتت المعوذتان قرآنا مع الاختلاف الذي وجد؛ للإعجاز القائم فيهما، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليس فيه إعجاز، ولا هو متفق عليه. قيل له: فأثبت سورتي القنوت قرآنا؛ لأن كل واحدة منهما قدر يكون فيه الإعجاز، كما أن كل واحدة من المعوذتين كذلك، وأنت لا يمكنك أن تثبت بدعواك هذه أكثر (1) من ذلك. ثم يقال له: فاحكم بأن قوله (هو) في سورة الحديد في قوله (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) ليس من جملة التنزيل، لحصول الاختلاف، وعدم الإعجاز فيه، بل هذا أولى من وجهين: أحدهما: أن كلمة (هو) غير مكتوبة في مصاحف أهل المدينة والشام، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مكتوبة في جميع المصاحف. والآخر: أن كلمة (هو) أبعد من أن يكون فيها إعجاز من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

_ (1) في ح: أكبر.

فإن قال: المعوذتان لما لم يجز إخراجهما من القرآن باختلاف كذلك لم يجز إثبات غيرهما في القرآن باختلاف. فالجواب: أن هذا يلزم من يروم إثبات شيء في المصحف بعد الصحابة على أنه قرآن، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قد أثبتتها (1) الصحابة كما أثبتت سائر القرآن. ثم يقال: أليس قد اتفقنا أنه لا يجوز إخراج المعوذتين عن أن يكونا قرآنا، مع كونهما مكتوبتين في المصحف، بخلاف من خالف فيهما، فكذلك لا يجوز إخراج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول الفاتحة عن أن تكون قرآنا مع كونها مكتوبة في المصحف، بخلاف من خالف فيها (2). انتهى كلام سليم الرازي. وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة، صاحب الصحيح -وهو أحد الأئمة الجامعين بين الفقه والحديث، لقي أصحاب الإمام الشافعي، وأخد عنهم-: الرجوع فيما يختلف فيه من القرآن إلى ما هو مثبت بين الدفتين، كما أنه قد اختلف في المعوذتين، ولا حجة أثبت عند العلماء أنهما (3) من القرآن من إثبات هاتين السورتين، وكتبهما بين الدفتين باتفاق من جميع من جمع القرآن على عهد الصديق من المهاجرين والأنصار وأمهات المؤمنين، وهم أهل القدوة الذين شاهدوا التنزيل، وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلّم، وحفظوا عنه القرآن يقرأ به في الصلاة، ويعلمهم إياه، وهم الذين حفظوا سنن النبي صلى الله عليه وسلّم، وبلغوا عنه جميع ما بالمسلمين إليه الحاجة من دينهم، فكتبوا المعوذتين بين الدفتين باتفاق من جميعهم، لم ينازعهم في ذلك منازع، ولا خالفهم في ذلك بشر، ولا ترك أحد من المسلمين في شيء من الأقطار إلى يومنا هذا نعلمه كتبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في شيء من أوائل سور القرآن. قال: فهذه الحجة العظمى عند علمائنا على من خالفنا ونازعنا وادعى أنهما ليستا من القرآن، ومخالفونا من العراقيين مقرون (4) أنهما من القرآن.

_ (1) في ظ: اثبتها. (2) نقله أبو شامة في كتاب البسملة ل14 - 17 وسمى رسالة سليم الرازي بالمقنعة، ولا أعرف لها وجوداً في عالم المخطوطات. (3) في ت، ظ: من أ نهما. (4) في د: يقرون.

وابن مسعود - مع جلالته وعلمه وفقهه ومكانه (1) من الإسلام - كان ينكر أن المعوذتين من القرآن، وهم معترفون أنه لم يكتبهما في مصحفه، ولا كان يرى قراءتهما في الصلاة، فحجتنا العظمى على مخالفينا من العراقيين أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من القرآن هذه الحجة، حذو القذة بالقذة. ولم نر في بلدة من بلاد الإسلام التي وطئناها من الحرمين، والحجاز، وتهامة، ومدن العراق، والشام، ومصر، وخراسان، ولا خبرنا أحد عاين، ولا خبر عن غيره أنه رأى مصحفا، ولا جزءا من أجزاء القرآن كتب فيه قديما وحديثا من لدن جمع القرآن بين الدفتين في عهد الصديق رضي الله عنه إلى زماننا أسقط في شيء من أوائل السور كتبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فكيف يجوز لعالم أن يتوهم عليهم أنهم كتبوا في المصاحف بين أضعاف القرآن في مائة وبضعة عشر موضعا ما ليس بقرآن بمثل القلم الذي كتبوا به القرآن، وبمثل ذلك السواد والخط؟. فمن تدبر ما وصفنا، وعلم موضع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دين الله والعلم والفقه في الدين، وشدة خوفهم من خالقهم، وورعهم علم واستيقن أنهم لم يكونوا يستحلون ولا يستجيزون لأنفسهم كتبة ما ليس بقرآن بين أَضعاف القرآن بمثل خط القرآن، بمثل ذلك السواد، ومثل ذلك القلم، ولم يميزوا بين كتبة القرآن، وكتبة ما ليس بقرآن. ثم قال: قال لي بعض من يحتجّ للعراقيين: أثبت قرآن باختلاف؟. فقلت مجيبا له: نعم، قد اختلف العلماء (2) في المعوذتين أهما من القرآن أم لا؟، وأنت مقر أنهما من القرآن مع اختلاف العلماء في ذلك، فلو لم يثبت قرآن باختلاف، بأن كان مسطورا بين الدفتين. لوجب أن تنفي المعوذتين من القرآن، فبهت ولم يحر جوابا. قال: فهذه إحدى الحجج، وهي أعلاها وأقواها وأثبتها أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من كتاب الله في افتتاح كل سورة من القرآن. ويقال لمخالفينا: خبرونا ما الحجة على بعض جهّال المعتزلة إن ادعى مدع

_ (1) في ت، ظ: ومكانته. (2) إن كان يقصد بالعلماء عبد الله بن مسعود وحده فهذا فيه تسامح في العبارة وإلا فلم أقف على قول غير قول ابن مسعود في إنكار أن تكون المعوذتان من القرآن.

منهم أن ما في القرآن مما هو خلاف مذهبهم ليس بقرآن، وقال جاهل منهم مثل مقالة صاحبهم عمرو بن عبيد: إن (تبت يدا أبي لهب) لم تكن في اللوح المحفوظ؟ فهل يمكن إقامة الحجة أنها قرآن بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم؟ وهل الحجة أنه قرآن إلا أنه مكتوب بين الدفتين؟ أرأيت لو قالت الغالية من الرافضة: ما الدليل على أن ما تقرؤون في صلاتكم قرآن، فإن عندنا قرآنا مسنونا نظيره، إذا خرج المهدي ظهر العدل والحق والإنصاف؟ فهل يمكن إقامة دليل فيما ينكر هؤلاء أنه قرآن إلا أن يقال: اتفق الجميع من العلماء أن ما كتب في المصاحف والأجزاء والأسباع بالسواد قرآن؟ فهذه إحدى الحجج. الحجة الثانية: أن أهل الصلاة جميعا لم يختلفوا من الأسلاف والأخلاف أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآن ووحي أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله (إنه من سليمان وإنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [سورة النمل 30] وإذا اتفق الجميع أن ذلك في موضع واحد قرآن ووحي كان ما هو مثل حروفه ونظمه، ولفظه مما هو مكتوب في أوائل السور كلها بمثل كتابته قرآن ووحي مثله، لا فرق، إذا كان قرآنا في موضع فهو قرآن في كل موضع كتب بين الدفتين. ثم قال: وابن مسعود مع إنكاره أن تكون المعوذتان من القرآن لم ينكر أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من القرآن؛ لأن في كراهته التعشير في المصحف، وفي قوله: " جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه " دلالة واضحة على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لو لم تكن عنده في أوائل كل سورة من القرآن لما كتبت في أوائل السور. ولم نسمع أحدا من العلماء، ولا من الجهّال ذكر أن ابن مسعود لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أوائل السور. وقد نظرت في المصحف الذى يذكر أنه مصحف ابن مسعود - وهو خلاف تأليف مصاحف الآفاق - فرأيت في أوائل كل سورة من ذلك المصحف مكتوبا

_ (1) في د، ق: حروف نظمه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كما قد كتب في مصاحفنا، فالعلم محيط عند من سمع قول ابن مسعود: " جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه " أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أوائل كل سورة من القرآن كان عنده من القرآن؛ إذ لو لم يكن عنده من القرآن لما لبس القرآن بغيره، ولجرد القرآن، وجرد أصحابه الذين كانوا يرونه قدوة، لا يرون مخالفته واتباع غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. ومحال أن يكره عالم التعشير في المصحف كراهية أن يكون قد ألحق بالقرآن ما ليس منه، ثم يكتب ما ليس بقرآن في مائة موضع، وأكثر من عشرة مواضع حروفا منظومة. هذا ما لا أظنّه يخفى على عاقل (1). قوله: (والباء متعلقة) الشريف: الأدوات التي تفضي معاني الأفعال إلى ما بعدها فروع لها ومتعلقة بها، وكذلك المعمول من حيث هو معمول فرع على عامله ومتعلق به، فلذلك قال: " متعلقة " وتراهم يقولون: أحوال مُتَعَلِّقاتِ الفعل بكسر اللام. وإذا نظر إلى جانب المعنى قيل: تعلق الفعل بكذا، إما بنفسه أو بواسطة حرف (2). قال: ثم إنه تارة يذكر تعلق الجار وحده، وتارة تعلق المجرور وحده، وتارة مجموع الجار والمجرور؛ وذلك لأن الجار أداة لإفضاء معنى الفعل، والمجرور معمول بواسطة الجار، فكل واحد منهما متعلق به، فكذا المجموع (3). وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي في " شرح القواعد " له: فإن قلت: الجار له تعلق بمعنى الفعل، والمجرور له تعلق به، فما الفرق بينهما؟ قلت: تعلق الجار من جهة الإفضاء، وتعلق المجرور من جهة المعمولية، فمعلوم أن محلّ الإعراب إنما يتصور في الجهة الثانية فقط. قوله: (بمحذوف) قال شيخنا العلامة الكافيجي: هذا المحذوف ثابت لغة، ساقط لفظا وذكرا،

_ (1) نقنله أبو شامة في كتاب البسملة 21 - 24. (2) حاشية الشريف 1/ 26. (3) لم أجده في حاشية الشريف. (4) شرح قواعد الإعراب 33.

وإلا فلا يكون الحذف من الأبحاث المتعلقة باللغة (1). قوله: (تقديره بسم الله أقرأ) تابع فيه " الكشاف (2) "، وقد ظن قوم أن الزمخشري تفرد به، وأنه خالف فيه طائفتي البصريين والكوفيين معا. وليس كما ظنوه، فقد سبقه إلى ذلك إمام المفسرين ابن جرير (3). قال الإمام ناصر الدين ابن المنير في " الانتصاف ": الذي يقدره النحاة - وهو أبتدئ - هو المختار؛ لوجوه: منها: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل تسمية ابتدئ بها فعل من الأفعال، بخلاف فعل القراءة، والعام لعموم صحة تقديره أولى، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا، أو صفة، أو صلة، أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع، ويؤثرونه لعموم صحة تقديره. ومنها: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض المقصود من التسمية، فإن الغرض منها أن تقع مبتدأ، فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت " أقرأ " قدرت " أبدأ بالقراءة " لأن الواقع في أثناء القراءة قراءة أيضاً، والبسملة غير مشروعة فيها. ومنها: ظهور فعل الابتداء في قوله صلى الله عليه وسلّم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله فهو أقطع (4) ". وأما ظهور فعل القراءة في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك) فإنما ظهر ثم؛ لأن الأهمّ هو القراءة، غير منظور فيه إلى ابتدائها، ولهذا قدم الفعل فيها على متعلقه؛ لأنه الأهمّ، ولا كذلك في التسمية، فإن الفعل المقدر كائنا ما كان يقع بعدها، إذ لو قدر قبل الاسم لفات الغرض من قصد الابتداء، فدل على أنه الأهمّ، فوجب تقديره (5).

_ (1) المصدر السابق 34. (2) الكشاف 1/ 26. (3) جامع البيان عن تأويل القرآن 1/ 115. (4) سيأتي تخريجه. (5) الانتصاف 1/ 28.

وأجاب الإمام علم الدين العراقي في " الإنصاف " بأن قال: ما ذكره الزمخشري أصح؛ لأنه أمسّ وأخص بالمقصود، وأتم شمولا؛ فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية، مصاحبة لها، أو أن القراءة كلها بالله تعالى على اختلاف المذهبين الآتي ذكرهما، بخلاف تقدير أبدأ؛ فإنه يقتضي مصاحبتها بأول القراءة دون باقيها، أو أن ابتداء قراءته بالله تعالى غير متعرض إلى تمامها. وأما استشهاده بتقدير النحاة الكون والاستقرار فليس بجيد، فإنهم إنما فعلوه تقريبا وثمثيلا. ولو قلت: زيد على الفرس، أو زيد من العلماء، أو زيد في حاجتك، أو زيد في البصرة، لقدرت: راكب، ومعدود، ومهتم، ومقيم، وكان أمسّ من الاستقرار، فقد استبان لك أن تمثيل النحاة بالكون والاستقرار إنما هو حيث لا يقصدون عاملا بعينه، بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو عامل، كتمثيلهم بزيد وعمرو، لا لخصوصيتهما، بل ليقع الكلام على مثال، فيكون أقرب إلى الفهم، ثم لا يقال: الفاعل إذا أبهم يقدر بزيد وعمرو. وأما ما ذكره ثانيا من أن فعل البداية مستقل بالغرض لا نسلمه، فالقراءة أمسّ وأشمل كما سبق. وقوله: الغرض أن تقع التسمية مبتدأ فنقول بموجبه، وأن ذلك يقع بالبداية بها فعلا، لا بإضمار الابتداء ولا بنيته، فإن ذلك يحصل بالبداية بالتسمية، غير مفتقر إلى شيء، فإن من صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام، أو توضا فبدأ بغسل وجهه لا يحتاج في كونه بادئا بذلك إلى إضمار بدأت، لكنه مفتقر إلى بركة التسمية وشمولها لجميع فعله. وأما ما ذكره ثالثا من ظهور فعل البداية في الحديث فجوابه: أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل، لا بإضمار فعلها، ولم يقل في الحديث: كل أمر ذي بال لم يقل أبدأ، ولم يضمر فيه، بل طلب وقوعها فعلا. فإن قلت: الباء في بسم الله في الحديث متعلق بيبدأ بلا خلاف، وهذا وجه الدليل قلت: لا تغفل عما قررته، فإن الحديث فيه حث على البداية، وأما امتثال ذلك فهو بنفس البداية، لا بلفظها، وأما شمول بركة التسمية فذلك بالله، لا بفعلنا (1). انتهى.

_ (1) الإنصاف ل1.

وقد أورد ذلك الطيبي (1)، ولم يزد عليه، والشريف، وزاد: قال الفاضل اليمني (2) - تقوية للمجيب -: النحويون يقدرون في الظرف المستقر فعلا عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص، وأما إذا وجدت فلا بد من تقديره؛ لأنه أكثر فائدة (3). قال الشريف: وأقول: تحقيقة أن هذا القسم من الظرف إنما سمي مُسْتَقَرًّا؛ لأنه استقر فيه عامله، وفهم منه، فإن لم يفهم منه سوى الأفعال العامة كان المقدر منها، وإن فهم منه معها شيء من خصوص الأفعال كان المقدر بحسب المعنى فعلا خاصا كما في الأمثلة السابقة، وذلك لا يخرجها عن كونها ظرفا مستقرا؛ لأن معنى ذلك الفعل الخاص استقر فيها أيضاً، وجاز تقدير الفعل العام لتوجيه الإعراب فقط. ولما كان تقدير الأفعال العامة ضابطا مطردا اعتبره النحاة، وفسروا المستقرَّ بما عامله محذوف وعام. هذا. وقد يتوهم من قول " الكشاف " فيما بعد: " فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء (4) " أن المقدر هو أبتدئ، فكأنه جوز كل واحد من التقديرين. انتهى (5). وهذا الكلام الأخير سبقه إليه الشيخ سعد الدين فإنه قال: فإن قيل: ينبغي أن يقدر بسم الله أبتدئ، لأن المفهوم من الحديث وجوب الابتداء بها، ولأن الابتداء لعمومه أولى بالتقدير، كما يقدر في الظرف المستقر الحصول والكون. قلنا: آثر ذلك لما فيه من الدلالة على تلبس الفعل كله بسم الله، بخلاف تقدير أبتدئ، ولأن المذكور عند عدم الحذف هو القراءة، دون الابتداء بها، كما في قوله

_ (1) فتوح الغيب 1/ 73. (2) هو يحيى بن القاسم بن عمر عز الدين الصنعاني، برع في علوم كثيرة، وأكثر الاشتغال بالكشاف، له درر الأصداف في حل عقد الكشاف، وتحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 2/ 857 وكشف الظنون 2/ 1480. (3) تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف ل6 نسخة مصورة بمركز البحوث العلمية برقم 961 التفسير. (4) الكشاف 1/ 29. (5) حاشية الشريف 1/ 28.

تعالى (اقرأ باسم ربك) والنحويون إنما يقدرون متعلق الظرف المستقر عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص. هذا. ولكن قوله بعد ذلك: فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص الله بالابتداء " يشعر بأن المقدر أبتدئ، فكأنَّه أشار في الموضعين إلى استواء الأمرين (1). وقال الشريف بعد ذلك: فإن قلت: قوله: اختصاص اسم الله بالابتداء " يدل على أن المقدر أبتدئ (2). قلت: أراد بالابتداء الفعل الذي يبتدئ به ويشرع فيه كالقراءة ونحوها، لا مفهومه الحقيقي، ولذلك قال عقبه: وتأخير الفعل، ولم يقل: وتأخير الابتداء. وقال شيخنا العلامة الكافيجي: ما ذهب إليه صاحب " الكشاف " هاهنا هو المختار، فإن فيه قلة الحذف، ورعاية حق خصوصية المقام، ودلالة على اختصاص القراءة ببسم الله، وتعليما للمؤمنين بأن طريقهم هو الحق والصواب، وتعريضا للكفار بأن سبيلهم هو الخطأ والطغيان، فمعلوم أن هذه الاعتبارات تناسب نظم القرآن، وتشهد بفصاحته، وغاية إعجازه. وأما ما ذهب إليه البصريون والكوفيون فهو خال عما ذكر، بل غاية جل أمره بيان المتعلق من غير رعاية المقام، وأنت خبير بأن التقدير مهما كان أوجز كان أولى، لا سيما مع تلك الدقائق اللطيفة. فإن قلت: تقدير أبتدئ يلائم مفتتح الكتاب (3)، ويناسب منطوق الحديث. قلت: نعم، لكن رعاية مقتضى المقام أمر راجح، وشاهد يكشف أسرار بلاغة نظم القرآن (4) (5)؟. وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في " الكشاف ": وأما كون الفعل مضارعا فقدره الطبري (6)، ويعزى إلى الزجاج (7)،. . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (1) حاشية سعد الدين ل8. (2) حاشية الشريف 1/ 29. (3) كذا في النسخ، وفي شرح قواعد الإعراب: الكلام. (4) في ظ: النظم القرآني. (5) شرح قواعد الإعراب 34. (6) جامع البيان 1/ 115. (7) لكن الذي في معاني القرآن وإعرابه 1/ 39 تقدير المتعلق فعلا ماضيا حيث قال: الجالب للباء=

وخالف فيه قوم منهم الفراء (1) وقالوا: المقدر فعل أمر؛ لأن الله تعالى قدم التسمية حثا للعباد على فعل ذلك في القراءة وغيرها، فيكون التقدير ابتدئوا واقرأوا. واحتج الطبري للأول بأثر عن ابن عباس فقال: مفهوم أنه أريد بذلك أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكذلك قوله: بسم الله عند نهوضه للقيام، أو عند قعوده وسائر أفعاله تنبئ عن معنى مراده بقوله: بسم الله، وأنه أراد أقوم بسم الله، وأقعد بسم الله، وكذلك سائر الأفعال. وهذا الذي قلناه في تأويل ذلك هو معنى قول ابن عباس الذي: حدثنا به أبو كريب (2) قال: حدثنا عثمان بن سعيد (3)، حدثنا بشر بن عمارة (4)، حدثنا أبو روق (5)، عن الضحاك (6)، عن ابن عباس قال: " إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يقول: اقرأ بذكر الله، وقم واقعد بذكر الله " (7) وما ذكره الطبري والفراء (8) أرجح. وقد استأنس بعضهم لتقديره فعلا خاصا ماضيا مؤخرا بقوله صلى الله عليه وسلّم " باسمك ربي وضعت جنبي " (9) انتهى.

_ =معنى الابتداء، كأنك قلت: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم، إلا أنه لم يحتج لذكر بدأت، لأن الحال تنبئ أنك مبتدئ. (1) لم يتعرض لمتعلق الباء في كتابه معاني القرآن، فلعله ذكره في غيره من كتبه. (2) هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب الهمداني، روى عن عثمان بن سعيد الزيات، روى عنه أبو جعفر الطبري. ثقة. تهذيب الكمال 26/ 243 وسير أعلام النبلاء 14/ 267. (3) هو عثمان بن سعيد بن عمار الكوفي الزيات، روى عن بشر بن عمارة، روى عنه أبو كريب محمد بن العلاء، لا بأس به. تهذيب الكمال 19/ 379 وتهذيب التهذيب 7/ 119. (4) هو بشر بن عمارة الخثعمي، روى عن أبي روق عطية بن الحارث، روى عنه عثمان بن سعيد الزيات، ضعيف. تهذيب الكمال 4/ 137 وتهذيب التهذيب 1/ 455. (5) هو عطية بن الحاث أبو روق الهمداني، روى عن الضحاك بن مزاحم، روى عنه بشر بن عمارة ليس به بأس، تهذيب الكمال 20/ 144. (6) هو الضحاك بن مزاحم أبو القاسم الهلالي، روي عن عبد الله بن عباس، وروى عنه أبو روق، ثقة مأمون. تهذيب الكمال 13/ 291 وتهذيب التهذيب 4/ 453. (7) رواه الطبري في جامع البيان 1/ 115 وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 1/ 146. (8) جامع البيان 1/ 115 ومعاني القرآن 1/ 2. (9) رواه أحمد 15/ 282 والبخاري في 5/ 2329 ح5961 ومسلم في 4/ 2084 ح2714 وأبو داود في 5/ 372 ح5011 والترمذي في 5/ 406 ح3401 والنسائي في السنن الكبرى 9/ 291 ح1055 وابن ماجة في 4/ 31 ح3943 من حديث أبي هريرة.

قلت: يشير بذلك إلى عبارة الشيخ جمال الدين ابن هشام، فإنه قال في " المغني ": تنبيه: عبارة " الكشاف ": تقديره باسم الله أقرأ، أو أتلو " (1). قال الشريف: وهو تنبيه على أن المعتبر خصوص المعنى، لا اللفظ (2). انتهى. وقد أسقط المصنف قوله: " أو أتلو " ففاتته هذه الفائدة. قوله: (لأن الذي يتلوه مقروء) قال الطيبي: هذا تعليل لتعيين المقدر؛ لأن حروف الجر وإن لم تنفك عن متعلق لأن وضعها لإفضاء معاني الأفعال إلى الأسماء، غير أنها تدل على مطلق الفعل، ولابد في تخصيصه من قرينة، وفيما نحن فيه القرينة ما يتبع التسمية، وهو قوله (الحمد لله) وهو مقروء ومتلوّ، فدلّ ذلك على أن المضمر أقرأ، أو أتلو. وقال: وكان الأنسب أن يقال: الذي يتلو التسمية القراءة؛ لأن الابتداء بالتسمية إنما يكون في الفعل الذي يريد أن يفعله المسمِّي، يدل عليه قوله: " كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له " والمضمر الفعل لا المفعول، كما أن تسمية الذابح إنما يتلوها الذبح لا المذبوح (3). قال الشيخ أكمل الدين، والجواب أن القراءة علة المقروء، ولا يحصل إلا بها، وهما في الوجود الخارجي معا، فيجوز أن يقال: إن كل واحد منهما يتلو التسمية، إذ المقصود - وهو بيان القرينة الخاصة - حاصل بذلك (4). وبسطه الشريف فقال: أجيب بأن المقصود من تلو المقروء تلو القراءة؛ لاستلزامه إياه، وإنما ترك ذكره ودلّ عليه رعاية للمجانسة بين التالي والمتلو إذا أمكنت. وبيانه أن المراد بالتسمية من هذه العبارة المخصوصة التي عدت آية، لا

_ (1) ليست عبارة ابن هشام في المغني هكذا، بل هكذا: يقدر (الزمخشري) الفعل مؤخراً ومناسباً لما جعلت التسمية مبتدأ له، فيقدر باسم الله أقرأ، باسم الله أحل، باسم الله أرتحل. المغني 496. (2) حاشية الشريف 1/ 26. (3) فتوح الغيب 1/ 71. (4) حاشية أكمل الدين ل8.

المعنى المصدري، ويتلوها هاهنا شيآن: أحدهما: من جنسها، ويتلو ذكره ذكرها، وهو المقروء، أعني (الحمد لله) مثلا. والثاني: من غير جنسها ويتلو وجوده ذكرها، وهو القراءة، وتلو كل واحد منهما يستلزم تلو الآخر، فصرّح بتلو الأول ليفهم الثاني مع المحافظة على التجانس. وإنما قلنا: " هاهنا " لأن تسمية الذابح مثلا لا يتلوها إلا الذبح، فإنه يتبع وجودُهُ ذكرَهَا، وأما المذبوح فلا يتبع ذِكْرها، لا في الوجود، ولا في الذكر، فلا يستقيم أن يقال: الذي يتلو التسمية مذبوح (1). ولخص الشيخ سعد الدين العبارة فقال: يعني أن حرف الجر يدلّ على أن له متعلقا، وليس بمذكور، فيكون محذوفا، وقرينة تعيين المحذوف في بسم الله هو ما يتلوه ويتحقق بعده، وهو هاهنا القرآن؛ لأن الذي يتلوه في الذكر مقروء مثل (الحمد لله)، فيكون الفعل هو القراءة، فلما كان للمتلو هاهنا تال من جنسه حسنت هذه العبارة، بخلاف ما إذا قيل في تسمية الذابح: إن الذي يتلو التسمية مذبوح، فإنه لا يستقيم؛ لأن التسمية لا تالي لها هاهنا إلا في الوجود، وهو الذبح، وفيما نحن فيه لها تال في الذكر، وهو المقروء، وفي الوجود وهو القراءة (2). قوله: (وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له) قال الشيخ أكمل الدين: قيل: وفي هذا الكلام تسامح؛ لأن ما جعل التسمية مبدأ له هو فعله، ولا يضمره، بل يضمر ما اشتق منه. قال: ويمكن أن يجاب عنه بذلك الجواب بعينه (3) يعني الذي تقدم من قول الطيبي: إن الذي يتلو التسمية القراءة، لا المقروء. وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن المضمر هو الفعل النحوي، والتسمية إنما جعلت مبدأ للفعل الحسي، ففي الكلام حذف مضاف، أي لفظ ما جُعِل. وتابعه الشريف (4).

_ (1) حاشية الشريف 1/ 27. (2) حاشية سعد الدين ل8. (3) حاشية سعد الدين ل8. (4) حاشية سعد الدين ل8 وحاشية الشريف 1/ 27.

قوله: (أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه) أي لأنه يحوج إلى تقدير كائن، أو ثابت، أو نحوه. والبصريون قالوا: إن إضمار ابتدائي أولى، على أنه من باب حذف المبتدإ، والمتعلِّق به الجار، وهو كائن أو نحوه، ورجحوه بأن فيه بقاء أحد ركني الإسناد، وبأن الأسماء أصل، وغيرها فرع، والأصل أحق بالتقدير، وبأن المحذوف يكون مفردا، بخلاف تقدير الفعل فإنه يكون المحذوف جملة، وقلة الحذف أولى، وبأن الاسم المقدر إما مضاف، وإما معرّف بلام التعريف فيفيد العموم، بخلاف تقدير الفعل. وما يقع في عبارات المعربين من أن البصريين يقولون: التقدير: ابتدائي بسم الله تعقب ظاهره؛ فإنه يوهم أن ابتدائي متعلق الجار، وليس كذلك، إذ يلزم أن يحتاج بعده إلى خبر، وهو ثابت أو موجود، وانما البصريون يقولون: إن الجار في مثل هذا متعلق بكائن، أو مستقر، والمبتدأ محذوف، وهو ابتدائي، على ما تقدمت الإشارة إليه. قوله: (وتقديم المعمول هاهنا أو قع) قال البلقيني: وأما كون الفعل متأخرا فهو خلاف ما عليه الأكثرون من تقديره متقدما. وقد استأنس بعضهم لتقديره فعلا ماضيا مؤخرا بقوله صلى الله عليه وسلّم: " باسمك ربي وضعت جنبي " وأما كون المتعلُّق به مقدما على الرحمن الرحيم فقضية البداية بالاسم وإفادة الاختصاص التي ادعاها أن يكون المقدر مؤخرا عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بكمالها، لئلا يقع الفصل بين الموصوف والصفة بما لم يتعين تقديره في هذا الموضع. قال: ولم أر من تعرض لها. وقال ابن المنير: لو قدرنا العامل متقدما لفات الغرض من كون التسمية مبدأ (1). وقال الشريف: هذا لا يختص بتسمية القارئ، بل يتناول تسمية المسافر

_ (1) الإنصاف 1/ 27.

والذابح، وكل فاعل جعل التسمية مبدأ لفعله، فإنه يجعل فيه المقدر مؤخرا (1) (2). قوله: (كما في (بسم الله مجراها ومرساها) [سورة هود 42] قال الشيخ أكمل الدين: هذا على تقدير أن يكون (باسم الله مجراها ومرساها) - أي إرجاؤها وإرساؤها - جملة مقتضية من مبتدإ وخبر، وأما إذا كان معمول (اركبوا) فليس مما نحن فيه (3). وتابعه الشيخ سعد الدين والشريف (4). قوله: (لأنه أهم) قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى ما ذكره الشيخ عبد القاهر من أنا لم نجدهم اعتمدوا في التقديم شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام إلا أنه لا يكفي أن يقال: قدم للاهتمام، بل ينبغي أن تبيّن أنه لم كان أعنى به، ولم كان أهمّ، ثم إن بعض وجوه الاهتمام الاختصاص (5). قوله: (وأدل على الاختصاص) الفرق بين الاهتمام والاختصاص أن الثاني يستدعي الرد على مدعي الشركة، بخلاف الأول فإنه للتبرك، لا للرد. وقال الشيخ سعد الدين: معنى اختصاص اسم الله بالابتداء جعله من بين الأسامي منفردا بذلك. قال: والظاهر أنه قصر إفراد (6)؛ لأن ابتداء المشركين باسم اللات والعزى كان لمجرد الاهتمام، دون الاختصاص، فعلى الموحد قطع شركة الأصنام (7). وقال البلقيني " أما كون الابتداء بالمتعلِّق أهمَّ فالمتعلق إنما هو الجار،

_ (1) في ح، ق: متأخرا. (2) حاشية الشريف 1/ 29. (3) حاشية أكمل الدين ل8. (4) حاشية سعد الدين ل9 وحاشية الشريف 1/ 30. (5) كتاب دلائل الإعجاز 108 وحاشية سعد الدين ل8. (6) هو التخصيص بشيء دون شيء، ويخاطب به من يعتقد شركة صفتين في موصوف واحد، وشركة موصوفين في صفة واحدة، فالمخاطب بقولنا: ما زيد إلا كاتب من يعتقد اتصافهة بالشعر والكتابة، ويسمى هذا قصر إفراد؛ لقطع الشركة التي اعتقدها المخاطب. (7) حاشية سعد الدين ل8.

والاسم إنما هو ذكر المجرور، وأما إفادة الاختصاص في ذلك فممنوع، ولا يقوم على إفادة الاختصاص دليل من جهة اللفظ، ولكن حال الموحد يقتضي ذلك ولو كان المتعلَّقُ به مقدما. وقال الشريف: دلالة التقديم على الاختصاص بالفحوى وحكم الذوق (1). وقال الشيخ أكمل الدين: اعلم أن صاحب " الكشاف " أشار إلى أن تقديم بسم الله للاهتمام، ثم أعقبه بذكر الاختصاص، والشارحون بنوا كلامهم على أن المراد بالاختصاص هو التخصيص، فتكلموا في كونه قصر إفراد، أو قصر قلب (2). ولاشك أن كلا من الاهتمام والاختصاص ينفك عن معنى التخصيص، فإن علماء المعاني يقولون: إن الحالة التي تقتضي تأخير المسند ما إذا كان ذكر المسند إليه أهم، كقولك: زيد في الدار، وليس فيه فائدة التخصيص. واتفقوا على أن قولهم: الجل للفرس يفيد الاختصاص، ولا تخصيص فيه؛ لأنه ليس على الطرق المذكورة للقصر، ولانتفاء شرطه، وهو ردّ الخطإ إلى الصواب. فإما أن يكون قد اصطلح على أن الاختصاص بمعنى الاهتمام، ولا نزاع في جوازه فيكون كلام الشارحين في القصر في غير محله، وفيما ليس مرادا، وإما أن يكون قد اصطلح على أن الاختصاص بمعنى التخصيم، والاهتمام مراد فيهما، وهو ملبس وقصور في حفظ الأوضاع، لا لنكتة (3). قوله: (كيف وقد جعل آلة لها) إشارة إلى أن الباء للاستعانة. قال في " الكشاف ": " لما اعتقد المؤمن أن فعله لا يجيء معتدا به في الشرع، واقعا على السنة حتى يصدر بذكر الله، وإلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم الله، كما يفعل الكاتب بالقلم ". قوله: (لقوله صلى الله عليه وسلّم " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله فهو

_ (1) حاشية الشريف 1/ 30. (2) هو التخصيص بشيء مكان شيء، ويخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي أثبته المتكلم، فالمخاطب بقولنا: ما زيد إلا قائم من يعتقد اتصافه بالقعود دون القيام، وبقولنا: ما شاعر إلا زيد من يعتقد أن الشاعر عمرو لا زيد، ويسمى هذا قصر قلب؛ لقلبه ما عند المتكلم. شرح عقود الجمان 43 ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها 2/ 450. (3) حاشية أكمل الدين ل8.

أبتر " أخرجه الحافظ عبد القادر بن عبد الله الرُّهاوِي (1) في كتاب " الأربعين " له قال: أخبرنا محمد بن حمزة بن محمد القرشي (2) قال: أخبرنا هبة الله بن أحمد بن محمد الأكفاني (3) قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ (4)، أخبرنا محمد بن علي بن مخلد الوراق (5)، ومحمد بن عبد العزيز بن جعفر البرذعي (6) قالا: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران (7)، حدثنا محمد بن صالح البصري (8)، حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك (9)، أخبرنا يعقوب بن كعب الأنطاكي (10)، حدثنا مبشر بن

_ (1) هو عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الرهاوي الحنبلي، كان عالما مأمونا صالحا، عمل "أربعي البلدان" المتباينة الأسانيد ولو أحقها ومتعلقاتها، فجاءت في مجلدين، دلت على حفظه ونبله، وله فيه أوهام، توفي سنة اثنتي عشرة وستمائة. سير أعلام النبلاء 22/ 71 وذيل طبقات الحنابلة 2/ 82. (2) هو محمد بن حمزة بن محمد أبو عبد الله، يعرف بابن أبي الصقر، سمع من هبة الله بن الأكفاني، وروى عنه عبد القادر الرهاوي، محدث ثقة مفيد، توفي سنة ثمانين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 21/ 109 والعبر 4/ 239. (3) هبة الله بن أحمد بن محمد أبو محمد، المعروف بابن الأكفاني، سمع من أبي بكر الخطيب، كان ثقة ثبتا متيقظا، توفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 19/ 576 وتذكرة الحفاظ 4/ 1275. (4) سبقت ترجمته. (5) لم أعرف عنه سوى أنه شيخ الخطيب البغدادي، وأنه روى عنه عشرات المرات في كتبه، منها تاريخ بغداد 1/ 296، 317، 333، 342 ومنها الجامع لأخلاق الراوي 1/ 261، 264، 265. (6) هو محمد بن عبد العزيز بن جعفر أبو الحسن البرذعي، المعوف بمكي، قال الخطيب: كتبت عنه، توفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. تاريخ بغداد 2/ 353 والأنساب 2/ 144. (7) هو أحمد بن محمد بن عمران أبو الحسن النهشلي البغدادي، وى عنه محمد بن عبد العزيز البرذعي، ومحمد بن علي بن مخلد الوراق، ليس بشيء، توفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة. تاريخ بغداد 5/ 77 وسير أعلام النبلاء 16/ 555. (8) لم أعرف عنه سوى أنه ذكره الحافظ ابن حجر في نزهة الألباب في الألقاب تحت لقب فروجه 2/ 69. (9) هو عبيد بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزار، روى عن يعقوب بن كعب الأنطاكي، صدوق، توفي سنة ثمان وثمانين. تاريخ بغداد 11/ 99 وسير أعلام النبلاء 13/ 385. (10) هو يعقوب بن كعب بن حامد أبو يوسف الأنطاكي، روى عنه عبيد بن عبد الواحد، وروى عن مبشر بن إسماعيل، ثقة، رجل صالح، صاحب سنة. تهذيب الكمال 32/ 358 وسير أعلام النبلاء 11/ 524.

إسماعيل (1)، عن الأوزاعي (2)، عن الزهري (3)، عن أبي سلمة (4)، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أقطع " إسناده حسن. وقد أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو القاسم البغوي (5)، وأبو سعيد ابن الأعرابي (6) من طرق عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن بن حَيْوِيل (7) عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ولفظ ابن ماجه: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع " ولفظ ابن الأعرابي " بالحمد لله أقطع " ولفظ البغوي ((بحمد الله))

_ (1) هو مبشر بن إسماعيل أبو إسماعيل الحلبي، روى عن الأوزاعي، روى عنه يعقوب بن كعب، كان ثقة مأمونا، توفي سنة مائتين. تهذيب الكمال 27/ 190 وسير أعلام النبلاء 9/ 301. (2) هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه، روى عن الزهري وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل، روى عنه مبشر بن إسماعيل، توفي سنة سبع وخمسين ومائة. تهذيب الكمال 17/ 307 وسير أعلام النبلاء 7/ 107. (3) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله أبو بكر القرشي الزهري المدني، كان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، وروي عن أبي سلمة، روى عنه الأوزاعي، توفي سنة أربع وعشرين ومائة. تهذيب الكمال 26/ 419 وسير أعلام النبلاء 5/ 326. (4) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني، كان ثقة فقيها كثير الحديث، روى عن أبي هريرة، توفي سنة أربع وتسعين. تهذيب الكمال 33/ 370 وسير أعلام النبلاء 4/ 287. (5) هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي، ثقة إمام من الأئمة، حدث عنه مسلم وأبو داود وغيرهما، توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهراً واحداً. سير أعلام النبلاء 14/ 440 وميزان الاعتدال 2/ 492. (6) هو أحمد بن محمد بن زياد أبو سعيد ابن الأعرابي البصري، نزيل مكة وشيخ الحرم، كان كبير الشأن بعيد الصيت عالي الإسناد، خرج معجما كبير، وحمل السنن عن أبي داود، توفي سنة أربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 407 ولسان الميزان 1/ 308. (7) هو قرة بن عبد الرحمن بن حيويل أبو محمد المعافري المصري، لا بأس به، روى عن الزهري، روى عنه الأوزاعي، توفي سنة سبع وأربعين ومائة. تهذيب الكمال 23/ 581 وميزان الاعتدال 3/ 388.

ولفظ أبي داود والنسائي " كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم " (1).

_ (1) رواه أحمد 14/ 329 من طريق ابن المبارك، وأبو داود 5/ 289 ح4807 والنسائي في السنن الكبرى 9/ 184 والدارقطني 1/ 229 من طريق الوليد بن مسلم وابن ماجة 2/ 324 ح1924 وابن الأعرابي في كتاب المعجم 1/ 206 والبيهقي في شعب الإيمان 4/ 90 وكتاب الدعوات الكبير 1/ 3 وأبو سعد السمعاني في كتاب أدب الإملاء والاستملاء 1/ 283 والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 70 وفي كتاب الفقيه والمتفقه 2/ 253 من طريق عبيد الله بن موسى، وابن حبان (الإحسان 1/ 173، 174) من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين، وشعيب بن إسحاق، وأبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/ 448 من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين والدارقطني في السنن 1/ 229 من طريق موسى بن أعين، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 208 من طريق أبي المغيرة كلهم (ابن المبارك، والوليد، وعبيد الله، وعبد الحميد، وشعيب، وموسى، وأبو المغيرة) عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الدارقطني: تفد به قرة عن الزهري، عن أبي سلمة، وأرسله غيره عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرة ليس بقوي في الحديث. وقال الخليلي: هذا حديث لم يروه عن الزهري إلا قرة، وهذا ليس عند عقيل، ولا غيره من المكثرين من أصحاب الزهري، ورواه شيخ ضعيف، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، وهو إسماعيل بن أبي زياد الشامي صاحب التفسير. ثم ساق بسنده إلى إسماعيل، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ثم قال: وحديث الأوزاعي عن قرة مشهور، رواه الكبار عن الأوزاعي: الوليد بن مسلم، وأبو المغيرة، وعبيد الله بن موسى، وابن المبارك عن الأوزاعي، والمعول عليه، ولا يعتمد على رواية إسماعيل عن يونس. كتاب الإرشاد 1/ 448، 449. ورواه أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد 3/ 966 من طريق خارجة بن مصعب والخطيب في الجامع 2/ 69 ومن طريقه السمعاني في كتاب أدب الإملاء والاستملاء 1/ 283 والرهاوي في أربعينه ولم أقف عليه سوى أجزاء منه في المكتبة الظاهرية ليس فيها الحديث ومن طريق الرهاوي ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 1/ 12 من طريق مبشر بن إسماعيل كلاهما عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الخليلي: هذا لم يسمعه الأوزاعي عن الزهري، وإنما سمعه من قرة بن عبد الرحمن، هكذا رواه عن الأوزاعي: ابن المبارك، وأبو المغيرة، وابن أبي العشرين، وعبيد الله بن موسى. ورواه الطبراني في المعجم الكبير 19/ 72 من طريق صدقة بن عبد الله، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني في السنن: ولا يصح الحديث، وصدقة ضعيف. وواه النسائي في السنن الكبرى 9/ 184، 185 من طريق سعيد بن عبد العزيز، وعقيل،=

والبال الحال والشأن، وأمر ذو بال، أي شريف يحتفل به ويهتم، والبال في غير هذا القلب، وقيل: إنما قال: " ذو بال " لأنه من حيث أنه يشغل القلب كأنه مَلَكَهُ، وكان صاحب بال. قال الشريف: وشبه بذي قلب على الاستعارة المكنية. قال: وفي هذا الوصف فائدتان: إحداهما رعاية تعظيبم اسم الله بأن يبتدأ به في الأمور المعتد بها. والأخرى: التيسير على الناس في محقرات الأمور (1). قال الشيخ سعد الدين: وليس معنى يبدأ فيه " بسم (2) الله " أنه يجب أن يكون ابتداء الأمر اسما من أسماء الله، بل أن يذكر اسم الله تعالى. قال: وبهذا يندفع ما خطر ببعض الأذهان أن الابتداء بالتسمية ليس ابتداء بسم الله؛ لأن اسمه هو لفظ " الله " لا لفظ " اسم (3) ". وقال الشريف: تصدير الفعل " بسم الله " لا يكون إلا بذكر اسمه ويقع على وجهين: أحدهما: أن يذكر اسم خاص من أسمائه كلفظ " الله " مثلا. والثاني: أن يذكر لفظ دالّ على اسمه كما في التسمية فإن لفظ " اسم " مضافا إلى " الله " يراد به اسمه، فقد ذكر هاهنا أيضاً اسمه، لكن لا بخصوصه، بل بلفظ دال عليه مطلقا، فيستفاد أن التبرك أو الاستعانة بجميع أسمائه، وأن الباء والاسم وسيلة إلى ذكره على وجه يؤذن بجعله مبدأ للفعل، فهي من تتمة ذكره على الوجه المطلوب، فاندفع ما يتوهم من أن الابتداء بالتسمية ليس ابتداء بسم الله؛ لأن الباء

_ =والحسن بن عمر عن الزهري مرسلاً. قال أبو داود 5/ 289 رواه يونس، وعقيل، وشعيب، وسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. قال الداقطني في العلل 8/ 30 والصحيح عن الزهري المرسل، وقال في السنن: والمرسل هو الصواب. (1) حاشية الشريف 1/ 32. (2) في ح: ببسم. (3) حاشية سعد الدين ل9.

ولفظ " اسم " ليس شيء منهما اسما لله (1). وقال شيخنا العلاّمة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت إن حديث الابتداء بالتسمية يعارض حديث الابتداء بالحمد (2)، فإن الابتداء بأحدهما يفوّت الابتداء بالآخر. قلت: يحمل حديث التسمية على ابتداء الكلام بحيث لا يسبقه أمر من الأمور، ويحمل حديث الحمد على ابتداء ما عدا التسمية. فإن قلت: أرى كثيرا من الأمور يبتدأ فيها بسم الله مع أنه لا يتم، وأرى كثيرا بالعكس. قلت: المراد من الحديث أن لا يكون معتبرا في الشرع، ألا ترى أن الأمر الذي ابتدئ فيه بغير اسم الله غير معتبر شرعا وإن كان تاما حسا (3). قوله: (وقيل: الباء للمصاحبة، والمعنى متبركا باسم الله أقرأ) قال الطيبي: في هذا التعلُّق بحث؛ لأن " أقرأ " حينئذٍ ليس بعامل في الجار والمجرور، فهو إما أن يحمل على اللغوي، فإن للحال تعلقا بعاملها فسلك به طريق المشاكلة، أو على الإفضاء كما نص عليه في قوله تعالى (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا (4)) [سورة يونس 27]. ونحوه قول ابن عقيل: لما كان المذكور معمولا لفعل القراءة صح أن يجعل مُتَعَلَّقاً به مجازا. وقال الشيح أكمل الدين: قوله: " على معنى متبركا باسم الله " يدلّ على أن الباء متعلّق بمحذوف، وهو " متبركا "، فإن متبركا ليس معنى المصاحبة، فليس مما نحن فيه (5). وقال الشيخ سعد الدين: يعني أن التقدير ملتبسا بسم الله، ليكون المقدر من الأفعال العامة، لكن المعنى بحسب القرينة على هذا، فلهذا يجعل الظرف مستقرا،

_ (1) حاشية الشريف 1/ 31. (2) هما حديث واحد، يروى تارة بلفظ البسملة، وتارة بلفظ الحمدلة، وسبق تخريجه. (3) شرح قواعد الإعراب 35. (4) الكشاف 1/ 32 وفتوح الغيب 1/ 77. (5) حاشية أكمل الدين ل8.

لا لغوا (1). وقال البلقيني: قوله: " على معنى متبركا باسم الله ". شاححه فيه صاحب الحاشية من جهة دلالته على أن الباء تتعلق بمحذوف وهو " متبركا " فإن التبرك ليس معنى الباء، وحينئذ لا تكون الباء للملابسة. والأولى أن تقول: ملتبسا (2) بسم الله، أي مع اسم الله. قال البلقيني: ويقال - على ما في الحاشية - قد جمعت بين الحرف والحرف، وليس هذا بالأولى، بل الأولى أن يقال: على اسم الله أقرأ (4). تنبيه: ظاهر صنيع المصنف اختيار الوجه الأوّل حيث جزم به، وحكى الثاني بقيل. والذي في " الكشاف " ترجيح الوجه الثاني، فإنه قال بعد ذكره: " وهذا أعرب وأحسن ". قال الطيبي: قوله: " أعرب " أي أفصح، من قولهم: كلام عربي، أي فصيح، وقيل: أبين، قيل: إنما كان أعرب وأحسن؛ لأن باء المصاحبة تقتضي الاستدامة في قصد المتكلّم، فمعناه كل حرف مما أتكلّم به بعد التسمية أقدر فيه بسم الله، ففيه تعميم الفعل مع التسمية، كما في قوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون 25] أي تنبت ثمارها وفيها الدهن، ويناسبه ما روي في الحديث: " تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم سمى أو لم يسم (5) " وقيل: إنّما كان أحسن؛ لأن التبرك مؤذن برعاية حسن الأدب، واسم الآلة بخلافه، وفيه نظر؛ لأن القارئ في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إنما يطلب من الله المعونة والتوفيق على عبادته في جميع أفعاله، ولا يلزم من كون الله معينا ما تصوّر في القلم، كأنه يقول: أقرأ باستظهاره ومكانتة عند مسماه، وفي الحقيقة الله المعين في كل حرف.

_ (1) حاشية سعد الدين ل9. (2) في ظ: متلبسا. (3) في د: ويقال إن الحاشية. (4) في ح، ظ: على معنى مع اسم الله، وفي ت: على معنى مع بسم الله. (5) لم أقف على تخريجه.

وقال صاحب التقريب: إنما كان أحسن لتقدير الموجود حسا في الأول كالمعدوم. لعلّ مراده منه قوله: " كان فعلا كلا فعل " وفيه نظر؛ لأن جعل الموجود كالمعدوم بسبب الجري، لا على المقتضى من محسنات الكلام ولطيف إشاراته (1). ومما يختص بهذا الموضع من النكتة هي أن شبه اسم الله تعالى - بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها - بالأمر المحسوس، وهو حصول الكتب بالقلم، وعدم حصوله بعدمه، ثم أخرج مخرج الاستعارة على سبيل التبعية لوقوعها في الحرف. وقيل: المراد أن بسم الله موجود في القراءة، فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم، فلا يكون مقروءا والحال أنه مقروء. فيقال: إنا بينا ضعف التشبيه بالقلم، وقيل: إنما كان أعرب؛ لأن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى، وهذا أقرب. وبيانه أن الحال لبيان هيئة الفاعل هنا، وقد ثبت بالدليل أن لابد لكل فعل يتقرّب به إلى الله تعالى من إعانة الله وتسديده، فدلّ تقدير الحال على أمر زائد، فيكون أبين. وينكشف هذا المعنى كشفا تاما في قولك: تنبت هذه الشجرة بالماء، إذا أردت بالباء الصلة، كأن المعنى تنبت بواسطة الماء، وإذا أردت الحال رجع إلى أنها تنبت وهي ملتبسة بالماء، فأفاد أنها طرية رَيَّا. والتحقيق أن يقال - على تقدير الحال -: أقرأ وأنا متبرك باسم الله، ومتوسل بمكانته عند الله؛ لاستزادة التوفيق على إتمام ما شرعت فيه، وقبول ما تقربت به إليه، هذا كله يعطيه معنى التبرك المقدر لإرادة الحال. وقال: البركة كثرة الخير وزيادته. ولما كان مآل ذلك الوجه في الحقيقة إلى هذا، وكان هذا أبين منه قال: أعرب وأحسن (2). انتهى. وقال الشيخ أكمل الدين: قوله: " أعرب " قيل: أفصح، وقيل: أبين، وقيل:

_ (1) في ظ: اشارته. وانظر في: التقريب في التفسير ل2. (2) فتوح الغيب 1/ 79.

أدخل في لغة العرب، وذُكِرَ لذلك أوجه: قيل: لأن باء المصاحبة أكثر استعمالا من باء الاستعانة، وهذا يقتضي الاستقراء لأكثر كلامهم. وقيل: لأن الاستعانة تستدعي جعل اسم الله المقصود بالتقديم آلة غير المقصود، وقيل: لأن المصاحبة فعية، وفيها مصاحبة اسم الله من أول الفعل إلى آخره، بخلاف الاستعانة. وقيل: لأن الاستعانة تقتضي جعل الموجود حسا كالمعدوم، وفيه تعسف. قال الطيبي: على هذا الوجه يكون مجازا، وهو أبلغ (1). وقوله: " أحسن "، قيل: لأن فيه " متبركا "، وفيه رعاية الأدب، وفيه نظر؛ لأن تقديره ضعيف، ولعلّ كلما يصح أن يذكر في وجه الأعربية يصح أن يذكر في الأحسنية. وقال الشيخ سعد الدين: قوله: " أعرب "، أي أفصح وأبين وأدخل في العربية " وأحسن " أي أوفق لمقتضى الحال؛ لأن استعمال الباء في المصاحبة والملابسة أكثر من الاستعانة، ودلالتها على تلبس أجزاء الفعل بالتبرك أظهر، ولأن في التبرك باسم الله من التأدب ما ليس في جعله بمنزلة الآلة التي لا تكون مقصودة بالذات. وأما الترجيح بأن جعل في الأوّل الموجود كالمعدوم - وهو تكلّف - فليس على ما ينبغي؛ لأن مثل ذلك يعد من المحسنات (2). وقال الشريف: أما كونه أعرب، أي أدخل في لغة العرب وأفصح وأبين فلأن باء المصاحبة والملابسة أكثر استعمالا من باء الاستعانة، لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأقوال. وأما كونه أحسن، أي أوفق لمقتضى المقام فلوجوه: أحدها: أن التبرك باسم الله تعالى تأدب معه وتعظيم له، بخلاف جعله آلة فإنها غير مفيدة له، وغير مقصودة بذاتها. الثاني: أن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك بها، فينبغي أن يرد عليهم في ذلك.

_ (1) حاشية أكمل الدين ل8 وليس ما عزاه إلى الطيبي في فتوح الغيب. (2) حاشية سعد الدين ل9.

الثالث: أن الباء إذا حملت على المصاحبة والمعية كانت أدلّ على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى منها إذا حملت على الآلة. الرابع: أن التبرك باسم الله تعالى معنى مكشوف يفهمه كل أحد ممن يبتدئ في أموره، والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق. الخامس: أن كون اسم الله آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يتوسل إليه ببركته، فقد رجع بالآخرة إلى التبرك، وليس في اعتباره زيادة معنى يعتد به. وقد يقال: جعله آلة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل، ويشتمل على جعل الموجود - لفوات كماله - بمنزلة المعدوم، ومثله يعد من محسنات الكلام (1). وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: معنى الباء هاهنا المصاحبة والملابسة كما في قوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ويجوز أن تكون للاستعانة كالباء في كتبت بالقلم، فالأوّل يناسب الدراية، والثاني يناسب الرواية، لكن الأوّل لما كان أظهر رجح على الثاني (2). وقال البلقيني في " الكشاف ": قول " الكشاف " في المعنى الأوّل: " جعله مفعولا بسم الله كما يفعل الكتب بالقلم " يقال عليه: القراءة حاصلة وإن لم يسم، وأما الكتابة فلا تحصل إلا بالقلم فأين التسوية. قال: وقد استؤنس للمعية والمصاحبة بقوله صلى الله عليه وسلّم: " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (3) " وفيه نظر، إذ المراد الخبر عن أنه لا يضرّ مع ذكر اسم الله شيء مخلوق. ويقال - على هذا الوجه -: المصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها، نحو جاءكم الرسول بالحق، أي مع الحق، والقراءة لم تحصل حينئذ فتعذرت حقيقهّ المصاحبة فيما نحن فيه. قال: فإن قيل: فإذا كان كل من الوجهين عندك مخدوشا فهل من ثالث؟

_ (1) حاشية الشريف 1/ 32. (2) شرح قواعد الإعراب 32. (3) رواه أبو داود الطيالسي في المسند 1/ 77 وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 244 وأحمد في المسند 1/ 498 وأبو داود 5/ 392 ح5047 والترمذي 5/ 397 ح3388 والنسائي في السنن الكبرى 9/ 11 ح9759 وابن ماجة 4/ 27 ح3938 من حديث عثمان. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب.

قلت: جوّز بعضهم أن تكون باء الإلصاق، ويقال عليه: معنى الإلصاق يقع على وجهين: أحدهما: أن لا يصل الفعل إلى المفعول إلا به كمررت بزيد، وهذا لا يتأتى هاهنا؛ لأن الفعل يتوصل إليه هنا بنفسه تقول: أقرأ كذا. والثاني: ما دخل على المفعول المنتصب بفعله ليفيد المباشرة، نحو أمسكت بزيد، وهذا لا يتأتى هنا أيضاً. فإن قيل: فإذا كان كل من الأوجه الثلاثة عندك مخدوشا فهل من رابع؟ قلت: في فكري وجه رابع، وعندي فيه وقفة سأبينها: وهو أن الباء هنا بمعنى " على " ويشهد له قوله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) [سورة الأنعام 119] (ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) [سورة الأنعام 122] (فاذكروا اسم الله عليها صوافّ) [سورة الحج 37] والمعنى على اسم الله أقرأ. فإن قيل: إنما قال " على " في المواضع المذكورة من أجل فعل الذكر. قلنا: فعل الذكر يتعدى إلى مفعوله الثاني مرة بعلى، ومرة باللام نحو ذكرته لزيد، فلما عداه بـ " على " عرف أن المراد أن يكون الذبح على اسم الله تعالى، بأن يقول: بسم الله، أي على اسم الله أذبح. قال: فإن قيل: نقلتنا من حرف جر إلى حرف جر يحتاج أن يفسر معناه. قلنا: ذهب بعض النحاة إلى أن " على " اسم، وليس بحرف، ولئن قلنا: إنها حرف كما هو المشهور فالمعنى على اسم الله أقرأ، وهذا من الاستعلاء الدالّ على التمكن نحو على الله توكلت، ونحو قوله (أولئك على هدى من ربهم) [سورة البقرة 6] ونحو " أنا على عهدك ووعدك ما استطعت (1) " قال: ولم أر من تعرّض لذلك. قال: ومن عجيب ما قيل في بسم الله الرحمن الرحيم: إنها قسم في أوّل كل سورة. ذكره صاحب كتاب الغرائب والعجائب (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (1) رواه البخاري 5/ 2330 ح5964 والنسائي في المجتبى 8/ 279 ح5522 وفي السنن الكبرى 9/ 13 ح9763 من حديث شداد بن أوس. (2) هو محمود بن حمزة بن نصر تاج القراء أبو القاسم الكرماني، أحد العلماء النبلاء، صاحب التصانيف، صنف عجائب القرآن، كان في حدود الخمسمائة ومات بعدها. طبقات المفسرين 2/ 312 وكشف الظنون 2/ 1126.

فعلى هذا تكون باء القسم (1). انتهى. وقال أبو الحسن ابن بابشاذ (2) في شرح مقدمته: الباء من بسم الله الرحمن الرحيم معناها الإلصاق، وهو تارة إلصاق معنى شيء بشيء، وذلك الشيء يكون موجودا مثل تبركت بسم الله، وبدأت بسم الله، وفعلت بسم الله، ويكون تارة محذوفا في حكم الموجود مثل بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن هذه الكلمة قد كثر استعمالها عند استفتاح الأذكار والأفكار والأفعال والأعمال قولا وفعلا واعتقادا، فأغنت دلالة الحال عن التلفظ بالأفعال، ولذلك تختلف تقدير الأفعال بحسب المقام، فإن ذكرت عند استفتاح قراءة، فتقديره: أقرأ بسم الله، أو عند ابتداء أكل أو شرب أو ذبح، أو نحر فتقديره: آكل بسم الله، وأشرب وأذبح وأنحر، وكذلك حكمها أبدا مع كل فعل، فالباء ملصقة تلك المعاني بالاسم الذي بعدها (3). * * * تذنيب: قال الرضي (4): إن الباء لا تكون بمعنى المصاحبة إلا مستقرا (5). قال شيخنا الإمام تقي الدين الشمني في حاشية المغني: والظاهر أنه لا منع من كونها لغوا (6). * * * تنبيه: قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام (7) في أماليه: إن قيل: إن كان المراد التبرك كيف يحسن ذلك في القرآن؛ لأن البسملة هي كلام الله في الله،

_ (1) غرائب التفسير وعجائب التأويل 1/ 29. (2) هو طاهر بن أحمد بن بابشاذ أبو الحسن البصري، أحد الأئمة في علوم العربية وفصاحة اللسان، له المحسبة، وشرح المحسبة، توفي سنة تسع وستين وأربعمائة. معجم الأدباء 4/ 1455 وبغية الوعاة 2/ 16. (3) شرح المقدمة المحسبة 2/ 478. (4) هو محمد بن الحسن الرضي نجم الدين الاستراباذي صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها -بل ولا في غالب كتب النحو- مثلها جمعا وتحقيقا وحسن تعليل، وقد أكب الناس عليه، توفي سن أربع وثمانين وستمائة. بغية الوعاة 1/ 567 والأعلام 6/ 86. (5) شرح الرضي على الكافية 4/ 280. (6) المصدر السابق 4/ 280 وحاشية تقي الدين الشمني على مغني اللبيب ل5 نسخة مصور بمعهد البحوث العلمية برقم 880 النحو. (7) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي، إمام عصره بلا مدافعه، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، لقبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد بسلطان العلماء، صنف التفسير، والقواعد الكبرى، والقواعد الصغرى، توفي سنة ستين وستمائة. طبقات الشافعية الكبرى 8/ 209 وفوات الوفيات 2/ 350.

والقراءة هي كلام الله في الله، أو كلام الله في غير الله، وأيا ما كان فيكون أشرف من البسملة، فكيف يبارك بالمشروف على الشريف؟. فالجواب: أن البركة هاهنا معناها: أن يدفع عنه الشيطان الذي يوسوسة في القراءة حتى يحمل القرآن على غير محمله، أو يلهو عنه، لا أنها توجب للقراءة صفة كمال وشرف، بل ذلك عائد على القارئ (1). قوله: (وهذا وما بعده مقول على ألسنة العباد) هي عبارة " الكشاف (2) ". قال الطيبي: قال الزمخشري: مثاله: ما إذا أمرك إنسان أن تكتب رسالة من جهته إلى غيره فإنك تكتب " كتبت هذه الأحرف " وانما تفعل هذا على لسان آمرك. الراغب: إن قيل: لم لم يقل: الحمد لي؟ قيل: لأن ذلك تعليم منه لعباده، كأنه قال: قولوا: (بسم الله) و (الحمد لله)، وقيل: قولوا: غير مقدر؛ لأن الله حمد نفسه ليقتدى به، أو لأن أرفع حمد ما كان من أرفع حامد، وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه (3)؛ ولهذا قال: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك (4) " وقيل: كلما أثنى الله على نفسه فهو في الحقيقة إظهاره بفعله، فحمده لنفسه هو بث آلائه، وإظهار نعمائه بمحكمات أفعاله، وعلى ذلك قوله تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [سورة آل عمران 18] فإن شهادته لنفسه إحداثه الكائنات دالّة على وحدانيته، ناطقةً بالشهادة له. قال ذو النون (5): لما شهد الله لنفسه أنطق كل شيء بشهادته (وإن من شيء

_ (1) فوائد في مشكل القرآن 38 قلت: وهذا الكلام ظاهر التكلف، واضح التمحل، بين الفجاجة، وذلك أن المفاضلة والمشارفة بين آي القرآن وسوره مرجعه التوقيف فحسب، فإذا ورد به الأثر فاضلنا بينها، وإذا لم يرد بذلك الأثر لا يصح أن يقال هذه الآية أفضل من تلك، لأن هذه تتحدث عن الله، وعن غير الله، وتلك تتحدث عن الله فحسب. (2) الكشاف 1/ 32. (3) مقدمة جامع التفسير 120. (4) رواه مسلم 1/ 352 ح222 وأبو داود 2/ 10 ح875 والترمذي 5/ 474 ح3493 والنسائي في المجتبى 1/ 102 ح169 وفي السنن الكبرى 7/ 160 ح7701 وابن ماجة 4/ 11 ح3909 من حديث عائشة. (5) هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل: فيض بن أحمد، وقيل: فيض بن إبراهيم أبو الفيض، النوبي=

إلا يسبح بحمده (1)) [سورة الإسراء 44] * * * تنبيه: قال البلقيني: قول صاحب " الكشاف ". " هذا مقول على ألسنة العباد " دسّ فيه دسيسة الاعتزال من جهة القول بخلق القرآن. قال: والجواب أنه سبحانه يحمد نفسه ويقسم باسمه وبصفته نحو قوله (فورب السماء والأرض إنه لحق) [سورة الذاريات 24] وفي الصحيح: " أنت كما أثنيت على نفسك " وفي مسند الدارمي عن النبي صلى الله عليه وسلّم " قرأ الله طه قبل أن يخلق السموات والأرض بألف عام (2) " وظهر من ذلك الجواب. انتهى. ولم ينبه أحد من أرباب الحواشي على أن في هذا دسيسة سواه، وهو غير واضح؛ ولهذا لم يتجنبه المصنف. قوله: (ومن حق الحروف المفردة أن تفتح)

_ =الإخميمي، ذو النون المصري، كان عالما فصيحا حكيما، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. وفيات الأعيان 1/ 315 وسير أعلام النبلاء 11/ 532. (1) مقدمة جامع التفسير 120 وفتوح الغيب 1/ 80. (2) رواه الدارمي في المسند 4/ 2148 وابن أبي عاصم في السنة 1/ 416 وابن خزيمة في التوحيد 1/ 402 والعقيلي في كتاب الضعفاء 1/ 79 وابن حبان في كتاب المجروحين 1/ 105 والطبراني في المعجم الأوسط 5/ 133 وابن عدي في الكامل 1/ 218 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/ 251 والبيهقي في الأسماء والصفات 1/ 566 وابن الجوزي في كتاب الموضوعات 1/ 156 من طريق إبراهيم بن المنذر، عن إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، عن عمر بن حفص بن ذكوان، عن مولى الحرقة، عن أبي هريرة به. قلت: حكم عليه ابن حبان وابن الجوزي والسيوطي في اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 10 بالوضع. وقال ابن عدي: وإبراهيم بن مهاجر لم أجد له حديثا أنكر من حديث قرأ طه ويس. وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 5/ 271 هذا حديث غريب، وفيه نكارة. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 152 فيه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وضعفه البخاري بهذا الحديث، ووثقه ابن معين. وقال الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة 15/ 303 وزعم ابن حبان -وتبعه ابن الجوزي- أن هذا المتن موضوع، وليس كما قالا، والله أعلم، فإن مولى الحرقة هو عبد الرحمن بن يعقوب من رجال مسلم، والراوي عنه وإن كان متروكا عند الأكثر، ضعيفا عند البعض فلم ينسب للوضع، والراوي عنه لا بأس به، وإبراهيم بن المنذر من شيوخ البخاري.

قال الزجاج: أصل الحروف التي يتكلم بها وهي على حرف واحد الفتح أبدا إلا أن تجيء علة تزيله؛ لأن الحرف الواحد لاحظ له في الإعراب (1) فيقع مبتدأ في الكلام، ولا يبتدأ بساكن فاختير له الفتح؛ لأنه أخفّ الحركات (2). وعبارة غيره: لمّا بالغوا في تخفيفها بوضعها على حرف واحد ناسب ذلك بناؤها على الفتح؛ لأنه أخفّ الحكات. * * * تنبيه: عبارة " الكشاف ": " من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد (3) ". وتعقبه البلقيني فقال: الحروف التي هي أحد أقسام الكلمة لا تكون إلا للمعاني، فقوله: " حروف المعاني " يوهم إثبات حروف ليست لمعان، وليس ذلك بموجود في الحروف التي هي قسيمة الأسماء والأفعال. انتهى. فكان المصنّف حذف هذه اللفظة لعدم الحاجة إليها، ولإزالة الإبهام. قوله: (لاختصاصها بلزوم الحرفية والجرّ). قال الطيبي: قيل: ينتقض بواو القسم، فإنها لازمة الحرفية والجر، وبنيت على الفتح. وأجيب أن هذه الواو إنما تجرّ لنيابتها عن الفعل، وعن هذه الباء، على ما صرّح به صاحب " الكشاف " في (والشمس) فاجريت على الأصل (4). وقال الشيخ سعد الدين: كل من الحرفية والجرّ يناسب الكسر. أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة، والكسر يناسب العدم لقلته؛ إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف من الأسماء، ولا في الحروف إلا نادرا ك " جَيْرِ " وأما الجر فللموافقة - أي لموافقة حركة الباء أثرها - كما أفصح به الشريف. وهذا بخلاف كاف التشبيه فإنها لا تلزم الحرفية وإن لزمت الجرّ، وبخلاف الواو فإنها لا تلزم الجر وإن لزمت الحرفية، إذ قد تكون عاطفة.

_ (1) عبارة الزجاج: ولكن يقع. (2) معاني القرآن وإعرابه 1/ 41. (3) الكشاف 1/ 32. (4) الكشاف 4/ 258 وفتوح الغيب 1/ 82.

ومن اعتذر بأن واو القسم لا تلزم الجرّ في نفسها؛ لأنها إنما تجرّ لنيابتها عن الباء، فقد اعتبر خصوصية القسمية، وليس بلازم، وحينئذ لا يحتاج إلى هذا الاعتذار في تاء القسم؛ لأنها بدون الخصوصية، لا تلزم الجرّ ولا الحرفية، إذ قد تكون اسما كضمير الخطاب. ولا يخفى حينئذ أن الكاف أيضاً لا تلزم الجر ما لم تعتبر خصوصية التشبيه. وكلام الزجاج: أن الباء إنما كسرت للفصل بين ما يجرّ وقد يكون اسما كالكاف، وبين ما يجر ولا يكون إلا حرفا كالباء (1). ويشبه أن يكون هذا مراد المصنف. انتهى كلام الشيخ سعد الدين (2). * * * تنبيهان: الأوّل: المراد بلزوم الحرفية والجر - كما قال الشيخ سعد الدين والشريف - كونها ملاصقة لهما غير منفكة عنهما، بمعنى أنها لا توجد بدونهما (3). وعبار الشريف: أي غير مفارقة لهما، بمعني أنها لا توجد بدونهما، يقال: لزم فلان بيته إذا لم يفارقه، ولم يوجد في غيره، ومنه قولهم: أم المتصلة لازمة لهمزة الاستفهام. الثاني: قال الشريف: لزوم الحرفية والجر قيل: هما وجهان، وثقض الأوّل بواو العطف وفائه اللازمين للحرفية، والثاني بكاف التشبيه اللازمة للجرّ، وقيل: المجموع دليل واحد فاندفعا، وبقي النقض بواو القسم وتائه. وأجيب بأن عملهما بنيابة الباء، وكان الجرّ ليس أثرا لهما. لا يقال: اعتبار الحرفية احترازا. عن كاف التشبيه مستدرك؛ لأن الكاف إذا كانت اسما لا تعمل جرا في المضاف إليه، إذ العامل فيه هو الحرف المقدر، على ما ذكره في المفصل (4)؛ لأنا نقول: احترز عنها دفعا للانتقاض بها على مذهب من جعل المضاف عاملاً. ومن الناس من دفع النقض بواو القسم وتائه بأن اعتبار خصوصيته ليس بلازم، فالواو وإن لزمت الحرفية لكن لا تلزم الجرّ، إذ قد تكون عاطفة، والتاء لا تلزم شيئا منهما؛ لأنها قد تكون اسما كضمير الخطاب، فورد عليه أن الكاف أيضاً لا

_ (1) معاني القرآن وإعرابه 1/ 41. (2) حاشية سعد الدين ل9. (3) المصدر السابق ل9. (4) المفصل في علم العربية 82.

تعتبر فيها خصوصية التشبيه، فلم تكن لازمة للجر أيضاً كضمير المخاطب، فيلغو قيد لزوم الحرفية؛ لأنه احتراز عن الكاف اتفاقا، فالتجأ إلى كلام الزجاج: أن الباء بنيت على الكسر فصلا بين ما تجرّ، وقد تكون اسما كالكاف، وبين ما تجر ولا تكون إلا حرفا كالباء. وقال: ويشبه أن يكون هذا مراد المصنف. وفيه بعد؛ لأن القوم اعتبروا خصوص المعاني فقالوا: كاف التشبيه إما حرف، وإما اسم بمعنى مثل، ولم يلتفتوا إلى مجرّد صورة الكاف، ولم يقولوا: إنها أيضاً تكون ضميرا، أو حرف خطاب (1). وقول " الكشاف ": " نحو كاف التشبيه ولام الابتداء (2) " إلى آخره يدلّ على خصوصيات المعاني، وكيف لا وبذلك يظهر تعدد اللامين، وكون أحدهما مفتوحة، والأخرى مكسورة (3). انتهى. يشير بقوله: ومن الناس إلى الشيخ سعد الدين في كلامه السابق. وقال مكي في إعرابه: كسرت الباء من بسم لتكون حركتها مشبهة لعملها، وقيل: كسرت ليفرق بين ما يخفض، ولا يكون إلا حرفا نحو الباء واللام، وبين ما يخفض وقد يكون اسما نحو الكاف (4). وهذا ما أشار إليه الشريف بقوله: قيل: وهما وجهان. وقال الشيخ أكمل الدين - بعد إيراد النقض والجواب -: والحق أن التعليلات الصرفية واقعية مستخرجة بعد الوقوع، فلا تقبل النقض، وإنما هي أمور مناسبة لا بأس بذكرها للتدرب في أوضاع الصرف، وأما ذكرها في مثل هذا الكتاب وإيراد النقض عليها فليس بمناسب، والاعتماد على التوقيف (5). قوله: (ولام الإضافة) قال الزمخشري: " حروف الجر كلها تسمى حروف الإضافة؛ لأنها تضيف

_ (1) حاشية سعد الدين ل9. (2) الكشاف 1/ 33. (3) حاشية الشريف 1/ 33. (4) كتاب مشكل إعراب القرآن 1/ 5. (5) حاشية أكمل الدين ل9.

معاني الأفعال إلى الأسماء (1) ". قوله: (داخلة على المظهر) بخلاف ما إذا دخلت على المضمر فإنها لا تكسر؛ لعدم الإلباس؛ لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على المضمر المرفوع المتصل. قوله: (والاسم عند البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها) زاد في " الكشاف ": وصف الأسماء بالعشرة (2) قال الطيبي: وهي ابن، وابنة، وابنم - بمعنى ابن - واسم، واست، واثنان، واثنتان، وامرؤ وامرأة، وأيمن الله. قال: وأما أيم الله فمحذوف فيها نون أيمن (3) وقال الشيخ سعد الدين: كأنه لم يعتد بأيم الله؛ لأنه منقوص أيمنٌ، واعتد بابنم مع أنه مزيد ابن؛ لأن الزيادة توجب تعدد الصيغة كضارب من ضرب، بخلاف الحذف كدم في دموٌ، ولا يخفى ضعفه (4). وقال الشيخ أكمل الدين: عدها في " الكشاف " عشرة، وفي " المفصل " جعلها أحد عشر، بزيادة أيم الله، قيل: وهو الصواب (5). وقال الشريف: عدها في " الكشاف " عشرة، وفي " المفصل ": جعلها أحد عشر، فإما أن لا يعتد بأيم الله؛ لأنه منقوص أيمن، وإما أن لا يعتد بابنم؛ لأنه مزيد ابن، والأوّل أولى؛ لأن المنقوص قد يوزن بوزن أصله، فيقال: أيم أفعل، كأيمن، فكأنَّه هو، بخلاف المزيد، إذ لا يوزن ابنم بوزن ابن أصلا (6) قوله: (وبنيت أوائلها على السكون) قال الشيخ أكمل الدين: غير معلل بشيء؛ لأن أوائل هذه الأسماء وغيرِها من حروف المباني، وحقها السكون، فيحتاج غيرها إلى بيان ما ترك الأصل لأجله، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، وما فيه مرجح، فالاعتماد على التوقيف (7).

_ (1) المفصل في علم العربية 283. (2) الكشاف 1/ 33. (3) فتوح الغيب 1/ 82. (4) حاشية سعد الدين ل9. (5) الكشاف 1/ 33 والمفصل 355 وحاشية أكمل الدين ل9. (6) حاشية الشريف 1/ 33. (7) حاشية أكمل الدين ل9.

وقال الشريف: أي بنوها كذلك تحقيقا واستعمالا وإن كان يعتبر تحرّك أوائلها تقديرا وقياسا، كما قال: أصله سمو، كما يقال: أصل ابن بنوٌ. ولعلّ الحكمة في وضعها كذلك التفنن في الوضع، وتطلب الخفة فيها؛ لكثرة استعمالها في الدرج (1). وقال البلقيني في " الكشاف ": ما جزم به من بناء أول الاسم على السكون هو طريقة بعض البصريين، وذهب كثير منهم إلى أنهم أدخلوا الهمزة على المتحرك، ثم سكنوا السين تخفيفا. قال: ويزاد في العدة إيمن بكسر الهمزة، فإنها ليست جمعا بلا خلاف، والهمزة فيه همزة وصل بلا خلاف. قال: وإذا عددت ما فيها من اللغات مع همزة الوصل كثر العدد. قوله: (وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل) قال الشريف: وجه خصوصيتها لينجبر بقوتها، وكونها من أقصى المخارج (2). قوله: (لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن) قال الطيبي: هذا يشعر أن الابتداء بالساكن ممكن، وموجود في اللغة، لكنه مستكره، وبه صرّح صاحب " المفتاح " في الصرف قال: دعوى امتناع الابتداء بالساكن فيما سوى حروف المد واللين ممنوعة، اللهم إلاّ إذا حكيت عن لسانك، لكن ذلك غير مجد عليك (3). وقال الشريف: التعليل بذلك دون الامتناع إشارة إلى جواز الابتداء بالساكن، وهو الحق، ومن قال بامتناعه لا يسمع منه إلا حكايته عن لسانه. نعم يمتنع الابتداء بالمدات، إلا أن ذلك لذواتها، لا لسكونها. وإذا استقريت لغة العجم وجدت الابتداء بالساكن المدغم. وقد يستدل على الجواز بأنه لو لم يجز لكان التلفظ بالحرف موقوفا على التلفظ بالحركة فيدور؛ لأن الحركة موقوفة على الحرف في التلفظ توقف العارض على المعروض.

_ (1) حاشية الشريف 1/ 33. (2) حاشية الشريف 1/ 33. (3) مفتاح العلوم 77 وفتوح الغيب 1/ 83.

ويجاب بأن امتناع الابتداء بالساكن يستلزم امتناع انفكاك الحركة عن الحرف المبتدإ به، وأما توقفة على الحركة فلا، لجواز أن تكون الحركة تابعة له، غير منفكة عنه. قال: واعلم أن الحركة والسكون بالمعنى المشهور مختصان بالأجسام، وأن المراد بالحركة كونه بحيث يمكن أن يتلفظ بعده بإحدى المدات الثلاث، وبسكونه كونه بحيث لا يمكن فيه ذلك (1). وقال الشيخ سعد الدين: التعليل بذلك مشعر بأنه ليس لامتناع الابتداء بالساكن، اللهم إلاّ إذا حكيت عن لسانك. صرّح بذلك في صرف " المفتاح (2) ". وأما في المدات فالامتناع لذاتها، لا لسكونها، وإذا نظرت وجدت الابتداء بالساكن غير مرفوض في لغة العجم. وقد يستدل على الإمكان بأنه لو امتنع لتوقف التلفظ بالحرف على التلفظ بالحركة ابتداء ضرورة تقدم الشرط على المشروط، لكن التلفظ بالحركة موقوف على التلفظ بالحرف ضرورة توقف وجود العارض على وجود المعروض. وجوابه منع الشرطية؛ لجواز أن تكون الحركة لازما غير متقدم للحرف المبتدإ بها، لا شرطا سابقا. على أنك إذا تحققت معنى حركة الحرف لم يكن هناك عارض ومعروض (3). وقال الشيخ أكمل الدين: في هذا التعليل إشعار بأن الابتداء بالساكن ممكن، وهو قول بعضهم، وذلك لأن نقيضه محال؛ لأنه لو لم يمكن توقف التلفظ بالحرف في الابتداء على التلفظ بالحركة، والحركة عارضة للحرف، فيتوقف التلفظ بها على التلفظ بالحرف، وذلك دور. فإن قيل: الحرف مع الحركة عند التلفظ، فكان التوقف توقف معية، ولا دور فيه. أجيب بأنهما وإن كانا في الوجود عند التلفظ مقارنين، ولكن وجود المعروض بالذات سابق على العارض، فكان توقف تقدم، وهو الدور.

_ (1) حاشية الشريف 1/ 33. (2) مفتاح العلوم 77. (3) حاشية سعد الدين ل10.

وردّ بأن كلامنا في الحروف الملفوظ بها ابتداء، لا في الحروف المعقولة، وهما في التلفظ معا بلا خلاف. وإذا ظهر هذا ثبت قول من يقول بالامتناع. وهذا ظاهر للمتأمل في الحروف الملفوظ بها ابتداء (1) وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت: الابتداء بالساكن ممتنع أو ممكن. قلت: الحق هاهنا هو التفصيل، بأن يقال: إن كان السكون للساكن لازما لذاته فيمتنع كالألف، وإلاّ فيمكن، لكنه لم يقع في كلامهم لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة (2). وقال بعض أرباب الحواشي (3): من زعم امتناع الابتداء بالساكن يحتج بالاستقراء، وهو - وإن كان تاما - لا يدلّ إلا على عدم الوقوع، وعدم الوقوع لا يستلزم الامتناع. وقال البلقيني في " الكشاف ": ما استدل به من قال بإمكان الابتداء بالساكن قول غير صحيح، وممن حكاه ابن الخطيب في تفسيره (4). والصحيح القطع بأن ذلك لا يمكن، ومقابله غلط، ومكابرة للحس. قلت: وممن صرح بأن الابتداء بالساكن غير ممكن صاحب (5) " البسيط " في النحو، والشلوبين (6). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (1) حاشية أكمل الدين ل9. (2) شرح قواعد الإعراب 36. (3) انظر في ص383. (4) التفسير الكبير 1/ 106. (5) هو محمد أبو عبد الله ضياء الدين ابن العلج -بكسر العين المهملة وسكون اللام ثم جيم- مؤلف كتاب البسيط في النحو، ذكره أثير الدين أبو حيان في شرح التسهيل، ونقل عنه في كتاب البسيط كثيراً. قال: كان سكن اليمن وصنف بها. طبقات النحاة واللغويين لتقي الدين ابن قاضي شهبة 298 وانظر مقال الكشف عن صاحب البسيط في النحو للدكتور حسن موسى الشاعر. مجلة الجامعة الإسلامية عدد 77 ص145 - 167. (6) هو عمر بن محمد بن عمر أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين، كان إمام عصره في العربية، صنف شرحين على الجزولية، توفي سنة خمس وأربعين وستمائة. إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 332 وبغية الوعاة 2/ 224.

في " شرح الجزولية (1) "، لكن ذكر ابن يعيش (2) خلافه فقال: في " شرح المفصل ": اعلم أن أصحابنا يقولون: إن الابتداء بالساكن لا يكون في كلام العرب، وقد أحاله بعضهم، ومنع من تصوره، ولا شبهة في الإمكان، ألا ترى أنه يجوز الابتداء بالساكن إذا كان مُدْغَمًا، نحو اثَّاقلتم في تثاقلتم. ويؤيد ذلك وأنه من لغة العرب أنهم لم يخففوا الهمزة إذا وقعت أولا بأيّ حركة تحركت نحو أحمد وإبراهيم، ونحو قوله (3): أأن رأت رجلا أعشى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. لأن في تخفيفها تضعيفا للصوت، وتقريبا له من الساكن، فامتناعهم من تخفيف الهمزة مع إمكان تخفيفها والنطق بها دليل على أن ذلك من لغة العرب، وذلك من قِبَلِ أن المبتدئ بالنطق مُسْتَجمٌّ مستريح فيعظم صوته، والواقف تعب حسر يقف للاستراحة فيضعف صوته (4). * * * تنبيه: قال السهيلي (5): قولهم حرف متحرك، وتحركت الواو، ونحو ذلك تساهل منهم، فإن الحركة عبارة عن انتقال الجسم من حَيِّزٍ إلى حيز، والحرف جزء من الصوت، ومحال أن تقوم الحركة بالحرف؛ لأنه عرض، والحركة لا تقوم بالعرض، وإنما المتحرّك في الحقيقة هو العضو من الشفتين، أو اللسان، أو الحنك الذي يخرج منه الحرف، فالضمة عبارة عن تحريك الشفتين بالضم عند النطق، فيحدث من ذلك صوت خفي مقارن للحرف، إن امتدّ كان واوا، وإن قصر كان ضمة، والفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف، وحدوث الصوت الخفي الذي يسمى فتحة، وكذا القول في الكسرة، والسكون عبارة عن خلوّ

_ (1) شرح المقدمة الجزولية الكبير 2/ 461. (2) هو يعيش بن علي بن يعيش أبو البقاء المشهور بابن يعيش، كان من كبار أئمة العربية، ماهراً في النحو والتصريف صنف شرح المفصل، توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. إنباه الرواة 4/ 45 وبغية الوعاة 2/ 351. (3) للأعشى، انظر في: ديوان الأعشى 91. (4) شرح المفصل 3/ 83. (5) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد أبو زيد السهيلي الأندلسي كان عالما بالعربية واللغة والقراءات، بارعا في ذلك، جامعا بين الرواة والدراية، صنف الروض الأنف في شرح السيرة، وشرح الجمل، توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. الديباج المذهب 1/ 480 وبغية الوعاة 2/ 81.

العضو من الحركات عند النطق بالحرف، ولا يحدث بعد الحرف صوت فينجزم عند ذلك، أي ينقطع، فلذلك سمي جزما اعتبارا بانجزام الصوت، وهو انقطاعه، وسكونا اعتبارا بالعضو الساكن، فقولهم: فتح، وضم، وكسر هو من صفة العضو، وإذا سميت ذلك رفعا ونصبا وجرا وجزما فهي من صفة الصوت؛ لأنه يرتفع عند ضم الشفتين، وينتصب عند فتحهما، وينخفض عند كسرهما، وينجزم عند سكونهما، وعبروا بهذه عن حركات الإعراب؛ لأنه لا يكون إلا بسبب، وهو العامل كما أن هذه إنما تكون بسبب، وهو حركة العضو، وعن أحوال البناء بتلك؛ لأنه لا يكون بسبب، أعني بعامل، كما أن هذه الصفات تكون وجودها بغير آلة. قال ابن القيم: وعندي أن هذا ليس باستدراك على النحاة، فإن الحرف وإن كان عرضا فقد يوصف بالحركة تبعا لحركة محله، فإن الأعراض وإن لم تتحرّك بأنفسها فهي تتحرّك بحركة محالها، فاندفع الإشكال جملة (2). قوله: (ويشهد له تصريفه على أسماء، وأسامي، وسُمَيٌّ، وسميت) قال ابن الخباز (3) في " شرح الدرّة ": يشهد لقول البصريين وجوهٌ: الأوّل: أن جمع اسم أسماء، ولو كان من الوسم لقيل: أوسام. الثاني: تصغيره سُمَيٌّ. زاد ابن يعيش في " شرح المفصل ": وأصله سُمَيْوٌ فقلبوا الواو ياء، وأدغمت على حدّ سَيِّد ومَيّت، ولو كان من الوسم لقيل فيه: وُسَيْمٌ (4). الثالث: أنك تقول لمن يساويك في الاسم: هو سَمِيِّيْ، ولو كان من الوسم لقلت: وسِيْمِيْ. الرابع: أنك تقول في تصريف الفعل منه: تسميت، وأسميت، وسميت، وتقول في المصدر: التسمية، ولو كان كما ذكروا لقيل: توسمت.

_ (1) نتائج الفكر في النحو 83. (2) بدائع الفوائد 1/ 34. (3) هو أحمد بن الحسين بن أحمد بن الخباز الموصلي النحوي، كان علامة زمانه في النحو واللغة والفقه، وله المصنفات المفيدة منها الغرة المخفية في شرح الدرة الألفية، وتوجيه اللمع، توفي سنة سبع وثلاثين وستمائة. بغية الوعاة 1/ 304 والأعلام 1/ 117. (4) شرح المفصل 1/ 23.

الخامس: أنه يقال في بعض لغاته: سُمًى كهدى، وأصله سُمَوٌ، فهذا من نظم لسُمُوِ. السادس: أن همزة الوصل في أوله لا تكون إلاّ لمحذوف اللام، كابن والست. السابع: أنه على مذهب البصريين يكون فيه حذف اللام، وعلى مذهب لكوفيين يكون فيه حذف الفاء، والأوّل أكثر. الثامن: أن حذف الفاء يعوض منه أخيرا، بدليل عدة، وزنة، ولا يعوض منه أولاً (1). قوله: (ومجيء سُمى كهدى لغة. فيه، قال: (وَاللهُ أسماكَ سُمًى مبارَكاً. . . آثرَكَ اللهُ به إيثاركا) (2) هذا الوجه ذكره ابن الأنباري في كتاب " الإنصاف " فقال: الوجه الخامس: أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا في اسم: سُمًى على وزن عُلاً، والأصل فيه سموٌ إلاّ أنهم قلبوا الواو منه ألفاً؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فصار سمى، وأنشد البيت (3). قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": ولا حجة في ذلك؛ لاحتمال أن يكون على لغة من قال: سُم، ونصبه؛ لأنه مفعول ثان. قال: فإن صحت هذه اللغة من جهة أخرى فمجازها أنه تمم الاسم، ولم يحذف منه شيئا، كما تمم الآخر غدا فقال: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إِنَّ مَعَ اليومِ أخاهُ غَدْوًا (4). وقال الخطيب أبو زكريا التبريزي (5) في " شرح أبيات إصلاح المنطق ":

_ (1) شرح الدرة الألفية لابن الخباز ل7 نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 124 النحو. (2) يأتي تخريجه قريباً. (3) الإنصاف في مسائل الخلاف 1/ 15. (4) شرح المفصل 1/ 24 والبيت في أمالي ابن الشجري 2/ 230 بدون نسبة، وقد خرجه محققه تخريجاً لا مزيد عليه، يوقف عليه في محله. (5) هو يحيى بن علي بن محمد أبو زكريا ابن الخطيب التبريزي، كان أحد الأئمة في النحو واللغة والأدب، صنف شرح القصائد العشر، وتهذيب إصلاح المنطق لابن السكيت، توفي سنة اثنتين وخمسمائة. معجم الأدباء 6/ 2823 وبغية الوعاة 2/ 338 وانظر في: تهذيب إصلاح المنطق 333 - 3334 وشرح أبيات إصلاح المنطق للسيرافي 300.

المبارك الذي يُتَيَمَّنُ به ويتفاءل، مثل غانم وسعيد. وآثرك: قدمك به واختارك. إيثارك: أي كإيثارك الغير على نفسك في العطاء والبذل. قال: وأسماك له معنيان: يقال: أسميت الرجل إذا وضعت له اسما في مولده، وأسميته إذا دعوته بالاسم الموضوع له، والذي في البيت من الأول. انتهى. وفي " شرح الجمل " لابن خروف (1): أن هذا البيت لأبي خالد القنانِي (2) من مذحج (3). وقال العيني في (4) " شرح الشواهد الكبير (5) ": أسماك بمعنى سماك. وآثرك: أي بالتسمية الفاضلة كما آثرك بالفضل، وقيل: إيثارك للمعالي والذكر الحسن (6). قوله: (والقلب بعيد غير مطرد) قال ابن يعيش: إن ادعى القلب فليس ذلك بالسهل، فلا يصار إليه وعنه مندوحة (7). وقال السخاوي (8) في " شرح المفصل ": اعتقاد الكوفيين في الاسم أنه مقلوب

_ (1) هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن ابن خروف الأندلسي، كان إمام في العربية محققا مدققا، صنف شرح سيبويه، وشرح الجمل، توفي سنة تسع وستمائة. معجم الأدباء 5/ 1969 وبغية الوعاة 2/ 203. (2) ذكره المبرد في الكامل 3/ 1081 وقال: أبو خالد القناني، وكان من قعد الخوارج. (3) شرح جمل الزجاجي 1/ 244 والبيت في: إصلاح المنطق 134 وشرح الشواهد الكبرى 1/ 154 منسوبا إلى أبي خالد القناني، انظر في تخريجه الموسع في حاشية أمالي ابن الشجري 2/ 281. (4) هو محمود بن أحمد بن موسى بدر الدين العيني، كان إماما عالما عرفا بالعربية والتصريف وغيرهما، وله مصنفات كثيرة، منها شرح البخاري، وشرح الشواهد الكبير والصغير، وشرح معاني الآثار، توفي سنة خمس وخمسين وثمانمائة. الضوء اللامع 10/ 131 وبغية الوعاة 2/ 275. (5) في د، ق: الكبرى. (6) كتاب المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية 1/ 154. (7) شرح المفصل 1/ 23. (8) هو علي بن محمد بن عبد الصمد أبو الحسن السخاوي الشافعي، كان إماما في العربية، بصيرا باللغة، عالما بالقراءات، له كتاب جمال القراء، وشرح المفصل في أربع مجلدات، توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. سير أعلام النبلاء 23/ 122 وغاية النهاية 1/ 568.

من وسم إلى سمو فجعلت فاؤه لاما، فوزنه على هذا " علف (1) ". قوله: (واشتقاقه من السمو) قال الكمال أبو البركات ابن الأنباري في كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف ": والأصل فيه على هذا سِمْوٌ، على وزن فعل بكسر الفاء وسكون العين فحذفت اللام التي هي الواو، وجعلت انهمزة عوضا عنها، ووزنه " افعٌ " بحذف اللام منه (2). وقال السخاوي في " شرح المفصل ": أصله على هذا سِمْو مثل حمل، أو سُمْو مثل قفل، وفِعْل، وفُعْل يجمع على أفعال، وجمع اسم أسماء، ولا يجوز أن يقال: سَمْو يعني بفتح أوله؛ لأن فَعْلا جمعه فعول كفلس وفلوس. وأجاز قوم أن يكون سَمَواً، كما قيل: أصل ابن بنو. قال المبرد: فلما اختل وأزيل عن جهته سكن أوله، فدخلت ألف الوصل لذلك، فوزنه على هذا الذي ذكرناه من أصله " افع (3) ". انتهى. قوله: (لأنه رفعة للمسمى) قال الزجاج: جعل الاسم تنويها للدلالة على المعنى؛ لأن المعنى تحت الاسم (4). وقال السخاوي: معنى السمو فيه عندهم أنك تقول: سما لي شخص إذا ارتفع حتى استثبته وعرفته، فكان الاسم رفع لك مسماه حتى كشفته وعرفته، أو لأن الاسم تنويه ورفعة (5). وقال الشيخ سعد الدين: احتيج إلى هذا؛ لأن مجرد بيان الأصل لا يفيد الاشتقاق من السمو ما لم يبين التناسب في المعنى، فلذا ذكره (6). وقال الشريف: لما بين أن الاسم يوافق السمو في التركيب، ولم يكن كافيا في اشتقاقه منه، بل لابد معه من التناسب في المعنى أشار إليه بقوله: " لأنه رفعة

_ (1) المفضل في شرح المفصل ل16 نسخة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم ج2/ 4503. (2) الإنصاف في مسائل الخلاف 1/ 7. (3) المقتضب 1/ 229 والمفصل في شرح المفصل ل16. (4) معاني القرآن وإعرابه 1/ 40. (5) المفضل ل16. (6) حاشية سعد الدين 10.

للمسمى (1) " قوله: (ومن السمة عند الكوفيين) قال مكي في إعرابه: قول الكوفيين أقوى في المعنى، وقول البصريين أقوى في التصريف (2). وفي " تفسير ابن برجان (3) " اختيار قول البصريين في أسماء الله تعالى، وقول الكوفيين في أسماء المحدثات (4). قوله: (وأصله وسم حذفت الواو وعوض عنها همزة الوصل) زاد ابن الأنباري: ووزنه " اعل " بحذف الفاء منه. وذهب قوم إلي أنه لا حذف ولا تعويض، وإنما قلبت الواو همزة كإعاء، وإشاح، ثم كثر استعماله فجعلت همزة وصل، وعلى هذا فوزنه " فِعْلٌ ". قوله: (ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم) قال الكمال ابن الأنباري: همزة التعويض إنما تقع تعويضا من حذف اللام، لا من حذف الفاء، ألا ترى أنهم لما حذفوا اللام التي هي الواو من " بنو " عوضوا عنها الهمزة في أوله، فقالوا: ابن، ولما حذفوا الفاء التي هي الواو من " وعد " لم يعوضوا عنها الهمزة في أوله فلم يقولوا: " اعد "، وإنما عوضوا عنها الهاء في آخره، فقالوا: " عدة "؛ لأن القياس فيما حذف منه لامه أن يُعَوَّضَ بالهمزة في أوله، وفيما حذف منه فاؤه أن يعوض بالهاء في آخره. والذي يدل على صحة ذلك أنه لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه، وعوض بالهاء في آخره، فلما وجدنا في أول الاسم همزة التعويض علمنا أنه محذوف اللام، لا محذوف الفاء؛ لأن حمله على ما له نظير أولى من حمله على ما ليس له نظير،

_ (1) حاشية الشريف 1/ 35. (2) كتاب مشكل إعراب القرآن 1/ 6. (3) هو عبد السلام بن عبد الرحمن ابن شيخ الصوفية أبي الحكم عبد السلام أبو الحكم اللخمي الإشبيلي، ويقال له: ابن برجان، كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث، له تواليف، منها تفسير القرآن، وشرح الأسماء الحسنى، توفي سنة سبع وعشرين وستمائة. سير أعلام النبلاء 22/ 334 وطبقات المفسرين 1/ 300. (4) تفسير ابن برجان ل6 نسخة مصورة بمكتبة مركز الدراسات القرآنية بمجمع الملك فعد لطباعة المصحف.

فدلّ على أنه مشتق من السمو، لا من الوسم. انتهى. وقال أبو البقاء العكبري (1) في كتاب " التبيين في الخلاف ": لنا في ترجيح قول البصريين ثلاثة مسالك، المعتمد منها أن المحذوف يعود في التصريف إلى موضع اللام، فكان المحذوف هو اللام كالمحذوف من ابن. والدليل على عوده إلى موضع اللام أنك تقول: سَمَّيْتُ وأسميت، وفي التصغير سُمَىٌّ، وفي الجمع أسماء، وأسام، وفي فعيل منه سَمِيٌّ، أي اسمك مثل اسمه، ولو كان المحذوف من أوله لعاد في التصريف إلى أوله، وكان يقال: أو سمت وَوَسَمْتُ، ووسيم وأوسام، ووسيم. وهذا التصريف قاطع على أن المحذوف هو اللام. فإن قيل: هذا إثبات اللغة بالقياس، وهي لا تثبت به. والثاني: أن عود المحذوف إلى الأخير لا يلزم منه أن يكون المحذوف من الأخير، بل يجوز أن يكون مقلوبا، وقد جاء القلب كثيرا عنهم، كما قالوا: لهي أبوك، فأخروا العين إلى موضع اللام، وقالوا: الجاه وأصله الوجه، وقالوا: أينق، وأصله أنوق، وقالوا: قِسِىٌّ، وأصله قووس، وإذا كثر ذلك في كلامهم جاز أن يحمل ما نحن فيه عليه. فالجواب: أما الأول فغير صحيح، فإنا لا نثبت اللغة بالقياس، بل نستدل بالظاهر على الخفي، خصوصا في الاشتقاق، فإن ثبوت الأصل والزائد، والمحذوف لا طريق له على التحقيق إلا الاشتقاق، ويدل عليه لفظة ابن، فإنهم لما قالوا: بُنَيَّ، وأبناء، وتبنيت، والبنوة، علم أن المحذوف لامه. وأما دعوى القلب فلا سبيل إليه لأن القلب مخالف للأصل، فلا يصار إليه ما وجدت عنه مندوحة، ولا ضرورة هنا تدعو إلى دعوى القلب، ويدل على ذلك أن القلب لا يطرد هذا الاطراد، ألا ترى أن جميع ما ذكر من المقلوب يجوز إخراجه على الأصل. المسلك الثاني: أنا قد أجمعنا على أن المحذوف قد عوض منه في أوله،

_ (1) هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله أبو البقاء العكبري النحوي، كان ثقة غزير الفضل، كثير المحفوظ ديناً، له إعراب القرآن، وشرح المقامات، والتبيين، توفي سنة ست عشرة وستمائة. بغية الوعاة 2/ 38 والأشباه والنظائر في النحو للسيوطي 1/ 44.

فوجب أن يكون المحذوف من آخره، كما ذكرنا في ابن، وإنما قلنا ذلك لوجهين: أحدهما: أنا قد عرفنا من طريقة العرب أنهم إذا حذفوا من الأول عوضوا أخيرا (1) مثل عدة، وزنة، وإذا حذفوا من الآخِر عوضوا أولاً مثل ابن، وهنا قد عوضوا في أوّله، فكان المحذوف من آخره. والثاني: أن العوض مخالف للبدل، فبدل الشيء يكون في موضعه، والعوض يكون في غير موضع المُعَوَّضِ عنه، فلو كانت الهمزة عوضا من الواو في أوله لكانت بدلا من الواو، ولا يجوز ذلك، إذ لو كانت كذلك لكانت همزة مقطوعة، ولمَّا كانت ألف وصل حكم بأنها عوض. فإن قيل: التعويض في موضع لا يوثق بأن المعوض عنه في غيره؛ لأن القصد منه تكميل الكلمة، فأين كملت حصل غرض التعويض، ألا ترى أن همزة الوصل في اضرب وبابه عوض من حركة أول الكلمة، وقد وقعت في موضع الحركة. ْفالجواب: أن التعويض على ما ذكرنا يغلب على الظن أن موضعه مخالف لموضع المعوض منه، لما ذكرنا من الوجهين. قولهم: الغرض تكميل الكلمة ليس كذلك، وإنما الغرض العدول عن أصل إلى ما هو أخف منه، والخفة تحصل بمخالفة الموضع، فأما تعويضه في موضع محذوف لا يحصل منه خفة؛ لأن الحرف قد يثقل بموضعه، فإذا أزيل عنه حصل التخفيف. المسلك الثالث: أن اشتقاق الاسم من السمو مطابق للمعنى، فكان المحذوف الواو كسائر المواضع. وبيانه أن الاسم أحد أقسام الكلمة، وهو أعلى من صاحبيه، إذ كان يخبر به، وعنه، وليس كذلك صاحباه، فقد سما عليهما، ولأن الاسم ينوه بالمسمى، ويرفعه للأذهان بعد خفائه، وهذا معنى السمو. فإن قيل: هذا معارض باشتقاقه من الوسم فإن المعنى فيه صحيح، كما أن المعنى فيما ذكرتموه صحيح، فبماذا ثبت الترجيح؟ قيل: الترجيح معنا لوجهين: أحدهما: أن تسمية هذا اللفظ اسما اصطلاح من أرباب هذه الصناعة، وقد

_ (1) في ح: آخراً.

ثبت من صناعتهم علو هذا اللفظ على الآخَرين، ومثل هذا لا يوجد في اشتقاقه من الوسم. والثاني: أنه يترجح بما ذكرناه من المسالك المتقدمة. أما حجتهم فقد قالوا: الاسم علامة على المسمى، والعلامة تؤذن بأنه من الوسم وهو العلامة، فيجب أن يكون مشتقا منها. والجواب عنه: ما تقدم من الأوجه الثلاثة، على أن اتفاق الأصلين في المعنى، وهو العلامة لا يوجب أن يكون أحدهما مشتقا من الآخر. ألا ترى أن دمثا، ودمثراً سواء في المعنى، وليس أحدهما مشتقا من الآخر، وكذلك سبط وسبطر، وأبعد من ذلك الأسد، والليث بمعنى واحد، ولا يجمعهما الاشتقاق (1). انتهى. قوله: (ومن لغاته سم وسم) بقي منها اُسْمٌ بضم الهمزة، وسِماً بكسر أوله مقصورا كرضاً، حكاهما ابن إياز (2)، والسخاوي في " شرح المفصل " (3) فكملت لغاته ستة، وقد نظمتها في قولي: اسم بضم أول والكسر. . . مع همزة وحذفها والقصر قال الكسائي: العرب تقول: اسم بكسر الهمزة وضمها، فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسرها: سِمٌ بكسر السين، والذين لغتهم ضمها: سُمٌ بالضم. وقال ثعلب: (4) من قال: أصله من سَمَى يَسْمِي قال: اِسْمٌ وَسِمٌ، ومن قال: أصله من سَمَا يَسْمُو قال: اُسْمٌ وسُمٌ. وقال مكي في إعرابه: الاسم عند البصريين مشتق من سما يسمو، ولذلك ضمت السين في أصله في سُم، وقيل: هو من سمى يسمي، ولذلك كسرت السين

_ (1) التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين 132، 138. (2) انظر في كتاب شرح فصول ابن معطي لابن إباز ل5 نسخة مصورة بمعهد البحوث العلمية برقم 1102 النحو. (3) المفضل في شرح المفصل ل16. (4) هو أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس ثعلب النحوي اللغوي: إمام الكوفيين في النحو واللغة والثقة والديانة، له من الكتب كتاب معاني القرآن، وكتاب الفصيح، توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين. معجم الأدباء 3/ 1359 وبغية الوعاة 1/ 582.

في سِمٌ (1). قوله: (قال: بِسمِ الذي في كلِّ سُورة سُمُهْ. . . . .) قال السخاوي في " شرح المفصل ": أنشده أبو زيد (2) بكسر السين وضمها (3). قال: وكذلك أنشدوا قول الآخر: والله أسماك سُماً مباركا (4). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وكذلك قوله: وعَامُنَا أعْجَبَنَا مُقَدَّمُهْ يُدْعَى. . . أبا السَّمْحِ وَقِرْضَابٌ سُمُهْ (5). بالوجهين في جميع ذلك (6). انتهى. والشاهد الذي أورده المصنف لرؤبة، (7) وبعده: قَدْ وَرَدَتْ على طَرِيْقٍ يَعْلَمُهْ وقبله: أَرْسَلَ فيها بَازِلاً يُقَرِّمُهْ فَهْوَ. . . بِهَا يَنْحُوْ طَرِيْقاً يَعْلَمُهْ (8). قال الشريف: وجعل الفاضل اليمني هذا البيت مقدما على قوله: باسم الذي (9). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (1) كتاب مشكل إعراب القرآن 1/ 6. (2) هو سعيد بن أوس بن ثابت أبو زيد الأنصاري الخزرجي النحوي، غلبت عليه اللغة والغريب والنوادر فانفرد بذلك، له كتاب النوادر، وكتاب النبات والشجر، توفي سنة خمس عشرة ومائتين. معجم الأدباء 3/ 1359 وبغية الوعاة 1/ 582. (3) كتاب النوادر في اللغة 462. (4) سبق تخريجه. (5) مجهول القائل، وقد خرجه محقق أمالي ابن الشجري فانظر فيه 2/ 281. (6) المفضل في شرح المفصل ل16. (7) هو رؤبة بن العجاج، واسم العجاج عبد الله بن رؤبة أبو الجحاف، من رجاز الإسلام وفصحائهم، وهو من مخضرمي الدولتين، مدح بني أمية، ومدح بني العباس، وقد أخذ عنه وجوه أهل اللغة، وكانوا يقتدون به ويحتجون بشعره ويجعلونه إماما، توفي في أيام المنصور سنة خمس وأربعين ومائة. الشعر والشعراء 2/ 594 وكتاب الأغاني 20/ 312 ووفيات الأعيان 2/ 303. (8) نسبها أبو زيد في كتاب النوادر في اللغة 461 لرجل من كلب، وأما نسبتها إلى رؤبة فقيها نظر، فإنها ليست في ديوانه المطبوع. (9) تحفة الإشراف في كشف غوامض الكشاف ل7.

وأيًّا ما كان فالباء متعلقة بأرسل، أي باسمه أرسل الراعي في الإبل بازلا يقرمه، أي يتركه عن الاستعمال بالركوب والحمل ليتقوى للفحلة، فالجملة صفة بازلا، وقد تجعل حالا من المرسل؛ لأن الوصف بصيغة الماضي أولى، فهو أي البازل يقصد بتلك الإبل طريقا يعلمه، لاعتياده بتلك الفعلة (1). وقال الطيبي: الضمير المستتر في " أرسل " للراعي، والبارز في " فيها " للإبل. والمقرم: البعير المكرم الذي لا يحمل عليه، ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة (2). وقال الشيخ أكمل الدين: أي أرسل في الإبل البازل، وهو البعير الذي انشق نابه، وهو في السنة التاسعة، حال كون المرسل قرمه، أي تركه عن العمل للفحلة (3). قوله: (أو الاسم فيه مقحم، كما في قول الشاعر: إِلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسمُ السلام عليكما. . . . . . . . . . . . . . . . . .) هو للبيد بن ربيعة (4) الصحابي رضي الله تعالى عنه، قاله حين بلغ مائة وثلاثين سنة، وأوله: تَمَنُّى ابنَتَايَ أن يعيشَ أَبُوهُما. . . وَهَل أنا إلا من رَبيعة أو مُضَرْ فَقُوْمَا وقُولا بالذي تَعلَمَانِه ولا. . . تَخمِشَا وَجْهاً ولا تَحْلِقَا شَعَرْ وقولا: هو المرءُ الذي لا صديقه (5) أضاعَ. . . ولا خانَ الخليلَ ولا غَدَرْ إلى الحول ثم اسمُ السلامِ عَليكما. . . ومن يبكِ حَولاً كاملاً فَقَدِ اعتَذَرْ (6) وما ذكره من أن الاسم في البيت مقحم، وأن معناه ثم السلام عليكما نازع فيه

_ (1) حاشية الشريف 1/ 34. (2) فتوح الغيب 1/ 83. (3) حاشية أكمل الدين ل9. (4) هو لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي أبو عقيل الشاعر المشهور، كان فارساً شجاعاً شاعراً، قال الشعر في الجاهلية، ثم أسلم، توفي وهو ابن مائة وأربعين في أول خلافة معاوية. الاستيعاب 3/ 1335 والإصابة 5/ 675. (5) رواية الديوان: لا خليله. (6) شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري 213.

ابن جرير، فقال: لو صح ذلك لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل البيت بذلك، وإنما هو مخرج على وجهين: أحدهما: أن السلام من أسماء الله، والكلام إغراء. ومعنى: ثم اسم السلام عليكما: ثم الزما اسمَ الله وذكرَهُ بعد ذلك، ودَعَا ذِكري، وقدم المغرى به، على حد قوله: يا أَيًّهَا المائحُ دَلْوِي دُونَكَا (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. والثاني: أن المراد ثم تسميتي الله عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: اسم الله عليك، يُعَوِّذه بذلك من السوء، فكأنَّه قال: ثم اسم الله عليكما من السوء (2). انتهى. وقال ابن جني في " الخصائص ": ادعى أبو عبيدة زيادة اسم في البيت، ونحن نحمل الكلام على أن هناك محذوفا قال أبو علي (3): وإنما هو على حذف المضاف، أي ثم اسم معنى السلام عليكما، واسم معنى السلام هو السلام، فكأنَّه قال: ثم السلام عليكما. ثم قال: فالمعنى لعمري ما قاله أبو عبيدة، لكنه من غير الطريق التي أتاه هو منها، ألا تراه اعتقد زيادة شيء، واعتقدنا نحن نقصان شيء. قال: ونحو من هذا اعتقادهم زيادة مثل في نحو: مثلي لا يأتي القبيح، ومثلك لا يخفى عليه الجميل، أي أنا كذا، وأنت كذاك. وذكر مثله ابن يعيش في " شرح المفصل (4) ". وفي " شرح الأندلسي (5) ": لبيد هذا عاش مائة وخمسا وأربعين سنة، تسعين

_ (1) هو لراجز جاهلي، انظر في كتاب الشعر لأبي علي الفارسي 1/ 23 وخزانة الأدب لعبد القادر البغدادي 6/ 200. (2) جامع البيان عن تأويل القرآن 1/ 120. (3) هو أبو علي النحوي الفارسي، سبقت ترجمته. (4) شرح المفصل 3/ 14. (5) هو القاسم بن أحمد بن الموفق أبو محمد الأندلسي اللورقي، إمام في العربية، عالم بالقراءات، اشتغل في صباه بالأندلس، وما من علم إلا وله فيه أوفر نصيب، شرح المفصل في أربعة=

في الجاهلية، والباقي في الإسلام. ومن شعره حين بلغ السبعين: باتت تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشةً. . . وقد حَمَلْتُكِ سبعا بعدَ سبعينا فإن تزيدي ثلاثا تبلغي العُلا أملا. . . وفي الثلاث وفاءٌ للثمانينا فلما بلغ التسعين قال: كأني وقد خَلفتُ تسعين حِجَّة. . . خَلَعْتُ بها عن مَنكبي رِدائيا فلما بلغ مائة وعشرا قال: أليس في مِائةٍ قد عاشَهَا رَجُلْ. . . وَفي تَكَامُلِ عَشْرٍ بَعْدَهَا عُمَرْ فلما بلغ مائة وعشرين قال: ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها. . . وسؤالِ هذا الناسِ كيفَ لَبِيد؟ فلما حضرته الوفاة قال لابنتيه: تمنى ابنتاي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الأبيات قوله: (وإنما قال: بسم الله، ولم يقل: بالله؛ لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه) قال الراغب: قال بعض العلماء:. إنما قال: بسم الله، ولم يقل بالله؛ لأنه لما استحبت الاستعانة بالله في كل أمر يفتتح به من قراءة وغيرها، فبعضهم يذكره بقلبه، وبعضهم يزيد ويقوله بلسانه، ويكون أبلغ، وألفاظ الاستعانة نحو أستعين بالله، واللهم أعني، ونحو ذلك، وذكر الله مستعمل في كل ذلك، فصار لفظة بسم الله مستغنى بها عن جميعها، وقائما مقامها، ولو قال: بالله لتوهم الاستعانة بهذه اللفظة فقط. والاسم هاهنا موضوع موضع المصدر، أي التسمية، فالقائل إذا قال: بالله أبتدئ فمعناه بهذا الاسم، وإذا قال بسم الله فإن المقصود به المسمى (1).

_ =مجلدات، توفي سنة إحدى وستين وستمائة. إنباه الرواة 4/ 167 وبغية الوعاة 2/ 250 وشرحه اسمه "المحصل في شرح المفصل" توجد منه أجزاء متفرقة، ولا توجد منه نسخة كاملة، ومنه نسخة مصورة من المجلد الأول بمعهد البحوث العلمية برقم 552 النحو ولم أجد فيها بغيتي. وانظر شرح المفصل في صنعة الإعراب 1/ 95. (1) مقدمة جامع التفسير 110.

قوله: (ولم تكتب الألف). قال الشيخ سعد الدين: عبر عنها هنا بالألف، وفيما سبق بالهمزة؛ لأنها في الخط بصورة الألف (1). وقال البلقيني: التحقيق التعبير بالهمزة؛ فإنها هي الموجودة هنا، دون الألف، ولكن تجوز في ذلك، فأطلق على الهمزة ألفا. قوله: (على ما هو وضع الخط). قال الشريف: أراد أن وضع الخط على حكم الابتداء، دون الدرج، إذ الأصل في كل كلمة أن تكتب على صورة لفظها بتقدير الابتداء بها، والوقف عليها، فكان يجب أن تكتب الهمزة هاهنا، لثبوتها في الابتداء كما كتبت في (باسم ربك) (2). قوله: (لكثرة الاستعمال) قال محمود بن حمزة الكرماني: هذه العلة موجودة في ألف " الله " من بسم الله، ولم تحذف، وإنما تتم إذا أَضَفْتَ إليها علة أخرى، فقلتَ: ولاتصال الباء باسم وامتزاجه، بحيث لا يمكن فصله عنه، بخلاف اتصال بسم الله، فإنه يمكن فصله عنه، والوقف علية في الإملاء والاستملاء (3). وقال قوم: لا حذف، وإنما الباء داخلة على " سم " بكسر أوله، أو ضمه، ثم سكن السين فرارا من توالي الكسرات، أو الانتقال من الكسر إلى الضم. وفي إعراب مكي: حذفت الألف من الخط في بسم الله؛ لكثرة الاستعمال، وقيل: حذفت لتحرك السين في الأصل؛ لأن أصل السين الحركة، وسكونها لعلة دخلتها، وقيل: حذفت للزوم الباء هذا الاسم، فإن كتبت بسم الرحمن، أو بسم الخالق حذفت الألف من الخط أيضاً عند الأخفش (4)، والكسائي. وقال الفراء: لا تحذف إلا في بسم الله فقط، فإن دخلت على اسمٍ غيرُ الباء من حروف الخفض لم يجز حذف الألف عند أحد، نحو قولك: ليس اسم كاسم

الله، وقولك: لاسم الله حلاوة (1). وفي " الكشاف " للبلقيني: يرد على جواب المصنف لفظ " الله " مع اسم، فإنه كثير الاستعمال، ولم تحذف الهمزة، فزيد في التعليل: امتزاج الحرف بالاسم فلا يمكن فصله، ولفظ " اسم " يمكن فصله بالوقف وغيره، كذا قيل، وفيه نظر؛ فإنه لو أسقطت الهمزة من الله لالتبس ذلك بقولك: " لله " مجرورا باللام، فلذلك لم يسقطوا همزته. قال: وفي السؤال المذكور جواب آخر عن الخليل: (2) وهو أنه إنما حذفت الهمزة في بسم الله؛ لأنها إنما أدخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف، فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق) لأنه يمكن حذف الباء مع بقاء المعنى صحيحا، فإنك لو قلت: أقرأ اسم ربك صح المعنى، أما لو حذفت الباء من بسم الله لم يصح المعنى، فكان لزوم ذكر الباء في بسم الله يقتضي أن تنوب في الخط عن الهمزة، ولم تنب الباء عن الألف في (اقرأ باسم ربك). هذا جواب الخليل، وفيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقول: اسم الله الرحمن الرحيم ابتدائي، أو ابتدائي اسم الله الرحمن الرحيم، وحذف (3) ابتدائي، لدلالة الحال عليه. وقضية ما قال الخليل أن لا تحذف الهمزة في كتابة (بسم الله مجريها ومرساها) ولا باسم الرحمن، ولا باسم القاهر (4)، ونحو ذلك، والمشهور خلافه. انتهى. قوله: (وطولت الباء عوضا عنها) قال البلقيني: هو أحد القولين في ذلك.

والقول الثاني: أنهم إنما طولوها لأنها مبتدأ (1) كتاب الله تعالى، فأحبوا أن يبتدئوه على صورة التفخيم تعظيماً، وجرى الحال في بقية السور على ذلك. قال: وعلى هذا فالتي في سورة النمل ينبغي أن تكتب على الأصل، إلا أن يلاحظ فيها مكان كتابتها في أول الكتاب. وأما قوله (بسم الله مجريها) فمقتضى هذا القول أن تكتب (2) بالألف، وعلى قول العوض فكل موضع حذفت فيه (3) الهمزة تطول فيه الباء. قال: وفي تطويل الباء في البسملة كلام عن الليث بن سعد (4). أسند الخطيب في جامعه في ترجمة: " كيف يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " عن عبد الله بن صالح (5) أنه قال: كتبتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ورفعت الباء، فطالت فأنكر ذلك الليث وكرهه وقال: غيرت المعنى. يعني لأنها تصير لاما. قال الخطيب: فينبغي أن يجعل بين طول الباء وحرف السين فرق يسير للتمييز بينهما (6). قوله: (والله أصله إلاه). اعلم أن في الاسم الكريم نحو ثلاثين قولا، وقد رأيت أن أوردها هنا باختصار لتستفاد: أحدها: أنه سرياني، أصله لاها، فعرب بحذف آخره، وزيادة (7) " ال " في أوله. الثاني: أنه عربي علم غير مشتق.

الثالث: أنه مشتق من أصل لا يعلمه إلاّ الله. الرابع: أنه من أَلَهَ: عبد الخامس: من ألِهَ بالمكان: أقام به؛ لبقائه تعالى. السادس: من ألِهَ: تحير. السابع: من أَلَهَ: احتاج، لاحتياج الخلق إليه. الثامن: من ألِهَ: سكن. التاسع: من أَلِهَ الفصيل: ولِعَ (1) بأمه. العاشر: من أَلِهَ: فزع، وَأَلَهَهُ غيره، أجاره. وأصله على الأقوال السبعة: إلاه، حذفت الهمزة وعوض عنها " أل "، وقيل: بل أدخلت " أل " بلا حذف، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، ثم أدغمت، فهذه سبعة أخرى على هذا العمل. وقيل: هو من وَلِهَ: فزع، وقيل: من الوَلَهِ، وهو الطرب؛ لأن القلوب تطرب بذكره، وأصله على القولين وِلاهٌ، فقلبت الواو همزة، كإشاح، ثم يأتي فيه العملان السابقان، فهذه أربعة أقوال مع السبعة عشر. الثاني والعشرون: أن أصله لاهٌ، مصدر لاه يليه، إذا علا. الثالث والعشرون: مصدر لاه يلوه، إذا احتجب. الرابع والعشرون: أصله هاء الكناية زيد عليها لام الملك، ثم مدّ بها الصوت تعظيما، ثم ألزم اللام. وقيل: هو من الإلاه بمعنى السيد، وقيل: بمعنى الذي له الإلاهية، وقيل: القدرة على إيجاد الأعيان، وعلى القولين يأتي العملان السابقان، فهذه ثمانية وعشرون قولا. قال الشيخ سعد الدين: كما تحيرت الأوهام في ذاته وصفاته فكذا تحيرت في اللفظ الدال عليه أنه اسم، أو صفة، مشتق، أو غير مشتق، علم، أو غير علم إلى غير ذلك. قال: ولا خلاف في أن الألف واللام حرف تعريف، لا من أصل الكلمة. وجوّز سيبويه أن يكون أصله لاهٌ، " من لاهَ يليهُ (2): تستر واحتجب، إلا أن كثرة

دوران إلاه في الكلام واستعمال إلاه في المعبود، وإطلاقه على الله رجح جانب الاشتقاق من أَلَهَ قال: والحكم بأن أصله الإلاه ذهب إليه الأكثرون (1). انتهى. وكذا نقله ابن مالك عن الأكثرين (2)، ورجحه ابن جرير، واستدل بحديث " إن عيسي عليه الصلاة والسلام قال لمعلمه: أتدرى ما الله؟ الله إلاه الآلهة " (3). أخرجه هو، وأبو نعيم في " الحلية "، وابن مردويه في تفسيره، وابن عدي في " الكامل " من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، بسند ضعيف. ووجهه الشيخ أكمل الدين بأن الحرف الأصلي ما يثبت في تصاريف الكلمة، والهمزة موجودة في تصاريف هذه الكلمة، يقال: أَلِهَ، وتألّه، واستأله، وغير ذلك (4). قوله: (فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام). قال ابن جرير: كما حذفت من قوله (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) [سورة الكهف 38] أي لكن أنا (5)، وهذا هو المسمى بالحذف الاعتباطي، أي الذي لغير موجب.

وقال الشريف: حذفت الهمزة من الإلاه حذفا من غير قياس، ويدلّ عليه وجوب الإدغام والتعويض، فإن المحذوف قياسا في حكم المثبت، وقولهم: لاه أبوك، واختار أبو البقاء أنه على قياس التخفيف، فلزوم الحذف والتعويض، مع وجوب الإدغام من خواص هذا الاسم التي يمتاز بها عن نظائره امتياز مسماه عن سائر الموجودات بما لا يوجد إلا فيه (1). وقال مكي في إعرابه: الأصل في اسم الله إلاه، ثم دخلت الألف واللام، فصار الإلاه، فخففت الهمزة بأن ألقيت حركتها على اللام الأولى، ثم أدغمت اللام الأولى في الثانية، ولزم الإدغام والحذف للتعظيم والتفخيم. وقيل: بل حذفت الهمزة حذفا، وعوض منها الألف واللام، ولزمتا للتعظيم. وقيل: أصله لاه، ثم دخلت الألف واللام عليه فلزمتا للتعظيم، ووجب الإدغام، لسكون الأول من المثلين، وحذفت الألف من اسم الله في الخط استخفافا. وقيل: حذفت لئلا يشبه هجاء اللات في قول من وقف عليها بالهاء. وقيل: لكثرة الاستعمال، وكذلك العلة في حذف ألف الرحمن (2). انتهى. وقال الطيبي: قال المالكي (3): قول من زعم: أن اللام في الله عوض عن الهمزة باطل؛ لحذفهما معا في لاه أبوك، بمعنى لله أبوك، والعوض لا يحذف. جوابه: ما وقع في كلام أبي عليّ (4) أنهم يحذفون من نفس الكلمة في نحو لم يكن، ولا أدري إذا كان في الذي أبقي دليل على ما ألقي (5). وفي " الصحاح ": الله أصله إلاه، على فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مألوه، أي معبود، كقولنا: إمام، فعال بمعنى مفعول؛ لأنه مؤتم به، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام، ولو كانتا عوضا منها لما استعملتا مع المعوض منه في قولهم: الإلاه، وقطعت الهمزة في النداء، للزومها تفخيما لهذا الاسم. وسمعت أبا عليّ النحوي يقول: إن الألف واللام عوض عن الهمزة.

قال: ويدل على ذلك استجازتهم لقطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في القسم، والنداء، وذلك قولهم: أَفَأَللُّهِ ليفعلن، ويا ألله اغفر لي، ألا ترى أنها لو كانت غير عوض لم تثبت في غير هذا الاسم. قال: ولا يجوز أيضاً أن يكون للزوم الحرف؛ لأن ذلك يوجب أن تقطع همزة الذي والتي، ولا يجوز أيضاً أن يكون لأنها همزة مفتوحة وإن كانت موصولة، كما لم يجز في " أيم الله "، و " أيمن الله " التي هي همزة وصل، فإنها مفتوحة، ولا يجوز أيضاً أن يكون ذلك لكثرة الاستعمال؛ لأن ذلك يوجب أن تقطع الهمزة أيضا في غير هذا الاسم مما يكثر استعمالهم له، فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصت به، ليس في غيرها، ولا شيء أولى بذلك المعنى من أن يكون المعوض من الحرف المحذوف الذي هو الفاء (1). قوله: (ولذلك قيل: يا ألله، بالقطع) قال الطيبي: أي ولأجل أن حرف التعريف عوض عن الهمزة استجيز قطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعويف في النداء، ويعلم منه أنه لو لم يكن عوضا وكان حذفا قياسيا كما نقله أبو البقاء (2)، أصله الإله، فألقيت حركة الهمزة على لام التعريف، ثم سكنت، وأدغمت في اللام الثانية لم يجز القطع. وهذا الذي اختاره المصنف أحد قولي سيبويه في هذا الاسم (3)، على ما نقله عنه أبو عليّ في " الإغفال ". قال: أصله إلاه، ففاء الكلمة همزة، وعينها لام، واللام هاء، والألف ألف فعال، فحذفت الفاء، لا على التخفيف القياسي. قال أبو علي: فإن قيل: هلا حمله على الحذف القياسي؛ إذ تقدير ذلك سائغ فيه، غير ممتنع، والحمل عليه أولى. قيل له: فلو كان طرح الهمزة على القياس دون الحذف لما لزم أن يكون فيها عوض؛ لأن المحذوف القياسي ملقى في اللفظ، مبقى في النية، كما تقول: في " جَيْأَل " إذا خففته " جَيَل "، ولو كانت محذوفة في التقدير كما أنها محذوفة في

اللفظ للزم قلب الياء ألفا، فلما كانت الياء في نية السكون لم تقلب كما قلبت في " ناب " (1). فإن قيل: ما بال الهمزة قطعت في النداء، ووصلت في غيره؟ قلت: قال صاحب (2) " الضوء ": إنما تجردت للتعويض في النداء؛ لأن التعريف الندائي أغنى عن تعريفها، فجرت مجرى الهمزة الأصلية، فقطعت، وفي غير النداء لما لم ينخلع عنه معنى التعريف رأسا وصلوا الهمزة (3). وقال صاحب " الكشاف " في سورة " مريم ": أخلصت الهمزة في " يا ألله " للتعويض، واضمحل عنها التعريف (4). قال الطيبي: وكثيرا ما يجرّدون الحرف عن معناه المطابقي، مستعملين في معناه الالتزامي، أو التضميني، نحوا لهمزة في قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [سورة يس 10] عزلت عن الاستفهام، وجردت لمعنى الاستواء، والواو في قوله (وثامنهم كلبهم) [سورة الكهف 22] تجردت لمعنى الجمعية فقط، وسلب عنها معنى المغايرة (5). وقال الشريف: إنما اختص تعريف القطع بالنداء؛ إذ هناك يتمحض الحرف للعوضية، ولا يلاحظ معها شائبة التعريف أصلا، حذرا من اجتماع أداتي التعويف. أما في غير النداء فيجري الحرف على أصله، ويدلّ على أن قطعها في النداء لكونها عوضا، لا لمجرد لزومها وصيرورتها جزءًا = أنهم لما جمعوا بينها وبين النداء في نحو " يا التي " على الشذوذ لم يجوزوا قطعها وإن كانت جزءا من الكلمة، مضمحلا عنها معنى التعريف، وذلك لأن المحافظة على الأصل واجبة ما لم يعارضه موجب أقوى كالتعويض فيما نحن فيه (6).

وقال الشيخ سعد الدين: خص قطع الهمزة بحال النداء لتمحض حرف التعريف هناك للتعويض، مضمحلا عنها معنى التعريف، حذار الجمع بين أداتي التعريف. قال: وقد يقال في قطع الهمزة: إنه ينوي به الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم (1). وقال الشيخ أكمل الدين: فإن قلت: هذا على تقدير كون المجموع حرف التعريف صحيح، وأما على تقدير أن اللام وحدها للتعريف فينبغي أن تجعل الهمزة باقية على الأصل، لكونها غير عوض عن الأصل. قلت: لما كانت اللام الساكنة بدلا عن حرف، ولا يمكن التكلم بها إلا بالهمزة صار للهمزة مدخل في العوضية فقطعت كالأصلية (2). وقال أبو الحسن ابن خروف في " شرح الجمل ": اختلف في هذا الاسم أمنقول، أم مرتجل؟ فذهب أكثرهم إلى نقله من إلاه، منهم سيبويه، وذهب طائفة إلى أنه علم، منهم المازني (4)، وأكثر الأشعرية، وليس من شأنهم. والألف واللام زائدتان في الكلمة لا محالة، فقد صار الاسم بعد زوالها إلاهاً، أوْ لاهاً، وكلاهما قول سيبويه، فإن قدرنا نقله على طريق العلمية كانتا زائدتين لغير معنى، كزيادتهما في قوله: وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا (4). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. فأدخل الألف واللام على يزيد، وهو علم، ولا يحمل اسم الله تعالى على الشاذ المنكر مع كون الألف واللام لغير معنى، فالأولى أن يكون اسما غالبا منقولا من إلاه النكرة، كغلبة النجم للثريا، والدبران، والسماك، والعيوق، وهي أسماء غالبة، ودخلت الألف واللام للغلبة، لما كانت عامة في أجناسها، ووقعت على مخصوص دل على ذلك لزوم الألف واللام، فصارت غالبة، فالألف واللام

للغلبة، ولا يقدح ذلك في المعنى من جهة الشرع؛ وذلك أن هذا اللفظ عربي، ولا خلاف أن الحرف عمل لنا، فهي محدثة، فإذا حكم على المحدث بالنقل - وهو مرادهم بالاشتقاق - لم يقدح في المعنى، مع الجري على قوانين كلام العرب، والمعني الواقع عليه اللفظ - وهو المسمى به - هو القديم تعالى. فمن قال: أصله إلاه حذفت الهمزة على غير قياس؛ لكثرة دوره، وأدخل الألف واللام كالعوض، إما للغلبة كما ذكرنا، وإما للتعريف في قول الفراء - يريد تعريف اللفظ - ليطابق اللفظ المعنى، إذ لفظ إلاه نكرة، وفخم اللفظ تعظيما لذكره، وللفصل بينه وبين اللات، ولزمت الألف واللام، ولذلك دخلت عليه ياء، فقيل: يا ألله بقطع الألف (2). انتهى. قوله: (إلا أنه مختص بالمعبود بالحق) قال الشيخ أكمل الدين: فيه بحث؛ لأن المراد بالاختصاص المذكور إما الاختصاص بالغلبة، أو بالوضع العلمي، والأول لا يصح، وكذلك الثاني؛ لأن العلمية إنما تتعيّن إذا لم تكن صفة، وهو ممنوع. والجواب: أنه يوصف، ولا يوصف به، فلم يكن صفة (2). قال الشيخ سعد الدين: قال هنا " بالحق " وفي الإلاه " بحق " إشارة إلى ما بينهما من الفرق بالعلمية، وعدمها (3). قال أبو حيان: الله علم مرتجل، غير مشتق عند الأكثرين، وقيل: مشتق، ومادته قيل: لام وياء وهاء، من لاه يَلِيهُ: ارتفع. وقيل: لام وواو وهاء، من لاه يَلُوْهُ لوها: احتجب، ووزنه إذ ذاك فَعَلَ أو فَعِلَ. وقيل: الألف زائدة، ومادته همزة ولام وهاء من أله: أي فزع، قاله أبو إسحاق (4)،

أو أله تحير، قاله أبو عمر (1)، أو أله: عبد، قاله النضر (2)، أو أله: سكن، قاله المبرد. وعلى هذه الأقاويل فحذف الهمزة اعتباطا كما قيل: في ناس: أصله أناس، أو حذفت. للنقل، ولزم مع الإدغام، وكلا القولين شاذ. وقيل: مادته واو ولام وهاء، من وَلِهَ: أي طرب، وأبدلت الهمزة فيه من الواو، نحو إشاح، قاله الخليل، وهو ضعيف للزوم البدل، وقَوْلِهِمْ في الجمع: آلهة، ويكون فعالا بمعنى مفعول، كالكتاب يراد به المكتوب. و " أل " في الله إذا قلنا: أصله الإلاه قالوا: للغلبة؛ إذ الإلاه ينطلق على المعبود بحق وباطل، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق، فصار كالنجم للثريا، ووزنه - على أن أصله فعال، فحذفت همزته - " عال ". وزعم بعضهم أن " ال " في الله من نفس الكلمة، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال، وهو اختيار أبي بكر ابن العربي (3)، والسهيلي (4)، وهو خطأ؛ لأن وزنه إذ ذاك يكون فَعَّالاً، وامتناع تنوينه لا موجب له، فدلّ على أن " ال " حرف داخل على الكلمة، سقط لأجلها التنوين. ومن غريب ما قيل في الله: إنه صفة، وليس اسم ذات؛ لأن اسم الذات يعرف به المسمى، والله تعالى لا يدرك حسا ولا بديهة، ولا تعرف ذاته باسمه، بل إنما تعرف بصفاته، فجعله اسما للذات لا فائدة فيه، ولأن العلم قائم مقام افي شارة، وهي ممتنعة في حق الله تعالى.

وحذفت الألف الأخيرة من الله تعالى؛ لأن لا يشكل بخط " اللاه " اسم فاعل من لها يلهو، وقيل: طرح تخفيفا، وقيل: هي لغة فاستعملت في الخط. انتهى. قوله: (والإلاه في أصله لكل معبود، ثم غلب على المعبود بحق) عبارة " الكشاف ": " والإلاه من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا (2) ". قال البلقيني: هذا ممنوع من وجوه: أحدها: أن اسم الجنس عبارة عما وضع للدلالة على حقيقة توجد في آحاد متفقة، كالرجل، والفرس، والماء، والعسل، والإلاه إنما وضع للمعبود بالحق (3)، وهو الله تعالى، وإطلاق الكفرة الإلاه على معبودهم غير الله من تعنتهم وإبطالهم، فلا يصح أن يقال بمجرد ما جاء من تعنتهم: إن الإلاه اسم جنس. وقد ذكر صاحب " الكشاف " في الرحمن " أنه من الصفة (4) الغالبة، لم يستعمل في غير الله، كما أن الله من الأسماء الغالبة، وأما قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة فمن تعنتهم في كفرهم " (5). وكان ينبغي أن يقول هاهنا: إن الإلاه وضع للمعبود بحق، وإطلاق الكفرة الإلاه على غير الله من تعنتهم وإبطالهم. فإن قيل: قد أطلقت عليه العرب. قلنا: قد رد الله عليهم، وأخبر أنهم أطلقوا إطلاقا باطلا بقوله (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله من سلطان) [سورة يوسف 40]. الوجه الثاني: أن اللغات عند الأشعري وجماعة توقيفية (6)، ولم يكن الله

تعالى ينسب إليه شيء مما افترته الكفرة، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. ونفي اسم الإلاهية عن غيره بقوله: لا إله إلا أنا، فمن أثبتها لغيره فقد كفر، وقال ما لم يأذن به الله. الوجه الثالث: ما حكاه الثعلبي (1) وغيره عن الخليل: أن لفظتي (2) " الإلاه " و " الله " مخصوصان بالله تعالى، فقول المصنف: " اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل " ممنوع، بل لا يقع إلا على المعبود بحق، فما زال هذا الإطلاق مختصا بالله تعالى، ومن أطلقه على غيره حكم الله بكفره، وأرسل الرسل لدعائه إلى الحق، ورجوعه عن هذه الدعوى الباطلة. فإن قيل: الكلام في إطلاق اللفظ، لا في حكم الاعتقاد. قلنا: واللفظ لا يطلق إلا على ما قررناه، وإطلاق الكفرة لفظ الإلاه على معبوداتهم الباطلة نظير إطلاق النصارى على عيسى " الله ". وقد اعترف صاحب " الكشاف " أن لفظ " الله " لا يطلق إلا على المعبود الحق. انتهى. وقال الطيبي: في بعض شروح " المفصل ": الأعلام متى غلبت باللام فلابد من أن تكون مسبوقة بالجنسية، ثم الجنسية إما أن تكون بالنظر إلى الدليل والأمارة، أو إلى استعمال العرب، أما معنى الاستعمال فكما في النجم، والصعق، وأما الدليل فهو أن الدبران والعيوق والسماك وإن لم تكن أجناسا بالاستعمال لكنها بالنظر إلى أنها أوزان مخصوصة وحروف مخصوصة، ومعنى كل واحد منها معلوم كأن كل واحد منها جنس في الأصل بالنظر إلى الدليل (3)، فعلى هذا " الإلاه " من

القسم الثاني، وأما " الله " و " الرحمن " فمن القسم الأول. بيان ذلك أن " الإلاه " من حيث إنه كان اسما لكل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق هو مثل النجم والكتاب. وأما الله من حيث إن المعبود يجب أن يكون. خالقا رازقا مدبرا مقتدرا إلى ما لا نهاية له، واسم " الله " جامع لهذه المعانى، ومن لم يجتمع فيه كل ذلك لم يستحق أن يسمى به، فتكون الغلبة بحسب الدليل، وكذا " الرحمن " صفة لمن وسعت رحمته كل شيء، ومن لم يكن كذلك لا يسمى رحمانا، وليس كذلك إلا الله، فهو بهذا الاعتبار من الصفات الغالبة. قال: والحاصل أن الإلاه من حيث الإطلاق والاستعمال من غير اعتبار المعنى من قبيل النجم، ومن حيث اعتبار المعنى والاستحقاق من قبيل العيوق والدبران، ثم فرق بين الصيغتين بالتعويض وتركه (2). وقال الشيخ أكمل الدين: فيما ذكره المصنف بحث؛ لأن المراد من اسم الجنس إما أن يكون ما يطلق على أفراد متفقة الحقيقة، كالرجل والفرس، كما يدل عليه ظاهر كلامه، وإما أن يكون ما علق على شيء، وعلى ما أشبهه، أعمّ من أن يكون مختلف الحقيقة، أو لا، ولا سبيل إلى شيء منهما. أما الأوّل فلأن حقيقته تعالى ممتازة عن سائر الحقائق، لم يشاركه شيء فيها تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وأما الثاني فلانتفاء المشابهة؛ لقوله تعالى (ليس كمثله شيء) [سورة الشورى 11] قال: والجواب: أن المراد ما يقع على أفراد أعم من أن تكون متفقة الحقيقة، أو لا يشبه بعضها بعضا، أو لا، وحينئذ يجوز أن يقع على المعبود بحق وبغيره بالاشتراك اللفظي (2). وقال الشيخ سعد الدين: الإلاه اسم لمفهوم كلي، هو المعبود بحق، و " الله " علم لذات معين، هو المعبود بالحق، وبهذا الاعتبار كان قولنا: لا إله إلا الله كلمة التوحيد، أي لا معبود بحق إلا ذلك الواحد الحق (3).

وقال الفاضل اليمني: جعل " الله " مختصا، بخلاف الإلاه، مع أنه غالب، والغالب أيضاً مختص بناء على أن الإلاه في أصل وضعه قبل غلبته كان يستعمل في المعبود مطلقا، وأما الله فلم يستعمل إلا في المعبود بحق (1). وقال الشريف: اختار الزمخشري في اسم الله أنه عربي، وأنه كان في الأصل اسم جنس، ثم صار علما لذات المعبود بالحق، وأن أصله الإلاه، وأنه مشتق من أله: بمعنى تحير، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب معرفا باللام على المعبود بحق، أي على الذات المخصوصة، فصار علما له بالغلبة، ينصرف إليه عند الإطلاق كسائر الأعلام الغالبة، ثم أريد تأكيد الاختصاص بالتغيير فحذفت الهمزة، وصار " الله " بحذف الهمزة مختصا بالمعبود بالحق، فالإلاه قبل حذف الهمزة وبعدها علم لتلك الذات المعينة، إلا أنه قبل الحذف أطلق على غيره إطلاق النجم على غير الثريا، وبعده لم يطلق على غيره أصلا (2). * * * فائدة: حكى الإمام في معنى الإلاه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المعبود. والثاني: أنه المستحق للعبادة. والثالث: أنه القادر على أفعال يفعلها (3).

قوله: (واشتقاقه من أَلَهَ إلاهَةً وألوهة وألوهية: بمعنى عبد) قال أبو البقاء: فإلاه مصدر في موضع المفعول، أي المألوه، وهو المعبود (1). وفي الصحاح: أَلَهَ بالفتح إلاهة: أي عبد عبادة (2). وقول المصنف: (إن الإلاه مشتق من أله إلاهة) أصوب من قول " الكشاف ": " إن أَلَهَ مشتق من الإلاه، كاستنوق، واستحجر، من الناقة والحجر " (3)؛ لأنه - كما قال الشيخ سعد الدين -: أوفق للقواعد (4)، وكما قال البلقيني: إنما يصار إلى الاشتقاق من اسم العين عند تعذر الاشتقاق من اسم المعنى، وهو المصدر، ولا تعذر هنا. قوله: (ومنه تأله) أي تنسك وتعبد (واستأله) أي استعبد من مادة أله، فهو أصوب من قول " الكشاف " كما تقدم. قوله: (وقيل: من أله: إذا تحيُّرَ). هذا بكسر اللام. في الصحاح: أله يأله ألها: أي تحير، وفي القاموس: أله كفرح تحَيَّرَ (5). قوله: (وقيل: أصله لاه). قال ابن خروف: فيكون منقولا من لفظ متوهم، ودخلت الألف واللام، فيكون فَعْلاً، كباب وناب، على أنه مقلوب من وَلِهَ؛ لأن باب لَوَهَ ليس في الكلام، ولا لَيَهَ، وهو من قولهم: ولهت المرأة إذا ذهب عقلها لفقد حميمها، فالوله من العباد إليه تعالى، تعلق نفوسهم به، وذهاب عقولهم في النظر في مخلوقاته، وعظيم سلطانه (6). قوله: (ويشهد له قول الشاعر: كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار) هو من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس، أولها:

ألمْ ترَوْا إرَماً وَعَادا. . . أفناهم (1) اللّيلُ والنهارُ أَوْدُوْا فَلَم يَعْدُ (2) أنْ تَآدَوْا. . . قَفَّى على إثرِهِمْ قُدَارُ وقَبْلَهمْ غَالَتِ المَنَايَا. . . طَسْماً فَلَمْ يُنْجِهَا الحِذَارُ وحَلّ بالحَيّ منْ جَدِيسٍ. . . يَومٌ منَ الشّرِّ مُسْتَطارُ وَأهْلُ غُمْدَانَ جَمَّعُوا. . . للدَّهرِ ما يجمعُ الخيارُ وَأهْلُ جَوٍّ أَتَتْ عَلَيْهِمْ ... فَأَفْسَدَتْ عَيْشَهُمْ فَبَارُوا فَصَبَّحَتْهُمْ مِنَ الدّوَاهي. . . نَائِحَة ٌ (3) عَقْبُهَا الدّمَارُ وقد غَنُوا فِي ظِلالِ مُلْكٍ. . . مؤيَّدٍ عَقْلُهُمْ جُبَارُ ٌ (4) وَمَرَّ دَهْرٌ (5) عَلى وَبَارٍ. . . فهلكتْ جهرةً وبارُ بلْ لَيتَ شِعْرِي وأيْنَ ليتٌ. . . هَلْ يُسْتَفَاءَنَّ (6) مُسْتُعَارُ أَمْ هَلْ ٌ (7) يَعُودَنّ بَعْدَ عُسْرٍ. . . عَلى أخي شِدَّة ٌ (8) يَسَارُ أَمْ هَلْ ٌ (9) يُشَدَّنَّ مِنْ لَقُوحٍ ... بِالَّشخْبِ مِنْ ثَرَّةٍ صِرارٌ أقْسَمْتُمُوا حَلِفًا جِهَارًا ... وَنَحْنُ مَا عندنا غِرَارُ (10) نَحْيَى جَمِيعًا وَلَمْ يُفْدِكُمْ ... طَعْنٌ لَنَا فِي الكُلَى فَوَارُ تالله لا نُعَطّيَنْكُمْ (11). . . إلاّ عِرَاراً فذا عرارُ كَحَلْفَة ٍ مِنْ أَبِي رَبَاحٍ. . . يَسْمَعُهَا لاهُهُ الكُبَارُ (12)

الحلفة بالفاء المرة من الحلف، وهو القسم. وأبو رباح ضبط في " ديوان الأعشى " بخط أبي الغنائم الخلال (1) بالراء المفتوحة، والباء الموحدة. ولاهه أي إلاهه، أتى به على الأصل. والكبار بضم الكاف، وتخفيف الموحدة، بمعنى الكبير، وهو صفة لاهه. ورأيته في " ديوان الأعشى " بخط أبي القاسم الآمدي اللغوي (2) بلفظ: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يسمعها اللهم الكبار. وكذا أورده الصغاني (3) في " العباب " ولا شاهد فيه على هذا، ولكن فيه استعمال " اللهم " فاعلا غير منادى شذوذا. * * * تنبيه: استشهد المصنف على هذا القول بالشعر، وأحسن منه صنع محمود بن حمزة الكرماني، فإنه استشهد عليه بقراءة وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه " وإن كانت شاذة. قوله: (ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول لا إله إلا الله توحيداً، مثل لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة). قال الطيبي: كتب القاضي في حاشتية: الرحمن وإن خص بالبارئ تعالى إلا أن ذلك قد حصل بدليل منفصل؛ لأنه من حيث اللغة الذي يبالغ في الرحمة (4). قوله: (والأظهر أنه وصف في أصله).

الصواب نقلا ودليلا أنه علم من أصله، أما النقل فإن أكابر المعتبرين عليه كالشافعي، ومحمد بن الحسن، والخطابي، وإمام الحرمين، والغزالي، والإمام فخر الدين، ونسبه لأكثر الأصوليين، والفقهاء، ونقل عن اختيار الخليل، وسيبويه، والمازني، وابن الكيسان (3)، وأبي زيد البلخي (4)، وغيرهم. وعزاه أبو حيان للأكثرين، وابن خروف لأكثر الأشعرية. قال الجنزي (5): إذا لم يكن الله اسما، وكان صفة، وسائر أسمائه صفات لم يكن للبارئ تعالى اسم، ولم تبق العرب شيئا من الأشياء المعتبرة إلا سمته، ولم تسم خالق الأشياء وبارئها ومبدعها، هذا محال. وفي " شرح الكوكب الوقاد " (6) للعلامة عز الدين ابن جماعة (7): حكي أن

الأشعري رئي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: بماذا؟ قال: بقولي: بعلمية " الله " (1). قوله: (ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله (وهو الله في السموات) [سورة الأنعام 3] معنى صحيحا). أي من حيث الظرفية المستحيلة على ذاته، فتعيّن أن يكون فيه معنى الوصفية، أي المعبود في السموات وفي الأرض قال الطيبي وفيما ذكره نظر (2). وقال الإمام في توجيه التعليل: لو كان علما لم يجز هذا التركيب، كما لا يجوز أن يقال: هو زيد في البلد، وهو بكر، ويجوز أن يقال: هو العالم الزاهد في البلد. قال: والجواب أنه جار مجرى قولنا: هو زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد (3). * * * فائدة: الفرق بين الصفة وبين ما هو اسم للصفة - كما قال الشيخ سعد الدين - أن الاسم قد يوضع للشيء باعتبار بعض معانيه وأوصافه، من غير ملاحظة لخصوصية الذات، حتى إن اعتبار الذات عند ملاحظته لا يكون إلا لضرورة أن المعنى لا يقوم إلا بالذات، وذلك صفة كالمعبود، ولذلك فسروا الصفة بما يدلّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود، أو على ذات مبهم ومعنى معين، والتزموا ذكر الموصوف معه لفظا أو تقديرا لتبيين الذات، وقد يوضع للشيء بدون ملاحظة ما فيه من المعاني، كرجل وفرس، أو مع ملاحظة لبعض الأوصاف والمعاني كالكتاب للشيء المكتوب، والنباب للجسم النابت، وكجميع أسماء الزمان والمكان والآلة، ونحو ذلك مما لا يحصى، وذلك اسم غير صفة، ويستدل على أن المقصود هو المعنى، أو الذات بأن الأول لا يوصف، ويوصف به، والثاني

بالعكس (1). قوله: (وقيل أصله لاها بالسريانية) عبارة الإمام: وزعم بعضهم أنها عبرية، أو سريانية، فإنهم يقولون: لاها رحمانا مرحانا، فلما عرب جعل " الله الرحمن الرحيم ". قال: وهذا بعيد، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية (2). وفي " الكشاف " للبلقيني: قال أبو زيد البلخي: هو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون: لاها، فأخذت العرب هذه اللفظة وعرّبتها. وهذا يوافق قول من قال: إن أصله لاها بالسريانية، فإنهم يقولون ذلك ممدودا، كما يقولون في الروح: روحا، وفي القدس قدسا، ثم تلقته العرب فحذفت المدة وعرّبته، وأدخلت عليه " ال "، وجعلته بهذه الصيغة، فلا اشتقاق له على هذا؛ لأنه أعجمي معرّب. قال البلقيني: وهذا القول لا يلتفت إليه، ولا دليل عليه، إذ لا يصار إلى إثبات العجمة بغير دليل. قوله: (وتفخيم لامه) قال الشيخ سعد الدين: معنى التفخيم هاهنا التغليظ، على ما هو ضد الترقيق، وقد يجيء بمعنى ترك الإمالة، وبمعنى إمالة الألف إلى مخرج الواو (3). زاد الشريف: كما في الصلاة والزكاة. وقال الشيخ أكمل الدين: التفخيم يطلق على ضد الترقيق، وهو التغليظ، وعلى ضد الإمالة بالاشتراك، والمراد هو الأوّل (4). قوله: (سنة) قال الشريف: أي طريقة مسلوكة (5).

قوله: (وقيل: مطلقا). أي ولو انكسر ما قبله، وهذا ينافيه قول الشيخ سعد الدين: أطبقوا على أن لا تفخيم عند كسر ما قبله (1). وقال الشريف: ولا تفخيم بعد الكسر اتفاقا؛ لاستثقال علوّ التفخيم بعد استفال الكسرة (2). وقال الشيخ أكمل الدين: إنما يجري فيه التفخيم إذا كان ما قبله ضمة، أو فتحة، فأما إذا كان ما قبله كسرة فقد اتفق القراء على ترقيق اللام كما في بسم الله؛ لأن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل؛ لاقتضاء الكسرة التسفل، وذاك الاستعلاء (3). قوله: (وحذف ألفه لحن). نازع فيه النووي، كما سنذكره. قوله: (ولا ينعقد به صريح اليمين). ظاهره أنه تنعقد به الكناية، بأن ينوي به اليمين، فيصح، وهو ما ذكره الجويني، والإمام، والغزالي، حملا لحذف الألف على اللحن، وسكت عليه الرافعي (4). وقال النووي في " الروضة ": ينبغي أن لا يكون يمينا؛ لأن اليمين لا تكون إلا باسم الله، أو صفة له. ولا نسلم أن هذا لحن؛ لأن اللحن مخالفة صواب الإعراب، بل هذه كلمة أخرى، إذ البِلَّةُ هي الرطوبة (5). ونازعه الإسنوي في " المهمات ": فقال ليس كذلك، بل هي لغة أخرى، حكاها الزجاجي (6) فيما حكاه عنه ابن الصلاح (7).

قوله: (اسمان بنيا للمبالغة) قال البلقيني: يخالفه قول جميع العلماء أن فَعَّالا، وفَاعِلاً، ونحوهما في صفات الله تعالى سواء. قوله: (من رحم) قال البلقيني: لا يجري ظاهره على طريقة البصريين، فإما أن يكون جرى على طريقة الكوفيين، وإما أن يكون أراد أنه من مادة رحم، لا أنه مشتق منه، ولو قيل: إنه من رَحَم المصدر لم يبعد؛ لأنه يقال: رحم يرحم رحمة ومرحمة وَرَحَماً، فهو راحم ورحيم ورحمان، وليس لنا فعل متعد جاء منه فاعل، وفعيل، وفعلان إلا رحم (1)، وهذا دليل على عظم هذه الصفة واتساعها. وقال الشريف: فإن قلت: الرحمن صفة مشبهة، فلا تشتق إلا من فعل لازم، فكيف اشتق من رحم، وهو متعد. وأما الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة - كما نص عليه سيبويه في قولهم: هو رحيم (2) فلانا - فلا إشكال فيه، وإن جعل صفة مشبهة - كما يشعر به تمثيل صاحب " الكشاف " بمريض وسقيم - توجه عليه السؤال أيضاً. قلت: الفعل المتعدي قد يجعل لازما بمنزلة الغرائز، فينقل إلى فَعُل بضم العين، ثم تشتق منه الصفة المشبهة، وهذا مطرد في باب المدح والذمّ، نص عليه في " تصريف المفتاح " وذكره الزمخشري في " الفائق " في فقير، ورفيع، ألا ترى أن قوله تعالى (رفيع الدرجات) [سورة غافر: 14] معناه رفيع درجاته، لا رافع للدرجات (3). انتهى. ومشى عليه شيخنا العلاّمة محيي الدين الكافيجي فقال: الرحمن فعلان من فعل بالكسر صفة مشبهة، لكن بعد النقل إلى فعُل، أو بعد تنزيل المتعدي منزلة _______ (1) يرد عليه ما حكاه ابن خالويه، فقد جاء في: كتاب نتائج المذاكرة 38: وقد حكي أن سيف الدولة قال لابن خالويه: لم يأت على تصريف: رحم فهو راحم، ورحيم، ورحمان إلا قولهم: سلم فهو سالم، وسليم، وسلمان، وندم فهو نادم، ونديم، وندمان، فقال ابن خالويه: أنا أعرف رابعا في نسب الأمير، وهو: حمد، فهو حامد، وحميد، وحمدان.

الفعل اللازم، كما في قولك: فلان يعطي (1). قوله: (كالغضبان من غَضِب) قال البلقيني: يقال عليه باب فعلان في نحو غضبان مخالف لرحمان، فإن فعل غضبان ونحوه لازم، وهو المطرد في فعلان، وأما رحمان ففعله متعد، وفعلان من المتعدي نادر، وأيضاً فإن باب فعلان في غضبان ونحوه للأمور التي تتحول وتهجم في كثير من الأحوال على صاحبها من غير اختياره، ولا كذلك رحمان، وأيضا فليس من الأدب التشبيه الذي ذكره، ولو قال: الرحمن فعلان من رحم أو رحمة، كمنَّان من المن، وحنَّان من الحنان لكان أولى. قوله: (والرحمة في اللغة رقة القلب) إلى آخره. حاصله أن حقيقة الرحمة يستحيل إطلاقها على الله تعالى، فتفسر بلازمها، كسائر ما ورد وصفه به مما استحالت حقيقته، كالرضا، والغضب، والضحك. وهل تفسر الرحمة بإرادة الخير، أو بالإنعام على العباد قولان، فعلى الأوّل هي من صفات الذات، وعلى الثاني هي من صفات الأفعال. قال بعض أصحاب الحواشي: منشأ الخلاف أن من رحم شخصا أراد به الخير، ثم فعله به، فأبو الحسن الأشعري أخذ المجاز الأقرب، وهو الإرادة، والقاضي أبو بكر أخذ المجاز المقصود، وهو الفعل (2).

قوله: (والرحمن أبلغ من الرحيم) قال الراغب: لأن فعيلا لمن كثر منه الفعل، وفعلان لمن كثر منه وتكرر (1)، وذهب قطرب إلى أنهما سواء في المبالغة، وقرره الجويني بأن فعلان من تكرر منه الفعل وكثر، وفعيل من ثبت منه الفعل ودام. وقال الشيخ سعد الدين: هذا ما ذكر في كتب اللغة أن الرحمن أرق من الرحيم. وحاصله أن معنى الرحيم ذو الرحمة، ومعنى الرحمن كثير الرحمة جدا. قوله: (لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى). قال صاحب " الإنصاف ": هو منقوض بحذر، فإنه أبلغ من حاذر (2). وأجاب صاحب " الانتصاف " بأن الأغلب ما ذكره المصنف، وبأن حذرا لم تقع المبالغة فيه لنقص الحروف، بل لإلحاقه بالأمور الجبلية، كالشَرِه والنَهِم والفَطِنِ، ولا نقض مع اختلاف العلة (3). قال الشيخ سعد الدين: وقع في الرحمن زيادة على الحروف الأصول فوق ما

وقع في الرحيم، وأهل العربية يقولون: إن الزيادة في البناء تفيد الزيادة في المعنى. ونوقض بحذر فإنه أبلغ من حاذر. وأجيب: بأن ذلك أكثري لا كلي، وبأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء الأنقص زيادة معنى بسبب آخر، كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم، وبأن ذلك فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى، كغَرِثٍ وغرْثَان، وصَدٍ وصديان، لا كحذر وحاذر للاختلاف (1). وقال الشيخ أكمل الدين: ذكر صاحب " المفتاح " في تصريفه ما معناه: إن الشرط في أن الزيادة في البناء لزيادة في المعنى - بعد الرجوع إلى أصل واحد في الاشتقاق - الاتحاد في النوع، فلا ينتقض بنحو حاذر وحذر، لأنهما نوعان، وكفاك دليلا نحو غرث وغرثان وصد وصديان، فإن ذلك راجع إلى أصل واحد، وهو اسم الفاعل، كالرحمن والرحيم، بخلاف حذر وحاذر، فإن أحدهما اسم فاعل، والآخر صفة مشبهة (2). قوله: (تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية) إلى آخره. تقريره ما ذكره صاحب (3) " المطلع ": أن الواصل في الدنيا كثير الكمية، باعتبار كثرة من يصل إليه من مؤمن وكافر وحيوان، قليل الكيفية لقلة الدنيا وسرعة انصرامها وكثرة شوائبها، والواصل في الآخرة قليل الكمية بالإضافة إلى من يصل إليه، وهمْ المؤمنون، كثير الكيفية؛ لوجود الملك المؤبد، والنعيم المخلد. قوله: (قيل: يا رحمان الدنيا ورحيم الآخرة) ثم قال: (قيل: يا رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا). تابع في ذلك " الكشاف " (4). قال الطيبي: هذا دليل على أن الرحمان أبلغ من الرحيم (5). وقال البلقيني: هذان الأثران لا يُعرفان، بل الوارد " رحمان الدنيا والآخرة

ورحيمهما " (1) أخرجه الحاكم في " المستدرك " مرفوعا. قوله: (وإنما قدم، والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى). قال الشيخ علم الدين العراقي: لأنك إذا ذكرت الأعلى أولا، ثم الأدنى لم يتجدد بذكر الأدنى فائدة، بخلاف عكسه (2). قال ابن المنير: وهذا في الإثبات، وأما في النفي فعلى العكس يقدم الأعلى، وعلته واحدة، إذ يلزم من نفي الأدنى نفي الأعلى؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعمّ ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص (3). وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام: هذا السؤال الذي سأله الزمخشري وغيره: لم قدم الرحمن مع أن عادتهم تقديم غير الأبلغ غير متجه؛ لأن هذا خارج عن كلام العرب من وجهين؛ لأنه لم يستعمل صفة، ولا مجردا من " ال "، وينبني على علميته أنه في البسملة ونحوها بدل، لا نعت، وأن الرحيم بعده نعت له، لا نعت لاسم الله سبحانه؛ إذ لا يتقدم البدل على النعت. قال: ومما يوضح لك أنه غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [سورة الرحمن 1] (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) [سورة الإسراء 110] (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ) [سورة الفرقان 60] انتهى.

قوله: (ولأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره). قال الكرماني: بالإجماع (1). وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: " الفرق بين لفظ " الله " و " الرحمن " وإن كان كل واحد منهما لم تقع المشاركة فيه أن المنع في اسم الرحمن شرعي طرأ بعد الإسلام، بخلاف الآخر فإنه لم يتجرأ عليه أحد قبل الإسلام ولا بعده (2). * * * تنبيه: ظاهر كلامه أن الرحيم يوصف به غيره، وهو المعروف، لكن أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال: الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه (3). وظهر لي أن مراده المعرّف باللام، دون المنكر والمضاف. قوله: (فيكون كالتتمة والرديف). قال الطيبي: حاصله أنه من باب التتميم، لا من باب الترقي، والتتميم تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغة. قال: وظاهر كلام الإمام أنه من باب التكميل، وهو أن يؤتى بكلام في فنّ فَيُرَى أنه ناقص فيه، فيكمل بآخر، فإنه لما قال: الرحمن يوهم أن جلائل النعم منه، وأن الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها، فكمل بالرحيم. وينصره حديث " ليسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها حتى شسع نعله (4) ".

قوله: (والأظهر أنه غير مصروف) إلى قوله: (إلحاقا له بالأعم الأغلب) (1). وجه مُقَابلِهِ الإلحاقُ بالأصل في الأسماء، وهو الصرف. وهذه المسألة مما تعارض فيها قولا الأصل والغالب في العربية، وهي نادرة فيها مشهورة في الفقه، وقد أوردتها في " الأشباه والنظائر " النحوية (2). ومال الشيخ سعد الدين إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين. قال: والإعمال في الجملة أولى من الإهمال بالكلية (3). قوله: (على فعلى أو فعلانة) قال صاحب " البسيط ": الأوزان وضعها النحويون أعلاما على موزوناتها اختصارا وإيجازا، فإن كانت أوزانا للأفعال، خاصة بها فحكمها حكم موزوناتها، كقولك: فَعَل ماضٍ، ويَفَعَلُ مضارعٌ، وانفعل خماسي، واستفعل سداسي، أو لغيرها فإن وضعت لجنس ما يوزن بها. سواء كانت للأسماء كفعلان، وفاعلة، وفعلة، أو للأسماء والأفعال كأفعل فحكمها حكم نفسها في منع الصرف وعدمه، لأنها تصير مقصودة، إذ مسماها للجنس، كأسامة، فلا يقصد بها مسمى معين، فتقول: أفعل إذا كان اسما نكرة مصروف، فلا ينصرف أفعل للتعريف ووزن الفعل، وإن كان موزونه مصروفا كأرنب، وفعلان صفة لا ينصرف، فلا ينصرف فعلان للتعريف والألف والنون المشبهتين لألفي التأنيث، وإن كان بعض موزونه

مصروفا نحو ندمان، وإذا نكر انصرف؛ لزوال علميته، كقولك: كل أفعل صفة لا ينصرف فيصرف أفعل؛ لأن دخول كل عليه سلب علميته وأوجب له التنكير، وليس بصفة، فليس فيه إلا وزن الفعل، وإن لم توضع لجنس ما يوزن بها، فإن وضعت كناية في موزونها نحو مررت برجل أفعل لم ينصرف عند سيبويه؛ لأنه كناية عن الوصف بمنزلة رجل أكرم، وصرفه المازني؛ لأنه لا معنى للوصف فيه، وإن كان موزونها مذكورا معها كقولك: وزن ضاربة فاعلة، ووزن طلحة فعلة، ووزن أصبع أفعلَ ففيه مذهبان: أحدهما: أن حكم الوزن حكم نفسه، فلا ينصرف فاعلة، وفعلة؛ للعلمية والتأنيث، ولا أفعل، للعلمية ووزن الفعل. والثاني: حكمه حكم موزونه فإن كان مصروفا انصرف الوزن، وإلا فلا، وعلى هذا تصرف فاعلة وأفعل؛ لانصراف ضاربة وأصبع، دون فعلة لعدم انصراف طلحة. حجة الأوّل: أن حكمه حكم علم الجنس. وحجة الثاني: أن علم الجنس خارج عن القياس في الأعلام، ولذلك احتيج إلى تأويله للدخول في حد (1) العلم؛ لكونه نكرة في المعنى، وإنما حكم لمفرداته بالعلمية، لوجود الحقيقة في المفرد، كوجودها في الجنس. وأما أعلام الأوزان فإذا خرج مفرد منها إلى الوجود وجب اعتباره بنفسه؛ لعدم مشاركته للجنس في حقيقته حتى تعتبر تلك الحقيقة فيه. وزعم بعضهم أن التنوين في قولك: فاعل مفاعلة، وفعلل فعللة مع وجود العلمية والتأنيث في المصدر تنوين المماثلة، وليس بتنوين الصرف، ومعنى تنوين المماثلة أنه مماثل لموزونه في التنوين، فإن موزونه منون. ودليل علمية هذه الأوزان معاملتها معاملة المعارف في وصفها بالمعارف، ونصب الحال عنها، كقولك: فعلان الذي مؤنثه فعلى لا ينصرف، وأفعل صفة لا ينصرف. انتهى. وهذه فائدة مهمة يكثر. دورانها في هذا الكتاب وغيره، فقررتها هنا لتستفاد. قوله: (فيتوجه بشراشره).

(الحمد

بتكرير المعجمة والراء. في " الصحاح ": يقال: ألقى عليه شراشره، أي نفسه، حرصا ومحبة (1). قال الكميت (2): وتُلْقَى عليهِ عِندَ كُلِّ عَظِيمةٍ. . . شراشرُ من حَيَّيْ نِزَارٍ وَأَلْبُبِ (3) وفي القاموس: الشراشر النفس، والأثقال، والمحبة، وجميع الجسد (4). وفي الأمثال للقمي (5): قال الأصمعي: من أمثالهم: " ألقى عليه شراشره (6) " أي ألقى عليه نفسه من حبه. والشراشر البدن، وكل ما عليه من الثياب، الواحدة شرشرة، ويقال: الشراشر ما تذبذب من الثياب. قال ذو الرمة (7): وكَائِن تَرَى مِن رَشْدَةٍ في كَرِيْهَةٍ. . . وَمِنْ غَيَّةٍ يُلْقَى عَلَيهَا الشَّرَاشِرُ (8) * * * قوله: (الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري) قال الشريف: إذا خص الحمد بالأفعال الاختيارية يلزم أن لا يحمد الله على صفاته الذاتية، كالعلم والقدرة والإرادة، سواء جعلت عين ذاته، أو زائدة عليها،

بل على إنعامه، اللهم إلا أن تجعل تلك الصفات - لكون ذاته كافيه فيها - بمنزلة أفعال اختيارية، يستقل بها فاعلها. قال: والثناء هو الذكر بالخير (1). قوله: (من نعمة) قال الشريف: أي إنعام بنعمة (2). قوله: (والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا) حاصل ما فرّق به الناس بين الحمد والمدح أمور: أحدها: - وعليه اقتصر المصنف - أن الحمد على الجميل الاختياري، والمدح على ما لا اختيار فيه للعبد، كالحسن. ثانيها، وثالثها: أن الحمد يشترط صدوره عن علم، لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظنّ، وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص مّا. رابعها: أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح، وهو أخص بالعقلاء والعظماء، وأكثر إطلاقا على الله. قوله: (وقيل: هما أخوان). قال الطيبي: أي متشابهان، لا مترادفان، فإن الأخ يستعمل في المشابهة. قال في " الفائق " في قوله: " كأخ السرار " أي كلاما كمثل المسارة، وشبهها به لخفض صوته (3). وقال الشريف: أي هما مترادفان، ويدل على ذلك أنه قال في " الفائق ": الحمد هو المدح، والوصف بالجميل، وأنه جعل هاهنا نقيض المدح، أعني الذمّ نقيضا للحمد. وقيل: أراد أنهما أخوان في الاشتقاق الكبير أو الأكبر، أما الكبير فبأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب، مع اتحاد في المعنى، أو تناسب فيه كالجذب والجبذ، وكالحمد والمدح، وأما الأكبر فبأن يشتركا في أكثر تلك الحروف فقط، مع الاتحاد، أو التناسب كَألَهٍ، ووله، وكالفلق والفلج (4).

وقال الشيخ أكمل الدين: المراد بالأخوة تلاقيهما في الاشتقاق؛ لتناسبهما في الحروف الأصلية - وهو ظاهر - مع الاشتراك في المعنى، وهو الثناء المطلق، أي الذكر بالجميل، وليس المراد ترادفهما؛ لأن الأخوة لا تقتضي الترادف. وقيل: المراد بالأخوة الاستلزام، وذلك لأن الحمد لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية، والمدح يستعمل في الأفعال الاختيارية وغيرها، فكان بينهما عموم وخصوص مطلقا، وإليه ذهب أكثر العلماء (1). قوله: (والشكر مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا). قال الطيبي: هذا عرف أهل الأصول، فإنهم يقولون: شكر المنعم واجب، ويريدون به وجوب العبادة، والعبادة لا تتم إلا بهذه الثلاثة، وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان (2). قلت: وفيما ذكره نظر، فإن ظاهر القرآن والحديث إطلاق الشكر على غير اللساني، قال الله تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سورة سبأ 13]، وقال صلى الله عليه وسلّم: " الحمد رأس الشكر (3) " فإنه دال على إطلاق الشكر عنى غير الحمد أيضاً. وروى الطبراني في " الأوسط " عن النواس بن السمعان أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجدعاء سرقت، فقال: " لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي " فلما ردت قال: " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي، فقالوا له، فقال: " ألم أقل: الحمد لله (4) ". ووجه الدلالة: أن الصحابة لولا فهموا إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه. * * * تنبيه: أطبق الناس على جعل أقسام الشكر ثلاثة. وزاد بعضهم رابعا، وهو شكر الله بالله، فلا يشكره حق شكره إلا هو. ذكره صاحب التحرير (5)، وأنشد:

وَشُكْرُ ذَوِي الإحسانِ بالقلبِ تارةً. . . وبالقولِ أخرى، ثم بالعمل لا يُنْسى وَشُكْرِي لِرَبِّي لا بقلبي وطاعتي. . . ولا بلساني، بل به شُكْرُهُ عنا قوله: (أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثلاثةً يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبَا) رأيت بخط الشيخ جمال الدين ابن هشام في بعض تعاليقه ما نصه: في استدلال الزمخشري وجماعة بهذا البيت نظر؛ إذ لم يسم الشاعر هذه الأشياء شكرا ولا حمدا. وقال الشيخ سعد الدين: عبارة " الفائق ": وأما الشكر فلا يكون إلا على النعمة، وهو مقابلتها قولا وفعلا ونية، وذلك أن يثني على المنعم بلسانه، ويدئب نفسه في الطاعة له، ويعتقد أنه ولي النعمة، وقد جمعها الشاعر في قوله: أفادتكم النعماء مني ثلاثة (1). . . . . . . البيت قال: فظهر أن المراد التمثيل لجميع شعب الشكر، لا الاستشهاد والاستدلال على أن لفظ الشكر يطلق عليها. ومعنى البيت: أفادتكم إنعاماتكم عليّ ثلاثة أشياء مني: المكافأة باليد، ونشر المحامد باللسان، ووقف الفؤاد على المحبة والاعتقاد (2). وقال الشريف: الشكر إما بالقلب بأن يعتقد اتصاف المنعم بصفات الكمال، وأنه وليّ النعمة، وإما باللسان بأن يثني عليه بلسانه، وإما بالجوارح بأن يدئب نفسه في طاعته وانقياده. وقوله: أفادتكم النعماء. . . . . . . . . . . . . . . . . .. استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة. وبيان ذلك أنه جعلها بإزاء النعمة جزاء لها، متفرعا عليها، وكل ما هو جزاء النعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة. ومن لم يتنبه لذلك زعم (3) أن المقصود مجرد التمثيل لجميع شعب الشكر،

لا الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق عليها، فإنه غير مذكور. فإن قلت: الشاعر جعل المجموع بإزاء النعمة، فالشكر يجب أن يطلق عليه، وأما على كل واحد من الثلاثة فلا. قلت: الشكر يطلق على فعل اللسان اتفاقا، وإنما الاشتباه في إطلاقه على فعل القلب والجوارح، حتى توهم كثير من الناس أن الشكر في اللغة باللسان وحده، ولما جمعه الشاعر مع الآخَرَينِ، وجعلها ثلاثة علم أن كل واحد شكر للنعمة، وأنه أراد أن نعماءكم كثرت عندي وعظمت، فاقتضت استيفاء أنواع الشكر، وبالغ في ذلك حتى جعل موارده واقعة في مقابلة النعماء ملكا لأصحابها، مستفادا منها، كأنه قال: يدي ولساني وقلبي لكم، فليس في القلب إلا نصيحتكم ومحبتكم، ولا في اللسان إلا ثناؤكم ومحمدتكم، ولا في اليد والجوارح إلا مكافأتكم وخدمتكم. وفي وصف الضمير بالمحجب إشارة إلى أنهم ملكوا ظاهره وباطنه (1). انتهى. وقال الشيخ أكمل الدين: معنى قوله: أفادتكم النعماء مني ثلاثة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت النعم التي أنعمتم بها عليّ أفادتكم يدي، أعينكم بها، ولساني أثني عليكم به، وقلبي أشغله في محبتكم. وهذا كما ترى ليس فيه سوى أن النعم المنعم بها على المثني أورثت اشتغال هذه الأعضاء بما ينفع المنعم، وأما أن الشكر شيء تكون هذه الأشياء شعبا له فليس فيه دلالة على ذلك (2)، وهو واضح، فما ذكره العلماء قاطبة في معرض

بيان أن الشكر هذه الأشياء، وأن الحمد بعضه مستشهدين به ليس بمستند إلى أصل. ويمكن أن يقال: إن ثبت عند العلماء أن مقابلة النعمة باللسان وحده هو الحمد فمقابلتها بالأعضاء الثلاثة لا تكون الحمد، وإلا كان الشيء مع غيره كالشيء، لا مع غيره، وهو محال، فلا بد وأن يكون شيئا آخر، وليس في هذا الباب بالاستقراء ما يدل على هذا المعنى إلا المدح والشكر، وقد تقدم أن المدح يؤاخي الحمد في المساواة في المفهوم، فلم يبق إلا الشكر. ويمكن أن يقال: الجزاء من جنس العمل، فإذا كانت النعمة الواصلة إلى المثني صادرة عن لسان المنعم تقابل باللسان، وهو الحمد، وإذا كانت صادرة عن يده بكف شره أو شر غيره تقابل بمثلها، وإذا كانت صادرة عن قلبه كذلك، وتسمى مكافأة، لا حمدا ولا شكراً. وأما إذا كانت صادرة عن الأعضاء الثلاثة فتقابل بمثلها، وتسمى شكرا، من شكرت الناقة إذا غزر درها، فظهر أن في كل شكر حمدا، ولا ينعكس (1). انتهى. قوله: (ولما كان الحمد من شعب الشكر). قال الشريف: أي باعتبار المورد وإن كان أعمّ منه باعتبار المُتَعَلَّقِ، فيكون الشكر باعتباره أحد شعب الحمد، وعبر عن الأقسام بالشعب؛ لأنها متشعبة عن مَقْسِمِهَا (2). قوله: (كان أشيع): أي أكثر إشاعة. وقال الشيخ أكمل الدين: هو أفعل من الإشاعة، وهو شاذ. قال: والأولى أن يكون من الشيوع، من شاع الخبر (3). قوله: (في إِدْآبِ الجوارح) أي إتعابها. قال في " النهاية ": دأب في العمل: إذا جدّ وتعب، إلا أن العرب حولت معناه

إلى العادة والشأن (1). قوله: والعمدة فيه قوله صلى الله عليه وسلّم: " الحمد رأس الشكر، ما شكر الله من لم يحمده ". قال الطيبي: لم أجده في الأصول، لكن ذكره ابن الأثير في " النهاية (2) ". قلت: أخرجه. عبد الرزاق في " المصنف " عن معمر (3)، عن قتادة قال: تحدث به عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: " الحمد لله رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده (4) " ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين قتادة وعبد الله بن عمرو. وقد أخرجه من طريق عبد الرزاق الحكيم الترمذي (5) في " نوادر الأصول " والبيهقي في " شعب الإيمان " والخطابي في " غريب الحديث " والواحدي في " البسيط " والديلمي (6) في " مسند الفردوس ". قال في " النهاية ": إنما كان رأس الشكر لأن فيه إظهار النعمة والإشادة بها (7).

وقال الشيخ سعد الدين: في قوله: " ما شكر الله عبد لا يحمده " يعني أن من لم يعترف بالمنعم ولم يجهر بالثناء عليه لم يعد شاكرا، ولم يظهر منه ذلك وإن أتى بالعمل والاعتقاد، وذلك لأن المنبئ عن ما في الضمير وضعا، والمظهر له حقا هو النطق. وحقيقة معنى الشكر إشاعة النعمة والإبانة عنها، ونقيضه - وهو الكفران - ينبئ عن الستر والتغطية (1). وبسطه الشريف فقال: لأنه إذا لم يعترف العبد بالنعم وإنعام المولى ولم يثن عليه بما يدلّ على تعظيمه وإكرامه لم يظهر منه شكر ظهورا كاملا وإن اعتقد وعمل فلم يعد شاكراً؛ لأن حقيقة الشكر إشاعة النعمة والكشف عنها، كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها، والاعتقاد أمر خفي في نفسه، وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به، فإنك إذا قمت تعظيما لأحد احتمل القيام أمرا آخر إذا لم يعتبر للتعظيم (2). وأما النطق فهو الذي يفصح عن كل خفي، فلا خفاء فيه، ويجلي كل مشتبه، فلا احتمال له، بل هو ظاهر في نفسه، وتفسير لما أريد به وضعا، فكما أن الرأس أظهر الأعضاء وأعلاها، وهو أصل لها وعمدة لبقائها كذلك الحمد، أظهر أنواع الشكر وأشهرها وأشملها على حقيقة الشكر والإبانة عن النعمة، حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم (3). قوله: (والذم نقيض الحمد). قال الطيبي: أي مقابله، لاختصاصه باللسان أيضاً (4). قوله: (والكفران نقيض الشكر). قال الطيبي: لحصوله بالقلب واللسان والجوارح (5). قال الراغب: الكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين

أكثر، والكُفُور فيهما جميعا، قال الله تعالى (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (1)) [سورة الإسراء 99] * * * تتمة (2): زاد الطيبي: والهجو يقابل المدح؛ لما فيه من الثلب الذي هو نقيض التحسين (3). قوله: (ورفعه بالابتداء). قال الشيخ سعد الدين: تعرّض لذلك مع ظهوره ليفرع عليه قوله: " وأصله النصب (4) ". وقال الشريف: ربما يتوهم أن المجرور معمول للمصدر، واللام لتقويته، كما في قولك: أعجبني الحمد لله، فذكر ارتفاعه بالابتداء مع ظهوره، ليبين أن الظرف هاهنا مستقر، وقع خبرا له، وليربط به بيان أصله، أعني النصب (5). قوله: (وأصله النصب وقرئ به). قال الشريف: المصادر أحداث متعلقة بمحالها، فكأنها تقتضي أن تدل على نسبتها إليها، والأصل في بيان النسب والتعلقات هو الأفعال، فهذه مناسبة تستدعي أن يلاحظ مع المصادر أفعالها الناصبة لها، وقد تأيدت هذه المناسبة في مصادر مخصوصة بكثرة استعمالها منصوبة بافعال مضمرة، فلذلك حكم بأن أصله النصب، وأيده بأنه قراءة بعضهم (6). قال الطيبي: وهذه القراءة ما ذكرها ابن جني في " المحتسب (7) " - يعني مع أن موضوعه ذكر القراءات الشاذة وتوجيهها -. قوله: (وإنما عدل به إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له، دون تجدده وحدوثه). قال في " الإنصاف ": يدل على ذلك أن سيبويه اختار في قول القائل: " فإذا له

علم علم الفقهاء " الرفع، وفي قوله: " فإذا له صوت صوت حمار (1) " النصب؛ لإشعار النصب بالتجدد (2) المناسب للأصوات (3)، وإشعار الرفع بالثبوت الذي هو في العلم أمدح (4). وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت: ما معنى كون حمد العباد لله مع أن حمدهم حادث، ولا يجوز قيام الحادث بالله تعالى. قلت: المراد منه تعلق الحمد به، ولا يلزم من التعلق القيام به، كتعلق العلم بالمعلومات، فلا يتوجه الإشكال أصلا. قال: وقد أجاب عنه بعض الفضلاء بأن الحمد مصدر بناء المجهول، فيكون الثابت له هو المحمودية. وقيل: إن اللام هنا للتعليل، بمعنى أن الحمد ثابت لأجل الله (5). انتهى. قوله: (وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة). زاد في " الكشاف ": " والمعنى نحمد الله حمدا (6) ". وقال أبو البقاء: تقديره هنا أحمد الحمد (7). وقال أبو حيان: تقديره أحمد الله، أو حمدت الله، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه. قال: وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غير مشتق من الحمد، أي اقرءوا الحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعا وذئبا. قال: والأوّل هو الصحيح، لدلالة اللفظ عليه. قال: وفي قراءة النصب اللام للتبيين، كأنه قال: أعني لله، فلا تكون مقوية للتعدية، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر؛ لامتناع عمله فيه، قالوا: سقيا لزيد، ولم يقولوا: سقيا زيدا، فيعملونه فيه، فدل على أنه ليس من معمول

المصدر، بل صار على عامل آخر (1). قوله: (والتعريف فيه للجنس، ومعناه الإشارة إلى ما يعرف (2) كل أحد أن الحمد ما هو، وقيل: للاستغراق؛ إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط، أو بغير وسط) حاصله أنه ردد بين كون اللام للجنس والاستغراق، منكرا بالمعنى على الزمخشري، حيث قصرها على الأول، وَوَهَّمَ من ذهب إلى الثاني. وقد قيل: إن ذلك منه نزعة اعتزالية (3)، بناء على أن العبد موجد لأفعاله بالاستقلال، فيستحق بذلك بعض الحمد، فلا يكون كل الحمد لله. وقد أشار المصنف إلى رده بأن كل خير فهو تعالى موليه بواسطة أو بغيرها، فالحمد في الحقيقة كله له، ثم إن المحققين ذهبوا إلى الاستغراق، فكان ينبغي للمصنف تقديمه. قال الإمام فصيح الدين (4) في " الفرائد ": كَأَنَّ الزمخشري أراد بما قاله أن بعض الحمد لله، بناء على مذهبه، وليس كذلك؛ فإنه لا حمد إلا لله تعالى. نعم تعريف الجنس ليس مما يقتضي الاستغراق، ولكنه يحتمله، فإن لم يمنع مانع وافتضاه المقام كان مرادا منه، والحمد لما كان هو الوصف بالجميل على

جهة (1) التعظيم، والله تعالى خالق كل جمال وكمال، وخالق كل من له الجمال والكمال، وخالق كل ما يستحق به الحمد من الأفعال فله الحمد في الحقيقة وإن أضيف في الظاهر إلى غيره. وقال صاحب (2) " اللباب " في تفسير الفاتحة (3): توجيه ما قاله الزمخشري أن اللام لا تفيد شيئا سوى التعريف، والاسم لا يدل إلا على نفس الماهية المعبر عنها بالجنسية، فإذن لا يكون ثم استغراق. قال الطيبي: وهذا ذهول عن قول صاحب " المفتاح ": إن الحقيقة من حيث هي هي صالحة للتوحد والتكثر؛ لاجتماعها مع كل واحد منهما، فإذا اجتمعت مع المفرد والجمع في المقام الخطابي حملت على الاستغراق (4). قال الطيبي: والحق أن الحمل على الجنس أو على الاستغراق إنما يظهر بحسب المقام. وبيانه هنا أن في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعارا بأن الحمد إنما استحقه لما أنه متصف بها، كما صرّح به في قوله: " وهذه الأوصاف دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء (5) ". وقد تقرر في الأصول أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية، وهاهنا الصفات بأسرها تضمنت العموم، فينبغي أن يكون العموم في الحمد ثابتاً. وبيانه أن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة، والمنعم هو الله، وخص اسمه المقدس لكونه جامعا لمعاني الأسماء الحسنى، ما عُلم وما لم يُعلم، والمنعم عليهم العالمون، وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به، وموجب النعم الرحمن الرحيم، وهو قد استوعب (6) جميع النعم، فإذن ما الذي يستدعي تخصيص الحمد بالبعض سوى التحكم والتوهّم (7).

وفي " اللطائف القشيرية ": واللام في الحمد للجنس، ومقتضاها الاستغراق لجميع المحامد لله تعالى إما وصفا، وإما خلقا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه (1). الإمام: لو قال: أحمد الله كان قد ذكر حمد نفسه فقط، وإذا قال: الحمد لله فقد دخل فيه حمده، وحمد غيره جميعا من لدن خلق العالم إلى انتهاء دخول أهل الجنة الجنة (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (2)) [سورة يونس 11]. " الإنصاف ": تعريف النكرة باللام إما للعهد، وإما للجنس، والذي للعهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معيّن من أفراد الجنس نحو (فعصى فرعون الرسول) [سورة المزمل 11] وإما أن ينصرف إلى الماهية باعتبار تميزها عن غيرها، كقولك: أكلت الخبز. والجنس هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، كقولك: الرجل خير من المرأة. وكلا نوعي العهد لا يوجب استغراقاً، إنما يوجبه الجنس، والزمخشري جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، وعبر عنه بتعريف الجنس، لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه، وغير الزمخشري جعله للاستغراق، وليس ببعيد (3). الطيبي: ليس المراد من تعريف الجنس في الحمد الماهية من حيث هي هي، نحو الرجل خير من المرأة، بل المراد منه فرد غير معيّن بحسب الخارج، نحو دخلت السوق في بلد كذا (4). الشيخ أكمل الدين: تعريف الجنس هو الذي يقال فيه: العهد الذهني عند المحققين، فإنهم قالوا: لام التعريف هو الدال على الحاضر في ذهن السامع، وهو إما أن يكون كليا أو جزئيا، والأول يسمى عهدا ذهنيا، ويعبر عنه أيضا بتعريف الجنس، والثاني يسمى عهدا خارجياً، والتعرض للأفراد المعني بقولهم: الاستغراق ليس للام دلالة عليه، وإنما هو بحسب المقام، فإذا كان خطابيا مثل

" المؤمن غر كريم (1) " حمل المعرف باللام مفردا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد، دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما يعود إلى ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح. قال: وفسر المصنف تعريف الجنس بقوله: ". ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو (2) " أي إلى حقيقة من الحقائق، والمراد بها الإشارة العقلية؛ لأن الكليات لا تدرك إلا بالعقل. قال: ونسب من ذهب إلى أنها للاستغراق إلى الوهم، فاختلف الناس في بيان ذلك. فمنهم من قال: إنما فعل ذلك بناء على مذهبه، وليس في كلامه ما يشعر بذلك، على أن هذا لا يصح إلا إذا كان نفيه الاستغراق في هذه المادة خاصة، وأما إذا كان مراده أن الاستغراق لا يستفاد من اللام أينما كانت فليس بصحيح، لعدم وجوده في غير هذه المادة. ومنهم من قال: إنما نسبه إلى الوهم؛ لأنه قدم أن أصل الكلام نحمد الله حمدا، فيكون الحمد منزلا منزلة حمدا، ومفهومه ماهية الحمد؛ لأنه مفعول مطلق للتأكيد، فيكون المراد بالحمد ماهيته. وفيه نظر؛ لأنه يفيد الاختصاص بالمادة، وتشبيهه ب " أرسلها العراك " ينافيه، ولأنه منزل منزلة حمدا في تقدير الناصب، لا في كونه نكرة. ومنهم من قال: إنما فعل ذلك بناء على ما ذكرنا أن اللام للعهد، والاستغراق ناشئ عن المقام، وهذا المقام آبٍ عن الاستغراق؛ لأن اختصاص حقيقة الحمد به

تعالى أبلغ من اختصاص أفراده جمعا وفرادى، وفيه إشعار بأن حمد كل حامد، لكل محمود، حمد لله تعالى على الحقيقة؛ لأن الحمد إنما يكون على الفعل الاختياري بالجميل، وكل ما يصدر من الفعل من كل محمود فإنه فعل خلقه الله تعالى، فيكون الحمد المقابل الله خالقه. وردّ بأن إباء المقام عن الاستغراق ممنوع؛ لأنه مقام خطابي يستدعي الحمل على الاستغراق، وبأن كون اختصاص حقيقة الحمد أبلغ ممنوع، فظهر من ذلك كله أن جعل اللام للحقيقة ليس أولى من الاستغراق إلا إذا كان مراده بكلامه ذلك أن جعل اللام موضوعة للاستغراق وهم، فإنها موضوعة للعهد (1). انتهى. وقال الشريف: قوله: " ومعناه الإشارة " إلى آخره تصريح بأن معنى تعريف الجنس الإشارة إلى حضور الماهية في الذهن، وتميزها هناك من سائر الماهيات، فإن المُنَكَّرَ وإن دلّ على ماهية معقولة متميزة في الذهن حاضرة عنده إلا أنه لا إشارة فيه إلى تعينها وحضورها، فإذا عرف بلام الجنس فقد أشير إلى ذلك، والفرق بين حضورها وتعينها في الذهن، وبين الإشارة إلى حضورها وتعينها هناك مما لا خفاء فيه. وتوهّم كثير من الناس أن معنى تعريف الجنس هو الاستغراق، ويبطله أن الاستغراق قد يتحقق في النفي والإثبات كما في لا رجل في الدار، وتمرة خير من جرادة، وليس معه تعريف أصلاً. فإن قيل: قد حمل صاحب " الكشاف " المعرّف بلام الجنس في مواضع على الشمول والإحاطة، وهو معنى الاستغراق بعينه، فكيف جعله هنا وهما؟. قلنا: الوهم كون الاستغراق معنى تعريف الجنس، لا كونه مستفادا من المعرّف باللام بمعونة المقام، وما نُقِلَ عنه من أن اللام لا تفيد سوى التعريف والإشارة، والاسم لا يدلّ إلا على مسماه، فإذن لا يكون ثَمَّة استغراق، أراد به أن ليس ثَمُّ استغراق هو مدلول الاسم، أو اللام، لا أنه لا يستفاد من القرائن الخارجية. وتحقيق الكلام أن معنى التعريف مطلقا هو الإشارة إلى أن مدلول اللفظ معهود، أي معلوم متعين حاضر في ذهن السامع، يرشدك إلى ذلك ما فسر به

المصنف تعريف الجنس هاهنا، وما صرّح به ابن الحاجب في " إيضاح المفصل " من أن زيدا موضوع لمعهود بين المتكلم والمخاطب، ومن أن غلام زيد لمعهود معين بينهما بحسب تلك النسبة المخصوصة (1). وما ذكره بعض الأدباء من أن المعرفة ما يعرفه مخاطبك، والنكرة ما لا يعرفه، وما أجمعوا عليه من أن الصلة يجب أن تكون معلومة الانتساب للسامع. وإذا استقريت كلامهم وتحققت محصوله استوثقت بما ذكرنا. وقد صرّح به بعض الأفاضل فقال: التعريف يقصد به معهود معين عند السامع من حيث هو معين، كأنه أشار إليه بذلك الاعتبار. وأما النكرة فيقصد بها التفات النفس إلى المعين من حيث ذاته، ولا يلاحظ فيها تعينه وإن كان معينا في نفسه. وحينئذ نقول: اللام إذا دخلت على اسم فإما أن يشار بها إلى حقيقة معينة من مسماه فردا كانت أو أفراداً، مذكورة تحقيقا أو تقديراً، وتسمى لام العهد، ونظيره العلم الشخصي، وإما أن يشار بها إلى مسماه، وتسمى لام الجنس، فإن قُصد المسمى من حيث هو كما في التعريفات، ونحو قولنا: الرجل خير من المرأة تسمى اللام حينئذ لام الحقيقة والطبيعة، ونظيره العلم الجنسي، وإن قصد المسمى من حيث هو في ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له في ضمنها، فإما أن يقصد إليه من حيث هو في ضمن جميع أفرادها، كما في المقام الخِطابي بعلة إيهام أن القصد إلى بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح، وتسمى لامَ الاستغراق، ونظيره كلمة كل مضافة إلى النكرة، أو في ضمن بعضها كما في المقام الاستدلالي، وتسمى لام العهد الذهني كقولك: ادخل السوق، حيث لا عهد، ومؤداه مؤدى النكرة، ولذلك تجري عليه أحكامها، فظهر أن اللام إما لتعريف العهد، أو لتعريف الجنس، كما ذكر في " المفصل (2) " وأن الاستغراق والعهد الذهني راجعان إلى التعريف الجنسي، ومستفادان من الأمور الخارجة عن مدلول اللام والمعرّف بها، وهو مراد الزمخشري. وقد قيل: اختياره الجنس على الاستغراق مبني على مسألة خلق الأفعال،

فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح تخصيص المحامد كلها لله تعالى. وفساده ظاهر؛ لأن اختصاص الجنس به تعالى يستلزم اختصاص جميع أفراده أيضاً؛ إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه. وقيل: مبني على أن هذه المصادر نائبة مناب أفعالها، سادة مسادها، والأفعال لا تعدو دلالتها على الحقيقة إلى الاستغراق. وَرُدَّ بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة قرائن الأحوال. وقيل: إنما اختاره بناء على أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال، لا سيما في المصادر، وعند خفاء قرائن الاستغراق. وهو أيضاً مردود بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخِطابية يتبادر منه الاستغراق، وهو الشائع في الاستعمال هناك مصدرا كان أو غيره، وأيّ مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد بالله تعالى تعظيما له، فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنارٍ على علم. والحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود - الذي هو ثبوت الحمد له تعالى، وانتفاؤه عن غيره - إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة، ويستعان فيه بالأمور الخارجة، بل نقول - على ما اختاره -: يكون اختصاص جميع الأفراد ثابتا بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء (1). وقال الشيخ بهاء الدين السبكي (2) في " عروس الأفراح ": العهد قد يكون شخصيا كقوله (فعصى فرعون الرسول) وقد يكون جنسياً، بمعنى إرادة جنس، هو نوع لما فوقه، كقولك: الرجل، تريد به فردا من أفراد الرجال الحجازيين دون غيرهم، وهذا يقع كثيرا في الكلام. ولعل منه قوله تعالى (أولئك الذين آتيناهم الكتاب) [سورة الأنعام 89] فإن

المراد جنس كتب الله تعالى، ليكون صالحا للتوراة والإنجيل والزبور التي أوتيها من تقدّم ذكره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فاللام فيه عهدية جنسية. وكذلك قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [سورة البقرة 177]. قال الزمخشري: " أي جنس كتب الله (1) " المنزلة، وتصير هذه الألف واللام عهدية جنسية استغراقية قال: " واللام على أقسام: أحدها: جنسية فقط، كقولك: الرجل خير من المرأة، أي حقيقة الرجولية خير من حقيقة الأنوثة (2). الثان ي: عهدية عهدا خارجيا كالرجل لمعين. الثالث: عهدية ذهنا. ونعني بالخارجي ما كان السامع يعرفه، وبالذهني ما انفرد المتكلم بمعرفته، وإلا فالعهد لا يكون إلا في الذهن. الرابع: عهدية جنسية، كقولك: أكرم الرجل، تريد جنس الحجازي في جواب من قال: حضر حجازي. الخامس: كذلك وهو معهود ذهني، لا خارجي كالمثال المذكور، حيث لم يكن في جواب. السادس: استغراقية جنسية مثل الرجل الجاهل خير من المرأة. السابع: استغراقية جنسية عهدية كالمثال المذكور مريدا به الحجازي. الثامن: كذلك، والمعهود ذهني. التاسع: جنسية، ولكن يريد جملة ذلك الجنس، لا باعتبار العموم، ليفيد علم الأفراد والمجموع معاً، فإن المجموع في الإثبات يستلزم الأفراد، بل يكون المدلول الحقيقة كلها، وهو بمعنى العموم المجموعي. وينبغي أن يجعل منه قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة (3)) [سورة الرعد 9].

فوائد: الأولى: قال الشريف: إنما قال: " والتعريف فيه للجنس " ولم يقل: واللام تنبيها على أن اللام للتعريف اتفاقا وإن وقع اشتباه في معنى التعريف (1). الثانية: حكى الكرماني في غرائبه، ثم السمين في إعرابه قولا ثالثا: أنها للعهد (2). وعندي أنه عين القول " بأنها للجنس، كما تقدم تقريره في كلام صاحب " الانتصاف " وغيره. ثم رأيت أبا حيان قال في كتابه إعراب القرآن الذي لخصه من بحره: الحمد مصدر معرّف ب " أل " إما للعهد، أي الحمد المعروف بينكم لله، أوْ لتعريف الماهية كالدينار خير من الدرهم، أي أَيُّ دينار كان فهو خير من أي درهم كان، فيستلزم إذ ذاك الأَحْمُدَ كلها، أو لتعريف الجنس فتدلّ على استغراق الأحمد كلها بالمطابقة (3). ثم رأيت في " شرح الرسالة " للفاكهي (4): قال: سمعت شيخنا أبا العباس المرسي (5) يقول: قلت لابن النحاس النحوي (6) - يعني الشيخ بهاء الدين شيخ أبي حيان -: ما تقول في الألف واللام في الحمد لله، أجنسية هي أم عهدية؟ فقال: يا سيدي قالوا: إنها جنسية، فقلت له: الذي أقول: إنها عهدية، وذلك أن

الله لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله، نيابة عن خلقه قبل أن يحمدوه، فقال: أشهدك أنها للعهد. الثالثة: حكى الكرماني قولا آخر أنها للتفخيم والتعظيم (1)، فإن أراد الاستغراق فعبارة غريبة فيه، وإلا فلا يعرف ذلك في أقسام اللام. الرابعة: ألَّف الشيخ علاء الدين البخاري (2) من شيوخ شيوخنا رسالة في تقرير أن الحمد لله جملة خبرية، لا إنشائية قال فيها: أجمعت الأمة على إمكان كون اللام فيه للاستغراق لأن أهل السنة حملوها على الاستغراق، والحكم بثبوت الشيء فرع إمكانه، وغيرهم من المعتزلة ومن يجري مجراهم افتقروا في حملها على الجنس إلى ما يرجحه على الاستغراق، وذلك دليل على الاعتراف (3) بإمكانه؛ إذ ترك الممتنع والأخذ بالممكن لا يفتقر إلى المرجح، فثبت (4) بالإجماع المركب إمكان استغراقه. الخامسة قال بعض أرباب الحواشي: اختلف الناس في الحمد لله، فاختار الزمخشري أنه خبر عدل به عن الأمر، واختار آخرون أنه خبر على حقيقته، وأن المراد به الإخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد، كما قال تعالى (له الحمد في الأولى والآخرة) [سورة القصص 70]. وبنى الزمخشري على مذهبه أن الألف واللام في الحمد لتعريف الحقيقة، فإنه يستحيل الاستغراق، فإنه لا يؤمر العبد بأن يحمد كل حمد في العالم، وأصحاب القول الثاني جعلوها للاستغراق؛ لأنه إخبار بما يستحقه الله تعالى من جميع المحامد. قوله: (وقرئ الحمدِ للهِ باتباع الدال اللام، وبالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة). قال ابن جني في كتابه " المحتسب في توجيه شواذ القراءات ": قراءة أهل

الباديةِ الحمدُ لُلَّه مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة إبراهيم ابن أبي عبلة الحمد لله مكسورتان، ورواها أيضاً لي قراءة لزيد بن علي، وللحسن البصري. وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال، إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك، وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لما كثر في استعمالهم أشد تغييرا، كما جاء عنهم لذلك لم يَكُ، وَلا أَدْرِ، وَلَمْ أبَلِ، وأيشٍ تقول، وجا يجِي، وسا يَسُوْ، بحذف همزتيهما. فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدإ وخبر، فصارت الحمدُ لُله، كَعُنُق وَطُنُبٍ، والحمدِ لِلّهِ كَإِبِل وِإطِل إلا أن الحمد لله بضم الحرفين أسهل من الحمد لله بكسرهما من موضعين: أحدهما: أنه إذاكان إتباعا فاقيس الإتباع أن يكون الثاني تابعا للأول، وذلك أنه جار مجرى السبب والمسبب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما تقول: مُدُّ وشُدُّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول الثاني في نحو اُقْتُلْ واُدْخُلْ، فكذلك الحَمْدُ لُله أسهل مأخذا من الحمدِ لِلَّه. والآخر: أن ضمة الدال في الحمد إعراب، وكسرة اللام في لله بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت: الحمد لله فقريب أن تغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: الحمد لله غلبت البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافا ذلك إلى حكم تغيير الآخر للأول، وإلى كثرة باب عنق وطنب في قلة باب إبل وإطل، ومثلُ هذا في إتباع الإعرابِ البناء قوله: وقال: اضْرِبِ السَاقَينِ إِمِّكَ هابِلُ. كسر الميم لكسرة الهمزة. ثم من بعد ذلك إنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر، وهو أن قولك: " الحمد لله " جملة، وقد شبه جزءاها معا بالجزء الواحد، وهو مُدٌّ، أو عُنُقٌ فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطَان دلَّ ذلك على شدة اتصال المبتدإ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزئين مجرى الجزء الواحد. وقد نحوا هذا الموضع في قولهم في تأبط شرا: تأبطي، وفي رجل اسم زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفونه من المركب في قولهم في

حضرموت: حضرمي، وفي رامهرمز: رامي، وكما يقولون في طلحة: طلحي، فدل ذلك على شدة اتصال المبتدإ بخبره. ومثله في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير (فإذا هِيَ تُّلَقَّفُ) [سورة الأعراف 118] بتسكين حرف المضارعة من (تلقف) فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء بالساكن، بل صار في اللفظ (هِيَ تَّ) كالجزء الواحد الذي هو خِدَبٌّ، وهِجَفٌّ، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدإ بخبره مما تقدم؛ لما فيه من وجوب تصور الابتداء بالساكن. ومن ورائه أيضاً ما هو ألطف مأخذا، وهو أن (تلقف) جملة، ومشفوعة أيضاً بالمفعول الموصول الذي هو (ما يأفكون). وأصل تصور الجمل في هذا المعنى أن تكون منفصلة قائمة برؤوسها، وقد ترى هاهنا كيف تصورت شديدة الحاجة إلى المبتدإ قبلها، فإذا جاز هذا الخلطُ له وَوِكَادَةُ الصلة بينه وبين ما قبله فما ظنك بخبر المبتدإ إذا كان مفردا، لا يشك أنه به أشد اتصالا، وإليه أقوى تساندا وانحيازا، فاضمم ذلك إلى ما قبله. ونحو منه حكاية الفراء عن بعضهم - وجرى ذكر رجل، فقيل: هاهو ذا، فقال مجيباً: نِعْمَ الهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدإ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد. نعم، وفي صدر هذه الجملة حرف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيين (1) المتعاقبين مع حجزه بينهما، واعتراضه على كل واحد منهما (2). انتهى كلام ابن جنى. قوله: (الرب في الأصل بمعنى التربية) إلى آخره. لم يصرح بما هو المراد به هنا، إلا أن كلامه في حكاية القول الأول يشعر باختيار أن المراد به هنا المربي، وفي حكاية الثاني يشعر بأن المراد به المالك، وهو لغة يطلق عليهما، وعلى الخالق، والسيد، والثابت، والمعبود، والمصلح، وكل ذلك تحتمله الآية. قال الماوردي وغيره: فإن فسر بمعنى المالك، أو السيد، أو الثابت فمن

صفات الذات أو بالباقي فمن صفات الفعل (1). وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره: إن فسر بالمعبود على معنى مستحق العبادة فصفة ذات، أو على معنى الذي يعبده الخلق فصفة فعل. وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: الأولى أن يحمل هنا على المصلح لعمومه (2). وساق الطيبي كلام القاضي فاهما منه أنه فسره بالمربي، ثم قال: وهذا التفسير أولى؛ لأنه أعم وأنسب للحمد، فإن من شأن المالك إصلاح ما تحت سياسته، وإتمام أمر معاشه. ثم ذكر قول الجوهري: رب كل شيء مالكه، وربيت القوم: سستهم، ورب الضيعةَ: أي أصلحها وأتمها، وَرَبَّ فلانٌ وَلَدَهُ يَرُثهُ رَبًّا. وقال: فالواجب حمل الرب على كلا مفهوميه، بأن يفسر الرب بالقدر المشترك المتصرف التام، وسبيل إعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمرٍ سبيلُ الكناية في أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه، وإذا اختلفا سبيلُ الحقيقةِ والمجاز (3). وقال الأصبهاني (4): يصح أن يراد به هنا جميع معانيه، ولهذا أتى به هنا دون المالك ونحوه. قوله: (وقيل: هو نعت من ربه يربه، فهو رب، كقولك: نم ينم فهو نم). قال الشريف: قوله " فهو رب " يدل على أنه صفة مشبهة من فعل متعد، لكن بعد جعله لازما بالنقل إلى فعل بالضم، كما سلف تحقيقه. ولما كان مجيء الصفة على فعل من باب فعل بالفتح، يفعل بالضم عزيزا استشهد له بمثال، يقال: نم الحديث ينمه وينمه بالضم والكسر فهو نم، ولابد فيه

من النقل أيضاً، وكان في ترك المفعول نوع إشارة إليه (1). وقال أبو حيان: " رب " على هذا القول اسم فاعل حذفت ألفه، فأصله راب، كما قالوا: رجل بار وبر (2). قوله: (ولا يطلق على غيره تعالى). قال الشريف وغيره: يعنى به " غالباً، وإلا فقد جاء في شعر الحارث بن حلزة (3) يمدح ملكا: وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَيَّ يو. . . مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاْءُ بَلاءُ (4). قلت: الظاهر أن مراد المصنف نفي إطلاقه شرعا، والحارث من شعراء الجاهلية. وقال الشيخ سعد الدين: المراد أن لفظ الرب بدون الإضافة لا يذكر إلا في حق الله تعالى، بخلاف الجمع كـ " الأرباب " كما يقال: رب الأرباب، وفي التنزيل (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ) [سورة يوسف 39]. قوله: (إلا مقيدا كقوله (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) [سورة يوسف 50]. قال الطيبي: هذا يرده ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يقل أحدكم أطعم ربك، ولا وضئ ربك، ولا اسق ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ". قال: وأما قول يوسف عليه السلام (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) و (إِنَّهُ رَبِّي) * ونحوه فهو ملحق بقوله تعالى (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) [سورة يوسف 100] في الاختصاص بزمانه. قلت: جوابه أن النهي في الحديث للتنزيه. قوله: (والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم). قال الشريف: يريد كما أن الخاتم - مع كونه مشتقا من الختم - اسم لما يختم

_ * الراجح عند المحققين أن الضمير في قول يوسف - عليه السلام (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) يعود على الله تبارك وتعالى وليس على العزيز. والله أعلم.

به كذلك العالم - مع اشتقاقه من العلم - اسم لكل ما علم به الخالق. قوله: (غلب فيما يعلم به الصانع). قلت: اشتهر عند المتكلمين إطلاق الصانع عليه تعالى، وقد اعترض بأنه لم يرد، وأسماؤه تعالى توقيفية. وأجاب الشيخ تقي الدين السبكي بأنه قرئ شاذا (صَنَعه الله) بلفظ الماضي، فمن اكتفى في الإطلاق بورود الفعل اكتفى بذلك. وأجاب غيره بأنه مأخوذ من قوله (صُنْعَ اللَّهِ) وهو أيضاً جار على طريقة من يكتفي في لإطلاق بورود المصدر. أقول: وقد ظفرت بحديث صحيح ورد فيه إطلاقه عليه تعالى، وهو ما أخرجه الحاكم في " المستدرك " وصححه، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إن الله صانع كل صانع وصنعته " (1)

ثم ظفرت بحديث ثان صحيح، وهو ما أخرجه الطبراني في " الكبير " والحاكم في " المستدرك " عن خباب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يصرفونا عن ديننا، فصرف وجهه عني، ثلاث مرات، في كل ذلك أقول له، فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة، ثم قال: " أيها الناس اتقوا الله، فوالله إن كان " الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، وما يرتد عن دينه، اتقوا الله فإن الله فاتح لكم وصانع " (1). قوله: (وإنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة). قال في " الانتصاف ": تعليله الجمع بإفادة الاستغراوا فيه نظر، فإن العالم - كما ذكر - اسم جنس، وعرف بلام الجنس، فصار مفردا أدل على الاستغراق منه جمعا. قال إمام الحرمين: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور؛ فإن اسم التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور ترده (2) إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب. قال صاحب " الانتصاف ": والتحقيق فيه وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس (3)، ثم يعرف تعريف الجنس أنه يفيد أمرين:

أحدهما: أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة. والآخر: أنه مستغرق لجميع ما تحته منها، فالمفيد لاختلاف الأنواع الجمع، والمفيد للاستغراق التعريف؛ إذ لو جمع مجردا (1) عن تعريف أفاد اختلاف الأنواع، ولو عرف مجردا عن الجمع أفاد الاستغراق، فظهر ضعف قوله: (جمع ليشمل) إذ الشمول من التعريف، لا من الجمع، وضعف قول الإمام: إن الجمع يوهي الإشعار بالاستغراق، فإن اختلاف الأنواع الذي قصد به الجمع لا ينافيه. وقال صاحب " الانتصاف ": بنى كلامه على أن المفرد المعرف باللام يفيد الاستغراق، وهو مذهب المبرد، والمختار أنه لا يفيده، وأن الجمع المعرف يفيده. وقال الطيبي: فإن قلت: أليس هذا مخالفا لقولهم: الاستغراق في المفرد أشمل. قلت: لا، لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات، والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة، فلو أفرد وقيل: رب العالم لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه إطلاق اسم العالم، فلا تعلم نصوصية تعدد الأجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما تعلم من الجمعية، فجمع ليشمل ذلك المعنى. قال: وأما ما ذكره صاحب " الانتصاف " فمندفع؛ لأن السؤال وارد على الجمع المحلى باللام، وتقريره ما سبق (2). وقال الشيخ أكمل الدين: ليس المراد بالجنس في قوله: (ليشمل كل جنس) ما هو المصطلح؛ لأنه إن أراد الأجناس العالية التي حصرها المقولات العشرة لا يكون العالمين شاملا للأجناس المتوسطة، وهي الأنواع الإضافية، ولا للأنواع السافلة؛ لعدم دلالة الأعم على الأخص، وإن أراد الأجناس المتوسطة لم يشمل الأنواع السافلة، والأصناف، والأفراد، فلا بد من شيء يصح به الكلام، فقال بعضهم: لما فسر العالم بمجموع الموجودات العالمة، أو بمجموع الموجودات

المعلومة، وذلك لا يتعدد توجه أن يقال: فلم جمع؟ فقال: ليشمل كل جنس من أجناس الموجودات المسماة بالعالم، نحو عالم الأجسام، عالم الأعراض، عالم الحيوان، إلى غير ذلك، وهذا غير مفيد ما هو المراد من الجنس على ما ذكرنا على أن العالم إن كان أحد المجموعين لم يحتمل الجمع؛ إذ ليس ما وراء المجموع شيء، على أنه اعترض عليه بأمور: منها أن الجمع يقتضي اتفاق الأفراد في الحقيقة، وهاهنا ليس كذلك. ومنها: أنه لا حاجة إلى الجمع؛ لأن استغراق المفرد أشمل. ومنها: أن الشمول مقتضى اللام، لا الجمعية، فإن اسم الجنس إذا جمع دل على إرادة الأنواع كزيوت، أو الأفراد كرجال، لا على الشمول. وقال بعضهم: أراد بقوله: (كل ما علم به الصانع) أن العالم يطلق على كل واحد واحد من أنواع ما يعلم به الخالق، وعلى للمجموع؛ إذ لو كان المجموع فقط لاستحال جمعه، وإذا صح إطلاقه على كل واحد واحد من الأنواع، فلو أفرد لأوهم أن المراد استغراق أفراد نوع مما يطلق عليه، لا الأنواع كلها مع أفرادها. وأما إذا جمع واستغرق الأنواع بالتعريف فقد ارتفع ذلك الوهم. هذا حاصل كلامه، وهو ليس شرحا لكلام المصنف، أما أولاً: فلأنه فسر الجنس بالنوع، ولا دلالة للأعم على الأخص، وأما ثانيا: فلأنه جعل اللام مفيدة لاستغراق الأنواع، والجمع لاستغراق الأفراد، واللام لا تفيد الاستغراق عند الزمخشري، والجمع لا يفيد استغراق الأفراد بالاتفاق. ولعل الصواب أن يقال: المراد بالجنس الحقيقة، ومعناه رب هذه الحقيقةِ، أي حقيقة ما يعلم به الخالق، ولما كانت ذات أفراد جمع ليشمل كل واحد واحد بالمطابقة. ووما قيل: لو قيل: إن العالم والعالمين كعرفة وعرفات لم يبعد، ليس بشيء؛ لأنه قياس فيما يعرف بالسماع (1). انتهى كلام الشيخ أكمل الدين. وقال الشيخ سعد الدين: معنى الكلام أن العالم اسم لكل جنس يعلم به الخالق، يقال: عالم الملك، وعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الأفلاك، وعالم

النبات، وعالم الحيوان، وليس اسما لمجموع ما سوى الله تعالى بحيث لا يكون له أفراد، بل أجزاء فيمتنع جمعه (1). وقال أبو حيان: جمع العالم شاذ، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع (2). قوله: (وغلب العقلاء منهم فجمع بالياء والنون). أحسن من قول " الكشاف ": " وجمع بالواو والنون إشعارا بالصفة؛ لما قيل من أن الجماد يعلم به أيضاً (3) ". قال صاحب " الفرائد ": لا يلزم من الوصفية جواز الجمع بالواو والنون؛ لما عرف من اختصاصه بصفات أولي العلم، فالوجه التغليب بعد اعتبار الوصفية؛ لأن كل عالم يعلم من حيث إنه دل على الخالق تعالى وتقدس. وقال الطيبي: إنما جمع بالواو والنون جمع قلة، والظاهر مستدع للإتيان بجمع الكثرة تنبيها على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه (4). قوله: (كسائر أوصافهم). تقرير لكونه وصفا بعد جعله اسما، وذلك بتأويل كونه دالا على صانعه. قوله: (وقيل: اسم وضع لذوي العلم). هو على هذا مشتق من العِلْمِ، وعلى الأول من العلامة. قوله: (والثقلين) أي الجن والإنس، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض. قال الطيبي: فيستدل به على أن الجن أجسام (5). قوله: (وقيل: عني به الناس هاهنا، فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض) إلى آخره. قال الغزالي في كتابه " الانتصار لما في الإحياء من الأسرار ": اعلم أن آدم مخلوق على مضاهاة صورة العالم الأكبر، لكنه مختصر صغير، فإن العالم إذا فصلت أجزاؤه وفصلت أجزاء آدم بمثله وجدت أجزاء آدم مشابهة للعالم الأكبر.

فمن ذلك أن العالم ينقسم قسمين: أحدهما: ظاهر محسوس كعالم الملك. والثاني: باطن معقول كعالم الملكوت، والإنسان كذلك انقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم وسائر أنواع الجواهر المحسوسة، وإلى باطن كالروح والعقل والعلم والإرادة والقدرة، وأشباه ذلك. وقسمة أخرى: وذلك أن العالم قد انقسم بالعوالم إلى عالم الملك، وهو الظاهر للحواس، وإلى عالم الملكوت، وهو الباطن في العقول، وإلى عالم الجبروت، وهو المتوسط الذي أخذ بطرف من كل عالم منها، والإنسان كذلك انقسم إلى ما يشابه هذه القسمة، فالمشابه لعالم الملك الأجزاء المحسوسة، وقد علمتها، والمشابه لعالم الملكوت مثل الروح والعقل والقدرة والإرادة وأشباه ذلك، والمشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس، والقوى الموجودة بأجزاء البدن (1). وقسمة أخرى: وذلك أن العالم إن حلل إلى ما علم به من أجزائه بالاستقراء فرأس الإنسان يشبه سماء العالم من حيث إن كل ما علاك فهو سماؤك، وحواسه تشبه الكواكب والنجوم من حيث إن الكواكب أجسام مشعة تستمد من نور الشمس، فتضيء بها، والحواس أجسام لطيفة مشفهّ تستمد من الروح فتضيء بذلك المدركات وروح الإنسان مشابهة للشمس، فضياء العالم، ونمو نباته، وحركة حيوانه وحياته فيما يظهر بتلك الشمس، وكذلك روح الإنسان به حصل في الظاهر نمو أجزاء بدنه ونبات شعره، وخلق حيوانه، وجعلت الشمس وسط العالم، وهي تطلع بالنهار، وتغرب بالليل، وجعلت الروح وسط جسم الإنسان، وهي تغرب بالنوم، وتطلع باليقظة، ونفس الإنسان تشابه القمر من حيث إن القمر يستمد من الشمس، ونفسه تستمد من الروح، والقمر خالف الشمس، والروح خالف النفس، والقمر آية ممحوة، والنفس مثلها، ومحو القمر في أن لا يكون ضياؤه منه، ومحو النفس في أن ليس عقلها منها، ويعتري الشمس والقمر وسائر الكواكب كسوف، ويعتري النفس والروح وسائر الحواس غيب وذهول. وفي العالم نبات ومياه ورياح وجبال وحيوان ما وفي الإنسان نبات، وهو

الشعر، ومياه، وهو العرق والدموع والريق والدم، وفيه جبال وهي العظام، وحيوان، وهي هوام الجسم فحصلت المشابهة على كل حال. ولما كانت أجزاء العالم كثيرة، ومنها ما هي لنا غير معروفة، ولا معلومة كان في استقصاء مقابلة جميعها تطويل، وفيما ذكرناه يحصل به لذوي العقول تشبيه وتمثيل. ثم قال: ولا يناقض ما ذكرناه هنا من التفرقة بين الروح والنفس قولنا في " الإحياء (1) ": إنهما شيء واحد؛ لأن لها معنى يسمى بالروح تارة، وبالنفس أخرى، وبغير ذلك (2). انتهى. وقال بعضهم: سمي الإنسان بالعالم الصغير؛ لأن الله تعالى أوجد المخلوقات خمسة ضروب: الجماد، والنبات، والحيوان، والشيطان، والملك، وكلها مجموعة في الإنسان، فهو جماد حيث يكون نطفة لا حركة فيه ولاحس، وهو نبات حيث ينمي ويغتذي، وهو حيوان حيث يلذ ويتألم، وهو شيطان حيث يغوي ويضل،

وهو ملك حيث يعرف الله تعالى ويعبده. ومنها أنه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفيه، وينهش اللحم كما تنهشه السباع، ويأكل البقول كما تأكله البهائم، ويقضم الحبّ كما يقضمه الطير (1)، ولهذا قالوا: لا متفرق لو جمع كان منه إنسان إلا العالم، ولا مجتمع لو فرق كان منه العالم إلا الإنسان، فهو إنسان بالفعل، عالم أكبر بالقوة، والعالم الأكبر عالم أكبر بالفعل، إنسان بالقوة. ومنها أن الله خلق المخلوقات في عالم الأجسام على أربعة أصناف: قائم كالأشجار، وراكع كالبهائم، وساجد كالحيات والحيتان، وقاعد كالجبال، والإنسان له الصفات الأربع. ويقال: إنما لقب بالعالم الصغير؛ لأنهم مثلوا رأسه بالفلك، وروحه بالشمس - إذ لا قوام للعالم إلا بها كما لا قوام للجسد إلا بالروح - وعقله بالقمر؛ لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود، وحواسه ببقية الكواكب السيارة، وآراءه بالنجوم الثابتة (2)، ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد، وضحكه بالبرق، وظهوه بالبر، وبطنه بالبحر ولحمه بالأرض، وعظامه بالجبال، وشعره بالنبات، وأعضاءه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، وصغار عروقه بالعيون (3).

قوله: (وقرئ رب العالمين بالنصب على المدح). قال أبو حيان: وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها، فضعفت إذ ذاك، على أن الأهوازي (1) حكى في قراءة زيد بن علي (2) (رب العالمين الرحمن الرحيم) بنصب الثلاث، فلا ضعف، وإنما الضعف في قراءة نصب رب، وخفض الصفات بعدها؛ لأنهم تصّوا على أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلا، ولا سيما على مذهب الأعلم (3)؛ إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحَسَّنَ ذلك (4) - على مذهب غيره - كونه وصفا خاصا، وكون البدل على نية تكرار العامل، فكأنَّه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب (5). قوله: (أو النداء). قال أبو حيان: هذا ضعيف للفصل بقوله (الرحمن الرحيم (6)).

قوله: (وقرأ الباقون ملك

قوله: (أو بالفعل الذي دلَّ عليه الحمد) قال أبو حيان: كأنه قيل: نحمد الله رب العالمين، قال: وهذا ضعيف؛ لأنه من مراعات التوهم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه. قوله: (وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها، فهي مفتقرة إلى المبقي خال بقائها) هذا مأخوذ من كلام الإمام، فإنه قال: إنما قال: رب العالمين، ولم يقل: خالق العالمين؛ لأن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد حال حدوثها، واختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي، أم لا؟ والمربي هو القائم بإبقاء الشيء، وإصلاح حاله حال بقائه فقوله (رب العالمين) تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، فخصه بالذكر؛ لأنه الذي وقع الخلاف فيه، بخلاف افتقارها إليه حال حدوثها، فإنه أمر متفق عليه (1). * * * قوله: (وقرأ الباقون ملك، وهو المختار). عبارة غير حسنة؛ لأن كلتا القراءتين متواترة (2)، فلا يحسن أن يقال في إحداهما: إنها المختارة؛ لما يشعر به من أن الأخرى بخلاف ذلك. وقد أنكر جماعة من الأئمة على من رجح قراءة على قراءة. قال السمين: ما ذكر في ترجيح مالك على ملك، وبالعكس غير مرضي؛ لأن كلتا القراءتين متواترة، وقد روى أبو عمر الزاهد (3) عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف

الإعراب في القرآن عن السبعة لم أفضل إعرابا على إعراب في القرآن، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى (1). وقال أبو شامة: أكثر المصنفون من الترجيح بين هاتين القراءتين حتى إن بعضهم يبالغ (2) في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليس هذا (3) بمحمود بعد ثبوت القراءتين، وصحة اتصاف الرب تعالى بهما. والأولى أن يعبر بدل الاختيار بالأمدح والأبلغ (4). قوله: (ولقوله تعالى (لمن الملك اليوم) [سوة غافر: 15]. قال الشيخ أكمل الدين: وجهه أن المراد باليوم يوم الدين، وقد ذكر فيه الملك والملك يؤخذ منه. قوله: (والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من المِلْكِ، والمَلِكُ هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من المُلْك). حاصله أن بين المِلْكِ بالكسر والمُلكِ بالضم عموما وخصوصا مطلقاً، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، وهو ما جنح إليه الراغب والزمخشري، وقيل: إن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فالمضموم التسلط على من يتأتى منه الطاعة، ويكون باستحقاق وغيره، والمكسور التسلط على من يتأتى منه الطاعة وغيره، ولا يكون إلا باستحقاق، وفي ثالث: هما بمعنى، كحاذر وحذر، وفاره وفره. قوله: (وقرئ ملك بالتخفيف) أي بسكون اللام. قوله: (وملك بلفظ الفعل) أي الماضي. قال أبو حيان: وهي على هذه القراءة جملة خبرية، لا موضع لها من الإعراب (5). قوله: (ومالك بالنصب على المدح أو الحال). قال أبو حيان: أو على النداء، قال: والقطع أعرب؛ لتناسق الصفات.

قوله: (ومليك مضافا) زاد أبو حيان: وملاّك، قال: وهو محول من مالك للمبالغة، قال: وكذا مليك، أو يكون بمعنى ملك، فعلى الأوّل يأتي في إضافته ما في مالك، وعلى الثاني لا إشكال؛ لأنه وصف معرفة. قال: وإضافة، الملك إلى يوم الدين على معنى اللام، لا على معنى " في "، خلافا لمن أثبت الإضافة بمعنى " في " قوله: (ويوم الدين يوم الجزاء) قال الخويي (1) في تفسيره: بين الدين والجزاء فرق لطيف، فإن الدين اسم للجزاء المحسوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به، فلا يقال لمن جازى (2) عن غيره، أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل: دين، ويقال: جزاء. قوله: (ومنه كما تدين تدان) قلت: هو مثل مشهور، وحديث مرفوع، أخرجه ابن عدي في الكامل بسند ضعيف من حديث ابن عمر مرفوعاً (3)، وله شاهد مرسل. قال عبد الرزاق في المصنف: أنبأنا معمر (4)، عن أيوب (5)، عن أبي قلابة (6) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " البر لا يبلى، والإثم لا ينسى،

والديان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان (1) ". أخرجه البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من طريقه، وشاهد موقوف، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب " الزهد " عن مالك بن دينار (2) قال: مكتوب في التوراة، كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد (3). وأخرج الديلمي في " مسند الفردوس " عن فضالة ابن عبيد (4) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " مكتوب في الإنجيل كما تدين تدان، وبالكيل الذي تكيل تكتال (5) ". قال الميداني في " الأمثال ": معناه كما تعمل تجازى، فسمى العمل المبتدأ دينا وجزاء، للمطابقة، على حد (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة 194]. قال: ويجوز أن يجري على ظاهره، أي كما تجازي أنت الناس على صنيعهم

كذلك تجازى أنت على صنيعك، والكاف في " كما " في محل نصب نعتا للمصدر، أي تدان دينا مثل دينك (1). وأخرج الخرائطي (2) في كتاب " اعتلال القلوب " من طريق ابن الأعرابي (3)، عن بعض شيوخه قال: كان الحارث بن أبي شمر الغساني (4) إذا أعجبته امرأة بعث إليها، فاغتصبها نفسها، فبعث إلى الزاهرية بنت خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب فاغتصبها، فأتاه أبوها، فقال في ذلك: يَاْ أيّها الملكُ المخوفُ أما ترى. . . ليلا وصبحا كيف يختلفانِ هل تستطيع الشمسَ أن تأتي بها. . . ليلا وهل لك بالمليك يدانِ فاعلم وأيقن أن ملكك زائل. . . واعلم بأنَّ كما تدين تدانُ فتذمم وخاف العقوبة، فردها وأعطاه ثلاثمائة بعير (6). قوله: (وبيت " الحماسة ": ولم يَبقَ سِوَى العُدْوا. . . ن دِنُّاهم كما دانوا " الحماسة " كتاب لأبي تمام الطائي (7) جمع فيه أشعارا انتقاها من كلام

العرب، وصدره بما يتعلق بالحرب، ثم أتى بالنسيب، والمدح، والهجو، والأدب، وغلبت التسمية بالمصَدَّرِ بِه، والحماسة هي الشدة والشجاعة، يقال: حَمِسَ الرجل يحمس حماسة إذا تشدد. قال بعض شراح " الحماسة ": لما قفل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من نيسابور متوجها نحو (1) العراق دخل همذان والزمان شتاء (2)، فحال الثلج بينه وبين المصير، فأضافه أبو الوفاء محمد بن عبد العزيز بن سهل (3)، وكان أديبا من أولاد الرؤساء، وله شعر ترتضيه الشعراء، فلما طال مقام أبي تمام عنده أحضره كتبه، فاختار أبو تمام منها هذا الاختيار، وشخص أبو تمام، وبقية الكتب عند أبي الوفاء لا يمكن أحدا منها إلى أن مات، ووقعت (4) كبته إلى رجل من أهل الدينور يعرف بأبي العواذل، فنسخ هذه الكتب الثلاثة، وحملها إلى أصبهان فانتشرت النسخ بها، وعني أهل أصبهان بتصحيحها، وصار هذا الكتاب في الآفاق، فلهذا لا تجد أحدا يرويه مسندا إلى أبي تمام. قلت: قد وقع لنا مرويا بالإسناد من طريق أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل الواسطي المعروف بابن بشران (5)، عن أبي عبد الله الحسين بن علي النمري (6)، عن أبي رياش أحمد ابن أبي هاشم بن شبيل (7)، عن أبي المطرف الحسن بن يوسف الأنطاكي (8)،

عن أبي تمام. وقد رواها من وجه آخر عن أبي رياش أبو بكر محمد بن علي ابن الفخار الجذامي (1) في فهرسته المسمى " صوان النخب في أسماء الشيوخ والكتب " والبيت المذكور لِلْفِنْدِ، واسمه شهل - بالشين المعجمة - بن شيبان بن ربيعة بن زمان الزماني. قالها في حرب البسوس. قال الخطيب التبريزي: وإنما سمي فندا لأن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة في حرب البسوس يستنصرونهم، فأمدوهم به، فلما أتى بَكْراً وهو مسن جدا قالوا: وما يغني هذه العَشَبَةُ (2) عنا؟ قال: أو ما ترضون أن أكون لكم فندا تأوون إليه. قال الخطيب: والفند القطعة من الجبل (3). وقال غيره من شراح " الحماسة ": الفند شمراخ من الجبل، وقد لقب به لعظم خلقه تشبيها بالجبل، وأول القصيدة: صَفَحْنَا عن بَني ذُهْلِ. . . وقلنا القوم إخوانُ عسى الأيّامُ أن يرجعـ. . . ن قوما كالذي كانوا فلما صرح الشر. . . فأمسى وهو عريان ولم يبق سوى العدوا. . . ن دِنَّاهم كما دانوا مشينا مشية الليث غداً. . . والليث غضبان بضرب فيه تفجيع. . . وتخضيع وإقران وطعن كفم الزّقّ. . . غذا والزق ملآن وبعض الحلم عند الجـ. . . هل للذلة إذعان وفي الشر نجاة حيـ. . . ن لا ينجيك إحسان (4)

قوله: صرح الشر، أي ظهر كل الظهور، وأكل ذلك بقوله: فأمسى وهو عريان، أي مكشوف. ودناهم كما دانوا، أي جازيناهم مثل ما ابتدءونا به. قوله: (أضاف اسم الفاعل إلى الظرف) أي على قراءة مالك. قال الشريف: وأما إضافة ملك فلا إشكال فيها؛ لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها، كما في رب العالمين، فتكون حقيقية، لا لفظية، فإنها إضافتها إلى الفاعل. قال: فإن قيل: المضاف إليه فيهما مفعول به في المعنى، فتكون إضافتهما غير محضة. قلنا: الصفة المشبهة لا تعمل النصب أصلاً (1). وقال أبو حيان: من قرأ بلفظ ملك، على فعل مكسور العين أو ساكنها، أو مليك بمعناه فظاهر؛ لأنه وصف معرفة، ومن قرأ مالك، أو ملاك، أو مليك محولين من مالك للمبالغة فإن كان بمعنى الماضي كانت إضافته محضة، فيكون إذ ذاك من وصف المعرفة بالمعرفة، ويدل عليه قراءة. من قرأ (مَلَكَ يوم الدين) فعلا ماضيا، وإن كان بمعنى الاستقبال - وهو ظاهر، لأن اليوم لم يوجد - فهو مشكل؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة؛ لأن المعرفة لا توصف بالنكرة، ولا بدل نكرة من معرفة؛ لأن البدل بالصفات ضعيف. قال: وحل هذا الإشكال أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال جاز فيه وجهان: أحدهما: ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه إذ يكون منويا فيه الانفصال من الإضافة، وكأنه عمل النصب لفظا. الثاني: أن يتعرف به إذا كان معرفة، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف، وكان تقييده بالزمان غير معتبر. قال: وهذا الوجه غريب النقل لا يعوفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه.

قال سيبويه: وزعم (1) يونس (2) والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة (3). انتهى. قوله: (إجراء له مجرى المفعول به) قال الطيبي: روي بضم الميم من المزيد، والرواية الصحيحة بالفتح، بمعنى الإجراء، كقوله (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) [سورة نوح 17] أو بمعنى المكان (4). وقال الشريف: يروى بالضم والفتح إما مصدرا، وإما مكانا (5). وما ذكره المصنف من أنه على إجرائه مجرى المفعول هو المشهور في الآية، وقد قيل: إنه مضاف إلى المفعول به حقيقة، والمعنى أنه تعالى يملك يوم الدين، أن (6) يأتي به، ويؤيده قراءة مالك - منونا - يوم بالنصب، وعلى هذا مشى ابن السراج (7)، فقال: هي إضافة حقيقية، والمراد مالك نفس اليوم، لا يقدر على الإتيان به إلا الله تعالى، كقوله تعالى: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) [سورة الأعراف 187]. قال: وحمله على الحقيقة أولى من حمله على المجاز. قوله: (على الاتساع). قال الطيبي: أي جعل المفعول فيه بمنزلة المفعول به (8).

وقال الشريف: الاتساع في الظرف أن لا يقدر معه " في " توسعا، فينصب نصب المفعول به، كقوله: ويوم شهدناه سليما وعامراً (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . .. قوله: (يا سارق الليلة أهل الدار). وجه الاستشهاد أنه جعل الليلة مسروقة، وإنما هي مسروق فيها. قال الشريف: وأهل الدار منصوب بسارق، لاعتماده على حرف النداء، كقولك: يا ضاربا زيدا، ويا طالعا جبلاً (2). قوله: (ومعناه مالك الأمور يوم الدين) قال الشريف: يعني أن الظرف وإن قطع في الصورة عن تقدير " في " وأوقع موقع المفعول به إلا أن المقصود الذي سيق الكلام لأجله على الظرفية؛ لأن كونه مالكا ليوم الدين كناية عن كونه مالكا فيه للأمر كله، فإنَّ تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه (3). قوله: (أوله الملك في هذا اليوم على جهة الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية بعده، لوقوعه صفة للمعرفة). قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: قد ذكر في " الكشاف " في قوله (وجعل الليل سكنا) [سورة الأنعام 96] أنه إذا قصد باسم الفاعل زمان مستمر كانت الإضافة لفظية. قلنا: الاستمرار يحتوي على الأزمنة الماضية والآتية والحال، فتارة يعتبر جانب الماضي فتجعل الإضافة حقيقية، وتارة جانب الآتي والحال فتجعل لفظية، والتعويل على القرائن والمقامات. فإن قيل: التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحا في الاستقبال. قلنا: معناه الثبوت والاستقرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة، ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين، كأنه قيل: هو ثابت المالكية في يوم الدين، أو المراد أنه يجعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع،

فتستمر مالكيته في جميع الأزمنة. فإن قيل: ما ذكر من الاتساع وجعل الظرف يجري مجرى المفعول به صريح في أن هذه إضافة الصفة إلى معمولها، فتكون لفظية قطعاً. قلنا: المراد أنه إضافة إلى ما هو مفعول من جهة المعنى، كما يقال: في مالك عبيده أمس: إنه إضافة إلى المفعول، أي إلى ما يتعلق به تعلق المملوكية بحيث لو كانت الصفة على شرائط العمل كانت عاملة فيه (1). انتهى. قوله: (وتخصيص اليوم بالإضافة إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه). قال الطيبي: في اختصاص يوم الدين دون يوم القيامة وغيره من أساميه فائدتان: إحداهما: مراعاة الفاصلة. وثانيتهما: العموم المطلوب في الألفاظ، فإن الجزاء يشتمل على جميع أحوال، القيامة، من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم، بل يكاد يتناول أحوال النشأة الأولى بأسرها، فظهر من هذا الاختصاص ومن مآل معنى القراءتين في الصورتين إفادة التعميم المطلوب من ألفاظ هذه السورة الكريمة، والدلالة على التسلط والغلبة والتصرف والملكة، فسبيل ملك يوم الدين ومالك يوم الدين، سبيل رب العالمين في الحمل على المفهومين، فانظر إلى حسن هذا الترتيب السري، وهذا النظم الأنيق تدهش منه. وذلك أن رب العالمين آذن بالتصرف العام في الدنيا ملكا وتربية، ومالك يوم الدين دل على ذلك في العقبى تسلطا وقهراً، وتوسيط الرحمن الرحيم بينهما مناد بترجيح جانب الرحمة، وأنه تعالى رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة (2). قوله: (وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه ربا للعالمين) إلى آخره. قال الشريف: أي لما دل بلامي التعريف والاختصاص على أن جنس الحمد مختص به تعالى، وحق له أجري عليه تلك الأوصاف العظام ليكون حجة واضحة،

ودلالة قاطعة على انحصار الحمد فيه واستحقاقه إياه، فذكر أولا ما يتعلق بالابتداء من كونه ربا مالكا للأشياء كلها لا يخرج شيء منها من ملكوته، أي سلطنته الشاملة، ومن ربوبيته الكاملة، يتصرف فيها على وفق مشيئته ويربيها، أي يرقيها في مدارج الكمال على مقتضى عنايته بإفاضة الجود، وإعداد أسباب الكمالات. وثانيا: ما يتعلق بالبقاء من إسباغه علينا نعما ظاهرة وباطنة جليلة ودقيقة. وثالثا: ما يتعلق بالإعادة من كونه مالكا للأمر كله يوم الجزاء، كأنه قيل: الحمد لله الذي منه الابتداء والانتهاء، فهو الحقيق بالثناء (1). قوله: (لا يستأهل لأن يحمد) قلت: وقد عد الحريري (2) في " درة الغواص " هذه الكلمة من جملة أوهام الخواص فقال: يقولون: فلان يستأهل الإكرام، وهو مستأهل للإنعام، ولم تسمع هاتان اللفظتان في كلام العرب، ولا صوّب التلفظ بهما أحد من أعلام الأدب، ووجه الكلام أن يقال: فلان يستحق المكرمة، وهو أهل لإسداء المكرمة. وأما قول الشاعر: لا، بل كلي يا أم واستأهلي. . . إن الذي أنفقت من ماليه (3). فإنه عنى بلفظ استأهلي اتخذي الإهالة، وهي ما يؤتدم به من السمن (4). وقال الجوهري في " الصحاح ": تقول: فلان أهل لكذا، ولا تقل: مستأهل،

والعامة تقوله (1). لكن في " القاموس " استأهل كذا استوجبه، لغة جيدة، وإنكار الجوهري باطل (2). وفى " الأساس " فلان أهل لكذا، واستأهل لذلك، وهو مستأهل له، وقد سمعت أهل الحجاز يستعملونه استعمالا واسعاً (3). قوله: (فضلا عن أن يعبد). قال أبو حيان: سئلت عن قولهم: إن زيدا لا يملك درهما، فضلا عن دينار، بم انتصب " فضلا "، وما المعنى في ذلك؟ فقلت: الذي نقول في ذلك - بعد تسليم أن هذا الكلام من لسان العرب -: إن (4) بعض الناس قد نسب (5) ذلك إلى العرب، فأمَّا أبو علي الفارسي فقال في تعليق جمع فيه مسائل من المشكلات: إن قول القائل: إن زيدا لا يملك درهما فضلا عن دينار، ثم وجه النصب بما سنذكره، فقوله: إن قول القائل كذا ليس بنص أنه من كلام العرب. وقد طالعت من دواوين العرب جاهليتها وإسلاميتها الجملة الكثيرة فلم أر مثل هذا وقع في كلامها، وقد جرت بيني وبين بعض فضلاء أصحابنا هذه المسألة فقال: كان الأستاذ أبو الرضي مساعد بن محمد بن عبد الواحد الأنصاري المرسي (6) قد جرت عنده هذه المسألة، فأنشدنا عن بعض النحاة، فيها ما يدل على أنها مسموعة، وهو قول الشاعر: قَلَّمَا يَبْقَى عَلَى هَذَا القَلَقِ. . . صَخْرَةٌ صَمّاءُ فَضْلاً عَنْ رَمَقِ (7)

فظاهر هذا البيت يقتضي أن ذلك من لسان العرب. وينبغي في إثبات مثل هذا إلى صحة نقل، ولا تغتر بكلام من قدمنا ذكره أن ذلك من لسان العرب، فليس بقول من هو ضابط في هذه الصناعة. ونتكلم عليها - على تقدير أنها من كلام العرب - فنقول: القول على الإعراب مترتب على فهم المعنى، ومعنى هذا الكلام الإخبار أنه لا يملك درهما ولا ديناراً، وأن عدم ملكه للدينار (1) أولى، وكأنه قال: لا يملك درهما، فكيف يملك دينارا، أي إذا انتفى ملكه لدرهم كان أحق أن ينتفي ملكه لدينار؛ لأن من قدر على دينار كان في العادة قادرا على درهم؛ لأن القليل مندرج في الكثير، وكذلك إذا انتفى بقاء الصخرة الصماء على هذا القلق فكيف يبقى الرمق الذي عادته أن يفنى بأدنى شيء. هذا شرح المعنى الذي يريده من يتكلم بهذا الكلام. وأما الإعراب فنقل عن الفارسي أن " فضلا " يجوز نصبه على المصدر، أو الحال. انتهى ما نقل عنه. ونحن نقرر ذلك فنقول: " فضلا " ظاهره أنه من الفضلة، التي هي البقية، ومنه الفضالة، وهي الباقي من الشيء، يقال: فضل منه شيء، أي بقي، أو من فضل على زيد، أي زاد عليه في الخير. قال الشاعر: فكفى بنا فضلا على مَنْ غَيْرُنا. . . حب النبي محمد إيَّانا (2) أي زيادة على ناس غيرنا، ويقال منه لمن صار ذلك سجية له: فضل الرجل، بضم الضاد. ويحتمل أن يخرج (3) على هذين الاشتقاقين، وهما معنى البقية، ومعنى الزيادة، فإذا جعلناه مصدرا فلابد له من عامل، ولم يتقدمه ما يصلح أن يكون عاملا فيه، فيحتاج إلى إضماره، وتقديره: يفضل فضلا عن دينار، ففي " يفضل " ضمير يعود إلى الدرهم، ويفضل في موضع الصفة، ويصير المعنى أنه لا يملك

درهما فاضلا عن دينار، أي باقيا عن دينار، أو زائدا عن دينار، بل يملك الدرهم، ولا يكون فاضلا عن دينار، وإنما كان كذلك لأن النفي إذا دخل على شيء مقيد إنما يتسلط على ذلك القيد، فإذا قلت: ما قام رجل عاقل، فمنطوقه انتفاء القيام عن رجل عاقل، ومفهومه أنه قام رجل غير عاقل، وكذلك ما جاء زيد ضاحكاً، منطوقه انتفاء مجيء زيد في حال ضحك (1)، ومفهومه أنه جاء غير ضاحك. وقد تقدم شرح المعنى في هذا الكلام، وأن المقصود به نفي ملكه الدرهم والدينار، وأن عدم ملكه للدينار أولى، لكن يتخرج ذلك على قاعدة للعرب، وهي أنه متى نفي شيء مقيد (2) فقد قدمنا أن النفي يتسلط على ذلك القيد، هذا هو الأكثر في كلامهم. ولهم طريقة أخرى، وهي أنهم يقصدون نفي المحكوم عليه بانتفاء صفته، فيقولون: ما قام رجل عاقل، أي لا رجل عاقل فيقوم، وهي طريقة معروفة لهم، قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يهتدى بمناره (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. لا يريد أن يثبت لهذا الطريق مناراً، وينفي عنه الاهتداء، إنما يريد نفي المنار، أي فتنتفي الهداية به، أي لا منار لهذا الطريق فيهتدى به. وقال الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ (4): بِمَهْمَهٍ مَاِ لأنيِسٍ بِهِ. . . حِسٌّ فَمَا فِيْهِ لَهُ مِنْ رَسِيْسِ (5) لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حس له، إنما يريد لا أنيس به، فيكون له حس، وعلى هذه الطريقة يخرج قوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [سورة المدثر 49] أي لا شافع فتنفعهم شفاعته، وكذلك قوله تعالى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [سورة البقرة 274] أي لا سؤال فيكون إلحافاً.

وإذا تقررت هذه الطريقة فيتخرج قولك: هذا لا يملك درهما عن دينار، على هذه الطريقة، أي لا درهم له، فيفضل عن دينار له، وإذا انتفى ملكه للدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى. وإنما جعله أبو عليّ منصوبا على المصدر، فاحتيج في ذلك إلى إضمار فعل، وذلك الفعل في موضع الصفة، ولم يجعل " فضلا " صفة للدرهم؛ لأنه لا يكون المصدر صفة إلا إذا كان فيه معنى المبالغة، فلكثرة وقوع المصدر من الموصوف جعل كأنه وصف له، نحو قولهم: رجل صوم، أي كثير الصوم، ورجل زور، أي كثير الزيارة، وهذا المعنى مفقود هاهنا. وأما من تأوّل المصدر بمعنى مطلق اسم الفاعل، أو على حذف ذي، أي صائم، وزائر، أو ذو صوم، وذو زور فإنه يجوّز في هذه المسألة أن يكون التقدير في " فضلا " فاضلاً، أو ذا فضل، وليس ذلك قول من تحقق في العربية، بل الصحيح أن المصدر لا يوصف به إلا إذا أريد به المبالغة. وإذا جعلنا " فضلا " منصوبا على الحال فلا يكون حالا من زيد؛ لأن فضلا عن دينار ليس من أحوال (1) زيد، ولا من صفاته، إنما يكون من أوصاف الدرهم، ويحتمل تخريجه على الحال وجهين: أحدهما: أن يكون حالا من درهم وإن كان نكرة؛ لأن الحال قد تأتي من النكرة، وخصوصا إذا قبح الوصف بها، وقد قبح بما قدمناه من أن المصدر في أجود الأقوال لا يوصف به حتى يراد به المبالغة، وقد جاءت الحال من النكرة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وقوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) [سورة البقرة 265] وقد قاس سيبويه ذلك في كتابه (2). والوجه الثاني: أن يكون حالا من المصدر المضمر في الفعل، على ما قرره سيبويه في قولهم: ساروا سريعا، لم يجعل سريعا نعتا لمصدر محذوف، أي سيرا سريعا، إنما جعله حالا من الضمير الذي للمصدر، كأنهم قالوا: ساروه، أي ساروا السير سريعا، أي في حال سرعته، فكذلك لا يملك درهما، أي لا يملكه، أي الملك في حال كونه فاضلا عن دينار، أي عن ملك دينار.

وهذا التخريج الثاني قلَّ من يعرفه، وإنما يذهب معربوا النحاة في قولهم: ساروا سريعا إلى أن سريعا نعت لمصدر محذوف، أي سيرا سريعا، وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه كثير في لسان العرب قال الله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى) [سورة المائدة 9] أي العدل، وقالت العرب: من كذب كان شرًّا له، أي كان هو، أي الكذب (1). وتقرير اختيار سيبويه هذا التخريج على تخريج النحاة له مكان غير هذا، والمعنى الذي قررناه حالة إعرابه مصدرا يجري فيه حالة إعرابه حالا، وهو أن المقصود بذلك انتفاء الحال، وذي الحال، كما كان المعنى انتفاء الصفة والموصوف. وقد صنف بعض معاصرينا في هذه المسألة جزءا وهو شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي المعروف بالقرافي (2)، وجوز في إعراب " فضلا " نيفا وأربعين وجهاً، يوقف عليها من كتابة، وفيها (3) غاية التمحل، والفضلاء لا يذكرون من الأعاريب إلا ما سهل مأخذه في (4) لسان العرب. انتهى كلام أبي حيان. وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام في رسالة ألفها في إعراب ألفاظ، منها هذا اللفظ: أما قوله: فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار، فمعناه أنه لا يملك درهما ولا ديناراً، وأن عدم ملكه الدينار أولى من عدم ملكه الدرهم، وكأنه قال: لا يملك درهما، فكيف يملك ديناراً. وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع، وأنشد عليه: قَلَّمَا يَبْقَى عَلَى هَذَا القلَقِ. . . صَخْرَةٌ صَمَاءُ فَضْلاً عَنْ رَمَقِ

الرمق بقية الحياة، ولا تستعمل " فضلا " هذه (1) إلا في النفي، وهو مستفاد في البيت من " قلما ". قال بعضهم: حدث لـ " قلّ " حين كفت ب " ما " إفادة الاختصاص. قال ابن هشام: وهذا خطأ: فإن قلّ تستعمل للنفي قبل الكفّ، يقال: قلّ أحد يعرف هذا إلا زيد، يعني لا يعرف هذا إلا زيد، ولهذا استعمل أحد، وصح إبدال المستثنى، وهو بدل إما من أحد، أو من ضميره، و " على " في البيت للمعية، مثلها في قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) [سورة الرعد 7] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) [سورة إبراهيم 40]. وانتصاب " فضلا " على وجهين محكيين عن الفارسي: أحدهما: أن يكون مصدرا لفعل محذوف، وذلك الفعل نعت للنكرة. الثاني: أن يكون حالا من معمول الفعل المذكور. هذا خلاصة ما نقل عنه، ويحتاج إلى بسط يوضحه. اعلم أنه يقال: فضل عنه، وعليه، بمعنى زاد، فإن قدرته مصدرا بتقدير لا يملك درهما يفضل فضلا عن دينار، فذلك الفعل المحذوف صفة لدرهما. كذا حكي عن الفارسي. ولا يتعيّن كون الفعل صفة، بل يجوز أن يكون حالا، كما جاز في " فضلا " أن يكون حالا، على ما سيأتي تقريره. نعم، وجه الصفة (2) أقوى؛ لأن نعت النكرة كيف كانت أقيس من مجيء الحال منها. وإن قدرته حالا فصاحبها يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ضمير المصدر محذوفاً، أي لا يملكه، أي لا يملك الملك، على حد قوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. أي يدرس الدرس؛ إذ ليس الضمير للقرآن، لأن اللام متعلقة ب " يدرس "

ولا يتعدى الفعل إلى ضمير اسم، وإلى ظاهره جميعا، ولهذا وجب في " زيدا ضربته " تقدير عامل على الأصح، وعلى هذا خرّج سيبويه والمحققون نحو قوله: " ساروا سريعا " أي ساروه، أي ساروا السير سريعاً، وليس سريعا عندهم نعتا لمصدر محذوف، لالتزام العرب تنكيره ولأن الموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة (1) مختصة بجنسه، كما في " رأيت كاتبا، أو حاسبا، أو مهندسا " فإنها مختصة بجنس الإنسان، ولا يجوز رأيت طويلا، ورأيت أحمر، وفي هذا الموضع بحث ليس هذا موضعه. الثاني: أن يكون قوله: " درهما (2) " فإن قلت: كيف جاز مجيء الحال من النكرة؟ قلت: أما على قول سيبويه فلا إشكال؛ لأنه يجوز عنده مجيء الحال من النكرة وإن لم يمكن الابتداء بها (3)، ومن أمثلته: فيها رجل فائما، ومن كلامهم: عليه مائة بيضا، وفي الحديث: " وصلى وراءه قوم قياما (4) ". وأما على المشهور من أن الحال. لا تأتي من النكرة إلا بمسوغ فلها هنا مسوغان: أحدهما: كونها في سياق النفي، والنفي يخرج النكرة من حيز الإبهام إلى حيز العموم فيجوز حييئذ الإخبار عنها، ومجيء الحال منها. الثاني: ضعف الوصف، ومتى امتنع الوصف بالحال، أو ضعف ساغ مجيئها من النكرة، فالأول كقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) وقول الشاعر: مضى زمن والناس يستشفعون بي (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. فإن الجملة المقرونة بالواو لا تكون صفة، خلافا للزمخشري، وكقولك: هذا خاتم حديدا عند من أعربه حالا؛ لأن الجامد المحض لا يوصف به.

والثاني: كقولهم: مررت بماء قعدة رجل، فإن الوصف بالمصدر خارج عن القياس. فإن قلت: هلا أجاز الفارسي في " فضلا " كونه صفة لـ " درهما "؟ قلت: زعم أبو حيان أن ذلك لأنه لا يوصف بالمصدر، إلا إذا (1) أريدت المبالغة؛ لكثرة وقوع ذلك الحدث من صاحبه، وليس ذلك بمراد هنا. قال: وأما القول بأنه يوصف بالمصدر على تأويله بالمشتق، أو على تقدير المضاف فليس قول المحققين. قال ابن هشام: هذا كلام عجيب، فإن القائل بالتأويل الكوفيون، ويؤولون عدلا بعادل، ورضى بمرضي، وكذا يقولون في نظائرهما، والقائل بالتقدير البصريون، يقولون: التقدير ذو عدل، وذو رضى، وإذا كان كذلك فمن المحققون؟ ثم اختلف النقل عن الفريقين، والمشهور أن الخلاف مطلق. وقال ابن عصفور (2): وهو الظاهر، إنما الخلاف حيث لا تقصد المبالغة، فإن قصدت فالاتفاق على أنه لا تأويل ولا تقدير (3). وهذا الذي قاله ابن عصفور هو الذي في ذهن أبي حيان، ولكنه نسي فتوهم أن ابن عصفور قال: إنه لا تأويل مطلقا، فمن هنا - والله أعلم - فى خل عليه الوهم. والذي ظهر لي أن الفارسي إنما لم يجز في " فضلا " الصفة؛ لأنه رآه منصوبا أبدا سواء كان ما قبله منصوبا، كما في المثال، أم مرفوعا، كما في البيت، أم مخفوضاً، كما في قولك: فلانٌ لا يهتدي إلى ظاهر النحو فضلا عن دقائق البيان.

فهذا منتهى القول في توجيه إعراب الفارسي. وأما تنزيله على المعنى المراد فعسير (1)، وقد خرّج على أنه من باب قوله: على لاحبٍ لا يهتدى بمناره. . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ولم يذكر أبو حيان سوى ذلك، وقال: وقد يسلطون النفي على المحكوم عليه بانتفاء صفته، فيقولون: ما قام رجل عاقل، أي لا رجل عاقل فيقوم، ثم أنشد بيت امرئ القيس المذكور، وقال: ألا ترى أنه لا يريد إثبات منار للطريق، ونفي الاهتداء به، إنما يريد نفي المنار، فتنتفي الهداية به، أي لا منار لهذا الطريق فيهتدى به، وقال الأفوه: بمهمهٍ ما لأنيس به حس. . . فما فيه له من رسيس لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حس له، إنما يريد لا أنيس به، فيكون له حس، وعلى هذا خرّج (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته و (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي لا سؤال فيكون إلحافا، قال: وعلى هذا يتخرّج المثال المذكور أي لا يملك درهما فيفضل عن دينار، وإذا انتفى ملكه للدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى. قال ابن هشام: وهذا الكلام الذي ذكره لا تحرير فيه، فإن الأمثلة المذكورة من بابين مختلفين، وقاعدتين متباينتين، أميز كلا منهما عن الأخرى، ثم أذكر أن التخريج المذكور لا يتأتى على شيء منهما. القاعدة الأولى: أن القضية السالبة لا تستلزم وجود الموضوع، بل كما تصدق مع وجوده تصدق مع عدمه، فإذا قيل: ما جاءني قاضي مكة، ولا ابن الخليفة صدقت القضية وإن لم يكن بمكة قاض، ولا للخليفة ابن، وهذه القاعدة هي التي تتخرج عليها (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وبيت امرئ القيس، فإن شفاعة الشافعين بالنسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يأذن لأحد في أن يشفع لهم؛ لأنه لا يأذن فيما لا ينفع؛ لتعاليه عن العبث، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له (من ذا الذي يشقع عنده إلا بإذنه) [سورة البقرة 256] وكذلك المنار غير موجود في اللاحب المذكور؛ لأن المراد التمدح بأنه يقطع الأرض المجهولة من غير هاد يهتدي به، فغرضه إنما تعلق بنفي وجود

ما يهتدي به في تلك الطريق التي سلكها، لا بنفي وجود الهداية عن شيء نصب فيها للاهتداء به. وأما قول أبي حيان وغيره: المراد لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته، ولا منار فيهتدى يه فليس بشيء؛ لأن النفي إنما يتسلط على المسند لا على المسند إليه، ولكئهم لما رأوا الشفاعة، والمنار غير موجودين توهموا أن ذلك من اللفظ، فزعموا ما زعموا. وفرق بين قولنا: الكلام صادق مع عدم المسند إليه، وقولنا: إن الكلام اقتضى عدمه. القاعدة الثانية: إن القضية السالبة المشتملة على مقيد نحو ما جاءني رجل شاعر تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون نفي المسند باعتبار القيد، فيقتضي المفهوم في المثال المذكور وجود مجيء رجل ما غير شاعر، وهذا هو الاحتمال الراجح المتبادر، ْألا ترى أنه لو كان المراد نفيه عن الرجل مطلقا لكان ذكر الوصف ضائعا، ولكان زيادة في اللفظ، ونقصا في المعنى المراد. الثاني: أن يكون نفيه باعتبار المقيد، وهو الرجل، وهذا (1) احتمال مرجوح، لا يصار إليه إلا بدليل (2)، فلا مفهوم حينئذ للقيد؛ لأنه لم يذكر للتقييد، بل ذكر لغرض آخر، كأن يكون المراد مناقضة من أثبت ذلك الوصف، فقال: جاءك رجل شاعر، فأردت التنصيص على نفي ما أثبته، وكان يراد التعريض، كما إذا أردت في المثال المذكور أن تعرّض بمن قال: جاء رجل شاعر، وهذه هي القاعدة التي يتخرّج عليها (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) فإن الإلحاف قيد في السؤال المنفي. والمراد من الآية - والله أعلم - نفي السؤال البتة، بدليل (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) والتعفف لا يجامع المسألة، ولكن أريد بذكر الإلحاف - والله أعلم - التعريض بقوم ملحفين، توبيخا لهم على صنيعهم، أو التعريض بجنس الملحفين، وذمهم على الإلحاف؛ لأن النقيض للوصف الممدوح مذموم.

والمثال المبحوث فيه يتخرّج على هذه القاعدة - فيما زعموا - فإن " فضلا " مقيد للدرهم، فلو قدر النفي مسلطا على القيد اقتضى مفهومه خلاف المراد، وهو أنه يملك الدرهم، ولكنه لا يملك الدينار، ولما امتنع هذا تعيّن الحمل على الوجه المرجوح، وهو تسليط النفي على المقيد، وهو الدرهم، فينتفي الدينار؛ لأن الذي لا يملك الأقلّ لا يملك الأكثر، فإن المراد بالدرهم ليس الدرهم العرفي، لأنه يجوز أن يملك الدينار من لا يملكه، بل المراد ما يساوي من النقود درهما، فهذا توجيه التخريج. وأما الاعتراض عليه فمن جهة أن القيد ليس نفس الدينار، حتى يصير المعنى لا يملك درهما فكيف ديناراً، وإنما القيد قولة " فضلا عن دينار " والكلام لم يسق لنفي ملك الزائد على الدينار، بل لنفي ملك الدينار نفسه، ثم يلزم عن ذلك انتفاء ملك ما زاد عليه. والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال: إنه في الأصل جملتان مستقلتان، ولكن الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيير، حصل الإشكال بسببه. وتوجيه ذلك: أن يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جوابا لمستخبر قال: أيملك فلان ديناراً؟ أو ردًّا علي مخبر قال: فلان يملك دينارا، فقيل في الجواب: فلان لا يملك درهماً، ثم استأنف كلاما آخر، ولك في تقديره وجهان: أحدهما: أن يقال: أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه، أو زيادة عن دينار أخبرتَ بملكه له، ثم حذفت جملة أخبرتك بهذا، وبقي معمولها، وهو " فضلا " كما قالوا: حينئذٍ، الآن، بتقدير: كان ذلك حينئذٍ، واسمع الآن، فحذفوا الجملتين، وأبقوا من كل منهما معمولها، ثم حذف مجرور " عن " وجار " دينار " وأدخلت " عن " الأولى على الدينار، كما قالوا: ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل من زيد، والأصل منه في عين زيد، ثم حذف مجرور " من " وهو الضمير، وجار العين، وهو " في " ودخلت " من " على العين. الثاني: أن يقدر فضل انتفاء الدرهم عن فلان عن (1) انتفاء الدينار عنه. ومعنى ذلك أن يكون حال هذا المذكور في الفقر معروفة عند الناس، والفقير إنما ينفى عنه في العادة ملك الأشياء الحقيرة، لا ملك الأموال الكثيرة، فوقوع

قوله: (نخصك بالعبادة والاستعانة)

نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه، أي أكثر منه، و " فضلا " على التقدير الأول حال، وعلى الثاني مصدر، وهما الوجهان اللذان ذكرهما الفارسي، لكن توجيه الإعرابين مخالف لما ذكر، وتوجيه المعنى مخالف لما ذكروا؛ لأنه إنما يتضح تطابق اللفظ والمعنى على ما وجهت، لا على ما وجهوا. ولعل من لم يَقْوَ أُنسه بتجوزات العرب في كلامها يقدح فيما ذكرت؛ بكثرة الحذف وهو كما قيل: إِذا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ الأَسِنَّةُ مرْكَبٌ. . . فَلا رَأْى لِلْمُحْتَاجِ إِلا رُكُوبُهَا (1) وقد بينت في التوجيه الأول أن مثل هذا الحذف والتجوز واقع في كلامهم. قال أبو الفتح: قال لي أبو علي: من عرف ألف، ومن جهل استوحش (2). انتهى كلام ابن هشام (3). وقال الشيخ سعد الدين: " فضلا " مصدر فعل محذوف، يقع متوسطا بين نفي وإثبات لفظا، نحو فلانٌ لا ينظر إلى الفقير فضلا عن إعطائه، أو معنى نحو تقاصرت الهمم عن أدنى العدد فضلا عن أن تترقاه، أي لم تبلغه فضلا عن الترقي، والقصد فيه إلى استبعاد الأدنى، أعنى ما دخله النفي، بمعنى عده بعيدا عن الوقوع، كالنظر إلى الفقير، وبلوغ الهمم، واستحالة ما فوقه، أعني ما دخلته " عن " بمعنى عده بمنزلة المحال الذي لا يمكن وقوعه، كالإعطاء والترقي، وهو من قولك: أنفقت الدرهم، والذي فضل منه كذا، أي بقي، وفاعل الفعل ضمير النفي، أي انتفى العطاء بالكلية، والذي بقي منه عدم النظر، وهكذا انتفى الترقي، وبقي التقاصر. والأحسن أنه لا محل لهذه الجملة وإن جعلها بعضهم حالا. ومن الخطأ في حل هذا التركيب ما يقال: إن " فضلا " بمعنى تجاوزا، وأن المستبعد هو عدم النظر وقصور الهمم (4). انتهى. * * * قوله: (نخصك بالعبادة والاستعانة)

قال الشيخ أكمل الدين: اعترض عليه بأن المعنى نخص العبادة، ونخص طلب المعونة بك. وكأن هذا المعترض إنما نظر إلى سياق الكلام بأن المعنى أنهم علموا أن العبادة لابد منها، وأنها ينبغي أن تكون لغير الله، أو له ولغيره، فقال: نخص العبادة بك، قصر قلب على الأول، وإفراد على الثاني، فوجب أن يحمل كلام المصنف على القلب. وفيه نظر؛ لأن رد الخطأ * في باب القصر إنما يكون على المخاطب، وذلك فيما نحن فيه محال. وأجيب بأنه على سبيل التعريض. ورد بأنه ليس بصحيح على ما سيظهر. وقيل: معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) نخصك بالعبادة، كما عبر عنه المصنف، لأن تقديره نعبدك، وتقديم المفعول أفاد أن يجعل المعنى نخصك بالعبادة، لا بغيرها من أفعالنا؛ لأن غيرها منها ما لا يصلح لك. وليس بصحيح؛ لأنه من باب قصر الفعل على المفعول، دون عكسه، فليس لكلامه محمل صحيح سوى القلب، لكن النظر في دفع الخطأ لم يندفع (1). انتهى. وقال الشيخ سعد الدين: قوله: " نخصك بالعبادة " أي نجعلك منفردا بها، لا نعبد غيرك، وهذا هو الاستعمال العربي، ولو قيل: نخص العبادة بك لكان استعمالا عرفيا (2). قوله: (ليكون أدلّ على الاختصاص). قال الشريف: تصريح بأنه الغيبة لها دلالة ما على ذلك، لتقدم ذكر الصفات المشعرة بذلك (3). الشيخ أكمل الدين: لم يفرق بين التخصيص والاختصاص، ولا نزاع في الاصطلاح (4).

_ * في الأصل " الخطأ ".

قوله: (ومن عادة العرب التفنن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر). لم يصرح باسم هذا، وسماه في " الكشاف " بالالتفات (1)، فأفاد وأجاد؛ لأن هنا ثلاثة أنواع متقاربة، ينبغي التمييز بينها؛ لئلا تلتبس. قال الشيخ بهاء الدين السبكي: في " عروس الأفراح ": اعلم أني لم أر من أوضح العبارة عن حقيقة الالتفات، وربما توهم قوم أنه لفظي، وربما أشكل التمييز بين حقيقته وحقيقة التجريد، وحقيقة وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه، ثم كونه حقيقة أو مجازا، فالكلام في أربعة أمور: الأول: في كشف الغطاء عن حقيقته. اعلم أن الالتفات نقل الكلام من أسلوب لغيره، وهو نقل معنوي، لا لفظي فقط، وشرطه أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتف عنه، يحتوز عن مثل أكوم زيدا، وأحسن إليه، فضمير " أنت " الذي هو فاعل أكرم غير الضمير في " إليه " وليس التفاتا. وإنما قلت: " في نفس الأمر " لأنه بطريق الادعاء، يعود لغيره، فحينئذ إذا كان الضمير الأول في محله باعتبار الواقع في نفس الأمر، فقلت: إني أخاطبك، فأجب المخاطب، كنتَ أعدت الضمير في المخاطب، وهو ضمير غيبة على نفسك، وليس ذلك وضعا لضمير الغائب موضع ضمير المتكلم، بل جردت منك مثل نفسك، وأمرته بأن يجيبه، فضمير الغيبة واقع موقعه (2)، وكذلك (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة يس 22] جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، وفي قوله: طحا بِكَ قَلْبٌ في الحِسَاد طَرُوْبُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. على رأي السكاكي جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، فالضمير واقع في محله، فهو التفات وتجريد، وعلى رأي غيره هو تجريد فقط. وفي قوله بعده: تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. التفات على القولين، ولا نقول: إنه أعاد الضمير على غير الأول، فيلزم أن

ْيكون الضميران، وهما الكاف والياء لشيئين، بل أعاده على الأول مدعيا أنه غير الثاني، فإن الحقيقة المجردة هي باعتبار الحقيقة عين المجرد عنها، وباعتبار التجريد غيرها، فذلك الذي جرده في قوله: " بك " هو في نفس الأمر نفسه، فالتفت له بهذا الاعتبار. وبهذا علمنا أن الالتفات في " بك " على رأي السكاكي أوضح من الالتفات الذي في " تكلفني " لأن في " بك " خروجا عن ضمير المتكلم إلى شيء لا وجود له بالكلية، وفي " تكلفني " خروج عن الحقيقة المجردة إلى الحقيقة المجرد عنها، فهو عدول إلى الأصل، و " بك " عدول إلى الفرع. وفي قوله تعالى (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [سورة يونس 22] جرد من المخاطبين مثلهم، وعاد (1) الضمير عليهم، فهو تجريد والتفات، فالضميران في نفس الأمر لشيء واحد، وبالادعاء لشيئين. وقوله تعالى (والله الذي أرسل الرياح) [سوة فاطر 9] في لفظ الجلالة - على رأي السكاكي - التفات، وتجريد، وعلى رأي غيره تجريد فقط. وقوله تعالى (فسقناه) التفات عنى رأيهما؛ لأنه عائد على الله تعالى حقيقة، والكلام فيه كالكلام في: تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وقوله تعالى (الحمد لله) التفات على رأي السكاكي وتجريد، و (إياك) التفات لا تجريد. الثاني: في الفرق بين التجريد والالتفات. وقد علم مما سبق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فيوجد التجريد دون الالتفات كقولك: رأيت منه أسدا، ومثل: تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. على رأي الجمهور، والتفات دون تجريد نحو: تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ونحوه (فسقناه) والتفات وتجريد نحو (فصل لربك) ولا واحد منهما كغالب القرآن.

الثالث: وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه بالنسبة إلى الالتفات. فعند السكاكي قد يجتمع وضع الظاهر موضع المضمر مع الالتفات في نحو (والله الذي أرسل الرياح) وأمير المؤمنين يأمرك بكذا، وقد ينفرد الالتفات نحو: تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وليس فيه وضع الظاهر موضع المضمر، بل وضع مضمر موضع مضمر، وقد ينفرد وضع الظاهر عن الالتفات كقوله تعالى (إن أبانا لفي ضلال مبين) [سورة يوسف 8] فإن أصله " إنه " لتقدمه في قوله (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) وأما وضع المضمر موضع الظاهر فينفرد عن الالتفات في نحو: نعم رجلا زيد " و " ربه رجلا " لأن الضمير والظاهر كلاهما على أسلوب الغيبة، وينفرد الالتفات عنه كثيرا، نحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ونحو: وبات وباتت له ليلة. . . . . .. ويجتمعان في نحو قول الخليفة: نعم الرجل أمير المؤمنين. وأما على رأي السكاكي فوضع الظاهر موضع المضمر والالتفات قد يجتمعان، مثل (فصل لربك وانحر) وقد ينفرد الالتفات، وهو الغالب، مثل (إياك نعبد) وقد ينفرد وضع الظاهر، مثل (الحمد لله) ونحو (والله الذي أرسل الرياح) ووضع المضمر (1) موضع الظاهر لا يجتمع مع الالتفات؛ لأن الالتفات لابد فيه من ضمير سابق يلتفت عنه، ومع ذلك فلا موقع للظاهر، ولكن ينفرد وضع المضمر في نحو: نعم رجلا زيد " وينفرد الالتفات في غير ذلك. الرابع: في أن الالتفات حقيقة أو مجاز. إذا تأملت ما سبق علمت أنه حقيقة حيث كان معه تجريد وحيث لم يكن، وقد صرح الخطيبي (2) بأن الالتفات تجريد، والتحقيق ما تقدم من التفصيل (3). انتهى. * * * تنبيه: قال الشيخ بهاء الدين: قوله تعالى: (الحمد لله) وقوله (إياك نعبد) اتفقوا على أنه التفات واحد.

وفيه نظر؛ لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا، يلزمهم أنه إن كان التقدير قولوا: (الحمد لله) ففيه التفاتان - أعني في الكلام المأمور بقوله - أحدهما: في لفظ الجلالة، فإن الله تعالى حاضر، فأصله الحمد لك. والثاني: (إياك) لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق، وإن لم يقدر قولوا كان في (الحمد لله) التفات عن التكلم إلى الغيبة، فإن الله كأنه حمد (1) نفسه، ولا يكون في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفات؛ لأن قولوا مقدرة معها قطعا، فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي، إما أن يكون في الآية التفاتان، أو لا يكون فيها التفات بالكلية. هذا إن فرعنا على رأي السكاكي، وهو مقتضى كلام الزمخشري؛ لأنه جعل في أبيات امرئ القيس ثلاثا، وإن فرعنا على رأي الجمهور، ولم نقدر قولوا: (الحمد لله) فلا التفات؛ لأنا نقدر قولوا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وإن قدرنا قولوا قبل (الحمد لله) كان فيه التفات واحل في (إياك) وبطل قول الزمخشري أن في أبيات امرئ القيس ثلاث التفاتات (2) انتهى. قوله: (تطرية له) قال الشيخ بهاء الدين: أي إنه أشهى للقلب؛ لأن لذات النفوس في التنقلات؛ لما جبلت عليه من الضجر (3). قؤله: (وتنشيطا للسامع) أي فيكون أكثر إصغاء. وقال في " المثل السائر ": قول الزمخشري: إن الالتفات يحصل به الفرار من الملل لا يصح؛ لأن الكلام الحسن لا يملّ (4). ورده صاحب (5) " الفلك الدائر " بأن المستلذ قد يملّ. . . . . . . . . . . .

لكثرته (1). قوله: (فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، وبالعكس) قال الشيخ بهاء الدين السبكي: قد قسموا الالتفات إلى ستة أقسام: الأوّل: الالتفات من التكلم إلى الخطاب، ومثلوه بقوله تعالى (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) والأصل وإليه أرجع. الثاني: التفات من التكلم إلى الغيبة، كقوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك) [سورة الكوثر 1، 2]. الثالث: التفات من الخطاب إلى التكلم كقوله: طحا بِكَ قَلْبٌ فِي الحِسَانِ طَرُوبُ. . . بُعَيدَ الشَّبابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ تُكَلِّفُنِيْ لَيْلَى وَقَد شَطّ وَلْيُهَا. . . وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَحُرُوبُ (2) فالتفت في قوله: " تكلفني " عن قوله: " بك " من الخطاب إلى التكلم. الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ) السادس من الغيبة إلى التكلم نحو (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ) وقول امرئ القيس: تَطَاوَلَ لَيلُكَ بِالأَثْمُدِ. . . وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ. . . كَلَيْلَةِ ذِيْ العَائِرِ الأَرْمَدِ وَذَلِكَ مِن نبَإٍ جَاءَنِيْ. . . وَخُبّرْتُهُ عَن أَبِيْ الأَسْوَدِ (3) هذه الأبيات مطلع قصيدة رواها الأصمعي، وأبو عمرو الشيباني (4)

وأبو عبيدة، وابن الأعرابي لامرئ القيس بن حجر الكندي. وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام في " شرح الشواهد ": وهو الثابت في كتاب " أشعار الشعراء الستة (1). ورواها ابن الكلبي لعمرو بن معديكرب (2) في قتله بني مازن بأخيه عبد الله، وإخراجهم من بلادهم، ورواها ابن دريد (3) لامرئ القيس بن عانس - بالنون - الصحابي (4)، وبعد هذه الأبيات: وَلَوْ عن نَثَا غَيْرِهِ جَاءَنِيْ. . . وَجُرحُ اللِّسَانُ كَجُرْحِ اليَدِ لَقُلْتُ مِنَ القَوْلِ مَالا يَزَا. . . لُ يُؤْثَرُ عَنِّيْ يَدَ المُسْنَد بِأيِّ عَلاقَتِنَا تَرْغُبُوْ. . . ن عَنْ دَمِ عَمْروٍ عَلَي مَرْثَدِ فَإِن تَدْفِنُوْا الدَاءَ لا نَخْفِهِ. . . وَإن تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ وَإنْ تَقْتُلُوْنَا نُقَتِّلْكُمْ. . . وَإنْ تَقصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ (5) قوله: تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. كناية عن السهر قال ابن هشام: وهو خطاب لنفسه، والأصل ليلي. والأثمد بفتح الهمزة، وسكون المثلثة، وضم الميم، ودال مهملة، اسم موضع. والخلي: الخالي (6) من الهموم. والعائر بمهملة وهمزة.

قال ابن هشام: هو قذى العين، وقيل: العائر الرمد، قال: والأوّل أولى ليكون أشق للجمع بينهما، ويحصل الترقي أيضاً ما فإن الرمد أبلغ من قذى العين، ولعدم تكرره. قال: واشتقاق العائر من العُوَّار بضم العين وتشديد الواو: قذى العين. قال: والضمير في " بات " وفي " له " ملتفت بهما عن الخطاب إلى الغيبة، والواو في " وبات " للعطف، وفي " وباتت له ليلة " للعطف، أو للحال، وهو أولى، أي وبت والحال أن بيتوتتي كانت شديدة، ودلّ على شدتها بالتشبيه المذكور، وإسناد البيتوتة إليها مجازي و " بات ". فيهما تامة، فالجار والمجرور يتعلق بالثانية، لا باستقرار محذوف، هو خبر، فإن ذلك لا يحسن لزوال التطابق، ولأنه لو قيل: باتت ليلته كان كافيا " وذلك " إشارة إلى المذكور كله، و " من " لابتداء الغاية. و " النبأ " قال الراغب: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر: نبأ حتى يتضمن ما ذكر (1)، فهو أخص من مطلق الخبر. وأبو الأسود كنيته، واسمه ظالم بن عمرو، من بني الجون، آكل المرار، وهو ابن عم امرئ القيس، رثاه بهذه القصيدة، وقيل: بل " أبي " مضاف ومضاف إليه، و " الأسود " صفة للأب، وهو أفعل من السؤدد، أو من السواد (2). والنثا ما نثي عن الرجل من قبيح فعله، و " يؤثر عني " يُحَدَّثُ به، و " يد المسند " آخر الدهر. قال القالي: (3) لم يعرف الأصمعي، وأبو عمرو معنى " بأيّ علاقتنا ترغبون ". وقال أبو عمرو: ولم يعرفه (4) أحد ممن سألته (5). وقد اختلف في عدد الالتفات الذي وقع في هذه الأبيات، فذكر الزمخشري

أن فيها ثلاث التفاتات (1)، في " ليلك " لأن حقه أن يقول " ليلي، وفي " بات " لعدوله إلى الغيبة بعد الخطاب، وفى " جاءني " لعدوله بعدها إلى التكلم. والمحققون على أن فيها التفاتينّ فقط، ما وأن الأول ليس بالتفات، بل هو تجريد، وقيل: إن الثاني والثالث " ذلك " و " جاءني "، ورجحه صاحب (2) " الإيضاح (3) "، أو " ذلك ". " وخبرته "، ورجحه الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح (4) "، وقيل: فيها أربع التفاتات " ليلك " و " ذلك " و " وجاءني " و " خبرته ". وقد بالغ قوم فقالوا: إن فيها سبع التفاتات " ليلك " و " ترقد " و " بات " و " له " و " ذلك " و " جاءني " و " خبرته ". قوله: (وإيَّا ضمير) إلى آخره. قال صاحب " البسيط ": اختلف العلماء في " إياك " على سبعة أقوال: فذهب سيبويه، والأخفش، وجمهور البصريين، وأبو علي من المتأخرين إلى أن الاسم المضمر هو " إيا " وما يتصل بها حروف تدل على أحوال المرجوع إليه من التكلم، والخطاب، والغيبة. وذهب الخليل إلى أن " إيا " اسم مضمر، وما بعدها مضمر مضاف إليه. وذهب المبرد، وابن درستويه (5)، والسيرافي (6)، إلى أنه اسم مبهم أضيف

للتخصيص. وذهب الزجاج إلى أنه اسم ظاهر خص بالإضافة إلى المضمرات. وذهب قوم من الكوفيين، وأبو الحسن ابن كيسان، من البصريين إلى أن الضمير ما بعد " إيا "، و " إيا " دعامة لها تعتمد عليها. وذهب آخرون من الكوفيين إلى أن الكلمة بكمالها اسم مضمر. وذهب الخليل - في قول آخر - إلى أنه اسم مظهر ناب مناب الضمير (1). حجة القول الأول من وجهين: أحدهما: أنها بمنزلة الضمير المنصوب المتصل في الدلالة على المفعول به (2)، في قولك: ما أكرمني إلا أنت، وما أكرمتَ إلا إياي، فإذا ثبتت اسميتها لم يجز إضافتها؛ لأن الضمائر لا تضاف، وإذا امتنعت إضافتها تعين حرفية ما بعدها. الثاني أنها لازمة للنصب، وليست ظرفا غير متمكن، ولا مصدرا غير متصرف، ولو كانت اسما ظاهرا لما لزمت النصب. وحجة القول الثاني: أنه جاءت إضافته إلى الظاهر في قول العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإيَّاهُ وَإيَّا الشَّوَابِّ " ماذا ثبتت إضافته إلى الظاهر الذي يظهر فيه الإعراب وجب الحكم بإضافته إلى الضمير الذي لا يظهر فيه الإعراب. وأما كون الضمائر لا تضاف فغير مانع من إضافة هذا النوع؛ لأن الأحكام العامة قد تتخلف في بعض الصور، بدليل تخلف " لدن " عن جر " غدوة "، وتخلف " لولا " عن وقوع ضمير المرفوع بعدها، وتخلف " عسى " عن اتصال ضمير المرفوع بها، فكذلك هذا النوع من المضمرات، تخلف عن حكم المضمرات في منع الإضافة. وحجة القول الثالث: أنه مع إبهامه الغالب عليه الإظهار، فلا تمتنع إضافته، ولذلك تكلم في اشتقاقه. وحجة القول الرابع: أنه ظاهر بدليل تحقق اشتقاقه، والظاهر لا تمتنع إضافته. وأما لزومه للنصب فغير مستنكر، بدليل أن من الأسماء ما يلزم النصب، وهذا منها. وحجة القول الخامس: أن الياء والكاف والهاء في " إياي " و " إياك "،

و " إياه " هي الضمائر المتصلة بالفعل في " أكرمني " و " وأكرمك " و " وأكرمه " فوجب أن تكون هي الضمائر؛ لتحققها بالاسمية عند الاتصال بالفعل، إلا أنه لما لم يمكن قيامها بنفسها جعل قبلها ما تعتمد عليه، وتتصل به. وأما كون " إيا " هي الضمير دون ما بعدها فضعيف؛ لأنه لم يعهد لها حالة يمكن حملها عليها، وقد عهد لهذه الضمائر الدلالة على الإضمار، فوجب الحمل على ما عهد، دون ما لم يعهد. وأما كون ما تتصل به أكثر منها فغير مانع بدليل اتصالها بالفعل، وهو أكثر منها؛ لأن الغرض التوصل إلى جعلها منفصلة من الفعل، وهذا القول ليس ببعيد عن الصواب. وحجة القول السادس: أن الحكم على بعض الكلمة بالاسمية، وعلى بعضها بالحرفية محض التحكم، لأنه لم يعهد كلمة واحدة بعضها اسم، وبعضها حرف، فوجب الحكم على جميع الكلمة بالاسمية. وأما اختلافها فبحسب اختلاف الإضمار إلى التكلم والخطاب والغيبة، لأنه جعل ما يدل على كل نوع من المضمرين في آخر الكلمة. وأما القول السابع فهو يناسب قول من قال بالإظهار. انتهى. قوله: (واحتج بما حكاه عن بعض العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشوابّ "). قال سيبويه: حدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: فذكره (1). قال الطيبي: الشوابّ جمع شابة، كدواب جمع دابة، أي فليحذر نفسه أن يتعرض للشواب، وليحذر الشواب أن يَفْتِنَّهُ (2). قال صاحب " البسيط " في النحو: وروي: " فإياه وإيا السوآت " قال: وهذا أبلغ في التحذير من الجماع عند الكبر. قال الزركشي (3) في حاشية كتبها على هذا الموضع: هذا يرد على من ادعى

أن هذا تصحيف. قوله: (وهو شاذ لا يعتمد عليه) قال الشيخ سعد الدين: هو وإن كان شاذا من حيث الإضافة إلى المظهر، لكن فيه دلالة على أن بين " إيا " واللواحق إضافة (1). قوله: (والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل) هو كلام الراغب، وزاد أنها ضربان: عبادة بالتسخير، كما في قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [سورة الإسراء 44] وعبادة بالاختيار، وهي لذي النطق، وهو المأمور به في نحو قوله تعالى (اعبدوا ربَّكم) (2) [سورة البقرة 21]. قوله: (والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات) الأول هو الصواب، فإنه الوارد عن ابن عباس (3)، والأوفق للعموم المراد في ألفاظ الفاتحة. قوله: (في عبادتهم) أي أثنائها قوله: (وقدم المفعول للتعظيم، والاهتمام به والدلالة على الحصر) نازع أبو حيان في دلالة التقديم على الحصر (4) مستندا إلى قول سيبويه: إذا

قلت: ضربت زيدا، وزيدا ضربمّا فالتقديم والتأخير فيه سواء (1). وتعقبه الشيخ ولي الدين العراقي في " حاشيته على الكشاف " بأنه ليس في كلام سيبويه ما يرد ذلك، بل هو أمر مسكوت عنه، زاده البيانيون، وكم في كلام أهل البيان في دقائق العربية مما لم يصرح بذكره النحاة. وعبر الزمخشري بدل الحصر بالاختصاص. قال الشيخ ولي الدين: والمتبادر إلى الفهم من الاختصاص هو الحصر (2). وقال الإمام تقي الدين السبكي: إنه غيره، فإن صح لم يكن بين كلام الزمخشري وأبي حيان تعارض. وقال الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح ": سلك الوالد في الاختصاص حيث وقع، إما بتقديم الفاعل المعنوي، أو بتقديم المعمول مسلكا غير ما هو ظاهر كلام البيانيين، وألف في ذلك تصنيفا لطيفا سماه " الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص (3) ". قال فيه: قد اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ومن الناس من ينكر ذلك، ويقول: إنما يفيد الاهتمام. وقد قال سيبويه في كتابه: " وهم يقدمون ما هُم به أعنى (4) ". والبيانيون على إفادته الاختصاص. ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر، فإذا قلت: زيدا ضربت، يقول: معناه ما ضربت إلا زيدا، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شيء والحصر شيء آخر، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر، وإنما قالوا: الاختصاص. قال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) -: " وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ)

[سورة الزمر 46] (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) [سورة الأنعام 164] والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة (1) ". وقال في قوله تعالى (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ): " معناه أفغير الله أعبد بأمركم " (2) وقال في قوله تعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا): " الهمزة للإنكار، أي منكرا أن أبغي ربا غيره (3) ". وقال في قوله تعالى (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) [سورة الزمر 14] " إنه أمر بالإخبار بأنه يختص الله تعالى وحده دون غيره بعبادته، مخلصا له دينه " (4). وقال في قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون) [سورة آل عمران 83] " قدم المفعول الذي هو (غير دين الله) على فعله؛ لأنه أهمّ من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل " (5). وقال في قوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) [سورة الصافات 86]: " إنما قدم المفعول على الفعل للعناية به، وقدم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم؛ لأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به، يعني أتريدون إفكا، ثم فسر الأوّل بقوله (آلِهَةً دُونَ اللَّهِ) على أنها إفك في أنفسها، ويجوز أن يكون حالا " (6). فهذه الآيات كلها لم يذكر الزمخشري لفظ الحصر في شيء منها، ولا يصح إلا في الآية الأولى فقط، والقدر المشترك في الآيات الاهتمام، ويأتي الاختصاص في أكثرها. ومثل قوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً) قوله تعالى (أهؤلاء إيَّاكم كانوا يعبدون) [سورة سبأ 40] وما أشبههما لا يأتي فيه إلا الاهتمام؛ لأن ذلك منكر من غير اختصاص، وقد يتكلف لمعنى الاختصاص في ذلك كما في بقية الآيات، وأما الحصر فلا.

فإن قلت: ما الفرق بين الاختصاص والحصر؟ قلت: الاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين: أحدهما: عام مشترك بين شيئين، أو أشياء. والثاني: معنى منضم إليه، يفصله عن غيره، كضرب زيد، فإنه أخص من مطلق الضرب، فإذا قلت: ضربت زيدا، أخبرت بضرب عام وقع منك، على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصا لما انضم إليه منك، ومن زيد، وهذه المعاني الثلاثة: أعني مطلق الضرب، وكونه واقعا منك، وكونه واقعا على زيد، قد يكون قصد المتكلم بها ثلاثتها على السواء، وقد يترجح قصده لبعضها على بعض، ويعرف ذلك بما. ابتدأ به كلامه، فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به، وأنه هو الأرجح لغرض المتكلم. فإذا قلت: زيدا ضربت، علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود، ولاشك أن كل مركّب من خاص وعام له جهتان، فقد يقصد من جهة عمومه، وقد يقصد من جهة خصوصه، فقصده من جهة خصوصه هو الاختصاص، وأنه هو الأهم عند المتكلم، وهو الذي قصد إفادته للسامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي. وأما الحصر فمعناه نفي غير المذكور، وإثبات المذكور، ويعبر عنه ب " ما "، و " إلا "، أو ب " إنما ". فإذا قلت: ما ضربت إلا زيدا كنت نفيت الضرب عن غير زيد، وأثبته لزيد، وهذا المعنى زائد على الاختصاص. وإنما جاء هذا في (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين) للعلم بأنه لا يعبد غير الله، ولا يستعان بغيره، ألا ترى أن بقية الآيات لم يطرد فيها ذلك، " فإن قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون) لو جعل غير دين الله يبغون في معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه، لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، ولاشك أن مجرّد بغيهم غير دين الله منكر، وكذلك بقية الآيات إذا تأملتها، ألا ترى أن (أفغير الله تأمرونّي أعبد) وقع الإنكار فيه على عبادة غير الله من غير حصر، وأن (أبغي رَبًّا) غيره منكر من غير حصر، ولكن الخصوص، وهو غير الله هو المنكر وحده، ومع غيره. وكذلك (إياكم كانوا يعبدون) عبادتهم إياهم منكرة من غير حصر، وكذلك قوله تعالى (آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر.

فمن هذا كله يعلم أن الحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) من خصوص المادة، لا من موضوع اللفظ. بل أقول: إن المصلي قد يكون مقبلا على الله وحده، لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه، وغيره أحقر في عينه من أن يشتغل ذلك الوقت بنفي عبادته، وإنما قصد الإخبار بعبادة الله. وأول ما حضر في ذهنه عظمة من هو واقف بين يديه فقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ليطابق اللفظ المعنى، ويتقدم ما تقدم حضوره في القلب، وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم بنى على ما أخبر به من عبادته. فمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالإخبار بعبادته، وغيره من الأكوان لم يخبر عنه بشيء، بل هو معرض عنها. وإذا تأملت مواقع ذلك في الكتاب والسنة، وأشعار العرب تجده كذلك، ألا ترى قول الشاعر (1): أَكُلَّ امرِئٍ تَحَسَبِيْنَ امرءًا. . . ونَارٍ تَوَقَّدُ بِالليلِ نَارًا لو قدرت فيه الحصر ب " ما " و " إلا " لم يصح المعنى الذي أراده. وقد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون): " وفي تقديم الآخرة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بأهل الكتاب، وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك (2) ". وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن. وقد اعترض عليه بعض الناس فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة، لا بغيرها. وهذا الذي قاله هذا القائل بناه على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك، لما بيناه. ثم قال هذا القائل: وتقديم (هم) أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها، حيث (قالوا لن يدخل) [سورة البقرة 111] و (لن تمسنا) [سورة البقرة 80].

وهذا من هذا القائل استمرار على ما في ذهنه من الحصر، أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها، وهذا فهم عجيب. ثم قال هذا القائل: ثم إن التعريض في قوله: " بأهل الكتاب " " وبما كانوا " " وأن قولهم " ظاهر معني قول الزمخشري. قال هذا القائل: وأما في قوله: " وأن اليقين " فمشكل؛ لأنه ليس فيه تعريض بأن اليقين ما عليه من آمن، بل تصريح. قلت: مراد الزمخشري أن التصريح بأن من آمن يوقنون تعريض بأن أهل الكتاب لا يوقنون، فكيف يرد عليه هذا؟ ثم قال هذا القائل: فالوجه أن يقال: " وأن اليقين " عطف على قوله: " تعريض " لا على معمولاته من " بأهل الكتاب " إلى آخره، فكأنَّه قال: وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على (هم) تعريض، وأن اليقين. . .. قلت: مراد الزمخشري أنه تعريض بنفي اليقين عن أهل الكتاب، وكأنه قال: دون غير من آمن، فلا يرد عليه، ولا يحتاج إلى تقدير العطف على ما ذكره هذا القائل، وهو إما أن يقدر: " دون غيرهم " أولا، فإن قدر فهو تعريض، لا تصريح، وإن لم يقدر فلا يحتاج إلى بناء (يوقئون) على (هم). فحمل كلام الزمخشري على ما زعمه هذا القائل لا يصح بوجه من الوجوه، وهذا القائل فاضل، وإنما ألجأه إلى ذلك فهمه الحصر، وهو ممنوع، وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام: أحدها: ب " ما " و " إلا " كقولك: ما قام إلا زيد، صريح في نفي القيام عن غير زيد، ويقتضي إثبات القيام لزيد، قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، وهو الصحيح، لكنه أقوى المفاهيم؛ لأن " إلاّ " موضوعة للاستثناء، وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق، لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو عين القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك، فقال: إنه بالمنطوق. والثاني: الحصر ب " إنما " وهو قريب من الأول فيما نحن فيه وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر، فكأنَّه يفيد إثبات قيام زيد - إذا قلت: إنما قام زيد - بالمنطوق، ونفيه عن غيره بالمفهوم. والقسم الثالث: الحصر الذي قد يفيده التقديم، وليس هو على تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين، بل هو في قوة جملتين:

إحداهما: ما صدر به الحكم نفيا كان أو إثباتا، وهو المنطوق والأخرى: ما فهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط، دون ما دل عليه من المفهوم؛ لأن المفهوم لا مفهوم له، فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك، أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه. وقد قال سبحانه وتعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) [سورة النور 3] أفاد أن العفيف. قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية فقال سبحانه وتعالى بعده (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) بيانا لما سكت عنه في الأولى. فلو قال (وبالآخرة هم يوقنون) أفاد منطوقُهُ إيقانهم بها، ومفهومُهُ عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصودا بالذات، والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة، حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حصر مجازي، وهو دون قولنا: يوقنون بالآخرة، لا بغيرها، فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره: لا يوقنون إلا بالآخرة. إذا عرفت هذا فتقديم (هم) أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم هذا القائل، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة. ولا شك أن هذا ليس بمراد (1)، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهوم عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر؛ لأن الحصر لم يدل عليه بجملة (2) واحدة، مثل " ما " و " إلا " ومثل " إنما " وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد نفي الإيقان مطلقا عن غيرهم. وهذا كله إنما احتجنا إليه على تقدير تسليم ما ادعاه هذا القائل من الحصر، وقد سبق إلى فهم كثير من الناس، ونحن قد منعنا ذلك أولا، وبينا أنه لا حصر

في ذلك، وإنما هو اختصاص، وفرقنا بين الاختصاص والحصر. وقول هذا القائل: تقديم (هم). من أين له أن هذا تقديم، فإنك إذا قلت: هو يفعل، احتمل أن يكون مبتدأ خبره يفعل، واحتمل أن يكون أصله يفعل هو، ثم قدمت وأخرت، والزمخشري لم يصرح بالتقديم، وإنما قال: " بناء (يوقنون) على (هم) " ولكنا مشينا مع هذا الفاضل على كلامه، وكل ذلك أوجبه (1) الوهم والتباس الاختصاص بالحصر (2). انتهى كلام الشيخ تقي الدين. وقال الشيخ بهاء الدين السبكي: قال ابن الحاجب في " شرح المفصل ": الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم. واستدل على دْلك بقوله تعالى (فاعبد الله مخلصا له الدين) ثم قال تعالى (بل الله فاعبد) قال: وهو استدلال ضعيف؛ لأن (مخلصا له الدين) أغنى عن إرادة الحصر في الآية الأولى، ولو لم يكن فما الذي يمنع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر، كما تقول: عبدت الله، وتقول: ما عبدت إلا الله، كل سائغ. قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) [سورة الحج 77]، وقال تعالى (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة يوسف 40] بل قوله تعالى (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) من أقوى أدلة الاختصاص؛ فإن قبلها (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) فلو لم تكن للاختصاص، وكان معناها: أعبد الله لما حصل الإضراب الذي هو معنى (بل). قال: وقد رد الشيخ أبو حيان على مدعي الاختصاص، ونقل عن سيبويه أنه قال: " يقدمون ما هو الأهم من كلامهم، وهم به أعنى " قال: وربما يعترض على مدعي الاختصاص بنحو قوله تعالى (أفغير الله تأمروني أعبد). وجوابه: أنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة.

قال: ورد صاحب الفلك الدائر " بقوله تعالى (كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل).

قال: ورد صاحب الفلك الدائر " بقوله (1) تعالى (كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) (2). وجوابه: أنا لا ندعي اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشيء عن الحقيقة، وعن الغالب (3). انتهى. قوله: (ولذلك قال ابن عباس: معناه نعبدك، ولا نعبد غيرك) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (4) من طريق الضحاك عنه. قوله: (ولا يستتب له) في الصحاح: استتب له الأمر: تهيأ واستقام. الشيخ سعد الدين: يستتب، أي يتم، من التبات، وهو الهلاك (5). قال في " الأساس ": والتبات يتبع التمام (6). قوله: (وأصله أن يعدى باللام) إلى آخره قال الزمخشري في غير " الكشاف ": " يقال: هداه لكذا، أو إلى كذا، إذا لم يكن في ذلك، فيصل إليه بالاهتداء، وهداه كذا بغير حرف محتمل للحالين، بين أن يكون فيه، وبين أن لا يكون، حتى لا يجوز أن يقال في قوله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [سورة العنكبوت 69] لسبلنا، أو إلى سبلنا " انتهى (7).

وللخويِّي فرق آخر ذكرته في " أسرار التنزيل (1) " قوله: (وهداية الله تتنوع أنواعا) إلى آخره نوعها الراغب إلى أربعة غير هذه: الأولى: الهداية التي عم بها كل شيء، بحسب حاله، كما قال (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [سورة طه 50]. الثاني: الهداية التي جعلها للناس، بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن، وهو المقصود بقوله (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) [سورة الأنبياء 73]. الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعني بقوله (والذين اهتدوا زادهم هدى) [سورة محمد 17] (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) [سورة التغابن 11]. الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة، وهو المعني بقوله (الحمد لله الذي هدانا لهذا) [سورة الأعراف 43] سيهديهم ويصلح بالهم (2)) [سورة محمد 5]. قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) قال الطيبي: تقرير الاستشهاد به أنه تعالى أثبت لهم الجهاد على لفظ الماضي، وأوقع ضمير التعظيم ظرفا له، على المبالغة، أي في سبيلنا ووجهنا مخلصين لنا، ولا يكون مثل هذا الجهاد إلا هداية، لا غاية بعدها، ثم قال (لنهدينهم سبلنا) على الاستقبال. وصرّح بلفظ (سبلنا) ولا يستقيم تأويله إلا بما ذكر من طلب الزيادة بمنح الألطاف (3). قوله: (ويميط) بضم أوله، أي تبعد وتنحي.

قوله: (غواشي) جمع غاشية. قوله: (والأمر والدعاء يتشاركان لفظا) أي صيغة ومعنى، أي فإن كلا منهما دال على الطلب قوله: (ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل: بالرتبة) في مغايرة القول الثاني للأول نظر لا يخفى قوله: (السابلة) هم المختلفون (1) في الطرقات لحوائجهم قوله: (وهو كالطريق في التذكير والتأنيث) أما في المعنى فيينهما فرق لطيف، أشار إليه الخُوَيِّي قال: الطريق كل ما يطرقه طاروا معتادا كان أم (2) غيره، والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، والصراط من السبيل ما لا التواء فيه ولا اعوجاج، فلا يذهب يمنة ولا يسرة، بل يكون على سمت القصد (3)، فهو أخص الثلاثة. قال: فإن قيل: فما فائدة وصفه بالمستقيم حينئذٍ؟ أجيب بأن الصراط يطلق على ما فيه صعود أو هبوط، والمستقيم ما لا ميل فيه إلى شيء من الجوانب الأربعة، وأصل الاستقامة في قيام الشخص أن لا يكون منحنيا ولا مُقْعَنْسِساً، ولا مائلا إلى يمين أو يسار. قوله: (والمراد به طريق الحق، وقيل: ملة الإسلام) القولان مرويان عن ابن عباس، أخرجهما ابن جرير (4)، وليسا متغايرين (5) كما يفهمه إيراد المصنف، بل مؤداهما واحد. قال ابن تيمية: الخلاف بين السلف في التفسير قليل جدا، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، وذلك كأن يعبر أحدهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى، غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، مثال ذلك تفسير هم (الصراط المستقيم) فقال بعضهم: هو القرآن، أي اتباعه،

حكي في تفسير (الذين أنعمت عليهم) ثلاثة أقوال

وقال بعضهم: هو الإسلام، فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله، كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها (1). انتهى. ولاشك أن ملة الإسلام هي طريق الحق. قوله: (وفائدته التوكيد) إلى آخره. قال الطيبي: يعني أن البدل فيه معنى التكرير، ومعنى التوضيح، فالتوضيح يرفع الإبهام عن نفس المتبوع، والتوكيد يرفع إبهام ما عسى أن يتوهم في النسبة، فهو في توضيح المتبوع كالبيان، وفي تأكيد أمر المتبوع في النسبة كالتأكيد، ويزيد بأنه توكيد لنفس النسبة (2). قوله: (طريق المؤمنين) إلى آخره. حكي في تفسير (الذين أنعمت عليهم) ثلاثة أقوال، كلها قاصرة. والذي أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بـ (الذين أنعمت عليهم) الأنبياء والملائكة والصديقون والشهداء ومن أطاعه وعبده (3). هذا لفظ ابن عباس، وهو يشمل الأقوال الثلاثة، ويزيد عليها، وهو الموافق لقوله تعالى (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) الآية قال الطيبي: وهو الأنسب للعموم المقصود في ألفاظ السورة (4). قوله: (وقرئ (صراط من أنعمت عليهم) أخرجه أبو عبيد في " فضائله " عن ابن الزبير (5). قوله: (والإنعام إيصال النعمة) هو كلام الراغب، وزاد: ولا يقال: إلا إذا كان الواصل إليه من العقلاء، لا يقال: أنعم على فرسه (6).

وقال الخويي: الإنعام نفع العالي من دونه بأمر عظيم، خاليا عن العوض والتبعة. قوله: (والمراد هنا القسم الأخير) قال الطيبي: الأشبه الحمل على الإطلاق، كما قال في " الكشاف: " أطلق ليشمل كل إنعام، فإن من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته، واشتملت عليه (1). قوله: (بدل من (الذين) قال أبو حيان: هو ضعيف؛ لأن " غير " أصل وضعه الوصف، والبدل بالوصف ضعيف (2). قوله: (على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلالة). قال الطيبي: يعني إنما يصح إبدال هذا من ذاك إذا اعتبر مفهوم أحدهما مع منطوق الآخر ليتفقا. قو له: (أو صفة) قال أبو حيان: هو قول سيبويه (3) قوله: (وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِمِ يَسُبُّنِيْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .) هو لرجل من بني سلول، وتمامه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَأَعِفُّ ثُمُّ أقُوْلُ: لا يَعْنِينِيْ وأورده طائفة بلفظ فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِيِنيْ (4) وبعده قوله: غَضْبانَ مُمْتَلِئاً عَليَّ إِهَابُهُ. . . إِنَيْ وحَقِّكَ سَخْطُهُ يُرْضِيْنِيْ قال الطيبي: لم يرد باللئيم لئيما بعينه، ولا كل اللئام لاستحالته، ولا الحقيقة لاستحالة أن يمر على مجرد الحقيقة لعدمها في الخارج، بل لئيما من اللئام، واللام للعهد الذهني المعبر عنه بتعريف الجنس (5).

قال ابن الحاجب: الحقيقة الذهنية معرفة في الذهن، نكرة في الخارج (1). وفي " الخصائص " لابن جني قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. . . . . . . . . . . . . . . . . . .. أي: ولقد مررت (2)، أوقع المستقبل موقع (3) الماضي. وقال في موضع آخر: إنما حكى فيه الحال الماضية، والحال لفظها أبدا بالمضارع (4). وفي بعض حواشي. " الكشاف ": فإن قيل: فهلا جعلت جملة " يسبني " حالا، لكونها جملة بعد معرفة، والتقدير: ولقد أمر عليه في حال سبه لي. قيل: ما ذكرته محتمل، لكن الأحسن أن يكون المراد: ولقد أمر على اللئيم السابّ لي، سواء كان في حال المرور سابا، أم لا، فيكون أعم وأشمل. وقال الطيبي: أجيب أنه لا يحتمل الحال؛ لأن (5) القائل يمدح نفسه، ويصف أناته وتُؤَدَتَهُ وأن الحلم دأبه وعادته، لا أنه مر على لئيم مُعُيَّن مرة، وأنه احتمل مساءته ومسبته، ودل عطف " فمضيت " و " قلت " وهما ماضيان على " أمر " وهو مضارع على إرادة استمرار المورث للعادة، وعلى أن المسبة والتغافل إنما يحدثان منه عند مروره عليه (6). ومما يشبه هذا البيت ما أنشده الأصمعي لبعض الأعراب: لا يَغْضَبُ الحُرُ على سِفْلَةٍ. . . والحُرُ لا يُغْضِبُهُ النَذْلُ إذا لَئِيْمٌ سَبَنِيْ جَهْدَهُ. . . أَقولُ: زِدْنِيْ فَلِيَ الفَضْلُ (7) قوله: (وقولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني) قال الطيبي: وهذا المثال أظهر من البيت؛ لأن البيت يحتمل الحال وإن كان الوصف فيه ظاهراً (8).

وقال ابن جني في " الخصائص: وكان أبو علي يقول قول أبي الحسن في قولهم: إني لأمر بالرجل مثلك: إن اللام زائدة، حتى كأنه قال: إني لأمر برجل مثلك، لما لم يكن الرجل هنا مقصودا معينا على قول الخليل: إنه تراد اللام في المثل، جتى كأنه قال: إني لأمر بالرجل المثل لك. قال: لأن الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية، أي أن اللام (1) ملفوظ بها، وهي في قول الخليل مرادة مقدرة. قال: وهذا القول من أبي عليِّ غير مرضي عندي، وذلك أنه جعل لفظ اللام دلالة على زيادتها، وكيف يكون لفظ اللام دليلا على زيادتها؟ وإنما جعلت الألفاظ أدلة على إثبات معانيها، لا على سلبها. وإنما الذي يدل على زيادة اللام هنا هو كونه مبهما، لا مخصوصا، ألا ترى أنك لا تفصل بين معنيي قولك: إني لأمر برجل مثلك، وإني لأمر بالرجل مثلك في كون كل واحد منهما منكورا غير معروف، ولا مُومَأً به إلى شيء بعينه، فالدلالة أيضاً من هذا الوجه - كما ترى - معنوية، كما أن إرادة الخليل اللام (2) في مثلك إنما دعا إليها جريه صفة على شيء، هو في اللفظ معرفة، فالدلالة (3) إذن كلتاهما معنويتان (4) انتهى. وقد جعل صاحب " الكشاف " هذا المثال لغزاً فقال في " أحاجيه ": أخبرني عن مُعَرَّفٍ في حكم التنكير. وقال في شرحه: تقول ما دخلت على الرجل مثلك إلا أكرمني، كأنك قلت: على رجل مثلك. والذي سوغ ذلك ما فيه من الإبهام؛ لوقوعه على غير معين، ألا ترى أن النكرة والمعرفة في نحو هذا الموقع لا يكاد يبين الفرق بينهما، ولا يتفاوت المعنيان تفاوتا ظاهرا، وذلك أن معنى على رجل مثلك: على واحد غير معين من جنس الرجال، ومعنى على الرجل مثلك: على الواحد من آحاد هذا الجنس، مشارا

باللام إلى معلوم المخاطب الثابت عنده، أن (1) الواحد من الرجال ما هو، ولا إشارة في الأول. ومنه (غير المغضوب عليهم) لما كان المنعم عليهم مبهمين جرى عليهم (غير) الذي توصف به النكرات، وقال: ولقد أمر على اللئيم يسبني. . . فمضيت ثمت قلت لا يعنيني وقال: لَعَمرِي لأنتَ البَيْتُ أكْرِمُ أَهْلُه. . . وَأَقْعُدُ في أَفْنَائِهِ بِالأَصَائِلِ (2) كأنه قال: لأنت بيت (3). انتهى. قوله: (أو جعل غير معرفة بالإضافة؛ لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد) إلى آخره. وفي " شرح المفصل " للأندلسي: قال صدر الأفاضل (4): اعلم أن " غيراً " لها ثلاثة مواضع: أحدها: أن تقع موقعا لا تكون فيه إلا نكرة، وذلك إذا أريد به النفي الساذج في نحو مررت برجل غير زيد، تريد أن الممرور به ليس بهذا. الثاني: أن تقع موقعا لا تكون فيه إلا معرفة، وذلك إذا أريد به شيء قد عرف بمضادة المضاف إليه في معنى لا يضاده فيه إلا هو، كما إذا قلت: مررت بغيرك، أي المعروف بمضادتك، إلا أنه في هذا لا يجري صفة، فيذكر غير جار على الموصوف. وأما قولهم: الحركة غير السكون فمستكره؛ لأن غيراً هاهنا يجري مجرى الكناية، فلذلك يتعرّف، والمثال الجيد قول أبي الطيب (5):

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الصفحة ساقطة من النسخة المصورة

قوله: (على الحال من الضمير المجرور) زاد غيره: أومن (الذين) قال أبو حيان: وهو خطأ؛ لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز (1). قوله: (والعامل (أنعمت) قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن مثل هذا ليس من اختلاف العامل في الحال، وذي الحال؛ إذ العمل في مجموع الجار والمجرور عمل في المجرور، بمعنى أنه غير خارج عن المعمولية، على أن التحقيق أن المنصوب المحل، والمرفوع المحل هو المجرور فقط؛ لأن أثر الجار إنما هو في تعدية الفعل وإفضائه إلى الاسم، وبهذا يندفع ما يقال: إن الإسناد إليه من خواص الاسم، والجار مع المجرور ليس باسم (2). قوله: (أو بإضمار أعني) قال أبو حيان: عزي إلى خليل، وهو تقدير سهل (3). قوله: (أو بالاستثناء) قال الطيبي: منعه الفراء؛ لأنه حينئذٍ بمعنى سوى، فلا يجوز أن يعطف عليه بـ " لا "؛ لأنها نفي، فلا يعطف بها إلا على نفي (4)، فلا يجوز جاءني القوم إلا زيدا، ولا عمراً، وأجازه الأخفش، وقال: معناه لا زيداً (5)، فجاز العطف عليه بـ " لا " حملا على المعنى (6). وقال أبو حيان: النصب على الاستثناء، قاله الأخفش، والزجاج وغيرهما، وهو استثناء منقطع؛ إذ لم يتناوله اللفظ السابق، و " لا " على هذا القول صلة، أي زائدة، مثلها في قوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [سورة الأعراف 12] انتهى.

قوله: (والغضب ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد المنتهى والغاية) قال الطيبي: الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وهو على الله تعالى محال، فيحمل على إرادة الانتقام والقانون في أمثاله هو أن جميع الأعراض النفسانية مثل الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والمكر، والخداع، والاستهزاء، لها أوائل، وغايات، فإذا وصف الله تعالى بشيء منها يكون محمولا على الغايات، لا على البدايات. مثاله الغضب ابتداؤه غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى يحمل على إرادة الانتقام - كما قاله - لا على غليان دم القلب (1). وقال الشيخ أكمل الدين لهم: في الجواب عن مثل هذا وجهان: أحدهما: أنه من باب إطلاق لفظ موضوع لأمر مع غايته على غايته فقط؛ فإن لفظ الغضب موضوع لغليان الدم لإرادة الانتقام، فاستعمل لإرادة الانتقام خاصة، وهو مطرد في أكثر الكيفيات النفسانية. والثاني: أنه من باب التمثيل البياني. قال: وأقول: يجوز أن يكون من باب الاشتراك اللفظي، بأن يكون الغضب موضوعا للأمرين جميعا، وللثاني خاصة، واستعماله فيمن يستحيل عليه غليان الدم قرينة لإرادة أحد المعنيين، كما يقال: الحي مشترك بين الله تعالى وبين غيره اشتراكا لفظيا، فيكون موضوعا لمن قامت به قوة يفيض عنها سائر القوى الحيوانية، ولباق لا سبيل للفناء عليه. قال: ولقائل أن يقول: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك فالمجاز أولى؛ لأن الاشتراك يخل بالمقصود، والمرجوح عند الراجح كالمعدوم، فلا معنى لهذا الوجه. والجواب - بعد إبطال دلائل ترجيح المجاز -: أن الترجيح موقوف على

وقوع التعارض بين كون اللفظ مجازا أو مشتركا، وذلك فاسد لا تحقق له، والبناء على الفاسد فاسد، ودْلك لأن ذلك لا يتحقق إلا إذا تعذر المدلول ولا قرينة ثمت، وحينئذ إن تردد الذهن كان مشتركا ليس إلا، وإن سبق إلى خلاف ما وضع له كان مجازا ليس إلا، وإن سبق إلى خلاف ما وضع له لا يكون مشتركا، لانتفاء لازمه، وهو تردد الذهن، ولا مجازا؛ لأنه إذ ذاك حقيقة. نعم أطبق علماء البيان على أن المجاز لكونه دعوى الشيء ببينة أبلغ من الحقيقة، لكن لا يمنع أن يكون غيره بليغا، على أن كلامنا في المشترك، وقد يكون الفهم الإجمالي مرادا، فيكون استعمال المجاز خطأ، لكونه على خلاف مقتضى الحال (1). قوله: (على ما مر) أي في الرحمن الرحيم قوله: (و (عليهم) في محل رفع؛ لأنه نائب مناب الفاعل، بخلاف الأولى) أي فإنها في محل نصب على المفعولية، كما أفصح به في " الكشاف " (2) قال الشيخ أكمل الدين: اعترض عليه بأن الذي في محل الرفع والنصب هو المجرور، وأما الجار فهو آلة التعدية، كالتضعيف والهمزة، وليس لها في إعراب ما بعدها مدخل. وأجيب بأن المصنف لعله اختار ما ذكره أبو عليّ في " الحجة " من تعلقه بالجانبين، حيث قال: كثيرا ما يجتمع في الشيء الواحد الشبه من وجهين، ومن أصلين، فمن ذلك حروف الجر في مررت بزيد ونحوه، هو من جهة بمنزلة جزء من الفعل، ومن أخرى بمنزلة جزء من الاسم. أما الجهة الأولى فلأنه قد أنفذ الفعل إلى المفعول وأوصله، كما أن الهمزة في نحو أذهبت قد فعلت ذلك، وكما أن تضعيف العين في خَرَّجْتُهُ قد فعل ذلك. وأما الثانية فلأنه قد عطف عليه بالنصب في مررت بزيد وعمرا لما كان موضع الجار والمجرور نصبا، ومن ثم قدم الاسم (3) في بمن تمرر أمرر به (4). واعترض عليه بأن العطف بالنصب لا دلالة له على أن الجار والمجرور

معطوف عليه؛ لجواز أن يكون العطف على محل المجرور خاصة. وأقول: لعلة غير صحيح؛ لأن الإعراب المحلي إنما يستعمل فيما لم يكن له إعراب لفظي، والمجرور ليس كذلك، والجار والمجرور كذلك (1). انتهى. قوله: (و (لا) مزيدة لتأكيد ما في (غير) من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم، ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب، كما جاز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب) قال أبو حيان في إعرابه: و (لا) في قوله (ولا الضالين) لتأكيد معنى النفي؛ لأن غيرا فيه معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم، ولا الضالين، وعين دخولها العطف على قوله (المغضوب عليهم) لمناسبة " غيرٍ " ولئلا يتوهم بتركها عطف (الضالين) على (الذين) ولتقارب معنى " غير " من معنى " لا " أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال: " وتقول: أنا زيدا غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيدا مثل ضارب؛ لأنه بمنزلة قولك: أنا زيدا لا ضارب " يريد أن العامل إذا كان مجرورا بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه، ولا على المضاف، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه " غير " وأجازوا تقديم معموله على " غير " إجراء لـ " غير " مجرى " لا " فكما لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها فكذلك " غير ". وأورد الزمخشري هذه المسألة على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ليقوي بها التناسب بين " غير " و " لا " إذ لم يذكر فيها خلافا. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جدا، وبناه على جواز أنا زيدا لا ضارب، وفي تقديم معمول ما بعد " لا " عليها ثلاث مذاهب، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضي له بأن تجري أحكامه عليه، ولا نثبت تركيبا إلا بسماع من العرب، ولم نسمع أنا زيدا غير ضارب، وذكر الأصحاب قول من جوزه، وردوه (2). انتهى كلام أبي حيان. وفي حاشية الطيبي: قال الزجاج: النحويون يجوزون أنت زيدا غير ضارب،

ولا يجوزون أنت زيدا مثل ضارب؛ لأن زيدا من صلة ضارب، فلا يتقدم عليه (1). قال الطيبي: وذلك أن وقوع المعمول فيما لا يقع فيه عامله ممتنع، فامتنع قولك: أنا زيدا مثل ضارب؛ لأن " مثل " مضاف إلى ضارب، و " زيدا " معموله، فكما لا يجوز تقديم " ضارب " على المثل؛ لأنه مضاف إليه للمثل لا يجوز تقديم " زيدا " عليه، وقولك: أنا زيدا عْيز ضارب إنما يجوز لأن غير لما كان متضمنا معنى النفي كان بمنزلة أنا زيدا لا ضارب، والإضافة في " غير " كلا إضافة. وقال الشيخ أكمل الدين: قالوا إن من الأصول المقررة عند النحاة أن وقوع المعمول في موضع لا يقع فيه عامله ممتنع، ففي قولك أنا زيدا مثل ضارب لا يجوز تقديم " ضارب " على " مثل "؛ لئلا يلزم تقديم المضاف إليه على المضاف، وفي قولك: أنا زيدا غير ضارب جاز؛ لأن " غيرا " بمعنى " لا "، وجاز أنا زيدا لا ضارب. واعترض عليه بأنه مخالف للأصل المذكور؛ لوقوع المعمول في موضع لا يقع فيه عامله، حيث لا يجوز أنا زيدا ضارب لا، وهو غلط؛ لأن " لا " ليس بعامل في ضارب. ومعنى قولهم: لا يقع فيه عامله، عامله الذي هو معمول (2). وقال الشيخ سعد الدين: قدم في المثال مفعول اسم الفاعل المنفي عليه، وامتناع تقديم ما في حيز النفي عليه إنما هو في " ما " و " إن " ما دون " لا " و " لم " و " لن " وذلك لأن " ما " تدخل على القبيلتين، فتشبه الاستفهام، و " لم " و " لن " يختصان بالفعل، ويكونان كالجزء منه، وأما " لا " وإن دخلت على القبيلتين إلا أنها حرف متصرف فيها جاز عمل ما قبلها فيما بعدها، مثل جئت بلا شيء، وأريد أن لا تخرج، فجاز العكس أيضاً (3). وقال بعض أرباب الحواشي: قول الزمخشري: " لما في غير من معنى النفي (4) " إشارة إلى قاعدة، وهي أن الكلام إذا كان فيه نفي (5) وفسر بمثبت جاز أن

تأتي في المثبت بالنفي " وأن تحذفه. أنشد ابن عطية " (1): ما كان يَرْضَي رَسولُ اللهِ فِعْلَهُمُ. . . والطُّيِّبَانِ أَبُو بَكْر وَلا عُمَرُ (2) وقياسه: والطيبان أبو بكر وعمر، لكن لما صدر الكلام بقوله: " ما كان " جاز أن يقول: ولا عمر أيضا يرضى، وتقول: زيد ليس بظالم، يسبي الحريم، ويأخذ الأموال، فقولك: يسبي الحرام، ويأخذ الأموال جملتان صورتهما صورة المثبت، وهما منفيان بنفي ما فسرته بهما، فلك ثلاثة أوجه: لك أن تدخل " لا " على كليهما فتقول زيد ليس بظالم، لا يسبي الحريم، ولا يأخذ الأموال، ولك أن تنفيهما عنهما كما مثلت أولا، ولك أن تحذفها عن الأول وتثبتها في الثاني، ولم أرَ القسم الرابع في كلامهم، والثالث أفصح الثلاثة، كما في قوله تعالى (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) [سورة البقرة 71] وقوله تعالى (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) [سورة الأحقاف 9] وكما في البيت الذي أنشده ابن عطية انتهى. قوله: (وقرئ وغير الضالين) أخرجه سعيد بن منصور، وأبو عبيد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3) قوله: (وقيل (غير المغضوب عليهم) اليهود) إلى آخره هذا من العجب العجاب (4)، تضعيفه التفسير الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وجميع الصحابة والتابعين، واختراعه تفسيرا برأيه، وجعله أنه المتجه.

أخرج أحمد في " مسنده " والترمذي - وحسنه - وابن حبان في " صحيحه " وغيرهم، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى (1) ". وأخرجه ابن مردويه عن أبي ذر بلفظ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قول الله (غير المغضوب عليهم) قال: " هم اليهود " (ولا الضالين) قال: " النصارى (2) ". وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم التفسير بذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، والربيع بن أنس (3)، وزيد بن أسلم (4)، وابنه (5) عبد الرحمن (6). قال ابن أبي حاتم: ولا أعلم في ذلك خلافا بين المفسرين (7). فهذه منه حكاية إجماع، فكيف يجوز العدول عنه، وعن النص المرفوع إلى قول بالرأي؟. وأعجب من ذلك من حكى في تفسير الآية عدة أقوال، كالإمام (8)، والماوردي (9)،

وسليم (1)، وكل ذلك (2) ساقط، لا يعول عليه. قال الراغب: فإن قيل: كيف فسر على ذلك، وكلا الفريقين ضال، ومغضوب عليه؟ قيل: خص كل فريق منهم بصفة كانت أغلب عليهم وإن شاركوا غيرهم في صفات ذم (3). قوله: (وقرئ ولا الضألين بالهمزة) قال ابن جني: قرأها أيوب السختياني، فسئل عن الهمزة فقال: هي بدل من المدة؛ لالتقاء الساكنين، ونظيره قراءة عمرو بن عبيد: إنس ولا جأنٌّ، وسمع شأبَّة، ومأدَّة (4). قوله: (على لغة من جدّ في الهرب) قال الطيبي: لأن التقاء الساكنين فيما إذا كان أولهما حرف لين، والثاني مدغما فيه مغتفر، وإذا هرب عن هذا الجائز فقد جدّ في الهرب (5). وقال السمين: قد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان، قال الشاعر: وخِنْدِفٌ هَامة هذا العَأْلمَِ (6) بهمز العالم، والظاهر أنها لغة مطردة، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان (7) (منسأْته) بهمزة ساكنة (8): إن أصلها ألف، فقلبت بهمزة ساكنة (9). انتهى.

قوله: (آمين

قوله: (آمين، اسم فعل الذي هو استجب) الشيخ سعد الدين: هذا تحقيق لكونه اسما، مع أن مدلوله طلب الاستجابة، كاستجب، بمعنى أن دلالته على معنى استجب ليس من حيث إنه موضوع لذلك المعنى؛ ليكون فعلا، بل من حيث إنه موضوع لفعل دالٍّ على طلب الاستجابة، وهو استجب، كوضع سائر الأسماء لمدلولاتها. وتحقيق ذلك أن كل لفظ وضع بإزاء معنى اسما كان، أو فعلا، أو حرفا، فله اسم علم، هو نفس ذلك اللفظ من حيث دلالته على ذلك الاسم، أو الفعل، أو الحرف، كما تقول في قولنا: خرج زيد من البصرة: " خرج " فعل، و " زيد " اسم، و" من " حرف جر، فتجعل كلا من الثلاثة محكوما عليه، لكن هذا وضع غير قصدي، لا يصير به اللفظ مشتركا، ولا يفهم منه معنى مسماه. وقد اتفق لبعض الأفعال أن وضعت لها أسماء أخر غير ألفاظها، تطلق ويراد بها الأفعال من حيث دلالتها على معانيها، وسموها أسماء الأفعال، فآمين اسم موضوع بإزاء لفظ " استجب " أو ما يرادفه من صيغ طلب الاستجابة، لكن لا يطلق ويقصد به نفس اللفظ، كما في الأعلام المذكورة، بل ليقصد به " استجب " الدال على طلب الاستجابة، حتى يكون " آمين " مع أنه اسم لا ستجب كلاما تاما، بخلاف استجب الذي هو أمر. ولما كانت اسمية أسماء الأفعال مبنية على هذا التدقيق ذهب بعض النحاة إلى أنها أسماء المصادر السادة مسد الأفعال، وإن جعلها أسماء الأفعال، ومفيدة لمعانيها قصرا للمسافة، ولهذا قال الزجاج: إن " آمين " حرف موضوع موضع الاستجابة، كما أن " صه " موضوع موضع السكوت، إلا أنهم احتاجوا إلى الفرق بينها وبين المصادر المنصوبة السادة مسد الأفعال، سيما التي لا أفعال لها، ولا تصرف فيها، حيث بنيت هذه، وأعربت تلك (1). وقال ابن جني في " الخصائص: فإن قيل: ما الفائدة في وضع أسماء الأفعال؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: السعة في اللغة للاحتياج في قافية، أو وزن

والثاني: المبالغة، وذلك أنك في المبالغة لابد أن تترك موضعا إلى موضع، إما لفظا إلى لفظ، وإما جنسا إلى جنس، كلما تعدل عن عويض إلى عراض، وعن حسن ووضيء وكريم إلى حسان، ووضاء، وكرام؛ لأنها أبلغ. والثالث: ما في ذلك من الإيجاز والاختصار، وذلك أنك تقول صه للواحد والاثنين والجمع والمؤنث، بخلاف اسكت، فلما اجتمعت هذه الفوائد وضعت، ومع ذلك فإنهم أبعدوا أحوالها من أحوال الفعل المسمى بها، وتناسوا تصريفه لتناسيهم حروفه. ويدل على ذلك أنه لا ينصب المضارع بعدها مقرونا بالفاء، لا تقول: صه فتسلم؛ لأنه إنما نصب في جواب الفعل لتصور معنى المصدر فيه؛ لأن معنى " زرني فأكرمك " لتكن زيارة منك، فإكرام مني، فزرني دل على الزيارة؛ لأنه من لفظه، وليس كذلك صه؛ لأنه ليس من الفعل في قبيل ولا دبير، وإنما هو صوت أوقع موقع حروف الفعل، فلما لم يكن فعلا، ولا من لفظه قبح أن يستنبط منها معنى المصدر؛ لبعدها عنه. انتهى (1). قوله: (وعن ابن عباس سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن معناه فقال: افعل) أخرجه الثعلبي من طريق الكلبي (2)، عن أبي صالح (3)، عنه (4) قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ آمِينَا صدره: يَا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّيْ حُبَّهَا أَبَداً (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقبله: بَاتَتْ رَقُوْداً، وسَارَ الرَّكْبُ مُدَّلِجًا. . . وَمَا الأَوَاْنِسُ فِي فِكْرٍ لِسَارِيْنَا كَأنَّ رِيْقَتَها مِسْكٌ عَلى ضَرَبٍ. . . شِيْبَتْ بِأصْهُبَ مِنْ بيع الشّأمِيْنَا كذا. أورده صاحب (1) الحماسة البصرية (2)، ولم يسم قائله قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . آمِيْنَ فَزادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدا) قال البطليوسي في " شرح الفصيح (3) ": هو لجبير بن الأضبط، وكان سأل الأسدي حمالة فَحَرَمَهُ، فقال: تَبَاعَدَ مِنِّيْ فُطْحُلٌ أنْ (4) سَألْتُهُ. . . أَمِيْنَ فَزادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْداً " قال: وفطحل اسم الأسدي، وفيه روايتان: روية الكوفيين بضم الفاء، ورواية البصريين بفتحها، وكان يجب أن يقع " أمين " بعد قوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فزاد الله ما بيننا بعدا لأن التأمين يقع بعد الدعاء. وذكر ابن درستويه أن القصر ليس بمعروف، وإنما قصره الشاعر في هذا البيت للضرورة، وروي البيت: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فآمين زاد الله ما بيننا بعدا بالمد وتقديم الفاء، فلا يكون فيه احتجاج (5). انتهى. وقال التبريزي في " شرح أبيات إصلاح المنطق ": الوجه أن يقال: " فزاد الله ما بيننا بعدا آمين " فقدم وأخر للضرورة (6). وقال غيره: الرواية: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فآمين زاد الله. . . . . . .. وعلى هذا فلا شاهد فيه على القصر قوله (لقوله عليه الصلاة والسلام:

" علمني جبريل عند الفراغ (1) من قراءة الفاتحة، وقال: إنه كالختم على الكتاب ") روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " والبيهقي في " الدلائل ": عن أبي ميسرة أن جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلّم فاتحة الكتاب، فلما قال: (ولا الضالين) قال له: قل: آمين، فقال: آمين (2). وروى أبو داود في " سننه " عن أبي زهير النميري (3) أحد الصحابة أنه قال: آمين مثل الطابع على الصحيفة، أخبركم عن ذلك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة فاتينا على رجل قد ألح في المسألة، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: " أوجب إن ختم " فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ فقال: " بآمين (4) " وقد عرف بهذا أن المصنف أورد حديثين، لا حديثا واحدا، وأن الضمير في قوله وقال، للنبي صلى الله عليه وسلّم، لا لجبريل. قال الشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين في قوله: " كالختم على الكتاب ". يعني أنه يمنع الدعاء من فساد الخيبة، كما أن الطابع على الكتاب يمنع فساد ظهور ما فيه على الغير. زاد الشيخ أكمل الدين: ومعنى قوله: " أوجب " إجابة الدعاء (5) قوله: (وفي معناه قول علي رضي الله تعالى عنه عند آمين: خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده) لم أقف عليه عن علي، وإنما أخرجه الطبراني في " الدعاء " وابن عدي في " الكامل " وابن مردويه في " التفسير " بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " آمين خاتم رب العالمين على عباده _______ (1) كذا في النسخ، وفي طبعات أنوار التنزيل: جبريل آمين عند فراغي.

المؤمنين (1) " قوله: (لما روي عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ (ولا الضالين) قال: " آمين " ورفع بها صوته). أخرجه أبو داود، والترمذي، والدارقطني - وصححه - وابن حبان (2). قوله: (والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عنه عبد الله بن مغفل، وأنس قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه (3). وأخرج الطبراني في " الكبير " عن أبي وائل (4) قال: كان علي، وعبد الله - يعني ابن مسعود - لا يجهران بالتأمين (5) قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا قال الإمام: (ولا الضالين) فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (6) ") أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، ووقع في " أمالي الجرجاني (7) " في آخر هذا الحديث زيادة (8): " وما تأخر (9) " وعليها اعتمد الغزالي في

" الوسيط (1) ". وأحسن ما فسر به هذا الحديث ما رواه عبد الرزاق، عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد (2). قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: مثل هذا لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى (3). قوله: (وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبيّ: " ألا أخبرك بسورة. . .) (الحديث) أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، والحاكم، وصححه على شرط مسلم (4). قوله: (وعن ابن عباس بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس إذ أتاه ملك. . . الحديث) أخرجه مسلم (5). قوله: (وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا، فيقرأ صبي من صبيانهم في الكُتّاب (الحمد لله رب العالمين) فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ") أخرجه الثعلبي في " تفسيره (6) "، وهو موضوع. قال الشيخ ولي الدين العراقي: في سنده أحمد بن عبد الله الجويباري (7)،

ومأمون بن أحمد الهروي (1)، كذّابان، وهو من وضع أحدهما (2). وقال الطيبي: المكتب، والكُتُّاب مكان التعليم، وقيل: الكتاب الصبيان (3). الجوهري: الكُتَّاب الكتبة، والكُتُّاب أيضاً والمكتب واحد (4). وعن المبرد من قال للموضع: الكتاب فقد أخطأ (5). وتعقبه الشيخ أكمل الدين بأن الأزهري نقل (6) عن الليث (7) - تلميذ الخليل - إطلاقه على المكان أيضاً، موافقا لما ذكره الجوهري في " صحاحه (8) ". وفي معنى الحديث ما أخرجه الدارمي في مسنده عن ثابت بن عجلان الأنصاري (9) قال: كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض، فإذا سمع تعليم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم (10). يعني بالحكمة القرآن، ولفظ " كان يقال " حكمه الرفع، فإن صدر من صحابي كان مرفوعا متصلا، أو من تابعي فمرفوع مرسل. وقال الإمام أحمد في " الزهد ": حدثنا سيار (11)،. . . . . . . . . . . . .

حدثنا جعفر (1) قال: سمعت مالك بن دينار (2) يقول: إن الله عز وجل يقول: " إني أريد أن أعذِّبَ عبادي، فإذا نظرت إلى جلساء القرآن، وعمّار المساجد، وولدان الإسلام سكن غضبي (3) ". يقول: صرفت عذابي. * * * تنبيه: عادة المفسرين ذكر ما ورد في فضل السور في أولها؛ لما فيه من الترغيب والحث على حفظها، وذكره الزمخشري - وتبعه المصنف - في آخرها. وقد سئل الزمخشري عن وجه ذلك، فأجاب بأن الفضائل صفات لها، والصفة تستدعي تقديم الموصوف.

سورة البقرة

سورة البقرة قوله: (وسائر الألفاظ التي يتهجا بها) في " الأساس ": هو يهجو الحروف ويتهجاها، يعددها، ومن المجاز فلان يهجو فلانا هجاء، يعدد معايبه (1). الشريف: التهجي تعديد الحروف بأسمائها (2). الشيخ أكمل الدين: قالوا: التهجي تعديد الحروف، فإنك إذا قلت: " ضرب " مركب من ض رب فقد عددت الحروف البسيطة التي هي مادة الكلمة قبل أن تجعل له صيغة (3). قوله: (لدخولها في حد الاسم) قال الإمام فخر الدين: لأن الضاد مثلا لفظة مفردة دالة بالتواطئ على معنى مستقل بنفسه، من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب (4) ". قوله: (واعتوار ما يختص به) أي تداوله قوله: (من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك) قال في " الكشاف ": " كالإمالة والتفخييم والوصف والإسناد والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة (5) " قال الشيخ سعد الدين: كالتثنية والنسبة والنداء (6) قوله: (وبه صرح الخليل وأبو عليًّ) في " الكشاف ": " قال سيبويه: قال الخليل يوما - وسأل أصحابه -: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في " ذلك " والباء التي في " ضرب "، فقيل: نقول: با، كافْ، فقال: إنما جئتم بالاسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: " كه "، " به "

وذكر أبو علي في كتاب " الحجة " في " يس " وإمالة " يا ": أنهم قالوا: يا زيد في النداء، فأمالوا وإن كان حرفا، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء فلأن يميلوا الاسم الذي هو " يس " أجدر، ألا ترى أن هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها (1). قوله: (وما روي عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف (2) ").

أخرجه الترمذي، وقال: صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة غيره، ولا هو في مسند الإمام أحمد على كبره. نعم أخرجه البخاري في " تاريخه "، وابن الضريس (1) في " فضائل القرآن " وأبو بكر ابن الأنباري في " كتاب المصاحف " والحاكم في " المستدرك "، وصححه، وأبو ذر الهروي (2) في " فضائل القرآن "، والبيهقي في " شعب الإيمان ". وأخرجه سعيد بن منصور في " سننه "، وابن أبي شيبة، والدارمي عن ابن مسعود موقوفا. قوله: (فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدد، بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله) عبارة الإمام: سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور (3). قوله: (وحدانا) جمع واحد، كركبان جمع راكب قوله: (واستعيرت الهمزة مكان الألف) قال الطيبي: ذكر ابن جني في " سر الصناعة " إن الألف في الأصل اسم الهمزة، واستعمالهم إياها في غيرها توسع، وذلك أن الهمزة تصير هذه المدة إذا أتى في آخر الاسم، ثم لما غلب استعمال الألف في هذه المدة أهمل ما وضع عليها (4). قوله: (وهي ما لم تلها العوامل) قال الشريف: أي تقترن بها وتتعلق بها، سواء تقدمت عليها أو تأخرت عنها (5). قوله: (موقوفة خالية عن الإعراب)

قال الطيبي: يعني أن سكونها ليس للبناء؛ لأن الأسماء المبنية إما مبنية على الحركة كأين، وكيف، وهؤلاء، أو على السكون على وجه لا يلزم منه التقاء الساكنين كمتى، وحتى، وهذه ليست كذلك؛ لأنها لو بنيت لقيل صادَ، وقافَ بالفتح كالمبنيات، ولم يقل: صاد وقاف، بهزيد وعمرو جمعا بين الساكنين. قال: والوقف قطع الكلمة عما بعدها، وهذه الفواتح وإن وصلت بما بعدها لفظا لكنها موقوفة نية (1). قوله: (لفقد موجبه ومقتضيه) قال الطيبي: وهو التركيب (2) الشيخ أكمل الدين: قد اختلف النحويون في أن هذه الألفاظ قبل التركيب معربة أو مبنية، فمنهم من ذهب إلى أنها مبنية، وعَرَّفَ المبني بما ناسب مبني الأصل، أو وقع غير مركب، وعرّف المعرب بالمركب الذي لم يشبه مبني الأصل، واختار المصنف أنها معربة، وقال: المعرب هو ما لو اختلف العوامل في أوله لاختلف آخره، وهذه الأسماء بهذه المثابة، فإنك تقول: هذه ألف، وكتبت ألفا، ونظرت إلى ألف (3). وعلى هذا لا فرق بين هذه الأسماء، وبين زيد وعمرو قبل التركيب، فمن جعلها مبنية جعلها كذلك، ومن جعلها معربة جعلها كذلك. لكن اعترض على المصنف بأن كلامه متناقض، فإن القول بأنها معربة ينافي القول بأن لا يمسها الإعراب، لفقد موجبه، وإذا فقد مقتضى الإعراب وجب البناء؛ إذ لا متوسط. قال: وأقول: لا تناقض في كلامه؛ لأن المعرب يطلق على الاسم الذي هو معروض الإعراب، مع عارضه، وعلى المعروض فقط بالاشتراك اللفظي، فالمراد بالمعرب في قوله: " أسماء معربة " المعروض فقط، وبقوله: " لا يمسها إعراب (4) " نفي المعرب بالمعنى الأول (5). انتهى.

وكذا قال الشيخ سعد الدين، فرق بين المعرب بالمعنى المقابل للمبني، والمعرب بالمعنى الذي مسه وأدركه الإعراب، والقصد هاهنا إلى بيان الأول (1). قلت: هذا التناقض إنما يأتي على كلام " الكشاف "؛ لأنه صرح بأنها معربة، وبأنها خالية عن الإعراب، لفقد مقتضيه وموجبه (3). والمصنف لم يصرح بأنها معربة، بل اقتصر على كونها خالية من الإعراب، ثم قال: (لكنها قابلة إياه، معرضة له؛ إذ لم تناسب مبني الأصل) فكأنَّه أراد بذلك بيان معنى قول " الكشاف ": " إنها معربة " () 3 أي أنها قابلة للإعراب، معرضة له، غير مبنية؛ لفقد سبب البناء. وهذا حوم حول المذهب الثالث فيها: أنها واسطة بين المعرب والمبني، وقول المعترض السابق: إذ لا متوسط، ناشئ عن عدم الإطلاع؛ إذ القول بذلك هنا ثابت مشهور. قال أبو حيان: في " إعرابه ": (ألم) أسماء، مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، ؤهي موقوفة الآخر لا يقال: إنها معربة؛ لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب، ولا يقال: إنها مبنية، لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول: هذه ألف حسنة، ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة أسماء العدد إذا عدوا، يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة (4). وقال ابن فاسم في (5) " شرح الألفية ": وذهب قوم إلى أن الأسماء قبل التركيب موقوفة، لا معربة ولا مبنية، واختاره ابن عصفور (6).

ومما يناسب التقرير (1) الأول قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": المراد بالمعرب ما كان فيه إعراب، أو كان قابلا للإعراب، وليس المراد منه أن يكون فيه إعراب لا محالة، ألا ترى أنك تقول في زيد ورجل: إنهما معربان وإن لم يكن فيهما في الحال إعراب؛ لأن الاسم إذا كان وحده مفردا من غير ضميمة إليه لم يستحق الإعراب؛ لأن الإعراب إنفا يؤتى به للفرق بين المعاني، فإذا كان وحده كان كصوت تصوت به، فإن ركبته مع غيره تركيبا تحصل به الفائدة، فحينئذٍ يستحق الإعراب (2). قوله: (عنصر الكلام وبسائطه) في " الصحاح ": العُنْصُرُ والعُنْصَرُ الأصل (3). والبسائط جمع بسيطة، بمعنى مبسوطة، وهي المنشورة. قوله: (افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدي بالقرآن، وتنبيها على أن المتلوَّ عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم) اختار المصنف هذا القول تبعا لصاحب " الكشاف " (4)، وهو رأي لبعضهم، ولم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين ولا أتباعهم. قوله: (لما عجزوا عن آخرهم) قال الطيبي: أي عجزا صادرا عن آخرهم، فإذا صدر العجز عن آخرهم فيكون قد صدر عن جميعهم متجاوزا عن آخرهم (5). وقال الشيخ أكمل الدين: تقديره: عن أولهم إلى آخرهم، فحذف متعلق " عن "، ومتعلق " آخرهم " (6). قوله: (حروف المعجم)

قال في " الصحاح ": العجم النقط بالسواد وغيره، مثل: على التاء نقطتان، يقال: أعجمت الحروف، ومثله التعجيم، ولا تقل: عجمت، ومنه حروف المعجم، وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط من بين سائر حروف الأمم، ومعناه حروف الخط المعجم، كمسجد الجامع، أي مسجد اليوم الجامع، وناس يجعلون المعجم بمعنى الإعجام مصدراً، مثل المدخل والمخرج، أي من شأن هذه الحروف أن تعجم (1). انتهى. قال الشيخ سعد الدين: وقد يقال: معناه حروف الإعجام، أي إزالة العجمة، وذلك بالنقط (2). وقال الشيخ أكمل الدين: روى الأزهري عن الليث قال: المعجم الحروف المقطعة، سميت معجمة لأنها أعجمية، أي لا بيان لها، وإن كانت أصلا للكلام كله (3). قوله: (المجهورة) هي ما ينحصر جري النفس مع تحركه، وحروفها: ظل قو ربض إذا غزا جند مطيع. ْقوله: (ومن الشديدة) هي ما ينحصر جري الضوت عند إسكانه في مخرجه، فلا يجري، والرخوة ضدها قوله: (ومن المطبقة) هي ما ينطبق ما يحاذي اللسان من الحنك عليه عند خروجها، والمنفتحة ضدها. قوله: (ومن القلقة) هي ما ينضم إلى الشدة فيها ضغط في الوقف. قوله: (اللام في " أصيلال ") أي فإنها بدل من النون. قال في " الصحاح ": الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أُصُلٌ، وآصال، وأصائل، ويجمع أيضاً على أُصْلان مثل بعير وبُعران، ثم صغروا الجمع، فقالوا: أُصَيْلان، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا: أصيلال (4). وفي " تذكرة " أبي عليّ الفارسي: إن قيل في " أصيلال ": كيف زعمتم أن اللام بدل من النون في " أصيلان "، وهلا قلتم: إن اللام لام كررت، والنون في "

أصيلان " بدل منها؟ قيل: هذا لا يجوز؛ لأن اللام لو كانت أصلا لم تثبت في التحقير الألف قبل اللام، ولانقلبت ياء، ألا ترى أنه لا يجوز في " شُمْلال " إلا شُمَيْلِيْل، فلو كانت اللام الأصل لكانت مثل شميليل في التحقير، ولا يكون أُصَيْلال جمعًا؛ لأن هذا الضرب من الجمع لا يحقر، ولكنه اسم اختص به التحقير، كسائر الأسماء التي لم تستعمل في غير التحقير. قوله: (والفاء في " جدف " والثاء في " ثروغ " الدلو) يريد بذلك إبدال الثاء فاء، وإبدال الفاء ثاء. قال ابن السكيت في كتاب " الإبدال ": باب الفاء والثاء، يقال: جدف، وجدث للقبر. . . إلى أن قال: ويقال: هو فروغ الدلو، وثروغها (1). والفرغ مخرج الماء من الدلو من بين العراقي. قوله: (والعين في " أعن ") يشير إلى إبدال الهمزة عينا في لغة تميم، يقولون في نحو: أعجبني أن تفعل: عن تفعل، قال ذو الرمة: أَعَنْ تَوَسَّمْتَ (2) مِنْ خَرْقَاءَ مَنْزِلَةً. . . مَاءُ الصَّبَابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُوْمُ (3) أي أَأَنْ، وكذا يفعلون في " أَنَّ " المشددة، فيقولون: أشهد عنَّ محمدا رسول الله، وتسمى عنعنة تميم. قوله: (والباء في با اسمك) يشير إلى إبدال الميم باء في لغة مازن. قال المازني: فى خلت على الخليفة الواثق (4) فقال لي: ممن الرجل؟ فقلت: من بني مازن، فقال: با اسمك؟ يريد ما اسمك، وهي لغة قومي، يبدلون الميم باء، ثم قال لي: اجلس فاطبئن، يريد فاطمئن، وذلك لما أحضره ليسأله عن قول

الشاعر: أَظَلُوْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً (1). . . . . . البيت وقال ابن جني في " سر الصناعة ": أخبرنا أبو علي بإسناده إلى الأصمعي قال: كان أبو سوار الغنوي: يقول: با اسمك؟. يريد ما اسمك؟ فهذه الباء بدل من الميم. وقالوا: بُعْكُوْكَةٌ، وأصلها مُعْكُوْكَةٌ، فالباء بدل من الميم (3). انتهى. قوله: (بذلق اللسان) أي طرفه قوله: (مكثورة بالمذكورة) أي مغلوبة بالكثرة، أي المذكورة (4) غالبة على غير المذكورة، ومنه كاثره، أي غالبه بالكثرة. قوله: (وذكر ثلاث مفردات) هي ص، ق، ن (وأربع ثنائيات) هي طه، طس، يس، حم. قوله: (في تسع سور) أي بإسقاط سورة الشووى قوله: (وثلاث ثلاثيات) هي الم، الر، طسم (ورباعيتين) هما المص، المر، (وخماسيتين) هما كهيعص، حم عسق قوله: (وقيل: هي أسماء السور، وعليه إطباق الأكثر) عبارة الإمام: وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل، وسيبويه (5). ونعما هي، فإن الأكثر مطلقا لم يذهبوا إليه. وقد نقض هذا القول بأمور ذكرها المصنف بعد ذلك مع الجواب عنها. وأحسن ما ينقض به - ولم يذكره - أن أسماء السور توقيفية، ولم يرو مرفوعا ولا موقوفا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أن هذه أسماء للسور، فوجب إلغاء القول بذلك. ونقضه الإمام بأنها لو كانت أسماء لها لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت

بغيرها، كسورة البقرة، وآل عمران (1). قوله: (مقدرتهم) بالضم، أي قدرتهم قوله: (قلت لها: قفي فقالت: قَافْ لا تَحْسَبِنْ أَنَّا نَسِيْنَا الإيْجَافْ) (2) كذا. في النسخ، وصدره محرف، وغير موزون كما ترى، والصواب كما أورده ابن جني في " الخصائص " قلنا لها: قفي لنا قالت: قاف (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وأخرج أبو الفرج الأصبهاني في " الأغاني " عن أبي بكر الباهلي (5)، عن بعض من حدثه قال: لما شُهِدَ على الوليد (6) عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص، فخرج وخرج معه قوم، فيهم عدي بن حاتم (7)، فنزل الوليد يوما يسوق بهم، فقال يرتجز: لا تَحْسَبِنُّا قد نَسِيْنَا الإِيْجَافَ. . . والنُّشَوَاتِ مِنْ مُعَتَّقٍ صافْ (8) وعَزْفَ قَيْنَاتٍ عَلَيْنَا عُزَّافْ فقال عدي: فأين تذهب بنا؟ إذن أقيم (9). قوله: (روي عن ابن عباس أنه قال: الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه)

قلت: هذا إنما روي عن أبي العالية (1). كذا أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (2). قوله: (وعنه أن الر، وحم، ونون مجموعها الرحمن) أخرجه ابن أبي حاتم (3) قوله: (وعنه أن الم معناه: أنا الله أعلم) أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (4)، وابن أبي حاتم من طرق عنه (5) قوله: (وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد) هذا لا يعرف عن ابن عباس، ولا غيره من السلف قوله: (أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجُمَّلِ، كما قاله أبو العالية) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (6). قوله: (متمسكا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود) الحديث. أخرجه البخاري في تاريخه، وابن جرير، من طريق ابن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب (7). وسنده ضعيف.

وجابر (1) المذكور صحابي آخر غير جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري المشهور. قال ابن عبد البر في " الاستيعاب ": شهد بدرا وسائر المشاهد، وهو أول من أسلم من الأنصار قبل العقبة الأولى. وذكر الحافظ ابن حجر في " الإصابة " أن روايته قليلة جدا (2). قوله: (هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه) جوابه ما قاله الخويي: إن القرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد؛ لتكون أبلغ في قرع الأسماع. قوله: (وناهيك) قال في " الصحاح ": يقال: هذا رجل ناهيك من رجل، وتأويله أنه بجده وغنائه ينهاك عن تطلب غيره، وهذه امرأة ناهيتك من امرأة، تذكر وتؤنث، وتثنى وتجمع؛ لأنه اسم فاعل، فإذا قلت: نَهْيُكَ من رجل، كما تقول: حسبك من رجل لم تثن ولم تجمع؛ لأنه مصدر (3). وقال أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " الزاهر ": قولهم: ناهيك بفلان معناه كافيك به، من قولهم: فد نَهِيَ الرجلُ من اللحم، وأنهى إذا اكتفى منه وشبع (4). وقال في " القاموس ": نهيك من رجل، وناهيك منه، ونهاك بمعنى حسب (5). قوله: (بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر (6)). قال الطيبي: ومنه قوله في باب الترخيم: ولو رخمت تأبط شرا من الأسماء لرخمت رجلا مسمى (7) بقول عنترة:

يا دارَ عَبْلَةَ بالجِوَاءِ تَكَلَّمِيْ (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. قوله: (والوجه الأول أقرب) إلى آخره. ما ذكره من ترجيحه ممنوع؛ لأنه قول لا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل هو رأي محض في كتاب الله لم يعضده مستند، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتمحل. قوله: (وقيل: إنها أسماء القرآن) أخرجه ابن جرير، عن مجاهد، وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة (3). قوله: (وقيل: إنها أسماء الله) أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في " الأسماء والصفات " عن ابن عباس، وسنده صحيح (4). قوله: (ويدل عليه أن عليا رضي الله عنه كان يقول: يا كهيعص، يا حم عسق) أخرج ابن ماجه في تفسيره من طريق نافع بن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت علي ابن أبي طالب (5) أنها سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا كهيعص اغفرلي (6). قوله: (ولعله أراد يا منزلهما) يرده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله (كهيعص): إن معناه: يا من يجير ولا يجار عليه. ومثله ما أخرجه عن أشهب (7) قال سألت مالكا أينبغي لأحد أن يتسمى

بـ " يس " قال: لا، يقول الله (يس والقرآن الحكيم) يقول: هذا اسمي، تسميت (1) به. وكذا حديث " إن بيتم الليلة فقولوا: حم لا ينصرون " (2) قوله: (وقيل: إنها سر استأثر الله بعلمه) أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان في التفسير عن داود بن أبي هند (3) قال: كنت أسال الشعبي (4) عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور، فدعها، وسل عما بدا لك. وحكاه الثعلبي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكثير. وحكاه السمرقندي (5) عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله تعالى

عنهم (1). وحكاه القرطبي عن سفيان الثوري، والربيع بن خثيم (2)، وأبي بكر ابن الأنباري، وأبي حاتم (3)، وجماعة من المحدثين، واختاره (4). وحكاه الإمام فخر الدين عن ابن عباس، والحسين بن الفضل (5)، ومال إليه (6). وقال السجاوندي (7): المروي عن الصدر الأول في التهجي أنها أسرار بين الله تعالى وبين نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجري بين المحرمين (8) كلمات مُعَمَّاة تشير إلى سِرّ بينهما، وتفيد تحريض الحاضرين على استماع ما بعد ذلك،

وهذا معنى قول السلف: حروف التهجي ابتلاء لتصديق المؤمن، وتكذيب الكافر. هذا وهي أعلام توقظ من رقدة (1) الغفلة بنصح التعليم، وتنشط في إلقاء السمع على شهود القلب للتعظيم، كمن أراد الإخبار بمهم حرّك الحاضر بيديه، أو صاح به غيره؛ ليقبل بكله عليه. ومصداق ذلك أن معظمها معقبة بذكر الكتاب. وقد قلبت الرأي ظهرا لبطن في تأويل معاني هذه الحروف سنين، ونَيَّفَتِ الأقاويلُ المختارة على ستين، ولم أتحصل على ثلج اليقين، ولا ظفر الجهد على المراد قادر اليمين حتى استروحت إلى هذا الوجه من التحري. انتهى. قوله: (فإن جعلتها أسماء الله تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب، إما الرفع) إلى آخره. اعلم أن للرفع وجهين، وللنصب وجهين، وللجر وجها واحدا، فوجها الرفع إما أن يكون مبتدأ، و (ذلك الكتاب) خبره، وإما أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أي هذه (الم). وأما وجها النصب فإما المفعولية، تقديره أقرأ، أو أتلو (الم) وإما بحذف حرف القسم على رأي من ينصب به. وأما الجرّ فبتقدير حذف حرف القسم، والجر به. قوله: (والجر على إضمار حرف القسم) قال ابن هشام في " المغني ": من الوهم قول كثير من المعربين والمفسرين في فواتح السور: إنه يجوز كونها في موضع جر بإسقاط حرف القسم، وهذا مردود بأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه، وبأنه لا أجوبة للقسم في سورة البقرة، وآل عمران، ويونس، وهود، ونحوهن. ولا يصح أن يقال: قدر (ذلك الكتاب) في البقرة، و (الله لا إله إلا هو) في آل عمران جوابا، وحذفت اللام من الجملة الاسمية كحذفها في قوله: وَرَبِّ السَّموات العُلا وبُرُوْجِهَا. . . والأرضِ وما فيها: المُقَدَّرُ كَائِنُ (2) لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم (2). انتهى.

قوله: (ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما كانت مفردة، أو موازنة لمفرد كـ (حم) الشيخ سعد الدين: قيل ينبغي أن يتعين الإعراب، ولا تسوغ الحكاية كسائر الأعلام المنقولة من المفردات، أو المركبات من كلمتين ليست بينهما نسبة، وإنما الحكاية فيما وقع علما لنفس ذلك اللفظ مثل " ضرب " فعل ماض، و " من " حرف جر، إشعاراً بأنه لم ينقل عن الأصل بالكلية، أو كانت جملة. وأما إذا جعل مثل " ضرب " بدون اعتبار الضمير اسم رجل فلا وجه للحكاية. وأجيب بأن ذلك في هذه الألفاظ خاصة إذا جعلت أعلاما للسور خاصة، أما إذا جعل صاد مثلا علما لرجل، والفاتحة علما للسورة، فلا حكاية، وذلك لأنها قد اشتهرت ساكنة الأعجاز وكثر استعمالها كذلك، فكأنها نقلت على تلك الهيئة، سيما وفيها شمة من ملاحظة الأصل، من جهة أن مسمياتها مركبة من الحروف المبسوطة، فعليها مسحة من قولك: " ضرب " فعل ماض، و " من " حرف جر (1). قوله: (وإن جعلتها مقسما بها) قال الإمام: أقسم الله بها لشرفها؛ لأنها مباني كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم (2). * * * فائدة: قال أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " الوقف والابتداء " إن قال قائل: كيف كتب فى المصحف (الم) و (الر) و (المر) موصولا، والهجاء مقطع، لا ينبغي أن يتصّل بعضه ببعض؛ لأنك لو قال قائل: ما هجاء زيد؟ كنت تقول: زاي، يا، دال، وتكتبه مقطعا؛ لتفرق بين الهجاء والحروف (3)، وبين قراءته؟ فيقال له: إنما كتبوا (الم) وما أشبهها موصولا؛ لأنه ليس بهجاء لاسم معروف، إنما هو حروف اجتمعت، يراد بكل حرف منها معنى، ولو قطعت إذ (4) جزمت لكان صوابا. انتهى (5). قوله: (" ذلك " إشارة إلى (الم) إلى آخره

حاصله أنه ردد بين كونه إشارة إلى (الم) أو إلى الكتاب الموعود به، فتكون اللام في الكتاب للعهد الذهني. والتحقيق أنه إشارة إلى الكتاب الحاضر، واللام للعهد الحضوري (1) قال ابن عصفور: كل لام واقعة بعد اسم الإشارة، أو أيِّ في النداء، أو إذا الفجائية فهي للعهد الحضوري. * * * تنبيه: عبارة " الكشاف ": " وقعت الإشارة إلى (الم) (2) " قال الشيخ أكمل الدين: وفيه بحث؛ لأن المراد بالكتاب هو القرآن، وحينئذ، على كل حال لا تصح الإشارة إلى (الم) وإن فسر بالسورة؛ لأنه جزء من القرآن، والجزء لا يكون الكل، ولا مجازا عنه؛ لأنه ليس ملزوما للكل، والمجاز ذكر الملزوم وإرادة اللازم، واذا كان المشار إليه هو الموعود في الكتب المتقدمة لا يجوز أن يقع (ذلك الكتاب) خبرا عن (الم) لأن الموعود هو القرآن كله، لا (الم) وأما إذا كان الموعود هو النبي صلّى الله عليه وسلّم فيجوز أن يكون المراد بقوله (قَوْلًا ثَقِيلًا) ويكون الكتاب عبارة عن هذه السورة. كذا قيل. قال: ويمكن أن يقال: الكتاب مفهوم بسيط يشترك جزؤه وكله في الاسم والرسم كالماء، والدليل على ذلك إجماع العلماء على إطلاق الكتاب على آية يثبت بها حكم شرعي، كقولهم: فرض الوضوء ثابت بالكتاب، وهو قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) [سورة المائدة 7] وإنما هي آية، وحينئذٍ يكون (ذلك) إشارة إلى (الم) على أنه الكتاب، لا على أنه جزؤه (3). انتهى. قوله: (فإنه لما تكلم به وانقضى، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه أشير إليه بما يشار به إلى البعيد) عبارة " الكشاف ": " وقعت الإشارة إلى (الم) بعد ما سبق التكلم به وانقضى (4)، والمنقضي في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام، يحدث الرجل بحديث، ثم يقول: ذلك مما لاشك فيه، ويحسب الحاسب، ثم يقول: فذلك كذا وكذا، قال

الله تعالى (لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) [سورة البقرة 69] وقال (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [سورة يوسف 38] ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك - وقد أعطيته شيئا -: احتفظ بذلك، وقيل: معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به " (1). قال الطيبي: وأحسن ما قيل في توجيه الإشارة إليه بصيغة البعد = ما ذكره صاحب " المفتاح " قال: (ذلك الكتاب) ذهابا إلى بعده درجة (2). وقال الإمام: إن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة، وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها، فهو - وإن كان حاضرا نظرا إلى صورته - غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه، فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب. قوله: (وتذكيره متى أريد بـ (الم) السورة، لتذكير (الكتاب) فإنه خبره) جواب سؤال مقدر، تقديره كما أفصح به في " الكشاف ": " لم ذَكَّرَ اسم الإشارة، والمشار إليه مؤنث، وهو السورة " (3)؟ وحاصل الجواب تخريجه على القاعدة المعروفة إذا توسط الضمير، أو الإشارة بين مبتدإ وخبر، أحدهما مذكر، والآخر مؤنث جاز في الضمير، والإشارة التذكير والتأنيث مراعاة لهذا ولهذا. وفي هذا تسليم السؤال، والإمام منعه من أصله، فقال: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى، أو الاسم، والأول باطل؛ لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن، وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (الم) وليس بمؤنث (4). نعم ذلك المسمى له اسم آخر، وهو السورة، وهو مؤنث، وليست الإشارة إليه، بل إلى الاسم الآخر، وهو (الم) الذي ليس بمؤنث. وقال الشيخ أكمل الدين: قوله: " إن المشار إليه مؤنث " فيه نظر؛ لأن المشار إليه (الم) وهو اسم للسورة، أو هو الموعود للأمم السالفة، ولا شيء منهما بمؤنث (5) قوله: (ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب)

قوله: (لا ريب فيه)

قال الراغب: الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض في اللفظ، ولهذا سمي كتاب الله - وإن لم يكتب - كتابا (1) * * * قوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ) معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل) إلى آخره. قال الطيبي: يعني ما نفى الريب بحيث ينتفي به المرتابون، وإنما نفى بطريق يرشد إلى أنه لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، فإذن الكلام مع المرتابين، ويدل عليه أيضاً تصدير الكلام بأسامي حروف التهجي؛ لأنها كالتنبيه وقرع العصا لهم، كأنه قيل: أيها المرتابون تنبهوا من رقدة الجهالة، واعلموا أن القرآن من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه، فينطبق على هذا استشهاده بقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [سورة البقرة 22] وتفسيره حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة (2) قوله: (فإنه ما أبعد عنهم الريب) إلى آخره قال الطيبي: أي خاطب المصرين على الريب الجازمين فيه بما يدل على خلوهم عنه، ولم يقصد به أنهم غير مرتابين، وإنما قصد به إرشادهم وتعريفهم الطريق إلى مزيل الريب على سبيل الاستدراج، يعني أن الارتياب من العاقل في مثل هذا المقام واجب الانتفاء، فلا يفرض إلا كما يفرض المحالات، وأنتم عقلاء ألباء تفكروا فيه، وجربوا نفوسكم، وانظروا هل تجدون فيه مجالا للريب (3). قوله: (و (هدى) حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف) قال أبو حيان: هذا مشكل؛ لأن الحال تقييد، فيكون انتفاء الريب مقيدا بالحال، أي لا ريب يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة (4). قوله: (سمي به الشك). ظاهره ترادفهما، وليس كذلك، بل الريب أخص.

قال بعضهم: الريب شك مع تهمة. وقال الإمام: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة كأنه ظن سوء (1). وقال الراغب: الفرق بين الشك والمرية والريب أن الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة، مأخوذ من مَرَى الضَّرْعَ، أي مسحه للدر، فكأنَّه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن، والريب أن يتوهم في الشيء أمرٌ ما، ثم ينكشف عما توهم فيه (2). وقال الخويي: الشك لما استوى فيه الاعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما درجة الظهور الذي يبني عليه العاقل الأمور المعتبرة، والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور، ولهذا حسن (لَا رَيْبَ فِيهِ) هنا، فإنه بيان لكون الأمر ظاهرا بالغا درجة اليقين بحيث لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك. قوله: (وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، والصدق طمأنينة ") أخرجه الترمذي من حديث الحسن بن علي، وصححه بلفظ " فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة " (3). قال الطيبي: دع ما اعترض لك الشك فيه منقلبا إلى ما لا شك فيه، فإذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه، فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق، وترتاب من الكذب، فارتيابك في الشيء منبئ عن كونه باطلا، فاحذره، واطمئنانك إلى الشيء مشعر بكون حقا، فاستمسك به، وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة

القدسية الطاهرة من أوضار الذنوب، وأوساخ الآثام. قال: وظهر أن قوله: " فإن الشك ريبة " لا يستقيم رواية، ولا دراية (1). انتهى. وقد أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن أبي الدرداء موقوفا بلفظ: " فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة " قوله: (والهدى في الأصل مصدر) قال الطيبي: اضطرب كلام سيبويه في الهدى، فمرة يقول: هو عوض من المصدر؛ لأن فُعَلاً لا يكون مصدرا، وأخرى يقول: هو مصدر هدى (2) قوله: (ومعناه الدلالة) إلى آخره مأخوذ من كلام الإمام حيث قال: الهدى عبارة عن الدلالة. وقال صاحب " الكشاف ": " هي الدلالة الموصلة إلى البغية " والذي يدل على صحة الأول، وفساد الثاني أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبرة في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محال، لكن الله تعالى أثبت الهدى مع عدم الاهتداء في قوله (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [سورة فصلت 18] واحتج صاحب " الكشاف " بثلاثة أمور: أحدها: وقوع الضلالة في مقابل الهدى في قوله تعالى (لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سورة سبأ 25] (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) ثانيها: أنه يقال: مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلولا أن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهديا مدحا؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يهتد. ثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى، يقال: هديته فاهتدى كما يقال: كسرته فانكسر وقطعته فانقطع، فكما أن الانكسار والانقطاع لازمان للكسر والقطع وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى.

والجواب عن الأوّل: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال، ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع. وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى يسمى مهديا، وغير المنتفع به لا يسمى مهديا؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة العدم. وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمرا حصول الائتمار، فكذا هذا (1). انتهى كلام الإمام. قال الطيبي: والجواب عن إثبات الهدى مع عدم الاهتداء في آية (وأما ثمود) أن يقال: لا نسلم حصول الهدى الحقيقي؛ لأن المراد بإثبات الهدى تمكينهم عليه، بسبب إزاحة العلل من بعثة الرسول، وبيان الحق. وعن قوله: " فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع " أن لو كان ممتنعا لم يقع في الآيتين، ولأن المراد بالمقابلة في الصناعة: الجمع بين اللفظين الدالين على المعنيين المتضادين حقيقة، أو تقديرا، سواء كانا متعديين، أم لازمين، أم أحدهما متعديا والآخر لازما، وهذا المعنى موجود في الآيتين، لا سيما في الأولى، فإنه صريح فيها لتوسيط كلمة التقابل. وعن قوله: " إن المنتفع بالهدى يسمى مهديا، بخلاف غيره تنزيلا له منزلة العدم " أن هذا مجاز، والمهدي من الأوصاف التي تستعمل في المدح مطلقا، وذلك علامة الحقيقة. وعن قوله: " أمرته فائتمر " ما قاله البزدوي (2) في أصوله أن قضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال؛ لأن أمر فعل متعد، لازمه ائتمر، ولا وجود للمتعدي إلا أن يثبت لازمه، كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار، إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا، وللمأمور ضرب عندنا من الاختيار (3). ومعنى هذا الكلام أن أصحاب اللغة ما أثبتوا لكل فعل متعد لازما إلا إذا اتفقا

في الوجود. وقال ابن الحاجب: معنى المطاوعة حصول فعل عن فعل، فالثاني مطاوِعٌ؛ لأنه طاوع الأول، والأول مطاوَعٌ؛ لأنه طاوعه الثاني، فإذا وجد المطاوَعُ وجب أن لا يتخلف عنه المطاوِعُ (1). فإذن معنى أمرته فائتمر جعلته مؤتمرا فائتمر، لكن منع الائتمار معنى سقوط الاختيار، ولزوم الجبر، فعرض له عارض، فوجب العدول عن الحقيقة (2). هذا

كلام الطيبي. ثم قال: والواجب تحرير معنى الهدى، أهو حقيقة في الدلالة المطلقة، مجاز في الدلالة المخصوصة، أم عكسه، أم مشترك بينهما، أم موضوع للقدر المشترك، وهو البيان، فكلام الإمام يميل إلى الأول، وصاحب " الكشاف " إلى الثاني، والزجاج والواحدي إلى الأخير (1). قوله: (واختصاصه بالمتقين) إلى آخره. هذا السؤال مع ما أجاب به على ما اختاره من تفسير الهدى بمطلق الدلالة، أما على التفسير الثاني فلا يتوجه السؤال ألبتة، كما نبه عليه الإمام (2)؛ لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين. نعم يقال عليه: كيف يستقيم (هدى للمتقين) والمتقون هم المهتدون؟ فهو من تحصيل الحاصل (3). ويجاب بجوابين: أحدهما: أنه باعتبار الثبات والزيادة. والثاني: أنه باعتبار ما يؤول، أي هدى للضالين المشارفين للتقوى، الصائرين إليها.

قوله: (وهو في عرف الشرع) إلى آخره هذا حد المتقي، ويؤخذ منه حد التقوى. الراغب: التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، وفي التعارف حفظ النفس عن كل ما يؤثم (1). قوله: (حتى الصغائر عند قوم) اعلم أنه اختلف في التقوى هل يدخل فيها اجتناب الصغائر، وأنه إذا لم يتوقها هل يستحق هذا الاسم؟ على قولين، وظاهر كلام المصنف، والإمام - وهو المجزوم به في " الكشاف " (2) - أنه لا يشترط في التقوى، واستحقاق الوصف بالمتقي اجتنابها، وإلا لم يكد يستحق هذا الوصف أحد. وقد شق على الصحابة لما نزل قوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [سورة آل عمران 103] المفسر بأن يطاع فلا يعصى، فنسخ بقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (3) [سورة التغابن 17] وقال تعالى (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم 33] فاستثنى اللمم، فلم يقدح في الإحسان، وهو كالتقوى، بل أخص منها. وأصرح منه في الاستدلال قوله تعالى (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء) إلى أن قال (والذين إذا فعلوا فاحشة) [سورة آل عمران 134 - 136] الآية. وأما حديث الترمذي " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس " (4) فمحمول على الكمال، أي أعلى درجات المتقين.

ثم الكلام فيما لا ينتهي إلى حد الإصرار السالب للعدالة، بحيث تغلب صغائره على حسناته، على ما حرر في باب الشهادات من كتب الفقه. قوله: (واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب) إلى آخره قال أبو حيان: قد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله (ذلك الكتاب لا ريب فيه) والذي نختاره. منها أن قوله (" ذلك الكتاب) جملة مستقلة من مبتدإ وخبر؛ لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، ولا افتقار كان أولى من أن يسلك به مسلك الإضمار والافتقار. وقالوا: يجوز أن يكون (ذلك) خبرا لمبتدإ محذوف، تقديره هو (ذلك الكتاب) و (الكتاب) صفة، أو بدل، أو عطف بيان ويحتمل أن يكون مبتدأ، وما بعده خبر، وفي موضع خبر (الم) و (لا ريب فيه) جملة تحتمل الاستئناف فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون في موضع رفع خبرا لـ (ذلك)، و (الكتاب) صفة، أو بدل، أو عطف، أو خبر بعد خبر إذا كان (الكتاب) خبرا، وقلنا بتعدد الأخبار، وأن تكون في موضع نصب على الحال، أي مبرأ من الريب. وجوزوا في قوله (فيه) أن يكون خبرا لـ (لا) على مذهب الأخفش، وخبرا لها مع اسمها على مذهب سيبويه، وأن يكون صفة، والخبر محذوف، وأن يكون من صلة (ريب) يعني أنه يضمر عامل من لفظ ريب، فيتعلق به، لا أنه يكون متعلقا بنفس (لا ريب) إذ يلزم إذ ذاك إعرابه؛ لأنه يصير اسم " لا " مطولا بمعموله، نحو لا ضاربا زيدا عندنا. والذي نختاره أن الخبر محذوف؛ لأن الخبر في باب " لا " إذا علم لم يلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم. وجوزوا في قوله تعالى: (هدى للمتقين) أن يكون (هدى) في موضع رفع على أنه مبتدأ، و (فيه) في موضع الخبر، أو خبر مبتدإ محذوف، أي هو (هدى)، أو على فيه مضمرة إن جعلنا (فيه) من تمام (لا ريب) أو خبر بعد خبر، فتكون قد

أخبرت بالكتاب عن (ذلك) وبقوله (لَا رَيْبَ فِيهِ) ثم جاء (هدى) خبرا ثالثا، أو كان (الكتاب) تابعا، و (هدى) خبر ثان، أوفي موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالا، وصاحب الحال اسم الإشارة، أو (الكتاب) والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة، أو الضمير في (فيه) والعامل ما في الظرف من الاستقرار. والأولى جعل كل جملة مستقلة، فـ (ذلك الكتاب) جملة، و (لا ريب) جملة، و (فيه هدى للمتقين) جملة. ولم يحتج إلى حرف عطف؛ لأن بعضها آخذ بعنق بعض (1). انتهى كلام أبي حيان. قوله: (و (لا ريب) في المشهورة مبني، لتضمنه معنى " من " منصوب المحل) إلى آخره. قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": اعلم أن " لا " النافية على ضربين: عاملة، وغير عاملة، فالعاملة التي تنفي على جهة (2) استغراق الجنس؛ لأنها جواب ما كان على طريقة هل من رجل في الدار، فدخول " من " في هذا لاستغراق الجنس، ولذلك تختض بالنكرات لشمولها، ألا ترى أنه لا يجوز هل من زيد في الدار؟ كما يجوز في هل زيد في الدار، فهذه التي لاستغراق الجنس عاملة النصب فيما بعدها من النكرات المفردة، ومبنية معها بناء خمسة عشر. وإنما استحقت أن تكون عاملة لشبهها بـ " إن " الناصبة للأسماء. ووجه المشابهة بينهما أنها داخلة على المبتدإ والخبر، كما أنَّ " إنَّ " كذلك، وأنها نقيضة من الإعراب، نحو ضربت زيدا، وما ضربت زيدا، فقولك: ضربت زيدا فعل وفاعل ومفعول، وقولك: ما ضربت زيدا نفي لذلك، ومع ذلك فقد أعربته بإعرابه من حيث كان نقيضه، ليشعر بمعنى الرفع له، فلما أشبهت " لا " " إن " وكانت " إن " عاملة في المبتدإ والخبر كانت " لا " كذلك عاملة في المبتدإ والخبر؛ لأنها تقتضيهما جميعا، كما تقتضيهما " إن " ولما نصبوا بها لم تعمل إلا في نكرة على سبيل حرف الخفض الدي في المسألة؛ لأنها كالنائبة عنه إلا أن " لا " بنيت مع

النكرة؛ لأنها وقعت في جواب هل من رجل عندك، على سبيل الاستغراق، فوجب أن يكون الجواب أيضاً بحرف الاستغراق الذي هو " من " ليكون الجواب مطابقا للسؤال، فكان قياسه لا من رجل في الدار، ليكون النفي عاما، كما كان السؤال عاما، ثم حذفت " من " من اللفظ تخفيفا، وتضمن الكلام معناها، فوجب أن يبنى لتضمنه معنى الحرف، كما بني خمسة عشر حين تضمن حرف العطف (1). * * * لطيفة: قال ابن جني في " الخصائص ": باب في اقتضاء الموضع لك لفظا، وهو معك إلا أنه ليس بصاحبك، من ذلك قولهم: لا رجل عندك، ولا غلام لك، فـ " لا " هذه ناصبة لاسمها، وهو مفتوح إلا أن الفتحة فيه ليست فتحة النصب التي تتقضاها " لا " إنما هذه فتحة بناء وقعت موقع فتحة الإعراب الذي هو عمل " لا " في المضاف، نحو لا غلام رجل عندك. قال: ونظير ذلك قولك: مررت بغلامي، فالميم تستحق جرة الإعراب بالباء، والكسرة فيها ليست الموجبة بحرف الجر، إنما هي التي تصحب ياء المتكلم في الصحيح؛ لأنها تثبت في الرفع وفي النصب، وذلك دليل على أنها ليست كسرة الإعراب وإن كانت بلفظها (3). قوله: (وفي قراءة أبي الشعثاء) هو بفتح الشين وسكون العين، اسمه سليم بن الأسود المحاربي، تابعي مشهور (4) قوله: (مرفوع ب " لا ") زاد في " الكشاف ": " والفرق بينها وبين المشهورة أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه " (5). وقال الإمام: والذي يدل على إيجاب المشهورة للاستغراق أن نفي الجنس نفي الماهية، وهو يقتضي نفي كل فرد من أفرادها، فلو ثبت فرد من أفرادها ثبتت الماهية.

وأما قراءة (لَا رَيْبَ فِيهِ) بالرفع فهو وإن كان نكرة في سياق النفي لكنه نقيض قولنا: ريب فيه، وهو يحتمل أن يكون إثباتا لفرد واحد منها، ونفيه يفيد انتفاءه (1). وقال الزجاج: إذا قلت: لا رجلٌ في الدار جاز أن يكون فيها رجلان، وإذا قلت: لا رجلَ في الدار فهو نفي عام (2). وقال الشيخ أكمل الدين: قد رد ما ذكره صاحب " الكشاف " من الفرق بأن (ريب) في (لَا رَيْبَ فِيهِ) نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم، فينتفي جميع آحاد الريب، فلا فرق في ذلك بين نفي الجنس وغيره. قال: والجواب أنه غلط؛ لأن الذي ذكره من كون النكرة تعم دليل جواز الاستغراق؛ إذ لولا ذلك لكان نكرة في سياق الإثبات، ولم تكن عامة، ولأن المبني في تقدير " من " الاستغراقية؛ لكونها مؤكدة للنفي، والنفي المؤكد ليس كغيره، وإلا كان الشيء مع غيره كالشيء لا مع غيره، ولأن " من " المقدرة زائدة، لعدم اختلال أصل المعنى بتركه، وأَقَلُّ مراتبها التأكيد، وتأكيد العام ينفي احتمال الخصوص، فكان محكما في الاستغراق، لا يفارقه، وليس كذلك الذي مع " لا " المشبهة بليس، فإن احتمال الخصوص فيه باق؛ لعدم ما يقطعه، فكانت دلالته على الاستغراق جائزة الافتراق، وهو ظاهر لا محالة (3). وقال أبو حيان: قرئ بالرفع، والمراد أيضاً الاستغراق؛ بأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، فيكون مبتدءا، و (فيه) الخبر، وهذا ضعيف، لعدم تكرار " لا "، أو يكون أعملها إعمال ليس، وهو ضعيف، فيكون (فيه) في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا أعملت عمل ليس رفعت الاسم، ونصبت الخبر (4). قوله: (ولم يقدم كما قدم في قوله (لَا فِيهَا غَوْلٌ) لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب، كما قصد ثمة). قال أبو حيان: انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحدا يفرق بين: ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار (5).

قوله: (فلذلك وقف على (ريب) عزي هذا الوقف لنافع وعاصم (1). قال الإمام: والأولى الوقف على (فيه) لأن الوقف عليه يكون الكتاب نفسه هدى، وقد تكرر في التزيل أنه هدى، وأنه نور، وعلى الأول لا يكون نفسه هدى، بل فيه هدى (2). قوله: (والتقدير (لَا رَيْبَ فِيهِ) فيه (هدى) قال في " المرشد ": إن جعلت (لا ريب) بمعنى حقا فالوقف عليه تام، ولا حاجة إلى تقدير فيه، وكأنه قال: الم ذلك الكتاب حقا (3). قوله: (تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله). قال الطيبي: أي قوله (هدى) تأكيد لقوله (لَا رَيْبَ فِيهِ) لأنه لا يكون هاديا إذا كان فيه مجال للشبهة، ففي قوله: (لا يحوم الشك حوله) كناية، كقوله (4): فَمَا جَازَهُ جُوْدٌ وَلا حَلَّ دُوْنَهُ. . . وَلَكِنْ يَصِيْرُ الجُوْدُ حَيثُ يَصِيْرُ وهذه المبالغة مستفادة من إيقاع المصدر خبراً لـ هو، كما أن المبالغة في الجملة الثانية حصلت من تعريف الخبر، وفي الثالثة من الاستغراق (5) قوله: (ذات جزالة) هي خلاف الركاكة قوله: (ففي الأولى الحذف) قال الطيبي: أي حذف المبتدإ، أي هذه (الم) إذا جعلت اسما للسورة (6) قوله: (والرمز إلى المقصود) قال الطيبي: أي التحدي (7) قوله: (مع التعليل) أي الإشارة إليه بألطف وجه، وهو أنها مشيرة إلى أن المتحدى به من جنس

قوله: (الذين يؤمنون بالغيب)

ما تنظمون منه كلامكم. قوله: (وفي الثانية فخامة التعريف) قال الطيبي: أي الدلالة على كونه كاملا في بابه (1) قوله: (وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا من إيهامه الباطل) أي إثباته في غيره قوله: (وفي الرابعة الحذف) قال الطيبي: أي هو (هدى) (2) قوله: (والوصف (3) بالمصدر للمبالغة) لأن (هدى) مصدر وضع موضع هاد قوله: (وإيراده منكرا للتعظيم) قال الطيبي: أي هاد لا يكتنه كنهه (4) قوله: (وتخصيص الهدى بالمتقين) إلى آخره قال الطيبي: أي حيث لم يقل: للضالين الصائرين إلى التقوى؛ رعاية لحسن المطلع (5). * * * قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إما موصول بالمتقين على أنه صفة) إلى آخره في بعض حواشي " الكشاف ": الصفات المفردة على ثلاثة أنواع: أحدها: أن تكون الثانية شرحا للأولى، كقولك: فلانٌ عدل، يفعل الواجبات، ويجتنب الكبائر، فقولك: يفعل الواجبات، ويجتنب الكبائر، صفة شارحة للأولى، وهي عدل. الثاني: أن تكون أجنبية عن الأولى كقولك: فلانٌ عالم شجاع. الثالث: أن تكون تمثيلا لبعض ما تضمنته الصفة الأولى، كقولك: فلان كريم، سأله سائل فأعطاه ما سال، فقوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يحتمل الأمور الثلاثة، فإنا إن قلنا: إن التقوى هي اجتناب المعاصي خاصة كان قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وما بعده وصفا بفعل الطاعات، وهو غير الأول.

وإن قلنا: إن التقوى فعل الطاعات واجتناب المعاصي احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون شرحا وبيانا (1) على اندراج بقية العبادات، واجتناب المعاصي أيضاً تحت ذكر الإيمان، والصلاة، والزكاة. والثاني: أن يكون تمثيلا لما تضمنته التقوى بذكر بعض الأوصاف التي اشتملت عليها التقوى. قوله: (وقوله صلى الله عليه وسلّم: " الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام "). يوهم أن ذلك حديث واحد، وليس كذلك، بل هما حديثان: فأمَّا الأول فقد قال النووي في " شرح الوسيط ": هو حديث منكر باطل (2). قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير: وليس كذلك، فقد أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين (3) شيخ البخاري في " كتاب الصلاة " عن بلال بن يحيى (4) مرفوعا " الصلاة عمود الدين (5) " وهو مرسل، ورجاله ثقات (6) قلت: وأخرجه بلفظ " الصلاة عماد الدين " البيهقي في " شعب الإيمان " من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا بسند فيه انقطاع (7). ونبَّه عليه الشيخ ولي الدين العراقي في حاشيته على " الكشاف " (8).

وأخرجه أيضاً الديلمي في " مسند الفردوس " من حديث علي بن أبي طالب (1) وفي معناه حديث الترمذي من رواية معاذ بن جبل " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة " (2). وأما حديث " الزكاة فنطرة الإسلام " فأخرجه الطبراني في " الكبير " والبيهقي في " شعب الإيمان " (3) من حديث أبي الدرداء مرفوعا وسنده ضعيف قوله: (أو مسوقة للمدح) إلى أن قال: (. . . . أو على أنه مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير أعني أو هُم). قال أبو حيان: النصب على المدح، على القطع بإضمار أمدح، أو بإضمار أعني على التفسير. الشيخ أكمل الدين: قيل: الفرق بين المدح صفة والمدح اختصاصا - يعني أن

يكون بمعنى أعني، أو مرفوعا بتقدير المبتدإ - أن الغرض الأصلي من الأول إظهار كمالات الممدوح، والالتذاذ بذكرها، وقد يتضمن تخصيص بعض الصفات بالذكر الإشارة إلى إنافتها (1) على سائر الصفات المسكوت عنها، ومن الثاني إظهار أن تلك الصفة أحق باستقلال المدح من بين سائر الصفات الكمالية، إما مطلقا، وإما بحسب ذلك المقام، سواء كان قي نفس الأمر، أو ادعاء، وأن الوصف أصلي في الأول، والمدح تابع، وفي الثاني بالعكس (2). قوله: (وإما مفصول عنه، مرفوع بالابتداء، وخبره (أولئك) قال أبو حيان: لا نختار هذا الوجه لانفلاته مما قبله، والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله، وتعلقه به (3). قوله: (والإيمان في اللغة التصديق، مأخوذ من الأمن) إلى آخره قال الطيبي: أي الإيمان إفعال من الأمن لغة، ثم نقل إلى المفهوم الشرعي، وهو التصديق لعلاقة الأمن من التكذيب، والمخالفة (4). الراغب: الإيمان التصديق الذي معه أمن. قال: وأما قوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) فهو على سبيل الذم لهم بأنه قد حصل لهم الأمن بما لا يقع به الأمن (5). قوله: (وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف) قال الطيبي: هذا على تقدير السؤال والجواب، يعني إذا كانت حقيقة الإيمان منقولة من أمن فما باله عدي بالباء، ولم يعد بنفسه؟ فأجاب أن تعديته بالباء من باب التضمين (6). قال ابن جني: لو جمعت تضمينات العرب لاجتمعت مجلدات (7). قال صاحب " الكشاف ": " من " شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر،

فيجرونه مجراه، ويستعملونه استعماله ". قال الطيبي: ولو زيد مع إرادة معنى المضمن كان أحسن، كما تقول: أحمد إليك فلانا، أي أنهي إليك حمد فلان. قال في سورة الكهف " الغرض في (1) التضمين إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى " (2). الشيخ سعد الدين: فإن قيل: الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي، وإن كان فيهما جميعا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. قلنا: هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، فقولنا: أحمد إليك فلانا، معناه: أحمده منهيا إليك حمده، ويقلب كفيه على كذا، معناه: نادما على كذا، ولابد من اعتبار الحال وإلا لكان مجازا محضا، لا تضمينا، وتقديره هنا (يؤمنون) معترفين بالغيب (3). انتهى قوله: (ومنه ما آمنت أن أجد صحابة) هو من قول العرب، حكاه أبو زيد بقوله: ناوي السفر، أي ما أثق أن أظفر بمن أرافقه (4). قوله: (وكلا الوجهين حسن في (يؤمنون بالغيب) قال الشيخ أكمل الدين: يعني نظرا إلى أصل المعنى اللغوي، وأما بالنظر إلى العرف الشرعي فالحمل على التصديق ظاهر الرجحان، للإجماع على أن الإيمان المعتبر نفس التصديق، أوهو داخل فيه وأعظم أركانه (5). قوله: (وأما في الشرع)

الإمام: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع، ويجمعهم أربع فرق: الفرقة الأولى: قالوا: هو أسم لأعمال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المحدثون، والمعتزلة، والخوارج. فالمحدثون قالوا: المعرفة إيمان كامل (1)، وهو الأصل، ثم كل طاعة إيمان على حدة، وهي فروع، فلا يكون شيء منها إيمانا ما لم تكن مرتبة على الأصل، والجحود وإنكار القلب كفر، وهو الأصل، ثم كل معصية (2) كفر على حدة، وهي فروع، فلا يكون شيء منها كفرا ما لم تكن مرتبة على الأصل؛ لأن الفرع لا يحصل بدون أصله. والمعتزلة قال بعضهم: الإيمان فعل كل الطاعات فرضا ونفلا، وقال بعضهم: الفرض فقط، وقال بعضهم: اجتناب الكبائر الفرقة الثانية: قالوا: الإيمان التصديق بالقلب واللسان معا، وعليه أبو حنيفة، وعامة الفقهاء (3). الفرقة الثالثة: قالوا: الإيمان التصديق بالقلب فقط (4). الرابعة: قالوا: الإقرار باللسان فقط، ثم منهم من شرط معه حصول المعرفة بالقلب، فهي عنده شرط لكون الإقرار إيمانا، لا داخلة في مسمى الإيمان (5)، ومنهم من لم يشترط ذلك، وعليه الكرامية (6). انتهى ملخصا (7). ومن ذلك يجتمع في مسمى الإيمان عشرة أقوال.

قوله: (فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلّم) قال الإمام: لابد من شرح ماهية هذا التصديق، فنقول: من قال: العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا، فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم، ومغاير للعلم به أيضاً؛ لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فهذا الحكم الذهني هو المراد من التصديق بالقلب. (1) قوله: (ومجموع ثلاثة أمور) إلى آخره هذا أخذه المصنف من الراغب، وكان من أئمة السنة (2)، وعبارته:

لما كان من لوازم الإيمان التصديق قالوا: الإيمان هو التصديق. قال: ولا يكون التصديق إلا عن علم، ولذلك قال تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف 87]. فالإيمان اسم لثلاثة أشياء، علم بالشيء، وإقرار به، وعمل بمقتضاه إن كان لذلك المعلوم عمل كالصلاة، والزكاة، هذا هو الأصل، ثم قد يستعمل في كل واحد من هذه الثلاثة، فيقال: فلان مؤمن، أي أنه مقر بما يحقن دمه وماله، ولذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الجارية حين سألها ما سألها، ثم قال: " أعتقها فإنها مؤمنة " (1) ويقال: مؤمن ويراد به أنه يعرف الأدلة الإقناعية التي يحصل معها سكون النفس، وإياه عنى صلى الله عليه وسلّم بقوله: (من قال لا إله إلا الله موقناً دخل الجنة " (2) ويقال: مؤمن، ويعنى به أنه يسكن قلبه إلى الله من غير أن يلتفت إلى شيء من العوارض الدنيوية، وإياه عنى بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (3) [سورة الأنفال 3]. قوله: (ومن أخلّ بالإقرار فهو كافر) قال الشريف: أي مجاهر بكفره، بخلاف المنافق فإنه كافر يخفي كفره (4). وقال الطيبي: فيه نظر (5) قال الإمام: من عرف الله بالدليل ولم يجد من الوقت ما يتلفظ بكلمة الشهادة هل يحكم بإيمانه؟ وكذا لو وجد من الوقت ما أمكنه التلفظ به (6).

روي عن الغزالي نعم، والامتناع من النطق يجري مجرى المعاصي التي تؤتى مع الإيمان، ويعضده حديث البخاري " أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة " (1) قال: والذي يعتذر له (2) أن المراد بالإخلال هو أن يقصد به على سبيل الجحود والعناد كما فعل أبو طالب (3). قوله: (والذي يدل على أنه التصديق وحده) إلى آخره تبع في هذا الترجيح الإمام فخر الدين (4)، وهو خلاف مذهب إمامهما الإمام الشافعي رضي الله عنه، والسلف قاطبة. أخرج الحاكم في " مناقبه " وأبو نعيم في " الحلية " عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص (5). وأخرج اللالكائي في " السنة " عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه ابن أبي حاتم، واللالكائي (6) عن جمع كثير من الصحابة والتابعين (7).

وورد هذا اللفظ في حديث مرفوع أخرجه الديلمي من حديث أبي هريرة (1)، وأخرج ابن ماجه من حديث علي مرفوعا " الإيمان عقد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان " (2). فإن قلت: فما تحرير الفرق بين مذهب السلف والمعتزلة؟ قلت: السلف جعلوا العمل شرطا في كمال الإيمان (3)، والمعتزلة في صحته. قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [سورة الأنعام 83]. لا يصح إيراد هذه الآية في الأمثلة؛ لأن المراد بالظلم فيها الشرك، كما سيأتي، لا المعاصي. قوله: (والغيب مصدر وصف به للمبالغة) زاد في " الكشاف ": " بمعنى الغائب " (4) أبو حيان: إن كانت الباء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم كمررت بزيد فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب، عن المؤمَنِ به، فيتعين في هذا الوجه المصدر. وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب، أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل.

قالوا: وعلى معنى المغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول، نحو هذا خلق الله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظر؛ لأن الغيب مصدر غاب اللازم (1). انتهى قوله: (والعرب تسمي المطمئن من الأرض) قال الطيبي: يروى بكسر الهمزة، وفتحها، فبالكسر الصفة، وبالفتح الموضع (2) قوله: (والخمصة التي تلي الكلية) قال الطيبي: هي النقرة والحفرة (3) قوله: (أو فيعل، خفف كقيل) زاد في " الكشاف ": " فإن أصله قَيِّل " (4) قال أبو حيان - وتبعه السمين في " إعرابه " -: هذا الذي أجازه الزمخشري في الغيب فيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلا كنظائره، فإنها سمعت مثقلة ومخففة، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصة (5). قال أبو حيان: والفارسي لا يرى هذا التخفيف قياسا في بنات الياء، فلا يجيز في بَيِّنٍ التخفيف، ويجيزه في ذوات الواو، نحو سيد وميت، وغيره قاسه فيهما، وابن مالك وافق الفارسي في ذوات الياء، وخالف الناس في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ، لا مقيس (6). قوله: (وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته، واليوم الآخر وأحواله، وهو المراد في الآية) قال الإمام: ما لا يمكن إثبات النقل به إلا بعد ثبوته فإنه لا يمكن إثباته بالنقل، وما كان إخباراً عن وقوع ما جاز وقوعه، وجاز عدمه لا يمكن معرفته إلا بالحس أو النقل، فالصانع والنبوات من قبيل الأول، والحشر والنشر، وما يتعلق بهما من الثاني.

قوله: (هذا إذا جعلته صلة للإيمان، وأوقعته موقع المفعول به) قال الشيخ أكمل الدين: الصلة في عرف النحاة هي المفعول به بواسطة حرف الجر (1). قوله: (على تقدير ملتبسين بالغيب) قال الطيبي: وحينئذٍ يرجع معنى الغيب إليهم (2) قوله: (لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب " ثم قرأ هذه الآية) أخرجه سعيد بن منصور في " سننه "، وأحمد بن منيع (3) في " مسنده "، والحاكم في " مستدركه " وصححه (4). * * * قوله: (ويقيمون الصلاة) أي يعدلون أركانها، ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها) قال الطيبي: وعلى هذا فهو استعارة تبعية، شبه تعديل المصلي أركان الصلاة، وحفظها من أن يقع فيها زيغ بتقويم الوجل العود المُعَوَّجِ، فقيل: يقيمون، وأريد: يعدلون (5). قوله: (من أقام العود إذا قَوَّمَهُ) قال الشريف: القيام في أصل اللغة هو الانتصاب، والإقامة إفعال منه، والهمزة للتعدية، فمعنى أقام الشيء جعله قائما، أي منتصبا، ثم قيل: أقام العود إذا قوّمه، أي سَوَّاهُ وأزال اعوجاجه، فصار قويما شبه القائم، ثم استعيرت الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني؛ كتعديل أركان الصلاة على

ما هو حقها، وإنما لم تجعل استعارتها من تحصيل القيام في الأجسام، بل من تسويتها رعاية لزيادة المناسبة بين المعاني (1). هذا، وقد قيل: الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني، فلا حاجة حيئئذ إلى الاستعارة قوله: (أو يواظبون عليها، من قامت السوق إذا نفقت، وأقمتها إذا جعلتها نافقة) قال الطيبي: فعلى هذا هو كناية تلويحية (2): عبر عن المواظبة والدوام بالإقامة، فإن إقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها مشعرة بكونها مرغوبا فيها، وإضاعتها وتعطيلها يدل على ابتذالها، كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها، ونفاقها يدل على توجه الرغبات إليها، وتوجه الرغبات يستدعي الاستدامة، بخلافها إذا لم تكن قائمة، فعلى هذا المراد من قوله: " من قامت السوق " أي من باب قامت السوق، لا أنه منقول من قامت السوق (3). وقال الشريف: نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال والظهور التام، فاستعمل القيام فيه، والإقامة في إنفاقها، أي جعلها نافقة، ثم استعيرت منه للمداومة على الشيء، فإن كلا من الإنفاق والمداومة يجعل مُتَعَلَّقَهُ مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه. قال: وقد أورد عليه أن هذه المشابهة خفية جدا، وأيضاً الأصل أعني: أقام السوق مجاز، فالتجوز عنه ضعيف. ودفع الأول بالحمل على المجاز المرسل بعلاقة اللزوم، فإن الانفاق يستلزم المداومة عادة. والثاني: بأنه صار بمنزلة الحقيقة (4).

وقال الشيخ أكمل الدين: قد اعترض على هذا الوجه بأنه مجاز والعلاقة غير مطردة؛ لأن الدوام لا يستلزم النفاق، ولا العكس. والجواب أن في تعليل المصنف فدفعا لذلك، وهو أنه استعارة، وهي تستدعي التشبيه، وقد بين وجهه بأنه الرغبة، فإن الدوام على الشيء بدون الرغبة فيه لا يتحقق، كما أن النفاق في الأسواق لا يتحقق إلا بالرغبات (1). قوله: (قال: أَقَامَتْ غَزَاْلَةُ سُوْقَ الضِّرَابِ. . . لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ حَوْلاً قَمِيْطا) غزالة (2) امرأة شبيب الخارجي (3)، لما قتله الحجاج خرجت عليه، وحاربته سنة كاملة. والضراب المضاربة بالسيوف. والعراقان البصرة والكوفة. والقميط التام. أي هذه المرأة دامت على الحرب حولا كاملا تاما. والبيت من قصيدة طويلة لأيمن بن خُرَيم الصحابي (4) رضي الله تعالى عنه، أولها: أَبَى الجُبَنَاءُ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ. . . عَلَى اللهِ وَالنَّاسِ إِلا قُسُوْطَا أَيَهْزِمُهُم مِائَتَا فَارِسٍ. . . مِنَ السَّافِكِيْنَ الحَرَامَ العَبِيْطَا وَخَمْسُوْنَ مِنْ مَارِقَاتِ النِّسَاءِ. . . يَجُزوْنَ بِالمُنْدَبَاتِ (5) المُرُوْطَا وَهُمْ مِائَتَا أَلْفِ ذِيْ قَوْنَسٍ. . . يَئِطُّ العِرَاْقَانِ مِنْهُمْ أَطِيْطَا رَأَيْتُ غَزَالَةَ إِذْطَرحَتْ. . . بِمَكُّةَ هَوْدَجَهَا وَالغَبِيْطَا

سَمَتْ لَلْعِرَاْقَيْنِ مِنْ شُؤْمِهَا. . . فَلاقَى العِرَاقَانِ مِنْهَا البَطِيْطَا أَلا يَتَّقِيْ اللهَ أَهْلُ العِرَا. . . قِ إِذْ قَلُّدُوْا الغَاْنِيَاتِ السُمُوْطَا وَخَيْلُ غَزَالَةَ تَعْتَامُهُمْ. . . فَتَقْتُلُ كَهْلَ الوَفَاءِ الوَسِيْطَا وَخَيْلُ غَزَالَةَ تَحْوِيْ (1) النِّهَابْ. . . وَتَسْبِيْ السَّبَايَا وَتُحْيِيْ (2) النَّبِيْطَا وهي طويلة جداً (3) قوله: (أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر) إلى آخره قال الطيبي: (يقيمون) على الوجوه مسند إلى المصلي مطلقا، وعلى هذا الوجه مسند إلى الصلاة باعتبار أن المصلي إذا أقام الصلاة كانت هي قائمة (4)، على نحو نهاره صائم، وليله قائم، ألا ترى إلى قوله: " من غير فتور " فإنه لا يقال: نهاره صائم إلا لمن صام الدهر كله، ولا ليله قائم إلا لمن لا ينام فيه (5). وقال الشيخ أكمل الدين: اعترض على هذا الوجه بأنه مجاز، والعلاقة غير مطردة، وبأنه ليس على ظاهره؛ لأن القائم بالأمر هو المتشمر له، لا مقيمه، وهنا ليس كذلك، اللهم إلا أن تجعل الصلاة متشمرة لكون فاعلها كذلك، من باب جَدَّ جِدُّهُ، ولا يخفى بعده عن الفهم. قال: والجواب أن باب جد جده مفتوح في الكلام (6). وقال الشريف: قام بالأمر، أي اجتهد في تحصيله، وتجلد فيه بلا توانٍ، وحقيقته قام ملتبسا بالأمر، والقيام به يدل على الاعتناء بشأنه، ويلزمه التجلد والتشمر، فأطلق القيام على لازمه، ومنه قامت الحرب على ساقها إذا التحمت واشتدت، كأنها قامت وتشمرت لسلب الأرواح، وتخريب الأبدان. واعترض عليه بأن الإقامة إذا كانت مأخوذة مما ذكر كان معناها - على قياس التعدية - جعل الصلاة متجلدة متشمرة، لا كون المصلي متشمرا في أدائها بلا فتور

عنها، كما ذكره. وأيضاً وصف الصلاة بالتجلد والتشمر إنما يصح إذا وصفتَ بما هو لفاعلها، على قياس جد جده، ولا يخفى بعده قال: وليس لك أن تقول: الباء في قام بالأمر للتعدية، فالمستعمل بمعنى التجلد والاجتهاد هو الإقامة في الحقيقة؛ لأن قولهم في ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه يبطله. وأيضاً القيام يناسب التشمر، لا الإقامة، كما أن القعود يلائم الكسل، لا الإقعاد (1). قوله: (أو يؤدونها، عبر عن أدائها بالإقامة، لاشتمالها على القيام، كما عبر عنها بالقنوت، والركوع، والسجود، والتسبيح) (2). قال بعض أرباب الحواشي: هذا بعيد؛ لأنه قال هنا (ويقيمون الصلاة) فذكر اسم الصلاة مع إقامتها، وأما في تلك الأماكن فلم يذكر معها اسم الصلاة. وقال الشيخ أكمل الدين: قيل: إنه على هذا مجاز، من باب ذكر الجزء وإرادة الكل؛ لأن القيام في الصلاة جزء من الصلاة، وفيه نظر؛ لأن الجزء لا يستلزم الكل، فلا يكون مجازا. والجواب أن المراد القيام في الصلاة، وهو يستلزمها قطعا (3). وقال الشريف: إن أراد أن القيام يطلق على الصلاة لكونه بعض أركانها، ثم يؤخذ منه الإقامة، ورد عليه أن الهمزة إن جعلت للتعدية كان معنى الإقامة جعل الصلاة مصلية، وإن جعلت للصيرورة كان معنى أقام صار ذا صلاة، فلا يصح ذكر الصلاة معه إلا بجعلها مفعولا مطلقا، والكل ما لا يرتضيه طبع سليم، وإن أراد أن القيام لما كان ركنا منها كان فعله وإيجاده - أعني الإقامة - ركناً لها أيضاً توجه عليه أن ركنها فعل القيام، بمعنى تحصيل هيئة القيام في المصلي حال الصلاة، لا بمعنى تحصيلها في الصلاة، وجعلها قائمة. فإن قيل: لعله أراد أن القيام جزء منها، فيكون إيجاده - أي الإقامة - جزءًا من إيجاد جميع أجزائها الذي هو أداؤها، فعبر عن أدائها بجزئه.

قلت: المعنى (يقيمون) حينئذٍ يؤدون الصلاة، فيحتاج في ذكر الصلاة معه إلى ارتكاب كونها مفعولا مطلقا. ولا إشكال في استعمال " قنت " أو " ركع، أو " سجد "، أو " سبح " بمعنى صلى، إذ لا يذكر معها الصلاة (1). انتهى. * * * تنبيه: قال الشيخ أكمل الدين: في هذه الوجوه الأربعة - يعني أن الإقامة تجيء لمعان، وأن المذكورة هاهنا يجوز أن تكون واردة على جميع ما ورد فيه الإقامة على سبيل البدل، عند من لا يجوز عموم المشترك، وعلى سبيل الشمول عند من يجوزه. قال: وهذا الذي ذكرته من أنه مستعمل في الجميع سالم عن جميع ما تقدم إيراده. قال: ولو جعل المصنف إقامة الصلاة عبارة عن جعلها قائمة - أي حاصلة في الخارج، فإن القيام بهذا المعنى أيضاً شائع في الاستعمال (2)، كما في قولهم: الشيء إما قائم بنفسه، أو بغيره - كان أسلم (3). وقال الشريف: ذكر بعضهم أن الإقامة تستعمل بمعنى جعل الشيء قائما في الخارج، أي حاصلاً فيه، فإن القيام بمعنى الحصول في الخارج شائع في الاستعمال. ومنه القيوم، وهو الحاصل بنفسه، المحصل لغيره، ومنه القَوَّام لما يقام به الشيء، أي يحصل، فنحو " أقيموا الصلاة " من الإقامة بهذا المعنى، أي حصلوها وأتوا بها على الوجه المجزئ شرعا، وهو معنى الأداء (4). * * * فذلكة: قال الطيبي: تحرير هذا المقام أن قوله (يقيمون الصلاة) ليس على ظاهره فهو إما استعارة تبعية، أو كناية عن الدوام، من قامت السوق: إذا راجت ونفقت؛ لأن نفاقها مشعر بتوجه الرغبات إليها، وهو يدل على المحافظة، وهي على الدوام، أو مجاز في الإسناد، وهو إما بمعنى يجعلون الصلاة قائمة، فيفيد التجلد والتشمر، وأنها مؤادة مع وفور رغبة ومزيد نشاط، كقولهم: قامت الحرب على

ساقها، أو بمعنى يوجدون القيام فيها، أي يقومون فيها، فأسند القيام إليها على المجاز، فيفيد أنهم يؤدونها، من باب إطلاق معظم الشيء على كله (1). قوله: (والأول أظهر) هو الوارد (2) عن ابن عباس، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق عنه (3). قال الشريف: لما كان (يقيمون الصلاة) في معرض المدح، بلا دلالة على إيجاب كان حمله على تعديل أركانها كما قرره أَوَّلاً أولى، فإنه المناسب لترتيب الهدى الكامل، والفلاح التام الشامل (4). وقال الراغب: إقامة الصلاة توفية حدودها وإدامتها، وتخصيص الإقامة فيه تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط، ولهذا لم يؤمر بالصلاة، ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة، نحو (المقيمين الصلاة) [سورة النساء 162] ولم يقل المصلين إلا في المنافقين حيث قال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [سورة الماعون 4 - 5]. ومن ثم قيل: المصلون كثير، والمقيمون لها قليل، كما قال عمر رضي الله عنه: " الحاج قليل، والركب (5) كثير (6) ". وكثير من الأفعال التي حث الله على توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة، نحو (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) [سورة الرحمن 10] (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) انتهى. واختار الإمام الوجه الثاني، وقال: الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل

في أركانها وشرائطها (1). قال الطيبي: وهذا أولى من قول القاضي، لما مر في تقرير الكناية، فإنها جامعة لجميع المعاني المطلوبة فيها (2). قوله: (والصلاة فَعَلَةٌ) قال الشيخ أكمل الدين: يعني مفتوح العين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها (3). قوله: (كتبت بالواو على لفظ المفخم). الطيبي: قيل: التفخيم على ثلاثة أوجه: ترك الإمالة، وإخراج اللام من أسفل اللسان، كما في اسم الله، والإمالة إلى الواو، كما في اسم الصلاة (4). قال الشيخ سعد الدين: وهو المراد هنا. قال: وقوله: " المفخم " بكسر الخاء (5) وقال الشريف: أراد بالتفخيم هنا إمالة الألف نحو مخرج الواو، لا ما هو ضد الإمالة، أو ضد (6) الترقيق (7). وقال الشيخ أكمل الدين: التفخيم هنا ضد الترقيق (8). قوله: (وقيل: أصل صلّى حرك الصلا) (9) هو واحد الصلوين، وهما العظمان الناتئان في أعالي الفخذين، يقال: ضرب الفرس صلويه بذنبه، أي عن يمينه وشماله. قال الفارسي: الصلاة من الصلوين؛ لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصلوين للركوع، فأمَّا القيام فلا يختص بالصلاة فى دون غيرها. قال ابن جني: هو حسن (10).

وهذا القول هو الذي اختاره صاحب " الكشاف " لأن غالب اعتماده في الأعاريب والاشتقاقات على كتب الفارسي وابن جني، ولهذا وجب النظر فيها على الناظر في " الكشاف " وهذا التفسير المختصر منه. والمصنف ضعفه، واختار أن الصلاة منقولة من صلَّى بمعنى دعا، ووافقه المحققون قبله وبعده. قال الإمام فخر الدين: هذا الاشتقاق - يعني الذي قاله الفارسي - يفضي إلى الطعن في كون القرآن حجة؛ لأن الصلاة من أشهر الألفاظ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء معرفة، ولو جوزنا ذلك - ثم إنه خفي واندرس بحيث لا يعرفه إلا الآحاد - لجاز مثله في سائر الألفاظ، ولو جاز لما قطعنا بأن مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر أفهامنا إليه، بل لعل المراد تلك المعاني المندرسة (1). قال الطيبي: وأجاب القاضي أن اشتهار اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله (2). وقال الشريف: في هذا الاشتقاق ضعف من وجهين: الأول: أن الاشتقاق مما ليس بحدث قليل. الثاني: أن الصلاة بمعنى الدعاء شائعة في أشعار الجاهلية، ولم يرد عنهم إطلاقها على ذات الأركان، بل ما كانوا يعرفونها، فأنى يتصور لهم التجوز عنها، فالصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن لفظ الصلاة حقيقة في الدعاء، مجاز لغوي في الهيئات المخصوصة المشتملة عليه (3). قوله: (وإنما سمي الداعي مصليا) إلى آخره هو من تتمة القول الثاني. قال الطيبي: كأنه جواب عن سؤال سائل أن الداعي يسمى مصليا، وهو لا يحرك الصلوين (4). قوله: (الرزق في اللغة الحظ) الشيخ أكمل الدين: الرزق في الأصل مصدر بمعنى الإخراج، وشاع في اللغة أولاً على إخراج حظ إلى آخر ينتفع به، ثم شاع استعمالا وشرعا على إعطاء الله

الحيوان ما ينتفع به، ويستعمل بمعنى المرزوق، وحينئذ يطلق على ما أعطى الله عبده ومَكَّنَهُ من التصرف فيه، وهو معنى الملك، وهو بهذا المعنى يمكن أن ينفق بعضه، أو كله، وعلى ما به قوامه وبقاؤه منه خاصة، وهو معنى الغذاء، والمراد بالآية معنى الملك (1). قوله: (الطِّلق) بكسر الطاء الحلال الصرف الطيب. قوله: (وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم) قال الطيبي: معناه أن الرزق وإن كان كله من الله لكن من شرط ما يضاف إليه من الأفعال أن يكون الأفضل، فالأفضل، كما قال إبراهيم عليه السلام (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [سورة الشعراء 80] وقوله (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (2) قوله: (وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلّم في حديث عمرو بن قُرَّةَ (3): " لقد رزقك الله طيبا، فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ") أخرجه ابن ماجه، وأبو نعيم في " المعرفة " والديلمي في " مسند الفردوس " من حديث صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاءه عمر بن قرة فقال: يا رسول الله إن الله تعالى قَدَّر (4) عليَّ الشقوة، فلا أراني أُرزق إلا من دَفِّيْ بَكَفَّيَّ، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال: " لا آذن لك ولا كرامة، كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيبا، فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله " (5) قوله: (وأنفق الشيء وأنفده أخوان). قال القطب في " الحاشية ": أي بينهما الاشتقاق الأكبر، فإن بينهما تناسبا في التركيب، وفي المعنى؛ لاشتمال كل منهما على معنى الخروج (6).

قوله: (ولو استقريت الألفاظ وجدت ما يوافقه في الفاء والعين (1) دالا على (2) معنى الذهاب والخروج) قال القطب: كنفر، ونفز، ونفس، ونفع، ونفى (3). زاد الشريف: ونفض، ونفث، وأمثالها (4) قوله: (ومن فسر بالزكاة) هو تفسير ابن عباس، أخرجه ابن جرير (5)، وأخرج أيضاً عن ابن مسعود أنها نفقة الرجل على أهله (6). ولا منافاة بينهما؛ لأن كلا ذكر بعض أفراد النفقة قوله: (لاقترانه بما هو شقيقها) أي الصلاة من حيث إنهما أُمَّانِ لسائر العبادات، ومن حيث إنهما يذكران معا في القرآن. قوله: (وتقديم المفعول به) قال الشريف: سمي الجار والمجرور مفعولا به تنبيها على أنه بحسب المعنى مفعول به، أي بعض ما رزقناهم ينفقون (7) قوله: (وإدخال " مِن " التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه) تبع في ذلك صاحب " الكشاف " (8). وقد ذكر بعض أرباب الحواشي: أن هذا اعتزال، وأنهم يقولون: إن " من " في الآية للإشعار بأنه لا ينبغي أن يتصدق بجميع ماله، بل يبقي منه شيئا خشية الإضاقة، وعدم الصبر عليها. ونحن نقول: إن " من " يراد بها أن تكون النفقة من الرزق الذي هو حلال،

دون الرزق الذي هو حرام. وأما كراهية إخراج المال كله للصدقة فليس ممنوعا منه على الإطلاق، فقد تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجميع ماله (1)، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما يكره ذلك لمن لا يصبر على الإضاقة. انتهى قوله: (ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعارف) إلى آخره قال الراغب: الرزق لفظ مشترك للحظ الجاري تارة، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به (ومما رزقناهم ينفقون) محمول على المباح؛ لأنه حث على الإنفاق، ومدح لفاعله، ولأنه مضاف إلى الله تعالى. والإنفاق كما يكون من المال والنعم الظاهرة يكون من النعم الباطنة، كالعلم، والقوة، والجاه، والجود التام بذل العلم، ومتاع الدنيا عرض زائل. وقال بعض المحققين في الآية: ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون (2). انتهى. قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: " إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه "). أخرجه بهذا اللفظ ابن عساكر (3) في " تاريخه " من حديث ابن عمر مرفوعا (4)، وأخرجه الطبراني في الأوسط " من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه (5) "

قوله: (هم مؤمنو أهل الكتاب)

وأخرج ابن أبي شيبة في " المصنف " عن سلمان قال: " علم لا يقال به ككنز لاينفق منه (1) " وأخرج أبو نصر السجزي (2) في " الإبانة " وابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا " إن علما لا ينتفع به ككنز لا ينفق (3) في سبيل الله ". وأخرج أحمد في " الزهد " عن قتادة قال: " متكوب في الحكمة علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه (4) قوله: (هم مؤمنو أهل الكتاب) أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود (5). قوله: (كعبد الله بن سلام) هو بتخفيف اللام، من بني قينقاع الإسرائيلي، من ولد يوسف الصديق، كان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلّم عبد الله (6)، كما رواه ابن ماجه (7).

وقد ألفت جزءاً فيمن غير النبي صلى الله عليه وسلّم أسماءهم (1). قوله: (وأضرابه) قال الزمخشري: " أكثر الناس على أن الأضراب جمع ضرب، بالفتح، وعندي بكسرها، فعل بمعنى مفعول، كالطحن، وهو الذي يضرب به المثل، ولابد في المضروب به مثلا، والمضروب فيه من المماثلة (2). وقال غيره: الضرباء، والأضراب الأمثال، تقول العرب: هو ضربه بالكسر، أي مثله، وضرب وضريب كمثل ومثيل، وشبه وشبيه. قوله: (وهو قول ابن عباس) أخرجه ابن جرير (3) قوله: (ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم) قال الشريف: أورد عليه أَوَّلاً أن الإيمان بالكتب المنزلة مندرج في الإيمان بالغيب، فلم أفرد بالذكر؟ وأجيب بأنه للاعتناء بشأنه، كأنه العمدة. وثانيا: أنه لم أعيد الموصول، وهلاَّ اكتفي بعطف الصلاة؟ ودفع بأنه للدلالة على استقلال هذه الصفات، واستدعائها أن يذكر معها موصوفها، كأن الموصوف بها مغاير للموصوف بما تقدم. وفائدة العطف بين الموصولين مع اتحاد الذات ما أشار إليه من معنى الجمع بين تلك الصفات وهذه، كما في العطف بالواو في سائر الصفات.

ورجح هذا الاحتمال على الأول بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة، فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب، ولا دلالة للإفراد بالذكر في الآية. على أن الإيمان بكل منهما بطريق الاستقلال، ألا ترى إلى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) [سورة البقرة 136] فقد أفرد فيه الكتب المنزلة من قبل، ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد، وبان ما ذكره في تقديم (بالآخرة) وبناء (يوقنون) على (هم) إنما يقع موقعه إذا عم المؤمنين، وإلا أوهم نفيه عن الطائفة الأولى، وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبله، فإن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل. وما يقال من أن اشتمال إيمانهم على كل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم، فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن، والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على القرآن، والإنجيل مردود؛ لأن المفهوم المتبادر من أمثال ما نحن فيه ثبوت الحكم لكل واحد، وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب، فتخصيصها بمن عداهم تحكم. وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام. وقد يرجح الاحتمال الأول بأن الأصل في العطف التغاير بالذات. ويجاب بأن هناك تفصيلا: هو أن أدات العطف إن توسطت بين الذوات اقتضت تغايرها بالذات، وإن توسطت بين الصفات اقتضت تغايرها بحسب المفهومات، وكذا الحكم في التأكيد، والبدل، ونحوهما، وإن وقعت فيما يحتملهما على سواء كان الحمل على التغاير بالذات أولى، فلا يحكم في مثل زيد عالم وعاقل بأن الحمل على تغايرهما بالذات (1) أظهر. وقد يرجح في الآية الكريمة الحمل على عطف الصفة بأن وضع (الذي) على أن يكون صفة، فالظاهر عطفه على الموصول الأول على أنه صفة أخرى (للمتقين) بلا تقسيم، مع أن ما تقدم من وجوه الترجيح شاهد له. ثم العطف على (الذين يؤمنون بالغيب) صحيح سواء جعل المعطوف عليه موصولا بما قبله، أو منقطعا عنه.

وأما العطف على (المتقين) فإنما يصح على تقدير الوصل فقط، والأول أرجح؛ إذ لا معنى لإخراجهم عن (المتقين) مع اتصافهم بالتقوى إلا أن يحمل على المشارفين، فيتعين العطف عليه؛ لبعد الحمل على المشارفة في المعطوف، وإذا اتحد الموصولان بحسب الذات فإن جعل الموصول الأول استئنافا وجب عطف الثاني عليه، وإن جعل صفة أو مدحا كان العطف أولى؛ لأن الكشف قد تم بالمعطوف (1) عليه، فتأمل (2). انتهى. قوله: (ووسط العاطف) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: أورد أمثلة للإشارة إلى أن ذلك يجري في الصفات والأسماء باعتبار تغاير المفهومات، ويكون بالواو والفاء باعتبار تعاقب الانتقال (3) قوله: (كما وسط في قوله: إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابنِ الهُمَامِ. . . وَلَيْثِ الكَتِيْبَةِ فِي المُزْدَحِمِ) (4). القرم الفحل المكرم الذي لا يحمل عليه، ثم سمي به السيد. والهمام من أسماء الملوك؛ لعظم همتهم، أو لأنهم إذا هموا بأمر فعلوه. والكتيبة الجيش. والمزدحم مكان الازدحام، وهو وقوع القوم بعضهم على بعض. وقوله: (يا لَهْفَ زَيابة لِلحَارِثِ الـ. . . صَّابَحِ فالغانِمِ فالآيِب) قال الخطيب التبريزي في " شرح الحماسة ": قال الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان: أيا ابنَ زَيَّابَةَ إِنْ تَلْقَنِيْ. . . لا تَلْقَنِيْ فِي النَّعَمِ العَازِبِ وتَلْقَنِيْ يَشْتَدُّ بِي أَجْرَدٌ. . . مُسْتَقْدِمُ البِرْكَةِ (5) كالرَّاكِبِ فأجابه ابن زيابة - واسمه سلمة بن ذهل، وزيابة اسم أمه -: يا لَهْفَ زَيابة لِلحَارِثِ الـ. . . صَّابَحِ فالغانِمِ فالآيِب واللهِ لو لاقَيْتُهُ خالياً. . . لآبَ سَيْفَانَا مَعَ الغالِبِ أنا ابنُ زيابة إِنْ تَدْعُنِيْ. . . آتِكَ والظنُّ على الكاذِبِ

قال التبريزي: ومعناه أنه لهف أمه أن لا يلحقه في بعض غاراته فيقتله، أو يأسره (1). وقال النمري: وصفه بالفتك والظفر وحسن العاقبة، وكيف يذكره بذلك وهو عدوه، وإنما يتأسف على الفائت من قتله وأسره. ولما كانت هذه الصفة متراخية حسن إدخال الفاء؛ لأن الصابح قبل الغانم، والغانم أمام الآيب. ويقبح أن تدخل الفاء إذا كانت الصفات مجتمعة في الموصوف، فلا يحسن (2) أن تقول: عجبت من فلان الأزرق العين، فالأشم الأنف، فالشديد الساعد إلا على وجه يبعد؛ لأن زرقة العين، وشمم الأنف، وشدة الساعد قد اجتمعن في الموصوف (3). ووقع في حاشية الطيبي أن زيابة اسم أبي الشاعر (4). وهو وهْمٌ. قوله: (إشادة بذكرهم) بالدال المهملة. في الصحاح: الإشادة رفع الصوت بالشيء، وأشاد بذكره، أي رفع من قدره (5). قوله: (ولعل نزول الكتب الإلاهية) إلى آخره مأخوذ من كلام الإمام حيث قال: المراد من إنزال القرآن أن جبريل في السماء سمع كلام الله، فنزل على الرسول به، كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل، ولكن المستمع سمع الرسالة في علو، فنزل وأدى في سفل، وقول الأمير لا يفارق ذاته (6).

فإن قيل: كيف يسمع جبريل كلام الله، وكلامه ليس من الحروف والأصوات؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله له سماعا لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم. ويجوز أن يكون الله تعالى خلق في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل فحفظة. ويجوز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص، في جسم مخصوص، فتلقفه جبريل، ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم (1) انتهى.

قوله: (وإنما عبر عنه بلفظ المضي) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: فعلى الأول هو مجاز باعتبار تسمية الكل باسم الجزء، وعلى الثاني استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق. قال: ويرد على كلا الوجهين: أَولاً: أنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يتصور معنى مجازي يعم المعنى الحقيقي والمجازي، ليكون من عموم المجاز. والجواب أن الجمع هو أن يراد باللفظ معناه الحقيقي والمجازي، على أن كلا منهما مراد باللفظ، وهاهنا أريد المعنى الذي بعض أجزائه من أفراد الحقيقة دون البعض. وثانيا: أن وجوب اشتمال الإيمان على السالف والمترقب لا ينافي الإخبار عنهم في ذلك الوقت بأنهم يؤمنون بالفعل السالف؛ إذ الإيمان بالمترقب إنما يكون عند تحققه، وإن أريد الإيمان بأن كل ما ينزل فهو حق، فهذا حاصل الآن من غير حاجة إلى اعتبار تحقق نزوله. والجواب أنه لما وجب ذلك وجب في مقام الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به أن يتعرض لذلك، سيما وقد أورد (يؤمنون) بلفظ المضارع المنبئ عن الاستمرار، وعدم الاقتصار على الماضي.

قال: والإشكال في آية (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) [سورة الأحقاف 30] أقوى؛ فإن السماع لم يتعلق إلا بما تحقق إنزاله بالحقيقة، فكيف يكون سبيله سبيل ما ذكر من جعل غير المتحقق بمنزلة المتحقق. غاية الأمر أن الكتاب اسم للمجموع فيجب أن يراد به البعض، أو يحمل على المفهوم الكلي الصادق على الكل وعلى البعض. ويجاب بالتأويل أيضاً، يعني أن الكتاب كأنه قد نزل كله وسمعوه، فالتجوز في إيقاع السماع على الكتاب المراد به الكل، مع أنه لم يسمع إلا بعضه (1). انتهى. وقال الشريف: ذكر للتعبير عن الماضي والمترقب بصيغة الماضي وجهين: أحدهما: تغليب ما وجد نزوله على ما لم يوجد. وتحقيقه أن إنزال جميع القرآن معنى واحد، يشتمل على ما حقه صيغة الماضي، وعلى ما حقه صيغة المستقبل، فعبر عنهما معا بصيغة الماضي، ولم يعكس، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، فذلك من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل. والثاني: تشبيه مجموع المنزل بشيء نزل في تحقق النزول؛ لأنه بعضه نازل، وبعضه مستقبل سينزل قطعا، فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل، فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع. قال: وقد اضمحل بما فصلناه ما يتوهم من لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز في كل واحد من الوجهين. قال: وأما قوله: (إنا سمعنا كتابا) فإنما كان نظير ذلك؛ لأن المراد بقوله (كتابا) هو المجموع؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق خصوصا إذا قيد بكونه منزلا من بعد موسى، لا بعضه، ولا القدر المشترك بينه وبين كله، وقد عبر عن إنزاله بلفظ الماضي (2) مع أن بعضه كان حينئذٍ مترقبا، فوجب أن يؤول بأحد تأويلين. وأما (سمعنا) فالظاهر فيه تغليب المسموع على ما لم يسمع في إيقاع السماع عليه (3). انتهى.

قوله: (أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه) إلى آخره. إشارة إلى ما قاله الإمام في تفسير اليقين: إنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه (1). قوله: (وفي تقديم الصلة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بمن عداهم) إلى آخره قال الشيخ تقي الدين السبكي في " الاقتناص ": إنما قال: وبناء (يوقنون) على (هم) دون وتقديم (هم) لأن التقديم إنما يكون عن تأخير، وليس بلازم هنا؛ لاحتمال أنه جعل مبتدأ من أصله خبره الفعل، لا أنه فعل وفاعل قدم وأخر. انتهى. وقد حذف المصنف من الكشاف تقدير إفادته الاختصاص هنا، فأغنى عن الكلام عليه. نعم قال الشريف: هنا تقديمان: الأول: تقديم الظرف الذي هو (بالآخرة) ويفيد تخصيص إيقانهم بالآخرة، أي أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة، لا يتعداها إلى ما هو على خلاف حقيقتها، وفي ذلك تعريض بأن ما عليه مقابلوهم ليس من حقيقة الآخرة في شيء، كأنه قيل: يوقنون بالآخرة، لا بخلافها، كأهل الكتاب. الثاني: تقديم المسند إليه الذي بني عليه (يوقنون) ويفيد أيضاً تخصيص (2) أن الإيقان بالآخرة منحصر فيهم، لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب، وفيه تعريض بأن اعتقادهم الذي يزعمون أنه إيقان بالآخرة ليس بإيقان، بل هو جهل محض، كما أن معتقدهم خيال فاسد (3). وكذا قرره الشيخ أكمل الدين وقال: فبَانَ بهذا أن هنا تخصيصين وتعريضين. قال: ثم إن كلا من التعريضين إنما هو على سبيل الكناية؛ لأنه (4) لما لم يكن لأهل الكتاب إيقان كان الإيقان مخصوصا بالمؤمنين، فالانتقال من اختصاص الإيقان بالمؤمنين إلى سلب الإيقان عن أهل الكتاب انتقال من اللازم إلى الملزوم،

فكان كناية، وكذا في التعريض الثاني. قال: ومن الناس من قال: ليس هنا إلا تعريض واحد، وذلك لأن ظاهر كلامه أن في تقديم الآخرة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريضا، أي في هذين الأمرين تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه، وهو من باب أعجبني زيد وكرمه، وذكر أهل الكتاب. توطئة، والمقصود ما كانوا عليه، كما أن ذكر زيد في المثال توطئة، والمقصود كرمه فمآل الكلام إلى أن التقديمين أفاد التعريض بأن ما كانوا عليه من أمر الآخرة ليس بشيء؛ لكونه على خلاف حقيقته، وأن إيقانهم ليس بإيقان (1). انتهى. يشير بهذا القائل إلى الطيبي (2). قوله: (واليقين إتقان العلم بنفي الشبهة) إلى آخره قال الشيخ أكمل الدين، والشريف: يريد أن العلم الذي من شانه أن يتطرق إليه الشك والشبهة إذا انتفيا عنه كان إيقانا، ولذلك لا يوصف به العلم القديم، ولا الضروري، فلا يقال: تيقنت أن الكل أعظم من الجزء (3). وقال الإمام: لا يقال: تيقنت أن السماء فوقي، ويقال: تيقنت ما أردته بكلامك (4). قال الشيخ أكمل الدين: والعلم الذي من شأنه ذلك هو الذي يكون بمعنى الظن. قال: ولو قال: هو العلم وهو الإدراك الذي لا يحتمل النقيض كان أجرى على الأصول (5). الراغب: اليقين من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون النفس مع ثبات الحكم (6). قوله: (والآخرة تأنيث الآخِر صفة الدار)

قال بعض أرباب الحواشي: أجاز الماوردي أن تكون الآخرة صفة للنشأة الآخرة (1)، لقوله تعالى (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [سورة العنكبوت 20] قوله: (فغلبت كالدنيا) الشيخ أكمل الدين: قال الزمخشري: " الغلبة تكون في الأسماء، كالبيت على الكعبة، وقد تكون في الصفات كالرحمن غير مضاف، وقد تكون في المعاني كالخوض على الشروع في الباطل خاصة، وهاهنا في الصفات، وكذا الدنيا، ثم إنهما مع الغلبة المذكورة جرتا مجرى الأسماء لما غلب حذف موصوفهما معهما. وقد فرق بين ما غلب من الصفات فاستعمل في موصوف معين كالرحمن، وبين ما جرى مجرى الأسماء بحذف الموصوف، كالذي نحن فيه بأن استعمال الأول في موصوف معين سبب صيرورته من الصفات الغالبة، واستعمال الثاني بدون الموصوف سبب جريانه مجرى الأسماء (2). انتهى. قوله: (ونظيره: لَحُبَّ المُؤْقِدانِ إلَيُّ مُؤْسَى. . . وجَعْدةُ إذ أضاءهما الوُقُوْدُ) قال الطيبي: هو لجرير (3)، و " مؤسى " و " جعدة " ابناه، وهما عطفا بيان لقوله: " المؤقدان " كانا يوقدان نار القرى، و " إذ أضاءهما " بدل اشتمال منهما، يحمد أفعالهما ويشكر صنيعهما، واللام في " لحب " للقسم، و " حب " فعل ماض، بضم الحاء وفتحها من " أحبَّ " و " حبَّ " والمعنى: وحبب الله إليّ وقت إضاءة وقودهما إياهما. هكذا روى سيبويه بقلب الواو في " المؤقدان "، و " مؤسى " همزة (4). انتهى. وقال الشيخ أكمل الدين: المعنى ما أحبهما إليّ حيث اشتهرا بالكرم، وكنُّى عن الاشتهار بالكرم بإضاءة الوقود، والمراد بالوقود وقود نار القرى، فإنه المراد عند الإطلاق من استعمال العرب، واللام جواب القسم المحذوف، ولم يؤت

بـ " قد " مع أنه ماض مثبت، لإجرائه مجرى فعل المدح، نحو والله لنعم الرجل زيد (1). وقال الشريف: الشعر لجرير، أو لأبي حَيَّة النميري (2)، وصف ابنيه بالكرم والاشتهار به، فكنى عن الأول بإيقاد نار القرى، وعن الثاني بإضاءة الوقود إياهما، و " لحب " أصله حَبُبَ على وزن شرف، فأدغم بالإسكان، أو بنقل الضمة، يقال: حُبَّ إليَّ فلان، أي ما أحبه إليَّ، وقد صح الوقود هنا بضم الواو، وهو مصدر (3). انتهى. وقال ابن جني في " الخصائص " - وقد أورد البيت في باب الجوار -: ومن الجوار في المتصل قول جرير: لحب المؤقدان إليَّ مؤسى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وذلك أنه تصور الضمة - لمجاورتها الواو - كأنها فيها، فهمز كما يهمز (4) في " أدؤر ونحوه " (5). وقال في باب " شواذ الهمزة ": وأنشدوا لجرير: لحب المؤقدان إليّ مؤسى. . . . . . . . . . . . . . . . . . .. بالهمز في " المؤقدان " وفي مؤسى (6) والبيت من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك (7)، أولها: عَفَا النَّسْرَانِ بَعْدَكَ فَالوَحِيْدُ. . . ولا يَبْقَى لِجِدَّتِهِ جَدِيْدُ

نَظَرْنَا نَارَ جَعْدَةَ هَلْ نَرَاها. . . أَبُعْدٌ غَالَ ضَوْءَكِ أَمْ هُمُوْدُ لحب المؤقدان إلي مؤسى. . . وجعدة إذ (1) أضاءهما الوقود تَعَرَّضَتِ الهُمُوْمُ لنا فَقَالَتْ:. . . جُعَادَةُ أيَّ مُرْتَحَلٍ تُرِيْدُ فقلت لها: الخليفةَ غَيرَ شَكٍّ. . . هُو المَهْدِيُّ والحَكَمُ الرُّشِيْدُ ومنها: هِشامُ المُلْكِ والحَكَم المُصَفَّىْ. . . يَطِيْبُ إِذَاْ نَزلتَ بِهِ الصَّعِيْدُ يَعُمُّ على البَرِيَّةِ منك فَضْلٌ. . . وتُطْرِقُ مِن مَخَافَتِكَ الأسُودُ وَإنْ أهْلُ الضُّلالةِ خَالَفوكم. . . أَصَابَهُمْ كَمَا لَقِيَتْ ثَمُوْدُ وأمَّا من أطاعكُمُ فَيَرْضَى. . . وذو الأضغانِ يَخْضَعُ مُسْتَقِيْدُ (2) قوله: (الجملة في محل رفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له) قال الشريف: هو مذكور فيما تقدم، وإنما كرره ليرتبط به قوله: " وإلا " (3) وقال أبو حيان، إن جعلنا (4) (الذين) مبتدأً فـ (أولئك) مع ما بعده يكون مبتدأً وخبرا في موضع خبر (الذين). ويجوز أن يكون بدلا، وعطف بيان. ويمتنع الوصف لكونه أعرف، ويكون خبر (الذين) إذ ذاك قوله (على هدى) (5) انتهى. وقد أحسن المصنف حيث قال: (إن جعل أحد الموصولين) مصلحا به عبارة الكشاف حيث اقتصر على الموصول الأول، فأورد عليه الثاني. قال الشيخ أكمل الدين: ويجوز أن يكون من باب: نحنُ بما عندنا، وأنتَ بما ... عندك راضٍ (6). . . . . . . . . . . .

أي الذين يؤمنون بالغيب أولئك على هدى، والذين يؤمنون بما أنزل إليك كذلك (1). قوله: (وكأنه لما قيل: (هدى للمتقين) قيل: ما بالهم خصوا بذلك؟) إلى آخره قال الشريف: أي ما حالهم مختصين بذلك، وهل هم أحقّاء به، فمآل السؤال إلى أنهم هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص؟ والجواب يشتمل على هذا الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه، وقد ضم فيه إلى الهدى نتيجته تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكيره، كأنه قيل: هم مستحقون للاختصاص، والسبب فيه تلك الأوصاف التي رتب عليها الحكم، فاستغنى عن تأكيد النسبة ببيان علتها. وقد يقال: المقصود من السؤال هو السبب فقط، أي ما سبب اختصاصهم واستحقافهم إلا أنه بين في الجواب مرتبا عليه مُسَبَّبه، فإن ذلك أوصل إلى معرفة السبب، فلا حاجة أصلا إلى تأكيد الجملة. وربما قيل: قصد به مجموع الأمرين، أي هل هم أحقّاء بذلك، وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ وإنما قال: " كأنه قيل " إذ ليس هناك سؤال، بل اتجاه سؤال، فجعل لذلك كأنه مقدر (2). انتهى. وكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة. قال الطيبي: فوزان قوله (هدى للمتقين) إلى قوله (ينفقون) وزان قوله (الحمد لله رب العالمين) إلى قوله (مالك يوم الدين) ووزان قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين) وزان قوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال: وهاهنا سر دقيق: وهو أنه تعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لبارئه بسبب إحسانه إليه، وترقى فيه، ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد (3).

قوله: (ومعنى الاستعلاء في (على هدى)

قوله: (ومعنى الاستعلاء في (على هدى) تمثيل تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه). قال الطيبي: أي هو استعارة تمثيلية، واقعة على سبيل التبعية، وتقريره أن يقال: شبهت حالهم - وهي تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به - بحال من اعتلى الشيء وركبه، ثم استعير للحالة التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به. قال: ويدلك على أن الاستعارة التبعية تمثيلية الاستقراء، وبه يشعر قول صاحب " المفتاح " في استعارة " لعلّ " فتشبه حالُ المكلف - وكيت، وكيت - بحال المرتجي المخير. إلى آخره (1). وقال الشيخ أكمل الدين: يعني أنه استعارة تمثيلية، فإن الاستعارة من فروع التشبيه، والتشبيه إما أن يكون وجهه منزعا من عدة أمور، أولا، والأوّل هو التمثيل، والثاني غيره. ووجه ذلك ما ذكره بقوله: " شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه " فكما أن حال الراكب هي تمكنه من المركوب، واستقراره عليه، كذلك حال أولئك مع الهدى، فاستعير للمشبه كلمة " على " المستعملة للمشبه به، فليس معنى " على " هاهنا الاستعلاء، بل حالهم يشابه الاستعلاء. وإنما قال: " معنى الاستعلاء "؛ لأنه من الاستعارة التبعية، فلا بد من تقدير الاستعارة في معنى الاستعلاء؛ ليسري إلى الحرف (2). وقال الشريف: يريد أن كلمة " على " هذه استعارة تبعية، شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، كما شبه استعلاء المصلوب على الجذع باستقرار المظروف في الظرف بجامع الثبات، فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية. وإنما قال: " معنى الاستعلاء " دون معنى " على "؛ لأن الاستعارة في الحرف تقع أولاً في متعلق معناه كالاستعلاء والظرفية والابتداء مثلا، ثم تسري إليه بتبعية.

وقوله: " تمثيل " (1) أي تصوير فإن المقصود من الاستعارة تصوير المشبه بصورة المشبه به إبرازا لوجه الشبه فيه بصورته في المشبه به، فإذا قلت: رأيت أسدا يرمي فقد صورته في شجاعته بصورة الأسد وجراءته. ومن الناس من زعم أن الاستعارة في " على " تبعية تمثيلية. قال: أما كونها تبعية فلجريانها أولا في متعلق معنى الحرف، وتبعيتها في الحرف. وأما كونها تمثيلية فلكون كل من طرفي التشبيه حالة منتزعة من عدة أمور. فورد عليه أن انتزاع كل من طرفيه من أمور عدة يستلزم تركبه من معان متعدة، ومن البيّن أن متعلق معنى كلمة " على " وهو الاستعلاء معنى مفرد، كالضرب ونظائره، فلا يكون مشبها به في تشبيه تزكب طرفاه، وإن ضم إليه معنى آخر، وجعل المجموع مشبها به لم يكن معنى الاستعلاء مشبها به في هذا التشبيه، فكيف يسري التشبيه والاستعارة منه إلى معنى الحرف! والحاصل أن كون " على " استعارة تبعية يستلزم كون الاستعلاء مشبها به، وأن تركب الطرفين يستلزم أن لا يكون مشبها به، فلا يجتمعان. وأجيب عنه بأن انتزاع كل من طرفيه من عدة أمور لا يوجب تركبه، بل يقتضي تعددا في مأخذه، وهو مردود بأن المشبه مثلا إذا كان منتزعا من أشياء متعددة فإما أن ينتزع بتمامه من كل واحد منها، وهو باطل، فإذا أخذ كذلك من واحد منها كان أخذه مرة ثانية من واحد آخر لغوا، بل تحصيلا للحاصل. وإما أن ينتزع من كل واحد منها بعض منه، فيكون مركبا بالضرورة. وإما أن لا يكون هناك لا هذا ولا ذاك، وهو أيضاً باطل، إذ لا معنى لانتزاعه حينئذ من تلك الأمور المتعددة. على أن هذا الزاعم قد صرّح في تفسير قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) بأنه لا معنى لتشبيه المركب بالمركب إلا أن تنتزع كيفية من أمور عدة، فتشبه بكيفية أخرى مثلها، فيقع في كل واحد من الطرفين أمور متعددة، وأنت خبير بأن أمثال ذلك مما لا يشتبه على ذي مسكة، إلا أن جماعة قد غفلوا في هذا المقام

عن رعاية القواعد، فزلت بهم أقدامهم. وإن شئت مزيد تحقيق فاعلم أن قوله (على هدى) يحتمل وجوها ثلاثة: الأول: ما مر من تشبيه تمسكهم بالهدى باعتلاء الراكب. الثاني: أن تشبيه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية، تركب كل من طرفيها، لكنه لم يصرح من الألفاظ التي هي بإزاء المشبه به إلا بكلمة " على " فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تبع له، يلاحظ معه في ضمن ألفاظ منوية، وإن لم تكن مقدرة في نظم الكلام، وستعرف الفرق بينهما، فلا يكون في " على " استعارة أصلا، بل هي على حالها قبل الاستعارة، كما إذا صرّح بتلك الألفاظ كلها. الثالث: أن يشبه الهدى بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتجعل كلمة " على " قرينة لها، على عكس الوجه الأول، فمن اعتبر هنا تلك الهيئة، وحكم بأن الاستعارة تبعية فقد اشتبه عليه الفرق بين الوجه الأول والثاني. وما يتوهم من أن عبارة " المفتاح " في استعارة " لعلّ " بينة في اجتماع التبعية والتمثيلية، فهو مضمحل بما لخصناه في شرحه عليه، على وجه لا مزيد عليه (1). انتهى قوله: (وقل صرحوا به) قال الطيبي: أي بإرادتهم معنى الاستعلاء والركوب فيما يشبه الآية (2). قوله: (في قولهم: امتطى الجهل) قال الطيبي: أي اتخذ الجهل مطية، وهو تشبيه (3). قال الشيخ أكمل الدين: يعني كالمطية (4) وقال الشريف: إن جعل بمنزلة قولك: ركب مَطَى الجهل كان استعارة بالكناية، وإن جعل في قوة قولك: اتخذ الجهل مطية كان تشبيها، وأيّاً ما كان فتشبيه الجهل بالمطية مقصود منه، وهو المراد بكونه مصرحا به.

وقيل: امتطى استعارة تبعية، شبه اتصافه بالجهل واستقراره عليه بامتطاء المطية، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، وسرت الاستعارة إلى الفعل، وذكر المفعول قرينة لها. وفيه بحث؛ إذ لا فرق حنيئذ بينه وبين قوله (على هدى) في أن تشبيه الهدى والجهل بالمركب ليس مقصودا فيهما، فكيف يجعل مصرحا به في أحدهما دون الآخر (1). انتهى. قوله: (واقتعد غارب الهوى). قال الطيبي: هو استعارة، إما تحقيقية، أو تخييلية، " واقتعد " ترشيح لها، نحو قوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وعُرِّيَ أَفْرَاسُ الصّبَا وَرَوَاحِلُهْ (2). وقال الشيخ أكمل الدين: في " الهوى " استعارة مكنية، وفي " غارب " استعارة تخييلية (3). وقال الشريف: شبه الهوى بالمطية على طريقة الاستعارة المكنية، وخيل بإثبات الغارب، ورشح بذكر الاقتعاد (4). قوله: (ونكر (هدى) للتعظيم). قال أبو حيان: وقد يكون ثم صفة محذوفة، أي على هدى، أيّ هدى. قال: وحذف الصفة لفهم المعنى جائز (5). قوله: (لا يبلغ كنهه) قال: الشريف: أي نهايته. وفي الأساس: سله عن كنه الأمر، أي حقيقته وكيفيته، واكتنه الأمر بلغ كنهه

وغايته (1). قوله: (ولا يقادر قدره). الأساس: قدرت الشيء أقدره، وهذا شيء لا يقادر قدره، وفلان يقادرني، أي يطلب مساواتي، وتقادر الرجلان طلب كل واحد مساواة الآخر (2). قوله: (ومثله (3) قول الهذلي: فلا وَأَبِي الطَّيرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى. . . على خَالدٍ لقد وقعتَ على لَحْمٍ). هو لأبي خراش خويلد بن مرة الهذلي، يرثي خالد بن زهير. وقال الطيبي: كان الزمخشري يقول: ما أفصحك يا بيت! والمربة اللازمة، من أَرَبَّ بالمكان إذا أقام به. ولقد كان خالد هذا رفيع الشأن، علِيَّ القدر، فاستعظم لحمه حيث نكره، وبسبب تعظيمه اللحم استعظم الطير الواقعة عليه، حيث أقسم بأبيها، والإقسام بالشيء دليل تعظيمه، وكذلك الكنى تدل على التعظيم. ثم إن جعلت " لا " زائدة كان جواب القسم " لقد وقعت " وفيه إشعار من حيث الالتفات بالتعظيم، ومن حيث أن سبب الإقسام بها كونها واقعة على ذلك اللحم فيه تعظيم الشيء بنفسه، وإن لم تجعل " لا " زائدة، بل ردا لكلام سابق، أي ليس الأمر كما زعمت وحق أبي الطير، يكون جواب القسم ما دلت عليه " لا " ثم ابتدأ بإنشاء قسم آخر، أي والله لقد وقعت على لحم، كقوله تعالى (لا أقسم بيوم القيامة) فيكون صفة للطير على تأويل الطير المقول في حقه ذلك (4). وقال الشيخ أكمل الدين: الاستشهاد بقوله " على لحم " أي أَيِّ لحم، وأبو الطير إما أن يريد به خالدا، وهو الأظهر، لوقوعها عليه، كما يقال: أبو التراب، وإما أن يريد أبا ذلك النوع من الطير؛ لأنه لما استعظمها بوقوعها عليه استعظم أباها؛ لأنه أصلها وأقسم به، أو الطير نفسها، والأب مقحم، وصدر القسم ب " لا " كما في (لا أقسم) ويجوز أن يكون بأبي الشاعر، ومعناه وحق أبي، وحق الطير، فيكون الطير

مجروراً بحذف حرف القسم، كما في قولهم: اللهِ لأفعلنّ (1). وقال الشيخ سعد الدين الشعر في " ديوان الهذليين " هكذا: لَعَمْرُ أبي الطير المربّة غدوة. . . على خالد لقد علقنَ على لحم فلا وأبي لا تأكلُ الطيرُ مثلَهُ. . . عَشِيَّةَ أمسى لا يَبِيْنُ مِن السِّلْمِ برفع " الطير المربة " على أنه فاعل فعل يفسره " لقد علقن " أي لقد علقت الطير (2). انتهى. قلت: والذي رأيته أنا في " ديوان هذيل " ثلاثة أبيات لا رابع لها، وهي: لعمر أبي الطير الموبة غدوة (3). . . على خالد لقد وقعت على لحم وإئكِ (4) لو أبصرتِ مَصْرَعَ خالدٍ. . . بِجَنْبِ السِّتَارِ بَيْنَ أَبرقَ فالحَزْمِ لأَيْقَنْتَ أَنَّ البكرَ غيرُ رَزِيَّةٍ. . . ولا النَّابَ، لا ضَمَّتْ () 5 يداكِ على غُنْمِ (6) قال ابن عبد البر في " الاستيعاب ": أبو خراس كان من فرسان العرب، وكان يعدو على قدميه فيسبق الخيل، فحسن إسلامه، ومات في زمن عمر بن الخطاب من نهش حية (7). قوله: (وقد أدغمت النون في الراء بغنة، وبغير غنة) قال الشيخ سعد الدين: هذا بحسب العربية، وأما بحسب الرواية عن القراء فالأكثر أنه لا غنة مع الراء واللام (8). وقال الشريف: المشهور عند القراء أن لا غنة مع الراء واللام، وقد وردت عنهم في بعض الراويات الغنة معهما، ولا نزاع في جوازها بحسب العربية (9). قوله: (كرر فيه اسم الإشارة) إلى آخره

قال الشريف: محصول ما ذكره أن تكرير (أولئك) أفاد اختصاصهم بكل واحد منهما على حدة، فيكون كل منهما مميزا لهم عمن عداهم، ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع، فيكون هو المميز، لا كل واحد (1). قوله: (من الأثرتين) بفتح الهمزة والمثلثة، أي الاختصاصين. قوله: (ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين) إلى آخره. قال الشريف: يعني أن (على هدى) و (المفلحون) مع كونهما متناسبتين معنيان مختلفان مفهوما ووجودا؛ فإن الهدى في الدنيا، والفلاح في العقبى، وإثبات كل منهما أمر مقصود في نفسه، والجملتان المشتملتان عليهما المتحدتان في المخبر عنه واقعتان بين كمالي الاتصال، والانفصال، فلذلك أدخل العاطف بينهما. وأما (كالأنعام) و (الغافلون) فهما وإن اختلفا مفهوما فقد اتحدا مقصودا؛ إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة، فالجملة الثانية هاهنا (2) المشاركة للأولى في المحكوم عليه مؤكدة لها، فلا مجال للعاطف بينهما (3). قوله: (و (هم) فصل يفصل الخبر عن الصفة، ويؤكد النسبة) قال بعض أرباب الحواشي: الأول: مذهب البصريين، وهو تفصيل لكونه فصلا؛ لأنه فصل بين كونه خبرا أو صفة. والثاني: مذهب الكوفيين، وعبروا عنه بكونه عمادا؛ لأن الخبر اعتمد على المبتدإ، وعلى كل واحد من المذهبين إشكال. أما الأول فقد جاء الفصل حيث استحالت الصفة في نحو (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) [سورة المائدة 117] و (كانوا هم الظالمين) [سورة الزخرف 76] (تجدوه عند الله هو خيرا) [سورة المزمل 20] والضمير لا يوصف. وأما الثاني: فلأنه مبني على أنه لا يجوز أن يقال: زيد هو العالم أبوه، وهو ممنوع لا يثبت بمجرد الدعوى. انتهى. وقال الشيخ علم الدين السخاوي في " شرح الأحاجي ": إن كان الفصل إنما

سمي فصلا لأنه يفصل بين الخبر والصفة فليس هو في نحو: كان زيد هو خيرا منك فصلا؛ لأنه لا ريبة في أن ما بعده لا يكون صفة. والذي يقال في هذا: أن هذا الضمير المتوسط بين المبتدإ والخبر دخل لأمرين: أحدهما: الفصل بين ما يكون صفة أو خبرا. والثاني: التأكيد قال الشيخ أبو العلاء (1): ولو قيل: دخل ليعلم أن الذي بعده يصلح أن يكون نعتا لكان وجها حسنا (2). قوله: (أو مبتدأ) قال الشريف: قسيم لقوله: " فصل " (3) قو له: (و (المفلحون) خبره) قال الطيبي: فعلى هذا تكون الجملة من باب تقوي الحكم، أو من التخصيص على نحو هو عارف (4). قوله: (و (المفلحون) بالحاء والجيم الفائزون (5) بالمطلوب) مراده تفسير اللفظ من حيث اللغة، وإلا فالقراءة بالحاء، لا غير، ولم ترد قراءة شاذة بالجيم. قال في " الصحاح " في باب الجيم: الفلج الظفر والفوز، وقد فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً (6). وقال في باب الحاء: الفلاح الفوز والبقاء والنجاة (7).

قوله: (نحو فلق) أي شق (وفلذ) أي. قطع (وفلا) يقال: فلوته بالسيف، أي ضربته به. قوله (وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة. المفلحين وخصوصياتهم) قال الطيبي: فالتعريف على الأول للعهد، وعلى الثاني للجنس، فعلى الأول هو قصر المسند على المسند إليه، فالفلاح لا يتعدى إلى غيرهم، وعلى الثاني عكسه، فلا يتعدون من الفلاح إلى صفة أخرى (1). وقال الشريف: اللام على الأول لتعريف العهد الخارجي، ولا حاجة إلى اعتبار قصر، كما إذا قلت: الزيدون هم المنطلقون، إشارة إلى المعهودين بالانطلاق، ولك أن تعتبر كلمة (هم) فصلا، وتقصد قصر المسند على المسند إليه إفرادا، نفيا لما عسى أن يتوهم من أن المعهودين بالفلاح في الآخرة يندرج فيهم غير المتقين أيضاً. وعلى الثاني: لتعريف الجنس المسمى بتعيين (2) الحقيقة. ثم إن المعرّف بلام الجنس قد يقصد به تارة حصره في المبتدإ إما حقيقة، أو ادعاء، نحو زيد الأمير، إذا انحصرت الإمارة فيه، أو كان كاملا فيها، كأنه قيل: زيد كل الأمير، وقد يقصد به أخرى أن المبتدأ هو عين ذلك الجنس ومتحد به، لا أن ذلك الجنس مفهوم مغاير للمبتدإ منحصر فيه على أحد الوجهين، فهذا معنى آخر للخبر المعرّف بلام الجنس غير الحصر (3). قوله: (ورد بأن المراد بالمفلحين) إلى آخره قال الطيبي: الأحسن في الجواب أن المراد بالمتقين المجتنبون للشرك، فيدخل العاصي في هذا الحكم العام. قال: فإن قلت: كيف جاز أن يكون العاصي مفلحا؟ قلت: كما جاز أن يكون مصطفى في قوله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا

قوله: (ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين، كما عطف في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم)

مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) [سورة فاطر 32] * * * قوله: (ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين، كما عطف في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) [سورة الانفطار 13، 14] لتباينهما في الغرض) إلى آخره. نوزع فيه بأن المقصود من الأولى بيان انتفاع المتقين بالكتاب، واهتدائهم به اللازم عنه أنهم يؤمنون (1)، ومن الثانية بيان عدم انتفاعهم به، وعدم اهتدائهم المعبر عنه باستواء الإنذار وعدمه اللازم عنه أنهم لا يؤمنون، فاتحد الغرض منهما، وهو بيان الحال، كما اتحد في آيتي (إن الأبرار. . . وإن الفجار) غرض بيان المآل. وأجاب الشيخ سعد الدين بأن الحكم على الكفار بذلك لا يقتضي كون الكتاب بهذه المثابة غرضا مسوقا له الكلام (2). قوله: (وإنَّ من الحروف التي شابهت الفعل) إلى آخره قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": إنما عملت " إنَّ وأخواتها " لشبهها بالأفعال، وذلك من وجوه: منها: اختصاصها بالأسماء، كاختصاص الأفعال بالأسماء. ومنها: أنها على لفظ الأفعال؛ إذ كانت على أكثر من حرفين، كالأفعال. ومنها: أنها مبنية على الفتح، كالأفعال الماضية. ومنها: أنها يتصل بها المضمر المنصوب، ويتعلق بها كتعلقه بالفعل في نحو " ضربك " و " ضربه " و " ضربني " فلما كان بينها وبين الأفعال ما ذكرنا من المشابهة كانت داخلة على المبتدإ والخبر، وهي مقتضية لهما جميعا. ألا ترى أَنَّ " إنَّ " لتأكيد الجملة، و " لكن " لاستدراك الخبر، فلا بد من الخبر لأنه المستدرك، ولابد من المبتدإ ليعلم خبر من قد أستدرك، و " ليت " في قولك: ليت زيدا قادم تمنّ لقدوم زيد، و " لعلّ " ترج، و " كأنَّ " تقتضي مشبها ومشبها به. فلما اقتضتهما جميعا جرت مجرى الفعل المتعدي، فلذلك نصبت الاسم، ورفعت الخبر، وشبهت من الأفعال بما قدم مفعوله على فاعله، فقولك: إن زيدا قائم، بمنزلة ضرب زيدا رجل، وإنما قدم المنصوب فيها على المرفوع فرقا بينها

وبين الفعل، فالفعل من حيث كان الأصل في العمل جرى على سنن قياسه في تقدم المرفوع على المنصوب؛ إذ كانت رتبة الفاعل متقدمة على المفعول، وهذه الحروف لما كانت في العمل فروعا على الأفعال، ومحمولة عليها جعلت دونها بأن قدم المنصوب فيها على المرفوع حَطًّا لها عن درجة الأفعال؛ إذ تقديم المفعول على الفاعل فرع، وتقديم الفاعل أصل. وذهب الكوفيون إلى أن هذه الحروف لم تعمل في الخبر الرفع، وإنما تعمل في الاسم النصب، لا غير، والخبر مرفوع على حاله، كما كان مع المبتدإ. وهو فاسد؛ لأن الابتداء قد زال، وبه وبالمبتدإ كان يرتفع الخبر، فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولا فيه، ومع ذلك فإنا وجدنا كل ما عمل في المبتدإ عمل في خبره، نحو كان وأخواتها، وظننت وأخواتها، لما عملت في المبتدإ عملت في الخبر، وليس فيه تسوية بين الأصل والفرع؛ لأنه قد حصلت المخالفة بتقديم المنصوب على المرفوع. انتهى (1) قوله: (وتذكر في معرض الشك) وهو معنى قول الشيخ عبد القاهر إنما تذكر في الخبر حيث كان للمخاطب ظن بخلاقه (2). قوله: (وتعريف الموصول إما للعهد) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: يريد أن تعريف " الذي " كتعريف ذي اللام، قد يكون للعهد، وقد يكون للجنس (3). قوله: (والمراد به ناس بأعيانهم) إلى آخره قلت: أخرج ابن جرير وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أن المراد به الكفار من اليهود خاصة (4). وهو الظاهر بقرينة إيلائه المؤمنين من أهل الكتاب، ولأن السورة مدنية، وأكثر الخطاب فيها لليهود، وقد خوطب كفار قريش بمثل ذلك في سورة يس في قوله

(وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [سورة يس 10]. أخرج أبو نعيم في " دلائل النبوة " عن ابن عباس أنها في كفار قريش (1). وقد جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن أنه حيث ذكر في السور المكية أمرا ذكر في المدنية مثله، لأجل أهل الكتاب، كما ذكرت ولادة يحيى وعيسى في سورة مريم، وهي مكية، ثم دكرت في سورة آل عمران لأنها مدنية لأجل أهل الكتاب. قوله: (صمم) في الصحاح: صمم في السير، أي مضى (2) قوله: (وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به) هو حد الإمام فخر الدين ذكره بعد قوله: إن المتكلمين صعب عليهم حد الكفر (3). وخرج بالضرورة ما علم بالاستدلال، أو بخبر الواحد، ولهذا لم يكفر أحد بذنب (4)، ولا ببدعة. وقال تلميذه الزنجاني (5): هذا الحد غير واف بالمقصود إذ الإنكار يختص

بالقول، والكفر يحصل بالفعل، وإنكار ما ثبت بالإجماع قد يخرج عن الضروريات. وأيضاً فإنا قد نكفر المجسم والخارجي، وبطلان قولهما ليس من الضروريات، وكذا الطاعن في عائشة رضي الله عنها، وبراءتها ثبتت بالقرآن (1)، والأدلة اللفظية غير موجبة للعلم (2)، فيخرج عن الضروريات. وأقول: الجواب عن الفعل قد تولاه الإمام بنفسه (3)، وأشار إليه المصنف بقوله: (وإنما عُدَّ لُبْسُ الغيار) إلى آخره. وخروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع، وكذا بطلان قول المجسم. وأما الخارجي فإنا لا نكفره ما لم يخالف قاطعا، والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن، وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها. قوله: (وسواء بمعنى (4) الاستواء، نعت به كما نعت بالمصادر)

قال الشريف: أي كما تجري المصادر على ما اتصف بها كذلك سواء يجري على ما يتصف بالاستواء، أي يجعل وصفا له معنويا، إما نعتا نحويا، كما في (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) [سورة آل عمران 64] وإما غيره، كما في الآية (1). الطيبي: روي عن صاحب " الكشاف ": " الوصف بالمصدر، نحو رجل صوم، وعدل على وجهين: أن يقدر مضاف محذوف، أي ذو صوم، وذو عدل، وأن يجعل أنه تجسم من الصوم والعدل مبالغة، والمبالغة هاهنا أن الإنذار وعدم الإنذار نفس السواء " (2). قوله: (رفع بأنه خبر إنَّ، وما بعده مرتفع به على الفاعلية) هذا أحد الأوجه في إعراب مثل هذا التركيب، وحاصل الأوجه فيه عشرة، ذكرتها في " أسرار التنزيل " (3). وقد قدح أبو حيان في هذا الوجه بأنَّ في وقوع الجملة فاعلاً خلافا، ومذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسما مفردا، أو ما هو في تقديره (4). قوله: (أو بأنه خبر لما بعده، بمعنى إنذارك وعدمه سيان عليهم) هذا الوجه رجحه الإمام ووجهه. بأن المراد وصف الإنذار وعدمه بالاستواء، وما كان وصفا فهو بالخبرية أليق (5). ووجهه غيره بأن سواء اسم غير صفة، فالأصل فيه أن لا يعمل، وأيضا المقصود من الوصف بالمصادر المبالغة في شأن مَحَالِّها، كأنها صارت عين ما قام بها، فمعنى قولنا: زيد عدل أنه عين العدل، كأنه تجسم منه، وإذا أولت بمعنى اسم الفاعل كمستو مثلا فات ذلك المقصود، وكذا (6) إن حملت على حذف المضاف. أورده الشريف (7).

وقال ابن يعيش في " شرح المفصل ": الفعل هنا في تأويل المصدر، والمعنى سواء عليهم الإنذار، وعدم الإنذار، والإنذار وما عطف عليه مبتدأ في المعنى، وسواء الخبر، وقد تقدم، وسواء مصدر في معنى اسم الفاعل، والتقدير مستو، ألا ترى أن موضع الفائدة الخبر، والشك إنما وقع في استواء الإنذار وعدمه، لا في نفس الإنذار، ولفظ الاستفهام لا يمنع من ذلك؛ إذ المعنى على اليقين والتحقيق، لا على الاستفهام، وإنما الهمزة هنا مستعارة للتسوية، وليس المراد منها الاستفهام، وإنما جاز استعارتها للتسوية لاشتراكهما في معنى التسوية ألا ترى أنك تقول في الاستفهام: أزيد عندك أم عمرو، وأزيد أفضل أم خالد، والشيآن اللذان يسأل عنهما قد استوى علمك فيهما. ثم تقول في التسوية: ما أبالي أفعل أم لم يفعل، فأنت غير مستفهم وإن كان اللفظ للاستفهام، وذلك لمشاركته الاستفهام في التسوية؛ لأن ما أبالي أفعل أم لم يفعل، أي هما مستويان عندي في علمي، كما كان في الاستفهام، هذا هو التحقيق من جهة المعنى (1). وقال أبو حيان: إنما أخبر هنا عن الجملة إن جعلت فاعلاً بسواء، أو مبتدأ وإن لم تكن مصدرة بحرف مصدري حملا على المعنى. قال: وكلام العرب منه ما طابق اللفظ المعنى، قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب. ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على " علمت " وإن كان ليس ما بعد " علمت " استقهاما، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية، نحو: عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشييْبَ عَلَى الصِّبَا (2). . . . . . . . . . . . . . . . .. إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت

الإضافة. انتهى (1). * * * تنبيه: منع الأصبهاني هذا الوجه ألبتة، ووجهه بأن الجملة لا تقع مبتدءا قط، وأن الاستفهام لا يتقدم خبره عليه. وقال ابن يعيش: قال قوم: سواء مبتدأ، والفعلان بعده كالخبر؛ لأن بهما تمام الكلام وحصول الفائدة، فكأنَّهم أرادوا إصلاح اللفظ، وتوفيته حقه (2). قوله: (أما لو أطلق وأريد به اللفظ) في " شرح اللب " للسيد (3): إن الإسناد إلى الفعل مرادا لفظه نوعان: تارة يسند إليه باعتبار اللفظ، مع عدم اعتبار المعنى، كقولهم: زعموا مطية الكذب، أي هذا اللفظ مطية الكذب. وتارة يسند إليه باعتبار اللفظ، مع اعتبار معناه، كقوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا) أي إذا قيل لهم هذا القول. انتهى. قوله: (أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع، فهو كالاسم في الإضافة) قال ابن السراج في " الأصول ": الأصل والقياس أن لا يضاف اسم إلى فعل، ولا فعل إلى اسم، ولكن العرب اتسعت في بعض ذلك، فخصت أسماء الزمان بالإضافة إلى الأفعال؛ لأن الزمان مضارع للفعل؛ لأن الفعل له بني، وصارت إضافة الزمان إليه كإضافته إلى مصدره؛ لما فيه من الدلالة عليهما (4). قوله: (كقوله تعالى (واذا قيل لهم آمنوا) مثال لما أريد لفظه (5). (وقوله: (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) [سورة المائدة 119]. مثال لما أريد به مطلق الحدث، ففيه لف ونشر مرتب.

قوله: (وقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) هو مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه. قال أبو عبيد في " كتاب الأمثال ": من أمثالهم: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. كان الكسائي يدخل فيه " أن " " والعامة لا تذكر " أن " والوجه ما قاله الكسائي، وكان يرى التشديد في الدال، فيقول: المُعَيْدِّيِّ ويقول: إنما هو تصغير رجل من مَعَدٍّ. قال أبو عبيد: ولم أسمع هذا من غيره. قال: وأخبرني ابن الكلبي أن هذا المثل ضرب للصقعب بن عمرو النهدي، قاله النعمان بن المنذر، وهذا على معنى من قال: هو قضاعة ابن معد (1). وأما المفضل (2) فحكي عنه أنه قال: المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه، فقال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فأرسلها مثلا، فقال له شقة: أبيت اللعن، إن الرجال ليسوا بجزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فذهب مثلا، وأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سماه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة (3). قال ابن السكيت: هو تصغير مَعَدِّيِّ (4). وقال الميداني في " الأمثال ": يروى تسمع، وأن تسمع، ولأن تسمع. قال: وعدي تسمع بالباء؛ لتضمنه معنى تحدث (5). وفي " شرح اللب " للسيد: وقع الإسناد في هذا المثل إلى الفعل، فإما أن يحمل على حذف " أن " أي أن تسمع، فيكون الإسناد في الحقيقة إلى المصدر، دون الفعل، أو على تنزيل الفعل منزلة المصدر من غير تقدير، أي سماعك

بالمعيدي، وذلك لأن الفعل يدل على المصدر والزمان، فجرد في بعض المواضع لأحد مدلوليه. انتهى. وقد ضمن بعض الأدباء هذا المثل في بيت، فقال: لَعَمْرُ أَبِيْكَ تَسْمَعُ بِالمُعَيْدِّيَّ. . . بَعِيْدِ الدَّارِ خَيْرٌ أَنْ تَرَاْهُ (1). قوله: (وإنما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل، لما فيه من إيهام التجدد) مأخوذ من كلام الإمام فخر الدين حيث قال: فائدة العدول إفادة أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت، وذلك يفيد حصول اليأس، وقطع الرجاء منهم الذي هو مقصود الآية، والمصدر لا يفيد ذلك (2). قوله: (وحسن دخول الهمزة وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء) إلى آخره. قال ابن يعيش: قد أجرت العرب أشياء اختصوها على طريقة النداء؛ لاشتراكهما في الاختصاص، فاستعير لفظ أحدهما للآخر، من حيث شاركه في الاختصاص، كما أجروا التسوية مجرى الاستفهام إذ كانت التسوية موجودة في الاستفهام، فكما جاءت التسوية بلفظ الاستفهام لاشتراكهما في معنى التسوية كذلك جاء الاختصاص بلفظ النداء لاشتراكهما في معنى الاختصاص وإن لم يكن منادى. والذي يدل أنه غير منادى أنه لا يجوز دخول حرف النداء عليه، لا تقول: أنا أفعل كذا يا أيها الرجل، إذا عنيت نفسك، ولا نحن نفعل كذا يا أيتها العصابة (3). انتهى. قلت: ومن هاهنا تعلم أن قول المصنف: (كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) غير مطابق؛ لأن باب الاختصاص لم تجرد فيه حروف النداء، بل لا وجود لحروف النداء فيه أصلا، وإنما الأسماء فيه شابهت المنادى، وهي التي جردت. وقد تؤل العبارة على أنه أراد بالحروف الكلمات الجارية في الاختصاص،

وهي الأسماء التي صورتها صورة المنادى، لا الحروف التي هي " يا " وأخواتها. وعبارة " الكشاف ": " جرى هذا على صورة الاستفهام، ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء، ولا نداء " (1) وهي في غاية الحسن. وأصل هذا قول سيبويه: جرى هذا على طريقة الاستفهام، كما جرى على طريقة النداء قولهم: اللهم اغفر لتا أيتها العصابة، ولا استفهام في الحقيقة، ولا نداء (2). وقال ابن الحاجب: اعلم أن في كلامهم جملا لمعان في الأصل، ثم نقلوها إلى معان أخر، مع تجريدها عن أصل معناها، وهذا في أبواب: منها: قولهم: سواء عليَّ أقمت أم قعدت، سؤال عن تعيين مع التسوية بينهما، ثم نقل إلى الخبر بمعنى التسوية، من غير سؤال. ومنها قولهم: أيها الرجل أصله تخصيص المنادى بطلب إقباله عليه، ثم نقل إلى معنى الاختصاص مجردا عن معنى طلب الإقبال في قولك: أما أنا فافعل كذا أيها الرجل (3). قال صاحب " الانتصاف ": وحاصل ذلك استعمال الحرف في أعم معناه، والهمزة المعادلة لـ " أم " موضوعة في الأصل للاستفهام عن أحد متعادلين في عدم التعيين فنقلت إلى مطلق المعادلة وإن لم تكن استفهاما، والنداء في الأصل لتخصيص المنادى بالدعاء، فنقل إلى مطلق التخصيص، ولا نداء، كتخصيص الدابة بذوات الأربع وإن كانت في الأصل لكل ما دبَّ ودرج (4). وقال بعض أرباب الحواشي: تلخيصه أن النداء فيه تنبيه للمنادى (5) وإقبال عليه، والاستفهام فيه استخبار وإشعار باستواء الأمرين في المستفهم عنه، أهو حاصل أم لا، فقد انسلخ في قولنا: اللفم اغفر لنا أيتها العصابة أحد المعنيين، وهو التنبيه؛ لأن الإنسان لا ينبه نفسه، وبقي معنى الإقبال على نفسه، كما انسلخ معنى الاستخبار في قوله (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) وبقي معنى الاستواء،

فهذا معنى تشبيه سيبويه لإحدى المسألتين بالأخرى. وقال صاحب " التقريب ": في هذا نظر؛ لأنهما لو كانا للاستواء لما أخبر عنه بسواء، فلعل المراد أنهما كانا للاستفهام عن مستويين، فجردا عن الاستفهام، بقي أنهما للمستويين، ولا تكرار لإدخال سواء عليه؛ لأن المعنى أن المستويين في العلم مستويان في عدم النفع، وإنما جردا عن الاستفهام ليقع فاعلاً لسواء؛ لأن الاستفهام يمنع ذلك لصدريته، ولكونه لأحد الأمرين، والاستواء يقتضي متعددا، فبالتجريد ارتفع المانعان (1). قوله: (والإنذار التخويف) زاد ابن عطية: ولا يكاد يكون إلا في تخويف يسع زمانه للاحتراز، فإن لم يسع (2) زمانه للاحتراز كان إشعارا، ولم يكن إنذارا (3). قوله: (وقرئ أأنذرتهم " بتحقيق الهمزتين، وتخفيف الثانية بين بين) زاد في " الكشاف ": " والتحقيق أعرب وأكثر " (4). قوبه: (وقلبها ألفا، وهو لحن) إلى آخره تابع فيه صاحب " الكشاف " (5) وأخطأ في ذلك؛ لأنه ثابت في السبعة، لأنها رواية لورش (6). قال الكواشي (7): ما زعمه الزمخشري فيه نظر؛ لأن من يقلبها ألفا يشبع الألف

إشباعا زائدا على مقدار الألف الخارجة عادة، ليكون الإشباع فاصلا بين الساكنين، وهما الألف المقلوبة والنون (1). قال الطيبي: وذكر ابن الحاجب في وجه من قرأ (محياي) بإسكان الياء وصلا هذا المعنى (2)، وقيل: طريق التخفيف ليس بخطإ، وأنشد للفرزدق (3): . . . . . . . . . . . فَارْعَيْ فَزَاْرَةُ، لا هَنَاكِ المَرْتَعُ (4) أي هَنَاكِ وقال حسان: سَألَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَة (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. قال الطيبي: وإذا ثبت مثله في كلام الفصحاء، ونقل عمن ثبتت عصمته من الغلط وجب القبول. وأما القراء فهم أعدل من النحاة فوجب المصير إلى قولهم. قال: فإن قلت: هذا طعن فيما هو من القراءة السبعة الثابتة بالتواتر، وهو كفر. قلت: ليس بكفر؛ لأن المتواتر ما نقل بين دفتي المصحف الإمام، وهذا من قبيل الأداء، ونحوه المد، والإمالة، وتخفيف الهمزة بين بين (6). انتهى. وذكر مثله الشيخ أكمل الدين، والشريف (7). وقال أبو حيان: هي قراءة ورش، وهي صحيحة متواترة لا تدفع ببعض المذاهب؛ لأن منع الجمع بين ساكنين على غير حده إنما هو مذهب البصريين (8). قوله (وبحذف الاستفهامية، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها).

قال الطيبي: القراءتان شاذتان (1). وقال ابن الجني في " المحتسب ": حذف الهمزة قراءة ابن محيصن (2)، وهو للتخفيف كراهة اجتماع الهمزتين، والقرينة مجيء " أم " وقد حذفت في غير موضع. قال: فإن قيل: لعل المحذوف في الآية همزة أفعل. قلنا: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام، فيجب أن يحمل هذا عليه، وأما همزة أفعل في الماضي فما أبعد حذفها (3). وقال الشيخ سعد الدين في القراءة الثانية: يحتمل أن يكون ذلك مع إقرار همزة أنذرتهم، ومع حذفها حتى تكون القراءة عليهم أنذرتهم، أو عليهم نذرتهم. قال: ولا وجود لواحدة من القراءتين (4). وقال الشيخ أكمل الدين: إلقاء حركة حرف الاستفهام لم يقرأ به أحد (5). وقال الشريف: هذه القراءة عليهمَ نذرتهم بفتح الميم وسكون النون بلا همزة أصلا. وأما القراءة بفتح الميم والهمزة معا فهي مع كونها غير مروية عن أحد مخالفة للقياس، وموجبة للثقل (6). قوله: (لا يؤمنون) جملة مفسرة لإجمال ما قبلها) قال أبو حيان: لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه (7). قوله: (فلا محل لها) سئل الشيخ شمس الدين بن أبي الفتح البعلي (8)، تلميذ الشيخ جمال الدين

ابن مالك عن معنى قولهم: جملة لها محل لها من الإعراب، وجملة لا محل لها، فألَّف في ذلك كراسة. وحاصل ما قاله ابن السراج في " الأصول ": أن معنى ذلك، أي لو وقع موقع الجملة اسم مفرد لكان مرفوعا مثلا. قوله: (أو حال مؤكدة، أو بدل عنه (1)، أو خبر إنّ) عبارة " الكشاف ": " إما جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبر لـ " إن " (2) ولم يذكر الحالية، فإما أن تكون عبارة المصنف كذلك، وتحرفت من النساخ، فكتبوا لفظة " حال " موضع لفظة " جملة " وإما أن يكون لا تحريف، فإن الحال منقول أيضاً. قال أبو حيان: يحتمل (لا يؤمنون) أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبرا بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف، أي هم (لا يؤمنون) وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال، وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب، فتكون جملة تفسيرية، أو تكون جملة دعائية، وهو بعيد (3). انتهى. وقال الشيخ أكمل الدين في وجهي " الكشاف ": منهم من رجح الوجه الأول؛ لأن حسن الاعتراض باعتبار أن من حقه أن يساق مساق التأكيد، لما عسى أن يختلج في وهم وإن تم المقصود دونه لفظا ومعنى، وليس ذلك فيما نحن فيه؛ لأنه أقوى في الإبانة عما سيق له الكلام من قوله " لا يؤمنون " على ما لا يخفى. ومنهم من رجح الثاني؛ لأن فيه التأكيد والاهتمام بشأنها؛ لتخللها في أثناء الكلام، وفيه معنى العلية. قيل: ولم يذكر أن يكون خبرا بعد خبر؛ لأنه يذهب بالفخامة (4). انتهى.

وقال الشريف: جعل (لا يؤمنون) تأكيدا وبيانا للاستواء في عدم الاهتداء أولى من أن يجعل خبرا، وما قبله اعتراضا؛ لأن ما تقدمه أقوى وأظهر منه في إفادة ما سيق له الكلام، فبالحري أن تكون عمدة فيه، لا معترضة مستغنى عنها. فإن جعل (لا يؤمنون) خبرا كان له محل من الإعراب، وكذا إن جعل بيانا للجملة قبله إن أجري مجرى التوابع. هذا إذا كان ما قبله جملة، وإن قدر أنه اسم فاعل مع فاعله تعين أن يكون (لا يؤمنون) تقريرا وبيانا لمضمونه؛ لأن الاعتراض عنده لا يكون إلا جملة لا محل لها من الإعراب (1). انتهى. ومن هنا يعلم أن التأكيد الذي ذكره صاحب " الكشاف " غير الحال المؤكدة، وغير التفسير اللذين ذكرهما المصنف، بل هو الجاري مجرى التوابع في التأكيد والبيان، فيكون له محل من الإعراب على حسب ما قبله، وهو الرفع، بخلاف ما ذكره المصنف فإنه لا محل له على التفسير، ومحله النصب على الحال. قوله: (والجملة قبلها اعتراض) قال الطيبي: الفرق بين المعترضة والمؤكدة - على أن المعترضة أيضاً مؤكدة - هو أن المعترضة أحسن موقعا وألطف مسلكا، وفيه مع التأكيد الاهتمام بشأنها؛ لتخللها بين الكلام (2). قوله: (سيما الأمثال) قال ابن يعيش في " شرح المفصل ": لا يستثنى ب " سيما " إلا ومعه جحد، لو قلت: جاءني القوم سيما زيد لم يجز حتى تأتي ب " لا ". قال: ولا يستثنى ب " لا سيما " إلا فيما يراد تعظيمه (3). وقال ابن هشام في " المغني ": " سِيٌّ " من " لا سِيِّمَا " اسم بمنزلة " مثل " وزنا ومعنى، وعينه في الأصل واو، وتشديد يائه، ودخول " لا " عليه، ودخول الواو على " لا " واجب. قال ثعلب: من استعمله على خلاف ما جاء في قوله:

قوله: (ختم الله على قلوبهم)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَلا سِيَّمَا يَومٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ (1) فهو مخطئ. ويجوز في الاسم الذي بعد " ما " الجر على الإضافة، و " ما " زائدة بينهما، والرفع على أنه خبر لمحذوف، و " ما " موصولة، أو نكرة موصوفة بالجملة، أي " ولا مثل الذي هو " أو " ولا مثل شيء هو " فإن كان نكرة جاز نصبه أيضاً على التمييز، و " ما " كافة عن الإضافة (2). * * * قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) تعليل للحكم السابق، وبيان ما يقتضيه) قال الطيبي: تقريره أن الآية جارية مجرى السبب الموجب لكون الهدى لا ينفع فيهم، فإنه تعالى لما أظهر عليهم تصميمهم على الكفر بقوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) اتجه لسائل أن يقول: فما بالهم كذلك؟ فأوقع قوله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) إلى ساقته جوابا منطويا على بيان الموجب. وقد بولغ في المعنى حيث جعل الختم على القلوب ليمنع من الفكر في الدلائل المعقولة الصرفة، وعلى السمع لأن لا ينفذ في القلوب بسببه الدلائل المصنوعة، وجعل على البصر الغشاوة لأن لا يصل إليها الدلائل المبصرة، فيستدلوا بها على وجود منشئها، فسد الطريق عليهم من كل وجه (3). قوله: (والختم الكتم) عبارة " الكشاف ": " الختم والكتنم أخوان " (4) قال القطب: أي في الاشتقاق الأكبر؛ لقرب اللفظ واشتباك المعنى؛ لأن في الختم - وهو ضرب الخاتم على الشيء - معنى الكتم، فإن المختوم مكتوم (5). قال الشيخ أكمل الدين - بعد إيراده -: وهو كلام صحيح، لكنه بعيد المناسبة، فإن الكتم فيما نحن فيه لا يصلح تفسيراً للختم (6). الشريف: " أخوان " أي متشاركان في العين واللام، ومتناسبان في المعنى (7).

قوله: (سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ لأنه كتم له، والبلوغُ آخره، نظرا إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه) مأخوذ من كلام الراغب حيث قال: الختم والطبع الأثر الحاصل عن نقش شيء، ويتجوز به يقال: ختمت كذا في الاستيثاق من الشيء والمنع منه، نظرا إلى ما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، ويقال ذلك ويعنى بلوغ آخر الشيء نظرا إلى أنه آخر فعل في إحراز الشيء، ومنه قيل: ختمت القرآن. انتهى (1). وعلم بذلك أن قول المصنف: (والبلوغ آخره) معطوف على الاستيثاق، عطف قسيم على قسيم. قوله: (والغشاوة فِعالةٍ، من غَشَّاه إذا غَطَّاه، بنيت لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة). قال الزجاج: كل ما اشتمل على الشيء مبني على " فِعالةِ " نحو العمامة والقلادة، وكذلك أسماء الصناعات، فإن الصناعة مشتملة على كل ما فيها، نحو الخياطة والقصارة، وكذلك ما استولى على اسم، فاسم ما استولى عليه الفِعالةِ نحو الخلافة والإمارة (2). قوله: (ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة) هي عبارة " الكشاف " (3) وهو أحد مسالك أهل السنة، يجعلون إحداث الهيئة الآتية فعل الله حقيقة، وتسميتها ختما وتغشية مجاز (4).

والأقوى أنهما ختم وتغشية حقيقيتان، والأحاديث صريحة في ذلك: منها: ما أخرج البزار (1) عن ابن عمر رفعه قال: " الطابع معلق بقائمة العرش، فإذا اشتكت الرحم، وعمل بالمعاصي، واجترئ على الله بعث الله الطابع فيطبع على قلبه، فلا يعقل بعد ذلك شيئا " (2) وكثير من هذه الأحاديث ونحوها يحملها من لم يتضلع من الحديث على المجاز والاستعارة. والأقوى - كما قاله البغوي في " شرح السنة " (3) وغيره - إجراؤها عنى الحقيقة؛ إذ لا مانع من ذلك، والتأويل خلاف الأصل، ولا يصار إليه إلا لمانع، وهو مفقود هنا. قوله: (وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم) إلى آخره مأخوذ من كلام الراغب حيث قال: قد قيل: للإنسان ثلاثة أنواع من الذنوب، يقابلها من الدنيا ثلاث عقوبات: الأَوَّلُ: الغفلة عن العبادات، وذلك يورث جسارة على ارتكاب الذنوب، وهو

المشار إليه بقوله: " إن المؤمن إذا أذنب أورث في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه " (1) والثاني: الجسارة على ارتكاب المحارم (2)، إما لشهوة تدعوه إليها، أو شرارة تحسنه في عينه فتورثه وقاحة، وهي المعبر عنها بالرين في قوله تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين 14]. والثالث: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهب باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون تلفت منه بوجه إلى الحق، وذلك يورثه هيئة تمرنه على استحسانه المعاصي، واستقباحه الطاعات، وهو المعبر عنه بالطبع والختم في قوله (وختم على سمعه وقلبه) [سورة الجاثية 23] و (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) [سورة النحل 108] وبالأقفال في قوله (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [سورة محمد 24] إلى غير ذلك (2) قوله: (وسماه على الاستعارة ختما وتغشية، أو مَثُّلَ قُلُوبَهُم) إلى آخره. قال الطيبي: لا يخلو هذا الكلام عن تسامح (4)؛ لأن ظاهره جعل التمثيل قسيما للاستعارة، ونوعا من المجاز لقوله أول الكلام: " ولا ختم على الحقيقة " فإن عنى بالتمثيل ما هو واقع على سبيل التشبيه، بأن يكون وجهه منتزعا من عدة أمور غير حقيقية، فهو ليس بمجاز، وإن أراد به الاستعارة التمثيلية، فهو ليس قسيما للاستعارة، بل هو قسم منها. قال: والجواب أن المراد الثاني، والعذر أن الاستعارة التمثيلية غلب عليها اسم التمثيل، ولا يكاد يطلق عليها اسم الاستعارة، وبقية الاستعارات يطلق عليها اسم الاستعارة مطلقا. وذلك أنهم إذا أرادوا أن بعض أنواع الجنس له مزية على سائر أنواعه

يخرجونهم من ذلك الجنس، ويجعلونه جنسا آخر. وإذا جعل هنا استعارة فهي مكنية عن قلوب متخلية، على صورة شيء مستوثق منه، ثم نسب إليها لازم ذلك الشيء، وهو الختم، بعد التخييل (1). قوله: (ناعية عليهم) أي مظهرة، من قولهم: فلان نعى على فلان ذنوبه، أي أظهرها وشهرها. قوله: (فذكروا وجوها من التأويل) ذكر المصنف منها سبعة، وزاد الإمام فخر الدين أوجها: منها: أنهم أعرضوا عن التدبر، ولم يصغوا إلى الذكر، وكان ذلك عند إيراد الله عليهم الدلائل، فأضيف ما فعلوا إلى الله؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده دلائله عليهم، كقوله في التوبة (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) [سورة التوبة 125] أي ازدادوا بها كفرا إلى كفرهم. ومنها: أن الختم على قلوب الكفار من الله تعالى، والشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر، ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق، كما يقول الرجل لصاحبه: أريد تختم على ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية أنه قد شهد بذلك، وحققه عليهم (2). قوله: (الثاني أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم) إلى آخره قال الطيبي: هو الذي عناه السكاكي بقوله: التشبيه التمثيلي متى فشا استعماله على سبيل الاستعارة سمي مثلا (3). والفرق بين هذا التمثيل والذي سبق في تقرير أهل السنة أن هناك الاستعارة واقعة في الختم فقط، على سبيل التبعية، وهنا الاستعارة في الجملة برأسها (4). قوله: (سال به الوادي) قال الميداني في " الأمثال ": يقال لمن وقع في أمر شديد (5).

قوله: (وطارت به العنقاء) قال أبو عبيد في " الأمثال ": من أمثالهم طارت به العنقاء (1) قال الخليل: سميمتا عنقاء؛ لأنه كان في عنقها بياض كالطوق (2). وقال أبو البقاء الكعبري في " شرح المقامات ": كان بأرض أهل الرس جبل صاعد في السماء، قدر ميل، به طيور كثيرة، منها العنقاء، وهي عظيمة الخلق، لها وجه كوجه الإنسان، وفيها من كل حيوان شبه من أحسن الطير، وكانت تأتي هذا الجبل في السنة مرة قتلتقط طيره، فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به، ثم ذهبت بجارية، فشكوا ذلك إلى نبيهم حنظلة بن صفوان في زمن الفترة، فدعا عليها فهلكت، وقطع نسلها (3). وفي " ربيع الأبرار ": عن ابن عباس خلق الله في زمن موسى عليه السلام طائرا اسمها العنقاء، لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجهها كوجه الإنسان، وأعطاها من كل شيء، وخلق لها ذكرا مثلها، وأوحى إليه أني خلقت طائرين عجيبين، وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس، فتناسلا وكثر نسلهما، فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش وتخطف الصبيان، إلى أن نبئ خالد بن سنان العبسي (4) قبل النبي صلى الله عليه

وسلم، فشكوا إليه، فدعا عليها، فانقطع نسلها وانقرضت (1). وقال الغزويني (2) في " عجائب المخلوقات ": العنقاء أعظم الطير جثة وأكبره، كان يخطف الفيل في قديم الزمان بين الناس (3)، فتأذوا منه إلى أن سلب يوما عروسا بحليها، فدعا عليه حنظلة النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب الله به إلى بعض جزائر البحر المحيط، تحت خط الاستواء، وهي جزيرة لا يصل إليها الناس (4). وما أحسن قول الصفي الحلي (5): لمَّا رَأَيْتُ بَنِيْ الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ. . . خِلٌّ وَفِيٌّ لِلشدَائِدِ اصطُفِيْ أَيْقَنْتُ أنَّ المُسْتَحِيْلَ ثَلاثَةٌ. . . الغُولُ وَالعَنْقَاءُ والخِل الوَفِيْ (6) قوله: (والقسر) بسين مهملة ساكنة، الإكراه والقهر قوله: (كقوله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) الآية) [سورة البينة 1]. قال الطيبي: فإنهم كانوا يقولون قبل البعثة: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود به الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) [سورة البقرة 90] فحكى الله ذلك عنهم، كما كانوا يقولون، على سبيل الوعيد والتهديد، ولو كان هذا ابتداء إخبار منه تعالى لكان الانفكاك متحققا موجودا عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم (7). انتهى.

قوله: (ووحد السمع للأمن من اللبس، واعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله) قال الطيبي: في " المغرب ": السمع الأذن، وأصله المصدر، قيل: وقد يطلق مجازا على القوة الحالّة في الغشاء المفترش عند الصماخ، بها تدرك الأصوات، فعلى هذا الوجه المراد بالسمع الآلة، ولم يلمح فيه الأصل (1). وفي بعضر الحواشي: هذه العلة أوردها أكثر المفسرين على صورة يلحقها خلل، فأصلحها المصنف، وذلك أنهم قالوا: السمع مصدر، فلا يثنى ولا يجمع، والقلوب والأبصار أسماء أعضاء فجمعت. واستشعر الزمخشري كان سائلاً يقول: ليس المراد بالسمع هنا المصدر، فإنه لا يختم على المصدر، وإنما (2) يختم على العضو، فأصلح الجواب بأن قال: السمع في أصله مصدر (3)، ثم نقل إلى هذه الجارحة المخصوصة، فروعي أصله مع نقله إلى العضو المخصوص، وملاحظة الأصل ليست ببعيد عند النحاة، فإنهم قالوا في قوله تعالى (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) [سورة المعارج 17] بالنصب: إنه حال، والعامل فيها (لظى) وهي اسم لجهنم، ولكن لما كان أصلها مأخوذا من التلظي روعي الأصل، فعملت لمحي الحال. قوله: (أو على تقدير مضاف، مثل: وعلى حواس سمعهم) قال الطيبي: فعلى هذا الوجه السمع مصدر، وليس بمعنى الأذن (4). قوله: (ويؤيده العطف على الجملة الفعلية) قال الطيبي: أي واستقر على أبصارهم غشاوة (5). قوله: (وقرئ بالنصب) قال الطيبي: القراءات كلها شواذ، والمشهور غِشاوة بكسر الغين المعجمة مع الألف بعد الشين، والرفع (6). قوله: (على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة)

قال أبو حيان: يؤيده ظهوره في قوله (وجعل على بصره غشاوة) (1) قوله: (أو على حذف الجار) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا ضعيف. قال: ويحتمل عندي أن يكون اسما وضع موضع مصدر، من معنى ختم: غَشَّى، كأنه قيل: تغشية، على سبيل التأكيد، ويكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مُغَشَّاة (2). قوله: (وعشاوة بالعين غير المعجمة) قال الطيبي: هو من قولهم: عشي يعشى إذا صار أعشى، وعشا يعشو إذا جعل نفسه كأنه أعشى، قال الله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) [سورة الزخرف 36]. قوله: (والعذاب كالنكال) قال السجاوندي: العذاب إيصال الألم إلى الحي مع الهوان، فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب. قوله: (ولذلك سمي نقاخا) أي الماء الحلو، وهو بضم النون، بعدها قاف، آخره خاء معجمة. قال في " الكشاف ": " لأنه ينقخ العطش، أي يكسره " (4). وفي الصحاح: النقاخ الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرد (5). قال العرجي (6): وإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ. . . وإنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلا بَرْدا (7) قوله: (وفراتا)

قال في " الكشاف ": " لأنه يرفته، على القلب " (1) قال بعض أرباب الحواشي: يعني أن حق الاشتقاق أن يقال: فراتا؛ لأنه يفرته، فقلبوا وقدموا الفاء على الراء، كما قالوا: صعق، وصقع، وجذب، وجبذ، ففرت مقلوب رفت. قال الشريف: وعلى هذا فوزن فرات عُفال (2). وفي " الأساس ": رفت الشيء فته بيده، كما يرفت المدر والعظم البالي (3). قوله: (فادح) بالفاء أوله، وآخره مهملة. في " الصحاح ": فدحه الدَّين: أثقله، وأمر فادح إذا عاله وبهظه (4). أي أثقله وشق عليه. قوله: (فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير) قال الطيبي: يعني إذا كان الحقير مقابلاً للعظيم، والصغير للكبير، يلزم أن يكون العظيم فوق الكبير؛ لأن العظيم لا يكون حقيرا؛ لأن الضدين لا يجتمعان، والكبير قد يكون حقيرا، كما أن الصغير قد يكون عظيما؛ لأن كلا منهما ليس بضد للآخر (5). قوله: (ومعنى التنكير في الآية) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه للنوعية، والعذاب لما وصف بالعظيم كان المعنى نوعا عظيما منه، فليس القصد إلى تنكيره للتعظيم. وذكر التعامي دون العمى وإن كانوا من أهل الطبع إشارة إلى أن ذلك من سوء اختيارهم، وشؤم إصرارهم (6). وذكر الشريف مثله، وزاد: وقيل: هو للتعظيم، أي غشاوة أيَّ غشاوة (7). قوله: (وهم أخبث الكفرة)

قوله (والناس أصله أناس)

الإمام: اختلف في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق؟ فقال قوم: الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب، كاذب باللسان. وقال آخرون: بل النفاق؛ لأن المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد، مع أنه ليس عليه، وقد اختص بمزيد أمور منكرة. منها: أنه قصد التلبيس، ورضي لنفسه بسمة الكذب، وضم إلى كفره الاستهزاء، والكافر الأصلي بخلاف ذلك (1). قوله: (وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرين) قال الطيبي: يحتمل وجهين: أحدهما: أن العطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود. والثاني: أن الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهرا وباطنا، وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر التوافق في الكفر (2). وقال الشيخ سعد الدين: المراد أنه من عطف مجموع الكلام المسوق لغرض، على مجموع قبله، مسوق لغرض آخر، لا يشترط فيه إلا تناسب الغرضين، ولا يتكلف لجملة من هذا مناسبة مع جملة من ذلك. ولا يرد باشتمال أحد المجموعين على ما لا يناسب المذكور في المجموع الآخر (3). وقال الشريف: أي ليس هذا من عطف جملة على جملة ليطلب بينهما المناسبة المصححة لعطف الثانية على الأولى، بل من عطف مجموع جمل متعددة مسوقة لغرض على مجموع جمل أخرى، مسوقة لغرض آخر، فيشترط فيه التناسب بين الغرضين، دون آحاد الجمل الواقعة في المجموعين. قال: وهذا أصل عظيم في باب العطف، لم يتنبه له كثيرون، فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى (4). * * * قوله (والناس أصله أناس) قال ابن الشجري في " أماليه ": وزن أناس فعال، وناس منقوص منه عند أكثر

النحويين -، فوزنه عال، والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام منكورا، فإذا دخلت الألف واللام التزموا فيه الحذف، فقالوا: الناس، ولا يكادون يقولون: الأناس إلا في الشعر، كقوله: إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا (1) وحجة هذا المذهب وقوع الأنس على الناس، فاشتقاقه من الأنس نقيض الوحشة؛ لأن بعضهم يأنس ببعض. وذهب الكسائي إلى أن الناس لغة مفردة، وهو اسم تام، وألفه منقلبة عن واو. واستدل بقول العرب في تحقيره نويس. قال: ولو كان منقوصا من أناس لرده التحقير إلى أصله، فقيل: أنيس. وقال بعض من وافق الكسائي في هذا القول: إنه مأخوذ من النوْس، مصدر ناس ينوس إذا تحرَّك، ومنه قيل لملك من ملوك حمير: ذو نواس؛ لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه. قال الفراء: والمذهب الأول أشبه، وهو مذهب المشيخة. وقال أبو عليٍّ: أصل الناس الأناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء، ويدلك على ذلك الإنس والأناسي، فأمَّا قولهم في تحقيره: نويس فإن الألف لما صارت ثانية زائدة أشبهت ألف ضارب، فقيل: نويس، كما قيل: ضويرب. وقال سلمة بن عاصم (2) - وكان من أصحاب الفراء -: الأشبه في القياس أن يكون كل واحد منهما أصلا بنفسه، وأناس من الأنس، وناس من النوس، لقولهم في تحقيره: نويس، كبويب في تحقير باب (3). انتهى. وقال ابن جني في " الخصائص ": الناس أصله أناس، قال الشاعر (4): وإنَّا أُنَاسٌ لا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً. . . إذا ما رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُوْلُ ولا تكاد الهمزة تستعمل مع لام التعريف، غير أن أبا عثمان أنشد:

إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا (1) وقال ابن يعيش في " شرح المفصل ": أصله أناس حذفوا الهمزة، وصارت الألف واللام في " الناس " عوضا منها، ولذلك لا يجتمعان، فأمَّا قولهم: إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا فمردود لا يعرف قائله (2). وقال ابن يعيش في " شرح التصريف الملوكي ": أصل ناس أناس، ووزنه عال، محذوف الفاء، وهو فعال من الأنس، واشتقاقه من آنست الشيء إذا رأيته، كأنهم سموا بذلك لظهورهم، أو من آنست، أي علمت، كأنهم سموا بذلك لعلمهم. وإنسان فعلان مثه، وجمعه أناسي، قال تعالى (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) [سورة الفرقان 49] قلبوا النون ياء. ومثله ظِرْبَانٌ وظِرَابِي. وقيل: أناسي جمع أنسي، كبختي وبخاتي. وقيل: أصله ناس، ووزنه فعل في الأصل، من ناس ينوس إذا اضطرب، والهمزة في أناس زائدة، دل على ذلك قولهم في التصغير نويس. وقال الكسائي: هما لغتان ليس أخدهما أصلا للآخر، والوجه الأول، وهو مذهب سيبويه (3). انتهى. قوله (فحذفت الهمزة، حذفها في لوقة) في " الصحاج ": اللوقة بالضم الزبدة، وفيها لغتان، لُوْقَةٌ، وَأَلُوْقَةٌ قال الشاعر: وَإنِّيْ لِمَنْ سَألَتُمْ لأَلُوْقَةٌ. . . وإنِّيْ لِمَنْ عَادَيْتُمْ سُمٌّ أَسْوَدِ (4) قوله: (وقوله: إِن المَنَايَا يَطلِعْـ. . . نَ على الأنَاسِ الآمِنِيْنَا) ذكر ابن يعيش أنه لا يعرف قائله، وبعده: فَتَذَرْهُمُ شَتَّى وَقَدْ. . . كَانُوْا جَمِيْعاً وَافِرِيْنَا

قوله: (وهو اسم جمع) زاد غيره: لإنسان وإنسانة. الطيبي: الفرق بين الجمع الحقيقي، وبين اسم الجمع، أن اسم الجمع في حكم الأفراد بدليل جواز التصغير فيه، ولا يجوز تصغير الجمع الحقيقي إذا كان جمج الكثرة. مثال اسم الجمع ركْب وسَفْر، وصَحْب، يجوز أن يقال: رُكَيب، سُفَير، صُحَيب، ولا يجوزون في جمع الكثرة، بل يجب أن يرد إلى واحده، أو إلى جمع قلة إن وجد (1). قوله: (كرخال) هو بضم الراء، وبكسرها أيضاً، الواحد رخل بكسر الخاء، الأنثى من أولاد الضأن، والذكر حَمَل. وفي " الصحاح ": إن الرخال جمع الرخل (2). قال الطيبي: وكذا عن صاحب " الكشاف " في أبيات له (3). قال: وهو مخالف لما ذكره هنا (4)، وفي الأعراف (5) من كونه اسم جمع. والأبيات المذكورة قوله: مَا سَمِعْنَا كَلِماً غَيْرَ ثَمانٍ. . . هُنَّ جَمْعٌ وهي فِي الوَزْنِ فُعالٌ فَرُبَاب وفُرَارٌ وتُوَءامٌ. . . وعُراقٌ وعُرَامٌ ورُخَال وظوار جَمْعُ ظِئْرٍ، وبُسَاطٌ. . . جَمْعُ بِسْط، هكذا في ما يُقالٌ الرباب جمع رُبَّى، على فعلى بالضم، وهي الشاة التي وضعت حديثا. والفرار جمع فرير، وهو ولد البقرة الوحشية. والتُّؤام جمع توأم، على فوعل. والعُراق جمع عَرْق بفتح العين، العظم الذي أخذ عنه اللحم. والعرام بمعناه. والظؤار جمع ظئر، وهي المرضعة. والبساط جمع بسط بكسر الباء، وهي الناقة تخلى مع ولدها، لا يمنع منها. قلت: قال ابن خالويه (6) في كتابه " ليس ": لم يجمع على فُعال إلا نحو عشرة

أحرف، فذكر من هذه الثمانية ستة، وزاد: ثِنى وثُناء، وهو الولد الذي بعد البكر، ورَذْلٌ، ورُذَال، وهو الشيء الرديء، ونَذْلٌ ونُذال، وهو الخسيس (1). وقال القالي في " أماليه ": لم يأت من فُعال إلا أحرف قليلة جدا، فذكر بعض ما تقدم، وزاد قولهم: نعم جُفال للكثيرة، ونعم كُثاب كثيرة، وبراء جمع بريء (2). وقد حصل مما زاده (3) ستة ألفاظ، وقد نظمتها مذيلا على أبيات الزمخشري، فقلت: قلت: قد زيد ثُناء وبُراء. . . ونُذال ورُذال وجُفال وكُثاب في كتابي (4) ليس مَعْ. . . كتب القالي، هيا يا رجال وقل عرف بذلك أن قول المصنف: (إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع) منقوض بما ذكرناه. قوله: (مأخوذ من أنِسَ أو آنَسَ) اقتصر عليهما بناء على ما ذكره من أن أصله أناس، وذكر غيره قولين آخرين: أنه مأخوذ من النسيان، أو من ناس ينوس نوسا إذا تحرّك، فلا همزة ولا حذف. والقول بأنه من النسيان هو الصحيح الوارد عن ابن عباس، كما أخرجه الطبراني وغيره (5). وعليه فأصله نَسَيٌ، قلبت اللام قبل العين فصار نَيَساً، تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، فصارت ناسا. فإن قلت: قوله: (مأخوذ من أنس) مشكل من وجهين: ()

أحدهما: أن الاشتقاق إنما يكون في (1) الأفعال والصفات، والناس، والإنسان اسم عين، لا فعل، ولا صفة، فكيف يصح اشتقاقه؟. والثاني: أن أنس فعل، والفعل لا يشتق منه إلا على رأي الكوفيين. قلت: هذه غفلة عن معنى الأخذ، وظن أنه مرادف للاشتقاق، وليس كذلك كما تقرر في أصولي الفقه والنحو من أن دائرة الأخذ أو سع من دائرة الاشتقاق. وتحقيقه - على ما يؤخذ من " الخصائص " لابن جني وغيره - أن كل مادة ثلاثية فإن لها تقاليب ستة، منها المستعمل والمهمل، فالمستعمل منها يشترك في أمر عام يرجع إليه الأخذ. مثاله مادة الكلام، ك ل م، فهذه الحروف الثلاثة بتقاليبها تدل على التأثير بشدة، فمنه الكَلامُ؛ لتأثيره في النفس، والكَلْمُ، وهو الجرح؛ لتأثيره في البدن، والمِلْكُ، لتأثيره في التضرّف في الأعيان، والمُلْكُ؛ لتأثيره في التصرف فيما زاد على المِلك، والمَلْكُ بالفتح، وهو شدة التأثير في العجين، واللَّكْمُ، وهو أشد الضرب، وتأثيره واضح، والكَمَال؛ لتأثيره في المعنى المقصود له، فهذه أربع تقاليب مستعملة. وبقي اثنان مهملان، مَكْلٌ، لَمْكٌ، وكلها راجعة إلى مادة ك ل م، أعني الحروف الثلاثة، فهذا هو معنى الأخذ، وليس فيه اشتقاق (2). والحاصل أن حروف المادة كالخشب مثلا يتخذ منه سرير، وباب، وكرسي، إلى غير ذلك، فأسماؤها وصيغها مختلفة، ومادتها المأخوذة منها شيء واحد، وهو في الألفاظ كذلك من غير اشتقاق، ولا موافقة في معنى، ولا عمل. قوله: (ولذلك سموا بشرا) في بعض الحواشي: أراد أن بشرتهم ظاهرة، وبشرة غيرهم مستترة بصوف، أو ريش، أو غيره. قوله: (واللام فيه للجنس، و " من " موصوفة؛ إذ لا عهد، كأنه (3) قال: ومن الناس ناس يقولون، وقيل: للعهد، والمعهود هم الذين كفروا، أو " من " موصولة مرادا (4)

بها ابن أبي وأصحابه). قال ابن هشام في " المغني ": قال الزمخشري: إن قدرت " ال " في الناس للعهد فموصولة، مثل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) [سورة التوبة 63] أو للجنس فموصوفة، مثل (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ) [سورة الأحزاب 24] ويحتاج إلى تأمل (1). يعني في تخصيص الموصولة بالعهد، والموصوفة بالجنس. قال ابن المنير في " تفسيره ": يحتمل أن يكون رأى أن العهد بالموصولة أشبه؛ لأن تعريف الموصول عهدي، وأما إذا كانت اللام للجنس فلا عهد ولا تعريف، فناسب ذلك الموصوفة؛ لأنها نكرة، فاستبعد أن يكون المنكور بعض المعهود. وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: ما وجه هذا التخصيص؟ ولم لا يجوز أن تكون موصولة على تقدير الجنس، وموصوفة على تقدير العهد؟ قلنا: مبناه على المناسبة، والاستعمال. أما لمناسبة فلأن الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة، لتنكيرها (2)، والعهد لتعينه يناسب الموصولة؛ لتعرفها. وأما الاستعمال فلأن الشائع في مثل هذا المقام هو النكرة الموصوفة، إذا جعل بعضا من الجنس، كقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا) والموصول مع الصلة إذا كان بعضا من المعهود، كقوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) والقرآن يفسر بعضه بعضا. وقد يقال: إن العلم بالجنس لا يستلزم العلم بأبعاضه، فتكون باقية على التنكير، فيكون المعبر بها عن البعض نكرة موصوفة، وعهدية، الكل يستلزم عهد أبعاضه، فتكون موصولة، وهذا أيضاً - بعد تسليمه - إنما يتم بما ذكرنا من وجه المناسبة، وإلا فلا امتناع في أن يعبر عن المعين بلفظ النكرة؛ لعدم القصد إلى تعيينه، وفي أن يتعين بعض من الجنس الشائع، فيعبر عنه بلفظ المعرفة (3). انتهى. ولخصه الشريف فقال: وجعل " من " موصوفة مع الجنس، موصولة مع العهد،

رعاية للمناسبة والاستعمال. أما المناسبة فلأن الجنس مبهم لا توقيت فيه، فناسب أن يعبر عن بعضه بما هو نكرة، والمعهود معين، فناسب أن يعبر عن بعضه بمعرفة. وأما الاستعمال فكما في الآيتين، لما أريد بالمؤمنين الجنس عبر عن بعضهم بالنكرة، ولما أريد بضمير (منهم) جماعة معينة من المنافقين عبر عن بعضهم بالمعرفة. قيل: والسر في ذلك أنك إذا قلت: من هذا الجنس طائفة شأنها كذا كان التقييد بالجنس مفيدا، بخلاف ما إذا قلت: من هذا الجنس الطائفة الفاعلة كذا؛ لأن من عرفهم عرف كونهم من الجنس أولاً. وإذا قلت: من هؤلاء الذي فعل كذا كان جنسا؛ إذ فيه زيادة تعريف له، ولا يحسن كل الحسن أن يقال: فاعل كذا؛ لأنه عرفهم كلهم إلا إذا كان في تنكيره غرض، كستر عليه، أو تجهيل (1). انتهى. وقال صاحب " الفرائد ": الوجه أن يكون اللام للعهد، ولا وجه أن تكون للجنس؛ لأن (من الناس) خبر (من يقول) فلو كان للجنس لكان المعنى من يقول من الناس، والظاهر أنه لا فائدة فيه. وأما إن كانت للعهد فمعناه: ومن الناس المذكورين جماعة يقولون كذا، ولم يلزم أن تكون موصولة في العهد، بل يجوز كلا هما. وكذا قال صاحب " التقريب ": يحتمل أن تكون موصولة إن جعل التعريف للجنس، وموصوفة إن جعل للعهد (2). وأجاب بعضهم عما ذكره صاحب " الفرائد " من عدم الفائدة بأنها موجودة، وهي استعظام أن يختص بعفمن الناس بمثل تلك الصفات، فإنها تنافي الإنسانية بحيث كان ينبغي أن لا (3) يعد المتصف بها من جنس الناس. قال الشيخ سعد الدين: وهذا الجواب ضعيف؛ لأن مثل هذا التركيب شائع ذائع في مواضع، لا يتأتى فيها مثل هذه الاعتبارات، ولا يقصد فيها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة تتصف بكذا.

قال: فالوجه أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ، يعني وبعض الناس من هو كذا وكذا، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف (1). انتهى وأورده الشريف ثم قال: ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قول الحماسي (2): مِنْهُمْ لُيُوْثٌ لا تُرَامُ، وبَعْضُهمْ. . . مِمَّا قَمَشْتَ وضَمَّ حَبلُ الحَاطِبِ حيث قابل لفظ " منهم " بما هو مبتدأ، أعني لفظة " بعضهم " قال: وقد يقع الظرف موقع المبتدإ بتقدير الموصوف، كقوله تعالى (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) [سورة الجن 12] (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات 165] فالقوم قدروا الموصوف في الظرف الثاني، وجعلوه مبتدأ، والظرف الأول خبرا، وعكسه أولى بحسب المعنى. أي جمع منا دون ذلك، وما منا أحد إلا له مقام معلوم، لكن وقوع الاستعمال على " أنَّ من الناس رجالا كذا وكذا " دون " رجال " يشهد لهم (3). وقال الطيبي: قد منع بعضهم أن يكون اللام للعهد، و " من " موصولة، وقال: بل اللام للجنس، و " من " موصوفة، فإن المراد بالذين كفروا الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وبينهم وبين المنافقين تناف، فلم يكونوا نوعا تحت ذلك الجنس. وكيف وقد حكم على أولئك بالختم على القلوب وغيره، فعلم كفرهم الأصلي، وعلى هؤلاء بقوله (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) وأشار إلى تمكنهم من الهدى وتنور فطرتهم. قال الطيبي: وأقول: إن التقصي عن هذا المقام لا يستتب إلا ببيان كيفية نظم الآيات، فإنه مَحَكُّ البلاغة، ومنتقد البصيرة، ومضمار النُّظَّار، ومتفاضل الأنظار، ولا يهتدي إليه من ديدنه المجادلة، ودأبه المماراة، ولم يتكلم عن مقتضى الحال، ولم يعين لكل مقام مقالا، وليس كل ما يصح تقديره بحسب اللغة، أو النحو يعتبر عند علماء هذا الفن، فإن ذلك قد يعد من النعيق في بعض المقامات. ألا ترى إلى صاحب " الكشاف " في سورة طه في قوله (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي

التَّابُوتِ) [سورة طه 39] كيف بالغ فيه، حيث قال: " حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر " (1). وفي سورة الحاقة في قوله (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [سورة الحاقة 5، 6] كيف ذهب إلى المعنى بقوله (بالطاغية) بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، ليطابق قوله (صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) وعدل عن حمله على المصدر، وأنه الظاهر؛ لأن الطاغية كالعافية، أي بطغيانهم (2)؛ لأن الواجب رعاية حسن النظم بين آي التنزيل. وكم له أمثال ذلك، فالواجب على من يخوض في هذا الكتاب أن يستوعب معرفة جميع المقامات، وجميع خواص التركيب، لينزل كلا في مقامه. إذا علم هذا فنقول: إذا كان النظم هو ما ذكر افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ثم ثنى بذكر الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وثلث بالذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، فالواجب حمل التعريف في الأقسام الثلاثة إما على الجنس بأسرها، وإما العهد برمتها. وإذا حمل على الجنس فلا يجوز أن يقال: مَن في (مَن يقول) موصولة، كما قال أبو البقاء: هذه الآيات استوعبت أقسام الناس، فالآيات الأوَّلُ تضمنت ذكر المخلصين في الإيمان، وقوله (إن الذين كفروا) تضمن من أبطن الكفر وأظهره، وهذه الآية تضمنت ذكر من أظهر الإيمان، وأبطن الكفر، و " مِن " للتبعيض، و " مَنْ " نكرة موصوفة، ويضعف أن تكون بفعنى الذي؛ لأن " الذي " يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هاهنا على الإبهام (3). تم كلامه. فإن قلت: آثرت الموصوفة على الموصولة، وهي أيضاً محتملة للجنس، فيلزم الإبهام أيضاً كما في قوله (الذين كفروا). قلت: الموصوفة نص في الشياع، بخلاف الموصولة، لاحتمال الأمرين فيها. بقي أن يقال: فما معنى قوله: من يقول من الناس، وأي فائدة فيه؟

فيقال: إنه تعالى نظم الآيات الثلاث في سلك واحد، لكن خص كل صنف بفن من الفنون، لا سيما خصَّ هذا الصنف بمبالغات وتشديدات لم يخص الصنفين بها، وأبرز أيضاً نفس التركيب إبرازا غريبا، حيث قدم الخبر على المبتدإ، وأبهمه غاية الإبهام ونكر المبتدأ، ووصفه بصفات عجيبة؛ ليشوق السامع إلى ذكر ما بعده من قبائحهم، ونكرهم نعيا عليهم، وتعجيبا من شأنهم يعني انظروا إلى هؤلاء الخبثة، وقبيح ما ارتكبوه كيف اختصوا من بين سائر الناس بما لم يرض العاقل أن ينتسب إليه. نعم لم يفد شيئا أن لو أريد مجرد الإخبار، ونظيره قوله تعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) [سورة الأحزاب 23] أي امتاز من بين سائر المؤمنين بهذه المناقب الشريفة رجال كرماء، فدل التنكير في (رجال) على تعظيم جانبهم، كما دل الإبهام في (من يقول) على خلاف ذلك هاهنا. وأما إذا حمل التعريف في الناس على العهد فيقال: المراد بالمتقين من شاهد حضرة الرسالة من الصحابة المنتخبين، وينصره تقدير إرادة أهل الكتاب - أعني عبد الله بن سلام وأصحابه - من قوله تعالى (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) معطوفا على قوله (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) فعلى هذا يحمل قوله تعالى (إن الذين كفروا) على قوم بأعيانهم، كأبي جهل، وأبي لهب، وأضرابهم، وأن يراد بقوله (ومن الناس من يقول آمنا) عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، وأشباههم، فلا وجه إذن لقول من قال: ويحتمل أن تكون موصوفة إن جعلت التعريف للعهد؛ لأن المراد بقوله (من يقول) حينئذ قوم بأعيانهم وأشخاصهم، كعبد الله بن أبي وأصحابه، فكيف تجعل موصوفة؛ لأن " من " نكرة، والقوم معهودون.؟ قال: ثم إني بعد برهة من الزمان وقفت على قول صاحب " الكشاف " في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل 76] " الظاهر أن " من " موصوفة، كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا، ولا يمتنع أن تكون موصولة " (1) يريد أن الآية من باب التضاد، فالظاهر أن تراعى المطابقة بين كلمات

القرينتين، فإذا قلت: عبدا مملوكا، والحر الذي رزقناه ذهبت المطابقة، وفاتت الطلاوة، فلا يذهب إليه إلا الكز الجافي، والغليظ الجاسي (1). وأما الجواب عن قول من قال: بينهم وبين المنافقين تناف: فهو عين ما ذكره صاحب " الكشاف ": في الجواب عن سؤاله " كيف يجعلون بعض أولئك، والمنافقون غير المختوم على قلوبهم "؟ (2) وحاصل جوابه أن كون هؤلاء مخصوصين بحكم النفاق لا يخرجهم من جنس المصممين، بل يفيد تميزهم عنهم بما لم يتصفوا به، وإليه الإشارة بقوله: " بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما " فالتعريف في قوله: " الكفر جمع الفريقين " وقوله: " الكفر الجامع بينهما " للعهد، وهو الكفر الخاص؛ لأنه جنس أيضا باعتبار النوعين. وهذا من فصيح الكلام ووجيزه؛ لأن الجنس إذا أطلق شاع في جميع متناولاته إن لم تنتهض قرينة على إرادة البعض، فإذا حصلت القرينة قيدت، فإذا كررت كرر، فإنه تعالى لما قال (إن الذين كفروا) تناول جميع الفرق من الكفرة، فقيد بقوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بالمصممين، ثم قيده مرة أخرى مع ذلك القيد (ومن الناس من يقول) ونحوه قول الأصوليين: يجوز تخصيص ما بقي غير محصور. قال: ثم إني عثرت بعد هذا التقرير على كلام من جانب الإمام أفضل المتأخرين، القاضي ناصر الدين، تغمده الله برحمته ما شَدَّ بعضده: قال: (واللام فيه للجنس) وساق كلام البيضاوي إلى آخره (4). وقال أبو حيان (مَن) في قوله تعالى (من يقول) نكرة موصوفة، مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم (5) الذكر، و (يقول) صفة. هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه، وكأنه قال: ومن

الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال صدقوا) قال: إن جعلت اللام للجنس، يعني في قوله (ومن الناس) قال: وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله (ومنهم الذين يؤذون النبي) (1) واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة، قال: لأن " الذي " تتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام، والتقدير: ومن الناس فريق يقول (2). وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في (الناس) إن كانت للجنس كانت (من) نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد. ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس، و (من) موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، و (من) نكرة موصوفة، فلا تلازم بين ما ذكر. وأما استضعاف أبي البقاء كون (من) موصولة، وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه. قال: والذي نختاره أن تكون (من) موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى، ومن حيث التركيب الفصيخ، ألا ترى جعل (من) نكرة موصوفة إنما يكون إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا المكان ليس من المواضع التي تختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جدا، حتى إن الكسائي أنكر ذلك (3). انتهى. قوله: (تمويها) من موهت الشيء، إذا طليته وزينته. قوله: (والقول هو التلفظ بما يفيد) يحتمل أن يريد به مطلق الإفادة احترازا عن المهمل، كديز مقلوب زيد، فإنه لا يسمى قولا، وإنما يسمى لفظا، بخلاف الكلام، والكلم، والكلمة فإن كلا من الثلاثة يسمى (4) قولا، وهذا هو المشهور عند المتأخرين، وجزم ابن مالك في " الألفية " (5)

ويحتمل أن يريد الفائدة التامة احترازا من الكلمة، والمركب الذي لا يفيد، فلا يسمى قولا، وهو أحد الأقوال في المسألة. قال الخويي في تفسيره: القول حقيقة في المركب المفيد، وإطلاقه على المفود والمركب الذي لا يفيد مجاز. والقول الثالث فيه: أنه حقيقة في المفرد، وإطلاقه على المركب مجاز، وعليه ابن معط (1). والرابع: أنه حقيقة في المركب سواء أفاد أم لا، وإطلاقه على المفرد مجاز. ونقل ابن الصائغ (2) في " في شرح الألفية " عن سعيد بن فلاح (3) أنه قال في " الكافي ": دلالة القول بالنسبة إلى المفرد وضعية، وبالنسبة إلى المركب عقلية على قول من قال: المركب غير موضوع. وقال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرحه الكبير المسمى " رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة " (4): قول ابن مالك: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقول عم أي أنه يطلق على الكلام، والكلمة، والكلم، وظاهر كلامه أن إطلاقه على الثلاثة على حد سواء، وهو المشهور. وفي " فصول " ابن معط: والقول يعم الجميع، والأصل استعماله في المفرد (5). فعلى هذا يكون استعماله في الكلام، والكلم بطريق المجاز.

وقيل: إن القول خاص بالمركب، وقيل: خاص بالمركب المفيد، فهذه أربعة أقوال. انتهى. وبقي قول خامس: أنه يطلق على المهمل أيضاً كاللفظ، حكاه أبو حيان في باب ظن من " شرح التسهيل ". ونحوه قول أبي البقاء في " اللباب ": القول يقع على المفيد، وغير المفيد؛ لأن معناه التحرك والتقلقل، فكلما يمذل به اللسان ويحركه يسمى قولا (1). وقال ابن إياز في " شرح الفصول ": اختلف الناس في القول، فذهب بعضهم إلى أنه عبارة عن كل ما نطق بها اللسان تاما كان أو ناقصا، مفيدا أو غير مفيد، وهو مصدر، قال تعالى (ما يلفظ من قول) [سورة ق 18] أي ما يطرح ويلقي، وهو اختيار المصنف يعني ابن معط غير أنه قال: والأصل استعماله في المفرد، وغيره، ممن اختار هذا لم يقل كذا (2)، بل قال: استعماله في المفرد والمركب على حد سواء. وذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بين الكلام والقول. وذهب آخرون إلى أن القول يطلق على المركب خاصة سواء كان مفيدا أو غير مفيد (3). انتهى. وقال الرضي: القول والكلام واللفظ من حيث أصل اللغة بمعنى، يطلق على كل حرف من حروف المعجم كان، أو من حروف المعاني، وعلى أكثر منه، مفيدا كان أولا، لكن القول اشتهر في المفيد، بخلاف اللفظ، واشتهر الكلام في المركب من جزئين فصاعدا (4). قوله: (ويقال بمعنى المقول) أي، فيكون من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول. قوله: (والمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ، والرأي والمذهب مجازا) قال ابن إياز في " شرح الفصول ": اعلم أنه قد يطلق القول على الآراء

والاعتقادات، فيقال: هذا قول الشافعي، وقول أبي حنفية، يراد بذلك رأيه وما ذهب إليه. والذي سوغ هذا الإطلاق كون الرأي والاعتقاد خافيا، لا يظهره غالبا سوى القول، فلما كان القول سببا في إظهاره والإعلام به أطلق عليه. فإن قيل: قد يطلق على الرأى والاعتقاد الكلام والقول، فأيهما أولى بالإطلاق عليهما؟ قلنا: قال شيخنا أبو جعفر (1): إن إطلاق القول عليهما أولى من إطلاق الكلام، وذلك لأن الرأي والاعتقاد كل منهما كما ذكرته خاف لا يظهر بنفسه، بل يحتاج إلى ما يظهره، كما أن القول قد لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى ما يتممه (2)، فقد اشتركا في الاحتياج، ولا كذلك الكلام، فإنه مستقل مستغن بنفسه. قال: وقد يستعمل القول أيضاً لغير ذي لفظ تجوزا، قال الشاعر: فَقَالَتْ لَهُ العَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً. . . وَأَبْدَتْ كَمِثْلِ الدُّرِّ لِمَا يُثْقِبُ (3) وإنما جاز ذلك؛ لأن صورة حالهما قائمة مقام قولهما: سمعا وطاعة (4). قوله: (وما هم بمؤمنين) إنكار لما ادعوه) قال الطيبي: يعني أن مقتضى المطابقة لقوله (آمنا) أن يقال: وما آمنوا، ليتحدا في ذكر شأن الفعل، فإن (وما هم بمؤمنين) في ذكر شأن الفاعل، لا الفعل. والجواب: المصير إلى التأويل، والحمل على الكناية الإيمائية، ليفيد التأكيد، ويحصل التطابق. بيانه: أنه تعالى لما أولى الضمير حرف النفي، وحكم عليهم بأنهم ليسوا بمؤمنين، وكان ذلك جوابا عن دعواهم أنهم اختاروا الإيمان بجانبيه على صفة الاستحكام، دلّ على إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، وإذا شهد عليهم بذلك لزم نفي ما ادعوه، على سبيل البت والقطع.

قال الطيبي: وهذا إنما يصح لو قيل: وما هم من المؤمنين؛ إذ ليس قوله (وما هم بمؤمنين) مثل ما هم من المؤمنين، لكن الأول أبلغ؛ لأنه نفى لأصل الإيمان، والثاني نفي للكمال (1). وقال الشيخ سعد الدين: من قواعدهم أنهم يقدمون الذي شأنه أهمّ، وهم ببيانه أعنى، فقولهم " آمنا " بتقديم الفعل كلام في شأن الفعل، وأنه صادر عنهم متحقق، وقوله (ما هم بمؤمنين) كلام في شأن الفاعل، وأنه بحيث لم يصدر عنه الفعل، حتى إن تقديم الضمير، وإيلاءه حرف النفي ربما يفيد اختصاصه بنفي الفعل، كما سنذكر في قوله تعالى (وما أنت علينا بعزيز) [سورة هود 92] وأمثاله، فكيف ما كان لا تكون الجملة الاسمية المشتملة على إيلاء الضمير حرف النفي مطابقة لمقتضى الحال في رد كلامهم. والجواب أن هذا ليس من باب التقديم لإفادة الاختصاص، أو لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا، بل من باب العدول إلى الجملة الاسمية، لرد كلامهم بأبلغ وجه وآكده، كأنه قيل: إنهم ليسوا في شيء من الإيمان، ولا يصدق هذا الوصف عليهم ألبتة. لا يقال: الاسمية تدل على الثبات، فنفيها يفيد نفي الثبات، لا ثبات النفي وتأكده، لأنا نقول: ذاك إذا اعتبر الثبات بطريق التأكيد والدوام، ونحو ذلك، ثم نفي، وهاهنا اعتبر النفي أولا، ثم أكد، وجعل بحيث يفيد الثبات، أو الدوام، وذلك كما أنَّ " ما أنا سعيت في حاجتك " لاختصاص النفي، لا لنفي الاختصاص، وبالجملة ففرق بين تقييد النفي، ونفي التقييد (2). انتهى. وقال الشريف: الجواب أن العدول إلى الاسمية لسلوك طريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في سلك المؤمنين، وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه، ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء. وكيف لا، وقد بولغ في نفي اللإزم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضاً، فليس في هذه الاسمية تقديم

لقصد الاختصاص أصلا، ولا لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا قطعا، بل المقصود بها ما ذكرناه من سلوك طريق هو أبلغ وأقوى في رد تلك الدعوى (1). وفي بعض الحواشي: ادعى صاحب " الكشاف " هنا أن قولنا: زيد ليس بقائم، أبلغ من قولنا: ما قام، وما يقوم، ولم يصرح بحجة تدل عليه. ولعله يشير إلى أن قولنا: زيد لا يقوم وصف له بالامتناع من القيام، وذلك قد يكون مع القدرة عليه، ومع عدم القدرة، وقولنا: زيد ليس بقائم، فيه سلب الاتصاف، فكأنَّه أقوى في (2) سلب أهلية الاتصاف. وقال أبو حيان: لأجل التأكيد والمبالغة في نفي إيمانهم جاءت الجملة المنفية اسمية مصدرة ب " هم "، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان؛ إذ لو جاء النفي منسحبا على اللفظ المحكي الذي هو (آمنا) لكان وما آمنوا، فكان يكون نفيا للإيمان الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت ما من الأوقات (3). قوله: (انتحلوا) في " الأساس ": انتحل شعر غيره إذا ادعاه لنفسه (4). قوله: (وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به؛ لأنه جوابه) في بعض الحواشي: هذا الاحتمال مطرد في التقييد بالمجرور، وظرف الزمان والمكان، والمفعول من أجله، والحال، وسين الاستقبال إذا عطف عليه ما خلا عن التقييد بها، كقولك: ضربت زيدا بعصى وعمرا، وأكرمت زيدا يوم الجمعة وعمرا، وضربت زيدا عندك وعمرا، وأكرمت زيدا وفاءً بحقه وعمرا، ولقيت زيدا راكبا وعمرا، وسيقوم زيد، ويكتسب (5) مالا. ومنه قوله تعالى (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ) [سورة مريم 79] والذي يختص بهذه الآية أن الإطلاق فيها، والخلو عن التقييد أبلغ؛ لأنه يدخل

قوله: (الخدع)

فيه المقيد وغيره، لعموم النفي، بخلاف هذه الأمثلة. * * * قوله: (الخدع) هو بفتح الخاء وكسرها كما في " الصحاح " (1) واقتصر بعضهم على الكسر. قوله: (أن توهم) قال الشيخ سعد الدين: هو متعد إلى مفعولين، يقال: وهمت الشيء، أهمه، أي وقع في خلدي، وأوهمته غيري وَوَهَّمتُهُ (2). قوله: (الخارش) أي الصائد قال القطب: الخرش مخصوص بصيد الضباب (3). وفي " الصحاح ": فلان يخرش لعياله، أي يكتسب ويطلب الرزق (4) قوله: (وأصله الإخفاء) أخذه من الإمام (5). وقال ابن عطية نقلا عن أهل اللغة: أصله الفساد، ثم حكى الأول بصيغة التمريض (6) في كلام الراغب ما يوهم أن أصله التلون (7). وقال الطيبي: قد يكون الخداع حسنا إذا كان الغرض استنزال الغير من ضلال إلى رشد، ومن ذلك استدراجات التنزيل على لسان الرسل في دعوة الأمم، وهذا يناسب أن يكون أصله الإخفاء (8). قوله: (ومنه المخدع) وهو بضم الميم وكسرها. قال ابن السكيت: والأصل الضم، وإنما كسر استثقالا (9). قوله: (والأخدعان لعرقين خفيين) قال الراغب: الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما

يخفيه، ومنه خدع الضب إذا استتر في جحره، و " أخدع من ضب " (1) وطريق خادع، وخيدع مضل، كأنه يخدع سالكه، والمخدع بيت في بيت، كأنَّ بانيه جعله خادعا لمن رام تناول ما فيه، وخدع الريق إذا قلَّ، يتصور منه هذا المعنى، والأخدعان يتصور منهما الخداع لاستتارهما تارة، وظهورهما أخرى. وفي الحديث " بين يدي الساعة سنون خداعة " (2) أي محتالة؛ لتلونها بالجدب تارة، وبالخصب تارة. (3) انتهى. قوله: (وخداعهم مع الله ليس على ظاهره) قال الإمام: لقائل أن يقول: مخادعة الله ممتنعة من وجهين: أحدهما: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر، فلا يمكن أن يخادع، بأن يخفى منه خلافه ما يبدى. والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله (4). قوله: (بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف) قال الراغب: نسبة الخداع إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، وجعل ذلك خداعا تفظيعا لفعلهم وتعظيما، وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه. وقول أهل اللغة: إن هذا على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتي بالمضاف المحذوف؛ لما ذكرنا من التنبيه على أمرين: أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله.

والثاني: التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله. (1) انتهى. قوله: (أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته) قال الشيخ سعد الدين: حاصل هذا الوجه أن المراد بخدع الله خدع الرسول، فالمجاز في التحقيق يكون في الهيئة التركيبية، والنسبة الإيقاعية، لا في لفظ " الله " وإطلاقه على الرسول؛ للإطباق على أن لفظ " الله " لا يطلق على غيره، لا حقيقة، ولا مجازا (2). وفي بعض الحواشي: حاصل هذا الوجه يرجع إلى إطلاق اسم السبب على المسبب. بيانه أن الملك إذا أمر بالقتل، فالقا تل هو المباشر، وأمر الملك هو السبب، فإذا قيل: قتل الملك فلانا، أطلقوا على المسبب اسم السبب. قوله: (وإما أن صورة صنعهم مع الله) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: حاصل هذا الوجه أن المراد بالخداع المعاملة الشبيهة به، فيكون استعارة تبعية تمثيلية (3). وقال الشريف: الحاصل أن بينهم من الجانبين معاملة شبيهة بالمخادعة، فقوله: (يخادعون) استعارة تبعية، وليس في هذا اعتبار هيئة مركبة من الجانبين، وما يجري بينهما مشبهة بهيئة أخرى مركبة من الخادع والمخدوع والخدع؛ ليحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية (4).

قوله: (بإجراء أحكام المسلمين عليهم) قال الطيبي: يعني به جريان التوارث، وإعطاء السهم من المغنم، وغيرهما (1). قوله: (لأنه بيان لـ (يقول) أو استئناف) زاد في " الكشاف ": " كأنه قيل: ولم يَدَّعُون الإيمان كاذبين، وما رفقهم في ذلك؟ فقيل: يخادعون " (2) قال أبو حيان: وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. (3) قوله: (والفعل متى غولب فيه) قال الشيخ سعد الدين: أي عورض، وجرى بينه وبين صاحبه مباراة ومقابلة (4). قوله: (كان أبلغ) زاد في " الكشاف ": " لزيادة قوة الداعي إليه (5) " قوله ": (وُيخْدَعُوْنَ وُيخَادَعُونَ على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض) قال ابن جني في " المحتسب ": وما يُخدعون قراءة عبد السلام بن شداد (6)، والجارود بن أبي سبرة (7). وهذا على قولك: خدعت زيدا نفسه، ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت: حذف حرف الجر، فوصل الفعل، كقوله تعالى (واختار موسى قومه) [سورة الأعراف 155] أي من قومه، وإن شئت قلت: حمله على المعنى، فأضمر له ما يناسبه.

وذلك أن قولك: خدعت زيدا عن نفسه يدخله معنى انتقصته نفسه، فلما تضمن معناه أجري مجراه في الاستعمال. وعليه قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [سورة البقرة 187] وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها، لكن لما ضمن معنى الإفضاء عدي ب " إلى "، كما يعدى أفضيت ب " إلى " (1) وقال أبو حيان: ومن قرأ (وما يُخَادَعُوْنَ) أو (يُخْدَعُوْنَ) مبنيا للمفعول فانتصاب ما بعد إلاّ على ما انتصب عليه " زَيْدٌ غُبنَ رَأيَهُ " إما على التمييز على مذهب الكوفيين، صماما على التشبيه بالمفعول به، عَلى ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقصون ويسلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء، فعدي ب " إلى "، ولا يقال: رفث إلى كذا، وكما ضمن (هل لك إلى أن تزكى) [سورة النازعات 18] معنى أدعوك، ولا يقال إلا: هل لك في كذا (2). قوله: (والنفس ذات الشيء، وحقيقته) زاد الإمام: ولا تختص بالأجسام (3). قوله: (ثم قيل للروح) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين، والشريف: ظاهر هذا الكلام أن لفظ النفس حقيقة في الذات، مجاز فيما عداها. وكذا قال القطب، وعلله بأن الذات تقوم بالروح، وبالقلب وبالدم، وبالماء (4). وقال الطيبي: قوله: " ثم قيل للقلب: نفس " متفرع على الأول، وقوله: " للدم نفس " متفرع على الثاني، يدل عليه " لأن قوامها " أي قوام الروح بالدم (5). وقال الشريف: إطلاق النفس على الرأي من قبيل تسمية المسبب باسم السبب، أو استعارة مبنية على المشابهة (6). قوله: (جعل اللحوق وبال الخداع) إلى آخره.

قال الشيخ سعد الدين: يعني أن قوله (لا يشعرون) أبلغ وأنسب من (لا يعلمون " (1) قوله: (لأنها مانعة من نيل الفضائل) إلى آخره. بيان لعلاقة المجاز، وهو مأخوذ من كلام الراغب (2). قوله: (والآية تحتملهما). أقول: الذي عليه أهل التفسير حمل الآية على الثاني، وهو المجاز، فقد أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة (3)، والحسن، والربيع، وقتادة (4)، ولم يحكيا خلافه عن أحد. والتفسير مرجعه النقل. والعجب من المصنف، وصاحب " الكشاف " أنهما في أكثر المواضع القرآنية والحديثية يحملان ما ظاهره الحقيقة على المجاز والاستعارة، مع عدم الداعية إليه، ومع تصريح أئمة الحديث والأجلاء بأن المراد الحقيقة على ظاهره، ويساعدهما الشريف، ومن جرى مجراه على ذلك، ويتركون أئمة الحديث بقولهم: زعم أهل الظاهر! ولا مستند لهم في ذلك إلا قولهم: إن المجاز أبلغ من الحقيقة. وهاهنا ورد التفسير عن الصحابة والتابعين بالمجاز، ليس إلا، فلم يقتصروا عليه، وزادوا الحقيقة. وليس في المتكلمين على الكشاف أكثر مشيا على طريقة المحدثين من الطيبي، فإنه كان - مع إمامته في المعقولات - محدثا صوفيا قوله: (أليم) أي مؤلم) قال أبو حيان: وفعيل بمعنى مفعل مجاز (5). أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم فهو

الموجع (1). قوله: (يقال: ألم، فهو أليم) إلى آخره في بعض الحواشي: هذا فرار مما قاله الأكثرون، أن أليما بمعنى مؤلم، وجعلوه مثل (بديع السموات والأرض) [سورة البقرة 117] أي مبدعهما. وقول الشاعر (2): أَمِنْ رَيحَانَةَ الدَّاعِيْ السَّمِيْعُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. أي المسمع والزمخشري يقول: إن فعيلا إنما يكون بمعنى فاعل، أو مفعول من الثلاثي، فأمَّا الرباعي فلا يجيء منه فعيل، فلا يقال: فعيل في " أحسن " ولا في " أعطى " فجعل أليما مأخوذا من " ألم " الثلاثي. ونَظَّرَهُ بقولهم: وجع الرجل، فهو وجيع. واحتاج إلى مجاز في الإسناد، وهو أن المتوجع والمتألم هو الإنسان، وقد ينسب ذلك إلى المصدر الحالِّ به، فيقال: ضرب وجيع، والوجع إنما هو للمضروب، ويقال: عذاب أليم، والألم إنما هو للمُعَذَّبِ، ونَظَّرَهُ بقولهم: جَدَّ جِدُّهُ، والجد في الأمر هو الاجتهاد، وهو على التحقيق فعل الجادِّ، لا فعل الجِدِّ (3). وأما قوله (بديع السموات والأرض) فقد فسره الزمخشري في مكانه بأنه من باب الصفة المشبهة (4)، بديع السموات كقولك: جميل الوجه، وكريم الأب، وليس المعنى مبدع السموات، بل المعنى بديعة سمواته، كما أن المعنى جميل وجهه، وكريم أبوه. وأما قوله: أمن ريحانة الداعي السميع. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. فقد ذكر الزمخشري - فيما علّق عنه، ورأيته بخطه على حاشية " الكشاف " - أن المراد من ريحانة داع من قلبي، سميع لدعاء داعيها، لا بمعنى مسمع منها.

ويؤيده قوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يُؤَرِّقُنِيْ وَأَصْحَاْبِيْ هُجُوْعُ فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها. انتهى. وهذه الحاشية التي أنقل عنها على الإبهام وقع لي منها مجلد على سورة البقرة، ولم يكتب عليه اسم مؤلفه، فانا أنقل عنه مبهما، وأظن أنها حاشية الجابردي (1) قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَحِيِّةُ بَيْنهِمْ ضرْبٌ وَجِيْعُ) قال الطيبي: أنشد أوله الزجاج: وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهُمْ بِخَيْلٍ (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. أي أصحاب خيل. دلفت: دنوت، يقال: دلفت الكتيبة في الحرب، أي تقدمت. والتحية مصدر حييته تحية، أي رب جيش قد تقدمت إليهم بجيش، والتحية بينهم الضرب بالسيف، لا القول باللسان، كما هو العادة. والوجيع في الحقيقة المضروب، لا الضرب (3). وقال الشريف: يقال: دلفت الكتيبة تقدمت، ودلف الشيخ إذا قارب الخطو، وكلا المعنيين حسن هنا، والباء في " بخيل " للتعدية (4). وفي " شرح شواهد سيبويه " للزمخشري: أن هذا البيت لمعدي كرب (5). قوله: (على طريقة قولهم: جَدَّ جدُّهُ) قال الطيبي: أي طريقة الإسناد المَجازي (6). وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر هذا الكلام أنه من قبيل الإسناد إلى المصدر مثل جد جده، لكن لا يخفى أنه ليس مصدر الفعل المسند، وإنما يكون كذلك لو

قيل: أَلَمٌ أَلِيْمٌ، وَوَجَعٌ وَجِيْعٌ، فمن هنا قد يتكلف فيقال: العذاب هو الألم الفادح، والضرب أعني المضروبية هو الوجع (1). قوله: (والمعنى بسبب كذبهم) قال الشريف: أشار بذلك إلى أنَّ لفظة " ما " مصدرية (2). وقال أبو حيان: زعم أبو البقاء أن كون " ما " موصولة أظهر، قال: لأن الهاء المقدرة عائدة إلى " الذي " دون المصدر (3). ولا يلزم أن يكون ثَمَّ هاء مقدرة، بل من قرأ (يَكْذِبُوْنَ) بالتخفيف فالفعل غير متعد، ومن قرأ بالتشديد (4) فالمفعول محذوف، لفهم المعنى، تقديره بكونهم يُكَذَّبُوْنَ اللهَ في أخباره، والرسولَ فيما جاء به (5). قوله: (من كَذَّبَهُ) أي على أنه للتعدية، بمعنى يُكَذِّبُوْنَ النبيَّ، أي يعتقدونه كاذبا. قوله: (أو من كَذَّبَ الذي هو للمبالغة أو التكثير) قال الطيبي: الفرق بين الكثرة والمبالغة أن الكثرة تفيد صدور هذا المعنى من الشخص مرارا كثيرة، والمبالغة لا تستدعي المرات، بل المراد أن الشخص في نفسه بليغ في كذبه، كأنه بمنزلة مرار كثيرة (6). وقال الشيخ سعد الدين: المبالغة الزيادة في الكيفية، أي يكذبون كذبا عظيما، والتكثير الزيادة في الكمية من جهة كثرة الفاعلين (7). قوله: (مِثْلُ بَيَّنَ الشيْءُ) أي اتضح، بمعنى بأن، غير أن بَيَّنَ أبلغ؛ لأنه يدل على كمال ظهور الشيء واتضاحه. قوله: (وَمَوَّتَتِ البَهَائِم) هو بمعنى ماتت، غير أنه يفيد الكثرة (8).

ففي كلام المصنف لف ونشر مرتب؛ فإن بين الشيء راجع إلى المبالغة، وموتت البهائم راجع إلى التكثير، كما أفصح به في " الكشاف " (1) قوله: (أو من كَذَّبَ الوَحْشِيُّ) إلى آخره قال الطيبي: فعلى هذا هو استعارة تبعية واقعة على التمثيل (2). وقال الشيخ سعد الدين، والشريف: هو مجاز عن كَذَّبَ الذي هو للتعدية، كأنه يَكْذِبُ رأيه وظنه، فيتردد (3). زاد الشريف: ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكان حال المنافق شبيهة به جاز أن يستعار لها وإن كان ما تقدم أولى (4). قوله: (والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، حرام كله) تبع في ذلك " الكشاف (5) " وليس كما قالاه، بل من الكذب ما هو مباح، وما هو مندوب، وما هو واجب، كما هو مقرر في كتب الفقه. وفي الحديث: " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا (6): الرجل يكذب في الحرب؛ فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما " (7)

رواه الطبراني في " الكبير " من حديث النواس بن سمعان (1). وروى الطبراني في " الأوسط ": حديث " الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين " (2) قال النووي في " الأذكار ": وأما المستثنى منه فقد روينا في الصحيحين عن أم كلثوم (3) أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " ليس الكذاب الذي

يصلح بين الناس، فينمي خير أو يقول خيرا " زاد مسلم قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها (1). فهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة. وقد ضبط بعض العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيته في ضبطه ما ذكره أبو حامد الغزالي فقال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا. فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده، أو عند غيره وديعة، وسأل ظالم يريد أخذها منه وجب عليه الكذب بإخفائها، ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف، وُيوَرِّيْ في يمينه، وكذا لو كان المقصود حربا، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بالكذب، فالكذب ليس بحرام، وكذلك كلما ارتبط به غرض صحيح له أو لغيره، فالذي له مثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ليأخذه فله أن ينكره، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكرها ويقول: ما زنيت، أو ما سرقت مثلا. وقد اشتهرت الأحاديث بتلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار. وأما غرض غيره فمثل أن يسأل عن سر أخيه فينكره، أو نحو ذلك. وينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب، والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب، وإن كان عكسه، أو شك حرم عليه الكذب. (2) انتهى. وفي الحاشية المشار إليها: هذا الذي ذكره الزمخشري بناء على مذهبه في التحسين والتقبيح، فهم يقولون: الكذب كله قبيح وإن تضمن مصلحة بناء على أن الأحكام تابعة لأوصاف في الذات.

وأهل السنة يقولون: الكذب للمصلحة مباح، وقد يكون واجبا كما إذا اختفى مظلوم، وسئل عنه فإنه يحرم الصدق في الإعلام به، ويجب الكذب (1). انتهى. وهذا الموضع مما مشى على (2) البيضاوي من " الكشاف "، فلم يتنبه أنه على مذهبه، وما تنزه عن الغفلة إلا الله سبحانه. قوله: (وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات) روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة: " فيقول إبراهيم إني كذبت ثلاث كذبات (3) " وفي رواية: " وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم (4) " وروى الترمذي عن أبي سعيد في حديث الشفاعة: " فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات " ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله " وفي رواية عند أحمد، وأبي يعلى: " إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات والله إن أجادل بهن إلا عن دين الله: قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته حين أتى على الملك: أختي (5) "

وفي الحاشية المشار إليها: حكى ابن خطيب الريِّ أنه باحث رجلا في هذا الحديث فقال: يجب القطع بكذب الراوي؛ لأنه قد ثبت عصمة الأنبياء، فقال له الرجل: كيف يكذب الراوي، والحديث ثابت في الصحيحين؟ فقال: تكذيب الراوي حتى يصدق إبراهيم أولى (1). قال صاحب الحاشية: وهذا البحث فاسد من ابن الخطيب. قوله: (فالمراد التعريض) قال الشيخ أكمل الدين: اختلف في معنى التعريض هاهنا، فقيل: هو خلاف التصريح، وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها فيه ذكر، وقيل: هو اللفظ المشار به إلى جانب، والغرض جانب آخر، وسمي تعريضا لما فيه من التعرج عن المطلوب (2). وبهذا الأخير جزم الطيبي، وقال: يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي بجانبه، ومنه المعاريض في الكلام، وهي التورية بالشيء. قال: ونوع من التعريض يسمى الاستدراج، وهو إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة؛ ليعثر حيث يراد تبكيته، فسلك إبراهيم عليه السلام مع القوم هذا المنهج. أما قوله في الكوكب: (هذا ربي) فكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، ويرشدهم إلى أن شيئا منها لا يصلح للإلاهية؛ لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها. وأما قوله: (بل فعله كبيرهم) فتنبيه على أن الإلاه الذي لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه كيف يرجى منه دفع الضرر عن الغير.

وأما قوله: (إني سقيم) فإنه عليه السلام أوهمهم أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سيسقم ليتركوه، فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل، أو سقيم لما أجد من الغيظ والحنق باتخاذكم النجوم آلهة (1) قال الشيخ سعد الدين: وأما قوله: هذه أختي فالغرض منه الأخوة في الدين، تخليصا من يد الظالم. (2) قال الطيبي: فإن قلت: فإذا شهد له الصادق المصدوق بالبراءة فما باله (3) يشهد على نفسه بها؟ قلت: نحن وإن أخرجناها عن مفهوم الكذبات باعتبار التورية، وسميناها معاريض فلا ننكر أن صورتها صورة التعريج عن المستقيم، فالحبيب قصد إلى براءة ساحة الخليل عما لا يليق بها، فسماها معاريض، حيث قال: ما حل، أي جادل، وهو معنى التعريض؛ لأنه نوع من الكناية، والخليل لمح إلى مرتبة الشفاعة هنالك، وأنها مختصة بالحبيب، فتجوز في الكذبات. ويمكن أن يقال: إنهم من هول ذلك اليوم، وما بهم من شأن أنفسهم يدفعونهم بذلك. هكذا ينبغي أن يتصور هذا المقام؛ فإنه من مزال الأقدام، ألا ترى إلى الإمام كيف ذهل عن ذلك، وطعن في الأئمة، وقال في سورة يوسف: الأولى أن لا يقبل مثل هذه الأحاديث؛ لئلا يلزمنا تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا شك أن صونهم عن نسبة الكذب إليهم أولى من صون الرواة. (4) انتهى. قلت: قد وقع مثل ذلك (5) للإمام في غير ما حديث صحيح أنكره اعتمادا على صعوبة ظاهره، وكذا وقع أيضاً للقاضي أبي بكر الباقلاني، ولإمام الحرمين، ولابن فورك (6)، وللقاضي عياض، وللغزالي، وآخرين أجلاء، أنكروا أحاديث، وهي صحيحة

ثابتة في الصحيحين وغيرهما، قابلة للتأويل، وتعجب منهم أئمة الحديث في ذلك، وأرجو أن أجمعها في جزء، وسيمر بك في هذه الحاشية أشياء منها. قوله: (عطف على (يكذبون) أو (يقول) فيه أمور: الأول: قال أبو حيان: إذا كان عطفا على (يكذبون) كان موضعه نصبا؛ لأنه معطوف على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم. وإذا كان عطفا على (يقول) فلا محل له من الإعراب؛ لأنه معطوف على صلة (من) والصلة لا محل لها، ولا يكون جزءا من السبب (1). الثاني: قال في " الكشاف ": " والأول أوجه (2) " قال صاحب " التقريب ": لأنه أقرب، وليفيد تسببه للعذاب أيضاً (3). زاد الطيبي: وليؤذن أن صفة الفساق يحترز منها؛ لقبحها، كما يحترز من الكذب (4). زاد الشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين: ولئلا يلزم تخلل البيان، أو الاستئناف فيما بين أجزاء الصلة، أو الصفة (5). قال القطب، والطيبي، والتفتازاني، والشريف: ويمكن أن يقال: إن الثاني أوجه؛ لأن في العطف على (يقول آمنا) تصييرا للآيات على سننن تعديد قبائحهم، فيفيد صفة أخرى لهم على الاستقلال، ولأن قوله (وإذا قيل لهم) (وإذا لقوا) معطوفان على قوله (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) فلو عطف على (يكذبون) كانا أيضا معطوفين عليه، فيدخلان في حيز تسبب العذاب، فتنتفي فائدة اختصاص الكذب بالذكر بالكلية (6).

وقوله (وإذا قيل لهم)

وعبارة الشيخ سعد الدين: وقد يقال: بل الثاني أوجه؛ لتكون الآيات على سنن تعديد قبائحهم، وتفيد اتصافهم بالأوصاف المذكورة قصدا واستقلالا، وتدل على أن العذاب لاحق بهم من أجل كذبهم الذي هو أدنى حالهم في الكفر والنفاق، فكيف بسائر الأحوال؟ قال: فإن قيل: فالعطف على الاسمية - أعني (من الناس من يقول) - أوفى بتأدية هذه المعاني، فلم لا يعتد به؟ قلنا: لأنه لا يفيد دخول هذه الأحوال في ذكر المنافقين، وبيان قصتهم وحالهم، ولا يحسن عود الضمائر إليهم عند من له معرفة بأساليب الكلام (1). الثالث: قال أبو حيان: ما أجازه الزمخشري من العطف على (يكذبون) أجازه أيضاً أبو البقاء (2). وهذا خطأ إن كانت " ما " في قوله (بما كانوا يكذبون) موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، و (يكذبون) قد حذف منه العائد على (ما) * * * وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على (ما) فبطل أن يكون معطوفا عليه؛ إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا (إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) وهذا كلام غير منتظم، لعدم العائد، وإن كانت مصدرية فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ؛ إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه، وأما على مذهب الجهور فهذا الإعراب شائع (3). انتهى. الرابع: قال أبو حيان: لم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء في إعراب هذا سوى أن يكون معطوفا على (يكذبون) أو (يقول) (4). وزعما أن الأول أوجه، وقد ذكرنا ما فيه. والذي نختاره أن يكون من باب عطف الجمل، وأن هذه الجملة مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب؛ إذ هذه الجملة، والجملتان بعدها، هي من تفاصيل الكذب، ونتائج التكذيب.

ألا ترى قولهم (إنما نحن مصلحون) وقولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء) وقولهم عند لقاء المؤمنين (آمنا) كذب محض، فناسب جعل ذلك جملا مستقلة، ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم، ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم، والرد عليهم. وهذا أولى من جعلها سيقت " صلة جزء كلام؛ لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسما، ومتممة لمعناه إن كان حرفا (1). قوله: (وما روي عن سلمان أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد) أخرجه ابن جرير من طرق عنه (2). قوله: (فلعله أراد به أن أهله ليس الذين كانوا فقط، بل وسيكون من بعد من حاله حالهم) هو جواب ابن جرير، ولفظه: لعله قال ذلك بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهده صلّى الله عليه وسلّم خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم، ولما يجئ (3). قوله: (وكان من فسادهم في الأرض) قال التفتازاني، والشريف: أي من الفساد الناشئ من جهتهم، لا فسادهم في أنفسهم. والأولى أن يقول: إفسادهم؛ لأن الممالأة ونحوها إفساد، لا فساد (4). قوله: (هيج الحروب) يقال: هاج الشيء هيجا وهيجاناً، أي ثار، وهاجه غيره يتعدى، ولا يتعدى. قال الشيخ سعد الدين والشريف: والأنسب أن يحمل هنا على غير المتعدي؛ لأن المتعدي إفساد، لا فساد (5). قوله: (وممالأة الكفار) الراغب: مالأته: عاونته وصرت من ملئه، أي جمعه، كشايعته، أي صرت من

شيعته (1) قوله: (فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض) قال التفتازاني، والشريف: توجيه لإطلاق الفساد على هيج الحروب والفتن. قالا: ولما كان حقيقة الإفساد جعل الشيء فاسدا، ولم يكن صنيعهم كذلك، بل مؤديا إليهم جعل الكلام من قبيل المجاز باعتبار المآل، أي لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد، وليس معنى الإفساد الإتيان بالفساد وفعله ليصح حمل الكلام على الحقيقة (2). قوله: (الهرج والمرج) الهرج الفتنة والاختلاط، والمرج كذلك، وهو بفتح الراء، وإنما سكن لأجل الهرج ازدواجا للكلام. قاله الجوهري في الصحاح (3). قوله: (والقائل هو الله تعالى، أو الرسول، أو بعض المؤمنين) هو كلام الإمام قال: إن كل ذلك محتمل، وإن الأقرب أن القائل ذلك من شافههم، إما الرسول، أو بعض الصحابة (4). قلت: والثاني أقربهما. قوله: (والمعنى أنه لا تصح مخاطبتنا) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه قصر إفراد؛ لأن نهيهم عن الإفساد يشعر بأن فيهم إفسادا، فنفوا ذلك، بادعاء أنهم مقصورون على الإصلاح، من غير شائبة إفساد. وآثروا (إنما) دلالة على أن ذلك ظاهر بين، لا ينبغي أن يشك فيه، فرد الله عليه ذلك بقوله (ألا إنهم هم المفسدون) قصر قلب، أي هم مقصورون على الإفساد، لا ينتظمون في جملة المصلحين أصلا، مع المبالغة بالاستئناف المقصود به تمكين الحكم في ذهن السامع فضل تمكن؛ لحصوله بعد السؤال والطلب، وبالتأكيد بحرفي التنبيه والتحقيق المقصود بهما تنبيه السامع للحكم، وتقرره عنده بحيث لا مجال فيه للريبة، وبتعريف الخبر المفيد للحصر، وبتوسط ضمير الفصل المؤكد لذلك، وبقوله (ولكن لا يشعرون) الدال على أن كونهم مفسدين مما ظهر ظهور المحسوس، لكن لا إحساس لهم ليدركوه.

بقي هاهنا بحث: وهو أن ضمير الفصل إنما يفيد قصر المسند على المسند إليه، وكذا تعريف الخبر - على ما ذكره صاحب " المفتاح " (1) وشهد به الاستعمال - مثل (إن الله هو الرزاق) [سورة الذاريات 58] أي لا رازق سواه، فكيف يدل (إنهم هم المفسدون) على أنهم مقصورون على صفة الإفساد، لا يتجاوزونه إلى الإصلاح؟ والجواب: أنه إذا كان في الكلام ما يفيد القصر فضمير الفصل إنما يفيد تأكيده، سواء كان قصر المسند على المسند إليه، أو بالعكس. وقد ذكر في " الفائق " أن تعريف المسند يفيد قصر المسند إليه على المسند، وأن معنى " إن الله هو الدهر " (2) أنه الجالب للحوادث، لا غَيْرُ الجالِبِ (3) فيكون المعنى هاهنا أنهم المفسدون، لا المصلحون. فالوجه أن يقال: تعريف الخبر قد يكون لقصر المسند إليه، وقد يكون لقصر المسند بحسب المقام. انتهى (4). قوله: (وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح) هو أحد احتمالات الإمام، وهو أوجهها من حيث المعنى وأعمها. زاد الإمام: وإن فسرنا (لا تفسدوا) بمداراة الكفار كان معنى قولهم (مصلحون) أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار (5). قلت: وهو الوارد عن ابن عباس، أخرج ابن جرير عنه في قوله (إنما نحن مصلحون) أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب (6). * * * قوله: (للإستئناف به) قال الطيبي: أي ترك العاطف ليفيد ضربا من المبالغة (7). قوله: (فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا،

ونظيره (أليس ذلك بقادر) [سورة القيامة 40] عبارة الكشاف " ألا مركبة من همزة الاستفهام، وحوف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقيق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله (أليس ذلك بقادر) (1) قال أبو حيان: والذي نختاره أن " ألا " التنبيهية حرف بسيط؛ لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعم من أن همزة الاستفهام دخلت على " لا " النافية دلالة على تحقيق ما بعدها. . . إلى آخره خطأ؛ لأن مواقع " ألا " تدل على أن " لا " ليست للنفي، فيتم ما ادعاه. ألا ترى أن قولك: ألا إن زيدا منطلق، ليس أصله لا إن زيدا منطلق؛ إذ ليس من تراكيب العرب، بخلاف ما نَظَّرَ به من قوله تعالى (أليس ذلك بقادر) لصحة تركيب " ليس ذلك بقادر " ولوجودها قبل " رب "، وقبل " ليت "، وقبل النداء، وغيرها مما لا يتعقل فيه أن " لا " نافية (2). وقال الشيخ سعد الدين في عبارة " الكشاف ": يريد أن الهمزة للاستفهام بطريق الإنكار، و " لا " للنفي، وإنكار النفي في قوة تحقيق الإثبات، لكن بعد التركيب صارت كلمة تنبيه، تدخل على ما لا تدخل عليه كلمة " لا " مثل ألا إن زيدا قائم، ولا تقول: لا إن زيدا قائم، وكذا الكلام في " أما ". والأكثرون على أنهما حرفان موضوعان، لا تركيب فيهما. انتهى (3). وممن جزم بأنها غير مركبة ابن مالك في " شرح الكافية " فقال: " ألا " المقصود بها العرض، نحو ألا تزورنا، مركبة (4) من " لا " والهمزة. وأما " ألا " المستفتح بها فغير مركبة. وذكر مثل ذلك أيضاً صاحب (5) كتاب " رصف المباني في حروف المعاني (6) "

وتابع الزمخشري على أنها مركبة ابن يعيش في " شرح المفصل " (1) وابن القواس (2) في " شرح الكافية " (3). وقال الشيخ أكمل الدين: مذهب الأكثر أنها مركبة، ومنهم من قال: إنها حرف بسيط مشترك بين التنبيه والاستفتاح (4). قوله: (ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم) قال الشيخ سعد الدين: يعني " إنَّ " والنفي، وذلك لمشاركتهما القسم في كونهما للتأكيد (5). وقال أبو حيان: هذا غير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب، وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا في قوله (6): ألا حَبّذَا هِنْدٌ وأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ولا يتلقى بشيء من هذا القسم (7). قلت: قد أشار المصنف إلى هذه الصور النادرة بقوله: (لا تكاد) قوله: (وأختها " أما " التي هي من طلائع القسم) قال الطيبي: جمع طليعة، وهي ما يتقدم الجيش، فاستعيرت هنا للمقدمة (8). قوله: (وما مصدرية - أو كافة مثلها في ربما) قال أبو حيان: تبعه في ذلك أبو البقاء (9).

وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية؛ لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على " ما " المصدرية، وقد أمكن ذلك في (كما آمن الناس) فلا ينبغي أن تجعل كافة (1). وذكر مثل ذلك ابن هشام (2)، والحلبي (3)، والسفاقسي (4). وعبر عن الأخير بقوله: وأيضاً فإن غيرها من حرف الجر إذا دخل على " ما " قدرت معه مصدرية، فكذلك الكاف. واستحسنه الشيخ بدر الدين ابن الدماميني في " حاشية المغني (5) " ْوفي الحاشية المشار إليها: الأحسن أن يقال في " ما ": إنها كافة مهيئة؛ لأنها دخلت على ما يجوز أن يعمل بها الجر. وقال الشيخ أكمل الدين: أعترض على جعلها كافة بأنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن جعلها مصدرية مبق للكلام على ما عهد لها من العمل (6). وأجيب بأن الكافة أيضاً معهودة، فجاز الحمل عليها. وقال الشريف: إن كانت " ما " كافة عن العمل، مصححة لدخولها على الجملة كان التشبيه بين مضموني الجملتين: أي حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم. وإن كانت مصدرية فالمعنى: آمنوا إيمانا مشابها لإيمانهم (7). قوله: (واللام في الناس للجنس، والمراد به الكاملون في الإنسانية) إلى آخره مأخوذ هو من كلام الراغب قال: كل اسم نوع فإنه يستعمل على وجهين: أحدهما: فى دلالة على المسمى، وفصلا بينه وبين غيره. والثاني: لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به في نحو:

. . . . . . . . . . . . إِذِ النَّاسُ ناسٌ، والزُّمانُ زَمانُ. وذلك أن كل ما أوجده الله تعالى في هذا العالم جعله صالحا لفعل خاص، ولا يصلح لذلك العمل سواه، فالفرس للعدو الشديد، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، وعلى ذلك الجوارح كاليد، والرجل، والعين. والإنسان أُوجدَ لأن يعلم، ويعمل بحسبه، فكل شيء لم يوجد كاملا لما خلق له لم يستحق اسمهَ مطلقا، بل ينفى عنه، كقولهم: فلان ليس بإنسان، أي لا يوجد فيه المعنى الذي قد خلق لأجله، فقوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله) هو اسم جنس، لا غير، وقوله (كما آمن الناس) معناه كما يفعل من وجد فيه تمام معنى الإنسانية، الذي يقتضيه العقل والتمييز، وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم (1). قوله: (. . . . . . . . . . . . . . إِذ الناسُ ناسٌ، والزمانُ زمانُ) أورده في " الحماسة البصرية " هكذا: أَلا هَلْ إِلَىْ أجْبَالِ سَلْمَى بِذِي اللِّوَى. . . لِوَىْ الرَّمْلِ مِنْ قَبْلِ المَمَاتِ مَعَادُ بِلادَ بِهَا كَنَّا وكُنَّا نُحِبُّهَا. . . إِذِ النَّاسُ نَاسٌ والِبلادُ بِلادٌ (2) ولم يسم قائله. وقال في " الأغاني ": هو لرجل من عاد، فيما ذكر. ثم أخرج عن حماد الراوية (2) قال: حدثني ابن أخت لنا من مراد قال: وليت صدقات قوم من العرب، فقال لي رجل منهم: ألا أريك عجبا، فأدخلني في شعب من جبل، فإذا أنا بسهم من سهام عاد، من قنا، قد نشب في ذروة من الجبل، عليه مكتوب: أَلا هَلْ إِلَى أَبْيَاتِ شَمْخٍ إِلَى اللِّوَى. . . لِوَى الرَّمْلِ يَوْماً لِلْنُّفُوسِ مَعَادُ بِلادٌ بِهَا كُنَّا وكُنَّا مِنْ أهْلِهَا. . . إِذِ النُّاسُ نَاسٌ والبِلادُ بِلادُ ثم أخرجني إلى ساحل البحر فإذا أنا بحجر عليه مكتوب: يا ابن آدم، يا عبد

ربه اتق الله، ولا تعجل في أمرك، فإنك لن تسبق رزقك، ولا ترزق ما ليس لك (1). قوله: (أو للعهد، والمراد به الرسول ومن معه) قلت: يؤيده ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله " كما آمن الناس " قال: أصحاب محمد (2). وقال أبو حيان: الأولى حملها على العهد، وأن يراد به ما سبق قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على ما سبق إيمانه؛ لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان (3). قوله: (من أهل جلدتهم) قال الطيبي: أي جملتهم. الجوهري: أجلادُ الرجل جسمه وبدنه (4). كقولهم: فلان بضعة مني، وفي الحديث " لحمه لحمي ودمه دمي " (5) أي هو مني ومن جملتي (6). قوله: (وأن الإقرار باللسان إيمان) هذا ذكره الإمام، وأجاب عنه، فترك المصنف الجواب. وعبارته: لقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يكن إيمانا لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص، فكان قوله (آمنوا) كافيا في تحصيل المطلوب، وكان ذكر قوله (كما آمن الناس) لغواً والجواب: أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أمَّا في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بالإقرار الظاهر، فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده (كما آمن الناس) (7). قوله: (الهمزة فيه للإنكار)

قال الشيخ سعد الدين: أي لا يكون ذلك (1). قوله: (واللام مشار بها إلى الناس) قال الشريف: أي اللام في السفهاء للعهد، وهو الناس سواء أريد به معهودون، أو الجنس (2). قال الطيبي: ويتغير معنى السفهاء بتغير إرادة معنى الناس من كونه جنسا، أو عهدا (3). قوله: (أو الجنس بأسره) قال الشيخ سعد الدين: أي جنس السفيه على ما يراه بعض الأصوليين من بطلان الجمعية، وتعين الجنسية، أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية (4). قوله: (وإنما سمهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم) إلى قوله: (أو للتجلد وعدم المبالاة) إلى آخره ذكر الطيبي: أن الأول مبني على أن اللام في " السفهاء " للجنس، وأن الثاني والثالث على أنها للعهد (5). وقال التفتازاني، والشريف: الأولان على تقديري العهد والجنس، وأما الثالث فمختص بالعهد. زاد الشريف: أعني بكون اللام في (السفهاء) مشاراً بها إلى الناس، المراد به هؤلاء فقط، وإنما عطف ب " أو " لأن معنى كلامه أنهم أرادوا بالسفهاء جميع المؤمنين، وسموهم بذلك اعتقادا لأحد الوجهين، أو أرادوا به بعضهم، وسموهم بذلك تجلدا وترقيا مع علمهم بأنهم من السفه بمعزل (6). قوله: (وسخافة رأي) هي الرقة، يقال: ثوب سخيف، أي غير صفيق.

قوله: (والحلم) هو الأناة. قوله: (وإنما فصلت الآية) قال القطب: بالتخفيف من الفصل، وبالتشديد من التفصيل (1). وقال الطيبي: التفصيل من الفاصلة، كالتقفية من القافية، وفصلت الآية إذا جعل لها فاصلة (2). قوله: (لأنه أكثر طباقا، لذكر السفه) زاد الإمام: وهو جهل، فطباقه العلم (3). وقال الطيبي: هو من باب المطابقة المعنوية؛ إذ لو كانت لفظية لقيل، لا يرشدون، فإن الرشد مقابل للسفه، أو قيل: ألا إنهم الجهلاء؛ ليقابل (لا يعلمون) (4) قوله: (ولأن الوقوف على أمر الدين) إلى آخره قال الطيبي: تلخيص المعنى أن أمر الديانة أمر أخروي يحتاج إلى دقة نظر، فلذلك فصلت الآية التي اشتملت على الإيمان بقوله (لا يعلمون) وأما أمر البغي والفساد فأمر دنيوي، فهو كالمحسوس المشاهد، لا يحتاج إلى دقة نظر، فلذلك فصلت الآية ب (لا يشعرون) (5) الراغب: أصل الشعور من الشعر، ومنه الشعار الثوب الذي يلي الجسد، وشعرت كذا يستعمل على وجهين: تارة يؤخذ من مس الشعر، ويعبر به عن اللمس، وعنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من قولهم: إنه لا يسمع ولا يبصر؛ لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر. وتارة يقال: شعرت كذا، أي أدركت شيئا، وقالوا: فلان يشق الشعر في كذا إذا دقق النظر فيه، ومنه أخذ الشاعر؛ لإدراكه دقائق المعاني (6). فظهر أن شعرتُ يستعمل بمعنى أحسست، وبمعنى أدركت، وفطنت.

قوله: (فليس بتكرير)

فقوله (وما يشعرون) في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم، وفي هذه الآية نفي الفطنة؛ لأن معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة. وفي الآية التي بعدهما نفي العلم، وفي نفيهما على هذه الوجوه تنبيه لطيف، ومعنى دقيق، وذلك أنه بين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس، وفي الثاني أنهم لا يفطنون تنبيها على أن ذلك أيضا لازم لهم؛ لأن من لا حس له لا فطنة له، وفي الثالث أنهم لا يعلمون تنبيها على أن ذلك أيضاً لازم لهم؛ لأن من لا فطنة له لا علم له (1). * * * قوله: (فليس بتكرير) قال الشريف: يريد أنه إذا نظر إلى جزاء الشرطية الأولى - أعني (قالوا آمنا) - توهم أن هناك تكرارا، مع قوله أول قصة المنافقين (ومن الناس من يقول آمنا) وإذا لوحظ أنه مقيد بلقائهم المؤمنين، وأن الشرطية الثانية معطوفة على الأولى، لا على أن كلا منهما شرطية مستقلة كالشرطيتين السابقتين، بل على أنهما بمنزلة كلام واحد، ظهر أن هذه الآية سيقت لبيان معاملتهم مع المؤمنين وأهل دينهم، كما أن صدر القصة مسوق لبيان نفاقهم، فاضمحلَّ ذلك التوهم (2). قوله: (روي أن ابن أُبَيِّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة) الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي من طريق السدي الصغير (3)، عن الكلبي، عن أبي صالح (4)، عن ابن عباس (5). قال الحافظ ابن حجر في كتابه " أسباب النزول ": أبو صالح ضعيف، والكلبي متهم بالكذب، والسدي الصغير كذاب.

قال: وهذا الإسناد سلسلة الكذب، لا سلسلة الذهب. قال: وآثار الوضع لائحة على هذا الكلام، وسورة البقرة أنزلت في أوائل ما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وعليٌّ إنما تزوج فاطمة رضي الله تعالى عنها في السنة الثانية من الهجرة. انتهى. قوله: (واللقاء المصادفة) إلى آخره. الراغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد منهما (2). الإمام: اللقاء أن تستقبل الشيء قريبا منه (3). قوله: (من خلوت بفلان، وإليه، إذا انفردت معه) الراغب: خلا فلان بفلان صار معه في خلاء، وخلا إليه، انتهى إليه في خلوته (4). قوله: (أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي ب " إلى " لتضمنه (5) معنى الإنهاء) أي على هذا الوجه. قال في " الكشاف ": " ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم، وحدثوهمْ بها، كما تقول: أحمد إليك فلانا، وأذمه إليك (6) " قال الشيخ سعد الدين، والشريف: أي أنهي حمده وذمه إليك. قالا: وهذا بيان لحاصل المعنى. وأما تقدير الكلام: فهو هكذا: (واذا خلوا) أي سخروا منهين إليهم (7). قال أبو حيان: يتعدى خلا بالباء، وبـ " إلى " والباء أكثر استعمالا، وعدل إلى

" إلى " لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين: أحدهما: الانفراد. والثاني: السخرية؛ إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي سخرت منه، و " إلى " لا يحتمل إلا معنى واحدا. و " إلى " هنا معناها انتهاء الغاية، على معنى تضمين الفعل، أي صرفوا خلاهم إلى شياظينهم، وقيل: يقال: خلوت إليه إذا جعلته غاية حاجته (1). قوله: (والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين) إلى آخره قال القطب: فهو استعارة، وإضافة الشياطين إليهم قرينة الاستعارة (2). قوله: (ومن أسمائه الباطل) قال الشريف: نوع تقوية للاشتقاق (3) قوله: (خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية) إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: يعني أن قولهم للمؤمنين (آمنا) كلام مع المنكر، وقد ترك التأكيد، وقولهم لشياطينهم (إنا معكم) كلام مع غير المنكر، وقد أكد بـ " إنّ " واسمية الجملة، مع أن مقتضى البلاغة عكس ذلك. والجواب: أن ترك التأكيد كما يكون لعدم الإنكار فقد يكون لعدم الباعث والمحرك من جهة المتكلم، ولعدم الرواج والقبول من جهة السامع، وكذلك التأكيد كما يكون لإزالة الشك، ونفي الإنكار من السامع، فقد يكون لصدق الرغبة، ووفور النشاط من المتكلم، ونيل الرواج والقبول من السامع، فلذا جاء (آمنا) بالجملة الفعلية من غير تأكيد، و (إنا معكم) بالجملة الاسمية مؤكدة ب " إنّ " (4). قوله: (تأكيد لما قبله) إلى آخره. قال الشريف: لا شبهة في أن معنى قولهم (إنا معكم) هو الثباب على اليهودية، وليس (إنما نحن مستهزؤون) بظاهره تقريرا وتأكيدا لهذا المعنى، فاعتبر منه لازما يؤكده، وهو أنه رَد ونَفيٌ للإسلام، فيكون مقررا للثبات عليها؛ لأن رفع نقيض الشيء

تأكيد لثباته (1). قوله: (أو بدل منه) إلى آخره قال الشريف: بيانه أنهم قصدوا تصلبهم في دينهم، وكان في الكلام الأول نوع قصور عن إفادته؛ إذ كانوا في الظاهر يوافقون المؤمنين في بعض الأمور، فاستأنفوا القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الإسلام وأهله، فهم أرسخ قدما فيه من شياطينهم. قال: والحمل على الاستئناف أوجه، لكثرة الفائدة، وقوة المحرك للسؤال. قال: وهذه الوجوه الثلاثة بيان لترك العاطف بين الجملتين في كلامهم (2). قال الطيبي: الفرق بين هذا الوجه - وهو البدل - وبين الأول - وهو كونه تأكيدا - أنه اعتبر في الأول مفهوم الثاني، لتقرير المعنى الأول، واعتبر في هذه العبارةُ والمفهومُ معا، ولا بعد فيه؛ لأن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة (3). وقال الشيخ سعد الدين: لما لم يكن ظاهر كونهم مستهزئين تكريرا وتقريرا لموافقتهم الشياطين في الثبات على اليهودية أخذ منه لازما جعله باعتباره تقريرا وتأكيدا، وهو أنه نفي ورد للإسلام، فيكون إثباتا وقبولا للكفر، فيكون تأكيدا. وأما البدل فلا يحتاج إلى اعتبار أخذ اللازم في أحد الجانبين، ويكفي تصادق الثابت على الباطل، والمستهزئين بالحق مع كون الثاني أوفى بالمقصود؛ لما في الأول من بعض القصور، حيث يوافقون المسلمين في بعض الأمور. ثم الظاهر أنه بمنزلة بدل الكل. وأرباب البيان لا يقولون بذلك في الجملة التي لا محل لها، ويعنون بما لا محل له ما لا يكون خبرا، أو صفة، أو حالا، وإن كان في موقع المفعول المقول، فلذا كان الأوجه الاستئناف، لظهور مظنة السؤال (4). انتهى. وفي الحاشية المشار إليها: لا يريد البدل الذي هو أحد التوابع الخمسة، فإن ذلك لا يكون في الجمل الاسمية، وقد جاء في الجمل الفعلية، في قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) [سورة الفرقان 68] قوله:

قوله: (والاستهزاء السخرية)

(يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) بدل من قوله (أَثَامًا) ومراده بالبدل هنا أن الجملة الثانية - وهي قوله (إنما نحن مستهزؤون) - تحل محل قوله (إنا معكم) وتسد مسدها، وتغني عنها غناء البدل عن المبدل منه. * * * قوله: (والاستهزاء السخرية) قال الإمام: حده أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء، على طريق السخرية (1). الراغب: الاستهزاء طلب الهزء، والهزء مزح في خفية (2). قوله: (سمي جزاء الاستهزاء باسمه، كما سمي جزاء السيئة سيئة) قال الشيخ سعد الدين: تسمية جزاء الشيء باسمه كثير في الكلام، إلا أنه مشكل من جهة المعنى. وهو استعارة حيث أطلق الاستهزاء على ما يشبه صورته صورته، وهو مشاكلة (3). وقال الشريف: وجهه ما بين الفعل وجزائه من ملابسة قوية، ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا (4). قوله: (أو ينزل بهم الحقارة والهوان) قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه مجاز عما هو بمنزلة الغاية للاستهزاء، فيكون من إطلاق السبب على المسبب نظرا إلى التصور، وبالعكس نظرا إلى الوجود (5). قال الشريف: فيكون من قبيل المجاز المرسل، لعلاقة السببية في التصور، والمسببية في الوجود. والفائدة المخصوصة بهذا المجاز التنبيه على أن مذهبهم حقيق بأن يسخر منه، ويسخر بهم لأجله (6). قوله: (أو يعاملهم معاملة المستهزئ) إلى آخره

قال الطيبي: شبه صورة صنع الله من إجراء أحكام المسلمين عليهم في الظاهر - وهو مبطن بادخار العذاب - بصورة صنع الهازئ مع المهزوء به، وهو من الاستعارة التبعية (1) قوله: (وأما في الآخرة فبأن يفتح لهم - وهم في النار - باباً إلى الجنة) إلى آخره قلت: هذا مأخوذ من حديث أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب الصمت " عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن المستهزئين يفتح لأحدهم باب من الجنة، فيقال: هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح لهم باب آخر، فيقال له: هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب، فيقال: هلم لهم، فما يأتيه " مرسل جيد الإسناد (2). قوله: (وإنما استؤنف به، ولم يعطف) إلى آخره قال الشريف: أي ليس ترك العطف فيه لرفع توهم كونه معطوفا على (إنا معكم) فيندرج حينئذ في مقول المنافقين، أو على (قالوا) فيتقيد بالظرف، أعني (إذا

خلوا) بل هو لكونه استئنافا (1). قوله (لا يؤبه به) في " الصحاح ": لا يبالى به (2). وفي " النهاية ": أي لا يحفل به؛ لحقارته (3). قوله: (إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا) قال الطيبي: أي على الاستمرار. قال: وإفادة الفعل المضارع ذلك من اقتضاء المقام، فإنك إذا قلت في مقام المدح: فلان يقري الضيف، ويحمي الحريم، عنيت أنه اعتاده واستمر عليه، لا أنك تخبر عنه بأنه سيفعله، فكذا أنه تعالى يخبر أن معاملة هؤلاء القوم إنما تقع على هذه الحالة، وإليه الإشارة بقوله: " وهكذا كانت نكايات الله فيهم " (4). قال: ويمكن أن يقال: إن هذا الاستمرار أبلغ من الدوام الذي يعطيه معنى الجملة الاسمية؛ لأن النفس إذا اعتادت الشيء ألفته، ولا تحب مفارقته. قال: أَلِفْتُ الضَّنَا مِمَّا تَطَاوَلَ مُكثُهُ. . . فَلَوْ زَاْلَ عَنْ جِسْمِيْ بَكَتْهُ الجَوَارِحُ (5) قوله: (نكايات الله) في " النهاية ": نكيت في العدو أنكي نكاية: إذا أكثرت فيه الجراح والقتل، فوهنوا لذلك (6). قوله: (من مد الجيش، وأمده) ظاهره أن مدَّ، وأمدَّ واحد، وهو أحد المذاهب في المسألة، واختيار الزمخشري (7). والثاني: أن مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير، نحو (ونمد له من العذاب مدا) [سورة مريم 81] (وأمددناهم بفاكهة) [سورة الطور 23]

والثالث: أن مدّ لما كان من نفسه، وأمد لما كان من غيره، وهو اختيار ثعلب (1). قوله: (والسماد) هو سرجين ورماد. قاله في " الصحاح " (2). قوله: (ويدل عليه قراءة ابن كثير (ويمدهم) ليست هذه القراءة في السبعة. قوله: (ألطافه) جمع لطف قال الطيبي: قال نجم الدين الزاهدي الخوارزمي (3) في " كتاب الصفوة ": اللطف في عرف المتكلمين: هو ما يختار عنده المكلف الطاعة تركا وإتيانا، ثم إن اللطف إذا كان محصلا للواجب يسمى توفيقا، وإذا كان محصلا لترك القبيح يسمى عصمة، وإذا كان مقربا من الواجب، أو ترك القبيح يسمى لطفا مقربا. قال: وفي " شرح مقامات المصنف ": الألطاف عند المتكلمين هي المصالح، وهي الأفعال التي عندها يطيع المكلف، أو يكون أقرب من الطاعة على سبيل الاختيار، ولولاها لم يطع، أو لم يكن أقرب، مع تمكنه في الحالين، والواحد لطف بضم اللام وسكون الطاء (4). وقال أهل السنة والجماعة في " مسألة خلق الأفعال ": إن لله تعالى لطفاً لو فعله بالكفار لآمنوا اختيارا، غير أنه لم يفعل، وهو في فعله متفضل، وفي تركه عادل. وقال أبو القاسم القشيري (5) في " كتاب مفاتيح الحجج ومصابيح النهج ": اللطف قدرة الطاعة على الصحيح، ويسمى ما يقرب العبد إلى الطاعة، ويوصل إلى الخير أيضاً لطفا. قوله: (والطغيان) إلى قوله: (وأصله تجاوز الشيء عن مكانه)

قال الراغب: الفرق بين عدا، وطغى، وبغى أن العدوان تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده، وعلى ذلك قال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) [سورة البقرة 194] أي من تجاوز معكم المقدار المأمور بالانتهاء إليه فتجاوزوا معه قدره، لتكون العدالة محفوظة في المجازاة. وأما الطغيان فتجاوز المكان الذي وقفت فيه، ومن أخَلَّ بمَا عيِّنَ له من المواقف الشرعية، والمعارف العقلية، فلم يرعها فيما يتحرَاه ويتعاطاه فقد طغى، وعلى ذلك (لما طغى الماء) [سورة الحاقة 11] أي تجاوز الحد الذي كان عليه من قبل. والبغي طلب تجاوز قدر الاستحقاق، تجاوزه أم لم يتجاوزه، وأصله الطلب، ويستعمل في التكبر؛ لأن المتكبر طالب منزلة ليس لها بأهل (1). قوله: (والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر) ظاهره اختصاص كل بما ذكر، وهو الذي ذكره ابن عطية (2)، وكلام الإمام بخلافه، حيث قال: العمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة، وكذا في " المفردات " للراغب (3). قوله: (قال:. . . . أَعْمَى الهُدَى بِالجَاهِلِيْنَ العُمَّهِ (4)) هو لرؤبة يصف مضلة، وقبله: ومَخْفِقٍ مِنْ لُهْلُهٍ ولُهْلُهِ (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ومَهْمَهٍ أطْرَافُهُ فِيْ مَهْمَهٍ (6). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. المهمه المفازة، أراد أنها لا تنتهي سعة، بل أطرافها من جوانبها في مفازة أخرى.

وأعمى قيل: فعل ماض، أي أخفى طرق الهداية، وقيل: صفة من عَمِىَ الأَمْرُ: التبس، أي ملتبس الهداية، أي طرقها على من يجهل ويتحير فيها. وقال الشريف: أي خَفِيُّ المنار بالقياس إلى من لا دراية له بالمسالك، جعل خفاء العلم عمى بها بطريق الاستعارة (1). وقال الطيبي العُمَّهُ جمع عَمِهٍ، وعَامِهِ، أي المهمه طريقة مشتبهة على الغبي، إذ ليس فيه جادة، أو منار يهتدى به (2). قوله: (ومنه: أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَأساً أَزْعَرَا. . . وبِالثَّنَايَا الوَاضِحَاتِ الدُرْدُرَا وبِالطَّوِيْلِ العُمرِ عُمْراً جَبْذَرَا. . . كَمَا اشتَرَى المُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا) (3) هو لأبي النجم (4) الباء للبدل. والجمة بالضم مجتمع شعر الرأس. والأزعر الأصلع الذي قلّ شعره. والدردر بضم الدالين المهملتين مغرز الأسنان الساقطة الباقية الأصول. والعمر عطف بيان للطويل. والجبذر بالجيم، والموحدة، والذال المعجمة القصير. والمسلم الذي اشترى النصرانية بالإسلام جبلة بن الأيهم (5). وفي الحاشية المشار إليها: معنى البيتين أنه استبدل بالشعر الطويل شعرا قصيرا، وبالثنايا البيض الصحيحة أسنانا مهتمة مكسرة الأطراف، وبالشابة التي يرجى لها طول العمر كبيرة على فم حفرتها. وموضع الاستشهاد منه قوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما اشترى المسلم. . . . . .

قوله: (ترشيح للمجاز)

أي اشترى النصرانية بالإسلام حين تنصر. قال أبو بكر ابن الأنباري في كتاب " الأضداد ": قال بعض أهل اللغة: كل من آثر شيئا على شيء فالعرب تجعل الإيثار له بمنزلة شرائه، واحتجوا بقول الشاعر. وذكر هذين البيتين (1). * * * قوله: (ترشيح للمجاز) قال الشيخ سعد الدين: هو من رشح الأم ولدها باللبن القليل، تجعله في فيه شيئا بعد شيء إلى أن يقوى على المص، وفلان يرشح للوزارة: أي يربى، ويؤهل لها (2). كذا في " الصحاح ". وفي " الأساس ": فلان يرشح للخلافة. وأصله ترشيح الظبية ولدها، تعوده بالمشي، فيرشح، وغزال راشح، ورشح إذا مشى ونزا (3). ومعناه عندهم أن يقرن بالمجاز صفة، أو تفريع كلام يلائم المعنى الحقيقي، وأكثر ما يكون في الاستعارة، كقولك: جاوزت بحرا يتلاطم أملاجه، وقد يكون في المجاز المرسل، كقولهم: له اليد الطولى، أي القدرة الكاملة. قال: وقد ذكرنا في " شرح التلخيص " نبذا من الكلام في أن اللفظ الدال على الترشيح حقيقة، أو مجاز، وفي الفرق بينه وبين الاستعارة التخييلية؛ إذ في كل منهما إثبات لوازم المستعار منه وملائماته. وأما اشتبهاهه بالاستعارة بالكناية فلا يخطر ببال من له مسكة في علم البيان، لكن ينبغي أن يكون متحققا عندك أن الترشيح إنما يكون بعد تمام الاستعارة بالقرينة في التصريحية، وبالتخييل في المكنية، وأنه قد يكون مجازا عن الشيء، وقل لا يكون (4). قوله: (وَلما رَأَيْتَ النَّسْرَ عَزَّ ابنَ دَاْيَةَ. . . وَعَشْعَشَ فِيْ وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِيْ (5)) قال الطيبي: النسر طائر، وابن داية الغراب.

استعار للشيب النسر، وللشباب الغراب، ثم رشحهما بالوكرين، وهما الرأس واللحية (1). وقال الشيخ سعد الدين: معنى عَزَّ غلب. وجاش اضطرب. والوكران استعارة للرأس واللحية، أو للفودين أعني جانبي الرأس. والتعشيش للحلول والنزول، وهو ترشيح، والتعشيش أخذ العش، وعش الطير موضعه الذي يأخذه من دقاق العيدان وغيرها للتفريخ، وهو في أفنان الشجر، فإذا كان في جدار، أو جبل، أو نحوهما فهو وكر (2). وقال الشريف: استعار لفظ " النسر " للشيب، ولفظ " ابن داية " - وهو الغراب - للشعر الأسود، ورشح الاستعارتين بذكر التعشيش، وذكر الوكر. واستعير لفظ الوكرين من معناه الحقيقي للرأس واللحية، أو للفودين، ولفظ التعشيش للحلول والنزول فيهما مع كونهما مستعارين، ترشيحا لتينك الاستعارتين، لا باعتبار المعنى المقصود بهما، بل باعتبار لفظهما، ومعناهما الأصلي (3). قوله: (يسمى شفا) بكسر المعجمة وتشديد الفاء. في " الصحاح ": الشف بالكسر الفضل والربح، الشف أيضاً النقصان، وهو من الأضداد (4). قوله: (لما جاء بحقيقة حالهم عقبه) إلى آخره قال الطيبي: يعني أن قوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) إلى هنا جار مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين، فلما فرغ منها عقبها ببيان تصوير تلك الحقيقة، وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس تتميما للبيان (5). قوله: (لأنه يريك المتخيل متحققا، والمعقول محسوسا) قال القطب: وهاهنا دقيقة أخرى أنيقة، وهي أن المعاني التي يراد تفهمها ربما

تكون معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها، حتى يحجبها عن العقل، فيضرب لها الأمثال، فيبرزها في معرض المحسوسات؛ ليساعد الوهم العقل في إدراكها؛ لأن شأن الوهم إدراك المحسوس والمحاكاة، ولهذا يبكت الخصم الألد بضرب المثل؛ لأن خصومته بسبب انقياده للوهم، ونُبُوُّ الوهم عن طاعة العقل، فإذا توافقا زالت الخصومة، لا محالة (1). قوله: (ثم قيل للقول السائر) قال الطيبي: ثم نقل هذا المعنى إلى القول السائر، أي المشهور الدائر بين الناس، الذي هو كالعلم للتشبيه، ولأجل كونه علما للتشبيه حوفظ عليه، وحمي عن التغيير. قال الميداني: حقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بالحال الأولى، قال كعب (2): كَانَتْ مَوَاعِيْدُ عُرْقُوْبٍ لَهَا مَثَلاً. . . وَمَا مَوَاعِيْدُها إَلاّ الأَبَاطِيْلُ (3) قوله: مواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد (4)، والأعلام لا تغير (5). وقال الشيخ سعد الدين: السائر أي الفاشي الممثل موضع ضربه بموضع وروده. قال: وهذا معنى قولهم: الاستعارة التمثيلية متى فشا استعمالها سميت مثلا (6). وقال الشريف: أي نقل من معناه اللغوي، إلى معنى آخر عرفي، يتفرع عليه معنى ثالث مجازي.

قوله: (المثل مضربه بمورده)

قال: والسائر هو الفاشي، ويعتبر فيه مع الفشو أن يكون تشبيها تمثيليا، على سبيل الاستعارة. وإنما سمي مثلا لأنه جعل مضربه - وهو ما يضرب فيه ثَانِياً - مثلا لمورده - وهو ما ورد فيه أولاً (1) -. وقال القطب: الفرق بين المثل والاستعارة التمثيلية أن في المثل شهرة بحيث يصير علما للحال الأولى التي هي المورد، بخلاف الاستعارة التمثيلية، فكل مثل استعارة تمثيلية، وليست كل استعارة تمثيلية مثلا (2). * * * قوله: (المثل مضربه بمورده) قال الطيبي: مورد المثل هو الحال التي صدر فيها المثل عن مرسله ما ومضربه الحال التي شبهت بها، أي شبه حالة مضربه بحالة مورده. مثاله: قولهم: " في الصيف ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ " مورد المثل هو أن دختنوس بنت لقيط بن زرارة كانت تحت عمرو بن عمرو، وكان شيخا كبيرا فكرهته (3) فطلقها، ثم تزوجها فتى، وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو: " في الصيف ضيعت اللبن " فذهبت مثلا (4). ومضرب المثل حصول حالة من يطلب شيئا قد فوته على نفسه في أوانه؛ لأن فحواه مشابه لذلك، فيستعار المثل بعينه من غير تغيير، وهو تذكير صيغة " ضيعت " لاستعماله في المذكر، بل يورد هكذا على صيغة المؤنث، وإلا لم يكن عارية لذلك (5). قوله: (ولا يضرب إلا لما فيه غرابة) في " الغريب المصنف ": كلام نادر غريب خارج عن المعتاد. وقال الطيبي: اعلم أن غموضة الكلام وكونه نادرا إما أن يكون بحسب المعنى، أو اللفظ. أما الأول: فأن يرى فيه أثر التناقض، أو التنافي ظاهرا.

مثال الأول - في غير المثل - قوله تعالى (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [سورة الأنفال 18] فأثبت الرمية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه؛ لأن أثرها فعل الله عز وجل، وكأنَّ الله هو فاعل الرمية على الحقيقة. وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) [سورة البقرة 180] للحياة قال الزمخشري: كلام فصيح؛ لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل ظرفا ومكانا للحياة (1). وفي المثل قول الحكم بن عبد يغوث: " رُبَّ رَمْيَةٍ مِنْ غَيْرِ رَام (2) " أثبت الرمية، ونفى الرامي. ومثال الثاني: ما في الحديث: " إن من البيان لسحرا (3) " حكم بأن بعض البيان سحر، والمشبه مباح مندوب، والمشبه به حرام محظور. وأما الثاني فإما أن يحصل فيه ألفاظ نادرة لا تستعملها العامة، نحو قول حباب بن المنذر (4): " أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب (5) " يضرب في المجرب الذي يستشفى برأيه وعقله، أو أن يكون فيه حذف، أو إضمار، كما في قوله: " رب رمية من غير رام " أي رب رمية مصيبة من رام مخطئ، أو مراعاة للمشاكلة، نحو: " كما تدين تدان " أي كما تجازي تجازى، أي كما تعمل تجازى، فسمى الابتداء جزاء، إلى غير ذلك. وروى الميداني عن إبراهيم النظام (6) قال: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع

في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية. وزاد ابن المقفع (1): والوسعة في شعوب الحديث (2). قوله: (ولذلك حوفظ عليه من التغيير) قال الشيخ سعد الدين: ظاهره أن المحافظة على الأمثال وعدم تغييرها من جهة اشتمالها على غرابة. والأظهر أن ذلك من جهة أن المثل استعارة، فيجب أن يكون هو اللفظ الدال على المشبه به (3). وقال الشريف: الأظهر - كما في " المفتاح " - أن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة، فيجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به، فإن وقع تغيير لم يكن مثلا، بل مأخوذا منه، وإشارة إليه، كما في قوله: " الصيف ضيعتَ اللبن " على صيغة التذكير (4). قوله: (ثم استعير لكل حال، أو قصة، أو صفة لها شأن وغرابة) حاصله أن للمثل مفهوما لغويا، وهو النظير، وعرفيا، وهو القول السائر، ثم معنى مجازيا، وهو الحال الغريبة، استعير المثل لها لعلاقة الغرابة، فإن القول لا يكون سائرا إلا إذا كان فيه غرابة. قوله: (والذي بمعنى الذين) إلى آخره جواب سؤال مقدر تقديره: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ وحاصل ما أجاب به أوجه: استعمال الذي في موضع الذين على طريقة الحذف والتخفيف، أو إرادة الجنس، فلا يختص بالواحد؛ ليلزم المحذور، أو جعل موصوفه لفظا مفردا دالا على معنى الجماعة، كالفوج. وبقي رابع ذكره الإمام، وقال: إنه أقوى الأجوبة، وهو أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد، وإنما شبهت قصتهم

بقصة المستوقد. ومثله (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار) [سورة الجمعة 6] (ينظرون إليك نظر المغشي عليه (1)) [سورة محمد 21] وهذا مذكور في " الكشاف (2) " في ذيل الكلام. وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أنه لا يتوجه هذا السؤال بعد ما ذكر أن المثل مستعار للحال العجيبة الشأن، وأن المعنى أن حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا، ولهذا قال (3) آخراً " على أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد، حتى يلزم تشبيه الجماعة بالواحد ". وقال أبو حيان: من زعم " أن الذي " هنا هو " الذين " وحذفت النون لطول الصلة فهو خطأ؛ لإفراد الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير؛ لأن المحذوف كالملفوظ، ألا ترى جمعه في قوله تعالى (وخضتم كالذي خاضوا) [سورة التوبة 70] قال: والذي نختاره أنه أفرد لفظا وإن كان في المعنى نعتا لما تحته أفراد، فيكون التقدير: كمثل الجمع الذي استوقد نارا (4). قوله: (كما في قوله (وخضتم كالذي خاضوا) فرق ابن عطية بين الآيتين بأن (الذي استوقد) وصف للذات، و (كالذي خاضوا) وصف لمصدر محذوف، تقديره كالخوض الذي خاضوا، فهو على بابه في الإفراد (5)، ونحا إليه القطب (6). قوله: (وإنما جاز ذلك، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين) قال القطب: التخفيف في باب الذي مطلوب، بخلاف باب القائم

والقائمين؛ لأمور: كونه وضع وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، فهو ليس مطلوبا بالذات، بل آلة للوصف بالمعارف، والآلة كلما كانت أخف كانت أحسن. وأن باب الذي كثير الوقوع في كلام العرب، وما كان أكثر وقوعا فهو جدير بالخفة. وأنه مستطال بصلته، والاستطالة مؤدية إلى الملالة، فالاختصار مطلوب، وأنه نهك بالحذف للياء، ثم الكسرة، ثم الذال واللام (1). قوله: (وليس الذين جمعه المصحح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى) قال السفاقسي: تعقب ذلك بأنه إنما هو صحيح من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فهو كالجمع بالواو والنون من حيث إنه لا يكون واقعا إلا على ما اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون، فلا فرق بين الذين يفعلون وبين الفاعلين، لكن لما كان مبنيا التزم فيه طريقة واحدة إلا عند هذيل، فإنها أتت بها على صيغة الجمع بالواو والنون رفعا، والياء والنون نصبا وجرا، وكلهم التزم الجمع في الضمير العائد عليه من صلته، كالجمع (2). انتهى. والمتعقب هو أبو حيان (3). قوله: (ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه (4)، ثم كسرته، ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين) قال الحلبي: اعتقد (5) كون " أل " الموصولة بقية " الذي " وليس كذلك، بل هي موصول مستقل، على أن الراجح من جهة الدليل أنها موصول حرفي. قال: وليس لمرجح أن يرجح قوله بأنهم قالوا: إن الميم في قولهم: " مُ اللهِ " بقية " أَيْمُنٌ " فإذا انتهكوا " أيمن " بالحذف حتى صار على حرف واحد فأولى أن يقال ذلك فيما بقي على حرفين؛ لأن " أل " زائدة على ماهية " الذي " فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه، بخلاف ميم " أيمن ". وأيضاً فإن القول بأن الميم بقية " أيمن " قول ضعيف مردود، يأباه قول

الجمهور (1). وقال السفاقسي: قوله: " إنهم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين " سبقه إليه غيره. ورُدَّ بأن اللام لو كانت بقية " الذي " في اسم الفاعل والمفعول لكان لها موضع من الإعراب، ولما تخطّاها العامل إلى الصلة، ولجاز وصلها بالجملة، ك " الذي " قال السفاقسي: ويمكن أن يجاب بأنها أشبهت لام التعريف، فلهذا لم يكن لها موضع من الإعراب، وتخطاها العامل، ولم تدخل على الجمل، كلام التعريف (2). قوله: (أو قصد به جنس المستوقدين) في بعض الحواشي: يريد به أن اسم الجنس وإن كان مفردا في اللفظ فقد يعامل معاملة الجمع، فيوصف بالجمع، كقوله (عاليهم ثياب سندس خضرٍ) [سورة الدهر 22] بكسر الراء. فشبه هنا جماعة المستوقدين بجنس المستوقد؛ لأنه وإن كان مفردا فالمراد به الكثرة. قوله، (أو (3) الفوج الذي استوقد) أي يقدر موصوفه لفظا مفردا معناه الجماعة، كلفظ الجمع والفوج ونحوهما. قوله: (والاستيقاد طلب الوقود) الأكثر على أن استوقد هنا بمعنى أو قد، لا على الطلب. قوله: (وهو سطوع النار) هو حدة الوقود. ذكره الإمام أخذا من الراغب (4). وفي " الصحاح ": سطع يسطع سطوعا: ارتفع (5). قوله: (واشتقاق النار من نار ينور) زاد في " الكشاف ": " والنار جوهر لطيف مضيء، حار، محرق " الراغب: النار يقال للهب الذي يبدو للحاسة، وللحرارة المجردة (6).

قوله: (إن جعلتها متعدية) قال أبو حيان: الأولى في الآية أن تكون (أضاءت) متعدية (1). قوله: (أو إلى ضمير النار، وما موصولة في معنى الأمكنة نصب على الظرف) قال الطيبي: أي أضاءت النار في الأمكنة التي حول المستوقد (2). قو له: (وتأليف الحول للدوران) في بعض الحواشي: أن تركيب هذه الحروف كيف كانت تدل على هذا المعنى، كما قالوا: إن الميم والكاف واللام تدل على القوة، فمنه كمل، وكلم، وملك، ومكل، ولكم. قال الشيخ سعد الدين: يقال: حال الشيء، واستحال، أي تغير، وحال عن العهد انقلب، وحال وتحول إلى مكان آخر، تحرك، وحال الإنسان عوارضه التي تتغير عليه، والحوالة الاسم، من أحال عليه بدينه، والحويل الاسم من حاولت الشيء أردته، والمحالة بالفتح الحيلة، والاستحالة الخروج عن الاستقامة (3). قوله: (ذهب الله بنورهم) جواب (لمّا) هذا هو الذي اختاره أبو حيان، والأكثرون (4). وقال الشريف: إنه الظاهر إلا أن فيه مانعا لفظيا، وهو توحيد الضمير في (استوقد) و (حوله) وجمعه في (بنورهم) ومعنويا، وهو أن المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب النور، بخلاف المنافق، فجعله جوابا يجتاج إلى تأويل. وقد نبه على إزالة المانع اللفظي بقوله: " وجمعه للحمل على المعنى " والمعنوي بقوله: " وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى " إلى آخره (5). قوله: (أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان) قال الطيبي: أي يكون تفسيرا لمجموع قوله (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) خمدت، فبقوا متحيرين متحسرين؛ لأن حاصله وتلخيصه: ذهب الله بنور المنافقين، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، والبدل - كما قد علم - كالبيان

والتفسير للمبدل منه (1). وقال أبو حيان: جملة التمثيل - وهي (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) اسمية، و (ذهب) فعلية، ولا تبدل جملة فعلية من اسمية اتفاقا، وإنما تبدل من فعلية. وأيضاً فالبدل على نية تكرار العامل، والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب؛ لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا تكون الثانية بدلا منها (2). وأجاب السفاقسي: بأنه لم يرد البدل الصناعي، وإنما أراد أن جملة (ذهب) مبينة لجملة المثل، وأطلق عليها اسم البدل لما كانت مبينة للأولى، كما أن البدل مبين للمبدل منه (3). قال: ثم له أن يمنع أن البدل على نية تكرار العامل، بل العامل في البدل هو العامل في المبدل منه، وهو ظاهر كلام سيبويه، ولو سلم فإنما ذلك حيث يكون المبدل منه عاملا، كما في المفردات، أو ما جرى مجراها، وإلا لامتنع عطف جملة على جملة لا موضع لها؛ لأن العطف أيضاً قد قيل: إنه على نية تكرار العامل، ولو لم يكن على نية تكرار العامل فهم يقولون: إن حروف العطف للتشريك في الإعراب، مع تسويغهم عطف جملة على جملة لا محل لها من الإعراب، فدل على أن ذلك حيث يكون للأول عامل. انتهى (4). وفي بعض الحواشي: ليس يعني به البدل النحوي التابع للأول في إعرابه، بل يعني به أن تكون الثانية مفسرة للأولى، قائمة مقامها في المعنى موضحة لها؛ لأنهم أشبهوا مستوقد النار في ذهاب نورهم بعد ظهوره. قوله: (والجواب محذوف) أي خمدت وانطفأت. قوله: (كما في قوله تعالى (فلما ذهبوا به) [سورة يوسف 15] للإيجاز وأمن الإلباس). عبارة " الكشاف ": " لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس (5) "

قال أبو حيان: ولا نسلم استطالة الكلام هنا، بخلاف قوله (فلما ذهبوا به) فإن الكلام طال بذكر المعاطيف على الفعل ومتعلقاتها (1). قلت: ولذلك عدل المصنف عن ذكر الاستطالة إلى ذكر الإيجاز؛ لأن هذا القدر لا يرد عليه، كما هو واضح؛ إذ الإيجاز موجود في كل حذف، سواء كان في الكلام استطالة أم لم تكن. ثم قال أبو حيان: وقوله: " مع أمن الإلباس " ممنوع، فأي أمن، ولا شيء يدل على المحذوف.؟ والذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن جوابه (ذهب الله بنورهم) فإذا جعل غيره الجواب مع قوة ترتيب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة كان لغزا؛ إذ ترك شيءٌ يتبادر، وأضمر شيء يحتاج إلى وحي يسفر عنه؛ إذ لا دلالة على حذفه (2). انتهى. قوله: (ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة) إلى آخره. ما ذكره من أن التعدية بالباء أبلغ من الهمزة ذكره المبرد (3)، ثم السهيلي (4)، ثم صاحب " المثل السائر ". قال: من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئا فقد ذهب به؛ لأن قولنا: ذهب به يفهم منه أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى حالته الأولى، وليس كذلك أذهبه (5). وتوقف فيه صاحب " الفلك الدائر " باستوائهما في معنى التعدية (6). ورده الطيبي بأن ذلك لا يمنع أن تفيد مع التعدية معنى سواها، وليس النزاع إلا فيه، فإن الهمزة للإزالة، والباء للمصاحبة، وصاحب المعاني لا ينظر إلا إلى الفرق بينهما، واستعمال كل منهما في مقامه، لا إلى التعدية نفسها، فإن البحث عنها وظيفة النحوي (7).

وقال أبو حيان: الباء عند جمهور النحويين ترادف الهمزة، فإذا قلت: خرجت بزيد، فمعناه أخرجت زيدا، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت. وقال المبرد: إذا قلت: قمت بزيد دلّ على أنك قمت، وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيدا لم يلزم أنك قمت. ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. ورد عليه بهذه الآية ونحوها، ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم، والله تعالى لا يوصف بالذهاب مع النور. وأجيب أنه لا يلزم ذلك؛ إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء في قوله (وجاء ربك) [سورة الفجر 23] والذي يفسد قول المبرد من التفرقة. بين الباء والهمزة قول الشاعر (1): دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحنُ عَلَى مِنَى. . . تَحِلُّ بِنَا لَوْلا نَجَاءُ الرَكَائِبِ أي تُحِلُّنا. المعنى: تصيرنا حلالا غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك؛ لأنها لم تكن حراما فتصير حلالا بعد ذلك (2). انتهى. قوله: (وما أخذه وأمسكه فلا مرسل له) (3) في بعض الحواشي: يريد أن نسبة الذهاب إلى الله تعالى أفاد في الكلام قوة في امتناع عود النور، لا تحصل عند فقد ذلك. قوله: (ولذلك عدل عن الضوء) إلى آخره. ما أشار إليه من أن الضوء أبلغ من النور ذكره جماعة. وقال صاحب " الفلك الدائر ": هذا غير صحيح؛ فإنا تصفحنا كتب اللغة فلم نجدها شاهدة لما ذكروا، والاصطلاح (4) العرفي مساعد له. وقد قال ابن السكيت: في " إصلاح المنطق ": النور الضياء، فجعلهما شيئا واحدا، قال: وليس في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)

[سورة يونس 6] ما يدل على الاختلاف (1). وأجاب الطيبي: بأن ابن السكيت بين معناه الحقيقي بحسب الوضع، لا الاستعمال، والاعتبار المذكور في التفرقة بحسب الاستعمال. قال: وأما قوله: وليس في الآية المذكورة ما يدل على الاختلاف فيقال له: أفلا نقابل الآية بقوله (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) [سورة الإسراء 13] وقوله تعالى (وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) [سورة نوح 17] حتى يعلم الاختلاف للاستعمال (2). قوله: (فذكر الظلمة التي هي عدم النور) زاد الإمام: عما من شأنه أن يستنير (3). وهي على هذا أمر عدمي. وزاد " في الكشاف: " وقيل: عرض ينافي النور (4) " قال الطيبي: فعلى هذا أمر وجودي (5). قال: ويدل عليه قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) [سورة الأنعام 1] قوله: (وترك في الأصل بمعنى طرح وخَلَّى، وله مفعول واحد، فضمن معنى صير) قال الطيبي: يوهم أن تقدير الآية مقصور على الثاني، دون الأول. وقد ذكر ابن الحاجب في " أماليه ": أن على الأول مفعول ترك هم و (في ظلمات) و (لا يبصرون) حالان مترادفان من المفعول (6). فيقال: إن المصنف إنما ترك ذكره لظهوره (7). قوله: (وقول الشاعر (8): فتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاع ينشنه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)

وتمامه. . . . . . . . . . . . . . . . . . مَا بَيْنَ قُلَّةِ رَأسِهِ والمِعصَمِ هو من معلقة عنترة المشهورة، وقبله فَشَكَكْتُ بِالرُّمحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ. . . لَيسَ الكَريمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ ويروى: فتركنه بالنون، والضمير للقنا. والجزر جمع جزيرة، وهي الشاة التي أعدت للذبح. والنوش التناول. يقول: قتلته فجعلته عرضة للسباع. قال الشيخ سعد الدين: البيت نص في كون " ترك " بمعنى صير؛ لأن جزر السباع معرفة لا تحتمل الحال، بخلاف الآية؛ لجواز أن يكون ترك بمعنى طرح، و (في ظلمات) و (لا يبصرون) حالين مترادفين، أو متداخلين (1). قوله: (والظلمة مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك) قال الشيخ سعد الدين: هذا بعيد جدا (2). قوله: (أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم بحقن الدماء) إلى آخره. هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (3). قوله: (كأنما إيفت مشاعرهم) بالبناء للمفعول، أي أصابتها آفة. والمشاعر الحواس الخمس. قوله: ْ (صُمٌّ إِذا سَمِعُوا خَيرًا ذُكِرتُ بِهِ. . . وإن ذُكِرْتُ بسُوءٍ (4) عِندَهُمْ أَذِنُوا) هو لقعنب بن أم صاحب (5)، من بني عبد الله ابن غَطفان، وقبله: إِن يَسْمَعُوا رِيْبَةً طَاروا بِهَا فَرَحاَ. . . مِنِّي، وَمَا سَمِعُوا مِن صَالِح دَفَنُوا وَأَذِنُوا من أذنت للشيء: أصغيت إليه. وأول القصيدة:

مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ، ثُمَّ لَيسَ لَهُمْ. . . عَهْدٌ، وَلَيْسَ لهم دِيْنٌ، إِذَاْ ائْتُمِنُوْا شِبْهُ العَصَافِيرِ أحلاماً وَمَقدِرَةً. . . لَوْ يُوْزَنونَ بِزِقِّ الرِيْشِ مَا وَزِنُوْا جَهْلاً عَلَيْنَا وَجُبْناً عَنْ عَدُوِّهِمْ. . . لَبِئْسَتِ الخلَّتَانِ الجَهْلُ وَالجُبْنُ (1) قوله: (أَصَمُّ عَنِ الشيءِ الذَيْ لا أرِيْدُهُ. . . وَأَسْمَعُ خَلْقِ اللَهِ حِيْنُ أرِيدُ (2)) قال الشيخ سعد الدين: عَدَّي " " أصم " ب " عن " لتضمين معنى الذهول والغفلة والإعراض، وهو أفعل صفة، وأسمع أفعل تفضيل (3). قوله: (وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل، لا الاستعارة) تابع الزمخشريَّ في كون (صم بكم عمي) وبابه من التشبيه المحذوف الأداة، لا من الاستعارة، وقد نقله الزمخشري عن المحققين، وعلله بما أشار إليه من أن شرط الاستعارة أن يحذف المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد المنقول عنه، وإليه، لولا دلالهّ الحال، أو فحوى الكلام (4). وتابعه السكاكي، وعلله بأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر، وتناسي التشبية، وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز كونه استعارة (5). وتابعه صاحب " الإيضاح (6) " قال الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح ": وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر. قال: بل لو عكس ذلك، وقيل: لابد من عدم صلاحيته لكان أقرب؛ لأن الاستعارة مجاز، لابد له من قرينة، فإن لم تكن قرينة امتثع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة إما لفظية، أو معنوية، نحو

زيد أسد، فالإخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقته. قال: والذي نختاره في " زيد أسد " أنه قسمان، تارة يقصد به التشبيه، فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة فلا تكون مقدرة، ويكون الأسد مستعملا في حقيقته (1)، وذكر زيد والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة قرينة صارفة إلى الاستعارة، دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه، وإن لم تقم فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار إليها. وممن صرح بهذا الفرق عبد اللطيف البغدادي في (2) " قوانين البلاغة " وغيره (3). انتهى. والجواب عما قاله أولاً ما ذكره الطيبي أن الشرط المذكور مبني على القول بالادعاء الذي هو أصل الاستعارة، وهو أن المتكلم يدير أَوَّلاً دخول المشبه في جنس المشبه به، وأنه فرد من أفراد حقيقته، فصار المستعار كاللفظ المشترك الدائر بين مفهوميه، ولولا القرينة المبينة لم يعلم المراد (4). قوله: (إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له) إلى آخره. قال الطيبي: هذا شرط في المصرحة، لا في المكنية (5). قوله: (لَدَي أَسَدٍ شَاكِي السِّلاحِ مُقْذَفٍ. . . لَهُ لِبَدٌ، أَظْفَارُهُ لم تُقَلَّمِ) (6) هو لزهير بن أبي سلمى. الشوكة شدة الباس، وحدة السلاح، يقال منه: شاك الرجل، فهو شائك السلاح، وشاكي السلاح مقلوب منه. ومقذف يقذف به، ويرمي به كثيرا إلى الوقائع والحروب. كذا قال القطب (7). وقال الطيبي: مقذف كثير اللحم.

ولبد جمع لبدة، وهي الشعر الذي على رقبته يتلبد (1). وقوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . أظفاره لم تقلم) أي براثنه، لا يعتريها ضعف، يقال للضعيف: مقلوم الظفر. وقد اجتمع في البيت تجريد الاستعارة (2)، وترشيحها (3)، فالأول شاكي السلاح، مقذف؛ لأن الأسد لا يكون له سلاح، ولا يرمي في الحروب، والثاني باقي البيت. والاستشهاد بالبيت لقيام دلالة الحال على الاستعارة. قوله: (ومن ثم ترى المفلقين) جمع مفلق، وهو الآتي بالفِلقِ، بالكسر، وهو الأمر العجيب، أي من أجل أن الاستعارة لا تطلق إلا حيت ترك المستعار له، واقتصر على المستعار منه، يتناسون التشبيه؛ لأن التشبيه يستدعي الطرفين، فإذا حذف أحدهما وأدخل المشبه في جنس المشبه به، فكأنَّه لا تشبيه به، كما في قوله: وَيصْعَدُ حَتَّى يَظُنَّ الجَهُولُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. فإن الصعود المكاني استعارة للعلو في المرتبة، ونسي التشبيه، فبنى عليه ما يبنى على الصعود المكاني، من حيث الحاجة في السماء. قوله: (كما قال أبو تمام: ويصعد حتى يظن الجهول. . . بِأنَّ لَهُ حَاجَةً فِي السَّمَاءِ) هو من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد الشيباني (4). أولها: نَعَاءِ إِلَى كُلِّ حَيٍّ نَعَاءِ. . . فَتَى العَرَبِ اخَتَطَّ رَبْعَ الفَنَاءِ أُصِبْنَا جَمِيعاً بِسَهْمِ النِّضَالِ. . . فَهَلاّ أُصِبْنَا بِسَهْمِ الغِلاءِ أَلا أَيُّهَا الَمْوتُ فَجَّعْتَنَا. . . بِمَاءِ الحَيَاةِ وَمَاءِ الحَيَاءِ ومنها:

مَضَى المَلِكُ الوَائِلِيُّ الَذِيْ. . . جَلَبْنَا بِهِ العَيْشَ وُسْعَ الإِنَاءِ فَأوْدَي النَّدَى نَاضِرَ العُوْدِ وَآل. . . فُتُوَّةُ مَغْمُوسَةَ فِي الفَتَاءِ وَأَضْحَتْ عَلَيهِ العُلا خُشَّعاً. . .وَبَيتُ السَّمَاحَةِ مُلْقَى الكِفَاءِ وَقَدْ كَانَ مِمَّا يُضِيْءُ السَّرِيْرَ. . . وَالبَهْوَ يَمْلَؤُهُ بِالبَهَاءِ سَلِ المُلكَ عَن خَالِدٍ والمُلُوكَ. . .بِقَمْعِ العِدَى وبنَفْيِ العَدَاءِ أَلَمْ يَكُ أَقْتَلَهُمْ لِلأُسُوْدِ. . . صَبْراً وَأوْهَبَهُمْ لِلْظّبَاءِ أُصِبْنَا بِكَنْزِ الغِنَى والإِمَامُ. . . أَمْسَى مُصَاباً بِكَنْزِ الغَنَاءِ ومنها: فَمَا زَالَ يَفْرَعَ تِلْكَ العُلَى. . . مَعَ النَّجْمِ مُرْتَدِياً بِالعَمَاء ويرقى حتى يظن الجهول. . . بأن له حاجة في السماء (1) قوله: (أَسَدٌ عَليُّ، وفِي الحرُوْبِ نَعَامَةٌ. . . فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيْرِ الصَافِرِ) هو لعمران بن حِطُّان (1) رأس الخوارج، يخاطب الحجاج، وقد كان لَجَّ في طلبه، وبعده: هَلاَّ حَمَلْتَ على غَزَالَةَ فِي الوَغَى. . . بَلْ كَانَ قلْبُكَ فِي جَنَاحَي طَائِرِ صَدَعَتْ غَزَالَةُ قَلْبَهُ بِفَوَاْرِسَ. . . تَرَكَتْ مَدَابِرَهُ كَأَمسِ الدَّاْبِرِ (3) قال الطيبي: فتخاء مسترخية الجناح. والصفير صوت المكاء. والنعام يضرب به المثل في الجبن. قيل: قتل الحجاج شبيبا الخارجي، فحاربته امرأته غزالة سنة، وهرب الحجاج وهي تتبعه، فقيل له ذلك تعييرا. أي هلا حملت على هذه المرأة في الوغى، بل كان قلبك في الرجف والخفقان كأنه في جناحي طائر (4).

وقال الشيخ: سعد الدين: المعنى أنت أسد، فهو في حكم المنطوق. قال: وفي التمثيل بهذا البيت إشارة إلى أن ذكر المشبه به وإن ذكر بعده ما يشعر بأنه ليس في معناه، كلفظ " عَلَيَّ " فالكلام تشبيه. لكنا نقول: النزاع في هذا المقام ليس لفظيا محضا، بل مبنيا على أن اسم المشبه به هاهنا في معناه الحقيقي، حتى لا يستقيم الكلام إلا بتقدير الكاف، فيكون تشبيها أوفي معنى المشبه، كالرجل الشجاع مثلا، ليكون استعارة لمعنى اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي، ويصح الحمل من غير تقدير الكاف. قال: وهذا هو المختار عندي، وقد شهد به الاستعمال، فإن معنى " أسد عليّ " مجترئ صائل، ومعنى انعامة في الحروب " جبان هارب. وتقول: هو أخي في الله، وهم إخوتنا في الدين. قال ابن مالك: إذا قلت: هذا أسد مشيرا إلى السبع فلا ضمير في الخبر، وإذا قلت: مشيرا إلى الرجل الشجاع ففيه ضمير مرفوع به؛ لأنه متأوّل بما فيه معنى الفعل، ولو أسند إلى ظاهر لرفعه كقولك: رأيت رجلا أسدا أبوه (1). وقال الشريف: " أسد عَلَيَّ " جاز تعلق الظرف به؛ لملاحظة ما يلزمه من الجراءة؛ لأنه مستعمل في معنى مجترئ صائل، وإلا كان مجازا مرسلا، وفات معنى التشبيه بالكلية، كما في قولك: زيد شجاع، أو مجترئ، وكذلك الحال في نعامة يلاحظ معهما معنى الجبن والفرار. وما قيل من: أن " أسدا " في " زيد أسد " مستعمل في المشبه، أي الرجل الشجاع، فيكون استعارة = مردود بأن هذا المجموع ليس مشبها بالأسد؛ فإن الشجاعة خارجة عن الطرفين اتفاقا. والحق أن أسدا مستعمل هناك في معناه الحقيقي، وقد حمل على زيد، بناء على دعوى كونه من أفراده، فلا يظهر حينئذ تقدير الأداة؛ لفوات المبالغة، فإنك إذا قلت: زيد كالأسد، فقد جعلت مشابهته للأسد مقصودة بالإثبات، وإذا قلت: زيد أسد كان مقصودك إثبات حمله عليه، لا مشابهته إياه، كما في سائر أفراده، ثم إنه قد يلاحظ - على سبيل التبعية لمعناه الحقيقي - ما يلزمه من الجراءة والصولة وغيرهما من المعاني اللازمة، فيعمل في الظرف باعتبار ذلك المعنى التابع، وقد يرفع به

قوله: (أي كمثل ذوي صيب)

الفاعل أيضاً، نحو رأيت رجلا أسدا أبوه، إما لقصد معنى المشابهة، أو لاعتبار اللازم، سواء جعل تابعا أو مستعملا فيه اللفظ. انتهى (1). قوله: (وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من مفعول " تركهم) قال أبو حيان: على أن ترك لا يتعدى لمفعولين، أو يكون تعدى إليهما وقد أخذهما. قال: أو يكون مفعولا ثانيا لترك، على تعدد الخبر، أو منصوبا على الذم، كأنه قال: أذم صما بكما عميا (2) .. قوله:: (لا يعودون إلى الهدى) إلى آخره. قال الطيبي: أي لا يرجعون متعلقة بمحذوف، فإما أن يقدر المتعلق " إلى " فالرجوع إذن بمعنى الإعادة إلى ما كان، فالمعنى: لا يعودون إلى الهدى؛ لأن المراد تمكنهم من الهدى. وإما أن يقدر " عن " فالمعنى: لا يرجعون عن الضلالة، فإن المتمسك بالشيء لا يرجع عنه، وإما أن لا يقدر شيء، ويترك على الإطلاق (3). وفي الحاشية المشار إليها: تلخيصه أنه يصلح أن يكون الضمير في (لا يرجعون) عائدا إلى المنافقين، وأن يكون عائدا إلى المستوقد، والأول يحتمل وجهين؛ لأنه يقال: رجع عن الشيء إذا تركه، ورجع إليه إذا أقبل عليه، فعلى الأول فهم لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشتروه، وعلى الثاني فهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باعوه. والاحتمال الثاني في أصل المسألة للمستوقدين، ومعناه لا يدرون كيف يذهبون، ولا كيف يرجعون. * * * قوله: (أي كمثل ذوي صيب) قال في بعض الحواشي: مراده أن المنافقين لا يشبهون نفس الصيب، وإنما يشبهون مَن أصابه الصيب الموصوف. قوله: (و " أو " في الأصل للتساوي في الشك، ثم اتسع فيها، فأطلقت للتساوي

من غير شك) قال صاحب " الفرائد ": الوجه أن يقال: " أو " لتعليق الحكم بأحد المذكورين فصاعدا، والتفاوت في المؤدى إنما يقع بحسب التركيب الذي وقعت فيه، فإن وقعت في الخبر فالحاصل تعلق الحكم بأحدهما، وهو غير معين، فأمكن أن يقع الشك فيه، وإن وقعت في الطلب ولم يمكن وقوع الشك فيه أفاد التخيير والإباحة، والحاصل أيضاً تعلق الحكم بأحدهما، وذلك غير مانع لتعلق الحكم بكل واحد منهما، فعلى هذا لم تلزم الاستعارة، وهي في المواضع كلها على معناها. قال الطيبي: حاصل تقريره أنَّ " أو " حقيقة في القدر المشترك بين الشك والتخيير والإباحة، وهو تعليق الحكم بأحد الأمرين. قال الحديثي (1): دلالة " أو " و " أم " و " إمُّا " على أحد الشيئين، لا غير، وأما الشك والتخيير والإباحة وغيرها فإنها من صفات الكلام الذي هي فيه، وإضافتها إليها مجاز. وقال ابن الحاجب في " شرح المفصل ": إنما قال المصنف: ويقال في " أو " و " إما " في الخبر: إنهما للشك، بلفظة " يقال " تنبيها على أن ذلك ليس بلازم، إذ قد يكون المتكلم مُبْهِماً. أما في الأمر فيقال: إنهما للتخيير والإباحة على وضعهما لإثبات الحكم لأحد الأمرين، إلا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن الأمر غير حاجز عن الآخر، مثل قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة، وإلا سمي تخييرا، وهو لأحد الأمرين في الموضعين، وإنما علم نفي حجز الأمر عن الآخر في الإباحة من أمر خارج، كما في النهي، نحو قوله تعالى (ولا تطع مثهم آثما أو كفورا) [سورة الإنسان 24] جاء التعميم من جهة النهي الداخل على معنى النفي؛ لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا، أي واحدا منهما، فإذا جاء النهي تبقى على بابها ويصير المعنى: ولا تطع واحدا منهما، فلا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما مطلقا (2). قال الطيبي: وجه التوفيق بين كلاميه في " الكشاف " و " المفصل " هو أن " أو " في

أصل اللغة موضوعة لتساوي شيئين في الشك، ثم فيه طريقان: أحدهما: أن يستعار لمعنى التخيير أو الإباحة؛ لعلاقة تعليق الحكم بأحد المذكورين، كما يستعار الأسد للشجاع؛ لعلاقة الجراءة. وثانيهما: أن يحمل على عموم المجاز؛ لتعليق الحكم بأحد المذكورين، فيقال: أما في الخبر فإنها للشك، وفي الأمر للتخيير، والإباحة، وعلى الأول ورد في " الكشاف " وعلى الثاني في " المفصل ". وفي كلام الزجاج إشعار بما ذهب إليه المصنف. قال: (أو) في قوله تعالى (أو كصيب من السماء) دخلت لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة " أو " الإباحة. والمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين، إن مثلتموهم بالمستوقدين فذاك مثلهم، أو مثلتموهم بأصحاب الصيب فهو مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعا فهما مثلاهم (1). قال الطيبي: فاختصاص الحذاق - أي المهرة - بهذا المعنى دون من سواهم دليل على دقة هذا المعنى، ولم يكن كذلك إذا كان حقيقة، لاستواء الحذاق وغيرهم من أهل اللغة فيه. وهذا خلاف تلك القاعدة، وهي أن " أو " في الأمر للإباحة؛ لكونها داخلة هاهنا على الخبر، وهي للإباحة؛ ولأن " أو " عند الإطلاق يتبادر منها الشك، دون ما سواه من المعاني، وذلك أمارة الحقيقة (2). قوله: (وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما) قال في " الكشاف ": فإن قلت: أَيُّ التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني؛ لأنه أدلّ على فرط الحيرة، وشدة الأمر، وفظاعته، ولهذا أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ (3) ". قوله: (ويقال للمطر وللسحاب) عبارة " الكشاف ": " والصيب المطر الذي يصوب، أي ينزل ويقع، ويقال

للسحاب: صيب أيضاً " (1) قال الشريف: أي على أنه صفة له (2). وقال الشيخ أكمل الدين: لم يبين أن إطلاقه على السحاب حقيقة أو مجاز، وهو محتمل لهما، والمجاز أبلغ (3). قوله: (قال الشماخ (4): . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأسْحَمُ دانٍ صادِقُ الرَّعدِ صَيِّبُ (5)) صدره: مَحَا آيَهُ نَسجُ الجَنُوْبِ مَعَ الصَّبَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. قال الطيبي: الأسحم: السحاب الأسود. ودان: قريب من الأرض. صادق الرعد: أي غير خلب. المعنى: محا آثَارَ رَبْعِ المحبوب، وَغَيَّرَ رُسُوْمَهُ = اختلافُ هاتين الريحين، وتتابع هبوبهما، مثل اختلاف الريحين بنسج الصانع الثوب، فإن إحدى الريحين بمنزلة السَّدَى، والأخرى اللحمَةِ، فإن ريح الصبا تهب من جانب المشرق، والجنوب من يمين من يكون متوجه المشرق (6). وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن هذه الأوصاف إنما تحسن في السحاب، دون المطر (7). وفي الحاشية المشار إليها: صادق الرعد من باب المجاز، فإن الرعد لما كان مبشرا بالمطر صار كأنه واعد بنزول المطر، ثم صدق وعده بنزوله. * * * فائدة: الشماخ بالشين المعجمة، هو ابن ضرار بن حرملة بن صيفي بن أصرم، شاعر مشهور.

وقد رأيت البيت في " ديوان النابغة الذبياني (1) " من قصيدة يخاطب بها النعمان بن المنذر. وأولها: أرَسْماً جَدِيداً مِن سُعادَ تَجَنَّبُ. . . عَفَتْ رَوضَةُ الأَجْدَادِ مِنها فتنضب محا آيَهُ ريحُ الجَنُوبِ مَعَ الصَّبَا. . . وَأسْحَمُ دانٍ مُزْنُهُ مُتَصَوِّبُ (2) قوله: (وفي الآية يحتملهما) أقول: الثابت في التفسير أن المراد به في الآية المطر. أخرجه ابن جرير (3) من عدة طرق عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والربيع، وابن زيد، وسفيان، ولا مخالف لهم. قوله: (قال:. . . . . . . . . . ومن بُعْدِ أرضٍ بَينَنَا وَسَمَاءِ) صدره: فَأوَّهُ لِذِكْرَاهَا إِذا ما ذكَرْتُهَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. قال الشيخ سعد الدين: حيث نكَّرَ أرضاً، وسماءً للبعضية؛ إذ ليس بينهما بُعْدُ جميع الأرض، وجميع السماء. يعني أتوجع من ذكراها، ومن حيلولة قطعة من الأرض، وناحية من السماء بيننا (4). وقال الطيبي: سمى بعض الأرض أرضا، وبعض السماء سماء، وأراد ببعد السماء والأرض، ما تقابل من السماء والأرض، التي بينهما. ولا يجوز أن يراد بالسماء المطلقة؛ لأنها ليست بينه وبينها (5). وقال الشيخ أكمل الدين: الاستشهاد على أنه أراد بالسماء طائفة منها تتخلل بينه وبين محبوبته؛ إذ السماء المطلقة ليس بينه وبينها (6).

قلت: والبيت أورده ابن جني في " الخصائص (1) " شاهدا على أن " أَوَّ " لغة في " أَوَّهُ " اسم، بمعنى أتألّم. قال: ويروى: فأوَّ لذكراها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وهي لغة فيها. قوله: (ما في صيب من المبالغة من جهة الأصل) عبارة " الكشاف ": " من جهة التركيب (2) " قال الشيخ سعد الدين: أي من جهة المادة الأولى؛ لأن الصاد من المستعلية، والياء مشددة، والباء من الشديدة، ومن جهة المادة الثانية؛ لأن الصوب فرط الانسكاب والوقوع (3). قوله: (والبناء) قال الطيبي: لأنها بنيت على وزن فَيْعِلٍ، وهي صفة مشبهة، تدل على شيء ثابت (4). قال السجاوندي: وهي بناء يختص بالمعتل، وفيه مبالغة. قوله: (والتنكير) قال الشيخ سعد الدين: لأنه للتعظيم والتهويل (5). قوله: (مع ظلمة الليل) قال الطيبي: قيل: ظلمة الليل من أين تستفاد من الآية، وليس فيها ما يدل عليها. فيقال: تستفاد من الجمع، ومقام المبالغة، فإن أقَلَّ الجمع ثلاثة (6). وقال الشيخ سعد الدين: الغرض إثبات ثلاث ظلمات في الصيب، على ما هو أَقَلُّ الجمع، وظلمة الليل مستفادة من قوله تعالى " كلما أضاء لهم " الآية (7).

قوله: (وجعله مكانا للرعد والبرق) قال الشريف: يعني أن ظرفية السحاب للرعد والبرق ظاهرة، دون ظرفية المطر لهما (1). قوله: (لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به) قال الطيبي: هو من إطلاق أحد المتجاورين على الآخر (2). وقال الشيخ سعد الدين: جعلا كأنهما فيه بطريق استعارة كلمة " في " للتلبس المخصوص الشبيه بتلبس الظرفية الحقيقية. قال: وما قاله الطيبي رُدَّ بأنه يكون المعنى حينئذ: أن في السحاب رعدا وبرقا، لا فى المطر على ما هو المطلوب. قال: فإن قيل: يكون المراد بالصيب المطر، وبضميره السحابُ المجاورُ له على طريق التجوز. قلنا، فلا يكون ظلمة التكاثف، وظلمة الغمام في المطر إلا أن يقدر: وفيه رعد وبرق، ويراد بالضمير الأول المطر، وبالثاني السحاب الملاصق. قال: ومنشأ هذه التعسفات الذهول عن اعتبار التجوز في كلمة " في " (3). قوله: (وارتفاعها بالظرف وفاقا؛ لأنه معتمد على موصوف) قال الشيخ سعد الدين: يعني الاتفاق على جواز ذلك، بخلاف ما إذا لم يعتمد، فإنه مختلف فيه، فسيبويه لا يجعله مرفوعا بالظرف، بل بالابتداء (4). وقال الشريف: أي يجوز ذلك بالاتفاق لا أنه يجب، بخلاف ما إذا لم يعتمد، فإن سيبويه لا يجوز إعماله (5). وفي الحاشية المشار إليها: لا يربد به أنه يجب ارتفاعه به، فإنه يجوز أن يرفع مبتدأ، ويجعل (فيه) الخبر بالاتفاق أيضاً، ولكن مراده أنه إذا لم يعتمد لا يرفع الفاعل عند البصريين دهان أجازه الكوفيون. وأما إذا اعتمد فالرفع به جائز عند الفريقين. قوله: (والرعد صوت يسمع من السحاب، والمشهور أن سببه اضطراب

أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح) تبع في ذلك " الكشاف " (1) ولا عبرة به؛ فإن الأحاديث والآثار وردت بخلافه. قال الطيبي: الصحيح الذي عليه التعويل ما ورد في الحديث (2). أخرج الإمام أحمد في " مسنده " والترمذي - وصححه - والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه في تفاسيرهم، والطبراني في " معجمه " وأبو نعيم، والبيهقي، كلاهما في " دلائل النبوة " عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلًم قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد، قال: " ملك من ملائكة الله، موكل بالسحاب، بيده مخراق من نار يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمر الله " قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: " صوته " قالوا: صد قت (3). وأخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر " وابن جرير، وابن المنذر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " الرعد ملك، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد (4) " وأخرج البخاري في " الأدب المفرد " وابن أبي الدنيا في " كتاب المطر " وابن

جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " الرعد ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه، وكان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له (1) " وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ ابن حيان، عن ابن عباس قال: " الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه (2) " وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: " الرعد ملك من الملائكة، اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته، والبرق سوط من نور يزجر به الملك السحاب (3) " وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: " الرعد ملك، اسمه الرعد، وصوته هذا تسبيحه (4) " وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: " الرعد ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير (5) " وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: " ما خلق الله شيئا أشد سوقا من السحاب، ملك يسوقه، والرعد صوت الملك يزجر به، والمخاريق يسوقه بها " وأخرج أبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو أنه سئل عن الرعد فقال: " - ملك وكله الله بسياقة السحاب، فإذا أراد الله أن يسوقه إلى بلدة أمره فساقه، فإذا تفرق عليه زجره بصوته حتى يجتمع، كما يود أحدكم ركابه " ثم تلا هذه الآية (ويسبح الرعد بحمده (6)) [سورة الرعد 13] وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: " الرعد ملك ينشئ السحاب، ودويه صوته (7) ".

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أن رجلا سأله عن الرعد فقال: " ملك يسبح بحمده " وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله تعالى: (يسبح الرعد بحمده) قال " هو ملك يسمى الرعد، وذاك الصوت تسبيحه (1). وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن أبي صالح قال: " الرعد ملك من الملائكة يزجر السحاب بصوته (2) ". وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: " الرعد ملك من الملائكة، قد وكل بالسحاب، يسوقها كما يسوق الراعي الإبل (3) ". وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن شهر بن حوشب قال: " الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق " (4). وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال " البرق مصع ملك (5) ". قوله: (حدتها الريح) قال الشريف: أي ساقتها (6). قوله: (من الارتعاد) قال الطيبي: لم يرد أن أصله منه؛ لأن أصله من الرعدة، بل أراد أن فيه معنى الاضطراب والحركة (7). وقال الشريف: أي مشتق من الارتعاد، فإن المصنف قد يرد المجرد إلى المزيد إذا كان المزيد أعرف في المعنى الذي اعتبره في الاشتقاق، كالقدر من التقدير،

والوجه من المواجهة. وقيل: " من " هذه اتصالية، أي هما من جنس واحد، يجمعهما الاشتقاق من الرعدة، وكذا التي في قوله: " من برق الشيء بريقا (1) " وقال الشيخ سعد الدين: يعني أن الرعد من الارتعاد، كما أن البرق من البريق. ولو قال: من الرعدة لكان أنسب، إلا أنه لا يبالي بجعل المجرد من المزيد، كالوجه من المواجهة قصدا إلى إلحاق الأخفى بالأعرف في ذلك المعنى الذي يتناسب اللفظان فيه (2). قوله: (كما عَوَّلَ حسَّانُ في قوله: يَسقُونَ مَنْ وَردَ البَرِيْصَ عَلَيهِمِ. . . بَردَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيْقِ السلْسَلِ) البريص - بالصاد المهملة كما ضبطه ابن يعيش في " شرح المفصل " - نهر يتشعب من بردى، وبردى نهر دمشق. وتصفيق الشراب تحويلة من إناء إلى إناء. وبالرحيق حال من فاعل يصفق. والرحيق الخمر. السلسل السهل الدخول في الحلق (3). قال الشيخ سعد الدين: وتعدية وردب " على " مع ذكر المفعول على تضمين معنى النزول، كأنه قال: ورد البريص نازلا عليهم، ضيفا لهم، وإلا فالاستعمال ورد الماءَ ورودا، وورد البلدَ حضر، وورد عليه الكتاب وصل إليه. والباء في ب " الرحيق " للمصاحبة. وألف بردى للتأنيث، فتذكير الضمير في " يصفق " لعوده إلى المضاف المحذوف، أي ماء بردى، كجمع الضمير في (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [سورة الأعراف 3] ولو روعي حال اللفظ القائم مقام المضاف لأنث هنا، وأفرد ثمة. والبيت من قصيدة معدودة في المختارات، وأولها: أَسَألْتَ رَسْمَ الدارِ، أَمْ لَمْ تَسألِ. . . بَيْنَ الجَوابِي، فالبُضَيْعِ، فَحَوْمَلِ لِلهِ دَرُّ عِصابةٍ نادْمتُهُمْ. . . يَوْماً بِجِلَّقَ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ

أوْلادُ جَفْنةَ حولَ قَبْرِ أَبِيْهِمِ. . . قَبْرِ ابنِ مَارِيةَ الكَرِيمِ المُفْضِلِ بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحسَابُهُمْ. . . شُمُّ الأنُوْفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ يُغْشَوْنَ حَتَّى ما تَهِرُّ كِلابُهُمْ. . . لا يَسْألُوْنَ عَنِ السَّوَادِ المُقْبِلِ اللاحِقِيْنَ فَقِيرَهُمْ بِغنِيِّهِمْ. . . المُنْفِقِينَ عَلَى اليَتِيْمِ الأَرْمَلِ يسقون من ورد البريص عليهم. . . بردى يصفق بالرحيق السلسل (1) قوله: (والجملة استئناف) قال أبو حيان: فلا محل لها من الإعراب قال: وجوزوا أن يكون موضعها الجر على الصفة لـ " ذوي " المحذوف، والنصب على الحال من الهاء في " فيه " والراجع على الحال (2) محذوف، نابت الألف واللام عنه، والتقدير: من صواعقه (3). قوله: (وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة) قال ابن المنير: فيه إشعار بأنهم يدخلون أصابعهم في آذانهم فوق المعتاد فرارا من شدة الصوت (4). قوله: (أي من أجلها) قال الشيخ سعد الدين: يعني أنها الباعث، وذلك أن " من " هنا تغني عنها اللام في المفعول له، فقد يكون غاية يقصد حصوله، وقد يكون باعثا يتقدم وجوده (5). قوله: (سقاهم (6) من العيمة) أي بسبب العيمة، وهي شهوة اللبن، كما أن القرم شهوة اللحم. قوله: (والصاعقة قصفة رعد) قال القطب: أي صوت رعد، والقصف في الأصل الكسر (7). وقال الشيخ سعد الدين: أي شدة صوته (8).

وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد (1). قوله: (إلا أتت عليه) قال الطيبي: أي أهلكته (2). قوله: (وقرئ من الصواقع، وهو ليس بقلب من الصواعق؛ لاستواء كلا البناءين في التصرف) قال الطيبي: أي فيما يلزم الفعل من التشعب والاشتقاق، فيقال: صقع الديك، وخطيب مصقع، وصقعه على رأسه، ولو كان مقلوبا لم يتجاوز عن صورة واحدة (3). الراغب: الصاعقة، والصاقعة متقاربان، وهما الهدَّة الكبيرة، إلا أن الصقع يقال: في الأجسام الأرضية، والصعق في الأجسام العلوية. وقال بعض أهل اللغة: الصاعقة ثلاثة أوجه: الموت: كقوله تعالى (فصعق من في السموات) [سورة الزمر 69] والعذاب: كقوله تعالى (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) سورة فصلت 14] والنار: كقوله تعالى (ويرسل الصواعق) [سورة الرعد 14] قال الطيبي: وما ذكره فهي أشياء متولدة من الصاعقة، فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو، ثم يكون منه نار فقط، أو عذاب، أو موت، وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تأثيرات منها (5). قوله: (صقع الديك) أي صاح. قوله: (وخطيب مصقع) بكسر الميم، أي مِجهر، يقال: رجل مجهر - بكسر الميم - إذا كان من عادته أن يجهر بكلامه. قوله: (وصقعته الصاعقة) أي أهلكته. قوله: (وهي في الأصل إما صفة)

زاد قوله: (في الأصل) على " الكشاف " ولابد منه. وقد نبه على ذلك الشيخ سعد الدين فقال: كون الصاعقة صفة للقصفة، أو للرعد، أو مصدرا إنما هو بحسب الأصل، وإلا فهو اسم. قال: وعلى كل تقدير لا شذوذ في جمعها على صواعق (1). وكذا قال الشريف: هي الآن " اسم، وجمعها - على التقادير - على صواعق، جار على القياس (2). قوله: (لقصفة الرعد) قال الطيبي: لأن فاعلة صفة المؤنث، يجيء جمعها على فواعل، كضاربة، وضوارب (3). قوله: (أو للرعد، والتاء للمبالغة) قال الطيبي: أي هو فاعل صفة للمذكر، والتاء للمبالغة، فيجمع على فواعل شذوذا، كفارس وفوارس (4). قوله: (كما في الراوية) هو الرجل الكثير الرواية قوله: (أو مصدر كالعافية والكاذبة) بمعنى المعافاة والكذب وفي الحاشية المشار إليها: قد جاء المصدر على وزن فاعلة في القرآن في مواضع: منها: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) [سورة المائدة 13] أي خيانة (لا تسمع فيها لاغية) [سورة الغاشية 11]، أي لغو (والعاقبة للمتقين) [سورة القصص 83] أي العقبى. (ليس لوقعتها كاذبة) [سورة الواقعة 2] أي كذب. (ليس لها من دون الله كاشفة) [سورة النجم 58] أي كشف. قوله: (حذر الموت) نصب على العلة) قال أبو حيان: كذا أعربوه، وشروط المفعول له موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلا وزمانا.

وفيه نظر؛ لأن قوله (من الصواعق) هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفا لجاز، كقوله تعالى (ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم) [سورة البقرة 265] وقد جوزوا أن يكون نصبا على المصدر، أي يحذرون حذر الموت (1). قوله: (وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَريمِ ادِّخَارَهُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . .. تمامه (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَأعْرِضُ عَن شَتْمِ اللُّئِيمِ تَكَرُّمًا. قال الطيبي: العوراء الكلمة القبيحة، أي أسترها لتبقى الصداقة، وأدخره ليوم احتياج إليه فيه؛ لأن الكريم إذا فرط منه قبيح ندم على فعله، ومنعه كرمه أن يعود إلى مثله. واستشهد به لكون المفعول له مضافا إلى المعرفة، وهو نادر (3). قلت: والبيت لحاتم الطائي (4)، من قصيدة أولها: أَتَعْرِفُ أَطْلالاً ونُؤْياً مُهَدَّماً. . . كخَطِّكَ في رَقٍّ كِتاباً مُنَمْنَمَا فنفسَكَ أكْرِمْهَا فَإِنَّكَ إِنْ تَهُنْ. . . عليكَ فَلَن تُلْفَى لَهَا الدَّهْرَ مُكْرِمَا أَهِنْ فِي الذي تَهوَى التِّلادَ فإِنَّهُ. . . إذا مِتَّ صَارَ اْلمالُ نَهْباً مُقَسَّمَا ولا تَشْقَيَنْ فِيهِ فَيَسْعَدَ وَارِثُ. . . بِهِ حِينَ تَخشَى أَغْبَرَ الجَوِّ مُظْلِمَا تَحَلَّمْ عَنِ الأَدْنَيْنَ واستَبْقِ وُدَّهُم. . . وَلَنْ تَستَطِيعَ الحِلْمَ حَتى تَحَلَّمَا (5) قوله: (والموت زوال الحياة) قال الطيبي: هو على هذا الوجه ليس بعرض، بل هو أمر عدمي (6). قوله: (وقيل: عرض يضادها) قال الشريف: فيكون أمرا وجوديا (7).

وذهبت فرقة ثالثة من أهل الحديث إلى أن الموت جسم؛ لورود الأحاديث والآثار مصرحة بذلك، غير أن للأولين أن يقولوا: إنهم لم يقصدوا حقيقة الموت في الواقع، بل أثره القائم ببدن الحيوان عند مفارقة الروح له، فاختلف محل النزاع. أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في. قوله تعالى (الذي خلق الموت والحياة) [سورة الملك 2] قال: الحياة فرس جبريل، والموت كبش أملح. وقال مقاتل والكلبي: خلق الله الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيَّ. وأخرج أبو الشيخ ابن حيان في " كتاب العظمة " عن وهب بن منبه (1) قال: خلق الله الموت كبشا أملح مستترا بسواد وبياض، له أربعة أجنحة، جناح تحت العرش، وجناح في الثرى، وجناح في المشرق، وجناح في المغرب (2). وأخرج الشيخان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله علية وسلّم: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت " وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت - زاد ابن حبان -: وكلهم قد رأوه - ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت - وكلهم قد رأوه - فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود، فلا موت، ويا أهل النار خلود، فلا موت (3) ".

وأخرج البزار وأبو يعلى، والطبراني في " الأوسط " بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي منادٍ يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح كما تذبح الشاة، فيأمن هؤلاء، وينقطع رجاء هؤلاء (1) " وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار. والأحاديث في هذا كثيرة، بحيث إن طائفة من أهل الكلام استشكلت ذلك بناء على أن الموت عرض، والعرض لا ينقلب جسما، فكيف يذبح؟ وتجاسرت طائفة فأنكرت صحة الحديث، ودفعته. والتحقيق ما أشرنا إليه، وهو أن الموت دي الحقيقة هو هذا الجسم الذي على صورة الكبش، كما أن الحياة جسم على صورة فرس لا تمر على شيء إلا حيَّ. وأما المعنى القائم بالبدن عند مفارقة الروح فإنما هو أثره، فإما أن تكون تسميته بالموت من باب المجاز، لا الحقيقة، أو من باب الاشتراك، وحينئذ فالأمر في النزاع قريب. * * * تنبيه: تابع المصنف " الكشاف (2) " في هذه المسألة حتى إنه مشى معه على مذهبه. قال المازري (3) في " شرح مسلم ": الموت عند أهل السنة عرض من

الأعراض، وعند المعتزلة عدم محض (1). انتهى. فأنت ترى المصنف كيف صدر بالقول الذي هو مذهب المعتزلة مرجحا له، ثم ثنى بالقول الذي هو مذهب أهل السنة بصيغة التمريض، وما كفاه ذلك حتى ذكره حجته وردَّها، ولكن كل هذا تلخيص كلام " الكشاف ". ومما يدل أن الموت جسم، أو عرض مخلوق قوله تعالى (أو خلقا مما يكبر في صدروكم) [سورة الإسراء 51] فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالموت (2). قال الطيبي هناك: معناه: لو كنتم نفس الموت لأحياكم على المبالغة، كما يقال: لو كنت عين الحياة لأماتك، وإلا فالموت عرض لا ينقلب الجسم إليه، وهو لا ينقلب إلى ضده الذي هو الحياة (3).

قوله: (لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ) قال القطب: فهو استعارة تمثيلية، شبه حاله تعالى، مع الكفار - في أنهم لا يفوتونه، ولا محيص لهم عن عذابه - بحال المحيط بالشيء - في أنه لا يفوته المحاط - واستعير لجانب المشبه الإحاطة (1). وقال الطيبي: هي استعارة تمثيلية، شبهت حالة إنزال الله تعالى عذابه على الكافرين من كل جانب بحيث لا محيد لهم عنه، بحالة الجيش الذي صبح القوم، وقد أحاط بهم عن آخرهم، فلا يفوت منهم أحد (2).

وقال الشيخ سعد الدين: شبه حال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور ألبتة بإحاطة المحيط بالمحاط، بحيث لا يفوته، فتكون الاستعارة تبعية جارية في الإحاطة، وهذا لا ينافي كونها تمثيلية، لما في الطرفين من اعتبار التركيب. وأما كونها تمثيلا بمعنى تشبيه حاله تعالى مع الكفار بحال المحيط مع المحاط، بحيث تكون المفردات على حقيقتها، كما في " أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " ففيه نظر (1). وقال الشريف: إن شبه شمول قدرته تعالى إياهم بإحاطة المحيط بما أحاط به - في امتناع الفوات - كان هناك استعارة تبعية في الصفة، سارية إليها من مصدرها. وإن شبه حاله تعالى معهم بحال المحيط مع المحاط، أي شبه هيئة منتزعة من عدة أمور بأخرى مثلها كان هذا استعارة تمثيلية، لا تصرف في شيء من ألفاظ مفرداتها. ومن زعم (2) أن كون هذه الاستعارة تبعية لا ينافي كونها تمثيلية لما في الطرفين من اعتبار التركيب = إن أراد به أن معنى الإحاطة مركب ففساده ظاهر؛ لأنها كالضرب مدلولها مفرد، وإن أراد اعتبار هيئة في مدلوله مع غيره لم يكن مدلول الإحاطة حينئذ مشبها به، فكيف تسري منه استعارة إلى الوصف المشتق منها. ومن هنا ينكشف لك أن الاستعارة التمثيلية لا تكون تبعية أصلاً (3). انتهى. قوله: (والجملة اعتراضية لا محل لها) قال أبو حيان: لأنها دخلت بين هاتين الجملتين، وهما (يجعلون أصابعهم) و (يكاد البرق) وهما من قصة واحدة (4). قال الطيبي: فإن قلت: كيف يصح أن تقع معترضة، وهي لتأكيد معنى المعترض فيها، والكلامان اللذان اعترضت هذه فيهما في شأن ذوي الصيب، وهو الممثل به، وهذه بعض أحوال المنافقين الممثل له؟ قلت: هذا من وجيز الكلام وبليغه، وذلك أن مقتضى الظاهر أن يذكر هذا قبيل

(كصيب) ليكون بعضا من أحوال المشبه، فنزل هنا ليدل على ذلك، ويعطي معنى التأكيد لهاتين الجملتين، وفيه من الغرابة أنه مؤكد لحال المشبه، وهو من حال المشبه به، وفائدته شدة المناسبة بين المشبه والمشبه به، فإن المشبه به مما يهتم بشأنه، ويعتنى بحاله (1). وقال الشيخ سعد الدين: من مذهب صاحب " الكشاف " أن لنا واوًا اعتراضية، لا عاطفة، ولا حالية، وأن الاعتراض قد يكون في آخر الكلام، كقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [سورة البقرة 92] وذلك لأن كلا من الجمل الثلاث، أعني (يجعلون) و (يكاد) و (كلما أضاء) استئناف مستقل، منشأ الأول (ورعد) والأخيرين (وبرق) فيكون (والله محيط بالكافرين) في آخر الكلام. والنكتة في الاعتراض التنبيه على أن الحذر من الموت لا يفيد. وقيل: هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبه، على أن المراد بالكافرين المنافقون، فإنهم من عذابه تعالى في الآخرة، وإهلاكه إياهم في الدنيا بحيث لا مدفع له، وَوَسَّطَ بين أحوال المشبه به تنبيها على شدة الاتصال، وفرط التناسب (2). قوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) استئناف ثان) قال أبو حيان: ويحتمل أن يكون في موضع جر صفة لـ " ذوي " المحذوفة (3). قوله: (ويخَطِّفُ على أنه يختطف) القراءة على هذه بكسر الطاء المشددة وبفتحها. قوله: (وكذلك أظلم) قال الأزهري: كل واحد من " أضاء " و " أظلم " يكون لازما ومتعديا (4). قال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل: إن كان أظلم هنا متعديا، فالفاعل ضمير " الله " أو " البرق " أي أظلم البرق بسبب خفائه معاينة الطريق. قوله: (منقولا من ظلم الليل)

في " الصحاح ": ظَلِمَ الليل بالكسر، وأظلم. حكاه الفراء (1). قوله: (ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول) قال القطب: فيه نظر، لجواز أن يكون (أظلم) مسندا إلى (عليهم) (2) كقوله (غير المغضوب عليهم) وحينئذٍ فلا يدل على تعدية. وكذا قال الحلبي: لا دليل في ذلك، لاحتمال أن أصله: وإذا أظلم الليل عليهم، فلما بني للمفعول حذف الليل، وقام " عليهم " مقامه (3). قال الطيبي: والجواب أن " عليهم " ليس صلة لأظلم، بل هو ظرف مستقر. والأصل وإذا أظلم الليل مَمْشىً عليهم قاموا، فبنى للمفعول، فاستتر فيه ضمير " ممشى " فحينئذٍ يطابق قوله فيما سبق (كلما نور لهم ممشى أخذوه) (4) وقال الشريف: أجيب بأن (عليهم) مقابل (لهم) في (أضاء لهم) فإن جعلا مستقرين لم يصلح (عليهم) أن يقوم مقام الفاعل أصلا، وإن جعلا صلتين للفعلين على تضمينهما معنى النفع والضر صح أن يقام مقام فاعل المضمن، دون المضمن فيه. وعلى تقدير صلوحه لذلك فعطف (إذا أظلم) على (كلما أضاء لهم) مع كونهما معا جواباً للسؤال عما يصنعون في تارتي خفوق البرق، وخفيته يقتضي أن يكون (أظلم) مسندا إلى ضمير البرق، كأضاء، على معنى كلما نفعهم البرق بإضاءته اغتنموه، وإذا أضرهم بإظلامه واختفائه دهشوا. قال: وقد يجاب أيضاً بأن بناء الفعل للمفعول من المتعدي بنفسه أكثر، فالحمل عليه أولى (5). قوله: (وقول أبي تمام هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أَجلَيَا. . . ظَلامَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ) قبله - وهو أول القصيدة -:

أَحَاوَلْتِ إِرْشَادِي فَعَقْلِي مُرْشِدِِي. . . أمِ استَمْتِ تَأْدِيبي، فَدَهْرِيْ مُؤدِّبيْ (1) الاستيام الطلب. يقول: لا تتعرضي لإرشادي فعقلي مرشدي، ولا تجشمي تأديبي فدهري (2) مؤدبي. هما أي العقل والدهر. قال القطب، والطيبي، والتفتازاني، والشريف: وإنما أسند الإظلام إلى العقل؛ لأن العاقل لا يطيب له عيش. زاد التفتازاني، والشريف: وإلى الدهر؛ لأنه يعادي كل فاضل. قال التفتازاني: ويجوز أن يكو لإرشاد العاذلة وتأديبها. وقوله: حاليَّ، قال القطب أي الديني والدنيوي وقال الطيبي: أي الشيب والشباب. وقال التفتازاني والشريف: أراد بحاليه ما يتوارد عليه من المتقابلين، كالخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والعسر واليسر. قال الشريف: والمقصود التعميم (3). وقوله: ثمت أجليا، أي كشفا ظلاميهما. وقوله:. . . . . . . . . . . . . . . عن وجه أمرد أشيب من باب التجريد (4)، أي عن وجهي وأنا شاب في السن، وشيخ أشيب في تجربة الأمور وعرفانها، أو أشيب في غير أوانه لمقاساة الشدائد. والهمزة في " أحاولت " للإنكار، أي ما كان ينبغي أن تتجشمي في الإرشاد والتأديب. والفاء تعليل لمحذوف، أي لا تحاوليني لشيء منهما؛ فإن العقل والدهر كفاية فيهما. قوله: (فإنه وإن كان من المحدثين) هم الشعراء الذين نشؤوا بعد الصدر الأول من الإسلام، لا يحتج

بكلامهم؛ لكونهم بعد فساد الألسنة، وأولهم بشار بن برد (1). والشعراء طبقات: الجاهليون: مثل امرئ القيس (2)، وزهير بن أبي سلمى (3)، وطرفة (4)، والنابغة الذبياني. والمخضرمون: وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، مثل حسان، ولبيد. والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق، وجرير، ويستشهد بأشعارهم في اللغة والعربية. ثم المحدثون كالبحتري (5)، وأبي تمام، والمتنبي، ولا يستشهد بشعرهم في لغة، ولا في عربية. نقل ثعلب عن الأصمعي قال: ختم الشعراء بإبراهيم بن هرمة (6)، وهو آخر الحجج. وقال الأندلسي (7) في " شرح بديعية رفيقه ابن. . . . . . . . . . . . . . .

جابر (1) ". علوم الأدب ستة: اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع. قال: فالثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب نظما ونثرا؛ لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم، والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب، وغيرهم من المولدين؛ لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق فيها في ذلك بين العرب وغيرهم؛ إذ هو أمر راجع إلى العقل، ولذلك قبل من أهل هذا الفنّ الاستشهاد بكلام البحتري، وأبي تمام، وأبي الطيب، وأبي العلاء (2)، وهلمَّ جرا (3). قوله: (لكنه كان (4) من علماء العربية). ولذا ترجمة الكمال ابن الأنباري في كتابه المسمى " نزهة الألباء في طبقات الأدباء " فقال: هو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس الطائي، شامي الأصل، قدم بغداد وجالس بها الأدباء، وعاشر العلماء، وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر (5) وغيره أخبارا مسندة. ورثاه الحسن بن وهب (6) بقوله: فُجِعَ القَرِيضُ بِخَاتَمِ الشُّعَرَاءِ. . . وغَدِيْرِ رَوْضَتِهَا حَبِيبِ الطَّائِيْ مَاتَا مَعاً فَتَجَاوَرَا فِي حُفرَةٍ. . . وَكَذَاكَ كَانَا قَبْلُ فِي الأَحْيَاءِ (7)

وجمع الصولي (1) أخبار أبي تمام في مجلد (2). قوله: (فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه) أي لأنه موثوق به في الرواية، فلو لم يسمع من العرب لم يقل. قلت: ولا يخفى ما في هذا؛ إذ لو فتح هذا الباب لاحتج بكل ما وقع في شعر المحدثين بهذا الطريق. وكم أخذ النحاة، واللغويون على أبي تمام، والمتنبي، وأضرابهما من موضع ولَحَّنُوهُم (3). وفي الحاشية المشار إليها: ما ذكره المصنف ممنوع؛ فإن الإنسان قد يتساهل فيما ينطق به، ولا يتساهل فيما ينقله إذا كان عدلا. ولو صح ما قاله لم يقتصر ذلك على أبي تمام، ولجاز الاستشهاد بقول الحريري، وغيره ممن جمع بين الأدب والعدالة، وليس كذلك. وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره: الظاهر لزوم أظلم، فالأصل عدم الحذف، وكون الهمزة للنقل خلاف الظاهر، وقول أبي تمام ليس كروايته؛ لجواز صدور قوله عن اجتهاد أخطأ فيه، فالحجة فيما رواه، لا فيما رآه. وكذا قال الشيخ سعد الدين: قد يفرق بأن مبنى الرواية على الوثوق والضبط، ومبنى القول على الدراية والإحاطة بالأوضاع والقوانين، والإتقان في الأول لا يستلزم الإتقان في الثاني، فغاية الأمر أنه جمع في " الحماسة " أشعار من يستشهد بشعرهم، وصدق في ذلك، فمن أين يجب أن يكون ما يستعمله في شعره مسموعا

ممن يوثق به، أو مأخوذا من استعمالاتهم. والقول بأنه بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد، بل هو بعمل الراوي أشبه، وهو لا يوجب السماع (1). قوله: (وإنما قال مع الإضاءة (كلما) ومع الإظلام (إذا) لأنهم حراص على المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، ولا كذلك التوقف) الفرصة النوبة والشرب، يقال: وجد فلان فرصة، أي نهزة، وجاءتك فرصتك في النهز، أي نوبتك. وفي " الصحاح ": انتهزت الفرصة إذا اغتنمتها (2). وقد ذهب بعضهم إلى أن التكرار مراد في الإظلام أيضاً، وأنه ترك استغناء بذكره في الجملة الأولى، أو لاستفادة التكرار منها، فإن تكرار الإضاءة لا يتحقق إلا بتكرار الإظلام. وقال أبو حيان: لا فرق عندي بين (كلما) و (إذا) هنا من جهة المعنى إذ التكرار متى فهم من (كلما أضاء) لزم منه التكرار أيضاً في أنه (إذا أظلم عليهم قاموا) إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، متى وجد ذا فُقِدَ ذا، ولزم من تكرار وجود ذا عدم ذا. على أن من النحاة من ذهب إلى أن " إذا " تدل على التكرار، كـ " كلما " وأنشد: إِذا وَجَدتُّ أُوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي. . . أَقبَلْتُ نَحْوَ سِقاءِ القَوْمِ أبْتَرِدُ (3) فمعناه معنى " كلما " (4). والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في " كلما (5) " إنما ذلك فيها من العموم، لا أن لفظ " كلما " وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت " كل " توكيدا للعموم المستفاد من " ما " الظرفية، فإذا قلت: " كلما جئتني أكرمتك " فالمعنى: أكرمك في كل فرد من جيأتك إليَّ.

قوله: (ومنه قامت السوق إذا ركدت) قال التفتازاني: أي سكنت. قال: وقد سبق قامت السوق، بمعنى نفقت، وكلاهما مذكور في كتب اللغة (1). قال الشريف: فهو من الأضداد (2). قوله: (بقصيف الرعد) أي شدة صوته. قوله: (بوميض البرق) أي لمعانه. قوله: (ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد) في الحاشية المشار إليها: ليس على ظاهره، بل إنما يكون ذلك مع " إِنْ " الشرطية، و " لولا " الامتناعية، وما شاكلهما، ك " إذا " ونحوها، لافتقارها إلى جواب فيغني الجواب عن المفعول المضمر. فأمَّا إذا تجردا عن ذلك فحكمهما حكم سائر الأفعال في ظهور مفعولهما. وكذا قال الشريف: أي تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد ومتصرفاتهما إذا وقعت في حيز الشرط؛ لدلالة الجواب على ذلك المحذوف، مع وقوعه في محله لفظا، ولأن في ذلك نوعا من التفسير بعد الإبهام (3). قوله: (فَلَوْ شِئْتُ أن أَبْكِيَ دَماً لَبَكَيتُهُ. . . . . . . . . . . . . . . .) تمامه: . . . . . . . . . . . . . . . . . عَلَيكَ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ (4) قال الطيبي: أتى بالمفعول؛ لأن بكاء الدم مستغرب، ونصب " دما " باعتبار تضمين البكاء معنى الصب (5). قلت: والبيت من قصيدة لأبي يعقوب الخريمي (6)، يرثي بها خريم بن عامر

المري، وبعده - وهو آخرها -: وإنِّي وإنْ أَظهَرْتُ صَبْرًا وَحسبَةً. . . وَصَانَعْتُ أَعدَائِيْ، عَلَيكَ لَمُوْجَعُ قوله: (و " لو " من حروف الشرط، وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه) قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن " لو " هاهنا لمجرد الشرط، بمنزلة " إِنْ " لا بمعناه الأصلي من انتفاء الشيء لانتفاء غيره (1). وقال الشريف: كلمة " لو " هنا مستعملة لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على أن انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر، فهي بمنزلة " إن " وقد يقال: إنها باقية على أصلها وقصد بها التنبيه على أن مشقتهم بسبب الرعد والبرق وصلت غايتها، وقاربت إزالة الحواس بحيث لو تعلقت به المشيئة لزالت بلا حاجة إلى زيادة في قصيف الرعد وضوء البرق (2). قوله: (وقرئ لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء) قال الطيبي: يعني دلت الهمزة على التعدية، والباء كعضادة للتعدية وتأكيدها، كما يعضد الباب بعضادتيه (3). وفي الحاشية المشار إليها: القياس أن لا يجمع بين أداتي تعدية، بل إما الهمزة، أو الباء، وقد جاء الجمع بينهما قليلا، ومنه هذه القراءة. قوله: (وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع) إلى آخره. قال الطيبي: وفائدته الراجعة إلى الممثل له هي أنه تعالى يمهل المنافقين فيما هم فيه؛ ليتمادوا في الغي والفساد؛ ليكون عذابهم أشد (4). قوله: (والشيء يختص بالموجود) قال في " الانتصاف ": فإن قيل: إذا كان المعدوم لا يسمى شيئا، وإذا وجد صار شيئا لا تتعلق به القدرة؛ إذ القدرة إنما تتعلق بالشيء أول وجوده، فكيف يكون قادرا على كل شيء؟

فجوابه أنه من باب " قتل قتيلا " أي تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كأنه قال: قادر على كل ما يصير شيئا (1). قال في " الإنصاف ": وفيه نظر، فإن القدرة تتعلق به في أول زمن وجوده، وهو في أول زمن وجوده شيء، بلا خلاف بين المسلمين؛ إذ لو لم يكن شيئا في أول زمن وجوده لم يكن شيئا في ثاني الأحوال (2). قوله: (أطلق بمعنى شاء تارة) قال الطيبي: أي مريد. (وبمعنى مشيء أخرى) هو بفتح الميم، اسم مفعول كمبيع. قال ابن عقيل: فالأول بمعنى الفاعل، والثاني بمعنى المفعول. قوله: (وقول امرئ القيس: كَأنَّ قُلُوْبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيابِساً. . . لَدَى وَكرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِيْ) قال الشيخ سعد الدين: يصف العقاب، وهو مخصوص بأنه لا يأكل قلب الطير. و " رطبا " و " يابسا " حال، أي رطبا بعضها، ويابسا بعضها، وكذا " لدى وكرها " وقد شبه الرطب بالعناب، واليابس بالحشف البالي، أي أراد التمر اليابس (4). وقال ابن قتيبة (5) في " أبيات المعاني ": قلوب الطير أطيب ما فيها، فهي تأتي به تزق به - فراخها (6). وأول القصيدة: أَلا عِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِيْ. . . وَهَلْ يَعِمْنَ مَنْ كَانَ فِي العُصُرِ الخَالِيْ وَهَلْ يَعِمْنَ إِلا سَعِيدٌ مُخَلَّدُ. . . قَلِيْلُ الهُمُوْمِ مَا يَبيْتُ بِأوْجَالِيْ كَأنِّيْ بِفَتْخَاءِ الجَنَاحَينِ لِقْوَةٍ. . . عَلىَ عَجَلٍ مِنْهَا أطأْطِئُ شِمْلالِ تَخَطَّفُ خِزَّانَ الأَنيعمِ بِالضُّحَى. . . وَقَدْ حَجَرَتْ منها ثَعَالِبُ أَوْرالِ

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا (1). . . . . . . . . . . . البيت وفتخاء الجناحين لينتها. واللقوة بكسر اللام العقاب. وقال المبرد في " الكامل ": هذا البيت - بإجماع الرواة - أحسن ما جاء في تشبيه شيء في حالين مختلفين بشيئين مختلفين (2). وقال ابن عساكر في " تاريخه ": يقال: إن لبيدا قدم المدينة فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أشعر الناس؟ فقال: " يا حسان أعلمه " فقال حسان: الذي يقول: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا. . . لدى وكرها العناب والحشف البالي فقال: هذا امرؤ القيس. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " لو أدركته لنفعته " ثم قال: " معه لواء الشعراء يوم القيامة حتى يتدهدى بهم في النار (3) " وفي " أمالي القالي ": عن روح بن زنباع (4) قال: أشعر الشعراء الذي يقول: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا. . . لدى وكرها العناب والحشف البالي (5) والعناب بضم العين بوزن رمان. ذكره في القاموس (6). قوله: (خفقة) من خفق البرق، أي لمع. قوله: (انتهزوها فرصة)

قال الشريف: الانتهاز يتعدى إلى مفعول واحد، فقوله: " فرصة " حال (1). قال الشيخ سعد الدين: والأحسن أن يكون مفعولا ثانيا على تضمين معنى الاتخاذ، أي اتخذوا الخفقة فرصة (2).

الآية (21)

تابع سورة البقرة الآية (21) من سورة البقرة قوله: (فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد) إلى آخره. أما العموم في الحكم: فمجمع عليه. وهل هو بالصيغة؟ أو بدليل آخر من قياس أو غيره؟. خلاف محكي في الأصول. والأصح: الثاني وهو: لفظي. قال الإمام: والأقرب: إنه لا يتناول من سيوجد لأن (يا أيها

الناس) خطاب مشافهة، وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز. وتناوله: له: لدليل منفصل. وهو: ما تواتر من دينه عليه السلام أن أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.؟. قوله: (وما روى عن علقمة، والحسن: أن كل شيء نزل فيه، (يا أيها الناس): فمكي. و (يا أيها الذين آمنوا): فمدني)، إلى آخره. فيه: أمور. أحدها: قول علقمة، أخرجه أبو عبيد. في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً عن ميمون ابن مهران. ولم أقف على قول الحسن مسنداً. الثاني: قوله: (إن صح رفعه)، صوابه: إن صح، بدون (رفعه) لأن المرفوع: قول النبي (أو قول الصحابي فيما يتعلق بالنزول. وعلقمة والحسن ليسا من الصحابة.

(فقد يقال: إن قولهما في ذلك: في حكم المرفوع المرسل). الثالث: هذا توقف من المصنف في صحته، وكذا قال الطيبي: (هذا مذكور في معالم التنزيل والبسيط والكواشي، ولم أجده في كتب الحديث) وقد تقدم تخريجه. وصح عن ابن مسعود أيضاً. أخرجه البزار في مسنده، والحاكم في المستدرك

والبيهقي في دلائل النبوة. الرابع: لم يستدل أحد بهذا الأثر على اختصاص الآية بالكفار حتى يحتاج المصنف إلى رفعه، وغاية ما استدل به، على أن الآية مكية، أي نزلت بمكة مع قصد العموم للمؤمنين والكفار. وأن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: مدني أي نزل بالمدينة. الخامس، في الحاشية المشار إليها: هذا وإن كان مشهوراً ومنقولاً عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: فهو مشكل، لأن سورة البقرة مدنية. وقد قال هنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}. وكذلك سورة النساء: مدنية، وأولها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وفي أثنائها: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قد جاء في سورة الحج وهي مكية بالاتفاق. وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا

وَاسْجُدُوا} فإن أرادوا به أن الأغلب كذا فهو صحيح لا سيما في نداء الذين آمنوا. وإن أرادوا به الحصر: فهو منقوض بما ذكرنا. انتهى. قلت: وقد أجيب عنه بأوجه ذكرتها في أول الاتقان. قوله: (وقرئ من قبلكم على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته)، توكيداً، قال أبو حيان: هذا الذي قاله: مذهب لبعضهم، إنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكداً لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة. وهذا باطل. لأن القياس: إذا أكد الموصول (بمثله) أن تكرره مع صلته. لأنها من كماله، وإذا كانوا إذا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمزلة جزء منه. وخرج أصحابنا هذه القراءة أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك

المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول، وهو اللذين. التقدير: والذين هم من قبلكم. وذكر السفاقسي مثل ما قاله أبو حيان. وحكى الحلبي هذا التخريج الذي قاله أبو حيان، ثم قال: ولا يخفى ما فيه من التعسف. وقال الشيخ سعد الدين: لم يعهد التأكيد اللفظي إلا بإعادة اللفظ الأول، ومع ذلك فقد صرحوا بامتناعه قبل الصلة وإن أريد التأكيد من جهة المعنى: عاد المحذور، واحتيج إلى بيان وجه اجتماع الموصولين. ألا ترى إنهم لم يذهبوا في مثل قول الشاعر: فصيروا مثل كعصف مأكول. إلى أن الكاف تأكيد؟ بل مزيدة - فالأولى أن يقال ههنا: إن كلمة (من) مزيدة، على ما هو مذهب الكسائي، أو موصوفة أو موصولة،

واقعة موقع خبر مبتدأ محذوف. والجملة: صلة الذين، أي الذين هم من قبلكم. وذكر الشريف مثله، وزاد في تقدير كونها موصوفة. إنها موصولة بالظرف، وخبر لمبتدأ محذوف، أي الذين هم أشخاص كائنون قبلكم، ثم قالا: ونقل عن صاحب الكشاف هنا سؤال، وهو: أن الموصول بدون الصلة غير مفيد، فكيف يؤكد بمن؟ وأجاب بأنه يفيد مبهماً، كاسم الإشارة، ولهذا صح عود الضمير إليه في مثل الذي قام، مع أن الضمير إنما يرجع إلى المفيد. فقيل عليه: إن التأكيد اللفظي لما لم يستبعد في الحرف ففي الموصول أولى. وأجيب بأن وجه الاستبعاد هو أن الموصول لا يتم جزءا إلا بصلة وعائد، فهو وحده بمنزلة جزء من الاسم، كالزاي من زيد. ولا كذلك الحرف وإن توقف على ذكر شيء فلا يصير معه بمنزلة

كلمة واحدة. قال الشريف: وأنت خبير بأن جعل الموصولات في الإفادة الاستقلالية دون الحرف خروج عن الإنصاف. قوله: (كما أقحم جرير في قوله: يأتَيَّمُ تَيْمَ عدي لا أبالكم. تَيْماً الثاني بين الأول وما أضيف إليه). قال الشيخ سعد الدين والشريف: الإقحام إدخال شيء على شيء بشدة وعنف، يعني أن تَيْماً الأول مضاف إلى عدى المذكور، وتَيْمَ الثاني: مقحم بين المضاف والمضاف إليه، كما أقحم اللام في لا أبا لك بين المضاف والمضاف إليه تأكيداً للام الإضافة المقدرة فإن قلت: كيف جاز الفصل بغير الظرف؟ وما وجه حذف التنوين من تيم الثاني؟ قلت: لما تكرر المضاف بلفظه وحركته صار كان الثاني هو الأول من غير فصل، كما في قولك: إن أن زيداً قائم مع امتناع الفصل بين أن واسمها بغير الظرف والتأكيد اللفظي في الأغلب حكمه حكم الأول، وحركته حركته، إعرابية كانت أو بنائية. فكما حذف التنوين من الأول حذف من الثاني، لأنه كأنه باشره حرف النداء. انتهى. وما ذكره المصنف من أن الثاني مقحم وأن الأول مضاف إلى ما

بعد الثاني هو مذهب سيبويه. وذهب المبرد إلى أن الثاني مضاف لما يليه وأن الأول حذف منه المضاف إليه، لدلالة الثاني عليه، والمراد ياتيم عدى. والبيت: من قصيدة هجا بها جرير عمر بن بـ82 لجأ التيمي وتمامه: لا يوقعنكم في سوءة عمر وأول القصيدة: هاج الهوى وضمير الحاجة الدكر ... واستعجم اليوم من سلومة الخبر قوله: (أو مبتدأ خبره: فلا تجعلوا). قال أبو حيان: هذا ضعيف لوجهين، أحدهما أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا فلا يناسب دخول الفاء في الخبر. الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه. فالذي، مبتدأ وفلا تجعلوا لله أندادا، جملة خبرية، والرابط لفظ (الله) من (لله)، كأنه قيل: فلا تجعلوا له أنداداً، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه، ولا يعرف إجازة ذلك إل عن أبي الحسن،

فإنه أجاز أن يقال: زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو كنية لزيد. ونص سيبويه على منع ذلك. قوله: بمعنى صار وطفق فلا يتعدى. كقوله: فقد جعلت قلوص بني سهيل ... من الأكوار مرتعها قريب قال التبريزي في شرح الحماسة: جعلت يمعنى طفقت، ولذلك لا يتعدى (ومرتعها قريب): في موضع الحال أي: أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم لما بها من الإعياء، وقال غيره: ليست جعلت هنا بمعنى المقاربة وإنما هي بمعنى صيرت، وفيها ضمير يعود على المذكورة. وقلوص: بالنصب، مفعول أول، ومرتعها قريب: جملة في موضع المفعول الثاني - وقيل: فيها ضمير الشأن. وقيل: هو، على إلغاء جعلت مع تقدمها، لأن الرواية الشهيرة: برفع قلوص. قوله: (ويتعدى إلى مفعولين، كقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} يجوز كونها هنا متعدية إلى مفعول واحد، وفراشاً: حال. قوله: (بيتا كان) هو من الطين واللبن والشعر وغير ذلك. قوله: (أوقبة)، هي مثل الخيمة. قوله: (أو خباء)، هو البيت من وبر أو صوف كما أن

الطراف بيت من أدم، والخيمة بيت من شعر. قوله: (مدرجاً) قال الشيخ سعد الدين: حال من فاعل إنشائها. قوله: (فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض، على ما دلت عليه الظواهر) أي: ظواهر الآيات والآثار، كقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ}، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} وأخرج أبو الشيخ ابن حبان في العظمة. عن الحسن، أنه سنل: المطر من السماء، أم من السحاب؟ قال: من السماء إنما السحاب علم ينزل عليه الماء من السماء.

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن خالد بن معدان، قال: المطر ما يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء، حتى يجتمع في السماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له الإبرام فتجيء السحاب السود (فتدخله) فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير، وأخرج ابن أبي حاتم، عن خالد بن يزيد، قال المطر: منه، من السحاب، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق. فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات، وأما النبات: فمما كان من ماء السماء.

قوله: و (من) الثانية للتبعيض قال الشيخ سعد الدين: أما أولاً: فلموافقة الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} إذ لا وجه للبيان، لأنه لا ذكر لشيء مبهم يحتاج إلى البيان، وكقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} فإن التنكير لا سيما في جمع القلة يفيد البعضية على ما هو الظاهر. وأما ثانيا: فلدلالة السياق أعني ماء ورزقا فإن المخرج ببعض الماء لأجل بعض الرزق ولا يكون إلا لبعض الثمرات. وأما ثالثا: فلمطابقة المعنى في الواقع، فإن المنزل من السماء بعض الماء لأكله، والمخرج بماء السماء بعض الثمرات، وحقيقته شيئاً من الثمرات؛ لأن من حرف فلا اسم وكان رزقاً مستعملاً. في معناه المصدري واقعاً موقع المفعول له، ولكن مفعول رزقا، أي أخرج بعض الثمرات لأجل أن يرزقكم. قوله: (أو للتبيين)، قال الحلبي: فيه نظر، إذ لم يتقدم ما يبين هذا وكأنه يعني أنه بيان لرزقا من حيث المعنى. وقال التفتازاني، والشريف: إن كانت مبينة، فالأمر المبهم المحتاج للبيان، هو رزقا على أنه بمعنى المرزوق مفعولا به لأخرج،

ولكم صفة له، ومن الثمرات بيان له تقدم عليه فصار حالا منه، أي: أخرج مرزوقا لكم هو الثمرات. قوله: (كقوله: أنفقت من الدراهم ألفا)، في الحاشية المشار إليها ليس مراده أن يكون عنده أكثر من ألف وأنفق الألف منه لأن ذلك معنى التبعيض، بل المراد أن نفقته من هذا الجنس المعروف المسمى بالدراهم مقدارها ألف. قوله: (وإنما ساغ الثمرات، والموضع موضع الكثرة، لأنه أراد بالثمرات جمعة الثمرة) إلى آخره. قال القطب، والطيبي: يريد ن مفرد الثمرات الثمرة التي يراد بها الثمار، لأن الثمار إذا تلاحقت واجتمعت يطلق عليها الثمرة، كما يقال: كلمة الحويدرة: لقصيدة لأن القصيدة كلها مجتمعة متلاحق بعضها ببعض فصارت كأنها كلمة واحدة، فالكثرة المستفادة من الثمرات أكثر من الكثرة المستفادة من الثمار. وقال الشيخ سعد الدين: حاصل الجواب أن الثمرات جمع الثمرة التي في معنى الكثرة، لا الواحدة: وهي واقعة موقع جمع الكثرة، كما في قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} لأن كم للتكثير، كما يقع جمع الكثرة موقع جمع القلة مثل ثلاثة قروء، فإن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة.

قوله: (ولكم صفة رزقا)

هذا والحق أن جمع التصحيح إنما يكون للقلة إذا لم يعرف باللام. وقال أبو حيان: لا حاجة تدعو إلى ما ذكره الزمخشري، لأن جمع السلامة المحلي بأل التي للعموم يقع للكثرة فلا فرق إذا في الثمرات والثمار. وقال ابن عقيل: هذا الذي قاله الزمخشري، إن قصد به أن الثمرات للقلة ففيه نظر، لأن اللام تفيد الاستغراق، ولا فرق حينئذ بين جمع التصحيح وغيره، وإن قصد أنه عدل إلى التعبير بجمع قلة محلي بأل عن التعبير بذلك: ففيه نظر أيضاً لاستواء الجمعين في استغراق الأفراد من جهة أل. قوله: (ولكم صفة رزقا): إن أريد به المرزوق، ومفعوله، إن أريد به المصدر. قال أبو حيان: إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف، في لكن، مفعولا به واللام منوية لتعدي المصدر إليه، نحو: ضربت إبني تأديباً له أي: تأديبه، وإن أريد به المرزوق كن في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي: كأننا لكم، وقال ابن عقيل: لا يمتنع عكس ذلك. قوله: (أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فأطلع)، قال أبو حيان: هذا لا يجوز على مذهب البصريين بل على مذهب الكوفيين. لأنهم أجروا نعل مجرى هل في نصب الفعل جوابا له. قوله: (والمعنى أن تتقو لا تجعلوا لله أنداداً) قال الطيبي: هذا الوجه ذكره القاضي على غير ما في الكشاف لأنه لم يجعل لعل على تأويل الشرط، بل جعلها يمعنى كي على تشبيه الحالة بالحالة، في قوله: {

لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}. قوله: (أو بالذي جعل، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبراً)، عبارة أبي حيان: ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي، إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة فلا تجعلوا له أنداداً، قال: والظاهر في هذا القول هو ما ذكرنا أولا من تعلقه بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قوله: (الند: المثل) الراغب: ند الشيء مشاركه في الجوهر، وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، وكل ند: مثل: ولا ينعكس قوله: (المناوئ): العادي. قاله: (قال جرير: أتيما تجعلون إلي ندا .... وا تيم لذي حسب نديد) قال الطيبي: ضمن تجعلون معنى تضمون، أي أتضمون إلي تيما وتجعلونه لي ندا؟ ويجوز أن يكون تيما مفعولا لفعل محذوف، أي أتضمون وتنسبون إلي تيماً تجعلونه ندا لي؟ وأن يكون إلى مع متعلقه المحذوف حالاً من تدا. وقال الشيخ سعد الدين: جعل هنا من دواخل المبتدأ والخبر،

والمعنى: أتجعلون تيما ندا إلى وهو لا يصلح ندا لمن هو دونه. وقوله: إلي: حال من ندا بمعنى مضموماً إلى ومنتسباً، والنديد الند. وقال الشريف: الجعل هنا بمعنى التصيير القولي والاعتقادي، من قبيل {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ومعنى إلي: منسوباً إلي نداً فهو حال من (تيما)، وقيل: من (ندا) وفيه: أن ندا في حكم خبر المبتدأ فلا يكون ذا حال. والنديم المثل - أي لا يصلح مثلا لذي حسب فكيف بمثلي المشهور في الأحساب؟ قوله: (شابهت حالهم حال من يعتقد) إلى آخره. وقال الطيبي. حاصله، أنها استعارة مصرحة تحقيقية أصلية واقعة على سبيل التهكم. وقال التفتاواني: هي استعارة تمثيلية تهكمية، وقال الشريف: هي، استعارة تمثيلية وليست تهكمية اصطلاحية، إذ ليس فيها استعارة أحد الضدين للآخر، بل أحد المتشابهين لصاحبه، لكن المقصود منها

التهكم بهم بتنزيلهم منزلة الأنداد حتى أشبهت حالهم حاله. قوله: (بأن جعلوا أنداداً): قال الشريف: متعلق بشنع، أي شنع عليهم واستفظع شأنهم بذكر أنهم جعلوا. قوله: (قال موحد الجاهلية، زيد بن عمرو بن نفيل: أربا واحدا) إلى آخره. أخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عروة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل: أرباً واحداً أم ألف ربّ .... أدبن إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعاً .... كذلك يفعل الرجل البصير ألم تعلم بأن الله أفنى، رجالاً كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببر قوم، فيربو منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوماً، كما يتروح الغصن النضير. قال الشريف: أدين، أي: أطيع. من دان له: إنقاد، وقل الطيبي: إذا تقسمت الأمور أي: تفرقت الأحوال. قوله (أي: وحالكم أنكم من أهل العلم) إلى آخره.

قال الطيبي: يريد أن موقع (وأنتم تعلمون) موقع الحال المقررة لجهة الإشكال المتضمنة بمعنى التعجب، أي: لا تجعلوا لله أندادا والحال أنكم من صحة التمييز والمعرفة بمنزلة يعني جعلكم لله أنداداً مع هذا الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب. قوله: (من المقلة والمظلة) أي: الأرض والسماء. قوله: (فإن لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حد مطلعا)، هذا لفظ حديث أخرجه الفريابي في تفسيره عن الحسن مرفوعاً مرسلاً، وفيه: ولكل حرف حد ولكل حد مطلع، وله شواهد مرفوعة وموقوفة عن ابن مسعود وغيره، وقد اختلف في معناه على أقوال أوضحتها في أواخر الإتفان، والذي جنح إليه المصنف في معنى الظهر والبطن أن الظهر ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، والبطن ما تضمنه من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق. وقال أبو عبيد: الأشبه بالصواب: أن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الأخبار بهلاك الأولين، وباطنها وعظ

الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم فيحل بهم ما حل بهم، وقال بعضهم: الظهر التلاوة والبطن الفهم والحد أحكام الحلال والحرام. والمطلع الإشراف على الوعد، والوعيد، ولكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه، وقيل: لكل حكم مقدار من الثواب/ والعقاب، ولكل حد مطلع، أي: لكل غامض من المعاني مطلع يتوصل به إلى معرفته، ويوقف على المراد به. وقيل: كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة. قوله: بدت، بالذال المعجمة (المشددة: أي سيئت). قوله: (منطيق) هو البليغ، كما في الصحاح. قوله: (وتهالكهم)، أي: تساقطهم والمعارة: بالراء المشددة. قوله: (وإنما قال مما نزلنا لأن نزوله نجما فنجما)، إلى آخره. قال الحلبي قال بعضهم: هذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا: هو الذي يعبر عنه بالتكثير أي: يفعل مرة بعد مرة فيدل على ذلك بالتضعيف قال: وذهب على أن شروطه غالباً أن يكون في فعل متعد قبل التضعيف، نحو خرجب زيداً، وقد قيل في للازم نحو موت المال، وأيضاً فالتضعيف الدال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً كما تقدم في موت المال. ونزل: كان قاصراً فصار بالتضعيف متعديا فدل على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضا فكان يحتاج قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً

وَاحِدَةً} إلى تأويل. وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثر نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ}، {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} إلا بتأويل ضعيف جداً إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آية ولا على أنه على تكرير نزول ملك رسول، على تقدير كون ملائكة في الأرض. قوله: (والسورة الطائفة من القرءان المترجمة التي أقلها ثلاث آيات)، قال الشيخ سعد الدين، يريد تفسير سورة القرءان، وإلا فالسورة أعم بدليل ما سبق من أن من سور الإنجيل سورة الأمثال وما سيجيء أن سائر كتب الله سورة. ومعنى المترجمة: المسماة باسم خاص، كسورة الفاتحة وسورة البقرة وبه يقع الاحتراز عن عدة آيات من سورة، كاعشر والحزب، ولا يرد مثل آية الكرسي لأنه مجرد إضافة لا تسمية وتلقيب. قال: وقوله: التي أقلها ثلاث آيات تنبيه على أن أقل ما تتألف منه السورة ثلاث آيات لا قيد في التعريف، إذ لا يصدق على شيء من السورة إنها طائفة مترجمة أقلها ثلاث آيات، وكذا قال الشريف، أراد بقوله: أقلها ثلاث آيات، إن تلك الطائفة المسماة، بالسورة تتفاوت قلة وكثرة في أفرادها. وغاية قلتها: ثلاث آيات، وبهذا ينكشف المقصود زيادة إنكشاف، فلا يرد أن هذا القيد يوجب أن لا يصدق التفسير على شيء من السور قوله: (على حيالها) أي: انفرادها. قوله:

ولرهط حراب وقد سوره ... في المجد ليس غرابها بمطار هو للنابغة وبعده. قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... وفرا غداة الروع والإنفار حراب بالحاء المهملة والراء المشددة، و (قد) بفتح القاف وتشديد الذال المعجمة، كذا ضبطه الطيبي، والشيخ أكمل الدين، هو ابن مالك الأسدي كان جوادا لا يبقي شيئاً. وقوله: ليس غرابها بمطار قال الطيبي كناية عن كثرة الرهطين ودوام المجدلهما، فإن النبات والشجر إذا كثر في موضع، قيل: لا يطير غرابه لأن الغراب، إذا وقع في الموضع الخصيب أصاب مالا يحتاج معه إلى أن ينتقل منه إلى مكان آخر. قال: والوجه (أن يراد) أنه لا يرام هذه المرتبة لكونها منيعة، وقال الشيخ سعد الدين: (حراب وقد) بالراء والدال المهملتين. وقد بالدال المهملة. وقد يظن بالمعجمة، وليس غرابها بمطار: أي هي مجد كامل ثابت لا يزول. يقال: أرض لا يطير غرابها أي مخصبة كثيرة الثمار، وقيل: كناية عن رفعة الشأن أي لا يصل إليها الغراب حتى يطار، أي لا غراب هناك ولا إطارة أو لا تصل الإشارة إلى غرابها حتى يطار مع أنه يطير بأدنى ريبة قال الشيخ أكمل الدين تخصيص الغراب لأنه ينفر بأدنى ريبة أو لأن أصل المثل فيه.

قوله: (وإن جعلت مبدلة من الهمزة)، قال الشريف: فيه ضعف من حيث اللفظ إذ لم يستعمل في المشهورة ولا في الشاذة المنقولة في كتاب مشهور. ومن حيث المعنى كأنها اسم ينبئ عن قلة وحقارة. وأيضاً استعماله فيما فضل بعد ذهاب الأكثر، ولا ذهاب ههنا. قوله: (متى حذقها): في الصحاح: حذق الصبي القرآن إذا مهر فيه. وفي الأساس حذق القرآن أتم قراءته وقطعها، من حذق السكين الشيء قطعه. قوله: (والضمير لما أنزلنا) هذا هو الصحيح، كما قال ابن جرير، وهو: قول قتادة ومجاهد لقوله في آية أخرى: {فَأْتُوا

بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وليس السورة مثل النبي. قال الإمام فخر الدين، في تفسيره: عود الضمير إلى ما نزلنا مروي عن الصحابة. ويدل على الترجيح وجوه، أحدها: أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في سورة يونس {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}. وثانياً: أن البحث إنما وقع في المنزل، لأنه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أن القرآن. منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله، وقضية الترتيب: لو كان الضمير مردودا إلى الرسول. أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. وثالثها: أن الضمير إذا كان عائداً إلى القرآن يقتضي كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا. وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين. أما لو كان عائداً إلى محمد فذلك لا يقتضي إلا كون أحادهم من الأميين عاجزين عنه، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي وأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تمثل الواحد، والقارئ لا يكون مثل الأمي، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى. رابعها: إنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة، وأما لو صرفناه إلى محمد فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم، وهذا وإن كان معجزاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقدير نوع من النقصان في حق محمد كان الأول أولى.

خامسها: أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد. لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن، ولو صرفنا إلى القرآن لدل على أن صدور مثله من الأمي وغير الأمي، ممتنع، فكان هذا أولى. قوله: (أوصلة فأتوا والضمير للعد)، قال القطب، والطيبي: لا يجوز على هذا عوده لما نزلنا، لأنه يستدعي كون من للبيان، والبيان يستدعي تقديم مبهم، ولا مبهم، فتعين أن تكون للابتداء أي: أنشئوا واستخرجوا من مثل العبد بسورة لأن مدار الاستخراج هو العبد لا غير، فلذلك تعين على هذا الوجه عود الضمير إلى العبد. قال القطب: وبهذا يضمحل وهم من لم يفرق بين فأتور بسورة من مثل ما نزلنا وبين فأتوا بسورة. وقال الطيبي: قد تصدى للسؤال بعض فضلاء العصر، وقال: قد استبهم قول صاحب الكشاف حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحاً، وحظره في الثاني تلويحاً، فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة؟ وأجيب بأن من إذا تعلق بالفعل يكون إما ظرفاً لغوا ومن للابتداء، أو مفعولاً به، ومن للتبعيض، إذ لا يستقيم أن يكون بياناً لا قتضائه أن يكون مستقراً والمقدر خلافه، وعلى تقدير أن يكون تبعيضاً، فمعناه: فأتوا ببعض مثل المنزل بسورة وهو ظاهر البطلان، وعلى أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدي الإتيان بالسورة فقط، بل يشترط أن يكون بعضا من كلام مثل القرآن وهذا على تقدير استقامته بمعزل عن المقصود واقتضاء المقام، لأن المقام يقتضي التحدي على سبيل المبالغة وأن القرآن بلغ في الاعجاز بحيث لا يوجد لأقله نظير فكيف للكل؟ فالتحدي إذا بالسورة الموصوفة بكونها من مثله في الإعجاز. وهذا إنما

يتأتى إذا جعل الضمير لما نزلنا، ومن مثله صفة لسورة، ومن بيانية فلا يكون المأتي به مشروطاً بذلك الشرط، لأن البيان والمبين كشيء واحد. انتهى. والفاضل الذي أشار إليه: هو، العلامة العضد، ونص سؤاله، قوله: يا أدلاء الهدى، ومصابيح الدجا حياكم الله وبياكم. وألهمنا الحق بتحقيقه وإياكم ها أنا من نوركم مقتبس وبضوء ناركم (للهدى) ملتبس ممتحن بالقصور لا ممتحن ذو غرور، ينشد بأنطق لسان وأرق جنان: ألا قل لسكان وادي الحما ... هنيئا لكم في جنان الخلود أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش وأنتم ورود قد استبهم قول صاحب الكشاف - أفيضت عليه سجال الألطاف -: من مثله، متعلق بسورة أي بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا، أو لعبدنا، ويجوز أن يتعلق بقوله: فأتوا، والضمير للعبد. حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحاً وحظره في الوجه الثاني تلويحاً، فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة، وهل ثم حكمة خفية، أو نكتة معنوية؟ أو هو تحكم بحت؟، بل هذا مستبعد من مثله، فإن رأيتم كشف الريبة وإماطة الشبهة

والإنعام بالجواب أثبتم جزيل الاجر والثواب، وقد دار هذا السؤال بين العضد، والفخر الجار بردي، فكتب الجار بردي على هذا السؤال كتابة تتضمن الغض منه فكتب العضد عليها بما هو أبلغ في الغض من الجار بردي وتصدى إبراهيم. ولد الجار بردي لنصرة والده في رسالة سماها: السيف الصارم في قطع العضد الظالم. وقد سقت الجميع في الجزء الخامس من تذكرتنا المسماة بالفلك المشحون ونذكر هنا أجوبة المحققين من هذا السؤال. قال العلامة، أمين الدين التبريزي: إن قيل: ما وجه تخصيص الضمير بالعبد على تقدير تعلق من مثله بفأتوا مع تجويز كونه له وللمنزل على تقدير تعلقه بالسورة؟ قلنا: الجواب يقتضي تقديم مقدمتين: الأول: أن (مثله) يحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد من مثل الكلام المنزل، والعبد المذكور

نفس ذلك العبد، فيكون معنى المثل ملغي، كما في قول الشاعر: حاشا لمثلك أن تكون بخيلة ... ولمثل وجهك أن يكون عبوساً وحينئذ يجب تقدير المثل في السورة ليستقيم المعنى وإلا لزم أن يكون التحدي بإتيان سورة كائنة، من القرآن أو صادرة من النبي وهو محال. الثاني: أن يكون معنى المثل بحاله ويكون المراد منه كلاماً آخر مثل القرآن أو شخصا آخر مثل النبي وهو ظاهر. الثانية: أن الأقسام على ما ذكره صاحب الكشاف أربعة، لأن من مثله إما متعلق بسورة أو بالإتيان. وعلى التقديرين فالضمير إما للعبد أو للمنزل فهذه أربعة وإذا تقرر ذلك: فنقول: القسم الأول صحيح على الوجهين لأن التقدير حينئذ فأتوا بسورة صادرة من النبي أو بسورة صادرة من مثل النبي وهما: مستقيمان، والثاني صحيح على الأول دون الثاني، وإلا لم يكن التحدي بإتيان السورة فقط، بل يشترط أن يكون بعضاً من كلام مثل القرآن، وهو باطل، والثالث صحيح على الثاني دون الأول، لأن تقديره حينئذ فأتوا من مثل هذا العبد بمثل سورة، وهو لغو، فيكون القسم الرابع فاسداً على الوجهين انتهى. وقال الإمام قوام الدين الشيرازي: ولقائل أن يقول: إذا جعل

مثل القرآن يحسب الفرض والتقدير فالمثل مفروض حينئذ، ولا يبعد أن يقال: فأتوا من مثل المفروض بسورة، كما قيل: فأتوا بسورة كائنة مثل ما نزلنا، على ان من بيانية، أو هي بعض ما نزلنا على أن من تبعيضية، ومن مثله متعلق بسورة هذا وكما أن مثل القرآن لا يوجد، مثل بعضه لا يوجد، والأمر هنا للتعجيز، فلا يقتضي الإتيان بالمأمور. وقال كما الدين عبد الرزاق لما قال جار الله العلامة: من مثله، متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله والضمير: لما نزلنا، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: فأتوا والضمير للعبد: أو هم قوله إن الضمير، إذا كان لما نزلنا، كان الكلام مشعراً بثبوت مثل له حتى يأتوا بسورة من جملة ذلك المثل. فاحترز عن ذلك بما معناه: أن من بيانية، لا تبعيضية، والمراد بمثل ما هو على صفته من جنس النظم، أي بسورة من جنس كلام هو على صفته من غير قصد إلى مثل له كما ذكر يعني بسورة هي كلام موصوف بصفته. كقولك: عندي ما من الماشية، أي: مال هو الماشية فعلى هذا، إذا علق من مثله بفأتوا كان المعنى على تقدير عود الضمير إلى المنزل. فأتوا من جنس كلام موصوف بصفته بسورة، فيكون من مثله إما حالا من السورة مبينة لهيآتها بأنها مثل هذا المنزل، والحال من المعمول يفيد عامله. وإما صلة للإتيان، وكيف كان يقيد الفعل فيكون الإتيان المأمور إتيانا مقيداً بأنه كائن من كلام مثله بسورة، فإن كان المراد به السورة كما قررنا: كان المعنى فأتوا إتيانا مقيدا بكونه من سورة مثله بسورة، وذلك فاسد لا شك فيه، وإن كان المراد فأتوا من جملة كلام يماثله بسورة واحدة، فإن كان ذلك المثل موجودا لزم المحذور وهو: ثبوت المثل وكذا إن

كان المراد إتيانا مستنداً من كلام مثله بسورة وإن لم يكن موجودا كان الفعل المقيد بإتيانه منه ممتنعاً، فإن الممكن المقيد وجوده بوجود المعدوم ممتنع الوجود، وذلك ينافي التحدي، لأن التحدي إنما يكون إذا كان أصل الفعل ممكنا مقدورا مطلقاً للنوع، لكنه اختص بشيء من زيادة أو تعلق بمفعول لا يسع أحداً من بناء نوع ذلك أن الفاعل مثل ذلك الفعل المختص بتلك الزيادة أو بذلك الفعل فيدل على أن ذلك الاختصاص إنما هو لمزية وتأييد من عند الله تعالى لصاحبه، وهنا أصل الفعل ليس بممكن وإن جعل الأصل مطلق الإتيان والمعجزة الإتيان المقيد كان المتحدي به هو الفعل لا المفعول والمقدور خلافه، فإنه إتيان مقيد بوجود معدوم، لا نفس الإتيان، فتبين أن كون الضمير عائدا إلى المنزل على تقدير تعلق من مثله بفاتوا لا يخلو عن أقسام كلها باطلة، سواء كانت من ابتدائية أو تبعيضية أو بيانية. وقال المولى عز الدين التبريزي: إن في جعل من مثله صفة لسورة، وإن كان الضمير للمنزل، فمن للبيان، وإن كان للعبد فمن للإبتداء، وهو ظاهر. فعلى هذا إن تعلق مثله بقوله: فأتوا. فلا يكون الضمير للمنزل لأنه يستدعي كونه للبيان والبيان يستدعي تقديم مبهم، فإذا تعلق بالعبد فلا يتقدم مبهم فتعين أن تكون للابتداء لفظاً أو تقديراً أي: أصدروا وأنشئوا واستخرجوا من مثل العبد بسورة، لأن مدار الاستخراج هو العبد لا غير، فتعين في الوجه الثاني عود الضمير إلى العبد. وقال المولى همام الدين، قوله: ويجوز أن يتعلق بقوله فاتوا والضمير للعبد لأنه إذا كان ظرفا

مستقراً على أنه صفة سورة بمعنى سورة كائنة من مثله لم يتعين الضمير للعبد بل كما احتمل العود إلى العبد احتمل العود إلى المنزل، أما إذا كان ظرفاً لغواً متعلقاً بقوله: (فأتوا) لم يحتمل العود إلا إلى العبد لأنك لما علقته به فقد جعلته مبتدأ الاتيان بالسورة ومنشأها فيكون هو المنشيء لها والآتي بها والمصدر أو المملي () حتى يتحقق الابتداء فيه حقيقة كما إذا قلت: ايتني بشعر من فلان كان هو المملى والمنشيء على ما لا يخفى، ولو رجعت الضمير على هذا إلى المنزل أجدت، وأما نحو قولك: إيتني بماء من دجلة وثمر من بستانك وآية من القرآن وبيت من الحماسة فليس منه على أن في الحمل عليه فساداً لأنه يفيد ثبوت المثل للقرآن أو يوهم، والغرض نفى المثل على ما قلنا ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. قال: وفي ثبوت التحدي؛ لأن المعنى: فأتوا من مثل القرآن، أي من كلام، مثل القرآن في الأسلوب والفصاحة، بخلاف ما إذا علقته بالسورة لأن حقيقة المعنى على إقحام كلمة (من)، فكأنه قيل: بسورة مماثلة نظماً وأسلوباً، فلا يلزم فيه ما يلزم في الأول، وهذا كما إذا قلت: إئتني بدرهم كائن من مثل هذه الدراهم المضروبة كان المعنى أن يأتي بما ينطبع على وجهها ويتكون من مثلها مطلقاً، لا أن يأتي من مثلها الموجود. وقال بعض أرباب الحواشي: هذا كلام مشكل قد استشكله قوم ولم يتضح لهم وجهه والذي يمكن فيه أنا إذا قلنا بالأول كانت رتبة من مثلها التقديم. فيصير التقدير: فاتوا من مثله بسورة فيكون مثله كالموجود المحقق، وإنما التعجيز في أن يخرج منه سورة كما لو قلت: أصنع في مثل هذه القطعة من الحديد درعاً أو أصنع من هذه الخشبة كرسياً، فمثل الحديد والخشب موجود، وإنما التعجيز في تحصيل الدرع والكرسي

منهما. ومثل القرآن مستحيل الوجود، فلا يمكن أن يقال: ائتوا من مثله بسورة، لأنهم يقولون: لا مثل للقرآن حتى نأتي منه بسورة ومثل الرسول في البشرية موجود، فيمكن أن يقال: هاتوا من مثله في كونه عربياً أمياً بسورة. وأما إذا جعلته صفة بسورة فالتعجيز وقع بأن يأتوا بسورة موصوفة بكونها من مثله والتعجيز بالموصوف يكون تارة بفقد الموصوف وتارة بفقد الوصف مع وجود الموصوف عارياً من الوصف فكأنه يقول: لا قدرة لكم على أن تأتوا بسورة موصوفة بكونها من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا على أن تأتوا بسورة موصوفة بكونها من مثل القرآن، وقال الشيخ تقي الدين السبكي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. قال الزمخشري، من مثله، متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله. وليس مراده التعلق الصناعي، لأن الصفة: إنما تتعلق بمحذوف وقد صرح هو به، ومراده أنه لا يتعلق بقوله: {فَأْتُوا}، ثم قال: والضمير لما نزلنا أو لعبدنا - والأحسن عندي أن يتعلق بعبدنا، وإن علق بما نزلنا فيكون بالنظر إلى خصوصيته فيشمل صفة المنزل في نفسه والمنزل عليه. وإنما قلت ذلك: لأن الله تعالى تحدى بالقرآن في أربع سور، في ثلاث منها بصفته في نفسه. فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}

الآية وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} والسياق في ذكر القرآن من حيث هو هو، ولذلك لم يذكر في هاتين السورتين لفظ (من) المحتملة للتبعيض ولإبتداء الغاية فمن هنا تعين الضمير للقرآن، وفي سورة البقرة، لما قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فتكون من لابتداء الغاية، والضمير في مثله للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قد تحداهم فيها بنوع آخر من التحدي غير المذكور في السور الثلاث. وذلك أن الإعجاز من وجهين: إحداهما: من فصاحة القرآن وبلاغته وبلوغه مبلغا تقصر قوى الخلق عنه، وهو المقصود في السور الثلاث المتقدمة المتحدى به فيها، والثاني: من إتيانه من النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب وهو المتحدى به في هذه السورة، ولا يمتنع إرادة المجموع كما قدمناه، فإن أراد الزمخشري بعود الضمير على ما نزلنا المجموع بالطريق التي أشرنا إليها فصحيح، وحينئذ يكون ردد بين ذلك وعود الضمير على الثاني فقط. وإن لم يرد ذلك فما قلناه أرجح، ويعضده أنه أقرب، وعود الضمير على الأقرب أوجب ويعضده أيضاً أنهم قد تحدوا قبل ذلك، فظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، لأن سورة يونس

مكية فإن عجزوا عنه من كل أحد فهم عن الإتيان بمثله ممن لم يقرأ ولم يكتب أشد عجزا، فالأحسن أن يجعل الضمير لقوله: عبدنا، فقط، وهذان النوعان من التحدي يشتمل على أربعة أقسام، لأن التحدي بالقرآن أو ببعضه بالنسبة إلى من يقرأ ويكتب، وإلى من ليس كذلك. والتحدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى مثل المنزل وإلى أي سورة كانت. فإن من لم يكتب لا يأتي بها فصار الإتيان بسورة من مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ممتنعاً (شابهت القرآن أو لم تشابهه)، والإتيان بسورة من مثل القرآن ممتنعاً كانت من كاتب قارئ أم من غيره. فظهر أنها أربعة أقسام، ثم قال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بقوله فأتوا والضمير للعبد، هذا صحيح وتكون من لابتداء الغاية، ولم يذكر الزمخشري على هذا الوجه احتمال عود الضمير على ما نزلنا، ولعل ذلك لأن السورة المتحدى بها إذا لم يوجد معها المنزل عليه لابد أن يخصص بمثل المنزل كما في سورة يونس وهود، فإذا علقنا الضمير هنا في سورة البقرة بقوله: {فَأْتُوا} وعلقنا الضمير بالمنزل كانوا قد تحدوا بأن يأتوا بسورة مطلقة ليست موصوفة ولا من شخص موصوف، فليست على نوع من نوعي التحدي. فإن قلت: {مِنْ}، على هذا التقدير للتعيض، فتكون السورة بعض مثله يقتضي مماثلتها. قلت: المأمور به السورة المطلقة. و {مِنْ} يحتمل أن تكون لابتداء الغاية وإن سلم أنها للتبعيض فالمماثلة إنما يعلم حصولها للسورة بالاستلزام، فلم يتحدوا ولم يؤمروا بإتيانها من حيث هي مطلقة ولا من حيث ما اقتضاه الاستلزام من المماثلة، فإن المماثلة بالمطابقة في الكل المبعض لا في البعض، فإن لزم حصولها في البعض فليس من اللفظ، وبهذا يعرف الجواب. عن قول من قال: ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة

من مثل ما نزلنا، وبين فأتوا من مثل ما نزلنا بسورة، فنقول: الفرق بينهما: ما ذكرناه، فإن المأمور به في الأول سورة مخصوصة، وفي الثاني: سورة مطلقة من حيث الوضع، وإن كانت بعضاً من شيء، مخصوص والله تعالى أعلم. وقال الشيخ العلامة محمود السيواسي: تعيين الفرق ههنا موقوف على استحضار أمرين معلومين في هذا المقام أما الأول فهو: أن المطلوب في معرض المعارضة بهذه الآية الكريمة دائر بين الأمرين وليس بخارج عنهما، بل لا يصح أن يخرج وذلك: إما كون السورة المأتي بها مثلا للمنزل أو كونها مأتيا بها من مثل العبد في كونه بشراً أو أمياً (وأما الأمر الثاني: فهو، أن {مِنْ} إذا تعلق بفأتوا لا تكون إلا للابتداء ولا يصح أن تحمل على غيره) من البيان، وإذا تعلق بسورة يصلح لذلك كله وإذا تقرر هذان الأمران، نقول: الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا (وفأتوا من مثل ما نزلنا) بسورة إذا أريد تعلق من بفأتوا، هو أن التركيب الثاني: يدل على أن المطلوب في معرض المعارضة كون السورة مأتيا بها من مثل المنزل، وذلك: خارج عن أحد الأمرين اللذين قلنا: إن المطلوب دائر بينهما وذلك ليس بمطلوب ولا يصح أن يكون. أما أنه ليس مطلوبا فلأنهم لو وجدوا في ديوان أشعارهم وأمثالهم أو خطبهم مقدار أقصر سورة تكون مثلا للمنزل في غريب البيان وعلو الطبقة في حسن النظم وأبوابه لكان به المعارضة لهم، وإن كان نفس ذلك الديوان ليس مثلا للمنزل كما يدل على هذا قول صاحب الكشاف قبيل هذا في جواب قوله: فإن قلت: لم قيل: مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟، وأما أنه لا يصح فلأنه يلزم أن يكون الإتيان بمثل المنزل أيضاً مطلوباً لامتناع تحصيل الشيء من غير الحاصل، فحينئذ يكون

الإتيان بالسورة التي هي المطلوبة في التحدي مانعاً فليتدبر؛ وأما التركيب الأول: فلا يدل على ذلك إلا إذا حمل {مِنْ} على الابتداء، وذلك غير لازم هنا، فإنه يمكن أن تكون للبيان، ويكون معنى الكلام: فأتوا بسورة كائنة مثل المنزل، وذلك ليس بخارج عن الأمرين اللذين قلنا إن المطلوب دائر بينهما وذلك المقدار من الفرق كاف في ذلك التخصيص وقال الشيخ أكمل الدين: قد استشكل بعض الفضلاء جواز عود الضمير إلى المنزل والعبد على تقدير كون من مثله متعلقا بسورة وانحصار عوده إلى العبد على تعلقه بقوله: {فَأْتُوا} وقال: ليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا [وفاتوا من مثل ما نزلنا] بسورة، وكثر الكلام فيه بين العلماء بتبريز. والذي انتهى إليه الكلام فيه منهم، ومن غيرهم: إنه إذا تعلق بقوله: فأتوا لا يجوز أن يكون الضمير للمنزل لاستلزام بطلان كلمة {مِنْ}، لأنها لا يصح أن تكون للتبعيض لأنه حينئذ يكون مفعول فاتوا ثلاثاً ولابد منها ولا أن تكون للبيان لانه يقتضي مبهما قبله وليس بموجود، ولا للابتداء لأن ابتداء الإتيان من مثل المنزل لا يتحقق ولا زائدة، على قول الأخفش لما ذكر في التبعيض. وأما إذا كان الضمير للعبد كان من للابتداء ليس إلا، وابتداء الإتيان من مثل العبد الصحيح. وقال الشيخ سعد الدين: قد اشتهر هنا سؤال تخصيص، وهو أنه لم لا يجوز على هذا التقدير أيضاً أن يكون الضمير لما نزلنا كما جاز على تقدير كون من مثله صفة سورة. والجواب: أن هذا أمر تعجيز باعتبار المأتي به والذوق شاهد بأن تعلق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء ومثل النبي - صلى الله عليه وسلم - في البشرية والعربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة والفصاحة، وأما إذا كان صفة للسورة فالمعجوز عنه هو الاتيان بالسورة الموصوفة ولا يقتضي وجود المثل، بخلاف قولنا:

أتيت ببيت من مثل الحماسة، قال: وقد (يجاب) بوجوه أخر، الأول: أنه إذا تعلق بفأتوا فمن للابتداء قطعاً، إذ لا مبهم يبين ولا سبيل إلى البعضية، لأنه لا معنى لإتيان البعض ولا مجال لتقدير الباء مع (من)، كيف وقد ذكر المأتي به صريحاً وهو السورة، وإذا كانت (من) للابتداء تعين كون الضمير للعبد لأنه المبتدأ للإتيان لا مثل القرآن وفيه نظر لأنه المبتدأ الذي تقتضيه من الابتداء ليس هو الفاعل حتى ينحصر مبتدأ الإتيان بالكلام في المتكلم على أنك إذا تأملت فالمتكلم ليس مبتدأ للإتيان بالكلام منه بل للكلام نفسه بل معناه أن يتصل به الأمر الذي اعتبر له إمتداد حقيقة أو توهما كالبصرة للخروج والقرآن للاتيان بسورة منه. وبهذا يندفع ما يقال: إن المعتبر من المبتدأ هو الفاعلي أو المؤدي أو الغاني أو جهة يتلبس بها ولا يصح شيء من ذلك فيما نحن فيه على أن يكون مثل القرآن مبدأ مؤديا للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليا له. الثاني: أنه إذا كان الضمير لما نزلنا و (من) صلة فأتوا كان المعنى فأتوا من منزل مثله بسورة فكان مماثلة ذلك المنزل لهذا المنزل هو المطلوب لا مماثلة سورة واحدة منه بسورة من هذا، وظاهر أن المقصود خلافه كما نطقت به الآي الأخر، وفيه نظر لأن إضافة المثل إلى المنزل لا يقتضي أن تعتبر موصوفة منزلاً ألا ترى أنه إذا جعل صفة سورة لم يكن المعنى بسورة من منزل من مثل القرآن، بل من كلام، فكيف يتوهم ذلك، والمقصود تعجيزهم على أن يأتوا من عند أنفسهم بكلام مثل القرآن، ولو سلم فما ادعاه من لزوم خلاف غير بين ولا مبين. والثالث: أنها إذا كانت صلة فأتوا كان المعنى فأتوا من عند المثل

كما يقال: ائتوا من زيد بكتاب أي من عنده، ولا يصح إئتوا من عند مثل القرآن بخلاف مثل العبد، وهذا أيضاً بين الفساد. انتهى. قال الشريف: أورد على هذا الوجه أنه لم لا يجوز أن يكون الضمير حينئذ لما نزلنا أيضاً؟ كما جاز ذلك على تقدير كون الظرف صفة للسورة؟ وأجيب بوجهين: الأول: إن فأتوا أمر قصد به تعجيزهم باعتبار المأتي فلو تعلق به قول (من مثله) وكان الضمير للمنزل تبادر منه أن له مثلا محققا وإن عجزهم إنما هو عن الإتيان بشيء منه وهو فاسد، بخلاف ما إذا رجع الضمير إلى العبد فإن له مثلا في البشرية والعربية والأمية فلا محذور. والثاني: إن كلمة - (من) - على هذا التقدير ليست بيانية إذ لا مبهم هناك. وهي أيضاً مستقر أبداً فلا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية، وإذا كان الفعل واقعا عليه حقيقة، كما في قولك: أخذت من الدراهم، ولا معنى لإتيان البعض بل المقصود الإتيان بالبعض ولا مجال لتقدير الباء مع وجود من، كيف وقد صرح بالمأتي به أعني بسورة، فتعين تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد، لأن جعل المتكلم مبدأ للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكلام مبدأ للإتيان بما هو بعض منه، ألا ترى أنك إذا قلت: إئت من زيد بشعر كان القصد إلى معنى الابتداء أعني إبتداء الإتيان بذلك الشعر من زيد مستحسناً فيه، بخلاف ما إذا قلت: إئت من الدراهم بدرهم، فإنه لا يحسن فيه قصد الابتداء ولا تر تضيه فطرة سليمة وإن فرض صحة ما قيل في النحو من أن جميع معانيها راجعة إليه ولا نعني بالمبدأ الفاعل ليتوجه أن المتكلم مبدأ الكلام نفسه لا للإتيان بالكلام منه بل ما يعد عرفاً مبدأ من حيث

قوله: (ولأن مخاطبة الجم الغفير)

يعتبر أنه اتصل به أمر له امتداد حقيقة أو توهما. قوله: (معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته): فقد اعتنى بهذا المحل رجل من فضلاء العجم، يقال له: مظفر الدين الشيرازي، رأيته بمكة سنة تسع وستين وثمانمائة، فألف فيه كراسة نقل فيها كلام الطيبي والتفتازاني وبحث معهما وقدم إلى الديار المصرية معنا سنة سبعين فأظهرها مستحجا بها فنازعه من نازعه، ورفع في ذلك سؤال إلى شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي فكتب عليه كتابة مطولة، خطأ فيها مظفر الدين فيما بحثه وفيما خرجه، لكونه عول في التخريج على القواعد المنطقية، وهي مخالفة لأساليب العربية التي مرجع البلاغة القرآنية إليها، ولولا خشية الإطالة لسقت ذلك كله. قوله: (ولأن مخاطبة الجم الغفير)، قال الطيبي: لأنه لا معنى للاستظهار بهم على أن يأتوا بسورة واحدة من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (ومنه: تدوين الكتب)، هذا ممنوع، فإن التدوين إنما هو مأخوذ من الديوان، وهو لفظ أعجمي ليس مشتقاً من دون. قوله: (ثم استعير للرتب) إلى آخره. قال الطيبي: يعني لما مر

استعماله في هذه المعاني استعير في معنى المرتبة مطلقا بأن شبهت المراتب المعنوية بالمكانية، واستعير لها ما كان مستعملاً هناك، ثم اتسع فيه فجعل مثلا لكل متجاوز حد من غير نظر إلى الاستعارة. قوله: (وقال أمية: يا نس مالك دون الله من واق تمامة: ولا للسع بنات الدهر من راق يريد النوائب. قوله: (ومن متعلقة بأدعو) هذا على أن الشهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة. قوله: (أو بشهدائكم). هذا لأنه بمعنى القائم بالشهادة. قوله: (من قول الأعشى (تريك القذى من دونها وهي دونه)) تمامه: إذا ذقها من ذاقها يتمطق. يصف زجاجة فيما خمر. أي: تريك الزجاجة القذي من قدامها وهي قدام القذي. (يتمطق): أي: يمص شفتيه من لذاتها.

وفي شرح ديوان الأعشي أن هذا البيت من مستحسنات شعره. أراد أن الزجاجة لصفائها تريك القذى. أقرب إليك منها، وإنما القذاة في أسفلها وأول القصيدة: أرفت وما هذا السهاد المؤرق .... وما بي من سقم وما بي معشق ولكن أراني لا أزال بحادث ... أغادي بما لم يمس عندي وأطرق وشاو إذا شئنا كميش بمسعر .... وصهباء مزباد إذا ما تصفق وقبل البيت المستشهد به، قال الطيبي: روى ابن حمدون في التذكرة: أن الوليد بن عبد الملك قال لابن الأقرع: أنشدني قولك في الخمر، فأنشده: كميت إذا شجت ففي الكأس وردها ..... لها في عظام الشاربين دبيب تريك القذى من دونها وهي دونه .... لوجه أخيها في الإناء قطوب

قوله: (ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية)

فقال الوليد: شربتها ورب الكعبة، قال: لئن كان وصفي لها رابك فقد رابني معرفتك بها. فعلى هذا ابن الأقرع إما ضمن المصراع أو كان من التوارد. (قوله: (فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازاً) قال الشيخ سعد الدين: أن الفائدة في ترك ذكر الإتيان إلى ذكر الفعل هو أن الإتيان فعل من الأفعال، والفائدة هو الإيجاز حيث وقع لفظ الفعل موقع الإتيان مع ما يتعلق به. قوله: (ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أن من حق الشرط أن يكون سبباً للجزاء أو ملزوماً، وليس عدم الإتيان بالسورة سبباً لاتقاء النار ولا ملزماً فكيف وقع جزاء له؟ والجواب: أن اتقاء النار كناية عن ترك العناد، وهو مشروط بعدم القدرة عن الاتيان بالسورة ومسبب عنه، وهذه الكناية مع أنها في نفسها من شعب البلاغة وأبلغ من التصريح تفيد أمرين: أحدهما الإيجاز حيث طوى ذكر الوسائط أعني، قولنا: فإن لم تفعلوا فقد صح عندكم صدقه، وإذا صح كان لزومكم العناد وترككم الإيمان والانقياد سبباً لاستحقاقكم العقاب بالنار فاتركوا ذلك واتقوا النار، وليس المراد أن هناك حذفا وإضماراً بشرط أو جزاء بل أن المعنى على ذلك. وإلى هذا يشير من يقول: أنه يراد في الكناية معنى اللفظ ومعنى معناه. وثانيهما: تهويل شأن العناد بإقامة النار مقامه بناء على أن إنابة اتقاء النار مناب ترك العناد وإبراز ترك العناد في صورة اتقاء النار فاعترض بأنه ينبغي أن يكون مجازا عن ترك العناد وعلى ما اختاره صاحب المفتاح لا كناية إذ مبناها على التعبير باللازم عن الملزوم.

والجواب: أن اطلاق الكناية على التعبير بالملزوم عن اللازم شائع في كلام صاحب الكشاف، ومبنى الفرق بينها وبين المجاز عنده على إرادة المعنى الحقيقي وعدمها، وأما التفرقة بأن التعبير باللازم عن الملزوم كناية وعكسه مجاز، فإنما هي لصاحب المفتاح. انتهى. قوله: (وخطابا معهم على حسب ظنهم). قال الطيبي: فإنهم كانوا يقولون: (لو نشاء لقلنا مثل هذا). قوله: (حرف مقتضب) أي: مرتجل لتبسيط ثنائي الوضع. قوله: (عند سيبويه والخليل في إحدى الروايتين عنه) هو الراجح عند المتأخرين، وأبي حيان، وابن هشام. قوله: ((وفي الرواية الأخرى: أصله، (لا أن)). أي: فحدفت الهمزة لكثرتها في الكلام ثم الألف لالتقاء الساكنين. قوله: (فلان فخر قومه). قال الطيبي: أي الذي يفتخر به قومه، كقولك: ضرب الأمير أي مضروبة. قوله: (وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي: وقودها

احتراق الناس) زاد غيره: أو يقدر المضاف قبله، أي ذو وقودها الناس. زاد الطيبي: أو يجعل من باب رجل عدل، قال: وعلى هذا فالمعنى ليس وقود النار إلى ذلك وعلى الأول يجوز أن يكون هناك وقود آخر. وقوله: (وقيل حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل) إلى آخره. أقول: تبع في ذلك الكشاف، وهذا من جملة رده الأحاديث الصحيحة والتفاسير المرفوعة الثابتة، بمجرد الراي: فإنا لله، فإن تفسير الحجارة هناك بحجارة الكبريت هو الثابت في المنقول، ولا يعرف في التفسير غيره أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور في سننه وهناك ابن السري في كتاب الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنزر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.

قال: حجارة الكبريت جعلها الله تعالى كما شاء، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية. قال: هي حجارة في النار من كبريت أسود. ومثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم الرفع بإجماع أهل الحديث. وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن مجاهد، وأبي جعفر، وابن جرير، وجزم به ابن جرير ولم يحك خلافه عن أحد، وعلله بأنها أشد حرا، ونقله البغوي عن أكثر المفسرين، وقالوا: لأنها أكثر التهابا، ونقله ابن عقيل عن الجمهور، وقال: خصت لأنها تزيد على غيرها من الأحجار بسرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدة الالتصاق بالأبدان وقوة الحر. قوله: (ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة، قوله تعالى: في سورة التحريم {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وسمعوه صح تعريف النار).

تابع في ذلك الكشاف، وقد تعقبه القطب وغيره بأنه ينافي ما سيقوله في سورة التحريم أنها مدنية وقال صاحب الانتصاف لم أقف على خلاف أن سورة التحريم مدنية. والظاهر أن الزمخشري وهم في قوله: إنها مكية. وقال الشيخ أكمل الدين: ما ذكره الزمخشري ليس بصحيح لأن سورة التحريم مدنية بلا خلاف، قال: وقد اتفق الشارحون على ورود هذا الاعتراض، ونسب بعضهم الزمخشري إلى السهو، وفي الحاشية المشار إليها: ما ذكره الزمخشري وهم. فإن المفسرين/ متفقون على أن سورة التحريم مدنية، وكان يكفيه أن يقول: أية التحريم نزلت قبل هذه بالمدينة، ثم هذه بعدها، فإن صحة الجواب لا يتوقف على كون آية التحريم مكية وقال الشيخ سعد الدين والشريف: اعترض هنا بأن الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة، وإلا لكان خبرا، ولهذا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فيعود السؤال بعينه في قوله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. والجواب: أن الصفة والصلة يجب كونها معلومين للمخاطب لا لكل سامع، وما في التحريم خطاب للمؤمنين. وهم قد علموا ذلك بسماعهم

من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه نارا موصوفة بتلك الجملة، فجعلت فيما خوطبوا به. قوله: (والجملة استئناف أو حال)، قال أبو حيان: ذكر أبو البقاء، أن جملة أعدت للكافرين في موضع الحال من النار، والعامل فيها فاتقوا وفي ذلك نظر، لأن المعنى حينئذ يصير: فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين، وهي معدة للكافرين، اتقوا النار أو لم تتقوها، فتكون إذ ذاك حالا لازمة والأصل في الحال التي للتأكيد أن تكون منتقلة. قال: والأولى عندي: أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب وكأ، ها جواب سؤال مقدر، كأنه لما وصفت نار وقودها الناس والحجارة، قيل: لمن أعدت، فقيل: أعدت للكافرين. وقال الشيخ سعد الدين: لا يحسن الاستئناف والحال؛ لأنها متعلقة بأحوال تلك النار وعندي إنها صلة بعد صلة، كما في الخبر والصفة قال: وإن أبيت بناء على أنه لم يسطر في كتاب فليكن عطفا بترك العاطف، قال: لكن عطف وبشر على لفظ

المبنى للمتعول عليه يقوى جانب الاستئناف. قوله: (أس) الأساس. قوله: (عطفا على الجملة المستأنفة) إلى آخره. قال القطب: أي هذا العطف لا يتعلق باللفظ بل عطف معنوي، فإن مفهوم الجملة الأولى وصف عقوبة الكافرين، ومفهوم الثانية وصف ثواب المؤمنين. زاد الطيبي، والتشاكل لا يطلب في عطف الجمل بل في عطف المفردات. قوله: (أو على فاتقوا) إلى آخره. قال القطب: إعترض بأنه لا يصلح جواباً للشرط ولا يعطف عليه، قال: وهذا الاعتراض ليس بذاك، لجواز أن يكون (بشر) مرتباً على الشرط. أما أولا: فإن من تتميم عذاب الكافرين ثواب أضدادهم كأن الله تعالى يعذبهم بوجهين، فيكون معناه: فإن لم تفعلوا فاتقوا من عذابكم واتقوا من ثواب أضدادكم والأول تحذير والثاني تحسير. وأما ثانيا: فلأنهم إذ لم يعارضوا القرآن ظهر أنه معجز، فمن صدق به استحق الثواب، ومن كذب به استحق العذاب، وهذا يقتضي إنذار هؤلاء وتبشير هؤلاء، فلهذا ترتب التبشير على عدم المعارضة كما ترتب الإنذار. انتهى. وهذا الثاني: هو الذي قرره البيضاوي. وقال

الطيبي بعد إيراده الاعتراض، هذا سؤال اتفق الناس على وروده. والجواب عنه: أن الزمخشري لم يجعل قوله فاتقوا جوابا لقوله فإن لم تفعلوا حتى يلزم المحذور. وإنما جعله مبنيا على جزاء محذوف، والتقدير: وإن كنتم في شك من صحة ثبوته وصدق قوله: إن القرآن منزل عليه من عند الله، فأتوا بسورة من مثله فإن لم تقدروا على ذلك وأنتم فرسان البلاغة فقد صح صدقه وإذا صح صدقه فليتق المعاند النار، وبشر يا محمد المصدق بالجنة، قال: وهذا هو الذي قرره البيضاوي. وقال أبو حيان: جعل وبشر معطوفاً على قوله {فَاتَّقُوا} قاله أيضاً أبو البقاء وهو خطأ، لأن فاتقوا جواب الشرط، وموضعه جزم والمعطوف على الجواب جواب. ولا يمكن أن يكون وبشر جواباً لأنه أمر بالبشارة مطلقا لا على تقدير إن لم تفعلوا بل أمر أن يبشر الذين آمنوا، أمرا غير مرتب على شيء قبله. قال السفاقسي: قوله وموضعه جزم والمعطوف على الجواب جواب، فيه نظر، وقد أجاز الفارسي في نحو زيد ضربته وعمرا كلمته معطوفاً على الجملة الصغرى وهي ضربته وإن لم يصح أن يكون وعمرا كلمته خبراً لعدم الرابط ووافقه على ذلك جماعة، قال: لأن الجملة وإن كان لها موضع من الإعراب فإن ذلك الموضع لما لم يظهر لم يكن له حكم وصار ذلك بمنزلة الجملة التي لا موضع لها من الإعراب فلم يمتنع أن يعطف عليها ما لا موضع له فلما صح أن يعطف على الخبر ما لا

يكون خبرا صح أن يعطف على الجواب ما لا يكون جوابا. قوله: لأنه أمر بالبشارة مطلقا لا على تقدير إن لم تفعلوا، جوابه إن الواقع عدم الفعل جزماً ولهذا قال: ولن تفعلوا فلم يبق ثم تقدير إن فعلتم فلا تبشير فكان الأمر بالبشارة واقعاً مطلقاً. وقال ابن هشام في المغني: في جواب الزمخشري نظر، لأنه لا يصح أن يكون جوابا للشريط إذ ليس الأمر بالتبشير مشروطا بعجز الكافرين عن الإتيان بمثل القرآن، ويجاب بأنه قد علم أنهم غير المؤمنين، فكأنه قيل فإن لم يفعلوا فبشر غيرهم بالجنات. ومعنى هذا فبشر هؤلاء المعذبين. بأنه لاحظ لهم في الجنة. قوله: (وقرئ وبشر على البناء للمفعول عطفا على أعدت) فيكون أي: أعدت - استئنافا، قال أبو حيان ولا يصح عطفه على أعدت إذا أعرب حالا لأن المعطوف على الحال حال، ولا يصح أن يكون وبشر في موضع الحال، وحينئذ فيكون معطوفا على ما قبله من الجمل وإذ لم تتفق معانيها كما ذهب إليه سيبويه. وقال الحلبي: قوله: (عطفا على أعدت) غلط لأن المعطوف على الصلة صلة ولا راجع على الموصول من هذه الجملة فلا يصح عطفه على أعدت. وقال الطيبي: إذا عطف على أعدت فعلى هذا يدخل في حيز، الصلة، ويكون بشارة للمؤمنين عن الخلاص عنها من جملة تنكيل الكافرين فيجتمع لهم التعذيب مع الحسرة كما قيل: إن الإحسان إلى العدو مما ينعم به العدو وفي الحاشية المشار إليها: لا يصح عطف وبشر على أعدت إن أعرب حالا، لأن المعطوف على

الحال حال، فيكون قوله: وبشر خالا من النار أيضا، وهو بعيد لا ينتظم، وكذلك إن جعلت أعدت صلة بعد صلة للتي، كما تقول: زيد الذي يكرم الضيف يحمل الكل فإنه لا يقتضي أن يكون وبشر صلة التي، فيكون التقدير: النار التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ولا عائد فيه على الموصول، أللهم إلا أن يدعى أن أعدت جملة مستأنفة وليست صلة ولا حالا فحينئذ يسوغ عطف وبشر عليها. قوله: (والبشارة الخبر السار) شرطه أن يكون صدقا نبه عليه في الحاشية المشار إليها، وهو منصوص في كتب الفقه. قوله: (فإنه يظهر أثر السرور في البشرة)، قال الراغب: وذلك إن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجر. وفي الحاشية المشار إليها أن البشرة مشتقة من تغير البشرة لما يرد عليها وذلك مشترك في خبر الخير والشر غير أن عرف الاستعمال خصصه بالخير، فيجوز أن يقال: إن قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ} استعمل عليه الوضع اللغوي فيكون حقيقة لغة ومجازاً عرفا. قوله: (وأما قوله {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}) فعلى التهكم، قال الطيبي، أي: هو من الاستعارة التهكمية استعارة البشارة للنذارة بواسطة اشتراط الضدين، ومن حيث اتصاف كل بمضادة صاحبتها فنزلت البشارة منزلة النذارة، ثم قيل على التبعية: فبشرهم بدل فأنذرهم. قوله: (أو على طريقة. قوله: تحية بينهم ضرب وجيع).

الفرق بينهما أن الثاني لا تهكم فيه. قوله: (من الصفات الغالبة) أي التي استعملت من غير موصوف، فكأنها ليس لها موصوف قوله: قوله: كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني هو الحطينة قال ابن الأثير في الكامل: إن النعمان دعا بحلة من حلل الملوك، وقال للوفود - وفيهم أوس بن حارثة بن لأم الطائي - احضروه في غد، فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فلما كان الغد حضروا إلا أوساً، فقيل له في ذلك: فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أحضر، وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان ولم ير أوساً، طلب، وقال: (فقولوا له): أحضر آمنا مما خفت فحضر فألبس الحلة فحسده قوم من أهله، وقالوا للحطينة: أهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال: كيف الهجاء البيت. قال الطيبي: تنفك تزال وبظهر الغيب، حال، أي: ملتبسا بالغيب، أي: غائبين، والظهر معجمة لتأكيد معنى الغيب، وتأتيني خبر تنفك.

قوله: (واللام فيه للجنس)، قال أبو حيان: أي لا للعموم، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات. قوله: كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواصح تسقى جنة سحقا هو لزهير ابن أبي سلمى، الغربان تثنية غرب وهو الدلو العظيمة والمقتلة الناقة المرتاضة المذللة والنواضح الإبل التي يسقى عليها، جمع ناضح. قال الطيبي: وتخصيص النواضح والمقتلة لأنها تخرج الدلو ملان بخلاف الصعبة فإنها تنفر فيسيل الماء من نواحي الغرب فلا يبقى منه الإصابة، والسحق جمع سحوق وهي النخلة الطويلة وأراد بالجنة النخلة لأنها أحوج إلى الماء، والطوال منها أكثر حاجة من القصار. وفي قوله: (في غربي) تجريدية وهو خبر كأن. وقال الشيخ سعد الدين جعل عينيه في الغربين دون أن يجعلهما غربين، كناية لطيفة، كأن ما ينصب في الغربين ينصب من العينين

انتهى. وأول القصيدة: إن الخليط أجدوا البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا وأخلفتك ابنه البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل منها واهيا خلقا وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا قوله: (ثم دار الثواب)، قال الطيبي: فهي منقولة شرعية على سبيل التغليب. قوله: (لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه: سبع) لم أقف عليه. قوله: وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وأخرجه ابن المبارك وهناد في الزهد وابن جرير والبيهقي في البعث والأخدود شق مستطيل في الأرض قاله في الصحاح.

قوله: (واللام في الأنهار للجنس)

قوله: (واللام في الأنهار للجنس) الطيبي: يشير به إلى ما هو حاضر في ذهن المخاطب، وأنت تعلم أن الشيء لا يكون حاضراً في الذهن إلا أن يكون عظيم الخطر معقوداً به الهمم أي تلك الأنهار التي عرفت أنها النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الرياض وإن كانت آنق لا تبهج الأنفس حتى تكون فيها الأنهار. قوله: (أو للعهد)، والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية. قال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل: هذا يتوقف على تقدم نزول آية القتال على هذه. وقد قال عكرمة: إن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الشيخ سعد الدين: إنما يصح هذا لوثب سبقها في الذكر، قال: ومع ذلك لا يخفى بعد مثل هذا العهد. قوله: (والنهر بالفتح والسكون) زاد في الكشاف أن الفتح اللغة العالية، قال الطيبي: أي: الفصيحة التي كثر استعمالها في كلام الفصحاء. قوله: (والتركيب للسعة)، قال القطب: فإن النهار اسم لضوء واسع ممتد من طلوع الشمس إلى غروبها. والإنهار الإسالة سعة وكثرة، وأنهر الطعن: وسع، واستنهر الشيء: اتسع، والمنهرة فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها

كناستهم. قوله: (كلما رزقوا صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة) إلى آخره، قال أبو حيان: الأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، فإنه لما ذكر أن لهم جنات صفتها كذا: هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات وأحوالها، فقيل لهم كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب، نصب على تقدير كونها صفة للجنات أو رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف عائد على الجنات أي هي {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا}، أو عائد على الذين آمنوا أي هم كلما رزقوا. والأولى: الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه، لأنها في الوجهين الأخيرين تتقدر بالمفرد، فهي مفتقرة إلى الموصوف أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الذين آمنوا تقديره: مرزوقين على الدوام، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن تكون الحال مقدرة لأنهم وقت التبشير: لم يكونوا مرزوقين على الدوام وأجاز أيضا أن تكون حالا من جنات، لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري، فقربت من المعرفة، ويؤول أيضا إلى الحال المقدرة، والأصل في الحال أن تكون مصاحبة فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره، انتهى. وفي الحاشية المشار إليها: في كونها خبر مبتدأ محذوف إشكال. وذلك أن (كلما) هنا ظرفية، والتقدير: كل زمن رزق يتجدد لهم، وكل منصوبة انتصاب ظرف الزمان، وهو لا يكون خبرا عن جثة، إنما يكون خبراً عن المصدر، ففي تقدير المبتدأ عسر. وقال الشيخ سعد الدين: قوله: أو خبر مبتدأ محذوف أي: هم أو هي، لا شأنها لعدم العائد - وإن أريد أن الجملة خبر عن ضمير الشأن فلا يكون المحذوف شأنها، بل هي بمعنى القصة والشأن، قال: وههنا بحث، وهو أن المحذوفة المبتدأ إما أن تجعل صفة أو استئنافا

فاعتبار الضمير لغو، وإما أن يكون كلاماً مبتدأ غير صفة ولا استئناف فلتكن بدون اعتبار الحذف كذلك. قوله: (وقع في خلد السامع): بفتح الخاء المعجمة واللام أي: في قلبه وروعه. قوله: (ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال)، الذي ذكره صاحب الكشاف. أنهما على هذا الوجه، أي: كونها لابتداء الغاية متعلقان برزقوا. قال أبو حيان: (من) في قوله: منها، لابتداء الغاية، وفي - (من ثمرة) كذلك - لأنه بدل من قوله: (منها) أعيد معه حرف الجر وكلتاهما متعلق برزقوا على جهة البدل لأن الفعل لا يقتضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف أو على طريقة البدل، وهذا البدل من بدل الاشتمال. قوله: ويحتمل أن يكون من ثمرة بيانا تقدم كما في قولك: رأيت منك أسداً قال الطيبي: يعني هو من باب التجريد، وهو أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها إيهاما لكمالها فيه كأنك جردت من المخاطب شيئاً يشبه الأسد، وهو نفسه كذا هنا جرد له من ثمرة رزق وهو هي، فيكون رزقا أخص من ثمرة لأن الثمرة ذات أوصاف، فانتزع منها وصف المرزوقية أي التي يقع الأكل عليها لكمال هذا المعنى فيه. فالرزق على هذا مخرج من قوله: من ثمرة، وعلى الأول بالعكس. وقال القطب بعد تقديره: ليت شعري إذا حمل (من) هنا على البيان لم يجعل الأسلوب من التجريد، فإنه يجوز بل يظهر أن رزقا منهم يفسره الثمرة، أي: الرزق الذي هو الثمرة، لا كما في قولك: أنفقت من الدراهم ألفا فإنه ليس من أسلوب التجريد وقال الشيخ أكمل الدين - بعد حكايته -: الظاهر: أنه لا مانع

من ذلك في موارد (من) البيانية كلها، فإنه يجوز أن يقال في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أن الأوثان بلغت في صفة النجاسة بحيث يجوز أن يجرد منها رجس، وكذلك الدراهم، بلغت في الأنفاق كثرة يمكن أن يجرد منها نهاية مراتب العدد، وإن كان ذلك أمراً اعتبارياً لا يستلزم محالا لم يستبعد جوازه. وقال أبو حيان: أجاز الزمخشري أن يكون من ثمرة بيانا، كقولك: رأيت منك أسداً تريد أسد، وكون (من) للبيان ليس مذهب المحققين، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ولو فرضنا مجيئها للبيان لما صح تقديرها للبيان هنا لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة إن كان قبلها معرفة نحو: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أي: الرجس الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة فهو يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أي: هو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا لا نكرة ولا معرفة إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة، فتكون من مبينة لرزق أي رزقا هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما رأيت منك أسداً فمن لابتداء الغاية. انتهى. وقال الشيخ سعد الدين: وأما جعل هذا البيان على منهاج رأيت منك أسداً فمبني على أن (من) البيانية عنده راجعة إلى ابتداء الغاية، فلا بد من اعتبار التجريد بأن ينتزع من المخاطب أسد، ومن الثمرة

رزق. قوله: (وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا) هو: مثال على الوجهين كون (من) للابتداء، وكونها بياناً. قوله: (وإن كانت الإشارة إلى عينه) إن هنا وصلية من تتمة ما قبله على ما يفهمه إيراد الطيبي. وقوله: (فالمعنى متفرع على قوله): وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا، ولم يذكر المصنف الوجه الآخر الذي ذكره صاحب الكشاف على البيان وهو أنه يحتمل أن يكون إشارة إلى المفرد والشخص. قوله: (فالمعنى هذا مثل الذي)، قال الشيخ سعد الدين إنما احتاج إلى ذلك، لأن هذا إذا لم يذكر معه الوصف كان إشارة إلى المحسوس الحاضر وهو الذات الجزئية لا الماهية الكلية. وأما إذا قيل هذا النوع كذا فلا يلزم ذلك. قوله: (ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته). قال الطيبي: أي هو تشبيه بحذف الأداة ووجهه: نحو قولك: زيد أسد. قال الإمام: لما اتحد في الحقيقة وإن تغايرا في العدد صح أن يقال: هذا هو ذاك لأن الوحدة النوعية لا ينافيها الكثرة بالشخص. وقال صاحب الفرائد: الإشارة بقوله: هذا إلى النوع، فلا حاجة إلى التأويل. قال الطيبي: قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يحتاج إلى التأويل، لأنه

اعتراض يقرر أمر المعترض فيه أو حال مقيدة. وقال الشيخ أكمل الدين: الإشارة الحسية إلى النوع غير متصورة لعدم تحققه في الخارج فبطل قول صاحب الفرائد. والإشارة إلى الشخص وإرادة النوع مجاز، لأن الشخص يستلزمه والذي ذهب إليه المصنف تشبيه بليغ بحذف الأدارة ووجه الشبه. وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يدل عليه دلالة، فصار المصير إليه متعينا. وقال أبو حيان: إنما احتيج إلى هذا الإضمار لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم. قوله: (مزيته): في الصحاح: المزية الفضيلة ولا يبنى منها فعل وفي حاشية الصحاح: يقال أمزيته أي فضلته، وفي الأساس: تمزيت علينا تفضلت أي: رأيت لك الفضل علينا ومزيت فلانا فضلته. قوله (حكي عن الحسن أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيترك ذلك، فتقول الملئكة: كل فاللون واحد والطعم مختلف). أخرجه ابن جرير عن يحيى ابن أبي كثير بهذا اللفظ. والصحفة كالقصعة والجمع صحاف.

قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (والذي نفس محمد بيده إن الرجل (من أهل الجنة) ليتناول الثمرة ليأكل منها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها). أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة موقوفا. وفي المستدرك من حديث قوبان، مرفوعاً (لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها شيئاً إلا أخلف الله مكانها مثلها). وقال: صحيح على شرط الشيخين. قوله: (والأول أظهر، لمحافظته على عموم كلما، فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا) فلا يصح في الوجه الثاني هذا القول إذا أتوا به أول مرة. قلت: وعندي أن الثاني أرجح لأن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقة لقوله بعد: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} فإنه في رزق الجنة أظهر وإعادته إلى المرزوق في الدارين لا يخفى ما فيه من التكلف، وسيأتي في كلام أبي حيان إشارة إلى ذلك. قوله: (وتبجحهم) التبجح الفرح. قوله: (وأتوا به متشابها اعتراض) قال القطب: الأشبه أنها من

باب التذييل، وهو أن يعقب الكلام بما يشتمل على معناه توكيداً لا محل له من الإعراب وقال الشيخ أكمل الدين: قد جوز بعض علماء المعاني وقوعها آخر جملة لا تليها جملة متصلة بها فيشتمل التذييل. وهو مختار صاحب الكشاف. وقال الشيخ سعد الدين: هذا على تجويز الاعتراض في آخر الكلام، والأكثرون يسمونه تذييلاً. قوله: (والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}) قال الطيبي: إن المشبه به مشتملان على معنى المرزوق في الدارين. يعني من أرد أن يعبر عن قوله: هذا الذي رزقنا في الآخرة مثل الذي رزقنا في الدنيا بلفظ جامع له أن يقول المرزوق في الدنيا والآخرة. وهذا الطريق في البيان يسمى الكناية الإيمائية فالضمير المفرد راجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان فلو رجع إلى الملفوظ وهو المشبه والمشبه به. لقيل: وأتوا بهما وقال أبو حيان: معنى الكلام أنه لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على ذكر المرزوقين معاً ألا ترى أنك إذا قلت: زيد مثل حاتم، كان منطويا على ذكر زيد وحاتم. قال: وما ذكره الزمخشري غير

ظاهر الآية؟ لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عاندا على مرزوقهم في الآخرة فقط لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه مخبراً على المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين ألا يعود الضمير إلا إلى الرزق في الجنة [كأنه، قال وأتوا بالمرزوق في الجنة] متشابها، ولاسيما إذا أعربت الجملة حالاً، إذ يصير التقدير قالوا: هذا مثل الذي رزقنا من قبل، وقد أتوا به متشابها. أي قالوا ذلك في هذه الحال، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابها ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار (قد) جائز في فصيح الكلام. قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} أي وقد كنتم. ولذلك لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله: (هو الذي رزقنا من قبل) لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معه لأن ما في حيز كلما والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى، وإن كان ماضي اللفظ، لأنها لا تخلو من معنى الشرط، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الأخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابها ولا يظهر فيه أيضا العود إلى الدارين

لأن هذه الجمل محدث بها عن الجنة وأحوالها. انتهى. قوله: ونظيره قوله: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) أي: الغنى والفقير. في الحاشية المشار إليها تنظيره عود الضمير في قوله: وأتوا به [إلى ما رزقوه في الدنيا والآخرة بقوله: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) وهاهنا القياس وأتوا بهما] متشابهين فهو على عكس ما نظر به غير أن كلام الكشاف ما يجيب عن هذا السؤال لأنه قال في أخر كلامه: ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به، فهذه الآية نظيرة تلك في أن كل واحدة منهما رجع الضمير فيها إلى المعنى لا إلى اللفظ، فقياس هذا أن يقال: وأتوا بهما، فقيل: به وقياس تلك أن يقال به، فقيل: بهما، وكذا قال الطيبي ونظيره في رجوع الضمير إلى المعنى دون اللفظ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} إذ لو اعتبر اللفظ لقيل: أولى به على الإفراد، لأن الضمير في الشرط- وهو أن يكن- راجع إلى المشهود عليه في قوله: (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن) أي: المشهود عليه غنيا أو فقيرا فالله أولى به ليتطابق الشرط والجزاء لكن لما كان المانع من الشهادة على الأقرباء غالبا أما خوف الفقر عليهم إذا كانوا أغنياء أو تضررهم بها إذا كانوا فقراء عم

الصنفين بتثنية الضمير، أي الله أعلم بجنس المتصف بصفة الغنى وبجنس المصتف بصفة الفقر، سواء كان مشهوداً عليه أو غيره، وأعلم بمصالحه وبما ينفعه فيدخل في هذا العام المشهود عليه دخولا أوليا وهذا أيضا كناية إيمائية يدل عليه قوله: بجنس الغنى والفقير. انتهى. قوله: قال ابن عباس: (ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء). أخرجه مسدد في مسنده وهناد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث. قوله: (مطهرة مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: معنى تطهيرهن مما ذكر أنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهن لا التطهير الشرعي بمعنى إزالة النجس/ الحسي والحكمي كما في الغسل عن الحيض ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. نعم في إطلاق التطهير تشبيه للدنس بالأقذار والأحداث. قوله: وإذا العذاري بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت قال المرزوقي، في شرح الحماسة. العذارى جمع عذراء يقول: إذا أبكار النساء صبرت على دخان النار حتى صار كالقناع لها ولم

تصبر على إدراك ما في القدور بعد نصبها لشدة الحاجة، فملت أي: شوت في الملة وهو الرماد الحار قدر ما تعلل به نفسها من اللحم لدفع ضرر الجوع المفرط من اشتداد السنة. وتخصت العذارى بالذكر لفرط حياتهن ولتصونهن عن كثير مما يبتذل فيه غير هن فجعل نصب القدور مفعول استعجلت على السعة. وجواب إذا، قوله بعده: دارت بأرزاق العفاة مغالق .... بيدي من قمع العشار الجلة والبيت من قصيدة، لسلمى بن ربيعة من بني أسد بن ضبة. أولها: حلت تماضر غربة فاحتلت .... فلجأ وأهلك باللوى فالحلة وكأن في العينين حب قرنفل .... أو سنبلا كحلت به فانهلت زعمت تماضر أنني إما أمت .... يسدد أبينوها الأصاغر خلتي تربت يداك وهل رأيت لقومه .... مثلى على يسرى وحين تعلتى رجلا إذا ما النائبات غشينه .... أكفى لمعضلة وإن هي جلت ومناخ نازلة كفيت وفارس ... نهلت قناتي من مطاه وعلت

قوله (فإن قيل: الأبدان مركبة)

قوله وإذا العذارى: البيت. قوله: ولذلك قيل للأثافي خوالد، قال في الصحاح: لبقائها بعد دروس الأطلال. قوله (فإن قيل: الأبدان مركبة)، إلى آخره. قال الطيبي. ذكر الراغب نحو هذا الجواب. ثم قال: ليس لذلك القول وجه إلا التوقيف، ولا مدخل للاجتهاد فيه والذي يستبعده المتفلسفون هو أنهم يريدون أن يتصوروا أبدانا متناولة الأطعمة لا استحالة له فيها ولا تغير لها ولا يكون منها فضلات، وتصور ذلك محال وذلك لأن التصور هو إدراك الوهم ما أدركه الحس. ومالا يدركه الحس جزءه ولا كله كيف يمكن تصوره ولو كان للإنسان سبيل إلى تصور ذلك لما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. وما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخبراً عن الله تعالى: ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)). قوله: (التمثيل)، قال الطيبي: لم يرد به التشبيه التمثيلي [أو الاستعارة التمثيلية بل أعم. وقال الشيخ سعد الدين: المراد

بالتمثيل] التشبيه مطلقا سواء كان في المفرد أو المركب على وجه الاستعارة أو غيرها. قوله: (ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء). قلت: أخرج الرامهرمزي في الأمثال عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل). قوله: كما مثل في الإنجيل غل الصدور بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة- ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير)، نص على ما حكاه الإمام في الأول: لا تكونوا كمنخل خرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. وفى الثاني: قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح. وفي الثالث: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم. قوله: (أسمع من قراد) قال الميداني: لأنه يسمع صوت

أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرك لها، وقال الشيخ سعد الدين: تزعم العرب إنه يسمع الهمس الخفي. من وقع مناسيم الإبل على مسيرة سبع ليال، وقال القمي في الأمثال: زعموا أنه يحس بالإبل في ليلة القرب: وهي الليلة التي تصبح منها الإبل على الماء، فيتحرك لذلك حركة لا يخفى أنها قد أحست بإقبال الإبل والناس لا يشعرون قال: وفي لطف إحساس كثير من الحيوان عجب عجيب وإن في ذلك لعبرة لأولى الألباب، فتبارك الله أحسن الخالقين. قوله: (وأعز من مخ البعوض)، يضرب لمن تكلف الأمور الشاقة. قوله: (وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي) إلى آخره. وقال الإمام: إنه تعالى لما بين أن القرءان معجز أتى بشبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها. وتقرير الشبهة أنه جاء في القرءان ذكر النحل والذباب والعنكبوت، وهذه الأشياء لا تليق بكلام البلغاء فضلاً عن كلام المجيد، وأجاب أن صغر هذه الأشياء، لا يقدح في البلاغة. إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة. قال الطيبي: فعلى هذا نظم الآية بما قبلها نظم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ

أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في كونها جملة مستطردة، كما ذكره الإمام: قلت: وفيه إشارة إلى مناسبة وضع هذه الآية هنا، ولم توضع في سورة العنكبوت أو الحج عقب المثل المستنكر، لأنه جواب عن شبهة أوردت على إقامة الحجة على حقيقة القرءان بأنه معجز فكان ذكرها هنا أنسب. قوله: (فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها). قال الشيخ سعد الدين: هو تفسير للفظ الحياء ونوع تنبيه على معناه الوجداني المغني عن التعريف. وقال الشيخ أكمل الدين، الحق أن الكيفيات النفسانية لا تحتاج إلى تعريف لكونها وجدانيات، فإن عرفت كان التعريف لفظيا. قال: والظاهر أنه عرفه هنا ليبنى عليه كيفية جواز إطلاقه على الله تعالى. قوله: (فقيل: حيي الرجل، هي لغة حكاها أبو زيد خلافا لقول أبي البقاء: إنه لم يستعمل منه فعل بلا سين. قوله) (إذا اعتلت نساه وحشاه) النسا بالفتح والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين، ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ

الحافر، والحشا: الربو وهو النفس العالي، قاله: القطب والطيبي والشيخ سعد الدين، وقاد الشيخ سعد الدين وغيره: الحشا ما انضمت عليه الضلوع والجمع أحشاء. قلت: يريد الأول قول الشماخ: تلاعبني إذا ما شئت خود ... على الأنماط ذات حشا قطيع أي: ذات نفس عال من سمنها. قوله: (إذا وصف به الباري تعالى، كما جاء في الحديث: ((إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه)). أخرجه البيهقي في الزهد، من حديث آنس بنحوه، وابن أبي الدنيا في كتاب العمر من حديث سلمان بنحوه. قوله: ((إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردها صفرا حتى يضع فيهما خيرا)). أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه،

والحاكم، وصححه من حديث سلمان، يدون قوله: حتى يضع فيها خيراً. وأخرجه الحاكم من حديث أنس هذه الجملة نحوه. والصفر: الخالي. قوله: (فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما). قال صاحب الانتصاف: التأويل في الحديث لازم، لأنه إثبات، وأما الآية فلا تحتاج إلى التأويل، لأن الحياء مسلوب عنه تعالى، فهو كقوله: إنه تعالى، ليس بجسم ولا عرض، وتعقبه القطب، بأن نفي الحياء في الآية ليس سلبا محضا، بل عدم الحياء عن ما من شأنه الحياء، فإن نفى الحياء مطلقا وصف مذمة، فإنه يقال للخائض فيما لا ينبغي: لا حياء له وذلك محال على الله تعالى سلبا، فوجب التأويل في السلب كالإثبات، وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: هب أن إثبات الاستحياء لله تعالى كما في الحديث يحتاج إلى تأويل، وأما نفيه كما في الآية فلا يحتاج إلى ذلك كما في قولهم: لله ليس بجوهر ولا عرض وقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ونحو ذلك: فأي

حاجة إلى جعل لا يستحي من قبيل التمثيل أو المقابلة أعنى المشاكلة، قلنا إذا نفيت أمثال ذلك على الإطلاق، بمعنى أنها ليست من شأنه فإنه لا يتصف بها، كما في الأمثلة المذكورة لم يحتج إلى تأويل، وأما إذا نفيت على التقييد فقد رجع النفي إلى القيد، وأفاد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، فاحتاج إلى تأويل، كما إذا قيل: لم يلد ذكرا ولم يأخذه نوم في هذه الليلة، وليس بعرض قارن الذات. وقال الطيبي: الفرق بين قولنا: إن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض، وما في الآية والحديث هو أن القصد في ذلك التنزيه: ومالا يجوز أن ينسب إليه تعالى. وفي الآية القصد إلى تجويز ضرب المثل وأن الحياء غير مانع منه، وفي الحديث القصد إلى ترك تخييب العبد وأن الحياء مانع من التخييب فالمقاصد مختلفة والمقامات متباينة، فهما قريبان من ترتب الحكم على الوصف المناسب، فلابد من اعتبار المجاز. قوله: (ونظيره، قول من يصف إبلا: إذا ما استحين الماء يعرض نفسه .... كرعن بسبت في إناء من الورد) هو للمتنبي، قال الطيبي: أي تركن، والضمير للنوق وكرع الماء يكرع كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه والسبت بكسر السين المهملة: جلود البقر المدبوغة بالقرظ، شبه مشافر الإبل به، وعنى بالإناء

النقرة فيها الماء، وبالورد الأزهار، ويصف الإبل وكثرة مياه الأمطار المحفوفة بالأزهار، فكأن الماء يعرض نفسه عليها. والإبل تستحي من رد الماء إذا كثر عرض نفسه عليها فتكرع فيه بمشافر كأنها السبت. والبيت من قصيدة يمدح بها أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد، أولها: نسيت وما أنسى عتابا على الصد .... ولا خفرا زادت به حمرة الخد ومن يصحب اسم ابن العميد محمد ... يسر بين أنياب الأساود والأسد يمر من السم الوحي بعاجز ... ويعبر من أفواههن عن درد كفانا الربيع العيس من بركاته ... فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد إذا ما استحين الماء يعرض نفسه .... كرعن بسبت في إناء من الورد كأنا أرادت شكرنا الأرض عنده .... فلم يخلنا جو هبطناه من رفد قوله: (وأنما عدل به عن الترك لما فيه من التمثيل).

قال الشيخ سعد الدين: بين الاستعارة التمثيلية وبين التشبيه في المصدر تنبيها على أنها استعارة تبعية، وبه يظهر أن المستعار في الاستعارة التمثيلية قد يكون لفظا مفرداً دالاً على معنى مركب. قوله: (وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة). قال الطيبي: لم يرد بالمقابلة المعنى المصطلح عليه في البديع، وهي أن يجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وبين ضديهما. بل أراد المشاكلة. وهي: أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته لكن المشاكلة على التقدير. إذ لولا قولهم: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت على سبيل الإنكار لم يحسن قوله إن الله لا يستحي، جوابا عنه. وذكر نحوه الشيخ أكمل الدين والشيخ سعد الدين. وزاد أن المشاكلة ليس بحقيقة، كما هو ظاهر، وأن وجه التجوز ليس بظاهر، قال: وظاهر كلامهم أن مجرد وقوع مدلول هذا اللفظ في مقابلة ذاك جهة التجوز. قلت: وقد كنت سئلت قديما عن المشاكلة ما علاقتها؟ فأجبت بما نصه، قد رأيت بعض متأخري أهل البيان إدعى في نوع المشاكلة أنه واسطة بين الحقيقة والمجاز، قال: وليس بحقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما لم يوضع له ولا مجاز لعدم العلاقة المعتبرة. والصواب أنه مجاز قطعا، والعلاقة في مثل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ

سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الشكل والشبه الصورى، كما يطلق على الإنسان والفرس على الصورة المصورة. قوله: (وضرب المثل اعتماده) زاد في الكشاف وصنعه. قوله: (وأصله وقع شيء على آخر) قال الراغب: الضرب إيقاع شيء على شيء، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها. وضرب الدراهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، وقيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه، وبذلك شبه السجية، فقيل لها: الضريبة والطبيعة، والضرب في الأرض: الذهاب فيها وهو ضربها بالأرجل، وضرب الخيمة بضرب أوتادها بالمطرقة، وتشبيها بضرب الخيمة قال تعادلى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} أي: التحفتهم الذلة التحاف الخيمة، ومنه استعير

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} وضرب المثل هو من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. قوله: (وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بافضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه) قال ابن مالك في شرح الكافية: يجوز أن يتعدى الفعل اللازم بحرف الجر إلى إن وأن وغيرهما، نحو عجبت [من أنك منطلق، ومن أن قام زيد ومن قعود عمرو، ويجوز حذف حرف الجر من أن وإن، فيقال]: عجبت أنك ذاهب وأن قام زيد، ولا يجوز حذفه من غيرهما، فلا يقال: عجبت قعود عمرو. ومذهب الخليل والكسائي في أي وإن، إنهما في محل جر بعد حذف حرف الجر. ومذهب سيبويه والفراء إنهما في محل نصب، ويؤيد قول الخليل قول الشاعر: أنشد الأخفش: وما زرت ليلى أن تكون حبيبة ... إلى ولا دين بها أنا طالبه فجر المعطوف على أن فعلم أن أن في محل جر. تنبيه: قول المصنف: منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها كلام مطلق لم يقصد به خصوص هذا الموضع، فإنه يجوز هنا أن تكون منصوبا لا على حذفها، بل على تعدية الفعل بنفسه إليه فإن استحي

يتعدى بنفسه أيضا. قالت شاعرة: وإني لأستحييه والثوب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني وقد نبه على ذلك في الكشاف، فقال: وفيه لغتان، التعدي بالجار والتعدي بنفسه. تقول: استحييت منه واستحييته وهما محتملان هنا. هذه عبارته، قال في الحاشية المشار إليها: يعني التعدية بنفسها وبحرف الجر فإن عديت بنفسها فموضع (أن يضرب) النصب بالمفعولية، فإن عديت بحرف الجر كانت على الوجهين المشهورين في موضع أن وما بعدها إذا حذف منها حرف الجر، هل هي في موضع نصب أو جر؟ فحاصله أن فيها طريقين، طريقة قاطعة بأن محله نصب وطريقة بأن في محله قولين، أحدهما النصب والآخر الجر. انتهى. قوله: (وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا) وتسد عنها طرق التقييد، كقولك: أعطني كتابا ما أي أي كتاب كان، أو مزيدة للتأكيد، كالتى في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} قال الشيخ سعد الدين: جعل صاحب الكشاف ههنا ما الإبهامية قسيما للصلة وفي المفصل قسيما من حروف الصلة، مثلها في {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} وكأنه مال هنا إلى أنها اسم على ما هو رأي البعض، فمعنى مثلا ما أي مثل

ويتفرع على الإبهام الحقارة مثل أعطه شيئا ما، والفخامة مثل لأمر ما يسود، والنوعية مثل أضربه ضربا (ما) ففي الجملة تؤكد ما إفادة تنكير الاسم قبلها قال: وبين فائدة المزيدة بقوله للتأكيد لئلا يتوهم أنها لغو يجب صيانة الكلام الفصيح عنه. وقال الطيبي: إذا كانت ما إبهامية تعطى معنى التنكير في مثلا وتزيد في شيوعه، ولهذا قلنا أي مثل كان والمؤكدة تؤكد معنى مضمون الجملة ويعضده ما في المفصل: قولك ما أن رأيت زيداً. الأصل ما رأيت، ودخول أن صلة أكدت معنى النفي وقال الشيخ أكمل الدين: الإبهامية: قال بعضهم إنها اسمية للصفة لأنها في معنى مثلا أي: مثلا حقيرا كان أو صغيراً، قال: وذكر بعضهم أن ما في الكشاف هو الوجه، لثبوت زيادة ما لهذه الفائدة نصا في مثل {أَيًّا مَا تَدْعُوا} و {أَيْنَمَا تَكُونُوا} فالحمل على ما ثبت أولى، قال: وقوله: أو مزيدة للتأكيد، يعني أنها لتأكيد الكلام، لا لزيادة الإبهام والشيوع. قال بعضهم: وحينئذ يحتمل أن تكون لتأكيد ضرب المثل فيكون معناه إن الله يضرب المثل حقا. وأن تكون لتأكيد نفي الاستحياء، فمعناه إن الله لا يستحي ألبته أن يضرب مثلا، وقال أبو حيان: ما إذا نصب بعوضة زائدة للتأكيد، أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعا، كما تقول: ايتني برجل

ما، أي: أي رجل كان. وقيل: ما نكرة وتنصب بدلا من مثلا. وقال ابن هشام في المغني: قال الزجاج: ما في قوله: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين. قال ابن هشام: ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وبعوضة بدل. وقيل: (ما) اسم نكرة صفة لمثلا أو بدل منه، وبعوضة عطف بيان على (ما). قوله: (ولا نعنى بالمزيد اللغو الضائع) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: معنى كونها صلة ومزيدة أنها لا يتغير بها أصل المعنى، ويشكل ببعض الحروف المفيدة للتأكيد، مثل إن واللام حيث لا تعد صلة وإن اشترط عدم العمل انتقض باللام حيث لم تعمل، وزيادة بعض الحروف الجارة حيث عملت، وقد تكون حروف الصلة لتزيين اللفظ وزيادة فصاحته، وقال الشيخ أكمل الدين: ليس معنى الزيادة التي تكون لغوا، فإنه لا يصح في الكلام المعجز، وإنما المراد بها ألا تكون موضوعة لمعنى أو جزء التركيب وإنما تفيد وثاقة وقوة للتركيب. وقال بعضهم في الفرق بينها وبين الحروف الموضوعة للتأكيد الغير الزائدة، كلام القسم ولام التأكيد ونحوهما إن هؤلاء موضوعة لتأكيد هو جزء معنى التركيب كالجص الذي يوضع بين اللبنتين، والحرف الزائد وإن كان موضوعا لمعنى التأكيد إلا أنه لا دخل له في التركيب بل خارج عنه كما إذا أوصل خشبة بخشبة وضع على مفصلهما ضبة فتلك الضبة ما صارت جزءا من ذلك المركب، بل لا يفيد إلا

قوله: (وبعوضة عطف بيان لمثلا)

توثيقا وزيادة متانة، وكذلك القول في سائر الزيادات. انتهى. وهذا الكلام الأخير للقطب. قوله: (وبعوضة عطف بيان لمثلا)، قال أبو حيان: نصب بعوضة، إما على أن تكون صفة (لما) إذا جعلنا (ما) بدلا من (مثل) ومثلا: مفعول بيضرب، وتكون (ما) إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المنكر لإبهام ما أو عطف بيان ومثلا مفعول بيضرب أو بدلا من مثل، أو مفعول ليضرب، وانتصب مثلا حالاً من النكرة مقدما عليها أو مغعولا ليضرب ثانيا، والأول هو (المثل) على أن يضرب [يتعدى إلى اثنين، أو مفعولاً أول ليضرب ومثلا، المفعول الثاني وعلى تقدير اسقاط الجار، والمعنى أن يضرب مثلا] ما بين بعوضة فما فوقها، وحكوا له: عشرين ما ناقة فجملا قال: والذي نختاره من هذه الاعاريب: أن ضرب يتعدى لواحد وذلك الواحد هو مثلا، لقوله تعالىء: {ضُرِبَ مَثَلٌ} ولأنه المقدم في التركيب، وما صفة تزيد النكرة شياعا، وبعوضة بدل لأن عطف البيان، مذهب الجمهور فيه: أنه لا يكون في النكرات. انتهى. قوله: (أو مفعول ليضرب ومثلا حال تقدمت عليه). قال الشيخ سعد الدين: لإخفاء في أنه لا معنى لقولنا: يضرب بعوضة إلا يضم مثلا إليه فتسميته مثل هذا مفعولا ومثلا حال بعيد جدا، وتوهم كونه حالاً موطئة غلط ظاهر، فإن مثلا هو المقصود، وإنما يستقيم لو جعل مثلا

بعوضة حالا ومثلا صفة له، مثل {أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}. وقال الشيخ أكمل الدين: ذكر بعضهم أن الحال على هذا تكون موطنة ليستقيم المعنى وقل ما يجيء هذا القسم مقدما على صاحبه. فلهذا ضعف هذا الوجه. قوله: (أوهما مفعولاه: لتضمنه معنى الجمل). قال الطيبي: قيل هذا أبعد الوجوه لندرة مجيء مفعولي جعل وأمثاله نكرتين، لأنهما من دواخل المبتدأ والخبر. قال الشيخ أكمل الدين: ورد بأن البعوضة فما فوقها فيه معنى التعميم والوصف أيضا؛ لأنه يفيد معنى صغيراً وأصغر. قال: وكون ضرب بمعنى جعل طريقة المجاز لأن ضرب جعل خاص، ويكون مثلا هو المفعول الثانى. [وقال الشيخ سعد الدين: هذا على أن مثلا هو الثاني] وبعوضة هو الأول، ومع التنكير لحصول الفائدة إذ القصد بها إلى أصغر صغير. قوله وعلى هذا تحتمل (ما) وجوها أخر أن تكون موصولة، قلت: هذا صريح في أنها لا تحتمل المحصولية على قراءة النصب، وليس كذلك فقد ذكر ابن جرير عدم قراءة النصب أنها موصولة حذف صدر صلتها، ثم أورد على نفسه أن [النصب] حينئذ لا وجه له. وأجاب

بأن له وجهين أحدهما: أن ما لما كانت في محل نصب وكانت بعوضة صلتها أعربت بإعرابها. كما في قول حسان: فكفى بنا فضلا على من غيرنا فإن غيرنا أعربت بإعراب من، والعرب تفعل ذلك خاصة في (من، وما)، تعرب صلاتهما بإعرابهما. والثاني: أنه على تقدير ما بين بعوضة إلى ما فوقها فحذف بين ونصب بعوضة لإقامته مقامه ثم حذف (إنى) إكتفاء بالفاء. على قولهم. (أحسن ما قرنا فقد ما)، أي ما بين قرن إلى قدم. انتهى. قوله: (حذف صدر صلتها)؛ قال أبو حيان؛ أي: الذي هو بعوضة، قال: وهذا يتمشى على مذهب الكوفيين. لعدم اشتراطهم في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة والبصريون يشترطون ذلك. قوله: (وموصوفة) أي: نكرة بصفة كذلك، أي حذف صدر الجملة التي هي الصفة، أي: هو. قوله: (واستفهامية)، إلى قوله: ونظيره: (فلان لا يبالي بما يهب مادينار ماديناران)، قال صاحب الانتصاف: لا يستقيم المعنى على ما أشار إليه لأن هذا الاستفهام إنما يقع للانكار تنبيها بالأدنى على

الأعلى، كما يقال: فلان يعطي الأموال ما الدينار وما الديناران، وأما ههنا فهم أنكروا ضرب المثل بالذباب، فلا يستقيم أن تكون البعوضة فما فوقها في الصغر أو الكبر على اختلاف المذهبين، تنبيها بالأقل على الأكثر إذ هي وما فوقها الأكئر في الحقارة ولا تجد لتصحيح المعنى وجها. قال: وإنما أطلت لأنه موضع ضيق يبعد فهمه، وحسبك بمعنى انعكس فيه فهم الزمخشرئي، وقال صاحب الانتصاف: لو تأمل كلام الزمخشري لوجد جواب اعتراضه فيه لأنه قال: أجيبوا بأن الله لا يستحي أن يضرب [من الأمثال ما يشاء، فما البعوضة فما فوقها وذلك أن المسلوب عنه تعالى أن يستحي أن يضرب] مثلا وهو نكرة في سياق النفي فيعم كل مثل على اختلاف أنواعه، فما البعوضة فما فوقها في الكبر إذ الكل في الجواز سواء. أو فما البعوضة فما فوقها في الحقارة إذا المبالغة في تحقيره لا يخرجه عن كونه مثلا، والكل جائز، ولا يلزم في الاستفهام (بما) أن يكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى بل قد يكون للإنكار على من سمع قاعدة قد تقررت، فسال عن بعض جزئياتها وقال: لم جاز هذا مع وضوح الدليل على جواز الكل لاشتراك الجميع في علة واحدة، وليس بعجيب ما وهم فيه فظنه من ضيق مجال هذا البحث، فقد قال الشاعر: وكرم من عانب قولا صحيحا .... وافته من الفهم السقيم

وفي الحاشية المشار إليها: ادعى بعض الفضلاء أن هذا الوجه غلط من المصنف وأن فهمه انعكس فيه فإن تمثيله بقوله: فلان لا يبالي بما يهب، ما دينار ماديناران عكس هذا المثال، فإن من سمح بإعطائه الكثير كان سماحه بإعطاء القليل أولى، فما وجه سؤالك، عن الدينار والدينارين إذ هو داخل تحت قولك: لا يبالي بما وهب من باب الأولى، [وأما هذا فإذا لم يستحي من ضرب الأمثال بالأشياء الكاملة الجليلة لا يكون ضرب المثل بالبعوض جانزا من باب الأولى]. لأنهم إنما استنكروا حقارتها، ولو ضربت بشيء شريف أو جليل لما استنكروه. قال: وجوابه أن المصنف لم يدع أنه من باب الأولى حتى يرد عليه ما قيل، ولكن إذا ذكرت قاعدة كلية يندرج تحتها جزئيات، فسأل سائل على جزئياتها واحدة واحدة توجه الإنكار عليه كما لو قيل: يحرم الربا في كل مطعوم، فقال قائل: فما تقول في السفر جل والتفاح [اللوز؟ فإنك تقول له: قد قلت: إنه يحرم الربا في كل مطعوم، فما سؤالك عن التفاح] وغيره؟ كذلك ههنا، قال إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا، ومثلا نكرة في سياق النفي يعم البعوض والذباب والعنكبوت وغيرها. قوله: (والبعوض فعول)، [في الكشاف: والبعوض]. في أصله صفة على فعول كالقطوع والخموش فغلبت، واشتقاقه من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب. قوله: (غلب على هذا النوع) يعني غلب استعمال هذه الصفة في هذا الحيوان/ المعروف. قوله: (كالخموش) قال الشيخ أكمل الدين: يعني أنه أيضا في

الأصل صفة فغلبت، وهو بفتح الخاء: البعوض في لغة هذيل، سميت به لكثرة خمشه أي خدشه. قوله: (أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا، وهو الصغر والحقارة)، قال الشيخ أكمل الدين، هذا الوجه هو الذي مال إليه المحققون لمطابقته البلاغة ولما سبق له الكلام، وأما الوجه الأخر فلا يظهر إلا إذا خضت بمورد النزول وإنه كان في الذباب والعنكبوت وفي هذا الوجه: الترقية معنوية والصغر في الحجم، وفيه الترقي من الأدنى إلى الأعلى في الحقارة. قوله: (كجناحها، فإنه عليه السلام ضربه مثلا للدنيا). أي في قوله: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة). أخرجه الترمذي من حديث سهل بن سعد. قوله: (روى أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط). فقالت عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((ما من مسلم يشاك شوكة)) الحديث أخرجه، مالك والبخاري ومسلم والترمذي، قال الطيبي عند بعضهم: أراد بقوله: شوكة المعنى، لا العين، وهي المرة

من شاك: ولو أراد العين لقال: بشوكة. قال: وفيه نظرا، يقال: شيك الرجل فهو مشوك إذا دخل في جسمه شوكة. وجزم التفتازاني والشيخ أكمل الدين بأن المراد المرة من المصدر لا واحد الشوك الذي هو العين. والفسطاط: بيت من شعر قوله: (كنخبة النملة)، قال في النهاية: النخبة، بالخاء المعجمة: العضة والقرصة. يقال: نخبت النملة تنخب، إذا عضت. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أصاب المسلم من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة)) قال الطيبي: لم أقف له على رواية. وقال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه بهذا اللفظ. قوله: (أما حرف يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه ليس باسم، على ما يتوهم من قولهم: أما زاد فمنطلق، معناه: مهما يكن من شيء، مع شيوع العبارة عنه بالكلمة دون الحرف ثم هي ليست بحرف شرط، بل فيها معنى الشرط، ونبه بقوله: ولذلك يجاب بالفاء على ما يعلم به تضمنها معنى الشرط. وسره: أنهم لما حاولوا الدلالة على أن الواقع بعده مما يتعلق به (بشيء من الجملة جعلوه في موضع الملزوم أعني الشرط، وما يتعلق به في

موضع) اللازم، أعني الجزاء فدل على لزوم الحكم، وأنه كائن البتة، ولا محالة. وإلى هذا أشار ببيان فائدته. وذكر ابن الحاجب في تحقيق معناها ووجه جواز تقديم ما في حيز الفاء عليها. أنها لتفصيل ما في نفس المتكلم من أقسام متعددة، فقد تذكر الأقسام، وقد يذكر قسم ويترك الباقي. كقوله تعادلى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} والتزموا حذف الفعل بعدها لجريه على طريقة واحدة كما التزموا حذف متعلق الظرف إذا وقع خبراً، مثل زيد في الدار لأن المعنى: مهما يكن من شيء أو يذكر من شيء، والتزموا أن يقع بينها وبين جزائها ما يكون كالعوض من الفعل المحذوف، ثم اختلفوا فيما يتعلق به ذلك الواقع. والصحيح أنه أحد أجزاء الجملة الواقعة بعد الفاء قدم عليها لغرض العوضية. وذلك: لأن وضعها لتفصيل الأنواع وما ذكر بعدها أحد الأنواع المتعددة. وذكره باعتبار ما يتعلق به من الجملة الواقعة بعد الفاء والغرض من التقديم الدلالة على أنه هو النوع المراد تفصيل جنسه، وكان قياسه أن يقع مرفوعا على الابتداء؛ لأن الغرض الحكم عليه بحسب ما بعد الفاء لكنهم خالفوا الابتداء إيذانا من أول الأمر بأن تفصيله باعتبار الصفة التي هو عليها في الجملة الواقعة بعد الفاء من كونه مفعولاً أو ظرفا أو مصدرا أو غير ذلك. ألا ترى أنك (تفرق) بين يوم الجمعة في قولك: يوم الجمعة ضربت فيه، وقولك: ضربت في يوم الجمعة، وإن كان في الموضعين مضروبا فيه إلا أنه ذكر في الأول ليدل على أنه حكم عليه، ولما كان الحكم بوقوع الضرب فيه علم أن الضرب واقع صفة وفي الثاني ذكر ليدل على أنه الذي وقع الضرب فيه من أول الأمر. فلما كان كذلك قصد أن يكون الواقع بعد (أما) من أول

الأمر على حسب ما هو عليه في جملته ولزم أن يكون على معناه وإعرابه الذي كان له، وبطل القول بكونه معمول الفعل المحذوف مطلقا أو بشرط أن لا يكون هناك مانع، وتبين وجه ما قيل أن لها خاصية في تقديم الصحيح لما يمتنع تقديمه. وحاصله التنبيه على أن الواقع بعدها هو المقصود بالتفصيل والتخصيص من بين ما في الجملة الواقعة بعد الفاء. تنبيه: وقع في المغني لابن هشام أما حرف شرط وتفصيل وتوكيد. قال الشيخ بدر الدين، ابن الدماميني، في حاشيته: فهو، معترض، فقد صرح غير واحد من النحاة، أن (أما) ليست بحرف شرط، بل فيها معنى الشرط، قال الشيخ بهاء الدين السبكي، في شرح التلخيص: (أما) من الأدوات التي يحصل بها التعليق وليست شرطا وبذلك صرح شيخنا أبو حيان، ونقل عن بعض أصحابه إنها حرف إخبار تضمن معنى الشرط، ولو كانت أداة شرط لاقتضت فعلا بعدها لكنها أغنت عن الجملة الشرطية وعن أدوات الشرط، وهي من أغرب الحروف لقيامها مقام أداة شرط وجملة شرطية، ولكونها تدل على الشرط، حكم أن معنى أما زيد فذاهب: الإخبار بأنه سيذهب في المستقبل، لأن زيد ذاهب جواب الشرط، ولا يكون جوابه إلا مستقبلا. هذا كلامه. قال الدماميني: وقد يقال: إنه جعلها حرف شرط باعتبار تضمنها لمعنى الشرط لا باعتبار أنها موضوعة للشرط، والإضافة تكون

بأدنى ملابسة. انتهى. وقال أبو حيان في شرح التسهيل: قال بعض أصحابنا أما حرف إخبار متضمن معنى الشرط. فإذا قلت: أما زيد فمنطلق: فالأصل إن أردت معرفة حال زيد فزيد منطلق ثم حذفت أداة الشرط وفعل الشرط، وأنيبت أما مناب ذلك. ولو كانت شرطا لكان ما بعدها متوقفا عليها، وأنت تقول (إما عالما فعالم) فهو، عالم. ذكرته أنت أولم تذكره بخلاف إن قام زيد قام عمرو فقيام عمرو متوقف على قيام زيد، وأجيب بأنه قد يجيئ الشرط على ما ظاهره عدم التوقف عليه. كقوله: (من يك ذابت فهذا بتى) ألا ترى أن بته موجود، كان لغيره بت أو لم يكن. وكقولهم: إما عالم فعالم، فالمعنى: مهما تذكره عالما فذكرك حق، لأنه عالم ولا يكون ذكره حقا حتى تذكره فقد تضمنت معنى الشرط وأنابوا (أما) مناب الشرط وفعله (فجاءت الفاء تلي (أما) فأرادوا أن يصلحوا اللفظ فأولوها شينا آخر حتى لا يجئ الجزاء تاليا أداة الشرط). وفي البسيط، قال ابن السيد: أما حرف إخبار يتضمن معنى الشرط ونقض بنحو، أما زيدا فاضرب. وقد ألغز الشيخ علم الدين السخاوي في أما هذه فقال:

وأية كلمة في حكم شرط .... وجاك جوابها ينيبك عنها وقد جمعوا حروف الشرط عدا ... وما عدت لعمر أبيك منها قوله: (ولذلك يجاب بالفاء) قالي الشيخ أكمل الدين: استدلاله على تضمنه معنى الشرط بدخول الفاء في جوابه فيه نظر لأن دخوله بعد كونه للشرط فلا يكون علة له، قال: والجواب: أن معنى الشرط علة للدخول والدخول دليل عليه فاختلفت جهة التوقف. قوله: (وفي تصدير الجملتين به إحماد). قال الطيبي. ليس من أحمدته أي صادفته محموداً. وإنما هو من أحمدت صنيعه وأحمدت الأرض رضيت سكناها وجاورته فأحمدت جواره. قاله في الأساس في قسم المجاز، وقيل: حكم بكونه محموداً كالإكفار حكم بكونه كافرا. قوله. (والضمير في أنه للمثل أو لأن يضرب). قال أبو حيان: الاظهر الأول. كقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} فميز المشار إليه بالمثل والتقسيم ورد عدد شيء واحد فظهر أنه عائد على المثل. قوله: (وذا بمعنى الذي وما بعده صلته). قال أبو حيان: والعائد محذوف إذ فيه شرط جواز الحذف والتقدير

ما الذي أراده الله. قوله: (والمجموع خبر ما) قال الشيخ سعد الدين: بإطباق النحاة وإن كان المبتدأ نكرة والخبر معرفة. قوله (ليطابق الجواب السؤال) أي: في كونه جملة اسمية على الأول وفعلية على الثاني. قوله (والإرادة نزوع النفس) إلى آخره ذكر الإماء أنه لا حاجة إلى تعريف الإرادة، لأنها من الضروريات فإن الإنسان يدرك بالبديهة التفرقة بين إرادته وعلمه وقدرته وألمه ولذته، ثم حدها بأنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الأخر لا في انوقوع بل في الإيقاع. قال: واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة. قوله: (فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه) إلى أخره. هذا قول النجار، من المعتزلة. فالإرادة عنده من الصفات السلبية لا الثبوتية. قوله: (وقيل: علمه باشتمال الأمر) إلى آخره. هذا رأي الجاحظ والكعبي وأبي الحسن البصري منهم.

((قوله: والحق أن ترجيح أحد مقدوريه على الأخر، وتخصيصه بوجه دون وجه)) إلى آخره. هذا رأي الأشاعرة، فهي صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم. (وقوله: بوجه دون وجه: إحتراز عن القدرة، فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقا. قوله: (ومثلا: نصب على التمييز). قال الشيخ سعد الدين: قد كثر في الكلام التمييز عن الضمير، وقد يكون في اسم الإشارة وتمامها بنفسها من جهة أنه تمتنع إضافتها وذلك إذا كانا مبهمين لا يعرف المقصود بهما، مثل ياله رجلا ويالها من قصة ويالك من ليل، ونعم رجلا وأشباه ذلك. والعامل هو الضمير واسم الإشارة، فقد جوزوا إعمالها كما في سائر الأسماء الجامدة المبهمة التامة بالتنوين ونحوه. وأما إذا كان المرجع والمشار إليه معلوما كما في قولنا: جاءني رجل فلله دره رجلا، ويالك رجلا، في الخطاب المعين، وقال الله عز قائلا أو من قاتل، ولقيت زيدا قاتله الله شاعراً، وانتفع بهذا سلاحا، فالتمييز عن النسبة وهو نفس المنسوب إليه، كما في قولك: كفى بزيد رجلا، ويلم أيام الشباب معيشة وأمثال ذلك. ومعلوم أن هذا في الآية إشارة إلى المثل، فالتمييز على النسبة، وهي: نسبة التعجب والإنكار إلى المشار إليه. وقال أبو حيان: انتصاب مثلا على التمييز أي من مثل. وهو المختار. وجاء على معنى التوكيد لأنه

من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده مؤكدا للاسم الذي أشير إليه. قوله: (أو الحال، كقوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} قال أبو حيان: هو حال من اسم الإشارة أي: ممثلا به، والعامل فيه اسم الإشارة. وقال الشيخ سعد الدين: ذو الحال هو اسم الإشارة وأما العامل: فهو الفعل. كما في قولك: لقيت هذا فارسا إلى زيد، ولا حاجة إلى جعل العامل اسم الإشارة وذي الحال الضمير المجرور الذي في أشير إليه مثلا، وعلى هذا فالتمثيل بقوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} في مجرد أن الحال اسم جامد، وإلا ففي الآية العامل في الحال اسم الإشارة. مثل: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} انتهى. وجوز أبو البقاء، أن يكون صاحب الحال اسم الله أي: متمثلا. ثم قال الشيخ سعد الدين: وإيقاع مثلا تمييزاً أو حالا من هذا. يشعر بأنه إشارة إلى المثل لا إلى ضرب المثل على ما هو أحد محتملي الضمير في أنه الحق. قوله: (أو بيان للجملتين) إلى آخره، قال الطيبي: كلتا الجملتين مشتملة على الكثرة وعلى معنى الضلالة والهدى، وبين قوله: (يعلمون أنه الحق من ربهم، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) فبين بقوله: (

يضل) إلى آخره ذلك وكشف المعنى. قوله: (قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا). هو للمتنبي من قصيدة يمدح بها على بن يسار وقبله: سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مزد ثقال/ إذا لالقوا خفاف إذا دعوا قوله: إن الكرام كثير في البلاد وإن .... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا قوله: قال رؤبة: فواسقا عن قصدها جوائرا أوله: يذهبن في نجد وغورا غابرا. يصف نوقا يمشين في المفاوز ويذهبن عن استقامة الطريق غورا عطف على محل الجار والمجرور. فواسقا: خوارجا. والقصد الطريق المستقيم. وجوائرا: من جار عن القصد، عدل عنه. قال ابن الأعرابي: لم يسمع قط في كلام الجاهلية، ولا في أشعارهم فاسق.

قوله: (التغابي)

وهذا عجيب وأنه كلام عربي. قوله: (التغابي) بالغين المعجمة والموحدة، من تغابي: أي تغافل. قوله: (واستعماله في إبطال العهد من حيث أن العهد يستعار له الحبل). قال الطيبي: أي لما سمعوا العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، كما في قولهم: إن بيننا وبين القوم حبالا، أي عهدا، جسروا أن يستعملوا النقض في إبطال العهد، وذلك: أنه شبه العهد بالحبل لما فيه من ثبات الوصلة تشبيها بليغا حتى إنه حبل من الحبال، ثم أخذ الوهم في تصويره بصورة الحبل وتخييله بالحبل واختراع ما يلازم الحبل من النقض (ثم إطلاق النقض) المحقق على ذلك المخترع على سبيل الاستعارة التخييلية ثم إضافته إلى العهد المتخيل لتكون قرينة مانعة، من إرادة المعنى الحقيقي ولو لم يذكر النقض لم يعلم أن العهد مكان الاستعارة. فما، في قوله: (ما هو من روادفه) واقعة على النقض، والضمير في روادفه للحبل. وقال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة بالكناية، حيث سكت عن الحبل المستعار، ونبه عليه بذكر النقض، حتى كأنه قيل: ينقضون حبل الله أي عهده. والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال

العهد بإبطال تأليف الجسم وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فهذا الاعتبار صار قرينة على استعارة الحبل للعهد قال: وبهذا ظهر أن الاستعارة بالكناية قد توجد بدون التخييلية، وإن قرينتها قد تكون استعارة تحقيقية. قوله: (والعهد الموثق)، بفتح الميم مصدر، بمعنى الوثوق أو اسم موضع، أي موضع الوثوق. قاله القطب. قوله: (وهذا العهد إما العهد المأخوذ بالعقل) إلى آخره. الذي اختاره ابن جرير، القول الثاني وأنها نزلت (في منافقي) أهل الكتاب. قوله: (الضمير للعهد) منهم من رجعه إلى الله تعالى. فعلى الأول: هو من إضافة المصدر إلى المفعول. وعلى الثاني: من إضافته إلى الفاعل. قاله أبو البقاء. قوله: (ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر) هذا ذكره الزمخشري وتبعه أبو البقاء. ورد بأن النحويين لم يذكروا مفعالا في صيغ المصادر، حتى إن أبا العباس ابن الحاج وابن مالك لم يذكرا ذلك مع أنهما من أكثر الناس استيعابا للأبنية المصادر. وأصل مفعال أن يكون وصفا كمطعام ومسقام. قال ابن عقيل: ويجوز حمل كلام الزمخشري

على إرادة أنه اسم واقع موقع المصدر كعطاء، وبه صرح ابن عطية. قوله: (يحتمل كل قطيعة) إلى آخره. قال ابن جرير - بعد حكايته- هذا المذهب غير بعيد من الصواب إلا أن الله تعالى قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه فوصفهم بقطع الأرحام، فهذه: نظير تلك، غير أنها وإن كانت كذلك، فهي دالة على ذم الله تعالى كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما أو غيره. قوله: (وبه سمى الأمر الذي هو أحد الأمور). قال الطيبي: أي القصد والشأن، لأن الأمر المصطلح عليه جميعه أوامره. قوله: (وأن يوصل) يحتمل النصب والخفض)، زاد أبو البقاء، والرفع على تقدير المبتدأ أي: هو. قوله: (واشتراء النقض بالوفا)، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أنهم جعلوا بإطلاق الخاسرين عليهم بمنزلة التاجرين على طريق الاستعارة المكنية حيث استبدلوا شيئا يشيء. قوله: (بإنكار الحال) إلى آخره، يعني: أن كيف سؤال عن الحال فيكون إنكارا لحال الكفر، وهو ليس بمطلوب. والمطلوب: إنكار الكفر. وحاصل الجواب أن إنكار حال الكفر إنكار الكفر بطريق برهاني. لأن كل شيء يوجد لا ينفك من حال. فالحال من لوازم الشيء، وإذا نفى اللازم انتفى الملزوم قطعا.

فهو كقولك: ليس بكثير الرماد كناية عن ليس بمضياف قال الطيبي: عن الزمخشري أنه قال في الفرق بين الهمزة وكيف أن كيف سؤال تفويض لإطلاقه فكأن الله فوض الأمر إليهم في أن يجيبوا بأي شيء أجابوا، ولا كذلك الهمزة، فإنه سؤال حصر وتوقيت. فإنك تقول: أجاءك راكبا أم ماشيا فتوقت وتحصر: ومعنى الإطلاق، قال صاحب المفتاح: كيف: سؤال عن الحال. وهو ينتظم الأحوال كلها، والكفار حين صدر الكفر عنهم لابد من أن يكونوا على أحد الحالتين، إما عالمين بالله تعالى وإما جاهلين به. فإذا قيل: كيف تكفرون بالله، أفاد، أفي حال العلم تكفرون بالله تعالى أم في حال الجهل؟ هذا معنى التفويض في الآية. قوله: (أو مع القبيلين) عطف على قوله: مع الذين كفروا. قوله: (النعم العامة) هي خلق ما في الأرض لهم، والخاصة بهم: إحياءهم بعد الموت. قوله: (وما يعم كل ما في الأرض) لا الأرض إلى آخره. أقول: بل تعم الأرض على وجه آخر عربي بليغ، وهو الاستغناء بالمضاف عن المضاف إليه مع إرادته، كقولهم: راكب الناقة طليحان، أي الناقة وراكبها، فثنى الخبر على اعتبار المضاف والمضاف إليه معا، ذكره في التسهيل وغيره، وكذلك الآية، فقوله: ما في الأرض في تقدير الأرض وما فيها.

قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء}

قوله: (وجميعا: حال عن الموصول الثاني): في الحاشية المشار إليها: هذا جواب على تقدير سؤال، هل أريد بالتوكيد توكيد الضمير الذي في ((لكم)) وهو معمول الموصول الأول أي خلق لكم جميعا ما في الأرض؟. أو أريد توكيد الموصول الثاني؟ وهو: ما. فاختار أن يكون توكيداً للموصول الثاني لقربه، ولأن المنة بتعد يد النعم أظهر من المنة بتعديد المنعم عليهم، لأن تعداد النعم يتصل إلى كل واحد واحد. ولأن سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم، ولهذا قال بعد هذا: ثم استوى إلى السماء فسواهن. وقال أبو حيان: انتصب جميعا على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة، لأن لفظ ما في الأرض: عام. ومعنى جميعا: العموم فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل، كأنه قيل: ما في الأرض كله. قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (قصد إليها) إلى آخره. قال الطيبي: في الأساس: ومن المجاز: استويت إليك قصدتك قصداً لا ألوى على شيء، ولما لم يكن في الاعتدال والاستقامة التواء سمي به القصد المستوى مجازاً بقرينة التعدية بإلى، ثم شبه بهذا القصد الذي يختص بالأجسام إرادته الخاصة تعالى عن صفات المخلوقين، ثم استعير لها ما كان مستعملا في المشبه به استعارة مصرحة تبعية. وفى الحاشية المشار إليها: الاستواء حقيقة الاعتدال والاستقامة وتمام الخلق والقوى. ومنه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} فأذا أطلق

في حق الباري تعالى: استحال إرادة الحقيقة فتعين حمله على المجاز. وله طريقان، أحدهما: استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء. قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق .... من غير قهر ودم مهراق وعليه يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} حيث وقع. والثانية: القصد المستوى إلى الشيء من غير تعريج على غيره مأخوذ من: استوى السهم، وعلامة هذا المجاز: أن يعدى بإلى والأول يعدى بعلى، وعلى الثاني: يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} لاستحالة إرادة الحقيقة، والمجاز الأول. قوله: (والمراد بالسماء: هذه الأجرام العلوية، أو جهات العلو). قال الطيبي: إنما عدل إلى هذا التأويل لفقدان المطابقة بين ذكر السماء والضمير في فسواهن إفرادا وجمعا. فاصل الكلام حينئذ: ثم استوى إلى فوق فسوى سبع سموات: ألا ترى حين جعل السماء في معنى الجنس أو الجمع كيف جعل الضمير

للسماء لحصول المطابقة. فإذن المعنى على التقديرين الأخيرين ثم أراد تسوية السموات فسواهن سبعا. كقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، لكن الأول أقضى لحق البلاغة ومقام إرادة تفضيل خلق السموات على الأرض بدليل إيثار (ثم) الدالة على التراخي في الرتبة أدعى له فإفراد السماء لإرادة جهة فوق مؤذن بالتفضيل إذ التعبير عنها بها تعظيم لها مع أن في تصوير الفوقية في هذا الجانب تصوير ضدها فيما يقابلها ولرتبة هذه الفائدة أبهم ضمير السموات ليشوق إلى ما يبينه ثم جيء بها مفسرا له فحصل من ذلك مزيد التفخيم لشأنها، وإن شئت فجرب ذوقك في قولك: ربه رجلا وقولك: رب رجل لتعرف الفرق، وليس في إرادة الجنسية تلك الفوائد ولا الجمعية مع أن تلك لغة غير فصيحة. وأما الفرق بين النصبين: فإن الضمير في فسواهن إذا رجع إلى السماء على المعنى، كان سبع سموات حالا، أي فسواهن كائنة سبع سموات أو سبع سموات متعددة على أنها حال موطنة نحو: {أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وإذا كان الضمير مبهما، كان سبع سموات نصبا على التفسير والتمييز، نحو ربه

قوله: (وثم) لعله لتفاوت هذين الخلقين)

رجلا نص على هذين النصبين في سورة حم السجدة، وقال الشيخ سعد الدين: إثبات الجهات العلوية والسفلية: والأيام الستة أو الأربعة قبل خلق السماء والأرض مبنى عدى التقدير والتمثيل، ولا أرى باعثا على تفسير السماء بالجهات العلوية بعدما فسر الاستواء بالقصد إليها بمشيئته وإرادته، وهذا لا يقتضي سابقة الوجود. فلم يجعل ضمير فسواهن عائداً إليها باعتبار كونها عبارة عن الجهات، بل جعله مبهما مفسرا بسبع سموات مثل ربه رجلا ونعم رجلا، وفيه من التفخيم والتشويق والإبهام والتفسير والتمكن في النفس ونحو ذلك مالا يخفي، دون أن يجعل الضمير للسماء لكونها في معنى الجنس أو لكونها جمع سماة، فإن الجمعية لم تثبت والجنسية لم تكن كافية في عود ضمير الجمع المؤنث إليه مع فوات ما في الإبهاء ثم التفسير. انتهى. قوله: (وثم) لعله لتفاوت هذين الخلقين) قال أبو حيان: في القدر والعظم. قوله: (لا للتراخي في الوقت). قال أبو حيان: لأنه لا زمان إذ ذاك. قال: وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم لما بين خلق الأرض

والاستواء، من تراخ. قوله: (فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أخف من قول الكشاف: يناقض. ففي الحاشية المشار إليها أنه مأخوذ عليه لما فيه من سوء الأدب في إيراد السؤال. واللائق أن يقول: ما وجه الجمع بين ذا وذاك؟ قوله: (فإنه يدل على تأخير دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء). قال الشيخ سعد الدين: الجواب بأن يقدم خلق جرم الأرض على خلق السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه ليس على ما ينبغي، لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام، لا عن مجرد خلق جرم الأرض. وسيذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر إيجاد السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعا حتى قيل: إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين، وكثير ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة إلا أن يعول على رواية كون إيجاد السماء مقدما على إيجاد/ الأرض فضلا عن دحوها، على ما روى عن مقاتل، والأوجه، أن يحام حول تأويل قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ

بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}. انتهى. وقال الإمام: ثم هنا من جهة تعديد النعم، كما تقول لصاحبك: أليس قد منحتك هذا ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فثم على هذا مجاز، لمجرد التعاقب. قلت: أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم، والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، عن سعيد بن جبير، قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: أرأيت أشياء تختلف على من القرآن؟ قال: هات ما اختلف عليك من ذلك، قال أسمع الله تعالى يقول: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} حتى بلغ: {طَائِعِينَ} فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء، ثم قال في الآية الأخرى: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فبدأ بخلق السماء في هذه الآية قبل خلق الأرض، فقال: ابن عباس: أما قوله: خلق الأرض في يومين، فإن الأرض خلقت قبل السماء، فكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض، فقال ابن عباس

: أما قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، يقول: جعل فيها، جبلا وجعل فيها نهرا، وجعل فيها، وجعل فيها شجرا، وجعل فيها بحوراً. وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، أن اليهود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: ((خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الماء والشجر والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}. وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة)) الحديث. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال، خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ

فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}. قوله: (وهن، ضمير السماء إن فسرت بالأجرام، لأنه: جمع. قال الزجاج: وأحدها سماة. وقيل: سماوة. وقوله: (أو في معنى الجمع) قال أبو حيان: أي اسم جنس يصدق إطلاقه على المفرد والجمع، ويكون مرادا به هنا الجمع. قوله: (وإلا فمبهم يفسره ما بعده، كقوله: ربه رجلا). قال أبو حيان: الضمير الذي يفسره ما بعده عندهم منحصر في ضمير الشأن، ومرفوع باب نعم، والمرفوع بأول المتنازعين، والمجرور برب والمجعول خبره مفسرا له كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} والمبدل منه مفسره وما ذكره الزمخشري ليس واحدا منها، إلا أن يجعل سبع سموات بدلاً، وهو الذي يقتضيه تشبيهه بربه رجلا، فإنه ضمير مبهم: ليس عائدا على شيء قبله لكنه يضعف أيضا لعدم ارتباطه بما قبله ارتباطا كليا لاقتضائه أنه أخبر بأخبارين، أحدهما أنه استوى إلى السماء، والآخر أنه سوى سبع سموات. والظاهر أن الذي استوى إليه هو بعينه المسوى. وقال السفاقسي: الظاهر أنه قصد البدلية، لأنه فسر سوى بمعنى عدل وقوم، فيتعدى إلى واحد، فيتعين أن يكون سبع سموات بدلاً منه، ولولا ذلك لجاز أن يكون عنده بمعنى صيره ويكون المفعول الثاني مفسرا له لأنه خبر المبتدأ في الأصل فرجع إلى المبتدأ الذي يفسره الخبر

قوله: (قلت: فيما ذكروه شكوك)

وقوله: (هو الذي: يقتضيه تشبيهه بربه رجلا وأنه ضمير مبهم، هذا لا يقتضي إلا التفسير لا البدلية، وقوله، لكنه يضعف لعدم ارتباطه، بل هو مرتبط، لأنه فسر السماء بالعلو والاستواء بالقصد، قال: كأنه قيل: استوى إلى فوق، ثم عطف عليه، فسواهن على معنى السببية: أي لما قصد إلى العلو سوى سبع سموات، وليس الذي استوى إليه بعينه هو المسوى. انتهى. قوله: سبع سموات؛ بدل أو تفسير، قال أبو حيان: أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عاند على ما قبله. وهو صحيح. نحو أخوك مررت به زيد. قال: وأجازوا أن يكون مفعولا ثانيا لسوى ويكون بمعنى صير. وجعله بمعنى صير ليس بمعروف في اللغة. قوله: (أليس إن أصحاب الهيئة أثبتوا تسعة أفلاك)؟ قال الإمام: هي كرة القمر، ثم كرة عطارد ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشترى، ثم كرة زحل والفلك الثامن الذي حصلت الكواكب فيه. والتاسع الفلك الأعظم، وهو يتحرك كل يوم وليلة على التقريب دورة واحدة. قوله: (قلت: فيما ذكروه شكوك). أقول: هذه الأمور لا يجوز التعويل عليها لأنها أخبار صدرت عن فلاسفة اليونان في أحوال الملكوت الأعلى بغير علم، ولم يرد عن أحد من الأنبياء خبر يصدق شيئا منها.

وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}. قوله: (وبنيتا لشبههما بالموصولات). قلت: الأولى: أن يقال: لشبههما بالحروف في الافتقار إلى جملة كالموصولات، لأن مدار علة البناء على شبه الحروف، ويريد أن شبههما بالحروف في الوضع. قوله: (واستعملتا للتعليل والمجازاة)، قلت: هو لف ونشر مجمل، فإن إذ هي التي تستعمل للتعليل وإذا هي التي تستعمل للمجازاة، ولا يعرف ورود إذ للمجازاة، ولا إذا التعليل. وقد راسلني الخطيب عند كتابته على هذا المحل، فأجبته بذلك. وأنكر أبو حيان ورود إذ للتعليل ألبتة، وقال ابن هشام في المغني: الجمهور لا يثبتونه. وقال في إذا: إنها لا تعمل الجزم إلا في الضرورة. قوله: (ومحلهما النصب أبدأ بالظرفية): قال الطيبي: فيه نظر، لأن إذ قد تقع اسما نحو: إذ يقوم زيد. وقال ابن هشام في المغني: إن لها أربعة استعمالات، أحدها أن تكون ظرفا. وهو الغالب والثاني أن يكون مفعولا به، نحو: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} والغالب على المذكورة في أوائل القصص في التنزيل أن يكون مغعولا به

بتقدير اذكر نحو: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ}، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ}، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} وبعض المعربين يقول في ذلك: إنه ظرف لأذكر محذوفا وهذا وهم فاحش، لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في ذلك الوقت، مع الأمر للإستقبال وذلك الوقت قد مضى قبل تعلق الخطاب بالمكلفين منا، وإنما المراد ذكر الوقت نفسه، لا الذكر فيه. والثالث: أن تكون بدلا من المفعول، نحو: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} فإذ: بدل اشتمال من مريم. والرابع: أن يكون مضافا إليها اسم زمان صالح للحذف، نحو: (يومئذ، وحينئذ) أو غير صالح له، نحو (إذ هديتنا). وزعم الجمهور: أن إذ لاتقع إلا ظرفا أو مضافا إليها، وأنها في نحو: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} ظرف لمفعول محذوف نحو. (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم قليلا) وقال في إذا: الجمهور: على أن إذا لا تخرج عن الظرفية، وزعم أبو الحسن: أنها تجر بحتي، وزعم أبو الفتح: أنها تقع مبتدأ وخبرا. وزعم ابن مالك: أنها تقع

مفعولاً، وزعم أخرون أنها تقع في موقع جر بدلاً. قوله: (وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ} ونحوه: فعلى تأويل، اذكر الحادث إذ كان كذا، فحذف الحادث واقيم الظرف مقامه). في الحاشية المشار إليها: استشكل بعض المتأخرين ورود الأمر بذكر الأوقات، لا بذكر نفس ما جرى في الوقت. وكأنه يقول أي فائدة في تذكار ذلك الزمان؟ وأجيب عنه: بأن الشيء بالشيء يذكر، وقد يعظم الزمان بعظم ما يقع فيه ويشرف بشرفه. أما الأول: فكقوله تعالى: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقال تعالى: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} والعابس أهله. وأما الثاني: فقال العلماء: إنما شرف شهر رمضان وليلة القدر والأيام المعلومات: بشرف الأعمال الواقعة فيها. فلذلك أمر بذكر الوقت، لأنه: عظم وشرف بما وقع فيه. قال: واعلم أن مسائل إذ متى أمكن أن يعمل فيها لفظ موجود وتبقى على الظرفية كان خيراً من أن يضمر لها فعلا ويجعلها مفعولا،

لأمرين: أحدهما: أن الإضمار خلاف الأصل. والثاني: أن جعلها من الظروف المتصرفة على خلاف قواعد النحاة. وقوله: (وعامله في الآية: قالوا: أو اذكر على التأويل المذكور) قال الطيبي: الثاني أوجه، لأن تقدير أذكر: يقتضي تذكيرا متجددا، فيكون كقصة مستقلة، ولا كذلك العطف، فيكون قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} تذكيرا لدلائل الأفاق، وهذه لدلائل الأنفس. وقال الشيخ سعد الدين: الأحسن أن يجعل هذا الأمر على تقدير، واذكر عطفا على محذوف قبله، أي أشكر النعمة في خلق الأرض والسماء، واذكروا ما، على تقدير انتصابه بقالوا: فهو ظرف، والجملة بما فيها عطف على ما قبلها، عطف القصة على القصة من غير التفات إلى ما فيها من الجمل إنشاء وأخبارا، ولهذا جعل صاحب الكشاف الوجه الأول أرجح، يعنى: كونه بإضمار اذكر. وقال أبو حيان، ذكروا في إعراب إذ هنا: ثمانية أقوال، ينزه عنها كتاب الله، والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: وقت قول الله للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} كما تقول: إذ جنتني أكرمك أي وقت مجيئك أكرمك، فهذا: وجه حسن سهل واضح قوله: (أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ

قوله: (والتاء لتأنيث الجمع)

خلقكم إذ قال) قال أبو حيان: هذا القول لا تحرير فيه. لأن ابتداء خلقنا: لم يكن وقت قول الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، لأن الفعل العامل في الظرف: لابد أن يقع، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه فلا، لأنه: لا يكون له ظرفا. قوله: (وعن معمر، أنه مزيدا). قلت. هو أبو عبيدة معمر المثنى الإمام المشهور صاحب مجاز القرآن وغيره من المصنفات، توفى سنه تسع ومائتين، وقيل: بعد ذلك. قوله: (والملائكة جمع ملأك على الأصل) قال الطيبي: أي أصله: ملأك بالهمزة ثم ترك الهمزة لكثرة الاستعمال فلما جمعوه ردوه إلى الأصل. قوله: (والتاء لتأنيث الجمع) قال الشيخ سعد الدين: معناه لتأكيد تأنيث الجماعة، وعبارة المفصل: لتأكيد معنى الجمع. قوله: (وهو مقلوب مألك) في الحاشية المشار إليها: لفظ الملك مشتق من الألوكة، وهي الرسالة. ويقال لها: مألكة، فالأصل فيه مألك ثم قلب فصار ملأكا على وزن مفعل، ثم خفف بعد قلبه ونقلت حركة الهزة إلى اللام، فصار ملكا على وزن فعل، فكان قياس هذا أن يجمع على أفعال كجملة وأجمال وفرس وأفراس، لكنهم راعوا الأصل الثاني وهو ملأك، أعني بعد القلب وقبل أن يخفف فجمع على قياس نظائره.

فقوله: جمع على الأصل: لا يريد به الأصل الأول قبل القلب، وإلا كان قياسه: مألك. كمأدبة ومأدب، لكن يريد به ما تأصل بعد قلبه، وقبل تخفيفه. قوله: (من الألوكة. تصريح بأن ميمه زائدة، وهو رأي الجمهور، وذهبت طائفة إلى أنها أصلية، ثم اختلفوا هل هو من الملك بالفتح وهو القوة لقوتهم، أو من الملك بالكسر فهو فعل بمعنى مفعول، لأنهم مملوكون لله، قولان. وأحسن من الجميع قول النضر بن شميل: إنه غير مأخوذ من شيء. قال: إن العرب لا تشتق فعله وتصرفه وهو مما فات علمه. قوله: (وجاعل من جعل الذي له مفعولان) زاد في الكشاف: ومعناه، مصير. قوله: (ويجوز أن يكون بمعنى خالق) قال أبو حيان: فيتعدى إلى واحد، قال: وهذا القول عندي أجود لأنهم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، فظاهر هذا أنه مقابل لقوله: {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فلو كان الجعل الأول على معنى التصيير/ لذكره ثانيا فكان (أتجعل فيها خليفة من يفسد فيها) وإذا لم يأت كذلك كان معنى الخلق أرجح ولا احتياج إلى تقرير خليفة لدلالة ما قبله عليه. قوله: (والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام). الراغب: إنما استخلف الله تعالى آدم: لقصور المستخلف عليه أن يقبل التأثير) من المستخلف، وذلك ظاهر كأن السلطان جعل الوزير بينه وبين رعيته إذ هم أقرب إلى قبولهم منه، وكذا الواعظ جعل بين

العامة والعلماء الراسخين فإن العامة أقبل منه من العالم الراسخ، وليس ذلك لعجزه، بل لعجز العامة عن القبول منه. قوله: (تعجب من أن يستخلف) قال الطيبي: أي ولدت الهمزة معنى التعجب لأنه لا يجوز أن يحمل على الإنكار لأنه لا يتصور من الملائكة. قوله: (من سبح في الأرض والماء، الراغب: التسبيح أصله: من السبح وهو سرعة الذهاب في الماء، واستعير لجري النجوم في الفلك ولجري الفرس. قوله: (وبحمدك في موضع الحال)، قال أبو حيان: وهي حال متداخلة لأنها حال في حال. وقال ابن الشجري: إن شئت علقت الباء بالتسبيح، أي: نسبح بالثناء عليك، وإن شئت قدرت نسبح متلبسين بحمدك. قوله: (أي متلبسين بحمدك على ما أهلتنا لمعرفتك ووفقتنا لتسبيحك. قال الطيبي: توجيه لتقييد التسبيح بالحمد أي تسبيحنا مقيد بشكرك ومتلبس به. قوله: (ونقدس لك، نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك) يشير إلى أن اللام للعلة، وهو أحد الأقوال فيها.

قال أبو حيان: والأحسن أن تكون معدية للفعل كهي في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}، {سَبَّحَ لِلَّهِ}، وسجدت لله. قوله: (إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه وهو الإلهام)، زاد غيره: أو بإرسال ملك إليه، أو بخطاب الله تعادل له، أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات. قال الطيبي: وفي إيجاز البيان: وقع التعليم بالوحي في أصول الأسماء والمصادر ومباني الأفعال والحروف عند حصول أول اللغة في الإصطلاح ثم بزيادة الهداية في التصريف والاشتقاق. فأفادت هذه الآية أن علم اللغة فوق التحلى بالعبادة فكيف علم الشريعة التي هي الحكمة. قوله: (وآدم: اسم أعجمي، كآزر وشالخ، واشتقاقه من الأدمة أو الأدمة بالفتح) يعني أو من أديم الأرض، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: ((أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم))، فلذلك أتى بنوه أخيافا أو من الأدم، والأدمة: بمعنى الألفة، تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس، ويعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس. قوله: (واشتقاقه)، مبتدأ وخبره: تعسف، أي إن ذلك إنما

يتأتى في الأسماء العربية. والعجمي: لا اشتقاق له. قال الشيخ أكمل الدين: واعترض عليه بأن توافق اللغتين غير منكر ولا دليل على أن الاشتقاق من خواص كلام العرب وأيضا آدم عليه الصلاة والسلام كان يتكلم بالعربية فلا يلزم عدم الاشتقاق في المشبه به عدمه في آدم وأيد باشتقاق حواء من الحوة، وأجيب بأن الأصل عدم التوافق وبأن الاشتقاق من كلام العرب فإنهم أطبقوا على أن التفرقة بين اللفظ العربي والعجمي بصحة الاشتقاق، وإن آدم كان يتكلم بكل لسان على ما صح في النقل، ولكن كان غالبه بالسرياني، ويدل عليه أنها في أولاده، ثم إن تكلمه بالعربي لا مدخل له في عربية اسمه واشتقاقه والكلام فيه. ثم إن الاشتقاق في الأعلام القصدية، أي التي لا تكون علما بالغلبة، كأحمد وتغلب ويشكر مثلا، ليس له معنى إلا النقل عن مشتق، وذلك: لم يعرف في المشبه به، يعنى إدريس وإبليس، وأما في آدم فمن الأدمة، لا يناسبه ما ورد في براعة جماله وأن يوسف عليه الصلاة والسلام كان جماله على الثلث من جماله، وكذلك من أديم الأرض على أن أدم من أديم الأرض غير مستعمل قبل جعله علما حتى يقال: إنه منقول. ثم أن المصنف منع الاشتقاق على قانون كلام العرب بأنها أعجمية، أما اشتقاقها في العجمية إن صح فلا مانع منه. صرح به في طالوت. انتهى. وأقول: قد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. أنه قال: (إنما سمي لأنه خلق من أديم الأرض)، أخرجه

الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، وورد مثله عن على ابن أبي طالب وابن مسعود - رضي الله عنهما- أخرجه ابن جرير. وذلك يقوى كونه عربيا، وبه صرح الجواليقي (وغيره، قال الجواليقي) في المعرب: أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، كلها أعجمية ألا أربعة أسماء، وهي: آدم وصالح وشعيب ومحمد، وأديم الأرض. ظاهر وجهها والأدمة: لون يشبه لون التراب، قاله: الليث، ويقاربه قول الحافي في لون يقارب السواد. وقول الجوهري: السمرة والحزن ما غلظ من الأرض وصلب. والأخياف بخاء معجمة ومثناة تحتية وفاء: المختلفون. والحديث الذي أورده المصنف أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن مردوده والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الاخضر فجاء بنو آدم على قدر الأرض منها، الأحمر والأبيض، والأسود وبين ذلك، والسهل

قوله: والهمة:

والحزن والخبيث والطيب)) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: (إنما سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله، أي أيس منها) وعلى هذا هو عربي، وقد اختاره ابن جرير، ووجه عدم صرفه بكونه لا نظير له في الأسماء، وفيه نظر من وجهين، أحدهما: أن ذلك ليس معدودا من موانع الصرف. والثاني: أن له نظائر. منها: أغريض للطلع وأحريض للعصفر، وسيف إصليت، أي صقيل. قوله: والهمة: معرفة ذوات الأسباب وخواصها وأسمائها. في الحاشية المشار إليها: اختلف الناس في الذي علم آدم على ثلاثة أوجه. أحدهما: أنه علم الألفاظ الموضوعة بإزاء الأعيان والمعاني عملا بظاهر قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} الثاني: أنه علم منافعها، فإن المزية في العلم إنما تحصل بمعرفة مقاصد المخلوقات ومنافعها، لا بمعرفة أن أسماءها كذا وكذا، وهذا: وأن قرب من المعنى، فهو بعيد من اللفظ. والثالث: وهو الذي سلكه الزمخشري أنه علم الأمرين معا جمعا بين مقتضى اللفظ والمعنى. فإذا قلنا بالأول ففيه وجهان، أحدهما: أنه علم الأسماء الموضوعة بكل لغة وعلمها أولاده، فلما افترقوا في البلاد وكثروا واقتصر كل قوم

على لغة. وهذا يقوى قول من قال: إن اللغات توقيفية. والثان: أنه علم لغة واحدة لأن الحاجة لم تدع إلا إليها. وأما بقية اللغات فبالتواضع. انتهى. قلت: القول الأول هو الوارد عن ابن عباس. قوله: (إذ التقدير أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه) قال أبو حيان: يحتمل هذا ويحتمل أن يكون التقدير: مسميات الأسماء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. (قال: (ويترجح الأول لتعلق الإنباء به، في قوله: (أنبنوني بأسماء هؤلاء) ولم يقل: (أنبئوني بهؤلاء)، ويترجح الثاني بقوله: (ثم عرضهم)، لأن الأسماء لا تجمع كذلك قال الشيخ سعد الدين: إنما احتيج إلى اعتبار هذا الحذف ليتحقق مرحع ضمير (عرضهم) وينتظم أنبئوني بأسماء هؤلاء، ولم يجعل المحذوف مضافا، إلى مسميات الأسماء لينتظم تعليف الإنباء بالأسماء فيما ذكر بعد التعليم وفي الحاشية المشار إليا: إنما احتيج إلى إضمار المسميات لقوله تعالى: ثم عرضهم وإنما تعرض الأعيان، لا الأسماء ولأن قوله: ثم عرضهم، جمع من يعقل، والأسماء لا تعقل ولأن قوله: بأسماء هؤلاء، وأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم: يدل على أن المراد المسميات. قوله: (فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه: وعوض عنه اللام، لقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} قال أبو حيان: ما ذكره من التعويض ليس مذهب البصريين، بل هو مذهب بعض الكوفيين، ولو كانت أل عوضا عن الضمير لما جيء بالضمير معها في

قول النابغة: رجيب قطاب الجيب منها وقال السفاقسي: قد نقله ابن مالك في شرح التسهيل عن الكوفيين وبعض البصريين، واختاره. وإن كان بعض المتأخرين قد عد هذه المسألة من مسائل الإختلاف بين البصريين والكوفيين، فقد أنكر ذلك ابن خروف وقال: لا ينبغي أن يجعل خلافا، لأن سيبويه قد جعل الألف واللام عوضا عن الضمير في قوله: في باب البدل: ضرب زيد الظهر والبطن، وهو يريد ظهره وبطنه. قاله السفاقسي: وقول أبى حيان، لما جيء بالضمير معها، لا يلزم، لأنه قد يقال: إذا جيء بالضمير لم يقصد العوضية. وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر كلام الكشاف: إن اللام عوض عن المضاف إليه، كما هو مذهب الكوفيين وقد نفى ذلك في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} ولم يقل به، في {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، فوجب أن يحمل على ما ذكرنا في {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وإن كان الظاهر على خلافه، أو يقال: ليس كل ما

يذكر من المحتملات مختاراً عنده. والذي ذكره هناك: أنه يجوز أن يكون تعويضا لاميا قائما مقام التعريف الإضافي، لا أن تكون عوضا عن المضاف إليه، كما يراه الكوفيون، لأنه قد ذكر في قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} إن المعنى: هي مأواه وتركت الإضافة للعلم بها، وليست اللام بدلا من الإضافة وإنما معناها الدلالة على أنه أريد ما هي معين، وكذا في: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} إنه لم يصف الرأس إكتفاء بعلم المخاطب، يعني من جهة جعله خبراً عن إني: وعطفه على وهن العظم مني، وظهر أن المعنى على الإضافة من غير أن يكون اللام بدلا عن المضاف إليه. انتهى. قوله: (لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات ولا يكون المعروض نفس الأسماء) قال القطب: فيه نظر. لأنه كما يجوز أن يعرض المسمى ويستكشف اسمه كذلك يجوز أن يعرض الاسم ويستكشف عن مسماه. قلت: لكن الآثار الواردة تدفعه، فإنها مصرحة بأن المعروض المسميات، وطلب ذكر أسمائها. واعلم أن لي هنا سؤالاً، وذلك أن المسميات أعيان ومعان، وعرض الأعيان ظاهر، فكيف عرضت المعاني، كالألم واللذة والفرح والحزن والعلم والجهل والجوع والعطش والمصادر بأسرها؟ ولا محيص عن ذلك إلا بما قررته غير مرة أن المعاني إنما هي غير

مرئية في هذا العالم، وأما في عالم الملكوت فهي متشكلة بأشكال يختص بها بحيث ترى، وتنطق. وهذا نحو من عالم المثال الذي أثبته طائفة ولا يغتر بقول من أنكره، فنحن قد قامت الأدلة عندنا على إثباته، ويدل عليه الأحاديث الواردة في تشكل الإيمان والصلاة والقراءة والعلم والأيام والليالي والرحم وذكر كل ما ذكر ومحاورته. وقد ألفت في ذلك رسالة سميتها: المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة، وقد قال الشيخ عبد الغفار القوصي في كتاب التوحيد والمعاني. تتشكل ولا يمتنع لك على الله تعالى. قوله: (وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء). في الحاشية المشار إليها: حقه أن يقول: وإنما ذكر وجمع جمع من يعمل لأن جوابه يشمل الأمرين. قوله: (وقرئ: وعرضهن وعرضها على معنى مسمياتهن أو مسمياتها)، قال الشيخ سعد الدين: إنما اعتبر حذف المضاف: لأن العرض لا يصح في الأسماء، وكأنه أراد العرض المعقب بقوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}، وإلا فعليه منع ظاهر لجواز أن يعرض الأسماء ويسأل عن معانيها، وإنما لم يجعل الضمير للمسميات المحذوف من قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} لأن اعتبار ذلك الحذف، إنما كان لأجل عرضهم. وأما على تقدير عرضهن أو عرضها فيصح عود

الضمير إلى الأسماء فلا يعتبر حذف المسميات ثمة مضافا إليه، بل هاهنا مضافا لئلا يكون نزعا للخف قبل الوصول إلى الماء فليتأمل. قوله: (تبكيت) في الأساس: بكته بالحجة وبكته غلبه وبكته:/ قرعه على الأمر وألزمه حتى عن بالجواب. قوله: (إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة أو أن خلقهم واستخلافهم، وهذه صفتهم لا تليق بالحكمة، وهو وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالتهم) أقول: غير هذا التقدير أولى منه فقد ورد أنهم قالوا: لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس، فالتقدير: إن كنتم صادقين في قول ذلك، ومشى عليه الواحدي. وقال ابن جرير: الأولى أن تقدر إن كنتم، صادقين في أنى جعلت خليفة من غيركم أفسد وسفك الدماء وإن جعلتكم فيما أطعتم واتبعتم أمري فإنكم إذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور التي ستكون أحرى أن تكونوا غير عالمين فلا تسألوني ماليس لكم به علم فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي. قوله: (سبحان من علقمة الفاخر):

قوله: (وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه)

يأتي في سورة الإسراء قوله: (على وجه البسط): قال الشيخ سعد الدين: حيث تعرض للتفاصيل وإن كان ما لا يعلمون أوجز وأشمل، اللهم إلا إذا خص بما خفي من مصالح الإستخلاف، فحينئذ يكون هذا أشمل وأكمل. قال الطيبي: وإنما قال: أبسط ولم يقل: بيان له، لأن معلومات الله تعالى لانهاية لها. وغيب السموات والأرض وما يبدونه وما يكتمونه لم يكن قطرة من تلك الأبحر لكنه نوع بسيط لذلك المجمل. قوله: (تدل على شرف الإنسان ومزيد العلم) قال الإمام: هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم إلا بأن أظهر علمه، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم كان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم. قوله: (وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه)، قال أبو حيان: قيل: العامل في إذ هذه أبي. ويحتمل عندي أن يكون محذوفا دل عليه قوله: فسجدوا لأن السجود ناشىء عن الانقياد. قوله: قال الشاعر: (ترى الأكم فيه سجدا للحوافر). هو لزيد الخير وأوله: (بجمع تضل البلق في حجراته) ومعناه

: أن الأكم تخضع للحوافر فتناثر بها وفي الحاشية المشار إليها: أي أنك تجد خيلنا تستعلي على الأماكن المرتفعة ولا تستعصي عليها فكأنها مطيعة لها. وفي ديوان زيد الخيل: أغار زيد على طوائف من بني عامر فأصاب أسارى وقتل وقال: بني عامر هل تعرفون إذا غدا ..... أبو مكنف قد شد عقد الدوابر بجمع تضل البلق في حجراته .... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر وجمع كمثل الليل مرتجز الوغى كثير حواشيه سريع البوادر أبت عادل للورد أن يكره القنا .... رجاجة رمحي في غبير بن عامر وقال: وقلن له اسجد لليلى فاسجدا هو لأعرابي من بني أسد، وأوله: فعدن لها وهما أمبا خطامه. وأسجد بهمزة قطع أمر بوزن أكرم، يقال: أسجد البعير بوزن أكرم، أي طأطأ رأسه ليركب. قوله: (فاللام فيه كاللام في قول حسان): أليس أول من صلى لقبلتكم .... وأعرف الناس بالقرآن والسنن قال أبو حيان: اللام في: لآدم، للتبيين. وقبل هذا البيت: ما كنت أحسب أن الأمر منصرفا

عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن قوله: (قبلتكم): أي مستقبلا لقبلتكم. قوله: (ولأن ابن عباس روى: (أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم: الجن. ومنهم: إبليس)). لم أقف عليه. قوله: (ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات) إلى آخره. قلت: كان الأولى بالمصنف الإعراض عن هذا الكلام والإضراب عنه صفحا. ولكن هذه ثمرة التوغل في علوم الفلاسفة وعدم التضلع بالأحاديث والآثار، والذي دلت عليه الآثار أن إبليس أبو الجن، كما أن أدم أبو الإنس، وأنه لم يكن من الملائكة طرفة عين وأن المصحح للاستثناء التغليب، لكونه: كان فيهم، أو هو منقطع. قوله: (روت عائشة رضي الله عنها، أنه عليه السلام قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجلد من مارج من نار)) أخرجه مسلم. وتمامه: ((وخلق آدم مما وصف لكم)). قوله: (لأنه كالتمثيل لما ذكرت). أقول: لو أمكن المصنف وأشباهه أن يحملوا كل حديث على التمثيل لفعلوا، وهذا غير لائق، وليت شعري إذا حمل ما ذكر في خلق الملائكة والجن على التمثيل ماذا يصنع في بقية الحديث أيحمل ما ذكره في خلق آدم على التمثيل وأنه ليس

مخلوقا من تراب كما هو ظاهر الآية. هذه إحالة للنصوص على ظواهرها فلنحذر هذه الطريقة، فإن مدار المعتزلة عليها، وهم: أول من أكثر منها، حتى إنهم أنكروا سؤال منكر ونكير. وعذاب القبر والميزان والصراط والحوض والشفاعة ودابة الأرض وحملوا جميع الأحاديث الواردة في ذلك على التمثيل، ثم عدوا ذلك إلى أحاديث لا يقدح تأويلها في العقيدة كحديث شكوى النار وتنفسها في كل عام مرتين: وشكوى الرحم وغير ذلك، فتبعهم في ذلك من تضلع في علوم الفلسفة والعقول، ولم يتبحر في الحديث فمشى في كل أية وحديث على هذا التأويل، وألغى اعتبار ظاهره، وهذا غير مناسب، بل الأولى الرجوع في الأحاديث إلى أئمة الحديث فما قالوا: إنه على ظاهره كغالب الأحاديث-: حمل على ظاهره، ويجنب فيه طريق التمثيل، إذ لا داعي له والتأويل خلاف الأصل، وما قالوا: إنه ليس على ظاهره- كأحاديث الصفات سلك به طريق التأويل والتمثيل، والطيبي رحمة الله عليه سلك هذا المنهاج لكونه محدثا، ورأيت في تذكرة الإمام تاج الدين ابن مكتوم بخطه: قال الإمام أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس، قد اختلف في معنى قوله عليه الصلاة والسلام، ((اشتكت النار)) فجعله قوم حقيقة، وقال: إن

قوله: (إذ العبرة بالخواتيم)

الله تعالى قادر على أن ينطق كل شيء إذا شاء وحملوا جميع ما ورد من هذا أو نحوه في القرآن والحديث على ظاهره، وهو الحق والصواب وذهب قوم إلى أن هذا كله مجاز، وما تقدم هو الحق من حمل الشيء على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه. هذا لفظه بحروفه مع أن البطليوسي المذكور كان من الأئمة الأفراد المتبحرين في المعقولات والعلوم الفلسفية والتدقيقات، وهؤلاء الذين يقولون بالتأويل وإخراج هذه الأحاديث عن ظاهرها ويرون أن ذلك من التحقيق والتدقيق، وإن حملها على ظاهرها خلاف التحقيق والتدقيق. قوله: (إذ العبرة بالخواتيم): هذا مأخوذ من حديث ((الأعمال بالخواتيم))، أخرجه البخاري، من حديث سهل بن سعد. وابن حبان، من حديث معاوية وابن عدي، من حديث عائشة، والطبراني من حديث علي والبزار من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهم. قوله: (السكنى: من السكون)، قال القطب: إشارة إلى قوله: (أسكن) معناه: اتخذ مسكنا، وليس معناه استقر فيها ولا تتحرك، وقال الشيخ سعد الدين: يعني أن أسكن أمر من السكنى بمعنى اتخاذ

المسكن لامن السكون بمعنى ترك الحركة ولهذا يذكر متعلقة بدون في، إلا أن مرجع السكنى إلى السكون. وقوله: (وأنت تأكيد أكدبه المسكن ليصح العطف عليه، إذ لا يجوز عند البصريين العطف على المرفوع المتصل بلا فصل) الطيبي: فإن قيل: كيف يصح العطف وزوجك لا يرتفع باسكن فإنك لا تقول: أسكن غلامك، إذ الغالب لا يؤمر بلفظ الحاضر، فيقال: قد اندرج الغائب في حكم الحاضر لقضية العطف على سبيل التغليب فينسحب عليه حكمه. قوله: (وإنما لم يخاطبها أولا تنبيها على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف تبع) مأخوذ من كلام الراغب، حيث قال: إن قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا وبين أن يقال: إفعلوا كذا؟ قيل: الأول تنبيه على أن المقصود هو المخاطب والباقون تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}، وليس كذا إذا قال: افعلوا. قوله: (صفة مصدر محذوف) قال أبو حيان: انتصاب رغدا، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف لمذهب أكلا رغداً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال. والأول مخالف لمذهب سيبويه؛ لأنه ما جاء من هذا النوع جعله منصوبا على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل.

قوله: (إزاحة)

والثاني: بأنه مقصور على السماع. قوله: (إزاحة) أي إزالة، يقال: زاح عنى الأمر، زال وذهب. قوله: (من بين أشجارها الفائتة للحصر) في الحاشية المشار إليها: أي لا تنحصر، فالحصر فيها فائت، وقال الشيخ سعد الدين: معنى الفائتة للحصر، أنها سبقت الحصر ولم تبق محصورة يقال: فاتني بكذا أي سبقنى به وذهب به عني وجاريته وماريته حتى فته، وفي الصحاح: الفوت والفوات مصدر فاتني الشيء، فالمعنى: إنها فاتت الحصر، بمعنى لم يدركها الحصر. قوله: كما روى (حبك الشيء يعمى ويصم) أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء مرفوعا. قال الميداني في الأمثال: معناه يخفى عنك معايبه ويصم أذنيك عن سماع مساوئه. وقال الشاعر في معناه: وكذبت طرفي فيك والطرف صادق .... وأسمعت أذني فيك مالم تسمع قوله: (والأولى ألا تعين) كذا قال ابن جرير، وقال إن العلم بها

علم لا ينفع وجهل لا يضر، قلت: وقد يقال: إن فيها نفعاما، وذلك إذا قلنا: إنها الكرم، ففيها إشارة إلى أن الخمر أم الخبائث لأن أصلها هو الذي كان السبب في الإخراج من الجنة أولا فيجتنب لئلا يكون مانعا من العود إليها في الآخرة. قوله: (أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها) قال الطيبي: يشير إلى أن أزلهما على أن يكون الضمير (عنها) للشجرة مضمن لمعنى أصدر، وعن حينئذ للسببية، أي أن الشيطان إنما قدر على إصدار الزلة عن الشجرة بسبب الوسوسة، بأن يقول: هذه شجرة الخلد فكلا لتخلدا، أو لأن أكلها سبب لصيرورتكما ملكين، هذا هو المراد بقوله: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، أي بسبب الشجرة. قوله: (ونظير (عن) هذه) في قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} قال الشيخ سعد الدين: أي ما أصدرت فعله عن أمري، قال: وما يقال: أن في التضمين بورود الفعل المضمن على طريق الحال ليس بلازم. قوله: (أو أزلهما عن الجنة)، قال صاحب الانتصاف: يشهد له قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}، قال في الانصاف: وهو سهو، لأن الذي أعاد الضمير إلى الشجرة قدر (فأصدر الشيطان) زلتهما عن الشجرة وذلك لا ينافي إخراج الشيطان إياهما عن الجنة ولا يمكن نسبة الإخراج إلى الشجرة، ولقد كان هذا الوجه قويا وعن تأييده غنيا.

قوله: (فقيل: إنه منع من الدخول على جهة التكرمة) قال الطيبي: يريد أن الأمر بالخروج معلل بقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} فدل على أن الجنة دار المقربين فلا يسكنها اللعين، فإذا دخل لغير التكرمة لا يمنع منه ويمكن أن يعبر بالأمر عن مطلق الطرد والإهانة. فلا يلزم على هذا وجوب الخروج. قوله: (وقيل: دخل في فم الحية حتى دخلت به). قلت: هو المراد، أخرجه، ابن جرير، عن ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس، وفيه التصريح بأنه تأولهما بذلك ولم يسند شيما من الأقوال المذكورة عن أحد. قوله: (أو هما وإبليس). قلت: هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وزاد: والحية، وعن مجاهد وأبي العالية وأبي صالح والسدي فهو المعتمدة. والعداوة بين آدم وإبليس

والحية ظاهرة وفي الحديث. ((الحيات ما/ سالمناهن منذ حاربناهن)). قوله: (بعضكم لبعض عدو) حال استغنى فيها عن الواو بالضمير، قال الطيبي: ويجوز أن يكون جملة مستأنفة على تقدير السؤال. وقال أبوحيان: هذه الجملة في موضع الحال أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها: اهبطوا، وصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا أكثر من انفراد الضمير، وأجاز مكي أن تكون مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأمورا به أو كالمأمور، ألا ترى، أنك إذا قلت: قم ضاحكا كان المعنى الأمر بايقاع القيام مصحوبا بالحال، فيكون الحال مأمورا بها أو كالمأمور لأنك لم تسوغ له القيام إلا في حال الضحك، وما لا يتوصل إلى فعل المأمور به إلا به مأمور به. والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك لأن الفعل إذا كان مأمورا به من المسند إليه في حال من أحواله لم تكن تلك الحال مأموراً بها، لأن النسبة الحالية هي نسبة تقييدية لا نسبة إسنادية فلو كانت مأموراً بها لم تكن تقييدية والتقييدية غير الإسنادية فلو سلمنا كون الحال مأموراً إذا كان العامل فيها أمراً فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد ولا يمكن خلافه: لم يكن ذلك القيد مأمورا به لأنه ليس داخلا في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا

النوع، فلا يلزم أن يكون الله تعالى أمر بها وهذه الحال من الأحوال اللازمة. انتهى كلام أبي حيان. قوله: (موضع استقرار أو استقرار)، قال أبو حيان: أي أنه اسم مكان أو مصدر، وبقى احتمال ثالث، إنه اسم مفعول، وهو ما استقر ملكهم عليه وجاز تصرفهم فيه، ذكره الماوردي. قوله: (ومتاع تمتع)، في الحاشية المشار إليها، يعني أن المتاع تارة يطلق ويراد به المصدر وتارة غيره والمراد هنا المصدر. قوله تعالى: ({إِلَى حِينٍ} يراد به وقت الموت أو القيامة). قلت: القولان واردان، أخرج ابن جرير الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني عن مجاهد. قال الطيب: الثاني مشكل بقوله: متاع بمعنى تمتع بالعيش، قال الكواشى: لكل إنسان مكان في الأرض يستقر فيه ويتمتع بما قسم له فيه مدة حياته وبعد مماته، قال الطيبي: هذا معنى قوله: في الأعراف {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، فالمتاع بمعنى التحقير في الاستمتاع والتقليل في المكث على نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ

وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}. قال: ويمكن أن يجعل المتاع بمعنى التمتع في العيش على تقدير حصول الثواب والعقاب للمؤمن والكافر في القبر، وأما تمتع الكافر فعلى التهكم ثم التغليب. قال: والوجه الأول أظهر، وقال الشيخ: أكمل الدين: قوله إلى الموت لا يحتاج إلى تأويل وأما قوله: إلى يوم القيامة فيحتاج إلى ذلك فقيل: لأنه يبتدئ من الموت لإدخال مقدمات الشيء فيه أو لأنه ينتفع بمسكنه في القبر إلى أن يبعث، وقال الشيخ سعد الدين: الظرف واقع خبراً على مستقر ومتاع، فقيل: إلى يوم القيامة، لأن الاستقرار ثابت إلى يوم القيامة، لمكان القبر، وقيل: إلى الموت، نظرا إلى تعلقه بمتاع، إذ لا تمتع بعد الموت. قلت: ما حمل هذا المحمل على أحسن من هذا المحمل، ثم قال الشيخ سعد الدين: ومن جعله على تقدير التفسير بيوم القيامة أيضا متعلق بمتاع وجعل ابتداء يوم القيامة من الموت، لأن من مات فقد قامت قيامته. أو جعل مقدمات الشيء من جملته، فلا يخفى أن التفسيرين حينئذ واحد، أو جعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، وهذا أقرب. وقال أبو حيان: يمكن أن يفسر قوله {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}

قوله: وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع كلمات

بقوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}. قوله: (استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين أعلمها) في الحاشية المشار إليها: التلقى حقيقة في استقبال من جاء من بعد واستعماله في الكلمات مجاز منه. وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل: زيادة العمل خارجة عن مدلول التلقي لغة. وقال الطيبي: هو مستعار من استقبال الناس بعض الأعزة إذا قدم بعد الغيبة، لأنهم حينئذ. لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الإلهية العمل بها. قوله: وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع كلمات على أنها استقبلته وتلقته، قال الطيبي: وعلى هذه القراءة أيضا استعارة. قوله: وهي قولى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية. قلت: هذا أصح الأقوال في ذلك. أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن جرير عن مجاهد، والحسن وقتادة وابن زيد وقاله أيضا: سعيد بن جبير وأبو العالية ومحمد بن كعب والربيع بن أنس وخالد

بن معدان وعطاء الخراساني. وقال ابن جرير: أنه الموافق للقرآن. قوله: (وقيل سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره) أخرجه البيهقي في الزهد عن أنس مرفوعا وابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية موقوفا. قوله: (وعن ابن عباس: قال: يا رب ألم تخلقني بيدك) قال في الحديث: أخرجه الفريابي وابن أبى الدنيا في التوبة وابن جرير وابن مردويه والحاكم في المستدرك وصححه. قال الطيبي: قوله (أراجعى)، صح في نسخة المصنف بالتخفيف، وفي نسخة زين المشايخ، بالتشديد: وهو السماع، وتوجيهه مشكل إلا أنه يجعل جمعا، وهو مستبعد أيضا. وقال الشيخ أكمل الدين: ذكر بعضهم أنه لا استبعاد مع ظهور كونه من أسلوب (ألا فارحموني يا إله محمد)، وأنت على هذا مبتدأ قدم عليه خبره، قال: وأقول: إن لم يكن في سياق الكلام ما يمنع أن يكون ارحموا خطابا لغير الله جاز أن يكون تقديره ياعباد إله محمد، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه

مقامه وأعرب بإعرابه وسقط التنظير به وعاد الاستبعاد. وقال الشيخ سعد الدين: (أراجعي أنت) اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعله، لاعتماده على الاستفهام وإن شئت فمبتدأ، وأما نسخة زين المشايخ: أراجعي بتشديد الياء فحملها على سهو القلم أقرب من أن تجعل راجعي جمعا مضافا إلى ياء المتكلم خبر أنت، أي أنت راجعون كما في قوله. ألا فارحموني يا إله محمد، وعلى النسختين فوقوع الجملة الاستفهامية جزاء الشرط محل بحث. قلت: قوله: أرايت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ على أسلوب قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}، وسيأتي الكلام فيه فيخرج على هذا الحديث ما يذكر هناك. قوله: (وهو الاعتراف بالذنب)، إلى آخره. الراغب: التوبة ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ ضروب الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة. قوله: (أو الاختلاف المقصود) إلى آخره، في الحاشية المشار

قوله: (واقتضاه العقل)

إليها: يعني أن القصة تعاد لزيادات تذكر فيها لم تذكر أول مرة. قال الطيبي: ويسمى هذا الأسلوب في البديع: بالترديد. قوله: (الشرط الثاني، مع جوابه جواب الشرط الأول). قال أبو حيان: لا يتعين عندي أن تكون من شرطية بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك، لقوله: في قسيمة: والذين كفروا وكذبوا، فأتى به موصولا ويكون قوله: فلا خلاف جملة في موضع الخبر، وأما دخول الفاء فيها، فإن الشروط المسوغة لذلك موجودة هنا. قوله: (وما مزيدة أكدت به إن) إلى أخره، قال الكواشي. (ما) تؤكد أول الفعل والنون آخره، وقال صاحب المرشد، زيدت ما هنا لتأكيد الفعل الذي بعد حرف الشرط شبهوها بلام القسم المؤكدة للفعل، نحو: والله لأعطين وهي أكدت أول الفعل، والنون المشددة آخره، كذلك ههنا. قوله: (واقتضاه العقل): هذا ونحوه في الكتاب: مشية قلم مما في الكشاف، فإن ذلك ليس مذهبنا. قوله: (وقرئ هدى على لغة هذيل)، قال ابن جني: هي

قراءة أبي الطفيل، وعيسى بن عمر الثقفي، وهي: لغة فاشية في هذيل وغيرهم أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ويدغموها في ياء الإضافة. قوله: (وأصلها: أية) أي بتشديد الياء (أو أوية) أي بسكون الواو. هذا قول الفراء. قوله: (فأبدلت عينها أي ألفا) استثقالا للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان. قوله: (أو أيية أو أوية أي بفتحات. هذا قول الخليل وسيبويه. قوله: (فأعلت)، أي بقلب الياء أو الواو التي هي العين ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس. قاله أبو حيان، قال ابن هشام، في تذكرته: إذا اجتمع حرفان مستحقان للإعلال، فالقياس أن يجعل الثاني دون الأول نحو هوى وشوى وطوى، ويشذ في كلامهم أن يعل الأول دون الثاني، كغاية، وطاية، وتايه، وأية.

قوله: (أو آيية، كقايلة)، هذا قول الكسائي. قوله: (فحذفت الهمزة تحقيقا)، قال أبو حيان: لئلا يلزم فيه من الإدغام مالزم في دابة فيثقل. قوله: (ولعله أن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء)، قلت: ولا عن الأمم السابقة بأسرهم، فإن عدم المؤاخذة بالنسيان من خصائص هذه الأمة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. قوله: (قال عليه السلام: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل) أخرجه بدون قوله: ثم الأولياء، الترمذي، وصححه، والنسائى، وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث سعد ابن أبى وقاص، وأخرجه الحاكم من حديث أبى سعيد، بلفظ: الأنبياء ثم العلماء، ثم الصالحون. قوله: (روي أنه عليه السلام، أخذ حريراً وذهبا بيده، وقال: هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها) أخرجه الأربعة من حديث على بلفظ: هذان حرام.

قوله: (وإسرائيل لقب)

قوله: (وإسرائيل لقب). قال الشيخ سعد الدين: لكونه علما يشعر بمدح بملاحظة الأصل. أي صفوة الله أو عبد الله. فكذا مثل عبد الله علما إذا قصد به الأشعار بأنه عبد الله تشريفا. قوله: (ومعناه بالعبرية، صفوة الله، وقيل: عبد الله). قال الشيخ أكمل الدين: قيل: إن أسرا بمعنى الصفوة، وإيل هو الله تعالى، وقيل: إسرا، معناه العبد، زاد في الحاشية المشار إليها، ولذا زعموا أن جبريل وميكائيل، بمعنى عبد وإيل هو الله. قوله: (وقيل: أراد بها ما أنعم على آبائهم وعليهم) قال الشيخ سعد الدين: فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، حيث جعل قوله: عليكم مراداً به ما أنعم عليهم وعلى آبائهم، فينبغي أن يحمل على حذف أو اعتبار معنى جامع بأن يجعل الخطاب لجميع بني إسرائيل الحاضرين والغائبين. وفى الحاشية المشار إليها: إن أراد بهذا أنه أراد الأمرين معا بلفظ واحد، وهو اللفظ المذكور في هذه الآية التي يفسرها، فهو مشكل، فإنه: جمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد. فإنه قال: (نعمتي التي أنعمت عليكم) فتناولها للنعمة على الموجودين حقيقة، وتناولها للنعمة على الأباء مجاز، وإن أراد به أنه أراد المعنيين بلفظين مختلفين فهو حسن، فإنه ذكر في هذه الآية ما يصلح للموجودين، وذكر في الآية هي، قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ما أنعم به على الأباء

قوله: (والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد)، قال الشيخ سعد الدين: لأنه نسبة بينهما بمنزلة مصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول ولا خفاء في أن الفاعل هو الموفي فإن أضيف إليه/ مثل أوفيت بعهدي، ومن أوفى بعهده، فهو مضاف إلى الفاعل. وإن أضيف إلى غيره، مثل: (أوف بعهدكم) وأوفيت بعهدك، تكون الإضافة إلى المفعول. قوله: (وما روي عن ابن عباس أوفوا بعهدي في اتباع محمد أوف بعهدكم في رفع الإصار والأغلال) أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه. قوله: (وعن غيره: أوفوا بأداء الفرائض) إلى أخره. هو أيضا عن ابن عباس، أخرجه ابن جرير عنه، لكن بسند ضعيف. قوله: (وهو أكد في إفادة التخصيص: من إياك نعبد). في الحاشية المشار إليها؛ لأن نعبد لما لم تستوف مفعولها كانت هي الناصبة لإياك فكانت جملة واحدة بخلاف قوله: فارهبون، فإنها قد استوفت مفعولها، فلابد من تقدير فعل عامل في إياك ويحب كونه مؤخراً عن إياك، لكون الضمير منفصلا فيصير التقدير: إرهبوا إياي فارهبون، فيكون الأمر بالرهبة متكرراً، ويقوى تكررها عطف الثانية بالفاء المقتضية للتعقيب، فكأنه قال: ترهبون رهبة بعد رهبة، ولاشك في أن هذا المعنى مفقود في إياك

نعبد. قوله: (لما فيه مع التقديم من تكرار المفعول، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط، كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون) قال الطيبي: هذا الذي قاله القاضي على خلاف رأي صاحب الكشاف لأنه جعل التركيب من باب الإضمار على شريطة التفسير لقوله: هو من قولك: زيداً رهبته، فإن هذا التركيب أكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد، إذا قدرت المفسر بعد المنصوب لتكرير الجملة المفيدة للتخصيص بخلاف إياك نعبد، فإن فيه تقديما فقط. قال صاحب المفتاح: وأما زيداً عرفته، فأنت بالخيار، إن شئت قدرت المفسر قبل المنصوب وحملته على التأكيد، وإن شئت قدرته بعده وحملته على باب التخصيص، والمقام يقتضي الثاني لسباق الكلام وسياقه، وأما إذا جعل من باب الشرط فلا وجه أن يقابل بقوله: إياك نعبد، إذ لا مناسبة بينهما، نعم لو قدر إن كنتم تخصون أحداً بالرهبة فخصوني بها أفاد التخصيص لكن تقدير الشرط أحط وأضعف من إياك، لأن التقديم يستدعي وقوع الفعل جزما، والشرط على الفرض والتقدير. قال: فإن قلت: كيف عطف الجملة المؤكدة على مؤكدها والعطف يقتضي المغايرة؟ قلت: المغايرة حاصلة. لأن المراد من التكرار الترقي من الأهون إلى الأغلظ، فإن في التعقيب اتصال الراهبة برهبة هي أعلى منها من غير تخلل شيء آخر، كقولهم: الأفضل فالأفضل، والأكرم فالأكرم، لم يريدوا به افضلين وأكرمين، بل الترقي انتهاء الوسع والإمكان. قال صاحب الكشاف، في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} أي كذبوه تكذيبا عقب تكذيب، ففيه إشعار بمزيد

الاختصاص، ثم قوله أكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد يقتضي أنه أكد منه وحده، لكن إذا ضم معه إياك نستعين كان هذا أكد لتصريح التكرار والتعميم في نستعين. انتهى. وقال الشيخ أكمل الدين، بعد إيراده لما لم يجز أن تكون عاطفة: كانت جزائية وعليه أكثر المحققين، وكونها جزائية لا ينافي الإضمار على شريطة التفسير، فيكون أكد من إياك نعبد لوجهين: ما ذكره، وما ذكره القاضي أيضا، قال: وقال بعضهم: إن جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير وهم، لأن حرف العطف لا يتوسط بين المفسر والمفسر، وأيضا من شرط باب الإضمار أن يكون الفعل مشتغلا عن الاسم بضميره أو متعلقه لو سلط عليه هو أو مناسبة لنصبه لتوسط الفاء فالجواب أن لا يجعل من باب الإضمار بل هو منصوب بفعل محذوف يدل عليه (فارهبون) كما في باب الإضمار لا أنه فرد من أفراده، قال: وذكر بعضهم في تحقيق هذا المقام ما معناه، أن الفاء لا يجوز أن تكون عاطفة، لأنها لا تجامع الواو، وكذلك في قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} ونحو ذلك قال: ثم إن لم يكن بعد الفعل ما يشغله من ضمير أو متعلقه. فهو معمول الفعل المذكور قدم على الفاء الجزائية أو إرادة التخصيص وعوضا عن فعل الشرط كما ذكروا في نحو: أما زيد فمنطلق، أو معمول فعل مقدر، وتقدر الفاء داخلة عليه، وتقديره مهما يكن من شيء فربك كبر وإن كنت غافلا فاعبد الله، إذ لا بد من

فعل محذوف يريد التعميم والمبالغة، ويقدر في كل موضع بحسب ما يليق به ولو قدر في الجمع مهما يكن من شيء لم يكن به بأس، ثم لما حذف الفعل وجعل مفعوله عوضا عن فعل الشرط لفظا، زحلقت الفاء إلى المفسر على معنى أن الفاء العاطفة التي كانت فيه أولا جعلت فيه جزائية بعد الحذف لئلا يلزم تقديم ما في حيز الجزاء على فائه، وإن كان بعد الفعل ما يشغل، كالذي نحن فيه، فلا يجوز أن يكون معمول المذكور لاشتغاله عنه بضميره، بل هو معمول فعل محذوف هو الجزاء في الحقيقة، والمذكور تأكيد له، ولما وجب حذفه للمفسر قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه لأنه لابد منه الدلالة على الجزاء، ولا يدخل على معمول المحذوف لتمحضه عوضا عن فعل الشرط، والفاء لا تدخل على الشرط فكذا على ما هو عوض، فتعين أن تدخل على المفسر، فلا يمكن جعل الفاء عاطفة لئلا يكون عطف المفسر على المفسر، وما ذكره صاحب المفتاح من أن الفاء عاطفة، والتقدير: وإياي ارهبوني فأرهبون فقد أراد أنها فى الأصل كذلك، لا في الحال. انتهى. قال أبو حيان: الفاء في قوله: فارهبون دخلت في جواب أمر مقدر، التقدير تنبهوا فارهبون. قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في زيدا فاضرب تنبه فاضرب زيداً ثم حذف تنبه فصار فاضرب زيداً، فلما وقعت الفاء صدراً قدموا الاسم إصلاحا للفظ وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير، واياي فارهبون. والثاني: أن يكون التقدير: وتنبهوا فارهبون، ثم قدم المفعول فانفصلت وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا

محذوف فالتقى بعد حذفه حرفان الواو العاطفة والفاء التي هي جواب الأمر فتصدرت الفاء فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحا للفظ ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل كما أكد المتصل بالمنفصل في ضربتك إياك. انتهى. رقال الشيخ سعد الدين في تقدير الأكدية: قد سبق أن مثل زيد ضربت يفيد الاختصاص فإذا نقل إلى الإضمار على شريطة التفسير مثل: زيدا ضربته ودلت القرينة على أن المحذوف يقدر مؤخراً كان أكد في إفادة الاختصاص؛ لأن الاختصاص عبارة عن إثبات ونفي فإذا تكرر الإثبات صار أكد على أن الإثبات اللاحق يمكن أن يعبر عن وجه الاختصاص بقرينة كونه تفسيرا للسابق وأن لم يكن هناك شيء من أدوات الحصر، وحينئذ يتكرر الاختصاص بدخول الفاء والفعل مثل زيدا فاضرب. وعليه قوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي إن كنت عاقلا فالله اعبد وإن فرحوا بشيء فليخصوه بالفرح. وذكر في الكشاف في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: اختص ربك بالتكبير أو دخول الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: مهما يكن من شيء، فلا تدع تكبيره. وقريب من هذا ما يقال: إن مثله على حذف أما، أي: أما زيداً فاضرب، وقد يجمع بين الطريقين أعني دخول الفاء وتكرير الإثبات، بأن يجعل الفعل مشغولاً بالضمير، نحو زيداً فاضربه، وعليه: فإياي فارهبون فتكرير التعلق تأكيد للاختصاص وتعليقه بالشرط العام الذي

هو وقوع شيء ما تأكيد على تأكيد. قال: وهذا تقرير واضح موضح للمقصود. قال: ونقل عن صاحب الكشاف، أنه قال: في إياي فارهبون: وجوه من التأكيد، تقديم الضمير المنفصلة وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا ومعطوفا عليه، تقديره: اياي ارهبوا فارهبون، أحدهما: مضمر، والثاني: مظهر، وما في ذلك من تكرار الرهبة، وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء. كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. قوله: (وكذلك قال عليه السلام ((لو كان موسى حيا لما وسعه إلا إتباعي)) أخرجه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما من حديث جابر، وسببه: أن عمر استأذنه في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه. وهذا الحديث استدل به جماعة على تحريم الاشتغال بفن المنطق. قال بعض أهل الحديث: إذا لم يوسعه عذرا في الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونوراً فكيف بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا. قوله: (وأول كافر وقع خبرا عن ضمير الجمع) إلى آخره. في الحاشية: لما كان أول الخطاب المجموع بقوله: {وَلَا تَكُونُوا}

قوله: (المراد التعريض).

ويستحيل أن يكون الجماعة أول كافر سلك فيه إحدى طريقين، إما تأويل الكافر بالجنس فأتى بلفظ مفرد معناه الجمع كالفوج والفريق، أو تأويل ولا تكونوا بأنه ليس المراد نهي المجموع، بل نهي كل واحد عن أن يكون أول كافر. قوله: (المراد التعريض). قال الطيبي، أي بما يجب عليهم لمقتضى حالهم ولما تكلموا به من الاستقباح والبشارة. قال: والتعريض أنواع، منها: أن يشار به بمقتضى الحال على طريقة قوله: أروح لتسليم عليك واغتدى .... وحسبك بالتسليم متى تقاضيا. قال: وهذا الموضع من هذا القبيل. قوله: (وأول أفعل لا فعل له) لاستثقال إجماع الواوين. قوله: (من وأل) بمعنى لجأ. قوله: (يستبدلوا): في الحاشية المشار إليها هذا جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلا قال: الباء إنما تدخل على الثمن، فأجاب بأن المراد الاستبدال، ولو قلت: استبدل صح دخولها على كل واحد منهما. وقال الطيبي: تقديره: أن الاشتراء استعارة للاستبدال، وإن لم تكن استعارة له لزم أن يكون الثمن في قوله تعالى: {ثَمَنًا قَلِيلًا} هو المشترى والثمن المتعارف هو المشترى به وها هنا المشترى به الآيات، لأن الباء تدخل على الثمن فلما دخل على آيات صار هو المشترى به، وصار ثمنا قليلا هو المبيع، وهذه استعارة لفظية لا معنوية، فاستعير الشراء لمجرد للاستبدال من غير نظر

إلى التشبيه، كما يستعار لأنف الإنسان المارن ويمكن أن يكون استعارة معنوية بولغ أولاً، بأن شبه الاستبدال في كونه مرغوبا فيه بالبيع والشراء ثم زيد في المبالغة، بأن قلبت القضية، وجعل الثمن مبيعا والمبيع ثمنا، ونحوه في القلب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فجعلت الآيات في الابتذال والامتهان وكونها ذرائع إلى سائر متاعهم، كالدراهم المبذولة لقضاء الحوائج، ومقام التقريع والبغي على بني إسرائيل وسوء صنيعهم يقتضي هذه المبالغة. قوله: (واللبس الخلط، وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره) إلى آخره، عبارة الكشاف: الباء التي في الباطل إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء، وخلطته به كان المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ماليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى يتميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الإستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا/ تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه. قال الطيبي: والفرق أن الخلط يستدعي مخلوطا ومخلوطا به. قال الجوهري: خلطت الشيء بغيره خلطا، فاختلط. فإذا جعلت صلة كان بالباطل: مفعولا مثل الأول فخلطهم أن يكتبوا شيئا آخر مثل المنزل فإذا كتبوا اختلط مع الحق فالمنهي الكتبة نفسها لأنها مستلزمة للإختلاط، ومن ثم قال: ولا تكتبوا فيختلط الحق بالباطل، فإذا جعلت للاستعانة كان المنهى جعل مكتوبهم سببا للاشتباه، ولهذا قال، ولا تجعلوا الحق مشتبها بباطلكم أي بسبب باطلكم، وقال: الذي تكتبونه أي الذي أنتم مشتغلون به، وهو دأبكم وعادتكم. فقوله: ملتبسا ثاني مفعولي جعل، وقال أبو حيان: الظاهر، أن

قوله: (أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع)

الباء في قوله: {بِالْبَاطِلِ} للالتصاق: كقولك: خلطت الماء باللبن: فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة وساق عبارته، ثم قال: وهذا فيه بعد عن هذا التركيب وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك، وكذا قال الشيخ سعد الدين قد يرجح الأول بأنه أظهر وأكثر. فائدة: في الحاشية المشار إليها، على كلام الكشاف مؤاخذة لطيفة، فإنه سمي باء التعدية صلة، والذي يستعمله أكثر المصنفين. في مثل هذا أن الصلة بمعنى الزيادة. قوله: (أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع)، أي لا تجمعوا لبس الحق وكتمانه. قال الطيبي: فإن قيل: فعلى هذا يلزم جواز فعلهم اللبس بدون الكتمان وعكسه، كما في مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قلت: لا نسلم جواز فعل كل واحد منهما على الانفراد، فإن نهي الجمع لا يدل على جواز البعض ولا على عدمه وإنما يعلمان من دليل آخر. أما في مسئلة السمك فمن الطب، وأما في الآية فلإشتداد قبح كل منهما. بقي أن يقال: إذا كان كذلك فما فائدة الجمع والجواب؟ إن فائدته المبالغة في البغي عليهم وإظهار قبح أفعالهم من كونهم جامعين بين الفعلين اللذين إذا انفرد كل منهما كان مستقلا في القبح. وعلى قراءة الجزم، وإن دل على المبالغة لكن تفوت فائدة البغي عليهم إنتهى. وذكر القطب نحوه. قوله: (ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود {وَتَكْتُمُونَ}) أي

وانتم تكتمون، بمعني كاتمين، زاد المصنف على الكشاف، قوله: (أي وأنتم تكتمون) لأن المتكتمين تعقبوا عليه حيث قال: وتكتمون بمعنى كاتمين قال أبو حيان: هذا تقدير معنى لا تقدير إعراب لأن الجملة المثبتة المصدرة بمضارع إذا وقعت حالا تدحل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن يضمر قبل المضارع مبتدأ تقديره وأنتم تكتمون الحق. قال: ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة وهم نهوا عن لبس الحق بالباطل على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال، إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك: بأن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما قال: ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي على مذهب من يرى ذلك، وهو سيبويه وجماعة ولا يشترط التناسب في عطف الجمل. قال: وكلا التخريجين تخريج شذوذ. قوله: (يعني صلاة المسلمين) قال الشيخ سعد الدين: يؤيد أن اللام في الصلاة والزكاة والراكعين للإشارة إلى المعلوم المعين ويجوز أن تكون للجنس والدلالة على أن صلاة غير المسلمين ليست بصلاة. قوله: (فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، هذا حديث مرفوع، أخرجه الشيخان. من حديث ابن عمر. قوله: (قال الأضيط السعدي). لاتذل الضعيف علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه هو الأضبط بن قريع، من شعراء الدولة الأموية.

قوله: (وتتركونها من الترك كالمنسيات)

وقبله: لكل ضيق من الأمور سعة ... والمسء والصبح لابقاء معه وبعده: وصلى وصال البعيد إن وصل الحب .... ـل وأقص القريب إن قطعه فأقبل من الدهر ما أتاك به .... من قر عينا بعيشه نفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه علك: لغة في لعلك. وتركع، وهو الركوع من الانحناء والميل وأراد به الانحطاط من المرتبة والسقوط من المنزلة. قوله: (تقرير)، قال الشيخ سعد الدين: عندهم يقال للحمل على الإقرار والإلجاء إليه وللتحقيق والتثبيت، وكلاهما مناسب ههنا. قوله: (ويتناول كل خير) قال الشيخ سعد الدين: أي يطلق عليه، ولم يرد هنا إنهم يأمرون بكل خير. قوله: (وتتركونها من الترك كالمنسيات)، قال القطب والطيبي: أشار بالكاف إلى أن المراد بقوله: تنسون تتركون، على الاستعارة التبعية لأن أحداً لا ينسى نفسه بل يحرمها من الخير ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة لعدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله. قوله: (وعن ابن عباس، أنها نزلت في أحبار اليهود) إلى آخره. أخرجه الواحدي في أسباب النزول. من طريق الكلبي عن أبي

صالح، عن ابن عباس. قوله: (وأنتم تتلون الكتاب، تبكيت كقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}) قال الطيبي: يعني كما وقع وأنتم تعلمون حالا من فاعل لا تلبسوا على سبيل التبكيت وإلزام الخصم، كذلك وأنتم تتلون الكتاب، حال من فاعل أتأمرون الناس بالبر للتبكيت. قوله: (شكيمته)، في الصحاح: فلان شديد الشكيمة إذا كان شديد النفس أبيا، وفلان ذو شكيمة إذا كان لا ينقاد. قوله: (روى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، أخرجه أحمد وأبو داود وابن جرير، من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان. وحزبه: بحاء مهملة وزاي وباء موحدة: أي أهمه ونزل به، وضبطه الطيبي بالنون وحكى الموحدة عن ضبط النهاية، وعزى الحديث لرواية حذيفة، وإنما هو: من رواية أخيه. وفزع إلى الصلاة: أي لجأ إليها. قوله: (قال أوس بن حجر): فأرسلته مستيقن الظن أنه .... مخالط ما تحت الشراسيف جائف

حجر بفتح الحاء والجيم كما ضبطه أصحاب المؤتلف والمختلف وبيته هذا من قصيدة أولها: تكرر بعدي من أميمة صائف ... فبرك فأعلى ثولب فالمخالف وقبل هذا البيت: فيسر سهما راشه يمناكب .... لؤام ظهار فهو أعجف شاسف يصف رمية السهم إلى الحمار الوحشي، قال الأصمعي: ظن ظنا يقينا، أي مصيبا. والشراسيف أطراف الأضالع والرخصة في أطراف الصدر المشرفة. وجايف بالجيم يصيب الجوف فتصير الرمية جائفة. قوله: (قال عليه السلام: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) أخرجه النسائي والحاكم من حديث أنس رضي الله عنه، ويأتي تمامه في سورة آل عمران. قال الطيبي: وفى حديث أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أقم الصلاة أرحنا بها يا بلال)). قيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تبعا، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، وما أقرب الراحة من قرة عين الراغب. الصلاة جامعة للعبادات وزائدة عليها لأنها لا تصح إلا ببذل

مال ما جار مجرى الزكاة فيما يستر به العورة ويطهر به البدن وإمساك في مكان مخصوص يجرى مجرد الاعتكاف، والتوجه إلى الكعبة تجري مجرى الحج، وذكر الله ورسوله يجري مجرى الشهادتين ومجاهدة في مدافعة الشيطان جارية مجرى الجهاد وإمساك عن الأطيبين جاري مجرى الصوم وفيها ماليس في شيء من العبادات الأخرى من وجوب القراءة وإظهار الخشوع والركوع والسجود وغير ذلك. قال الطيبي. وفيها ما قال - صلى الله عليه وسلم -. ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) الذي هو أصل ذلك كله. قوله: (أي عالمي زمانهم): أخرجه ابن جرير عن مجاهد وأبي العالية وقتادة. وقال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المراد بالعالمين جميع ما سوى الله ليلزم تفضيلهم على الملانكة، ولا جميع الناس ليلزم تفضيلهم على نبينا وأمته ففسر بعالمي زمانهم، ووجهه أن العالم اسم لكل موجود سواه، فيحمل على الموجودين بالفعل فلا يتناول من مضى أو من يوجد بعدهم على أنه لو سلم العموم في العالمين فلا دلالة على التفضيل: من كل جهة عموما، ولا من جهة القرب والمكانة عند الله خصوصا. وفي الحاشية المشار إليها: التفضيل في شيء لا يلزم منه التفضيل مطلقا، وذلك لأن شخصا لو فاق في نظم الشعر، وفاق آخر في علم القرآن والفقه، لا يلزم من تكريم الأول أنه يطلق عليه أنه أفضل من الفقيه المفسر. ومعنى تفضيلهم على جميع العوالم أن الله تعالى بعث منهم رسلا كثيرا لم يبعثهم من أمة ففضلوا بهذا النوع من التفضيل على سائر الأمم.

قوله: (وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم

قوله: (لا تقضى عنها شيئا من الحقوق) زاد في الكشاف. فشيئا مفعول به. قوله: (وعلى هذا تعين أن يكون مصدرا) بخلاف أجزأ عنه بالهمزة بمعنى أغنى عنه، فإنه لازم فلا يكون شيئا إلا مصدراً. قوله: (وإيراده منكراً مع تنكير النفس للتعميم، والإقناط الكلى، تبع في ذلك صاحب الكشاف. وفي الحاشية المشار إليها: إن هذا على مذهب المعتزلة، فإنهم ينكرون الشفاعة للعصاة ويحتجون بهذه الآية، وأهل السنة يقدرون لا تجزى نفس عن نفس كافرة شيئا لما ثبت من الآيات والأخبار الصحيحة. قوله: (والجملة صفة ليوما والعائد فيها محذوف) إلى آخر هـ. قال أبو حيان: هذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزى فيه، فحذف حرف الجر والضمير دفعة واحدة، ويجوز أن يكون التقدير: لا يجزيه فيكون قد حذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير الأول اتساعا. قال: وما ذهبوا إليه من تعيين الرابط أنه فيه أو الضمير: هو الظاهر. وقد يجوز على رأي الكوفيين ألا يكون ثم رابط ولا تكون الجملة صفة، بل مضافا إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوما، يوم لا تجزي فحذف يوم لدلالة يوما عليه، فلا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف، بدلاً وهو بدل كل من كل. ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف

إليه على خفضه في يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي. قوله: (كما حذف في قوله: أو مال أصابوا). قال القالي في أماليه: حدثنا أبوبكر بن دريد: أنا عبدالرحمن، على عمه الأصمع، قال: خرج أعرابي إلى الشام فكتب إلى بني عمه كتبا فلم يجيبوه عنها، فكتب إليهم: ألا أبلغ معاتبتي وقولي ... بني عمي فقد حسن العتاب وسل هل كان لي ذنب إليهم ... هم منه فاعتبهم غضاب كتبت إليهم كتبا مرارا ... فلم يرجع إلى لهم جواب فما أدري أغيرهم ثناء .... وطول العهد أم مال أصابوا فمن يك لا يدوم له وفاء

وفيه حين يغترب انقلاب فعهدي دائم لهم وودي .... على حال إذا اشهدوا وغابوا وقال ابن الشجري، في أماليه: قائلها الحرث بن كلدة يعاتب بني عمه وإنما قال: أم مال أصابوا، لأن الغنى في أكثر الناس يغير الإخوان على إخوانهم وهي من ألطف عتاب وأحسنه. قال الشيخ سعد الدين: فمن ذلك ما قاله أبو الهول: في صديق له أيسر فلم يجده كما يجب. لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة .... فأصبحت فيها بعد عسر أخا يسر لقد كشف الإثراء منك خلائقا .... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر قوله: (أي من النفس الثانية العاصية أو من الأولى) قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن/ المختار، هو أن يرجع إلي النفس العاصية ليلائم قوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} فإن الضمير فيها للنفوس العاصية، وكذا في {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وليوافق ما ذكر في موضع آخر {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ولأنه حيث أريد هذا المعنى

أضيفت الشفاعة إلى الشافع مثل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، وما يقال في ترجيح الوجه الثاني أن المقصود نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد فنفى جميع ما يتصور في ذلك من الطرق أعني الإعطاء لنفس الحق وهو الجزاء وبدله وهو الفدية أو ترك الإعطاء مع اللطف وهو الشفاعة أو القهر وهو النصرة، غايته أنه لم يراع في الذكر الترتيب وغير في طريق النصرة الأسلوب حيث لم يقل ولا هي أي النفس المجازية بنصرها إلى المجزية، إشارة إلى أن هذا الطريق مستحيل بحيث لا يصح أن يسند إلى أحد وأنه لا خلاص لهم بهذا الطريق البتة، ولا محالة لما في تقديم المسند إليه من تقوى الحكم مردود بأن المقصود بسوق الآية نفى اندفاع العذاب وعدم الخلاص لأن المناسب بوجوب الاتقاء وإنما نفى الدافع بالعرض مع أن عود الضمير في: لا يؤخذ منها عدل إلى النفس الثانية في غاية الظهور، وإن حمل، ولاهم ينصرون على ما ذكر: تكلف. وقال أبو حيان: الضمير في: منها: عائد على النفس المتأخرة، لأنها: أقرب مذكور، ويجوز أن يعود على نفس الأولى، وقد يظهر ترجيحه لأنها هى المحدث عنها، في قوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ}، والنفس الثانية مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة. قوله: (وكأنه أريد بالآية نفى أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه يحتمل) إلى أخره، قال الطيبي: هذا على التقسيم العقلي، وأما البياني فإن الآية من أسلوب الترقي، ولذلك أختار في تفسير تجزى، تقضى على لغة يعنى كأنه قيل: النفس الأولى غير قادرة على اختصاص صاحبها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات؛ لأنها مشغلة عنها بشأنها ثم إن قدرت على سعى ما مثل الشفاعة فلا تقبل منها وأن زادت عليها بأن تضم معها النداء، فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر

والغلبة وأنى لها ذلك فلا يتمكن منه، كالترقى من السعي إلى السعي. قوله: (والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة، وتذكيره بمعنى العباد والأناسي)، قال الحلبي: يعني أنه قصد بها المذكور، ولكن قد نص النحاة على أن مثل هذا ضرورة، فالأولى أن يعود على الكفار الذين اقتضتهم الآية كما قال ابن عطية. وقال الشيخ سعد الدين: أشار إلى أنه ليس الضمير عائدا إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة، على ما يقع في بعض العبارات بل إلى ما تدل هي عليه من النفوس الكثيرة حتى إن هذا يكون من قبيل ما تقدم ذكره يعني بدلالة لفظ آخر. مثل: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فإن الضمير عائد إلى لفظ أحد؛ لأنه في معنى الجماعة، ثم استشعر أنه لما عاد الضمير إلى النفوس كان المناسب: هن بالتأنيث لاهم بالتذكير، فأجاب بأنه لتأويل النفوس بالعباد والأناس، كما تقول: ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس، لتأويل النفوس بالأشخاص أو الرجال وقال الطيبي: حق الظاهر أن يقال: ولا هي تنصر فخولف بأن جمع الضمير والمرجوع إليه مفرد، وذكره وهو مؤنث، فالجمع باعتبار أن النفس المنكرة في سياق النفي دلت على أن هناك نفوسا كثيرة، وكل واحد منها: لا تجزي عن الأخرى شيئا، والتذكير لتأويل أن تلك الأنفس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطان الله وملكه. وفي الحاشية المشار إليها: لو قيل: إن النفس المذكورة في الآية لما كان المراد عمومها دخل فيها الذكور والإناث، فغلب المذكر كان حسنا.

قوله: (وأصل آل: أهل، لأن تصغيره أهيل)

وقال أبو حيان: منهم من جعل الضمير في (ولاهم) عائدا على النفسين معا، لأن التثنية جمع. قوله: (وأصل آل: أهل، لأن تصغيره أهيل)، ذهب الكسائي إلى أن أصله أول من آل يؤول رجع قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ونقل عن العرب، أنهم قالوا في تصغيره: أويل وبهذا القول جزم الجوهري، وصححه الواحدي، واختاره ابن البانش، ورد الأول باختلاف أهل وآل معنى، فإن الأصل القرابة، والآل من يؤول إليك في قرابة أوراي أو مذهب وبأن الألف لم يثبت بدلاً من الهاء في غير هذا الموضع. قوله: (وفرعون لقب من ملك العمالقة ككسرى) وقيصر لملكي الفرس والروم، قال الشيخ سعد الدين: يشبه أن يكون مثل فرعون وقيصر وكسرى من علم الجنس ولذا منع الصرف، ولكن جمعه باعتبار الأفراد، مثل: الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يدل على أنه علم شخص يسمى به كل من يملك ذلك وضعا ابتدائيا. قال: والعمالقة أولاد عمليق من لاوذ بن بن إرم بن سام بن نوح. قوله: (ولعتوهم اشتق منهم تفرعن الرجل). في الحاشية: يشير به إلى أن الاشتقاق أصله أن يكون من المصادر لا من الأسماء وقل

من الأسماء كهذا. قوله: (وكان فرعون موسى مصعب بن ريان، وقيل: اسمه وليد)، والأشهر في اسمه الثاني، قاله: ابن إسحاق وأكثر المفسرين. قوله: (يسومونكم: يبغونكم)، قيل: المعروف تفسير يسومونكم: يتولونكم ويذيقونكم مع أن يبغونكم متعد إلى واحد فلا يصح أن يفسر به ما عدى إلى المفعولين، لكن قال الراغب: السوم الذهاب في ابتغاء الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والابتغاء وأجرى مجرى الذهاب في قولهم سامت الإبل ومجرى الابتغاء في قولهم: سمته الخسف، ومنه، قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. قوله: (ونصبه على المفعول) أي الثاني. قوله: (بيان ليسومونكم): تبع عبارة الكشاف. وعبارة أبي حيان، بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو قوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} وهي أصوب لأن عطف البيان لا يكون في الأفعال ولا في الجمل، قال ابن هشام في المغني: مما افترق فيه عطف البيان والبدل: أن عطف البيان لا يكون جملة ولا تابعا لجملة، ولا فعلا ولا تابعا لفعل بخلاف البدل. والمفهوم من كلام الشيخ سعد الدين: أنه لم يقصد هنا بالبيان عطف البيان، بل البيان المعنوي، أي التفسير فإنه قال: ويذبحون بيان لقوله: يسومونكم. وهو حال أو

استئناف، وقد حكى القولين مع البدل أبو حيان. وفي الحاشية المشار إليها جعل المصنف يذبحون بيانا وتفسيرا لقوله: يسومونكم، فكأن قائلا قال: فما الذي ساموهم إياه؟ فقال: يذبحون، ويستحيون، إلا أن هذا يعارضه ما في سورة إبراهيم، وهي قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ} والظاهر من حرف العطف المغايرة والواقعة واحدة. ويبعد أن تدخل الواو على المضارع إذا كان حالا مثبتا. وقال أبو حيان: قال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح. قوله: (لأن فرعون رأي في المنام)، أخرج ابن جرير عن السدي، أن فرعون رأى في المنام: أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم عن رؤياه فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على وجهه هلاك مصر. قوله: يسلوككم فيه أو بسبب انجائكم أو ملتبسا بكم). قال الطيبي، والشيخ سعد الدين: يعني أن في الباء ثلاثة أوجه، أولها الاستعانة والتشبيه بالآلة فتكون استعارة تبعية، وثانيها: السببية الباعثة بمنزلة اللام، وثالها: المصاحبة فيكون الظرف مستقراً على هذا وعلى الوجهين لغوا. زاد الطيبي: وفرق بين باء السببية والاستعانة فإن باء الاستعانة

كالآلة وإن البحر فرق بواسطتهم، والسببية أذنت بأن الله تعالى فرقه بسببهم ولأجل انجائهم، لكن ليس فيه أنه فرق بواسطتهم أم لشيء آخر، وعلى الملابسة ليس فيها نصوصية الأمرين. وقال صاحب الانتصاف: يضعف الأول إن آلة التفريق للبحر هي العصا، بدليل قوله تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} قوله: كقوله: تدوس بنا الجماجم والتريبا. هو: للمتنبي، وأوله: كأن خيولنا كانت قديما ... تسقى في فحوفهم الحليبا فمرت غير نافرة عليهم .... تدوس بنا الجماجم والثريبا قال الطيبي: التريب جمع تريبة، وهي عظام الصدر، والعرب تسقى كرام خيولهم اللبن، يقول: كأن خيولنا كانت تسقى اللين في فخوذ رؤس الأعداء فألفتها فهي تطأ رؤوسهم وصدورهم ونحن عليها فلا تنفر. قوله: (أراد به فرعون وقومه) إلى آخره. قلت: الأحسن فيه أنه من باب راكب الناقة طليحان اعتبارا للمضاف والمضاف إليه، لا من باب حذف المعطوف عليه أو المعطوف الذي ذكره المصنف. قوله: (روى أنه تعالى أمر موسى عليه السلام: أن يسري ببنى إسرائيل) الحديث، أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وفيه: فأوحى

الله تعالى إلى موسى، أن قل بعصاك هكذا، فقال موسى بعصاه على الحيطان هكذا فصار فيها كوى أي أشار بها إلى حيطان الماء، قال في الأساس: قال بيده أهوى بها، وقال برأسه: أشار، وقال الحائط: سقط. وقال: وبالجملة: فالعرب تستعمل القول في غير الكلام، وقال في النهاية: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام فتقول: قال بيده أي أخذه وقال برجله، أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه، وقال بالماء على يده، أي قلب، ويقال: قال بمعنى مال وأقبل وضرب، وغير ذلك- والكوى بالكسر جمع كوة بالفتح، كبدرة وبدر، وبالضم جمع كوة. وفي الحاشية المشار إليها العرب تستعمل القول مجازاً في الشروع في الفعل والإشارة إليه قال: ومن عادة الزمخشري ألا يطيل في القصص، ولا يذكر منها إلا ما لابد منه في تفسير الآية، أو ما ثبت في الحديث الصحيح، وإنما ذكر هذه القصة لأن للسلف تأويلين في قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}، أحدهما: وأنتم في حال الانجاء ينظر بعضكم إلى بعض، كما ذكر فى القصة من تشبيك الماء وصيرورته كوى، والثاني: وأنتم بعد أن صعدتم من البحر تنظرون إلى غرفهم. وقال الطيبي: أي ينظرون من النظر بالبصر، والظاهر الإطلاق. قال الراغب: النظر نظران، نظر بصر ونظر بصيرة، والأول كالخادم للثاني، ولما احتملت الآية المعنيين، قيل معناها: وأنتم تشاهدونه ولا تشكون فيه وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}. وقيل معناها:

قوله: (واعدنا)،

وأنتم تعتبرون بذلك. قوله: (لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة) قلت: هذا الذي ذكره من عودهم إلى مصر تبعا لما في الكشاف لا يعرف ولم يرد في شيء من الأخبار أنهم عادوا إلى مصر بعد خروجهم منها، والقرآن ناطق بخلاف ذلك في عدة مواضع، وهو أنهم كانوا بالشام، كقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} فإنها مفسرة بالشام، ولم يأت موسى للميعاد إلا بطور سينا، وهو بالشيء لا بمصر، وقد صرح بما ذكرته الإماء أبو جعفر ابن جرير فقال: قد كتب الله لهم الأرض المقدسة بعد أن أخرجهم من مصر، فلما امتنعوا من قتال الجبارين حرمها عليهم وعاقبهم بالتيه إلى أن دخلها أولادهم مع يوشع، ولم يخبرنا أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجهم منها: قال: فإن قيل، فإن الله تعالى قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} إلى قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} قيل: إن الله أورثهم وملكهم إياها ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام. وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره لم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين بأنهم دخلوا مصر/ بعد خروجهم منها. قوله: (واعدنا)، لأنه تعالى وعده الوحي ووعده موسى الجيء)، قال الشيخ سعد الدين: كثيرا ما يسلك صاحب الكشاف هذه الطريقة أعني جعل تعلق المفاعلة بالنسبة إلى كل من المشاركين شيئا آخر. وقال أبو

حيان: لا يجوز نصب أربعين على الظرف، لأنه ظرف معدود فيلزم وقوع العامل في كل فرد فرد من أجزائه والمواعدة لم تقع كذلك. وقال الطيبي: من فوائد صاحب التقريب في هذا المحل إشكال تقريره أن أربعين إما أن يكون منتصبا على الظرفية أو على المفعولية لظهور بعد غيرهما من المنصوبات أو امتناعه، والأول ممتنع لأن المواعدة لم تكن في أربعين، وكذلك الثاني، لأن المواعدة إنما تتعلق بالأحداث والمعاني، لانفس الحديث والأزمنة ولا جائز أن يقدر مضاف لأنه لو قدر إما أن يقدر المذكور إلى الوحي والمجيء، وهو ممتنع لأن تقدير مضافين إلى شيء واحد حذفا من اللفظ غير معهود في العربية أو أن يقدر أمر واحد منهما أو غيره والأول أيضا ممنوع لأن أحدهما غير مواعد من الظرفين بل كليهما. والثاني غير جائز لأن المنقول ذلك الأمر، على أن المواعدة تقتضي شيئين. وأجاب بأنا نختار الثالث ونقدر أمراً يتضمنهما لتصحيح المعنى واللفظ نحو الملاقات، فإنها تستقيم من الجانبين، واللقاء الموعود من الله لأجل الوحي ومن موسى لأجل المجيء لاستماعه، وغرض المفسرين من ذلك التقدير بيان المعنى، وأن الموعود من كل جانب ماذا؟ لا بيان الإعراب. وقال الشيخ سعد الدين: أربعين في موضع المفعول به باعتبار ما يتعلق بها من الأحوال والأفعال الصالحة لتعليق الوعد به ويكون من الظرفين وعد يتعلق به إلا أنه من الله تعالى الوحي وتنزيل التوراة ومن موسى المجيء والاستماع والقبول وكذلك الكلام في موضع تبين اختلاف الظرفين في باب المفاعلة. وقوله: (ثم اتخذتم العجل إلها:) فيه أمران: الأول: أنهم جعلوا اتخذ مما أبدل فيه الهمزة كما قالوا في ااتمن: أتمن، وكان القياس إبدالها ياء فيقال: ايتخذ. قال أبو حيان: ومن فوائد الشيخ بهاء الدين ابن النحاس: إن اتخذ مما أبدلت فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه

لغة أنه يقال: وخذ بالواو فجاء هذا على الأصل في البدل وإن كان مبنيا على اللغة القليلة وهذا أحسن، لأنهم نصبوا على أن أتمن لغة رديئة وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة وخرجه الفارسي على أن التاء الأولى أصلية، لأن العرب، قالوا: تخذ بكسر الخاء بمعنى اتخذ، قال تعالى: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} الثاني قال أبو حيان: يحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلا، وعلى هذا التقدير يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلها، وأن تكون متعدية إلى اثنين، فيكون المفعول الثاني محذوفا لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ثم اتخذتم العجل إلها. قال: والأول أرجح، إذ لو تعدى في هذه القصة إلى اثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد في نظائره، قال: ويترجح القول الثاني لاستلزام القول الأول حذف جملة، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل. انتهى، والمصنف مشي على الثاني. قوله تعالى {مِنْ بَعْدِهِ}: أي مضيه. قال الشيخ سعد الدين: أن الضمير لموسى والمضاف محذوف، وقال أبو حيان: من تفيد ابتداء الغاية في البعدية التي تلي المواعدة إذ الظاهر عود الضمير على موسى ولا يتصور البعدية في الذات فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدة فلابد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين إلا إن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير: من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ ويبين المهلة قصة الأعراف إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل

كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقب الذهاب إلى الطور فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد فزال التعارض. وقوله: (والعفو محو الجريمة من عفا إذا درس)، ذكر غيره أن العفو بمعنى الترك وبمعنى الدروس، وبمعنى السهولة، وإن العفو عن الذنب يصح رجوعه إلي كل منها، فعلى الأول هو ترك ما يستحق الذنب من العقوبة، وهو ما ذكره الليث وعلى الثاني، وهو محو الذنب، وهو ما ذكره ابن الأنباري وعلى الثالث: هو الإعراض عن المؤاخذة كما يعرض عما يسهل على النفس بذله. قوله: (أي لكي تشكروا عفوه)، إصلاح لما في الكشاف، إذ قال: إرادة أن تشكروا، قال المحسوف: هذا بناء على مذهبه، والذي ألجأه إلى ذلك أن لعل تكون بمعنى الطمع والاشفاق، وكلاهما مستحيل في حق الله، فأوله بالإرادة بناء على مذهبه أن مراد الله تعالى قد يتخلف عن إرادته، وعندنا لا يصح ذلك لأن إرادته تستلزم الوقوع، ولو أراد الله أن يشكروا لشكروا كلهم، ولم يقع ذلك، فيحمل على {وَإِنْ تَشْكُرُوا} أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: عن أبي مالك، قال: لعلكم في القرآن بمعنى كي، غير أية في الشعراء {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}،

قوله: (يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا وحجة)

يعني كأنكم تخلدون. قوله: (يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا وحجة)، إلى آخره. قال الطيبي: يريد أن الكتاب والفرقان عبارتان عن معبر واحد وهو التوراة بعد تأويلها بالصفتين وهو من باب الكناية التي يطلب بها نفس الموصوف نحو قولك: حي مستوى القامة عريض الأظفار، وتريد الإنسان، وأما الواو فهي الداخلة بين الصفات للإعلام باستقلال كل منهما. قوله: (وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام) قال الطيبي: فالعطف إذن إما من باب قولك: ملائكته وجبريل أو من باب التجريد، لأن التوراة مشتملة على الشرع الفارق فجرد منها هذه الصفة لكما لها فيه ثم عطفت عليها، وهي هي. قوله: (بالبخع) بموحدة ثم معجمة ثم مهملة، يقال: بخع الشاة ذبحها، وبخع نفسه أهلكها، ومنه قوله {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} وفي الأساس: إن إطلاقه على المشقة التي هي غير القتل مجاز. قوله: (أو قطع الشهوات)، هذا ذكره بعض أرباب الحواشي، قال جماعة؛ ولا يجوز أن يفسر به، لإجماع المفسرين على أن المراد هنا القتل الحقيقي. قوله: (روى أن الرجل كان يرى) إلى آخره. أخرجه ابن جرير من طرق، عن ابن عباس وغيره. قال الشيخ سعد الدين: الضبابة:

شبه سحابة تغشى الأرض كالدخان. قوله: (والفاء الأولى للسببية)، قال الزمخشري: لا غير قال الطيبي: يعني ليست للعطف، كقولهم: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، وحكاه القطب، فقال: منهم من يخيل من قوله: لا غير، إنها ليست للعطف، وليس كذلك بل هي لهما معا والمعطوف عليه: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ}، لأن كلا منهما مقول قول موسى، انتهى، وكان المصنف حذف قوله: (لا غير) لهذه النكتة: ولم يتعرض المصنف للفاء الثالثة وقد قال القطب والطيبي: إنها فاء الفصيحة، وهي الفاء التي تدل على أن ما بعدها يتعلق بمحذوف هو سبب لما بعدها. قال القطب: فالفاء التي ما قبلها يكون سبب لما بعدها إن كان ما قبلها محذوفا فهي الفصيحة وإلا فهي للسببية. وقال الطيبي: قد سميت فصيحة لأنها تفصح عن محذوف هو سبب لما بعده، والأولى أن علة التسمية اختصاصها بكلام الفصحاء. وفي الحاشية للقطب، في قوله: {انْفَطَرَتْ}: الفاء فصيحية وسميت الفاء فصيحية لأنه يستدل بها على فصاحة المتكلم، يقال: كلام فصيح، وكلمة فصيحة وصفت الفاء بها على الإسناد المجازي، وإنما اختصت بكلام البلغاء لأن المراد بالحذف الدلالة على أن المأمور لم يتوقف عن إتباع الأمر فظهر أثره في الحال وعلى أن المطلوب بالضرب الانفجار لا الضرب ومثل هذا المعنى الدقيق لا يذهب إليه إلا الفصيح. قوله: (والثانية للتعقيب)، قال الطيبي: حمل الفاء على التعقيب يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون قتل أنفسهم عين التوبة، فحينئذ يحتاج

إلى تقدير: فاعزموا على التوبة فاقتلوا لئلا يلزم عطف الشيء على نفسه. وثانيهما: أن يكون قتل أنفسهم تتمة للتوبة، فتكون التوبة مشتملة على القول المتعارف والفعل المخصوص، فيصح العطف بدون التقدير، وقال أبو حيان: جملة فاقتلوا أنفسكم، بدل من قوله: {فَتُوبُوا} إن قلنا إن التوبة هي نفس القتل، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية، وللتعقيب إن قلنا: القتل تمام توبتهم والمعنى: فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم. وفي الحاشية المشار إليها: ذكر صاحب الكشاف في الفاء الثانية وجهين، لا يخلو واحد منهما عن إشكال، الأول: أنه جعل قوله فتوبوا كناية عن إرادة التوبة والعزم عليها، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ}، وهذا وإن كثرت شواهده فهو على خلاف الأصل، والثاني: أنه جعل القتل من تمام التوبة حتى يتم له عطف القتل على التوبة، وهو أيضا مجاز، لأن القتل إذا كان جزءاً من التوبة فالواقع قبلها ليس بتوبة وإنما هو جزء توبة. فحاصل الوجهين: أن قوله فتوبوا مجاز، إما من باب التعبير بالمسبب عن السبب، وإما من باب التعبير عن الجزء بالكل، قال: ويحتمل أن يقال: إن هذه الفاء جاءت في كتاب الله وفي كلام الفصحاء لا تدل على تعقيب، بل تأتي كالتفسير لما أجمل أولا والتبيين لكيفية وقوعه، فمن ذلك هذه الآية فإن القتل كان نفس التوبة، ومنه: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، وتقول: قام فلان فأحسن

وخطب فأوجز، وأعطى فأجزل، والتعقيب ممتنع في هذه الأمثلة. قوله: ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، متعلق بمحذوف) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: الفاء الثالثة تحتمل وجهين، أحدهما أن تكون جزاء شرط محذوف، أي إن فعلتم فقد تاب عليكم، وأتى بلفظ قد ليصح دخول الفاء، وإنما انتظم في قوله لأنه لا معنى أن يقول الله لهم: إن فعلتم فقد تاب عليكم، وثانيهما أن تكون عطفا على محذوف أي إن فعلتم فتاب عليكم، ويكون خطابا من الله لهم على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، حيث عبر عنهم بطريق الغيبة بلفظ قومه. وهذا مع وضوحه قد خفي على كثيرين حتى توهموا أن المراد الالتفات من التكلم إلى الغيبة في فتاب، حيث لم يقل: فتبنا. انتهى. وأشار بهذا الأخير إلى الطيبي، فإنه قرر ذلك، فقال: أي قال لكم موسى توبوا إلى بارئكم فتبنا عليكم، قال: فإن قلت: من أين نشأ الالتفات؟ وكيف موقعه؟ قلت: من قوله: وإذ قال موسى لقومه، يعني أذكروا يابني إسرائيل وقت قول موسى لقومه: فتوبوا إلى بارئكم فامتثلتم أمره فتبتم فتبنا عليكم، فرجع إلى الغيبة، وفي الحاشية المشار إليها ما ذكره الزمخشري على الوجه الأول من تعلقه بشرط محذوف فيه إشكال، فإن الفعل الماضي إذا وقع جوابا للشرط ولم يقدر الجواب محذوفا لم يجز دخول الفاء إلا مع قد كقوله: من فعل فقد أحسن، ولا يصح أن يقال: من فعل فأحسن. وقال أبو حيان: قوله فتاب عليكم، لابد فيه من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم، وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو إذ في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، قال: وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجا تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة هي وحرف

قوله: (استعيرت للمعاينة)

الشرط قال: وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه، وأما فعل الشرط وحده دون الأداة، فيجوز حذفه إذا كان منفيا بلا في الكلام الفصيح، وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معا وإبقاء الجواب فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وقال السفاقسي: فقد أجازه الفارسي في الحجة في قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}، قال: الفاء جزاء لا عاطفة، أي إذا حبستموهما أقسما. قوله: (استعيرت للمعاينة) قال الطيبي: وفائدتها كمال الرؤية بحيث لا يضام فيها، وفي الحاشية المشار إليها: الجهر حقيقة في القول، واستعماله في رؤية العين مجاز، والمخافتة حقيقة في الصوت الخفي وتستعمل في رؤية القلب مجازا، الراغب: الجهر يقال لظهور الشيء بإفراط، إما بحاسة البصر نحو رأيته جهارا، {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ومنه جهر البئر إذا ظهر ماءها، والجوهر: فوعل منه سمى بذلك لظهوره للحاسة، وإما بحاسة السمع، قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ}. قوله: (أو الحال من الفاعل) قال أبو حيان: على تقدير الحذف أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية، لا على طريق المبالغة، نحو رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا. قوله: (قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم)، أخرجه ابن جرير

عن السدي. قوله: (وقيل: صيحة) أخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس. قوله: (والسماني) بتخفيف الميم والقصر وألفه للالحاق وواحده سماناه. قوله: (وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعمة)، قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة ما ظلمونا على هذا المحذوف أنه نفى بطريق العطف تعليق الظلم بمفعول وأثبته بمفعول آخر، وهذا يقتضي سابقة إثبات أصل الظلم. وقال الطيبي: يريد أن الواو في {وَمَا ظَلَمُونَا} تستدعي معطوفا عليه هو مرتب على ما قبله كقوله تعالى: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ}، بعد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}، قدر فيه: فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ}، والفاء في فظلموا بها مجاز لغير الترتيب، على أسلوب قولك: أنعمت عليه فكفر أي ليشكر فكفر وضعوا الكفر موضع الشكر فظلموا ونحوه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}، أي شكر رزق ربكم أنكم تكذبون، وإنما قال: فظلموا بأن كفروا هذه النعمة ولم يقل: فظلموا بأن لم يمتثلوا الأمر، لأنهم امتثلوا الأمر وهو الأكل، لكن ما عملوا بمقضاه أي الشكر. قوله: (أريحا)، قال في النهاية: بفتح الهمزة وكسر الراء والحاء

المهملة، اسم قرية بالغور قريبة من بيت المقدس. قوله: (أو أمرك حطة)، قال الطيبي: أي: شأنك حط الذنوب. قوله: (وقيل معناه: أمرنا حطة) أي: أن نحط في هذه القرية ونقيم بها. قال الإمام: هذا قول أبي مسلم وزيف بأنه لو كان المراد ذلك، لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به، والآية دلت على أن غفران خطاياهم كان لأجل قولهم: حطة، قال الإمام: ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجداً مع التواضع كان الغفران متعلقا به. قال الطيبي: ويشكل بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ويمكن أن يقال: أن الأمر بذلك القول لمحض التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه بما اتجه لهم من الرأي فعذبوا لذلك. قوله: (قرأ نافع بالياء وابن عامر بها): صوابه: وابن عامر بالتاء الفوقية. وعندي أن هذا تحريف من الناسخ والمصنف

قوله: (أو على أنه مفعول قولوا)

منزه عن ذلك. قوله: (أو على أنه مفعول قولوا)، أي: قولوا هذه الكلمة. قال أبو حيان: هذا ليس بجائز، لأن القول لا يعمل في المفردات إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به إلا إن كان المفرد مصدراً، نحو قلت قولا، أو صفة لمصدر، نحو قلت حقا، أو معبرا به عن جملة نحو قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحدا من هذه، ولأنك إذا قلت حطة منصوبة بلفظ قولوا: فإن ذلك من الإسناد اللفظي لا المعنوي، وإذا كان من اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلا إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ لا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع للدلالة على معنى، ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى، انتهى. قوله: (وأخرجه على صورة الجواب) إلى آخره، هو جواب سؤال مقدر، أي: كيف عطف وسنزيد على نغفر، وهو مجزوم، قال الطيبي: أراد أن الزيادة إذا كانت من وعد الله كانت أعظم مما إذا كانت مسببة عن فعلهم. قوله: (بدلوا بما أمروا به) ألى آخره. لم يذكر اللفظ الذي قالوه بدله. قد أخرج الشيخان من حديث أبي

هريرة مرفوعا، إنهم قالوا: حبة في شعرة وفي رواية في شعيرة، وأخرج الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود، أنهم قالوا: هطى سمقا يا زيد وزبا، وهي بالعربية: حنطة حمراء قوية فيها شعرة سوداء. وأخرج ابن جرير عنه، إنهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. وأخرج الحاكم عن ابن عباس، إنهم، قالوا: حنطة. والحاصل، إنهم عدلوا إلى لفظ حنطة عن لفظ حطة استهزاء بها، فأخرج ابن جرير عن ابن زيد، أنهم قالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا [إلا لعب بنا] حطة حطة، أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض حنطة. قوله: (والرجز في الأصل ما يعاف عنه)، الراغب: أصل الرجز الاضطراب ومنه رجز البعير إذا تقارب خطوه، والرجز هنا الزلزلة، وقال غيره: أصله تتابع الحركات، والرجز العذاب المقلق بشدته قلقلة شديدة متتابعة شديدة. قوله: وقرئ بالضم، وهي لغة فيه، زاد غيره: إنها لغة بني الصعدات. قوله: (والمراد به الطاعون)، أخرجه ابن جرير عن ابن زيد وأورد فيه حديث الطاعون، رجزا نزل على من كان قبلكم، ثم أخرج

عن ابن عباس، إن كل شيء في القرآن من الرجز يعني به العذاب. قوله: (الأدرة) بالضم انتفاخ الخصية. قوله: من آس الجنة، بالمد، يخالفه ما أخرجه ابن المنذر، عن ابن عباس، أنها كانت من عوسج، وأخرج مثله عن الحكم. قوله: (متعلق بمحذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت) تابع فيه الزمخشري، وقال أبو حيان: تقدم الرد عليه في هذا التقدير في فتاب عليكم، بأن إضمار هذا الشرط لا يجوز، وفي قوله أيضا إضمار قد إذ يقدر (فقد تاب عليكم)، فقد انفجرت ولا يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكوك بغير فاء أو إن دخلت الفاء فلابد من إظهار قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضيا لفظا ومعنى. نحو: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ}، وإذا كان ماضيا لفظا ومعنى: استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب الشرط، ومعلوم أن الانفجار على ما قدر يكون مرتبا على أن يضرب، وإذا كان مرتبا على مستقبل وجب أن يكون مستقبلا، فإذا كان مستقبلا امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها ألا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضيا، نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إلي فقد أحسنت إليك ويحتاج إلى تأويل كما ذكرنا، وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي، نحو: إن زرتني فغفر الله لك، وأيضا فالذي يفهم من الآية: أن الإنفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا

وَاشْرَبُوا} وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه يجعله غير واقع إذ يصير مستقبلا لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلا عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، فاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه. فالفاء إذا إنما هي للعطف على جملة محذوفة، أي فضرب فانفجرت، لقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}، أي: فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجوب الانفجار مرتبا على ضربه، إذ لو كان ينفجر بدون ضرب ما كان للأمر فائدة، ولكان تركه عصيانا، وهو لا يجوز على الأنبياء. انتهى. وقال الحلبي في الجواب: كأنه، يعني الزمخشري، يريد تفسير المعنى، لا الإعراب. وقال السفاقسي: أما حذف الشرط وفعله: فقد تقدم. وقد يقال هنا: أنه ليس من هذا القبيل لتقدم الأمر المضمن معنى الشرط، وهو قوله: إضرب، وأما فساد المعنى والتركيب فممنوع وهو مثل قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}، وقد قال ابن الضائع: وتقول: إن قام زيد فقد قام عمرو أمس، وهذا ليس بجواب في الحقيقة، إذ لا يتقدم المسبب على سببه وإنما الجواب محذوف، تقول: إن جنتنى فقد أعطيتك فهو مما استغنى فيه بالسبب عن مسببه، وهو كثير. قال السفاقسي: والتقدير في الإثنين على هذا النحو أي إن كذبوك فلا تأس؛ لأنه قد كذبت، أو فاصبر وإن ضربت بسيف أو لم يذكر، ونحوه، قد انفجرت، أو قدر واقعا لتحقيقه، قال: والحق أن فيه تكلفا وتعسفا،

ولكنه لا ينتهي إلى فساد المعنى والتركيب. وقال ابن هشام في المغني: بعد ذكره. إن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب؛ إلا أن قيل: المراد فقد حكمنا بترتيب الانفجار على ضربك. قوله: (يريد ما رزقهم من المن والسلوى وماء العيون) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: جعل الرزق بمعنى المرزوق ووصله إلى الطعام نظراً إلى كلوا أو إلى الماء نظراً إلى إشربوا، ولا قرينة على الأول، إلا أن يلاحظ ما سبق من قصد تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى ولعدم التعرض لذلك في هذه القصة فسر بعضهم الرزق بالماء وجعله مما يؤكل بالنظر إلى ما ينبت منه ومشروبا بحسب نفسه، ولم يرتضه المصنف، أما أولاً، فلأنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء وثماره. وأما ثانيا: فلأنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يندفع بكون من للابتداء، دون البعضية لأن ابتداء الأكل ليس من الماء بل مما ينبت منه بل الجواب أن من لا تتعلق بالفعلين جميعا وإنما هي على الحذف، أي كلوا من رزق الله وأشربوا من رزق الله فلا جمع، انتهى، وقال أبو حيان: من رزق الله متعلق باشربوا، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة، إذ لو كان من إعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكان يكون كلوا واشربوا منه، من رزق الله، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة، انتهي. قوله: (وإنما قيده؛ لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد) إلى آخره. قال الطيبي: هذا الذي قال القاضي المقام ناب عنه؛ لأن الآية واردة في قوم مخصوصين. فالصواب: أن مفسدين حال مؤكدة، وهو الذي ذكره أبو البقاء، وقال الشيخ أكمل الدين: قيل:

جعل المفسدين حالاً مؤكدة فاسد، وذكر نحوه الشيخ سعد الدين. قوله: أجموا بكسر الجيم، يقال: أجمت الطعام إذا كرهته من المداومة عليه. قوله: (كانوا فلاحة) قال الطيبي: أي: أهل زراعات، فنزعوا إلى عكرهم أي: اشتاقوا إلى أصلهم، وقيل: العكر العادة والديدن. قوله: (تفسير وبيان وقع موقع الحال)، عبارة أبي البقاء (من) في بقلها لبيان الجنس وموضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف وتقديره: مما تنبته الأرض كائنا من بقلها. قوله: (وقيل: بدل بإعادة الجار). قال أبو حيان: فمن، على هذا التقدير تبعيضية كهي في {مِمَّا تُنْبِتُ}، ولا يمكن كونها حينئذ لبيان الجنس لأن اختلاف مدلود الحرفين يمنع البدل كاختلاف الحرفين قال: والمختار، كون (من) في الموضعين للتبعيض، وأن الثانية بدل من الأولى. قوله: (يقال هبط الوادي) إلى آخره. في الحاشية المشار إليها: يشير به إلى أن هبط لا يختص بالنزول من المكان العالي، بل قد تستعمل في الخروج من أرض إلى أرض مساوية لها، وإلى أرض أعلى كما في هبط من الوادي، قوله: (وإنما صرفه لسكون وسطه) أي: كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين بخفة الاسم لسكون وسطه.

قوله: (أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط)

قوله: (أو على تأويل البلد)، قال أبو حيان: أي ذهب باللفظ مذهب المكان والبلد لا الأرضية فذكره، فبقي فيه سبب واحد فانصرف. قوله: (وقيل: أصله مصرايم فعرب)، قال الشيخ سعد الدين: وإنما جاز الصرف على هذا لعدم الاعتداد/ بالعجمة لوجود التعريب والتصرف. قوله: (أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط)، قال الطيبي: أي الاستعارة إما أن تكون في الذلة بأن شبهت الذلة بالقبة المضروبة على شيء شاملة له من كل جانب، ثم بولغ في التشبيه فحذف المشبه به، وأقيم المشبه مقامه فأثبت لها الضرب على طريق التخييلية، فتكون استعارة مكنية وإما أن يكون في الفعل، وهو ضربت فاستعير لمعنى ألصقت على سنن التبعية فتكون مصرحة، وقال الشيخ سعد الدين: أي أن في الذلة استعارة بالكناية، حيث شبهت بالقبة أو بالطين، وضربت استعارة تبعية تحقيقية بمعنى الإحاطة والشمول بهم أو اللزوم واللصوق، ولا تخييلية وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، فما يقال: المراد الاستعارة إما في الذلة تشبيها بالقبة، فهي مكنية، وإثبات الضرب تخييل وإما في الفعل، أعني ضربت، تشبيها لإلصاق الذلة ولزومها بضرب الطين على الحائط فتكون تصريحية تبعية، مما لا يرتضيه علماء البيان.

قوله: (رجعوا به أو صاروا أحقاء بغضبه)، قال أبو حيان: الباء على الأول للحال، وعلى الثاني: صلة، فعلى الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني: لا تتعلق. قوله: (وأصل البوء)، يجوز فيه فتح الباء وضمها، فكلاهما مصدر رباء. قوله: (ونظيره في الضمير قول رؤبة. يصف بقرة: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق) التوليع: إختلاف الألوان والبهق بياض وسواد يظهر في الجلد، روى أن أبا عبيدة قال لرؤيه: إن أردت الخطوط فقل: كأنها، أو السواد والبلق، فقل كأنهما، فقال: أردت كان ذلك، ويلك. انتهى، وأول هذه الأرجوزة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق .... مشتبه الأعلام لماع الخفق يكل وفد الريح من حيث انخرق .... شأز بمن عوه جدب المنطلق ناء من التصبيح تأى المغتبق .... تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في قطع الآل وهبوات الدقق ..... خارجة أعناقها من معتنق تنشطته كل مغلاة الوهق .... مضبورة قرواءهر جاب فنق مائرة العضدين مصلاة العنق .... مسودة الأعطاف من وسم العرق

إذا الدليل استاف أخلاق الطرق .... كأنها حقباء بلقاء الزلق قود ثمان مثل أمراس الأبق .... فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق .... يحسبن شاما أو رقاعا من نبق فوق الكلى من دائرات المنطق. قال ابن دريد في شرح ديوان رؤبة: إنما يريد أتانا لأن هذه الصفة صفة أتان. قوله: (سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل) قلت: أخرج ابن جرير عن ابن جريج، قال: إنما سميت اليهود من أجل قولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}. قوله: (والياء في نصراني، للمبالغة كما في أحمري)، قال الشيخ سعد الدين: وذلك للدلالة على أنه منسوب إلى ذلك عريق فيه لا مجرد موصوف بالحمرة، وفي الصحاح: لم يستعمل نصرانى إلا بياء النسب، ويقال: نصران، قرية بالشام نسبت إليها النصارى. قوله: (سموا بذلك، لأنهم نصروا المسيح)، في الحاشية المشار إليها: ليس هذا خارجا عن قواعد الاشتقاق، فإنه يقال: لواحدهم: ناصر

، وفاعل لا يجمع على فعالي، بل على فاعلين كعاقلين، أو فعل كركع. أو فعلة ككتبة أو فعل كركب وتجر، وليس من صيغ جمعه فعالي، قال: وكذا قول من قال: إنهم سموا به لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة، من عمل بيت المقدس، ومنها ظهر أمر عيسى فإن: هذا الاشتقاق أيضا بعيد، فإن قياس النسبة إليه: ناصرى، والجمع ناصرون، قال: ولو قيل: إنه اسم جامد غير مشتق يخلص القائل من هذه الأمثلة، قلت: هذا القول الثاني، أخرجه ابن جرير بسند ضعيف، عن ابن عباس، قال: إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة، وأخرج عن قتادة مثله، ويجاب عما اعترض به بأن هذا من شواذ النسبة التي جاءت على غير القياس، كقولهم: لحياني ورقباني ورازي، ودراوردي، ومروزي. قوله: (فمن صبا إذا خرج)، وقرأ نافع وحده بالباء إما لأنه خفف الهمزة أو لأنه من صبا إذا مال. في الحاشية المشار إليها: حاصله: أن من قرأ الصابئين بالهمزة فهو من صبا إذا خرج، يقال: صبأت النجوم إذا طلعت، ومن قرأ الصابيون بلا همزة فله وجهان أحدهما: إنه أراد الهمزة وحذفها تحفيفا، والثاني: إنه من صبا يصبو فهو صاب إذا مال وجمعه صابون. ومثله داعون، قال: ولهذه المسئلة نظيران، أحدهما، النبي، من همزه جعله مشتقا من النبأ، وهو الخبر، ومن لم يهمزه فله وجهان أحدهما أنه تخفيف من النبأ والثاني: أنه من نبا ينبو إذا أرتفع. النظير الثاني: البرية، فمن همزها فهي الخليقة من برأ الله والله الباري ومن لم يهمزها، فله وجهان، أحدهما أنه تخفيف من برا إذا خلق، والثاني: إنه

مشتق من البرا وهو التراب. قوله: (ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم، والجملة خبر إن، أو بدل من اسم إن: وخبرها فلهم أجرهم)، قال أبو حيان: إتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله: {مَنْ آمَنَ} في موضع خبر إن، إذا كان من مبتدأ، وإن الرابطة محذوف، تقديره، من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني الذي هو صلة الذين والذي هو صلة من، إما في التعلق أو في الزمان أو في الإنشاء والاستدامة. وأما إذا لم يتغاير فلا يتم ذلك لأنه يصير المعنى، إن الذين أمنوا من آمن منهم ومن كانوا مؤمنين، لا يقال من أمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين، وأعربوا أيضا (من) بدلا، فتكون منصوبة، موصولة، قالوا: وهي بدل من اسم إن قال: ومن أعربها مبتدأ فإنما جعلها شرطية ويحتمل أن تكون موصولة، فإذا كانت شرطية فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة فالخبر قوله: (فلهم أجرهم)، قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعدها ولا يتم ذلك أيضا إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، قال: والذي نختاره إنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن فيصح إذ ذاك المعنى: وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير هذه الأصناف الثلاثة ومن آمن من الأصناف الثلاثة، (فلهم أجرهم). انتهى. وقال الشيخ سعد الدين: ما ذكره من كون (من) مبتدأ خبره فلهم؛ يشعر بأنه جعلها موصولة، إذ الشرطية خبرها الشرط مع الجزاء لا الجزاء وحده. قوله: (روى أن موسى لما جاءهم بالتوراة فرأو ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم)، إلى أخره. أخرجه ابن أبي حاتم، عن اين عباس. قوله: (ويجوز عند المعتزلة أن يتعلق بالقول المحذوف، أي: قلنا

قوله: (اللام موطئة للقسم)

: خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا)، قال الطيبي: الحاصل، أن لعلكم إذا كانت تعليلا، لقوله: خذوا واذكروا، كان على حقيقته لأنه راجع إليهم، وإذا علق بقلنا المقدر يكون تعليلا لفعل الله، فيجب تعليله بالإرادة على مذهبهم. قوله: (أعرضتم عن الوفاء)، في الحاشية: التولي حقيقة في الإعراض بالجسد، وأن يستدبرك الشخص بعد إقباله عليك، والمراد هنا المجاز، وهو الإعراض عن الطاعة والقبول. قوله: (اللام موطئة للقسم)، قال أبو حيان: في لقد، لام الابتداء، في نحو لزيد قائم، ويحتمل أن يكون جوابا لقسم محذوف، ويكون قد أقسم على أنهم علموا الذين اعتدوا. قوله: (والسبت، مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت يوم السبت)، قال القطب: فسره بالمصدر، لأن المنهي عنه الاعتداء فيه. لا الاعتداء على شيء في يوم السبت، وفي الحاشية يريد أنهم اعتدوا في التعظيم ولم يقوموا بحقه، وليس المراد نفي ظرفية الزمان، وهم وإن كان اعتداؤهم واقعا في ذلك اليوم فليس المراد إلا أنهم اعتدوا في ذلك التعظيم الذي أمروا به في ذلك اليوم فيتجاوزوا حدوده، وقال الحلبي: فيه نظر فإن هذا اللفظ موجود واشتقاقه مذكور في لسان العرب، قبل: فعل اليهود ذلك، اللهم إلا أن يريد هذا السبت الخاص المذكور في هذه الآية. قلت: لا وجه لهذا النظر كما لا يخفي ثم قوله: إن هذا الاشتقاق موجود في لسان العرب قبل فعل اليهود ذلك محل توقف فإن فعل اليهود من زمن موسى، وهو قبل انتشار لغة العرب، وفشو الاشتقاق فيها بدهر طويل فما أطلقت العرب السبت على مصدر سبتت اليهود إلا بعد فعلهم له بلا شك بل نفس تسمية العرب اليوم بالسبت وسائر الأيام بأسمائها المتداولة الآن متأخر عن زمن عيسى، فضلا عن موسى، وما كانوا، أعني العرب يسمون السبت إلا شيارا وكذا سائر الأيام كان لها في اللغة

العربية القديمة إسما غير هذه قال الشاعر في أسماء الأيام السبعة على اللغة القديمة: أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار أو لتالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار هذه أسماء أيام الأسبوع على الترتيب، ذكر ذلك الفراء في كتاب الأيام والليالي، وخلائق أخرهم أبو حيان في تذكرته، وقد بسطت ذلك في كتاب المزهر. قوله: (جامعين بين صورتي القرد والخسوء وهو الصغار والطرد، قال الحلبي: هذا التقدير بناء على أن الخبر لا يتعدد، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب (هذا حلو حامض). قوله: (قال مجاهد: ما مسخت صورتهم، ولكن قلوبهم)، أخرجه ابن جرير عنه، وقال إنه قول مخالف لظاهر القرآن والأحاديث والآثار المستفيضة، وإجماع المفسرين. قوله: (فجعلتا، أي: المسخة أو العقوبة)، قال أبو حيان: الظاهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من كونوا، أي: فجعلنا كينونتهم قردة. قوله: (من الأمم)، قال الشيخ سعد الدين: بيان لما بين يديها وما خلفها على استعارتهما للزمان وإقامة ما موقع من تحقيرا لشأنهم في مقام العظمة والكبرياء، ويعنى بما قبلها السابقين الذين مضوا وكان في كتبهم

أنه تكون تلك المسخة فاعتبروا بها، وصح ألفا، لأن جعلها نكالاً للفريقين جميعا، إنما تحقق بعد القول والمسخ. قوله: (وقصته أنه كان فيها شيخ فقتل إبنه بنو أخيه طمعا في ميراته) إلى اخره. أخرج هذه القصة ابن جرير، وغيره، مطولة، ومختصرة من طرق عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وغيرهم، وفيها: أن الشيخ قتله ابن أخيه خلاف قول المصنف كالكشاف أن ابنه هو المقتول، وقد نبه القطب والطيبي على وهمه، قال الطيبي: قوله في آخر القصة: ولم يورث قاتل بعد ذلك يدل عليه، لأن المورث الأب لا ابنه المقتول، ولأن قاتل الابن لا يمنع الإرث من الأب بلا خلاف. قوله: (مكان هزو وأهله أو مهزوءا ينا أو الهزء نفسه) قال الطيبي: أي: أن هزءا مصدر، لا يصلح أن يقع مفعولاً ثانيا؛ لأنه على تأويل خبر المبتدأ فيقدر المضاف فهو إما على مكان هزء أو أهل هزء أو يجعل الهزء بمعنى المهزوء به، تسمية للمفعول به بالمصدر، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أي: مصيدة أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة، نحو رجل عدل، ولخصه الشيخ سعد الدين، فقال: إشارة إلى أن اتخذ يتعدى إلى مفعولين هما المبتدأ والخبر كجعل وصير، فوقع المصدر خبراً عن الجماعة فاحتاج إلى التأويل بالحذف أو التجوز في المفرد أو في الحكم. قوله: (لأن الهزء في مثل ذلك جهل وسفه)، في الحاشية يشير إلى أن المزاح والهزل اليسير في غير الفتاوى والوقائع العظيمة مسموح به، وأما في مثل هذه الواقعة فهو سفه وعبث.

قوله: (نفى عن نفسه ما رمى به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له) قال الطيبي: عني/ بقوله: طريقة البرهان، طريقة الكناية، حيث نفى عن نفسه أن يكون داخلا في زمرة الجاهلين وواحداً منهم وتمم المبالغة بالاستعادة، أي: أن الهزء في مقام الإرشاد كاد أن يكون كفراً فصحت الاستعاذة منه، فالمطابقة بين جواب موسى وبين كلامهم من حيث المعنى. قوله: (وكان حقه أن يقولوا: أي بقرة هي)؟ إلى أخره. قال الطيبي: يعني ما هي يسأل به عن الجنس وحقيقة الشيء وحقيقة البقرة: غير مسئول عنها، لأن الضمير راجع إلى البقرة المذكورة وهي بقرة فذة مبهمة فامتنع السؤال عن حقيقتها فرجع إلى صفاتها ثم إلى أقربها من الحقيقة وما تمتاز بها عن سائر أنواعها، كأنها صارت حقيقة أخرى على منوال. قوله: (فإن تفق الأنام وأنت منه .... فإن المسك بعض دم الغزال) وقال القطب: لما كان المراد السؤال عن الصفة كان حقه أن يقال: أي بقرة؟ أو كيف هي؟ فإن (ما هي) سؤال عن حقيقة الشيء، لكنهم لما سمعوا اتصافها بهذه الصفات العجيبة الشأن ولم يعرفوا من جنس البقر ما هو موصوف بهذه الصفة فكأنهم لم يعرفوا حقيقتها فأوردوا العبارة السائلة، عن حقيقتها وإن أرادوا صفتها، فلهذا حسن في الجواب ذكر

قوله: (والمروى عنه عليه السلام)

الصفات. قوله: (نواعم بين أبكار وعون) هو: للطرماح. وأوله. (طوال مشل أعناق الهوادي وقبله: ظعانن كنت أعهدهن قدما ... وهن لذى الأمانة غير خون حسان مواضع النقب الأعالي .... غراث الوشح صامئة اليرين ظعائن، جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، وغراثي الوشاح كناية عن الهيفاء أي: رقيقة الخصر. وقوله: صامنة اليرين، كناية عن غلظ ساقها والبرين جمع برة، الخلخال، ومشل موضع الشلل من شللت الثوب، إذا خطته، وطوله: كناية على طول العنق، والهوادي جمع الهادي وهو العنق، فإضافة الأعناق إليه إضافة الشيء إلى نفسه، والناعمة اللذيذة اللينة وعون جمع عوان، وهي المرأة بين الحديثة والمسنة. قوله: (والمروى عنه عليه السلام): لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم)، أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا ومرسلا، وأخرجه، ابن جرير بسند صحيح، عن ابن عباس موقوفا.

قوله: (أي: ما يؤمروا به، بمعنى يؤمرون به)، من قوله: ((أمرتك الخير فافعل ما أمرت به)) (أو أمركم بمعنى مأموركم)، في الحاشية المشار إليها: حاصلة: أن (ما) في يؤمرون، إما موصولة، أو مصدرية وعلى كل واحد منهما سؤال، فعلى الموصولة، كيف جاز حذف الجار والمجرور من الصلة؟ والجواب: أن أمر تتعدى بنفسها، تقول: أمرتك الخير، وحينئذ، فالأصل ما يؤمرونه، فالمحذوف الضمير وحده، كما في: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}. أي: بعثه الله. وعلى المصدرية، يكون التقدير: افعلوا أمركم، والأمر لا يفعل، وإنما يفعل المأمور به؟ والجواب: إن المصدر يطلق ويراد به المفعول، فهو معنى قوله: أو أمركم بمعنى مأموركم، وقال الشيخ سعد الدين: يتوهم من قوله: ما يؤمرونه/ بمعنى ما يؤمرون به: أن المراد إنه مثل (لا تجزى نفس عن نفس شيئا) في حذف الجار والمجرور دفعة أو تدريجا، أو أنه/ قبيل التدريج، حيث حذف الباء أولا ثم الضمير، والظاهر من العبارة أنه من قبيل حذف المنصوب من أول الأمر، لأن حذف الجار قد شاع في هذا الفعل، وكثر استعمال أمرته كذا حتى لحقت بالأفعال المتعدية إلى المفعولين، وصار ما يؤمرون، في تقدير تؤمرونه، وكذا جعل يؤمرون به هو المعنى دون التقدير، وأما جعل ما مصدرية، والمصدر بمعنى المفعول أي المأمور بمعنى المأمور به فقليل جداً، وإنما كثر في صيغة المصدر، وقال أبو حيان: ما هنا موصولة والعائد محذوف تقديره: ما تؤمرونه. وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون

المصدر بمعنى المفعول أي مأموركم وفيه، بعد، انتهى. وأما البيت فيأتي الكلام عليه في سورة. قوله: (وعن الحسن، سوداء شديدة السواد)، أخرجه ابن جرير. قوله: (قال الأعشى): تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب هو من قصيدته يمدح قيس بن معدي كرب، وتلك مبتدأ وخيلي خبر، ومنه حال أي: حاصلة من الممددح، والركاب الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وأولادها فاعل صفر أي: سود، ويمكن أن يكون هن صفر جملة، وأولادها كالزبيب، جملة أخرى، أي خيلي وإبلي سود وأولادها سود. قوله: (وفيه نظر، لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع)، قال الطيبي: الجواب ما جاء عن الزجاج، هذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قال بعضهم: صفراء ههنا سوداء، قال الطيبي: لأن الصفراء إذا أكدت بالفقوع تدل على خلوص الصفرة فيها، ثم إذا روعي معنى الإسناد المجازي معها دل على أن المراد بذلك التأكيد: المبالغة في الصفرة لا الخلوص فيها، فدلت هاتان المبالغتان على أنها بلغت الغاية في بابها وكل لون إذا قوي واشتد أخذ بالعين كالسواد، ولهذا وصفت

الخضرة إذا قويت بالادهام. قوله: (وفي الحديث، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد). قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه. قلت: أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير، عن ابن حريج مرفوعا معضلا، وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور عن عكرمة مرفوعا مرسلا، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة مرفوعا موصولاً، قال الشيخ سعد الدين: قوله: (لو لم يستثنوا لما بينت لهم) أي: البقرة، يؤكد المعنى إنا لمهتدون إلى البقرة وكلمة إن شاء الله تسمى استثناء لصرفها الكلام عن الجزم وعن الثبوت في الحال من حيث التعليق بما لا يعلمه إلا الله. وأخر الأبد، كناية عن المبالغة في التأبيد، والمعنى إلى الأبد الذي هو آخر الأوقات. قوله: (لم تذلل للكراب)، في الصحاح: كربت الأرض قلبتها للحرث، ويقال في المثل: الكراب على البقر. قوله: (ولا ذلول، صفة أخرى، بمعنى غير ذلول). قال أبو حيان: على أنه من الوصف والمفرد، قال: ومن قال، هو من الوصف بالجملة، وإن التقدير لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب، وقال الشيخ سعد الدين: أشار إلى أن (لا) بمعنى غير فكأنها اسم على ما صرح به السخاوي، لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها، ويحتمل أن يكون حرفا كما تجعل إلا بمعنى غير، في مثل:

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، مع أنه لا قائل باسميتها. قوله: (ولا الثانية، مزيدة لتأكيد الأولى)، قال الشيخ سعد الدين: الثانية حرف زيدت لتأكيد النفي، والتأكيد لا ينافي الزيادة على أنه يفيد التصريح بعموم النفي، إذ بدونها ربما يحمل اللفظ على نفي الاجتماع، ولهذا سمى (لا) المذكورة للنفي. قال أبو حيان: ذكر الزمخشري، أن لا الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتأكيد الأولى ووافقه على جعل لا الثانية زايدة صاحب المنتخب. قال: وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: (لا ذلول)، صفة منفية، بلا، وإذا كان الوصف قد نفى بلا لزم تكرار لا النافية لما دخلت عليه تقول: مررت برجل لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى: {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}، {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}، {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ}، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي إلا إن ورد في ضرورة شعر فإذا آل تقديرهما إلى (لا ذلول مثيرة وساقية) كان غير جائز: لما ذكرناه من وجوب تكرار لا، وعلى ما قدراه. كان نظير جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز، انتهى.

قوله: (أي تحقيقه وصف البقرة)

قوله: (أي تحقيقه وصف البقرة)، قال الطيبي: أي لم يتضمن قولهم بالحق إنما جاء به من قبل كان باطلا، وإنما أرادوا، الأن جئت بما يحقق لنا المراد منها. قوله: (مظهره لا محالة)، قال الطيبي: دل بناء اسم الفاعل وهو مخرج على المبتدأ على الثبات وتوكيد الحكم. قال القطب: وفسر الإخراج بالإظهار لأنه في مقابلة الكتم. قوله: (بالعجب)، هو العظم بين الإليتين وأصل الذنب. وهو أول ما يخلق وأخر ما يخلق. قوله: (روى عن عمر أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار) أخرجه أبو داود. قوله: وقساوة القلب، مثل في تبوه عن الاعتبار، قال القطب: أي استعارة تمثيلية، شبهت حال قلوبهم في نبوها عن الاعتبار وعدم تأثرها من الآيات بحال الحجارة وهي القسوة، ثم استعير لها هذه الصفة. قال: ولو قلنا في قلوبهم، استعارة بالكناية ونسبة القسوة إليها قرينتها، كان أنسب، بقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}. قوله: (وثم لاستبعاد القسوة): قال القطب: يعني ثم موضعه للتراخي في الزمان، ولا تراخي هنا إذ قسوة قلوبهم في الحال لا بعد زمان، فهي محمولة على الاستبعاد مجازاً أي تبعد عن العاقل قسوة القلب

بعد ظهور تلك الآية العظيمة، قال: ومنهم من حمل الاستبعاد على التباعد في المرتبة، وليس بذاك. فإن معناه أن مدخول ثم أعلى كما في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} والمراد هنا، أن مدخولها بعيد عن الوقوع. انتهى. وقال أبو حيان: إنما يستفاد الاستبعاد من الجملة المتقدمة عليها المقتضية استبعاد ما بعدها. قال السفاقسي: كلامه لا يقتضي أن مطلق العطف بثم يقتضي الاستبعاد، بل ظاهره أن ذلك بحسب السياق. قوله: (أو أنها مثلها)، إلى آخره قال أبو حيان: لا حاجة إلى هذا التقدير، والأول أولى. قوله: (وإنما لم يقل: أقسى، لما في أشد من المبالغة) إلى آخره. قال الحلبي في حوار التعجب والتفضيل. قوله: (وأو للتخيير أو للترديد) إلى آخره. قال القطب: كأن سائلا يقول: أو في قوله، (أو أشد قسوة): يفيد الشك، وهو محال على الله تعالى: فدفعه بأن الشك ليس براجع إلى الله تعالى، بل إلى من يعرف حالهم: فإنه إذا عرف حالهم أمكنه أن تشبههم بالحجارة أو بشيء أشد منها. والحاصل أن الشك بالنسبة إلى المخاطب لا بالنسبة إلى المتكلم

انتهى. واختار أبو حيان: أن أو للتنويع، وكأن قلوبهم على قسمين، قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشد قسوة منها، فأجمل ثم فصل. قوله: (والخشية، مجاز عن الانقياد) وهو أحد الرأيين. واختار ابن عطية الرأي الآخر، إنها حقيقة وأن الله يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك يقع به الخشية والحركة. قوله: (وقرأ ابن كثير، ونافع، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر، وحماد، بالياء ضما إلى ما بعدها، والباقون بالتاء. فيه تخليط، والصواب: أن ابن كثير وحده قرأ بالتحتية، والباقون بالفوقية. قوله: (الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين) أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس، وقال أبو حيان: هو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، خوطب بلفظ

الجمع تعظيما له. قوله: (كنعت محمد)، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم وجدوا صفته في التوراة: أكحل أغبر ربعة جعد الشعر حسن الوجه، فكتبوه: طويلا أزرق سبط الشعر. قوله: (وإنه الرجم) في الصحيحين أنهم جعلوا بدلها الجلد والتحميم، أي تسويد الوجه. قوله: (أو تأويله، فيفسرونه بما يشتهون)، هذا رأي من يقول: أن تحريفهم خاص بالمعنى، لا باللفظ، والأول/ مقابل باللفظ. قوله: (وقيل: هؤلاء من السبعين) إلى آخره، أخرجه ابن إسحاق، عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، لأن كلهم قد سمع التوراة، فلا معنى لتخصيص فريق منهم بذلك. قوله: (من فعل قسوة، نظر من حيت إنها من الأمور الخلقية أو من العيوب، وكلاهما ممنوع فيه بناء البابين).

قوله: (ومن قال إنه واد في جهنم)

قوله: (وفيه نظر، إذ الإخفاء لا يدفعه) قال شيخنا العلامة الكافيجي جوابه: إن الإخفاء لا يدفع الحاجة في زعمهم الفاسد وإن لم يدفعها في نفس الأمر قوله: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وأخره لاقى حمام المقادر وهو من قصيدة يرثي بها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأورده أبو حيان، بلفظ: وأخره لاقي حمام المقادر. قوله: (ومن قال إنه واد في جهنم)، هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخرجه الترمذي، من حديث أبي سعيد الخدري، وابن جرير من حديث عثمان بن عفان، والبزار من حديث سعد بن أبي وقاص كلهم مرفوعا. وأخرجه ابن المنذر، عن ابن مسعود، وابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير، موقوفا عليهما. وأخرجه ابن جرير، عن جماعة من التابعين. قوله: (لا فعل له) قال أبو حيان: وما ذكر، من قولهم. وأل مصنوع. قوله: (روي أن بعضهم قالوا:) إلى أخره. أخرج ابن جرير

القول الأول عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وأخرج الثاني من طريق صحيحة عن ابن عباس. قوله: (جواب شرط مقدر): هو أحد القولين في مثل ذلك، والآخر أنه لا تقدير ولكن ضمن الاستفهام معنى الشرط فأجيب بالفاء. قوله: (ولذلك فسرها السلف بالكفر)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن جرير، عن أبي وائل ومجاهد وقتادة، وعطاء والربيع بن أنس. قوله: (لقوله: ولا يضار)، أي برفع الراء. قوله: (لما فيه من الإيهام، أن المنهي سارع إلى الانتهاء) هذا لا يناسب حال بني إسرائيل لأن حالهم على خلاف ذلك، فالصواب أن يقال: لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكد طلب امتثاله، حتى كأنه امتثل وأخبر عنه. قوله: (وعطف قولوا عليه)، قال الإمام علم الدين العراقي: دليله القوي وقوع الأمر من بني إسرائيل على خلافه بعبادتهم العجل، ولو كان خبر ألزم منه الخلف في خبر من يستحيل منه ذلك فلا حاجة إلى الأمور اللفظية مع وضوح الأدلة القطعية. قوله: (وقيل تقديره: ألا تعبدوا، فلما حذف أن، رفع)، قال الحلبي والسفاقسي: في ادعاء حذف حرف التفسير نظر. قوله: (

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى* هو لطرفة بن العبد من معلقته المشهورة. وتمامه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد * والوغى: الحرب. وأصله الصوت: والتقدير: أن أحضر يقول: يا أيها اللائمي على حضور الحرب وشهود الملذات هل أنت مخلدي أن كففت عنهما. قوله: (متعلق بمضمر تقديره: وتحسنون أو أحسنوا) قال الحلبي: وينتصب إحسانا حينئذ على المصدر المؤكد لذلك الفعل المحذوف. وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكد منصوص على عدم جوازه. قوله: (وحسنى على المصدر كبشرى)، قال أبو حيان: يحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: بشر بشرى، ورجع رجعى، إذ مجئ فعلى مصدراً لا ينقاس. قال: والأرجح، إنه صفة لموصوف محذوف، أي كلمة حسنى أو مقالة حسنى على زوال معنى التفضيل، أي حسنة. قوله: (والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد)، قال الطيبي: لأن المتكلم إما أن يتكلم من جهة نفسه، فينبغي ألا يصدر عنه إلا ما يدخل

تحت مكارم الأخلاق، وإما من جهة مخاطبه فينبغي ألا يتكلم إلا بما يرشده إلى طريق الحق والصراط المستقيم. قوله: (ثم توليتم على طريقة الالتفات)، قال الحلبي: إنما يجئ هذا على قراءة لا يعبدون بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب (فلا التفات البتة، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاب) الحاضرين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل بذلك. ويؤيده قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}، قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عليه الصلاة والسلام كعبد الله في سلام، وأضرابه، فيكون التفاتا على القراءتين. قوله: (وأنتم تشهدون توكيد)، إلى آخره، قال الطيبى: لأنه إذا قيل أقر فلان احتمل أنه تكلم بما يلزم منه الإقرار، فأزيل الاحتمال بقوله شاهداً على نفسه أي أقر إقراراً يشبه شهادة من يشهد على غيره بإثبات البينة. قوله: (ثم أنتم) إلى آخره قال الطيبي: كان من حق الظاهر، ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد فتقتلون إلى أخره، أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها فأدخل (هؤلاء) وأوقع خبراً لأنتم، وجعل قوله: (تقتلون) جملة مبينة مستقلة لتفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم بشدة وكاد أخذ الميثاق ثم تساهلهم فيه وقلة المبالاة. قوله: (روى أن قريظة)، إلى آخره. أخرجه، ابن جرير عن

قوله: (أو مبهم) إلى آخره

ابن عباس، وغيره. قوله: (وكأنه شبه بالكسلان، قيل وجه الشبه أن كلا محبوس عن كثير من تصرفه. قوله: (أو مبهم) إلى آخره. قال الطيبي: كما في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}، هذا ضمير مبهم لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه. كقولهم: هي العرب تقول ما شاءت. قوله: (وإخراجهم بدل أو بيان) هو على القول الثالث خاصة. قوله: (وقرأ عاصم، تردون). هي شاذة. قوله: (قلت نزير لم تصله مريمه) هو مطلع أرجوزة لرؤبة يمدح فيها السفاح أو المنصور وبعده

ضليل أهواء الظبي تندمه .... هل تعرف الريم المحيل أرسمه الزير: بكسر الزاي من الرجال الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن. ومريم: المرأة التي تكثر زيارة الرجال، من رام يريم ريما، والضليل مبالغة الضلال صفة زير، والتندم: الندم فاعل ضليل على الإسناد المجازي، نحو: نهاره صائم. قوله: (إذ لم يثبت فعيل) قال أبو حيان: قد أثبته بعضهم وجعل منه ضهيد اسم موضع، ومدين إذا جعلنا ميمه أصلية وضهياء: مقصورة مصروفة، وهي المرأة التي لا تحيض، وقيل: التي لا ثدي لها. وقال ابن جني: ضهيد مصنوع لا يحتج به على إثبات فعيل. قوله: (ولا أرحام الطوامث)، قال القطب: لأن مريم عليها السلام، لم تحض. قوله: (ووسطت الهمزة) إلى آخره، حاصله وجهان أحدهما: إخراج الهمزة عن أصلها من استحقاقها المصدر واقحامها في أثناء الكلام للتأكيد وهو أيضا أصل وقانون من قوانين العربية، قال أبو البقاء: دخلت الفاء لتربط ما بعدها بما قبلها. والآخر إجراءها على الأصل وتقدير معطوف عليه. قوله: (ولذلك سحر تموه وسممتم له الشاة)، القصتان: في

الصحيح. قوله: (أراء بالقلة العدم)، قال أبو حيان: القلة إنما يراد بها العدم والنفي في غير هذا التركيب وهو قولهم: أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء. قوله: (وجواب لما محذوف)، قيل: إن الجواب هو، كفروا، ولما تكرار وتأكيد لفظي، كقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}. وقيل: الجواب، قلما، إلى آخره. قوله: (والسين للمبالغة) إلى آخره. قال القطب: أي لما كان يستفحون بمعنى يفتتحون، فلابد أن يكون للسين فائدة وهي المبالغة، لأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم، والشيء بعد الطلب أبلغ وهو من باب التجريد، جرد وامن أنفسهم أشخاصا وسألوهم الفتح. كقولهم: مر مستعجلا، أي مر طالبا للعجلة من نفسك مكلفا إياها. قوله: (ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولاً أوليا)، قال أبو حيان: يعني بالجنس العموم وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أوليا ليس بشيء، لأن دلالة العموم على أفراده ليس فيها بعض الأفراد أولى من بعض، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد، فهي دلالة متساوية وإذا كانت

دلالة متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء، وجوابه: ما قاله القطب: أن معناه، أنهم المقصودون بالذات وإن تناول الكلام لغيرهم على طريق التبع. وبسطه الطيبي فقال: دخولهم في هذا الكلام دخول قصدي، لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم وهو من باب الكناية، لأن اللعنة إذا اشتملت على الكافرين بأسرهم وهؤلاء منهم فيلزم أن يلحقهم على البت والقطع، وهو أقوى مما لو قيل عليهم، وتسمى هذه الكنابة إيمائية، وإنما يصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه بحيث إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال، نحو قولهم: لمن يصر على رذيلة: أنا إذا رأيتك خطر ببالي سبك وسب كل من هو بصددك وأبناء جنسك. واليهود لما بالغوا في الكفر والعناد ونعى الله عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم، فكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه، وأنهم أولى الناس دخولاً فيه لكونهم تسببوا لاستجلاب هذا القول في غيرهم وبذلوا أنفسهم فيه، وأنشد صاحب المفتاح في هذا المعنى: إذا الله لم يسق إلا الكرام .... فسقى وجوه بني حنبل وقال: إنه في إفادة كرم بنى حنبل، كما ترى لا خفاء فيه. انتهى. قوله: (أو اشتروا بحسب ظنهم) إلى آخره. ذكره صاحب المنتخب فقال: إن الاشتراء هنا على بابه: لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، فكأنه قد اشترى نفسه بها

، فهؤلاء لما اعتقدوا فيما أتوا به أن يخلصهم ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم فذمهم الله عليه. قال: وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ، من كونه بمعنى باع. وقال أبو حيان: هذا الوجه مردود بقوله: بغيا، إلى آخره. لأنه دل على أن المراد أنهم لم يظنوا الخلاص بذلك، بل ذلك على سبيل البغي والحسد. فقول الجمهور أولى. قوله: (وقيل: لكفرهم بمحمد بعد عيسى)، أخرجه ابن جرير عن عكرمة، وأبي العالية، وأخرج عن ابن عباس أن الأول لما ضيعوه من التوراة، والثاني لكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو أعم وأحسن. وقوله: (ونصبها على الحال من الدار)، هو على رأي من يجوز الحال من اسم كان، ومن لم يجوزه فهو عنده حال من الضمير المستتر في الخبر العائد إلى الدار الآخرة. قوله: (قال على: لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي). أخرجه، ابن عساكر في تاريخه. قوله: (وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة، محمدا وحزبه) أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الدلائل.

قوله: (وقال حذيفة: حين احتضر، جاء حبيب على فاقة، لا أفلح من ندم) أخرجه ابن سعد في طبقاته من وجه آخر عنه، وصححه. قال القطب: أراد بالحبيب الموت، وبقوله: جاء على فاقة، إنه جاءه الموت وقت حاجته إليه وبقوله، لا أفلح من ندم، إنه كان يتمنى الموت وما ندم إذ جاء، وهو يحتمل الدعاء أيضا. انتهى. وقال الشيخ تاج الدين السبكي، فيما قرأته بخطه: بل أراد بالحبيب لقاء الله. وفي تذكرة أبي علي الفارسي قال أبو الحسن: تقول العرب، لا أفلح من ندم، يريدون، من ندم فلا أفلح. قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات نكاية. وما بقي يهودي على وجه الأرض) أخرجه البيهقي في الدلائل، من طريق الكلبي عن أبو صالح عن ابن عباس، مرفوعا، بلفظ، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه، وأخرجه البخاري والترمذي عن ابن عباس مرفوعا، بلفظ: ((لو أن اليهود تمنوا الموت، لماتوا)) وأخرجه، ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس، موقوفا ((لو تمنوه لشرق أحدهم بريقه)) وأخرجه، ابن جرير، من وجه آخر، عن ابن عباس موقوفا، ((لو تمنوه يوم قال لا ذلك: ما بقي

قوله: (وتنكير حياة)

على وجه الأرض يهودي إلا مات)). قوله: (وتنكير حياة) إلى آخره. أبو حيان: قد روا فيه أنه على حذف مضاف، أي على طول حياة، أو على حذف صفة، أي حياة طويلة. قال: ولو لم يقدر حذف لصح المعنى، وهو أن يكونوا أحرص الناس على مطلق حياة، لأن من كان أحرص على مطلق حياة، وهو تحققها بأدنى زمان فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصا على حياة ولو ساعة وأحدة. قوله: (وقرئ باللام) أي على الحياة وهي قراءة أبي. قوله: (محمول على المعنى)، قال صاحب الإقليد: تقول: زيد أفضل من القوم، ثم تحذف من وتضيفه، والمعنى على إثبات من. قوله: (ويجوز أن يراد، وأحرص) إلى آخره. قال الطيبي: فإن قلت، ما الفرق بين الوجهين، وعائدتهما راجعة إلى شدة حرصهم؟ قلت: الثاني أبلغ لإرادة تكرير أحرص، وقال القطب: الفرق من وجهين، معنوي وهو هذا، ولفظي، وهو أن العطف في الوجه الثاني: على أحرص وهو المفعول الثاني. قوله: (حكاية لودادتهم) إلى آخره. قال أبو حيان فيه إبهام، لأن يود فعل قلبي وليس قوليا ولا معناه معنى القول، فكيف يكون حكاية لودادتهم؟ قال: وجوابه أن المراد إجراءه مجرى تقول، لأن القول ينشأ

عن الأمور القلبية فكأنه قال: يقول أحدهم: عن ودادة من نفسه، لو أعمر ألف سنة. قوله: (نزل في عبد الله بن صوريا) إلى اخره. قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف له على سند. وأورده الثعلبي، والبغوي، والواحدي، في أسباب النزول بلا سند. قوله: (دخل عمر مدراس اليهود) إلى آخره. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن راهويه في مسنده وابن جرير، وابن أبي حاتم، من طرق، عن الشعبي وله طرق أخرى. والمدراس يطلق على البيت الذي يدرسون فيه وعلى صاحب كتب اليهود. قوله: (وفي جبريل ثمان لغات، ذكر أبو حيان فيه ثلاثة عشر لغة، قرئ بها، جبريل بالكسر، كقنديل قراءة: نافع وابن عامر وأبى عمرو، وحفص، وجبريل بالفتح، قراءة ابن كثير، وجبريل

وجبريل بوزن خندريس: قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم، وجبرئل، بوزن جحمرش: رواية، عن عاصم، وكذلك، بتشديد اللام، رواية عنه. وجبرائيل وجبرائل- قراءة ابن عباس وعكرمة، وجبرال وجبرايل بالياء والقصر قراءة طلحة، وجبراييل بألف ويائين أولاهما مكسورة، قراءة الأعمش، وجبرين وجبرين وجبريين. قوله: (ومعناه: عبدالله. اختلف هل جبر هو العبد وإيل هو الله أو عكسه؟ على قولين، أصحهما الثاني) قال الشيخ صلاح الدين العلاء الماوردي: أن معني جبريل وميكاييل عبيد الله فايل اسم الله تعالى. وبمعنى عبد، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس. قال: ويرد عليه شيئان، أحدهما: أن المعهود في كل كلام أعجمي، أن الإضافة تكون فيه مقلوبة، يقدمون المضاف إليه على المضاف، فيقولون في غلام زيد: زيد غلام، هذا لاريب فيه. فالذي ينبغي أن

يكون إيل بمعنى عبد. وكل من جبر، وميكا، وإسراف، وعزرا، عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى وهذا موافق لقول ابن عباس رضي الله عنهما، إن معنى جبريل وإسرافيل، عبدالله وعبدالرحمن، وليس في كلامه تعيين المضاف من المضاف إليه. وإنما هو شيء فهمه المفسرون من كلامه وراعوا انتظام المتضايفين في لغة العرب، فظنوا في الأعجمية كذلك. وهذا اختيار القاضي أبي بكر ابن العربي والسهيلى، وأما قولهم: إن الإيل من أسماء الله بالنبطية فلا دليل عليه واضح. واحتج بعضهم لذلك بقوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}، وهو قول واه، لأن جميع أسماء الله تعالى معارف، وإل في الآية نكرة: بل الإل كل ماله حرمة، وقول أبى بكر: لم يخرج من إل. بمعنى من ربوبية الثاني، أنه يلزم من فسر هذا بالمضافين على مرتبتهما أن ينون الثاني بالجر لكونه مضافا إليه، وأن يكون منصرفا أيضا على القاعدة وشيء من هذين لم يسمع، وذلك يدل أنه اسم أعجمي منقول إلى العربية مع قطع النظر عن الإضافة ولزم رتبة المضافين.

قوله: (نزل في ابن صوريا،

انتهى. قوله: (أراد بعداوة الله مخالفته)، أي: مجازا، لأن العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة. قوله: (نزل في ابن صوريا، حين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جنتنا بشيء نعرفه)، أخرجه، ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قوله: (على أن التقدير إلا الذين فسقوا {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا}، قال أبو حيان: خرجها المهدوي وغيره على أن أو بمعنى بل للانتقال من كلام إلى غيره. قوله: (يعني أن علمهم به رصين) الطيبي: فإن قلت: من أين استفيد هذا التوكيد ورصانة العلم؟ قلت: من وضع الذين أوتوا الكتاب موضع الضمير، يعني عرفوه حق معرفته، لما قرأوا في كتابهم نعته ودارسوه حتى استحكم يذلك علمهم. قوله: (قيل: كانوا يسترقون السمع) إلى آخره. أخرجه الحاكم، عن ابن عباس. قوله: (وأما ما يفعله أصحاب الحيل)، إلى أخره، ما ذكره من أنه غير مذموم: مردود، فقد نص النووي، في الروضة وغيرها على

تحريمه. قوله: (وما روى أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرضا لا مرأة يقال لها: زهرة) إلى آخره. ما ذكره من إنكار ذلك سبقه إليه جماعة: منهم: القاضي عياض في الشفا وليس كذلك، بل القصة ثابتة، وقد استوعبت طرقها في التفسير المسند، والحاصل أنها وردت مرفوعة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه احمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه: والبيهقي، في الشعب، وابن جرير، وعبد بن حميد في تفسيرهما. وموقوفة، عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم بأسانيد عديدة صحيحة، وغيرهما. قال ابن حجر في شرح البخاري: لهذه القصة طرق تفيد العلم بصحتها. قوله: (ومن جعل (ما) نافية أبدلهما من الشياطين). قال أبو حيان: على أنهما قبيلتان من الشياطين قال: وهذا على قراءة ولكن الشياطين بتشديد لكن ونصب الشياطين. وأما على قراءة التخفيف والرفع فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين. فمعناه على الأول، أي على أنهما ملكان. قوله: (وعلى الثاني)، أي على أنهما رجلان. قوله: (بضاري على الإضافه) إلى أخره. قال أبو حيان: هذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك، ألا يكون ثم مضاف إليه،

لأنه مشغول بعامل جر فهو المؤثر فيه، لا الإضافة، وأما جعل حرف الجر جزءا من المجرور، فليس بشيء، لأنه مؤثر فيه وجزء الشيء لا يؤثر فيه، والأجود في التخريج: أنها حذفت تحفيفا، لأن له نظيراً في نثر العرب ونظمها، كقولهم: قطا قطا بيضك إثنتان وبيضي مئاتا، يريدون، ثنتان ومئاتان. قال الحلبي: وفيما قاله نظر، أما كون الفصل من ضرائر الشعر، فليس كذلك، لأنه قد فصل بالمفعول به، في قراءة ابن عباس فبالظرف وشبهه أولى. وأما قوله: لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه، فإنما ذلك في الجزء الحقيقي، وهذا إنما قال ينزله منزلة الجزء، ويدل على ذلك قول النحويين الفاعل كالجزء من الفعل، ولذلك أنث لتأنيثه ومع ذلك فهو مؤثر فيه. وقال السفاقسي: قوله: إن ذلك من ضرائر الشعر، جوابه إنه توجيه قراءة شاذة، فلا يستبعد. قوله: (وأقبح منه، إذا لم يكن مضاف، لانسلمه، لأن الإضافة في التقدير للمجموع). قوله: (جزء الشيء لا يؤثر فيه). قلت: الجزئية تقدير لا تحقيق. قوله: جواب (لو وأصله: لأثيبوا) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا التخريج غير مختار، لأنه لم يعهد، في لسان العرب وقوع الجملة

الابتدائية جوابا للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، والصواب في التخريج: أن الجواب محذوف لفهم المعنى، أي لأثيبوا، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وقال ابن هشام، في المغني: الأولى أن يقدر الجواب محذوفا وأن تقدر لو بمنزلة ليت في إفادة التمني فلا يحتاج إلى جواب. قوله: (وحذف المفضل عليه) إلى آخره. قال أبو حيان: ليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} و {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا}، (فشركما لخير كما الفداء). قوله: (وقيل: لو للتمني)، قال الطيبي: وهو راجع إلى العباد، على معنى أن من عرف حالهم قال ذلك متمنيا، على حد {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}. قوله: (وكان المسلمون يقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم -) إلى آخره. أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق الشعبي الصغير عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

قوله: (ومنه التناسخ)

قوله: (الهوج) أي الحماقة. قوله: (وأحسنوا الاستماع) إلى آخره. القطب. حصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري فلا يجوز الأمر به، فلهذا حمله على أحد معان ثلاثة. قوله: (ومن للتبيين)، قال أبو حيان: أصحابنا لا يثبتون هذا المعنى، وإنما هي للتبعيض. قوله: (ومنه التناسخ) أي في المواريث. قوله: (أو نجدها منسوخة)، قال أبو علي الفارسي: قراءة ابن عامر مشكلة؛ لأنه لا يقال نسخ وانتسخ بمعنى ولا الهمزة للتعدية، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً وانحلته إذا وجدته نحيلا، قال: وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ. انتهى. قوله: (واحتج بها من منع النسخ) إلي آخره، ما ذكره من تضعيف نسخ الكتاب بالسنة مردود، فإن المانع لذلك هو الإمام الشافعي، قال الطيبي: ذهب الإمام الشافعي إلى منع نسخ القرآن بالخبر، وهو موافق لما رواه الدارقطني عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: (كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا)، قال: رخيص يخفى

على مثل الإمام هذا المعنى؟ وهو من أعلام المجتهدين وقد قال ابن الصلاح: أعيا الفقهاء وأعجزهم معرفة الناسخ من المنسوخ. وكان للشافعي اليد الطولى والسابقة الأولى. وقال الإمام أحمد ابن حنبل: ما عرفنا المجمل من المفصل، ولا الناسخ من المنسوخ حتى جالسنا الشافعى، والاية شاهدة لذلك لأن الناسخ لابد أن يكون خيراً من المنسوخ أو مثله لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} والسنة ليست بخير من القرءان ولا مثله، والضمير في نأت: لله، فيكون الأتي بالناسخ هو الله، وجوابهم عن الأول بأن المراد نسخ الحكم، لا اللفظ، ويجوز أن يكون حكم السنة خيراً من حكم القرآن أو مثلا له، باعتبار كونه أصلح للمكلف، وعن الثاني، بأنه يصح إطلاق قوله، نأت، على ما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أيضا من عند الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} مردود. أما الأول: فتخصيص بغير مخصص، على أن الآية ورودها في شأن أهل الكتاب وردوداتهم أن لا ينزل الله على رسوله هذا الكتاب الشريف وينسخ به كتابهم لفظا وحكما، ورد بأنه - صلى الله عليه وسلم - اختص به دونهم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يبدله من تلقاء نفسه بشهادة سبب النزول، وأما الثاني، فيلزم منه فك التركيب وارتكاب المحذور. أما فك التركيب: فإن الضمائر في: ننسخ وننسأها دالة على تعظيم الفاعل، ومنادية على جلالته واستبداده بما فعله، فإذا دخل الغير يفوت الغرض المطلوب، ولا شك أنه لا مدخل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ننسأها. فإذا فرق الضمائر ينخرم النظم، وإن ضمير الخطاب، في ألم تعلم إذا خص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو أعم، والاستفهام المفيد للتقرير ينافي استدراكه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الضمائر، وكذا وضع الظاهر موضع المضمر

وتخصيصه بذكر اسم الذات، في قوله: إن الله متكرراً، وأما ارتكاب المحذور فهو إذا جعل الفاعل في قوله تعالى: ننسخ، وتأت، لله تعالى والغير، فلا يخلو، إما أن يكون حقيقة فيه دون الله سبحانه، أو مجازاً، أو مشتركا بينهما، والكل باطل، أما بطلان الأول والثاني فظاهر؛ لأنه يستلزم إرادة الحقيقة والمجاز معا، وأما الثالث فيستلزم تعدد الفاعل، وحينئذ يفوت التعظيم المطلوب، وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فضعيف لأن الكلام هنا في المنزل، لأن الكفار كانوا ينسبون إلى الجن، ويسمون قائله مجنونا بشهادة الآيات المناسبة لها، كقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، الآيات وقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ}، ولهذا عقبه بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، فإذا لا تدخل في المعنى، للأحاديث الواردة منه - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما نقله ابن الحاجب عنهم، إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا وصية لوارث)) نسخ الوصية للوالدين والأقربين، والرجم للمحصن نسخ الجلد، فضعيف أيضا، لما ذكره الشافعي، إن الوصية للأقربين منسوخة بأية الميراث، وأن الرجم كان قرآنا، ونسخ رسمه، فأول حديث الوصية، ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) أخرجه أبو داود والترمذي، فقوله: أعطى كل ذي حق

قوله: (ألم تعلم

حقه، إشارة إلى آية الميراث، والحديث موضح لدلالة أية المواريث بهذه الآية، والحمد لله الذي هدانا لنصرة الحق، وترجيح مذهب الإمام المطلبي، فإن قلت: إذا كان جواز النسخ معللا بكون الناسخ خيراً منه، من حيث كون العمل بها أكثر ثوابا لزم جواز ذلك بالحديث بهذه الآية، قلت: لا يلزم لأن الخيرية من هذه الحيثية ليست علة مستقلة، بل مع قيد عدم التفاضل في اللفظ، فإن الثواب الحاصل من نفس قراءة القرآن لا يوازيه قراءة الحديث، هذا كله كلام الطيبي، وما ذكره المصنف من تضعيف منع النسخ بلا بدل مردود أيضا بالاستقراء، قال الطيبي أيضا، ولا يرد قولهم: قد جاء بلا بدل في آية النجوى، لمجيء البدل، وهو الآية بعدها الدالة بمفهومها على إباحة الصدقة. قوله: (ألم تعلم، الخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم -) يشير إلى أن الهمزة للتقرير، كما في الكشاف، قال ابن هشام في المغني: والأولى أن يحمل على الإنكار التوبيخي والإبطال، أي ألم تعلم أيها المنكر للنسخ. قوله: (وإنما هو الذي يملك أموركم)، قال القطب: هذا وجه اتصال قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بما قبله. وإنما يتضح إذا كان الخطاب، في ألم تعلم، عاما على أسلوب (بشر المشائين)، وكان الاستفهام للتقرير، وقال الطيبي: إنما رتب حكم النسخ على هذه الصفة، وهي: إنه مالك السموات والأرض ليؤذن

أنه تعالى يريد مصالحكم في النسخ والإنشاء؛ لأن من دبر أمرا هو أعظم، لا يمتنع عليه الأهون. قوله: (أم معادلة للهمزة) إلى آخره. قال الطيبي: يعني لما رد على اليهود قولهم في النسخ والطعن فيه وعم الخطاب للكل في قوله: ألم تعلم، لأنه من أسلوب قول، (بشر المشائين) رجع إلى المسلمين فخاطبهم بما يشبه حالهم حال اليهود من سؤالهم ما يضرهم ويرديهم وتوصية لهم بالثقة بالله وبما ينزل عليهم من القرآن، وألا يكونوا كاليهود في اقتراحهم على نبيهم، وقال أبو حيان: القول بأنها معادلة ضعيف. والصواب: أنها منقطعة. قوله: (قيل: نزلت في أهل الكتاب)، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس. قوله: (وقيل: في المشركين) إلى آخره أخرجه عن مجاهد. قوله: (وهو حال من ضمير المخاطبين)، قال أبو حيان: هذا ضعيف، لأن الحال مستغني عنها في أكثر مواردها، وهذا لابد منه في هذا المكان والصواب أنه مفعول ثان، لأن ود بمعنى صير يتعدى لمفعولين. قوله: (يجوز أن يتعلق بود) (إلى مفعول ثان، لأن ود) إلى آخره، قال الطيبي: هذان الوجهان: ذكرهما، مكي، وردهما عليه ابن الشجري في أماليه: فقال: إن قول النحويين هذا الجار متعلق بهذا الفعل

، يريدون به أن العرب وصلته به واستمر سماع ذلك منهم، فقالوا: رضيت عن جعفر، وقالوا: حسدت زيداً على علمه، ولم يقولوا: حسدته من الشيء، وكذلك، وددت، لم يعلقوا به (من)، فثبت بهذا أن قوله: من عند أنفسهم لا يتعلق بحسد ولا بود، لكنه متعلق بمحذوف يكون وصفا لحسدا أو لمصدرود، أي: حسداً كائنا من عند أنفسهم، أو ودا كائنا من عند أنفسهم، قال الطيبي: والجواب: أن القول بإفضاء عمل الفعل إلى معمول معموله سائغ. انتهى. وفي البحر، لأبي حيان: من عند متعلق إما بملفوظ، وهو ود، أو بمقدر في موضع الصفة لمصدر ود، أو حسداً، أو بير دونكم، ومن سببية أي يكون الرد من تلقائهم، وبإغوائهم، وتزينهم. انتهى. قوله: (وعن ابن عباس، أنه منسوخ بأبة السيف)، أخرجه ابن جرير. قوله: (وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق)، قال الطيبي: هذا النظر أورده الإمام، حيث قال: كيف يكون منسوخا وهو متعلق بغاية، وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وإذا لم يكن ورود الليل ناسخا لم يكن إتيان الأمر ناسخا، وأجاب أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ويحل محل فاعفوا وأصفحوا إلى أن أنسخه عنكم.

قوله: (إشارة إلى أن الأماني المذكورة)

قوله: (والمخالقة)، الظاهر، إنها بالقاف لا بالفاء وهو تحسين الخلق في العشرة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وخالق الناس بخلق حسن))، وإن ثبت أنها بالفاء فالمعنى مخالفتهم فيما يودونه ويدعون إليه. قوله: (لعائذ) الجوهري: العوذ الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذ. قوله: (إشارة إلى أن الأماني المذكورة) إلى آخره. قال أبو حيان: ما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد أن يشار إليها، وما ذهب إليه في الوجه الثاني، ففيه مجاز الحذف. وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبر، فقلب هو الوضع إذ قال: (إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه)، وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ فلا يجوز تقديمه، مثل زيد زهير، نص على ذلك النحويون. والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم (لن يدخله) ... إلى آخره، أي تلك المقالة أمانيهم أي شهواتهم الباطلة وأكاذيبهم التي لم يقولوها عن تحقيق ولا دليل، وإنما أفرد المبتدأ لفظا لأنه كناية عن المقالة، وهي مصدر يصلح للقليل والكثير، فأريد به هنا الكثير باعتبار القائلين ولذلك جمع الخبر فطابق من حيث المعنى في الجمعية. انتهى. وقال العلم العراقي: الجواب الصحيح، أن الأماني هي، الأباطيل

أو الأقاويل، كما نقله المهدوي، وهذه الجملة أقاويل، لأنها نفت دخول غيرهم الجنة، وأثبتت دخول اليهود الجنة، ودخول النصارى الجنة، بل دخول كل واحد منهم فهي أقاويل وأباطيل حقيقية. قوله: (والجملة اعتراض) الطيبي: فإن قلت: لمن حق الاعتراض؟ أن يكون مؤكدا للمتعرض فيه، فأين مقتضاه هنا؟ قلت: قوله، لن يدخل الجنة، حكاية دعواهم الباطلة وأكدوها بلفظ لن على سبيل الحصر. وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} بيان لبطلانها، وأن تلك الدعوة مجرد قول لا برهان لهم عليها، وتلك إشارة لبعدها عن التحقيق، وتحقير بشأنها ثم سماها أماني والأماني مما لا ثبوت لها، وأما على تقدير حذف المضاف فهي أبلغ في باب الاعتراض، يعني هذه الأمنية ليست ببدع لهم بل كان أمانيهم مثل هذه. قوله: (نزلت لما قدم وفد نجران)، إلى آخره، أخرجه، ابن جرير عن ابن عباس، ونجران قرية. قوله: (والمعطلة)، قال القطب: هم الذين لا يثبتون الصانع. قوله: (بين الفريقين)، الطيبي: فإن قلت: لم خصصها بالذكر بعد قوله: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فهذا أعم فدخل اليهود

والنصارى دخولاً أوليا؟ قلت: المراد توبيخ اليهود والنصارى حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم شيئا، فالواجب تهديد هؤلاء خاصة. قوله: (بما يقسم لكل فريق) الطيبي: يعني (يحكم) يستدعي جارين، (في) و (الباء)، كما يقال: حكم الحاكم في هذه الدعوة بكذا، فالأول المحكوم فيه، والثاني المحكوم به فحذف التنزيل الثاني ليعم المقدر. قوله: (نزل في الروم)، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، والسدي وقتادة، حكاية هذا القول على مسألة الخلاف في دخول الكافر المسجد أحسن ترتيبا كما قال القطب منكتابه على الكشاف في عكس ذلك. قوله: (فإن منعتم أن تصلوا) إلى آخره. ظاهره أن الآية من تتمة الكلام ممن منع المساجد، وهو قول ضعيف مرجوح، والذي وردت به الأحاديث، إنها نزلت مستقلة بسبب آخر، وقد اختلفت الروايات في ذلك على خمسة أوجه بينتها في كتابنا أسباب النزول.

قوله: (فعلتم التولية)

قوله: (فعلتم التولية) قال الطيبى: يعني أجرى تولوا مجرى اللازم، لأن مفعوله، وهو، وجوهكم: منسى غير منوى. قوله: (وعن ابن عمر، أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة) أخرجه مسلم. قوله: (وقيل: في قوم عميت عليهم القبلة) إلى آخره. أخرجه الدارقطني، في سننه، من حديث جابر. والترمذي، من حديث عامر ابن ربيعة، وابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. قوله: (وقيل: هي، توطئة لنسخ القبلة). هذا: أصح الأقوال. أخرج ابن جرير، من طريق على ابن أبي طلحة، عن ابن عباس،

إنها نزلت لما قال اليهود: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}. قوله: (معطوف على، قالت اليهود، أو منع)، قال أبو حيان: فيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجمل الكثيرة، وهو بعيد جدا ينزه القرآن عن مثله، بل هو عطف على الآية قبلها، عطف جملة على جملة. قوله: (ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعون). قال أبو حيان: هذا بعيد جدا الآن المجعول ولدا لم يجر له ذكر، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول وغيره، قال الحلبي: قوله: (لم يجر له ذكر، بل جرى ذكره، فلا بعد فيه، وقال السقاقسي: قد جرى ذكر الولد، وهو كاف في تقديره، فلا حاجة إلى ذكر المجعول. وإنما خصص الولد بالتقدير، ليكون الرد مطابقا لدعواهم، ويستلزم غير الولد من باب الأولى. قوله: (أمن ريحانة الداعي السميع وهو مطلع قصيدة لعمرو بن معد يكرب، يتشوق أخته ريحانة

، وكان أسرها أبو دريد بن الصمة الجشمي وتمامه: يؤرقني وأصحابي هجوع: وقد أوردت القصيدة بتمامها في شرح شواهد التلخيص. ومنها، قوله: إذا لم تستطع شيئا فدعه .... وجاوزه إلى ما تستطيع القطب: ريحانة: اسم امرأة، والداعي، داعي الشوق، وهو مرفوع بالظرف لأنه معتمد على همزة الاستفهام، والسميع المسمع، أي يدعوه ولا يسمعه الصوت، ويؤرقني: يوقظني حال من الداعي، وهجوع: نيام، قال: وفي الاستشهاد نظر، لأنا لا نسلم أن السميع بمعنى المسمع، لاحتمال أن يريد أنه سميع بخطابه فيكون بمعنى السامع، لأن داعي الشوق لما دعاه صار سامعا للقول الذي أجيب به، وإن سلمناه لا يلزم أن يكون البديع بمعنى المبدع، فإن فعيلا بمعنى مفعل شاذ لا يقاس عليه، الطيبي: يجوز أن يكون مبتدأ أو المقدم خبره، والأولى أن يؤرقني جملة مستأنفة. قوله: (الأوجه أن الداعي مبتدأ خبره يورقني، والمجرور متعلق به، وجملة، وأصحابي هجوع: حال. قوله: (أي جهلة المشركين)، أخرجه ابن جرير عن قتادة،

قوله: (أو المتجاهلون من أهل الكتاب)

والربيع والسدي. قوله: (أو المتجاهلون من أهل الكتاب)، أخرجه عن ابن عباس. قوله: (وقرئ بتشديد الشين: قال أبو عمرو الداني: هي قراءة ابن أبي إسحاق وأبي حيوة، قال: وهي غير جائزة لأنها فعل ماض، واجتماع التائين المزيدتين لا يكون في الماضي حتى يترتب عليه الإدغام، قال أبو حيان: وقد ذكر في قراءة: إن البقر تشابه بالتشديد توجيه لا يمكن هنا، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة. قوله: (نهى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السؤال عن حال أبويه)، قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه في حديث، أقول: ونعم ما فعل، فإنه لم يرد في ذلك إلا أثر معضل ضعيف الإسناد، فلا يعول عليه. والذي نقطع به، أن الآية في كفار أهل الكتاب: كالآيات السابقة/ عليها والتالية لها، وقد قررت ذلك أتم تقرير في التأليف الذي سميته مسالك الحنفا في والدي المصطفى. قوله: المتأجج: بجمين، من تأججت النار، تلهبت، والأجيج لهيب النار. قوله: (وهو حال مقدرة)، قال أبو حيان: إما من ضمير

المفعول، وإما من الكتاب، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له، ولا كان هو متلوا لهم. قوله: (ولذلك فسرت بالخصال الثلاثين)، إلى آخره. أخرجه الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قوله: (وبالعشر التي هي من سنته)، أخرجه الحاكم أيضا عنه. قوله: وبمناسك الحق، أخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر عنه. قوله: (وبالكواكب، إلى آخره)، أخرجه، ابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن البصري، قوله: (وبما تضمنته الآيات التي بعدها)، أخرجه ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس. قوله: (فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها)، أي قوله: بابني إسرائيل، الآية، عطفت قصة، على قصة. قوله: (عطف على الكاف)، إلى آخره. اعترضه أبو حيان، بأن الكاف مجرورة فلا يصح العطف عليها بدون إعادة الجار، وبألا يمكن تقدير الجار مضافا إليها، لأنها حرف

فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى يقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح. وليس نظير العطف على الكاف في سأكرمك لأن الكاف فيه في موضع نصب، وهنا في موضع جر ولا يقال: إنه معطوف على موضعه فإنه نصب لأن هذا ليس مما يعطف به على الموضع لفوات المحرز، فالتحقيق أن الجار متعلق بمحذوف تقديره: واجعل من ذريتي. انتهى. وصحح غيره ما قاله المصنف وسماه عطف تلقين، فالتقدير، في سأكرمك وزيدا قل وزيدا، كذا هنا تقديره قل وبعض ذريتي، قال الطيبي: وهذا الاسم مناسب للمعنى. قوله: (فعليه) إلى آخره، حاصل ما ذكره أبو حيان فيها ستة عشر قولاً، فعلية، أو فعولة، أو فعلولة، وعلى كل هي من الذراء بالهمز أو الذر بالتشديد، أو من ذريت، أو من زروت أقوال، فهذه ستة عشر قولاً، فعلى الأول أصلها ذرية، أو ذروية، وعلى الثاني: ذريرة أو درورة وعلى الثالث: ذريته أو دروية، وعلى الرابع: ذريرة أو ذروة، ثم إن الذال فيها الضم والفتح والكسر. فتبلغ بذلك ثمانية وأربعين. قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر) أخرجه، ابن مردويه عن عمر نحوه.

قوله: (لما روى جابر)

قوله: (لما روى جابر)، إلى آخره. أخرجه مسلم. وقوله: وقيل: مقام إبراهيم الحرم كله، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس. قوله: (وقيل: مواقف الحج)، أخرجه ابن أبى حاتم. قوله: (أو مبتدأ يتضمن معنى الشرط)، بقي قول ثالث، وهو أنه شرط، والفاء جوابه، حكاه أبو حيان. قوله: (والكفر وأن لم يكن سببا يمنعه) إلى آخره جواب سؤال مقدر، قال أبو البقاء؛ لا يجوز أن يكون من مبتدأ و (فأمتعه) الخبر، لأن الذي: لا تدخل في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقا بصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم، والكفر لا يستحق به التمتيع، فأجاب عنه المصنف بما ذكره. قوله: (فألزه) الجوهري: لزه يلزه لزا أي: شده وألصقه. قوله: (وقليلا نصب على المصدر أو الظرف)، أي على الصفة لهذا أو لهذا أو تمتيعا قليلا، أو زمانا قليلا، ويجوز كونه حالا من

ضمير المصدر المحذوف. قوله: (وقرئ بلفظ الأمر فيهما، على أنه من دعاء إبراهيم تفسيره أيضا، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه، لكن جوز ابن جني أن يكون من كلامه تعالى خاطب به نفسه، على حد قول الأعشي: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهو أحد قسمي التجريد. قوله: (ضم شفر) هو بالضم واحد أشفار العين، وهي حروف الأجفان الذي ينبت عليها الشعر، وهو الهدب. قوله: (حكاية حال ماضية)، قال أبو حيان: فيه نظر (بل المقرر في العربية)، أن إذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي لأنها ظرف نما مضى من الزمان. قوله: (ومنه، قعدك الله، في الصحاح: قعدك الله لا آتيك، وقعيدك الله لا آتيك، يمين العرب وهو مصدر استعمل منصوبا بفعل

مضمر، والمعنى يصاحبك الذي هو صاحب كل نجوى. قوله: سافات البناء، هو بالفاء، المعرب: الساف الصف من اللبن والطين. قوله: (كان يناوله الحجارة، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه) قال الطيبي: وفي الآية دلالة على ذلك، حيث أخر إسماعيل عن إبراهيم، ووسط بينهما المفعول المؤخر رتبة عن الفاعل، وهو إسماعيل. قوله: (أو عرف)، قال أبو حيان: لا نعرف في اللغة مجيء رأي بمعنى عرف وهذا ابن مالك، وهو حاشد لغة، وحافظ نوادر لم يعدها في التسهيل لما عد معاني رأى. قوله: (وابعث فيهم، في الأمة المسلمة)، قال أبو حيان: يحتمل أيضا عود الضمير على الذرية وعلى أهل مكة. قوله: (كما قال: أنا دعوة إبراهيم) الحديث، أخرجه، أحمد، وابن حبان، والحاكم، عن العرباض، ابن سارية، قال الطيبي:

قوله: (والحكمة ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام)

قوله: (انا دعوة إبراهيم) أي: أثر دعوته، أو الدعوة نفسه. قوله: (والحكمة ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام)، كثرت عبارات المفسرين في تفسير الحكمة، فقال قتادة: هي السنة، وقال مجاهد: فهم القرآن، وقال مالك: هي الفقه في الدين، وقال مقاتل: العلم والعمل به، وقال محمد بن يعقوب: كل ثواب من القول ورث فعلا صحيحا. وقيل: هي القرآن، كررها تأكيدا، وقيل: وضع الأشياء مواضعها. قال أبو حيان: وهذه الأقوال، متقاربة، ويجمعها قولان، الكتاب والسنة، لأنها المبينة لما أبهم من القرآن والمظهرة لوجوه الأحكام. قوله: (إلا من استمهنها وأذلها)، إلى آخره، إشارة إلى أن

الأولى نصب نفسه على المفعول به، واقتصر في توجيه ذلك على نقله عن المبرد وثعلب، إن سفه، بالكسر متعد، وزاد أبو حيان، أن يكون ضمن معنى ما يتعدى، أي جهل، كما قال الزجاج وابن جني، أو أهلك كما قال أبو عبيدة، وفي حاشية الطيبي: قال صاحب الفرائد: الوجه أن سفه ضمن معنى جهل وعدي تعديته: كأنه قيل: جهل نفسه لخفة عقله أي لم يعرفها بالتفكر. قوله: (وبالضم لازم)، أبو حيان: سفه بالضم، معناه صار سفيها، كفقه إذا صار فقيها. قال: فلا علم إذا جهل العليم ... ولا رشد إذا سفه الحليم قوله: (ويشهد له ما جاء في الحديث: (الكبر: أن تسفه الحق: وتغمص الناس)، أخرجه ابن حيان والحاكم، من حديث أبي هريرة. قوله: (وقيل: أصله سفه نفسه على الرفع، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه، وقول جرير:

ونأخذ بعده بذباب عيش .... أجب الظهر ليس له سنام) فيه أمور الأول، قال أبو حيان: هذا رأي الكوفيين الذين يجوزون تعريف التمييز. الثاني: ما ذكره من التمييز، ذكره الزمخشري في الكشاف، وخالفه في المفصل، فقال: إنه على التشبيه بالمفعول به لا على التمييز. ورده أبو حيان بأن النصب على التشبيه بالمفعول خاص، عند الجمهور بالصفة ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه. قال: وعرف بذلك أن البيت ليس نظيراً للآية لأن النصب فيه بعد أجب، وهو اسم، وفي الآية بعد فعل. وأشار الشيخ سعد الدين إلى أن مراد صاحب الكشاف، أنه في الآية على التمييز وأن التعريف قد يدخله كما دخل المشبه بالمفعول الذي حقه التنكير لكونه في معنى المميز واقعا موقعه كما في البيت فالتنظير بالبيت لذلك؛ لا لأن الآية والبيت سواء في التمييز أو التشبيه بالمفعول. انتهى. نعم، القول بأن الآية على التشبيه بالمفعول ثابت عن غير الزمخشري، حكاه أبو حيان ورده. الثالث: نسبة المصنف البيت إلى جرير سهو، وإنما هو للنابغة الذبياني بالاجماع، يمدح النعمان بن المنذر، وقبله: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام ويروى: والشهر الحرام، أبو قابوس: كنية النعمان وأراد

قوله: (مشهود له بالاستقامة)

بالربيع طيب العيش، وبالشهر الحرام الأمن، والأجب: الجمل المقطوع السنام الذي لا يتمسك لراكبه، وذناب الشيء: بالكسر، عقبه، أي يبقى بعده في طرف عيش لا خير فيه. الرابع: حاصل ما حكاه المصنف في نصب نفسه، ثلاثة أقوال: المفعولية، والتمييز، وعلى نزع الخافض وفاته ثلاثة أقوال: التضمين، والتشبيه بالمفعول، كما حكيناهما، وأن يكون توكيدا لمؤكد محذوف، تقديره: سفه. قوله: (نفسه) حكاه مكي. قوله: (مشهود له بالاستقامة)، قال الطيبي: فسر الصلاح بالاستقامة، لأنه مقابل للفساد الذي هو خروج الشيء عن حال استقامته. قوله: (ظرف لاصطفينا) أو تعليل له أو منصوب بإضمار أذكر)، قال أبو حيان: على هذين القولين لا ينتظم (قال أسلمت) مع ما قبله إلا إن قدر، يقال، فحذف حرف العطف أو جعل جوابا للكلام مقدر، أي: ما كان جوابه؟ فقيل: قال، أسلمت. قال: فالأوجه أن العامل في (إذ)،

(قال أسلمت). وقال الشيخ سعد الدين: إنما لم يجعل الظرف متعلقا بـ (قال أسلمت) على ما هو ظاهر في مثل إذ جاء زيد قام عمرو، لأن الأنسب فيه العطف، لكونه من نمط. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}، فدل تركه العطف على أنه من تتمة {وَمَنْ يَرْغَبُ}. إلى آخره. قوله: (روى أنها نزلت لما دعى عبد الله بن سلام ابني أخيه سملة ومهاجرا إلى الإسلام، فأسلم سلمة وأبي مهاجر)، لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المسندة. قوله: (التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة. زاد الراغب: مقترنا بوعظ. قوله: (أو لقوله: أسلمت، نظيره، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً}، بعد قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، قال ابن عطية: وهذا القول أصوب، لأنه أقرب مذكور، قال: وعوده على الملة يرجح بأن المفسر يكون مصرحا به وعلى عوده لأسلمت لا يكون مصرحا به، والعود على المصرح به أولى، وبأنه أجمع من عودة على الكلمة إذ الكلمة بعض الملة، ومعلوم أنه لا يوصى إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز، ورجح الشيخ سعد الدين العود على (أسلمت)، بأن قوله: (وصى) عطف على، (قال أسلمت)، فالمعنى: قال ذلك في حق نفسه، ووصى به بنيه، أن يذكروه حكاية على أنفسهم، ورجح العود على الملة بترك

قوله: (ويعقوب: عطف على إبراهيم)

المضمر إلى المظهر في إبراهيم وبعطف يعقوب عليه. انتهى. وثم قول ثالث أنه راجع إلى الكلمة المتأخرة وهو قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} كذا حكاه أبو حيان، (والأجه في تقريره أن يجعل عاندا على مقول القول، وهو: يا بني. إلى أخره أي وصاهم بهذه القولة. وهذا: عندي أرجح، ونطيره: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}، فقد ضمير فأسرها يوسف ولم يبدها، عاند إلى مقول القول. ورابع أنه عاند إلى كلمة التوحيد وإن لم يجر لها ذكر، على حد {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}. وخامس، أنه عائد إلى الوصية الدال عليها وصي. قوله: (والأول أبلغ)، قال الزجاج: لأن أوصي يصدق بالمرة الواحدة، ووصى لا يكون إلا لمرات كثيرة. قوله: (ويعقوب: عطف على إبراهيم) قال أبو حيان: ويحتمل الابتداء والخبر محذوف. قوله: (على إضمار القول عند البصريين، متعلق بوصي عند الكوفيين) هذه قاعدة مشهورة، وقع الخلاف فيها بين الفريقين، وهو أنه إدا وردت جملة مقولة بعدما فيه معنى القول دون حروفه فالبصريون يخرجونها على حذف القول، والكوفيون لا، بل يجرونها على الحكاية بما

فيه معنى القول وقد أوضحت هذه القاعدة في كتاب الأشباه والنظائر في العربية. قوله: (رجلان من ضبة أخبرانا .... أنا رأينا رجلا عريانا) / وضبة اسم قبيلة. قوله: (وبنوا إبراهيم كانوا أربعة؛ إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدان، وقيل: ثمانية، وقيل: أربعة عشر) القول، بأنهم ثمانية، أخرجه ابن سعد في طبقاته عن الكلبي فذكر الأربعة المذكورين، وبشقاق وذمران، وأشيق، وشوح، وأخرج عن الواقدي، قال: ولد إبراهيم ثلاثة عشر، إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة، وماذي، وذمران، وشرجح، وشبق، الأربعة: من قنطور، ونافس، ومدين، وكيشان، وشروخ، وأشيم، ولوط، وبشقان، وذمران، وأشيق، السبعة من حجوى. وأخرج عن الكلبي، كان اسم إسماعيل: أشمويل، فعرب، وله: إثنا عشر ابنا.

قوله: (وبنو يعقوب: اثنا عشر)، أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس. قوله: (دوبين): كذا ذكره بالنون، وذكره آخرون دوبيل باللام، قال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني: وهو باللام أصح وأثبت. قوله: (وبنيامين)، عبارة كثيرين، ابن يامين، قال ابن إسحاق ومعناه بالعربية شداد. قوله: ظاهره النهي عن الموت) إلى آخره. تقريره أن النهي في اللفظ متعلق بالموت، وذلك ليس بمقدور لهم وإنما ينهي المكلف عماله تركه. فالمعنى النهي عن الكون عن حالة يدركه الموت وهو عليها كقولهم: لا رأيتك ههنا، فإن، لفظ النهي فيه للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب، أي لا تكونن ههنا، فإن كنت ههنا رأيتك، وكذا لا تصل إلا وأنت خاشع، فإن لفظ النهي فيه متعلق بالصلاة ومطلق الصلاة لا ينهى عنها، فالمعنى: النهي عن الكون عن حالة هي غير حالة الخشوع. فالآية من باب الكناية التلويحية، حيث كنى فيها بنفي الذات عن نفى الحال والنكتة في ذلك الدلالة على كون الفعل الداخل عليه حرف النهي شبيها بالمنهي الذي حقه ألا يقع ولو وقع كان بمنزلة العدم، كما أن الأمر عند هذا الفعل، في، مت وأنت شهيد، تنبيه على كونه بمنزلة المأمور الذي حقه أن يقع. قوله: (روى أن اليهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألست تعلم أن يعقوب أوصى لبنيه باليهودية يوم مات، فنزلت: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} الآية لم أقف عليه.

قوله: (أم منقطعة)

قوله: (أم منقطعة) إلى آخره تقرير لكون الخطاب في الآية لليهود، وقد ضعفه صاحب الكشاف، بأنهم لو شهدوا ذلك الوقت وسمعوا وصية يعقوب لظهر لهم كونه على ملة الإسلام ووصيته لبنيه بذلك فكيف يقال لهم في مقام الرد عليه والإنكار لمقالتهم، أكنتم حاضرين حين وصى يعقوب بما ينافي دعوتكم، بل ينبغي أن يقال: أكنتم حاضرين حين وصى باليهودية وبما يحقق دعوتكم مثلا، تقول لمن يرمي زيدا بالفسق: أكنت حاضرا حين شرب أو قتل أو زنى ولا تقول حين صام وصلى وزكى. قال الشيخ سعد الدين: وقد يجاب بوجهين، أحدهما: أن الاستفهام حينئذ يكون للتقرير، أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه بملة الإسلام والتوحيد، وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليهم اليهودية. والثاني: إن تم الإنكار عند قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ويكون قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ} بيان فساد ادعائهم لا داخلا في حيز الإنكار، أي ما كنتم شهداء حين قال: لبنيه ما تعبدون من بعدي، وحين أجرى وصية الدين. فكيف تدعون اليهودية وأن يعقوب وصى بها، ثم بين بطلان دعواهم وتوجه الرد عليهم بقوله: (قالوا: نعبد) إلى آخره ولا يلزم من كونه استئنافا أن يدخل في حيز الاستفهام. قوله: (أو متصله بمحذوف تقديره، أكنتم غائبين أم كنتم شهداء)، قال أبو حيان: لا نعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره فلا يجوز: أم زيد، وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ وإنما سمع حذف أم المتصلة مع المعطوف لأن الثواني المقابلات يجوز

حذفها إذا دل عليها المعنى. وقال ابن عطية: أم هنا للاستفهام على جهة التوبيخ قال: وأم: تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية: وحكى الطبرى، أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره. وهذا منه، ومنه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. انتهى. ونقل ابن هشام في المغني، تجويز الزمخشري هذا ولم يتعقبه، بل قال: وجوز ذلك الواحدي أيضا وقدر، (أبلغكم ما تنسبون إلى يعقوب؟ من إيصائه ببنيه باليهودية، أم كنتم شهداء. قوله: وقرئ: حضر بالكسر، هي لغة، ومضارعها يحضر بالضم، وهو شاذ، إذ قياسه الفتح، لكن العرب اشتغنت فيه بمضارع المفتوح. قوله: بدل من إذ حضر: أغرب القفال فزعم أن إذ قال ظرف لحضر. قوله: و ((ما) يسأل به عن كل شيء)، قال الشيخ سعد الدين: استدل على إطلاق (ما) على ذوى العقول بإطباق أهل العربية على قولهم: (من) لما يعقل من غير تجوز في ذلك. حتى لو قيل. (من) لمن لا يعقل من لم يفعل كان لغوا من الكلام بمنزلة أن يقال لذى عقل عاقل. فائدة: قال الراغب: لم يعن، بقوله: ما تعبدون من بعدي العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، كأنه دعاهم ألا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما

خاف أن تشغلهم دنياهم ولهذا قيل: ما قطعك عن الله فهو طاغوت. قوله: لقوله عليه السلام: (عم الرجل صنو أبيه)، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة. والصنوان: نخلتان من عرق واحد. قوله: كما قال في العباس (هذا بقية آبائي)، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث مجاهد مرسلا، والطبراني في المعجم الكبير، وفي حديث ابن عباس، وفي المعجم الصغير من حديث الحسن ابن علي مرفوعا، بلفظ: احفظوني في العباس فإنه بقية أبائي. قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الذي بقي من جملة أبائي، يقال: بقية القوم، لواحد بقي منهم، ولا يقال: بقية الأب للأخ، والحاصل أن بقية الشيء يكون من جنسه. قوله: ( فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا) هو لزيادة بن واصل السلمي. وقبله عزتنانساء بني عامر ... فسمنا الرجال هوانا

قوله: (ويحتمل أن يكون اعتراضا)

مبينا بضرب كولغ ذكور الذئا .... ب تسمع للهام فيه رنينا ورمي على كل عزافة .... ترد الشمال وتعطى اليمينا فلما تبين: البيت، قال شارح أبيات سيبويه: ويروى فلما تبين أشباحنا. والنون في الأفعال الثلاثة للنسوة اللاتي أسرن وفدين قلن جعل الله إيانا فداكم، وألف أبينا: للإطلاق. قوله: (إلها واحدا بدل)، قال أبو حيان أو حال مؤطئة، نحو رأيتك رجلا صالحا: فالمقصود إنما هو الوصف، وجئ باسم الذات توطئة للوصف. قوله: (أو نصب على الاختصاص)، رده أبو حيان بأن النحاه نصوا على أن المنصوب الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما. قوله: (ونحن له مسلمون حال) قال أبو حيان: الأبلغ أن تكون معطوفة على نعبد فيكونوا أجابوا بشيئين، وهو من باب الجواب المربي على السؤال وكذا قال ابن عطية إنه أمدح. قوله: (ويحتمل أن يكون اعتراضا)، رده أبو حيان، بأن النحاة نصوا على أن جملة الاعتراض لا تقع إلا في أثناء كلام، وقال ابن هشاء في المغني: للبيانيين في الاعتراض اصطلاحات مخالفة لاصطلاح النحويين، والزمخشري: يستعمل بعضها كما في هذه الآية ويرد عليه مثل ذلك من لا يعرف هذا العلم كأبي حيان، توهما منه أنه لا اعتراض إلا ما يقوله

النحوي، وهو الاعتراض بين شيئين متطالبين. قوله: (والأمة في الأصل المقصود)، زاد الراغب كالعمدة والعدة، للمعود والمعد. قوله: (قال عليه السلام، (لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)، قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه. قلت: أخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحكم بن ميناء، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا أنتم بسبيل من ذلك، فانظروا ألا لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي) قال الطيبي: هو نفي في معنى النهي، والواو للجمع، كهي في قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله. قوله: (أي بل تكون) إلى آخره. مما قيل إنه منصوب على الإغراء، أي الزموا. قوله: (حال من المضاف)، هو رأى ابن الشجري، قال: وذكر حنيفا وإن كانت الملة مؤنثة حملا على المعنى، لأنها: بمعنى الدين. والحال من المضاف إليه إذا كان المضاف غير عامل فيه ممنوع عند

قوله: (والأسباط: جمع سبط)

الأكثر، وعليه أبو حيان، وقليل عند البعض، وعليه ابن مالك، وقيل: إن حنيفا نصب بإضمار فعل، أي نتبع. قال أبو حيان: وهو قريب. قوله: (وما كان من المشركين) قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنه عطف على حنيفا. قوله: (والأسباط: جمع سبط)، قال الراغب: أصل السبط انتشار في سهولة. وقال أبو حيان: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، من السبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون، ويقال: سبط عليه العطاء، إذا تابعه، ويقال: هو مقلوب بسط. وقيل: أصله من السبط وهو الشجر الملتف، والسبط الجماعة الراجعون إلى أصل واحد. قوله: (واحد: لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين) ليس هذا الذي ذكره صاحب الكشاف وإنما قال: أحد: في معنى الجماعة بحسب الوضع. قال الشيخ سعد الدين: لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد الذي، هو أول العدد، في مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، قال: وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي، على ما يسبق إلى كثير من الأوهام. ألا ترى، إنه لا يستقيم لا يفرق بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف، أي رسول ورسول، {لَسْتُنَّ

كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، ليس في معنى كامرأة منهن. انتهى. قوله: (من باب التعجيز والتبكيت) إلى أخره. قال الشيخ سعد الدين: لما كان ظاهر الكلام إن الذي آمن به المؤمنون مثلا، يحصل به الاهتداء كما يحصل بدينهم، وليس كذلك. دفعه بوجهين، أحدهما: أن ذلك على سبيل الفرض والتقدير، قصداً إلى التبكيت والإلزام، يعني إن حصلوا دينا مثل دينكم في الاستقامة وآمنوا به فقد اهتدوا، لكن ذلك منتف، لأن طريق الحق واحدا فلا طريق إلى الاهتداء إلا هذا الدين. وثانيهما: أن الباء ليست صلة أمنوا، بل الاستعانة، وآمنوا: بمعنى أوجدوا الإيمان الشرعي ودخلوا فيه من غير احتياج إلى تقدير صلة. أي فإن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم، قولا واعتقادا. وعلى الوجهين: ما، موصولة عبارة عن الدين أو الشهادة، وأما على زيادة الباء: فما مصدرية. قوله: (وهو: المناوأة والمخالفة)، قال بعضهم: ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق، إنما يقال في الباطل. قوله: (فإن كل واحد من المتخالفين في شق)، أي جانب. وقيل: إن اشتقاقه، من المشقة، لأن كل واحد منهما: يحرص على ما يشق على صاحبه. قوله: (أو وعيد)، قال الطيبي: أو للتنويع، لا للترديد، لأنه لا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معا. قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} إلى آخره. قال أبو حيان: العرب تسمى ديانة

الشخص بشيء واتصافه به صبغة. قال الشاعر: وكل أناس لهم صبغة ..... وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أبناءنا .... فأكرم بصبغتنا في الصبغ الطيبي: على الأقوال الثلاثة التي صدر بها المصنف تكون من باب الاستعارة التصريحية التحقيقية، والقرينة الإضافة إلى الله تعالى. والجامع على الأول، أي على أن يراد بالصبغة الحلية التأثر والظهور، وعلى الوجوه الثلاثة: الظهور والبيان، قال: وهذا أنسب من قول المشاكلة، لأن الكلام عام في اليهود والنصارى وتخصيصه/ بصبغ النصارى: لا وجه له، وقال الشيخ سعد الدين: اختصاص الغمس في المعمودية بالنصارى لا ينافي صحة اعتبار المشاكلة في إيمان الفريقين، لأن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة. قوله: (ونصبها على أنه مصدر مؤكد)، أي لنفسه، لكونه: مضمون جملة لا محتمل لها غيره، وهي (آمنا بالله) ومعطوف عليه. قوله: (ولمن ينصبها على الإغراء) إلى آخره، جواب عن كلام الزمخشري، فإنه قال: ونحن له عابدون، متصل بقوله: (أمنا) ومعطوف عليه، وهذا العطف يرد قول من زعم، أن صبغة بدل من ملة أو نصب على الإغراء لما فيه من فك النظم، وإخراج الكلام عن التامة واتساقه، فأجاب المصنف بأنه إذا قدر القول لا يلزم ذلك. قال الطيبي: ومراده، أنه يقدر، وقولوا: (نحن له عابدون) ليصح عطفه

قوله: (ونحن له مسلمون)

على الزموا صبغة الله، واتبعوا ملة إبراهيم صبغة. قال: والحق: أن كلا من قوله: (ونحن له مسلمون)، (ونحن له عابدون)، (ونحن له مخلصون) اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به بقوله على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى، لا عطف. وتحريره: أن قوله ونحن له مسلمون مناسب لآمنا، أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء، ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه. وقوله: ونحن له عابدون ملائم لقوله: صبغة الله، لأنها دين الله تعالى فالمصدر كالمصدر لكن لما سبق من الإيمان والإسلام. وقوله: ونحن له مخلصون، موافق لقوله: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، وفي ذكر هذا المعنى بعد ذلك ترتيب أنيق، لأن الإخلاص شرط في العبادة. وفيه من حديث جبريل عليه الصلاة والسلام، حين سأل على الإحسان، بعد سؤاله عن الإيمان والإسلام ومثل هذا النظام يفوت مع تقرير الإغراء والبدل. انتهى. وقال الشيخ سعد الدين في تقدير كلام الزمخشري: في كل من الإغراء والبدل فصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أعني جملتي (أمنا) و، {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، بالأجنبي الذي لا يتعلق بما تتعلق به الجملتان، إذ لم يدخل البدل ولا الإغراء في حيز قولوا، بل الأول من حيز عامل ملة إبراهيم، والثاني مستقل وبمنزلة التأكيد والبيان، لقوله قولوا ففي هذا فك لنظام الكلام وإخراج له عن الالتئام مع أن في الإبدال شيئا آخر، وهو الفصل بين البدل والمبدل منه بما لا يتعلق بعامله. فإن قيل: نحن لا نجعله عطفا على (آمنا)، بل على فعل الإغراء، بتقدير: أي الزموا صبغة الله. وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، ولو سلم ففيما ذكرتم أيضا فصل

بين المعطوف والمعطوف عليه وكذا بين المؤكد والتأكيد بالأجنبي، فإن قوله {فَإِنْ آمَنُوا} وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} لا يدخل شيء منها في حيز قولوا، قلنا: لا وجه لارتكاب الإضمار بلا دليل مع ظهور الوجه الصحيح وما ذكر من الفصل وإن لم يتعلق بقولوا لفظا فقد تعلق به معنى، فلا فك للنظم. انتهى. تنبيه: قدر الزمخشري الإغراء على القول به بعليكم، وتعقبه أبو حيان، بأن الإغراء إذا كان بالظرف أو المجرور لا يجوز حذفه قال: والوجه تقديره بالزموا. انتهى. ولذا قدره المصنف بإلزموا. قوله: ((في الله)، أي في شأنه واصطفائه نبيا من العرب). الطيبي: فإن قلت: كيف قيد المطلق وهو في الله بقيد النبوة، وليس ثم قرينة التقييد؟ قلت: القرينة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}، والكلام تعريض باليهود وأنهم كتموا ما في التوراة من دلائل النبوة. وقال الشيخ سعد الدين: القرينة، قوله: وما أنزل إلينا سابقا. وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ}، تعريض بكتمانهم شهادة الله بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لاحقا. قوله: (روى أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا، فنزلت)، لم أره في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير

قوله: (أو منا لو كتمنا)

المسندة، ولو ورد لكان قرينة ثالثة لما تقدم. قوله: (وعلى قراءة ابن عامر)، إلى آخره، ظاهره أن الاتصال لا يتأتى على قراءة الغيبة، وأنها لا تكون عليها إلا منقطعة وهو المصرح به في الكشاف. قال الطيبي: لأنه لا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة، فاندفع بذلك تجويز أبي حيان له فيها تخريجا على الالتفات. قوله: (والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب)، هذا هو الذي اتفق عليه أهل التفسير. أخرجه ابن جرير، عن مجاهد والحسن، والربيع، وقتادة، وابن زيد، لكن الأخيران: قالا: إنه في كتم أهل الكتاب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - والشهادة له بالنبوة والأولون قالوا: إنه في كتمهم الشهادة لإبراهيم بالحنيفية: وبراءته من اليهودية والنصرانية. قوله: (أو منَّا لو كتمنا)، هذا احتمال ذكره الزمخشري، ولا يعرف للمفسرين، ورده أبو حيان، لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسبوه إلى إبراهيم، فاللائق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب، لا مع

الرسول والمؤمنين. قوله: ومن، للابتداء، كما في قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ}، قال أبو حيان: ظاهره، أن من الله، في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه الآية، وقيل: إنها متعلقة بالعامل في الظرف، وهو: عنده. أي كائنة عنده من الله. قال: والفرق بينه وبين الأول أن العامل في ذلك الظرف والمجرور اثنان، وفي هذا واحد. وقيل: هي متعلقة بكتم بحذف مضاف أي كتم من عباد الله شهادة عنده من الله. قوله: (وقرئ بالياء)، لم يذكر أبو حيان هذه القراءة، مع استيعابه جميع الشواذ، وكونه من أهل الفن، فينبغي التوقف عند نقل هذه إلى أن توجد في كتاب أحد. من أهل فن القراءة. قوله: (وفائدة تقديم الإخبار به) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا قول الزمخشري وغيره، وذهب قوم إلى أن الآية متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول وأنزل قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} الآية ثم نزل {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} نص على ذلك ابن عباس وغيره، ويدل على هذا ويصححه حديث البراء ابن عازب، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً وكان يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية، فقال السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فقال الله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية، أخرجه الشيخان، وإذا كان كذلك

، فمعنى قوله: سيقول، إنه مستمرون على هذا القول وإن كانوا قد قالوه فحكمه الاستقبال. لأنهم كما صدر عنهم هذا القول في الماضي فهم أيضا يقولونه في المستقبل، وليس هذا من وضع المستقبل موضع الماضي، وإن كان معنى سيقول كما زعم بعضهم، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه. انتهى كلام أبي حيان. وما نقله على نص ابن عباس: صحيح، أخرجه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وابن جرير وغيرهما، من طرق عنه مصرحة بأن نزول سيقول بعد قول اليهود، وبعد (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، كما أوردتها في التفسير المسند، وفي أسباب النزول، لكن ظاهر تقرير ابن جرير كالوجه الأول، وإنه من إعلام الله نبيه بما هم قائلوه ليعدلهم الجواب. قوله: (واعداد الجواب)، قال في الكشاف؛ لأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، قال في الانتصاف: ولهذا أدرج النظار في أثناء مناظرتهم العمل بالمقتضى الذي هو كذا، السالم عن معارضة كذا، فيقولون:- درء للمعارض قبل ذكر الخصم، وهذه الآية من أحسن ما يستدل به عليه. قوله: (والقبلة في الأصل)، إلى آخره. هو كلام الراغب، وتقريره أنها في الأصل للهيئة، ولما استعملت في المكان أبقيت على وزنها.

قوله: (بارتسام أمره)

قوله: (بارتسام أمره): في الصحاح، رسمت له كذا فارتسمه أي امتثله. قوله: (وكذلك: إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهتدين) إلى آخره مشى عليه أبو حيان، فقال: الكاف للتشبيه، وذلك إشارة إلى جعلهم على هدى، المفهوم: من قوله: يهدي من يشاء وقال القرطبي: معنى التمثيل الذي تعطيه الكاف هو الصفة والحالة، لا التنظير والتشبيه، والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو الأمر العجيب الشأن، أي تعظيم المسلمين واختصاصهم بالهداية المأخوذ من قوله يهدي من يشاء، وتعظيم التوجه إلى الكعبة الماخوذ من قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال الشيخ سعد الدين: الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده، لا إلى جعل أخر يقصد تشبيه هذا الجعل به، على ما يتوهم من أن المعنى مثل جعل الكعبة قبلة، جعلناكم أمة وسطا، وإذا تحققت فالكاف مقحم إقحاما كاللازم، لا يكادون يتركونه في لغة العرب وغيرهم، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام. قلت: صدق الشيخ سعد الدين وبر، وهذا المعنى الذي يجيء إليه مازال يختلج في ضميري في جميع الآيات التي وردت في القرآن بهذه الصفة، مثل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ}، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}، {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وكنت أرى

(جوازه فيما يتحمله) كثيرون من جعل الإشارة إلى شيء مفهوم مما سبق إلى أن ظفرت، بنقل عن ابن الأنباري فصرح بما نحوت إليه وقد سقته موضحا في سورة الأنعام من كتابي أسرار التنزيل وهذا الكلام من الشيخ سعد الدين مقوله. قوله: (وسطا أي خياراً أو عدولا)، قال أبو حيان بعد حكاية القولين: الثاني ورد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتظاهرت به عبارات المفسرين فيجب المصير إليه في تفسير الوسط. قلت: الأمر كما قال، فقد أخرج البخاري وأحمد، والترمذي والنسائي، والحاكم، وابن جرير وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلاً، وأخرجه ابن جرير من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس ومجاهد والربيع، وعبد الله بن كثير وعطاء وقتادة، ثم قال ابن جرير، العدل هو معنى الخيار، لأن الخيار من

قوله: (وهذه الشهادة)

الناس عدولهم، قال: وأنا أرى أن الوسط هنا: هو الوسط الذي بين الطرفين، لأنهم متوسطون في الدين ن فلا هم أهل غلو فيه، كالنصارى غلوا فيه بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا، ولا أهل تقصير، كاليهود بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم ولكنهم أهل توسط واعتدال، وأحب الأمور إلى الله تعالى أوسطها. فائدة: قال في المغرب: الخيار جمع خير وهم خلاف الأشرار، والوسط بالتحريك اسم العين ما بين الجوانب، كمركز الدائرة، وبالسكون ما بين الطرفين من الأماكن المبهمة، ولا يقع إلا ظرفا تقول: جلست في وسط الدار بالفتح، وجلست وسط الدار بالسكون. قوله: (التهور)، هو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة. قوله: (روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون) إلى آخره. أخرجه البخاري والترمذي والنسائي والبيهقى في الشعب من حديث أبى سعيد وهو هنا مروي بالمعنى، لا باللفظ. قوله: (وهذه الشهادة) إلى أخره. اختيار لأن المراد بقوله، عليكم شهيدا أي مزكيا لكم شاهدا، بعدالتكم، وهو أحد القولين في الآية. والثاني أن المراد، أنه حجة عليهم لا يطالب بشهيد كما يطالب به سائر الأنبياء. قوله: (وقدمت الصلة) إلى أخره، وهو مبني على ما اختاره. قال الطيبي: هو من باب قصر الفاعل على المفعول، أي لا يتجاوز

تزكية الرسول - صلى الله عليه وسلم - والشهادة بعدالة أحد سواهم. قوله: (فإنه عليه السلام كان يصلى إليها بمكة، فلما هاجر أمر بالصلاة/ إلى الصخرة تاليفا لليهود)، هو في حديث البراء بدون أخره، وأخرجه ابن جرير، وابن أبى حاتم عن ابن عباس، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير أن يوجه وجهه كيف يشاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتاب. قوله: (لقول ابن عباس: كانت قبلته بمكة بيت المقدس، إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه، أحد الضميرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر لبيت المقدس، والأثر أخرجه البيهقي من حديث مجاهد، عن ابن عباس، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه). قوله: (فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ) وهو الجهة التي كان عليها، أي ومارددناك إلى ما كنت عليه. قوله: (وعلى الثاني: المنسوخ) يعني أنت الآن على ما ينبغي أن تكون عليه، وما كنت عليه قبل هذا كان أمرا عارضا. قوله: (ينكص)، النكوص الأحجام عن الشيء. قوله: (فإن قيل) إلى آخره، الشيخ سعد الدين: حاصل السؤال

أن التعلم يشعر بحدوث العلم في المستقبل، وعلمه أزلى. وأجاب بوجوه ثلاثة. حاصل الأول: إن المراد علم مقيد بالحادث، فالحدوث راجع إلى القيد، وحاصل الثاني: التجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص، وفي قوله: أشد دلالة بينه على أن ذلك ليس باعتبار حذف المضاف وحاصل الثالث: التجوز بإطلاق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز، فإن قيل: إن أريد التمييز في الوجود العيني فهو حاصل قبل التحويل أو في الوجود العقلي، فحاصل في علم الله بل عينه، وغير مسبب على علم الله في علم المخلوق، فكيف يعبر عن التمييز في علم المخلوق، أجيب بأن المراد الأول، ولاخفاء في أنه لا يكون إلا بعد الوجود، أعني التمييز، وفي الكشاف في موضع آخر، وجه رابع، وهو التمثيل أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم. انتهى. وفي غيره وجه خامس، أنه إن أريد بالعلم الجزاء أي ليجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب يذكر العلم، نحو: أنا أعلم، بمن قال لك: أريد عصاك، والمعنى: أنا أجازيه على ذلك قال أبو حيان: ويؤكد كونه بمعنى التمييز، تعديه بمن، لأن العلم لا يتعدى بمن، إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز، هو الذي يتعدى بمن. قلت: ويؤيده أيضا، أنه الوارد عن ابن عباس، أخرجه ابن جرير، بسند صحيح عنه، في قوله: (إلا لنعلم) قال: إلا لتمييز أهل اليقين

قوله: (والعلم، إما بمعنى المعرفة)

من أهل الشك. قوله: (والعلم، إما بمعنى المعرفة) والله تعالى، لا يوصف بها، قلنا: ذاك لشيوعها فيما يكون مسبوقا بالعدم، وليس العلم الذي بمعنى المعرفة كذلك، إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين، أو معلق لما في (من) من معنى الاستفهام. رده أبو البقاء، بأنه حينئذ لا يبقي لمن ما يتعلق به لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بيتبع، لأنها في المعنى متعلقة بيعلم، وليس المعنى أي فريق يتبع. وأجاب الطيبي، والشيخ سعد الدين بأنه حال من فاعل يتبع، أو مميزا عنه بدلالة فحوى الكلام. قوله: (واللام هي الفاصلة) أي الفارقة بين أن المخففة والنافية، لا بينها وبين المشددة على ما وقع في تفسير الكواشي. قوله: (وقرئ لكبيرة بالرفع، فتكون كان زائدة): قال أبو حيان: هذا ضعيف لأن كان الزائدة لا عمل لها، وهنا قد اتصل بها الضمير، فعملت فيه، ولذا استكن فيها، والذي ينبغي أن يجعل لكبيرة خبر مبتدأ محذوف، أي لهي كبيرة، فالجملة خبر كان. وقال الشيخ سعد الدين: إذا أراد، (إن كانت مع اسمها مزيدة): كانت كبيرة: خبراً بلا مبتدأ، وأن المخففة واقعة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس والاستعمال، وإن أراد، إن كانت وحدها مزيدة والضمير باق على الرفع بالابتداء فلا وجه لاتصاله واستكانه، وغاية ما يتحمل، أنه لما وقع بعد كانت وكان من جهة المعنى في موقع اسم كان جعل متصلا مستكنا تشبيها بالاسم، وإن كان مبتدأ تحقيقا والأوجه في هذه القراءة أن يجعل في كانت ضمير

القصة، ويقدر بعد اللام مبتدأ، أي وإن كانت القصة للتحويلة كبيرة. انتهى. قوله: (الثابتين) إنما قيد الذين هدى الله بالثابتين، لأنه مقابل لقوله: ممن ينقلب على عقبيه، لما روى (أنه عليه الصلاة والسلام لما وجه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتوا)؟ إلى آخره. أخرجه الشيخان عن البراء، وأحمد والترمذي والحاكم، عن ابن عباس. قوله: (قد نرى، أي ربما) زاد في الكشاف، ومعناه كثرة الرؤية، كقوله: قد أترك القرن مصفرا أنامله. قال أبو حيان: رب على مذهب المحققين للتقليل، فقوله: فمعناه كثرة الرؤية مضاد لمدلوله، ثم هذا المعنى الذي ادعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ. لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة، وهذا التركيب، أعنى تركيب قد مع المضارع، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب الذي هو مطاوع التقليب وفعله قلب، وقال الطيبي والشيخ سعد الدين: أن أصل قد في المضارع للتقليل، وقد استعيرت هنا للتكثير لمناسبة التضاد، كرب، فإنها للتقليل ثم تستعار للتكثير، وقال ابن المنير: إذا بالغت العرب عبرت عن المعنى بضد عبارته، ومنه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع

قوله: (ترضاها، تحبها)

في روعه، ويتوقع من ربه أن يحوله) إلى آخره. في الصحيحين من حديث البراء، (وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت). وروى ابن إسحاق من حديثه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء، وينتظر أمر الله، وللنسائي، من حديثه، كان يحب أن يصلي نحو الكعبة، فكان يرفع رأسه إلى السماء، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ: عن أبي العالية، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لجبريل: وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال: ادع ربك، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل، والروع: بضم الراء القلب. قوله: (أو فلنجعلنك على جهتها) قال الشيخ سعد الدين: من ولاه، دنى منه، ووليته إياه: أدنيته منه. قوله: (ترضاها، تحبها) قال الطيبي: أي الرضى مجاز عن المحبة. الراغب. قيل، لم يقصد بقوله: ترضاها، إنك ساخط القبلة التي كنت عليها، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - ألقى في روعه أن الله يريد تغيير القبلة، فكان يتشوقه ويحبه، وقيل: تحبها، لأن مرادك لم يخالف مرادي وهذه منزلة يشد إليها أولو الحقائق، ويذكرون أنها فوق التوكل، لأن قضية التوكل الاستسلام لما يجري عليه من القضاء، كأعمى يقوده بصير،

وهذه المنزلة أن يحرك الحق سره بما يريد فعله. قوله: (لمقاصد دينية) إلى أخره. قال الشيخ سعد الدين: أي أن ميله إلى الكعبة لم يكن من جهة هوى النفس، وإجابة الله إياه لم تكن لمجرد ميله، بل لموافقة إرادته وحكمته. قوله: (والبعيد يكفيه مراعاة الجهة)، هذا اختيار من المصنف لأحد القولين في المذهب، والمصحح خلافه. قوله: روى أنه - صلى الله عليه وسلم -، قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أخرجه الشيخان من حديث البراء. قوله: (ثم وجه إلى الكعبة في رجب قبل الزوال، قبل قتال بدر بشهرين)، أخرجه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، عن سعيد بن المسيب مرسلا، وليس فيه قبل الزوال، لكن يؤخذ من الحديث الآتي. قوله: (وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمى المسجد مسجد القبلتين، هذا تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما، ولا هو الذي تحول في الصلاة. أخرج النسائي عن أبي سعيد المعلى، قال: كنا نغدوا إلى (المسجد، فزرنا) يوما،

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر فقلت: لقد حدث أمر فجلست، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فقلت لصاحبي: تعالى نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس الظهر يومئذ. وأخرج أبو داود في الناسخ، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانوا يصلون نحو بيت المقدس إلا أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة، فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبة، وأخرج الشيخان عن ابن عمر، قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة. قوله: (لتلصلب) الأساس، من المجاز، تصلب فلان في الأمر، إذا اشتد فيه. قوله: (وبالغ فيه من سبعة أوجه)، وصلها الشيخ سعد الدين إلى أكثر: فإنه قال: لما في الكلام من وجوه المبالغة كالقسم واللام الموطئة، وإن الفرضية وإن التحقيقية واللام في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار طريقة الظالمين. على أنك إذا ظالم أو الظالم، لإفادتها أن ذلك مقرر محقق، أنه معدود في زمرتهم وإيقاع الاتباع على ما سماه أهوالا. قوله: (الضمير لرسوله الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يسبق ذكره)، قال أبو حيان: ليس كذلك، بل هذا من باب الالتفات، لعدم ضمائر الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - في الآيات السابقة، لكن الشيخ سعد الدين، حكى هذا، وقال: إنه ليس

قوله: (تخصيص لمن عاند، واستثناء لمن آمن)

بشيء، ولم يبين وجوه رده، وبينه الطيبي: فقال: الآيات السابقة وردت في شأن القبلة، وهذه وردت في شأنه - صلى الله عليه وسلم -، فليس بينهما مناسبة ومن ثم ابتدى بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} من غير عطف، فلو رجع الضمير إلى السابق أو هم نوع اتصال، ولم يحسن ذلك الحسن، وتقرير النظم أنه تعالى لما ذكر أمر القبلة، وقول السفهاء، وطعنهم مع علمهم أن التحويل حق، لأنه كان مذكورا عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى إلى القبلتين جاء بهذه الآية على سبيل الاستطراد بجامع المعرفة الجلية مع الطعن فيه، والدليل على أن هذه الآية مستطردة قوله بعد ذلك: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}. قوله: (أو التحويل)، قال الطيبى: يريد أن نظم الآي السابقة والأتية تستدعيه، لأن الكلام فيها في أمر القبلة. قوله: (عن عمر، أنه سأل عبد الله بن سلام) إلى آخره، أخرجه، الثعلبي، من حديث ابن عباس. قوله: (تخصيص لمن عاند، واستثناء لمن آمن)، قال الطيبي: أي إخراج، فهو استثناء معنوي لا اصطلاحي، قال: ووجه ما ذكره، أن قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ} يدل من حيث المفهوم أن غير ذلك الفريق لا يكتمون. قوله: (وإما خبر مبتدأ محذوف)، لم يبين كون اللام/ عليه لماذا وقد قال الطيبى: إنها للعهد، ولا يجوز أن تكون للجنس، لأنه لا معنى لقولك المذكور: جنس الحق الكائن من ربك، اللهم إلا على الادعاء كما في قولك: حاتم الجود. وقال الشيخ سعد الدين: إنها حينئذ للجنس كما

قوله: (أو أمر الأمة)

في، (ذلك الكتاب)، ومعناه أن ما جاءك من العلم أو ما يكتمون هو الحق، لا ما يدعون ويزعمون، ولا معنى حينئذ للعهد، ثم قال: ومما يجب التنبه له، أن ما ذكر في بيان العهد والجنس تقرير للحاصل المراد، لا تقرير لموقع مفردات الكلام فلا يتوهم أن في الأول حذف مبتدأ، ولا في الثاني حذف خبر هو متعلق من ربك مع موصول به. قوله: (ومن ربك حال)، قال الشيخ سعد الدين: أي مؤكدة، مثل هو الحق مبينا. قوله: (أو مفعول يعلمون) ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك. وجوز ابن عطية أن يكون بفعل محذوف تقديره: إلزم، ويدل عليه قوله بعده: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. قوله: (إما تحقيق الأمر)، أي بأن يكون الخطاب عاما. قاله الطيبي: قال: إنه أبلغ الوجهين لأن الخطاب من العظم بحيث لا يختص بالخطاب أحد دون أحد. قوله: (أو أمر الأمة) قال الطيبي: فيكون من باب: {يا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} عظم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه الخطاب إليه، والمراد أمته لأنه إمامهم وقدوتهم، اعتبارا لتقدمه وإظهاراً لرتبته. قوله: (على الوجه الأبلغ) عبارة الكشاف: بألطف وجه. قال الشيخ سعد الدين: بمعنى أن من كانت أمة لك كان امتراؤد امتراءك.

وعندي: إن المصنف أشار إلى أبلغية، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (بخلاف) فلا تمتروا، وفلا تكونن ممتريا، على ما حققته في أسرار التنزيل. قوله: (أي هو موليها وجهه أو الله موليها إياه) إلى أخره. الشيخ سعد الدين. يعني أن ضمير هو يجوز أن يكون لكل، والمفعول المحذوف وجهه. وأن يكون الله، والمفعول المحذوف ضمير كل. واختار الأول لظهور المرجع، وأما على قراءة الإضافة، فضمير هو، لله قطعا: إذ لا ذكر للغير، واللام مزيدة في المفعول، لتقدمه. وكون عامله اسم فاعل، فلها جهتان. انتهى. قال أبو حيان: ما ذكره الزمخشري في توجيه هذه القراءة فاسد، لأن العامل إذا تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام، لا يجوز، لزيد ضربته، ولا لزيد أنا ضاربه، لما يلزم فيه من تعدي الفعل المتعدي لواحد إلى اثنين. وقد أورد الشيخ سعد الدين، هذا السؤال، فأجاب عنه، فقال: فإن قيل: العامل مشتغل بالضمير، فكيف يعمل في المتقدم؟ قلنا العامل محذوف، والمذكور تفسير له. أي لكل جهة الله مول. موليها. انتهى. وقد قال الشيخ أبو حيان عقب كلامه السابق: ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل جهة يفسره. قوله: موليها: لتقديرنا زيداً أنا ضاربه، أي أضرب زيدا أنا ضاربه فتكون المسئلة من باب الاشتغال لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر.

تقول: زيداً مررت به، أي لابست زيداً، ولا يجوز، بزيد مررت به. انتهى. وليس هذا الذي قدره الشيخ سعد الدين، لأنه قدره متأخرا، والذي نفى أبو حيان تقديره أن يكون مقدما فتأمل، ثم قال أبو حيان: ولا يصح في توجيه هذه القراءة أن تكون لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها والأول الضمير المتصلة به العائد إلى أرباب القبلات لنص النحويين على أن هذه اللام لاتزاد فيما يتعدى لاثنين. انتهى. ووجهها بعضهم، بأن لكل وجهة مفعول أول على حذف المضاف، أي لكل صاحب وجهة، وضمير موليها مفعول ثان، وهو مردود بما رد به الذي قبله، وقال ابن عطية: اللام متعلقة بقوله: فاستبقوا، أي استبقوا الخيرات لكل وجهة، ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم به، فقدم المجرور على الأمر للاهتمام بالوجهة، قال أبو حيان: وهذا توجيه لا بأس به. وقال السفاقسي: لم ينص الزمخشري على أن الهاء ضمير المفعول، فيجوز أن يكون عنده ضمير المصدر أي مولي التولية، كقوله: (هذا سراقة للقرآن يدرسه، أي يدرس الدرس، ويدل عليه ذكره للمثال بعدها، ولو كانت ضمير المفعول لذكرها، وعلى هذا فيكون المثال مطابقا، لأن ضمير المصدر لا تأثير له في المسئلة، وقد ذكر الفارسي، هذا التخريج في الحجة، وجعل الهاء ضمير التولية، قال: وقول أبي حيان، إن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر، قد أجازه بعضهم وحمل عليه قراءة من قرأ. {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} ونقله أبو حيان نفسه في شرح التسهيل، قال: وقوله: إنهم منعوا زيادة اللام فيما يتعدى لاثنين تبع فيه ابن مالك في شرح الكافية، وفيه نظر فقد أطلق ابن عصفور وغيره أن المفعول يجوز إدخال اللام عليه للتقوية إذا تقدم على

العامل، ولم يقيدوه بأن يكون مما يتعدى إلى واحد، وقد قال الفارسي: إن هذه القراءة تصح على حذف مضاف، وهو أن يقدر، ولكل ذي وجهة هو موليها، المعنى: إنه مول لكل ذي وجهة وجهتهم. قال ابن مالك في تعليل المنع، لأنها إما أن تزاد فيها، فلا نظير له، أو في أحدهما. فيلزم الترجيح بدون مرجح، جوابه: إنها تزاد في المتقدم منهما، وترجح بضعف طلب عامل له لتقدمه، كما في الآية. انتهى. قوله: (استثناء من الناس)، قال الشيخ سعد الدين: يعني به البدل لأنه المختار في غير الموجب، فيكون مجروراً. قوله: (وسمى هذه حجة) إلى آخره. حاصله تقدير أن المراد بالحجة، المتمسك حقا كان أو باطلا. أشار إليه الشيخ سعد الدين. وقال الزجاج: مالك علي حجة إني الظلم؟ أي مالك على حجة ألبتة ولكنك تظلمني، وإنما سمى ظلمه حجة، لأن المحتج به سماه حجة. قوله: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب). وهو، من قصيدة للنابغة الذبياني، والفلول: كسور في حد السيف، واحدها فل بالفتح. والقراع الضراب، والكتائب: جمع كتيبة، وهي: الجيش والبيت: من تأكيد المدح بما يشبه الذم. قوله: (وإراداتي اهتداءكم)، فسر به لاستحالة حقيقة الترجي. قوله: (لئلا يكون) العطف عليه هو الصواب إذ لا حاجة إلى

قوله: (قدمه باعتبار المقصد

التقدير، مع وجود علة مصرحة يصح العطف عليها، ورجحه أبو حيان، قال: ولا يضر الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه من متعلق العلة الأولى. قوله: (وفي الحديث، تمام النعمة، دخول الجنة)، أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والترمزي، من حديث، معاذ بن جبل. قوله: (وعن علي، تمام النعمة، الموت على الإسلام)، أخرجه. قوله: (متصل بما قبله)، الكاف على هذا للتشبيه قطعا. قوله: (أو بما بعده)، إلى آخره. قال أبو حيان: الكاف على هذا يحتمل أن تكون للتشبيه، وأن تكون للتعليل، قال: وهو، الأظهر، قال: ثم هذا القول، قد رده مكي، لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله، لاشتغاله بجوابه، قال: وما ذكره مكي، ليس بشيء. قوله: (قدمه باعتبار المقصد، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل) وجهه أبو حيان بأن المراد بالتزكية هنا، التطهير من الشرك)، وهناك الشهادة بأنهم خيار أزكياء وذاك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل، وفيه نظر. قوله: (واشكروا لي ما أنعمت به عليكم)، قال أبو حيان: إشارة إلى: أن أشكر، يتعدى/ لواحد بحرف جر والآخر بنفسه. ثم إنه ينشد هنا قول القائل: ولو كان يستغني عن الشكر منعم

لرفعة شأن أو علو مكان لما أمر الله العباد بشكره .... فقال اشكروني أيها الثقلان قوله: (بل هل أحياء)، قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس هو عطفا على القول، بل هو أضراب على نهيهم إلى الأخبار بهذه الجملة. وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مندرجا تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. قال: لكن الأول أرجح، لقوله بعد: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}. قوله: (وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد) إلى آخره. الراجح: أن حياتهم بالجسد، ولا يقدح في ذلك عدم الشعورية من الحي كما أوضحته بأدلته في كتاب البرزخ، وأعظم دليل ذلك: أن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات، المؤمنين والكفار بالإجماع فلو لم تكن حياة الشهيد بالجسد لاستوى هو وغيره ولم يكن له ميزة، فقوله: ولكن لا تشعرون). أي: بحياتهم بأجسادهم، لكون ذلك من المغيب عنكم. ولذا قال ابن جرير في تفسيره: لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء. قوله: (وعن الحسن، أو الشهداء) إلى آخره. وفي صحيح مسلم: عن ابن مسعود مرفوعا (أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش). وأخرج أحمد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشهداء

قوله: (وكانوا أربعة عشر)

على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا)). قوله: (والآية نزلت في شهداء بدر): أخرجه ابن منده في كتاب الصحابة، من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبى صالح، عن ابن عباس. قوله: (وكانوا أربعة عشر)، حارثه بن سراقة، ورافع ابن المعلي، وذو الشمالين ابن عبد عمرو الخزاعي، وسعد بن خيثمة، وصفوان بن بيضاء، وعاقل بن البكير الليثي، وعبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص، وكان سنة ستة عشر أو سبعة عشر عاما وعوف ومعوذ ابنا عقراء، ومبشر بن عبد المنذر، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، ويزيد بن الحارث. قوله: (عطف على بشيء)، قال الشيخ سعد الدين: هذا وجه نظر إلى تنكير نقص. قوله: إذا مات ولد العبد، الحديث. أخرجه الترمذي من حديث أبي موسى، وحسنه.

قوله: (وجمعها للتنبيه على كثرتها)

قوله: (كل شيء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة)، أخرجه ابن أبي الدنيا: في كتاب العزاء من حديث عكرمة مرسلا، بهذا اللفظ. وأخرجه الطبراني في الكبير موصولا، من حديث أبي أمامة بلفظ: ((ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة)، وله شواهد مرفوعة وموقوفة. قوله: (وجمعها للتنبيه على كثرتها)، الشيخ سعد الدين: جمع الصلوات للتكرير، كالتنبيه في لبيك، بمعنى أنه لا انقطاع لرأفته وذلك، لأن حمل الصلوات على عدة من ذلك، ثلاثة فما فوقها، مما ليس له كبير معنى. قوله: (من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه)، قال الطيبي: ما وجدته في الكتب المعتبرة. قلت: أخرجه، ابن أبي جاتم، والطبراني، والبيهقي في شعب

الإيمان: من حديث ابن عباس. قوله: (علما جبلين)، واللام فيهما لازمة للغلبة. قوله: (وهي العلامة)، في الصحاح: الشعائر، أعمال الحج، وكل ما جعل علما على طاعة الله، قال الأصمعي: الواحد شعيرة، وقيل شعارة. قوله: (كان إساف)، إلى قوله: (فنزلت)، أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير، عن الشعبي، وهو مرسل. وأوله؛ إن وثنا يسمى: إسافا، ووثنا يسمى: نائله. وزاد في آخره، قال، فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا، وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث بمعنى ذلك. قوله: (وبه قال أنس وابن عباس)، أخرج ابن جرير من طريق عاصم الأحول، قال: قال أنس بن مالك: الطواف بينها تطوع، وأخرج من طريق عطاء عن ابن عباس قال: لا جناح عليه ألا يطوف بهما. وأخرج الطبراني من وجه آخر، قال: لاجناح عليه أن يطوف بهما، فمن ترك فلا بأس. قوله: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)، أخرجه بهذا اللفظ أحمد، من حديث حبيبه بنت أبي تجراة، والطبراني، من حديث

ابن عباس. قوله: (صفة مصدر محذوف)، أي تطوعا. قوله: (أو بحذف الجار)، يؤيده قراءة ابن مسعود، بخير، وبه جزم أبو حيان. قوله: (أي الذين يتأتى منهم اللعن من الملائكة والثقلين) هو، قول قتادة والربيع: أخرجه عنهما ابن جرير. وأخرج عن/ عكرمة، أنهم كل شيء، حتى البهائم والخنافس، والعقارب، وأخرج عن مجاهد والضحاك، إنهم دواب الأرض، ويؤيده ما أخرجه، ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي جاتم، عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، في جنازة، فقال: إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فتسمعه كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} يعني دواب الأرض، فهذا تفسير مرفوع عن صاحب النبوة فينبغي أن يوقف عنده، ولا يتعداه، فإن قلت: جمع العاقل يأباه. قلت: هو على حد {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.

قوله: ((عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل في المعنى). قال أبو حيان: هكذا خرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين وهذا الذي جوزوه ليس بجائز: لما تقرر في العطف على الموضع من أن من شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع، لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لـ (أن) والفعل والذي يظهر خلافه، لأن المراد الاستقرار، لا الحدوث، كقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، فإنه ليس معناه، ألا أن يلعن الله على الظالمين. وقولهم: ذكاء الحكماء، فليس المعنى في ذلك ونحوه على الحدوث وتقدير المصدر منحلا، لأن والفعل بل هو مثل قولهم، له وجه القمر، وشجاعة الأسد فأضيفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. قال: فالصواب أن يخرج على إضمار فعل، أي ويلعنهم، أو على العطف على لعنة الله، على حذف مضاف، أي ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه، بإعرابه، أو على الابتداء، والخبر محذوف، أي يلعنوهم. قوله: (أو النار)، إلى أخره. أقول لك: أن تجعل عائداً إلى اللعنة مرادا بها النار، فيكون استخداما لا إضمارا له قبل الذكر. قوله: (تقرير الوحدانية) قال الإمام: لأنه لما قال: وإلهكم إله واحد أمكن أن يخطر ببال أحد، هب أن إلا هنا واحد فلعل إله غيرنا مغاير لإلاهنا، فأزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق. الشيخ سعد الدين: لا إله إلا هو، بحسب صدر الكلام، نفى لكل إله سواه، وبحسب الاستثناء إثبات له ولألوهيته لأن الاستثناء من النفي إثبات، سيما إذا كان بدلاً،

قوله: (وما سواه: إما نعمة أو منعم عليه)

فإنه يكون هو المقصود بالنسبة، ولهذا كان البدل الذي هو المختار، في كل كلام تام غير موجب بمنزلة الواجب في هذه الكلمة، حتى لايكاد يستعمل لا إله إلا الله بالنصب، ولا إله إلا إياه. فإن قيل: كيف يصح أن البدل هو المقصود، والنسبة إلى البدل فيه سلبية؟ قلنا: إنما وقعت النسبة إلى البدل بعد النقض بإلا، فالبدل هو المقصود بالنفي المعتبر في المبدل منه لكن بعد نفيه، ونفي النفي إثبات. قوله: (وما سواه: إما نعمة أو منعم عليه) الشيخ سعد الدين: فإن قيل: الكفر والمعصية وسائر القبائح ليست بنعمة، ولا منعم عليها. قلنا: هي كلها من حيث القابلية والفاعلية وما يرجع إلى الوجود والتشبيه نعمة، ومرجع الشر والقبح إلى العدم. قوله: (وهما خبران، أي: لابد لان، إذ لابدل للبدل، قاله الشيخ سعد الدينز وقال أبو حيان يجوز أن يكون الرحمن بدلا من هو. قوله: (قيل: لما سمعه المشركون) إلى آخره، أخرجه الفريابي في تفسيره، وسعيد بن منصور في سننه والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الضحى مفصلا. قوله: (وإنما جمع السموات وأفرد الأرض)، لأنها طبقات متفاصلة بالذات، مختلفة بالحقيقة، بخلاف الأرض) هذا قول الحكماء، وأما أهل السنة، فالأرضون عندهم طبقات متفاصلة بالذات، بين كل

أرض وأرض مسيرة خمسمائة عام، كذا وردت به الأحاديث والآثار، وقد استوعبتها في كتابي الذي سميته بالهيئة السنية في الهيئة السنية، قال أبو حيان: تكلم أهل الهيئة هنا بتخاليط كثيرة أخذوها بعقولهم، لا أصل لها في الشرع، وذكر بعض أهل البلاغة النكتة في إفراد الأرض نقل جميعها من حيث اللفظ، وهو: أرضون، ولهذا لما أريد ذكر جميع الأرضين. قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه، لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع في القرآن مفرده، لثقله وخفة الجمع كالألباب. قوله: (أي ينفعهم، أو بالذي ينفعهم) أي: ما، إما مصدرية أو موصولة، والباء على الأول: للسبب، وعلى الثاني للحال. قوله: (قدمه على ذكر المطر والسحاب، لأن منشأهما البحر)، هذا قول الحكماء، وقد وردت الأحاديث بخلاف ذلك أوردتها في الكتاب المشار إليه، وحاصلها أن السحاب من شجرة تثمره في الجنة، والمطر من بحر تحت العرش. قوله: (وقرئ بضمتين)، لم يذكر أبو حيان هذه القراءة. قوله: (عطف على أنزل) إلى أخره. قال أبو حيان: لا يصح عطفه على أنزل ولا على أحياء لأنه على التقديرين يكون في حيز الصلة، فيحتاج إلى ضمير يعود على الموصول، وتقديره: وبث به فيها وحذف هذا الضمير لا يجوز، لأن شرط جوازه وهو مجرور بالحرف أن يجر الموصول بمثله، وهو مفقود هنا،

قوله: (واعلم أن دلالة هذه الآيات)

والصواب أنه على حذف الموصول أي وما بث، لفهم المعنى، وفي ذلك زيادة فائدة وهو جعله أية مستقلة، وحذف الموصول جائز شائع، في كلام العرب، وإن لم يقسه البصريون فقد قاسه غيرهم، وخرج عليه آيات من القرآن. قوله: (مع أن الطبع يقتضي أحدهما)، قال الطيبي: يعني صعوده إن كان لطيفا خفيا ونزوله إن كان كثيفا. فائدة: أخرج أبو الشيخ ابن حبان، في كتاب العظمة، عن قتادة، قال: كان آدم عليه الصلاة والسلام يشرب من السحاب. قوله: (وعنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها)))، قال الشيخ ولى الدين العراقي: لم أقف عليه. قلت: لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ، وإنما أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، في تفاسيرهم، وابن أبي الدنيا، في كتاب التفكر، وابن حبان في صحيحه عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أنزل الله علي الليلة، إن في خلق السموات واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب، ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) وأخرج ابن أبي الدنيا، عن سفيان رفعه، قال: (من قرأ أخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله، قعد بإصبعه عشرا) قيل للأوزاعي: فما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرأهن وهو يعقلهن. قوله: (واعلم أن دلالة هذه الآيات)، إلى أخره، فإذا تأملت ما ذكره المصنف في تقرير الاستدلال بهذه الآيات عرفت صحة قول حجة الإسلام الغزالي، رضي الله تعالى عنه: ليس في الإمكان أبدع من هذا

العالم، وانزاح عنك ما ركب قلوب المعترضين من كلام الجهل، وقد ألفت في ذلك كتاب تشييد الأركان، فلينظر، فإن فيه نفائس. قوله: (لقوله: إذ تبرأ)، زاد أبو حيان: ولقوله: يحبونهم، فأتى بضمير العقلاء. قوله: (ولم يعلم هؤلاء الذين ظلموا)، إشارة إلى أنه من وضع الظاهر موضع المضمر للنداء عليهم بالظلم. قوله: (وللحال)، إلى أخره. رجح الحالية، في، (وباؤوا) والعطف، في: (وتقطعت) ووجهه الشيخ سعد الدين: بأن العطف في ورأوا يؤدي إلى إبدال، إذ رأو العذاب من إذ يرون العذاب، وليس فيه كبير فائدة، ولأن الحقيق بالاستعظام والاستقطاع، هو تبرؤهم في حال رؤية العذاب، لا هو نفسه وأما تقطع ما بينهم من الوصل والأسباب، فمستقل في ذلك لا تبع للتبروء. قوله: (مثل ذلك الإراء) تقدم ما فيه، في: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال الشيخ سعد الدين: واعتبر المصدر مجردا عن التاء، لئلا يحتاج في تذكير اسم الإشارة إلى تأويل، وقد روى إراء، وإراءة كإقام الصلاة وإقامة. قوله: (نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس) ليس كذلك إنما نزلت في المذكورين في آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، وأما هذه الآية، فإنما نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل، ونحوها، كما ذكرت ابن جرير، وغيره، ويوضح قوله بعد: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} كما ذكر مثل ذلك في المائدة في قصة تحريم البحائر: ونحوها. وأما والمؤمنون الذين حرموا، رفيع الأطعمة والملابس: فلم يقع منهم هذا القول ولهذا صدرت هذه الآية، بيا أيها الناس، وآية المائدة بيا أيها الذين أمنوا، ويؤيده أيضا، خطاب المؤمنين بعد انقضاء قصة الكافرين لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. قوله: (حلالا مفعول كلوا) قال أبو حيان: (من) على هذا لابتداء الغاية متعلقة بكلوا. وكذا قال الشيخ سعد الدين. قوله: (ومن للتبعيض) قال أبو حيان: هو خاص بجعل حلالا حالا، وكذا قال الشيخ سعد الدين. قالا: ومن حينئذ، في موقع المفعول، أي كلوا بعض ما في الأرض. قوله: أو الشهود المستقيمة): رده الشيخ سعد الدين، بأن ماليس كذلك، إما حلال بلا شبهة، فلا مانع منه، أو لا، فخارج بقيد الحلال، ولهذا فسره في الكشاف بالطاهر من كل شبهة. وأجاب أبو حيان عن الأول: بأن طيبا يكون صفة لحلالا، مؤكدة أو مبينة، لأن الحلال ما

قوله: (وقيل: في طائفة من اليهود)

كان مستلذا لا مستقذرا. قوله: (وقرئ بضمتين: وهمزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها)، أي على الواو. والواو المضمومة قد تقلب، مثل أقيت وأجره. وفيه توجيه أخر، أنه جمع خطاه، من الخطأ إن كان سمع، وإلا فتقديرا، وعليه الأخفش. قوله: (واستعير الأمر)، إلى آخره: الشيخ سعد الدين: يشير إلى أنه استعارة تبعية، ويتبعها المؤمنين. إلى أنهم بمنزلة المأمورين له، بناء على أن الأمر العلو. قوله: (وعدل عن الخطاب)، إلى آخره. الشيخ سعد الدين: أي صرف عنهم الخطاب. وذكروا بلفظ الغيبة لنداء الآخرين على ضلالتهم وأنهم أحقاء بأن يعرض عنهم ويصرف عن خطابهم لفرط جهلهم، فأندفع ما يوهم من أن ترك الالتفات والجرى على الخطاب أنسب بالنداء على ضلالتهم. واختار الطيبي: أن الآية عامة في الكفرة، وقررت بوجه مناسب للنظام، ذكرته في أسرار التنزيل. قوله: (وقيل: في طائفة من اليهود) إلى آخره. أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وسمى قائل ذلك، رافع بن خارجة ومالك بن عوف، الشيخ

الشيخ سعد الدين: يعني أن الضمير للناس على طريقة الالتفات، لكن في المراد بالناس الذين يقال لهم هذا القول، قولان. قيل المشركون. وقيل اليهود. قوله: (الواو للحال أو العطف)، الأول: قاله الزمخشري، والثاني قاله ابن عطية، وصرح بأنها لعطف جملة كلام على جملة. قال أبو حيان: والقولان يجتمعان، فإن الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق شرطية، فإذا قيل: اضرب زيدا ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن إليك وكذا أعط السائل ولو جاء على فرس. فلو هنا للتنبيه على أن ما بعدها غير مناسب لما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل، ولذلك لا يجوز اضرب زيداً ولو أساء، ولا أعطو السائل، ولو كان محتاجا، قالوا: وفي الآية ونحوها عاطفة على حال مقدرة والمعطوف على الحال (حال)، فصح أنها حالية وعاطفة. قوله: (على حذف مضاف) إلى آخره، أي إما عند المشبه أو المشبه به، والأرجح في الآية قول ثالث: وهو أنها من الاحتباك، وهو حذف جزء من كل طرف أثبت نظيره في الآخر، والتقدير: ومثل الذين كفروا معك يا محمد، كمثل الناعق من الغنم، وهذا هو الذي اختاره الكرماني شيخ الزمخشري. وقال: إنه أبلغ ما يكون من الكلام، وقد نص عليه سيبويه، وقرره

ابن طاهر والشلوبين، وابن خروف، وقالوا: إنه من بديع كلام العرب. قوله: (إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب)، قال الطيبي: بأن يكون المعنى، ومثلهم في دعائهم الأصنام فيما لا جدوى فيه، كمثل الناعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. قال: وهذا أحسن الوجوه المذكورة في الكتاب وأوفق لتأليف النظم، وذلك لأن العاطف في: (ومثل)، يستدعى معطوفا عليه، والمحسن أن يعطف على جملة، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ} الآية. إذا عطف على قوله: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} على سبيل البيان، فيكون المراد بالذين كفروا إياهم وضعا للمظهر موضع المضمر للإشعار بغلبة عدم الاهتداء وسلب العقول نعيا على المخاطب وتسجيلا على ضلالهم. وفي عطف الجملة الاسمية على الفعلية الإيذان بأن المضارع في قوله: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، المراد به الاستمرار. قوله: (يقول الله: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)، أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في شعب الإيمان، والديلمي من حديث أبي الدرداء.

قوله: (أو استثناه الشرع)،

قوله: (والحديت ألحق بها " ما أبين من حي ")، أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة)). قوله: (أو استثناه الشرع)، أي في حديث، أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال. أخرجه ابن ماجة والحاكم، من حديث ابن عمر. قوله: (إنما خص اللحم بالذكر) إلى آخره. قال ابن عطية: خص اللحم ليدل على تحريم عينه، ذكى أم لم يذك. قوله: (بالاستئثار)، قال الشيخ سعد الدين: أي طلب أن يؤثر نفسه على ذلك المضطر الآخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الأخر. قوله: (المراد قصر الحرمة) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: فهو قصر إفراد، إن كان الخطاب للمؤمنين الذين حرموا المستلذات أو قلب، إن كان للكفار الذين حرموا السوائب ونحوها. وعليهما: هو إضافي لا حقيقي.

قوله: (أكلت دما إن لم أرعك بضرة .... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر هو من أبيات الحماسة، لأعرابي تزوج امرأة فلم توافقه، فقيل له: إن حمى دمشق سريعة في موت النساء، فحملها إلى دمشق، وقال هذا الشعر. وقبله: دمشق خذيها واعلمي أن ليلة .... تمر بعودي نعشها ليلة القدر وبعده: أمالك عمر إنما أنت حية .... إذا هي لم تقتل تعش آخر الدهر ثلاثين حولا لا أرى منك راحة .... ليهنك في الدنيا لبا قمة العمر قوله: (أكلت دما، قال التبريزي: أجود الوجوه في معناه. أي قتل لي قتيل فأخذت ديته، ويجوز أن يكون المراد أصابه جدب وحاجة، أو يعنى الدم دم الحية وهي سم، وارعك: أفزعك، وبعيدة مهوى القرط: كناية عن طول العنق. قوله: (يعني الدية) قال الطيبي: قيل المراد المعلمين، وهو الدم والصوف يؤكل في الجذب، أي وقعت في الجدب. قوله: (ومعنى في بطونهم: ملء بطونهم)، قال الشيخ سعد

الدين: بيان لحاصل المعنى، وأما التحقيق، فهو إنه جعل في البطن بتمامه كل الأكل بمنزلة ما لو قيل: جعل الأكل في البطن أو في بعض البطن، فهو ظرف متعلق بأكل، لا حال مقدرة على ما في تفسير الكواشي. قوله: (كلوا في بعض بطونكم تعفوا) تمامه: فإن زمانكم زمان خميص. قال الزمخشري، في شرح أبيات الكتاب: تعفوا أي عن السؤال. قوله: (عبارة عن غضبه عليهم قال الشيخ سعد الدين: لما ثبت بالنصوص من أن الله يسألهم، والسؤال كلام حمل نفي الكلام على ما ذكر. فهو كناية. قلت: بل هو على ظاهره، ونصوص السؤال محمولة على أنه على ألسنة الملائكة. قوله: (وما تامة) إلى آخره. فيها قول رابع، إنها موصوفة وما بعدها صفة، والخبر محذوف وخامس، إنها هنا نافية، والمعنى: إن الله ما أصبرهم، أي ما جعلهم يصبرون. قوله: (والأول، أوفق)، قال أبو حيان: لأن السابق إنما هو نفى كون البر تولية الوجه، والذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى. قوله: (والمراد بالكتاب، الجنس) أي: القرآن، قال الطيبي: هذا إيماء إلى بيان النظم وأن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المذكور في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، فإن أريد له الجنس كان هذا مثله، أو العهد فكذلك، لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين

قوله: (صدقتك على المسكين)

الأول. قوله: (سئل أي الصدقة أفضل)، الحديث، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة. قوله: (أو للمصدر) أي: الإيتاء. قوله: (صدقتك على المسكين) الحديث، أخرجه انترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث سلمان بن عامر. قوله: (لأن السبيل يرعف به)، أي يقدمه، من رعف تقدم، وفرس راعف سابق، ورعف أنفه سبق دمه. قوله: (للسائل حق وإن جاء على فرسه)، أخرجه أحمد من حديث حسين بن علي، بلفظ: وإن جاء على فرسه، وأخرجه أبو داود، من حديث علي، وابن راهويه في مسنده، من حديث فاطمة

الزهراء، والطبراني، من حديث الهرماس ابن زياد، وأخرج أحمد في الزهد، عن سالم ابن أبي الجعد، قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: إن للسائل حقا وإن أتاك على فرس مطوق بالفضة. قوله: (ومن الحديث، نسخت الزكاة كل صدقة)، وأخرجه ابن شاهين، في الناسخ والمنسوخ، من حديث علي مرفوعا، (نسخت الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة وقال: هذا حديث غريب. وفي إسناده، المسيب، ابن شريك، ليس عندهم بالقوى، وأخرجه الدارقطني والبيهقي. قوله: (من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان) أخرجه ابن

المنذر في تفسيره، عن أبي ميسرة. قوله: (كان في الجاهلية بين حنين): الحديث. قال الشيخ ولى الدين العراقي: لا أقف عليه. قلت: أخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، وهو مرسل. قوله: (لما روى عن على، أن رجلا قتل عبده) الحديث. أخرجه ابن أبى شيبة. قوله: (وروي عنه: أنه قال: من السنة ألا يقتل مسلم بذي عهد، ولا حر بعبد)، أخرجه ابن أبي شيبة. قوله: (وليس له دعوى نسخه، بقوله: النفس بالنفس، لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن)، قد وقفت على جواب، عن أية. (النفس بالنفس، يقيس حداً ذكره ابن العربي من أئمة المالكية، في كتابه أحكام القرآن، قال: الآية أريد بها الأحرار المسلمون

قوله: (قيل: كتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى، العفو مطلقا)

لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملة واحدة، ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحراراً، لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء، لأن الاستعباد من الغنائم ولم يحل لغيره، وعقد الذمة لبقاء الكفار، ولم يقع ذلك في عهد نبي، بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب، وآخر ذلك في هذه الأمة رحمة. انتهى. ولم يجب أحد عن الآية بأحسن من هذا الجواب ولا أنفس. قوله: (وهو ضعيف) عجب من المصنف، كيف ينسبه إلى الحنفية ويضعفه: وهو الأصح في مذهب الشافعي، والمصنف من أتباعه. قوله: (إذ الواجب على التخيير) إلى آخره. ليس بشيء، لأن وجه الاستدلال من الآية، أنه رتب الدية على العفو بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} فدل على أن القتل العمد لم يوجب سوى القصاص، وأن الدية لا يوجبها إلا العفو عليها، قال الشيخ سعد الدين: لا يخفى أن النصوص صريحة في إيجاب القصاص على التعيين، ثم تجويز العفو. قوله: (قيل: كتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى، العفو مطلقا)، أي من غير دية ولا قصاص، أخرج ابن جرير عن قتادة، قال: إن الله رحم هذه الأمة وأطعمهم الدية وأحلها لهم ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة العفو

والقتل والدية، وقد استوفيت طرق الحديث في كتاب المعجزات والخصائص. قوله: (لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية)، أخرجه أبو داود، من حديث سمرة. قوله: (كلام في غاية الفصاحة)، قد بينت ما فيه من وجوه البلاغة الكثيرة في أسرار التنزيل. قوله: (روى عن علي) إلى أخره. أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف، وسعيد بن منصور في سننه.

قوله: (من مرفوع بكتب)

والحاكم في مستدركه، (وعن عائشة) إلى أخره. أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور. قوله: (من مرفوع بكتب)، إلى آخره. قال أبو حيان. الأحسن ما قاله بعضهم: إن نائب الفاعل لكتب: الجار والمجرور، وهو عليكم، والوصية خبر متبدأ مقدر جوابا لسؤال، وكأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت؟ فقيل الوصية قال: وهذا أقل تكلفا من غيره. قوله: (من يفعل الحسنات الله يشكرها) هو، لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وقيل: لكعب بن مالك. وتمامه: (والشر بالشر عند الله مثلان). قوله: وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بأية المواريث، أخرجه أبو داود في ناسخه عن ابن عباس، وابن أبى شيبة، وابن جرير، عن ابن عمر.

قوله: وبقوله، عليه الصلاة والسلام (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) الحديث. أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه، من حديث عمرو ابن خارجه. قال الطيبي: ظاهره، أن الآية والحديث نسختا آية الوصية، والحق أن آية المواريث هي الناسخة، والحديث مبين لكونها ناسخة، لأن الحديث، لا ينسخ الكتاب. قوله: (وفيه نظرا)، إلى آخره. حكاد الشيخ سعد الدين، ثم قال: والقول بأن المراد النسخ بمجموع الآية والحديث، بمعنى أن النسخ بالآية والحديث بينه، خلاف الظاهر وإن كان له وجه صحة على أصول الحنفية، حيث يجعلون مثل هذا الحديث في حكم المتواتر، ويسمونه المشهور، ويجوزون به نسخ الكتاب. قال: والظاهر أن الوصية للوارث المدلول عليه، بقوله: (للوالدين والأقربين)، كانت واجبة بحكم هذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم، فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الأنصباء فهم منها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة، كأنه قيل: إن الله أوصى بنفسه تلك الوصية، ولم يفوضها إليكم، فقام الميراث مقام الوصية، وكان هذا مع نسخ وجوب الوصية بآية المواريث، لأن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم. انتهى. قوله: (حقا على المتقين): مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقا.

قوله: (فعليه بالصوم).

قال أبو حيان هذا تأباه القواعد النحوية، لأن ظاهر قوله على المتقين أن يتعلق بحقا أو يكون في موضع الصفة وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به، فلأن المصدر المؤكد لا يعمل، إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري والفعل أو المصدر الذي هو مدلول من اللفظ بالفعل. قال السفاقسي: ويتخصص أيضا بالمعمول فيخرج عن التأكيد. قال أبو حيان: وأما جعله صفة لحقا، أي حقا كائنا على المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذ ذاك تخصيص. قال الحلبي: لا يلزمه ذلك، فإنه لا يقول إن على المتقين يتعلق به، وقد نص على ذلك أبو البقاء. قوله: (أي توقع وعلم). قال الشيخ سعد الدين: فإن التوقع وإن لم يستلزم الجزم لا ينافيه، فجاز الجمع بينهما، وإن كان استعماله فيما لا جزم لوقوعه أظهر وأكثر. قوله: (فعليه بالصوم). الحديث أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود. قوله: (يهال هيلا): في الصحاح، هيلت، الدقيق: صببته من غير كيل. قوله: (الوقوع الفصل بينهما) أي والفصل بين المصدر ومعموله لا يجوز. وقال الشيخ سعد الدين: بأنه جائز بناء على القول بجوازه في الظرف وإن لم يجز في غيره.

قوله: (وهو عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر). أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن معاذ بن جبل، لكن فيه، إن ذلك كان قبل نزول هذه الآية، وأنه نسخ بها. قوله: (أو بـ كما كتب، على الظرفية)، قال أبو حيان: هذا خطأ، لأن الظرف محل للفعل والكتابة ليست واقعة في الأيام، وإنما الواقع فيها متعلقها. فلو قال إنسان لولده الذي ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة. لم يكن يوم الجمعة ظرفا لسرني، لأنه ليس محل السرور. قوله: (أو على أنه مفعول ثان لكتب على السعة)، قال أبو حيان: هذا أيضا خطأ، لأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا لكتب، وقد تبين بطلانه. قوله: (روي أن رمضان كتب على النصارى)، إلى آخره، أخرجه ابن جرير، عن السدي. قوله: (أو راكب سفر)، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن كلمة على استعارة تبعية، شبه تلبسه بالسفر باستعلاء الراكب واعتلائه على الركوب، يتصرف كيف يشاء، وإلا فمجرد الظرف لا يدل إلا على معنى الكون والحصول، أي كائنا على سفر.

قوله: (يطوقونه، بالإدغام)

قوله: (وبه قال أبو هريرة)، أخرجه ابن جرير، وصرح عنه، بأنه لو صام في السفر لم يصح، ولزمه القضاء بعد الإقامة. قوله: (ورخص لهم في ذلك أول الأمر)، إلى قوله: ثم نسخ أخرجه البخاري، عن سلمة بن الأكوع. قوله: (وقرئ يطوقونه، هو بالبناء للمفعول، من طوق. قوله: (يطوقونه، بالإدغام)، أي بإدغام التاء في الطاء من يتطوقونه. قوله: (ويطيقونه، الأولى يضم الياء وتخفيف الطاء، والثانية، بفتح الياء وتشديد الطاء، كالياء بعدها فيهما. هذا مقتضى ما ذكره المصنف في أصلهما: ولم يذكر أبو حيان الأولى هكذا إنما ذكرها كالثانية بتشديد الطاء غير أن الياء الأولى مضمومة بناء للمفعول، وجعلهما معا يطيق يتطق والأصل: يطيوق. اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء. قوله: (أو بدل من الصياء)، قال أبو حيان: هو بعيد من وجهين، كثرة الفصل بين البدل والمبدل، وكونه على عكس بدل الاشتمال، لأنه في الغالب يكون بالمصادر من الذوات، نحوه {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}. وهذا بالذات من المصدر، قال: ويمكن توجيهه، لأنه حذف

مضاف، أي صيام شهر، فلذا قيده المصنف به. قال الشيخ سعد الدين: وإذا قدر المضاف فهو بدل كل أو على أنه مفعول {وَأَنْ تَصُومُوا}، قال أبو حيان: هذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصل بينه، وبين معمول الصلة بالخبر، وهو خير، ولا يجوز أن يقال: أن يضرب شديد زيداً، بخلاف أن يضرب زيداً شديد. وقد اعتمد الشيخ سعد الدين وقال: هذا الإيراد سيما معمول هو بمنزلة جزء من الكلمة، لأن المصدر كجزء من صلتها، وقال الطيبي: أقصى ما يقال فيه: إنه وإن كان مصدرا في المعنى فصورته صورة الفعل، فجاز الفصل بالنظر إلى الصورة. قوله: (ورمضان مصدر رمض)، قال أبو حيان: يحتاج في تحقيق، أنه مصدر إلى صحة نقل، لأن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم، بل إن جاء فيه كان شاذاً والأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا. قوله: (وأضيف إليه الشهر، وجعل علما)، قال الشيخ سعد الدين: أي مجموع المضاف والمضاف إليه، وإلا لم يحسن إضافة شهر إليه، كما لا يحسن إنسان زيد، ولهذا لم يسمع شهر رجب، وشهر شعبان قال: وبالجملة فقد أطبقوا أن العلم في ثلاثة أشهر هو مجموع المضاف والمضاف إليه، شهر رمضان، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وقال أبو حيان: ما ذكره الزمخشري من أن علم الشهر مجموع اللفظين غير معروف، وإنما اسمه رمضان، فإذا قيل فيه: شهر رمضان، فهو كما يقال: شهر المحرم، ونحو ذلك: ثم نبه على أنه علم جنس.

قوله: (كما منع داية)، إلى آخره، قال الطيبي: جعل المركب من شهر رمضان علما ومنع من الصرف، كما جعل ابن داية مع الإضافة علما، ومنع من الصرف، وداية البعير: موضع القتب. قوله: (من صام رمضان)، تمامه: (إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. فائدة: أورد في الكشاف: من حديث: (من أدرك رمضان فلم يغفر له) قال الشيخ سعد الدين: ولا يوجد له تمام، فيما اشتهر من الكتب ويحتمل أن تكون من استفهامية، والمعنى: ما أدرك أحد فلم يغفر له، بمعنى أن كل من أدركه غفر له، فيكون كلاما تاما. انتهى. وليس كما قال، والحديث تمامه معروف، أخرجه البزار، من حديث عبد الله بن الحارث ابن جزء الزبيدي مرفوعا. (أتاني جبريل، فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، ثم أبعده، قل آمين).

قوله: (فعلى حذف المضاف)، قال الشيخ سعد الدين: وجاز الحذف من الإعلام، وإن كان من قبيل حذف بعض الكلمة، لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى المضاف والمضاف إليه، حيث أعربوا الجزاء. قوله: (وإنما سموه بذلك: إما لارتماضهم فيه)، قال الشيخ سعد الدين: من أرتمض الرجل من كذا اشتد عليه وأقلقه. قوله: (أو الارتماض الذنوب)، فيه ورد بهذا حديث مرفوع، أخرجه الإصبهاني في الترغيب، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما سمى رمضان، لأن رمضان رمض الذنوب). قوله: (أو لوقوعه أيام رمض الحر حين، ما نقلوا أسماء الشهور في اللغة القديمة، قال أئمة اللغة: كان أسماء الشهور في اللغة القديمة: موتمر، تاجر، بصان، خوان، حنين وزنه، الأصم، وعل، ناتق، عاذل، هواع براك على الترتيب. قال السجاوندي: سمي المحرم لتحريم القتال فيه، وصفر، لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، والربيعان، لارتباع الناس فيهما. أي إقامتهم، وجماديان: لجمود الماء، ورجب لترجيب العرب إياه، أي تعظيمه، وشعبان لشعب القبائل، ورمضان لرمض الفصال، وشوال لشول أذناب اللقاح وذو القعدة، للقعود فيه عن الحرب، وذو الحجة، لحجهم فيه. وقد ورد نحوه، عن أبي عمرو بن

قوله: (الفاء لوصف المبتدأ بما ضمن معنى الشرط)

العلاء، وقال في صفر، لأنهم كانوا ينزلون فيه بلاداً يقال لها صفر. ورجب، لأنهم كانوا يرجبون فيه النخل. قوله: (أنزلت صحف إبراهيم)، الحديث أخرجه أحمد والطبراني، من حديث واثلة بن الأسقع. قوله: (الفاء لوصف المبتدأ بما ضمن معنى الشرط)، نظيره: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}، قال أبو حيان: وهذا القول ليس بشيء، لأن الذي هنا صفة لعلم ولا يتخيل فيه شيء ما من العموم ولمعنى الفعل الذي هو أنزل لفظا ومعنى، بخلاف آية الموت، فإن الموت فيها ليس معينا، بل فيه عموم، وصلة الذي فيه مستقبلة وهي تفرون. قوله: (ما يهدي إلى الحق)، قال الشيخ سعد الدين: أي من جنس ما هدى الله به، فليس إشارة إلى الهدى السابق، وفي ذلك دفع لسؤال التكرار. قوله: (من أمر الشاهد بصوم الشهر)، قال الشيخ سعد الدين: ذكر في تفصيل الملل دون تعليم كيفية القضاء وفي تطبيق العلل ورد كل منها إلى معلل بالعكس فلم يقع بإزاء الشاهد بالصوم عليه، والجواب: أن أمر الشاهد بصوم الشهر توطئة وتمهيد، وفي الأمر بمراعاة العدة تعليم لكيفية القضاء، لأن معناه: فليراع عدة ما أفطر ليصومها من شهر

فيخرج عن العهدة. قوله: (ويجوز أن يعطف على اليسر)، قال أبو حيان: لا يمكن هذا إلا بزيادة اللام وإضمار أن بعدها أو يجعل اللام لمعنى أن فلا تكون أن مضمرة بعدها وكلاهما ضعيف. قوله: (وما يحتمل المصدر والخبر أي الذي هداكم إليه) فيه. أمور. أحدهما: أن التعبير بالخبر عن الموصول عبارة غريبة لا تعهد في كلام المعربين. الثاني: أن أبا حيان قال: إن في جعلها بمعنى الذي بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين حذف العائد، وحذف مضاف يصح به الكلام أي على إتباع الذي هداكم، الثالث: قال أبو حيان الأولى تقدير العائد منصوبا، أي: هداكموه. لا مجرورا بإلى ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً. قوله: (أي فقل لهم، إني قريب)، قال أبو حيان: لابد من تقدير القول، لأنه لا يترتب على المشروط القريب، إنما يترتب عليه الاخبار عن القرب. قوله: (هو تمثيل) إلى آخره، الشيخ سعد الدين: يعني أن القرب حقيقة في القرب المكاني. وقد استعمل هنا في الحال الشبيه بحال من قرب مكانه، مع اعتبار عدة أمور، فيكون لفظ قريب استعارة تبعية تمثيلية. قوله: (روى أن أعرابيا)، الحديث، أخرجه، ابن جرير وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو الشيخ في تفاسيرهم، والدارقطني، في المؤتلف والمختلف من حديث معاوية بن حيدة.

قوله: (روى إن المسلمين)، الحديث: أخرجه أحمد من حديث كعب بن مالك، وأبو داود، من حديث، معاذ ابن جبل نحوه، مخصصا بما بعد اليوم، وأخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وفيه: إذا صلوا العشاء، كما قال المصنف. قوله: (وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء)، الشيخ سعد الدين: فإن قيل: لم لا يجعل من أول الأمر كناية عن الإفضاء، كما يشير إليه كلام صاحب الأساس. قلنا: لأن المقصود هو الجمال، والإفضاء أيضا كناية عنه. قوله: (وإيثاره هنا لتقبيح ما ارتكبوا)، جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه لما ترك التصريح بلفظ الجماع إلى الكناية كان ينبغي ألا يكنى يمثل هذا اللفظ، فأجاب أنه لقصد استهجان ما صدر عنهم قبل الإباحة حتى لو كان لفظ أدل على القبح منه لكان مناسبا، وإن المقام مقام الإباحة، ألا ترى إلى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، وكذا في قوله: {فَلَا رَفَثَ} تنفيرا لهم عما نهوا عنه في الحج. قوله: (إذا ما الضجيج ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا

قوله: (والاختيان أبلغ من الخيانة، لأن الزيادة في البناء تدل على الزيادة في المعنى).

عزاه الشيخ سعد الدين، إلى الجعدي. والضجيج: المضاجع: وثنى عطفها: أمال شقها. تثنت: مالت. قوله: (والاختيان أبلغ من الخيانة، لأن الزيادة في البناء تدل على الزيادة في المعنى). قوله: (غبش الليل) بفتح الغين المعجمة والموحدة وشين معجمة بقية الليل، وقيل: ظلمة آخر الليل. قوله: (واكتفى) إلى آخره. حاصله أنه جعل من الفجر بيانا لقوله: (الخيط الأبيض)، وحذف قوله: من غبش الليل المبين للخيط اكتفاء، قال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود، الفجر الأول، وإنه من باب وصف الشيء بما يؤول إليه، لأن الفجر يصير إلى السواد بعد وجوده، والمعنى: حتى يتبين لكم الفجر الثاني من الفجر الأول، وبهذا حصل الجواب عن سؤال الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إن التشبيه في الفجر ظاهر، لأن طوله أكبر من عرضه، وأما الظلام فكرة فكيف يشبه بالخيط، وعلى هذا فيمكن أن يجعل من الفجر بيانا للخيط الأبيض والخيط الأسود معا، بناء على استعمال المشترك في معنييه، ويكون المقصود به دفع وهم من ظن أن المراد حقيقة الخيطين، فأبان أن المراد بهما الفجر بقسيميه، من صادق وكاذب وعلى هذا فلا حذف في الآية ولا اكتفاء، ويكون من باب اللف والنشر المجمل، لكن الإجمال هنا في النشر لا في اللف، على عكس ما تقدم. في قوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وهو نوع غريب لم أر من نبه عليه. قوله: (وبذلك) أي بذكر (من الفجر). قوله: (خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل)، قال الطيبي: لأن

الاستعارة أن يذكر أحد طرفي التشبيه، ويراد الطرف الآخر، وهنا الفجر هو المشبه، والخيط الأبيض المشبه به، ولا يقال: بقي الأسود على الاستعارة لترك المشبه، لأنه لما كان في الكلام ما يدل عليه فكأنه ملفوظ. قوله: (ويجوز أن تكون من، للتبعيض)، قال الطيبي: فيكون بدلاً من الخيطين أي مبين لكم بعض الفجر، وهو أول ما يبدو، وقال الشيخ سعد الدين: المعنى، على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضا من الفجر، وعلى البيان: حال كونه هو الفجر، فأعربه حالا. قوله: (وما روى أنها نزلت)، إلى أخره. أخرجه البخاري والنسائي من حديث سهل بن سعد. فقول المصنف، إن صح: فيه ما فيه. قوله: (في تجهيز المباشرة) إلى آخره. أول من استنبط هذا الحكم من الآية، محمد بن كعب القرظي من أئمة التابعين، ووجهه: أن المباشرة إذا كانت مباحة إلى الانفجار لم يكن الاغتسال إلا بعد الصبح. قوله: (فينفي صوم الوصال): قد استنبط ذلك من الآية النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخرجه أحمد، من حديث بشر بن الخصاصة، قال الطيبي:

قوله: (تلك حدود الله)

ووجهه إنه تعالى: جعله غاية للصوم، وغاية الشيء منقطعه ومنتهاه، وما بعد الغاية يخالف ما قبله. وإنما يكون كذلك إذا لم يبق بعد ذلك صوم. قوله: (وعن قتادة)، إلى آخره. أخرجه، ابن جرير. قوله: (وفيه دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد) قال صاحب التقريب: ليس فيها ما يدل على ذلك. قال الشيخ سعد الدين: بل ربما يدعى دلالة الآية على أن الاعتكاف قد يكون في غير المسجد، وإلا لما كان للتقييد فائدة قال: ويجاب بأن المباشرة في الاعتكاف حرام إجماعا فلو لم يكن ذكر في المساجد لبيان أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لزم اختصاص حرمة المباشرة باعتكاف يكون في المسجد، وهو باطل وفاقا، قال: وأيضا التقييد يدل على أن له مدخلا في علة الحكم، كالحكم المتعلق به: إما تحقق الاعتكاف أو حرمة المباشرة فيه. والثاني منتف إجماعا، فتعين الأول. قلت: هذا الذي ذكره الشيخ سعد الدين، ذكره الشيخ محي الدين النووي في شرح المهذب، فقال: وجه الدلالة من الآية أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد، لأنها منافية للاعتكاف، فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد. قوله: (تلك حدود الله) أي الأحكام التي ذكرت، قال الشيخ سعد الدين: من، (باشروا)، (وابتغوا)، (وكلوا)، (واشربوا) للإباحة، (وأتموا الصيام) للإيجاب، (ولا تباشروا) وهذا للتحريم، قال: والنهي عن الإتيان والقربان في الحرام ظاهر، وأما في الواجب، والمندوب، والمباح فمشكل. وعن التعدي بالعكس، وما ذكر من كون منع القربان مبالغة في منع التعدي، وكون التعدي عبارة على ترك الطاعة والعمل

بالشرائع ومجاوزة حيز الحق إلى حيز الباطلة يدفع الإشكالين، لكن لابد من أدنى تأويل في اللفظ وهو أن تلك الأحكام ذوات حدود فلا تقربواها لئلا يؤدي إلى تجاوزها والوقوع في حيز الباطل. وقال الطيبي: تسمية المحارم بالحدود ظاهرة وأما الأوامر: فلأنه تعالى منع الناس عن مخالفتها. وقال أبو حيان: تلك، الإشارة إلى ما تضمنته أية الصيام من أولها إلى آخره، وقد تضمنت عدة أوامر، والأمر بالشيء نهى عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي. ثم جاء آخرها النهي عن المباشرة في الاعتكاف، فأطلق على الكل حدود تغليبا للمنطوق به، وإلا فالمأمور بفعله، لا يقال فيه: فلا تقربوها. قوله: (إن لملك حمى)، الحديث، أخرجه البخاري، من حديث النعمان بن بشير. قوله: (ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه، فيستقيم منع القربان). قوله: (أي لا يأكل بعضكم)، يشير إلى أن قوله: ولا تأكلوا أموالكم ليس بمقابلة الجمع بالجمع. كما في: اركبوا دوابكم بل المراد نهي كل عن أكل مال الآخر. قوله: (أو نصب بإضمار أن): ضعفه أبو حيان، بوجهين، أحدهما: أنه على هذا يكون النهي عن الجمع، وهو لا يستلزم النهي عن كل على انفراد. وأجاب الشيخ سعد الدين، بأنه وإن لم يستلزمه لا ينافيه. والثاني: أن قوله: لتأكلوا علة لما قبله فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له، لأنه: مركب من شيئين لا تصلح العلة أن ترتب على وجودهما بل على وجود أحدهما، وهو الإدلاء فقط.

قوله: (روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض)، إلى قوله: فنزلت. أخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير مرسلا. قوله: (إنما أنا بشر) الحديث، أخرجه الشيخان من حديث أم سلمة: (وألحن بحجته): يقوم بها من صاحبه وأقدر عليها. من اللحن، بفتح الحاء: الفطنة. قوله: (سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم)، إلى آخره. قال الشيخ ولى الدين: لم أقف له على إسناد. قلت: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، قال: سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية، وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فنزلت.

قوله: (يناصبونكم)

قوله: (كان الأنصار إذا أحرموا)، إلى آخره. أخرجه البخاري، من حديث البراء، وابن أبي حاتم، من حديث جابر. قوله: (يناصبونكم) الجوهري: نصبت لفلان نصبا، عاديته، وناصبته الحرب مناصبة. قوله: (دون غيرهم من المشايخ)، إلى آخره. هذا القول: أخرجه ابن جرير، من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. قوله: (روى أن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلى آخره، أخرجه ابن جرير، عن قتادة. قوله: (فإما تثقفوني فاقتلوني) فمن أثقف فليس إلى خلود أي إن تدركوني أيها الأعداء وقدرتم على قتلي فاقتلوني فإن من أدركته منكم فليس له طريق إلى الخلود، أي لا بقاء له بل أقتله. واسم ليس، ضمير راجع إلى (من). قوله: (وقيل: معناه، شركهم) هذا القول هو المأثور، أخرجه، ابن جرير، عن مجاهد، والضحاك، وقتادة، والربيع، وابن زيد، ولم يرو غيره.

قوله: (خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب)، قال الطيبي: هذا الاختصاص يعلم من اللام في لله، ولهذا فسر الفتنة بالشرك لأنه وقع مقابلا له، قال: والذي يقتضيه حسن النظم وإيقاع النكرة في سياق النفي أن تجري فتنة على حقيقتها ليستوعب جميع ما يسمى فتنة، فيدخل فيها الشرك والقتال، والتخرب، وجميع ما عليه مخالفوا دين الإسلام فيطابقه. قوله: (ويكون الدين لله) لأن معناه يكون الدين كله لله، كما جاء في سورة الأنفال، ويكون تعميما بعد تخصيص، لأن الفتنة حملت أولاً على الشرك ولو أريد بها عين الفتنة السابقة لكان الواجب أن يجاء بها معرفة، لأن الشيء إذا أعيد أضمر أو كرر بعينه، وضعا للمظهر موضع المضمر، فإن النكرة إذا أعيدت ولم يرد بها التكرار كانت غير الأول، بخلاف المعرفة، ولأن قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ} يقتضي مفعولاً أعم مما اقتضاه. قوله: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)، لأن الشيء إذا كرر وجيء بالثاني أعم من الأول كان أحسن من العكس، لئلا يجيء الكلام مبتورا. انتهى. قلت: تفسير الفتنة هنا بالشرك هو المأثور، أخرجه ابن جرير، من طرق، عن ابن عباس وعن مجاهد، والربيع، وقتادة والسدي، وابن زيد ولم يرو غيره. قوله: (أي فلا تعتدوا على المنتهين). إلى آخره. قال أبو حيان: هذا لا يصح إلا على تفسير المعنى، وأما على تفسير الأعراب فلا يصح، لأن المنتهين ليس مرادفا لقوله: {إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي

قوله: (قاتلهم المشركون عام الحديبية)

، ولا فرق بين الدلالتين قال: ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب. ألا ترى قوله: إلا على الظالمين، فوضعه موضع المنتهين. وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الأعراب وليس كذلك، لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل، وما أكرم إلا العالم. قوله: (قاتلهم المشركون عام الحديبية)، قال الطيبي في هذه الرواية نظر، لأن عام الحديبية لم يكن فيه قتال، بل كان صدا على ما رويناه في الصحيحين. قوله: (روى عن أبي أيوب)، الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمزي، والحاكم وصححه، وابن حبان. قوله: (كالتضرة والتسرة)، هما بالإدغام، والأصل: التضروة والتسروة، وهي المسرور. ومن نظائرها: التنصبة، شجرة، والتنقلة، ولد الثعلب. قوله: (ويؤيده قراءة من قرأ وأقيموا)، هي قراءة، علي،

أخرجها ابن جرير عنه، وابن ماجه، وابن حبان. قوله: (روى جابر)، الحديث، أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني. قوله: (روى جابر، أن رجلا قال لعمر)، الحديث، أخرجه أبو داود، والنسائي، وأخرجها أيضا، عن النخعى، وعلقمة، والبيهقي في سننه، وسمى الرجل الصبى بن معبد. قوله: (وقيل: إتمامها (أن تحرم بهما من دويرة أهلك)، أخرجه الحاكم في المستدرك. وابن أبي حاتم، وابن جرير، عن علي، وأخرجه ابن جرير، عن سعيد بن جبير، وطاوس. قوله: (ولقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو)،

أخرجه ابن أبي حاتم، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، وصححه. قوله: (من كسر أو عرج)، الحديث: أخرجه، أبو داود، والترمذي، من حديث الحجاج ابن عمرو. وعرج، بالفتح، أصابه شيء في رجليه فمشى مشى الأعرج، وعرج، بالكسر: إذا صار أعرج. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: لضباعة) الحديث، أخرجه الشيخان، والنسائي، من حديث عائشة، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عباس. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام، ذبح عام الحديبية بها)، أخرجه البخاري، من حديث ابن عمر وغيره.

قوله: (ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق)

قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام، قال لكعب في عجرة:)، الحديث. أخرجه مالك، والبخاري، من حديثه. قوله: (ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق)، عند الأكثرين، الخلاف خاص بأيام التشريق أما يوم النحر، فلا يجوز صومه بالاجماع، ثم المنع من صوم المتمتع أيام التشريق بهذا الحديث الأصح في المذهب. وقال النووي في شرح المهذب، الأرجح في الدليل: جوازها وصحتها له، لأن الحديث في الترخيص له ثابت في صحيح البخاري، وهو صريح في ذلك، فلا عدول عنه. قوله: (وقرئ: سبعة بالنصب، عطفا على محل ثلاثة أيام، قال أبو حيان: خرجه الحوفي وابن عطية على إضمار فعل، أي صوموا، أو فليصوموا، قال: وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، لأن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز. قوله: (فذلكة الحساب أي بذكر تفاصيله ثم يحمل، فيقال: فذلك كذا. قوله: (وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كقولك: جالس الحسن وابن سيرين)، قال ابن هشام في المغنى: ذكر الزمخشري عند الكلام على قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}: إن الواو تأتي للإباحة، نحو: جالس الحسن وابن سيرين، وإنه إنما جيء بالفذلكة دفعا لتوهم

إرادة الإباحة في صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. وقلده في ذلك صاحب الإيضاح البياني، ولا نعرف هذه المقالة لنحوي، وقال البدر ابن الدماميني في حاشية المغني: بل هي معروفة لبعض النحاة، فقد قال السيرافي، في شرح الكتاب: ومما يقع فيه الواو بمعنى ما كان من التخيير، بمعنى الإباحة كرجل أنكر على ولده مجالسة ذوي الزيغ والريب فأراد أن يعدل به إلى مجالسة غيرهم، فقال: دع مجالسة أهل الريب وجالس الفقهاء والقراء، وأصحاب الحديث، فذلك كله بمعنى. هذا كلامه، قال: وقد رجع المصنف، عما قاله هنا، فقال، في حواشيه على التسهيل: إن أو تأتي للجمع كالواو، وقال: فإن قلت: كيف وافقت على أو في الإباحة بمنزلة الواو مع تفريق جماعة من حذاقهم، بين جالس الحسن وابن سيرين، وقولك: أو ابن سيرين؟ قلت: الصواب، ألا فرق، فإنه إذا قيل بالواو كانت للجمع بين المتعاطفين في معنى القائل وهو إباحة المجالسة، وكأنه قيل: أبحت لك مجالستهما ومن أبيحت له المجالسة لم تلزمه ولم يمتنع عليه أفراد أحدهما ولا الجمع بينهما، لأن معنى كون الشيء مباحا أنه لا حرج في فعله ولا في تركه، وإذا أبيح شيئان جاز لنا فيهما أربعة أوجه، وكذلك المعنى إذا ذكر أو. وكلهم ينص على ذلك مع أو، وقد بينا أنه مع الواو كذلك، لأن الإباحة إنما استفيدت من الأمر، قالوا: وجمعت بين الشيئين بالإباحة، انتهى. ثم أن المصنف ذكر لها ثلاث فوائد، وقد ذكرنا في أسرار التنزيل لها أكثر

قوله: (ذلك إشارة إلى الحكم المذكور عندنا، والتمتع عند أبي حنيفة)

(عشر فوائد). قوله: (ذلك إشارة إلى الحكم المذكور عندنا، والتمتع عند أبي حنيفة)، قال أبو حيان: الأظهر في سياق الكلام، أن الإشارة إلى جواز التمتع، كما قال أبو حنيفة، لقوله: (لمن) لأن المناسب في الترخيص اللام، وفي الواجبات على. قوله: (ففي الحج أقبح، كلبس الحرير في الصلاة، قال العلم العراقي: ومثله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}، {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، وأمثاله كثيرة. قوله: (وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في الأولين بالرفع على معنى، لا يكونن رفث ولا فسوق. والثالث: بالفتح على معنى الإخبار بانتقاء الخلاف في الحج) قال أبو حيان: تأويله على ابن كثير وأبي عمرو أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث: على الإخبار بسبب البناء. فيه تعقب فإن الرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك بل لا فرق بينهما في أن ما كان فيه كان مبنيا غاية ما فرق بينهما، أن قراءة البناء نص في العموم، وقراءة الرفع مرجحة له. وقال الحلبي: هذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحب هذه القراءة، إلا أنه أفصح على مراده. قال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكون رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال، فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأولين نهيا، بل تركهما على النفي الحقيقي، فمن ثم كان في كلامه هذا نظر. قال: والذي يظهر لي في الجواب عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: وقيل الحجة لمن رفعهما أن النفي فيهما ليس بعام، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعض الناس، بخلاف نفي

الجدال في أمر الحج، فإنه عام (لاستقرار قواعده) قال: وهذا يتمشى على قول النحويين أن لا العاملة عمل ليس لنفى الوحدة، والعاملة عمل إن لنفي الجنس، وقول بعضهم: المبنية، نص في العموم، وتلك ليست نصا، انتهى. قوله: (وقيل: نزلت في أهل اليمن) إلى آخره، أخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عباس. قوله: (وقيل: كان عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، إلى قوله: فنزلت)، أخرجه البخاري، عن ابن عباس، ومجنة بفتح الميم وكسر الجيم وتشديد النون سوق لكنانة بمر الظهران. وعكاظ: بضم العين المهملة وتخفيف الكاف، وظاء مشالة، سوق لقيس، وثقيف، بين بجيلة والطائف، وذو المجاز، بفتح الميم وتخفيف الجيم، أخره زاي، سوق لهذيل بناحية عرفة، على فرسخ منها. قوله: (وعرفات: سمي به) إلى آخره، قال الفراء: لا واحد لعرفات، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد. قوله: (وليس بعربي، وقال قوم: عرفة، اسم ليوم وعرفات اسم

البقعة، ولا خلاف في استعمال عرفات منونا، وإنما الخلاف، في كونه منصرفا أولاً. فالمصنف اختار صرف محض الثاني، للعلمية والتأنيث، واختار الزمخشري الأول لعدم الاعتداد بالتأنيث. أما لفظا فلان النافية ليست للتأنيث، كما هو ظاهر، وأما تقديرا فلان اختصاصها بجمع المؤنث يأبى تقدير التاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي التأنيث فهي كتأنيث ليست للتأنيث واختصت بالتأنيث فمنعت تقدير التاء. قال الشيخ سعد الدين: فهذه التاء بمنزلة: النعام لا يطير ولا يحمل الأثقال، قال: وفي قوله: كما في سعاد، إشارة إلى أن اسم لا، وإن كان لمؤنث حقيقة، فتأنيثه بتقدير التاء، فعلى هذا، لو جعل مثل بيت ومسلمات علما لا مرأة وجب صرفه لامتناع تقدير التاء. قال: ثم ما ذكر من امتناع تقدير التاء، لا ينافي كون الاسم مؤنثا بحسب الاستعمال، مثل وقفت بعرفات، ثم أفضت منها، لأن تاء الجمع وإن لم تكن لمحض التأنيث، على ما هو المعتبر، في منع الصرف لكنها للتأنيث في الجملة. انتهى. قوله: (وإنما سمي الموقف عرفة، لأنه نعت لإيراهيم فلما أبصره عرفه)، أخرجه ابن جرير عن السدي. قوله: (ولأن جبريل كان يدور به في المشاعر، فلما رآه قال: قد عرفت): أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب. قوله: (ولأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا). قوله: (ألا أن يجعل جمع عارف، أي جمع الذي هو جمع عارف

قوله: (وثم تفاوت ما بين الإفاضتين)

). قوله: (مأزمي عرفه)، الجوهري: المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر الحرام وعرفه. قوله. (روى جابر) إلى آخره أخرجه مسلم. قوله: (كما علمكم) إلى آخره. الفرق بين المعنيين، إن الهداية في الثاني على إطلاقها، وفي الأول على الهداية، أي كيفية الذكر، والكاف على الثاني للتشبيه، وعلى الأول للتقييد، أي اذكروه على الوجه الذي علمكم ولا تعدلوا عنه، ومحل كما هداكم على المصدرية نصب محذوف الموصوف وعلى الكافة لا عامل له، كما لا معمول، لأنه لم يبق حرف جر، بل يفيد من جهة المعنى فقط. أبو حيان: الأولى الحمل على المصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، قال: ويجوز أن تكون الكاف للتعليل على رأي من أثبته. ابن هشام: زعم الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن ما هنا كافة، وفيه إخراج الكاف عما ثنت لها من عمل الجر لغير مقتض. قوله: (كانوا يقفون) إلى آخره أخرجه البخاري، عن عائشة. قوله: (وثم تفاوت ما بين الإفاضتين)، قال الطيبي: فيه نظر، لأن إحدى الافاضتين، وهي الإفاضة من مزدلفة غير مذكورة في التنزيل، فلا يصح العطف عليها بثم قال: والجواب أنه لما كان قوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس مرادا به التعريض، فكأنه قيل: أفيضوا من عرفات، ثم لا تفيضوا من مزدلفة، فإنه خطأ. قوله: (كما في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم). قال أبو حيان: ليست الآية كالمثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن ثم تسلب الترتيب وإن لها معنى غيره، سماه بالتفاوت والبعد لما بعدهما مما

قبلها، ولم يجر في الآية ذكر لإفاضة الخطأ فتكون ثم في قوله: جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم. وقال الحلبي: هذا تحامل، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين. وسيأتي له نظائر، وتمثيل هذه الأشياء لا يرد كلام مثل هذا الرجل. قال السفاقسي: يجوز بها إلى التراخي المعنوي لمشابهة التراخي الزماني لما بينهما من التفاوت فلم يثبت لها معنى آخر حقيقة. قوله: (وقرئ الناس بالكسر)، أي وحذف الياء، كالقاض والهاد، وقرئ أيضا الناسي بإثباتها. (وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم) إلى آخره. أخرجه ابن أبى حاتم، عن ابن عباس. قوله: (أو أشد ذكرا) إما مجرورا) قال أبو حيان: جوزوا إعراب أشد وجوها اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعده تمييز بعد أفعل التفضيل، فلا يمكن إقراره تمييزاً إلا بهذه التقادير التي قدروها. ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله، نحو: زيد أحسن وجها، لأن الوجه ليس زيداً، فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو: زيد أفضل رجل، فعلى هذا، يقال: اضرب زيداً كضرب عمرو وخالدا أو أشد ضرب، بالجر لا بالنصب وكذا كان قياس الآية في بادئ الرأي أو أشد ذكر، فجوزوا في أشد، النصب على وجوه. أحدهما: أن يكون معطوفا على موضع الكاف في (كذكركم) لأنها نعت لمصدر محذوف، أي ذكراً كذكركم أو أشد، وجعلوا الذكر ذاكراً على جهة

المجاز، كما قالوا: شعر شاعر، قاله أبو علي وابن جني. قلت: (وهذا الوجه فات المصنف). الثاني: أن يكون معطوفا على أبائكم بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم، على أن ذكراً من فعل المذكور. قاله الزمخشري. وهو كلام قلق، ومعناه: أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير: أو قوما أشد ذكرا من آبائكم، فكان القوم مذكورين والذكر الذي هو تمييز بعد أشد، هو من فعلهم أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي من ذكركم لآبائكم. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون، والكلام محمول على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشد ذكرا له من ذكركم لآبائكم ودل عليه، أن معنى فاذكروا الله، كونوا ذاكريه. قال أبو البقاء: وهو أسهل من الوجهين قبله، لما في الأول من المجاز، والثاني من القلاقة. وجوزوا الجر في أشد على وجهين، أحدهما: بالعطف على ذكركم، قاله الزجاج، والثاني: بالعطف على الضمير المجرور، في كذكركم، قاله الزمخشري، ثم قال أبو حيان: وهذه الوجوه الخمسة كلها ضعيفة، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية: أنهم أمروا بأن ذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشد وقد ساغ لنا حل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون أشد منصوبا على الحال، وهو نعت لقوله: ذكرا لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، كقوله: لمية موحشا طلل. ولو أخر لقيل: أو ذكراً أشد، يعني من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك أو ذكراً أشد، معطوفا على محل الكاف من كذكركم ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً لقوله: فاذكروا الله وكذكركم في موضع الحال، لأنه في التقدير نعت نكرة. تقدم عليها، ويكون (أو أشد) معطوفا على محل الكاف، حالا معطوفة على حال، ويصير كقولك: اضرب مثل

ضرب فلان ضربا، والأصل ضربا مثل ضرب فلان وحسن تأخر ذكراً، إنه كالفاصلة في حسن المقطع، ولو تقدم لكان فاذكروا الله ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد، فكأن اللفظ يتكرر، وهم يجتنبون كثرة تكرار اللفظ، فلهذا المعنى وحسن القطع لآخر، لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو أو، وبين المعطوف الذي هو ذكرا بالحال الذي هو أشد، وهو غير ظرف ولا مجرور، ولا قسم، لأن الحال: شبيهة بالظرف، فيجوز ما جاز فيه، وهذا أولى من جعل ذكراً تمييزاً، لما في الأوجه السابقة من الضعف فينبغي أن ينزه القرآن عنها، انتهى كلام أبي حيان. وهو نفيس جدا ولو لم يكن في الكتاب إلا تحرير مثل هذا الموضع لكان جديراً بأن يهتم بتحصيله، وفي أمالي ابن الحاجب: قول الزمخشري: إنه معطوف على الضمير المجرور فيه العطف عليه من غير إعادة الجار، وذلك لا يجوز عنده. ورد قراءة حمزة والأرحام أقبح رد. قوله: (ذكرا من فعل المذكور) يؤدى أن يكون أفعل للمفعول، وهو شاذ كما صرح به في المفصل لا يخرج عليه: سمع منه أشغل من ذات التحسين، والمعروف أن أفعل لا يكون إلا للفاعل، نحو اضرب الناس على أنه فاعل الضرب، فالوجه أن يقدر جملتين، أي فاذكروا الله ذكرا مثل ذكركم آباءكم، واذكروا الله في حال كونكم أشد ذكراً من ذكر آبائكم: فتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف، وأشد حالاً، وهذا أولى لأنه جرى الكاف على ظاهرها، ولا يلزم ما ذكروه إن المعطوف يشارك المعطوف عليه في العامل لأن ذلك في المفردات. انتهى. وأجاب الطيبي: عن الأول بأنه رد قراءة الأرحام لشدة الاتصال وصحح نحو مررت بزيد وعمرو

قوله: (اجعل إتياءنا ومنحتنا في الدنيا)

لضعف الاتصال وههنا إضافة المصدر إلى الفاعل وهو في حكم الانفصال، على أن من الجائز أن يكون الفاصل بين المعطوفين هو المصحح للعطف كما في العطف على المرفوع المتصل، وقد ذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن بعض النحويين يجيز في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف، لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار، لاستقلال كل منهما بمعناه ثم استشهد بالآية، وعن الثاني بأنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان أفعل من الذكر وبنى منه، بل إنما بنى مما يصح بناؤه منه للفاعل، وهو أشد، وجعل ذكر الذي بمعنى المذكور تمييزاً، كأنه قيل: أشد مذكوراً فهو مثل قولك: أكثر شغلا وأقبح عورا وزيد أشد مضروبية من عمرو، وعن الثالث، بأنه نظر إلى التوافق بين المعطوف والمعطوف عليه، وإلى جعله من عطف المفرد على المفرد، لا من عطف الجملة على الجملة، لأن جعل أحدهما مصدراً والآخر حالاً له عامل آخر مما يؤدي إلى تنافر النظام. انتهى. الشيخ سعد الدين. قوله: (ذكرا من فعل المذكور، تحقيقه أن المصدر عبارة عن أن مع الفعل، والفعل قد يوجد مبنيا للفاعل، أي أن ذكرا ويذكر: وقد يوجد مبنيا للمفعول أي أن ذكراً ويذكر. والمعنى على الأول كذكر قوم أشد ذاكريه آبائهم وعلى الثاني كذكركم قوما أشد مذكورية لكم. قوله: (اجعل إتياءنا ومنحتنا في الدنيا) قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن المفعول الثاني متروك، لأن هم طالب الدنيا نفسها، كما أن هم طالب الدارين هي الجنة. قوله: (وقول على، الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة). قوله: (وقول الحسن، الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة)، أخرجه ابن جرير. قوله: (يحاسب الخلق على/ كثرتهم وكثرة أعمالهم في قدر لمحة

)، قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه، قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، إنما هي ضحوة قيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين، وأخرج ابن جرير، عن سعيد الصواف، قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس. قوله: (القرابين، جمع قربان بضم أوله). قوله: (يوم القر، وهو أول أيام التشريق، لأن الناس يستقرون فيه بمنى. قوله: (أي الذي ذكره من التخيير)، قال الطيبي: فاللام إما للاختصاص نحو المال لزيد أو للتعليل، وقال الشيخ سعد الدين: بل هي للبيان كما في: (هيت لك) أي الخطاب لك. قوله: (أو يعجبك) إلى آخره، قال أبو حيان: الظاهر تعلقه به لا على هذا المعنى، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته، إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف، فمقالته في الظاهر معجبة دائما لا تراه يعدل عن المقالة الحسنة إلى مقالة منافية لها، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله، وهو معنى قوله: (وهو ألد الخصام). قوله: (شديد العداوة، والجدال للمسلمين، والخصام، المخاصمة)، أبو حيان: إن جعل الخصام مصدراً كما قال الخليل. جعل ألد الخصام للمفاضلة كأنه قيل: شديد الخصومة، وإن بقي على المفاضلة فلا بد من حذف مصحح لجريان المبتدأ على الخبر، أي وخصامه ألد الخصام، أو وهو ألد ذوي الخصام، أو يجعل هو ضمير الخصام يفسره سياق

قوله: (وقيل: في المنافقين كلهم)

الكلام. قوله: (قيل: نزلت في الأخنس ابن شريق. إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن السدي. قوله: (وقيل: في المنافقين كلهم) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. قوله: (من قولك، أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه). بالباء في المعتدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي جعلت أحدهما يصك الآخر. قوله: (وجهنم علم)، قال أبو حيان: مشتقة من قولهم: ركية جهنام: أي بعيدة القعر، وأصله من الجهم، وهو الكراهة والغلظة، فالنون زائدة، فوزنه فعنل وما قيل من أن هذا البناء مفقود في كلامهم فهو مردود بهجنف: الظليم والزونك: القصير، لأنه يزوك في مشيته، أي يتبختر، وضغنط من الضغاطة وهي الضخامة وسفنج، ومنع صرفها للعلمية، وقيل: معرب، أي فارسي، وأصله كهنام فعربت بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف، والمنع على هذه للعجمة والعلمية. قوله: (وقيل: ما يوطأ للجنب)، جعله أبو حيان على هذا القول جمع مزيد. قوله: (وقيل: إنها نزلت في صهيب) إلى آخره، أخرجه عن

عكرمة نحوه، وورد من طرق عدة، إنها نزلت حين هاجروا وأدركوا فاقتدى منهم بماله، قاله الطيبي. والشيخ سعد الدين، وعلى هذا فيشرى بمعنى يشترى لا بمعنى يبيع. قوله: (أو السلم، لأنها تؤنث كالحرب) قال أبو حيان: هذا التعليل ليس بشيء لأن التاء في كافة وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالا له، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى جميع، وكل كقاطبة وعامة، فلا بدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث. وقال ابن هشام في المغني: تجويز الزمخشري أن تكون كافة حالا من السلم، وهم، لأن كافة مختص بمن يعقل، ووهمه في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}، إذ قدر كافة، نعتا لمصدر محذوف أي رسالة كافة، أشد، لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل، إخراجه عما التزم فيه من الحالية، ووهمه في خطبة المفصل، إذ قال: محيط بكافة الأبواب أشد وأشد، لإخراجه إياه عن النصب ألبتة. انتهى. قوله: السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع وهو للعباس بن مرداس، وقبله:

قوله: (للدلالة عليه)

أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع قال الشيخ سعد الدين: من ابتدائية متعلقة بتأخذ لا بيانية، أو تبعيضية، أي تأخذ منها أبدا ما تحبه وترضاه، فلا تسأم من طول زمانها، والحرب بالعكس، إذ يكفيك اليسير منها، وعدة جرع من مشروبها، وقال الطيبي: الجرعة من الماء حسوة منه، يقول الصلح له مجال واسع ومنافع ما يرضى ببعض منها والحرب لها مضار لا تقاسى وقليل منها يهلك يحرضه على الصلح ويثبطه عن الحرب. قوله: (والخطاب لمؤمني أهل الكتاب) إلى أخره، أخرجه، ابن جرير، عن عكرمة قال: نزلت في ثعلبة وعبدالله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم الليل بها. فنزلت. قوله: (للدلالة عليه) إلى آخره. قال الطيبي: يعني دل على هذا القدر في الوجهين، قوله في الفاصلة السابقة: (إن الله عزيز)، لأنه صفة قهر وعليه أوقع العلم. قوله: (أو الآتون على الحقيقة ببأسه)، قال الطيبي: وذكر الله على هذا تمهيد لذكر الملائكة كما في قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ

آمَنُوا}. قوله: (وقرئ وقضاء الأمر عطفا على الملائكة) أي بالرفع والجر معا. قوله: (وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول) هي رواية عن نافع. قوله: (وكم خبرية)، قال أبو حيان: كذا أجازه الزمخشري، وليس بجيد، لأن فيه اقتطاعا للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى، سل بني إسرائيل وما ذكر المسئول عنه، ثم قال كثيرا من الآيات أتيناهم فيصير هذا الكلام مفلتا مما قبله لأن جملة كم آتيناهم صار خبراً فلا يتعلق به سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلا في الاستفهامية، ويحتاج في تقدير الخبرية إلى تقدير حذف وهو المفعول الثاني لسل، ويكون المعني: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ثم أخبر أن كثيراً من آيات آتيناهم. قوله: (أو استفهامية) يقرره الشيخ سعد الدين، فإن قيل على تقدير الخبرية ما معنى السؤال، وعلى تقدير الاستفهام كيف يكون السؤال للتقريع، والاستفهام للتقرير ومعنى التقريع الاستنكار والاستبعاد، معنى التقرير التحقيق والتثبيت، قلنا على تقرير الخبرية فالسؤال عن حالهم وفعلهم في مباشرة أسباب التقريع وعلى تقدير الاستفهام فمعنى التقرير الحمل على الإقرار. (وهو لا ينافي التقريع، وكم آتيناهم)، قيل: في موضع المصدر، أي سلهم هذا السؤال، وقيل المفعول به وقيل: بيان للمقصود، كأنه قيل سلهم جواب هذا السؤال. وقيل: في موضع الحال،

قوله: (أي آيات الله)

أي سلهم قائلا: كم آتيناهم. قوله: (ومحلها النصب على المفعولية)، أي المفعول الثاني لآتيناهم. وقال السهيلي: المفعول الأول: له. قوله: (أو الرفع بالابتداء على حذف العائد)، أي من جمله آتيناهم التي هي خبره، والتقدير آتيناهموه أو آتيناهموها. قال أبو حيان: وهذا لا يجوز إلا في الشعر، فلا يخرج عليه القرآن من إمكان ما هو أرجح منه. قوله: (أي آيات الله)، أي يريد أن ذكر النعمة هنا من وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظه السابق تصريحا بكونها نعمة لقصد مزيد التقريع، قاله الطيبي والشيخ سعد الدين. قوله: (وعن كعب، الذي علمته من عدد الأنبياء) إلى آخره، ورد ذلك من حديث مرفوع، أخرجه أحمد وابن حبان، على أبي ذر، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا). قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير). قوله: والمذكور في القرآن باسم العلم، ثمانية وعشرون. هم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وهود، ولوط، وموسى، وهارون، وشعيب، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وذو الكفل، وأيوب، ويونس عليهم الصلاة والسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، فهؤلاء خمسة وعشرون، وقيل: إن يوسف المذكور في سورة غافر رسول آخر غير ولد يعقوب. وقيل: بنبوة ذي القرنين. وعزير، ولقمن، وتبع،

ومريم. فتكمل العدة التي ذكرها المصنف، من هؤلاء. قوله: (يريد به الجنس)، إلى آخره قال الشيخ سعد الدين: عموم النبيين لا ينافي خصوص الضمير العائد إليه بمعونية القرينة. قوله: (أي الله أو النبي المبعوث أو كتابه). قال الشيخ سعد الدين: الأظهر عود الضمير في ليحكم إلى الكتاب. إذ لابد في عوده إلى الله من تكلف في المعنى، أي ليظهر حكمه، وإلى النبي من تكلف في اللفظ، حيث لم يقل ليحكموا وقال أبو حيان: الأظهر عوده إلى الله، والمعنى: أنه أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس، ويؤيده قراءة: لنحكم بالنون على الالتفات. ونسبة الحكم إلى الكتاب مجاز، كما أن إسناد النطق إليه في قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}، مجاز. انتهى. قوله: (وفيها توقع)، قال الطيبي، نقلا عن الإقليد: إنما تضمنت معنى التوقع لأنها جعلت نقيضة قد، وفي قد معنى التوقع. تقول: قد ركب الأمير، لقوم ينتظرون ركوبه ويتوقعونه، فكذلك لما يركب ومعنى التوقع طلب وقوع الفعل مع تكلف واضطراب وكذلك قيل: الانتظار موت أحمر، وقولك: لما يركب: معناه ما وجد بعد وقوع ما كنت تتوقعه، وقال الشيخ سعد الدين: يعد قد متوقع أي منتظر الكون والمنتظر في لما أيضا هو الفعل، لا نفيه. قوله: (هي مثل في الشدة)، الشيخ سعد الدين، لما سبق من أن لفظ المثل مستعار للحال: والقصة العجيبة الشأن. قوله: (حكاية حال ماضية)، قال الطيبي: فائدتها، تصور تلك الحال العجيبة الشأن واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منه. قوله: (استئناف على إرادة القول)، الشيخ سعد الدين: فإن قلت

: هلا جعل، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}؟ مقول الرسول ومتى نصر الله مقول من معه على طريق اللف والنشر، قلت: أما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وأما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول ذلك في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة. قوله: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. قوله: (عن ابن عباس، أن عمرو بن الجموح) إلى آخره. أخرجه ابن المنذر، عن مقاتل بن حيان. والهم بالكسر الشيخ الفاني. قوله: (سئل عن المنفق، فأجيب ببيان المصرف، لأنه أهم)، الراغب. قيل: في مطابقة الجواب للسؤال، وجهان. أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ينفق؟ وعلى من ينفق؟ لكن حذف في حكاية السؤال. أحدهما، إيجازا ودل عليه الجواب بقوله: ما أنفقتم من خير، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء فلف أحدهما في الآخر وهذا طريق معروف في البلاغة. الثاني: إن السؤال ضربان، سؤال جدال: وحقه أن يطابقه جوابه، لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم، فيبني المعالجة على ما يقتضيه المرض لا على ما يحكيه المريض. قوله: (أو بمعنى الإكراه على المجاز)، قال أبو حيان: جعل

قوله: (فإن الطبع يكرهه)،

الثلاثي مصدراً للرباعي لا ينقاس. قوله: (فإن الطبع يكرهه)، قال الشيخ سعد الدين: لا يلزم منه كراهة حكم الله ومحبة خلافه، وهو ينافي كمال التصديق، لأن معناه كراهة نفس ذلك الفعل ومشقته، كوجع الضرب في الحد مع كمال الرضى بالحكم والإذعان له، وهذا كما تقول: إن الكل بقضاء الله ومشيئته مع أن البعض مكروه منكر غاية الإنكار، كالقبائح والشرور. قوله: (والله يعلم ما هو خير لكم) قال الشيخ سعد الدين: يعني أن المفعول مراد لا متروك منزل فعله منزلة اللازم. (روى أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبدالله بن جحش)، إلي آخره. أخرجه ابن جرير من طريق السدى بأسانيد، وسمى فيه من السرية، عمار ابن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة ابن ربيعة، وسهل ابن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبدالله البربوعي، وسمى الثلاثة الذين مع عمرو والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ابن المغيرة، ونوفل بن عبدالله، وفيه أن ذلك أول غنيمة، وليس فيه رد الغير والأسارى ولا قوله:/ (يأمن فيه الخائف)، إلى آخره، بل انتهى الحديث إلى قوله: فقال المشركون: استحل محمد الشهر الحرام. قوله: (ينذعر بموحدة وذال معجمة وعين مهملة، وراء)، قال في الصحاح: انذعر القوم، أي تفرقوا. قوله: أكل امرئ تحسبين امرأ. البيت، هو من قصيدة لأبي

دؤاد، بضم الدال المهملة بعدها همزة مفتوحة ثم ألف ساكنة ثم دال أخرى ن واسمه: جارية، ويقال: جويرية في الحجاج الأديادي، يصف فيها أيام لذته بالتصيد ثم مصيره إلى حال أنكرت عليه امرأته فهزلته، فأنبأها بجهلها بمكانه، وأنه لا ينبغي أن يغتر بامره من غير امتحان، ويروى بالجر على تقدير وكل نار، وبالنصب فرارا من العطف على معمولين. وتوقد: أصله تتوقد، وهو صفة لنار. قوله: (ولا يحسن عطفه على سبيل الله لأن عطف. قوله: (وكفر به) على (وصد) مانع منه، إذ لا يتقدم العطف على الموصول، على العطف على الصلة)، أجاب عنه الزمخشري خارج الكشاف بوجهين، أحدهما: أن الكفر بالله والصد عن سبيله متحدان معنى، فكأنه لا فصل بالأجنبي بين سبيل الله وما عطف عليه، ولا عطف للكفر على الصد قبل تمامه، والثاني: أن هذا التقديم لفرط العناية، ومثله لا يعد فصلا. قال الشيخ سعد الدين: والأول أوجه. قوله: (ولا على الهاء في (به) فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار)، قال أبو حيان: هذا على مذهب أكثر البصريين، ومذهب الكوفيين ويونس والأخفش والشلوبين: إلى جوازه بدون إعادته والسماع يعضده والقياس يقويه، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ضرورة، ولسنا متعبدين بقول البصريين، بل المتبع ما قامت عليه الأدلة، تخريج الآية عليه أرجح، بل متعين، لأن وصف الكلام وفصاحة التركيب يقتضي ذلك. انتهى. قوله: (وحتى للتعليل)، أي لا لغاية، كما قال بعضهم، لأن ذلك أفيد من حيث إنه ذكر للمقابلة عليه توجيها، والغاية تفيد في الفعل، دون ذكر الحامل عليه. قوله: (قيد الردة بالموت عليها) إلى آخره. قال الطيبي: فإن قيل

: هذا معارض بقوله: تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}، قلنا يحمل المطلق على المقيد. قوله: (نزلت أيضا في السرية)، إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، من حديث جندب ابن عبدالله. قوله. (روى أنه نزل بمكة) إلى آخره، ورد مفرقا في جملة أحاديث، أخرج ابن أبي حاتم، عن أنس، قال: كنا نشرب الخمر، فأنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فقلنا نشرب منها ما ينفعنا فأنزلت في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. فقالوا: اللهم قد انتهينا. وأخرج أحمد وأبو داود، والترمذي والحاكم وصححاه، والنسائي عن عمر، أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. فدعى عمر فقرنت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في سورة النساء، فكان منادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، نادى: (لا يقربن الصلاة سكران) فدعى عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة. فقال فقال عمر: انتهينا، وأخرج أحمد عن

أبي هريرة، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهما فأنزله الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال فيهما: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب فأنزل الله الآية التي في النساء. وأخرج أبو داود، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، والنسائي، عن علي، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني أصلى، فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ونحن نعبد ما تعبدون} فأنزل الله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية. وأخرج النسائي والبيهقي، وابن جرير عن ابن عباس، قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا فلما أن تميل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته، فوقعت

قوله: (إثم كبير)،

الضغائن في قلوبهم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. قال القفال: الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أنه سبحانه علم القوم كانوا كلفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم فاستعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق. قوله: (إثم كبير)، فات المصنف أن ينبه على أن حمزة والكسائي قرأ كثير بالمثلثة، والباقون بالموحدة. قوله: (قيل: سائله عمرو بن الجموح)، لم يرد، بل ورد أن سائله، معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمة أخرجه ابن أبي حاتم بسند مرسل، وأخرج عن ابن عباس أن نفرا من الصحابة سألوا. قوله: (نقيض الجهد) بالفتح، أي المشقة. قوله: (خذ العفو مني تستدعي مودتي .... ولا تنطقي في سورة حين أغضب قيل: هو لأبي الأسود الدؤلي، وقيل: لأسماء بن خارجه الفزاري، وبعده: فإني رأيت الحب في الصدر والأذا إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وسورة الغضب، شدته وحدته، ثم رأيت البيهقي، أخرج في

شعب الإيمان: أنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن شبانة الهمذاني حدثنا أبو حاتم أحمد بن عبد الله البستي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم يعني البستي، حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا أبو بشر أن أسماء بن خارجة الفزاري، لما أراد أن يهدى ابنته إلى زوجها، قال لها: يا بنية كوني لزوجك أمة يكن لك عبدا، ولا تدني منه فيملك، ولا تباعدي عنه فتثقلي عليه، وكوني كما قلت لأمك: خذ العفو مني فذكر البيتين: (ثم رأيت في حماسة الشريف ضياء الدين العلوي، قال عامر بن عمرو البكاري لامرأته: خذ العفو مني تستمدي مودتي .... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ولا تنقريني نقرة الدف مرة .... فإنك لا تدرين كيف المغيب فإني رأيت الغيظ في الصدر ... إذا طال يمحو كل ود فيذهب والأذى قوله: (روى أن رجلا)، الحديث. أخرجه أبو داود، والبزار وابن حبان، والحاكم، من حديث جابر، ولفظ البزار، في بعض المغازي، كما ذكر المصنف، ولفظ الباقين في بعض: (المعادن)، قال

في النهاية: عن ظهر غنى، أي ما كان عفوا فقد فضل عن غنى. والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال. والحذف بالحاء المهملة، الرمي، ويتكفف الناس، يمد كفه يسألهم. قوله: وحد العلامة أي الكاف في ذلك. قوله: (لما نرلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} إلى آخره الآية، أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم، وصححه، من حديث ابن عباس. وقوله: (وتتسع له الطاقة) أي من غير حرج، وتضييق، ولهذا لم يقل: ما يطيقون، وجه، ولا أعلم أحداً قرأ به. قلت: هي قراءة الأعمش، كما نقله أبو حيان. قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام، بعث مرثدا)، الحديث. قلت: ليس هو في نزول هذه الآية، إنما هو في نزول أية النور: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية. كذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث ابن عمرو والذي ذكره المصنف

قوله: (والواو للحال، ولو بمعنى إن)

أورده الواحدي في أسباب النزول، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. قوله: (أي ولا امرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة) فيه قول ثان، إن المراد الأمة على ظاهرها، وهو الأوفق للسياق وسبب النزول فإن الآية نزلت في أمة عبد الله بن رواحة، أخرجه الواحدي، عن ابن عباس. قوله: (والواو للحال، ولو بمعنى إن) الشيخ سعد الدين: كلمة لو في مثل هذا الموضع لا تكون لانتقال الشيء لانتفاء غيره، ولا للمضي، وكذا كلمة إن لا تكون لقصد التعليق والاستقبال، بل المعنى فيها ثبوت الحكم البتة، ولهذا يقال: إنها للتأكيد، والواو عند بعضهم للعطف على مقدر هو ضد المذكور، أي لولم يكن كذلك ولو كان كذلك، وعند الزمخشري: للحال، لكن مقتضاه أن يكون الواقع بعد الواو أعني الفعل مع الحرف في موضع الحال ولا يستقيم، فلذا يقدر ولو كان الحال كذا دون الحال لو كان كذا. قوله: (أولئك، إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات)، قال الشيخ سعد الدين: ففيه تغليب في يدعون لكونه صيغة جماعة الذكور أو استعمال المشرك في تعيينه، لأن صيغة يدعون صالحة للمذكر والمؤنث، إلا أن الواو على التذكير ضمير دون النون، وعلى التأنيث بالعكس، وأما الإشتراك في أولئك: فمعنوي، لا لفظي. قوله: (أي وأولياؤه)، قال أبو حيان: الحامل له على ذلك طلب

المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء، ولا يلزم ذلك، بل إجراء اللفظ على ظاهرة أكد وأبلغ في التباعد من المشركين. قوله: (روى أن أهل الجاهلية) إلى آخره، روى مسلم والترمذي والنسائي، عن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، إن القرآن أنزل في شأن الحائض والمسلمون يخرجونهن من بيوتهن كفعل العجم، ثم استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: والذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل، مثله. قوله: (ولعله سبحانه، إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثا ثم بها ثلاثا، لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة ن والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد. فلذلك ذكرها بحرف الجمع)، اعترض عليه ابن المنير بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة، لأن العطف يكون في الثانية والثالثة منها ثم قال: ويحتمل أن يكون لما سألوا عما كانوا ينفقون فأجيبوا بمصرف النفقة، أعادوا سؤالهم بالواو، ماذا ينفقون فاجيبوا بالعفو، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى، في النفقة، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما يعتزل اليتامى، فهو مناسب لما قبله، إذ

كلاهما سؤال عن اجتناب، عطف بالواو، ولا كذلك الثلاثة الأول، إذ لا تعلق بينهما. قوله: (لقوله: عليه الصلاة والسلام: " إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ". لم أقف عليه. قوله: (بمعنى يغتلسن: يقول: التطهر هو الغسل بالماء، كما قال ابن عباس (فإذا تطهرن بالماء) أخرجه، ابن أبي حاتم، وذلك صادق بغسل كل البدن كما قال به الشافعي، وبغسل بعض الأعضاء، وهو الوضوء كما قال به طاوس ومجاهد. وبغسل الفرج خاصة، وهو الاستنجاء، كما قال به الأوزاعي، فمن أين تعيين الاغتسال العام الذي هو غسل الجنابة، وتوقف الوطء عليه. فإن قيل: المطلق التصرف إلى الكامل: قلت: هو بمذهب أبي حنيفة أليق، لأن ذلك قاعدته وأما قاعدة الشافعي رضي الله عنه، فالانصراف إلى الأقل. فان قيل: ينصرف إلى الشرعي دون اللغوي: قلت: الثلاثة شرعية، لأن الاستنجاء شرعي ثم الوضوء شرعي قطعا، فإن قيل: لعل ذلك ليس من الآية فقط، بل من أدلة أخرى، قلت: لم يرد حديث قط بأن الوطء، يتوقف على الغسل الكامل، ولو كان ذلك مراد الآية لبين مرة في حديث، فإن الآية مجملة في الثلاثة، والذي أقطع به، إن الآية نزلت على المعنى اللغوي: وهو غسل مكان القذرة خاصة ولذا سكت عن تفصيله في الآية، وعن تبيينه في الأحاديث كما سكت في آية الاستنجاء، وهي: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فإن المراد بها غسل محل البول والغائط خاصة، وأطلقت، لأنه كان معهوداً عندهم، ولما جاءت أية الوضوء بما لا يعرفونه جاءت مبينة، وكذلك الغسل من الجنابة بين في الأحاديث، فإن قيل: قد ورد في الأحاديث ذكر الغسل من الحيض، قلت: للصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد، وأما للوطء، فمن ابن؟ قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي من أي جهة شئتم، أبو حيان: وهذا

من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر، لأن أنى: تكون استفهاما وشرطا، ولا جائز أن تكون هنا استفهاما، لأنها حينئذ تكتفي بما بعدها من فعل أو اسم، نحو: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}، {أَنَّى لَكِ هَذَا}، ولا تفتقر إلى غيره، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها، بما قبلها، ثم إن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا جائز أن يكون شرطا، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان فتكون مبيحة لاتيان/ النساء في غير القبل وقد ثبت تحريمه، ثم إن الظرف الشرطي أيضا لا يعمل فيه ما قبله، قال: والذي يظهر والله أعلم، كونها شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، ويكون قد جعلت فيها الأحوال كجعل الظروف المكانية، وأجريت مجراها تشبيها للحال بالظرف المكاني، كما أن كيف، خرج بها عن الاستفهام إلى معنى الشرط، في نحو: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، وجواب أني محذوف. تقديره: أنى شئتم فأتوه. ثم قال: فإن قلت: قد أخرجت أنى عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل كيف، فهل الماضي بعدها في محل جزم كحالها إذا كانت ظرفا، أم رفع كهو بعد كيف، فالجواب: إنه يحتمل الأمرين، والجزم: أرجح، لأنه قد استقر الجزم بها، فلا يزال، ولم يستقر الجزم بكيف. انتهى. قوله: (روى إن اليهود) إلى آخره، أخرجه الشيخان عن جابر. قوله: (وقيل: التسمية عند الوطء، أخرجه ابن جرير، عن ابن

عباس. قوله: (نزلت في الصديق)، أخرجه ابن جرير، عن ابن جريج. قوله: أو في عبدالله بن رواحة)، لم أقف عليه. قوله: (يطلق لما يعرض دون الشيء، وللمعرض للأمر). يعني إنها جاءت اسما لما يعرضه دون الشيء، أي تجعله قدامه بحيث يصير حاجزاً ومانعا منه من عرض العود على الإناء يعرض بالضم والكسر ولما تعرضه للأمر من التعريض للبيع، ونحوه تقول: عرضت فلانا للحرب فتعرض لها، كأنك قدمته لذلك ونصبته له. قوله: (كقوله عليه الصلاة والسلام، لابن سمرة: (إذا حلفت على يمين) الحديث، أخرجه الشيخان، والمصنف جعل قوله: (على يمين بمعنى، على أمر محلوف عليه مجازاً، وغيره ذهب إلى أن على زائدة، والتقدير: إذا حلفت يمينا. قوله: (وأن مع صلتها عطف ييان لها) أي: فيكون في موضع جر، قال أبو حيان: ولو قيل إنه بدل منها لكان أولى، لأن عطف البيان

قوله: (وتتعلق أن بالفعل)

أكثر ما يكون في الأعلام، قال: والجمهور على أن هذا القول في موضع نصب على المفعولية له، أي كراهة أن تبروا، وذهب الزجاج والتبريزي إلى أنه في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي أن تبروا وتتقوا أمثل وأولى أو خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة، فهذه ثلاثة أعاريب. قوله: (وتتعلق أن بالفعل)، قال الشيخ سعد الدين: عبر به دون أن يقول: فلا تجعلوا، تنبيها على أنه متعلق بالمنفى لا بالنفي. قوله: (أو بعرضه أي ولا تجعلوا الله عرضة لأن تبروا لأجل أيمانكم به) قال أبو حيان: هذا التقدير لا يصح، لأنه إذا علق لأيمانكم بتجلعوا ولا تبروا بعرضه، فقد فصل بين عرضه وبين معموله أن تبروا بقوله: لأيمانكم، وهو أجنبي منهما؛ لأنه معمول لتجعلوا، وذلك لا يجوز. قوله: (ولا تجعلوه معرضا) إلى آخره، هو على المعنى الثاني بعرضه، وهو كونها بمعنى المعروض للأمر، والإيمان على هذا بمعنى الأقسام على ظاهرها، لا بمعنى المحلوف عليه. قوله: (وأن تبروا علة)، قال أبو حيان: الذي يظهر لي على هذا القول، أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض والعامل فيه لأيمانكم، والتقدير: لاقسامكم على أن تبروا فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى وجعله معرضا لأقسامكم على البر والتقوى والإصلاح، وهي أوصاف جميلة، فما ظنك بغيرها، قال: وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ منه مكانه الذي يليق به.

قوله: (كقول العرب، لا والله وبلى والله)، قال الشيخ سعد الدين، وهو على طريق المثال وإيراد بعض الجزئيات، قلت: وخصه لأنه الوارد في تفسير الآية مرفوعا، أخرج البخاري عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية، في قول الرجل: لا والله وبلى والله، وأخرج أبو داود، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في لغو اليمين: (هو كلام الرجل في بيته، كلا والله وبلى والله) وله طرق أخرى. قوله: (معنى البعد): عبارة غيره: معنى الامتناع. قوله: (أضيف إلى الظرف على الاتساع) الأصل تربصهم أربعة أشهر. قوله: (وإلا بانت بعدها بطلقة)، قال: في الهداية: لأنه ظلمها بمنع حقها فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة. قوله: (خبر في معنى الأمر): قال الشيخ سعد الدين: وجه هذا المجاز تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو متحقق الوقوع في الماضي، كما في رحمك الله أو في المستقبل والحال، كما في هذا المثال، قال: ثم إنه لا يعطى حكم الأمر في جعله جملة إنشائية حتى لا يكون خبر المبتدأ إلا بتقدير القول. لأن ذلك لا يبقى معه ما أريد فى هذا المقام من التأكيد

انتهى. واعلم أن القول في هذه الآية وأمثالها بأنها خبر بمعنى النهي قد كثر في عبارات العلماء حتى كادوا يجمعون عليه وقد نبه القاضي أبو بكر ابن العربي على دقيقة فقال، في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}، ليس نفيا لوجود الرفث، بل نفى لمشروعيته فإن الرفث يوجد من بعض الناس وأخبار الله لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ومعناه مشروعا لا محسوسا، فإنا نجد مطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي، وكذلك: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. لا يمسه أحد شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، قال: وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء قالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط ولا يصح أن يوجد، فإنهما يختلفان حقيقة، ويتباينان وضعا. انتهى. وتابعه القرطبي، فقال: هنا هو خبر على بابه وهو خبر عن حكم الشرع فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ثم رأيت الطيبي نقل عن الراغب مثل ذلك فقال: عند قوله والوالدات يرضعن، ذكر جماعة من الفقهاء أن يرضعن أمر وإن كان لفظه خبراً، لأنه لو جعل خبرا لم يقع بخلاف مخبره، وهذه قضية إنما تصح في خبر لفظة لا تحتمل التخصيص، وأما إذا كان عاما يمكن أن يخصص على وجه يخرج من أن يكون كذبا فادعاء ذلك فيه

قوله: (جمع قرء)

ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن فيه ذلك أخبر تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن. قوله: (وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد)، قال الشيخ سعد الدين: إما لتكرر الإسناد، وإما لأنك لما ذكرت المبتدأ أشعرت السامع بأن هناك حكما عليه، فإذا ذكرته كان أوقع عنده من أن يذكر ابتداء. قوله: (جمع قرء) بفتح القاف. قوله: (دعى الصلاة أيام أقرانك)، أخرجه أبو داود والنسائي، والدارقطني، من حديث فاطمة بنت أبى حبيش، والنسائي من حديث عائشة، نحوه. قوله: لقول الأعشى: (لما ضاع فيها من قروء نسائكا أوله: أفي كل عام أنت جاشم غزوة .... تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالاً وفي الحمد رفعة .... لما ضاع فيها من قروء نسائكا أي من أطهارهن، إذ لا جماع في الحيض، والاستفهام للتقرير مع ثبوت إنكار، والظرف متعلق بجاشم، قال: جشمت الأمر: تكلفته على

مشقة، والعزيم: العزيمة والعزا: الصبر، ومورثة: صفة غزوة. أي: تورث المال والجاه ما ضاع من أطهار النساء وبسببها فهو علة للتوريث، أي لأجل صرف الأوقات وترك الشهوات، فقط ظفرت بالأمرين وليس تعليلا للإنكار، ولا من قبيل ليكون لهم عدوا. قال الشيخ سعد الدين: وأول هذه القصيدة: أتشفيك تيا أم تركت بدائكا .... وكانت قتولا للرجال كذلك ومنها: تجانف عن جل اليمامة ناقتي ... وما عدلت من أهلها لسوانكا قوله: (وهو المراد في الآية). قوله: (روى مالك في الموطأ وابن أبي حاتم، عن عائشة، قالت: (الأقراء: الأطهار). قال ابن شهاب: سمعت أبابكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلا وهو يقول: ما قالت عائشة. قوله: (طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان)، أخرجه، أبو داود، والترمذي، وابن ماجه: والحاكم، من حديث عائشة رضي الله عنها.

قوله: (وكان القياس)، إلى آخره. وجه بعضهم العدول، عن الأقراء إلى قروتان، واحدة قرء بالفتح، وجمع فعل على أفعال، شاذ، فلذلك ترك. حكاه أبو حيان، وهو توجيه حسن. قوله: (ألا ترى إلى قوله: (بأنفسهن)، وما هي إلا نفوس كثيرة، قال الشيخ سعد الدين: فإن النكتة في تقليلها الإيماء إلى أن التطليق ينبغي أن يكون قليل الوقوع من الرجال. قوله: (ولعل الحكم)، إلى أخره، قال الحريري في درة الغواص: الأصل تربص كل واحدة من المطلقات ثلاثة أقراء، فلما أسند إلى جماعتهن ثلاثة جيء بجمع الكثرة. قوله: (من الولد والحيض)، عبارة الكشاف: أو من دم الحيض .. وقال الشيخ سعد الدين: إن الأول أوجه، لأن الولد هو المخلوق في الرحم، دون الدم. انتهى. وهو فاسد، لأن المراد البدل، لا الشمول، أي من الولد إن كانت حاملا، أو الحيض إن كانت حائلا. أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، في الآية، قال: (لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حايضا أن تكتم حيضها). قوله: (ليس المراد منه) إلى آخره. يعني أنه ليس شرطا، لقوله: لا يحل، حتى لو لم يؤمن حل لهن ذلك، بل هو متعلق بيكتمن قصدا إلى عظم ذلك الفعل. قوله: (فالضمير أخص)، قال أبو حيان: الأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه الحكم، تقديره: وبعوله رجعياتهن. قوله: (والتاء لتأنيث الجمع)، هو سماعي، لا قياسي، فلا يقال، في جمع كعب: كعوبة.

قوله: (وأفعل ههنا، بمعنى الفاعل)، أي: لأن غير الزوج لا حق له في ذلك، فكأنه قيل: وبعولتهن حقيقون بردهن، وقيل: إنها على بابها للتفضيل، أي: أحق منهن بأنفسهن لو استغن من الردة أو من آبائهن. قوله: (وليس المراد منه) إلى آخره. الصارف عن اعتبار مفهوم هذا الشرط الاجماع. قوله: (أي التطليق)، قال الطيبى: فسر الطلاق بالتطليق، لأنه قوبل بالتسريح. قوله: (لما روى أنه عليه الصلاة والسلام، سئل أين الثالثة، فقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، أخرجه أبو داود في ناسخه وسعيد بن منصور، وإبن أبي حاتم، وابن مردويه، من حديث أبى رزين الأسدي، وأخرجه الدارقطني وابن مردويه من حديث أنس. قوله: (على التفريق) أي في كل طهر طلقة، فيكون مرتان للتكرير لا التثنية واللام في الطلاق للجنس، وهي على الأول للعهد في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}. قوله: (عقب به)، إلى آخره، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى معنى الفاء في فإمساك إذ الامساك بمعروف أو تسريح بإحسان، إنما يتصور قبل الطلقات لا بعدها، يعني أنها للترتيب على التعليم، كأنه قيل: إذا علمتم كيفية التطليق، فالواجب أحد الأمرين. قوله: (روى أن جميلة بنت عبد الله)، إلى آخره، قال الطيبي: رواه الأئمة بروايات شتى. وليس فيه، إني رفعت جانب الخباء، إلى

آخره. قال الشيخ سعد الدين. اتفقوا على أن الصواب أخت عبد الله. قلت: كلاهما صواب فإن أباها عبدالله ابن أبي رأس المنافقين، وأخوها صحابي جليل، اسمه عبدالله، نعم، اختلف قديما، هل هي بنت عبدالله المنافق أو أخته بنت أبي؟ والذي رجحه الحفاظ الأول. قال الدمياطي: هي أخت عبدالله ابن عبدالله شقيقته، أمها خولة بنت المنذر. وقد ورد من طريق عند الدارقطني: إن اسمها زينب. قال ابن حجر: فلعل لها اسمين، أو احدها لقب وإلا فجميلة أصح. وقد وقع من حديث آخر، أن اسم امرأة ثابت، حبيبة بنت سهل، قال ابن حجر: والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا له مع امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين. انتهى. والقدر الذي أنكره الطيبي، وهو أني رفعت إلى أخره، ورد في بعض الطرق إلا أن الطيبي، أكثر ما خرج من الكتب الستة، ومسندي أحمد والدارمي وليس هو فيها، فلذلك نفاه، أخرج البخاري، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، ولكني لا أطيقه. زاد الإسماعيلي في مستخرجه، والبيهقي بغضا، قال: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، قال: أقبل الحديقة وطلقها تطليقة، وأخرج البيهقي من وجه آخر، عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تريد الخلع فقال لها: (ما أصدقك)؟ قالت: حديقة. قال: (ردي عليه حديقته). وأخرج ابن جرير من وجه أخر، عن ابن عباس، قال: أول خلع كان في الإسلام، امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت:

قوله: (أكره الكفر في الإسلام)

يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها فقال: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته ففرق بينهما، وأخرج مالك، وأبو داود، وابن حبان، والبيهقي. عن حبيبة بنت سهل، أنها كانت عند ثابت بن قيس فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا أنا ولا ثابت. الحديث. وليس في شيء من طرق الحديث التصريح بنزول الآية في هذه القصة. قوله: (لا أنا ولا ثابت)، أصله لا اجتمع أنا وثابت، فحذف الفعل. قوله: (أعتب) يروى بسكون العين والمثناة الفوقية مضمومة من العتاب وبكسر العين والمثناة التحتية ساكنة من العيب. قوله: (أكره الكفر في الإسلام)، أي أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر، ويحتمل أن تريد كفران العشير، ويؤيده ما في حديث حبيبة بنت سهل، عند ابن ماجه، من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنها قالت: والله لولا مخافة الله إذا دخل على لبصقت في وجهه. قوله: (أيما امرأة سألت زوجها) الحديث. أخرجه البيهقي من حديث ثوبان، وما روي أنه قال لجميلة. الحديث، أخرجه البيهقي،

عن عطاء مرسلا، ثم أخرجه من طريق أخر عن عطاء، عن ابن عباس وقال: إنه غير محفوظ والصحيح المرسل، وأخرجه أيضا، من مرسل أبي الزبير. وأخرج من طريق قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها ما ساق إليها، ولا يزداد. قوله: (لما روي أن امرأة رفاعة)، الحديث أخرجه الشيخان من حديث عائشة، وابن الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء، والعسيلة: مجاز عن قليل الجماع. قال الجوهري: شبهت تلك اللذة بالعسل وصغرت الياء، لأن الغالب على العسل التأنيث، وفي الأساس: من المستعار العسلتان للعضوين لكونهما مظنتي الالتذاذ. قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له)، أخرجه أحمد والترمذي، والنسائي، وصححه، من حديث ابن مسعود. قوله: (ولأنه لايقال، علمت أن يقوم زيدا)، إلى آخره. قال الطيبي: هذا إشارة إلى بيان الخطأ من طريق اللفظ لأن إن الناصبة لا

تقع بعد العلم، لأنه للتحقيق، والاستقبال ينافيه، وإنما تقع بعده المخففة من الثقيلة قال أبو حيان: وهذا الكلام قاله: غير واحد من النحويين إلا أنه مخالف لما ذكره سيبويه، من أنه يجوز أن يقال: ما علمت إلا أن يقوم زيد. فأعمل علمت في أن، قال: وجمع بعض المغاربة بينهما بأن علمت تستعمل ويراد بها العلم القطعي فلا يجوز وقوع أن بعدها كما ذكره، وتستعمل مرادا بها الظن القوي فيجوز أن تعمل في أن ويدل على استعمالها كذلك قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} فالعلم هنا أريد به الظن القوي، لأن القطع بإيمانهن غير متوصل إليه. وقول الشاعر: (وأعلم علم حق غير ظن. فقوله: علم حق، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذا قوله: غير ظن يدل على أنه يقال: علمت، وهو ظان، وقد سمع إعمال علم في أن، والمراد بها غير القطع. قال جرير: نرضى عن الناس أن الناس قد علموا .... ألا يدانينا من خلفه أحد كل امرئ مستكمل مدة العمر .... ومود إذا انتهى أجله هو للطرماح. ومود: بمعنى هالك، من أودى إذا هلك. قوله: ويقال: للدنو منه على الاتساع، قال الشيخ سعد الدين:

قوله: (كان المطلق يترك العدة)

تحقيقه أنه مجاز باعتبار ما يؤل أو استعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع في البعد عن القوة المحضة، والقرب من حصول الأثر. قوله: (كان المطلق يترك العدة) إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (واللام متعلقة بالضرار)، وهو متعين على إعراب ضرار علة في إذ المفعول له لا يتعدد إلا بالعطف، أو على البدل وهو غير ممكن هنا لاختلاف الإعراب، وجائز، على إعرابه حالا، على أنه علة للعلة، ويجوز تعلقه بالفعل، وإن قدرت لام العاقبة جاز على الأول أيضا، ويكون الفعل تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما: مختلفان. قاله أبو حيان. قوله: (كان الرجل يتزوج ويطلق، ويعتق، ويقول: كنت ألعب، فنزلت). أخرجه ابن المنذر، عن عبادة بن الصامت. قوله. (ثلاث جدهن جد)، الحديث، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة، لكن فيه: والرجعة بدل،

والعتاق، وهو: في حديث عبادة بن الصامت السابق، بلفظ، فقال: (ثلاث من قالهن لاعبا: أو غير لاعب فهن جائزات عليه، الطلاق، والعتاق، والنكاح). قوله: (دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين). قال الشيخ سعد الدين: لأن الإمساك إنما يكون في العدة، والنهى عن العضل إنما هو بعد التمكن، من النكاح، وذلك بعد انقضاء العدة. قوله: (لما روى أنها نزلت، في معقل بن يسار)، أخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي: من حديثه. وليس فيه تسميتها، ووقع تسميتها جملا، وتسمية زوجها أبا البداح ابن عاصم، في طريق، رواه القاضي إسماعيل في أحكام القرآن وبه جزم ابن فتحون، وفي طريق عند ابن جرير، تسميتها: جميل بالتصغير، وبه جزم ابن ماكولا، وقيل: اسمهما ليلى حكاه السهيلي. والمنذري. وقيل: فاطمة وقع ذلك، عند ابن إسحاق. قوله: (المروءة) بالهمز ومعناها كمال الرجولية والإنسانية. قوله: (لأنه مما يتسامح فيه)، أي فيطلق على الأقل القريب من التمام.

قوله: (وقرئ، لا يضار بالسكون مع التشديد)، هي: قراءة أبي جعفر. قوله: (وفيه مع التخفيف)، هي: رواية عنه أيضا، ووجهها كالتي قبلها. قوله: (واجعله الوارث منا)، أول الحديث: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من ظلمني وخذ منه بثأري)، أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وحسنه. قوله: (أي فصالا صادرا)، قال الحلبي: في تقديره صادرا، نظر من حيث كونه كونا مقيدا، وقد قدره كائنا. قوله: (أي يستر ضعوا المراضع) إلى أخره. قال أبو حيان: أحد القولين، أن تسترضع يتعدى إلى مفعولين بنفسه. والجمهور على أنه يتعدى إلى اثنين، ثانيهما بحرف جر، وحذف من أولادكم. والتقدير لأولادكم. قوله: (ما أردتم إيتاءه)، قال الشيخ سعد الدين: لأن ما تحقق إيتاؤه لا يتصور تسليمه في المستقبل. وكذا قراءة: ما أتيتم، معناه: ما أردتم فعله، إذ لا يستقيم على ظاهره كما توهم بخلاف قراءة ما أوتيتم. قوله: (وليس اشتراط التسليم) إلى آخره. الشيخ سعد الدين، جواب سؤال وهو، أن ظاهر الكلام، كون التسليم شرطا لرفع الجناح حتى لو انتفى ثبت الجناح، وليس كذلك. وحاصل الجواب، أنه دعا إلى الأولى. فإن قلت: ما موقعه في أساليب الكلام؟ قلت: إنه شبه ما هو

من شرائط الأولوية بما هو من شرائط الصحة، في فرط الاعتناء به، حتى كان الصحة تنتفي بانتفائه فاستعير له العبارة الموضوعة لإفادة التعليق وتوقف الصحة. قوله: (أي وأزواج الذين)، أي والذين. إلى آخره يريد أن الذين مبتدأ، خبره بتربص، ولا عائد فيه فقدر حذف المضاف الذي يرجع إليه ضمير يتربص وهو الأزواج، أو حذف الضمير العائد إلى الذين حال كونه مجروراً، أي بعدهم. قال الشيخ سعد الدين: ولو قدر يتربصن بهم لم يبعد. قوله: (وتأنيث العشر باعتبار الليل)، قال أبو حيان: لا حاجة إلى هذا التأويل، لأن المقرر في العربية، أن المعدود إذا كان مذكراً، وحذفته جاز فيه الوجهان، ذكر التاء وحذفها، وعليه حديث: (وأتبعه ستاً من شوال) فجاءت الآية على أحد الجائزين، وحسنه هنا أنه مقطع كلام، فأشبه الفواصل. قوله: (ولذلك لا يستعملون التذكير/ في مثله قط). قال أبو حيان: ليس كما ذكر، بل استعمال التذكير فيه كثير، بل هو الفصيح. قوله: (وعن علي وابن عباس، أنها تعتد بأقصى الأجلين)، أخرجه عن علي، أبو داود في ناسخه، وعن ابن عباس. قوله: (والخطبة). إلى آخره. قال الفراء: الخطبة بالكسر، التماس النكاح، وبالضم، الكلام المشتمل على الوعظ والأذكار، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام.

قوله: (استدراك عن محذوف) قال أبو حيان: بل هو من الجملة التي قبله. قوله: (وهي ستذكر ونهن)، والذكر يقع على أوجه، فاستدرك منه وجه نهى فيه، عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه، لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه، وهو، نظير قولك: زيد سيلقي خالداً ولكن لا يواجهه بشر، فاستدرك هذه الحالة بما يحتمله اللقاء، (لكن) من أحواله المواجهة بالشر، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها، وإنما يحتاج ما بعد لكن إلى وقوع ما قبله، من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ، لأن نفى المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء. قوله: (فالمستثنى منه، محذرف) إلى آخره. قال أبو حيان: جعل الزمخشري الاستثناء متصلا باعتبار أنه مفرغ على وجهين. أحدهما: أن يكون من المصدر المحذوف. والثاني: أن يكون من مجرور محذوف. والمعنى: لا تواعدوهن نكاحا بقول من الأقوال، إلا بقول معروف، وهو التعريض، ومنع كونه منقطعا من سرا، لأنه يؤدي إلى قولك: لا تواعدوهم إلا التعريض، والتعريض ليس مواعدا يل مواعد به فلا يصح أن ينصب العامل عليه، وهذا الذي منعه من أجله ليس بصحيح، لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما يمكن تسلط العامل عليه بل هو قسمان، ما يتسلط فيه نحو ما رأيت أحداً إلا حماراً، وهذا النوع فيه الخلاف عن العرب، فالحجازيون ينصبون، وبنو تميم متبعون ومالا يتسلط وحكمه النصب عند العرب قاطبة، ومنه: (ما زاد إلا ما نقص)، (وما نفع إلا ما ضر)، فما بعد إلا، لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نفع، بل يقدر المعني: مازاد لكن النقص حصل، وما نفع لكن الضر حصل فاشترك القسمان في تقدير إلا بلكن، لكن الأول يمكن تسلط العامل السابق عليه، وهذا لا يمكن، والآية من الثاني. والتقدير: لكن التعريض سائغ لكم، قال: وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع

قوله: (إلا أن تفرضوا)

يأتي على هذا النوع، فلذلك منعه، انتهى. قوله: (إلا أن تفرضوا) إلى آخره. حاصل الأقوال، في أو، أربعة إنها على بابها لأحد الشيئين، والفعل بعدها معطوف على تمسوهن، فهو مجزوم، ولم يذكر المصنف هذا أو معطوف على مصدر متوهم، فهو منصوب بإضمار أن بعد أو التي بمعنى إلا، أو بمعنى إلى، وهو الذي عبر عنه بحتى، أو معطوف على جملة محذوفة، التقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، ولم يذكره، أو بمعنى الواو، والفعل مجزوم عطفا على تمسوهن، فينتفي الجناح عن المطلق على الأول بانتفاء أحد أمرين، إما الجناح أو الفرض وعلى الثاني بانتفاع الجماع إلا أن يفرض فلا ينتفي بل يثبت، والمراد به لزوم نصف المهر. وعلى الثالث بانتفائه فرض أو لا يفرض، وعلى الرابع بانتفائهما معا فإن انتفى الجماع دون الفرض وجب نصفه، أو الفرض دون الجماع، وجب مهر المثل. وهذا هو الأرجح في الآية. قوله: (ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها (متعها بقلنسوتك)، قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه. قوله: (أي الزوج)، ورد مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الطبراني في الأوسط، من حديث ابن عمر، وأخرجه البيهقي في سننه، عن علي وابن عباس. قوله: (وقيل: الولي)، أخرجه البيهقي عن ابن عباس، وهو أوفق للنظم كما بينته في أسرار التنزيل. قوله: (على المشاكلة)، قال الشيخ سعد الدين: لوقوعه في

صحة عفو المرأة. قوله: (وعن جبير بن مطعم)، إلى آخره، أخرجه البيهقي في سننه. قوله: ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد). إلى آخره. الطيبي: لما نهى سبحانه عن نسيان الحقوق والفضل فيما بينهم، بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أردفه بالمحافظة- على حقوق الله تعالى - لاسيما أعظمها نفعا وأعلاها قدراً. وهي الصلاة. وفيه إشعار بأن مراعاة حق العباد مقدمة على حقوق الله. قوله: (وهي صلاة العصر)، لقوله عليه الصلاة والسلام: يوم الأحزاب أخرجه مسلم من حديث على. قوله: (وقيل: صلاة الظهر)، إلى آخره. أقول: هذا القول هو المختار عندي، وقد نص عليه الشافعي: على أنها الصبح، فخالفه الأصحاب إلى العصر، لقولهم: إن الدليل قام على ترجيحه، وإذا كان لابد من الخروج عن قول الإمام إلى الدليل، فالذي يقتضيه الدليل ترجيح أنها الظهر وبيان ذلك أن الأحاديث الواردة في أنها العصر قسمان مرفوعة، وموقوفة. فالموقوفة لا يحتج بها، لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين، إنها الصبح أو الظهر أو المغرب، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا، وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده من مقال، والسالم من المقال قسمان، مختصر/، بلفظ

الصلاة الوسطى صلاة العصر ومطول فيه قصة وقع في ضمن هذه الجملة والمختصر مأخوذ من المطول، اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما سنبنيه، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال، فلا يصح الاستدلال بها فقوله: في حديث مسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) فيه احتمالان، أحدهما: أن يكون لفظ صلاة العصر، ليس مرفوعا، بل مدرجا في الحديث، أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه، كما وقع ذلك كثيرا في عدة أحاديث، وهذا كنت قلته أولا احتمالا، ثم رأيته منقولا، ويؤيده ما أخرجه مسلم، من وجه آخر، عن علي، حبسونا عن الصلاة الوسطى، حتى غربت الشمس، يعني العصر، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج، يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا، ولا بدلا، والتقدير: شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشغل يوم الأحزاب، عن العصر فقط ن بل شغل عن الظهر والعصر معا، كما ورد من طريق أخرى، فكأنه عنى بالصلاة الوسطى، الظهر، وعطف عليها العصر ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث ألبتة. والاحتمال الأول أقوى عندي للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين

أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين المذكورين، فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر وإذا تعارض الحديثان، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون، أن من المرجحات أن يذكر السبب والحديث الوارد أنها الظهر بين فيه سبب النزول، وساق لذكرها بطريق القصد، بخلاف حديث شغلونا عن الصلاة فوجب الرجوع إليه، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود بسند جيد، عن زيد بن ثابت، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى الظهر بالمهاجرين، ولم يكن يصلي صلاة أشد على الصحابة منها، فنزلت. (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، وأخرج أحمد، من وجه آخر، عن زيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم)، ويؤيد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم، وغيره، من طرق، عن أبي يونس مولى عائشة، قال: أمرتني عائشة، أن أكتب لها مصحفا فأملت على (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من

قوله: (أفضل الصلاة: أحمزها)

طرق على عمرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأملت علي (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر)، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد الله بن رافع، قال: كتبت مصحفا لأم سلمة، فقالت: أكتب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر)، وأخرج ابن أبي داود، عن ابن عباس، أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا، عن أبي رافع، مولى حفصة قال: كتبت مصحفا لحفصة، فقالت: اكتب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر) فلقيت أبي بن كعب، فأخبرته، فقال، هو كما قالت. أو ليس أشغل ما يكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا، فهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر. قوله: (أفضل الصلاة: أحمزها)، هذا الحديث لا أصل له، وقال ابن الأثير في النهاية: في حديث ابن عباس، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي الأعمال أفضل؟ فقال: (أحمرها) أي أقواها وأشدها. قوله: (ووتر النهار)، لأن ما عداها من صلواته شفع، ركعتان

أو أربع. قوله: (وقيل: العشاء)، لم يرد عن واحد من الصحابة. قوله: (وعن عائشة) إلى آخره، تقدم عزوه آنفا إلى مسلم. قوله: (وقرئ بالنصب على الاختصاص)، قال أبو حيان: أو عطفا على موضع الصلوات، لأنه نصب كما تقول: مررت بزيد وعمرا. قوله: (أو رجل)، هو بفتح الراء وضم الجيم، يقال: مشى فلان إلى بيت الله حافيا راجلا. قوله: (أو ألزم)، أي فيكون وصية مفعولاً ثانيا، قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف، إذ ليس من مواضع إضمار الفعل. قوله: (على تقدير ووصية النسب)، إلى آخره، قال أبو حيان: في التقادير الخمسة، لا ضرورة تدعو إلى ادعاء هذا الحذف خصوصا الرابع، فإنه ليس من مواضع إضمار الفعل، والوجه أن يصدر وصية منهم، على حد: السمن منوان بدرهم. قوله: ((غير إخراج)، بدل منه)، قال الشيخ سعد الدين: بدل اشتمال. قوله: (ثم نسخت المدة بقوله)، إلى آخره. أخرجه البخاري، عن عثمان بن عفان. قوله: (وسقطت النفقة بتوريثها: الربع أو الثمن)، أخرجه ابن

قوله: (ألم تر تعجيب)

أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (ألم تر تعجيب)، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: الأوجه عموم الخطاب به دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث ينبغي لكل أحد أن يتعجب منها كأنه حقيق بأن يحمل على الإقرار برؤيتهم وإن لم يرهم، ولم يسمع بقصتهم، ولم يكن من أهل الكتاب وأهل أخبار الأولين، قال: وتحقيق جرى هذا الكلام مجرى المثل أن يشبه حال من لم يره بمن رآه في أنه ينبغي ألا تخفى عليه هذه القصة، وأنه ينبغي أن يتعجب منها، ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رآهم وسمع قصتهم، قصدا إلى التعجب واشتهر في ذلك. وقال الطيبي: عموم الخطاب به أوفق للنظم، لأن الكلام مع المؤمنين في شأن الأزواج والأولاد. وقوله: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) كالتخلص من الأحكام إلى القصص لاشتمال معنى الآيات عليها، ويؤيده قوله: بعد هذا، وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد)، انتهى. وقال الزجاج: ألم تر كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يتعجب منه، تقول: ألم تر إلى فلان كيف يصنع كذا، وفي الحديث: (ألم ترى أن مجززا نظر آنفا فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) قال امرؤ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب قوله: (يريد أهل داوردان) إلى أخره، أخرجه ابن أبى حاتم، عن ابن عباس. قوله: (ألوف كثيرة)، الوارد عن ابن عباس أنهم أربعة آلاف،

أخرجه الحاكم وصححه. قوله: (وقيل: عشرة)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن أبي صالح، لكن قال: تسعة. قوله: (وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون)، لم أقف عليهما مسندين، وإنما أخرج ابن جرير من طريق منقطع، عن ابن عباس، أنهم أربعو ألفا، أو ثمانية آلاف. قوله: (قيل: مر حزقيل)، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، من طريق السدي، عن أبي مالك إلا قوله: فقاموا يقولون: سبحانك، إلى آخره. (ففائدة القصة تشجيع للمسلمين كافة)، قال: انظروا وتفكروا وقاتلوا في سبيل الله. قوله: (وهو من وراء الجزاء)، قال الشيخ سعد الدين: أي يسوقه حيث شاء ومتى شاء، وقال الطيبي: هو مثل، يريد أن الله تعالى لابد أن يجازي المتخلف والسابق كما أن سائق الشيء ورائه لابد أن يوصله إلى ما يريده. ومعنى مستفاد من قوله: سميع عليم. وهو كما تقول لمن تهدده: أنا أعلم بحالك، أي لا أنسى وأجازيك عليها. قوله: (وإقراض مثل)، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: تشبيها بإعطاء العين ليقضي ويطلب بدله، وهو حقيقة الاقتراض. قوله: (اقتراضا، يريد أن قرضا واقع موقع المصدر. قوله: (أو مقرضا) يريد أن قرضا مفعول به، بمعنى المقرض أي قطعة من المال.

قوله: (وقيل: القرض الحسنى بالمجاهدة والاتفاق في سبيل الله)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن عمر ابن الخطاب. قوله: (لا واحد له)، قال أبو حيان: هو اسم جمع ويجمع على أملاء. قوله: (هو يوشع)، قال ابن عطية: هذا ضعيف، لأن يوشع فتى موسى. وبينه وبين داود قرون كثيرة. قوله: (تقريرا أو تثبيتا)، قال الشيخ سعد الدين: يعني أن معنى الاستفهام هنا التقرير، بمعنى التثبيت للمتوقع: وإن كان الشائع من التقرير هو الحمل على الإقرار. قوله: (أي أي غرض لنا في ترك القتال) قال الشيخ سعد الدين: لما كان الشائع في مثل هذا أن يقال: مالنا لا نفعل كذا، ونفعل كذا، على أن الجملة حال، وقد أتى هنا بكلمة أن المصدرية، لكون المعنى على الاستقبال جعله على حذف حرف الجر، ليتعلق بالظرف. أي لنا. قوله: (ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر)، أخرجه البخاري، عن البراء. قوله: (روي أن نبيهم) إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن السدي. قوله: (وليس بفاعول) هو القول الثاني فيه، وعلى هذا لا اشتقاق له. قوله: (لقلته نحو سلس وقلق)، أي ما فاؤه ولامه من جنس واحد، كهذين اللفظين، فلا يقاس عليهما ولا يجعل تابوت، من تبت، بل من

تاب، قاله الطيبي، والشيخ سعد الدين. قوله: (نحو ثلاثة أذرع في ذراعين) أخرجه ابن المنذر، عن وهب ابن منبه. قوله: (وقيل: صورة كانت من زبرجد)، أخرجه ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. قوله: (وكان لها رأس وذنب، كرأس الهرة وذنبها وجناحان)، أخرجه ابن جرير عن مجاهد. قوله: (خشب الشمشاد) هو بمعجمتين الأولى مكسورة، خشب يعمل منه الأمشاط. قوله: (فتئن) من الأنين، و (يزف) من الزفيف، وهو السير السريع. و (الرضاض) الفتات. قوله: (والآل مقحم لتفخيم شأنها)، قال أبو حيان: إن عنى بالإقحام الزيادة على ما يدل عليه قوله: أو أنفسهما، فلا أدري كيف تفيد زيادته تفحيما، وإن عنى بالأول الشخص، فإنه يطلق على شخص الرجل آله، فليس من الزيادة. قوله: (وأصله فصل نفسه) أي أصله التعدي، ثم جعل لازما. قوله: (روي أنه قال لهم) إلى أخره، أخرجه، ابن جرير، عن السدي. والقيظ: شدة الحر. قوله: (وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا)، هو، للعرجي،

قوله: (استثناء من قوله: فمن شرب)

وصدره: فإن شئت حرمت النساء سواكم. والنقاح بضم النون وقاف وخاء معجمة الماء العذب الذي ينقح الفؤاد، أي يبرده، أي يكسر العطش والبرد النوم، ولولا استعمال لم أطعم بمعنى لم أذق لم يصح دخوله على النوم، وقد قالوا: ما ذقت غماضا. قال الطيبي: قال في مخاطبه النساء إرادة لتعظيمهن كما جاء بالجمع الواحد للمذكر. ثم رأيت في الأغاني، إن هذا البيت، من قصيدة للحارث بن خالد بن العاصي بن هشام المخزومي، أحد من قتل على الشرك ببدر، قتله على ابن أبي طالب، يخاطب به ليلى بنت أبي مرة بن عروة ابن مسعود. وأول القصيدة. لقد أرسلت في السر ليلى تلومني .... وتزعمني ذاملة طرفا جلدا تعدين ذنبا واحدا ما جنيته .... على ولا أحصى ذنوبكم عدا فإن شئت حرمت النساء سواكم البيت. قوله: (استثناء من قوله: فمن شرب) قال أبو حيان: في بعض التصانيف: إنه يجوز كونه من الجملة، قال: ولا وجه له. قوله: فكرعوا) الكرع تناول الماء بالفم من غير كف، أو إناء، قال الطيبي: وفسر به ليؤذن أنهم بالغوا في مخالفة المأمور حيث لم يغترفوا. قلت: والتفسير بالكرع، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن

عباس. قوله: (وقرئ بالرفع حملا على المعنى)، إلى آخره. قال أبو حيان: هذا دليل على أن الزمخشري لم يحفظ الاتباع بعد الموجب حتى احتاج إلى تأويله. والمقرر في العربية أنه يجوز في الموجب وجهان: النصب، وهو الأفصح، والاتباع. قال الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان قوله: (وقد اختلف النحاة في إعرابه إذا اتبع)، فقيل: إنه نعت لما قبله، وقيل: عطف بيان. قوله: (روى أن من اقتصر على الغرفة)، إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (وكم تحتمل الخبرية والاستفهامية) ولم يذكر أبو حيان سوى الأول. والأوجه الثاني بقرينة المقام. قوله: (ومن مبينة)، أي على الخبر. قوله: (أو مزيدة)، إي على الاستفهام. قوله: (من فأوت) فالمحذوف لام الكلمة (أو من/ فاء) فالمحذوف العين. قوله: (وفيه ترتيب بليغ)، إلى آخره. قال الطيبي: فإن قيل: كان الواجب على هذا أن يؤتى بالفاء دون الواو فالجواب ما قال، صاحب

قوله: (كليم الله، بمعنى مكالمه)

المفتاح: الواو أبلغ، لأن تعويل الترتيب حينئذ إلى ذهن السامع دون اللفظ. قوله: (قيل: كان إيشا) إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن السدي. وايشا والد داود، بكسر الهمزة. قوله: (إشارة إلى الجماعة المذكور قصصها)، إلى آخره. قال أبو حيان: الأولى: أن يكون إشارة إلى المرسلين. في قوله: (وإنك لمن المرسلين). قوله. (وهو: موسى)، إلى آخره. من جملة من كلم من الأنبياء أيضا: آدم كما ورد. قوله: (كليم الله، بمعنى مكالمه) كالجليس بمعنى المجالس والأنيس بمعنى المؤانس، والنديم بمعنى المنادم، وهو كثير. قوله: (كأنه العلم)، إلى آخره: الشيخ سعد الدين في التعبير عنه باللفظ المبهم تنبيه على أنه من الشهرة بحيث لا يذهب الوهم إلى غيره في هذا المعنى، ألا ترى أن التنكير الذي يشعر بالإبهام كثيراً ما يجعل علما على الإعظام والإقحام، فكيف اللفظ الموضوع لذلك. قوله: ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} كرره للتأكيد)، قال ابن المنير: وراء التأكيد سر آخر أخص منه، وهو أنه متى طال الكلام أعيد الأول تطرية وتجديداً لعهده. ومنه قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ تغلب إيقي! إلاً تق متحيرة ؤقتئهر ئطقمين بيئي يقن ؤتيهن من شترن بآتكقير

قوله: (من علمه)

صَدْرًا}. قوله: (فوضع الكافرون موضعه تغليظا) أي من حيث شبه فعلهم الذي هو ترك الزكاة بالكفر فهو استعارة تبعية. قوله: وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم وهو من قصيدة لعدي بن رقاع العاملي، وقبله: وكأنها بين النساء أعارها .... عينيه أحور من جآذر جاسم وجاسم: قرية بالشام، ووسنان صفة أحور. وأقصده: أصابه. من رماه فأقصده، أي: قتله مكانه، ورنق النعاس خالط عينه، من رنق الطائر، وقف في الهواء صافا جناحيه يريد الوقوع، والبيت: دل على أن السنة النعاس، لا لنوم الخفيف، وقال المفضل: السنة ثقل في الرأس، والنعاس في العين والنوم في القلب. قوله: (على ترتيب الوجود) زاد الشيخ سعد الدين: على طريقة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء. قوله: (من علمه)، من معلوماته، الراغب: من علمه: على وجهين، أحدهما، ما يعلمه، فيكون العلم مضافا إلى الفاعل. الثاني: أن يعلمه الخلق فيكون مضافا إلى المفعول لينبه على أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن تعرف الموجودات ثم تتحقق أنه ليس إياها ولا شيئا منها ولا شبيها بها، بل هو سبب وجود جميعها

وإنه يصح ارتفاع كل ما عداه مع بقائه، ولهذا النظر قال أبو بكر رضي الله عنه: (سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) وقال بعض الأولياء: غاية معرفة الله أن تعلم أنه يعرفك لا أنك تعرفه. قوله: (تصوير لعظمته) إلى آخره. الصواب: حمل الكرسي على الحقيقة، كما دلت عليه الأحاديث والآثار. قوله: (ما السموات السبع)، الحديث أخرجه ابن مردويه: من حديث أبي ذر. قوله: (ولعله الفلك المشهور بفلك البروج)، هذا من خرافات الفلاسفة التي لا أصل لها، ولا يقوم عليها دليل. قوله: (أي حفظة السموات والأرض)، قال الشيخ سعد الدين: بين مرجع الضمير، إذ ربما يتوهم أنه جمع فلا يصح مرجعا لضمير التثنية. قوله: (إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي)، هذه الجملة صحيحة أخرجها مسلم، من حديث أبي بن كعب، والطبراني من حديث الأسقع البكري، وابن مردويه، من حديث ابن مسعود، وابن راهوية في مسنده من حديث عوف بن مالك، وأحمد والحاكم من حديث

أبي ذر. قوله: (من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته، ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة)، لا أصل له. قوله: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت)، أخرجه بهذا اللفظ إلى هنا النسائي، وابن حبان، والدارقطني، من حديث أبي أمامة، والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث الصلصال بن الدلهمس، ومن حديث علي ابن أبي طالب. قال الشيخ سعد الدين: لم يبق من شرائط دخول الجنة إلا الموت وكان الموت يمنع، ويقول: لابد من حضوري أو لا يدخل الجنة. قوله: (ولا يواظب عليها إلا صديق، أو عابد)، هذه الجملة من حديث أخرجه البيهقي في الشعب، من حديث أنس مرفوعا. (من قرأ

أية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة الأخرى، ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد. قوله: (ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وداره وجار جاره والأبيات حوله)، هو في حديث على المشار إليه، بعد قوله: إلا الموت، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه الله على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله. قوله: (لما روى أن أنصاريا)، إلى آخره. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس. وسمى الأنصاري: الحصين من بني سالم بن عوف. قوله: (قلب عينه ولامه) إذ اصله: طغوت، جعلت اللام مكان العين، والعين مكان اللام فصار: طوغوت: تحركت اللام وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصار طاغوت، وذهب بعضهم إلى أن التاء بدل من لام الكلمة، ووزنه فاعول، وقيل: هو مصدر كرهبوط، وحبروت. قوله: ((طلب الإمساك من نفسه) على أن استفعل للطلب على بابه، والأوجه أنه بمعنى تمسك، وهي استعارة. في الكشاف: تمثيلية. قال الشيخ سعد الدين: شبه التدين بالدين الحق والثبات، على الهدى والإيمان بالتمسك بالعروة الوثقى، المأخوذة من الحبل المحكم المأمون قطعها ثم ذكر المشبه به وأراد المشبه. قوله: (يقال: فصمته فانفصم إذا كسرته)، يشير إلى أنها بالفاء

كسر بلا بينونة، وبالقاف قطع ببينونة. قوله: (والجملة خبر) إلى آخره، رجح أبو حيان في الجملتين الاستئناف المفسر، وعلى الحالية، العامل في الأولى ولي ومن الثانية يعني الطاغوت، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما. رفع إلي سؤال في هذا المحل صورته بين لنا كيف صيغة الحال على كل فأجبت بما نصه: من القواعد المقررة في العربية إن صاحب الحال والحال يشبهان المبتدأ والخبر فكذلك الشبه يجوز أن يكون صاحب الحال واحدا ويتعدد حاله، كما يكون المبتدأ واحدا والخبر متعدداً ويجوز أن يكون صاحب الحال متعددا والحال متعدداً أو متحدا، ويشترط وجود الرابط لكل من الصاحبين، كما يشترط وجود الرابط لكل من المبتدأين، ومن القواعد المشهورة حتى في الألفية، إن الحال يأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف عاملا، كما قال: ولا تجز حالا من المضاف له .... إلا إذا اقتضى المضاف عمله إذا تقرر ذلك، فالوجه الأول، وهو أنها حال من الضمير المستكن في ولى، هو الأوضح، وهو الذي رجحه أبو حيان، في البحر، فإن صيغة ولى صفة مشبهة، وفيه ضمير الفاعل، والحال يأتي من الفاعل كثيرا، وتقدير الكلام: الله ولي الذين آمنوا حال إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور، أو حال كونه مخرجا لهم، أي تولاهم حيث أخرجهم، والحال قيد في العامل، فجملة الإخراج حال مبينة لهيئة التولي، وضمير يخرج المستتر فيه هو الرابط لجملة الحال لصاحبها، وإنما جعل من ضمير ولي لا من نفس ولى، لأنه واقع خبراً عن المبتدأ، والقاعدة أن الحال لا تأتي من الخبر، بل الفاعل أو المفعول، أو ما كان في معناهما، وهو المضاف إليه بشرطه، والمبتدأ على رأي، وأما الخبر فلا يأتي منه الحال، فكذلك عدل إلى الضمير

الذي هو فاعل، والوجه الثاني، وهو إنها حال من الموصول واضح أيضا، لأنه مجرور بإضافة الصفة المشبهة إليه فهو من قاعدة ما كان المضاف عاملا فيه فهو في معنى المفعول، ولهذا لو جئت بدل الصفة المشبهة بالفعل ظهرت المفعولية، وتقدير الكلام الله ولي المؤمنين حال كونهم مخرجين بهدايته من الظلمات، فإذا قدرت الحال من ضمير ولي كانت في تقدير مخرجا بالكسر، اسم فاعل، وإذا قدرتها من الذين، الذي هو في معنى المفعول، كانت في تقدير مخرجين بالفتح اسم مفعول، والوجه الثالث واضح أيضا، وهو أنها حال منها معا، فإن فيها رابطين، رابط بالأول، وهو ضمير يخرج المستتر الذي هو فاعل، ورابط بالثاني، وهو ضمير الذين آمنوا الذي هو مفعول يخرج، وهو وهم، وتقدير الكلام، على هذا، الله ولي المؤمنين حال كونه مخرجا لهم بالهداية وحال كونهم مخرجين بالاهتداء، وفي ذلك ملاحظة أخرى لقاعدة أصولية، وهو استعمال المشترك في معنييه. قوله: (وقيل: نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام)، الوارد خلاف القولين. أخرج ابن المنذر، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس، أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما بعث محمد كفروا به. قوله: (لأن أتاه الله)، إلى آخره، قال الشيخ سعد الدين: شبه استعقاب الإيتاء المحاجة باستعقاب العلة المعلول، كما دخلت اللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ} الآية على ما ليس بغرض تشبيها لها بما هو غرض، فهنا شبه بالعلة والسببية وثمة بالمعلولية والغرضية. قوله: (أو وقت أن أتاه)، قال أبو حيان: أن أريد بذلك أنه على حذف مضاف ممكن على أن فيه بعدا من جهة أن المحاجة لم تقع وقت الإيتاء، لأن الإيتاء سابق على المحاجة، وإن أريد أن أن والفعل وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان، كقولك: جئت خفوق النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك، فلا يجوز ذلك لأن النحاة مضوا على أنه

لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز جئت أن صاح الديك، ولا أجيء: أن يصيح الديك، قال الحلبي: كذا قال الشيخ. وفيه نظر، لأنه قال: لا ينوب عن الظرف إلا المصدر المصرح، وهذا معارض بأنهم نصوا على أن ما المصدرية تنوب عن الزمان، وليست بمصدر صريح. (وقال ابن هشام في المغني: ولا يشارك ما في النيابة عن الزمان أن، خلافا لابن جني، وتبعه الزمخشري، ومعنى التعليل ممكن وهو متفق عليه، فلا معدل عنه. قوله: (أو بدل من آتاه الله) على الوجه الثاني. قال أبو حيان: قد تبين ضعفه، وقال أيضا: فالظرفان مختلفان، إذ وقت الملك ليس وقت قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، قال السفاقسي: وفيه نظر، لأنا قد بينا أولا أنه يجوز بأتاه ولم يرد به ابتداءه، بل زمان الملك، فكان الزمان الذي قال فيه إبراهيم يشمل على زمان الملك. وقال أبو البقاء: ذكر بعضهم أنه بدل من أن أتاه. وليس بشيء، لأن الظرف غير المصدر، فلو كان بدلاً لكان غلطا، إلا أن تجعل إذ بمعنى أن المصدرية، وقد جاء ذلك. قال الحلبي: وهذا بناء منه على أن أن مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف، أما إذا كان أن واقعة موقع الظرف، فلا يكون بدل غلط، بل بدل كل من كل كما هو قول الزمخشري، وفيه ما تقدم بجوابه، مع أنه يجوز أن يكون بدلا من أن آتاه، وأن آتاه مصدر مفعول من أجله بدل اشتمال، لأن وقت القول لا تساعد مشتمل عليه وعلى غيره. قال الشيخ سعد الدين: على الوجهين يشكل موقع، (قال أنا أحي وأميت)، إلا أن يجعل استئنافا لجواب سؤال.

قوله: (تقديره: أو رأيت مثل الذي)

قوله: (وقراءة حمزه، رب، بحذف الياء). قوله: (وهو في الحقيقة: عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي)، يعني الانتقال من حجة إلى أخرى، كما مشى عليه في الكشاف، قال الإمام: للناس في هذا المقام طريقان، أحدهما: قول أكثر المفسرين، إن إبراهيم لما سمع تلك الشبهة من نمرور عدل عن ذلك إلى دليل أوضح منه. وقالوا: إن الانتقال من دليل إلى آخر أوضح منه، جائز للمستدل، والثاني: إنه ليس انتقالا من دليل إلى آخر، وإنما هو من باب ما يكون الدليل واحدا لا أن يكون الانتقال لإيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وإلا فالحجة الأولى قد تمت ولزمت، وما عارض به نمرود أمر باطل، وإذا كان كذلك، كان اللعين منقطعا، إلا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم دفع ذلك بمثال أوضح منه، وعلى الطريقة الأولى، قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: ما كان ينبغي/ للنبي أن ينتقل بل كان عليه إزاحة الشبهة دفعا لوهم الإقحام، قلنا: إنما يكون ذلك إذا كان للشبهة قوة التباس على السامعين وأما في الشبهة الواهية فيحسن الإعراض عنها وعدم الالتفات، سيما مع المجادل الأحمق الخارج عن دائرة التوجيه، فإن الأليق بحاله الانتقال إلى دليل آخر لا يجد معه مجال الجواب أصلا ليلزم انقطاعه مع أول الأمر. قوله: (تقديره: أو رأيت مثل الذي) إلى آخره، حاصله ثلاثة أوجه في تصحيح العطف، وقد استحسن أبو حيان الوجه الأول، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على المعنى، فإنهم نصوا على أنه لا ينقاس به، قال: ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل ولا على العطف على المعنى، ولا على زيادة الكاف بل تكون الكاف إسما على ما يذهب إليه أبو الحسن، فتكون في موضع جر عطفا على الذي، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى مثل الذي مر، ومجيء الكاف اسما، فاعلة ومبتدأة ومجرورة ثابت، في لسان العرب، وتأويلها بعيد، فالأولى الحمل على هذا الوجه وإنما عرض لهم الإشكال

من حيث اعتقاد حرفية الكاف. انتهى، وقال الشيخ سعد الدين: تقرير المقام أن كلا من لفظة: (ألم تر ورأيت) تستعمل لقصد التعجب إلا أن الأولى تعلق بالمتعجب منه، فيقال ألم تر إلى الذي صنع كذا بمعنى أنظر إليه فتعجب من حاله، والثانية تمثل التعجب منه، فيقال: أرأيت بمثل الذي صنع كذا، بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل، ولا يصح ألم تر إلى مثله أن يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع، فلذا لم يستقم عطف كالذي مر على الذي حاج، واحتيج إلى التأويل في المعطوف، بجعله متعلقا بمحذوف، أي أرأيت كالذي مر ليكون من عطف الجملة، أو المعطوف عليه: نظرا إلى أنه في معنى أرأيت كالذي حاج ليصح العطف عليه فظهر أن عدم الاستقامة ليس بمجرد امتناع دخول كلمة إلى على الكاف اسمية كانت أو حرفية، حتى لو قلت: ألم تر إلى الذي حاج أو مثل الذي مر، فعدم الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام، وأن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء، بل لابد في التعجب بكلمة أرأيت من أثبات الكاف أو ما في معناه، يقولون: أرأيت كزيد أو مثل زيد، وهو شائع في سائر اللغات، نعم. لو قيل: أرأيت زيداً كيف صنع قصداً إلى التعجب بكلمة كيف أو قرينة أخرى، فذلك باب آخر. قوله: (وهو عزير)، أخرجه الحاكم، عن علي، وإسحاق ابن بشير، عن عبد الله بن سلام، وابن عباس، وقال: ابن سروخا. قوله: (ويؤيده نظمه مع نمرود)، قال الطيبي: هو معارض بما بين قصته وقصة إبراهيم من التناسب المعنوي، فإن كليهما طلبا معاينة الأحياء. وقال الشيخ سعد الدين: المراد بنظمهما في سلك أنه سيق الكلام للتعجب من حالهما وكلمة الاستبعاد. في مثل هذا المقام تشعر

بالإنكار ظاهرا، وما يقال أنه قد انتظم مع إبراهيم أيضا غير مستقيم، وإنما ذلك مجرد مقارنة في الذكر، إذ لم يذكر على الوجه الذي ذكر إبراهيم وهو معنى الانتظام في السلك، نعم، لو قيل: الانتظام في سلك يدل على كونه مؤمنا ليكون الإتيان توضيحا وتمثيلا وتفصيلا لما سبق من الاخراج من الظلمات إلى النور وبالعكس لكان شيئا. قوله: (والقرية بيت المقدس)، قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المراد بها أهل القرية، بل نفسها بدليل قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}، وأما قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فلا خفاء في أن المراد به أهل القرية. قوله: (وساغ أن يكلمه الله) إلى أخره، رده الطيبي والشيخ سعد الدين، بأن الإيمان إنما حصل بعد تبين الأمر والكلام قبله. وقال أبو حيان: لا نص في الآية، على أن الله كلمه شفاها. قوله: (وقيل: إنه مات ضحى)، إلى آخره. أخرجه، سعيد بن منصور، عن الحسن وابن أبي حاتم، عن قتادة، لقوله: ليقضي البازي، من قول العجاج: تقضي البازي إذا البازي كسر أوله: أين خريان تقضي فانكدر الجوهري: أنقض الطائر: هوى في طيرانه، ومنه انقضاض الكواكب ولم يستعملوا منه تفعل إلا مبدلا، قالوا: تقضي، فاثتثقلوا ثلاث

ضادات: فأبدلوا من أحداهن ياء وكسر الطائر: ضم جناحه حتى ينقض. والخربان: بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء جمع الخرب بفتحهما، وهو ذكر الحباري، وانكدر: أسرع وانقض. قوله: (روى أنه أتى قومه على حماره)، إلى أخره. ابن عساكر، عن ابن عباس. قوله: (أو الأموات الذين تعجبت من إحيائهم)، قال أبو حيان: هذا فيه بعد، لأنهم لم يحيوا له في الدنيا. قوله: (وكيف منصوب بنشر)، زاد أبو حيان: (هذا فيه بعد)، نصب الأحوال وذو الحال مفعول ننشزها. قوله: (والجملة حال من العظام)، أي: انظروا إليها محياه، قال أبو حيان: هذا ليس بشيء، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالاً، وإنما تقع حالا كيف وحدها نحو كيف ضربت زيداً، والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة بدل من العظام، وموضعه نصب، لأنه مفعول انظر. قوله: (فاعل تبين مضمر) إلى آخره، قال أبو حيان: جعله من باب التنازع، وليس منه، لأنهم نصوا على أن شرطه اشتراك العاملين، وأدى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبرا، وليس العامل الثاني هنا مشتركا بينه وبين تبين الذي هو العامل الأول بحرف عطف ولا بغيره ولا هو معمول لتبين، بل هو معمول لقال الذي هو جواب، (لما) قال: ثم إن قوله: فحذف الأول لدلالة الثاني عليه مناقض لقوله: إنه مضمر يفسره ما بعده، لأن الحذف ينافي الاضمار. انتهى. وقال السفاقسي: قوله:

قوله: (قيل: طاووسا، وديكا وغرابا وحمامة)

لأنهم نصوا، لم أر ذلك إلا لابن عصفور، وخالفه غيره. فأجاز الفارسي في (فهيهات هيهات العقيق وأهله) أن يكون من باب الإعمال، فقال: العقيق ارتفع بهيهات الثانية وأضمرت في الأولى. وأجاز ابن أبي الربيع في قام زيد أن يكون من باب الإعمال والاشتراك، وقد جعلوا من باب الإعمال. قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ومسألتنا أولى، لأن العامل الثاني معمول لقال، وقال مرتبط بالأول بلما، وهذا كان في الاشتراك. قال: وقوله: إنه مناقض لأن الحذف ينافي الإضمار، ممنوع لا مكان أن يكون تجوز بالحذف وأراد به الإضمار، لأن الضمير المقدر محذوف في اللفظ. وأجاب الشيخ سعد الدين، عن هذا الأخير بأن المعنى بحذف الأول اسقط من اللفظ وجعل موضعه الضمير، وذكر الإمام أيضا أن جعله من التنازع تعسف، وأن القوى تبين له قدرة الله في الإمانة والإحياء. قوله: (تبين له ما أشكل عليه)، قال أبو حيان: هذا تفسير معنى، لا تفسير إعراب، وتفسير الإعراب أن يقدر مضمرا يعود على كيفية الأحياء التي استغربها يعد الموت. قوله: (قيل: طاووسا، وديكا وغرابا وحمامة)، أخرجه، ابن أبي حاتم، على ابن عباس وذكر بدل الغراب الغرنوق. قوله: (أو جمع)، قال أبو حيان: الصحيح أنه اسم جمع، كركب وسفر، لا جمع، خلافا لأبي الحسن.

قوله: (ولكن أطراف الرماح تصورها). أوله: وما صيد الأعناق منهم جبله. الصيد: بالتحريك الميل والاعوجاج، يعني أمالة الأعناق إنما هي من الرماح والصور الميل. قوله: وفرع يصير الجيد وحف كأنه .... على الليث قنوان الكروم الدوالح هو لبعض بني سليم، والفرع: الشعر التام، والوحف بحاء مهملة وفاء: الشعر الكثير الأسود، والليث بكسر اللام، أخره مثناة فوقية صفحة العنق، وقنوان، جمع قنو وهو العنقود، والدوالح، بحاء مهملة المثقلات الحمل. قوله: (قيل: كانت أربعة) أخرجه ابن جرير، من طريق ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم ن عن أهل الكتاب. قوله: (وقيل: سبعة)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس. قوله: (قال لهن: تعالين بإذن الله)، قال الشيخ سعد الدين: إما أن يتعلق بقل، فلا فائدة، أو بتعالين فلا وجه لتفسير ادعهن بذلك. قوله: (روي أنه أمر بأن يذبحها)، إلى آخره، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس. قوله: (نزلت في عثمان)، لم أقف عليه.

قوله: (لعله لم يدخل الفاء)،

قوله: ((والمن أن يعتد) من عده فاعتد أي صار معدوداً، ثم تعدى بالباء، فيقال: اعتد به، أي جعله معدوداً معتبرا على المنعم عليه. قوله: (وثم للتفاوت)، قال ابن المنير، وتبعه الطيبي، عندي: فيه وجه آخر، وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف به وارخائه الطول في استصحابه، فلا يخرج بذلك عن الإشعار بتقييد الزمن ومعناه في الأصل تراخي زمن وقوع الفعل، ومعناه المستعار دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقاءه، ومثله (ثم استقاموا) أي داموا على الاستقامة دواما متراخيا، وكذا هنا، أي يدومون، على الإحسان، وترك الامتنان، وقريب منه أو مثله أن السين تصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه، نحو: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقد قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فليس لتأخير الهداية سبيل، فتعين حمله على تنفيس دوام الهداية وتمادي أمرها. قوله: (لعله لم يدخل الفاء)، إلى آخره. قال الطيبي: تحقيقه، أن في تضمن معنى الشرط تعليقا للكلام، وفي زواله عن ذلك تحقيق للخبر، وإنما بنيت الجملة على التحقيق، لأنها واردة في الحث على الانفاق في سبيل الله لرفع منار المسلمين وإشادة الدين القويم. قوله: (وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة)، هذا

في قول خاصة، وأما المعطوف عليه فلا يحتج إلى مخصص كما هو معلوم. قوله: (وإن الذي حانت بفلج دمائهم)، هو للأشهب بن زميله، النهشلي، شاعر اسلامي، من طبقة الفرزدق، وقيل: لحريث بن مخفض، وتمامه: هم القوم كل القوم يا أم خالد. حانت: هلكت، وفلج: بفتح الفاء وسكون اللام وجيم، موضع في طريق البصرة، ودمائهم، نفوسهم، ويروى: (وإن الأولى) بدل، (وإن الذي). قوله: (ضعفين)، قال أبو حيان: يحتمل عندي أن التثنية فيه للتكثير، لا شفع الواحد، أي ضعفا بعد ضعف أي أضعافا كثيرة، لأن النفقة لا تضاعف بحسنتين فقط، بل بعشر وسبعمائة وأزيد. قوله: (أو للعطف، حملا على المعنى) قال الشيخ سعد الدين: الاعتراض بأن ليس المعنى على دخول إصابة الكبر في حيز التمني ليس بشيء، لأنه داخل في حيز التمني المنكر المنفي، أي لا يود أحدكم ولا يتمناه، وكذا، فأصابها إعصار، فإنه عطف على فأصابه، حتى أن تمنى حصول الجنة الموصوفة أيضا منكر منفي باعتبار هذين العطفين، والحاصل، أن الكلام إنكار واستبعاد لتمني هذا المجموع. قوله: (فحذف المضاف لتقدم ذكره)، زاد الطيبي، والشيخ سعد

قوله: (أي ومن يؤته الله)

الدين، وكرر، من، دلالة على استقلال كل من الاتفاقين. قوله: (حال مقدرة)، لأن الانفاق منه يقع بعد القصد إليه. قوله: (أي وحالكم أنكم لا تأخذونه)، جعل الجملة حالية. وقيل: إنها مستأنفة. قوله: (وعن ابن عباس) إلى أخره. أخرجه ابن أبي حاتم. قوله: (والوعد في الأصل شائع في الخير والشر)، قال الفراء: يقال: وعدته خيرا ووعدته شرا. فإذا اسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير الوعد والعدة وفي الشر الايعاد والوعيد. قوله: (وبه قال الشيخ سعد الدين)، يعني أن يأمركم استعارة تبعية. قوله: (والعرب تسمي البخيل فاحشا)، قال بعض الطائين: قد أخذ المجد كما أراد .... ليس بفحاش يصر الزادا وقال طرفه: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى .... عقيلة مال الفاحش المتشدد قوله: (أي ومن يؤته الله)، قال أبو حيان: إن أراد تفسير المعنى فصحيح، أو الأعراب فلا، إذ ليس في يؤت ضمر نصب على الحذف بل من مفعول مقدم لفعل الشرط، كما تقول: أيا تعط درهما أعطه درهما، قال الحلبي: يؤيد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش: ومن يؤته الحكمة بإثبات هاء الضمير، ومن قراته مبتدأ لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من

يجوز الاشتغال في أسماء الشروط والاستفهام يجوز في من النصب بإضمار فعل، ويقدره متأخرا، والرفع على الابتداء. قوله: (أي أي خير كثير)، يريد أن التنكير يفيد التعظيم، كما أن الوصف أفاد التكثير. قوله: (فيجازيكم عليه)، يعني أن إثبات العلم كناية عن الجزاء، وإلا فهو معمول. قوله (إبداءها)، يعني إنما هي هو المخصوص لكن على حذف المضاف ليحسن ارتباط الجزاء بالشرط، ويدل على هذا تذكير الضمير في (فهو خير لكم) أي إخفاؤها. قوله: (/وعن ابن عباس صدقة السر)، إلى آخره، أخرجه ابن أبي حاتم. قوله: (وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء، أي ونحن نكفر، وقرأ نافع، وحمزة والكسائي به مجزوما على محل إلقاء وما بعده)، ورد سؤال من الإسكندرية، من القاضي بدر الدين الدماميني على هذا المحل من الكشاف صورته، استشكل هذا الفعل من وجهين أحدهما: أن ما بعد الفاء جملة لا محل لها من الإعراب لارفعا ولا نصبا ولا جرا، وهو واضح، ولا جزما، لأن الفاء الرابطة للجواب مانعة من جزم ما بعدها لو كان مما يقبل الجزم فكذا ما يقع موقعه، فكيف تقول: عطفا على محل ما بعد الفاء، والغرض ألا محل له. وثانيهما: أن قوله: ومحزوما عطفا على محل الفاء وما بعده، لأنه جواب الشرط صريح في أن الفاء وما دخلت عليه في محل جزم وكذا قال غيره، لكنه مشكل لما تقرر من أن الجملة لا تكون ذات محل

من الاعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الاعراب، وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفرداً، فالموضع للجملة بالأصالة وأما جزم الفعل فليس بالعطف على محل الجملة، وإنما لكونه مضارعا وقع صدر الجملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم، وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها، وهو جزم صدرها، إذا كان فعلا مضارعا. انتهى. قوله: (على ما بعد الفاء)، لأن محل ما بعدها وحده مرفوع، إذ لا أثر للعامل فيه ومحلها معه مجزوم. قوله: (اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا)، أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. قوله. (روى أو ناسا من المسلمين)، الحديث، أخرجه النسائي والحاكم، عن ابن عباس، نحوه. قوله: (وقيل: وهم أهل الصفة)، أخرجه ابن المنذر، عن ابن عباس. قوله: (كانوا نحوا من أربعمائة)، إلى آخره. قوله: (على لاحب يهتدي بمناره)، قيل: لو صدر بيت وتمامه: إذا سافه العود الديا في جرجرا.

وقيل عجز بيت صدره: سرى بيديه ثم أج يسيرة. سرى بيديه: مدهما في البر. أج للظليم: عدا، واللاحب الطريق الواسع، وسافه: بسين مهملة وفاء: شمه. والعود: بفتح العين والدال المهملتين: الجمل المسن الذي جاوز السن الباذل والمخلف، وجمعه: عودة والديافي: بالدال المهملة وتحتية وفاء: الضخم الجليل. والجرجره: صوت يردد البعير في حنجرته. ومعنى الشرط، على لا حب لامنارله فيهتدي به، كذا في حواشي الكشاف، قلت: وجدت البيت في ديوان امرئ القيس، من قصيدته التي أولها: سما بك شوق بعدما كان أقصرا .... وحلت سليمى بطن قو فعرعرا إلى أن قال: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه .... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عيناك إنما .... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وإني زعيم إن رجعت مملكا .... بسير ترى منه الفرائق أزورا على لا حب لا يهتدى بمناره .... إذا سافه العود النباطي جرجرا قال شارح ديوانه: النباطي: منسوب إلى النبط، وفي الصحاح: ديافي موضع بالجزيرة، وهو نبيط الشام.

قوله: (وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم)

قوله: (ونصبه على المصدر، فإنه كنوع من السؤال) جعله مصدراً ليسألون، وقال أبو حيان: هو مصدر لفعل محذوف دل عليه يسألون، أي لا يلحقون. (نزلت في أبي بكر)، لم يقف عليه. قوله: (تصدق بأربعين ألف دينار)، أخرجه ابن عساكر في تاريخه على عائشة. قوله: (وقيل: في علي)، إلى آخره، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس. قوله: (وقيل في ربط الخيل)، إلي أخره. أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم من حديث عريب المليكي مرفوعا، قال الشيخ سعد الدين: كون هذا السبب لا يقتضي خصوص الحكم، بل العبرة بعموم اللفظ. قوله: (وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم) المراد به إمالة الألف إلى مخرج الواو وقيل: لأن لغة الحيرة الربو بالواو الساكنة وهي قراءة العدوى، وكتبوها على لفظهم بها، وإنما كتبها أهل الحجاز كذلك، لأنهم

يعلمون الخط من أهل الحيرة. قوله: (وهو وارد على ما يزعمون)، إلى آخره، فيه قول إنه على حقيقته، وإن الشيطان يصرع الإنسان حقيقة والأحاديث دالة له. قوله: (وهو متعلق بلا يقومون) رده أبو حيان، بأن ما بعد إلا لا يتعلق بما قبلها إلا إن كان في حيز الاستثناء، وهذا ليس في حيز الاستثناء وكذلك منعوا تعلق (بالبيان والزبر) بقوله: ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا). قوله: (ولكن عكس للمبالغة)، قال الطيبى: هذا يسميه ابن الأثير بالطرد والعكس لأن حق المشبه به أن يكون أعرف بجهة التشبيه وأقوى، فإذا عكس صار المشبه أقوى من المشبه به، وهو معنى قوله: كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا عليه البيع. قوله: (إن الله يقبل الصدقة فيربيها) الحديث أخرجه الشيخان والترمذي من حديث أبي هريرة. قوله: (ما نقصت زكاة من مال قط)، أخرجه أحمد، من حديث عبد الرحمن بن عوف، بلفظ: ما نقص مال من صدقة.

قوله: (وقيل: المراد التصدق الإنظار)

قوله: (روى أنه كان لثقيف، إلى قوله: فنزلت)، أخرجه أبو يعلى، عن ابن عباس. قوله: (روى أنها لما نزلت)، إلى آخره، هو من تتمة الحديث قبله، قال في النهاية: مالي بهذا الأمر ولا يدان أي لا طاقة لي به، لأن المباشرة والدفاع إنما يكون باليدين، فكأن يديه معدمتان، لعجزه عن دفعه، ولا يدي لنا من قبيل لا أبا له بإقحام اللام لتأكيد الإضافة، وعند ابن الحاجب بحذف النون تشبيها بالمضاف. قوله: (وقرأ نافع وحمزة بضم السين)، لم يقرأ به سوى نافع وحده، وقرأ حمزة بالفتح كالباقين. قوله: (وأخلفوك وعد الأمر الذي وعدوا)، أوله: جد الخليط غداة البين وانجردوا. والخليط المخالط، وانجرد بنا السير: امتد من غير لي على شيء. فمعناه: أسرعوا. وعدى الأمر: أصله، عدة الأمر فحذفت التاء للإضافة. قوله: (وقيل: المراد التصدق الإنظار)، رده الإمام بأن الأنظار قد علم مما قبل، فلا بد من حمله على فائدة جديدة. قوله: (لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة) أخرجه أحمد، من حديث عمران ابن حصين، نحوه. قال الشيخ سعد الدين: فيؤخره مرفوع عطفا على يحل، والنفي على المجموع، يعني لا يكون حلول يعقبه تأخير، وإلا كان استثناء مفرغ في موقع الصفة،

لرجل أو الحال، والمعنى كلما كان هذا كان ذاك، وقد يقال: هو نصب بتقدير أن، أو رفع بحذف المبتدأ، أي فهو يؤخره، وليس بذاك. قوله: (وعن ابن عباس، أنها أخر آية نزل بها جبريل)، أخرجه النسائي، وابن مردويه. قوله: (وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة)، أخرجه الثعلبي، من طريق السدى الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. قوله: (وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها إحدى وعشرين يوما). قوله: (وقيل: احدى وثمانين)، أخرجه الفريابي، عن ابن عباس. قوله: (وقيل: سبعة أيام)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير. قوله: (وقيل: ثلاث ساعات). قوله: (ويكون مرجع ضمير فاكتبوه)، زاد في الكشاف، وإلا لكان يقال: فاكتبوا الدين فلم يكن بذلك النظام الحسن، قال الشيخ سعد الدين: وانتقاء الحسن حينئذ أمر ذوقي يعترف به العارف بأساليب الكلام، وينبه عليه أنك لو قلت: إذا تداينتم إلى أجل مسمى فاكتبوا الدين كان أمرا بكتبه مالم يذكر في مضمون الشرط وتركا لما ذكر، فإن قيل: فليقل فاكتبوه: أي الدين لدلالة تداينتم عليه، قلنا: لا يعلم عود الضمير إليه لأن عوده إلى التداين الذي هو المصدر أو إلى أجل أظهر على أنه يوهم بكتابة ما هو باطل في نفسه، أعني التداين بمعنى معاملة الدين ومقابلته به. انتهى. قوله: (وعن ابن عباس أن المراد السلم)، أخرجه البخاري.

قوله: (من يكتب بالسوية)

قوله: (وقال لما حرم الله الربا أباح السلم)، أخرجه الثعلبي. قوله: (من يكتب بالسوية)، يشير إلى أن بالعدل، متعلق بكاتب، لا بالفعل لأن القصد هنا إلى بيان حال الكاتب أنه كيف ينبغي أن يكون، ولأن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى، بخلاف ما إذا قيد، وهذا معنى قوله: وهو في الحقيقة أمر المتداينين باختيار كاتب مع أن ظاهره أمر للكاتب. قوله: (ففيه) قال الطيبي: يشير إلى أن الكلام مسوق لمعنى ومدمج فيه معنى آخر، يعني دل إشارة النص، وتقييد الكاتب بالعدل على إدماج معنى الفقاهة، لأن مراعاة العدل والتسوية بين الأمور الخطيرة لا يتمكن منها إلا الفقيه الكامل. قوله: (مثل ما علمه) إلى آخره، قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأن ما مصدرية أو كافة، ومفعول علم محذوف، أي يكتب على الوجه الذي علمه الله، ولم يظهر من كلامه أن الكاف في موقع المفعول المطلق، أو به، وإنه هل يتفاوت العامل إذا جعل الكلام من قبيل أحسن كما أحسن الله إليك، وأنه من أين يتأتى حديث النفع. قوله: (ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر)، قال أبو حيان: هو قلق لأجل الفاء، وقال الشيخ سعد الدين: هو من قبيل {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، و {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} بإعمال ما بعد الفاء فيما قبلها. قوله: (فيكون النهي)، إلى آخره، يعني لا يكون على هذا تأكيداً، لأن النهي عن امتناع مطلق الكتابة لا يدل على الأمر بالكتابة المخصوصة.

قوله: (والإملال والإملاء واحد)، الأول لغة الحجاز، والثاني لغة تميم. قوله: (أو غير مستطيع) قال الشيخ سعد الدين، يشير إلى أن (لا يستطيع) جملة معطوفة على مفرد، وهو خبر كان. قوله: (واطلبوا)، يشير إلى أن استشهدوا للطلب على بابه، قال أبو حيان: ويحتمل أن يكون بمعنى افعل أي واشهدوا كاستيقن بمعنى أيقن، واستعجل بمعنى أعجل. قوله: (فاليشهد) قال الشيخ سعد الدين: الأنسب أن يقدر فالشهيدان رجل وامرأتان، أي فليستشهد، أو فاليشهد إذ المأمور هم المخاطبون، لا الشهداء، وقدر أبو حيان: فالشاهد، وقدر بعضهم فليكن، وهو مناسب لقوله: فإن لم يكونا. قوله: (وكأنه قيل: إرادة أن يذكر) إلى آخره. قيل: النكتة في إشارة أو تضل فتذكر على أن تذكر إن ضلت هي شدة الاهتمام بشأن الإنكار بحيث صار ما هو مكروه في نفسه مطلوبا لأجله، ومن حيث كونه مفضيا إليه. قوله: (وسموا شهداء) أي أطلق عليهم لفظ الشهداء على هذا الوجه، وهو ما إذا دعوا ليشهدوا بطريق المشارفة. قوله: (كنى بالسآمة عن الكسل) يعني أن السآمة والملالة إنما تكون بعد الشروع فيه والإكثار منه، والمراد هنا النهي عن الكسل من أن يكتب ابتداء، فكني عنه بالسآمة، لكونها من لوازمه وروادفه. قوله: (لأنه صفة المنافق)، من قوله: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. قوله: (لا يقول المؤمن: كسلت)، أخرجه ابن أبي حاتم، عن

ابن عباس، موقوفا تحته نحوه. قوله: (وهما مبنيان، من أقسط وأقام، على غير قياس، قال أبو حيان: بل الأول من قسط، بمعنى عدل، حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد، عن أبى عبيدة، قسط جار، وقسط عدل، وأقسط بالألف عدل لا غيره. وكذا حكاه ابن القطاع، وقيل: إنه من القسط بالكسر، وهو مصدر بمعنى العدل، لم يشتق منه فعل، وليس من الأقساط وقيل: هو من قسط بضم السين، كما يقول: كرم من أكرم والثاني من قام بمعنى اعتدل فلا شذود فيهما. قوله: (أو من قاسط)، بمعنى ذي قسط، أي على طريقة النسب، كلابن وتامر، كما قيد به لئلا يتوهم أنه اسم فاعل من المقسط. قوله: (وقويم)، بمعنى مستقيم، أي أشد استقامة. قوله: (بني أسد هل تعلمون بلاءنا .... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا) البلاء بالفتح القتال، يقال: أبلى فلان بلاء حسنا، إذا قاتل مقاتلة محمودة، واليوم الأشنع الذي ارتفع شره، وكونه ذا كواكب كناية عن شره وظلامه عن العين بحيث يرى الكواكب، أو عن كثرة الغبار، بحيث يستر ضوء الشمس. قوله: (يحتمل البنائين) بناء الفاعل وبناء المفعول، قال بعضهم: والأولى الحمل عليهما معا. قوله: (وهو نهيهما) راجع إلى بناء الفاعل.

قوله: (أو النهي عن الضرار بهما) راجع إلى بناء المفعول، والمنهي حينئذ المخاطبون، أو المتبايعان. قوله: (أن يعجلا) يقال: أعجله عن المهم الجاه إلى تركه وعجل عنه تركه غير تام. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله)، أخرجه الأئمة الستة، من حديث عائشة، والبخاري، من حديث أنس. قوله: (على اعتبار المقبض فيه) أي في لزومه، لا في صحته. قوله: (وهو خطأ، لأن المنقلبة) إلى آخره، ذكره بعضهم أن ذلك لغة رديئة. قوله: (وفيه مبالغات)، أي من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهر في الوجوب والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين. وتسميته أمانة، وقد تقدم أولا ووسطا فى قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}. قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}. قوله: (أي: يأثم قلبه، أو قلبه يأثم)، يشير إلى جواز إعراب قلبه فاعلا بآثم، ومبتدأ خبره آثم قدم عليه، والجملة خبر إن على الثاني دون الأول. قوله: (العين زانية والأذن زانية).

قوله: (بدل البعض من الكل أو الاشتمال)

قوله: (وقرئ قلبه بالنصب كحسن وجهه) يعني على التشبيه بالمفعول به. قال أبو حيان: ويجوز جعله بدلاً من اسم إن يدل بعض من كل. قوله: (بدل البعض من الكل أو الاشتمال) قيل: إن أريد بقوله: يحاسبكم معناه الحقيقي فيغفر بدل اشتمال، كقولك: أحب زيداً علمه، وإن أريد به المجازاة فهو بدل بعض، كضربت زيداً رأسه، وقال الطيبي: الضمير المجرور في به يعود إلى ما في أنفسكم، وهو مشتمل على الخاطر السوء، وعلى ما يخفيه الإنسان من الوسواس وحديث النفس. والغفران والعذاب إنما يردان على ما اعتقده وعزم عليه من السوء، لا على حديث النفس فهو بهذا الاعتبار بدل البعض من الكل. قال أبو حيان: وقوع الاشتمال في الأفعال صحيح يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليه، وكذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل، إذ الفعل لا يقبل التجزئ، فلا يقال في الفعل: له كل وبعض إلا بمجاز بعيد. وقال الحلبي: ما قاله أبو حيان ليس بظاهر، لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه، فإن الجنس كل، والنوع بعض: قوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا تلمم بدل من تأتنا، ومعناه تنزل. والحطب الجزل القوي الغليظ وتأجج اشتعل، وألفه إما للتثنية، وهو ضمير الحطب والنار، أو للحطب وحده، أو للنار بتأويل القبس، ووصف الحطب بالجزل إشارة إلى قوة النار وكثرة الضيفان. وفرط الاهتداء إلى النار. قوله: (وإدغام الراء في اللام لحن) تابع فيه الزمخشري، وقد

رد عليه الناس قاطبة فإن ذلك قراءة أبي عمرو. وقال الشيخ سعد الدين: هذا على عادته في الطعن في القراءات السبع إذا لم تكن على وفق قواعد العربية، ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الغائب بالإدغام في اللام، وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة، والنقلة بالمتواتر إثبات على قول النحاة. ففي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتا، ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له، ووجه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب، حتى كأنهما مثلان بدليل إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما. انتهى. وقال أبو حيان: منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين وقد أجازه الكوفيون، وحكوه سماعا منهم الكسائي والفراء، وأبو جعفر الرؤاسي، ووافقهم من البصريين رواية أبي عمرو، ويعقوب. ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراءات لا نجيء على ما علمه البصريون ونقلوه، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة وقد أجازوه، ورووه عن العرب فوجب قبوله، والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم، إذ من علم حجة على من لم يعلم، وممن روى ذلك عن أبي عمرو أبو محمد اليزيدي، وهو إمام في النحو، إمام في القراءات، إمام في اللغات. انتهى. قوله: (يعنى القرآن أو الجنس) قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الإضافة كاللام للتعيين والإشارة إلى حصته من الجنس، أو إلى الجنس نفسه وحينئذ قد تدل القرينة على البعضية فتصرف إلى البعض، وقد لا

قوله: (أي يقولون لا نفرق)

، فتصرف إلى الكل، وهو معنى الاستغراق، وكما أن في جانب القلة تنتهي البعضية في المفرد إلى الواحد، ففي الجمع إلى القلة كذلك في جانب الكثرة يرتقي إلى أن يخرج منه فرد في المفرد، وفي الجمع إلى ألا يخرج منه جمع، لأن معناه ما فيه الجنسية من المجموع، وذلك لا يوجد في الواحد والاثنين وهذا معنى ما قيل: إن استغراق المفرد أشمل وإن الكتاب أكثر من الكتب، وما ذكر في قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} أن الملك أعم من الملائكة يعني أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعم من قولك: ما من ملائكة. وهذا في النكرة المنفية مسلم للقطع بأن لا رجل نفى لكل فرد، بخلاف لارجال وكذا كل رجل، وكل رجال. وأما في العرف فلا، للقطع واتفاق أئمة التفسير والأصول والنحو على أن الحكم في مثل الرجال فعلوا كذا على كل فرد، لا على كل جماعة، فليتدبر. انتهى. وكذا قال أبو حيان معترضا به على الكشاف: دلالة الجمع إذا أضيف، أو دخلته أل دلالة العام على كل فرد فرد. وقال الطيبي: مراد الزمخشري إنما تناول الواحد حين يراد به الجنس أكثر من تناول الجمع إذا أريد به الجنس، لأن كتابه يدل على ما نقله كل أحد إنه كتبه على سبيل الجمعية ومسمى به، ويمكن أن يخرج منه كتاب أو كتابان وهذا هو المراد من قول صاحب المفتاح: استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع. فإن قيل: لا يتبادر من قوله: وملائكته وكتبه ورسله سوى الاستغراق والشمول قلنا: قد بينا أن الاستغراق الداخل على الجمع أفراده الجموع حقيقة وإرادة الأفراد مجاز، يؤيده قول إمام الحرمين: التمر أحرى بالاستغراق للجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظه، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب. قوله: (أي يقولون لا نفرق) قال أبو حيان: كذا قدروه، ويجوز

أن يقدر بقوله، بالإفراد على لفظه. قوله: (واحد في معنى الجمع) لوقوعه في سياق النفي. قال الشيخ سعد الدين: من زعم أن معنى الجمع في أحد أنه نكرة في سياق النفي فعمت، وكانت بهذا الاعتبار في معنى الجمع كسائر النكرات فقد سها وإنما معناه ما ذكر في كتب اللغة أن أحدا اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث، فحين أضيف بين إليه أو أعيد ضمير جمع إليه، أو نحو ذلك فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل الكلام عليه، فمعنى لا نفرق بين أحد لا نفرق بين جمع من الرسل، ومعنى {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} فما منكم من جماعة، ومعنى {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، كجماعة من جماعات النساء. قوله: (دون مدى طاقتها)، أي لا يكون المكلف به غاية الطاقة. قوله: (اعتمال) هو اضطراب في العمل ومبالغة واجتهاد. قوله: (فيجوز أن يدعوا الإنسان به) إلى آخره. قال الطيبي: هذا تكلف، وقد ثبت في حديث مسلم أن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها، وقال صاحب الانتصاف: رفع الخطأ والنسيان كان إجابة لهذه الدعوة، وقد ورد أنه قال: عقيب كل دعوة قد فعلت.

قوله: (واعتداد بالنعمة) معناه أن ذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدث بنعمة الله فيه. قوله: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) أخرجه بهذا اللفظ. الطبراني، في الأوسط، من حديث ابن عمر. قوله: (ولا تحمل بالتشديد للمبالغة) قال الطيبي: يريد أن التضعيف إذا كان لنقل من باب إلى آخر ليفيد فائدة لم يكن فيه مبالغة، وأما إذا لم يرد تلك الفائدة كانت مبالغة. قوله: (من قتل الأنفس)، أي في التوبة. قوله: (وقطع موضع النجاسة) زاد في الكشاف: من الجلد والثوب. وفسر الطيبي الجلد بالفروة وجلد الخف، وفسره جماعة بالبدن، وقالوا: إنه من جملة الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية في أبي داود.

قوله: (أنزل الله آيتين):

قوله: (وخمسين صلاة في اليوم والليلة) هذا غلط، فإن بني إسرائيل لم تفرض عليهم خمسون قط، بل ولا خمس صلوات ولم تجمع الخمس إلا لهذه الأمة، وإنما فرض على بني إسرانيل صلاتان فقط، كما في الحديث. قوله: (والتشديد هنا لتعدية الفعل) يعني للمبالغة كما سبق تقريره. قوله: (روى أنه عليه الصلاة والسلام لما دعى بهذه الدعوات، قيل له: فعلت)، أخرجه مسلم، والترمذي، عن حديث ابن عباس. قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنه دعاءه عليه الصلاة والسلام بهذه الدعوات قراءته لهذا الآيات، ويحتمل أن يكون قد دعا بها فنزلت الآيات حكاية لها. قلت: الأول هو الوارد في الحديث السابق، والثاني: ورد بمعناه حديث مرسل، أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم. قوله: (أنزل الله آيتين): الحديث. أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث أبي مسعود الأنصاري، قال الشيخ سعد الدين: الكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي عام تصوير لتقدمهما، لأن مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتجريد. قوله: (ومن قرأ الآيتين من أخر سورة البقرة كفتاه)، أخرجه الأئمة الستة من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري بلفظ (في ليلة كفتاه).

قوله: (السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن)، الحديث، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، من حديث أبي سعيد الخدري، بالفسطاط اسم للخيمة والمدينة الجامعة، وسميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد، والبطلة السحرة، جمع باطل، سموا بذلك لانهماكهم أو الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين، ومعنى عدم استطاعتهم لها أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمل في معانيها أو العمل بما فيها، أو لايستطيعون النفوذ في قارئها، وقيل المراد إنها من المعجزات التي لايقدر الساحر أن يعارضها بالسحر، بخلاف المعجزات المحسوسة، فإنه قد يتمكن الساحر أن يحاول معارضتها بالسحر، وقال الطيبي: يمكن أن يراد السحرة من الموجودين، وهم أرباب البيان. لقوله: (إن من البيان لسحرا).

سورة آل عمران

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سورة آل عمران قوله: (إنما فتح الميم في المشهورة، وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها، ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقت، كقولهم: واحد اثنان لالتقاء الساكنين فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام) تابع الزمخشري في ترجيحه، فذهب الفراء أن فتحة الميم هي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف، وتضعيفه مذهب سيبويه إنها لالتقاء الساكنين، وإن الهمزة ساقطة للدرج وقد نوزع في ذلك في مواضع، قال أبو حيان: ضعف مذهب القراء بإجماعهم، على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل، فما يسقط لا تلقى حركته، قاله أبو على. قال: وقوله: إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الالقاء مخالف لإجماع العرب والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة، سواء في ذلك حركة الاعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع، فلا يجوز في قد أفلح إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن يوقف على دال قد بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا، قال، وأما تنظيره بقولهم: واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال، فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون أخر واحد لتمكنه ولم يحك الكسر لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه، كما زعم الزمخشري، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم: اثنان فالتقى ساكنان دال واحد وثاء اثنان فكسر الدال لالتقائها وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل. قال: وأما قوله: فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام، فجوابه إن الذي قال إن الحركة لالتقاء الساكنين لما يرد بهما التقاء الياء والميم من ألم في الوقف بل أراد ميم الأخيرة ولام

التعريف كالتقاء نون من ولام الرجل إذا قلت: من الرجل قال: ومما ورد به مذهب الفراء واختيار الزمخشري إن فيه تدافعا وتناقضا فإن سكون أحد منهم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ونية الوقف على ما قبلها يوجب ثباتها وقطعها وهذا متناقض، قال: وهو رد صحيح. انتهى كلام أبي حيان ملخصا، وقال ابن الحاجب: ما رجحه في الكشاف من مذهب الفراء حمل على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة، ثم إنه خالفه في المفصل وجزم بقول سيبويه وذكر الجاربردي كلام ابن الحاجب وبعض ما ذكره أبو حيان، وقال: الوجه ما قاله سيبويه والجماعة، وأما الطيبي، فقال: لابد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف، لأن هذه الأسماء عنده معربة وسكونها سكون وقف لابناء، ومن ثم قال: حقها أن يوقف عليها، و (ألم) رأس آية بلا خلاف، ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها، لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف، إما قرعا للعصا أو تقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينهما وبين الكلام/ المستقل المفيد بنفسه، فإذا القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعاراً بابقاء أثر الهمزة المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين، وإنما خالف في المفصل لأنه مختصر كتاب سيبويه، فهو كالنقل منه وهذا الكتاب مبني على الاجتهاد. انتهى. وقال الشيخ سعد الدين بعد تقرير كلام الزمخشري: فإن قيل: تعديد هذه الألفاظ إما على سبيل الدرج والوصل فلا ثبات للهمزة ولا نقل لحركتها، وإما على سبيل الوقف وقطع البعض عن البعض فلا وجه لنقل الحركة من هذه إلى تلك لأنه من أحكام الاتصال، قلنا: قطع معنى وحقيقة، فلذا يغتفر التقاء الساكنين، وثبتت الهمزة في

واحد اثنان وصل لفظا وصورة لعدم السكت، لأنه إنما يكون للراحة بعد النصب، ولا تعب، فلذلك أدغم الميم التي هي أخر لام في التي هي أول ميم، وجاز نقل حركة الهمزة إلى ما قبلها تحقيقا، وهذا ليس من إجراء الوصل مجرى الوقف في شيء حتى يتوجه اعتراض ابن الحاجب بأنه ضعيف لا يبنى عليه القراءة المجمع عليها بأنه قوى عند الحاجة إلى التخفيف، فإن قيل: ما ذكر من حديث الوقف إنما يضع فيمن يجعل هذه الألفاظ على نمط التعديد، وأما فيمن يجعلها اسما للسورة فهو اسم مرتبط فيما بعده أو ما قبله قد يوقف عليه وقد لا يوقف، قلنا: قد سبق أنها على هذا التقدير محكية ومبنى الكلام على أصلها الذي يحل قبل التركيب والعلمية انتهى. قوله: (وقرئ بكسرها) على توهم التحريك لالتقاء الساكنين، قال ابن الحاجب: لا وجه لكسرها إلا البناء لأنه لما فقد فى هذه الأسماء مقتضى الأعراب وهو التركيب وجب البناء لعدم الواسطة، وقال الشيخ سعد الدين: لقائل أن يقول: لا نسلم لعدم الواسطة بين المبني والمعرب، بمعنى ما فيه الإعراب، بل بمعنى ما من شأنه الإعراب بالفعل، وانتفاء التركيب إنما يوجب انتفاء الإعراب لا انتفاء كون الاسم من قبيل المعربات. قوله: (وقرأ أبوبكر)، زاد أبو حيان في بعض طرقه، عن عاصم. قوله: (روى أنه عليه السلام قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور)) الحديث، أخرجه الطبراني وابن مردويه، من حديث أبي أمامة، بلفظ (في ثلاث سور، سورة البقرة، وآل عمران، وطه)، قال أبو أمامة: فلتمستها فوجدت في البقرة، الله لا إله إلا هو الحي القيوم إلى

قوله: (نزل عليك الكتاب نجوما)

آخره. قوله: (وهي في موضع الحال)، قال أبو حيان: أي محقا، قال: ويحتمل أن الباء المسببية، أي بسبب إثبات الحق. قوله: (نزل عليك الكتاب نجوما)، ثم قال: وأنزل التوراة والإنجيل جملة، أشار إلى ما ذكره الزمخشري، إن نزل تفيد التكثير والترديد. ورده أبو حيان، بأنه ورد في وصف القرآن أيضا أنزل في غير ما اية، فدل على أنها بمعنى، وكذا قراءة من قرأ المشدد بالتخفيف، وقال الحلبي: قد يعتقد أن في كلام الزمخشري تناقضا، حيث قال: إن نزل يقتضي التفخيم، وأنزل يقتضي الانزال الدفعي، لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن وقد جامعه أنزل، ولكن لا ينبغي أن يعتقد ذلك، لأنه لم يقل إن أنزل للإنزال الدفعي فقط، بل يقول: إن نزل بالتشديد يقتضي التفريق وأنزل يحتمل ذلك ويحتمل الإنزال الدفعي، قال ابن هشام في المغنى: أشكل على الزمخشري قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فقرن نزل بجملة واحدة وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} وذلك إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الآية، وهي آية واحدة، وقال العلم العراقي: عندي وجه آخر، وهو أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ

إلى سماء الدنيا منجما في ثلاثة وعشرين سنة، فيجوز أن يقال فيه: نزل وأنزل، وأما بقية الكتب فلا يقال فيها إلا أنزل، وهذا الوجه أوجه وأظهر. قوله: (واشتقاقهما من الورى والبخل ووزنها بتفعله وأفيعل تعسف، فيه أمور، الأول: قال الشيخ سعد الدين: القول بالاشتقاق منقول عن الفريقين البصريين والكوفيين، وقد جوز في طالوت مع كونه أعجميا أن يعتبر اشتقاقه من الطول الثاني، القول بأن اشتقاق التورية ورى الزناد بالكسر يرى إذا قدح وظهر منه النار، قول الجمهور لأن التوراة ضياء من الضلال، وذهب مؤرخ سدوسي إلى أنها مشتقة من ورا إذا عرض، لأن أكثر التوراة تلويح، الثالث: إن قوله: إن وزنه تفعله إن كان بفتح العين فهو قول بعض الكوفيين أو بكسرها فهو قول الفراء، وأما مذهب الخليل وسيبويه وسائر البصريين، فوزنها فوعلة، والأصل: وورية أبدلت الواو تاء، كذا أورده أبو حيان، وأصحاب الحواشي، الطيبي، والجاربردي، وزاد التفتازاني، أن الزمخشري ذهب إليه في الفصل الرابع. قوله: (والنجل هو الماء الذي ينز من الأرض ويطلق على الوالد والولد، فهو من الأضداد، قاله الزجاجي، وقال الزجاج الإنجيل مأخوذ من النجل وهو الأصل، وقال أبو الفتح: هو من نجل إذا ظهر ولده أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ، وإما من التوراة، وقيل: هو مشتق من التناجل وهو التنازع، سمى

بذلك لتنازع الناس فيه، وقيل: من نجل العين، فإنه وسع فيه ما ضيق في التوراة. قوله: (لأنهما أعجميان) قال الطيبي: يدل على أنهما عربيان، دخول اللام فيهما، وقال الشيخ سعد الدين: دخول اللام في الأعلام الأعجمية محل نظر، وعبارة أبى حيان، عبرانيان. قوله: (متعبدون) قال الشيخ سعد الدين: بفتح الباء، أي مكلفون مأمورون من تعبدته: اتخذته عبداً. قوله: (أو القرآن، وكرر ذكره)، إلى آخره، هو الوارد عن السلف، أخرجه ابن جرير عن قتادة والربيع بن أنس، وأخرج عن محمد بن جعفر الزبيري، قال: الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، قال ابن جرير: وهذا القول أولى، لأن صدر السورة نزل في محاجة النصارى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى، الطيبي: يمكن أن يريد بقوله: وكرر ذكره إلى آخره. إن الكتاب أولا أطلق على القرآن ليثبت له الكلام، لأن اسم الجنس في مثل هذا إذا أطلق على فرد من أفراده يكون محمولا على كماله وبلوغه إلى حد هو الجنس كله، كأن غيره ليس حقه، كما لو قلت، لمن وهبت له كتابا وأنت تريد الامتنان عليه: لقد منحتك الكتاب، أي الكتاب الكامل في بابه، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} واللام للجنس، والمراد المؤمنون كما في قوله: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} ثم اقترن

بوصف من أوصافه لتتميم معنى الكلام وتوكيده، لأن من شأن الكتب السماوية أن تكون فارقة بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والحلال والحرام، فينتهي بذلك الوصف غايته، وإليه الإشارة بقوله: تعظيما وإظهارا لفضله ولو صرح أولا باسم القرآن واقترن به الوصف لم يكن كذلك، ولهذا كان الوجه الآخر دون هذا الوجه، قال صاحب الانتصاف: وفيه وجه آخر، وهو أن القرآن العظيم نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ومن سماء الدنيا منجما في ثلاث وعشرين سنة، وأما بقية الكتب، فلا يقال فيها: إلا أنزل، وهذا أوجه وأظهر، قال الطيبي: لعله ذهل عن دقة المعنى ومال إلى أن تكرير القرآن لإناطة معنى زايد وهو التنزيل مرة والإنزال أخرى. وذهب عنه إلى أن المقام مقام مدح وتعظيم للكتاب، لا بيان إنزاله وتنزيله. وقال الإمام: الوجوه المذكورة كلها ضعيفة، أما حمل الفرقان على الزبور فبعيد لأن المراد من القرآن ما يفرق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وليس في الزبور إلا الوعظ فقط وأما حمله على القرآن فبعيد أيضا، لما يلزم من العطف من المغايرة. ولا مغايرة حينئذ. وأما حمله على الكتب فبعيد أيضا لما يلزم منه من عطف الصفة على الموصوف والمختار عندي: أن المراد بالفرقان المعجزات التي قرنها الله بإنزال هذه الكتب، أن أنزل الكتب وأنزل معها ما يفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة قال الطيبي: وهذا الذي ذكره الإمام هو على مقتضى الظاهر، وعلماء هذا الفن يهجرون سلوك هذا الطريق. وإذا سنح لهم ما يخالف الظاهر لا يلتفتون إلى الظاهر ويعدونه من باب النعيق وأما قوله: (ليس في الزبور إلا الموعظة): فجوابه إن الموعظة أيضا فارقة من حيث إنها زاجرة عن ارتكاب المناهي داعية إلى الإتيان بالأوامر صارفة عن الركون إلى الدنيا هادية إلى النزوع إلى العقبى وقربة تزلف إلى رضى الله عما يوجب سخطه سبحانه قوله: (لا يقدر على مثله منتقم) قال

الطيبي: هذه المبالغة يفيدها إيراده قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بعد ذكر التوحيد وذكر إنزال الكتب الفارقة بين الحق والباطل تم توكيده بأن وبإيقاع قوله: " الذين كفروا ". أصله للموصول وبناء (لهم عذاب شديد) عليه ثم تذييل المذكور بقوله: والله عزيز ذو انتقام المشتمل على إعادة اسم الذات المقرون بصفة العزة وإضافة ذي إلى الانتقام ومجيئه نكرة والتفكير للتعظيم. قوله: " والنقمة عقوبة المجرم "، زاد أبو حيان، بمبالغة في ذلك. وقبل هي السطوة والانتصار. قوله: " والفعل منه نقم " قال أبو حيان: يقال: نقم ونقم إذا أنكر، وانتقم عاقب. قوله: " فعبر عنه بالسماء والأرض "، قال الطيبي: يعني إن الذي يقتضيه الظاهر أن يقال لا يخفى عليه شيء في العالم فكنى عنه بالسماء والأرض لأن مؤداهما واحد لأن العالم إذا أطلق يتبادر إلى الذهن السماء والأرض وما فيهما عرفا، وسبيل هذه الكناية سبيل قولك: في الكناية عن الإنسان هو حي مستوى القامة عريض الأظفار، وإنما اختير تلك العبارة على الظاهر ليدل على مزيد تصوير جزئيات العالم ودقائقه وخفاياه ليكون الكلام أدل على الوعيد. وأنه تعالى يجازيهم على كفرهم بكتب الله وتكذيبهم بآياته. قوله: (وقيل: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا). الإشارة إلى قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} قاله الجاربردي: وضعفه. وهو المجزوم به في الكشاف، لأن الطيبي قال: يمكن أن يكون عاما وإيراد هذا الوصف من الأوصاف لأنه يندمج فيها على سبيل التعريض للاحتجاج على النصارى. قوله: " فإن وفد نجران "، إلى آخره، أخرجه ابن إسحاق والبيهقي

قوله: "وأصله يرد إليها غيرها"

في الدلائل، عن محمد بن سهل ابن أبي أمامة. قوله: " وأصله يرد إليها غيرها " قال الطيبي: وذلك أن العرب تسمى كل جامع يكون مرجعا أما. قوله: " لأنه وصف معدول عن الأخر "، هو رأي أكثر النحويين قالوا: لأن الأصل في أفعل التفضيل ألا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام كالكبر والصغر، فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجرداً مالا يعطى غيره إلا مقرونا- وقال ابن مالك: التحقيق أنه معدول عن آخر مراد به جمع المؤنث، لأن الأصل في أفعل التفضيل أن يستغنى فيه بأفعل عن فعل لتجرده عن الألف واللام والإضافة كما يستغنى بأكبر عن كبر في نحو رأيتها في نسوة أكبر منها، فلا يثنى ولا يجمع، لكنهم أوقعوا فعلا موقع أفعل فكان ذلك عدلا من مثال إلى مثال، وتابعه أبو حيان، وقال: فآخر على هذا معدول عن اللفظ الذي كان المسمى أحق به، وهو أخر لاطراد الأفراد في كل أفعل يراد بها المفاضلة في حال التنكير، قوله: " وهذا العدل بهذا الاعتبار صحيح لأنه عدل من نكرة إلى نكرة. قوله: " ومن وقف على " إلا الله " " هذا القول هو المختار عند أكثر أهل السنة، خصوصا المحدثين. وقد رجحه الطيبي وبسطه في الاتقان. قوله: " ما ستأثر ". أي تفرد " قوله: استئناف " فهم منه أبو حيان

أنه خبر مبتدأ محذوف ". وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنه لا حاجة إلى تقدير مبتدأ، أي هم يقولون على ما يشعر به كلام المكثرين. قوله: " قلب ابن آدم بين إصبعين " الحديث. أخرجه أحمد والترمذي، من حديث أم سلمة، والشيخان من حديث عائشة. قوله: " وقيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا " يعني أن الكلام كناية أو مجاز، إذ لا يحسن من الله الإزاغة ليسأل نفيها، وهذا قول الزمخشري، بناء على مذهبه من الاعتزال قوله: " وقيل: إنه بمعنى أن ". قوله: " فإن الإلهية تنافيه " يعني أن العدول عن المضمر وهو إنك المناسب لربنا إنك إلى الظاهر بغير لفظ السابق، وهو ربنا للدلالة على أن الحكم مرتب على ما يدل عليه كما في التعليق/ بالوصف فإنه يشعر بالعلية قاله الطيبي والتفتازاني قوله: " أي من رحمته أو طاعته على معنى البدلية " فيه: أمران الأول، قاله أبو حيان، إثبات البدلية ما تنكره أكثر النحاة، بل هي لابتداء

الغاية، كما قاله المبرد، أو التبعيض على أنها صفة لشيئا، فلما قدمت صارت حالاً وذكر أبو عبيدة، إنها بمعنى عبد، وهو ضعيف جدا انتهى. الثاني، قال الجاربردي: بين المصنف معنى من ولم يبين معنى يغني، قال المطرزي: أغنى عن كذا أي نحه عني، فمعنى الآية لن يبعد عنهم شيئا أي عذابا بدلاً من رحمة الله أو طاعته إنما يبعد عنهم العذاب الرحمة أو الطاعة لا الأموال والأولاد. قوله: " متصل بما قبله " أي فيكون منصوب المحل، قوله " " أي لنا تغني عنهم كما لن تغن عن أولئك " قال أبو حيان: هذا ضعيف، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي، {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} إذا قدرت معطوفة فإن قدرتها إعتراضية، وهو بعيد جاز قوله: " أو توقد بهم كما توقد بأولئك "، قال الحلبي: فيه نظر لأن الوقود على القراءة المشهورة، الأظهر فيه أنه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له. فان قيل: إنه مصدر، وعلى قراءة الحسن بالضم صح قوله: " وهو مصدر دأب "، إلى آخره. قال في الأساس: دأب الرجل في عمله: اجتهد فيه ومن المجاز: هذا دأبك. أي هذا شأنك وعملك. قوله: " أو استئناف "، تفسير لحالهم، قال الطيبي، والشيخ سعد الدين: هو مبني على أن الكاف مرفوع المحل، فإن شأنهم وحالهم يشمل الأمرين، ما فعلوا، وهو التكذيب وما فعل بهم وهو أخذهم بذنوبهم. وإما على النصب، فهو استئناف لبيان السبب. قوله: " فإنه عليه الصلاة والسلام جمعهم بعد بدر " أخرجه ابن إسحاق وأبو داود وابن جرير والبيهقي، في الدلائل، عن ابن عباس.

قوله: (والأغمار)

قوله: (والأغمار) جمع غمر وهو من الرجال من لم يجرب الأمور. قوله: " نحن الناس "، أي الموصوفون بالشجاعة والشدة. ذكره الجاربردي. قوله: " وقرأ حمزة والكسائي بالياء " إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين حاصل الفرق أن المعنى على الخطاب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام، حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا إليه. وعلى الغيبة أمره بأن يؤدي إليهم ما أخبر الله تعالى به، من الحكم بأنهم سيغلبون بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى. فعلى الخطاب الإخبار بمعنى كلام الله تعالى، وعلى الغيبة بلفظه. والأظهر، أن الأمر بالعكس، وكأنهم جعلوا ضمير بلفظه لما أخبروه، والحق أنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كالمنصوب في آخره والمرفوع في يحكى أي أمر أن يحكى لهم بلفظه هذا الوعيد على الوجه الذي يناسب، ولا خفاء أنه لا يناسب أن يقول لهم سيغلبون بلفظ الغيبة، فأحسن التدبير انتهى. قوله: " يرى المشركون " إلى آخره. حكى في ضمير الفاعل من يرونهم قولين. أحدهما أنه للمشركين. والثاني أنه للمؤمنين، وكلاهما ضعيف لأنه خلاف قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} وما أجاب به، من أن التقليل وقع أولا والتكثير بعد الملاقاة فخلاف الظاهر، والتحقيق أنه لليهود المخاطبين بقوله: {

قَدْ كَانَ لَكُمْ} وهم الذين كفروا في الآية قبلها، كما بينه سبب النزول فقراءة " ترونهم " بالخطاب على نسق قد كان لكم، وقراءة الغيبة على الالتفات وهم: في " يرونهم " للمشركين وفي مثليهم " للمؤمنين "، وكان ذلك هو الواقع، فإن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، كما أخرجه البخاري، عن البراء، وكان المشركون قريبا من ألف كما أخرجه البيهقي في الدلائل، وابن جرير عن علي، وهذا التقدير قل من يجيء إليه، وفي تفسير ابن جرير، عن قتادة ما معناه أنه لو كان الضميران لواحد لقال: ترونهم مثليكم، وهذا في غاية الدقة والحسن، وقد قال الشيخ سعد الدين: لا يليق بنظم القرآن أن يجعل خطاب يرونهم لغير من له الخطاب قد كان لكم. قوله: (فلما لاقوهم) ضبطه أصحاب الحواشي بالفاء أي خالطوهم والتفوا عليهم في الأساس: أرسلت الصقر على الصيد فلافه، أي التف عليه وجعله تحت رجليه وما تصافحوا حتى تلافوا ولا ففناهم. قال الطيبي: وفي بعض النسخ بالقاف. قال: والأول أنسب. قوله: " والنصب على الاختصاص ". قال أبو حيان: ليس بجيد، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة، قال: والوجه أنه على المدح في الأولى وعلى الذم في الثانية أي أمدح فيه وأذم أخرى. انتهى. وقد فسر الطيبي الاختصاص بالمدح، فإن معنى أذكر فيه لا يخفى شأنها، وهي التي تجاهد في سبيل الله. قال: وعلى هذا كافرة منصوبة على الذم لأنها مقابلة لها، وقال الحلبي: لا يعني الزمخشري

الاختصاص المنسوب له في النحو. نحو. " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ". إنما عنى النصب بإضمار فعل لائق. وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا. وكذا قال السفاقسي، لم يرد الاختصاص الاصطلاحي. إنما أراد المعنوي وكثيراً ما يقع له ذلك في كتابه. قوله: " أو الحال من فاعل إلتقتا ". قال أبو البقاء: والتقدير التقتا مؤمنة وكافرة. وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال. قوله: " رؤية ظاهرة معاينة " قال الشيخ سعد الدين: يقتضي أن هذه رؤية عين وهو الابصار فيكون مثليهم حالاً لا مفعولاً ثانيا لكن المعنى على المفعولية فالوجه إنه متعد إلى مفعولين، لكونه بمعنى العلم، علما يستند إلى معاينة لا بمنزلة أن يقال: يبصرونهم، فليتأمل. قوله: " سماها شهوات مبالغة "، قال الطيبي: يعني حين أوقع الشهوات مبهما أولا ثم بين بالمذكورات، على أن الأعيان هي عين الشهوات كأنه قيل: زين حب الشهوات التي هي النساء فجرد من النساء شيء يسمى الشهوات، وهي نفس الشهوات، نحو في البيضة عشرون رطلا حديداً. قوله: " والمزين هو الله ". أخرجه ابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب. قوله: " ولعله زينة ابتلاء " إلى آخره، قال الطيبي: الأول هو الذي يناسب المقام. لقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقوله: {قُلْ

قوله: "والمسومة المعلمة"

أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}. قوله: " والقنطار مائة ألف دينار "، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح، عن أنس، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن قول الله: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} قال: " القنطار ألف دينار ": " ملي مسك ثور ". أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري، قال: القنطار ملء مسك الثور ذهبا. والمسك بفتح الميم الجلد. قوله: " فعلال أو فيعال فعلى الثاني نونه زائدة، من قطر يقطر، وبه جزم ابن دريد قوله: " والمقنطرة مأخوذة منه " قال المرزوقي: من شأن العرب أن يشتقوا من لفظ الشيء الذي يريدون المبالغة في وصفه ما يتبعونه تاكيداً أو تنبيها عن تناهيه، من ذلك: ظل ظليل، وداهية دهياء، وشعر شاعر. قوله: " بدرة مبدرة " أي كاملة. قوله: " والمسومة المعلمة " أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. قوله: " أو المرعية " أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس، بلفظ: الراعية، قوله: " أو المطهمة " أخرجه ابن جرير، عن مجاهد قال الشيخ سعد الدين: وهي التامة الخلق. قال: ولم يبين اشتقاق ذلك، وكأنه من السوم في البيع لأنها تسام كثيراً أو من السومة لأنها علم في الحسن.

قوله: " ويرتفع جنات " قال الشيخ سعد الدين: الأظهر في ترتفع الرفع ابتداء كلام بمعنى وجه يرتفع، ويحتمل النصب عطفا على متعلق، وإنما لم يجعل عند ربهم في موضع الخبر لجنات، لأن الظاهر تعلقه بالفعل على معنى ثبت تقواهم عند الله شهادة لهم بالإخلاص ولأن ما عند الله هو الثواب. ونحوه، ولا يسمع عند الله الجنة قوله: " ويؤيده قراءة من جرها بدلا من خير "، قال: أبو حيان: هي قراءة يعقوب، قال: وجوز فيها أن يكون تصبا بإضمار أعني، أو بدلاً من موضع بخير، لأنه نصب ووجه التأييد، أنها حينئذ بيان للخبر، كما أن هو جنات تفسير له: قاله الطيبي: قوله: (وهما لغتان): الكسر لغة الحجاز، والضم لغة تميم، وقيل بالكسر الاسم وبالضم المصدر. قوله: " أو بأحوال الذين اتقوا ذلك أعدلهم جنات " قال الطيبي: يعني العبادة، مظهر أقيم موضع المضمر لتلك العلة قال: ويمكن أن يقال: والله بصير بالعباد المتقين وبما يصلحهم ويرد بهم وأن إيثار الآخرة على الدنيا وزينتها خير لهم، فلذلك أنبأهم هو خير لهم. قوله: " صفة للمتقين " أي للذين اتقوا أو للعباد، قال أبو حيان: الأول أظهر. وقال الشيخ سعد الدين: في الأول إنه بعيد جداً لا سيما إذا جعل اللام متعلقا بخبر لكثرة الفواصل. ولهذا عبر عنه في الكشاف بقوله: ويجوز. قال وأما جعله صفة للعباد، فبعيد من جهة المعنى حيث خص كونه بصيرا بالعباد المخصوصين وقال الطيبي: الأنسب، أن يجعل قوله: " الذين يقولون " الآية واردا على المدح تربية لمعنى وضع

المظهر موضع المضمر. قوله: (وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منهما وكما لهم فيها) قال أبو حيان: لا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال، قال الحلبي: قد علمه علماء البيان، قوله: " شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تصريحية تبعية، حيث شبه بالشهادة دلالته على الوحدانية بما نصب من الأدلة العقلية وترك من الأدلة السمعية، وكذلك الإقرار والاحتجاج من الملائكة وأولي العلم من المثقلين، قال: ولا يبعد على قواعد الملة سلوك الملائكة طريق الاستدلال والاحتجاج، على أن الاحتجاج لا يلزم أن يكون للاكتساب بل للإثبات على الغير، فإن قيل: الإقرار مع مطابقة القلب حقيقة الشهادة لا شبيهة بها ولو سلم أنه لابد من زيادة خصوص فهي ممكنة من الملائكة والثقلين، فأي حاجة إلى اعتبار المجاز وإن بني ذلك على امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز، فكذلك الجمع بين معنيين مجازيين كالدلالة والإقرار قلت: الدلالة والإقرار، من إفراد معنى مجازي هو الأمر المشبه بالشهادة، لا معنيان مجازيان ليمتنع إرادتهما، وإنما لم يعتبر تقدير إعادة الفعل ليكون الأول مجازاً والثاني حقيقة لأنه خلاف الظاهر مع الغنية عنه بالمجاز المستفيض، انتهى. قوله: " مقيما للعدل "، قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن الباء للتعدية ولم يجعله من قبيل قام بالأمر، إذا ثبت متلبسا له مباشرا له على طريقة الاستعارة، من القيام بمعنى الانتصاب مبالغة في تجنب وصفه من صفات المخلوقين. قوله: " وإنما جاز إفراده بها "، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: بين جواز إفراد المعطوف عليه بالحال كالمعطوف في نافلة، وبقي بيان جهة تأخيره عن المعطوفين، وكأنها الدلالة على علو زينتهما وقرب

منزلتهما. قوله: " ولم يخرجا زيد وعمرو راكبا "، إلى آخره. قال أبو حيان: بل هو جائز ويحمل على أقرب مذكور كما في الوصف، لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل، كأن الطويل صفة لعمرو ولا لبس فيه فكذلك الحال، ولا يتعين في قوله: نافلة، أن يكون حالا عن يعقوب إذ يحتمل أن يكون مصدراً كالعافية والعاقبة، ومعناه زيادة، فيكون شاملا لإسحاق ويعقوب لأنهما زيداً لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره، إذا كان إسحاق إنما وهبه على الكبر وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة وقال الحلبي: مراد الزمخشري، يمنع، جاء زيد وعمرو راكب إذا أريد أن الحال منهما معا أما إذا أريد أنها حال من واحد منهما فإنما يجعل لما يليه لعود الضمير على أقرب مذكور. قوله: لأنها حال مؤكدة "، قال أبو حيان: ليس من الحال للمؤكدة، لأنه ليس من باب، {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} ولا من باب، أنا عبد الله شجاعا، فليس قائما بالقسط بمعنى شهد ولا مؤكدا لمضمون الجملة السابقة، بل هي حال لازمة لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى وقال السفافسي: في هذا الإعتراض نظر، لأن قيامه بالعدل يؤكد تحقق الشهادة فتكون مؤكدة لمضمون الجملة. وقال الحلبي: مؤاخذته له في قوله: مؤكدة غير ظاهرة، وذلك أن الحال على قسمين، إما مؤكدة وإما مبينة وهي الأصل فالمبينة لا جائز أن تكون هنا لأن المبينة تكون منتقلة والإنتقال هنا محال، إذ عدل الله لا يتغير فإن قيل: لنا قسم ثالث، وهي/ الحال اللازمة، فكأن للزمخشري مندوحة عن قوله مؤكدة، إلى قوله: لازمة، فالجواب أن كل مؤكدة لازمة وكل لازمة مؤكدة فلا فرق بين

قوله: "وقرئ القائم بالقسط على البدل عن، هو"

العبارتين ويدل على ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الإستقراء. وقوله: " ليس معنى قائما بالقسط معنى شهد ممنوع بل معنى شهد مع متعلقه وهو أنه لا إله إلا هو، مساو لقوله قائما بالقسط. قوله: " أو الصفة للمنفي "، أي إله. قوله: " وقرئ القائم بالقسط على البدل عن، هو "، قال أبو حيان: لا يجوز ذلك، لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي وهو العطوفان لأنهما معمولان بغير العامل في المبدل منه ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز أيضا، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف، انتهى. وقدح الشيخ سعد الدين فيه بأنه قول بالإبدال من البدل. قوله: " ورفعهما على البدل من الضمير الظاهر "، إذ المراد الضمير الأخير، وصرح الشيخ سعد الدين، بأنه الأول، حيث قال: لأنه مثل القائم بالقسط بعينه، فيكون بدلاً أو خبر مبتدأ محذوف قوله: " وقد روي في فضلها "، الحديث. أخرجه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث ابن مسعود، بسند ضعيف. قوله: " جملة مستأنفة مؤكدة "، قال الطيبي: أي مذيلة معترضة على أسلوب، قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} قال: وإنما كانت مزيلة، لأن الشهادة بالوحدانية وبالعدل والعزة والحكمة، هي: أس الدين وقاعدة الإيمان. ولاشك أن

الدين أعظم من الإعتقاد الذي هو التصديق. ثم إن الدين صدر بإن وخصص بقوله: عند الله، وهو كناية عن رفعة المنزلة، ثم التعريف في الخبر الذي هو الإسلام جاء لقصر المسند على المسند إليه. قوله: " للأولى "، قال الشيخ سعد الدين يعني شهد الله أنه، إلى آخره. وقيل: مضمون قوله: أنه لا إله إلا هو. وقيل قوله، " لا إله إلا هو "، المذكور ثانيا، قال: والأول أوجه وأنسب بسوق كلامه المشعر بأن (إن الدين عند الله الإسلام) إيذان وإعلام من الله بمضمون ذلك لا داخل في حكم الشهادة. قوله: " قرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل "، إلى آخره. قال أبو حيان: هذا التخريج ليس بجيد، لأن فيه الفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف وبالحال لغير المبدل منه، وكلاهما لا يجوز. وخرجه الطبري على حذف العاطف، أي وإن الدين. وفيه ضعف من حيث الإضمار وطول الفصل. قال: والصواب، أنه معمول للحكيم على إسقاط الجار أي الحكيم بأن، فهو أسهل وأقل تكلفا، قال: والحامل للزمخشري وأمثاله على الإتيان بالتخاريج المتكلفة: العجمة وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب وحفظ أشعارها، ولن يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لابد من الإطلاع على كلام العرب والتطبع بطباعها والاستكثار من ذلك. قوله: " وقرئ إن بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني واعتراض ما بينهما أو إجراء شهد " إلى آخره. أنكر أبو حيان التخريج الأول. قوله: " وقيل، هم النصارى "، أخرجه ابن جرير عن محمد بن جعفر

ابن الزبير. قوله: " أخلصت نفسي وجملتي له "، يعني أن الوجه مجاز عن نفس الشيء وذاته أو عن جملة الشخص تعبيراً عن الكل بأشرف الأجزاء، قاله الشيخ سعد الدين قوله: " عطف على التاء "، زاد أبو حيان أو مبتدأ خبره محذوف أي كذلك. قوله: " أو مفعول معه "، قال أبو حيان: لا يجوز لأنه يقتضي المشاركة والمتبعون لم يشاركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسلام وجهه هو إنما أسلموا هم وجوههم، ولا يجوز أكلت رغيفا وعمراً، على معنى أنه أكل رغيفا آخر، قال: ويجوز أن يكون في موضع جر عطفا على الجلالة، أي بالحفظ والنصيحة. وقال الحلبي: فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ للمفعول معه، وأي مانع من أن المعنى فقل أسلمت وجهي لله مصاحبا لمن أسلم وجهه لله أيضا. وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية. قوله: " فقد نفعوا أنفسهم ". قال الشيخ سعد الدين: يعني أن اهتدوا، كناية عن هذا المعنى، وإلا فلا فائدة في الشرطية، وكذا الكلام في " إنما عليك البلاغ ". قوله: " أي التوراة أو جنس الكتب السماوية ". ومن للتبعيض أو البيان. ذكر الطيبي ما معناه أنه لف ونشر غير مرتب وأنه إن أريد التوراة فمن للبيان، أو جنس الكتب المنزلة فمن للتبعيض، قال واللام في الكتاب على الأول للعهد وعلى الثاني للجنس، ووجه التعظيم في التنكير عليه أن التوراة وإن كانت بعضا من الكتب لكنها حصة عظيمة القدر.

قوله: " روي أنه عليه الصلاة والسلام دخل مدراسهم، إلى قوله فنزلت "، أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والمدارس موضع صاحب دراسة كتبهم، ويطلق أيضا على الموضع الذي يقرأ فيه اليهود التوراة. قوله: " وقيل، نزلت في الرجم "، أخرجه ابن جرير عن ابن جريج. قوله: " وهم قوم عادتهم الإعراض "، والجملة حال، قال الطيبي: على هذا التفسير الجملة تذييل على رأي الأكثر ومعترضة على رأي الزمخشري، وأيا ما كان فهي مؤكدة لمعنى ما سبق، لا حال كما ذكره القاضي نعم إنما تكون حالاً إذا لم يفسر بأنهم قوم عاداتهم الإعراض. انتهى. قوله: " روي إن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس وثم يأمر بهم إلى النار ". قوله: " الضمير لكل نفس على المعنى "، قال الطيبي: يعني ذكر الضمير وجمعه باعتبار معنى النفس، كما اعتبر في قولهم ثلاثة أنفس بتأويل الأناسي. قوله: " الميم عوض من ياء "، قال الشيخ سعد الدين: وأوثر الميم لقربه من الواو التي هي حرف علة وشدد لكونه عوضا من حرفين: "

قوله: "فالملك الأول عام والآخران بعضان منه "

قوله: فإن الميم عنده تمنع الوصفية "، قال الشيخ سعد الدين: لأن بالاختصاص والتعويض يخرج عن كونه منصرفا وصار مثل جهل، إذ الميم بمنزلة صوت مضموم إلى اسم بقاءهما على معنييهما بخلاف مثل سيبويه، وخالويه حيث صار الصوت جزء الكلمة. انتهى. وقال الزجاج: وزعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه قد ضمت الميم إليه وما بعده منصوب على النداء. والقول عندي أنه صفة فكما لا تمتنع الصفة مع " ياء " فلا تمتنع مع الميم، قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم، ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز مالا يوصف نحو جبريل. فإنهما صار بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف. قوله: " فالملك الأول عام والآخران بعضان منه " قال الطيبي: لأن لام الجنس إذا دخلت على المفرد صلحت لأن يراد بها جميع الجنس وأن يراد بها بعضه بحسب القرائن فالملك الأول مطلق شامل في جنسه، لأن الملك الذي يقع عليه ممالكيته سبحانه وتعالى، ليس ملكا دون ملك. بخلاف الثاني والثالث، لأنهما حصتان من الجنس لتقييدهما بالايتاء والنزع، ولأن المراد نزع الملك من العجم والروم وإيتاءه المسلمين، قال: ويحتمل أن يراد بالملك الأول العهد والمعهود ملك العجم والروم، بشهادة سبب النزول. والثاني والثالث مظهر أن وضعا موضع المضمر إشعاراً بالعلية وإن تصرفه فيه ليس كتصرف المالك المجازي بل تصرف تسخير وقهر يؤتيه من يشاء كيف يشاء وينزعه ممن يشاء كيف يشاء، لا اعتراض لأحد عليه في تصرفه سبحانه ومن ثم عقبه بقوله: " وتعز من تشاء وتذل من تشاء " قال: ولعل هذا الوجه أظهر والمقام له أدعى، ولما تقرر أن المعرف إذا أعيد كان الثاني غير الأول، ولأن قوله: تؤتي

الملك، إلى آخره، بيان على سبيل الاستئناف، لقوله: مالك الملك. فلا يكون المبين خلاف المبين. قوله: " وقيل، المراد بالملك النبوة " أخرجه ابن جرير، عن مجاهد. قوله: " ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات والشر مقضي بالعرض، إذ لا يوجد شر جزئ ما لم يتضمن خيرا كليا " رفع إلى سؤال من بعض الفضلاء، يسأل في تقرير هذا الكلام، فكتب عليه ما نصه، لاشك إن الشرائع كلها متفقة على النظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وكذلك أحكام القضاء والقدر جارية على سنن ذلك وإن خفى وجه ذلك على الناس في كثير منها ولهذا ورد في الحديث، " لا تتهم الله على نفسك " فإذا علم ذلك من المعلوم أن الله قدر الخير والشر كان مظنة أن يقول قائل: كيف قدر الشر وهو خلاف ما علم نظيره إليه شرعا وقدر أو هذه هي الشبهة التي تمسك بها المعتزلة. والجواب إن الشر اليسير إذا كان وسيلة إلى خير كثير كان ارتكابه مصلحة لا مفسدة، ألا ترى إن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابها في مقتضى الحكمة ويعد خيراً لا شراً وصحة لا مرضا لاستلزامه ذلك. فكذلك كل ما قضاه الله من الشر فإنما قضاه بحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعضم وأعم نفعا ولهذا ورد، لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين وورد " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب

العجيب " فتقدير الذنوب وإن كانت شراً فليست لكونها مقصودة في نفسها بل لغيرها وهو السلامة من داء العجب التي هي خير عظيم، قال بعض المحققين: ولهذا قيل: يا من إفساده إصلاح، يعني أنما قدره من المفاسد فلتضمنه مصالح عظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونها وسيلة إليها وما مدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله لكونه لم يقصد بالذات بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم يصدق عليه بهذا الاعتبار إنه خير فدخل في قوله " بيدك الخير " فلهذا اقتصر عليه على وجه إنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما وهذه من مسألة ليس من الإمكان أبدع مما كان التي قدرها الغزالي وألفنا في شرحها كتاب تشييد الأركان فلينظره من أراد البسط والله أعلم. قوله " روى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خط الخندق، إلى قوله: فنزلت " أخرجه بطوله بدون نزول الآية، البيهقي وأبو نعيم في الدلائل عن عمرو بن عوف المزني، وأخرجه ابن جرير عن قتادة مختصرا، وفيه نزول الآية. قال الشيخ سعد الدين: ضمير صد عنها ومنها للصخرة والمستكن للضربة وضمير لا بتيها للمدينة وهما حرتان يكتنفانها والحرة كل أرض

قوله: "وإخراج الحي من الميت"،

ذات حجارة سود كأنها محترقة من الحر، واللوب: الحوم حول الماء للعطش عند الازدحام وقيل العطش، واللام في، لكان، جواب قسم محذوف والحيرة: بكسر الحاء مدينة بقرب الكوفة، وتشبيه القصر بأنياب الكلاب في نباحها وصغرها وانضمام بعضها إلى بعض. قوله: " وإخراج الحي من الميت "، إلى أخره، أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود وابن عباس. قوله: " وقيل إخراج المؤمن من الكافر " إلى آخره أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر ين الخطاب. قوله: " مندوحة " أي سعة. في الأساس: ندحت المكان ندحا، وسعته، ولك في هذه الدار منتدح، متسع، ولك عنه مندوحة أي سعة. قوله: " يصح أن يسمي ولاية " قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن (من) في التنزيل بيانية (وفي شيء) خبر ليس. قوله: " توم عدوي ثم تزعم أنني .... صديقك ليس النوك عنك بعازب

وقبله: فليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني في المغايب النوك: الحمق، والعازب: الغائب. قوله: " أن تخاف من جهتهم ما يجب اتقاؤه "، قال الطيبي: يشير إلى أن اتقاؤه مصدر أقيم مقام المفعول به قوله: " أو اتقاء " أي أنه مفعول مطلق. قوله: " والفعل معدى بمن لأنه بمعنى تحذروا وتخافوا " قال الشيخ سعد الدين: هذا يشعر بأن حذر وخاف يجيء متعديا بمن بخلاف اتقى فإنه ليس إلا متعديا بنفسه ولم نجد في كتب اللغة خاف وحذر إلا متعديا بنفسه. قوله: " قال عيسى عليه الصلاة والسلام، كن وسطا وامش جانبا " قال الطيبي: أي ليكن جسدك مع الناس وقلبك في حظيرة القدس. وقال الشيخ سعد الدين: أي كن وسطا في معاشرتهم ومخالفتهم وامش جانبا من موافقتهم فيما يأتون ويذرون. قوله: (يوم منصوب بنود) أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة، لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له/. (أمدا بعيدا) قال أبو حيان: الظاهر في بادئ النظر حسن هذا التخريج وترجيحه على غيره لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف، وهي أن يكون الفاعل ضميراً عائدا على شيء اتصل بالمعمول للفعل، نحو غلام هند ضربت وثوبي أخويك يلبسان ومال زيد أخذ، فذهب الكسائي وجمهور البصريين جواز هذه المسألة ومنها الآية على تخريج الزمخشري أن الفاعل بتود هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول " تود " وهو يوم لأن يوم مضاف إلى تجد كل نفس، والتقدير يوم وجدان

كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود. وذهب الفراء وأبو الحسن الأخفش وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه وعود الضمير على ما اتصل به ولهذه العلة امتنع زيداً أضرب وزيدا أظن قائما، والصحيح جواز ذلك. قال الشاعر: أجل المرء يستحث ولايد .... ري إذا يبتغي حصول الأماني أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، قال أبو حيان: وما عملت من سوء يجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على ما عملت من خير فيكون المفعول الثاني، إن كان تجد متعديا إلى مفعولين أو الحال إن كان متعديا إلى واحد محذوفا أي وما عملت من سوءا محضراً، وذلك نحو ضربت زيداً قائما وعمرا إذا أردت وعمراً قائما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون " تود في موضع الحال " أي وادة تباعد ما بينها: وبين ما عملت من سوء فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء وأبعد الزمخشري في عودة على اليوم لأن أحد القسمين اللذين أحضرا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلا بتجوز إذ كان يشمل على إحضار الخير والشر فتود تباعده لتسلم من الشر ودعه لا يحصل له الخير والأولى عوده إلى ما عملت من سوء لأنه أقرب مذكور ولأن المعنى أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه. قوله: " أو بمضمر نحو أذكر " إلى أخره. قال الطيبي: الحاصل أنه يجوز على تقدير أذكر ناصبا لليوم في وما عملت وجهان الابتداء وتود خبره والعطف على ما عملت. قال: ويجوز أن يكون تود استئنافا كأن قائلا لما ألقي إليه الجملة الأولى سأل ما حال الناس في حال ذلك اليوم المهول. أجيب، تود الآية. قوله: " ولا تكون ما شرطية لارتفاع " تود قال الشيخ سعد الدين:

عليه اعتراض مشهور وهو أنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز فيه الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط ولا يمتنع إطباق القراء على أحد الجائزين وإن كان مرجوحا، كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وما يقال إن المراد الارتفاع على وجه اللزوم، إنما هو من جهة أن ورد كذلك ولا محال لتغيير نظر القرآن كما لزم في قول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم محافظة على الوزن وقد يجاب بأن رفع المضارع في الجزاء شاذ كرفعه في الشرط نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في ذلك البيت. انتهى. وقال أبو حيان: الرفع مسموع من لسان العرب كثيرا بل قال أصحابنا أنه أحسن من الجزم ثم أورد منه غير بيت زهير قول أبي صخر: ولا بالذي إن بان عنه حبيبه .... يقول ويخفى الصبراني لجازع قول الآخر: وإن سل ريعان الجميع مخافة ... يقول جهارا ويلكم لا تنفروا وقول الآخر:

وإن بعدوا لا يأمنون اقترابهم .... تشوف أهل الغائب المتنظر وقول الآخر: فإن كان لا يرضيك حتى تردني .... إلى قطري لا إخالك راضيا وقول الأخر: أن يسألوا الخير يعطوه وإن خيروا .... في الجهد أدرك منهم طيب أخبار قال: فهذا الرفع كما رأيت كثير ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام إلا أنه يمتنع أن يكون ما في الآية شرطا لعلة أخرى لا لكون تود مرفوعا، وذلك لأن مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب، وحينئذ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير وبينه عائد على اسم الشرط وهو (ما) فيصير التقدير تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً ما عملت من سوء وذلك لا يجوز، وقال السفاقسى: الظاهر جواز أن يكون (ما) في الآية شرطا، وقد أجازه أبو البقاء. ورفع تود ليس بمانع على ما تقدم ولا ما ذكره أبو حيان، ولو تنزلنا معه على مذهب سيبويه، لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها، وإن كانت متقدمة في النية، ألا ترى أن الفاعل إذا أشمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه على المفعول عند الأكثر، وإن كان متقدما عليه في النية. وقال ابن هشام في المغني: امتنع الزمخشري من تخريجه على رفع الجواب مع مضي فعل الشرط، مع تصريحه في المفصل بجواز الوجهين في نحو، إن قام زيد أقوم ولكنه لما رأى الرفع

قوله: "ولكن الحمل على الخبر أوقع"

مرجوحا لم يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه يوضح لك هذا أنه جوز ذلك في قراءة شاذة مع كون فعل الشرط مضارعا وذلك على تأويله بالماضي فقال: قرئ " أينما تكونوا يدرككم الموت " برفع يدرك فقيل هو على حذف الفاء ويجوز أن يقال إنه محمول على ما يقع موقعه وهو، أينما كنتم كما جاء ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين، وهو ليسوا بمصلحين، وقد يرى كثير من الناس كلام الزمخشري في هذه المواضع متناقضا والصواب ما بينت لك، انتهى. تنبيه، قال الشيخ ولي الدين العراقي في حاشيته على الكشاف، ومن خطه نقلت، ذكر أبو حيان من الأبيات الدالة على الرفع. قولة: " إن تسألوا الخير يعطوه "، البيت: هو سبق ذهن أو قلم، فإن هذا ليس من أبيات الرفع، فإن المضارع فيه، وهو يعطوه، البيت مجزوم بحذف نونه، قلت: إنما أورده لقوله في تمامه وإن خيروا في الجهد أدرك منهم طيب أخبار، فإن فعل الشرط فيه ماض، والجواب وهو أدرك مضارع مرفوع وهذه صورة المسألة وأما إن يسألوا الخير يعطوه فالفعلان فيه مضارعان مجزومان وليس ذلك صورة المسألة فالشيخ ولي الدين هو الذي سهى في اعتراضه. قوله: " وقرئ ودت وعلى هذا يصح أن يكون شرطية " قال الشيخ سعد الدين: قد يقال إن في الصحة كلاما لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على تجد والشرطية لا تقع حالاً ولا مضافا إليه الظرف فلم يبق إلا عطفها على أذكر وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم، ولا محيص سوى جعلها حالاً بتقدير مبتدأ، أي وهي ما عملت من سوء ودت. قوله: " ولكن الحمل على الخبر أوقع " عبارة الكشاف الحمل على الابتداء وهي أحسن لأنها كما قال الشيخ سعد الدين تشعر بأنها إذا

جعلت شرطية لا تكون في موقع المبتدأ بل المفعول لأن عملت لم تشتغل بضميره بل بقي مسلطا عليه. قوله: " كرره للتوكيد والتذكير "، قال الشيخ سعد الدين: الأحسن ما قيل أن ذكره أولاً للمنع عن موالاة الكافرين وثانيا للحث على عمل الخير والمنع عن عمل السوء. قوله: " إشارة إلى أنه تعالى إنما نهاهم إلى آخره " قال الطيبي: فهو على الأول تتميم وعلى الثاني تكميل كمل به ليجمع بين صفتي القهر والرحمة تحريضا على الإنابة. قوله: " المحبة ميل النفس " إلى آخره. قال الغزالي في الإحياء: الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء المستلذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقا والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب ماذا قوي سمي مقتا ولا تظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال: إن الله سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ، بل جنس سادس مظنته القلب، والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني المدركة بالفعل أعظم من جمال الصور الظاهرة للإبصار فيكون لا محالة لذة القلوب مما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله لا من قعد به القصور في درجة البهائم في يجز إدراك الحواس

أصلا، وقال الطيبي: فسر المتكلمون محبة العبد لله بأنها محبة طاعته وخدمته أو ثوابه أو إحسانه وأما العارفون فقد قالوا العبد يحب الله لذاته وأما حب طاعته وثوابه فهي درجة نازلة والقول الأول ضعيف، وذلك أنه لا يمكن أن يقال في كل شيء أنه إنما كان محبوبا لأجل معنى أخر فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبا لذاته، فكما يعلم أن اللذة محبوبة لذاتها كذلك يعلم أن الكمال محبوب لذاته وأكمل الكمالات لله تعالى فيقتضي كونه محبوبا لذاته من ذاته، وقال صاحب الفرائد، بعدما حكى نحواً من هذا المعنى وهذا أبلغ أنواع الحب، فعلى هذا حب العبد لله تعالى حقيقة بل المحبة الحقيقية مستحقة لله تعالى إذ كل ما يحب من المخلوقات فإنما يحب بخصوص أثر من آثار وجوده قال الطيبي: ويقال لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآيات تعلق قلب العبد بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت ثم لما ثني بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير كرر فيها {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، ونبه على وجوب استئصال تلك الموالاة، بقوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} الآية، وأكد ذلك بالوعيد الشديد وذلك قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} الآية، زاد ذلك التعلق أقصى غايته واستأنف. قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} كأنه تعالى يشير إلى أن عبيدي لم يتمالكوا أنفسهم عند ذلك بأن لا يسألوا بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة ربنا، فقيل لهم: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود. قوله: " جواب الأمر "، هو رأى عزى للخليل وأكثر المتأخرين

قوله: "وقيل: في أقوام"،

على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر. قوله: " وقيل: نزلت في وفد نجران " إلى آخره. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير، عن محمد بن جعفر ابن الزبير. قوله: " وقيل: في أقوام "، إلى آخره. أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن، مرسلا. قوله: " أو بدل من الأولين "، قال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون بدلاً من آدم، لأنه ليس بذرية، ورده أبو حيان، بأن الراغب، قال: الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل كقوله: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي آباءهم. قوله: " فينتصب به إذ " أي بسميع على التنازع. قاله الشيخ سعد الدين فاندفع قول أبي حيان: إن النصب بسميع لا يجوز، للفصل بينه وبين إذ بعليم. إن كان خيراً وهو أجنبي، وكذا إن كان صفة لأن اسم الفاعل إذ وصف قبل: أخذ معموله لا يجوز إذ ذاك أن يعمل، وإن كان الحلبي رده أيضا بأن هذا القدر غير مانع، لأنه يتسع في الظرف وعديله مالا يتسع في غيره، ولذلك يقوم على ما في حيز ال الموصولة، وما في حيز أن المصدرية. قوله: " بفتح الحاء المهملة والنون المشددة " وهي تأنيث اسم عبراني

قوله: " وكان يحيى وعيسى ابني خالة من الأب " قال الطيبي: قيل: كلام المصنف يدل على أن إيشاع ومريم بنتا عمران، لكن مريم من حنة، وإيشاع من غيرها لما ذكر أن حنة كانت عاقرا/ إلى أن عجزت وإيشاع كانت أكبر سنا من مريم ثم قال بعيد هذا: فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فتكون إيشاع أخت مريم وخالتها. قيل في العذر لا يبعد أن عمران تزوج أم حنة فولدت إيشاع وكانت حنة ربيبته، ثم تزوج حنة بعد ذلك بناء على أن ذلك كان جائزا في شريعتهم، فولدت مريم فتكون إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها أيضا، وهو يوافق قوله بعد هذا رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة فذكر أن حنة أخت إيشاع، فتكون إيشاع وحنة أختين من الأم " قال الطيبي: والظاهر ما روى محي السنة في المعالم، أن زكريا وعمران زوجا أختين، وكانت إيشاع بنت فاقود أم يحيى عن زكريا، وحنة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وعليه ينطبق قول المصنف أولا: وروي أنها أي: حنة كانت عاقرا. إلى قوله: فحملت بمريم، وقوله. ثانيا: أنا أحق بها، عندي خالتها، وثالثه رغب في أن يكون له في إيشاع ولد مثل ولد أختها، إلى قوله: فإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك. وأما الحديث، رواه الشيخان " فإذا أنا يا بني الخالة، عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا " وما ذكره المصنف هنا فكأن يحيى وعيسى ابني الخالة فتأويله ما ذكره صاحب التقريب أن يحيى وأم عيسى وهي مريم: " ولدا خالة "، لأن إيشاع أم يحيى، وحنة أم مريم أختان. والغرض، أنه كان بين يحيى وعيسى هذه الجهة من القرابة وكان عيسى ابن بنت خالة يحيى، فأطلق عليه ابن الخالة لأن ابن بنت الخالة كابن الخالة إطلاقا مجازيا عرفيا وكثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، ولكونه مربوبا عندها. هذا وجه التوفيق. انتهى.

قوله: "ونصبه على الحال"

قوله: " روي أنها كانت عجوزاً عاقراً "، إلى آخره أخرجه ابن جرير، عن ابن إسحاق، بتمامه، وعن عكرمة، نحوه " قوله: وكان هذا النذر مشروعا في عهدهم في الغلمان " أخرجه ابن جرير، عن قتادة والربيع قوله: " فلعلها بنت الأمر على التقدير " قال الطيبي: أي على تقدير العرف والعادة، أي إن كان ذكرا كان محرراً. قوله: " ونصبه على الحال "، لم يبين مماذا. وقد قيل: إنه حال في " ما " وهو الأرجح، فالعامل نذرت، وقيل: من الضمير الذي في الجار والمجرور فالعامل استقر. قال أبو حيان: ويحتمل أن ينصب على المصدر، أي تحريرا لأنه في معنى نذرت قال: وعلى الحالية، هي مقدرة إن كان بمعنى مخلصا للعبادة ومصاحبة إن كان بمعنى معتقا. قوله: " الضمير لما في بطنها، وتأنيثه لأنه كان أثنى، وجاز انتصاب انثى حالاً عنه؛ لأن تأنيثها علم منه " قال أبو حيان: هذا يؤول إلى أن أنثى حال مؤكدة، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال على أن تكون الحال مؤكدة. وقال السفاقسي مراده أن الأصل تذكير الضمير باعتبار لفظ ما، أي وضعت ما في بطني أنثى، ولكن أنث لتناسب الحال المؤنثة، والضمير في الأصل للمذكر، وليس مراده من تأنيثة لتأنيث الحال عود الضمير على الحال حتى يلزمه أن تكون الحال مؤكدة. قوله: " وإنما قالته تحسرا أو تحزنا " إلى آخره، جواب سؤال مقدر، أي إذا كان علم اللطيف الخبير محيطا بما وضعت، فأي فائدة في قولها: إني وضعتها أنثى؟ لأن الإخبار إما للفائدة أو لازمها.

والجواب أن ذاك مقتضى الظاهر، وربما تجعل الإخبار ذريعة إلى الامتنان أو التهديد أو إلى إظهار التحسر وهذا منه. قوله: " وهو استئناف من الله تعظيما لموضوعها، أي ولدها الذي وضعته، وتجهيلا لها بشأنها ". معناه كما قال الطيبي: أنه تعالى يحكى حالها لغيرها، وشكى عنها تحسرها وحزنها على الموضوع. المعنى: اسمعوا قولها، وانظروا إلى تحسرها وحزنها تحقيراً للمولود العظيم الشأن فاحكموا بجهلها بذلك. قوله: " على أنه من كلامها تسلية " إلى آخره، فعلى هذا لا يكون قوله: " والله أعلم بما وضعت " تجهيلا لأم مريم، بل نفيا لعلمها، لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال، ولا يعرف أسرار الله في كل شيء. قوله: (بيان لقوله: " والله أعلم ") إلى آخره. قال الطيبي: وذلك أن قوله: " والله أعلم بما وضعت " وارد على تفخيم المولود وفضله على الذكر. يعني أنه قد تعورف بين الناس فضل الذكر على الأنثى، والله سبحانه هو الذي اختص بعلمه الشامل فضل هذه الأنثى على الذكر، فكان قوله. " وليس الذكر كالأنثى " بيانا لما اشتمل عليه الكلام الأول من التعظيم. قوله: " واللام فيهما للعهد " قال الطيبي: أما التي في الأنثى فمعهود بقولها: " إني وضعتها أنثى " وأما التي في الذكر فبقولها: إني نذرت لك ما في بطني محرراً: لأن المحرر لا يكون إلا غلاما، أو طلبت أن ترزق ذكراً.

قوله: "ما من مولود".

قوله: " وما بينهما " اعتراض. قال الطيبي: هذا إنما يصح على قراءة وضعت على الغيبة، لأنه كلام الله وأما على التكلم فلا، لأنه حينئذ من كلام أم مريم. وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: فعلى قراءة الغيبة، أو الخطاب يكون المعترضتان من كلام الله من غير حكاية، وما فيه الاعتراض أعني " إني وضعتها " " وإني سميتها " من كلام امرأة عمران، فكيف ذلك؟ قلنا: هما أيضا من كلام الله، لكن حكاية عن امرأة عمران ولا بعد في الاعتراض بكلام غير محكي بين كلامين محكيين، والحق أن هذا اعتراض في أثناء كلام واحد من متكلم واحد، وهو قوله: " قالت رب " إلى آخره. كما تقول: ضرب زيد عمراً ونعم ما فعل وبكرا وخالدا. فليتأمل. قوله: " ما من مولود ". الحديث. أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة. قال الطيبي: قوله: إلا والشيطان يسمه، كقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}. في أن الواو داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق فتفيد

الحصر على التأكيد. قوله: " ومعناه أن الشيطان يطمع " إلى آخره. تبع الزمخشري في تأويل الحديث، وأخرجه عن ظاهره والزمخشري ماش في ذلك على منهج المعتزلة، فإنهم أنكروا الحديث، وقدحوا في صحته. قال الإمام: طعن القاضي عبد الجبار في هذا الخبر، وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدليل. وذلك إن الشيطان إنما يدعوا إلى الشر من له تمييز، ولأنه لو تمكن من هذا لجاز أن يهلك الصالحين، وأيضا لما خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد النخس " لدام أثره ". قال الإمام: وبمثل هذه الوجوه لا يجوز دفع الخبر الصحيح. وقال صاحب الانتصاف: الحديث مدون في الصحيح فلا يعطله الميل إلى ترهات الفلاسفة. وقال الطيبي: لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة من دون الأنبياء، ويمكنه الله من المس مع عصمتهم من الإغواء. وقال الشيخ سعد الدين: طعن الزمخشري في صحة الحديث بمجرد أنه لم يوافق هواه، وإلا فأي امتناع في أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما يرى ويسمع وليست تلك المسة للإغواء ليدفع بأنه لا يتصور في حق المولود حين يولد.

قال: ثم أوله الزمخشري على تقدير الصحة بالمراد بالمس الطمع في إغوائه، واستثناء مريم وابنها لعصمتهما. ولما لم يخص هذا المعنى بهما عم الاستثناء لكل من يكون على صفتهما. وهذا إما تكذيب للحديث بعد تسليم صحته، وإما قول بتعليل الاستثناء والقياس عليه. قال: وليت شعري من أين ثبت تحقق طمع الشيطان ورجاءه وصدقه في أن هذا المولود محل إغوائه: ليلزمنا إخراج كل من لا سبيل له إلى إغوائه، فلعله يطمع في إغواء من سوى مريم وأمها، ولا يتمكن منه. قلت: والعجب من البيضاوي أشد فإنه تبع الزمخشري في تأويله، وقال: معناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله عصمهما. ووجه الأشدية أن الزمخشري ألحق بمريم وابنها سائر المعصومين، لأن الضرورة داعية على هذا التأويل إلى ذلك، والبيضاوي اقتصر على استثنائهما فأدى كلامه إلى أن كل من سواهما يتأثر في إغوائه، ومنهم بقية المعصومين، وهو باطل قطعا. والصواب أن الحديث على ظاهره. وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينهما حجاب، وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب، وفي بعض الطرق عن ابن عباس: " ما ولد مولود إلا وقد استهل غير المسيح " أخرجه ابن جرير. نعم، قال الشيخ سعد الدين: قد يشكل على ظاهر الحديث أن إعادة أم مريم كانت بعد الوضع، فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي يكون حين الولادة. قال والجواب أن المس ليس إلا بعد الانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة، غايته أنه عبر عنه بالمضارع لقصد الاستمرار بخلاف الوضع

قوله: "أو يسلمها"

والتسمية قوله: " فرضي بها "، قال الطيبي: فسر القبول بالرضى وذلك أن من يهدي إلى أحد شيئا يرجو منه قبول هديته بوجه حسن، فشبه النذر بالإهداء ورضوان الله عنها بالقبول. قوله: " أو يسلمها " عطف بيان على إقامتها. قوله: " للسدانة " أي خدمة بيت المقدس. قوله: " روى أن حنة لما ولدتها "، إلى آخره. قال الطيبي: بيان تسليمها، قلت: وقد أخرجه ابن جرير عن عكرمة وقتادة والسدي. قوله: " وصاحب قرابينه " هو الذي على أمر القرابين في البيت الذي ينزل فيه النار، والقربان ما يتقرب به إلى الله. قوله: " ويجوز أن يكون مصدراً على تقدير مضاف "، إنما احتاج إليه لأن القبول بالفتح اسم لما يتقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد. قوله: " أي بذي قبول حسن "، قال أبو حيان: أي ذي قبول حسن وهو الاختصاص. قوله: " مجاز عن تربيتها ". قال الطيبي أي استعاره فإن الزارع لم

يزل يتعهد زرعه بأن يسقيه عند الاحتياج ويحميه عن الآفات ويقلع ما عسى أن ينبت فيه من شوك لئلا يخنقه. وقال الشيخ سعد الدين هو بطريق الاستعارة، أو ذكر الملزوم وإرادة اللازم. قوله: " سمي به لأنه محل محاربة الشيطان " قال أبو حيان: سمي به لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه وهو مقام الإمام من المسجد قوله: " روي أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب " إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن الربيع ابن أنس. قوله: " قيل تكلمت صغيرة " قلت: قد أجمع اللذين تكلموا في المهد فبلغوا أحد عشر نفسا وقد نظمتهم فقلت: تكلم في المهد النبي محمد .... ويحيى وعيسى والخليل ومريم وميرة جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها: تزني ولا تتكلم

وماشطة في عهد فرعون طفلها .... وفي زمن الهادي المبارك تختم قوله: " وكان رزقها ينزل عليها من الجنة "، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. قوله: روى أن فاطمة أهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغيفين، الحديث، أخرجه أبو يعلي في مسنده من حديث جابر وقد سقت لفظه في كتاب المعجزات. قوله: " يستعار هنا وثم وحيث للزمان "، قال الزجاج: هنالك، في موضع نصب لأنه ظرف يقع في المكان وفي الأحوال. والمعنى: ومن الحال دعاء زكريا كما يقول من هاهنا؟ قلت: كذا ومن هنالك قلت كذا أي من ذلك الوجه ومن تلك الجهة على المجاز. قوله: " أي من جنسهم، كقولهم زيد يركب الخيل "، قال الزجاج: معناه أتاه النداء من هذا الجنس كما تقول ركب فلان في السفن أي في هذا الجنس وإنما ركب في سفينة واحدة، الشيخ سعد الدين: هو على طريقة نسبة حكم الفرد من الجنس إلى الجنس نفسه، نحو فلان يركب الخيل ويلبس الديباج وإن لم يلبس ولا يركب إلا واحدة، قلت وأوجه منه أنه من العام المراد به الخصوص. قوله: " فإن المنادي كان جبريل وحده "، أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود. قوله: " على إرادة القول "، أي إضماره، هو مذهب البصريين.

قوله: " ولأن النداء نوع منه " هو مذهب الكوفيين. قوله: " كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدة الحويدرة " ويقال الحادرة لقب الشاعر اسمه قطبة ابن أوس/ ابن محصن ابن جرول، شاعر جاهلي، وإنما لقب الحادرة بقول زبان بن سيار الغزاري له: كأنك حادرة المنكبيـ ...... ن رصعاء تنقض في حائر. قوله [والحاضر الضخم] وكان الحادر ضخم المنكبين، أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني من طريق الأصمعي عن عمه قال سمعت شيخا من بني كنانة من أهل المدينة يقول: كان حسان ابن ثابت إذا قيل له: [كأنه] تنوشدت الأشعار في موضع كذا وكذا فهل أنشدت كلمة الحويدرة: بكرت سمية غدوة فتمتع ..... وغدت غدو مفارق لم يربع قوله: " روى أنه مرفى صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت "، أخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن قتادة موقوفا

وأخرجه ابن عساكر في تاريخه على معاذ بن جبل مرفوعا. قوله: " ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة ". قال الطيبي: من على الأول للإبتداء وعلى الثاني للتبعيض. قوله: " وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال "، أي انتزع منه، يريد أن الجواب بعد انطباق معناه على معنى السؤال ينبغي أن يراعى فيه حسن المناسبة بين الألفاظ كأنه لما سأل أنه يتلقى هذه النعمة بالشكر أجيب: بأن أيتك ألا تقدر على شيء من الكلام إلا على شكري قاله الطيبي. قوله: " والإستثناء منقطع " إلى آخره. قال السفاقسي تعقب ابن الشجري في أماليه النصب على الإستثناء، قال ولكنه مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض فالأصل ألا تكلم الناس إلا رمزاً بتحريك الشفتين بلا لفظ من غير إبانة بصوت فالعامل الذي قبل إلا مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت إلا وحرفي النفي استقام الكلام تقول في نحو ما لقيت إلا زيداً لقيت وما خرج إلا زيد خرج زيد وكذا لو قلت أتيك أن تكلم الناس رمزاً استقام وليس كذلك لو قلت ليس القوم في الدار إلا زيداً أو إلا زيد ثم حذفت النفي وإلا فقلت: القوم في الدار زيداً أو زيد، لم يستقم فكذا المنقطع نحو ما خرج القوم إلا حماراً، لو قلت: خرج القوم حماراً، لم يستقم. قوله: متى ما نلتقي فردين ترجف .... روانق إليتيك وتستطارا

قال ابن الشجري في أماليه كان عمارة ابن زياد العبسي يحسد عنترة على شجاعته إلا أنه كان يظهر تحقيره ويقول لقومه إنكم قد أكثر تم من ذكره ولوددت أني لقيته خاليا حتى أريحكم منه وحتى أعلمكم أنه عبد فبلغ عنترة ما يقول عمارة فقال: أحولي تنقض أستك مدرويها .... لتقتلني فها أنا ذا عمارا متى ما نلتقي فردين ترجف .... روانف إليتيك وتستطارا وسيفي صارم قبضت عليه .... أصابع لا ترى فيها انتشارا حسام كالعقيقة فهو كمعي .... سلاحي لا أفل ولا فطارا ومطرد الكعوب أحص صدق ..... تخال سنانه في الليل نارا ستعلم أينا للموت أدنى ..... إذا دانيت بي الأسل الحرار وخيل قد دلفت بخيلي .... عليها الأسد تهتصر اهتصارا قال ابن الشجري: المذروان جانبا الإليتين المقترنان ومن كلام العرب جاء ينفض مذرويه إذا جاء يتهدد، وفردين ويروى خلوين أي خاليين من الفاعل والمفعول معا ويروى بزدين أي بارزين وترجف تضطرب والرانفة طرف الإلية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان قائما، وأراء بالروانف التثنية، لأنه ليس للا ليتين إلا راتفتان ولذلك ثني ضمير تستطارا. قال ابن الشجري: ومعنى تستطار تستخف. ويحتمل. قوله: تستطارا وجهين من الإعراب أن يكون مجزوما معطوفا على جواب الشرط وأصله تستطاران فقطت نونه للجزم والألف على هذا ضمير عائد

قوله: ومطرد الكعوب أي ليس في كعوبه اختلاف

على الروانف وعاد إليها وهي جمع ضمير تثنية لأنها من الجموع الواقعة في موقع التثنية نحو قولك وجوه للرجلين فعاد الضمير على معناها دون لفظها إذ المعنى رانفتا إليتيك كما أن معنى الوجوه من قولك حيا الله وجوهكما معنى الوجهين لأنه لا يكون لواحد أكثر من وجه كما أنه ليس للإلية إلا رانفة واحدة. الوجه الثاني أن يكون نصبا على الجواب بالواو بتقدير وأن تستطار فالألف على هذا لإطلاق القافية والتاء للخطاب وهي في الوجه الأول للتأنيث ويجوز أن تجعل التاء في هذا الوجه أيضا لتأنيث الروانف والعقيقة الشقة من البرق واللمع الضجيج. قوله: لا أفل ولا فطارا أي لا فل فيه ولا فطر والفل: الثلم. والفطر، الشق. وموضع قوله كالعقيقة رفع وصف لحسام ففي الكاف ضمير عائد على الموصوف وانتصاب أفل على الحال من المضمر في الكاف والعامل في الحال ما في الكاف من معنى التشبيه والتقدير حسام يشبه العقيقة غير منفعل ولا منفطر. قوله: ومطرد الكعوب أي ليس في كعوبه اختلاف والكعوب من الرمح العقد ما بين كل أنبوبين كعب والأحص الأملس والصدق الصلب والأسل الرماح والحرار العطاش والدليف المشي الرويد وهو فويق الدبيب وهو مشي الكتيبة وتهتصر تجتذب أقرانها. انتهى. قوله: " وإرهاصا " قال الشيخ سعد الدين: هو تأسيس النبوة بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في طريق الشام. وقال الطيبي: أي تأسيسا وإحكاما، من الرهص وهو الساق الأسفل من الجدار الأساس: ومن المجاز رهص الشيء أثبته وأسسه.

قوله: " فإن الإجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة "، قلت: دعوى الإجماع عجيب، فإن الخلاف في نبوة نسوة موجود، خصوصا مريم، فإن القول بنبوتها شهير، بل قال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات إلى ترجيحه، وقال: إن ذكرها مع الأنبياء في سورة الأنبياء قرينة قوية لذلك: " قوله: قرفها اليهود " وهو بالقاف وراء وفاء، يقال: قرفت الرجل: عبته، وهو يقرف بكذا، أي: يرمي به ويتهم. قوله: " والمراد تقرير كونه وحيا "، إلى آخره. قال الطيبي: تقريره أن مقتضى الظاهر أن يقال: ذلك من أنباء الغيب، وما سمعت هذا النبأ من أحد، ولا قرأته في كتاب لأن هذا متوهم منه، فاحتيج إلى دفع التوهم، لا المشاهدة فإنها منتفية، لاشك في انتفائها، فلا يحتاج إليه. فلم نفيت المشاهدة، وترك ذلك. وخلاصة الجواب أن المراد من نفي المشاهدة إثبات الحجة، والاحتجاج على أهل الكتاب أن يقال بطريق التقسيم الحاصر، ولاشك أن عدم السماع والقراءة محقق عند اليهود، وقد علموا ذلك علما يقينا لا ريب فيه، وإنما كانوا ينكرون الوحي. فأريد إثبات المطلوب بطريق برهاني، فقيل: طريق العلم فيما انبئكم به، إما السماع والقراءة، وإما الوحي والإلهام وإما الحضور والمشاهدة، فالأولان منتفيان عندكم، بقي الثالث. فنفى تهكما بهم، وإنما خص هذه دون الأولى للتهكم، لأنه لو نفى الأول لم يكن من التهكم في شيء لمجال الوهم فيه دونه. قوله: أو بقوله: " أيهم يكفل ". قال الشيخ سعد الدين: تعلقه بالقول لا يفيد فائدة يعتد بها. قوله: " بدل من إذ قالت الأولى ". قال الحلبي: فيه بعد لكثرة الفاصل بين البدل والمبدل منه.

قوله: في زمان متسع، كقولك: لقيته سنة كذا. أي مع أنك لم تلقه إلا في جزء من أجزاء السنة، فيكون قوله: (إذ يختصمون) إشارة إلى جميع ذلك الزمان، وكذا إذ قالت الملائكة، فكل من زمان الاختصام، وزمان البشارة على طريقة لقيته سنة كذا، قاله الطيبي. قوله: " وعيسى معرب أيسوع، معناه السيد ". قوله: أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا. إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أن الحال مجموع المعطوف والمعطوف عليه، لا أن كلا منهما مستقل بالحالية. انتهى والذي ذكره أبو حيان: أن كلا حال. فإن قلت: ما الفائدة في البشارة بكلامه كهلا، والناس في ذلك سواء؟ قلت: التبشير بحياته إلى سن الكهولة. قوله: " كلام مبتدأ " قال أبو حيان: فإن عنى أنه استئناف إخبار من الله، أو عن الله على اختلاف القرائتين فمن حيث ثبوت الواو، لابد أن يكون معطوفا على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يدعى زيادة الواو في " ويعلمه "، فحينئذ يصح ان يكون ابتداء كلام، وإن عنى أنه ليس معطوفا على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك. قال الحلبي: هذا الاعتراض غير لازم، لأنه لا يلزم من جعله كلاما مستأنفا أن يدعى زيادة الواو، لا أنه لابد من معطوف عليه، لأن

قوله: "أو عطف على يبشرك أو وجيها"

النحويين وأهل البيان نصوا على أن الواو تكون للاستئناف، بدليل أن الشعراء يأتون بها في أوائل أشعارهم من غير تقديم شيء يكون ما بعدها معطوفا عليه والأشعار مشحونة بذلك، ويسمونها الاستئناف. وقال السفاقسي: عطف الجمل على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون من الجمل الصالحة لمعمول ما تقدم، فيكون حكمها في العطف حكم المفرد في التشريك، نحو: كان زيد قائما وعمرو قاعدا. الثاني: أن تكون فعلية تقدم قبلها معمول عامل يصح أن يكون الفعل معطوفا عليه باعتبار عامله وهذا العطف إنما هو باعتبار العامل دون متعلقة من فاعل ومفعول، لاختلاف المتعلقات، كقولك: أريد أن يضرب زيد عمراً، ويكرم بكر خالداً، فعطف يكرم خاصة دون متعلقة على يضرب خاصة، ألا ترى أن معنى التشريك في الفعلين حاصل مراد دون متعلقهما. الثالث: أن يكون المراد من عطف الجملتين حصول مضمونهما خاصة، كقولك: قام زيد، وخرج عمرو، كأنك قلت: حصل قيام زيد، وخروج عمرو، ولخصته من شرح المفصل لابن الحاجب. قال السفاقسي: فيمكن أن يكون المراد بقوله كلاما مبتدأ أي مستقلا، وهو الوجه الثالث، ويكون عطف على قوله: وإذ قالت: باعتبار حصول مضمون الجملتين، ويصح أن يكون معطوفا بالمعنى الثاني على معمول القول، وهو قوله: " إن الله يبشرك "، أي قالت ويعلمه، وهو غيرما ذكر من الوجهين. انتهى. قوله: " أو عطف على يبشرك أو وجيها ". قال أبو حيان: القولان بعيدان لطول الفصل ولا يقع مثله في لسان العرب، وقال الشيخ سعد الدين: إنما يحسنان بعض الحسن على قراءة

الياء، وأما على قراءة النون فلا يحسن إلا بتقدير القول، أي إن الله يبشرك بعيسى وبقوله: نعلمه أو وجيها ومقولا فيه نعلمه. قوله: منصوب بمضمر على إرادة القول. إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: لا يتأتى هذا على عطف نعلمه على يبشرك إذ يكون التقدير إن الله يبشرك، وبقول عيسى كذا عطفا على الخبر ولا رابط إلا بتكلف عظيم. قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله وهو أرسلت، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة. قال: والأولى أن يكون على إضمار جعل، تقديره ويجعله رسولا. قوله: مضمنا معنى النطق. إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: لا يخفى إن في هذا نوع خروج عن قانون التضمين. قوله: " الضمير للكاف "، قال ابن هشام: وقع مثل ذلك في كلام غيره، ولو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت بكالأسد. قوله: " روى أنه ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ". إلى آخره، أخرجه ابن جرير عن وهب بن منبه. قوله: " عطف على رسولا "، إلى آخره. قال أبو حيان: هو عطف على (بأية) إذ الباء فيه للحال، أي وجئتكم مصحوبا بأية من ربكم ومصدقا، ومنعوا كونه معطوفا على رسولا أو وجيها، لأنه يستلزم حينئذ كون ضمير بين يدي غائبا إلا أن قد رسولاً بإضمار أرسلت.

قوله: " مقدر بإضماره "، أي بإضمار فعل دل عليه قد جئتكم: أي وجئتكم لأجل. قوله: " أو مردود على قوله: قد جئتكم بأية "، أي فيكون عطفا على (بأية)، فعلى هذا هو من عطف المفردات وعلى ما قبله من عطف الجمل أشار إليه الشيخ سعد الدين وقال: إن الأول هو التحقيق إذ لا وجه لعطف المفعول له على المفعول به إلا أن جعل (بأية) حالا، فإنه يستقيم العطف له ولمصدقا. انتهى. وقال أبو حيان: لا يستقيم ما قاله المصنف، لأن (بأية) في موضع الحال، (ولأحل) تعليل ولا يصح عطف التعليل على الحال، لأن الواو توجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر أو مفعول به أو حال أو ظرف أو تعليل أو غير ذلك. شاركه في ذلك المعطوف. قال الحلبي: ويحتمل أن يجاب بأنه أراد الرد على (بأية) من حيث/ دلالتها على عامل مقدر. قوله: " والثروب " جمع ثرب وهو سخم رقيق يغشى الكرش. قوله: " ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: " قل أمنت بالله ثم استقم " " أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، على سفيان الثقفي، أن رجلا قال: يا رسول الله مرني بأمر في

قوله: "من الحور"،

الإسلام لا أسأل أحداً عنه بعدك. قال: " قل أمنت بالله ثم استقم ". قوله: " من الحور "، قال الشيخ سعد الدين: كأنه نسب إليه، وزيادة الألف من تغييرات النسب قوله: " ومنه الحوريات " قال ابن خلدة: فقل للحواريات يبكين غيرنا .... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح قوله: " قصارون " أخرجه ابن جرير، عن أبي أرطاة. قوله: " أو الحجة أمة محمد فإنهم شهدوا على الناس "، أخرجه الفريابي بسند صحيح عن ابن عباس، وما قاله الشيخ سعد الدين في توجيه مرجوحيته من خفاء وجه الدلالة على هذا المعهود ممنوع بأن هذه الأمة لم تزل مشهورة بين الأمم بهذا الوصف كما دلت عليه الأحاديث والآثار. قوله: غيلة، هي بالكسر النوع من الإغتيال وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله. قوله: " والمكر من حيث إنه في الأصل "، إلى آخره، ذهبت طائفة إلى أن اللفظ ليس بمتشابه وإن المكر عبارة عن التدبير المحكوم الكامل ثم اختص بالتدبير في إيصال الشر خفية وذلك غير ممتنع.

قوله: "أي متوفي أجلك"

قوله: " أي متوفي أجلك "، إلى آخره. قال الطيبي: أي قوله: (إني متوفيك) بمعنى مميتك كناية تلويحية عن العصمة لأن التوفي لازم لتأخيره إلى أجل كتب الله له وتأخيره ذلك لازم لإماته الله إياه حتف أنفه وهو لازم لعصمته من أن يقتله الكفار. قوله: " توفيت مالي " قال الطيبي: ما موصولة، أي الذي لي. قوله: " روي أنه رفع نائما " أخرجه ابن جرير عن الربيع. قوله: " وقيل أماته الله سبع ساعات "، أخرجه ابن جرير عن ابن إسحاق قال: النصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه. قوله: " يعلونهم " قال الشيخ وسعد الدين: تفسير للفوقية بأنها رتبة شرفية لا مكانية. قوله: " تفسير للحكم " قال الشيخ سعد الدين: اعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله وذلك في القيامة لا محالة فكيف يصح في تفسيره العذاب في الدنيا؟ وأجيب بوجوه: الأول أن المقصود التأبيد وعدم الإنقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة كما في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}. الثاني أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومها اللغوي أي الأول والآخر ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جداً. الثالث أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وكونه بعد جعل الفوقية الثانية إلى يوم القيامة لا يوجب كونه بعد ابتداء يوم القيامة وعلى هذا فتوفية الأجور أيضا تتناول نعيم الدارين ولا يخفى إن في لفظ كنتم، في قوله (فيما كنتم فيه تختلفون) بعد نبوة عن هذا المعنى وأن المعنى أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا.

قوله: "خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق التهيج"

الرابع أو العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة وهذا بعيد من اللفظ جداً إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال إن اتحاد الكل لا يلزم أن يكون باتحاد كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعله به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة. قوله: " جملة مفسرة للتمثيل "، إلى آخره، قال الطيبي أي أنها بيان لما يدل على وجه التشبيه بأخذ الزبدة والخلاصة التي يعطيها التركيب وهي كونه وجد من غير أب. قوله: " خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق التهيج "، قال الطيبي: في هذا الأسلوب فائدتان. إحداهما أنه صلوات الله عليه وسلامه إذا سمع مثل هذا الخطاب تحرك منه الأريحية فيزيد في الثبات على اليقين، وثانيهما أن السماع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع عما يورث الإمتراء لأنه صلوات الله وسلامه لجلالته إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره، وإلى هذين المعنيين الإشارة بقوله: لزيادة الثبات وأن يكون لطفا لغيره. قوله: " أي من البينات الموجبة للعلم " قال الطيبي: أي اللام في العلم للعهد وهو تلخيص الدليل الموجب، لأن عيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق من مخلوقاته وليس بابن له سبحانه ولا تفاوت بين عيسى وبين آدم المخلوق من التراب المكون بكلمة التسخير ويدل على أن البينة الموجبة للعلم ذلك قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يعني إذا عاندوا الحق بعد ذلك لم يبق إلا الدعوة إلى الملاعنة

وتعجيزهم بالمباهلة التي تستأصلهم من سنيحهم. فقوله: الحق، وقوله: العلم، يعبران عن تلخيص الدليل. قوله: " من قولهم بهلت الناقة إذا ترتكتها بلا صرار " هو خيط يشد فوق حلمة الناقة لئلا يرضعها فصيلها. قوله: " روي إنهم دعوا إلى المباهلة " إلى آخره. أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طرق عن ابن عباس وغيره مفرقا. قوله: " بالفصل في أمر صاحبكم "، قال الطيبي: يعني به ما يشير إليه قوله تعالى: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي فصل بينكم وبين اليهود حيث قلتم عيسى ابن الله وثالث ثلاثة، وقالوا: هو ساحر كذاب، وقول الحق هو عيسى. قوله: " فإن أبيتم إلا إلف دينكم "، قال الطيبي: الاستثناء مفرغ لأن في أبى معنى النفي، يعني إن لم تقبلوا دين الإسلام ولم ترغبوا في شيء إلا إلف دينكم. قوله: " فوادعوا الرجل " في النهاية: الموادعة المتاركة وإعطاء كل واحد الآخر عهدا ألا يقاتله. قوله: " فقال أسقفهم " هو اسم سرياني لرؤساء النصارى وعلمائهم.

قوله: "أي أنتم هؤلاء الحمقى"

قوله: " روي أنه لما نزلت: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} الحديث " أخرجه الترمذي وحسنه، من حديث عدي بن حاتم. قوله: " تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم وزعم كل فريق أنه منهم وترافعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت " أخرجه ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس. قوله: " أي أنتم هؤلاء الحمقى "، قال الطيبي: يعني قصد باسم الإشارة وهو " هؤلاء " تحقير شأنهم وتركيك عقولهم. قوله: " جادلتم فيما لكم به علم مما وجدتموه في التوراة والإنجيل " قال الإمام: فيما لكم به علم، لم يصقد بالعلم حقيقته. وإنما أراد: هب إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه فيكف تحاجون فيما لا علم لكم به ألبتة. قوله: " وقيل هؤلاء بمعنى الذين " هو مذهب الكوفيين. قوله: " ها أنتم، أصله أأنتم " إلى آخره. قال أبو حيان: لا يحسن لأن إبدال همزة الاستفهام هاء لم يسمع، لا يحفظ من كلامهم هتضرب زيداً بمعنى أتضرب زيداً إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة منها وهمزة أنتم لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء.

قوله: " والله يعلم علم ما حاججتم فيه " الطيبى فإن قلت لم زيد (علم)؟ قلت: ليس الكلام في التهديد وأن الله يعلم محاجتهم فيجازيهم على عنادهم بل في إزالة الجهل وبيان حقيقة المجادلة أو بطلانها ولذلك أتبع ذلك بقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} الآية. قوله: " وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام " الذي في الكشاف إن المراد من قوله مسلما أنه عليه السلام كان على ملة الإسلام أي التوحيد. قال الطيبي: وينصره قوله: " وما كان من المشركين ". قوله: " كلابس ثوبي زور " أوله " المتشبع بما لم يعط " والحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة. قوله: " وقيل اثنى عشر من أحبار خيبر " إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن السدي. قوله: " متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد "، إلى آخره، قال ابن المنير فيه إشكال لوقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام للإنكار إيجاب، ويمكن أن يقال روعيت صورة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد فيه، وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم إلى

أخره، أخرجه ابن جرير عن ابن جريج. قوله: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال عند نزولها " كذب أعداء الله " ما من شيء في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤاداة إلى البر والفاجر " أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير، مرسلا، قال الشيخ سعد الدين: قوله تحت قدمي أي منسوخ متروك. وقال الطيبي. مثل لإبطال الشيء. قوله: " وعموم المتقين ناب عن الراجع الجزاء إلى " من "، قال الشيخ جمال الدين ابن هشام الظاهر إنه لا عموم فيها وإن المتقين متساوون لمن تقدم ذكره، وإنما الجواب محذوف تقديره يحبه الله. قوله: " قيل إنها نزلت في أحبار حرفوا التوراة وبدلوا نعمت محمد - صلى الله عليه وسلم - " أخرجه ابن جرير عن عكرمة. قوله: " وقيل نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به " أخرجه ابن جرير عن مجاهد والشعبي، وأخرجه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن أبي أوفى " أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف والله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين " فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية.

قوله: "يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف

قوله: " وقيل في ترافع كان بين أشعث بن قيس ويهودي في أرض وتوجه الحلف على اليهودي " أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث ابن مسعود. قوله: " يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف " قال الطيبي: أي يفتلون الألسنة في القراءة لتصير الصحيحة محرفا ويحسب المسلمون أن المحرف من التوراة فيلتبس عليه الأمر. الأساس فتلته صرفته فانفتل. قوله: " أو يعطفونها بشبه الكتاب " الطيبي. قال صاحب المغرب: استعطف ناقته أي عطفها بأن جذب زمامها ليميل رأسها. والمراد بها الإيهام في الكلام أي كانوا يوهمون المسلمين أن ذلك من نفس الكتاب، ومن ثم قال بشبه الكتاب والضمير في " لتحسبوه " راجع إلى هذا المضاف المحذوف، والفرق أنهم على الأول كانوا يتركون النص ويقرون ما بدلوا به. قوله: (" وقيل إن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " فنزلت) أخرجه ابن

إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس. تنبيه: قول المصنف في سياق الحديث: فقال: معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر بغير عبادة الله، قال الزمخشري فيما نقله الطيبي: نأمر بعبادة غير الله أحسن طباقا لما سبق في المتن لأن الكلام لم يقع في نفيهم عن أنفسهم الأمر بغير عبادة الله بل بعبادة الله ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أن نعبد غير الله " ولم يقل أن نفعل غير عبادة الله. قال الطيبي: والحديث مروي في معالم التنزيل للبغوي، بلفظ، معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله قلت: ولفظ الكتب التي خرجته منها فقال معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله. ثم قال الطيبي: والزمخشري وجد الرواية كما ذكرها فلم تطوع له نفسه لفصاحته أن يقبله لنبوء المقام عنه فذكر ما ذكر وكان على ما ذكر لله دره قال ولناصر الرواية الأخرى أن يقول: إن قولهم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا يحتمل أنهم توهموا الشركة في العبادة بين الله وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنفى ذلك على الوجه الأبلغ أي معاذ الله أن نأمر بغير عبادة الله يعني أمري مقصور بالأمر بعبادة الله لا يتجاوز إلى غير عبادته فكيف أمر بعبادتي؟. قوله: " وقيل قال رجل: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ " إلى آخره. أخرجه عبد ابن حميد في تفسيره عن الحسن، قال: بلغني، فذكره.

قوله: "وتكون (لا) مزيدة"

قوله: " كالجماني " أي وافر الجمة. قوله: " والرقباني " أي غليظ الرقبة. قوله: " وتكون (لا) مزيدة " أي لا مؤسسة لأنه يصير المعنى حينئذ: ما كان له ألا يأمركم/ أن تتخذوا فيكون له الأمر بالإتخاذ وهو فاسد. قوله: " دليل على أن الخطاب للمسلمين " إلى آخره. قال الطيبي: يعني هذه الفاصلة ترجح قول من قال: إن الآية نزلت فيهم لا في أبي رافع والسيد. قال ويجوز أن يقال للنصرانيين أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون أي منقادون مستعدون لقبول الدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا. قوله: " وسماهم ربيين تهكما بهم ". قال الحلبي: هذا بعيد جداً إذ لا قرينة تبين ذلك. قوله: " موطنة " من وطؤ الموضع صار وطيئا ووطأته أنا توطئة فهذه اللام كأنها وطأت طريق جواب القسم أي سهلت فهم الجواب على السامع. قوله: " وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط "، قال أبو حيان: في جعل ما شرطية خدش لطيف، وذلك لأنه إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفا لدلالة جواب القسم عليه والمحذوف لابد وأن يكون من جنس المثبت ومتى قدر الجواب هنا من جنس جواب القسم لم يجز، لأنه تعد وجملة الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط إذ ضمير به عائد على الرسول لا على ما، وإن قدر من غير جنسه لم يجز. قال: وقوله: (لتؤمنن) ساد مسد الجوابيين مخالف لما نصوا عليه من أن جواب الشرط محذوف إلا إن عني من حيث تفسير المعنى لا تفسير

قوله: "وتحتمل الخبرية"

الإعراب انتهى. وقال الحلبي في كلام المصنف نظر من حيث إن لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط وتأتي غالبا مع أن. أما مع الموصول فلا، فلو جوز في اللام أن تكون موطنة وأن تكون للإبتداء ثم ذكر في " ما " الوجهين من حملنا كل واحد على ما يليق به. قوله: " وتحتمل الخبرية " أي الموصولة فهي مبتدأ والعائد محذوف أي أتيتكموه والخبر محذوف أي يوقنون به. قاله الشيخ سعد الدين. قوله: " لأجل ايتائي " إلى آخره. قال أبو حيان: ظاهره أن اللام متعلقة بقوله: (لتؤمنن به)، وهو ممنوع، لأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر كلامه، أن اللام متعلقة بقوله: (لتؤمن). وليس كذلك، بل هو بيان للمعنى، وأما بحسب اللفظ فمتعلق بأقسم المحذوف صرح بهذا في الكشاف، في قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ}. قوله: " ثم مجيء رسول مصدق " قال الطيبي: الحاصل أن أخذ الميثاق وارد على شيء له موجبان، أحدهما قوله: " لما أتيتكم من كتاب "، أي إنكم أهل كتاب وعلم، تعرفون أمارات النبوة وشواهد على صدق من ادعاها، لاسيما وذكره مسطور في كتابكم. وثانيهما: قوله: " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ليؤمنن به " وتقريره أن يقال: أن أصوله موافقة لأصولكم في التوحيد ومع هذا هو مصدق للتوراة والإنجيل، وإنهما من عند الله فعلى هذا قوله: لأجل أني آتيتكم تعليل لقوله: "

قوله: "فحذف إحدى الميمات"

لتؤمنن به " لا لأخذ الميثاق فيجتمع عليه القسم والسببان للتوكيد. قوله: " ولما بمعنى حين "، قال أبو حيان: هو خلاف مذهب سيبويه، ولم يقدر المصنف جوابا (لما) وقدره الزمخشري، وجب عليكم الإيمان به ونصرته. قوله: " أو لمن أجل ما أتيتكم "، قال أبو حيان: يلزم على هذا أن تكون اللام في (لما) زائدة لا موطئة لأن الموطئة لا تدخل على حروف الجر إنما تدخل على أدوات الشرط. قوله: " فحذف إحدى الميمات "، قال ابن جني: هي الأولى قال الحلبي: وفيه نظر لأن الثقل إنما حصل بعدها ولذا كان الصحيح في نظائره إنما هو حذف الثواني وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوف هي الثانية لضعفها لكونها بدلا وحصول التكرير بها. قوله: " كعبر وعبر "، يقال: ناقة عبر أسفار وعبر أسفار وهي المعدة للأسفار. قال الشيخ سعد الدين: وكذا جمل عبر أسفار وجمال عبر أسفار يستوي في ذلك الواحد والجمع والمؤنث مثل الفلك: الذي لا يزال يسافر عليها. قوله: " جمع أصار " هو حبل قصير يعقد به أسفل الجنادي " الوتد ". قوله: " عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار أو محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون "، قال ابن هشام في المغنى: الأول هو مذهب سيبويه والجمهور، وجزم به الزمخشري في

مواضع وجوز هنا هذا الوجه الثاني ويضعفه ما فيه من التكلف وأنه غير مطرد، أما الأول، فلدعوى حذف الجملة، فإن قوبل بتقديم بعض المعطوفان، فقد يقال: إنه أسهل منه لأن التجوز فيه على قولهم أقل لفظا مع أن في هذا التجوز تنبيها على أصالة شيء في شيء، أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني فلأنه غير ممكن في نحو {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وتعقبه الشيخ شمس الدين ابن الصائغ في حاشيته على المغني فيقول: أي مانع من تقدير الأمد بر للموجودات " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت "، على الاستفهام التقديري المقصود به تقدير ثبوت الصانع والمعنى أيبتغي المدبر فلا أحد قائم على كل نفس بما كسبت لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو هو، وقال البدر ابن الدماميني في حاشية المغني، لا نسلم عدم الإمكان، يجوز أن يقدر أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوجدوه، والهمزة للإنكار التوبيخي. انتهى. قوله: " وتقديم المفعول، لأنه المقصود بالإنكار "، وقال الطيبي: يعني أن المقام يقتضي إنكار المعبود من دون الله، ليكون الدين كله لله، بدليل قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فوجب لذلك التقديم، وقال أبو حيان: لا تحقيق فيما ذكره الزمخشري، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات فالذي أنكر انما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله وإنما جاز تقديم المفعول من باب الاتساع ولشبه يبغون بالفاصلة. قال الحلبي، بعد إيراده وأين المعنى من المعنى.

قوله: "واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام"

قوله: " أو مخلصون في عبادته "، قال الشيخ سعد الدين: تفسير للإسلام المعدي باللام مع التقديم. قوله: " واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام ". إلى آخره. قال الطيبي: الذي عليه النظم أن الإسلام هو التوحيد والتعريف فيه للعهد المجازي التقديري، وكان مشتملا على الإيمان بالله وكتبه ورسله مقيداً بالاستسلام فينبغي أن يحمل الإسلام على ذلك ولأن دينا تمييز وتبيين للإسلام والدين مشتمل على التصديق والأعمال الصالحة والإسلام كذلك لأن المبين لا يكون على خلاف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وتعريف الخبير ينفي غير الإسلام أن يكون دينا، كما أن عدم القبول فيما نحن بصدده ينفيه، وإن لتأكد الإثبات كما أن لن لتأكيد النفي، فحق لذلك قول السلف الصالح: الراغب في الآية قولان: أحدهما أن الإسلام ههنا الاستسلام إلى الله وتفويض الأمر إليه سبحانه وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان وفي كل شريعة، والدين في اللغة الطاعة وفي التعارف وضع إلهي يتساق به الناس إلى النعيم الدائم. فبين تعالى أن من تحرى طاعته من غير استسلام له على ما يأمر به ويصرفه فيه فلن يقبل منه شيء من أعماله، والثاني أن المراد بالإسلام شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فبين أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة لله من غير متابعته فغير مقبول منه. وهذا الوجه داخل في الأول لأنه علم من الإسلام الانقياد لأوامر الله من صحة نبوته وظهر صدقه.

قوله: " وشهدوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل " قال الطيبي: إذ لا يجوز أن يكون معطوفا على " كفروا "، لأنه لا يساعده المعنى، وقال الشيخ سعد الدين: لأن الظاهر تقييد المعطوف عليه، وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله، وقيل: لأنهم ليسوا جامعين بين الكفر والشهادة، ورد بالمنع بل هم جامعون لكن لا يفيد تقديم الشهادة، ألا ترى أنه صح جعله حالا مع أنه أجدر بمقارنة العامل. قوله: " ونظيره فأصدق وأكن "، قال الحلبي: وجه تنظيره بالآية توهم وجود ما يسوغ العطف عليه في الجملة كذا يقول النحاة جزم على التوهم أي لسقوط الفاء، إذ لو سقطت لا يجزم في وجوب التحضيض، وكذا يقولون: توهم وجود فجر، وفي العبارة- بالنسبة إلى القرآن- سوء أدب ولكنهم لم يقصدوا ذلك حاش لله، وكان تنظيره بغير ذلك أولى. كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} إذ هو في قوة إن الذين صدقوا وأقرضوا قال: وظاهر عبارته. أن الأول يؤل لأجل الثاني، وليس بظاهر، بل ينبغي تأويل الثاني باسم ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله، بأن يقدر معه أن المصدرية، وأن شهدوا أي وشهادتهم. ولهذا تأولوا: " للبس عباءة وتقر عيني " إذ التقدير: وقرة عيني، وإلى هذا ذهب أبو البقاء فقال: التقدير بعد أن آمنوا وأن شهدوا. انتهى. وكذا قال الراغب: تقديره بعد إيمانهم وأن شهدوا فيكون أن مقدرا، نحو قولها: للبس عباءة وتقر عيني، لكن في الفعل أظهر لانتصاب تقر. قول: " وأصلحوا ما أفسدوا ".

قال الشيخ سعد الدين: يعني أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف. بل لابد من تدارك لما أخلوا به من الحقوق على أن أصلح متعد محذوف الفعل أو من دخول في الصلاح في الأمر الظاهر والباطن على أنه لازم من قبيل أصبحوا، دخلوا في الصباح. قال الطيبي: هذا الثاني أبلغ، لأنه ن باب قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}. قوله: " قيل إنها نزلت في الحارث بن سويد " إلى آخره. أخرجه النسائي، وابن حبان، والحاكم عن ابن عباس. قال الطيبي: الجلاس. قال الزمخشري: بالتخفيف، وقيل:

قوله: "ريب المنون"

بالتشديد. قوله: " ريب المنون "، حوادث الدهر. قوله: " فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها ". قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المراد أنهم يتوبون ولا تقبل توبتهم، بل هم من قبيل من لا يحصل له قبول التوبة، بناء على عدم التوفيق للتوبة، فهو من قبيل الكناية دون المجاز، حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم. قوله: " لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء هنا للإشعار به ". قال الطيبي: حاصل السؤال أن الآيتين سواء في صحة إدخار الفاء لتصور السببية، وحاصل الجواب الفرق وذلك أن المرتد قد يرجى منه الرجوع إلى الإيمان، فلا يترتب عليه عدم التوبة، بخلاف الميت على الكفر، نعوذ بالله، فإن عدم قبول الفدية مترتب على الموت حالة الكفر لا محالة، والحاصل منع السببية في الأولى لجواز تخلف الثاني عن الأول وتقريره أن التي عريت عن الفاء واردة على الكناية وجعل الموصولة مع صلتها ذريعة إلى تحقيق الخبر. كقوله: (إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول) قوله: " والتي حلت بها موجبة، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} والفرق أن الصلة على القول الأول منبهة على تحقيق الخبر ملوحة إليه فتكون كالأمارة، فإن الكفر بعد الإيمان والتمادي عليه عناد وليس بموجب لعدم قبول التوبة فحقق الخبر للتغليظ بخلاف الموت على الكفر فإنه موجب للدمار والهلاك ألبتة فإخلاء الفاء ثمة وإدخالها هنا لذلك. قوله: " على البدل من " ملء " أو الخبر لمحذوف "، قال الشيخ سعد الدين: لابد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه وجعله خبر محذوف إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة أو حالا ولا يخلوا عن ضعف. قوله: " ولو افتدى به، محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا " قال ابن المنير: هذه الواو للمصاحبة تستدعي شرطا آخر يعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة أن يكون المنطوق به منبها على ما سكت عنه بالأولى كقولك: أكرم زيداً ولو أساء، تقديره: أكرم زيدا إن أحسن وإن أساء، كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وهنا ولو افتدى لا يقتضي إضمار محذوف ينبه المذكور عليه، لأن افتداءهم بملء الأرض ذهبا أجدر بقبول الفدية فلذلك قدر الزمخشري فدية حتى يجعل ملء الأرض ذهبا فدية خالصة أولى من أصل الفدية. وأما تطبيق الآية عليه فعسير، وغايته أن قبول الفدية بملء الأرض ذهبا بأن يؤخذ قهراً كأخذ الدية، وتارة يقول المفتدى: أنا أفعل هذا ولا يفي به، وتارة يقول ذلك والفدية عتيدة

وتسليمها لمن يؤمل/ قبولها منه، فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وهو أن يبذله محققا، ونظيره {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فإذا لم يقبل هذا فلأن لا يقبل قوله: أبذل أو أقدر عليه. وما جرى مجراه أولى فتكون الواو على حالها. وكقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} مصرح به، والمراد به لا خلاص لهم من الوعيد، وإلا فقد علم أنهم لا يقدرون يومئذ على فلس. كما تقول: لا أبيعك هذا بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي، وهذا من السهل الممتنع، وقال أبو حيان- في تقدير المصنف-: هذا المعنى، ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله، والذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب، لأن حالة الافتداء هي حالة لا يمتن فيها المفتدى على المفتدي منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن لو تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله: أعطوا السائل لو جاء على فرس، ورد السائل ولو بظلف محرف كان هذه الأشياء ممالا ينبغي أن يؤتى به لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطي وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه فكان يناسب ألا يرد السائل وكذلك حالة الفداء تناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لكنه لا يقبل ونظيره {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال

قوله: "أي لن تبلغوا حقيق البر"

حتى في حالة صدقهم وفي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها. ولو هنا، لتعميم النفي والتأكيد له. انتهى. الطيبي: في تقرير كلام المصنف، حاصلة أن الكلام وارد على اللفظ وعلى المعنى معا فيجعل ملء الأرض ذهبا عين الفدية فيعتبر اللفظ بحسب عود الضمير في به والمعنى بحسب وقوعه موقعه وإفادة المبالغة المقصودة فكأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. قوله: " أو المراد، ولو افتدى بمثله "، إلى آخره. قال الطيبي: لابد من تقدير كلام ليستقيم المعنى وهو أن يقال ولو افتدى به وبمثله، وقال أبو حيان: لا حاجة إلى تقدير مثل في قوله ولو افتدى به وكأن الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدي به فاحتاج إلى إضمار " مثل " حتى يغابر بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدي به. وليس كذلك، لأن ذلك على سبيل الفرض والتقدير، وكذا قال السفاقسي: الحق أنه لا حاجة إلى ما ذكر من التقدير. قوله: " أي لن تبلغوا حقيق البر "، قال الشيخ سعد الدين: يريد أن اللام للجنس والحقيقة، ومعنى نيله: الوصول إليه والإتصاف به أو للعوض عن تعريف الإضافة فيقع على نوع من الجنس ومعنى نيله إصابته ووجدانه. قوله: " روي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال يا رسول الله إن أحب أموالي إلى بيرحا "، الحديث أخرجه الشيخان والنسائي من حديث أنس. وبيرحا قال في النهاية: كثيرا ما يختلف فيها المحدثون،

قوله: "كل الطعام أي كل المطعومات"

فيقولون: بيرحا بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيهما والقصر وهي اسم مال وموضع بالمدينة، وقال الزمخشري في الفائق إنها فيعلى من البراح وهي الأرض الظاهرة. ونقل عنه الشيخ سعد الدين أنه قال: وشيوخ مكة يروونها بكسر الباء فإن صح، فهو إضافة إلى (رحا): اسم قبيلة، وبخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرر للمبالغة وهي مبنية على السكون فإن وصلت كسرت ونونت وربما شددت وقوله مال رائح يقال لصنعة الإنسان إذا كانت قريبة من بلده رائح أي يروح نفعه وثوابه إليه. ويروى مال رابح كقولك لابن وتامر. قوله: " وجاء زيد ابن حارثة بفرس "، الحديث أخرجه ابن المنذر عن محمد ابن المنكدر مرسلا وفيه أن الفرس يقال له سبل، ورواه ابن جرير عن عمرو بن دينار مرسلا وعن أيوب السختياني معضلا. قوله: " كل الطعام أي كل المطعومات " قال الشيخ سعد الدين لما كانت كلمة كل عند الإضافة إلى المفرد المعرف لعموم الأجزاء مثل أكلت الزمان وكان القصد هنا إلى عموم أفراد المطعوم حمل الطعام على المطعومات بدلالة اللام أو قدر مضافا وهو جمع عام بالإضافة فوقعت كلمة كل لتأكيد العموم المستفاد من اللام أو الإضافة. قوله: " وهو مصدر نعت به "، قال الشيخ سعد الدين: فإطلاقه على

المطعومات بمعنى الفاعل أو على حذف المضاف. قوله: " قيل: كان به عرق النسا " إلى آخره. أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح. وعرق النسا: بوزن العصا، عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ. قوله: " نعي عليهم "، قال الشيخ سعد الدين: من نعى عليه عقوبة شهره بها. قوله: " كالنبيط والنميط ": قال ابن هشام فيما نقلت عن خطه في بعض تعاليقه. بكة علم البلد الحرام، ومكة لغة فيه، كما قالوا: النبيط والنميط في اسم موضع بالدهناء ونحوه من الاعتقاب، أمر راتب وراتم وطين لازب ولازم وحمى مغبطه ومغمطة. قوله: " روى أنه عليه الصلاة والسلام، سئل عن أول بيت وضع للناس، فقال: (المسجد الحرام ثم بيت المقدس) وسئل كم بينهما؟ فقال: (أربعون سنة) " أخرجه الشيخان من حديث أبي ذر.

قوله: " جرهم " حي من اليمن أصهار إسماعيل عليه الصلاة والسلام. قوله: " العمالقة "، هم قوم من ولد عمليق بن لاود بن إرم بن سام بن نوح، وهم أمم تفرقوا في البلاد. قوله: " الضراح " بالضاد المعجمة، ومن رواه بالمهملة فقد صحف ذكره الطيبي: وقيل: هو أول بين بناه آدم فانطمس في الطوفان، أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة عن ابن عباس. قوله: " مبتدأ محذوف خبره "، أي منها. قال أبو حيان: أو خبر مبتدأ محذوف، أي أحدهما. قال الحلبي: وهو المختار. قوله: " وقيل عطف بيان " قاله الزمخشري: قال أبو حيان: ورد عليه لأن آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف

البيان بإجماع البصريين والكوفيين. وقال السفاقسي: يحتمل أن يكون الزمخشري أطلق عطف البيان وأراد به البدل كالجماعة تسامحا وكذا قال ابن هشام في المغني، قد يكون عبر عن البدل بعطف البيان لتأخيهما ويؤيده قوله: في، {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} إن من وجدكم عطف بيان لقوله {حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وتفسير له، وإنما يريد البدل لأن الخافض لا يعاد إلا معه، قال: وهذا إمام الصنعة سيبويه يسمي التوكيد صفة وعطف البيان صفة. قوله: " وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. قوله: " جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام، لأنه في معنى: أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله "، قال أبو حيان: ليس هذا بواضح لأن تقديره وأمن الداخل، هو مرفوع عطفا على مقام إبراهيم، وفسر بها الآيات، والجملة من قوله {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} لا موضع لها من الإعراب فتدافعا إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف يدل عليه ما بعده فيمكن التوجيه فلا يجعل قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} في معنى (وأمن داخله) إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب، وقال الحلبي: هذه مشاحة لا طائل تحتها ولا تدافع فيما ذكر لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفها عليه، قال: ثم

قوله: "أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله"

المختار أن يكون قوله مقام إبراهيم خبر مبتدأ مضمر لا كما قدروه حتى يلزم الإشكال المتقدم. قوله: " أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله " اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه الصلاة والسلام: " حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة ". هنا فوائد: الأولى هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد من حديث أنس بن مالك ولم يخرجه في المسندة. وأخرجه النسائي في سننه والحاكم في المستدرك وقال إنه صحيح على شرط مسلم والبيهقي في السنن ولفظه عند الجميع " حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وليس فيه لفظ ثلاث الذي استشهد به المصنف، قال الطيبي: فعلى هذا لا يكون من الباب وقد وقع الكلام في ذلك قديما وألف فيه الإمام أبو بكر ابن فورك، الثانية: قال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح المنهاج: في كتاب الزهد لأحمد بن حنبل في هذا الحديث زيادة لطيفة وهي: (أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن) قلت: وقد

مررت على كتاب الزهد مراراً لا تحصى فلم أجد فيه هذه الزيادة إلا أن فيه من زوائد ابنه عبد الله من طريق أخر عن أنس قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب والجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء " فالظاهر أن الزركشي أراد هذه الطريقة ونقلها من حفظه فوهم في إيرادها. الثالثة: ضل بعض القصاص، لا كثر الله منهم وقال في مجلسه ما سلم أحد من هوى ولا فلان وسمى من لا يمكن تسميته في هذا المقام وكان بعض أرباب الأحوال حاضراً، قال: فقلت له: اتقي الله. فقال: ألم يقل حبب إلي من الدنيا النساء والطيب؟ قال: فقلت: ويحك إنما قال حبب إلي ولم يقل أحببت قال: ثم خرجت على وجهي وأنا لا أعقل من الهم فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لا تهتم فقد قتلناه " قال فخرج ذلك القاص إلى بعض القرى فخرج عليه بعض قطاع الطريق فقتلوه. الرابعة: قال التيجاني: كان الأوزاعي يقول ليس حب النساء من حب الدنيا، قال: ومراده ليس من حب الدنيا المذموم، ويقال: إن الشيء قد يكون من الدنيا ويكون حبه من الآخرة لإعانته عليها، وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السر في إباحة نكاح أكثر من أربعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها وما يستحيي من ذكره ومالا يستحيي منه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء فجعل الله له نسوة ينقلن عنه من الشرع ما يرينه من أفعاله ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيي من الإفصاح بها بحضرة الرجال ليكتمل نقل الشريعة وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون بهذا النوع ومنهن عرف غالب مسائل الغسل والحيض والعدة ونحوها، قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه - صلى الله عليه وسلم - في النكاح ولا كان يحب الوطء للذة البشرية معاذ الله وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحيي هو من الإمعان في التلفظ به فأحبهن لما فيهن من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب. وأيضا فقد نقلن مالا يمكن أن ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوته ومن جده واجتهاده في العبادة ومن

أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي وما كان يشاهدها غيرهن فحصل بذلك خبر عظيم. انتهى. وقال الحكيم الترمذي، في نوادر الأصول: الأنبياء زيدوا في النكاح بفضل نبوتهم وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر ففاض في العروق التذت النفس والعروق فأثارت الشهوة وقواها. وروي عن سعيد بن المسيب أن النبيين عليهم الصلاة والسلام يفضلون بالجماع على الناس وذلك لما فيه من اللذة، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أعطيت قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح وأعطي المؤمن من قوة عشرة " فهو بالنبوة والمؤمن بإيمانه والكافر له شهوة الطبيعة فقط. قال وأما الطيب فإنه يذكي الفؤاد ويقوي القلب والجوارح والنور بين القلب والفؤاد، وأصل الطيب إنما خرج من الجنة تزود آدم منها بورقة تستر بها فتركت عليه. وروى أحمد والترمذي من حديث أبى أيوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربع من سنن المرسلين التعطر والحناء والنكاح والسواك " قال التستري في شرح الأربعين: من في هذا الحديث بمعنى في لأن هذه من الدين لا من الدنيا وإن كانت فيها والإضافة في رواية دنياكم للإيذان بأن لا علاقة له بها، وفي هذا الحديث إشارة إلى وفائه - صلى الله عليه وسلم - بأصلي الدين/ وهما التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وهما كمالا قوتيه النظرية والعملية فإن كمال الأولى بمعرفة الله تعالى والتعظيم دليل لأنه لا يتحقق بدونها والصلاة لكونها مناداة الله تعالى على

ما قال - صلى الله عليه وسلم -: " المصلي يناجي ربه " نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها، وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس نفسه وبدنه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إبدأ بنفسك ثم بمن تعول " والطيب أخص اللذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذ الأشياء بالنسبة إلى البدن مع ما يتضمن من حفظ الصحة وبقاء النسل المثمر لنظام الوجود ثم أن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال لأنهن أرق دينا وأضعف عقلا وأضيق خلقا، كما قال عليه الصلاة والسلام: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " فهو عليه الصلاة والسلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وكان صدور ذلك منه طبعا لا تكلفا كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال فإذا كانت معاملته معهن هذا فما ظنك بمعاملته مع الرجال اللذين هم أكمل عقلا وأمثل دينا وأحسن خلقا. وقوله: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " إشارة إلى أن كمال القوة النظرية أهم عنده وأشرف في نفس الأمر. وأما تأخيره فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى، وقدم الطيب على النساء لتقدم حظ النفس على حظ البدن في

قوله: "فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستطاعة بالزاد والراحلة"

الشرف، قال: واعلم أن المراد بالقوة النظرية قوة النفس الناطقة بها بما يقبل الفيض من الملأ الأعلى وبالقوة العملية قوة لها تدبر بدنها لتكمله ويستكمل بواسطته. انتهى. قوله: " قال عليه الصلاة والسلام: " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " " أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عمر، وإسحاق بن راهويه في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس، والطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث سلمان، والطبراني في معجمه الأوسط من حديث جابر، والدارقطني في سننه من حديث حاطب. قوله: " فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستطاعة بالزاد والراحلة " أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عمر والحاكم وصححه على شرط الشيخين من حديث أنس، وسعيد بن منصور في سننه وابن

جرير من مرسل الحسن. قوله: " وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيله "، قال الطيبي: أي كل ما يأتي به إلى الشيء من الأسباب فهو سبيل إليه. قوله: " قال عليه الصلاة والسلام: " من مات ولو يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " " أخرجه الترمذي وضعفه من حديث علي بلفظ " من ملك زاداً أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا " والدارمي في مسنده من حديث أبي أمامة بلفظ: " من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وتعقب عليه الحفاظ، كما بينته في مختصر كتابه المسمى باللآلئ المصنوعة، وفي النكت البديعات على الموضوعات. قوله: " وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه " إلى آخره. قال الطيبي: الذي يحتمل من الوجوه في تخصيص اسم الذات الجامع، وتقديم الخبر على المبتدأ الدلالة على أنها عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وإن في إقامة المظهر وهو قوله (البيت) مقام المضمر بعد سبقه منكراً للمبالغة في وصفه اقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب وكذا في ذكر (الناس) بعد ذكره معرفا الإشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا، وفي تذييل {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} - لأنها في المعنى تأكيد -

قوله: "طالبين لها اعوجاجا"

الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظمى، وإن مباشره مستأهل بأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضى كاملا كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما، ولهذا عقب بالآيات. قوله " ملة إبراهيم حنيفا " والمراد بها ملة الإسلام وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة. قوله: " روي أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرباب الملل " الحديث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير عن الضحاك مرسلا، وفيه أن الخمس الملل، المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس. قوله: " طالبين لها اعوجاجا "، قال ابن المنير: وفي تقديره الجار مع ضمير المفعول في قوله (تبغونها) أي تطلبون لها نقص من المعنى، والأحسن جعل (الهاء) من تبغونا مفعولا وعوجا حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس العوج قال الطيبي: وفيه نظر إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون عوجا هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلابد من تقدير الجار. قوله: " نزلت في نفر من الأوس والخزرج "، إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن زيد ابن الأسلم مرسلا، ويوم بعاث يوم مشهور وفيه

حرب بين الأوس والخزرج وبعاث بضم الموحدة أوله ومثلثة أخره وعين مهملة، وصحف من قاله بالمعجمة كما نبه عليه الأزهري وغيره موضع بالمدينة، قاله الشيخ سعد الدين وفي حاشية الطيبي بعاث اسم حصن للأوس. قوله: " وقال أتدعون الجاهلية " تحريف كما قاله الشيخ ولي الدين العراقي ولفظ الحديث (أبدعوى الجاهلية) قال في النهاية: وهو قولهم يال فلان كانوا يدعون بعضهم بعضا عند الأمر الحادث الشديد. قوله: " ومن يستمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره "، قال الطيبي: يعني إما أن يقدر هنا مضاف بأن يقال ومن يعتصم بدين الله أي يتمسك به على الاستعارة أو لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للإلتجاء إلى الله وعلى الأول {وَمَنْ يَعْتَصِمْ} معطوف على {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي كيف تكفرون والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بأن من تمسك بدين الله فقد هدي، وعلى الثاني تذييل لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} لأن مضمونه إنكم إنما تطيعونهم لما تخافون شرورهم ومكايدهم فلا تخافوهم والتجؤوا إلى الله في دفع شرورهم فلا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله كفاه شر ما يخافه. فعلى الأول ومن يعتصم جيء لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي كقوله {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ}

قوله: "فقد اهتدى لا محالة"

وعلى الثاني للحث على الإلتجاء. قوله: " فقد اهتدى لا محالة "، قال الطيبي: وذلك المجيء فعل الماضي مع قد، قال الجوهري: قد جواب، لما يفعل وإنما يصدق فقد هدي إذا وجد التوقع وهو المعتصم بالله منتظراً للهدى فإذا حصل الهدى قيل له فقد هدي ولو لم يحصل لم يقل ذلك ولهذا قال لا محالة. قوله: " حق تقواه وما يجب منها "، قال الطيبي: أي حق هنا من حق يعني وجب وثبت أي الذي ثبت ووجب ما التقاة. ومن، في منها بيان ما يجب أي اتقوا الله التقاة التي تجب وتحق له. كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} تابع فيه الزمخشري. وقد قال الطيبي: إن الزمخشري قال ذلك بناء على مذهبه أنه لا يجوز التكلف بما لا يطاق ابتداء، والذي ذكره الزجاج وغيره، إن قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} منسوخ بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} قال: ولهاتين الآيتين أسوة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فإنها ناسخة لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}.

قوله: "أي ولا تكونن على حال"

قوله: وعن ابن عباس: " هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى " إنما هو عن ابن مسعود. أخرجه عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، في تفاسيرهم، والطبراني في معجمه، والحاكم في المستدرك وصححه وأبو نعيم في الحلية، عن ابن مسعود. قال أبو نعيم: هكذا رواه الناس عنه موقوفا، وروي عنه مرفوعا. قوله: " كما في تؤدة " قال الجوهري: أتاد في مشيه، وهو افتعل من التؤدة وأصل التاء في إتأد، واو، ويقال: اتئد في أمرك أي تثبت. قوله: " أي ولا تكونن على حال " قال الشيخ سعد الدين: يعنى أن النهي راجع إلى القيد. قوله: " لقوله عليه الصلاة والسلام. (القرآن حبل الله المتين) أخرجه الترمذي من حديث علي، والحاكم وصححه من حديث ابن

مسعود. قوله: " استعار له الحبل " إلى آخره، قال الطيبي: هي استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة بالحالة بجامع ثبات الوصلة بين الجانبين، واستعير لحالة المستعار له ما يستعمل في المستعار منه من الألفاظ، فقيل: " واعتصموا بحبل الله " قال: وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان فاستعارة الحبل لعهده مصرحة أصلية تحقيقية، والقرينة إضافة الحبل إلى الله، واستعارة الاعتصام لوثوقه بالعهد وتمسكه به مصرحة تبعية تحقيقية، والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية وقد تكون الاستعارة في الحبل على طريقة التخيل أو التحقيق، ويكون الاعتصام ترشيحا لها، والقرينة إضافة الحبل إلى الله، وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية، وفي الاعتصام تخييلية؛ لأن المكنية مستلزمة التخييلية. قوله: " والضمير للحفرة أو للنار أو الشفا " قال أبو حيان: لا يحسن عوده إلا إلى الشفا، لأنه المحدث عنه. قوله: " وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه " الطيبي قيل: المضاف لا يكتسب من المضاف إليه التأنيث إلا إذا كان بعضا منه. نحو، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أو فعله نحو أعجبتني مشي هند، أو صفته نحو أعجبتني حسن هند. ولا يجوز أعجبتني غلاء هند. قوله: " من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من

قوله: "بمعنى: وكنوا أمة تأمرون"

فروض الكفاية " قال الشيخ سعد الدين: يعني أن فرض الكفاية إنما يجب على البعض من غير تعيين، كالواجب المخير بعض منهم من الأمور المعينة، قال وهذا مذهب مردود. والمختار أنه يجب على الكل، ويسقط بفعل البعض، بدليل أنه لو ترك أثم الجميع، ولا معنى للوجوب على الجميع سوى هذا، ولو وجب على بعض مبهم لكان الآثم بعضا مبهما، وهو غير معقول، بخلاف الإثم بواجب مبهم كما في الواجب المخير. والاستدلال على أنه لا يجب على الكل بعدم الوجوب على الجاهل مردود بأنه إذا ترك بالكلية فذلك الجاهل أيضا آثم، كمن وجب عليه الصلاة، وهو محدث فإن عليه تحصيل الشرط، ثم الفعل. ولهذا ذهب البعض إلى أن من للبيان: يعني أنه واجب على كل الأمة، ويسقط بفعل البعض، لحصول المقصود، انتهى. قوله: " بمعنى: وكنوا أمة تأمرون " قال الطيبي: أخرج من الكل الأمة، فيكون من باب التجريد. قوله: " والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه عطف الخاص على العام " قال ابن المنير: لكن الخير لا يعدوهما فالأولى أن يقال: ذكر الخير عاما وفضله. وفيه من العناية ما لا يخفى إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخبر، وما أرى ذلك ثابتا. قوله: " روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من خير الناس؟ قال: (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم) أخرجه أحمد وأبو يعلى من حديث درة بنت أبى لهب.

قوله: " والنهي عن المنكر واجب كله، لأن جميع ما أنكره الشرع حرام " قال الشيخ سعد الدين: فيه نظر إذ المكروه منكر يندب تركه، ولا يجب. قوله: " والأظهر أن النهي مخصوص فيه بالتفريق في الأصول دون الفروع لقوله عليه الصلاة والسلام: " اختلاف أمتي رحمة " عزاه الزركشي في الأحاديث المشهورة إلى كتاب الحجة للشيخ نصر المقدسي، ولم يذكر سنده ولا صاحبيه، وروى الطبراني والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس/ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مهما أوتيتم من كتاب الله لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة " وأخرج البيهقي في المدخل عن عمر بن عبد العزيز، قال: " ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة ". وقال الشيخ تقي الدين السبكي، في الحلبيات: هذا الحديث ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس، بأن يكون أحد قال اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعض الناس فظنه حديثا فجعله من كلام النبوة، قال: ورأيت في تعليق القاضي حسين في كتاب الشهادات، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اختلاف أمتي رحمة " قال: وفسره بعضهم باختلاف الهمم والحرف. وفي النهاية لإمام الحرمين: قال الحليمي في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اختلاف أمتي رحمة " قال: أراد بذلك اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب فحق القول في الحرف انتهى. قال السبكي: وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل

له، وأستدل على بطلانه بقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وقوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} وقوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وما أشبه ذلك من الآيات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتطاوعا ولا تختلفا " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبياءهم " وما أشبه ذلك من الأحاديث فانظر إلى القرآن العزيز كيف دل على أن

الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، فإن الاختلاف نشأ عنه كفر بعضهم واقتتالهم. وانظر كلام النبوة كيف اقتضى أن الاختلاف سبب لاختلاف القلوب، وإن كان الحديث واردا في تسوية الصفوف فالعبرة بعموم اللفظ. والذي نقطع به ولا نشك فيه أن الاتفاق خير من الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها: في الأصول، ولاشك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن. والثاني: في الآراء والحروب، ويشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتطاوعا ولا تختلفا " وكان ذلك خطابا منه - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن، ولاشك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية. والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما. والذي يظهر لنا ونكاد نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف ولا حاجة إلى قولنا يظهر ونكاد فإنه كذلك قطعا، ولكن هل نقول: الاختلاف ضلال كالقسمين الأولين، أو لا؟ كلام ابن حزم، ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي أنه مثل القسمين الأولين. وأما نحن فأنا نجوز التقليد للجاهل، ويجوز الأخذ بعض الأوقات عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص. ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: الاختلاف رحمة، فإن الرخص من الرحمة، مثاله إذا كان شخص مبتلى بسلس البول ونحوه، ولا يكاد يخلو ثوبه أو بدنه على نجاسة يسيرة، ويشق عليه التنزه عن النجاسة اليسيرة في الفرض أيضا، وهو يعتقد أن النجاسة اليسيرة غير معفو عنها لتمذهبه بمذهب من يرى ذلك، فإذا قلد من يرى العفو عنها صلى، وكان في ذلك رخصة له ورحمة وإدراك أجر كبير وهذا لا ينافي قطعا أن الاتفاق خير من الاختلاف، فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك. ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكفي في صحته أن تحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت، ما في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وإن لم يكن حديثا ويكون من كلام أحد من العلماء فمخرجه على هذا وعلى هذا

قوله: "وأهل الكتاب كفروا برسول الله

وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به. وهل نقول الاختلاف مأمور به؟ هذا يلتفت على أن المصيب واحد أو لا؟ فإن قلنا المصيب واحد، وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطئ وكذلك إذا قلنا بالأشبه كما هو قول بعض الأصوليين. وإما إذا قلنا كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن يكون اختلاف منهي عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا المصيب واحد. هذا كله إذا جعلنا الاختلاف المراد به الاختلاف في الفروع. وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى، وقد عدها الحليمي في شعب من النعم التي يطلب من العبد شكرها لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الحرف والصنائع. وأما اختلاف الأمة فلابد من خصوصية الأمة به وما قاله إمام الحرمين قد يظهر فيه خصوصية، لأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تعطها أمة غيرهم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق الذهن من لفظة الاختلاف إليها ولا إلى الصنائع والحرف، انتهى كلام السبكي. قوله: ولقوله: " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطا فله أجر واحد " أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عمرو بن العاصي بلفظ: " إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ". قوله: " وأهل الكتاب كفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إيمانهم به قبل مبعثه "

قوله: "ففي رحمة الله يعني الجنة"

قال في الكشاف وهو الظاهر، قال الطيبي: لكن قرائن السياق قامت على ترجيحه وذلك قوله في الآيات السابقة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} ثم قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وانتصاب يوم تبيض من لهم، ثم قوله بعد الفراغ من حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم. قوله: " ففي رحمة الله يعني الجنة "، قال الطيبي: إنما فسر الرحمة بالجنة لأنها مقابلة لقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} ومقارنة لقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قوله: " وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم "، قال الطيبي: أي أن الكلام من اللف والنشر لكن على غير ترتيب بناء على تلك النكتة. قوله: " دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ لقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} " قال الراغب: كان، في كثير من وصف الله تعالى يبنى على معنى الأزلية قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وما استعمل منه في جنس الشيء متعلق بوصف له هو موجود

قوله: {كنتم خير أمة}

فيه فتنبيه أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وإذا استعمل في الزمان الماضي فيكون المستعمل فيه باقيا على حالة وقد يكون متغيراً، ولا فرق بين أن يكون زمان المستعمل فيه قد تقدم تقدما كثيرا، وبين أن يكون قد تقدم بأن واحد. وقال أبو حيان: قول الزمخشري كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض وليس فيه دليل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ، قول لبعض النحويين. والصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع. ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع وفرق بين الدلالة والاستعمال. ألا ترى أنك تقول هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم بل المراد الخصوص. وقال الشيخ سعد الدين: لا دلالة في كان الناقصة لا على انقطاع ولا دوام فلذلك تستعمل فيما هو حادث: مثل، كان زيد راكبا، وفيما هو دائم مثل: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} لا يدل على أنهم لم يكونوا خيرا فصاروا خيراً أو انقطع ذلك عنهم. قوله: " وقيل كنتم في علم الله "، إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: قصده بالأقوال الثلاثة تحقق معنى المضي. وقوله: " استئناف بين به كونهم خيراً "، قال الطيبي: أن ترك العاطف ليكون الكلام الأول كالمورد للسؤال عن موجب ما سيق له الحديث فيجاب بالثاني ويعاد بصيغة من استؤنف عنه الحديث لبيان الموجب.

قوله: " يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به "، قال الطيبي: يعني ذكر الإيمان بالله وأريد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا أمن بالله على الحقيقة، وحقيقة الإيمان بالله أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو اختل شيء منه لم يكن من الإيمان بالله في شيء والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وإنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به ويدل على مكان التعريض قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} لاشك أنهم كانوا مؤمنين بالله وموافقين للمؤمنين في بعض الشرائع لكنهم لما تركوا بعض الإيمان كأنهم لم يؤمنوا وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين وكونهم خير الناس، لأن قوله (وتؤمنون بالله) عطف على تأمرون بالمعروف وهو كلام مستأنف بين به أن المؤمنين خير أمة في ماذا، فينبغي أن يكون هو أيضا تعليلا للخبرية وأن يندرج تحته جميع ما يجب الإيمان به ليكون معتداً به صالحا لأن يمتدح به فلو خرج بعض الإيمان لم يكن مدحا، قال: (وإنما أخر وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وإظهاراً لدينه)، قال الطيبي: يعني إنما أخر قوله: (وتؤمنون بالله) ليكون تلويحا إلى مكان التعليل فإنه حينئذ من باب الإخبار عن حصول الجملتين في قوله وتفويض الترتيب إلى الذهن ولو قدم لم يتنبه لتلك النكتة. قوله: ويجوز أن يراد بتقديم الأمر بالمعروف على الإيمان الاهتمام وأن سوق الكلام لأجله، وذكر الإيمان كالتتميم ويجوز أن يجعل من باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} تنبيها على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر شيء مما اشتمل عليه الإيمان بالله لأنه من وظيفة الأنبياء. قوله: " وهذه الجملة والتي بعدها "، قال الشيخ سعد الدين: أي منهم

قوله: "استثناء من أعم عام الأحوال"

المؤمنون وما عطف عليه ولن يضروكم مع ما عطف عليه. قوله: " واردتان على سبيل الاستطراد ". قال الشيخ سعد الدين: ولذا لم يعطف على الجملة الشرطية قبلهما أعني، ولو آمن، لأنها معطوفة على كنتم خير أمة مرتبطة بها على معنى لو آمن أهل الكتاب كما آمنوا وأمروا بالمعروف كما أمروا لكان خيرا لهم، قال: وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعد ما بينهما وكون كل منهما نوعا آخر من الكلام. قوله: " استثناء من أعم عام الأحوال "، قال الطيبي: عزي إلى الزمخشري أنه قال: الاستثناء من أعم عام الأحوال نحو قولك: ما رأيت إلا زيدا، والمراد بأعم العام ما لا أعم منه وهو الشيء، كأنك قلت: ما رأيت شيئا إلا زيداً وهذا الاستثناء يقع في جميع مقتضيات الفعل أعنى فاعله ومفاعيله وما شبه بها، فقولك إلا زيداً مستثنى من أعم عام المفعول به وكذلك ما لقيته إلا راكبا استثناء من أعم عام أحواله، وما ضربته إلا تأديبا مستثنى من أعم عام أعراضه. والإضافة في قوله: من أعم عام الأحوال مثل إضافة حب زمانه إلى من لا زمان له وإنما له المضاف الذي هو الحب لا غير كما تقول ابن قيس الرقيات، بإضافة قيس إلى الرقيات في أن الغرض إضافة الابن إلى الرقيات لأن قيسا ما شبب بالرقيات وإنما المشبب بهن ابنه ولا طريق إلى ذلك إلا بذكر المضاف والمضاف إليه جميعا، وقال الشيخ سعد الدين: هذه الإضافة كما في قولهم حب زمان زيد حيث لا زمان له، فإن القصد إلى إضافة الحب المختص بكونه للزمان إلى زيد وكذلك القصد إلى إضافة أعم العام ومثله: ابن قيس الرقيات فإن المتلبس بالرقيات ابن قيس لا قيس ففي مثل هذا

لابد من ذكر المضاف والمضاف إليه. ثم الإضافة، وتحقيقه أن يطلق الحب مضافا إلى الزمان والحب المقيد بالإضافة إلى الزمان مضاف إلى زيد.

سورة آل عمران

قوله: (عبر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين)

قوله: (عبر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين .. ). قال الطَّيبي: أي مما لو قال: يتهجدون، لما في ذكرها وذكر الليل من تصوير تلك الحالة في أحسن صورة، فكأنه دعوى الشيء بالبرهان. اهـ قوله: (روي أنه عليه السلام أخرها .. ). يعني العشاء. الحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود. قال الشيخ سعد الدين: قوله: (غيركم) بالنصب خبر (ليس)، و (من أهل الأديان) يكون حال من (أحد). اهـ قوله: (أي الموصوفون بتلك الصفات ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه). قال الطَّيبي: اعلم أنَّ الصلاح هو وجود شيء على حال استقامته وكونه منتفعاً به، وإنما فسر (الصالحين) هاهنا بهذه المعاني لأنه موجب للصفات المذكورة من قبل، والإيذان بالإيجاب توسيط (أؤلئك) لأنه أعلم أنَّ ما بعده جدير بمن قبله لاكتسابه ما يوجبه، فالتعريف في (الصالحين) للجنس أي: الكاملين فيه. اهـ

قوله: (سمى ذلك كفراناً كما سمى توفية الثواب شكراً). قال الطَّيبي: يعني لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الكفران لأنه ليس لأحد عليه نعمة حتى يكفره، لكن لما وصف سبحانه بالشكور في تلك الآية -والشكور: مجاز عن توفية الثواب- نفى سبحانه على سبيل المشاكلة الكفران الذي هو مجاز عن تنقيص الثواب. اهـ قوله (وتعديته إلى مفعولين ... ). قال الشيخ سعد الدين: أحدهما ضمير المخاطبين القائم مقام الفاعل، والآخر الضمير المنصوب، والأصل: لن نكفركموه، أي: جزاؤه، بمعنى: لن نترك توفيته، ولولا تضمين الحرمان لكان الواجب: لن يكفر لكم، مثل شكرت لله نعمته. اهـ قوله (بشارة لهم وإشعاراً. . .) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني في إيراد العلم بعد الأعمال المذكورة بشارةٌ، لأنَّ الله تعالى إذا علم منهم أحوالهم ومجاهدتهم فيها لا يضيع أجرهم فيوفيهم أحسن ما عملوا، وفي وضع (المتقين) موضع المضمر إشعار بالعلية وإيذان بأنه لا يفوز عنده إلاّ أهل التقوى. اهـ قوله: (من التشبيه المركب). قال الطَّيبي: الذي تؤخذ فيه الزبدة والخلاصة من المجموع، والوجه قلة الجدوى والضياع. قال: ويجوز أيضاً أن يكون من التشبيه المفرق الذي يتكلف لكل واحد من المشبه به شيء بقدر شبهه في المشبه، فشبه إهلاك الله بإهلاك الريح، وما ينفقون بالحرث، وما في غضب الله من جعل أعمال المرابين هباءً منثوراً بما في الريح البارد من حش الزرع وجعله حطاماً. اهـ

قوله: (وقرئ (ولكنَّ)، أي: ولكنَّ أنفسهم يظلمون). قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل على كلا القراءتين إشكال، وهو أنَّ (وَمَا ظَلَمَهُمُ) في الفعل، (ولكن أنفسهم يظلمون) في المفعول، [أما على القراءة المشهورة فلصريح تقديم المفعول، و] أمّا على قراءة التشديد فلأنه بنى الكلام على (أَنفُسَهُم) حيث جُعل في موضع المبتدأ مع أنه المفعول في المعنى، والذي يقتضيه ظاهر النظم أن يكون الكلام في الفاعل أي: ما نحن ظلمناهم ولكن هم ظلموا أنفسهم، كما تقول: ما أنا قلت هذا ولكن غيري قاله؟ قلنا: تقديم المفعول في المشهورة لرعاية الفاصلة لا الاختصاص والقصد إلى الفعل من حيث تعلقه بالفاعل أي: ما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، وهو ظاهر، وأمّا على قراءة التشديد فبناء الكلام على (أَنفُسَهُم) من حيث فاعليتها لا مفعوليتها بمنزلة أن تقول: ولكن هم لا غيرهم ظلموا. اهـ قوله: (وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكنّ من يبصر عيونك يعشق). هو للمتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وقبله وهو أول القصيدة: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي وبين الرضى والسخط والقرب والنوى ... مجال لدمع المقلة المترقرق قوله: (قال - صلى الله عليه وسلم -: الأنصار شعار والناس دثار). أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم. قوله: (لا يتمالكون أنفسهم). قال الطَّيبي: أي لا يتمالكون انفلات ما يعلم به بغضهم. اهـ قوله: (والجمل الأربع ... ). المراد بها (لا يَأْلُونَكُمْ) (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ) (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ).

(ها أنتم أولاء)

قال الشيخ سعد الدين: دون (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لظهور أنه حال. اهـ قوله: (جات مستأنفات على التعليل). قال الطَّيبي: قيل: يريد أنَّ الكل جواب عن السؤال عن النهي، والأحسن أن يجري الكل مستأنفات على الترتيب، كأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة؟ فقيل: لأنهم لا يقصرون في إفساد أمركم. فقيل: ولم يفعلون ذلك؟ فأجيب: لأنهم يبغضونكم. ولما كان كل من ذلك مترتباً على الآخر صح أن يقال إنها مستأنفات على التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. اهـ قال الشيخ سعد الدين: لا يريد أنَّ الكل علة واحدة بالاجتماع بل إنَّ كلاً منها علة للنهي بالاستقلال، ترك تعاطفها تنبيهاً على الاستقلال كما في قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا. . .) (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا) بمعنى أنَّها مستأنفات للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن يكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع، أي: لا تتخذوا منهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالاً لأنهم يودون شدة ضرركم بدليل أنه قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير، لكن لا يحسن ذلك في (قَدْ بَيَّنَّا) إذ لا يصلح تعليلاً لبدو البغضاء، ويصلح تعليلاً للنهى بأنََّا بينا الآيات الدالة على وجوب معاداة أعداء الله، وإن كان الأحسن أن يكون ابتداء كلام. اهـ قوله: (بيان لخطئهم. .). قال الطَّيبي: يعني لما قال: (هَا أَنْتُمْ أُولآءِ) أي: أنتم هؤلاء المشاهدون، تحقيراً لشأنهم وازدراءً لحالهم، لما شوهد منهم ما يجب تخطئتهم به بيّن ما به استحقوا هذا التحقير فقال: تحبونهم ولا يحبونكم. اهـ قوله: (وهو حل من لا يحبونكم). قال أبو حيان: يخدشه من صناعة النحو أنَّ المضارع المثبت إذا وقع حالاً لا يدخل

عليه واو الحال، ولهذا تأولوا: قمت وأصك عينه على حذف المبتدأ، أي: قمت وأنا أصك، فتصير الجملة إسمية هـ. قال: ويحتمل هذا التأويل هنا، أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكن الأولى كونها للعطف. اهـ وقال الشيخ سعد الدين في تقدير الحالية: يعني تقدير المبتدأ وترك ذكره اعتماداً على ما ذكره في بعض المواضعِ. قال: ولم يجعله عطفاً على (يُحِبُّونَكُمْ) مع ظهوره لأنَّ ذلك في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب، والحمل على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون بشيء لأنَّ إيمانهم كلا إيمان فإنَّ جامع المحبة سديد في تقدير الحالية دون العطف. اهـ قوله: (والمعنى: إنهم لا يحبونكم والحال أنكم مؤمنون بكتابهم). قال الطَّيبي: يريد أنَّها حال مقررة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى هؤلاء وإنهم يحاولون مضرتك، فعلى هذا يقدر (أنكم) ليصح إيقاع المضارع حالاً مع الواو، ويجوز أن لا يقدر وتكون الجملة معطوفة على (تحبون) أي: تجمعون بين المحبة والإيمان وكيت وكيت " اهـ قوله: (دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله) وقال الشيخ سعد الدين: يشير الى أنَّ هذا من كناية الكناية عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعن أهله وذلك لأنَّ مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى. اهـ قوله (والمس يشعر بالإصابة) جواب سؤالٍ مقدر تقديره: إنَّ من حق التقابل بين الفقرتين التوافق بين الكلمتين فكيف

خولف بينهما؟ والجواب: أنَّ الموافقة حاصلة من حيث المؤدى وأصل المعنى بشهادة الآيات الآتية. (قال الطيبي): ونقل في الحواشي عن صاحب الكشاف أنه قال: وإنما جمع المس والإصابة لافتنان الكلام لأنه أفصح وأحسن. قال الطَّيبي: وهذا على تقدير سؤال آخر يعني: هب أنَّ التوافق حاصل بين الفقرتين في أصل المعنى فما فائدة الاختلاف بينه وبين الآيات الأخر في (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ. . .) (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ. . .) (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)؟ والجواب: أنَّ الاختلاف للافتنان في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب. قال الطَّيبي: ولو قال لاقتضاء المقام والتنبيه على الخطأ العظيم للمخاطبين كما سبق في قوله (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) فإنه يقتضي عنفاً شديداً وتعبيراً بليغاً، ولذلك استعير بجانب الحسنة المس، وذكر في السيئة الإصابة ليدل على الإفراط الشديد والتفريط البليغ، وليس كذلك في سائر الآيات لكان أحسن. ولهذا المعنى أشار صاحب الانتصاف حيث قال: يمكن أن يقال المس أقل تمكناً من الإصابة وهو أقل درجاتها، أي: إن تصبكم حسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم، وإن تتمكن منكم المصيبة وتنتهي إلى الحد الذي يرثي عنده الشامت فهم لا يرثون ولا عن حسدهم يرجعون بل يفرحون ويسرون.

قال صاحب الإنصاف: هذا أحسن لكن يحتاج إلى الجواب عن آية (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ. . .)، صاحب الكشاف ذكر جواباً يعمها. قال الطيبي: الجواب ما ذكرناه من أنَّ التخصيص بحسب القام، وإخراج الكلام على مقتضى الظاهر، والذي ينصر قول صاحب الانتصاف مجيء الفرح بمعنى البطر مقابلاً للسوء. قال الجوهري: الفرح أيضاً البطر لقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) اهـ. قوله: (وضمة الراء للإتباع). قال الشيخ سعد الدين: هذا ما قالوا: إنَّ المجزوم والأمر من المضاعف المضوم العين يجوز الفتح للخفة، والكسر لأجل تحريك الساكن، والضم للإتباع. اهـ. قوله: (روي أن المشركين نزلوا بأُحد يوم الأربعاء). الحديث أخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق قال حديث الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم. ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري عن عروة. بشر محبس: إذ لا ماء ولا طعام، وذباب السيف: طرفه الذي يضرب به ويذب، (فإن رأيتم): جوابه محذوف، أي: فافعلوا، واللأمة: مهموزة: الدرع، وقد تخفف بترك الهمزة، والشعب: بالكسر: الطريق في الجبل، وعدوة الوادي:

جانبه، و (انضحوا عنّا): فارشقوا النبل فيهم كالماء المنضوح ذابين عنّا. وعبد الله بن جبير: بن النعمان الأنصاري، وجبير بضم الجيم، والباء الموحدة. قوله: (متعلق بقوله (سميع عليم). قال أبو حيان: لا يتعلق الجار بوصفين، والتحرير أنه على التنازع. اهـ قال الحلبي: هو مراد عبارة الكشاف، أو عمل فيه معنى (سميع عليم). اهـ قال الشيخ سعد الدين: أي يجمع بين سماع الأقوال والعلم بالضمائر إذ لا معنى لتقييد كونه سميعاً عليماً بذلك الوقت، فلذا لم يجعل الصفة المشبهة عاملة لا من جهة أنَّها لا تصلح للعمل في الظرف، ونحن قاطعون بأنَّ السميع العليم هنا صفة شبه لا صفة مبالغة للسامع والعالم بحيث يعتبر فيها معنى الحدوث. اهـ قوله: (أنه عليه الصلاة والسلام خرج فى زهاء ألف رجل. . .). الحديث أخرجه ابن جرير عن السدي. وزهاء ألف: أي قدرها. قوله: (أو لعلكم ينعم الله عليكم). قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه كناية أو مجاز عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر. اهـ قوله: (إنكار أنه لا يكفيهم ذلك). قال الكواشي: أدخل همزة الاستفهام على النفي توبيخاً لهم على اعتقادهم أنهم لا ينصرون بهذا العدد فنقلته إلى إثبات الفعل على ما كان عليه مستقبلاً فقال

(ليقطع طرفا من الذين كفروا)

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ). اهـ قوله: (كانوا كالآيسين من النصر). قال الطَّيبي: وذلك أنَّ (لَنْ) فيها رد إنكار منكر، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، أنزلهم ليأسهم من النصر منزلة المنكرين. اهـ قوله: (وهو فى الأصل مصدر فارت القدر. . .) إلى آخره. قال الراغب: الفور: شدة الغليان، ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت، وفي القدر، والغضب، قال تعالى (وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)، وفلان من الحمى يفور، والفوارة: ما يقذف القدر من فورانها، وفوارة الماء: تشبيهاً بغليان القدر، ويقال: فعلت كذا من فوري: أي من غليان الحال، وقيل سكون الأمر قال تعالى (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا).اهـ قوله: (لقوله عليه السلام: تسوموا فإنَّ الملائكة قد تسومت). أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن عمير بن إسحاق مرسلاً وزاد: قال: فهو أول يوم وضع فيه الصوف. قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق بـ (نصركم). قال الشيخ سعد الدين: أي في قوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) على تقدير أن يجعل (إِذ تَقُولُ) ظرفاً لـ (نَصَرَكُم) لا بدلاً ثانياً من (وَإِذْ غَدَوْتَ)، لأنَّ ذلك يوم أحد فيكون أجنبياً فيلزم الفصل به، وأما تعلقها بقوله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيصح على التقديرين، ولكنّ العامل (هو النفي) المنقوض بـ (إلاّ) أو النصر

قوله: (وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على وجه التمثيل).

الواقع مبتدأ فيه تردد، والظاهر من كلامه هو الأول. اهـ قوله: (عطف على (أو يكبتهم)). قال الشيخ سعد الدين: وجه سببية النصر على تقدير تعلق اللام بقوله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ظاهر، وأما على تقدير تعلقها بقوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) فلأنَّ النصر الواقع ببدر كان من أظهر الآيات وأبهر البينات فيصلح سبباً للتوبة على تقدير الإسلام، أو ليعذبهم على تقدير البقاء على الكفر لجحودهم بالآيات، وإن أريد التعذيب في الدنيا بالأسر فالأمر ظاهر، فإن قيل: هو يصلح سبباً لتوبتهم والكلام في التوبة عليهم؟ قلنا: يصلح سبباً لإسلامهم الذي يصلح سبباً للتوبة عليهم، فيكون سبباً بالواسطة. اهـ قوله: (ويحتمل أن يكون مطوفاً على (الأمر) أو (شىء). .) إلى آخره. قال الطَّيبي: الفرق بين الوجهين أنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلوات الله عليه بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة، وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه يعني: لا تقدر أن تجبرهم على التوبة ولا تمنعهم عنها ولا تقدر أن تعذبهم ولا أن تعفوا عنهم فإنَّ الأمور كلها بيد الله. اهـ قوله: (روي أنَّ عتبة بن أبى وقاص شجه بأُحد). الحديث أخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير عن قتادة، وهو في الصحيح من حديث سهل بن سعد وليس فيه ذكر عتبة. قوله: (وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على وجه التمثيل). قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس القصد إلى تحديد عرض الجنة بذلك لامتناع كونها في السماء، بل هو كناية عن غاية السعة والبسطة بما هو غاية في ذلك في علم السامعين. اهـ قوله: (وعن ابن عباس: كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها إلى بعض).

أخرجه ابن جرير. قوله: (من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً). أخرجه عبد الرزاق وأحمد من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. قوله: (إنَّ هؤلاء فى أمتى قليل إلا من عصم الله وقد كانوا كثيراً فى الأمم التى مضت). رواه الثعلبي في تفسيره عن مقاتل بلاغاً، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بن مالك. قال الشيخ سعد الدين: والاستثناء منقطع وهو ظاهر، أو متصل لما في القلة من معنى العدم، كأنه قيل: إنَّ هؤلاء في أمتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد فى أمتي. اهـ قوله: (والمراد وصفه تعالى بسعة الرحمة). قال الطَّيبي: اعلم أنَّ صاحب الكشاف سلك بهذا التركيب في هذا المقام مسلكاً عجيباً، وخرج تخريجاً غريباً قلما تذهب إليه الأذهان إلا من ريض نفسه في علم البيان وتمرن في الأصول، فنقول: إنه ساق كلامه أولاً في بيان ما يقتضي التركيب من الخواص بدلالة عبارته من جهة المولى، ثم ثنى إلى بيان ما يقتضيه بدلالة إشارته من جهة العبد. أما الأول فعلى وجوه: أحدها: دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه هذا المقام من معنى الغفران الواسع، وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل: وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد، كأنه قيل: هل تعرفون أحداً يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غيرَ من وسعت رحمته كل شيء. وفي نقيضه قال صاحب المفتاح في قراءة (مَن فرعون) على الاستفهام: (وفرعون) هل تعرفون من هو في فرط عنفه، وشدة شكيمته، وتفرعنه؟ ما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. ويعضد ما قلناه قوله في آخر هذه السورة في قوله (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ): لإلى الرحيم

الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون. ثانيها: تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقره لأنه اعترض بين المبتدأ والخبر ثم بَيَّنَ المعطوف والمعطوف عليه، أي: فاستغفروا ولم يصروا، للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الاستغفار لم يتخلف عنه الغفران. وثالثها: الإتيان بالجمع المحلى بلام التعريف إعلاماً بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له. ورابعها: دلالة الحصر بالنفي والإثبات على أن لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله، وذلك أنَّ من وسعت رحمته كل شيء لا يشاركه أحد في نشرها كرماً وفضلاً. وخامسها: إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الاستغفار وتنصل عبيده يدل على وجوب ذلك قطعاً إما بحسب الوعد عندنا أو العدل عندهم. وأما النظر من جهة العبد ففيه وجوه أيضاً: أحدها: أنَّ في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارةً عظيمةً وتطيباً للنفوس. وثانيها: أنَّ العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها. وثالثها: أنَّ في ضمن معنى الاستغراق قلع اليأس والقنوط، ولهذا علل سبحانه النهي عن الإقناط في قوله (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) بقوله (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا). ورابعها: أطلقت الذنوب وعممت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس، وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإنَّ الذنوب وإن جلت فعفوه أعظم. وخامسها: أنَّ الاسم الجامع في تركيب قوله (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضاً على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة

من كونه عزيزاً ليس أحد فوقه فيرد عليه حكمه، وكونه حكيماً يغفر لمن تقتضى حكمته غفرانه " اهـ قوله: (ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين). قال الطَّيبي: (غير مستغفرين) حال من الضمير في (يقيموا)، والجملة تفسير لقوله (وَلَمْ يُصِرُّوا). اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هذا المجموع تفسير لقوله (وَلَمْ يُصِرُّوا)، لأن عدم الإصرار هو أن لا يقيم على القبيح من غير استغفار بل يرجع عنه بالتوبة. قال: ومنهم من توهم أنَّ عدم الاستغفار قيد في عدم الإصرار والمعنى: أنهم لم يكونوا مصرين غير مستغفرين، وبنى عليه كلاماً لا طائل تحته. اهـ قوله: (ما أصر من استغفر). الحديث أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر الصديق. قوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من (يصروا)، أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به). قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أنَّ قوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ليس قيداً للنفي لعدم الفائدة، لأنَّ ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواءً كان مع العلم بالقبيح أو مع الجهل، بل مع الجهل أولى، وإذا كان قيداً للفعل المنفي فله معنيان: أحدهما: وهو الأكثر أن يكون النفي راجعاً إلى القيد فقط، ويثبت أصل الفعل مثل: ما جئت راكباً؟ بمعنى: جئت غير راكب، وقد ذكر في قوله تعالى (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) أنه نفي للصمم والعمى وإثبات للخرور، وأنَّ النفي إذا ورد على ذات مقيدة بالحال يكون إثباتاً للذات ونفياً للحال، وهذا أيضاً ليس بمراد إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم. وثانيهما: أن يقصد نفي الفعل والقيد معاً، بمعنى انتفاء كل من الأمرين مثل: ما جئتك راكباً؛ بمعنى: لا مجيء ولا ركوب، وهذا أيضاً ليس بمناسب إذ ليس المعنى على نفي العلم، أو بمعنى انتفاء الفعل من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته وهذا هو المناسب في الآية، أي: ولم يصروا عالمين، بمعنى أنَّ عدم الإصرار متحقق ألبتة، والحاصل أنَّ القيد في

(ونعم أجر العاملين)

الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي، وقد لا يكون لنفي المقيد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط. اهـ قوله: (ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاءً لهم أن لا يدخلها المصرون). قصد بذلك الرد على الزمخشري فيما قرره في كشافه في هذا المحل. قال صاحب الفرائد: دلت الآية على أنَّ غير المصر تغفر ذنوبه ويدخل الجنة، وأمّا المصر فالآية لا تدل على أن لا تغفر ذنوبه ولا يدخل الجنة، ومن عدم الدليل لا يلزم عدم المدلول. اهـ وقال الطَّيبي: قوله (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) خطاب لآكلي الربا من المؤمنين ردعاً لهم عن الإصرار إلى ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين، وتحريضاً على التوبه والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين والمتقين من التائبين، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا (زجرا ولا) ترهيب، فبين بالآيات معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثاً لهم على الانخراط في سلكهم، ولا بد من ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفاً لهؤلاء، وجميع الفوائد التي ذكرت في قوله (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) يدخل في المعنى، فعلم من هذا أنَّ دلالة مفهوم قوله (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) مهجور لأنَّ مقام التحريض والحث أخرج المصرين. اهـ قوله: (وكفاك فارقاً بين القبيلين أنه فصل آيتهم. .) إلى آخره. قال الطَّيبي: مآل كلام القاضي أنَّ اختصاص ذكر الأجر لمقتضى المقام وإلا فلم خولف بين الجزاءين والمتقون أيضاً عاملون؟ قال: ثم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) وجوه من المحسنات: أحدها: أنَّها كالتذييل للكلام السابق فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد.

وثانيها: في إقامة الأجر موضع ضمير الخبر، لأنَّ الأصل: ونعم أجر العاملين جزاوُهم هو إيجاب إنجاز هذا الوعد، وتصوير صورة العمل في العمالة تنشيطاً للعامل. وثالثها: في تعميم (الْعَامِلِينَ) وإقامته مقام المضمر الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني. اهـ قوله: (أي أنه مع كونه بياناً للمكذبين). قال الطيبي: إشارة إلى أنَّ المراد بالناس المكذبون المخاطبون بقوله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ)، أو الذين سبق ذكرهم من المتقين والتائبين والمصرين، والأولى أن يراد به الجنس؛ أي: بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون وينتجعون بوعظه. اهـ قوله: (أو إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين، وقوله (قد خلت) اعتراض للبعث والتوبة). قال الطَّيبي: الذي ذهبنا إليه أنَّ تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا، والمخاطبون بقوله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) هم الذين سبق خطابهم بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا)، وذلك أنه تعالى بعدما حذرهم من النار المعدة للكافرين وأمرهم بالمسارعة إلى نيل درجات الفائزين بيَّن لهم سوء عاقبة من كذب الأنبياء في ترغيبهم وترهيبهم؛ أي: إنذارهم وبشارتهم لأنهم ما بعثوا إلا لهما، فعلى هذا قوله تعالى (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) إشارة إلى ما يخص المخاطبين من الترهيب والترغيب والحث، وقوله (قَد خَلَت) إلى قوله (وَلا تَهِنُوا) كالتخلص من قصة آكلي الربا التي استطردت لذكر المحاربة إلى ما جرى له الكلام من مجاهدة الكفار، وهذا أولى من جعلها معترضة لأنها توجب أن تجعل الآيات كلها موافقة لها، لأن المعترضة مؤكدة للمعترض بأن يقال: إنَّ تلك الآيات دلت على الترهيب والترغيب (وهذه الآية دلت على الترهيب)، ومعنى الترهيب راجع إلى الترغيب بحسب التضاد، وكما أنَّ بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعد من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي وذلك تعسف. اهـ

(ولا تهنوا ولا تحزنوا)

قوله: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) تسلية لهم عما أصابهم يوم أحد). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أنه متعلق بما سبق من قصة أحد من جهة المعنى، وأمّا بحسب اللفظ فالظاهر أنه عطف على (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) وتوسيط حديث الربا وما بعده قيل: استطراد، وقيل: إشارة إلى أنَّ هذا نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين. اهـ قال الطيبي: هذا يؤذن أنَّ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا. . .) إلى آخر الآيات مستطرد بين القصة وسلوك طريقة النظم فيها صعب، ولهذا قال الإمام: من الناس من قال: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمته على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، واتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا) فعلى هذا تكون الآية ابتداء كلام لا تعلق لها بما قبلها. وقال القفال: يحتمل أن يكون متصلاً بما تقدم من جهة أنَّ المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العساكر فيتمكنوا من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك. قال: والذي نقوله والعلم عند الله أنه تعالى لما عاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) أتبعه قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) بمعنى أنك ما بعثت أن تتصرف في الأمور الإلهية ولكنك مبعوث للإنذار والبشارة، وهؤلاء الكفار أمرهم في التوبة أو التعذيب إلى مالكهم، وما كان عليك سوى الإنذار فقد أنذرتهم وبذلت وسعك فيه ففوض أمورهم إلى الله تعالى إن

شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم، وثن بالإنذار إلى أصحابك في أمر عظيم ارتكبوه وهو محاربتهم مع الله في أمر الربا، قال الله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فأرهبهم بالنار ليحترزوا عن الربا، ورغبهم في الجنة وأمرهم بالاعتبار والنظر في عاقبة المكذبين وبين لهم البيان الشافي ثم مع ذلك كله لا يكن منك ولا من أصحابك ضعف ولا وهن في الجهاد، ولا يورثنكم ما أصابكم حزناً في هذه الوقعة لأنَّ حالكم أعلى من حال الكفرة لأنَّ قتالكم لله ولإعلاء كلمة الله وقتالهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر. اهـ قوله: (إن كنتم مؤمنين). متعلق بالنهي. قال الطَّيبي: أي تتميم له كالتعليل لأنَّ الخطاب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من الصحابة الكرام تسلية لما أصابهم يوم أحد فلا جائز أن يجري الشرط على حقيقته. قال الزمخشري في قوله تعالى (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ. . . إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا. . .): (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق بـ (لا تَتَّخِذُوا) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. أي: لأجل أنكم أوليائي إذ المجاهد من الصحابة رضوان الله عليهم لا يكون إلاّ ولياً. اهـ

قوله: (والمداولة كالمعاورة).

قوله: (فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نُساءُ ويوم نُسر). قال الشيخ سعد الدين: الأحسن أن يقدر: فيوماً يكون الأمر علينا، أي: بالإضرار، ويوماً لنا، أي: بالنفع، فيكون يوماً ظرف ملائماً لقوله (ويوماً نساء) من سيء فلان: أي أصيب بحزن، من ساءه: أحزنه، (ويوماً نسر) من سره: جعله مسروراً. اهـ وذكر الزمخشري في شرح أبيات سيبويه أنَّ هذا البيت للنمر بن تولب، وقبله: أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر يهنون من حقروا سيبه ... وإن كان فيهم يفي أو يبر ويعجبهم من رأوا عنده ... سواماً وإن كان فيه الغمر ألا يالذا الناس لو تعلمون ... للخير خير وللشر شر فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر قوله: (والمداولة كالمعاورة). في النهاية: يقال: تعاور القوم فلاناً إذا تعاونوا عليه بالضرب واحداً بعد واحد. قوله: (والأيام تحتمل الوصف والخبرية). زاد أبو حيان: والبدل والبيان. قوله: (ليكون كيت وكيت). قال أبو حيان: لم يبين المحذوف بل كنى عنه بكيت وكيت، ولا يكنى عن الشيء المحذوف حتى يعرف هـ. قال: وفي هذا الوجه حذف العلة وعاملها وإبهام فاعلها، فالوجه الآخر أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل. اهـ وقال الطَّيبي في تفسير كيت وكيت: أي (سلطناهم عليكم) لرفع درجاتهم، ولأن الأيام دول، ولاستدراجهم، وليتميز الثابتون من (المتزلزلين). اهـ

قوله: (تقديره: وليتميز التائبون). قال الشيخ سعد الدين: بيان لحاصل المعنى لا إشارة إلى أنَّ العلم مجاز عن التمييز بطريق إطلاق (اسم) السبب على المسبب. اهـ قوله: (والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه). قال الطَّيبي: أي الواجب أن يحمل على التمثيل، فإنه إن لم يحمل عليه يلزم ذلك المحذور، وذلك باطل لأنَّ الله تعالى لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها. وقال صاحب الانتصاف: التعبير عن نفي المعلوم بنفي العلم خاص بعلم الله تعالى إذ يلزم من عدم تعلقه بوجود شيء إعدام ذلك الشيء ولا كذلك علم المخلوقين، فلا يعبر عنه بذلك لعدم الملزوم. وقيل معناه: ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء. قال الزجاج: المعنى: ليقع ما علمنه غيباً مشاهداً للناس ويقع منكم، وإنما تقع المجازاة علي ما علمه الله من الخلق وقوعاً لا على ما لم يقع. وقال أيضاً في قوله (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ): أي يختبره بأعمالكم لأنه قد علمه غيباً فيعلمه شهادة، لأنَّ المجازاة تقع على ما علم مشاهدةً، أعني على ما وقع من عامليه لا على ما هو معلوم منهم. اهـ قوله: (ويكرم ناساً منكم بالشهادة). قال الطَّيبي: كنى بالاتخاذ عن الإكرام لأنَّ من يتخذ (شيئاً يتخذه) لينتفع به أو يتزين به كقوله (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) لأنَّ الشهيد مقرب حاضر في حظيرة

القدس. اهـ قوله: (بل أحسبتم ومعناه الإنكار). قال الشيخ سعد الدين: وحقيقته النهي عن الحسبان. اهـ قوله: (والفرق بين (لما) و (لم) أنَّ فيه توقع الفعل فيما يستقبل). قال أبو حيان: هذا الذي قاله في (لما) أنها تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحداً من النحويين ذكره، بل ذكروا أنك إذا قلت: لمّا يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار، أما أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا، ولكني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب هذا قال: (لمّا) لتعريض الوجود بخلاف (لم). اهـ قال الحلبي: قد فرق النحاة بينهما من جهة أنَّ المنفى بـ (لم) هو فعل غير مقرون ب (قد)، و (لمّا) نفي له مقروناً بها، وقد تدل على التوقع، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة. قال: ويدل على ما قلته من كون (لم) لنفي فعل، و (لمّا) لنفيٍ قد فُعِل، نص النحاة (على ذلك) سيبويه فمن دونه. اهـ وقال الزجاج: إذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه: لمّا يفعل، أو فعل، فجوابه: لم يفعل، أو لقد فعل، فجوابه: ما فعل، أو هو يفعل (يريد ما يستقبل)، فجوابه: لا يفعل، أو سيفعل، فجوابه: لن يفعل. اهـ قوله: (وقرئ بفتح الميم على أنَّ أصله يعلمن فحدفت النون). خرجه غيره على أنه من التحريك بالفتح عند التقاء الساكنين إتباعاً للام وإبقاء لتفخيم

(ويعلم الصابرين)

اسم الله. قال الشيخ سعد الدين: ولم يرتكب هذا الوجه البعيد في (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) لإمكان الوجه الصحيح الشائع. اهـ قوله: (نصب بإضمار (إن) على الواو للجمع). قال أبو البقاء: والتقدير: أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: قيل المعنى: لم يكن العلم بالمجاهدين والعلم بالصابرين، أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة مع الجمع بين عدم متعلقي العلمين أعني الجهاد والصبر، والأصوب مع عدم الجمع بين الأمرين لأن مرجع واو الصرف إلى عطف مصدر بعده على مصدر الفعل السابق، فكما أنَّ معنى لا تأكل السمك وتشرب اللبن: لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، أي الجمع بينهما، فكذا هنا المعنى الواقع حالاً هو مضمون قولك: لم يكن منك العلم بالجهاد والعلم بالصبر، أي: لم يتحقق الأمران جميعاً. اهـ قوله: (وقرئ بالرفع على أن الواو للحال). قال أبو حيان: لا يصح هذا، لأنَّ واو الحال لا تدخل على المضارع، وقد خرجه الناس على الاستئناف. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هو بتقدير المبتدأ، أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يسبق منكم مجاهدة مقيدة بالصبر، والظاهر أنَّ المراد الصبر عليها، (وَلَمَّا يَعلَم)، حال من (قَد خَلَت)، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) حال من (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا) على التداخل. اهـ قوله: (أي فقد رأيتموه معاينين له). قال الزجاج: المعنى: فقد رأيتموه وأنتم بصراء، كما تقول: قد رأيت كذا وليس في عيني علة، أي: قد رأيته رؤية حقيقة، ففيه توكيد. اهـ قوله: (وقيل الفاء للسببية. . .) إلى آخره. قال الطَّيبي: أي قوله (أَفَإِنْ مَاتَ) مسبب عن جملة قوله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)،

وقوله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة (رَسُولٌ)، فدخلت همزة الإنكار بين المسبب والسبب لإعطاء مزيد الإنكار الذي يتضمنه قوله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، وذلك أنَّ التركيب من باب القصر القلبي، لأنه جعل المخاطبين بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنهم اعتقدوا أنَّ محمداً صلوات الله عليه ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم، فأنكر الله ذلك عليهم، وبين أنَّ حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله عليهم في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه، ثم عقب الإنكار بقوله (أَفَإِنْ مَاتَ) وأدخل الهمزة لمزيد ذلك الإنكار، يعني: إذا علم أنَّ أمره أمر الأنبياء السابقين فلم عكستم الأمر؟ فإن لم يجعل ذلك العلم سبباً للثبات فلا أقل من أن لا يجعل سبباً للانقلاب. قال: وأما كلام صاحب المفتاح أنَّ التركيب من باب القصر الإفرادي -أي: محمد مقصور على الرسالة، لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك، يعني أنَّهم أثبتوا له صفة الرسالة والخلد استعظاماً لهلاكه فقصر على صفة الرسالة- فحديثٌ خارج عن مقتضى المقام، وبمعزل عن موجب النظم، ويؤيده قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، كما أنه تعريض بما أصابهم من الوهن، والانكسار عند الإرجاف بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ وكذا قال الشيخ سعد الدين: في كلام صاحب المفتاح بُعد من جهة عدم اعتباره الوصف أعني (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، حتى كأنه لم يجعله وصفاً بل ابتداء كلام

لبيان أنه ليس متبرئاً من الهلاك كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون القصر إلا قصر قلب. قال: ومن زعم أنه يلزم مِن حمله على قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة فقد أخطأ خطأً بيّناً وذهل عن الوصف. اهـ قوله: (روي أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . .) الحديث بطوله أخرجه ابن جرير عن السدي هكذا، ووردت أبعاضه موصولة من طرق. قال الطَّيبي: وقوله هنا عبد الله بن قميئة مخالف لما سبق عند قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أنه عتبة بن أبي وقاص. قال: والذي هنا أصح. اهـ قوله: (بل يضر نفسه). قال الشيخ سعد الدين: مستفاد من تقييد الفعل بالمفعول ورجوع القيد إلى النفي فيكون المعنى أنه صدر عنه ضرر لكن لا بالنسبة إلى الله تعالى، ومعلوم أنه ليس غير نفسه. اهـ قوله: (وسيجزي الله الشاكرين) على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنسٍ وأضرابه). قال الطَّيبي: وضع (الشاكرين) موضع الثابتين علي الإسلام تسمية للشيء باسم مسببه، إذ أصل الكلام: ومن ينقلب على عقبيه يكن كافراً لنعمة لله التي أنعم عليه بالإسلام فيضر نفسه حيث كفر نعمة الله، والله يجزيه ما يستحقه، ومن ثبت عليه يكن شاكراً لتلك النعمة، والله يجزيه الجزاء الأوفى، ولم يذكر ما يجزي به ليدل على التعميم والتفخيم، ففي الكلام تعريض وإليه أشار بقوله: (الشاكرين الذين لم ينقلبوا) كأنسِ وأضرابه. اهـ قوله. (إلاّ بمشيئة). قال الطَّيبي: استعير للمشيئة الأذن على التمثيل بأن شبه حال من يحاول ما يتوصل به إلى موته -من طلب تسهيله ولا يجد إلى ذلك سبيلاً إلاّ بتيسير الله تعالى- بحال من يتوخى الوصول إلى قرب من هو محتجب عنه ولا يحصل مطلوبه إلاّ بإذن منه وتسهيل الحجاب له، وهذه الآية موقعها موقع التذييل للكلام السابق، وأخرجت مخرج التمثيل، فنسبتها إلى المؤمنين التحريض والتشجيع على القتال والجهاد ومن ثم قيل:

إذا كانت الأبدان للموت أنشب ... فقتل امرئٍ بالسيف لله أجمل ، وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوعد بالحفظ وتأخير الأجل، وإليهما الإشارة بقوله (وفيه تحريض هـ. .) إلى آخره. اهـ قوله: (ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد). (سبق إلى ذلك ابن جني فقال: إنَّ (قُتِّلَ) بالتشديد) يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر يعني (ربيين) لأنَّ الواحد لا تكثير فيه. اهـ وقال أبو البقاء: لا يمتنع أن يكون فيه ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه في معنى الجماعة. اهـ أي أنَّ المراد بالنبي الجنس فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص. وهذا الذي قاله أبو البقاء استشعره ابن جني وأجاب عنه فقال: فإن قيل: يسند إلى (نبي) مراعاة لمعنى (كم)؟ فالجواب: أنَّ اللفظ قد فشا على جهة الإفراد في قوله (مِنْ نَبِيٍّ) ودل الضمير المفرد في (مَعَهُ) على أنَّ المراد إنما هو التمثيل بواحد فخرج الكلام عن معنى (كم). اهـ قال أبو حيان: وليس بظاهر، لأن (كأين) مثل (كم) يجوز فيها مراعاة اللفظ تارة والمعنى أخرى. اهـ قوله: (والألف من إشباع الفتحة). قال أبو حيان: هذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر، وهذه الكلمة في جميع تصاريفها بنيت على هذا الحذف، تقول: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان له، والإشباع لا يكون على هذا الحد. قال: فالظاهر أنه (استفعل) من الكون فيكون أصل ألفه واواً، أو من قول العرب: بات

فلان بكينة سوء؛ أي بحالة سوء، أو من: كَانَه يكينه إذا أخضعه، قاله الأزهري وأبو علي، فعلى قولهما أصل الألف ياء. اهـ قوله: (أي: وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانين إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم). قال الطَّيبي: إشارة إلى أنَّ هذا المعنى كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم، وذلك من إفادة الحصر وإيقاع (أن) مع ذلك الفعل اسماً لـ (كان). اهـ قوله: (وإنما جعل (قولهم) خبراً لأن (أن قالوا) أعرف). وقال الزمخشري: لأنه لا سبيل عليه في التنكير بخلاف قول المؤمنين). قال صاحب المطلع: ومعناه أن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى مُنكّراً بخلاف (أن قالوا). وقال أبو البقاء: اسم كان ما بعد (إِلاّ)، وهو أقوى من أن يجعل خبراً والأول اسماً لوجهين: أحدهما: أنَّ (أن قالوا) يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف. والثاني: أن ما بعد (إِلاّ) مثبت، والمعنى: كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا دأبهم في الدعاء. اهـ وقال الطَّيبي: كأنَّ المعنى: ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول، وِكأنَّ غير ذلك القول مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع (أن) مع الفعل اسماً لـ (كان). وتحقيقه ما ذكره صاحب الانتصاف قال: فائدة دخول (كان) المبالغة في نفي الفعل

(ولقد صدقكم الله وعده)

الداخلة عليه بتعديد جهة فعله عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار خصوصية المقام فهو نفي مرتين. قال الطَّيبي: فعلى هذا لو جعلت رب الجملة (أَنْ قَالُوا) واعتمدت عليه وجعلت (قَوْلَهُمْ) كالفضلة حصل لك ما قصدته، فلو عكست ركبت المتعسف، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسياً منسياً في الوجه الثاني واعتمد ما بعد (إلا). اهـ قوله (ولا يرى الضب بها ينجحر). صدره: لا تفزع الأرنب أهوالها يصف مفازة بأنه لا وحش بها، والبيت من نفي الشيء بإيجابه، أي: لا ينجحر الضب؛ أي: لا يدخل جحراً فيرى بها، ومقصود المصنف أنَّ الآية كذلك، أي: لا سلطان ولا نزول معاً. قوله: (بشرط التقوى والصبر). قال الطَّيبي: يعني أنَّ المراد بقوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) هو الوعد بالنصر المقيد بالصبر والتقوى في قوله (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا. . .) الآية، فلما لم يوجد الشرط وهو الصبر فقد المشروط وهو النصر، فالآية على هذا متصلة بتلك الآية. اهـ قوله: (وجواب (إذ) محذوف وهو امتحنكم). قال أبو حيان: يظهر لي تقدير غيره وهو: انقسمتم قسمين، ويدل عليه ما بعده، وهو نظير (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) التقدير: انقسموا قسمين فمنهم مقتصد. اهـ قوله: (أو بمقدر كاذكر). قال الطَّيبي: قيل فيه إشكال إذ يصير المعنى: اذكر يا محمد إذ تصعدون. وقيل الصواب: أنَّ تقدير اذكر على قراءة (يصعدون) بالياء، ويمكن أن يقال: ليس مراده أنه منصوب [بإضمار (اذكر) صيغة أمر الواحد بل المراد] أنه منصوب بما ينتصب به أمثاله من لفظ الذكر بحسب ما يطابق الواقع فيقدر (اذكروا)، وإنما أفرد إذ الغالب في أمثال هذه المواضع الإفراد، ويحوز أن يكون من باب قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا

طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). اهـ قوله: (عطف على (صرفكم)). قال أبو حيان: فيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين، والذي يظهر أنه معطوف [على (تصعدون ولا تلوون)] لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن (إذ) تصرف المضارع إليه. اهـ قوله: (غماً متصلاً بغم). قال الطَّيبي: يشير إلى أنَّ التكرير للاستيعاب نحو قوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ). اهـ قوله: (وظفر المشركين) قال الطَّيبي: قيل: لو كان قال: وغلبة المشركين؛ كان أحسن، لأنَّ الظفر للمؤمنين. اهـ قوله: (والإرجاف). في الأساس: رجف البحر: اضطرب، ومن المجاز: أرجفوا في المدينة بكذا؛ أي: أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم. اهـ قوله: (ليتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد). قال الطَّيبي: ولا بد من هذا التأويل، لأنَّ المجازاة بالغم بعد الغم سبب للحزن لا لعدمه. اهـ قوله: (وقيل: الضمير في (فأثابكم) للرسول). قال أبو حيان: هذا خلاف الظاهر لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله وذلك في قوله (صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) فيكون هذا كذلك، وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم، فلم يجيء مقصوداً لأنَّ يحدث عنه، إنما الجملة التي ذكر فيها في

قوله: (و (نعاسا) بدل. . .).

تقدير المفرد إذ هى حال. اهـ قوله: (فآساكم فى الاغتمام). بالمد: جعلكم أسوته فيه. قوله: (ولم يثربكم). قال الجوهري: التثريب كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللوم. اهـ قوله: (وعن أبي طلحة: غشينا النعاس ... ) الحديث. أخرجه البخاري). قوله: (و (نعاساً) بدل ... ). قال أبو حيان: وهو بدل اشتمال، لأنَّ كلاً منهما قد يتصور اشتماله على الآخر. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: على أنه كان نفس الأمنة. اهـ قوله: (و (أمنة) حال منه). قال أبو البقاء: والأصل: أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة، لأنَّ النعاس ليس هو الأمن بل هو الذي حصل الأمن به. اهـ قوله: (أو مفعول له). زاد الزمخشري: بمعنى: نعستم أمنة. اهـ قال أبو حيان: هذا فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل الإنزال هو الله تعالى، وفاعل الأمنة المنزل عليهم. اهـ وقال الحلبي: فيه نظر، فإنَّ الزمخشري قدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل (أَمَنَةً) فكأنه استشعر السؤال فلذلك قدر عاملاً، على أنه قد يقال إنَّ الأمنة من الله تعالى يعني أنه أوقعها بهم، كأنه قيل: أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به، وأَمَنَةً كما يكون مصدراً

لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أوقعه. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: إن أراد أنه بتقدير فعل هو (نعستم) فليس للفعل موقع حسن. اهـ قوله: (قد أهمتهم ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: أهمه الأمر: أقلقه وأحزنه، وأهمه الأمر: كان مهماً له معتنى بشأنه فالأول من الأول، والثاني من الثاني، والحصر مستفاد من المقام. اهـ قوله: (صفة أخرى لطائفة). قال الطَّيبي: قال صاحب التقريب: فيه نظر، لأنه لم يبق لـ (طائفة) خبر فينبغي أن يقدر له خبر: وثم، أو منهم طائفة. اهـ قوله: (و (غير الحق) نصب على المصدر. .) إلى آخره. قال ابن الحاجب: (غير الحق) و (ظن الجاهلية) مصدران أحدهما للتشبيه والآخر توكيد لغيره، والمفعولان محذوفان أي: تظنون أنَّ إخلاف وعده حاصل. اهـ قوله: (وهو الظن المختص بالملة الجاهلية). قال الشيخ سعد الدين: في إضافة ظن الجاهلية وجهان: أحدهما: أن يكون إضافة الموصوف إلى مصدر الصفة، ومعناها الاختصاص بالجاهلية كما في حاتم الجود، ورجل صدق، على معنى: حاتم المختص بوصف الجود، ورجل مختص بوصف الصدق. والثاني: أن يكون إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي: ظن أهل الجاهلية أي: الشرك والجهل بالله. اهـ

(إن الذين تولوا منكم. . .)

قوله: (وهو بدل من (يظنون)) الأوجه ما قاله أبو حيان أنه حال من (يظنون) أو صفة أخرى. قوله: (لله ولأوليائه ... ). قال الشيخ سعد الدين: أي أنَّ كون الأمر لله كناية عن كونه لخواصه أيضاً لكونهم من الله بمكان وكونهم منصورين عالين على الأعداء. اهـ قوله: (وهو بدل من (يُخْفُونَ)، أو استئناف على وجه البيان له). قال الطَّيبي: كأنه قيل: ما ذلك القول الذي كانوا يُخْفُونَ في هذا القول؟ فأجيب: يقولون أي يقولون في أنفسهم قولاً معناه: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. اهـ قال الشيخ سعد الدين: الأجود الاستئناف لكثرة فوائده، ولأنه لو كان بدلاً من (يُخْفُونَ) و (تُخفُون) حال من (يَقُولُون هَل لنَا) لكان (يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا) في موضع الحال من (يَقولُون هَل لنَا)، ولا خفاء في عدم المقارنة إذ (يَقُولُونَ لَو كَانَ) مرتب على قوله (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) المقول بعد قولهم (هَل لنَا). اهـ قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: اعلم أنَّ تأويل هذه الآية من المعضلات، والتركيب من باب الترديد للتعليق كقول الشاعر: لو مسها حَجَر مسته سراءُ لأن قوله (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ) خبر (إنَّ)، وزيدت (إنَّ) للتوكيد وطول الكلام و (ما) لتكفها عن العمل، وأصل التركيب: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان ولاّهم بسبب اقتراف الذنوب، كقوله: إنَّ الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، ثم قوله (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ) إما أن يريد به ذنوب اقترفوها قبل التولي فصارت تلك الذنوب سبباً لهذا التولي، فيكون من باب إطلاق السبب على المسبب، أو أن يراد به هذا الذنب الخاص وهو التولي يوم أحد وهو المراد

من قوله: وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي، والمعنى: إن الذين انهزموا يوم أحد إنما ارتكبوا هذا الذنب لمّا تقدمت لهم ذنوب. والتركيب على التقديرين من باب تحقيق الخبر كقوله: إن الذي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول. وليس من باب أنَّ الصلة علة للخبر كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) لأنَّ قوله (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) يأباه، وتحقق التحقيق. اهـ قوله: (وكان حقه (إذ) لقوله (قالوا) لكنه جاء على حكاية الحال الماضية) قال الشيخ سعد الدين: معناه أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي، أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن، وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون، والمعنى: حين ضربوا، إلاّ أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض. واعترض بوجهين: الأول: أنَّ حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال، والمذكور هنا صيغة الاستقبال، لأنَّ معنى إذا ضربوا: حين يضربون فيما يستقبل. الثاني: أن قولهم (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا) إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض؟ فكيف ما اعتبروه إنما هو حال حياتهم. وأجيب عن الأول: بأن (إِذَا ضَرَبُوا) في معنى الاستمرار كما في (وَإِذَا لَقُوا الذِينَ ءَامَنوا) فيفيد الاستحضار نظراً إلى الحال. وعن الثاني: بأنَّ (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ) في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى، فيكون المعنى: لا تكونوا كالذين كفروا وإذا ضرب إخوانهم في الأرض فماتوا أو كانوا غزاً

فقتلوا قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فالضرب والقول كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزاء الأخير وهو الموت والقتل، فإنه وإن لم يذكر لفظاً لدلالة قوله (مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) عليه فهو مراد معنى، والمعتبر المقارنة عرفاً كما في قوله (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ) وقوله: إذا طلع هلال المحرم آتيك في منتصفه. وقال الزجاج: (إذا) هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل، يعني أنه لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار، والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل (إِذَا ضَرَبوا) ظرف (وَقَالُوا) بل ظرف ما يحصل للإخوان حتى يقال لأجلهم في حقهم ذلك القول، كأنه قيل: قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون. انتهى كلام الشيخ سعد الدين. وقال أبو حيان: يمكن إقرار (إذا) على الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل على أنَّ ضمير (لو كَانُوا) عائد على (إخوانهم) لفظاً لا معنى على حد: عندي درهم ونصفه، والتقدير: وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا أو كانوا غزاً لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين. اهـ قال الطَّيبي: تلخيص الوجوه الثلاثة هو أنَّ التعليل في الوجه الأول داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به، والمعنى: لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وفي الثاني: العلة خارجة عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة، وفي الثالث: الكل خارج من ذلك، والمعنى: لا تكونوا مثلهم ليجعل انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، فعلى هذا قوله تعالى (وَقَالُوا) ابتداء كلام عطف على مقدرات شيء كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم.

قال: فإن قلت: فما وجه اتصاله بالشبه، وما تلك المقدرات؟ قلت: لما وقع التشبيه على عدم الكون عمّ جميع ما يتصل بهم من الرذائل، وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم، أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا، ونظيره موقع قوله (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) من قوله (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ). اهـ قوله: (على أنّ اللام لام العاقبة ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: لما كان إيقاع الحسرة مترتباً على قولهم ذلك من غير أن يكون الثاني مطلوباً بالأول شبه بأمر مترتب على أمر يكون الأول عرضاً في الثاني على التهكم والتوبيخ ثم استعير لترتب المشبه كلمة الترتب المشبه به وهي اللام. اهـ قوله: (أو بـ (لا تكونوا)، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد، وليجعله حسرة فى قلوبهم خاصة). قال أبو حيان: هذا كلام مثبج لا تحقيق فيه، لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذا لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فلا يضربون في الأرض ولا يغزون، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء، وفهم هذا فيه خفاء ودقة. اهـ قال الحلبي: ولا أدري ما وجه تثبيج كلام الزمخشري، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه. اهـ وقال السفاقسي: يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو: لا تعص لتدخل الجنة، لأنَّ النهي ليس سبباً لدخول الجنة بل حصول المنهي عنه، وكذا لا يجوز: أطع الله لتدخل الجنة، لأنَّ الأمر ليس سبباً لدخول الجنة بل لحصول الأمور.

قال: والحق أنَّ اللام متعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أنَّ الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه، وهذا لا إشكال فيه. اهـ قوله: (فإنه تعالى يحيي المسافر والغازى ويميت المقيم والقاعد). قال الطَّيبي: أراد تحقيق قولهم: الشجاع موقىً والجبان ملقى. اهـ قوله: (من مات يمات). أصله على هذا: موت، بكسر الواو، ونقلت الكسرة كما في خاف، وعلى الأخرى موت، بفتح الواو، وقلبت كما في قال. قوله: (جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء). قال السفاقسي: إن عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح، وإن عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح. اهـ وقال الحلبي: إنما عنى الأول. اهـ قوله: (لإلى الله تحشرون). عن صاحب الكشاف: الحرف وإن دخل على الحرف صورة فهو على التحقيق دخل على الجملة. قوله: (و (ما) مزيدة للتأكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة). قال الطَّيبي: لابد من تقدير محذوف ليصح الكلام، لأنَّ الحصر مستفاد من تقديم الجار والمجرور على العامل، والتوكيد من زيادة (ما)، فالمعنى (ما) مزيدة للتوكيد، والجار والمجرور مقدم للدلالة، فهو من باب اللف التقديري. اهـ قوله: (وهو ربطه على جأشه). بالهمز أي: ربط الله على جأش النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الجوهري: يقال: فلان رابط الجأش؛ أي: شديد القلب، كأنه يربط نفسه عن الفرار لشجاعته، وجأش القلب روعه: إذا اضطرب عند الفزع. اهـ قوله: (وتوفيقه للرفق بهم).

قال الطَّيبي: يعني أفاد قوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) في هذا المقام فائدتين: إحداهما: ما يدل على شجاعته. والثانية: ما يدل على رفقه، فهو من باب التكميل، قال حكيم: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب وقد اجتمع فيه صلوات الله وسلامه عليه هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر إليه أصحابه مع أنه شج وكسرت رباعيته، ثم ما زجرهم ولا عنفهم عن الفرار بل آساهم في الغم كما قال (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)، وهو المراد بقوله: ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق. وفيه أنَّ هذه الآيات من هنا إلى قوله (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) مرتبط بعضها ببعض، فإن قلت: جعل الله تعالى الرحمة من الله علة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه وقد فسرها بأمرين وثانيهما ظاهر المدخل في العلِّية فبيِّنْ وجه الأول؟ قلت: الشجاع من ملك نفسه عند الغضب كما صح في الحديث، فربطُ الله جأشه سببٌ لكسر سورة الغضب الموجب لغلظ القلب والحمل على اللين، فاعجب لشدة هي في الحقيقة لين. اهـ قال الشيخ سعد الدين: إنما جعل الرفق ولين الجانب مسبباً عن ربط الجأش لأنَّ من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة. اهـ قوله: (روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ... ) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس). قوله: (أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسم الغائم). زاد في الكشاف عقبه: كما لم يقسم يوم بدر، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟

فقالوا: تركنا بقية إخواننا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل ظننتم أنّا نغل ولا نقسم لكم. فنزلت. وهذا ذكره الثعلبي والواحدي عن الكلبي ومقاتل. قوله: (وإما المبالغة فى النهي ... ). قال الطَّيبي: يعني أجرى الخبري مجرى الطلبي مبالغة. في الانتصاف: يشهد لورود هذه الصيغة نهياً مواضع من التنزل (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ). في الإنصاف: يعارضه ورود هذه الصيغة للامتناع العقلي كثيراً (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا). اهـ قوله: (روي أنه بعث طلاع ... ). الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن الضحاك مرسلاً. في النهاية: الطلائع هم القوم الذين يبعثون ليطلعوا طلع العدو كالجواسيس، واحدهم طليعة، وقد يطلق على الجماعة، والطلائع: الجماعات. اهـ قوله: (فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولاً تغليظاً ومبالغة ثانية). قال ابن المنير: هذا مخالف لعادة لطف الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - " في التأديب ومزجه باللطف (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بدأه بالعفو فما كان له أن يعبر بهذه

العبارة. اهـ قال الطَّيبي بعد حكايته: قد جاء أغلظ من ذلك بناءً على التهييج والإلهاب نحو قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) أو التعريض (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ)، ومن هذا قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، قال: كنى عن مباشرة النساء بالرفث استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختياناً. اهـ قلت: ما قاله الطَّيبي لا ينافي ما قاله ابن المنير، فإنَّ ابن المنير لم ينكر الخطاب الوارد من الله في هذا المعنى وإنما أنكر قول الزمخشري (تغليظاً) فإن هذه اللفظة لا تليق، ولهذا عبر الطَّيبي في الآية التي أوردها بالتهييج والإلهاب، ولم يجسر هو ولا غيره أن يعبروا بالتغليظ، ولهذا قال الشيخ سعد الدين هنا: قد استقبحت من المصنف هذه العبارة، فإنَّ العادة قد جرت باللطف مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالأولى أنه تعظيم لجنابه - صلى الله عليه وسلم - حيث عدَّ أدنى زلة منه غلولا. اهـ ثم لا يعجبني قوله أدنى زلة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - منزه عن الزلة؛ بل فعله ذلك إن صح صادر عن اجتهاد لا ينقض، فالأولى أن يكون على حد (لئن أشركت) خوطب وأريد غيره ممن يفعل هذا بعد النهي عنه (1). قوله: (يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء فى الحديث). رواه البخاري ومسلم من حديث أبي حميد الساعدي بلفظ: والذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه. قوله: (شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت). قال الطيبي: وضع درجات موضع متفاوتون إطلاقاً للملزوم على اللازم على سبيل الاستعارة، أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيهاً محذوف الأداة. اهـ قوله: (والله بصير).

_ (1) كلام الشيخ سعد الدين محمول على الفرض كما في قوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) فصدور الظلم من الله تعالى غير متصور فلو وقع -على سبيل الفرض المحال- فيكون ظلاما لا ظالماً. وفيه من المدح والثناء ما فيه كذلك الأمر هاهنا في حق الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

قال الأزهري: البصير في صفة العباد هو المدرك ببصره الأكوان، وسمع الله وبصره لا يكيفان ولا يحدان، والإقرار بهما واجب كما وصف نفسه. اهـ قوله: ((إن) هى المخففة، واللام هى الفارقة، والمعنى: وإنّ الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ضلال ظاهر). ذكر مكي مثله إلا أنه قال: التقدير: وإنهم كانوا من قبل، فجعل اسمها ضميراً عائداً على المؤمنين. قال أبو حيان: وكلا الوجهين لا يعرف نحو: يا ذهب إليه، إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت: إنَّ زيداً قائم، ثم خففت فمذهب البصريين فيها وجهان: أحدهما: جواز الإعمال، ويكون حالها وهي مخففه كحالها وهي مشددة إلا أنها لا تعمل في مضمر، ومنع من ذلك الكوفيون، وهم محججون بالسماع الثابت من لسان العرب. والوجه الثاني: وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا في مضمر، لا ملفوظ به ولا مقدر ألبتة، فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت اللام في باقي مصحوبيها إن ينف وفي أولهما إن تأخر فتقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيد قائم، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء، وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. اهـ وقال الحلبي: لم يصرح الزمخشري بأنَّ اسمها محذوف فقد يكون هذا تفسير معنى لا إعراب. اهـ قوله: (والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد [أو على محذوف). قال أبو حيان: أما العطف على ما مضى من قصة أحد] ففيه بعد، وبعيد أن يقع

قوله: (و (لما) ظرف)

مثله في القرآن، وأما العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر من مذهبه، وقد رددنا عليه، وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها التقديم، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. اهـ وقال الطَّيبي: إن كان المعطوف عليه ما مضى فالهمزة داخلة بين المعطوف والمعطوف عليه للطول مزيداً للإنكار ولابد إذن من إنكار في الكلام السابق، ومضمون المعطوف عليه وهو جملة قوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ... ) الآية: أكان من الله الوعد بالنصر على أعدائكم بشرط الصبر والتقوى، فلما فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم أمر الرسول ونفر أعقابكم يريدون الدنيا وأصابكم الله بما أصابكم وقلتم حين أصابكم ذلك: أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم، أنتم السبب فيما أصابكم. اهـ قوله: (مثل أفعلتم كذا). قال الطَّيبي: أي الفشل والتنازع والعصيان والخروج من المدينة والإلحاح على النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ قوله: (و (لما) ظرف) قال أبو حيان: هو مذهب أبي علي الفارسي، ومذهب سيبويه -وهو الصحيح- أنها حرف وجوب لوجوب. اهـ قوله: (من أين هذا) قال أبو حيان: الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير (في)، أما أن يقدر داخلاً عليه (من) فلا، لأنه إنما انتصب على إسقاط (في) فتقديره (أَنَّى هَذَا): من أين هذا؛ تقديرٌ غير سائغ وذهول عن القاعدة. اهـ وقال الحلبي: الزمخشري لم يقدر غير (في) مع (أَنَّى هَذَا) حتى يلزمه ما قال، إنما جعل (أَنَّى) بمنزلة من أين في المعنى. اهـ

قوله: (وعن علي: باختياركم الفداء يوم بدر) أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي. قوله: (فهو كائن بقضائه ... ). قال الشيخ سعد الدين: إشارة إلى أنَّ الظرف خبر المبتدأ، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط، ووجه السببيه ليس بظاهر إذ ليست الإصابة سبب التخلية بل بالعكس فهو من قبيل (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)، أي: ذلك سبب للإخبار بكونه من الله تعالى على ما ذكرنا أنَّ القيد في الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطلب فكذا في الأخبار. فإن قيل: تقديره هو كائن؛ يخالف ما تقرر من أنَّ الظرف مقدر بالفعل؟ قلنا: هو بيان للمعنى، وإلا فالتقدير: فبإذن الله يكون ويحصل. اهـ قوله: (وتخلية الكفار سماها إذناً لأنه من لوازمه). قال الطَّيبي: قد مر كيفية استعارة الإذن للتيسير في هذه السورة، ووجهه أنَّ التكليف لما بني على الاختيار والابتلاء استعير هنا الإذن لتخلية الكفار وغلبتهم على المسلمين فكأنّ التكليف يستدعي التخلية ويطلب التيسير للابتلاء. اهـ قوله: (أو كلام مبتدأ) قال الطَّيبي: لما ذكر الله أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم في الآيات وبيَّن أنَّ الدائرة إنما كانت للابتلاء، وليتميز المؤمنون عن المنافقين، وليعلم كل واحد من الفريقين أنَّ ما قدره الله من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة، وجيء بالواو لأنها ملائمة (لأصل الكلام)، والنفاق على هذا مطلق متعارف، وعلى أن يكون (وقيل لهم) عطفاً على (نافقوا) يكون بياناً له، وأنه نفاق خاص أظهروه في ذلك المقام حيث قالوا (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً

لاتَّبَعْنَاكُمْ). اهـ قوله: (لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: هو من باب إخراج نوع من جنس وإدخاله في جنس آخر بالادعاء والمبالغة كقولك: ليس فلان آدمياً بل هو أسد. اهـ قوله: (أو لا نحسن قتالاً). قال الطَّيبي: المنفي على المعنى الأول القتال، وعلى الثاني القدرة عليه، لأن التقدير: لو نحسن قتالاً تدعونا إليه لاتبعناكم، يقال: فلان لا يحسن القتال؛ أي: لا يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. اهـ قوله: (دغلاً). في الأساس: الدغل: الغيل والشجر الملتف، ومن المجاز: اتخذ الباطل دغلاً ومنه دغل فلان، وفيه دغل أي: فساد وريبة. اهـ قوله: (لانخذالهم). في الأساس: أقدم على الأمر ثم انخذل عنه أي: ارتد وضعف. اهـ قوله: (بدلاً من واو (يكتمون)). قال الطَّيبي: المعنى والله أعلم بما يكتم الذين قالوا. اهـ قوله: (بدلاً من الضمير في (بأفواههم)). قال الطَّيبي: أي: يقولون بأفواه الذين قالوا لإخوانهم، فيكون من باب التجريد. قال الشاعر:

دعوت كليباً دعوةً فكأنما ... دعوت به ابن الطود أو هو أسرع. اهـ قوله: (أو قلوبهم). قال الطَّيبي: المعنى: ما ليس في قلوب الذين قالوا، فهو تجريد أيضاً على نحو قوله (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ). اهـ قوله: (كقوله: على جوده لضن بالماء حاتم). وصدره: على حالةٍ لو أنَّ في القوم حاتماً. وقبله قوله: فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلى غضون العنبريِّ الجُراضِم فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم قال الشيخ سعد الدين: التصافن: اقتسام الماء بالحصص عند ضيق الماء، وذلك إنما يكون بالمقلة تسقي الرجل بقدر ما يغمرها، وحاول العنبري الزيادة المفرطة على حقه لفرط عطشه وكونه واسع البطن أكولاً؛ وهو معنى الجراضم بضم الجيم، والصرائم: جمع صريمة وهي منقطع الرمل ويقل فيه الماء، والإجهاش: تفزع الإنسان إلى غيره مع تهيؤٍ للبكاء كالصبي إلى الأم، وغضون الجلد: مكاسره كالجبين، وأسند الإجهاش إليها لأنَّ مخايله تظهر فيها، وحاتم: بالجر بدل من ضمير جوده. اهـ قال الطَّيبي: (على جوده) حال من ضمير الاستقرار، أي: لو أنَّ حاتماً مستقر في القوم، أي كائناً على جوده، (حاتم) بالجر، لأن القوافي كلها مجرورة، وهو بدل من

الهاء في ضمير (جوده) بدل المظهر من المضمر نحو: مررت به أبي زيد. اهـ قوله: ((وقعدوا) مقدرة بقد). قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ الواو للحال لأنه ليس بالمقصود من العطف. اهـ قوله: (نزلت في شهداء أحد). أخرجه الحاكم عن ابن عباس. قوله: (وقيل فى شهداء بدر). وهو غلط، إنما تلك آية البقرة. قوله: (أو إلى (الذين قتلوا) والمفعول الأول محذوف). زاد الزمخشري: ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. اهـ قال أبو حيان: وما ذهب إليه من هذا التقدير لا يجوز، لأنَّ فيه تقديم المضمر على مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وليس هذا منها. اهـ قال السفاقسي: مسلَّم أنه ليس واحداً منها لكن (الذين) فاعل وعود الضمير على الفاعل المتأخر في اللفظ جائز لأنه مقدم في المعنى، وإنما هذا مما تعدى فيه فعل الظاهر إلى ضميره وهو جائز في ظننت وأخواتها، وحسبت منها، وقد نص السيرافي وغيره على جواز (ظنه زيدٌ منطلقاً) و (ظنهما الزيدان منطلقين) وهذا نظير ما ذكره الزمخشري. اهـ

وكذا قاله ابن هشام في المغني بعد نقله رد أبي حيان على الزمخشري: وهو غريب جداً فإنَّ هذا المؤخر مقدم الرتبة. اهـ ثم قال أبو حيان: وقوله إنَّ المفعول الأول محذوف قد يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزنه لكنه عندهم عزيز جداً، ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي ألبتَّة، وما كان ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً عند الجمهور ينبغي ألاّ يحمل عليه كلام الله، فتأويل من تأول الفاعل مضمراً يفسره المعنى أي: لا يحسبنَّ هو -أي: أحدٌ أو حاسبٌ- أولى، وتتفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلف بالخطاب والغيبة. اهـ وقال الحلبي: هذا من تحملات أبي حيان على الزمخشري، أما قوله (يؤدي إلى تقديم المضمر ... ) إلى آخره فالزمخشري لم يقدره صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدره بلفظ (أنفسهم) المنصوبة وهي المفعول الأول، وأظنُ الشيخ توهم أنَّها مرفوعة تأكيد للمضمر في (قتلوا) ولم ينتبه لأنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة، وأما تمشيته قوله على مذهب الجمهور فيكفيه وما عليه من ابن ملكون، وستأتي مواضع يضطر هو وغيره إلى حذف أحد المفعولين. اهـ وقال الطَّيبي: حذف أحد المفعولين في باب الحسبان مذهب الأخفش، خلافاً لسيبويه. اهـ قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: كيف جاز في المقتولين؟ قلنا: لأنهم أحياء ونفوسهم باقية مدركة. اهـ قوله: (بل أحسبهم أحياءً) هو تخريج الزجاج، وقد رده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان، قال:

ولا يصح أن يضمر له إلا فعل الحسبان، فإن أضمر (اعتقدهم) أو (اجعلهم) فهو ضعيف إذ لا دلالة عليه. وقال الحلبي: وهذا تحامل من الفارسي لأن (حسب) قد تأتي لليقين كقوله: حسبت التقى والجود خير تجارة وتضعيفه تقدير (اعتقدهم) و (اجعلهم) يريد من حث عدم الدلالة اللفظية وليس كذلك بل إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف، وإن كان دلالة اللفظ أحسن. وقال أبو حيان: لا يصح تقدير (اجعلهم) ألبتَّة سواءً أجعلته بمعنى اخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألقهم. اهـ وقال السفاقسي: يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك، والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى (فاعتبروا) (أمر) بالقياس وتحصيل الظن. اهـ قوله: (ذوو زلفى منه). قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس (عند) هنا للقرب المكاني لاستحالته، ولا بمعنى في علمه وحكمه كما في قولهم: هو كذا عند سيبويه؛ لعدم مناسبة المقام، بل

قوله: ((يستبشرون) كرره للتوكيد).

بمعنى القرب شرفاً ورتبة. اهـ قوله: (بدل من (الذين)). قال الطَّيبي: أي بدل الاشتمال لأن الضمير في (عليهم) عائد إلى (الذين لم يلحقوا بهم)، وقد ضم إليه السلامة من الخوف والحزن. اهـ قوله: (عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ... ). الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم. قال الإمام التوربشتي: أراد بقوله (أرواحهم في أجواف طير خضر) أنَّ الروح الإنسانية المتميزة المخصوصة بالإدراكات بعد مفارقتها البدن يهيأ لها طير أخضر فتنتقل إلى جوفه ليعلق ذلك الطير من ثمر الجنة، فتجد الروح بواسطته ريح الجنة ولذتها والبهجة والسرور، ولعل الروح يحصل لها تلك الهيئة إذا تشكلت وتمثلت بأمر الله تعالى طيراً أخضر كتمثل الملك بشراً، وعلى أي حالة كانت فالتسليم واجب علينا لورود البيان الواضح على ما أخبر عنه الكتاب والسنة وروداً صريحاً لا سبيل إلى خلافه). قوله: ((يستبشرون) كرره للتوكيد). قال أبو حيان: أعربه غير الزمخشري بدلاً من الأول، ولذا لم يدخل عليه واو العطف. اهـ قوله: (وليعلق به ما هو بيان لقوله (أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) قال الطَّيبي: يعني كرر (يَسْتَبْشِرُون) ليعلق به قوله (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، وهو بيان وتفسير لقوله (أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ

يَحْزَنُونَ)، لأنَّ الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار، فمن كان متقلباً في نعمة من الله وفضل فلا يحزن أبداً ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة. اهـ قوله: (وقرأ الكسائى بالكسر على أنه استئناف معترض). قال أبو حيان: ليست هذه الجملة اعتراضاً لأنَّها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر. اهـ قال الحلبي: ويمكن أن يجاب عنه بأن (الذِينَ استجَابُوا) يجوز أن يكون تابعاً لـ (الذين لم يلحقوا) نعتاً أو بدلاً، فعلى هذا يتصور الاعتراض. اهـ قال الطَّيبي: قول الزمخشري: على أنَّ الجملة اعتراض، أي: تذييل للآيات السابقة من لدن قوله (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)، وفي ذكر المؤمنين إشعار بأن من وسم بسمة المؤمنين كائناً من كان شهيداً مقرباً أو من أصحاب اليمين فإن الله تعالى لا يضيع ًأجره. اهـ قوله: (صفة للمؤمنين أو نصب على المدح). قال الطَّيبي: فعلى هذا يجب أن يكون (أنَّ) المفتوحة مع ما بعدها معطوفة على النعمة والفضل، ويكون (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ... ) الآية مستأنفة، أي: ما لهم حينئذ؟ فقيل: لهم أجر عظيم. اهـ قوله: (أو مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا)). قال أبو حيان: [إنه الظاهر. اهـ قال الطَّيبي]: أي (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا) مع ما في حيز الصلة مبتدأ، وقوله (أَجْرٌ

عَظِيمٌ) مبتدأ ثان، و (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول. اهـ وبقي من الوجوه أن يكون رفعاً على القطع. قوله: (و (من) للبيان). قال الطَّيبي: فالكلام فيه تجريد، جرد من (اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) المحسن المتقي. اهـ وقال أبو حيان: من لا يرى ورود (من) للبيان قال إنَّها للتبعيض حالاً من ضمير (أحسنوا) وعليه أبو البقاء. اهـ قوله: (روي أن أبا سفيان وأصحابه -إلى قوله- فنزلت) أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي وغيرهما، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن ابن إسحاق عن شيوخه. قوله: (من حضر يومنا). أي وقعتنا. في الأساس: ذكر في أيام العرب كذا، أي: في وقائعها، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): بدمادمه على الكفار. اهـ قوله: (فتحاملوا). في الأساس: تحاملت الشيء: احتملته على مشقة. اهـ قوله: ((الذين قال لهم الناس)) قال الشيخ سعد الدين: (الناس) الثاني في الآية غير الأول إذ اللام العهدية فيه ليست إشارة إلى ما ذكر صريحاً بل إلى ما يعرفه المخاطبون. اهـ قوله: (روي أنه نادى عند انصرافه ... ). الحديث أخرج ابن جرير بعضه عن مجاهد وبقيته عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن

عمرو بن حزم. قوله: (وقيل في نعيم بن مسعود). الحديث ذكره ابن سعد في طبقاته. قوله: (الضمير المستكن للمقول) قال أبو حيان: هو ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به لا هو في نفسه. اهـ قال الحلبي: وفيما قاله نظر، لأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان. اهـ وكذا قال السفاقسي: فيه نظر لأنَّ نفس المقول لا يزيد إيماناً بل باعتبار مدلوله. اهـ قوله: (أو لفاعله إن أريد به نعيم). قال أبو حيان: هو ضعيف من حيث إنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد، فيفال: مفارقه شابت، باعتبار الإخبار عن الجمع، ولا يجوز: مفارقه شاب، باعتبار مفرقه شاب. اهـ قال السفاقسي: لا يبعد جوازه بناءً على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى. اهـ وذكر الحلبي ونحوه. قوله: (ويعضده قول ابن عمر: قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار).

أخرجه الثعلبي في تفسيره. قوله: (وفيه تحسير للمتخلف). قال الطَّيبي: يعني في عطف قوله (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ) على قوله (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) على سبيل التكميل، وتذييل الآية (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) مع التصريح بالاسم الجامع وإسناد (ذو فضل) إليه ووصفه بعظيم إيذان بأنَّ المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمراً عظيماً لا يكتنه كنهه وهم أحق بأن يتحسروا عليه تحسراً ليس بعده. اهـ قوله: (و (الشيطان) خبر (ذلكم) ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: ذكر في الآية وجوهاً: أحدها: أنَّ (الشيطان) خبر (ذلكم)، والظاهر أنَّ المشار إليه (الناس) المذكور أولاً في قوله (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ... ) وهو نعيم بن مسعود لقوله: إنما ذلكم الشيطان، والمرا بـ (أولياءه) أبو سفيان وأصحابه، فيكون قوله (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) على تقدير جواب سائل: لم قصرت الشيطنة فيه؟ وأجيب: بأنه يخوف المسلمين أبا سفيان وأصحابه خديعةً ومكراً، وتخويفه قوله: (ما هذا بالرأي) أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد. وثانيها: أن يكون (الشيطان) صفة، و (يُخَوِّفُ) الخبر، وحينئذٍ يجوز أن يراد بالمشار إليه (الناس) المذكور أولاً وهو نعيم، أو الثاني وهو أبو سفيان، والمراد بتخويف أبي سفيان نداؤه عند انصرافه من أحد: موعدنا موسم بدر لقابل، ولما كان الوجه الأول أبلغ لمكان التخصيص بتعريف الخبر وموقع الاستئناف وكان تخويف نعيم ظاهراً اختص به. وثالثها: أن يكون المضاف محذوفاً والمراد بالشيطان إبليس كما صرح به، وعلى هذا الوجه المفعول الأول محذوف، والمراد بالأولياء: أبو سفيان وأصحابه، ويجوز أن يراد بالأولياء القاعدون، والمفعول الثاني محذوف والمراد بالتخويف: ما أوقع الشيطان في قلوبهم من الجبن والخور والرعب.

(ولا يحزنك الذين يسارعون)

وكأنَّ أقرب الوجوه الوجه الأخير لأنه قيل في حق السابقين غير القاعدين (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فوضع موضع فما خافوا فزادهم إيماناً، وقال في حق هؤلاء القاعدين (فَلا تَخَافُوهُم وَخَافُونِ) وسموا أولياء الشيطان تغليظاً، ولذلك قرن به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مقابلاً لقوله (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، ثم إن أريد بالأولياء أبو سفيان وأصحابه والخطاب بقوله يخوفكم المؤمنون الخلص كان قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) في معنى التعليل فلا يقتضي الجزاء، وإن أريد به المتخلفون كان المعنى: إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأنَّ الإيمان يقتضي أن يؤثروا خوف الله على خوف الناس كما قال الإمام: والمعنى: الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، وأما أولياء الله فهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره، وهذا قول الحسن والسدي. قال الطَّيبي: والنظم يساعد عليه، فإنه تعالى لما بين أنَّ الذي أصاب المؤمنين يوم التقى الجمعان إنما أصابهم ليتميز المؤمن المخلص من المنافق فقسمهم أقساماً بدأ بذكر المنافقين ثم ثنى بذكر المؤمنين وجعلهم طبقات فذكر من استشهد وصدقوا ما عاهدوا الله عليه واستتبع مدحهم مدح الطبقة الثانية الذين لم يلحقوا بهم فذكر من أوصافهم أنَّهم الذين استجابوا لله والرسول تعريضاً بالمتخلفين، وأنهم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، ولا فرغ من مدحهم التفت إلى الطبقة الثالثة وقال (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ)، ثم ثلث بذكر الذين محضوا الكفر و واطأت قلوبهم ألسنتهم فقال (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ) مستطرداً لذكر أولياء الشيطان، ثم عاد إلى ما بدأ منه من قوله (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) توكيداً وتقريراً، ولما أراد أن يذكر اليهود جعل قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) مخلصاً إليه ثم قال (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). اهـ قال أبو حيان: إنما كان المراد بالشيطان على القولين الأولين نعيماً أو أبا سفيان لأنه لا يكون صفة والمراد به إبليس، لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة كالعيوق. اهـ قال الحلبي: وفيه نظر. اهـ

قوله: (يقعون فيه سريعاً). قال الطَّيبي: يشير إلى أنَّ (يسارعون) مضمن معنى يقعون، لأنَّ المسارعة تعدى بـ (إلى). اهـ قوله: (والمعنى: لا يحزنك خوف أن يضروك). قال الطَّيبي: يعني ما أوقع فاعل (وَلا يَحْزُنْكَ) موصولة لتدل صلتها على علة النهي بل أوقعه ليكني به عن إيصال المضرة لأنَّ من يرغب في الكفر سريعاً غرضه مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم قتالهم ويدل عليه إيتاء قوله (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا) رداً وإنكاراً لظن الخوف، وإلى هذا المعنى أشار صاحب المفتاح: ربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على الخطأ. اهـ قوله: (وفي ذكر الإرادة إشعار بأنَّ كفرهم بلغ الغاية أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته). تبع فيه الكشاف حيث قال: فإن قلت هلا قيل: لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة، أي: نصيباً من الثواب، ولهم بدل الثواب عذاب عظيم، وأي فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت: فائدته الإشعار بأنَّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية حتى إنَّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم. اهـ قال الطَّيبي: السؤال والجواب مبني على مذهبه، والسؤال من أصله غير متوجه لأنه عدول عن الظاهر، فإن قوله (يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) استئناف لبيان الموجب، كأنه قيل: لم يسارعون في الكفر مع أنَّ المضرة عائدة إليهم؟ فأجيب: أنه تعالى يريد ذلك منهم فكيف لا يسارعون. اهـ قوله: (تكريراً للتأكيد). قال الطَّيبي: أي هذه الآية والمتلوة قبلها سيان من حيث المعنى، فإن معنى (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) و (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) سواء، لأنَّ المسارعة للرغبة والمشتري راغب في المشترى، و (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا) مقابل لمثله، وقوله (يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا

فِي الآخِرَةِ ... ) إلى آخره تلخيص قوله (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). اهـ قوله: (أو المفعول الثاني على تقديره مضاف ... ). قال الطَّيبي: قيل: إنما لم يجعله مفعولاً ثانياً بدونه لأنَّ التقدير كون الإملاء خيراً لهم [فلا يصح حمله على (الذين كفروا) لأنك لا تقول (إن الذين كفروا)] على الابتداء والخبر، ويجوز ذلك على حذف المضاف إما في الخبر أو في الابتداء لتصح الجمل. اهـ قوله: (الطِّول). بكسر الطاء: الحبل الذي يُطّولُ للدابة فترعى فيه. قوله: (واللام لام الإرادة). قال السجاوندي: إرادة زيادة الإثم جائزة عند أهل السنة، ولا يخلو عن حكمة. اهـ قوله: (وقرئ (أنما) بالفتح وكسر الأولى) قال الطَّيبي: هذه القراءة شاذة، ومع ذلك غير مخالفة لمذهب أهل السنة، وتقريرها أنها جارية على البعث على التفكر والنظر، فالمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنَّ مطلق الإملاء في حقهم لأجل الازدياد في الإثم والانهماك في الشر فقط حتى يسارعوا في الكفر والإضرار بنبي الله فيهلكوا؛ بل قد يكون الإنظار للنظر المؤدي إلى الإنصاف فيتداركهم الله بلطفه بالتوبة والدخول في الإسلام فيفلحوا قال الله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، ونحوه قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، إنهم إذا نظروا إلى هذا الكلام المنصف تركوا العناد

وأنصفوا من أنفسهم. والفرق بين القولين أنَّ إملاء الله تعالى على قولهم مقصور على الإرادة للتوبة مراعاة للأصلح، وعلى قولنا الإرادة كما أنَّها تتعلق بالتوبة تتعلق بازدياد الإثم. اهـ قوله: (روى أن الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منَّا بالله ومن يكفر فنزلت). أخرجه ابن جرير عن السدي. قوله: (وعن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: عرضت علي أمتي وعلمت من يؤمن بي ومن يكفر. فقال المنافقون: إنه يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا، فنزلت). لم أقف عليه. قوله: (وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفاً لدلالة (يبخلون) عليه). قال الطَّيبي: عن صاحب الكشاف: إنما يجوز حذف أحد مفعولي (حسب) إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئاً واحداً في المعنى كقوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا) على القراءة بالياء التحتية أي: لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وإنما حذفت لقوة الدلالة؛ وهذه الآية ليست كذلك فلا بد من التأويل، وذلك أنَّ الموصولة اشتملت على (يبخلون) فالفاعل مشتمل على معنى البخل فكان الجميع في حكم معنى واحد، ولذلك حذف، وإليه الإشارة بقوله: والذي سوغ حذفه دلالة (يبخلون) عليه. اهـ قوله: (والمعنى: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق). قال الشيخ سعد الدين: إشارة أنَّ هذا تمثيل ولا طوق حقيقة، وقيل: هو على حقيقته وأنهم يطوقون حية أو طوقاً من نار. اهـ قوله: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله ... ) الحديث.

أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود نحوه. قوله: (وله ما فيها مما يتوارث). قال الزجاج: إنَّ الله يغني أهلهما فيغنيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك، فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع للإنسان ميراثاً (إذا كان) ملكاً له. اهـ قوله: (قاله اليهود لما سمعوا (من ذا الذي يقرض الله قرضاً)). أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبى بكر إلى يهود بنى فينقاع ... ) الحديث. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه). قوله: (والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب عليه) قال الطَّيبي: يشير إلى أن قوله (سَمِعَ اللهُ) كناية تلويحية عن الوعيد لأن السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم للوعيد في هذا المقام، فقوله: وأنه أعد لهم عطف تفسيري على قوله: أنه لم يخف. اهـ الشيخ سعد الدين: يعني أن الله سميع عليم بالمسموعات، فمعنى تخصيص هذا القول بالذكر أنه أعد له عقاباً يناسبه على طريق الكناية. اهـ قوله: (أي: وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا) قال الطَّيبي: أي (ونقول) عطف على (سنكتب)، والباء في (بأن نقول) كالباء في (كتبت بالقلم) أي: ننتقم منهم بواسطة هذا القول، ولن يوجد هذا القول إلاّ

قوله: (والذوق. . .) إلى آخره.

وقد وجد العذاب وألمه، فالكلام فيه كناية. اهـ قوله: (والذوق ... ) إلى آخره. قال الزجاج: (ذوقوا) كلمة للذي يؤيس من العفو عنه، أي: ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص. اهـ قوله: (وعلى الاتساع ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: ناسب ذق في الاتساع للإدراك قوله (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) في الاتساع من مزاولة الأعمال. اهـ قوله: (عطف على (ما قدمت) وسببيته العذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء). هو جواب سؤال مقدر وتقديره كما قال الطَّيبي: إنَّ الجهة الجامعة بين المعطوف والمعطوف عليه واجب، وهي في قوله (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) مفقودة، لأنَّ الذي دل عليه المعطوف استحقاق العذاب لكونه تعليلاً لقوله (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) وهذا كيف يتصور في قوله (لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ)؟ وتقرير الجواب: أنَّ مفهوم الآية دل على أنه عادل، والعدل مستلزم لعقاب المسيء وإثابة المحسن، كأنه قيل: ذلك العذاب بسبب فعلكم وبسبب أنَّ الله عادل لا يترك معاقبة المسيء، فحصلت الجهة الجامعة. اهـ قوله: (ولا ذاكر الله إلا قليلاً) هو لأبي الأسود الدؤلي وصدره: فألفيته غير مستعتب. وأول الأبيات: رأيت امرئ كنت لم أبله ... أتاني فقال اتخذني خليلا فخاللته ثم أكرمته ... ولم أستفد من لدنه فتيلا فوافيته حين جربته ... كذوب اللسان سؤولاً بخيلا فذكرته ثُمَّ عاتبته ... عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا

فألفيته ... البيت. قال الشيخ سعد الدين: الأصل (ذاكرٍ) بالتنوين مجروراً معطوفاً على (مستعتب) ولا إضافة لأنَّ (الله) منصوب واسم الفاعل معتمد على النفي أو على المبتدأ في التقدير كما تقول: أنت غير ضارب زيداً؛ أي: لا ضارب، والمعنى: ذكرته ما كان بيننا من العهود والمودات وعاتبته أدنى عتاب فما وجدته طالباً رضاي، يقال: استعتبته فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني. اهـ قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار). أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. واستدرك عليه الشيخ ولي الدين العراقي بأنه ورد أيضاً من حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط. قوله: (وعن النبى - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يزحزح عن النار ... ) الحديث. أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. وقال الطَّيبي: الضمير المستتر في (يؤتى) راجع إلى ما. في الأساس: أتى إليه إحساناً إذا فعله، أي: يحسن إلى الناس ما يحب أن يحسن إليه. اهـ قوله: (على المستام). قال الطَّيبي: أي المشتري. اهـ

قوله: (متاع بلاغ). قال الطَّيبي: (أي يبلغ بالدنيا إلى الآخرة). اهـ قوله: (من معزومات الأمور ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: جعل المصدر في تأويل المفعول، وجمعه لإضافته إلى الأمور. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ العزم مصدر بمعنى المفعول أي المعزوم عليه، والفاعل هو العبد بمعنى أنه يجب عليه أن يعزم على ذلك، أو الله أي: أراد وفرض، وذكر المرزوقي أن حقيقة العزم: توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله، ولذلك لم يجز على الله. اهـ قوله: (أي: اذكر وقت أخذه). قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأنَّ (إذ) مفعول به لا ظرف إلا أن يكون المراد ذكر الحادث وقت الأخذ. اهـ قوله: (من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من النار). أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجة من حديث أنس، وأخرجه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمرو. ولفظه: من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار. قال الشيخ ولي الدين العراقي: ولم أجد في ألفاظه من كتم علماً عن أهله.

قوله: (فلا تحسبنهم تأكيد).

قوله: (وعن علي: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلموا). قال الشيخ ولي الدين: رواه الثعلبي في تفسيره من طريق الحارث ابن أبي أسامة، وهي في مسند الفردوس من حديثه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد). قال الزجاج: العرب إذا طالت القصة تعيد (حسبت) وما أشبهها إعلاماً أنَّ الذي جرى متصل بالأول وتوكيداً. اهـ قوله: (ومفعولا (لا يحسبن) محذوفان). قال السفاقسي: حذف المفعولين في باب (حسب) أسوغ من حذف أحدهما. اهـ قوله: (أو المفعول الأول محذوف). قال الشيخ سعد الدين: هذا إذا جعل التأكيد مجموع (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) أعني الفعل والفاعل والمفعول، فإن جعل الفعل والفاعل على ما هو الأنسب إذ ليس المذكور سابقاً إلا الفعل والفاعل فالضمير المنصوب المتصل بالتأكيد هو المفعول الأول ولا حذف. اهـ وأعاد أبو حيان منازعته السابقة في آية الشهداء من أن هذا الحديث عزيز عند الأكثر وممنوع عند البعض فينزه عنه القرآن. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شىء ... ) الحديث. أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس بمعناه. قوله: (وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ... ) إلى آخره. أخرجه الشيخان عن أبي سعيد، وعبد بن حميد في تفسيره عن رافع بن خديج. يقال: استحمد إليه؛ أي: طلب منه أن يحمده. قوله: (فهو يملك أمرهم). قال الطَّيبي: فيه تهديد لليهود، والفاء جواب شرط محذوف والمراد بالسماوات

والأرض جميع العالم، والتقدير: إذا كان مالك العالم وهو من جملته وقادراً على كل شيء وهم بعض مقدوراته فيلزم أن يكون مالكاً لأمرهم وقادراً على عقابهم. اهـ قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها). أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة. قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام: من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله). أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث معاذ. قوله: (صل قائماً ... ) الحديث. أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة حديث عمران بن حصين وليس فيه ذكر الإيماء. قوله: (لا عبادة كالتفكير). أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن حبان في الضعفاء من حديث علي وضعفاه. قوله: (بينما رجل مستلق على ... ) الحديث. أخرجه أبو الشيخ ابن حيان والثعلبي من حديث أبي هريرة. قوله: (غاية الإخزاء ونظيره قولهم من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك). قال الطَّيبي: أي أدرك مرعى ليس بعده مرعى، والصمان: جبل. اهـ

قوله: (أي: بأن آمنوا).

وقال الشيخ سعد الدين: الأبلغية مستفادة من جعل الجزاء أمراً ظاهر اللزوم للشرط بحيث لا فائدة في ذكره ما دام محمولاً على إطلاقه، فيحمل على أخص الخصوص ليفيد. اهـ قوله (لتضمنهما معنى الانتهاء). أي انتهاء الغاية والاختصاص. قال الطَّيبي: لأنَّ من انتهى إلى الشيء اختص به. اهـ قوله: (أي: بأن آمنوا). اقتصر على أنَّ (أن) مصدرية، وجوز الزمخشري أن تكون تفسيرية، ورجحه أبو حيان، وعبارة الكشاف: أن آمنوا، أو: بأن آمنوا. قال الطَّيبي: الأول: على أنَّ (أن) مفسرة، لأنَّ في (ينادي للإيمان) معنى القول، والثاني: على أنَّ (أن) مصدرية وصلت بالأمر. اهـ قوله: ((فاغفر لنا ذنوبنا) كبائرنا (وكفر عنا سيئاتنا) صغائرنا) قال الطَّيبي: خولف بين معنييهما ليكون من باب التتميم والاستيعاب كقوله (الرحمن الرحيم)، أو لأنَّ المناسب بالذنب الكبائر لأنه مأخوذ من الذَنُوب وهو الدلو الملأى، ولأنَّ الشرك يسمى ذنباً ولا يسمى سيئة، ولأنَّ الغفران مختص بفعل الله والتكفير قد يستعمل في فعل العبد يقال: كفر عن يمينه، ولأنَّها مقابلة للحسنة لقوله تعالى (إنَّ الحسنات يذهبن السيئات) فلا شك أنها صغائر (1). اهـ قوله: (مخصوصين بصحبتهم). قال الطَّيبي: الاختصاص مستفاد من استعمال التوفي مع الأبرار، وذلك أن التوفي مع الأبرار محال لأن بعضاً منهم تقدم وبعضاً لم يوجد، فالمراد: الانخراط في سلكهم على سبيل الكناية، فإنه إذا كان منخرطاً في سلكهم لا يكون مع غيرهم. اهـ قوله: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).

_ (1) قد ذكر فعل الغفران منسوباً للعبد في موضعين في سورة الجاثية في قوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وفي التغابن في قوله تعالى (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لكن شتان بين فعل العبد وبين فعل الرب تبارك وتعالى. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

أخرجه الشيخان من حديث عبادة بن الصامت. قوله: (والأبرار: جمع برّ أو بارّ كأرباب وأصحاب). قال الشيخ سعد الدين: الجمهور على أنه لم يثبت جمع فاعل على أفعال، وأن أصحاب جمع صحْب بالسكون أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف. اهـ قوله: (ويجوز أن يعلق علَى محذوف تقديره: ما وعدتنا مُنَّزلاً على رسلك، أو محمولاً عليهم). قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأنَّ القاعدة أنَّ معلق الظرف إذا كان كونا مقيداً لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كوناً مطلقاً. وقال أيضاً: فالظرف هنا حال وهو إذا وقع حالاً أو خبراً أو صفة أو صلة يتعلق بكون مطلق لا مقيد. اهـ وقال السفاقسي: للزمخشري أن يمنع انحصار التعلق في كونٍ مطلق بل به أو بمقيد إذا كان عليه دليل، وليس نظير: زيد في الدار؟ أي: صاحبك، أي: لا دليل على صاحبك. اهـ قوله: (وفى الآثار: من حزنه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف). لم أقف عليه). قوله: (أو لأنهما من أصل واحد ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يريد أنَّ (من) في قوله (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) إتصالية كما في قوله: لست من دد ولا الدد مني، ثم الاتصال إما بحسب أنَّ أباكَم آدم، وهو المراد بقوله: من أصل واحد، وإما بحسب محبتكم وخلتكم، وهو المراد بقوله: أو لفرط الاتصال والاتحاد، وإما باعتبار الأخوة في الإسلام، وهو المراد بقوله: أو الاجتماع والاتفاق في الدين. اهـ قوله: (وهى جملة معترضة). قال الحلبي: يعني بالاعتراض أنَّها جيء بها بين قوله (عَمَلَ عَامِلٍ) وبين ما فصل به عمل

العامل من قوله (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا). اهـ قوله: (روي أنَّ أم سلمة قالت: يا رسول الله إنى أسمع الله يذكر الرجل في الهجرة ولا يذكر النساء، فنزلت). أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديثها. قوله: (تفصيل لأعمال العمال). قال الطَّيبي: والمجمل هو العمل المضاف إلى عامل، وكان من حق الظاهر أن يقال: فالمهاجرة حكمها كذا وتحمل مشقة الجلاء عن الأوطان كذا وتحمل أذى الكفار والمجاهدة في سبيل الله بالقتال كذا، لأنَّ تفصيل العمل هذا فعدل عنها إلى إعادة ذكر العامل بالموصول وإيقاع الأعمال صلة ليدل على العامل وعلى العمل مزيداً لتقرير تلك الأعمال وتصويراً لتلك الحالة السنية تعظيماً للعامل وتفخيماً لشأنه. ثم في بناء الخبر وهو قوله (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) على المسند إليه الموصول مع إرادة القسم وتكرير اللام في (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) إشعار بَأن هذه الكرامة لأجل تلك الأعمال الفاضلة والخصائل النابهة وأن لا بد من تحقيق كل من هذين الوعدين على سبيل الاستقلال. اهـ قوله: (والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب). قال الطَّيبي: السبب تقلبهم في البلاد، والمسبب التباس المغرور به، فنهى تقلبهم لينتفي غروره به، يعني: لا تغتر بسبب تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالمال والمنال فإنَّ ذلك في وشك الزوال، يعني: لا تكن بحيث إن شاهدت ذلك وقعت في الغرور، وهو على منوال: لا أريتك هاهنا. اهـ قوله: (ما الدنيا فى الآخرة ... ) الحديث. أخرجه مسلم من حديث المستورد بن شداد. قال الشيخ سعد الدين: أي في جنبها وبالإضافة إليها، وهي حال عاملها معنى النفي،

وقد يقدر مضاف، أي: ما تقدير الدنيا واعتبارها، فهو العامل. اهـ قوله: (قال أبو الشعراء الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا). قال الطَّيبي: الجبار: الملك المتسلط، ضافنا: أي نزل بنا ضيفا، والباء في بالجيش للتعدية أو المصاحبة، يقول: إذا جعل الجيش ضيفاً لنا أو إذا صار مع الجيش ضيفاً لنا، والمرهفات: السيوف الباترات، جعل المرهفات نزلاً على التهكم. اهـ قوله: (نزلت في ابن سلام وأصحابه). أخرجه ابن جرير عن ابن جريج. قوله: (وقيل فى أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا). قوله: (وقيل في أصحمة النجاشي لما نعاه جبريل ... ) الحديث. أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث جابر، والثعلبي والواحدي من حديث ابن عباس. والعلج في الأصل: القوي الغليظ من الكفار. وقال الشيخ سعد الدين: النجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم والياء ساكنة. اهـ وقال ابن الأثير في النهاية: الياء مشددة. وقيل: الصواب تخفيفها. اهـ وقال الزركشي في نكت العمدة: نونه مفتوحة في المشهور، وزعم ابن دحية وابن السيد أنه بكسرها أيضاً. قال: وأصحمة: بالحاء المهملة والحبشة يقولوه بالخاء المعجمة.

وذكر مقاتل في نوادر التفسير من تأليفه أنَّ اسمه مكحول بن صعصعة، توفي في رجب سنة تسع. قوله: (وتخصيصه بعد الأمر بالصبر ... ). قال الطَّيبي: لأنَّ المصابرة نوع خاص من الصبر، فهو من باب قوله (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ). اهـ قولة: (من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة). أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة نحوه. قوله: (من رابط يوماً وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه). الحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في المصنف من حديث سلمان بهذا اللفظ، وأصله عند مسلم بمعناه. قال الشيخ سعد الدين: كعدل: هو بالفتح: المثل من غير الجنس، وبالكسر: المثل من الجنس. اهـ قوله: (من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس). أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس. قوله: (من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آيهَ منها أماناً على جسر جهنم). هذا من الحديث الموضوع الذي روي عن أبي بن كعب في فضائل القرآن سورة سورة وقد نبَّه أئمة الحديث وحفاظه ونقاده قديماً وحديثاً على أنه موضوع مختلق على

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعابوا على من أورده من المفسرين في تفاسيرهم وها أنا أسوق نبذة من كلامهم في ذلك: قال ابن الصلاح: روينا عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وهكذا حال الحديث الطويل الذي روي عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سورة بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع لبين عليه، ولقد أخطأ الواحدي المفسِّر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم. اهـ قال الحافظ ولي الدين العراقي في شرح الألفية: ومثال من كان يضع الحديث حسبة ما رويناه عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي قاضي مرو فيما رواه الحاكم بسنده عن أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، فقال أبو حاتم ابن حبان: جمع كل شيء إلا الصدق. وقال أبو عبد الله الحاكم: وضع حديث فضائل القرآن. وروى ابن حبان في مقدمة تأريخ الضعفاء أنَّ ابن مهدي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا؟ قال: وضعتها أرغب الناس فيها. وهكذا حديث أبي الطويل في فضائل قراءة سور القرآن سورة سورة فروينا عن المؤمل ابن إسماعيل قال: حدثني شيخ به. فقلت للشيخ: من حدثك؟ فقال: حدثني رجل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك؟ فقال حدثني شيخ بواسط وهو حي فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بالبصرة، فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بعبادان، فصرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتاً فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ حدثني.

فقلت: يا شيخ من حدثك؟ فقال: لم يحدثني أحد، ولكنّا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن. وكل من أودع حديث أبي المذكور تفسيره كالواحدي والثعلبي والزمخشري مخطئ في ذلك، لكن من أبرز إسناده منهم كالثعلبي والواحدي والزمخشري فهو أبسط لعذره إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه، وأما من لم يبرز سنده وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أفحش. اهـ

سورة النساء

سورة النساء (قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم بني آدم هـ. ثم قال: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عطف على خلقكم أي: خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه أو محذوف تقديره: من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها). أقول: الذي ذكره صاحب الكشاف أنه إذا كان الخطاب في (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) عاماً فالعطف على محذوف، وإن كان خاصاً بالذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالعطف على (خَلَقَكُمْ). وقال ابن المنير: إنما قدر المحذوف حيث كان الخطاب عاماً لئلا يكون قوله (وَبَثَّ مِنْهُمَا) تكرار لقوله (خَلَقَكُمْ) وهو معطوف عليه لا يصلح أن يكون بياناً له وإنما هو معطوف على المقدر فذاك المقدر واقع صفة مبينة والمعطوف عليه داخل في حكم البيان فلا يلزم التكرار في الوجه الثاني لخصوص الخطاب. اهـ وتابع ابن المنير على هذا التقدير جماعة منهم السفاقسي. وقال صاحب التقريب: إنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعاً للتكرار. قال: ويحتمل أن يعطف على (خَلَقَكُمْ) من غير تخصيص (الناس)، ولا تكرار إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منها. اهـ وكأنَّ المصنف لحظ ما لحظه صاحب التقريب من هذا الاحتمال فاقتصر على العموم في (الناس) وجعل العطف على (خَلَقَكُمْ) المذكور على خلاف ما ذكره صاحب الكشاف وزاد فبدأ به، كأنه لمح ما لمحه أبو حيان والحلبي حيث قالا: إن تقدير محذوف تكلف، ثم لم يخل الكتاب من ذكره آخراً متمماً للفائدة بذكر كل ما قيل في التخريج. قال الشيخ سعد الدين: قوله (يعم بني آدم) يريد الذكور والإناث لا الأبناء خاصة،

لكنه مبهم يحتمل أن يراد المجموع أو من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اهـ قوله (وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة ... ) إلى آخره. جواب سؤال تقديره: أنَّ الأصل في ترتيب الحكم على الوصف أن يكون ذلك الوصف مما له صلاحية العلية، وهنا خلقهم من نفس واحدة كيف يصح أن يكون علة لقوله (اتقوا)؟ وحاصل الجواب: أنه دال على القدرة والنعمة وكل من الأمرين موجب للتقوى وداع إليها، والمراد تقوى خاصة فيما يتعلق بحفظ حقوق ذوي الأرحام فقط، وعلى هذا لا يرد السؤال لأنَّ المذكور موجب للحكم بلا تأويل. قاله الطَّيبي. قوله: (بطرحها). أي التاء الثانية. قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ الثقل عندها يحصل، ولأن الأولى حرف مضارعة. اهـ قوله: (وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة). ذكر ابن عطية مثله فقال: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، ويرد هذه القراءة عندي وجهان: أحدهما: أنَّ ذكر الأرحام فيما يتسأل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتسأل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: أنَّ في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت. اهـ وقال أبو حيان: ما ذهب إليه البصريون واتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية من امتناع العطف على الضمير المجرور غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك أنه

يجوز، وقد أطلنا الاحتجاج على ذلك عند قوله تعالى (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... ) وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها فأغنى ذلك عن إعادته. وقول ابن عطية: يرد عندي هذه القراءة من المعنى به وجهان عبارة قبيحة لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه إذ عهد إلى قراءة متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها سلف الأمة واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأقرأ الصحابة أُبي بن كعب رضي الله عنهم عمد إلى ردها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءاتهم، وحمزة أخذ القراءات عن سليمان بن مهران الأعمش وحمران بن أعين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلاّ بأثر، وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقة في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة ولد سنة ثمانين، وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأمَّ الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن جماعة من نظرائه منهم سفيان الثوري والحسن بن صالح، ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي. وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. قال: وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك، ولسنا متعبدين بقوله نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، وكم حكم ثبت بنقل الكوفيين، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية. اهـ وقد خرج ابن جني قراءة حمزة هذه على تخريج آخر فقال في الخصائص: باب في أن

المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به، من ذلك قوله: رسم دار وقفت في طلله؛ أي: رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول خيرٍ عافاك الله؛ أي: بخير، وتحذف الباء لدلالة الحال عليها بجري العادة والعرف بها وعلى نحو هذا تتوجه قراءة حمزة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ) ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رواه فيها أبو العباس [بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أنَّ لحمزة أن يقول لأبي العباس]: لم أحمل الأرحام على العطف على المجرور المضمر بل اعتقدت أن يكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت: (وبالأرحام) ثم حذفت الباء لتقدم ذكرها أيضاً في نحو قولك: بمن تمرر أمرر، فإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجر لدلالة ما قبله عليه مع مخالفته في الحكم له في قوله: وإني من قوم بهم تتقي العدا ... ورأب الثأي والجانب المتخوف أي: وبهم رأب الثأي، فحذف الباء في هذا الموضع لتقدمها في قوله (بهم يتقي العدا) وإن كانت حالاهما مختلفين، ألا ترى أن الباء في قوله (بهم يتقي العدا) منصوبة الموضع لتعلقها بالفعل الظاهر الذي هو (يتقي) كقولك: بالسيف يضرب زيد، والباء في قوله (وبهم رأب الثأي) مرفوعة الموضع عند (قوم) وعلى كل حال فهي متعلقة بمحذوف ورافعة للرأب، ونظائر هذا كثيرة كان حذف الباء من قوله (والأرحام) لمشابهتها الباء في (به) موضعاً وحكماً أجدر. اهـ وقال ابن يعيش في شرح المفصل: ضعف أكثر النحويين قراءة حمزة (والأرحام)

نظراً إلى العطف على المخفوض، وقد ردها أبو العباس المبرد وقال: لا تحل القراءة بها، وهذا القول غير مرضي منه لأنه قد رواها إمام ثقة فلا سبيل إلى رد نقل الثقة، مع أنه قد قرأ بها جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والأعمش والحسن البصري وقتادة ومجاهد، فإذا صحت الرواية لم يكن سبيل إلى ردها، ويحتمل غير العطف على المكنى المخفوض وهو أن يكون اعتقد أنَّ فيه باء ثانية حتى كأنه قال: وبالأرحام؛ ثم حذف الباء لتقدم ذكرها نحو قولك: بمن تمر أمر وعلى من تنزل أنزل، وقد كثر عندهم حذف حرف الجر، وقد مشى عليه أيضاً الزمخشري فقال في أحاجيه: ومحمل قراءة حمزة (تسألون به والأرحام) على حذف الجار سديد لأن هذا المكان قد شهر بتكرير الجار فقامت الشهرة مقام الذكر. اهـ قوله: (وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر). قال الشيخ سعد الدين: لأن المعطوف على الصلة لا يكون إلا جملة بخلاف ما إذا قلت: زيد راكب وذاهب. اهـ قوله: (تقديره: والأرحام كذلك ... ) إلى آخره. قال الزمخشري: لما علم واشتهر بدليل الاستقراء والقياس لم يخف على أحد أنه لا بد منه إما منطوقاً به وإما مقدر، والمقدر إما: مما يتقى؛ بدليل قراءة النصب، وإما: يتسأل به؛ بدليل قراءة الجر. قوله: (وعنه عليه السلام: الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعنى قطعه الله) أخرجه الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها. قوله: (لما جرى مجرى الأسماء ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس في اللغة جمع فعيل على فعالى بل على فعال وفعلاء وفعلى وفعل ككرام وكرماء ونُذُر ومرضى، فيتامى: جمع يتمى، وهو جمع يتيم كما

يجمع أسير على أسرى ثم على أسارى فيمن فتح الهمزة، أو مقلوب يتائم جمع يتيم فإن فعيلاً إذا كان اسماً يجمع على أفاعل كأفيل وأفايل، وقلَّ ذلك في الصفات، لكن اليتيم أجري مجرى الأسماء كصاحب وفارس، ولهذا قل ما يذكر معها الموصوف، وقد ورد الأصل في قول الشاعر: أأطلال حُسن بالبراق اليتائم ... سلامٌ على أحجار كن القدائم. والقدائم أيضاً مما جرى مجرى الأسماء لكن ذكر الموصوف معها يأبى التأويل. اهـ قوله: (لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ). أي عرف الشرع. قال الطَّيبي: هو من المنقولات الشرعية لحديث: لا يُتم بعد احتلام. اهـ قوله: (أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر حثاً على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم). قال الطَّيبي: يعني سموا اليتامى وإن لم يكونوا يتامى مجازاً لاعتبار معنى لطيف وهو أن لا يؤخر الإيتاء عن البلوغ، ويسمى هذا الفن في الأصول بإشارة النص وهو: أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر. اهـ قوله: (روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير). زاد في الكشاف: فدفع ماله إليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته. فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثبت الأجر وبقي الوزر. قالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟

فقال: ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده. قال الشيخ ولي الدين العراقي: رواه الثعلبي والواحدي من قول مقاتل والكلبي. اهـ قال الطَّيبي: يعني جمع الوالد المال إما من الحرام فعليه الظلامة وإما من الحلال فعليه تبعة الحساب والوزر إن منع من حقوق الله شيئاً. اهـ قوله: (اختزال أموالهم). أي اقتطاعه. قوله: (وهذا تبدل وليس بتبديل). قال الشيخ سعد الدين: لأن معنى تبدلت هذا بذاك: أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت، ومعنى بدلت هذا بذاك: أخذت ذاك وأعطيت هذا؛ قال الله تعالى (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ ... )، فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد كان هذا إعطاء الخبيث وأخذ الطيب لا أخذ الخبيث وترك الطيب ليكون تبدل الخبيث بالطيب، وسيجيء في قوله تعالى (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) المعنى: لا أحد يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدق، فالحاصل أنَّ في التبدل ما دخلته الباء متروك وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ، وفي التبديل بالعكس، نعم للتبديل استعمال آخر يتعدى إلى المفعولين بنفسه مثل (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) بمعنى: يجعل الحسنات بدل السيئات، ويعطيهما بدل ما كان لهما خيراً منه، وآخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل: بدلت الشيء: غيرته (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ)، وآخر يتعدى إلى المفعولين بنفسه وإلى البدل عنه بالباء أو (من)، مثل: بدله بخوفه

قوله: (أي: إن خفتم أن لا تعدلوا. . .) إلى آخره.

ومن خوفه أمنا، ومنه (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ). اهـ قال الطَّيبي: قال الجوهري: تبديل الشيء: تغييره وإن لم يأت ببدل، واستبدلت الشيء بغيره، وتبدله به: إذا أخذه من مكانه. في الأساس: بَدَّلَ الشيءَ: غيَّره، وتبدلت الدار بأنسها وحشاً، واستبدلت. فمعنى التبديل: التغيير، وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده، هذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء بغيره وإن لم يأت ببدل. ومعنى التبدل: الاستبدال، والاستبدال: طلب البدل، فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلاً فقوله: ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، وقوله: أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث -وهو اختزال أموالهم- بالأمر الطيب الذي هو حفظها؛ ليس فيهما أخذ شيء وإعطاء شيء بدله بل هو طلب شيء ليس عنده وترك ما عنده [يدل عليه قوله: وما أبيح لكم من المكاسب، فعلى هذا قوله: إلا أن يكارم صديقاً له؛ استثناءٌ متصل من قوله: إنما هو تبديل، فتقدير الكلام أن يقال:] جعل شاة مهزولة مكان سمينة تبديل لأنه أخذ شيء وإعطاء شيء آخر، وليس بتبدل الذي هو ترك شيء وأخذ شيء بدله. اهـ قلت: ولا يتمشى ظاهر كلام البيضاوي على هذا التقرير، فإن ظاهره أنَّ الإشارة بهذا إلى هذا الأخير -على أنه قدح فيه- مستأنف من كلام المصنف حيث قال: وقيل: ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها، وهذا تبدل وليس بتبديل، والطَّيبي قرر ضد ذلك فإن جُعلت الإشارة إلى التقدير الأول الذي قبل (وقيل تقسيمه) وجُعلت من تتمة المقول بقيل وافق ما قرره الطيبي. قوله: (أي: إن خفتم أن لا تعدلوا ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فسر صاحب الكشاف هذه الآية بوجوه ثلاثة، وقدر الشرط والجزاء على ما يعطيه الوجه من المعنى: أولها: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات، وثانيها: إن خفتم الجور في

حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حلَّ لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، وثالثها: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. قال صاحب الانتصاف: هذا أظهر والآية معه تكملة لبيان حكم اليتامى وأمر بالاحتياط وأنَّ في غيرهن متسع، ويؤيده (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ... ) الآية فتتطابق الآيتان، وعلى التأويلين الأوليين لا يتطابقان ولأنَّ الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام، أما الأول: فلأنَّ الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى، وأما الثاني: فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فلا خصوصية تربط الجواب كخصوصية الثالث. قلت: ولهذا صدر المؤلف بالثالث إشارة إلى ترجيحه. ثم قال ابن المنير: ثم ظاهر قوله (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) أنه توسعة عليهم كأنه قيل: إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع، وعلى الأول هو تضييق كأنه قال: إن خفتم من الجور في اليتامى فخافوا من الجور في النساء فاحتاطوا في عدد المنكوحات فينافي التوسعة ووجه الإشعار بالتوسعة إطلاق (مَا طَابَ)، ثم في قوله تعالى (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) بياناً لما وقع إطلاقه فلو أراد التضييق كان البدأة بالتقييد أنسب، وفي لفظ الطيب إشعار بالترخص ولما خاف من التوسعة الميل قال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). قال الطَّيبي: هذا تقرير لا مزيد عليه. اهـ قوله: (روي أن الله تعالى لما عظم أموال اليتامى -إلى قوله- فنزلت). أخرجه ابن جرير. قوله: (وإنما عبر عنهن بـ (ما) ذهاباً إلى الصفة). قال الطَّيبي: اعلم أنه قد تقرر أن (ما) لا تستعمل في ذوي العقول، وإذا استعملت فيهم أريد الوصف نحو قوله: سبحان ما سخركن لنا، وتخصيصه بحسب المقام، والذي يقتضي

هذا المقام من الوصف هو ما يشعر به نفي الحرج والتضييق كما ينبيء عنه الوجه الذي اختاره صاحب الانتصاف، فالمعنى: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء لما في تزوجهن مع كلفة حق الزوج مراعاة حقوق اليتامى من القيام في أموالهن وجبران قلوبهن بسبب اليتم فانكحوا الموصوفات بغير ذلك لينتفي ذلك الحرج وتطيب به نفوسكم، فأسند (طاب) إلى الضمير الراجع إلى ما المفسر بالنساء. اهـ قوله: (ونظيره (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)). قال الزمخشري: لم يقل (من ملكت) لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث. اهـ قوله: (وقيل: لتكرير العدل). قال أبو حيان: هذا قاله الزمخشري ولا أعلم أحداً قاله، فإن المذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة: أحدها: قول سيبويه والخليل وأبي عمرو إنه العدل والوصف. والثاني: قول الفراء إنَّها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام فهي ممتنعة الإضافة لنية الألف واللام، ومنع ظهور الألف واللام كونها في نية الإضافة. والثالث: ما نقل عن الزجاج أنَّها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وأنه عدل عن التأنيث. والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرر العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعن معناه، وذلك أنه لا يستعمل في موضع يستعمل فيه الأعداد غير المعدولة، تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل، فإذا قال: جاء القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين، فأما الأعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره فقد بَانَ بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العلة

مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين. قال أبو حيان: وما قاله الزمخشري ليس شيئاً من هذه العلل المنقولة. اهـ قال الحلبي: وقد يقال إنه المذهب الرابع، وعبر عن العدل في المعنى بعدلهما عن تكرارها. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: تحقيق العدلين أنها أخرجت عن أوزانها الأصلية إلى أوزان أخر، وعن تكرارها إلى التوحيد؛ فإن ذلك أيضاً تغيير للصيغة نظراً إلى المجموع. وما ذكره المصنف عائد إلى ما ذهب إليه ابن السراج أن فيها عدلين لفطاً ومعنوياً، لأن مثنى معدول عن لفظ اثنين وعن معناه أعني الاثنين مرة واحدة إلى معنى اثنين اثنين. اهـ وزاد السفاقسي في علة منع الصرف خامساً وهو: [العدل من غير جهة العدل، لأن باب العدل أن يكون في المعارف، وهذا عدل في النكرات، وسادساً]: العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع، وقال: زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل. قوله: (منصوبة على الحال من فاعل (طاب)). قال الشيخ سعد الدين: لا من (النساء) إذ لا معنى له، وإنما المعنى تقييد نكاح ما طاب بكونها معدودات هذا العدد ومفصلات هذا التفصيل، نعم لو جعلت (من) بيانية لا تبعيضية لم يبعد جعلها حالاً من النساء لكن الظاهر هو التبعيضية. اهـ قوله: (اقتسموا هذه البدرة ... ). في الصحاح: البدرة: عشرة الآف درهم. وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الدال المهملة وراء.

قوله: (فالمقنع ... ). هو ما يقنع به. قوله: (وفسر بأن لا تكثر عيالكم، على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم، فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية). عبارة الكشاف: والذي يحكي عن الشافعي أنه فسر (أَلاّ تَعُولُوا) أن لا تكثر عيالكم فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روي عن عمر رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب (شافي العي من كلام الشافعي) شاهداً بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفي عليه مثل هذا ولكن للعلماء طرقاً وأساليب فسلك في تفسير هذه الكلمة طريق الكنايات. اهـ قال الشيخ سعد الدين: قصد بذلك الرد على صاحب إيجاز البيان في التفسير حيث شنع على الشافعي رضي الله عنه، وزعم أنه لم يعرف في هذا الموضع الفقه واللغة ولم يفرق بين عال وأعال، فبين المصنف أنَّ المخَطِّئ مخطئ لأنَّ للقول محملاً صحيحاً وللقائل رتبة عالية متعال عن أن يخفي عليه مثل هذا، على أنَّ التفسير منقول عن زيد بن أسلم وهو تابعي، وعال بمعنى كثر عياله منقول عن الكسائي والأصمعي، والمُخَطِّيءُ راجل في العلوم جاهل بأساليب الكلام. اهـ قوله: (لجواز العزل فيه ... ). المشهور في المذهب جواز العزل مطلقاً في الزوجة والأمة بإذن وبغير إذن. قوله: (ونصبها على المصدر لأنها فى معنى الإيتاء).

قال الطَّيبي: فهي مصدر للنوع وضعت موضع إيتاء. اهـ قوله: (الضمير ... ). أي في (منه) وكان الأصل (منها) لعوده إلى (صَدُقَاتِهِنَّ) لكنه راعى المعنى وهو صَدُقَاتِهِنَّ. قوله: (أراد كأن ذاك ... ). قال الشيخ سعد الدين: مشيراً إلى الخطوط. اهـ قوله: (وقال (منه) بعثاً لهن على تقليل الموهوب). قال الطَّيبي: لدلالة (شيء) منكراً تنكير تقليلٍ عليه، اهـ قوله: (أقيمتا مقام مصدريهما). قال أبو حيان: حَرَّفَ قول النحاة في ذلك، وتحريفه أنه جعلهما أقيمتا مقام المصدر فانتصابها على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال الزمخشري: كأنه قيلِ هنأ مرأ فصار كقوله سقياً ورعياً، والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال ومريئاً إما على الحال وإما على الوصف، ويدل على فساد ما خرجه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها، تقول: سقياً لك ورعيا، والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول الشاعر: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من أعراضنا ما استحلت. فـ (ما) مرفوع بما تقدم من هنيئاً أو مريئاً على طريق الإعمال، وجاز الإعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لـ هنيئاً فصار كأنهما مرتبطان لذلك. اهـ وقال الحلبي: في عبارة سيبويه ما يرشد لما قاله الزمخشري فإنه قال: هنيئاً مريئاً صفتان

نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه؛ كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً. فأول العبارة تساعد الزمخشري، وآخرها -وهو تقديره بقوله كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً- يعكر عليه. اهـ وقال السفاقسي: لا يتم الاستدلال عليه بالبيت لجواز أن تكون (ما) مرفوعة بالابتداء، أو أخر الخبر، أو مرفوعة بفعل مقدر. اهـ قوله: (أو وصف بهما المصدر، أو جعلتا حالاً من الضمير). قال السفاقسي: كلاهما فاسد لأنَّ مذهب سيبويه والجماعة أنه حال قائمة مقام فعل محذوف، فهي من جملة أخرى لا تعلق لها بـ (كلوه) من حيث الإعراب. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: وصف المصدر بهما على الإسناد المجازي، إذ الهنيء حقيقة هو المأكول. اهـ قوله: (روي أن ناساً تأثموا ... ) إلى آخره. وفي الصحاح: تأثم: خرج عن الإثم وكف. كتحرج خرج من الحرج. قوله: (وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: أضاف الأموال إلى اليتامى في قوله (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما، فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في رد الأموال إليهم فاقتضى ذلك أن يقال (أموالهم)، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم فأضافها إلى الأولياء. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لأنَّها لم يقصد بها الخصوصية الشخصية بل الجنسية التي في معنى ما تقام به المعايش وتميل إليه القلوب ويدخر لأوقات الاحتياج؛ وهو بهذا المعنى لا يختص

بالسفهاء كما قال (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قصد إلى جنس النفوس دون خصوصيات أنفس المخاطبين، وقال (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ) قصد إلى جنس الإيمان وجنس الإماء إذ المعنى على الأمر بنكاحهم مملوكاتهم. اهـ قوله: (اجعلوها مكاناً لرزقهم ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: جعل الأموال نفسها ظروفاً للرزق، فيلزم أن يكون الإنفاق من الربح لا من المال الذي هو الظرف، ولو قيل (منها) كان الإنفاق من المال. اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسَّلام: إذا استكمل المولود خمسة عشر سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود). أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس وقال: إسناده ضعيف. قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام أن رجلاً قال له: إن في حجري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالآ ولا واق مالك بماله.) أخرجه الثعلبي من حديث ابن عباس بلفظه، وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه. والتأثل: اتخاذ المال أثلة أي أصلاً. قوله: (أو على الاختصاص) أنكره أبو حيان فإن شرطه أن لا يكون نكرة.

قوله: (روي أنَّ أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كُحَّة وثلاث بنات ... ). الحديث أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في تفسيره عن ابن عباس بطوله لكن سماه أوس بن ثابت وقال: ترك ابنتين وابناً صغيراً. وسمى ابني عمه خالداً وعرفطة، وقال في آخره: فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس فيه مسجد الفضيخ. وقال الشيخ سعد الدين: في الكتب المعتبرة والروايات الصحيحة أوس بن ثابت وهو أخو حسان بن ثابت استشهد بأُحد. اهـ وفي ذلك نظر لأنه لو كان أخا حسان لم يكن لابني العم مع الأخ سبيل، وفي الإصابة للحافظ ابن حجر: ذكر ابن مندة أن أوس بن ثابت هذا أخو حسان وهو خطأ لأن أوساً ليس له أحد من إخوته ولا من أعمامه من يسمى عرفطة ولا خالداً. اهـ وفي الاستيعاب لابن عبد البر ذكر أوس بن ثابت أخا حسان وأنه قتل يوم أحد، وذكر أوس بن الصامت بن أصرم بن فهر بن ثعلبة الأنصاري شهد بدراً والمشاهد كلها وبقي إلى زمن عثمان وهو الذي ظاهر من امرأته، ولم يذكر في الصحابة أحد يسمى أوس بن الصامت غيره، وذكر ممن توفي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أوس بن الأرقم واستشهد يوم أحد، وأوس بن حبيب الأنصاري قتل بخيبر شهيداً، وأوس بن عائذ قتل يوم خيبر، وأوس بن الفاكه الأنصاري من الأوس قتل يوم أحد شهيداً. زاد صاحب أسد الغابة: أوس بن عباد استشهد يوم خيبر، وأوس بن معاذ بن أوس الأنصاري استشهد يوم بئر معونة، وأوس بن المنذر النجاري استشهد يوم أحد. وزاد الذهبي في التجريد: أوس بن قتاده استشهد يوم خيبر. فلعل النازل فيه الآية أحد هؤلاء، ثم قال الحافظ ابن حجر: وقد رواه مقاتل في تفسيره فقال: إنَّ أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كُحَّة وبنتين وذكر القصة. وقال في موضع آخر من الإصابهّ: اختلف في اسم الميت فقيل: أوس بن ثابت، وقيل أوس بن مالك، وقيل: ثابت بن قيس، وأما المرأة فلم يختلف في أنها أم كُحَّة بضم

قوله: (على معنى: وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا

الكاف وتشديد الحاء المهملة إلا ما حكى أبو موسى المديني عن المستغفري أنه قال فيها: أم كحلة بسكون المهملة بعدها لام، وإلا ما روي عن ابن جريج أنها بنت كحة، فيحتمل أن تكون كنيتها وافقت اسم أبيها، وأما ابنتها ففي رواية ابن جريج أنها أم كلثوم. اهـ قال الشيخ سعد الدين: ورُوى بالزاي: جمع وقبض، ومسجد الفضيخ بالضاد والخاء المعجمتين لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة لأنهم كانوا يرضخون النوى، والرضخ والفضخ من واد واحد، ولا يوجد في كتب اللغة من الفضخ سوى أنه نبيذ يتخذ من البر المفضوخ من فضخ البطيخة: شدخها، فقيل صار اسماً لموضع بالمدينة كانوا يفضخون فيه البسر. اهـ قوله: (على معنى: وَلْيَخْشَ الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم الضياع). قال الطَّيبي: يعني في إيقاع (لو) مع جوابه وهو (خَافُوا) صلة للموصول مزيد تقرير للخشية، كأنه قيل: وليخش الذي حقه الخشية، والأصل: وليخش الوصي أو من حضر المريض أو الوارث؛ فعدل إلى المذكور ليتصور تلك الحالة الصعبة ويستحضرها في نفسه فيرتدع. اهـ وقال ابن المنير: إنما أوجب إضمار شارفوا قوله (خَافُوا عَلَيهم)، والخوف يكون قبل تركهم إياهم وإلا فكان يلزم تقدم الجواب على الشرط وهو كقوله (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) أي شارفنه، وفائدته: التخويف بالحالة التي لا مطمع معها في الحياة ولا الذب عن الذرية الضعاف. اهـ قوله: (ظالمين أو على وجه الظلم). قال الطَّيبي: أي هو حال أو تمييز. اهـ وقال أبو البقاء: (ظلماً) مفعول له، أو مصدر في موضع الحال. اهـ

قوله: (يوصيكم الله)

قوله: ((في بطونهم) ملء بطونهم). قال الطَّيبي: أي وضع هذا مكان ذاك وفائدته المبالغة كأنه جعل بطونهم مكان النار ومستقرها، والدليل على أن المراد ملء بطونهم قوله: في بطنه وفي بعض بطنه. اهـ قوله: (وعن أبي برزة أنه عليه الصلاة والسلام قال: يبعث اللهُ قوماً من قبورهم تأجج أفواههم ناراً). الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده وابن أبي حاتم في تفسيره وابن حبان في صحيحه. قوله: (يُوصِيكُمُ اللهُ) يأمركم ويعهد إليكم). قال الراغب: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل فيه مقترناً بوعظ، من قولهم أرض واصية متصلة النبات. قوله: (وهو إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ الجملة في موقع التفصيل والبيان لا مفعول (يُوصِيكُمُ) باعتبار كونه في معنى القول أو الفرض أو الشرع. اهـ قوله: (والمعنى: لِلذَّكَرِ منهم). قال الشيخ سعد الدين: ليحصل الارتباط ويصح البيان. اهـ قوله ((فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر ثان). قال أبو حيان: هذا مردود؛ للاحتياج إلى هذه الصفة، لأنَّ الخبر لابد أن يستقل به فائدة الإسناد ولو اقتصر على قوله (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) لم يفد شيئاً لأنه معلوم. اهـ وقال السفاقسي: جعله خبراً على معنى: فإن كانت البنات أو المولودات نساءً خلصاً ليس معهن رجل وهو مقيد. اهـ قوله: (بدل منه بتكرير العامل).

قال ابن المنير: في إعرابه بدلاً نظر؛ إذ يكون من بدل الشىء من الشيء وهما لعين واحدة فيصير الكلام: والسدس لأبويه لكل واحد منهما، ومقتضى الاقتصار على المبدل منه اشتراكهما في السدس، ومقتضى البدل إفراد كل واحد منهما بالسدس وهو تناقض لأن فائدة البدل توكيد مجموع الاسمين خاصة إذا تعذر البدل قدرنا مبتدأ محذوفاً تقديره: ولأبويه الثلث ثم فصله بقوله (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، ودل التفصيل على المبتدأ المحذوف، ويستقيم هذا على جعله من بدل التقسيم كقولك: الدار لثلاثة لزيد ثلثها ولعمرو ثلثها ولبكر ثلثها، ولا يستقيم ذلك على الأول. اهـ قال أبو حيان: قال أبو البقاء: (السُّدُسُ) رفع بالابتداء، و (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) الخبر، و (لِكُلِّ) بدل من الأبوين، و (مِنْهُمَا) نعت لـ (وَاحِدٍ). قال أبو حيان: وهذا البدل هو بدل بعض من كل ولذلك أتى بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع: أبواك كل واحد منهما يصنعان، بل تقول: يصنع كذا. قال: وفي قول الزمخشري: و (السُّدُسُ) مبتدأ وخبره (وَلِأَبَوَيْهِ) نظر، لأن البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه كما مثلنا في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا إذا أعربنا كلاً بدلاً وكما تقول: إن زيداً عينه حسنة، فكذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغني عن جعل المبدل منه خبراً بالبدل كما استغني عن الإخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالإخبار عن البدل. اهـ قال الحلبي: في هذه المناقشة نظر، لأنه إذا قيل لك: ما محل (وَلِأَبَوَيْهِ) من الإعراب، تضطر إلى أن تقول: في محل رفع خبراً مقدماً، ولكنه نقلَ نسبة الخبرية إلى (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) دون (وَلِأَبَوَيْهِ). اهـ وقال الشيخ سعد الدين في تقرير قوله والسدس مبتدأ: يعني لا حاجة إلى أن يجعل (وَلِأَبَوَيْهِ) خبر مبتدأ محذوف، أي: لأبويه الثلث؛ ثم بين قسمة الثلث عليهما بقوله (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) دفعاً لوهم أن يكون للأب ضعف ما للأم، وذلك أن الحكم المعلق بالشيء أو المجموع قد يقصد تعلقه بالمجموع وقد يقصد تعلقه بكل فرد، فبين بالبدل أنَّ القصد إلى الثاني وبهذا يندفع ما يقال إنَّ البدل ينبغي أن يكون بحيث لو أسقط استقام الكلام معنى، وها هنا لو قيل: لأبويه السدس؛ لم يستقم. اهـ

قوله: ((وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) فحسب). قال الشيخ سعد الدين في هذا: بقرينة المقام وسياق الكلام لا بدلالة اللفظ. اهـ قوله: (وإنما قل بأو التي للإباحة ... ). قال الطَّيبي: كذا عن الزجاج قيل: وفيه نظر لأنه مخالف لما في المفصل: (أو) في الخبر للشك، وفي الأمر للتخيير والإباحة، وجوابه أن الخبر هنا في معنى الأمر لما سبق أن معنى (يُوصِيكُمُ اللهُ): يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: المراد بالإباحة هنا التسوية وعدم اختلاط الحكم سواء كان ذلك في الأمر أو في غيره، فلا حاجة إلى ما يقال إن الخبر هاهنا بمعنى الأمر. اهـ قوله: (روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر سأل أن يرفع إليه فيرتفع إليه بشفاعته). أخرجه الطبراني في الكبير وابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به. قوله: (فهو اعتراض). قال الحلبي: يعني بالاعتراض أنَّها واقعة بين قصة المواريث إلا أن هذا الاعتراض غير مراد النحويين لأنهم لا يعنون بالاعتراض في اصطلاحهم إلا ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراض بين المبتدأ وخبره والشرط وجزائه والقسم وجوابه والصلة وموصولها. اهـ قوله: (مصدر مؤكد). قال الشيخ سعد الدين: أي لمضمون الجملة السابقة، لأن معنى (يُوصِيكُمُ اللهُ): يفرض لكم. اهـ وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، لأن (فَرِيضَةً) ليست مصدر. اهـ قوله: (أي يورث منه).

قوله: (و (كلالة)

قال الطَّيبي: يعني هو من الثلاثي لا من المزيد. اهـ قوله: (و (كَلالَةً) حال -إلى قوله- أو مفعول). قال الطَّيبي: فإن قلت لم يجز على هذا أن يكون (يُورَث) صفة (رجل) و (كَلالَةً) خبر (كَانَ) كالأول؟ قلت: لا يجوز لأنَّ التركيب حينئذ مشابه لباب التنازع لأنَّ (كَانَ) الناقصة تستدعي خبراً و (مفعولاً به، ولما كانت الكلالة أقرب إلى (يُورث) فالأصح إعماله فيه فلا يبقى لـ (كَانَ) خبر، ولا يصح أن يقدر (كَلالَةً) مثل المذكور لأن (كَلالَةً) إذا كانت مفعولاً به فالرجل حينئذ من ليس بوالد ولا ولد، وإذا كانت خبراً لـ (كَانَ) فالرجل من لم يخلف ولداً ولا والداً فهذا خلف، فعلم أن (كَانَ) إذا كانت تامة جاز ذلك، وبه قال أبو البقاء: (كَانَ) هي التامة، و (رجل) فاعلها صفة له، و (كَلالَةً) حال من الضمير في (يُورَث)، والكلالة على هذا اسم للميت الذي لم يترك ولداً ولا والداً. اهـ قوله: (قرئ (يُورِثُ) على البناء للفاعل). قال الطَّيبي: أي يورث رجل الوارث المال، فحذف المفعولين، إلا أن يقال الكلالة مفعول (يورث). اهـ قوله: (قال الأعشى: فآليت لا أرثى لها من كلالة) هو من قصيدة يمدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الوفادة عليه فصدته قريش عن ذلك وأخبروه أنه يحرم الخمر، وأولها: ألَمْ تَغتَمِضْ عَيناكَ لَيلَة َ أرْمَدَا ... وبت كما بات السليم مسهدا وَمَا ذاكَ مِنْ عِشْقِ النّسَاءِ وَإنّمَا ... تَناسَيتَ قَبلَ اليَوْمِ خُلّة َ مَهدَدَا وَلكِنْ أرى الدّهرَ الذي هوَ خاتِرٌ ... إذا أصلحتْ كفايَ عادَ فأفسدا شبابٌ وشيبٌ، وافتقارٌ وثروة ٌ ... فلله هذا الدّهرُ كيفَ ترددا وما زلتُ أبغي المالَ مدْ أنا يافعٌ ... وليداً وكهلاً حينَ شبتُ وأمردا وَأبْتَذِلُ لعِيسَ المَرَاقَيلَ تَغْتَلي ... مسافة َ ما بينَ النّجيرِ فصرخدا فإنْ تسألي عني فيا ربّ سائلٍ ... حفيٍ عنِ الأعشى به حيثُ أصعدا فإن تسألي عيني فيا رب سائل ... حفيٍ عن الأعشى به حيث أصعدا فأمّا إذا ما أدلجتْ، فترى لها ... رقيبينِ جدياً لا يغيبُ وفرقدا وفيها إذا ما هجرتْ عجرفيّة ٌ ... إذا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظّهِيرَة ِ أصْيَدَا

أجدّتْ برجليها النجاء وراجعتْ ... يَدَاهَا خِنَافاً لَيّناً غَيرَ أحْرَدَا فَآلَيْتُ لا أرْثي لهَا مِنْ كَلالَة ٍ ... ولا منْ حفى ً حتى تلاقي محمّدا مَتى مَا تناخي عندَ بابِ ابنِ هاشِمٍ ... تريحي وتلقي منْ فواصلهِ يدا نبيٌ يرى ما لا ترونَ، وذكرهُ ... أغَارَ لَعَمْرِي في البِلادِ وَأنجَدَا قوله: (واستعيرت لقرابة ... ). قال الطيبي: هذا يدل على أن المنقولات الاصطلاحية كلها استعارات، يدل عليها ما شرطوا من وجود العلاقة المناسبة وهي التشبيه، وفيه شرط آخر وهو الشهرة في المنقول إليه، ومن ثم لم يجعلوها من المجاز. اهـ قوله: (وله) أي وللرجل، واتئفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه). قال الطَّيبي: ويمكن أن يقال إنَّ الضمير راجع إلى الرجل وإلى المرأة، ويكون حكم كل واحد من أخيه وأخته وأخيها أو أختها حكم كل واحد، لاستواء إدلائهما إلى الميت، ولا يبعد أن يجري على التغليب. اهـ قوله: (قراءة أبي). هو ابن كعب. وقوله: (وسعد بن مالك). هو ابن أبي وقاص. قوله: (وهو حل من فاعل (يُوصَى)). قال أبو حيان: هذا مردود؛ لأنه يودي إلى الفصل بين هذه الحالة وعاملها بأجنبي منهما، وذلك أن العامل فيها (يُوصَى) وقوله (أَوْ دَيْنٍ) أجنبي لأنه معطوف على (وَصِيَّةً) الموصوفة بالعامل في الحال. قال: ولو كان على هذا الإعراب لكان التركيب: من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين، وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين أعني بناء الفعل للفاعل أو المفعول، وتزيد عليه قراءة البناء للمفعول وجهاً آخر مانعاً وهو أن صاحب الحال غير مذكور لأنه فاعل في الأصل حذف وأقيم المفعول مقامه، ألا ترى أنك لو قلت: تُرسل الرياح مبشِّراً بها بكسر الشين: يعني يرسل الله الرياح مبشراً بها، فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مقامه

قوله: (يستوفي أرواحهن الموت).

وجئت بالحال من الفاعل لم يجز فكذلك هذا. ثم خرجه على أحد وجهين: إما بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين؛ وتقديره: يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وإما بفعل مبني للفاعل لدلالة المبني للمفعول عليه؛ أي: يوصي غير مضار، فيصير نظير قوله (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) على قراءة من فتح الباء. اهـ قوله: (ويؤيده). أي كون وصية منصوبة بـ (غَيْرَ مُضَارٍّ)، لأن قراءة (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً) بالإضافة من إضافة العامل إلى المعمول وهي قراءة الحسن. قال أبو البقاء: في هذه القراءة وجهان: أحدهما: تقديره: غير مضار أهل وصية، أو ذوي وصية، فحذف المضاف. والثاني: تقديره: غير مضار وقت وصية، فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب منه قولهم: هو فارس حرب أي فارس في الحرب، والتقدير: غير مضار الورثة في وقت الوصية. اهـ قوله: (وليستا صفتين لـ جنات) و (نارا) وإلا لوجب إبراز الضمير .. ). إذا لم يلبس وقد جوزه في هذه الزجاج والتبريزي. قوله: (يستوفي أرواحهن الموت). قال الطَّيبي: فهو استعارة تبعية أو مكنية: جعل الموت كالشخص المستوفي، والمتوفى كأخذ الرجل حقه على التخييلية. اهـ قوله: (أو يتوفاهن ملائكة الموت). قال الطَّيبي: فهو من الإسناد المجازي كقوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) أي:

قوله: (كالمحتوم على الله بمقتضى وعده).

أصحابها. اهـ قوله: (وقيل: الأولى في المساحقات، وهذه في اللوطيين). قال الإمام: هذا القول اختيار أبي مسلم الأصفهاني، واحتج بأن قوله (وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) إشارة إلى النسوان وقد ذكر فيها (مِنْ نِسَائِكُمْ)، وقوله (وَاللَّذَانِ) إشارة إلى الرجال ومذكور فيها (مِنْكُمْ)، وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى النسخ. اهـ قوله: (كالمحتوم على الله بمقتضى وعده). قال الإمام: إنه سبحانه وتعالى وعد بقبول التوبة، فإذا وعد شيئاً لا بد أن ينجز وعده؛ لأن الخلف في وعده محال سبحانه. اهـ قوله: (من تاب عليه إذا قبل توبته). قال الشيخ سعد الدين: لا من تاب العبد بمعنى رجع إليه. اهـ قوله: (ولذلك قيل: من عصى الله فهو جاهل). أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. قوله: (وقوله عليه الصلاة والسلام: يقبل الله توبة العبد ما لم يغرغر) أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن عمر، وأخرجه ابن جرير من حديث أبي أيوب واسمه بشير بن كعب وهو تابعي فهو

قوله: (باهتين).

مرسل، وهو الذي أورده في الكشاف. قال الطَّيبي: غرغر المريض: إذا تردد روحه في حلقه. اهـ قوله: (ومن للتبعيض). زاد غيره أو لابتداء الغاية. قوله: (سلطان الموت). قال الشيخ سعد الدين: أي غلبته وظهور آثاره. اهـ قوله: (كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (يقال: عضلت الدجاجة ببيضها). أي تعسر خروجها، ومثله: عضلت المرأة بولدها، وداء عضال: صعب البرء. قوله: (باهتين). أي رامين إياهن بالبهتان، و (آثمين) تفسير قوله (وَإِثْمًا مُبِينًا) قاله الطَّيبي. قوله: (والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه). قال الزجاج: البهتان: الباطل الذي تتحير من بطلانه. اهـ قوله: (أو ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمه الله). أخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن ... إلى آخره. وروى ابن جرير من حديث ابن عمر: أيها الناس إن النساء عوان في أيدكم أخذتموهن ... إلى آخره. والعوان: الأسرى جمع عانية.

قوله: (أو من اللفظ). قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه. اهـ قوله: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب) هو للنابغة الذبياني. قال الطَّيبي: فلول: جمع فل وهو كسر في حده، يعني إذا لم يكن العيب إلا الشجاعة -وهي من أخص أوصاف المدح- فإذاً لا عيب فيهم. اهـ وأول القصيدة: كليني لهمٍّ يا أميمة ناصبٍ ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلتُ ليس بمنقضٍ ... وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ قوله: (عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة وابن عباس. قوله: (لأن (من) إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، فإن علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن تكون بياناً لـ (نِسَائِكُمْ)). قال الطَّيبي: (من) البيانية تقتضي اتحاد الأول بالثاني، والابتدائية إنشاء الأول من الثاني، فبينهما تناف. اهـ قوله: (اللهم إلا إذا جعلتها للاتصال). قال أبو حيان: لا نعلم أحداً ذهب إلى أن من معاني (من) الاتصال، والبيت مؤول. اهـ قوله: (فإني لست منك ولست منى). هذا للنابغة، وصدره: إذا حاولت في أسد فجوراً قال الأعلم: يقول هذا لعيينة بن حصن الفزاري وكان قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بني أسد ونقض حلفهم فأبى عليه، وأراد بالفجور: نقض الحلف.

قوله: (على معنى أنَّ أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن). قال أبو حيان: إذا جعلنا (مِنْ نِسَائِكُمُ) متعلقاً بالنساء والربائب كما زعم الزمخشري فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب، أما تركيبه مع الربائب ففي غاية الفصاحة والحسن وهو نظم الآية، وأما تركيبه مع قوله (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) فإنه يصير: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن ولا في كلام فصيح لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله (مِنْ نِسَائِكُمُ). اهـ قوله: (لكن الرسول فرق بينهما فقال فى رجل تزوج امرأة ... ) الحديث. أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بمعناه. قوله: (رُوي عن علي). أخرجه ابن أبي حاتم. قوله: (قال عثمان وعلي: حرمتهما آية وأحلتهما آية). أخرج قول عثمان مالك في الموطأ، وقول علي ابن مردويه في تفسيره. قوله: (ولقوله عليه الصلاة والسلام: ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام) قال الحافظ زين الدين العراقي في تخريج أحاديث منهاج الأصول: لا أصل لهذا الحديث. اهـ وقال السبكي في كتاب الأشباه والنظائر: هو كما قال البيهقي: حديث رواه جابر الجعفي رجل ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود وهو منقطع غير أنَّها قاعدة صحيحة في نفسها. قال الشيخ أبو محمد الجويني في السلسلة: لم يخرج عنها إلا ما ندر. قال القاضي تاج الدين السبكي: وقد عورض الحديث المذكور بما رواه ابن ماجة

والدارقطني من حديث ابن عمر: لا يحرم الحرام الحلال، وليس بمعارض لأن المحكوم به في الأول إعطاء الحلال حكم الحرام تغليباً واحتياطاً لا صيرورته في نفسه حراماً. اهـ وقال الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابة (المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر): هذا الحديث لا يعرف مرفوعاً، ورواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفاً عن سفيان الثوري عن جابر عن الشعبي قال: قال عبد الله: ما اجتمع حلال وحرام إلا غلب الحرام الحلال. اهـ قال سفيان: ذلك في الرجل يفجر بامرأة وعنده ابنتها أو أمها فإنه يفارقها. قوله: (أو منقطع معناه لكن ما سلف مغفور). قال الطَّيبي: تحقيقه ما ذكره أبو البقاء أنَّ (ما) في (مَا قَد سَلَفَ) مصدرية، والاستثناء منقطع؛ لأنَّ النهي للمستقبل وما سلف ماض فلا يكون من جنسه، وهو في موضع نصب، ومعنى المنقطع: أن لا يكون داخلاً في الأول بل في حكم المستأنف ويقدر فيه (إِلا) بـ (لكن) أي: لا تجمعوا بين الأختين لكن ما سلف من ذلك فمعفو عنه، ونحوه قوله: ما مررت برجل إلا بامرأة، أي: لكن بامرأة، والغرض منه بيان معنى زائد، لأن قولك ما مررت برجلٍ صريحٌ في نفي المرور برجل ما غير متعرض لإثبات المرور بامرأة أو نفيه، فإذا قلت: إلا بامرأة؛ كان إثباتاً لمعنى مسكوت عنه غير معلوم بالكلام الأول نفيه ولا إثباته. فإن قلت: لم فرق بين هذا الاستثناء حيث جعله منقطعاً وبين ما سبق حيث جعله من باب قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... البيت؟ قلت: لاقتضاء المقام، والفرق بين نكاح الأمهات والجمع بين الأختين، واستدعاء كل من التعليلين أعني قوله (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) وقوله (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) ما يقتضيه من المعنى، فإن التعليل بالغفران والرحمة يستدعي كلاماً

متضمناً للذنب والخطأ، ولذلك قال: ما مضى مغفور بدليل قوله (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، كأنه قيل: حرم عليكم الجمع بين الأختين لأنه خطأ وذنب ومن فعل ذلك يؤاخذ به لكن ما قد سلف فإنه مغفور غير مؤاخذ به لأن الله كان غفوراً رحيماً، والتعليل بالفاحشة والمقت وسوء السبيل يوجب تأويل الكلام السابق بما ينبئ عن المبالغة في القبح والفحش وأن المنهي عنه مما ينبغى أن لا يوجد أصلاً، وأنه مناف لحال المؤمنين وأصحاب المروءة وأرباب التمييز، وذلك لا يتم إلا بجعل التركيب من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح. قال: وما قاله القاضي -يعني البيضاوي- هناك: (إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ) استثناء من المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو استثناء منقطع ومعناه: لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه؛ لا أنه مقرر وإن كان كلاماً حسناً لكن عن المرام بمنازل، وعن اقتضاء المقام بمراحل، والقول ما قالت حذام. اهـ قوله: (لقول أبي سعيد: أصبنا سبياً يوم أوطاس ... ) الحديث. أخرجه مسلم. قوله: (وإياه عنى الفرزدق بقوله: وذات خليل انكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلق). قال الطَّيبي: روي أن الحسن سئل وعنده الفرزدق: ما تقول فيمن يقول: لا والله، بلى والله؟ فقال الفرزدق: أما سمعت قولي في ذلك؟ قال الحسن: ما قلت؟ فقال الفرزدق قلت: فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم فقال الحسن: أحسنت. [أثم قيل: ما تقول فيمن سبى امرأة ولها حليل؟ فقال الفرزدق: أما سمعت قولي وأنشد: وذات حليل ... البيت.

فقال الحسن: أحسنت كنت أراك أشعر فإذا أنت أشعر وأفقه.] قوله: ((وأحل لكم) عطف على الفعل المضمر الذي نصب (كتاب الله)، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم البناء للمفعول عطفاً على (حُرِّمَتْ)) قال أبو حيان: فَرَّقَ في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار لأن انتصاب (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله (حُرِّمَتْ) والعامل فيه وهو كتب إنما هو تأكيد لقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) ولم يأت بهذه الجملة على سبيل التأكيد فإنما يناسب أن تعطف على جملة مؤمسسة مثلها لا سيما والجملتان متقابلتان إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل فناسب أن يعطف هذه على هذه، وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ (وَأُحِلَّ) مبنياً للمفعول، فكذلك يجوز مبنياً للفاعل. اهـ قال الحلبي: في هذا الرد نظر. اهـ قوله: (مفعول له، والمعنى: أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا ... ) إلى آخره. تبع في ذلك الزمخشري، وقد قال أبو حيان: إن فيه تحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون ذلك دساً خفياً إذ جعل قوله (أَنْ تَبْتَغُوا) على حذف مضافين أي: إرادة كون ابتغائكم بأموالكم، وفسر الأموال بعد بالمهور وما يخرج في المناكح فتضمن اختصاص إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح، وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري إذ الظاهر أنه تعالى أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان لاحالة السفاح، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب (أَنْ تَبْتَغُوا) مفعولاً له كما قال الزمخشري لأنه فات شرط من شروط المفعول له وهو اتحاد العامل في الفاعل والمفعول، لأن الفاعل في قوله تعالى (وَأُحِلَّ) هو الله، والفاعل في (أَنْ تَبْتَغُوا) هو ضمير المخاطبين فقد اختلفا، ولما أحس الزمخشري بهذا جعل (أَنْ تَبْتَغُوا) على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله (وَأُحِلَّ) وفي المفعول له، ولم يجعل (أَنْ تَبْتَغُوا) مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر بغير داع إلى ذلك. اهـ قوله: (أو صفة مصدر محذوف، أي: إيتاءً مفروضاً، أو مصدر مؤكد).

قال الطَّيبي: الفرق بين هذا والأول أن هذا منصوب بفعل مقدر بمعناه؛ والأول منصوب بفعل مذكور من غير لفظه. اهـ قوله: (وقيل نزلت الآية في المتعة ... ) إلى آخره. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول: يا أيها الناس إنى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرَّم ذلك إلى يوم القيامة.) أخرجه مسلم من حديث سبرة الجهني بلفظ: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع. قوله: (وجوزها ابن عباس ثم رجع عنه). أخرجه ابن المنذر في تفسيره والبيهقي في سننه من طريق سعيد بن جبير: قال: قلت لابن عباس ماذا صنعت ذهبت الركاب بفُتياك وقالت فيه الشعر؟ قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: أقول للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فُتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى يصدر الناس فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا والله ما بهذا أفتيت، ولا هذا أردت، ولا أحللتها إلا للمضطر. وفي لفظ: ولا أحللت منها إلا ما أَحلَّ الله من الميتة والدم ولحم الخنزير. قوله: (أنتم وأرقاؤكم متناسبون). قال الطَّيبي: يريد أنَّ (من) في قوله (من بعض) للاتصال. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه). أخرجه الثعلبي والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة.

قوله: (يريد الله ليبين لكم

قال الطَّيبي: وأنشدوا: ومن لم يكن في بيته قهرمانةٌ ... فذلك بيتٌ لا أبا لك ضائعُ. اهـ وأنشد غيره: إذا لم يكن في منزل المرءِ حرةٌ ... تدبره ضاعت مصالح داره. قوله: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما تعبدكم به من الحلال والحرام، أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم). قال الطَّيبي: فيه إشعار بتلفيق الآيات اللاحقة بالسابقة، فإنَّ السوابق كانت في بيان النساء والمناكحات، واللواحق في بيان الأموال والتجارات وهي قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ)، فهذه الآيات التي توسطت بينهما كالتخلص من باب إلى باب لجامع التبيين. اهـ قوله: (و (لِيُبَيِّنَ) مفعول (يريد)، واللام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال ... ) قال أبو حيان: هذا خارج عن مذهب البصريين والكوفيين معاً، لأن البصريين يجعلون مفعول (يريد) محذوفاً واللام للعلة، أي: يريد الله تحليل ما حلل وتحريم ما حرم وتشريع ما شرع لأجل التبيين، فمتعلق الإرادة غير التبيين حذراً من تعدي الفعل المتعدي إلى مفعول متأخر بواسطة اللام، ومن إضمار (أن) بعد لام ليست لام (كي) ولا لام الجحود، وكلاهما لا يجوز عندهم، والكوفيون يجعلون متعلق الإرادة التبيين لكن اللام عندهم هي الناصبة بنفسها لا (أن) مضمرة بعدها. اهـ وفي حاشية الشيخ سعد الدين: التصريح بأن اللام زائدة تصريح بأن المذكور بعدها مفعول به فلا يرد ما يقال: إن أراد متعدٍ؛ فلا بد له من مفعول به، وأما حمله على حذف المفعول وجعل اللام للتعليل فليس بسديد من جهة المعنى. اهـ وفي حاشية الطَّيبي: قال صاحب الفرايد: قيل: لا يبعد أن يكون مفعول (يريد) محذوفاً للعلم به، كأنه قيل: يريد إيراد هذه الأحكام ليبين لكم، وكذا في قوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ) أي يريدون كيدهم وعنادهم ليطفئوا، وقال: هذا الوجه أقرب إلى التحقيق لأنه فعل متعد لا بد له من مفعول.

وقال ابن الحاجب في شرح المفصل: يجوز لزيد ضربت، وامتنع ضربت لزيد، لأن المقتضي إذا تقدم كان أقوى منه إذا تأخر، والجواب: إن المقام إذا اقتضى التأكيد لا بد من المصير إليه، وإذا كان المعنى على ما قال: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم وأن يهديكم مناهج من تقدمكم ... إلى آخره، فخلو الكلام عن التأكيد بعيد عن قضاء حق البلاغة. قال الزجاج: اللام في (ليبين لكم) كاللام في لكي في قوله: [أردت لكيما لا ترى لي عثرة ... ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل. وقال صاحب اللباب: إن اللام في: شكرت لزيد تكملة للفعل في نحو: مررت بزيد. وقال الشارح: إن معنى المرور وهو المجاوزة يقتضي متعلقاً والباء تكميل لذلك المعنى بخلاف التعدية نحو: خرجت بزيد فإن معنى الخروج لا يقتضي متعلقاً بل حصل اقتضاؤه المتعلق بحرف الجر فتلك هي التعدية. اهـ وفي إعراب السفاقسي: جوز الزمخشري أن يكون من باب الإعمال؛ فيكون مفعول (لِيُبَيِّنَ) ضميراً محذوفاً يفسره مفعول (وَيهْدِيَكُمْ)؛ نحو: ضربت وأهنت زيداً، أي: ليبينها لكم، أي: سنن الذين من قبلكم. قال السفاقسي: جعله من باب الإعمال حسن، وأما تقديره مفعول أول ضمير ففيه نظر، لأنهم أوجبوا حذفه إذا كان فضلة مستغنى عنه، ولم يجوزوا إضماره لما يلزم عليه من الإضمار قبل الذكر، فالأولى أن يقال: ومفعول الأول محذوف إلا أن يقال: إنما يمتنع إضماره مع التلفظ به، وأما تقديره كذلك فلا. اهـ وهذا الذي نقله عن الزمخشري ليس في الكشاف. قوله: (كما في قول قيس بن سعد:] أردت لكيما يعلم الناس أنه ... سراويل قيس والوفود شهود) في الغريب لابن الدهان: ورد أن عظيم الروم بعث إلى معاوية بهدية مع رسولين

أحدهما جسيم والآخر أيد (1) ففطن لها معاوية فقال لعمرو بن العاص: أما الطويل فإني أجد مثله فمن الأيد؟ فقال: أجد القوة في شخصين محمد بن الحنفية، والآخر عبد الله بن الزبير. فقال: بردت قلبي، ثم أرسل إلى قيس فعرفه الحال فحضر، فلما مثل بين يدي معاوية وعرف ما يراد منه نزع سراويله ورمى بها إلى العلج فلبسها فنالت ثندوته فأطرق مغلوباً، وليم قيس على تبذله وقيل: هلا بعثت بها؟ فقال: أردت لكيما تعلم الناس أنَّها ... سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاديَّ نمته ثمود وأني من القوم اليمانيين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود وبذَّ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسم به أعلو الرجال مديد وحضر محمد بن الحنفية وعلم ما يراد منه؛ فخير العلج بين أن يقعد ويقوم العلج ويعطيه يده فيقيمه أو يقعد العلج ويقوم محمد ويعطيه يده فيقعده، فاختار العلج الحالتين، وغلبه فيهما محمد فأقام العلج وأقعده. أخرجه ابن عساكر في تأريخه من طرق. قوله: (يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي). قال الطَّيبي: إشارة إلى قوله أن (يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من وضع المسبب موضع السبب وذلك من عطف (وَيَتُوبَ) على قوله (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على سبيل البيان كأنه قيل: ليبينْ لكم ويهديكم ويرشَدكم إلى الطاعات فوضع موضعه (ليَتُوبَ عَلَيكم). اهـ قوله: ((والله يريد أن يتوب عليكم) كرره للتأكيد (والمقابلة)). أي أنه قوبل بقوله (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ... ) قال الطَّيبي: وإنما بنى (وَاللهُ يُرِيدُ) على تقوي الحكم وقدم الاسم وفي المقابل الفعل

(1) الأيد: هو القوي. انظر: لسان العرب 1/ 386.

قوله: ((إلا أن تكون تجارة)

مقدم ليفرق بين الإرادتين إرادة الله وإرادة الزائغين. اهـ قوله: (ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمهّ). قلت: هو مما خفف به في هذه الشريعة على هذه الأمة، ولم يبح ذلك في الشرائع السابقة. أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر في التفسير عن مجاهد قال: مما وسع الله به على هذه الأُمَّة نكاح الأَمَة النصرانية واليهودية. قوله: (وعن ابن عباس: ثمان آيات فى سورة النساء هن خير لهذه الأمة ... ) الحديث. أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة وابن جرير في تفسيره. قوله: ((إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) استثناء منقطع). قال الشيخ سعد الدين: إذ لم يسبق لفظاً أو تقديراً مفردٌ يصح وقوع التجارة استثناءً عنه. اهـ وقال أبو البقاء: الاستثناء منقطع ليس من جنس الأول، وقيل: هو متصل أي: لا تأكلوا بسبب إلا أن تكون تجارة. وهذا ضعيف لأنه قال (بِالْبَاطِلِ) والتجارة ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذف مضاف أي: إلا في حال كونها تجارة. اهـ قال الطَّيبي: قوله (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) يدل بحسب المفهوم على أن عدم المراضاة منهي عنه، ومن ثم قدر: ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي، فكأنه قيل: المنهي هو أن يكون التصرف بالباطل وعدم الرضى لكن غير المنهي هو أن يكون التصرف بالحق وحصول المرضاة. اهـ قوله: (روي أنّ عمرو بن العاص تأوله في التيمم بخوف البرد ولم ينكره عليه النبى - صلى الله عليه وسلم -). أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه.

قوله: (جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال). قال الطيبي: قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) إلى قوله (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) كالاعتراض بين حديث النساء ونكاحهن والقيام عليهن فيكون تأكيداً لمعنى التعليل في قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) لما فيه من الإشعار بأن التمتع بالمال إنما يكون معتدًّا به إذا أنفق على العيال، ومن ثم ضم مع حفظ المال لأجل الإنفاق على العيال حفظ النفس من يد الإرادة التحريض على طلب الإحصان والاجتناب عن السفاح. اهـ قوله: (معناه: إنه كان بكم يا أمة محمد رحيماً لما أمر بنى إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه). ذكر الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه: أن من تحتم قتله بذنب من الذنوب لم يجز له أن يقتل نفسه، وستره على نفسه مع التوبة أولى به، وإن أراد تطهيراً بالقتل فليقر بذلك عند ولي الأمر ليقتله على الوجه الشرعي، فإن قتل نفسه لم يجز له ذلك، لكنه إن قتل نفسه قبل التوبة كان ذنبه صغيرة لافتياته على الإمام، ويلقى الله فاسقاً بالجريمة الموجبة للقتل، وإن قتل نفسه بعد التوبة فإن جعلت توبته مسقطة لقتله فقد لقي الله فاسقاً بقتله نفسه لأنه قتل نفساً معصومة، وإن قلت لا يسقط قتله بتوبته لقي الله عاصياً لافتياته على الأئمة، ولا يأثم بذلك إثم مرتكب الكبائر، لأنه فوت حياة يستحق الله تفويتها، وأزهق روحاً يستحق الرب إزهاقها، وكان الأصل يقتضي أن يجوز للآحاد الاستبداد به في النفس. اهـ قوله: (وعن النبى - صلى الله عليه وسلم -: إنها سبع: الإشراك بالله ... ) الحديث. أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عمر وابن أبي حاتم. قوله: (وعن ابن عباس: الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع). أخرجه ابن أبي حاتم. قوله: (ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص) أوردوا هنا قول من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنشدوا: لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... في السهو فيها للوضيع معاذر فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر

(واسألوا الله من فضله)

قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: ليس الإيمان بالتمنى). سيأتي. قوله: (روي عن أم سلمة قالت يا رسول الله: يغزوا الرجال ولا نغزو ... ) الحديث. أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديثها. قال الطَّيبي: لا بأس في أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً؛ إذ أكثر الأحكام واردة على هذا المنهج، فإن قلت: هذا تمنٍ محمود فكيف نهوا عنه؟ قلت: كان التمني أن يكتب عليهن الجهاد كما كتب على الرجال، وهذا التمني غير جائز لأنه تعالى كتب لكل من الرجال والنساء على حسب حاله واستعداده؛ ولذا استدركه بقوله (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي: اسألوا الله ما يليق بحالكم وما يصلحكم، ألا ترى كيفى ذيل بقوله (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). اهـ قوله: (أي ولكل تركة جعلنا وارثاً ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني المضاف إليه (وَلِكُلٍّ) محذوف وهو تركة، والمفعول الأول لـ (جَعَلْنَا) هو (مَوَالِيَ) والثاني (وَلِكُلٍّ)، و (مِمَّا تَرَكَ) متعلق بمحذوف وهو صفة (وَلِكُلٍّ)، المعنى: وجعلنا لكل مال تركه الوالدان وراثاً يحوزونه. قال السجاوندي: وفيه ضعف للفصل بين الموصوف والصفة إذ يصير بمنزلة من يقول: لكل رجل جعلت درهماً فقير. اهـ قوله: (أو: ولكل ميت جعلنا وارثاً ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فعلى هذا (وَلِكُلٍّ) أحد مفعولي (جَعَلْنَا)، و (مَوَالِيَ) بمعنى الوارث، و (مِما تَرَكَ) صلته، المعنى: جعلنا لكل موروث وارثاً حائزاً لتركته، ثم قيل: من الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. اهـ قوله: (أو لكل قوم ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فعلى هذا لكل قوم خبر، والمبتدأ متعلق (مِمَّا تَرَكَ) وهو نصيب المقدر، و (جَعَلْنَا) صفة (وَلِكُلٍّ)، ومفعوله الأول محذوف وهو ضمير الموصوف،

و (مَوَالِيَ) ثاني مفعوليه، المعنى: لكل من جعلناه وارثاً نصيب من التركة. اهـ قوله: (أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده). قال الشيخ سعد الدين: ينبغى أن يكون هذا هو المختار لئلا يقع الخبر جملة طلبية. قال: وكأنه إنما لم يختره لأنَّ مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا، وكذا الوجه الثالث وهو العطف على (الْوَالِدَانِ) لشهرة الوقف على (وَالْأَقْرَبُونَ) دون (أَيْمَانُكُمْ). اهـ قوله: (أو معطوف على الوالدين -إلى قوله- والضمير للموالي). قال الطَّيبي: فيدخل فيه (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ)، وعلىٍ هذا الوجه الفاء جزاء شرط مقدر و (من) صلة موالي، أي: جعلنا لكل موروث وارثاً حائز التركة. فقيل: من هم؟ قيل: الوالدان والأقربون والعاقدون. ثم قيل: وإذا كان كذلك فآتوهم نصيبهم. اهـ قوله: (بمعنى عقدت عهودهم). قال الطَّيبي: أي عهود الموالي، وهو مفعول (عَقَدَت)، وفاعله (أَيْمَانُكُمْ). اهـ قوله: (روي أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته ... .) الحديث. ذكره الثعلبي والواحدي عن مقاتل، وأخرج ابن مردويه من حديث علي نحوه، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وأبو داود في المراسيل من مرسل الحسن نحوه. قوله: (لمواجب الغيب). قال الطَّيبي: قيل المواجب جمع موجب، والمراد بموجب الغيب: ما يوجبه الغيب، أي ما تجب المحافظة عليه في حال غيبة الزوج. اهـ قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها، وتلا الآية). أخرجه ابن جرير من حديث أبي هريرة لكن بلفظ (في مالك ونفسها)، وروى النسائي عن أبي هريرة: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير النساء فقال: التي تطيع إذا أمر، وتسر إذا

نظر، وتحفظه في نفسها وماله. رواه الحاكم وصححه بلفظ (ومالها). قال الطَّيبي: أراد بمالها مال الزوج، ولما كانت هي المتصرفة فيه في حال الغيبة وأنه مما ينفق عليها منه كان كأنه مالها، ونحوه قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) بعثاً لها على الحفظ، أي: ليحفظن ماله حفظاً مثل حفظ أموالهن. اهـ وكذا حمله الشيخ سعد الدين على إضافة الملابسة بتصرفها فيه، لكن أكثر طرق الحديث بلفظ: في نفسها وماله وكذا رواه ابن ماجة من حديث أبي أمامة فيخشى أن يكون في رواية الحاكم تحريف من بعض الرواة والنساخ فإن مخرج حديثه وحديث النسائي واحد. قوله: (بحفظ الله إياهن ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فسر الحفظ بوجوه ثلاثة: أحدها: أنه حقيقة، أي: حافظات للغيب لأنَّ الله تعالى حفظهن من أن يقعن في الذنب. الثاني: أنه من باب الكناية، أي أنهن حافظات الغيب لأن الله تعالى وعدهن الثواب عليه ولذلك سعين في حفظ الغيب؛ كأنه قيل: احفظن الغيب حتى لا أضيع أجركن لما يلزم من عدم ضياعهن إيتاء أجورهن. الثالث: أنه مجاز من إطلاق المسبب على السبب؛ لأن الظاهر أن يقال: حافظات للغيب: أنَّ الله تعالى وصى الأزواج بحفظهن رعاية لحقهن فهن قضين حق تلك النعمة بحفظ غيب الأزواج. اهـ قوله: (وقرئ (بما حفظ اللهَ) بالنصب ... ) إلى آخره. قال أبو البقاء: (ما) على قراءة النصب بمعنى: الذي، أو نكرة والمضاف محذوف؛ والتقدير: بما حفظ أمر الله أو دين الله. وقال قوم: هي مصدرية، والتقدير: بحفظهن الله، وهذا خطأ لأنه إذا كان كذلك

خلا الفعل عن ضمير الفاعل، لأن الفاعل هنا جمع المؤنث فكان يجب أن يكون بما حفظهن الله. اهـ قال الطَّيبي: وقد صوب هذا القول وجعل الفاعل فيه للجنس وهو مفرد مذكر فلا يظهر له ضمير. اهـ قوله: (والأمور الثلاثة مرتبة). قال ابن المنير: الترتيب غير مأخوذ من الآية لأنَّها واردة بواو العطف، وإنما استفيد من أدلة خارجة. اهـ وقال الطَّيبي: ما أظهر دلالة الفاء يعني في قوله (فَعِظُوهُنَّ) عليه، ومنه نبه على ترتيب قرينيه. اهـ قوله: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). أخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود، والطبراني من حديث أبي سعيد، والديلمي في مسند الفردوس منْ حديث أنس وابن عباس. قوله: (الضمير الأول للحكمين ... ) إلى آخره. قال الإمام: وهنا قسم رابع وهو أن الأول للزوجين، والثاني للحكمين أي: إن يرد الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين اختلافهما حتى يعملا بالصلاح. اهـ قوله: (وعنه عليه الصلاة والسلام: الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له حق واحد وهو المشرك). أخرجه الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في كتاب الثواب، وأبو نعيم في الحلية من حديث جابر بن عبد الله، وابن عدي في الكامل من حديث عبد الله

قوله: ((الذين يبخلون)

بن عمرو وكلاهما ضعيف. قوله: ((الذين يبخلون) بدل من قوله (من كان)). قال أبو حيان: يجوز عندي -ولم يذكروه- أن يكون صفة لـ (مَن). اهـ قوله: (أو مبتدأ خبره محذوف). قال الطَّيبي: فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين أن يكون خبر مبتدأ محذوف كما عليه الوجه الذي قبله؟ قلت: على ذاك يتصل بقوله (مُخْتَالاً فَخُورًا) محكوم عليهم بأنهم هم الذين لا يحبهم الله، وهو أبلغ من البدل؛ لما يؤذن بأن البخل أخس أوصافهم؛ وهو الذي حملهم على أن يتكبروا عن إكرام أقاربهم وأصحابهم، وأنهم معروفون مشهورون بكونهم مختالين فخورين؛ لما تقرر أن النصب أو الرفع على المدح أو الذم يقتضي أن يكون الموصوف مشهوراً معروفاً والصفة [صالحة للمدح أو للذم، وعلى أن يكون مبتدأ خبره محذوف الجملة منقطعة عما قبلها جيء بها مستطردة لحكاية من يمنع إحسانه على الوالدين والأقربين، والوجه الاتصال لأن قوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) تذييل لقوله (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وقد رمز إليه تفسيره المختال بالمتكبر الذي يأنف عن إكرام أقربائه وجيرانه، ثم لا بد من انضمام قوله (الذِينَ يَبخَلُونَ) ليتم المقصود. فإن قلت: هل يجوز (وَالذِينَ يَبْخَلُونَ) القطع للاستئناف؟ قلت: لا يحسن ذلك الحسن لأنه لا يخلو من أن يكون استئنافاً بإعادة اسم (من) المستأنف عنه الحديث أو صفته، والأول ظاهر البطلان لأن (الذي) وضع صلة إلى وصف المعارف بالجمل، والثاني يوجب أن يكون الموصوف بحيث ينبئ عن الوصف ليكون ذريعة لبيان الموجب ليصح التعليل كقوله تعالى (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، ولا دلالة في قوله (مُخْتَالاً فَخُورًا) على هذا الوصف بل فيه ما يدفعه لأن التيّاه الفخور أغلب ما يكون جواداً، اللهم إلا أن يقال إنَّ قوله (مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) لما كان تذييلاً للكلام السابق واستئنافاً تضمن معنى البخل الذي يعطيه قوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ

إِحْسَانًا ... ) إلى آخره وهذا لا يصير إليه صاحب ذوق. اهـ قوله: (والآية نزلت في طائفة من اليهود ... ) إلى آخره. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس. قوله: (وقيل: الذين يكتمون صفة محمد - صلى الله عليه وسلم). أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف- عن ابن عباس. قوله: (وأنث الضمير لتأنيث الخبر). قال الشيخ سعد الدين: لا يقال تأنيث الخبر إنما يصح بعد اعتبار تأنيث الاسم؛ لأنّا نقول الحسنة والسيئة التحقتا بالاسم، ليس دخول التاء فيها مبنياً على تأنيث ما يجريان عليه، ولهذا نقول: الصوم حسنة. اهـ قوله: (يضاعف ثوابها). قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل، وما جاء في الحديث من أن التمرة يربيها الرحمن تبارك وتعالى حتى تصير مثل الجبل محمول على هذا للقطع بأن الثمرة أكلت ولم ترب، على أن الحسنة هي التصدق بها لا نفسها، وما يقال إن مضاعفة الحسنة أن يكتب ثوابها مضاعفاً في صحيفة العمل وأنه ينزلها منزلة أضعافها راجع إلى مضاعفة الثواب. اهـ قوله: (ويعط صاحبها من عنده). قال الطَّيبي: جعل (مِن لدُنهُ) بمعنى من عنده، وقد قال الزجاج: (لدن) لا تتمكن تمكن (عند) لأنك تقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدي صواب، وتقول: عندي مال، ولا تقول: لدي مال، والمال غائب. اهـ قوله: (وإنما سماه أجراً لأنه تابع للأجر). قال الطَّيبي: أي هو مجاز عن التفضل لأنه تعالى قال (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، ومضاعفة الحسنة هي الأجر لأنَّها جزاء الحسنات، وقال بعده (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) فوجب حمله على معنى زائد على الأجر وليس ذلك إلا التفضل. قال: وهذا على ما قرره صاحب الكشاف من أنَّ (يُضَاعِفْهَا) على تقدير مضاف أي:

قوله: (فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم).

يضاعف ثواهما وأنه بالاستحقاق لا بالتفضل، وتسميته التفضل بالأجر تسمية للشيء باسم مجاوره، وهذا تعسف وتأويل القرآن بالرأي والمذهب، وأما إذا جعلنا الحسنة بنفسها مضاعفة كما دل عليه حديث تربية الصدقة حتى تكون كالجبل العظيم و (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) على ظاهره ليعلم أن الأجر تفضل منه سبحانه وأنه من لدنه لا باستحقاق العمل كما عليه مذهب أهل الحق فأي حاجة لنا إلى ارتكاب تلك التعسفات وكان لنا مخلصاً من تلك الورطات. قال: والعجب من القاضي وصاحب التقريب كيف قررا في هذا المقام كلام صاحب الكشاف ولم ينبه عليه صاحب الانتصاف. اهـ قوله: (فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم). قال الطَّيبي: يريد أنَّ الإشارة بقوله (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) إلى جميع من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه الآية ناظرة إلى فاتحة السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)، وهي كالتخلص إلى قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) كما كان قوله (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) إلى قوله (مَيْلاً عَظِيمًا) مخلصاً إلى قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ). اهـ قوله: (تسوى بهم الأرض كالموتى). قال الطَّيبي: (الباء) بمعنى (على) كقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ)، ويجوز أن تكون للسببية، أي: سبب دفنهم، وعلى القولين الأخيرين بمعنى (مع). اهـ قوله (ولا يكذبونه). قال الطَّيبي: هو عطف تفسير لأنَّ معنى الكتمان هو جحدهم شركهم. اهـ قوله: (رُوي أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم ... ) إلى آخره. أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس.

قوله: (روي أن عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة ... ) الحديث. أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه من حديث علي بن أبي طالب. قوله: (والجنُب ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: بيان لصحة عطفه وهو مفرد على الحال ضمير الجمع. اهـ قوله: (لأنه يجري مجرى المصدر). قال الطَّيبي: من هذا يعلم أن كل اسم يقع موقع المصدر يجري فيه ما ذكر ولا تختص به المصادر كرجل عدل وامرأة عدل. اهـ قوله: (لا تقربوا الصلاة جنباً في عامة الأحوال إلا في السفر). قال الطَّيبي: يعني لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب على تقدير من التقادير وفي حال من الأحوال إلا في حال السفر. اهـ قوله: (أو صفة). قال الطَّيبي: الفرق بين أن يكون حالاً وبين أن يكون صفة هو أنه على الحال يفيد أنه لا يجوز قربان الصلاة في حال الجنابة قط إلا أن يكون مسافراً؛ فدل الحصر على أن العذر غير متعدد ثم يجيء قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) يبطل معنى الحصر، بخلافه إذا جعل صفة ويكون المعنى: لا تقربوا الصلاة جنباً مقيمين؛ فيحسن (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) لجواز ترادف القيد. اهـ قوله: (أو ماسستم بشرتهن بشرتكم -إلى قوله- أو جامعتموهن). قلت: ما أورده من حكاية قولين في الملامسة هل هي مماسة البشرة أو الجماع أطبق عليه الناس، والتحقيق أنه لا خلاف وإن التفسيرين بحسب القراءتين، فمن قرأ (لَمَسْتُمُ) أراد مس البشرة ومن قرأ (لامَسْتُمُ) أراد الجماع، وهذا تحقيق حسن يندفع به كثير من حكايات الخلاف كما بينته في الإتقان.

قوله: (واليد: اسم العضو إلى المنكب). سئلت عن هذا أهو على سبيل الحقيقة وإطلاقها على بعضه كالكف إلى الكوع في قوله ً (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وكالكف إلى الذراع إلى المرفق في قوله (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) مجاز من إطلاق اسم الكل على البعض، أو على سبيل المجاز وهي حقيقة في الكف إلى الكوع أو مشترك في جميع ذلك أو متواطئ؟ والجواب: أنه على سبيل الحقيقة، هذا مقتضى نصوص الأئمة. ً (قال ابن الرفعة في الكفاية: اختلف الناس في اليد تطلق حقيقة على ماذا، فالمشهور أنها إلى المنكب؛ وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب واختار أنَّها تتناول الكفين مع الأصابع دون ما زاد عليها بدليل قوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) دل على أن هذا زيادة على ما يتناوله الاسم وليس بنقصان فإنه يجري مجرى قولهم: سرت من الكوفة إلى البصرة). اهـ قوله: (وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد هنا: وأيديكم إلى المرافق). قلت: الحديث رواه أبو داود بسند ضعيف عن ابن عمر قال: مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكة، فضرب بيده على الحائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام. زاد أحمد عد بن عبيد الصفار في مسنده من هذا الوجه: فمسح ذراعيه إلى المرفقين. ومداره على محمد بن ثابت العبدي وهو ضعيف، وقد أنكر البخاري عليه هذا الحديث.

قوله: (أو بيان لـ (أعدائكم).

قال النووي في شرح المهذب: احتج أصحابنا بأشياء كثيرة لا يظهر الاحتجاج بها، وأقربها أن الله تعالى أمر بغسل اليدين إلى المرافق في الوضوء وقال في آخر الآية (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) فظاهره أن المراد الموصوفة أولاً بقوله (إِلَى الْمَرَافِقِ)؛ وهذا المطلق محمول على ذلك المقيد لا سيما وهي آية واحدة، وقد أجمع المسلمون على أن الوجه يستوعب في التيمم كالوضوء فكذلك اليدان. قال الشافعي والبيهقي: أخذنا بحديث مسح الذراعين لأنه موافق لظاهر القرآن والقياس، وأحوط. اهـ قوله: (فكذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم). قال الطَّيبي: يريد أنَّ قوله (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) كالتعليل لقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ... ) إلى آخره والعفو والغفران يستدعيان سبق جرم؛ وليس في ذكر الأعذار ما يشم منه رائحة؛ فلا يصح إجراؤه على ظاهره؛ فوجب أن يكون ذكرهما كناية عن الترخيص والتيسير، ويؤيده مجيء قوله (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) في مثل هذه الآية في المائدة. اهـ قوله: (بيان للذين أوتوا -إلى قوله- وما بينهما اعتراض). قال أبو حيان: إذا كان الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بثلاث. اهـ قال الحلبي: وفيه نظر؛ فإن الجمل هنا متعاطفة والعطف يصير الشيئين شيئاً واحداً. اهـ قوله: (أو بيان لـ (أَعْدَائِكُمْ)). قال الطَّيبي: بيان أنَّ قوله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) بعد قوله (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) المشتمل على الفريقين اليهود والنصارى مشعر بتهديد عظيم ووعيد شديد لبعض منهم على سبيل الإبهام فبين بقوله (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) ذلك البعض المبهم، والآية تنظر إلى معنى قوله تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)، وعلل العداوة على سبيل الاستئناف بقوله (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) كأنَّ سائلاً سأل: لم تفردت اليهود بعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقيل: لأنهم حرفوا اسمه ووصفه من التوراة وكتموا الحق وأخذوا على ذلك الرشى وأظهروا على سبيل ذلك المشتبه بقولهم (رَاعِنَا) إخفاءً لأمره وحطًّا

لمنزلته، ولما كان الكلام فيه نوع تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعد على نصرته وقهرٌ لأعدائه كان قوله (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) اعتراضاً مؤكداً له، وفي تكرير الاعتراض دلالة على الانتقام الشديد والتسلية العامة. اهـ قوله: (أو صلة لـ (نصيرا)). قال الشيخ سعد الدين: يقال نصرته على عدوه ونصرته منه لما فيه من معنى الغلبة والاستيلاء عليه والإنجاء منه. اهـ وقال الطَّيبي: يجوز أن يكون مضمناً معنى انتقم. اهـ قوله: (جمع كلمة). قال الشيخِ سعد الدين: أراد بالجمع ما هو على حد تمر وركب بما يطلق عليه لفظ الجمع نظراً إلى المعنى وإلى أنَّ له لفظاً يطلق على الواحد مثل كلمة وتمرة وراكب وإن لم يكن هو صيغة جمع بدليل رجوع الضمير إليه مفرد أو وصفه بالمفرد مثل الكلم الطيب، وحيث ينفي عنه الجمع يراد إنه ليس مجموعاً على حد رجال وأفراس. اهـ وأقول: لو كانت المسألة متفقاً عليها بين النحويين أنَّ الكلم ليس بجمع اتجه له هذا التأويل، ولكن الخلاف فيها شديد؛ فإن طائفة من النحويين ذهبوا إلى أنه جمع ورجحه مع حكاية الخلاف عن طائفة من المتأخرين، فما المانع أن يكون صاحب الكشاف قد يجنح إلى هذا؛ وتبعه المصنف على اختياره. قوله: (تخفيف كلمة). قال الشيخ سعد الدين: يعني بنقل كسرة اللام إلى الكاف. اهـ قوله: (وإنما قالوه نفاقاً). قال في الكشاف: هو قول ذو وجهين. اهـ قال الطَّيبي: وهو المسمى في البديع بالتوجيه؛ وهو إيراد كلام محتمل لوجهين مختلفين بالذم والمدح. اهـ

قوله: (ولو ثبث قولهم هذا). قال أبو حيان: سبك من أنَّهم قالوا مصدراً مرتفعاً يثبت على الفاعلية وهو قول المبرد، وهو مذهب مرجوح في علم النحو، وسيبويه يرى أنَّ (أن) بعد (لو) مع ما عملت فيه يقدر باسم مبتدأ، وهل الخبر محذوف أو لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة (أن)؟ قولان أصحهما الثاني. اهـ قوله: (ويجوز أن يراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للمهم يصيبه ... ). قال أبو حيان: ما ذكره من أنَّ القليل يراد به العدم صحيح في نفسه؛ لكن هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه؛ فإذا قلت: لا أقوم إلا قليلاً؛ لم يوضع هذا لانتفاء القيام ألبتَّة، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك، وإذا قلت: قلما يقوم أحد إلا زيد، وقلَّ رجل يقول ذلك احتمل أن يراد به التقليل المقابل للكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض وكأنك قلت: ما يقوم أحد إلا زيد، وما رجل يقول ذلك، أما أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي فلا؛ إذ تكون (إلا) وما بعدها على هذا التقدير جيء بها لغواً لا فائدة فيه؛ إذ الانتفاء فهم من قولك: لا أقوم، فأي فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة، وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد (إلا) موافقاً لما قبلها في المعنى؛ وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد (إلا) موافقاً لما قبلها. اهـ والبيت المستشهد به قيل لأبي كثير الهذلي ولم أجده في شعره، وقيل لتأبط شراً وتمامه: كثير الهدى يثني الهوى والمسالك. قال الطَّيبي: أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق، لا يقف أهله على فن واحد بل يتجاوز إلى فنون مختلفة، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها، فاستعمل لفظ

القليل وقصد به إلى نفي الكل. اهـ قوله: (أو إلا قليلاً منهم آمنوا). قال الطَّيبي: فعلى الأول (إِلاّ قَلِيلاً) مستثنى من مصدر (يؤمِنُونَ)، وعلى هذا (من) فاعله. اهـ قوله: (أو (للذين) على طريقة الالتفات). قال الطَّيبي: أراد الانتقال من الخطاب المستفاد من النداء في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) إلى الغيبة في قوله (أَوْ نَلْعَنَهُمْ). اهـ قوله: (ارتكب ما يستحقر دونه الآثام -إلى قوله- والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل). قال الطَّيبي: لا يعلم من كلام القاضي أنه مشترك أو مجاز وحقيقة، والظاهر من قول الكشاف: أي ارتكبه، أنه استعارة تبعية، شبه ما لا يصح كونه من الفعل بما لا يصح ثبوته من القول، ثم استعمل في الفعل ما كان مستعملاً في القول من الافتراء. اهـ قوله: (وقيل ناس من اليهود جاءوا بأطفالهم ... ) إلى آخره. ذكره الثعلبي عن الكلبي. قوله: (وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها). قال في الكشاف: إلا إذا كان لغرض صحيح في الدين وطابق الواقع. اهـ قوله: (وأصل التزكية: نفى ما يستقبح فعلا أو قولاً). قال الراغب: التزكية: إما بالفعل وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهير بدنه؛ وذلك يصح أن ينسب إلى العبد كقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)، أو إلى من يأمره بفعله كقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)، وإما بالقول وذلك الإخبار عنه بذلك ومدحه ومحظور على الإنسان أن يفعل ذلك بنفسه، فالتزكية في الحقيقة هي الإخبار عما ينطوي عليه الإنسان ولا يعرف ذلك إلا الله؛ ولهذا قال (بَلِ

قوله: (بأن يعاد ذلك الجلد. . .) إلى آخره.

اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ). اهـ قوله: (وقيل في حيي بن أخطب ... ) إلى آخره. أخرجه الطبراني، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى إنكار أنهم أوتوا ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: الفرق بين الوجهين أنَّ الإنكار على الأول متوجه إلى أن يكون لهم نصيب من الملك فقط أي ليس لهم نصيب من الملك، وعلى الثاني متوجه إلى أن يكون لهم نصيب وإلى أنَّهم لا يؤتون أحداً شيئاً، [فالإنكار ينصب على الأمرين يعني: أوتوا نصيباً من الملك ويشكروا لينفقوا في سبيل الله فجعلوه سبباً للإمساك] كقوله تعالى (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، فالفاء سببية نحو اللام في (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا). اهـ قوله: (بأن يعاد ذلك الجِلْد ... ) إلى آخره. قال الطيبي: فالمغايرة في الصفة لا في الذات. اهـ قال الإمام: المعذب هو الإنسان، والجلد ليس منه بل هو كالشيء الملتصق به، فإذا جدد الله تعالى الجلد حتى صار سبباً لوصول العذاب إليه لم يكن إلا تعذيباً للعاصي. اهـ قال الطَّيبي: وهذا أيضاً عن القاضي والزجاج، وهو مبني على أنَّ الإنسان غير البدن، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، بل إنه سبحانه قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاماً عظيمة من غير إدخالهم النار مع أنه تعالى أدخلهم النار. اهـ قوله: (نزلت يوم الفتح في عثمان بن أبي طلحة ... ) الحديث. أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس نحوه.

قال الشيخ سعد الدين: وللشيعة هنا كلام آخر وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل علياً على عاتقه حتى صعد سطح الكعبة وأخذ المفتاح وقال: قد خُيِّل إليَّ أني لو أردت لبلغت السماء. قلت: هذا أخرجه الحاكم في مستدركه. قوله: (روي عن ابن عباس أن منافقاً خاصم يهودياً ... ) الحديث. أخرجه الثعلبي عنه بلفظه، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود مرسلاً بلفظه أيضاً، وأخرجه ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس مختصراً. قوله: (ويؤثر فيهم). قال الطَّيبي: عطف تفسيري على قوله يبلغ منهم، يعني متمكن منهم من جهة الإبلاغ. اهـ قوله: (وتعليق الظرف بـ (بَلِيغًا) على معنى: بَلِيغًا في أنفسهم مؤثراً فيها ضعيفٌ لأن معمول الصفة لا يتقدم الموصوف). رد به على صاحب الكشاف حيث ذكر ذلك بادءً به، وقد وافقه أبو حيان في الرد قال: تعليق (فِي أَنْفُسِهِمْ) بقوله (بَلِيغًا) لا يجوز على مذهب البصريين، لأن معمول الصفة لا يتقدم عندهم على الموصوف، لو قلت: هذا رجلٌ ضاربٌ زيداً؛ لم يجز أن تقول: هذا زيداً رجل ضارب، لأنَّ حق المعمول أن لا يحل إلا في محل يحل فيه العامل، ومعلوم أن النعت لا يتقدم على المنعوت لأنه تابع والتابع (لا يتقدم على المتبوع، وأجاز ذلك الكوفيون)، والزمخشري يأخذ في ذلك بقولهم. وقال الحلبي: قول البصريين لا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم العامل فيه بحث، وذلك أنا وجدنا هذه القاعدة منخرمة في قوله (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فـ (الْيَتِيمَ) معمول لـ (تَقْهَرْ)، و (السَّائِلَ) معمول لـ (تَنْهَرْ)، وقد تقدما على

قوله: (إذ ظلموا أنفسهم)

(لا) الناهية، والعامل فيهما لا يجوز تقديمه عليها إذ المجزوم لا يتقدم على جازمه، فقد تقدم المعمول حيث لا يتقدم العامل، وللنظر في هذا البحث مجال. اهـ وقال ابن المنير: يشهد لتعلقه بـ (بَلِيغًا) أن مساقه التهديد قوله (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وهو إخبار بما سيقع، ولتعلقه بـ (وَقُل لهم) أي: قل لهم في معنى أنفسهم قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)، ولقوله وقل لهم في أنفسهم خالياً بهم سيرته - صلى الله عليه وسلم - في ستر أحوال المنافقين حتى عد حذيفة باطلاعه على ذلك صاحب سر النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ قال الطَّيبي: هذا الوجه يشترك مع الوجه الذي قبله من حيث أنَّ (في أَنفُسِهمْ) متعلق بـ (قُل)، ومع الوجه الأول في التأثير، والفرق بين التأثيرين اختلاف الجهة وهو أن المؤثر هناك إيقاع (أَنْفُسِهِمْ) ظرفاً للقول وهاهنا النصيحة في السر. اهـ قوله: (والقول البليغ فى الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به). قال الراغب: القول البليغ إذا اعتبر بنفسه فهو ما يجمع أوصافاً ثلاثة: أن يكون صواباً، مطابقاً للمعنى المقصود به لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، وصدقاً في نفسه، وإذا اعتبر بالمقول له والقائل فهو الذي يقصد به قائله الحق، ويجد من المقول له قبولاً، ويكون وروده في الموضع الذي يجب أن يورد فيه. اهـ قال الطَّيبي: وإذا تعلق (فِي أَنْفُسِهِمْ) بقوله (بَلِيغًا) فالبليغ من البلوغ والوصول، ولهذا قال مؤثراً في قلوبهم، فجعل (أَنْفُسِهِمْ) ظرفاً ليتمكن القول في قلوبهم تمكن المظروف في الظرف. اهـ قوله: (إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت). قال الطَّيبي: إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله (إِلَى الذِين يَزعُمُونَ) إلى قوله (يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ). اهـ قوله: (و (لا) مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر (لا) فى قوله (لا يؤمنون) لأنها تزداد أيضاً فى الإثباث كقوله تعالى (لا أقسم بهذا البلد)). قال الطَّيبي: يريد أن (لا) في (فَلا وَرَبِّكَ) جاءت لتوكيد معنى القسم لا لتوافق

(لا) في (لا يُؤمِنُون)؛ لأنَّ إثبات (لا) في القسم سواءً كان الجواب منفياً أو مثبتاً جائز فإن قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) مثبت، وقد جاء بالقسم مؤكداً بـ (لا) في قوله (فَلا أُقسِمُ) فلو كان للتظاهر لما جاءت في المثبت. قال صاحب التقريب: وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يقال إنه تأكيد النفي في المنفي فقط، بل وجه المنع أنَّ (لا) حينئذ تتمة الجواب فيلزم الفصل بين أجزاء الجواب بالجملة القسمية، فيقال: إن القسم لما اتحد مع الجواب اتحاد المفرد في قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) حتى اكتفى بالجواب في إيقاعه صلة للموصول اغتفر الفصل به. قال أبو البقاء: فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الأولى زائدة، وقيل إنَّ الثانية زائدة والقسم معترض بين النفي والمنفي. وثانيهما: أن (لا) لنفي أمر مقدر أي: فلا يعقلون ثم قال: وربك لا يؤمنون. في الانتصاف: أراد الزمخشري أنَّها لما زيدت حيث لا يكون القسم نفياً دلت على أنها تزاد لتأكيد القسم فجعلت كذلك في النفي، والظاهر عندي أنَّها هاهنا لتوطئة القسم، والزمخشري لم يذكر مانعاً منه إنما ذكر مجيئها لغير هذا وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن دخولها على المثبت فيه نظر، فلم يأت في الكتاب العزيز إلا مع القسم بالفعل (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ)، ولم يأت إلا في القسم بغير الله، وله سر يأبى أن يكون هنا لتأكيد القسم وذلك أن المراد بها تعظيم المقسم به فِى الآيات المذكورة فكأنه بدخولها يقول: إعظامي لهذه الأشياء المقسم بها كلا إعظام إذ هي تستوجب فوق ذلك، وإنما يذكر هذا التوهم وقوع عدم تعظيمها فيؤكد بذلك وبفعل القسم ظاهراً، والوهم زائل بالقسم بالله تعالى فلا يحتاج إلى تأكيد فتعين حملها على التوطئة، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت، أما في

النفي فكثير. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: يعني إن قيل: لم لا يجوز أن تكون مزيدة لمظاهرة (لا) في (لا يُؤمِنُونَ) ومعاونتها والتنبيه من أول الأمر على أن المقسم به نفي؟ فالجواب: أنَّ مجيئها قبل القسم سواءً كان الجواب نفياً أو إثباتاً يدل على أنَّها لتأكيد القسم لا لمظاهرة النفي في الجواب، وذلك لأنَّ الأصل إجراء المحتمل على المحقق والمشكوك على المقطوع واتخاذ نهج اللفظ على اتخاذ نهج المعنى وترك التصرف في الحرف، وبهذا يندفع اعتراض صاحب التقريب بأنه يجوز أن يكون نفي المنفي لمظاهرة النفي وفي المثبت لتأكيد معنى القسم، وما يقال إنه لا يجوز أن يكون في النفي لتأكيده وفي الإثبات لتأكيده فليس على ما ينبغي. اهـ قوله: (وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء، أو على: إلا فعلاً قليلاً). قال الطَّيبي: فعلى هذا الاستثناء مفرغ، و (منهم) بيان للضمير في (فعلوه) كقوله تعالى (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) على التحديد، وعلى أصل الاستثناء (منهم) للتبعيض. اهـ وقال أبو حيان: أما النصب على الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة، وأما قوله: إلا فعلاً قليلاً؛ فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ولقوله (منهم) فإنه تعلق على هذا التركيب؛ لو قلت: ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون (منهم) لا فائدة في ذكره. اهـ وقال السفاقسي: أجاب بعضهم بأن هذا لازم على تقدير الزمخشري، ورد بأنها على تقدير الرفع للربط لأنه بدل بعض من كل، وعلى تقدير النصب على الاستثناء يكون في معنى الرفع لأنه أيضاً إخراج بعض من كل، وأجيب بأنهم اكتفوا في مثل هذا بالربط بـ (إلا)، وأجيب بأنَّ الربط بالضمير هو الأصل و (إلا) كالنيابة عن ذلك الأصل،

وإذا وجد (إلا) فلا يعد غير مفيد بخلاف تقدير الزمخشري. اهـ فائدة: قال ابن الحاجب: لا بُعد أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه، بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء على قراءة غير الأقوى. اهـ قال الطَّيبي: بل يكون إجماعهم بل قراءتهم دليلاً على أن ذلك هو الأقوى؛ لأنهم هم المتقنون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأنَّ تعليل النحاة غير ملتفت إليه. اهـ قوله: (والآية أيضاً نزلت فى شأن المنافق واليهودي). هو في رواية أبي الأسود السابقة. قوله: (وقيل إنها والتى قبلها نزلتا فى حاطب ابن أبى بلتعة خاصم زبيراً فى شراج من الحرة كانا يسقيان بها النخل فقال عليه الصلاة والسلام: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال حاطب: أن كان ابن عمتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر). أخرجه الأئمة الستة إلا أن فيه: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار ولم يسمه. قال الطَّيبي: تسمية حاطب ابن أبي بلتعة خطأ، وجل جانب حاطب أن يتكلم بما يتغير به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلحقه من الحفيظة ما لحقه، وقد شهد الله عز وجل له بالإيمان في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وأنه شهد بدراً والحديبية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، وأنه حليف الزبير بن العوام. ذكره في الاستيعاب. وقال صاحب الجامع: هو حاطب بن راشد اللخمي وهو حليف قريش، ويقال إنه من

مذحج، وقيل: هو من أهل اليمن، والأكثر على أنه حليف لبني أسد بن عبد العزى. قال الطَّيبي: فلا خلاف إذن أنه لم يكن أنصارياً. اهـ قلت: القصة أخرجها ابن أبي حاتم من مرسل سعيد بن المسيب بسند قوي وفيه تسمية حاطب ابن أبي بلتعة. وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ذكر جماعة أنه حاطب ابن أبي بلتعة، وتعقب بأنه من المهاجرين لا من الأنصار، فإن ثبت فقول من قال إنه من الأنصار على إرادة المعنى الأعم كما استعمل ذلك غير واحد، وذكر الداودي والزجاج أن خصم الزبير كان منافقاً. قال القرطبي: فقوله من الأنصار يعني نسباً لا ديناً. قال: وهذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل أنه لم يكن صدر ذلك منه بادرة النفس. وقواه بعضهم قائلاً: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بالنصرة التي هى صفة مدح ولو شاركهم في النسب، بل هي زلة من الشيطان تمكن منه بها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحال. قال الحافظ ابن حجر: وحكى الواحدي بلا مستند أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وحكى ابن بشكوال عن شيخه أبي الحسن بن مغيث أنه ثابت بن قيس بن شماس؛ ولم يأت على ذلك بشاهد. اهـ قال الطيبي: قال في النهاية: الشرجة: مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والشرج جنس لها لها والشِرَاج جمعها، والحرة: أرض ذات حجارة سود، والجدر: المُسَنَّاة وهو ما رفع حول المزرعة كالجدار. اهـ

قوله: (لأن (إذن) جواب وجزاء). قال الطَّيبي: تعليل للتقدير، يعني لما قال الله تعالى (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) اتجه لسائلٍ أن يسأل عن جزاء التثبيت على الإيمان فأوقع (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ) جواباً لهذا السؤال وجزاءً للتثبيت، واللام في (لَآتَيْنَاهُمْ) جواب لـ (لو) محذوفاً كما قدره، وفي هذا التقدير تكلفات شتى: أحدها: أنه لم يعلم أنَّ المعطوف عليه لهذه الجملة -أعني (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ) - ماذا؟ والثاني: تقدير السؤال وهو مستغني عنه، والثالث: حذف (لو) والظاهر أنها معطوفة على قوله (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في الدنيا (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) في الدين (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ) في الآخرة (أَجْرًا عَظِيمًا) تفضلاً من عندنا لا وجوباً، هذا هو الوجه ذهاباً ومذهباً، ويؤيده ما قاله المرزوقي في قوله: إذن لقام بنصري معشر خشن إذ القيام جواب (لو)، كأنه أجيب بجوابين، واللام في (لقام) جواب يمين مضمرة، والتقدير: إذن والله لقام. اهـ وقال أبو حيان: قوله لأنَّ إذن جواب وجزاء يفهم أنَّها تكون للمعنيين في حال واحدة على كل حال، وبه قال أبو علي الشلوبين وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه، والصحيح قول الفارسي أنَّها تكون جواباً فقط في موضع، وجوباً وجزاءً في موضع، ففي مثل: أظنك صادقاً لمن قال: أزورك هي جواب خاصة، وفي مثل: إذن أكرمك لمن قال: أزورك هي جواب وجزاء. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم). أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس.

قوله: (روي أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه يوما ... ) الحديث.

قوله: (روي أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه يوماً ... ) الحديث. قال الشيخ ولي الدين: ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسناد ولا راو، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي، وروي الطبراني في معجمه الصغير عن عائشة وابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس والبيهقي في شعب الإيمان عن الشعبي وابن جرير عن سعيد بن جبير كل منهم يحكي عن رجل فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. قوله: (أو الفضل خبره). قال الراغب هو كقولك: ذاك الرجل، وهذا المال تنبيهاً على كماله؛ فإنَّ الشيء إذا عظم أمره يوصف باسم جنسه. اهـ قوله: (و (من الله) حال). زاد الراغب: أو خبر لمبتدأ مضمر. اهـ قوله: (كوكبة واحدة). قال الجوهري: كوكب الشيء معظمه، وكوكب الروضة: نورها. اهـ وإيراده هنا مجاز. قوله: (منقولاً من بطؤ). قال الطَّيبي: أي متعدياً بالتثقيل. اهـ قوله: (والقسم بجوابه صلة (من)). قال الشيخ سعد الدين: إذ لا خفاء في أنَّها خبرية مؤكدة بالقسم، وإنما الإنشائية هي مجرد القسم أعني أقسم بالله. اهـ وقال الطَّيبي: بهذا يعلم أن الجملة القسمية مع جوابها خبرية فلا يمتنع وقوعه صلة

قوله: ((كأن لم تكن بينكم وبينه مودة)

للموصول، وقيل: الصلة بالحقيقة جواب القسم والقسم كالتأكيد. قال ابن الحاجب في شرح المفصل: القسم جملة إنشائية يولد بها جملة أخرى. وقال الزجاج: (من) موصولة بالجالب للقسم تقديره: وإن منكم لمن أحلف والله ليبطئن، والنحويون مجمعون على أن (ما) و (من) و (الذي) لا يوصلن بالأمر والنهى إلا يضمر معها ذكر خبر، لأن لام القسم إذا جاءت مع الحروف فلفظ القسم وما أشبهه مضمر معها. اهـ قوله: (وقرئ بضم اللام إعادة للضمير على معنى من). قال ابن جني: ذلك لأن قوله (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) لا يعني به رجلاً واحداً ولكن معناه أن هناك جماعة هذا وصف كل واحد منهم، فلما كان جمعاً في المعنى أعيد الضمير إلى معناه دون لفظه. اهـ وقال ابن المنير: في هذه القراءة نكتة غريبة وهي العود على معنى (من) بعد الحمل على لفظها، وأنكر بعضهم وجودها في القرآن العظيم لما يلزم من الإجمال بعد البيان وهو خلاف البلاغة، لأن العود إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها بل تناوله المعنى مبهم، فوقوعه بعد البيان عي، ومنهم من عد موضوعين وهذه القراءة في هذه الآية ثالثة. اهـ قوله: ((كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل ومفعوله). قال الطَّيبي: قيل هذا الاعتراض في غاية الجزالة إذ يفيد أنَّهم يحسدونكم مما يصل إليكم من الخير كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة. اهـ قوله: (وقيل إنه متصل بالجملة الأولى). زاد الراغب في حكايته وتقديره: قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً كأن لم يكن بينكم وبينه مودة، فأخر. قال الراغب: وذلك مستقبح في العربية فإنه

لا يفصل بين بعض الجملة التي ذاك في أثنائها. اهـ قوله: (ويجوز نصبه على الاختصاص). زاد الزمخشري: يعني وأخص من سبيل الله خلاص المستضعفين. قال أبو حيان: ولا حاجة إلى تكلف ذلك؛ إذ هو خلاف الظاهر. اهـ وقال ابن المنير: فيه على هذا مبالغة من وجهين: التخصيص بعد التعميم، والنصب على الاختصاص كأنه قال: أخص هؤلاء. اهـ قوله: (فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج). قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: إن كان قصدهم الجمع بين الدعوتين فلم يجابوا إليهما، وإن كان إلى إحداهما لكونها كافية في المقصود كان المناسب العطف بـ (أو)؟ قلنا: إن قدر: ويقولون اجعل لنا؛ على معنى أنه كانت فيهم الدعوتان فلا إشكال، وإن لم يقدر فيجوز أن يكون ذلك على سبيل التوزيع، ولو سلم فمعلوم أن المقصود الأصلي والمطلوب الأولي هو النجاة والخلاص من الظلمة والوصول إلى خير ولي ناصر وقد حصل. اهـ قوله: (عتاب بن أَسيد). بفتح الهمزة وكسر السين. قوله: (وتذكيره لتذكير ما أسند إليه). قال ابن المنير: هنا نكتة وهي أن الظلم ينسب في القرآن إلى القرية مجازاً (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) إلى قوله (فَكفَرَتْ) وهنا نسب الظلم إلى أهلها إذ المراد مكة فرفعت عن نسبة الظلم إليها. اهـ قوله: (من إضافة المصدر إلى المفعول). قال الشيخ سعد الدين: يعني لا يعتبر المصدر من المبني للمفعول بحيث تكون الإضافة

قوله: ((أو أشد خشية)

إلى ما هو قائم مقام الفاعل كما في قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي مغلوبيتهم وذلك لأنه حينئذ لا يكون لإضافة الأهل إليه كبير معنى بمنزلة قولك: حال كونهم مثل أهل مخوفية الله، بل المعنى: مثل أهل الخائفة من الله وهم الخائفون، فليتنبه للفرق بين المصدر المبني للمفعول والمضاف إلى المفعول. اهـ قوله: ((أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه إن جعلته حالاً، وإن جعلتته مصدراً فلا ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: أي ذلك مبناه على أن التمييز في المعنى فاعل فإن المجرور بـ (من) التفصيلية يكون ما يقابل الموصوف بأفعل التفضيل، فالمعنى على تقدير الحالية أنهم أشد خشية من غيرهم، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشية غيرهم، [وهو مستقيم، وعلى تقدير المصدرية أن خشيتهم أشد خشية من خشية غيرهم] بمعنى أن خشية خشيتهم أشد؛ ولا يستقيم إلا على طريق: جد جده على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ويكون كقولك: زيداً جد جداً، بخلاف ما إذا قلت: أو أشد خشية -بالجر- فإن معناه تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة. اهـ وقال أبو حيان وتبعه الحلبي: يصح نصب (خشية) ولا يكون تمييزاً، فلا يلزم عليه ما ألزمه الزمخشري بأن يكون (خشية) معطوفاً على الحال و (أشد) منصوب على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير: يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها وقد تقدم نظر ذلك في قوله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا). اهـ قوله: (استزادة في مدة الكف ... ). قال الطَّيبي: يعني في (لولا) معنى التمني والطلب، المعنى: ليتنا أخرتنا، فوكد (لولا) معنى السؤال. اهـ

قوله: (ما أصابك

قوله: (من يفعل الحسنات الله يشكرها). تمامه: والشر بالشر عند الله مثلان. وبعده: فإنما هذه الدنيا وزهرتها ... كالزاد لابد يوماً أنه فاني. وهما لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وقيل لكعب بن مالك. قال أبو جعفر النحاس في شرح شواهد سيبويه: قال أبو الحسن على بن سليمان حدثني محمد بن زيد قال حدثني المازني أنَّ الأصمعي قال: هذا البيت غيَّره النحويون والرواية: من يفعل الخير فالرحمن يشكره. اهـ قوله: (أو على أنه كلام مبتدأ و (أينما) متصل بـ (لا تظلمون)). قال أبو حيان: هذا التخريج ليس بمستقيم لا من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة، أما المعنى فلأنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) لأنَّ ظاهره انتفاء الظلم في الآخرة لقوله (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)، وأما الصناعة فإنه يلزم أن يكون العامل في (أَيْنَمَا) (تُظْلَمُونَ) واسم الشرط لا يتقدم على عامله. اهـ وأجاب الحلبي والسفاقسي بأن المراد اتصال معنى لا اتصال عمل. قوله: (كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية). قال الشيخ سعد الدين: يجوز أن يكون باشتراك اللفظ بحسب الوضعين اللغوي والشرعي، وأن يكون باشتراك المعنى؛ أي ما ينبغي ويلائم طبعاً أو شرعاً وما لا ينبغي ولا يلائم كذلك. اهـ قوله: (ما أصابك يا إنسان). زاد الزمخشري: خطاباً عاماً. قال الطَّيبي: يعني أنه من باب قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.

قوله: (والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا ولا للمعتزلة).

أي الخطاب لفخامته بحيث لا يختص بأحد دون أحد. قوله: (قال عليه لصلاة والسلام: ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله. قيل: ولا أنت؟ قل: ولا أنا ... ). أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة نحوه: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلاّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ. قوله: (قالت عائشة: ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر) قلت: دخل على المصنف حديث في حديث، فإن حديث عائشة أخرجه البخاري ومسلم عنها مرفوعاً بلفظ: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه. وأخرج الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يصيب العبد نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفوا الله عنه أكثر. قوله: (والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا ولا للمعتزلة). يعني لما قرره من أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية. قال الطيبي: وأما الإمام فقد أطنب كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار منها العموم. قال: وقوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يفيد العموم في كل الحسنات من النعم والطاعات، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) تفيد العموم في كل السيئات من البلايا والمعاصي، ثم قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) صريح في أنَّ الجميع من الله تعالى، فكانت الآية الكريمة دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله؛ وهو

المطلوب. قال الطَّيبي: وما اختاره المصنف من اختصاصهما بالنعمة والبلية أولى؛ والمقام له أوعى لا سيما سبب النزول، ولفظة الإصابة إنما تستعمل فيما ذكر شائعاً ذائعاً وفي الطاعة والمعصية نادراً، لكن يشكل بأنه تعالى نفى أن يكون الحسنة والسيئة المخصوصتان من عند غيره بقوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثم أثبت أن تلك السيئة من نفس العبد؟ ويجاب باختلاف جهتي نفي السيئة وإثباتها من حيث الإيجاد والسبب. اهـ قوله: ((رسولاً) حال قصد بها التأكيد). قال أبو البقاء: أي ذا رسالة. اهـ قوله: (والتعميم إن علق بها أي: رسولاً للناس جميعاً). قال الطيبي: يريد أن تقديم (لِلناس) على عامله وهو (رَسُولا) يفيد في هذا المقام معنى القصر القلبي، وبيانه أنَّ اللام في (لِلناس) للاستغراق وهو في مقابلة البعض؛ لأنه رد لزعم اليهود أنه مبعوث إلى العرب خاصة دون كل الناس. ومعنى القصر القلبي: رد المخاطب إلى إثبات ما ينفيه ونفي ما يثبته من الحكم. اهـ قوله: (ويجوز نصبه على المصدر). قال الطَّيبي: إنما اختار المصنف الوجه الأول ليطابق المقام؛ لأن الكلام مع اليهود، ولهذا استشهد بالآيتين الدالتين على العموم؛ على أن تكون (كافة) صفة مصدر محذوف؛ أي: الرسالة كافة عامة محيطة بهم، وعلى أن يكون حالاً من الكاف: أي جامعاً للناس في الإنذار على أنا أرسلناك كافة للناس عن الكفر والمعاصي. اهـ قوله: (كقوله: ولا خارجاً من فيَّ زور كلام). هو للفرزدق وأوله: ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاج قائم ومقام

على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من فيّ زور كلام الرتاج: باب الكعبة. قال الزمخشري في شرح شَواهد سيبويه: أضمر الفعل قبل كان خارجاً كأنه قال: ولا يخرج خارجاً، جعل خارجاً في موضع خروجاً وعطف الفعل المضمر الذي هو (ولا يخرج) على (لا أشتم)، (ولا أشتم) جواب قسم أي: حلفت بعهد الله لا أشتم الدهر مسلماً ولا يخرج من فيّ زور كلام خروجاً. اهـ قال النحاس: فيه قولان آخران: ولا أمثل خارجاً أي: حلفت على هذا، والثاني أنَّ المعنى: ولا أقدر. اهـ قوله: (لأنه فى الحقيفة مبلغ والآمر هو الله تعالى). قال الطيبي: هذا التعليل يقيد لفظ الرسول لا من وضع المظهر (موضع المضمر) للإشعار بعلية إيجاب الطاعة لله ويدل عديه السياق وهو قوله (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) وكان مقتضى الظاهر: ومن تولى فقد عصى الله في مقابلة قوله (فقد أطاع الله) فوضع ذلك موضعه ليدل على المبالغة. اهـ قوله: (روي عنه عليه الصلاة والسلام قال: من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله. فقال المنافقون: لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد إلا نتخذه ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى. فنزلت). قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه كذا. اهـ قوله: (أي زورت). قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: ضبط بتقديم الزاي على الراء أي: حسنت وهيأت وأصلحت، وبتقديم الراء على الزاي يقال: روزت في نفسي كلاماً ثم قلته، أي: دبرت. قال الطَّيبي: وقد خُطِّئ من قدم الزاي وليس بخطأ، ففي الفائق في حرف الزاي: عن ابن زيد: كلام مزور أي: محسن، وقيل: مهيأ مقوي، وفي النهاية في باب

قوله: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته

الزاي نحوه. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: كلا اللفظين مما أثبته الثقات. اهـ قوله: (خلاف ما قلت لها أو ما قالت). قال الشيخ سعد الدين: يعني أن (تقول) يحتمل أن يكون للخطاب والعدول إلى المضارع لقصد الاستمرار والاستحضار، وأن يكون للغيبة مسنداً إلى ضمير (طائفة) وعلى تقدير العائد إلى الموصول محذوف. اهـ قوله: (ورأي كبار الصحابة). قال الطَّيبي: أي المجتهدون منهم. اهـ قوله: (أو الأمن). قال الطَّيبي: الوجهان مبنيان على تفسير قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). اهـ قوله: (وأصل الاستنباط: إخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر أول ما يحفر). قال الراغب: الاستنباط: إخراج الشيء من أصله، كاستنباط الماء من البئر والجوهر من المعدن وذلك كالإثارة، وفي إخراج التراب، واستعير للحديث. اهـ قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بإرسال الرسل وإنزال الكتب ... ) إلى آخره. [مبني على أن الاستثناء من الجملة الأخيرة لا من قوله (أَذَاعُوا بِهِ) ولا من قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ثم فسر القليل بمن تحنث قبل البعثة واقتصر في تفصيل الفضل والرحمة على إرسال الرسول وإنزال الكتب]، وحذف قول الكشاف (والتوفيق) هو توفيق اندفع به ما أورد على الكشاف من اقتضائه أنَّ القليل المستثنى حصل له ترك اتباع لا بفضل الله، ومعاذ الله منه بحيث قال الطَّيبي: إنَّ كلام الكشاف لا يمكن تصحيحه لتقييده بالتوفيق.

قوله: (لا تكلف إلا نفسك)

قال الإمام: ظاهر هذا الاستثناء يوهم أنَّ ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته، ومعلوم أنَّ ذلك محال، فعند ذلك اختلف المفسرون فقيل: الاستثناء راجع إلى قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل. قال الفراء والمبرد: والقول الأول أولى؛ لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله. وقيل: الاستثناء متعلق بقوله (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُم)؛ لأن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى، وهذا القول لا يتمشى إلا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص وفيه وجهان: الأول: وهو قول جماعة من المفسرين أنَّ المراد بفضل الله ورحمته: إنزال القرآن وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، المعنى: لولا بعثة الرسول وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله إلا القليل منكم فإنهم ما تبعوا الشيطان وما كفروا مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل. والثاني: ما ذكره أبو مسلم أنَّ المراد بفضل الله ورحمته: النصرة والمعونة، المعنى: لولا حصول النصرة والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدِّين إلا القليل وهم أهل البصائر النافذة والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقاً حصول الدولة في الدنيا أو باطلاً الإنكار والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقاً أو باطلاً على الدليل، وهذا أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق. انتهى كلام الإمام. قال الطَّيبي: ويشهد للقول الأول من هذين القولين قوله تعالى (من يُطِع الرسُولَ) وقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، وللقول الثاني (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) وبعده (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ). اهـ قوله: ((لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) لا يكلف الله إلا فعل نفسك). قال الراغب: إن قيل كيف قال (لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ) وقد بعث لتكليف الناس؟

قيل: لم يعن بالتكليف استدعاء الذي رشح له بل التحريض وحث الناس على الخروج معه ألا ترى أنه قال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ). اهـ قال الطَّيبي: وهذه الآية تقتضي أنََّ على الإنسان أن لا ينيَ في نصرة الحق وإن تفرد، وقال بعض العارفين: من طلب رفيقاً في سلوك طريق الحق فلقلة يقينه وسوء معرفته، فالمحقق للسعادة والعارف بالطريق إليها لا يعرج على رفيق ولا يبالي بطول الطريق، قال: ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر. اهـ قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس إلى بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد). أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. قوله: (وقرئ (لا تكلف) على الجزم). قال أبو حيان: اللام للأمر. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك: ولك مثل ذلك). أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بلفظ: إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: آمين ولك مثل ذلك، وأخرجه أحمد والبخاري في الأدب بلفظ: دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال: آمين ولك بمثله، وأخرج أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو قال:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أسرع الدعاء) دعوة غائب لغائب. قال الطَّيبي: الظهر قد يراد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً. اهـ قوله: (وذي ضغن كففت الضغن عنه ... وكنت على مساءته مقيتا). أخرج أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف والابتداء والطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس أنَّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا)؟ قال: قادراً مقتدرا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أحيحة ابن الأنصاري: وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا. قال الطَّيبي: الضغن: الحقد، يقول رب ذي ضغن علي كففت السوء عنه مع القدرة. اهـ قوله: (واشتقاقه من القوت). قال الزجاج وزاد: يقال: قُتُّ الرجلَ أقوته قوتاً إذا حفظت نفسه بما يقوته، والقوت اسم لذلك الشىء الذي تحفظ به النفس. اهـ قوله: (روي أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السلام ... ) الحديث. أخرجه أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه من حديث سلمان الفارسي. قوله: (وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يُرَدُّ في الخطبة وقراءة القرآن وفى الحمام وعند قضاء الحاجة ونحوها). قلت: أصح الأوجه وجوب الرد حالة الخطبة، والثاني: استحبابه، والثالث: جوازه.

وأما القارئ فنقل النووي في الروضة عن أبي الحسن الواحدي من أصحابنا أنَّ الأولى ترك السلام عليه، وأنه إن سلم كفاه الرد بالإشارة، ثم قال النووي: وفيما قاله نظر، والظاهر أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ. اهـ وقول المصنف (ونحوها) كالأكل والمصلي وحال الأذان والإقامة والجماع. قوله: (وذلك أن أناساً منهم استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى البدو ... ) إلى آخره. أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف، واجتوو المدينة أي: استوخموها. قوله: (وقيل: نزلت فى المتخلفين يوم أُحد). أخرجه الشيخان من حديث زيد بن ثابت. قوله: (أو فى قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة). أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (وأصل النكس: رد الشيء مقلوباً). قال الراغب: الركس والنكس: الرد، والنكس أبلغ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس: ما جعل ظرفاً بعد ما كان طعاماً؛ فهو كالرجس، يقال: ركسه وأركسه، وأركس أبلغ كما في أسقاه. اهـ قوله: (لو نصب على جواب التمنى لجاز). قال أبو حيان: كون التمني بلفظ الفعل يكون له جواب فيه نظر، وإنما المنقول أنَّ الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو (ليت)، و (لو) و (ألا) إذا أشربتا معنى التمني، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب، بل لو جاء لم يتحقق فيه الجوابية لأن (ودّ) التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذوات، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون (فاء) جواب لاحتمال أن يكون من

قوله: (فلا توالوهم حتى يؤمنوا).

باب عطف المصدر المقدر على المصدر المنوي. اهـ وقال الحلبي: لم يرد الزمخشري بالتمني المفهوم من (ودوا) بل المفهوم من (لو) فظهر من غير توقف. اهـ قوله: (فلا توالوهم حتى يؤمنوا). قال الطَّيبي: جعل (حتى) غاية للمقدر وهو الإيمان، لأنَّ الهجرة غير نافعة بدونه. اهـ قوله: (جانبوهم رأساً). ْقال الطَّيبي: بيان لمعنى الاستمرار وذلك من تكرير قوله (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا). اهـ قوله: (استثناء من قوله (فخذوهم)) قال الطَّيبي: أي من الضمير في (خذوهم) لا من الضمير في (وَلا تَتخِذُوا) وإن كان الأقرب لأن الاتخاذ لولي منهم حرام. اهـ قوله: (فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر ... ) الحديث. أخرجه ابن أبي حاتم من مرسل الحسن نحوه. قوله: (والأول أظهر لقوله (فإن اعتزلوكم)). قال الطَّيبي: يعني مجيء قوله (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) بعد قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) يشعر بأن السبب في المنع من التعرض لهم شيئان: أحدهما: اتصالهم بقوم معاهدين، وثانيهما: كفهم عن القتال بسبب إظهار أن قلوبهم تنقبض عن مقاتلتكم فيكون قوله (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) مقرر للمسبب الثاني، يعني:

إن جاءوكم يريدون الإمساك عن القتال لا لكم ولا عليكم فإن تموا على هذا بأن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم فلا تتعرضوا لهم ألبتَّة، وإذا عطف على الصفة يبقى سبب عدم التعرض واحداً وهو أن يصلوا إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كافين فلا يكون قوله (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) مقرراً لقوله (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ) لأنَّ ذلك وصف لقوم آخرين غير من ترتب عليه قوله (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) لأنه مترتب على قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ). اهـ ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: لأنَّ الاستثناء يشعر بأنَّ سبب ترك التعرض لهم أمران: أحدهما: الاتصال بالمعاهدين، والآخر: الاتصال بالكافين عن القتال إن كان العطف على الصفة، ونفس الكف عن القتال إن كان العطف على الصلة، وقوله (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ... ) إلى آخره يشعر بأنه الكف لأنَّ معناه: إن كفوا عن قتالكم فلا سبيل لكم عليهم، فينبغي أن يحمل الاستثناء على وجه يفيد ذلك أي: اقتلوهم إلا الذين اتصلوا بالمعاهدين أو الذين كفوا عن قتالكم ليكون هذا تقريراً له وذلك في العطف على الصلة، إذ معنى العطف على الصفة: اقتلوهم إلا الذين اتصلوا بالمعاهدين أو الكافين. اهـ وقال أبو حيان: إنما كان الأول أظهر لأنَّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه وإذا عطف على الصلة كان محدثاً عنه، وإذا عطف على الصفة لم يكن محدثاً عنه إنما تقييداً في (قوم) الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها ومتى دار الأمر بين أن يكون النسبة إسنادية في المعنى وبين أن تكون تقييدية فإن حملها على الإسنادية أولى للاستقبال الحاصل بها دون التقييدية، هذا من جهة الصناعة النحوية، وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين (فإنه يكون تركهم القتال سبباً لترك التعرض لهم؛ وهو سبب قريب على العطف على الصلة، ووصولهم إلى قوم كافين عن القتال هو سبب ترك التعرض لهم؛ وهو سبب بعيد وذلك على العطف على الصفة)

ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة السبب البعيد. اهـ قوله: (أوبيان لـ (يصلون)). ضعفه أبو حيان بأنَّ البيان لا يكون في الأفعال، وزاد في الكشاف (أو بدل)؛ وضعفه أبو حيان أيضاً بأنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملاً عليه. قال الحلبي: ويحتاج الجواب عنه إلى تأمل ونظر. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لما كان الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عنِ قتال المسلمين فصح أن يجعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة وعلى هذه العزيمة بياناً لاتصالهم بالمعاهدين أو بدلاً منه كلاً أو بعضاً أو اشتمالاً على ما قبل. اهـ قوله: (أو استئنافاً). قال الشيخ سعد الدين: على أنه جواب كيف وصلوا إلى المعاهدين ومن أين علم ذلك. اهـ قوله: (أو بيان لـ (جاءوكم)). قال الطَّيبي: وذلك أن مجيئهم غير مقاتلين وحصرت صدورهم أن يقاتلوكم في معنى واحد. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: من جهة أنَّ المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء، ومن جهة أنه بيان لكيفية المجيء. اهـ ولم يحك أبو حيان هذا الوجه، كأنه لما تقدم من أن البيان لا يكون في الأفعال وحكى بدله أنه بدل اشتمال لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره. قوله: (أي: جاءوكم قوماً حصرت صدورهم). قال الطَّيبي: فعلى هذا (قوماً) حال موطئة كقوله تعالى (قرآناً عربياً). اهـ

قوله: (بنو مدلج). بضم الميم قبيلة من كنانة. قوله: (أقبح قلب). قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ معنى أركسه: قلبه على رأسه. اهـ قوله: (نزلت في عياش ابن أبي ربيعة ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن عكرمة. قوله: (لقول الضحاك بن سفيان الكلابي: كتب إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني أن أورث امرأة أشْيم الضبابى من عقل زوجها). أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وأشْيم: بشين معجمة ساكنة ثم تحتية، والضبابي: بضاد معجمة وموحدتين بينهما ألف، ووقع في بعض نسخ البيضاوي (الغساني) وهو تحريف، وكذا وقع الضحاك بن أبي سفيان وهي زيادة وهم إنما هو ابن سفيان. قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل معروف صدقة). أخرجه البخاري من حديث جابر، ومسلم من حديث حذيفة. قوله: (فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف). قال أبو حيان: كلا التخريجين خطأ لأن (أن) والفعل لا يجوز وقوعهما حالاً ولا منصوباً على الظرف، نصوا عليه، فالصواب أنه في محل نصب على الاستثناء المنقطع. اهـ وقال السفاقسي: قدره ابن مالك: إلا بأن يصدقوا، فعلى هذا يكون متصلاً وليس

فيه إلا حذف حرف جر داخل على (أن) وهو مطرد، بخلاف الوجهين اللذين ادعاهما الزمخشري وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع (أن) وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله: فقلت لها لا تنكحيه فإنه ... لأول سهم أن يلاقي مجمعا أي: لأول سهم زمان ملاقاته، وقدره بأن يلاقى كما قدر في الآية. اهـ قوله: (قال ابن عباس: لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدًا). أخرجه البخاري. قوله: (و لعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه). أخرجه سعيد بن منصور والبيهقى في السنن من طريق كردم عن عباس أن رجلاً أتاه فقال: ملأت حوضي انتظر بهيمتي ترد علي فلم استيقظ إلا برجل قد أشرع ناقته وثلم الحوض وسال الماء، فقمت فزعاً فضربته بالسيف. فقال: ليس هذا مثل الذي قال، فأمره بالتوبة. وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة قال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة، فإذا ابتلى رجل قالوا له: تب. قوله: (والجمهور أنه مخصوص ممن لم يتب ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: الذي يمكن أن يقال والعلم عند الله أنَّ الذي يقتضيه نظم الآيات أنَّ الآية من أسلوب التغليظ كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فإنه قال (وَمَنْ كَفَرَ) أي: لم يحج، تغليظاً وتشديداً على تاركه، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال. وبيانه أن قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) دل على أنَّ قتل المؤمن ليس

من شأن المؤمن ولا يستقيم منه ولا يصح له ذلك، فإنه إن فعل خرج عن أن يقال إنه مؤمن، ثم استثنى من هذا المقام قتل الخطأ تأكيداً ومبالغة؛ أي: لا يصح ولا يستقيم إلا في هذه الحالة، وهذه الحالة منافية لقتل العمد، فإذاً لا يصح منه قتل العمد ألبتَّة، ثم ذيل هذه المبالغة تغليظاً وتشديداً بقوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) الآية، يعني كيف يستقيم من المؤمن قتل المؤمن عمداً فإنه من شأن الكفار الذين جزاؤهم الخلود في النار وحصول غضب الله ولعنته عليهم، وقد ذكر الزمخشري هذا المعنى في قوله تعالى (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) إلى قوله (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤمِنينَ) وفى قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) إلى قوله (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال: جعل ترك الزكاة من صفات الكفار أي الكافرون هم الذين يتركون الزكاة، فعلى المؤمن ألا يتصف بصفتهم، وكتابه مشحون من هذا الأسلوب، فإذا لا مدخل لذكر التوبة وتركها في الآية، ولا يفتقر لإخراج المؤمن من النار إلى دليل كما قال، ولا إلى تخصيص العام كما ذهب إليه الإمام، ولا إلى تفسير الخلود بالمكث الطويل كما قال القاضي، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ وحديث نزول الآية في مقيس بن ضبابة أخرجه ابن جرير عن عكرمة مرسلاً، لكن روى أبو داود في ناسخه عن عكرمة قال: كل شيء أقول لكم في التفسير فهو عن ابن عباس. فعلى هذا يكون متصلاً. قوله: (روي أن سرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزت أهل فدك ... ). أخرجه الثعلبي عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن جابر. قوله: (وقيل نزلت في المقداد ... ) إلى آخره. أخرجه البزار من حديث ابن عباس. قوله: (بالرفع صفة للقاعدين لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم). قال الطَّيبي: يعني هو مثل قولهم: ولقد أمر على اللئيم يسبني. اهـ

قال الزجاج: (غير) صفة القاعدين وإن كان أصلها أن تكون صفة للنكرة، المعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر -أي الأصحاء- والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين، والرفع أيضاً يجوز على الاستثناء أي: لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر فإنَّهُم يساوون المجاهدين لأنَّ الذي أقعدهم عن الجهاد الضرر. اهـ وتبعه الواحدي في هذا الوجه. قوله: (بالنصب على الحال). قال الزجاج: المعنى: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون، كما تقول: جاء زيد غير مريض، أي: صحيحاً. اهـ قوله: (وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ... ) الحديث. أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. قوله: (أن ترضها). أي: تدقها وتكسرها. قوله: (سري عنه). أي كشف ما به من برحاء الوحي. قوله: (جملة موضحة لما نفى الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق). قال الطَّيبي: أي من أنَّ المراد به (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)، وذلك لأنَّ المراد أنه وما عطف عليه من دوله (فَضَّلَ اللهُ) الثاني كلاهما بيان وإيضاح للجملة الأولى وهو قوله (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ) ولا بد من التطابق بين البيان والمبين، وفي المبين ذكر (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فالواجب أن يقدر ما يوافقه. اهـ

قوله: (و (أَجْرًا) على الحال منها، تقدمت عليها لأنها نكرة). قال أبو حيان: هذا لا يظهر لأنه لو تأخر عن (دَرَجَاتٍ) لم يجز أن يكون نعتاً لها لعدم المطابقة لأن (دَرَجَاتٍ) جمع و (أَجْرًا) مفرد. اهـ وقال الحلبي: هذه غفلة من أبي حيان فإن (أَجْرًا) مصدر والأفصح فيه أن يُوحد ويُذكر مطلقاً. اهـ قوله: (الأضراء). جمع ضرير. قوله: (وعليه قوله عليه لصلاة والسلام: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر). سيأتي. قوله: (يحتمل الماضي والمضارع). قال الزجاج: على الأول ذُكِّر الفعل لأنه فعل بهم، وعلى الثاني حذفت التاء الثانية لاجتماع التاءين. اهـ قال الطَّيبي: وإذا حمل على المضارع يكون من باب حكاية الحال الماضية ولذلك أوقع (قالوا) خبر لإنّ. اهـ قوله: (نزلت في ناس من مكة أسلموا بها ولم يهاجروا). أخرجه الطبراني عن ابن عباس. قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرًا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق خليل الله إبراهيم ونبيه عليه الصلاة والسلام). أخرجه الثعلبي من حديث الحسن مرسلاً. قال الطَّيبي: استوجبت قيل معناه: وجبت، وحقيقته: طلبت له الجنة الوجوب،

ويروي اُستوجبت مجهولاً. اهـ قوله: (صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه). قال أبو حيان: هذا تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)، وهو هدم القاعدة المشهورة أنَّ النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، والذي يظهر أنَّها جملة مفسرة لقوله (الْمُسْتَضْعَفِينَ) لأنه في معنى إلا الذين استضعفوا فجاء بياناً وتفسيراً لذلك. اهـ قوله: (وقرئ (يُدركُه) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: ثم هو يدركُه). قال ابن المنير: في هذا عطف الجملة الإسمية على الفعلية والأولى خلافه مهما وجد إليه سبيل. اهـ زاد الكشاف: وقيل رفع الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف على حد قوله: عجبت والدهر كثير عجبه ... من عَنَزِي سبني لم أضربه. اهـ وفي هذا تخريج ابن جني. قال ابن المنير: وإجراء الوصل مجرى الوقف شاذ مع أن الأفصح في الوقف أن لا ينقل فزاده شذوذاً. قال: وعندي أنه من فروع العطف على ما يقع موقع (من) مما يكون الفعل الأول معه مرفوعاً كأنه قال: والذي يخرج من بيته مهاجراً ثم يدركه، وقد ذكره

الزمخشري عند قوله (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) فيمن قرأ بالرفع وهو هنا أقرب منه. اهـ قوله: (وبالنصب على إضمار (أن) كقوله: سأترك منزلي ببني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا) قال ابن جني: والآية على كل حال أقوى من البيت لتقدم الشرط قبل المعطوف، وقيل: هو مثل أكرمني وأكرمك أي: ليكن منك إكرام ومني، المعنى: من يكن له خروج من بيته وإدراكه الموت، والتقدير في البيت: سيكون ترك وإلحاق، وقيل: نصب (وألحق) ضعيف لأنه ليس في جواب الأشياء الستة، وأجيب أن الفعل المضارع كالتمني والترجي. اهـ والبيت المذكور أنشده سيبويه ولم يسم قائله، وعزاه غيره إلى المغيرة بن حنين الحنظلي هـ (وقال الأعلم في شرح شواهده: يروي: وألحق بالحجاز لأستريحا، وعلى هذا لا ضرورة فيه. اهـ قوله: (والآية نزلت في ضمرة ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه، وقد اختلف في اسمه فقيل ضمرة بن جندب، وقيل جندب بن ضمرة وصححه صاحب الاستيعاب. قوله: (اللهم هذه لك ... ).

قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنَّ هذه الإشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا على قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى على سبيل التصوير وتمثيل مبايعته الله على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه، وقيل إشارة إلى البيعة والصفقة والمعنى: أن بيعته كبيعة رسول الله لا كبيعة الناس. اهـ قوله: (ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر). أخرجه الشافعي في الأم، وابن أبي شيبة والبزار والدارقطني عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم. قوله: (وأن عائشة اعتمرت ... ) الحديث. أخرجه النسائي والدارقطني وحسنه، والبيهقي وصححه. قوله: (لقول عمر: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم). أخرجه النسائي وابن ماجة. قوله: (ولقول عائشة: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ... ) الحديث. أخرجه الشيخان. قوله: (تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول). قال الشيخ سعد الدين: قيل هو أبو يوسف ولم نجد ذلك في كتب الفقه والخلافيات. اهـ قلت: هو موجود فيها، قال النووي في شرح المهذب: قال الشيخ أبو حامد:

وسائر أصحابنا قالوا بمشروعية صلاة الخوف واستمرارها إلى آخر الزمان والأمة بأسرها إلا أبا يوسف والمزني، فقال أبو يوسف: كانت مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يصلي معه وذهبت بوفاته، وقال المزني: كانت ثم نُسخت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ قوله: (كما فعله عليه الصلاة والسلام ببطن نخل). أخرجه الشيخان من حديث جابر. قوله: (كما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع). أخرجه الشيخان. قوله: (جعل الحذر آلة ... ) إلى آخره. جواب سؤال مقدر تقديره أن الحذر مجاز وأخذ الأسلحة حقيقة فلا يجوز جمعها في لفظ واحد؟ وتقرير الجواب: أنه حقيقة إذ لم يتعلق بالحذر إلا بعد جعله بمنزلة الآلة استعارة بالكناية. قاله الشيخ سعد الدين. قوله: (أديتم وفرغتم منها). قال الأزهري: القضاء على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله وختم وأدي وأوجب وأعلم وأنفذ وأمضى فقد قضى. اهـ قال الطَّيبي: فالقضاء موضوع للقدر المشترك بين هذه المفهومات وهو انقطاع الشيء في النهاية. اهـ والآية نزلت في بدر الصغرى قوله: (نزلت فى طعمة بن أبيرق ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأصله عند الترمذي والحاكم من حديث قتادة بن النعمان

قوله: (بما عرفك الله)

بمعناه. قال الطَّيبي: طعمة بفتح الطاء عن الصاغاني، وروي بكسرها. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هو بكسر الطاء وفتحها. اهـ قوله: (بما عرفك الله). قال الطَّيبي: يعني بما أراك الله من الرأي الذي هو الاعتقاد. اهـ قوله: (لأجلهم). قال الشيخ سعد الدين: يعني أن اللام ليست صلة (خَصِيمًا). اهـ قوله: (للبرآء). قال الشيخ سعد الدين: يروي بالضم كالهزاء إلا أن المراد به اليهودي، لكن الأصح الفتح على أن المراد به الجمع، ويجوز برآء على صيغة الجمع ككرماء. اهـ قوله: (روي أن طعمة هرب إلى مكة فارتدَّ، ونقب حائطاً بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله). أخرجه الطبراني في معجمه من حديث قتادة بن النعمان نحوه. قوله: (ووحد الضمير لمكان (أو)). قال أبو البقاء: الهاء في (يَرْمِ بِهِ) تعود على الإثم، وفي عودها عليه دليل على أن الخطيئة في حكم الإثم، وقيل تعود على أحد الشيئين المدلول عليه [بـ (أو)، وقيل تعود على الكسب المدلول عليه] بقوله (وَمَنْ يَكْسِبْ). اهـ قوله: (بسبب رمى البريء وتنزيه النفس الخاطئة).

قوله: (من متناجيهم).

قال الطيبي: إشارة إلى أن في لفظ التنزيل لف ونشر من غير ترتيب، والأسلوب من باب تكرير الشرط والجزاء نحو: من أدرك الصمان فقد أدرك، فينبغي أن يحمل التنكير في (بُهْتَانًا وَإِثْمًا) على التهويل والتفخيم، وفي (ثم) الدلالة على بُعد مرتبة البهتان من ارتكاب الإثم نفسه. اهـ قوله: (وليس القصد فيه إلى نفي همِّهِم بل إلى نفي التأثير فيه). قال الراغب: إن قيل قد كانوا هموا بذلك فكيف قال (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ)؟ قيل: في ذلك جوابان: أحدهما: أن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك عندهم صواباً، والثاني: أن القصد إلى نفي تأثير ما هموا به كقوله: فلان شتمك وأهانك لولا أن تداركت، تنبيهاً على أنَّ أثر فعله لم يظهر. اهـ قوله: (من متناجيهم). قال أبو البقاء: يجوز أن يراد بالنجوى القوم الذين يتناجون، ومنه قوله (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)، فالاستثناء متصل إما خبرًا بدلاً من (نَجْوَاهُمْ)، وإما نصباً على أصل الاستثناء. اهـ وكذا قال الراغب. قوله: (أو من تناجيهم). أي الحديث، وعلى هذا يفرع ما ذكره المصنف من الإعراب. قوله: (أو على الانقطاع). قال الطَّيبي: أي على الاستثناء المنقطع. اهـ قوله: (الأعمال بالنيات). متفق عليه من حديث عمر.

قوله: (والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع)

قوله: (والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع). قال الطَّيبي: نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة (1) مرة حتى وجد هذه الآية. اهـ قلت: قال الحاكم في مناقب الشافعي: أخبرني الزبير بن عبد الواحد الأسد آبادي قال سمعت أبا سعيد محمد بن عقيل الفاريابي يقول: قال المزني أو الربيع: كنا يوماً عند الشافعي بين الظهر والعصر قد استند إلى إسطوانة إذ جاء شيخ عليه جبة صوف وإزار صوف وفي يده عكازة فقام الشافعي وسوى عليه ثيابه واستوى جالساً وسلم الشيخ وجلس وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة إذ قال الشيخ: أسأل؟ قال: سل. قال: ايش الحجة في دين الله؟ قال الشافعي: كتاب الله. قال: وماذا؟ قال: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: من أين قلت اتفاق الأمة؟ قال: في كتاب الله. قال: ومن أين كتاب الله؟ قال: فتدبر الشافعي ساعة، فقال للشافعي: قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليهن فإن جئت بحجة من كتاب الله في الاتفاق وإلا تب إلى الله تعالى. فتغير لون الشافعي، ثم ذهب فلم يخرج ثلاثة أيام ولياليهن، فخرج إلينا في اليوم الثالث في ذلك الوقت يعني بين الظهر والعصر قد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام، فجلس فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلم وجلس وقال: حاجتي؟ فقال الشافعي: نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض. قال: صدقت، وقام وذهب. قال الفاريابي: قال المزني أو الربيع قال الشافعي: لما ذهب الرجل قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه. قال الراغب: لا حجة في الآية على ثبوت الإجماع، لأن المراد بقوله (سَبِيلِ

_ (1) هكذا في حاشية الطيبي على الكشاف والمشهور أنه ثلاث مرات، ولعله خطأ من الناسخ. والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

الْمُؤْمِنِينَ) الإيمان لا سواه، فكل موصوف بوصف علق به نحو أن يقال: اسلك سبيل الصائمين والمصلين يعني بذلك الحث على الاقتداء بهم في الصلاة والصيام لا في فعل آخر، فكذا إذا قيل سبيل المؤمنين يعني سبيلهم في الإيمان لا غيره. اهـ وأجاب الطَّيبي بأنَّ المراد من (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الجامعين لكل فضيلة ومنقبة لأن ذكره هنا للمدح للعلة وكونهم متبعين مقتدين تعريضاً بدليل قوله (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)، ويعضده قضية النظم وذلك أنَّ الطائفة التي جادلت عن طعمة هموا بأن نزلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق العدل وليس ما فعلوا بمتابعة لسبيل المؤمنين فإن سبيلهم التجانب عما يضاد الحق والعدل فعلى هذا قوله (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) كالتذييل لقصة طعمة وقومه فيدخل في هذا المقام كل ما فيه مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة سبيل المؤمنين بأي وجه كان. ثم قال الطَّيبي: فإن قيل إن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فلزم في المعطوف ذلك فإذن لم يكن في المعطوف فائدة لأن الهدى عام بجميع الهداية ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة؟ أجيب: بأن المراد بالهدى الدليل على التوحيد والنبوة فالمعنى مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام فيكون الإجماع مفيداً في الفروع بعد تبين الأصول. اهـ قوله: (لأنه تعالى رتب الوعيد ... ) إلى آخره. أوضحه الطَّيبي بقوله: فإن قيل الوعيد مترتب على الكل كقولك: إن دخلتِ الدار وكلمتِ زيداً فأنتِ طالق. أجيب: إن الوعيد مترتب على كل واحد من المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين لأن المشاقة وحدها كافية في اقتضاء الوعيد فيكون ذكر اتباع غير سبيل المؤمنين لغو. اهـ قوله: (وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً ... ) إلى آخره. أوضحه الطَّيبي بقوله: فإن قيل: لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين. فالجواب: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين

أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعاً لهم. اهـ قوله: (كرره للتأكيد). يعني بعد ذكره في أوائل السورة. قوله: (أو لقصة طعمة). قال الطَّيبي: ليكون كالتكميل بذكر الوعد بعد الوعيد. اهـ وأقول من أساليب القرآن أنَّ كل سورة من طواله وأوساطه يذكر في أولها أو في صدرها آية أو جملة ثم تعاد بعينها في آخرها أو قريباً من أواخرها، وهذه من ذلك، وقد أفردت في ذلك تأليفاً سميته (مراصد المطالع في تناسب المطالع والمقاطع)، ومن أمثلة ذلك قوله في أوائل آل عمران (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) بعد قوله (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) إلى قوله (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وقال في آخرها (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) بعد قوله (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ)، وقال في أول (ص) (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) وفي آخرها (إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)، وفي أول (ن) (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)) وفي آخرها [(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)، ومن دقيقه قوله تعالى في أول المؤمنين (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وفي آخرها] (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)، وبحار أساليب القرآن زاخرة، وأنوار أعاجيبه باهرة، فسبحان منزله جل وعلا وصلى الله على سيدنا محمد المنزل عليه صلوات متتابعات على الولا.

قوله: (وقيل: جاء شيخ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الشيخ: إني منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً وإنى لنادم تائب فما ترى حالي عند الله فنزلت). أخرجه الثعلبي عن ابن عباس. قوله: (أنث على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث). زاد أبو البقاء ويجوز أن تكون صفة مفردة مثل: امرأة جنب. اهـ وقال الزجاج: أُنُث جمع إناث كمثال ومُثل. اهـ قوله: ((وأثنا) بالتخفيف والتثقيل). أي بالسكون والضم. قوله: (وهو جمع وثن). قال الزجاج: الواو إذا ضمت جاز إبدالها همزة نحو (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ). اهـ قوله: (جامعاً بين لعنة الله وهذا القول). قال الطَّيبي: وذلك أن الواو حين دخلت بين الصفتين أفادت مجرد الجمعية دون المغايرة. اهـ قال أبو البقاء: يجوز أنَّ (لَعَنَهُ اللهُ) مستأنفاً على الدعاء أي: فعل ما يستحق به اللعن من استكبار عن السجود، فعلى هذا (وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ) جملة مستطردة و (لَعَنَهُ اللهُ) معترضة كقولهم للملوك في أثناء الكلام: أبيت اللعن. اهـ قوله: (من فقىء عين الحامي). قال الطَّيبي: الفقء: القلع، والحامي: العجل الذي طال مكثه عندهم فإذا لقي ولد

ولده حمى ظهره فلا يركب ولا يجز وبره ولا يمنع من مرعى. اهـ قوله: (والوشم). هو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحثى بكحل. والوشر: بالراء أن تحد المرأة أسنانها وترققها. قوله: (لكن الفقهاء رخصوا فى خصاء البهائم للحاجة). قال النووي في شرح المهذب: قال البغوي والرافعي: لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره. قالا: ويجوز خصاء المأكول في صغره لأنَّ فيه غرضاً وهو طيب لحمه ولا يجوز في كبره. ووجه قولهما أنه داخل في عموم قوله تعالى إخبار عن الشيطان (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) مختص منه الختان والوسم ونحوهما وبقى الباقي داخلاً في عموم الذم والنهي. اهـ قوله: (فالأول مؤكد لنفسه). قال الطَّيبي: لأن قوله (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يدل على الوعد إذ الوعد هو الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه. اهـ قوله: (والثانى مؤكد لغيره). قال الطيبي نحو قولك هو عبد الله حقاً، فقوله حقاً يفيد معنى لم يفده هذا عبد الله لا لفظاً ولا عقلاً، ولكن الخبر من حيث هو خبر يحتمل الصدق والكذب فقولك حقاً يقصر الجملة على أحد الاحتمالين أي أحق حقاً فقولك حقاً تأكيد للمقدر لا للمذكور. اهـ قوله: (جملة مؤكدة بليغة).

قال الطَّيبي: وذلك أن الجملة تذييل للكلام السابق، والتذييل مؤكد للمذيل، وأما المبالغة في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجامع ربنا افعل وإيقاع القول تمييزاً وكل ذلك إعلام منه بأن حديثه صدق محض، وإنكار أن قول الصدق متعلق بقائل آخر أحق. اهـ قوله: (والمقصود من الآية معارضة للمواعيد الشيطانية ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: إشارة إلى بيان النظم، يعني كما أوقع قوله (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاّ غُرُورًا) تذييلاً لقوله (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثًا ... ) الآية أوقع قوله (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) خاتمة لقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ) الآية ليوازي بين الوعدين ويقابل بين النزعتين فيختار المؤمنون الأعمال الصالحة عما يدعوا إليه الشيطان بأمانيه الباطلة ومواعيده الكاذبة فيتخلصوا من غصص إخلاف مواعيده بما يفوزون به من إنجاز الوعد ما وعدوا به من الله تعالى الذي هو أصدق القائلين، ثم قارن بين قوله (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاّ غُرُورًا) وبين قوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) من جهة وضع المظهر موضع المضمر فيهما ومن النفي المستفاد من الاستفهام ومن (ما)، إلى غير ذلك لتتحقق المعارضة. اهـ قوله: (ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل). قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن الحسن موقوفاً عليه، وأخرجه ابن النجار في تأريخه من طريق يوسف بن عطية عن قتادة عن الحسن عن أنس مرفوعاً: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، العلم علمان: علم باللسان وعلم بالقلب، فأما علم القلب فالعلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على بني آدم. (وقال أبو نعيم ثنا سهل بن عبد الله التستري ثنا الحسين بن إسحاق عن عبد السلام بن صالح عن يونس بن عطية عن قتادة عن أنس رفعه: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل). قال الشيخ سعد الدين: وقر في القلب: أي أثر فيه، يقال وقر في الصخرة إذا أثر

قوله: (اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله).

فيها، وقيل وقر في القلب: سكن فيه وثبت من الوقار. اهـ قال الراغب: المنا كالقنا: المقدر، يقال: منى لك الماني، أي قدر لك المقدر، والتمني: تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن وقد يكون عن روية وبناءً على أصل، ولما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك، فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له قال تعالى (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى) والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء، ولما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ صار المتمني كالمبتدي الكذب فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني. اهـ قوله: (روي أنَّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير عن مسروق مرسلاً. قوله: (وقيل: الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم). قال الطَّيبي: يعني قوله (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثًا) وإقسام الشيطان (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ). اهـ فائدة: قال الطَّيبي: لما ذكر (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) عقبه بقوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) كما ذكر في البقرة (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) وهو التمني وبعده (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) ثم قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). اهـ قوله: (اصطفاه وخصه بكرامةٍ تشبه كرامة الخليل عند خليله). قال الشيخ الطيبي: أي أنه من باب الاستعارة التمثيلية. اهـ قوله: (والجملة استئناف).

في الكشاف أنَّها اعتراضية. وتعقبه أبو حيان كعادته بأنَّ الاعتراض المصطلح عليه شرطه أن يقع بين مفتقرين كصلة وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول وليست هذه كذلك. قال: إلا أن يعني به غير المصطلح عليه فيمكن. اهـ وقد تقدم الجواب عنه بأنه يعني به التذييل. قال الطَّيبي: لا يجوز أن تكون معطوفة لأنه لا يخلو من أن يعطف على قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) اعتراضاً وتوكيداً لمعنى قوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وبيان الصالحات ما هي وأن المؤمن من هو وليس في (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ذلك على أن عطف الإخبارية على الإنشائية من غير جامعٍ قويٍّ يدعو إليه ممتنع، ولا يجوز الثاني والثالث من له أدنى مسكة. فإن قلت: لم لا يجوز أن تكون الجملة استطرادية كقوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ) إلى قوله (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا)، عَطف (وَمِنْ كُلٍّ) على أنهما استطرادية؟ قلت: لا يجوز لأن من شرط العطف في الاستطراد أن يكون للمعطوف نوع مناسبة بأصل الكلام وهو (يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... ) الآية، وهي هنا مفقودة كما في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، ولا يحسن أن تكون حالاً لما يفوت من فائدة وضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر الخلة للتنصيص على أنه ممن يجب أن يرغب في اتباع ملته، فتعين أن يكون اعتراضاً أو تذييلاً لما في اعتبارهما من مظنة العلية وبيان الموجب، أي: ومن أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم لاصطفاء الله إياه؛ ولأنه الممدوح المستعد لخلة الله لما فيه من غاية الكمالات البشرية. اهـ قوله: (روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمنة أصابت الناس ... ) إلى آخره.

قلت: الوارد في ذلك ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم عن زيد بن أسلم قال: إنَّ أول جبار كان في الأرض نمرود، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم ممتار مع من يمتار فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت. حتى مر به إبراهيم قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت. قال: أنا أحيي وأميت. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت، فرده بغير طعام، فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أعفر فقال: ألا آخذ من هذا فآت به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه، ثم نام، فقامت امرأته ففتحته فإذا هى بأجود طعام رآه أحد، فصنعت منه فقربته إليه -وكان عهده بأهله أن ليس عندهم طعام- فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به فعرف أن الله رزقه فحمد الله. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي صالح قال: انطلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام يمتار فلم يقدر على الطعام فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا؟ قال: حنطة حمراء. ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها شيء خرج سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً. في الأساس: سنة: أزمنة أمسك فيها المطر. في النهاية: البطحاء: الحصى الصغار. قال الطَّيبي: الحوارى: بضم الحاء وتشديد الواو وفتح الراء، ومنه الخبز إذا نخل مرة بعد مرة من التحوير وهو التبيض. اهـ قوله: (قيل هو متصل بذكر العمال). قال الطيبي: يعني بقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... ) الآية ويكون كالتعليل

لوجوب العمل، ويكون قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) اعتراضاً بين العلة والمعلول حثاً على الترغيب في العمل الصالح وردعاً وزجراً عن المعاصي على أبلغ الوجوه. اهـ قوله: (إذ سبب نزوله أن عيينة بن حصن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخبرنا أنك تعطى الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة. فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك أُمرت). لم أقف عليه هكذا، والثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: كان الرجل تكون عنده اليتيمة وهو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق فيركب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية. وله طرق كثيرة مرفوعة مرسلة، وأقرب ما رأيته ما يوافق ما ذكره المصنف ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس قال: أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة فلما كان الإسلام قال الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) في أول السورة من الفرائض. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث النساء إلا الرجل الذي قد بلغ، لا يرث الصغير ولا المرأة شيئاً فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير والمرأة كما يرث الرجل؟ فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) الآية). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان شيئاً كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيراً، فنزلت. اهـ قوله: (كأنه قيل: وأقسم). قال الشيخ سعد الدين: المناسب أقسم بدون الواو. اهـ قوله: (ولا يجوز عطف على المجرور في (فيهن) لاختلاله لفظاً ومعنى).

قال الزجاج: أما لفظاً فلأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وأما معنى فلأنه يصير التقدير: يفتيكم في حق ما يتلى عليكم، ومعلوم أنه ليس المراد ذلك وإنما المراد أنه تعالى يفتي في ما سألوه من المسائل. اهـ وتبعه الطَّيبي والشيخ سعد الدين، وزاد الطَّيبي فقال: إن قلت: لم لا يجوز: الله يفتيكم في الكتاب بما يرويه المستفتي من قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى)؟ قلت: لا يجوز لأن معنى (فِيهن): في حقهن وشأنهن يأباه للاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه. اهـ وقال أبو حيان: لا نسلم اختلاله لا لفظاً ولا معنى، أما اللفظ فلأن الراجح جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار لكثرة وروده وإن منعه جمهور البصريين، وأما المعنى فيقدر محذوف أي: يفتيكم في متلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، وحذف لدلالة قوله (وَمَا يُتلَى)، وإضافة متلو إلى ضميرهن سائغ إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة على حد (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وكوكب الخرقاء. اهـ وقال السفاقسي: فيما قاله أبو حيان نظر لأن حذف متلوهن لا يرفع السؤال لأن ما ألزمه من وقوع الفتيا فيما يتلى لازم سواء كان ذلك الحذف أم لم يكن. قال: نعم حق المنع أن يقال: لا نسلم أنَّ المراد بقوله (وَمَا يتلَى) أنه يفتي في ما سألوه من المسائل بل أفتى، وسنده ما روي عن عائشة قالت: نزلت هذه الآية (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) أولاً ثم سأل ناس بعدها عن أمر النساء فنزلت (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ)، فالمراد على هذا بـ (يفتي) و (يتلى) المضى. اهـ وقال غيره: يجوز أن يكون (فِيهن) بمعنى الصلة، أي: في حقهن، وفي (وَمَا يُتلَى) بمعنى الظرف، أي: يفتيكم في الكتاب.

قوله: (صلة (يتلى) على أن عطف الموصول على ما قبله ... ). قال أبو حيان: هذا لا يتصور إلا إذا كان (فِي يَتَامَى) بدلاً من (الْكِتَابِ)، أو يكون (في) للسبب لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد وهو لا يجوز إلا إذا كان على طريقة البدل أو بالعطف. اهـ قال السفاقسي: لا إلا أن يكون (فِي الْكِتَابِ) متعلق بـ (يُتلَى)، وأما إذا كان حالاً فلا. اهـ وجوز في الكشاف على هذا الوجه أن يكون بدلاً من (فيهن)، وأسقطه المصنف فإنَّ أبا حيان تعقبه وقال: الظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف. اهـ قوله: (وإلا فبدل من (فيهن)). قال الشيخ سعد الدين: هو بدل بعض من كل لأن ضمير (فِيهن) يعود إلى النساء. اهـ قوله: (وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشىء إلى جنسه). قال أبو حيان: الذي يظهر أنَّها بمعنى اللام ومعناها الاختصاص. اهـ وقال الحلبي: ما قاله أبو حيان ليس بشيء فإنَّهُم ذكروا في ضابط الإضافة التي بمعنى (من) أن تكون إضافة جزءٍ إلى كل بشرط صدق اسم الكل على البعض، ولا شك أنَّ يتامى بعض النساء من النساء، والنساء يصدق عليهن، وتحرزنا بقولنا بشرط صدق الكل على البعض من نحو: يد زيد فإن زيد لا يصدق على اليد وحدها. اهـ وقال السفاقسي: ليس كلهم على ذلك فقد قال السيرافي وابن كيسان إن كلّ

بعضٍ أضيف إلى كل هو بمعنى (من)، وزاد غيرهما في صحة الإخبار عن الأول بالثاني فيد زيد إضافة بمعنى (من) على الثاني لا على الأول. قال السفاقسي: وعلى التقديرين لا يمتنع في يتامى النساء لأنك تقول اليتامى نساء. اهـ تنبيه: قال الطَّيبي: هذه الآيات مرتبطة بالآيات الواردة في أول السورة وهي سابقة عليها بالرتبة لأنَّ جواب الاستفتاء قد أجل عليها والآيات المتخللة بين الكلامين للافتنان. اهـ قال الإمام: إن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم واقعة على أحسن الوجوه وهو أنه تعالى يذكر شيئاً من الأحكام ثم يذكر عقبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ويمزج بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظم إلهيته ثم يعود إلى ما بدأ به من بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير لأنَّ التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقروناً بالوعد والوعيد وهما لا يؤثران إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد. اهـ قوله: ((وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) عطف على يتامى النساء). قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: هذا لا يستقيم إلا على تقدير كونه صلة لا بدلاً؟ قلنا: بل هو مستقيم على البدل إذ ليس القصد بعطفه على البدل أن يكون في موقع البدل على ما هو مقتضى الحال بل في موضع المبدل منه بناءً على أن البدل هو المقصود بالنسبة، وأن المبدل منه ضمير مجرور لا يصح العطف عليه حسب اللفظ. اهـ قوله (فالوجه نصْبُها عطفاً على موضع (فيهن)) قال أبو البقاء: أي ويبين لكم أن تقوموا. اهـ قوله: (ويجوز أن ينصب (وأن تقوموا) بإضمار فعل أي: ويأمركم). قال السفاقسى: فيه تكلف إضمار من غير ضرورة تدعوا إليه. اهـ

قوله: (وعلى هذا جاز أن ينصب (صلحا)

قوله: (توقعت منه). قال الشيخ سعد الدين: استعمال الخوف في معنى التوقع شائع في كلام العرب. اهـ قوله: (وعلى هذا جاز أن ينصب (صُلْحًا) على المفعول به). [قال الشيخ سعد الدين: أي على نزع الجار. اهـ والأصل: يصلح أي شيء يصلحان عليه. قوله: (بيان أنه من الخيور).] قال الشيخ سعد الدين: أي من الخيرات بمعنى المصدر أو الصفة لا على وجه التفصيل. اهـ وقال الطَّيبي: قال صاحب الكشاف: الخيور ورد في كلام فصيح فاقتديت به وهو قياس واستعمال. اهـ قوله: (وهو اعتراض). قال أبو حيان: كأنه يريد أن قوله (وَإِن يَتَفَرقَا) معطوف على قوله (فَلا جُنَاحَ) فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً. اهـ قال الحلبي: وفيه نظر فإنَّ بعدهما جملاً أُخر فكان ينبغي أن يقول في الجميع إنها اعتراض ولا يخص الجملتين بذلك وإنما أراد الاعتراض بين قوله (وَإِنِ امْرَأَةٌ) وقوله (وَإِنْ تُحْسِنُوا) فإنهما شرطان متعاطفان. اهـ قوله: (ومعنى إحضار الأنفس الشح جعلها حاضرة مطبوعة عليه). عدل عن قول الكشاف: إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا ينفك لأن أبا حيان تعقبه بأنه من باب القلب، وليس بجيد لأنَّ الأنفس هي النائب عن الفاعل وهي الفاعل قبل دخول الهمزة، وإن كان يحتمل إنه من إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل لكن الأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه. اهـ

قوله: (على إرادة القول أي: وقلنا لكم ولهم إن تكفروا).

قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: هذا قسمى فيما أملك ... ) الحديث. [أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث عائشة. قوله: (من كانت له امرأتان ... ) الحديث.] أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة. قوله: (على إرادة القول أي: وقلنا لكم ولهم إن تكفروا). قال الشيخ سعد الدين: لأن الجملة الشرطية لا تصح أن تقع بعد (أن) المصدرية أو المفسرة، فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواءً كان إنشاء أو إخباراً. اهـ وقال الحلبي: في كلامه نظر لأن تقديره القول ينفي كون الجملة الشرطية مندرجة في حيز الوصية بالنسبة إلى الصناعة النحوية، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط بل قصده هو تفسير الإعراب. اهـ قال الطَّيبي: يمكن أن يقال إنه من باب: علفتها تبناً وماءً بارداً. اهـ قوله: (أو خلقاً آخرين مكان الإنس). قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأنَّ مدلول (آخر) في اللغة خاص بجنس ما تقدمه، فلو قلت: جاءني زيد وآخر معه، أو امرأة وأخرى معها، أو فرس وآخر معه لم يكن

الآخر إلا من جنس ما قبله ولو قلت: اشتريت ثوباً وآخر وعنيت غير ثوب لم يجز، وهذا بخلاف (غيره) فإنَّها تقع على المغاير مطلقاً في جنس أو صفة فتقول: اشتريت ثوباً وغيره، وتريد غير ثوب أو ثوباً. قال: وقل من يعرف هذا الفرق. اهـ (وهذا الفرق) الذي ذكره ورد به غير موافق عليه ولم يستند فيه إلى نقل، ولكن قد يرد ذلك طريق أخرى وهي أن (آخرين) صفة لموصوف محذوف والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة بالموصوف نحو: مررت بكاتب، أو يدل عليه دليل، وهنا ليست بخاصة فلا بد أن يكون من جنس الأول ليحصل بذلك الدلالة على الموصوف المحذوف. قوله: (بليغ القدرة لا يعجزه مراد). قال الطَّيبي: إنما قال ذلك لمجيء (قدير) على فعيل، ولتخصيص الاسم الجامع وإثبات ذلك والمشار إليه قريب. اهـ قوله: (وقيل هو خطاب لمن عادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم). قال الطَّيبي: وعلى الأول خطاب عام تابع للكلام السابق. اهـ قوله: (لما روي أنه لما نزل يعني (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على ظهر سلمان وقل: هم قوم هذا). أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة. تنبيه: وقع في الحاشية للشيخ ولي الدين العراقي: لما نزل (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ... ) الآية وهو سهو نبهت عليه لئلا يغتر به. قوله: (كالمجاهد).

قوله: (مواظبين على العدل).

قال الطَّيبي: إنما خصه بالذكر لأنه أقدمهم لأن بذل الروح والمال أقرب إلى الرياء. اهـ قولة: (فما له يطلب أخسهما). قال الطَّيبي: هذا التوبيخ والإنكار مستفاد من إيقاع قوله (فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) جزاءً للشرط، ولا يستقيم أن يقع جزاءً إلا بتقدير الإخبار والإعلام المتضمن للتوبيخ والتقريع لأن الجزاء ينبغى أن يكون مسبباً عن الشرط. اهـ قال أبو حيان: الظاهر حذف الجواب أي: فلا يقتصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. اهـ قوله: (مواظبين على العدل). قال الراغب: أمر الله كل إنسان بمراعاة العدل، ونبه بلفظ (قَوَّامِينَ) على أن ذلك لا يكفي مرة أو مرتين بل يجب أن يكون على الدوام فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن على الدوام، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلاً. اهـ قوله: (ولو كانت الشهادة على أنفسكم). قال أبو حيان: هذا التقدير ليس بجيدٍ لأنَّ المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه، فإذا قلت: كن محسناً ولو لمن أساء إليك فالتقدير: ولو كنت محسناً لمن أساء إليك فتحذف كان واسمها وخبرها وتبقي متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره ولو كان إحسانك لمن أساء، ولو قلت: ليكن منك إحسان ولو لمن أساء فيقدر ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه، ولو قدرته: ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. اهـ وقال الحلبي: هذا الرد ليس بشيء، فإنَّ الدلالة اللفظية موجودة لاشتراك المحذوف والملفوظ في المادة ولا يضر اختلافهما في النوع. اهـ وقال السفاقسي: ما ذكر من أنَّ المقدر إنما يكون من جنس الملفوظ به فيه نظر، ولو سلم فما ذكره الزمخشري تقديره معنى، وقد نحى سيبوبه إلى ذلك فقال في زيد إنما ضربه أي

عليك زيداً مع أنه لا يجوز تقديره عليك عند البصريين وإنما أراد معناه. اهـ قوله: (والضمير فى (بهما) راجع إلى ما دل عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير). حكى الطَّيبي تقريراً آخر أنه عائد على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه وتحت ذلك أقسام أربعة: أن يكونا فقيرين، أو غنيين، أو الأول فقير والثاني غني، أو عكسه. قوله: (ويشهد عليه أنه قرئ (فَاللهُ أَوْلَى بِهِم) قال الطَّيبي: هي قراءة أبي، أي أنَّها تشهد على أنَّ المراد الجنس لأنَّ الجمع والمطلق يلتقيان في العموم. اهـ قوله: ((وَإِنْ تَلْوُوا) بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة). قال الشيخ سعد الدين: عدل إلى الماضي لتظهر الواو، يعني أنه على هذه القراءة من اللفيف المفروق وعلى الأول من اللفيف المقرون. اهـ وفيها أوجه أخر: أنَّها كالقراءة الأولى أصلها (تلووا) إلا أنه أبدل الواو الأولى همزة ثم ألقي حركتها على اللام حكاه أبو البقاء. قوله: (روي أنَّ ابن سلام وأصحابه ... ) الحديث. أخرجه الثعلبي عن ابن عباس. قوله: (اثبتوا على الإيمان ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: لما كان الأمر بالإيمان (لمن أخبر بحصول إيمانهم طلباً لتحصيل الحاصل بين تغاير الإيمان) الحاصل والإيمان المطلوب بتغاير الزمان أعني فيما مضى وفيما يستقبل، أو المورد أعني اللسان والقلب، أو المتعلق أعني البعض من الكتب والرسل والكل. اهـ

قوله: (وإنما سمي ظفر المسلمين فتحا ... )

قوله: (أي ومن يكفر بشىء من ذلك). قال الشيخ سعد الدين: لأنَّ الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو قد يرجع إلى كل واحد وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى (أو) في شيء فليتأمل. اهـ قوله: (فإن قلوبهم ضريت بالكفر). قال في النهاية: يقال ضري بالشيء ضراوة أي اعتاد به ولهج بحيث لا يصبر عنه. اهـ قوله: (وخبر كان فى أمثال ذلك محذوف تعلق به اللام). هذا مذهب البصريين في هذا الباب قالوا: نصب الفعل المذكور بأن المضمرة بعد اللام وهي والفعل المنصوب في تقدير مصدر وذلك لا يصح أن يكون خبراً لأنه معنى والمخبر عنه جثة فيجعل الخبر محذوفاً واللام مقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر وهي كالعوض من (أن) المضمرة ولذلك لا يجوز حذفها ولا يجمع بينهما وبين (أن) الظاهرة، ومذهب الكوفيين في ذلك الفعل هو الخبر واللام زيدت فيه للتأكيد وهي الناصبة بدون إضمار (أن) ومشى عليه هنا صاحب الكشاف، وطعن عليه أبو البقاء والناس آخرهم أبو حيان فلذلك أصلحه المصنف. قوله: (وإنما سمي ظفر المسلمين فتحاً ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: وأيضاً فإن الواقع إذ ذاك من ظفر المسلمين ما يجعل به الاستيلاء على ديارهم وأموالهم، والحاصل للكافرين أمر في الندرة لا يبلغ أن يكون فتحاً. اهـ قوله: (في دُبَّة). بضم الدال وتشديد الموحدة قال: طها هذربان قلَّ تغميضُ عينه ... على دُبَّة مثل الخنيف المرعبل.

قوله: (ثلاث من كن فيه فهو منافق ... ) الحديث. أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. قال الشيخ سعد الدين: (ثلاث) مبتدأ والجملة بعده صفة له، (من إذا حدث) خبره على حذف المضاف أي خصال من إذا حدث. قال: والأحسن أن يجعل (ثلاث) خبراً مقدماً أو مبتدأ محذوف الخبر، و (خصال من إذا) مفسر له أي في الوجود ثلاث. اهـ قوله: (بعضها فوق بعض). قال الشيخ سعد الدين: الأنسب بعضها أسفل من بعض وما ذكر إنما هو تفسير للدرج. اهـ قوله: (والتحريك أوجه لأنه يجمع على أدراك). قال الزجاج: الدرك بالحركة والسكون لغتان حكاهما أهل اللغة إلا أن الاختيار الفتح لإجماع الناس عليها، ولأنَّ أحداً من المحدثين ما رواه إلا بالفتح. اهـ ولأنَّ (أفعالاً) لا يكون جمع (فعل) بالسكون إلا في الشذوذ وإنما هو جمع (فعل) بالحركة. قوله: (وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولاً فيشكر شكراً مبهماً ثم يمعن النظر حتى يصف المنعم فيؤمن به). أخذه من الكشاف، وقاله أيضاً الإمام. قال صاحب التقريب: فيه نظر لأنَّ الإيمان لا يستدعي عرفان المؤمن به بذاته بل بعارض فكان حاصلاً حين ما عرف الإنعام، فما أوجب الشكر أوجب الإيمان. قال: والجواب أنَّ الواو لا توجب الترتيب. اهـ قال الطيبي: أما الكلام الأول فلا بأس به، وأما الجواب فمنظور فيه وحاشا المقتني علمي الفصاحة والبلاغة أن يرضى في كلام الله المجيد بمثل هذا القول، فإن في كل تقديم

ما مرتبته التأخير لله سبحانه أسراراً لا يعلم كنهها إلا هو، ألا ترى إلى قوله تعالى (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)) كيف استلزم التقديم أن معرفة الغايات والكمالات سابقة في التقديم لاحقة في الوجود تنبيهاً على أن المقصود الأولي من خلق الإنسان تعليم ما به يرشد إلى ما خلق له من العبادة، وكذا أشير بهذا التقديم إلى معرفة مرتبة أخرى من الشكر وموجبه. قال الشيخ العارف المحقق أبو إسماعيل الأنصاري: الشكر اسم لمعرفة النعمة لأنَّها السبيل إلى معرفة المنعم، ومعاني الشكر معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء بها، ودرجاته ثلاث -إلى آخره- فليقرر ذلك بلسان أهل المعاني وهو أن المكلف في بدء الحال إذا نظر إلى ما عليه من نعمة الخلق والرزق والتربية ينبعث منه حركة إلى معرفة المالك المنعم، فهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم، فإذا شكر العبد هذا الشكر وفق لنعمة أرفع من تلك النعمة وهي المعرفة بأنه الواحد الأحد الصمد الواسع الرحمة فيسجد شكراً فوق ذلك ويضيف إلى الشكر القلبي الشكر بآداب الجوارح والنداء على الجميل ويقول: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا وهذا هو الشكر المفصل، وحاصله أنَّ الكلام فيه إيجازان لأنَّ الشكر المذكور في التلاوة شكر مبهم وموجبه نعمة سابقة مستتبعة لمعرفة مبهمة، والإيمان المذكور إيمان مفصل مستتبع لشكر مفصل غير مذكور. اهـ قوله: (روي أنَّ رجلاً استضاف قوماً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت). أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مرسلاً. قوله (هم الكاملون في الكفر). قال الطيبي: يدل عليه توسيط الفصل بين المبتدأ والخبر المعرف بلام الجنس كقوله

(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ)، فجئ بقوله (حَقّاً) لتأكيد مضمون الكمال، أي قولي بأنَّ هذا كفرٌ كاملٌ حقٌ لا باطل، وعلى تقدير أن يكون (حَقّاً) صفة للمصدر المؤكد للمسند يكون بمعنى ثابتاً والكلام حينئذ للعهد أي هم الذين صدر منهم الكفر ألبتَّة، وهذا أبلغ من الأول بحسب تأكيد الإسناد، والأول أبلغ من جهة إثبات الكمال. اهـ قوله: (وتصديره بـ (سوف) لتوكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة). قال الطَّيبي: (روي عن صاحب الكشاف أنه قال: الفعل الذي هو للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال، فإذا دخل عليه (سوف) أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطي ما ليس فيه من أصله، فهو في مقابلة (لن) ومنزلته من يفعل كمنزلة (كن) (1) في لا تفعل لنفي المستقبل، فإذا وضع (لن) موضع (لا) أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل، فإذاً كل واحد من سوف ولن حقيقته التوكيد ولهذا قال سيبويه: لن يفعل نفي سوف يفعل. اهـ قوله: (نزلت فى أحبار اليهود ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي. قوله: (افترحوه). أي ابتدعوه. قوله: (ويجوز أن يتعلق بـ (حرمنا عليهم طيبات)). زاد الكشاف: على أن قوله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) بدل من قوله (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ). اهـ قال أبو حيان: وفيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأنَّ المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سبباً إلا بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم فالأولى أن يكون التقدير لعنَّاهم، وقد جاء مصرحاً به في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً). اهـ

_ (1) في الأصل (كن) والتصويب من حاشية الطيبي. (مصحح النسخة الإلكترونية)

وقال السفاقسي: هذا إلزام حسن، وقد يتكلف لحله بأنَّ دوام التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث. اهـ قوله: (لا ما دل عيه قوله (بل طبع الله عليها) مثل (لا يؤمنون) لأنه رد لقولهم (قلوبنا غلف) فتكون (من) صلة، و (قولهم) المعطوف على المجرور فلا يعمل فى جاره). قال أبو حيان: هذا جواب حسن وممتنع من وجه آخر وهو أن العطف بـ (بل) يكون للإضراب عن الحكم الأول وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول أو الانتقال، فأما في كتاب الله تعالى في الأخبار فلا يكون إلا للانتقال، ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الأول، والتقدير المشار إليه لا يسوغ فيه ذلك لأن قوله فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله على قلوبهم هو مدلول الجملة التي صحبتها (بَل) وهو قوله تعالى (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) أفادت الجملة الثانية ما أفادت الأولى وهو لا يجوز، لو قلت: مر زيد بعمرو بل مر زيد بعمرو لم يجز، وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم وكذا طبع على قلوبهم، وقيل التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلاً، والفاء مقحمة. اهـ قال الطَّيبي: قدر أبو البقاء (طَبَع) مقدر الدلالة بل طبع عليه، وعليه يصير التقدير: فبما نقضهم وكفرهم وقولهم قلوبنا غلف طبع الله عليها بكفرهم، فيكون رداً لهذا الكلام وإنكاراً له لا لقولهم قلوبنا غلف. اهـ قوله: (أو على قوله (فبما نقضهم) ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله). قال الطَّيبي: ولا يلزم عليه محذور عطف الشىء على نفسه، لأن للهيئة الاجتماعية اعتباراً غير اعتبار الأفراد، والواو الداخلة عليه على هذا غير الواوات السابقة واللاحقة لأن تلك لعطف المفرد على المفرد وهذه لعطف المجموع على المجموع. اهـ قوله: (روي أن رهطاً من اليهود ... ) إلى آخره. أخرجه النسائي عن ابن عباس نحوه.

قوله: (ليؤمنن به

قوله: (قتلاً يقيناً أو متيقن). قال الطَّيبي: (يَقِيناً) يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، وأن يكون حالاً، وعلى التقديرين يعود المعنى إلى عدم يقين القتل منهم. اهـ قوله: (قتلت الشيء علماً). قال الزجاج: تقول أنا أقتل الشىء علماً، أي: أعلمه علماً. اهـ في الأساس: ومن المجاز قتلته علماً وخُبراً، ومنه قتلت الخمر إذا مزجتها. اهـ قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لـ (أحد)). قال أبو حيان: هذا غلط فاحش إذ زعم أن (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف، وصفة (أحد) المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، والتقدير: وإن أحد من أهل الكتاب، وأما قوله (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم إنما هي جواب القسم والقسم محذوف، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو (أحد) المحذوف إذ لا ينتظم من أحد والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها فذلك هو محط الفائدة. اهـ وقال الحلبي: أساء أبو حيان العبارة بما زعم أنه غلط وهو صحيح مستقيم، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسناد من (أحد) الموصوف بالجملة التي بعده ومن الجار قبله؟! ونظيره أن تقول: ما في الدار رجل إلا صالح، فكما أنَّ (في الدار) خبر مقدم، و (رجل) مبتدأ مؤخر و (إلا صالح) صفته وهو كلام مفيد مستقيم فكذلك هذا، غاية ما في الباب أن (إلا) دخلت على الصفة لتفيد الحصر، وأما رده عليه حيث قال جملة قسمية وإنما هي جواب القسم فلا يحتاج إلى الاعتذار عنه. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: أطلق عليها قسمية لكون اللام فيها جواب قسم محذوف، أي: والله قال، ولو جعل الظرف صفة مبتدأ محذوف والاستثناء في موقع الجزاء

أي: وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن لم يبعد، ولكنه جزم بالأول. اهـ قوله: (روي أنه ينزل من السماء ... ) الحديث. رواه أبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة بدون قوله (فلا ييقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به)، وروى هذه الزيادة ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً. قوله في هذا الحديث: ويلبث في الأرض أربعين سنة. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: يشكل عليه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمرو أنه يمكث في الأرض سبعين سنة. قال: اللهم إلا أن تجعل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزولة ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين على المشهور والله أعلم. اهـ أقول: وقد أقمت سنين أجمع بذلك ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور: هكذا في الحديث أنَّ عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة، وفي صحيح مسلم من حديت عبد الله بن عمرو وفي قصة الدجال: فيبعث الله عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده أي موته، فلا يكون مخالفاً للأول فترجح عندي هذا التأويل من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث ليس نصاً في الإخبار عن مدة لبث عيسى وذلك نص فيها، والثاني: أنَّ (ثم) تؤيد هذا التأويل لأنها للتراخي، والثالث: قوله (يلبث الناس بعده) فيتجه أنَّ الضمير فيه لعيسى لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد ذلك سوى هذا الحديث المحتمل ولا ثاني له، وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة منها الحديث المذكور وهو صحيح، ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل عيسى ابن مريم في الأرض أربعين سنة لو يقول للبطحاء سيلي لسالت. ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعاً في حديث الدجال: فينزل عيسى

ابن مريم فيقتله ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً. وأيضاً من حديث ابن مسعود عند الطبراني. فهذه الأحاديث المتعددة الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل. قوله: (فبأي ظلم). قال الطَّيبي: التعظيم من التنكير. اهـ قوله: (نصب بمضمر دل عليه (أوحينا إليك) كأرسلنا). قال الطَّيبي: أي (أوحينا) لا يجوز أن يعمل في (رُسُلاً) لأنه تعدى بـ (إلى). قال: ويمكن أن يقال بالحذف والاتصال، لأن الكلام في الإيحاء لا في الإرسال فعلى هذا (قَصَصْنَاهُمْ) (لَمْ نَقْصُصْهُمْ) صفتان لـ (رُسُلاً) وعلى أن يكون (قَصَصْنَاهُمْ) مفسر للعامل يبقى (رُسُلاً) مطلقاً. اهـ قوله: (نصب على المدح أو الحال). قال الطَّيبي: وأنت تعلم أنَّ الشرط في النصب على المدح أن يكون الممدوح مشهوراً معروفاً بصفات الكمال، ويكون بهذا الوصف المذكور منتهي في بابه فكم بين الاعتبارين. اهـ قوله: (روي أنه لما نزل (إنا أوحينا إليك ... ) قالوا: ما نشهد لك فنزلت). أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. قوله: (روي أن وفد نجران ... ) إلى آخره. عزاه الواحدي في أسباب النزول للكلبي. قوله: (الكروبيون). قال في الفائق: هم سادة الملائكة منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وهم المقربون من كرب إذا قرب قربا بالغاً والياء للمبالغة كأحمري. اهـ

قوله: (وإن سلم اختصاصها بالنصارى. . .).

وفي القاموس: الكروبيون مخففة سادة الملائكة. اهـ وفي تذكرة الشيخ تاج الدين ابن مكتوم ومن خطه نقلت: سئل أبو الخطاب ابن دحية عن الكروبيين هل يعرف في اللغة أم لا؟ فقال: الكروبيون بتخفيف الراء: سادة الملائكة وهم المقربون من كرب إذا قرب. وأنشد أبو علي البغدادي: كروبية منهم ركوع وسجد. وقال الطيبي عن بعضهم: في هذه اللفظة ثلاث مبالغات: أحدها: أن كرب أبلغ من قرب حيث وضع موضع كاد، تقول: كربت الشمس أن تغرب، كما تقول كادت، الثانية: أنه على وزن فعول وهو للمبالغة، الثالتة: زيادة الياء فيه، وهي تزداد للمبالغة كأحمري. اهـ قوله: (وإن سلم اختصاصها بالنصارى ... ). قال الطَّيبي: الجواب الصحيح أن يقال إن الكلام إنما سبق للرد على النصارى، وإنما تنتهض الحجة عليهم به إذا سلموا أنَّ الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد، فكيف والنصارى يرفعون درجته إلى الإلهية، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما قال محي السنة رداً على الذين يقولون الملائكة آلهة وكما رد على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي. اهـ قوله: (والاستكبار دون الاستنكاف). قال الراغب: الفرق بينهما أنَّ الاستنكاف تكبر في تركه أنفة، وليس في الاستكبار ذلك. اهـ

قوله: (روي أن جابر بن عبد الله كان مريضاً ... ) الحديث. أخرجه الأئمة الستة من حديثه. قوله: (وهي آخر ما نزل من الأحكام). أخرجه الأئمة الخمسة عن البراء بن عازب. قوله: (و (ليس له ولد) صفة أو حال عن المستكن فى (هلك)). سبقه إلى الحال أبو البقاء، وقال أبو حيان: الذي يقتضيه النظر أن ذلك ممتنع، وذلك أنَّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق، فإذا تجاذب الإتباع أو التقييد مؤكد ومؤكد فالحكم إنما هو للمؤكد إذ هو معتمد الإسناد الأصلي. اهـ ووافقه الحلبي، وقال السفاقسي: الأظهر أنه مرجح لا موجب. قال: ولأبي البقاء معارضته بترجيح آخر وهو أنا إذا جعلنا (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) صفة لـ (امْرُؤٌ) لزم الفصل بين النعت والمنعوت، وإن كان حالاً من ضمير (هَلَكَ) لم يلزم الفصل. اهـ ومنع الزمخشري كونه حالاً من (امْرُؤٌ).

ووجهه الطيبي بأنه نكرة غير موصوفة لأن (هَلَكَ) مفسر للفعل المحذوف لا صفة. وقال الحلبي: يصح كونه حالاً منه، و (هَلَكَ) صفة. اهـ قوله: (الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى). قال أبو حيان: هكذا أخرجوا الآية وهو تخريج لا يصح، والذي يظهر لي في تخريجها وجهان: أحدهما: أن ضمير (كَانَتَا) لا يعود على أختين بل يعود على الوارثتين وثم صفة محذوفة لـ (اثْنَتَيْنِ)، و (اثْنَتَيْنِ) بصفته هو الخبر، والتقدير: فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، الثاني: أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكر، ويكون خبر (كان) محذوفاً لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلاً، ويكون (اثْنَتَيْنِ) حالاً مؤكدة، والتقدير: فإن كانت أختان له؛ أي للمرء الهالك، ويدل على حذف الخبر الذي هو له (وَلَهُ أُخْتٌ). اهـ قوله: (أي يبين الله لكم ضلالكم ... ) إلى آخره. حكى ثلاثة أقوال: الأول للجرجاني صاحب النظم قال: أي يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنَّها ضلالة فتجتنبوها، والثاني للبصريين قالوا: المضاف محذوف أي: كراهة أن تضلوا كقوله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، والثالث للكوفيين قالوا: حرف النفي محذوف. قال الزجاج في الترجيح: (لا) لا تضمر لأن حذف حرف النفي لا يجوز، ولكن تزاد للتوكيد، ويجوز حذف المضاف وهو كثير. اهـ وقال الطَّيبي: النظم مع صاحب النظم، لأنَّ هذه الخاتمة ناظرة إلى الفاتحة وهي قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)، فإنَّ براعة الاستهلال دلت إجمالاً على أمور يجب اجتنابها وضلالة ينبغي أن يتقي منها، ومن ثم فصلت أولاً بقوله (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)، وثانياً بقوله (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، وثالثاً بقوله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)، ورابعها بقوله (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ)، وخامسها بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)، وسادسها

بقوله (وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)، وسابعاً بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ... ) الآيات، وثامناً بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... ) الآية، وتاسعاً بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، وعاشراً بقوله (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) وهلم جرا إلى هذه الغاية ومن ثم رجع عوداً إلى بدء من حديث الميراث بقوله (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) فظهر أن التقدير: يبين الله لكم ضلالكم لئلا تضلوا، فالعلة محذوفة والمفعول مذكور على خلاف تقدير الجمهور. اهـ قوله: (من قرأ سورة النساء ... ) الحديث. رواه الثعلبي والواحدي من حديث أبي بن كعب وهو موضوع كما تقدم التنبيه عليه في سورة آل عمران.

سورة المائدة

سورة المائدة قوله: (قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا). مدح به بنوا أنف الناقة وكان هذا نبزاً في غاية الشناعة، فأبرزه الحطيئة في صورة المدح وكمال الرئاسة حيث قال بعد هذا البيت: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا. قال الشيخ سعد الدين: وفي البيت إشارة إلى كون العقد بمعنى العهد، مستعار من عقد الحبل حيث رشح ذلك بذكر الحبل والدلو وما يتعلق بهما، والعناج: حبل يشد في أسفل الدلو ثم يشد إلى العَراقي ليكون عوناً لها وللوذم فإذا انقطعت الأوذام أمسكها العناج، والعرقوتان: الخشبتان المعترضتان على الدلو كالصليب، والأوذام: السيور التي بين آذان الدلو وأطراف العراقي، والكرب: الحبل الذي يشد في وسط العراقي ثم يثنى ويثلث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير، ويقال: ملأ الدلو إلى عقد الكرب لمن يبالغ فيما يلي من الأمر. اهـ قوله: (ولكل المراد بالعقود: ما يعم العقود التي عقدها الله تعالى ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: لأنَّ العقود جمع محلى باللام مستغرق لجميع ما يصدق عليه أنه عقود الله تعالى من الأصول والفروع، والمذكور في السورة أمهاتها وأصولها منصوصاً، وسائر ما يستتبعه مفهوماً ومرموزاً، فقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، وقوله (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)، وقوله (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) الآيات من الجوامع التي تحتوي على جميع المسائل التي هي مفتقر إليها من الحكمة العلمية والعملية الفرعية والأصولية، أما العبادات فأشار إلى عمودها وأسها وهي الصلاة، ثم هي متوقفة على الطهارة وإليه الإشارة بقوله (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا)، ثم كر إلى

ذكر الصلاة وعلق به قرينتها التي هي الزكاة في قوله (وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ)، وأومأ إلى الحج بتعظيم شعائر الله في قوله (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)، وأما المعاملات فقد أدمج (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ما يمكن أن يستنبط منه بعض أحكامها، وكذا المناكحات في قوله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ... ) الآية، هذا وإن قسم الجراحات والحدود والجهاد والأطعمة والأشربة والحكومات وغيرها السورة مملوءة منها، مشحونة بها، ومن أراد أن يستوعب جميع ما يتعلق بربع الجراح فلا يعوزه ذلك نصاً وإشارةً، ولأمر ما أخر نزول هذه السورة، وفذلكت بقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ). اهـ قوله: (والبهيمة كل حي لا يميز). قال الطَّيبي: لأنه أنَّهم عن أن يميز. اهـ وقال الراغب: البهيمة ما لا نطق له من الحيوان، ثم اختص في المتعارف بما عدا السباع والطير، ثم استعملت في الأزواج الثمانية إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في ذلك الخيل والبغال والحمير. اهـ قوله: (وإضافتها إلى الأنعام للبيان ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: قد اشترطوا فيها كون المضاف إليه جنس المضاف كالفضة للخاتم، وهنا الأمر بالعكس. اهـ قوله: (وقيل هما المراد بالبهيمة). قال الراغب: لما علم في سورة الأنعام تحليل الله الأنعام نبه بقوله (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) على تحليل ما يجري مجرى الأنعام، فيكون لهذه الآية دلالة على تحليل البهيمة وتحليل الأنعام لأن المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حلالاً، وعلى ذلك قول من قال بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: هي بقر الوحش والظباء. اهـ

قوله: (إلا محرم ما يتلى عليكم بقوله (حرمت عليكم الميتة)، أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه). قال الطَّيبي: إنما قدر ذلك لأنه لا بد من المناسبة بين المستثنى والمستثنى منه في الاتصال، فلا يستقيم استثناء الآيات من البهيمة فيقدر إما المضاف كما يقال: إلا محرم ما يتلى عليكم أي: الذي حرمه المتلو، وإما الفاعل بأن يقال: إلا البهيمة التي يتلى عليكم آية تحريمها، ثم حذف المضاف الذي هو آية وأقيم المضاف إليه مقامه وهو تحريمه، ثم حذف المضاف ثانياً وأقيم المضمر المجرور مقامه فانقلب الضمير مرفوعاً واستتر في (يُتلَى) وعاد إلى (ما). قال أبو البقاء: (إِلاّ مَا يتلَى عَلَيكُم) استثناء متصل والتقدير: أحلت لكم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا الميتة وما أهل لغير الله به مما ذكره في الآية الثالثة من السورة. اهـ ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: يعني إن (مَا يُتلَى) استثناء متصل من (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) وليس من جنسها، لأن المتلو لفظ فحاول جعل المستثنى من جنس المستثنى منه بتقدير مضاف محذوف من (مَا يُتلى) يكون عبارة عن البهائم المحرمة، أو من فاعل (يُتلَى) أي: يتلى تحريمه ليكون (مَا) عبارة عن البهيمة المحرمة لا عن اللفظ المتلو. اهـ قوله: ((غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من الضمير فى (لكم)). قال أبو حيان: هو قول الجمهور، وهو مردود إذ يصير المعنى: أحلت لكم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ في حال انتفاء كونكم محلي الصيد وأنتم حرم، وهم قد أحلت لهم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال إذا أريد بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ أنفسها، وإذا أريد بها الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى: وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا، ولو أريد هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. قال: والقول بأنه من واو (أَوْفُوا) قول الأخفش وفيه الفصل بين الحال وصاحبها بجملة غير اعتراضية بل هي منشئة أحكاماً وذلك لا يجوز، وفيه أيضاً تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم، وهم يؤمرون بإيفاء العقود بغير قيد

ويصير التقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلي الصيد وأنتم حرم فإذا لم توجد هذه الحال فلا توفوا بالعقود. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لا يخفى أن قول الأخفش أقرب معنى وإن كان أبعد لفظاً، وذلك لأن جعله حالاً من ضمير (لكم) إنما يصح إذا أريد ببهيمة الأنعام الظباء، وإذا أريد الأنعام المستثنى منها البعض ففي جعله حالاً من ضمير (لَكُم) تقييد للإحلال بهذه الحال وليس كذلك. قال: ويمكن دفعه بأنَّ المراد بالأنعام أعم من الإنسي والوحشي مجازاً أو تغليباً أو دلالة أو كيف ما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في الإحرام إذ معه تحريم البعض وهو الوحشي. قال: ومنهم من جعله حالاً من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ويستلزم جعل (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أيضاً حالاً من مقدر أي: حال كوننا غير محلين الصيد لكم في حال إحرامكم. قال: وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ. اهـ وقال أبو حيان: جعل بعضهم صاحبَ الحالِ الفاعلَ المحذوف من (أُحِلَّتْ) المقام مقامه المفعول وهو الله تعالى، وهو فاسد لأنهم نصوا على أنَّ الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسياً منسياً فلا يجوز وقوع الحال منه، وجعله بعضهم الضمير المجرور في (عَلَيكمْ) ويرده أن الذي (يُتلَى عَلَيكمْ) لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم بل هو يتلى عليكم في هذه الحال وفي غيرها. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله (إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) استثناء من (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)، وقوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) استثناء مما يليه وهو الاستثناء، وأبطله بأنه يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأنه مستثنى من الجرم الذي هو مستثنى من الإباحة. قال ابن عطية: قد خلط الناس في هذا الموضع في نصب (غَيْرَ)، وقدروا تقديرات

كلها غير مرضية لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء. اهـ وقال أبو حيان: إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كونه رسم (مُحِلِّي) بالياء، فظنوا أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة وأصله: غير محلين الصيد، والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، وكذا هذا أصله: غير الصيد المحل، والمحل صفة للصيد لا للناس، ووصف الصيد بأنه محل إما على معنى: دخل في الحل، كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم الرجل: دخل في الحرم، أو على معنى صار ذا حل أي: حلالاً بتحليل الله، ومجيء (أفعل) على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب، فمن الأول: أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتمم إذا حلوا هذه المواضع، ومن الثاني: أعشبت الأرض وأبقلت أي صارت ذا عشب وبقل، وكذا أغد البعير وألبنت الشاة وأحرم النخل وأحصد الزرع وأنجبت المرأة، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل أو صار ذا حل اتضح كونه استثناء ثانياً، ولا يمكن كونه استثناء (من استثناء) لتناقض الحكم لأن المستثنى من المحرم حلال، ثم إن كان المراد ببهيمة الأنعام أنفسها فهو استثناء منقطع، أو الظباء ونحوها فمتصل على أحد تفسيري المحل، (استثنى الصيد) الذي بلغ الحل في حال كونهم محرمين. فإن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل، والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم. فإن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء

والوقف عليه بها؟ قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو (لا أذبحَنهُ) بالألف، و (بِأييد) بياءين إلى غير ذلك، والوقف اتبعوا فيه الرسم. اهـ وأقول: هذا التخريج الذي خرجه أبو حيان فيه تكلف كبير، وهو خلاف ما يتبادر من اللفظ والسياق، والصواب تخريج الجمهور أنه حال من ضمير (لَكم)، وما رد به من لزوم تقييد الإحلال بهذه الحال لا يرد عند التأمل، وكم من حال وصفة لم يعتبر مفهومها، ثم رأيت السفاقسي ذكر مثل ما ذكرت فقال: هذا التخريج الذي ذكره أبو حيان فيه تكلف وتعسف لا يخفى على منصف من حيث زيادة الياء وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرون منه بزيادة أو نقصان في الرسم فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس، ولا شك أن ما ذكره الجمهور من أن (غَيْرَ) حال وإن لزم منه الترك للمفهوم فهو أولى من تخريج ينبو عنه المفهوم، والمفهوم هنا متروك لدليل خارج، وكثير في القرآن مفهومات متروكة لعارض. اهـ وقال الحلبي: هذا الذي ذكره أبو حيان وأجازه وغلط فيه الناس ليس بشيء وفيه خرق للإجماع، فإنَّهُم لم يعربوا (غَيْرَ) إلا حالاً حتى نقل عن بعضهم الإجماع على ذلك، وإنما اختلفوا في صاحب الحال. قال: وقديماً وحديثاً استشكل الناس هذه الآية. اهـ ثم قال السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان: أحدهما: أن يكون (غَيْرَ) استثناء منقطعاً، و (مُحِلِّي) جمع على بابه والمراد به: الناس الداخلون حل الصيد؛ أي: لكن إن دخلتم حل فلا يجوز لكم الاصطياد. والثاني: أن يكون متصلاً من بهيمة الأنعام، وفي الكلام حذف مضاف إلى (مُحِلِّي) أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وأنتم حرم فلا يحل. ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل ويكون الاستثناء متصلاً والمضاف محذوف؛ أي: إلا صيد مُحِلِّي الاصطياد وأنتم حرم، والمراد بالمحلين: الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل، ويكون معناه: أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقاً. ثم قال السفاقسي: وعندي تخريج آخر حسن وهو أن يكون حالاً من ضمير (لَكم)

قوله: (وهو اسم ما أشعر).

وحذف المعطوف للدلالة عليه، وهو كثير وتقديره: غير محلي الصيد ومحليه كما قال تعالى (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد. اهـ قوله: ((وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عن ما استكن فى (مُحِلِّي)). هي عبارة مكي. قال الحلبي: وهي أصح من قول الكشاف حال عن (مُحِلِّي الصَّيْدِ) فإن فيه مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة. اهـ قال الطَّيبي: والحالان متداخلتان. اهـ قوله: (وهو اسم ما أشعر). قال الشيخ سعد الدين: التصريح في مثل هذا بلفظ الاسم لئلا يتوهم أنه صفة حيث له اشتقاق ظاهر ودلالة على معنى زائد على الذات، ودليل عدم الوصفية أنه لا يجري على الموصوف ولا يعمل عمل الفعل. اهـ قوله: (كجدي فى جمع جدية السرج هى بالجيم والدال المهملة). في الصحاح: الجَديَة: بتسكين الدال شيء محشو تحت دفتي السرج والرحل، وهما جديتان، والجمع جَدًى وجَدَيَات بالتحريك، وكذلك الجدية على فعيلة والجمع الجدايا. اهـ قوله: (أو لحاء شجر). بلام وحاء مهملة ومد: قشر الشجر. قوله: (والجملة في موضع الحال من المستكن فى (آمِّينَ) وليست صفة له) إلى آخره. يشير إلى الرد على صاحب الكشاف حيث أعربه صفة. وقال الشيخ سعد الدين: إنما أراد أن (آمِّينَ) و (يَبْتَغُون) صفتان لموصوف محذوف ولم يرد أن (يَبتَغُون) صفة لـ (آمِّينَ). قوله: (روي أن الآية نزلت في عام القضية ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن عكرمة وسمى المذكور الحطم بن هند البكري.

قوله: (قرئ بكسر الفاء). قال أبو حيان: ليس عندي كسراً محضاً بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسر همزة الوصل كما أمالوا الفاء في (فإذا) لوجود كسرة إذا. اهـ وقال الطيبي: قيل كسر الفاء إمالة لإمالة ما بعده نحو (عمادا) على مذهب من يميله. اهـ قوله: (لا يحملنكم أو لا يكسبنكم). أتى بـ (أو) وهو أحسن من تعبير الكشاف بالواو لأن أبا حيان قال: يمتنع أن يكون مدلول (جرم) حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون (تَعْتَدُوا) في محل مفعول به ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر. اهـ قوله: (وهو مصدر). جوزوا كونه وصفاً و (فعلان) بالفتح في الأوصاف موجود نحو حمار قطوان: عسر السير، وتيس عدوان: كثير العدو. قوله: (أضيف إلى للمفعول أو الفاعل). قال أبو حيان: الأظهر الأول. اهـ قوله: (كليان). مصدر لويت ذنبه لياناً. قوله: (أو نعت). وهو الأظهر. قوله: (ثاني مفعولى يجرمنكم). هذا إن كان بمعنى يكسبنكم، فإن كان بمعنى يحملنكم كان نصباً على نزع الخافض وهو (على). قوله: (فإنه يتعدى إلى واحد وإلى اثنين). هذان الاستعمالان معاً للذي بمعنى كسب، ومن تعديه إلى واحد: جرم فلان ذنباً أي: كسب. قوله: (جعله منقولاً من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين).

قوله: (نزلت بعد عصر يوم الجمعة حجة الوداع).

قال الشيخ سعد الدين: ذهب إلى هذا نظراً إلى أنَّ الأصل هو أن تكون الهمزة للتعدية، وإلا فيجوز أن تكون من: جرمته ذنباً، للمبالغة. اهـ قوله: (غفل). أي لا سمة عليها. قوله: (نزلت بعد عصر يوم الجمعة حجة الوداع). أخرجه الشيخان وغيرهما عن عمر. قوله: (أو بالتنصيص ... ) إلى آخره. قال الامام: المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيَّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بطريق تعرف الحكم بها، وأمر بالاستنباط وتعبد المكلفين به وكان ذلك بياناً في الحقيقة. اهـ قوله: (اخترته لكم). قال الشيخ سعد الدين: المنصوب الثاني بعد (وَرَضِيت) يحتمل أن يكون حالاً أو تمييزاً، وأن يكون مفعولاً ثانياً على تضمين معنى التصيير. اهـ قوله: (وما بينهما اعتراض). قال الطَّيبي: هي سبع جمل أولها (ذَلِكُمْ فِسْقٌ). قال: وفي هذا الاعتراض البليغ وتقديم بيان تحريم المطعوم على سائر الأحكام إيذان باهتمام أمر المطعوم، وأن قاعدة الأمر وأساس الدين مبني عليه، لأن به قوام البدن الذي به تمكن المكلف من العبادة. اهـ قوله: (لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة). وقال أبو حيان: لا يحتاج إلى ذلك لأنه من باب التعليق كقوله (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ)، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لـ (يَسْأَلُونَكَ)، ونصوا على أن فعل السؤال يعلق وإن لم يكن من أفعال القلوب لأنه سبب للعلم فكما يعلق العلم فكذا سببه. اهـ

قوله: (على تقدير: وصيد ما علمتم). قال الشيخ سعد الدين: أي مصيده فإنه الذي أُحل، فعطفه على الطيبات من عطف الخاص على العام. اهـ قوله: (وجملة شرطية إن جعلت شرطاً). قال أبو حيان: وهذا أجود لأنه لا إضمار فيه. اهـ قال الطَّيبي: هي شَرطية على تقدير المضاف أيضاً. قال: وروي عن صاحب الكشاف أنه سئل عنه وقيل: فإذاً يبطل كونها شرطية؟ فقال: لا، لأن المضاف إلى الاسم الحامل لمعنى الشرط في حكم المضاف إليه تقول: غلام من تضرب أضرب. وقال صاحب الكتاب: فإن تقدم اسما الشرط الجار فالمعنى الموجب لها الصدر مقدر قبله لاتحاده بها، فعلى هذا يكون تقدير غلام من تضرب أضرب: إن تضرب غلام زيد أضرب، وفيه بحث لأنه ليس من مواضع وضع المظهر موضع المضمر في الجزاء، فمعنى قوله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وضع موضع ضمير صيد ما علمتم لما دل على التعظيم والفحامة، لكن هو من التكرير الذي لا يناط به حكم آخر من قوله (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ ... ) الآية، ويمكن أن يقال إن السائل كأنه كان متردداً في حل ما أمسكته الضواري فقدم في الجواب (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) وعطف عليه صيد ما علمتم اختصاصاً له، ثم زيد في المبالغة بأن جعل الجزاء عين الشرط، ويجوز أن لا يقدر المضاف فتكون الجملة الشرطية معطوفة على قوله (أُحِلَّ لَكُمُ). اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لا يحتاج على الشرطية إلى حذف المضاف وإن نقل عن صاحب الكشاف أنه قال: تقدير المضاف لا يبطل كون (ما) شرطية لأن المضاف إلى الاسم الشرطي في حكم المضاف إليه تقول: غلام من تضرب أضرب. اهـ قوله: (ومضريها بالصيد). قال الطيبي: التضرية: الإغراء. في الأساس: سبع ضاري، وقد ضري بالصيد ضرواة، وأضرى الصائد الكلب والجارح، ومن المجاز: ضرى فلان بكذا، وعلى كذا: إذا لهج به، وأضريته وضريته وضريت

عليه. اهـ قوله: (مشتق من الكلب لأن التأديب يكون أكثر فيه أو لأن كل سبع يسمى كلباً). قال أبو حيان: لا يصح هذا الاشتقاق لأن كون الأسد هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها وكلاب بنفسها لا بجعل المعلم. اهـ قال الحلبي: ولا طائل تحت هذا الرد. اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك). زاد في الكشاف: فأكله الأسد. قال الطَّيبي: الحديث موضوع. قلت: معاذ الله بل صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي نوفل ابن أبي عقرب عن أبيه قال: كان لهب ابن أبي لهب يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم سلط عليه كلبك، فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلاً فقال: إني أخاف دعوة محمد، فحطوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء الأسد فانتزعه منهم فذهب. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قوله: ((تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال ثانية). قال الطَّيبي: دلت الحال الأولى على أن معلِم الكلب ينبغي أن يكون مدرباً في تلك الصنعة يعلم لطائف الحيل وطرق التأديب فيها، ولا شك أن ذلك لا يتم إلا بالإلهام والعقل الذي منحه الله تعالى، والحال الثانية على أنه ينبغي أن يكون فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه، وفيه إدماج لتلك الفائدة

الجليلة التي ذكرها مع الإشارة إلى العالم وإن كان أوحدياً متبحراً في العلوم ينبغي أن لِكون محدثاً ملهماً من عند الله، مجانباً مضارب علمه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمارة، مستعداً لفيضان العلوم الدينية، مقتبساً من مشكاة الأنوار النبوية. اهـ قوله: (أو استئناف). زاد أبو حيان: على تقدير أن لا تكون (ما) شرطية إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجوابه. اهـ قوله: (أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد). قال الطَّيبي: (أن تعلموه) مفعول ثان لقوله (مما علمكم الله)، والضمير المنصوب في (تعلموه) عائد إلى (ما) والمفعول الثاني محذوف أي: مما علمكم الله أن تعلموه الكلب، وقوله (من اتباع) بيان (ما). اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم: وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه). أخرجه الأئمة الستة من حديثه. قوله: (وقال بعضهم: لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر). هو رأي إمام الحرمين. قوله: (الضمير لما علمتم ... ) إلى آخره. قال أبو حيان: الظاهر عوده إلى المصدر المفهوم من (فَكُلُوا) أي على الأكل. اهـ قوله: (واستثنى عليٌّ نصارى بني تغلب). أخرجه عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي عن عليٍّ أنه كان يكره ذبائح نصارى

بني تغلب ونسائهم ويقول هم من العرب. وروى الشافعي بإسناد صحيح عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم). أخرجه مالك في الموطأ والشافعي عنه عن جعفر بن أبيه عن عمر أنه قال: ما أدري ما أصنع في أمرهم (يعني المجوس)؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. قال مالك: يعني في الجزية. ولم يذكر فيه الجملة الأخيرة. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة. وفي رواية عبد الرزاق: غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم. وهو مرسل وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف. قال البيهقي: وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده. قوله: (وقال ابن عباس: لا يحل الحربيات). قوله: (يريد بالإيمان شرائع الإسلام). زاد الكشاف: لأنَّ الكفر بالمُؤْمَن به لا بالإيمان نفسه. قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: فهو كالتذييل لقوله (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) تعظيماً لشأن الإحلال والتحريم، وتحريضاً على المحافظة عليها، وتغليظاً على المخالفة.

قوله: (إذا أردتم القيام. . .)

قوله: (إذا أردتم القيام ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء ولا خلاف في أنه ليس المراد وجوب الوضوء في الصلاة حال القيام إلى الصلاة، ولأنه إذا أريد به مباشرة الصلاة فقط عقب القيام لزم في أن يكون الوضوء في الصلاة أو بعدها، وإن أريد القيام المنتهي إلى الصلاة أو متوجهاً إليها لزم أن يكون الوضوء متصلاً بالصلاة بعد القيام فلا يتمكن من الصلاة قط، فجعل القيام مجازاً عن إرادته بعلاقة كونه مسبباً عنها أو عن قصد الصلاة وإرادتها بعلاقة كونه من لوازم التوجه إلى الصلاة فعبر عن لازم الشيء بالقيام إليه والتوجه، فيكون من إطلاق أحد لازمي الشيء على لازمه الآخر لا من إطلاق اسم الملزوم على لازمه أو المسبب على سببه بناء على أنَّ إرادة الشيء لازم له وسبب. اهـ قوله: (وإذا قصدتم الصلاة ... ). قال الطَّيبي: قيل في الفرق إنَّ المعنى على الأول: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وعلى هذا: إذا أردتم الصلاة وقصدتموها، وفيه نظر لأنَّ الإرادة هي القصد المخصوص ويجاب بأن المراد من القصد مطلق الميل من غير الداعية الخالصة التي تستلزم النية، وأيضاً يفهم من إرادة القيام إلى الصلاة الأخذ في مقدماتها وشرائطها ومن ثم عقبها بقوله (فاغسلوا) وليس كذلك القصد إلى مطلق الصلاة، والأول أوجه. اهـ قوله: (وظاهر الآية توجب الوضوء على كل قائم). قال الشيخ سعد الدين: نظر إلى عموم (الَّذِينَ آمَنُوا) من غير اختصاص المحدِثين وإن لم يكن في اللفظ دلالة على تكرار الفعل وإنما ذلك من خارج. اهـ قوله: (والإجماع على خلافه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح ... ) الحديث. أخرجه مسلم والأربعة من حديث بريدة.

قوله: (فقيل: مطلق أريد به التقييد، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدِثين). قال الشيخ سعد الدين: بقرينة دلالة الحال، واشتراط الحدث في البدل أعني التيمم. قال: وهذا أولى مما يقال إن الخطاب على عمومه لكن خص بحال الحدث كأنه قيل: وأنتم محدثون، وذلك لأنه لا دلالة في اللفظ على عموم الأحوال ليخص بالبعض. اهـ قوله: (وقيل: الأمر فيه للندب). زاد في الكشاف: ويفهم الوجوب للمحدث من السنة. قال الشيخ سعد الدين: وهذا بعيد جداً لما فيه من مخالفة ظاهر كون الأمر المطلق للإيجاب، وإطباق العلماء على أن وجوب الوضوء مستفاد من الآية، مع الافتقار إلى تخصيص الخطاب بغير المحدِثين من غير دليل ضرورة أنه لا ندب بالنسبة إلى المحدث، فالوجه هو الأول. اهـ قال الطَّيبي: قال صاحب الفرائد: لا يجوز أن يكون للندب لأنَّ الإجماع منعقد على أنَّ الوضوء للصلاة فرض، ولأنَّ الأمر للوجوب إلا لمانع. قال: وأما الجواب عن السؤال الذي في الكشاف فهو أن يقال: تقدير الآية: وأنتم محدثون لوجهين: أحدهما أنه يستحيل بدون هذا التقدير أن يتفصى المكلف عن عهدة التكليف لأنه إذا أراد القيام إلى الصلاة وجب عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأراد القيام إلى الصلاة وجب عليه مرة أخرى أن يتوضأ وهلم جرا. وثانيهما: أنَّ التيمم بدل من الوضوء لقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) والبدل لا يمكن أن يكون مخالفاً للمبدل منه في السبب وإلا لا يكون البدل بدلاً، فلما كان موجب التيمم عند عدم الماء حالة الحدث كان كذلك في الوضوء لأنه إما سبب أو شرط. اهـ قوله: (وقيل: كان ذلك أول الأمر ثم نسخ، وهو ضعيف). قال الشيخ سعد الدين: من جهة أنه لا يظهر له ناسخ من الكتاب والسنة المتواترة. اهـ وأقول: روى الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في المستدرك والبيهقي عن عبد الله بن حنظلة ابن الغسيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلاها وحرموا حرامها). رواه أحمد والحاكم وصححه عن عائشة موقوفاً. قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أجده مرفوعاً. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته). أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة. قوله: (وجره الباقون على الجوار ... ) إلى آخره. المعروف في النحو اختصاص الجر على الجوار بالنعت والتأكيد، وأنه في العطف ضعيف، وقد نبه عليه أبو حيان. وقال ابن الحاجب: الخفض على الجوار ليس بجيد إذ لم يأت في الكلام الفصيح وإنما هو شاذ في كلام من لا يؤبه له من العرب. لكن قال أبو البقاء في إعرابه: (وَحُورٍ عِينٍ) -على قراءة من جر- معطوف على قوله (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) والمعنى مختلف إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين، والجوار مشهور عندهم في الإعراب والصفات وقلب الحروف والتأنيث.

فمن الإعراب ما ذكر، ومن الصفات قوله (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) وإنما العاصف الريح، ومن قلب الحروف: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، ومن التأنيث: ذهبت بعض أصابعه، ومنه قولهم: قامت هند، ولم يجيزوا حذف التاء إذا لم يفصل بينهما فإن فصلوا أجازوا ولا فرق بينهما إلا المجاورة وعدمها. اهـ وقال الطيبي: يمكن أن يجاب عن قول ابن الحاجب بأن العطف على الجوار إنما يكون محذوراً إذا وقع الإلباس، وأما إذا انتهضت القرينة على توخي المراد وارتفع بها اللبس فلا بأس، كما أنه تعالى لما عطف الأرجل على الرءوس وأوهم الكلام اشتراكاً في المسح استدرك ذلك بضرب الغاية في الأرجل ليؤذن أن حكمها حكم المغسولة مع رعاية الاقتصاد في صب الماء. قال: وحمل الزجاج الجر على غير الجوار فقال: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالخفض على معنى فاغسلوا، لأن قوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قد دل عليه لأن التحديد يفيد الغسل كما في قوله (إِلَى الْمَرَافِقِ) ولو أريد المسح لم يحتج إلى التحديد كما قال في الرءوس (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) من غير تحديد، وتنسيق الغسل على المسح كما قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحاً أي متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً. واختار صاحب الانتصاف هذا الوجه، وكذا ابن الحاجب في الأمالي ورد الأول قال: هذا الأسلوب أي عطف (وَأَرْجُلَكُمْ) على (بِرُءُوسِكُمْ) مع إرادة كونه مغسولاً من باب الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى ولكل واحد متعلق جوزت ذكر أحد الفعلين وعطف متعلق المحذوف على المذكور على حسب ما يقتضيه لفظه حتى كأنه شريكه في أصل الفعل كقوله: علفتها تبناً وماءً بارداً قال الطَّيبي: وهذا الوجه والعطف على الجوار متقاربان في المعنى، لأن صاحب المعاني إذا سئل عن فائدة إضمار قوله: (حاملاً) والاكتفاء بقوله (متقلداً) دون

العكس لا بد أن يزيد على فائدة الإيجاز بأن يقول: إن الرمح صار في عدم الكلفة في حمله كالسيف، لا سيما إذا ورد مثل هذا التركيب في الكلام الحكيم سبحانه وتعالى، وهنا مرادف منه وذلك أنه تعالى لما بين حد الأيدي راعى المطابقة بين الأيدي والمرافق بالجمع، وحين بين حد الأرجل وضع التثنية موضع الجمع، وأنت قد عرفت أن البلغاء إنما يعدلون عن مقتضى الظاهر إلى خلافه لنكته، والنكتة هاهنا: أنه تعالى لما قرن الأرجل مع الرأس الممسوح اهتم بشأنه وأخرجه هذا المخرج لئلا يتوهم متوهم أنَّ حكمه حكم الممسوح بخلاف المرفقين كأنه قيل: يا أمة محمد اغسلوا أيديكم إلى المرافق ويعمد كل واحد منكم إلى غسل ما يشمل الكعبين من الرجْل الواحدة. اهـ قلت: وأحسن ما قيل في الآية أنه معطوف على الممسوح لإفادة مسح الخف، كما أفادت قراءة النصب غسل الرجلين المتجردة منه، فتكون كل قراءة أفادت حكماً مستقلاً، ومن ذهب من العلماء إلى أنه يخير في الرجل بين الغسل والمسح فلا إشكال، ويمكن أن يدعي لغيرهم أن ذلك كان مشروعاً أولاً ثم نسخ بتعين الغسل وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتاً. قوله: (وقرئ بالرفع على وأرجلكم مغسولة). قال الطَّيبي: دل على الإضمار قوله (فاغسلوا). قال: ولا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما. اهـ قوله: (أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه). قال الطَّيبي: المعنى جعل الله تعالى نعمة الرخصة تتميماً لنعمة العزائم، ثم تمم بهما نعمة الإسلام وتخلص إلى قوله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ). اهـ قوله: (حين بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره).

أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة ابن الصامت. قال في النهاية: المنشط: مفعل من النشاط وهو الأمر الذي تنشط له وتؤثر فعله، وهو مصدر بمعنى النشاط. اهـ قال ابن الجوزي: كانت هذه المبايعة في العقبة الثانية في سنة ثلاث عشرة من النبوة، وأما العقبة الأولى ففي سنة إحدى عشرة. اهـ قوله: (أي العدل أقرب إلى التقوى). قال الراغب: إن قيل كيف قال (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) و (أفعل) إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية، وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من جملة العدالة؟ قيل: إن (أفعْل) وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعاً لكلامه وإظهاراً لتبكيته، فيقال لمن اعتقد مثلاً في زيدٍ فضلاً وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمراً أفضل منه: أخدم عمروا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله تعالى (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد علم أن لا خير فيما يشركون. اهـ قوله: (فإن الوعد ضرب من القول). قال الزجاج: وَعَدَ بمنزلة قال، لأن الوعد لا ينعقد إلا بالقول. اهـ وقال السفاقسي: إجراء وعد مجرى قال مذهب الكوفيين لا البصريين، لأنه لا تحكى الجمل عندهم إلا بصريح القول. اهـ قوله: (روي أن المشركين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان ... ) الحديث. أخرجه مسلم من حديث جابر، والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، وابن

قوله: (ينقب عن أحوال قومه).

جرير من حديث ابن عباس. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام: أتى قريظة ... ) الحديث. أخرجه أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس، وأخرجه ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن رومان والذي في روايتهم أن للمقتولين عهداً بأنهما كانا مسلمين وأن الخروج إلى بني النضير لا إلى قريظة. قوله: (وقيل نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً وعلق سلاحه ... ) الحديث. أخرجه الشيخان من حديث جابر. قوله: (يقال بسط إليه يده: إذا بطش به، وبسط إليه لسانه: إذا شتمه). قال الشيخ سعد الدين: أصل البسط فيهما المد، وإنما البطش والشتم حاصل المعنى فلا يكون (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ) من الجمع بين المعنيين المختلفين للفظ واحد. قوله: (ينقب عن أحوال قومه). قال الزجاج: النقب الطريق في الجبل، وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعلم مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. ويقال فلان حسن النقيبة: أي جميل الخليقة، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط: أي بلغت في النقب إلى آخره. اهـ قوله: (روي أن بنى إسرائيل لما فرغوا ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن السدي نحوه.

قوله: (وأصله الذب). قال الزجاج: (عَزَّرْتُمُوهُم): نصرتموهم، لأن العزر في اللغة: الرد، وعزرت فلاناً: أدبته، معناه: فعلت به ما يردعه عن القبيح، كما أن نكلت به معناه: فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاودة، والناصر يرد عن صاحبه عداه، وهو يستلزم التعظيم والتوقير، ومن فسر التعزير بالتعظيم أراد هذا. اهـ قال الطَّيبي: فهو حقيقة في الرد والمنع، وكناية عن التعظيم والنصرة. وقال الراغب: التعزير: النصرة مع التعظيم قال تعالى (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)، والتعزير: ضربٌ دون الحد وذلك يرجع إلى الأول وأنه تأديب، والتأديب نصرةٌ ما، لكن الأول: نصرة بقمع العدو عنه، والثاني: نصره بقهره عن عدوه، فإن أفعال الشر عدو للإنسان فمتى قمعته عنها فقد نصرته، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال: انصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تكفه عن الظلم. اهـ قوله: (ومنه التعزير). قال في الكشاف: التعزير والتأديب من واد واحد. اهـ قال الشيخ سعد الدين: لاشتراكهما في معنى التأكيد والتقوية، وفي أكثر الحروف مع قرب مخرجي العين والهمزة. اهـ قوله: (جواب للقسم المدلول عيه باللام فى لئن ساد مسد جواب الشرط). قال أبو حيان: ليس كما ذكر، لا يسد (لَأُكَفِّرَنَّ) مسدهما، بل هو جواب للقسم فقط وجواب الشرط محذوف. اهـ وقال الحلبي: إذا اجتمع قسم وشرط أجيب سابقهما إلا أن يتقدم ذو خبر فيجاب الشرط مطلقاً، وقوله (لَأُكَفِّرَنَّ) هذه اللام هي جواب القسم لسبقه وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهذا معنى كلام الكشاف لا كما فهمه أبو حيان

قوله: (خيانة)

ورده عليه. اهـ قوله: (بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم). عبارة الكشاف: المعلق بالوعد العظيم. وقد أورد عليها أنَّ الوعد بتكفير السيئات وإدخال الجنات جزاء للشرط، والجزاء هو المتعلق بالشرط لا الشرط بالجزاء، فالعبارة مقلوبة فلذلك أصلحها المصنف. وقال الطَّيبي: انظر إليهم كم خبطوا في الحواشي وكادوا يضلون كثيراً بعد أن ضلوا لولا أن الله تعالى أعطى القوس باريها، والحق أن الوعد العظيم في كلام الكشاف هو قوله (إِنِّي مَعَكُمْ) وأي وعد أعظم من ذلك لأنه مشتمل على جميع ما يصح فيه الوعد من النصرة وتكفر الذنوب وإدخال الجنة والغفران والرضوان والروية وغيرها، وتعلق الشرط به -وهو قوله تعالى (لَئِنْ أَقَمْتُمُ ... ) إلى آخره- من حيث المعنى كما تقول لصاحبك: أنا مُعنى في حقك جداً إن خدمتني لم أضيع سعيك، أفعل بك وأصنع بك كيت وكيت، فالشرط مع الجزاء مقرر لمعنى الجملة الأولى. اهـ قوله: (وتركوا نصيباً وافياً) يشير إلى أن التنكير في (حظاً) للتعظيم، قاله الطَّيبي. قوله: (روي عن ابن مسعود قال: ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية). أخرجه أحمد بن حنبل في الزهد نحوه، ولفظه: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. قوله: (خيانة) أي فيكون مصدراً كالعاقبة. قال أبو حيان: ويدل على ذلك قراءة الأعمش (على خيانة). اهـ

قوله: (وإنما قالوا إنا نصارى ... ). قال الطَّيبي: يعني ما فائدة العدول من النصارى إلى الإطناب؟ وحاصل الجواب: أنه إنما عدل لتصور تلك الحالة في ذهن السامع، وتقرر عندهم أنهم ادعوا نصرة دين الله تعالى ونحوه قوله تعالى (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) عدل عن اسمها زيادةً لتقرير المراودة. اهـ في الانتصاف: لما كان المقصود من هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم بنصرة الله أتى بما يدل على أنَّهم لم يوفوا بما عاهدوا عليه من النصرة، فحاصل ما صدر منهم قول بلا فعل. اهـ قوله: (يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال). تعليل لتسمية القرآن بالنور، قاله الطَّيبي. قوله (والكتاب الواضح الإعجاز). تعليل لوصفه بالمبين على أنه من بَانَ الشيء، قاله الطيبي. قوله: (وقيل يريد بالنور محمد - صلى الله عليه وسلم) هو اختيار الزجاج. قال الطَّيبي: والأول أوفق لتكرير قوله (قد جاءكم) بغير عاطف فعلق به أولاً وصف الرسول وثانياً: وصف الكتاب. قال: وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد وهي النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم، فقوله تعالى (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) يرجع إلى قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) أي يهدي بالبيان إلى طريق السلام من اتبعه، وقرئ مرضاة الله، وقوله (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ) يرجع إلى قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ)، وقوله (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى

صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يرجع إلى قوله (وَكِتَابٌ مُبِينٌ) كقوله (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ). اهـ قوله: (أو سبل الله). قال الشيخ سعد الدين: على أن يكون السلام من أسماء الله تعالى وضع موضع المضمر رداً على اليهود والنصارى القائلين باتصافه بنقيصة شبه المخلوقين. اهـ قوله: (فمن يمنع من قدرته ... ). قال الشيخ سعد الدين: ظاهره أن (يَملِك) مجاز عن يمنع أو متضمن معناه، و (مِنَ اللهِ) متعلق به على حذف المضاف، لكن ذكر في الكشاف في سورة الأحقاف في قوله تعالى (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا) [فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي، ولا تطيقون دفع شيء من عقابه، ثم قال ومثله (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا)] وحقيقته: فمن يستطيع إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد أن يهلكه الله تعالى وإن لم يستطع إمساكه ودفعه عنهم فلن يمنعهم منه، فلذا أفسره بالمنع أخذاً بالحاصل، وحقيقة الملك: الضبط والحفظ عن حزم، تقول: ملكت الشيء إذا دخل تحت حفظك دخولاً تاماً، ولن أملك رأس البعير إذا لم تستطعه. اهـ قوله: (كما قيل لأشياع ابن الزبير الخبيبون لأنه كان يكنى أبا خبيب باسم ابنه خبيب). قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدى. روى بلفظ التثنية يريد ابن الزبير وابنه، وبلفظ الجمع قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان على رأيه. قال ابن المنير: ومنه قول الملائكة لأنهم خواص عباد الله تعالى (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إلى أن قالوا (إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)

والمقدر هو الله تعالى، وكذلك قول دابة الأرض لأنَّها من خواص آيات الله (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ). اهـ قوله: (على حين فتور). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن يعلق بـ (جاءكم) تعلق الظرفية كما في قوله (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)، وهذا أولى من جعله حالاً من ضمير (يُبَيِّنُ) على ما لا يحفى. اهـ وزاد أبو البقاء أنه حال من الضمير المجرور في (لَكُم)، و (مِنَ الرُّسُلِ) نعت لـ (فَترَة). قوله: (كراهة أن تقولوا). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أنه في موقع المفعول له، ولو لم يقدر المضاف جاز حذف اللام بلا تأويل لكن لا بد من تقدير لا، أي: لئلا يقولوا. اهـ قولة: ((فقد جاءكم) متعلق بمحذوف). قال الشيخ سعد الدين في فاء الفصيحة: إنَّها تفصح عن المحذوف، وتفيد بيان سببه كالتي تذكر بعد الأوامر والنواهي بياناً لسبب الطلب، لكن كمال حسنها وفصاحتها أن تكون مبنية على التقدير، منبئة عن المحذوف، بخلاف قولك: اعبد ربك فالعبادة حق له، ومبنى الفاء الفصيحة على الحذف اللازم بحيث لو ذكر لم تكن تلك الفصيحة، وتختلف العبارة في تقدير المحذوف، فتارة أمراً ونهياً كما في هذه الآية، وتارةً شرطاً كما في قوله تعالى (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ)، وتارة معطوفاً عليه كما في قوله (فَانفَجَرَتْ)، وقد يصار إلى تقدير القول كما ذكر في قوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ). اهـ

قوله: (وقيل لما كانوا مملوكين. . .)

(فائدة): قال الطيبي: يناسب هذا المقام ما قال الإمام في المعالم أن عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان العالم مملوءاً من الكفر والضلالة، أما اليهود فكانوا في المذاهب الباطلة من التشبيه والافتراء على الأنبياء وتحريف التوراة، وأما النصارى فقد قالوا بالتثليث والأب والابن والحلول والاتحاد، وأما المجوس فأثبتوا إلهين، وأما العرب فانهمكوا في عبادة الأصنام والفساد في الأرض، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - انقلبت الدنيا من الباطل إلى الحق ومن الظلمة إلى النور، وانطلقت الألسن بتوحيد الله، واستنارت العقول بمعرفة الله، ورجع الخلق من حب الدنيا إلى حب المولى. اهـ قوله: (وقيل لما كانوا مملوكين ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: فيكون المجاز في لفظ الملوك، وعلى الأول في الإثبات للكل وإنما كان للبعض. اهـ قوله: (وقيل المراد بـ (العالمين) عالمي زمانهم). قال الطَّيبي: يعني إن جعلت العالمين عاما وجب تخصيص (ما) لئلا يلزم أنَّهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمة من الكرامة والفضل وغير ذلك، وإن خصصته بعالمي زمانهم فـ (ما) باقية على عمومها إذ لا محذور. اهـ قوله: (ورفعه عطفاً على الضمير في (لا أملك)). زاد في الكشاف: وجاز للفصل. قال أبو حيان: يلزم من ذلك أن موسى وهارون لا يملكان إلا نفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك بل على إن موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط. قال الحلبي: هذا الرد ليس بشيء لأن القائل بهذا الوجه صرح بتقدير المفعول بعد الفاعل المعطوف، وأيضاً اللبس مأمون فإن كل أحد يتبادر إلى ذهنه أنه يملك أمر نفسه. اهـ وقال السفاقسي: أراد بعطفه على الضمير المستكن أنه بتقدير فعل، فيكون من جملة فعلية، أي: ولا يملك أخي إلا نفسه، فلا يلزم ما ذكر. اهـ

قوله: (وإنما قال (بباسط)

[وقال ابن هشام في شرح الشذور: في هذا الإعراب نظر، لأن المضارع المبدوء بالهمزة لا يرفع الاسم الظاهر، لا تقول: أقوم زيد، فكذلك لا يجوز أن يعطف الاسم الظاهر على الاسم المرفوع به. اهـ قلت: يجاب عن هذا بأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل.] قوله: (عامل الظرف). قال الطيبي: أي أربعين سنة إما محرمة (وإما يتيهون) فيكون التحريم مؤقتاً. اهـ قال الزجاج: نصبه بـ (محرمة) خطأ، لأنه جاء في التفسير أنَّها محرمة عليهم أبداً، فنصبه بـ (يتيهون). اهـ قوله: (أو بدل على حذف مضاف، أي أتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت). قال أبو حيان: هذا ممنوع لأن (إذ) لا يضاف إليها إلا الزمان، و (نبأ) ليس بزمان. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: إنما قدر المضاف ليصح كونه متلواً، وإلا فمجرد الظرفية كاف في الإبدال لحصول الملابسة. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل). أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات من حديث خباب ابن الأرت. قوله: (وإنما قال (بباسط) فى جواب لأن بسطت ... ) إلى آخره. في الكشاف: فإن قلت لم جاء الشرط بلفظ الفعل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفى. اهـ

قال الطَّيبي: أي لا أفعل فعلاً يشتق منه هذا الوصف بأن يقال مثلاً: هو باسط اليد فإن الفعل الصادر عن الشخص ملزوم كونه فاعلاً، فإذا انتفى اللازم لينتفى الملزوم على الكناية كان أبلغ وأدل على شناعة الفعل. اهـ في الانتصاف: صيغة الفعل لا تعطي إلا حدوث معناه من الفاعل لا غير، وأما اتصاف الذات به فذلك أمر يعطيه اسم الفاعل، تقول: قام زيد فهو قائم، تجعل اتصافه بالفعل ناشئاً عن صدوره، ومنه (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) عدل عن الفعل إلى الاسم تغليظاً، إذ يصير ذلك كالسمة والعلامة الثابتة. اهـ قال أبو حيان: قوله (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ) ليعر جزاءً للشرط بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في (لَئِنْ)، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. اهـ (قال السفاقسي: إنَّ مراد الزمخشري أنه جواب الشرط في المعنى لأنه دال عليه) لا من حيث الصناعة، وكثيراً ما يتكلم الزمخشري من حيث ما يعطيه المعنى. اهـ وكذا قال الحلبي. وقال الطيبي: في التركيب تأكيدٌ ومبالغةٌ، لأن اللام في (لَئِنْ) موطئة للقسم و (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ) جواب القسم ساد مسد جواب الشرط. اهـ قوله: (الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ). أخرجة مسلم من حديث أبي هريرة. قال الطَّيبي: (الْمُسْتَبَّانِ) مبتدأ وقوله (مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ) جملة شرطية خبر له، و (ما) في قوله (مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ) مصدرية فيها معنى المدة، وهي ظرف لمتعلق

الجار والمجرور الذي هو خبر المبتدأ، المعنى: الْمُسْتَبَّانِ الذي قالا فيه استقر ضرورة على الذي بدأ بالسب مدة عدم اعتداء المظلوم، أي ما لم يجاوز المظلوم حد ما سبه البادئ، فإذا جاوز استقر ضرر ما قالاه عليهما معاً. اهـ قوله: (وقيل معنى بإثمي ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: هنا معنى آخر رواه محي السنة عن مجاهد: أني أريد أن تكون عليك خطيئتي التي عملتها إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً. اهـ قوله: (و (له) لزيادة الربط). قال أبو حيان: يعني أنه لو جاء: فطوعت نفسه قتل أخيه، لكان كلاماً جارياً على كلام العرب، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام، إذ الربط يحصل بدونه كما أنك لو قلت: حفظت مال زيد، كان كلاماً تاماً. اهـ قوله: (عقبة حِراءٍ). (بكسر الحاء) والمد والتنوين. قوله: (روي أنه لما قتله تحير في أمره ... ) إلى آخره. أخرجه عبد بن حميد عن عطية العوفي. قوله: ((فَأُوَارِيَ) عطف على (أكون) وليس جواب الاستفهام ... ) إلى آخره. يشير إلى الرد على صاحب الكشاف حيث جعله منصوباً على جواب الاستفهام. قال أبو حيان: هذا خطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جواب للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب شرط وجزاء، وهنا (لا تنعقد)، تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى: إن تزرني أكرمك، وقال تعالى (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)، ولو قلت هنا: أن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوءة أخي لم يصح، لأن المواراة لا تترتب على عجزه. اهـ

وسبقه إلى ذلك أبو البقاء، وتابعه ابن هشام والحلبي والسفاقسي. وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر هو العطف على (أكُون)، لا جواب الاستفهام إذ من شرطه كون الأول سبباً للثاني، والعجز لا يصلح سبباً للمواراة، ولا يصح: أن عجزت واريت. اهـ قوله: (أو على تسكين المنصوب تخفيفاً). قال أبو حيان: الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفاً، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على وجه صحيح، وقد وجد وهو في الاستئناف، أي: فأنا أواري. اهـ وقال الطَّيبي: قال المبرد هذا من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر. اهـ قوله: (روي أنه لما قتله أسود جسده). قوله: (أي: مفسدين). يعني أنَّ (فسادا) نصب على الحال بجعله في معنى اسم الفاعل. قوله: (وفي الحديث (الوسيلة منزلة في الجنة)). أخرجه مسلم. قوله: (واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه (لو) ... ) إلى آخره. وهو على رأي الزمخشري من أنَّ (أنَّ) إذا وقعت بعد (لو) كانت فاعلاً يثبت مقدراً، وهو خلاف مذهب سيبويه. ولذا قال أبو حيان: أن اللام متعلقة بما تعلق به خبر (أنَّ) وهو (لهم). قوله: (أو لأن الواو فى (ومثله) بمعنى مع). قال أبو حيان: هذا ليس بشيء لأنه يصير التقدير: مع مثله معه، وإذا كان ما في

الأرض مع مثله (كان مثله) معه ضرورةً، فلا فائدة في ذكره معه لملازمة معية كل منهما للآخر. اهـ وأجاب الطَّيبي بأنَّ (مَعَهُ) على هذا تأكيد. وقال السفاقسي: جوابه أنَّ التقدير ليس كالتصريح، والواو مضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح بمعنى مع، وكثيراً ما يكون التقدير بخلاف التصريح كقولهم: رب شاة وسخلتها، لم يجز. اهـ وقال الحلبي: قد يجاب بأنَّ الضمير في (مَعَهُ) عائد على (مِثلَهُ)، ويصير المعنى مع مثلين، وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد. اهـ قوله: (والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم). قال الشيخ سعد الدين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية، بل إيراد مثالٍ وحكمٍ يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى. قال: ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال: حالهم في عدم التفصي عن الجواب بمنزلة حال من يكون له أمثال ما في الأرض جميعاً يحاول بها التخلص من العذاب ولا يتقبل منه ولا يخلص. اهـ وقال الطَّيبي: أي إذا أخذته بجملته [كان كناية عن أنَّ الوسائل حينئذ غير نافعة، فيكون وزان الآية مع قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) وزان قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ). قوله: (وجملة عند المبرد ... ) إلى آخره. إنما لم يجز عند سيبويه ذلك لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ولا بما

قوله: (وقرئ بالنصب، وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بإضمار وتأويل)

قام مقامها من ظرف أو مجرور، بل الموصول هنا (ال) وصلة (ال) لا] تصلح لأداة الشرط، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صار الإعراب في الصلة بخلاف الظرف والمجرور فإن العامل فيها جملة لا تصلح لأداة الشرط. قوله: (وقرئ بالنصب، وهو المختار في أمثاله لأنّ الإنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار وتأويل). زاد في الكشاف: وقولك زيداً فاضربه أحسن من قولك زيدٌ فاضربه. اهـ وعلله خارج الكشاف بأنَّ الفاء لمعنى الشرط، والشرط يختص بالفعل، والمنصوب أدعى للفعل من المرفوع، فتقدير المثال زيداً أي شيء كان فلا تدع ضربه. وقال الزجاج: الجماعة أولى بالاتباع، ولا أحب القراءة بالنصب لأن اتباع القراءة سنة، والذي يدل على أن الرفع أجود في (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) قوله تعالى (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا). اهـ وقال المبرد: الاختيار أن يكون (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) رفعا بالابتداء، لأن القصد لا إلى واحد بعينه، وليس هو مثل: زيدا فاضربه وإنما هو كقولك: من سرق فاقطع يده، ومن زنى فاجلده. وقال الطَّيبي: قال شارح اللب في قوله: وقائلة خولان فانكح فتاتهم، أن (خولان) مبتدأ، (فانكح) خبره وقد دخل عليه الفاء، والتقدير: هؤلاء خولان فانكح، كما تقول: زيد فلتقم إليه، أي: هذا زيد، فدخول الفاء يدل على أن وجود هذه القبيلة علة لأن يتزوج منها ويتقرب إليها لحسن نسائها وشرفها. قال الطَّيبي: فرجع معنى قوله زيد فاضربه بالرفع إلى استحقاق زيد للضرب بما اكتسب ما يستوجبه، فإن ذلك معهود بين المخاطب والمتكلم فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف المناسب مثل قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)، وليس كذلك زيدا فاضربه لأنه من باب الاختصاص مع التأكيد كما في قوله (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، فصح قول المبرد وليس هو مثل زيداً فاضربه.

وقال صاحب الفرائد: الأمر لا يصح أن يكون خبراً فيؤول إما بتقدير: فمقول فيهما اقطعوا، أو أنَّ المبتدأ لما كان متضمناً للشرط وأنه جواب له صح أن يكون خبراً كأنه قال: إن سرق فاقطعوا. وقال ابن المنير: الاستقراء يدل على أنَّ العامة لا تتفق في القراءة على غير الأفصح، وجدير بالقرآن ذلك وهو أحق به من كلام العرب، وسيبويه يحاشي عن اعتقاد ورود القرآن عن الأفصح وحمله على الشاذ، وهذا لفظ سيبويه لتعلم براءته من ذلك. قال في باب الأمر والنهى بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب وتلخيصه: أنَّ من بنى الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال: كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب وأما قوله عز وجل (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) فلم يبن على الفعل لكنه على مثال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ثم قال بعد (فِيهَا أَنْهَارٌ). يريد سيبويه تمييز هذه الآية عما يختار فيه النصب فإنه في هذه الآية ليس الاسم مبيناً على الفعل بخلاف غيرها، ثم قال سيبويه: وإنما وقع المثل للحديث الذي ذكر بعده، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة فهو محمول على هذا فكذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) لما قال تعالى (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) قال في جملة الفرائض (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء (فَاجْلِدُوا) بعد أن قضى فيهما الرفع، يريد سيبويه إنه لم يكن الاسم مبنياً على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف وجاء الفعل طارئاً عليه. قال سيبويه: وقد جاء: وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم جاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، كذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي: فيما فرض عليكم، وقد قرأ ناس (وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ولكن أبت العامة إلا الرفع. يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل غير معتمد على ما تقدم، فكان قوياً بالنسبة إلى الرفع حيث بنى الاسم على الفعل لا على الرفع حين يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فقد سبق منه أنه يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، والتبس على الزمخشري لأنه ظن الكل باباً واحداً ألا تراه قال: زيداً

فاضربه أحسن من رفع زيد، رجح النصب مطلقاً، وسيبويه صرح بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، وحققه بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير إضمار خبر بل يرفعه بالابتداء والأمر خبره، فتلخص أنَّ النصب له وجه واحد وهو بناء الاسم على الفعل، والرفع على وجهين أضعفهما: بناء الكلام على الفعل، وأقواهما: رفعه بخبر مبتدأ محذوف، فتحمل القراءة المشهورة على القوي. اهـ وذكر أبو حيان نحو ذلك فقال: وأما قوله يعني الزمخشري في قراءة عيسى أن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح، وتعليله بقوله: فإن زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه تعليل ليس بصحيح، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان أحدهما زيداً والثاني زيد فاضربه، فالتركيب الأول اختار فيه النصب ثم جوز الرفع بالابتداء، والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء، وتكون الجملة الأمرية خبراً له لأجل الفاء، وأجاز نصبه على الاشتغال أو على الإغراء، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتين، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف، أي هذا زيد فاضربه، ثم ذكر الآية فخرجها على حذف الخبر، ودل كلامه على أن هذا التركيب لا يكون إلا على جملتين الأولى ابتدائية، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة إنما قال: وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة، أي نصبها على الاشتغال أو على الإغراء وهو قوي لا ضعيف، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء، وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره أو خبر حذف مبتدأه وبين نصبه على الاشتغال بأن الرفع يلزم منه حذف خبر واحد، والنصب فيه حذف جملة وإضمار أخرى وزحلقة الفاء عن موضعها. اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: القطع فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ... ) الحديث. أخرجه الشيخان من حديث عائشة بلفظ: تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.

قوله: (ويؤيده قراءة ابن مسعود (أيمانهما)). أخرجه ابن جرير وابن المنذر. قوله: (ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) اكتفى بتثنية المضاف إليه). قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على الجمع لأنَّ الإضافة تبينه فإذا قلت: أشبعت بطونهما، علم أنَّ للاثنين بطنين فقط. اهـ قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يستقيم تشبيه ما في الآية بقوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) لأنَّ لكل من السارق والسارقة يدين اثنين فيجوز الجمع وأن تقطع الأيدي كلها جميعاً من حيث ظاهر اللغة. اهـ وكذا قال أبو حيان: لا يصح هذا التنظير لأن باب (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية، لأنه ليس في الجسد منه إلا واحد بخلاف اليدين لا يطرد. اهـ وقال الحلبي: هذا الرد ليس بشيء لأنَّ الدليل دل على أن المراد اليمنيان. اهـ وقال السفاقسي: التنظير صحيح لأن الدليل الشرعي قد قام على أنَّ محل القطع اليمين، وليس في الجسد إلاّ يمين واحدة فجرت مجرى آحاد الجسد، فجمعت كما جمع الوجه والظهر والقلب. اهـ قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه). أخرجه البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن عبد الله بن ربيعة. قوله: ((جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ) منصوبان على المفعول له). قال أبو حيان: هذا ليس بجيد، لأن المفعول له لا يتعدد إلا بحرف العطف إلا إذا كان الجزاء هو النكال فيكون ذلك على طريق البدل. اهـ

قوله: (قدم التعذيب على المغفرة إيتاءً على ترتيب ما سبق). قال الطَّيبي: يريد أنَّ في الآية لفاً ونشراً. اهـ قوله: (أو لأن استحقاق التعذيب مقدم). قال ابن المنير: إنما قُدم لأن السياق للوعيد. اهـ قال الطَّيبي: وهذا هو الحق لأن قوله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل للكلام السابق من لدن قصة موسى عليه الصلاة والسلام ومقاتلته الجبارين، وقصة قابيل وهابيل، وأحكام قطاع الطريق، وتحريض المؤمنين على الجهاد، وقطع السارق، وقد تخلص إلى نوع آخر من الكلام كأنه قيل: له الحكم سبحانه في ملكه كيف يشاء، منع أو أعطى عذب أو عفا، وهو على كل شيء قدير. اهـ قوله: (والباء متعلقة بـ (قالوا) لا بـ (آمنا)). قال الشيخ سعد الدين: لفساده لفظاً ومعنى. قال: وهو من الظهور بحيث لم يكن به حاجة إلى ذكره. اهـ قوله: (أي إن أوتيتم هذا المحرف). زاد الكشاف: المُزال عن مواضعه. قال الطَّيبي: هذا ليس بمقول لهم، بل المصنف وضعه موضع مقولهم كقولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ). اهـ وأقول: ما المانع أن يكون ذلك مقولهم، فإنَّهُم كانوا عالمين بأنهم حرفوه ومعترفين بذلك فيما بينهم. قوله: (روي أنَّ شريفاً من خيبر زنا بشريفة ... ) الحديث. أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة لكن ليس فيه أنهما من خيبر.

والتحميم: تسويد الوجه، من الحمَمَة وهي الفحمة. قوله: (وقرئ بفئتح السين على لفظ المصدر). قال الشيخ سعد الدين: وهو بمعنى المفعول. اهـ قوله: (بين الحكم والإعراض). أحسن من قول صاحب الكشاف: بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. قال الطَّيبي: لأنَّ الحريري منع مثل هذا التكرير في درة الغواص. قال: يقولون: المال بين زيد وبين عمرو بتكرير (بين) فيوهمون فيه، والصواب: بين زيد وعمرو كما قال تعالى (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)، والعلة فيه أن لفظة (بَيْنِ) تقتضي الاشتراك، ولا تدخل إلا على مثنى أو مجموع كقولك: المال بينهما والدار بين الإخوة، وأظن أنَّ الذي أوهمهم لزوم تكرير (بين) مع الظاهر وجوبَ تكريره مع المضمر في مثل قوله تعالى (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وقد وهموا في المماثلة بين الموطنين (وخفي عليهم الفرق الواضح بين الموضعين) وهو أنَّ المعطوف على الضمير المجرور من شرط جوازه تكرير الجار فيه نحو مررت بك وبزيد. اهـ قوله: ((وفيها حكم الله) حال من التوراة إن رفعتها بالظرف). زاد أبو البقاء: والعامل ما في (عند) من معنى الفعل، و (حُكمُ اللهِ) مبتدأ أو معمول الظرف. اهـ قال الشيخ سعد الدين: وجَعْلُ (التَّوْرَاةُ) مرفوعاً بالظرف المصدر بالواو الحالية محل نظر. اهـ

قوله: ((الذين أسلموا)

وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن في الظرف الخبر، قاله الطَّيبي. قوله: (وتأنيثها ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أن التوراة اسم أعجمي وتاء التأنيث إنما تكون في العربي. اهـ قوله: (كموماة). قال الجوهري: هي المفازة، وأصلها مؤموة على وزن فعللة، وهو مضاعف قلبت واوه ألفاً. اهـ قوله: (ودوداة). قال الطَّيبي: ما وجدتها في كتب اللغة، وفي الحاشية: أنَّها أرجوحة الصبي. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هي الأرجوحة التي يلعب بها الصبيان. قوله: (وبهذه الآية تمسك القائل به). قال الإمام: وتقريره أنه سبحانه قال في التوراة هدى ونور، والمراد هدى ونور في أصول الشرع وفروعه، ولو كان الحكم غير معتبر بالكلية لما كان فيه هدى ونور، ولأنَّ هذه الآية نزلت في مسألة الرجم فيجب أن تدخل الأحكام أيضاً في الهدى والنور. اهـ وقال الطَّيبي: هذا استدلال ضعيف لأنه يكفي في صدق كونها هدى (أن تكون هدى) قبل النسخ، وأما مسألة الرجم فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أولاً بالرجم فلما أبوا دعا بالتوراة تقريراً. اهـ قوله: ((الذين أسلموا) صفة أجريت على النبيين مدحاً لهم). قال ابن المنير: لما كانت النبوة تستلزم الإسلام حملها على المدح، وفيه نظر،

فالمدح يقع غالباً بصفة يتميز بها الممدوح عن غيره، ولا يجوز أن يقتصر في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - على كونه رجلاً مسلماً، والوجه أن الصفة تذكر لتعظيم في نفسها وينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر كما يعظم الموصوف بالصفة، ومنه وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ولذلك قال في الذين يحملون العرش (وُيؤمِنُونَ بِهِ) تعظيماً لقدر الإيمان وبعثاً للبشر على الدخول فيه ليساووهم فيه، وقد قيل أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وقال: ولئن مدحت محمد بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد. اهـ قال العلم العراقي: ومن أمثلته ما يكرر في الصافات عقب ذكر نبي بعد نبي (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). اهـ قال ابن المنير: فالنبوة أعظم من الإسلام، فلولا حملها على هذا لخرجنا عن قانون البلاغة في الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول من الأعلى إلى الأدنى، وقد قال المتنبي: شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صناعته لذلك. اهـ وقال الطَّيبي بعد حكاية كلام ابن المنير: الذي يقتضي العجب من هذا الفاضل قوله إنَّ الصفة ذكرت لتعظيم نفسها وتنويه شأنها إذا وصف بها عظيم القدر وليست بصفة مدح، فيقال: إذا لم تكن صفة مدح فهل تكون للتي للتفصيل والتمييز، أو للكشف والتوضيح، أو للتقرير والتوكيد إذ لا خامس، أم كيف يتسنى لك ما يقصد به من التعظيم أو التنويه وكونها مرغوباً بها إذا لم تحملها على المدح وتقول إذا كان النبيون صلوات الله وسلامه عليهم مع جلالة قدرهم ورفعة منصبهم يمدحون بوصف الإسلام فما بال الغير، فعند ذلك يحصل التنوية والترغيب.

وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله: لو أريد اختصاره لما انخرط في الذكر (وُيؤمِنُونَ بِهِ) إذ ليس أحد من مصدقي حملة العرش يرتاب في إيمانهم، ووجه حسن ذكره إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه. اهـ ولخص الشيخ سعد الدين الكلام فقال: اعترض عليه بأنَّ النبوة أعظم من الإسلام فكيف يمدح نبي بأنه رجل مسلم، فالوجه أنه للتنويه بشأن الصفة والتنبيه على عظيم قدرها حيث وصف بها عظيم كما في وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان فإن أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وإلا فلا خفاء في أنَّ النزول من الأعلى إلى الأدنى قصور في البلاغة. قال: والجواب أنَّ المراد أنَّها صفة أجريت عليهم على طريق المدح دون التخصيص أو التوضيح لكن لقصد المدح لئلا يلزم ما ذكرتم بل لقصد التعريض باليهود وأنهم برآء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم. اهـ قال الطَّيبي: ثم في إقران (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) بقوله (لِلَّذِينَ هَادُوا) والإرادة أن الأنبياء المسلمين يحملون اليهود على أحكام التوراة تصريح فيما عرض به أولاً. قال: والحاصل أنَّ في كل من اللفظين واختصاصه بالذكر رمز إلى معنى وإشارة دقيقة على سبيل الإدماج. اهـ قوله: (و (مِن) للتبيين). قال الطَّيبي: هذا لا يوافق تفسيره حيث قال: بسبب ... إلى آخره، لأنَّ (من) التبينية تستدعي موصولة، وقد فسره بما ينبني عن كونها مصدرية لكن مراده تلخيص المعنى. اهـ قوله: (ويداهنوا فيها). في الأساس: ومن المجاز أدهن في الأمر وداهن: صانع ولاين. اهـ قوله: (كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم، والظالمون في اليهود، والفاسقون فى النصارى).

قوله: (أي: واتبعناهم على آثارهم فحذف المفعول. . .)

(قيل: يلزم على هذا أنَّ يكون المؤمنون أسوأ حالاً من اليهود والنصارى). قال الطيبي: ويمكن أن يقال إن المسلمين إذا نسب إليهم الكفر حمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وصف بالظلم والفسق أشعر بعتوهم في الكفر وتمردهم فيه. اهـ قوله: (معطوفة على (أن) وما فى حيزها باعتبار المعنى) قال أبو حيان: هو من العطف على التوهم لا من العطف على المحل لأنه محصور وليس هذا منه إذ طلب الرفع في الأول مفقود. اهـ وعبارة الزجاج: العطف على موضع (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والعامل فيها المعنى، (وكتبنا عليهم) أي: قلنا لهم النَّفْس بِالنَّفْسِ. اهـ قوله: (العين مفقودة بالعين ... ) إلى آخره. قال أبو حيان: يحمل هذا على (تفسير المعنى لا على) تفسير الإعراب، لأن المجرور إذ وقع خبراً يكون العامل فيه الكون المطلق لا المقيد كما قرره هنا الحوفي وغيره، أي: يستقر أخذها بالعين ونحوه. اهـ قال الشيخ ولي الدين: وهذا من الزمخشري على حد ما قدره في البسملة من قوله اقرأ ولم يقدر ما قدره غيره. قوله: (أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن فى قوله (بِالنَّفْسِ)). قال الطَّيبي: المعنى أنَّ النفس هي مأخوذة بالنفس والعين معطوفة على هي. اهـ قوله: (أي: واتبعناهم على آثارهم [فحذف المفعول ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: إشارة إلى أنَّ الأصل: قفيناهم على آثارهم] كقولك: قفيته بفلان. اهـ وقال أبو حيان: هذا الكلام يحتاج إلى تأمل (1) فإنه جعل (وَقَفينَا) متعدياً لمفعول بنفسه

_ (1) في الأصل [تَأْوِيلٍ] والتصويب من البحر المحيط. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

ثم عداه لثان بالباء قَلَّ أَنْ يُوجَدَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ [لا يُوجَدُ] (1) وَلا يَجُوزُ، وقوله إن المفعول الأول محذوف والجار والمجزور كالساد مسده لا يتجه لأن المفعول به الصريح لا يسد مسده الظرف. اهـ قوله: (على أنَّ (أن) موصولة بالأمر). قال الشيخ سعد الدين: جرت عادة صاحب الكشاف بتجويز صلة (أن) بالأمر والنهي، ومعناه مصدر طلبي ولا بد له من موقع من الإعراب، وهو هنا بالنصب عطفاً على الإنجيل، كأنه قيل: آتيناه الإنجيل، والحكم الطلبي من أهل الكتاب وحاصله: أنا أمرنا بأن [يحكم أهل الكتاب فلذا قدره كذلك. قال: ولا يخفى أنَّ الكلام بعد موضع حقاً، وقد حققه في سورة نوح، قوله (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أنَّ أن الناصبة للمضارع، والمعنى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا بأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، أي بأن قلنا له أن أنذر قومك، أي الأمر بالإنذار، وعلى هذا يكون المعنى: وآتينا الأمر بأن يحكم أهل الإنجيل، وهو معنى أمرنا بأن] يحكم أهل الإنجيل. اهـ قوله: (وقرى ببنية المفعول). أي: ومهيمَناً بفتح الميم. قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يكون فيه ضمير، والضمير في (عَلَيْهِ) يعود إلى الكتاب الأول، وعلى قراءة كسر الميم فيه ضمير يعود إلى الكتاب الأول وضمير (عَلَيْهِ) إلى الكتاب الثاني. اهـ قوله: (أو الحفاظ فى كل عصر). قال الطَّيبي: هذا أيضاً من حفظ الله سبحانه، وفي الحقيقة الحافظ هو الله وحده لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). اهـ قوله: (فـ (عن) صلة لـ (لا تتبع) (2) لتضمنه معنى لا تنحرف).

_ (1) ما بين المقوفتين زيادة من البحر المحيط. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية). (2) في الأصل (ألا تتبع) والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

قال الطَّيبي: المعمول عليه في التضمين إيقاع الفعل المضمن فيه حالاً وإقامة المضمن مقامه لتعم الفائدة. قال صاحب الكشاف في سورة الكهف: الغرض في هذا الأسلوب إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى واحد. اهـ قال الطَّيبي: فإن قلت هلا حمله على الحال ليكون المعنى: لا تتبع أهواءهم منحرفاً عما جاءك من الحق؟ قلت: المقام يستدعي ذم القوم وهذا أدخل في الذم، كأنه نهى عن الانحراف عن الحق مطلقاً ثم أتى بما ظهر أن ذلك الانحراف هو متابعة أهواء أولئك الزائغين إيذاناً بأن أولئك أعلام في الانحراف عن الحق، ولا كذلك الحال فإنه قيد للفعل فيوهم أنه يجوز المتابعة إذا زال الانحراف، ويقرب منه قولك: هل أدلك على أفضل الناس وأكرمهم فلان، فإنه أبلغ من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل. اهـ قوله: (واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة). قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة أنَّ الخطاب يعم الأمم، والمعنى لكل أمة لا لكل أحد من أفراد الأمة، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كانت متعبدة بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص. قال: والجواب بعد تسليم دلالة الإلزام على الاختصاص الحصري منع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشرائع من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الاختصاص. اهـ قال الإمام: الخطاب في قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً) الأمم الثلاث، أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد - صلى الله عليهم وسلم -، لأن الآيات السابقة واللاحقة فيهم. وقال: الشرعة: عبارة عن مطلق الشريعة، والمنهاج: عن مكارم الشريعة. وقال: فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) إلى قوله تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وقال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)؟ فالجواب: أنَّ الثانية مصروفة إلى ما

يتعلق بأصول الدين، والأولى بفروعه. اهـ قال الراغب في الجمع بين الآيتين: الذي استوى فيه الشرائع هو أصل الإيمان والإسلام أعني التوحيد والصلاة والزكاة والصوم، فإن أصول هذه الأشياء لا ينفك منها شرع بوجه، وأما الذي ذكر أنه تفرد كل واحد من الأنبياء به ففروع العبادات من كيفياتها وكمياتها فإن ذلك مشروع على حسب مصالح كل واحد وعلى مقتضى الحكمة في الأزمنة المختلفة. اهـ قوله: (استئناف فيه تعليل الأمر ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني هو جواب ما تعقبه بسؤال مورده (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ما هو مترتب عليه بالفاء يعني أنه تعالى لما خاطب الأمم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم بقوله (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً) أي شريعة بحسب ما تقتضيه الأوقات من المصالح لنختبركم أيكم يعتقد أنَّها حكمة من الله تعالى، وإن خفي عليه وجه الحكمة فيستبق إلى ما شرعه الله تعالى في كل وقت وأيكم لا يتبع هواه، واتجه لهم أن يسألوا ما تلك الحكمة ومن يعلم حقيقتها؟ فأجيبوا إذا ما رجعتم إلى الله تعالى في دار الجزاء فيجازيكم إما بالثواب أو بالعقاب ليفصل بين المحق والمبطل وبين العالم والمفرط فحينئذ تعلمون وجه الحكمة فيه ولا تشكون فيه. اهـ قوله: (عطف على (الكتاب) ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: لو جعل عطفاً على (فاحكم) من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله تعالى (واحذرهم أن يفتنوك) كان أحسن. اهـ قوله: (روي أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس. قوله: (وفيه دلالة على التعظيم كما في التكرير). قال الطَّيبي: يعني كما يدل التكرير على ذلك كذلك حكم البعض، وهو استعارة

تمليحية ضد التهكمية. اهـ قوله: (ونظيره قوله لبيد: أو يرتبط بعض النفوس حمامها). هو من معلقته المشهورة وصدره: تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرضَها وقبله: أو لم تكن تدري نوار بأنني ... وصالُ عقد حبائلٍ جَذامُها. قال الطيبي: تراك: مرتفع تباعاً لوصال وجذام، أو يرتبط: عطف على أرضها، أي ألم تدر المحبوبة أني وصال عقد من يحاول مودتي، وقطاع لمن يقطع محبتي، وأني جوال الفيافي قطاع المهامه، وأني تراك أمكنه إذا لم أرضها ولم يقدر أني أموت فيها، يعني أنه يجتهد في الرحلة إذا لم تعق العوائق. وقال الزوزني: المعنى أترك الأماكن أجتويها إلا أن أموت. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: المعنى أترك الأمكنة على تقدير انتفاء الرضى والموت جميعاً أما إذا حصل الرضى أو الموت فلا ترك. اهـ وقال أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات: المعنى أني أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما أكره إلا أن يدركتي الموت فيحبسني ترتبط نفسي، والحمام: الموت، ويقال: القدر. وجزم يرتبط عطفاً على قوله إذا لم أرضها، هذا أجود الأقوال، والمعنى على هذا: إذا لم أرضها وإذا لم يرتبط بعض النفوس حمامها. وقيل: إن يرتبط في موضع رفع إلا أنه أسكنه لأنه رد الفعل إلى أصله لأن أصل الأفعال أن لا تعرب، وإنما أعربت للمضارعة. وقيل: في موضع نصب ومعنى (أو) معنى (إلا أن)، والمعنى: إلا أن يرتبط

بعض النفوس حمامها، إلا أنه أسكن لأنه رد الفعل أيضاً إلى أصله. قال: وإنما اخترنا القول الأول لأن أبا العباس قال: لا يجوز للشاعر أن يسكن الفعل المستقبل لأنه قد وجب له الإعراب لمضارعته الأسماء، وصار الإعراب فيه يفرق بين المعاني فلو جاز أن يسكنه لجاز أن يسكن الاسم ولو جاز أن يسكن الاسم لما بينت المعاني. اهـ قوله: (واستضعف ذلك في غير الشعر). قال أبو حيان: حسنه في الآية شبه (يَبْغُونَ) برأس الفاصلة. اهـ قوله: (أي عندهم). قال أبو البقاء: (لقوم) هو في المعنى: عند قوم يوقنون، وليس المعنى أن الحكم لهم وإنما المعنى أنَّ الموقن يتدبر حكم الله تعالى فيحسن عنده، ومثله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ). وقيل: هي على أصلها، أي: حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين. اهـ قال الطَّيبي: فقول المصنف (هم الذين يتدبرون الأمور ... ) إلى آخره هو معنى قول أبي البقاء: إنَّ الموقن يتدبر حكم الله تعالى فيحسن عنده، أي: هم الذين ينتفعون به. اهـ قوله: (لا أحسن حكماً من الله تعالى). قال الطَّيبي: إشارة إلى أنَّ الاستفهام في قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ) للإنكار، والجملة حال مقررة لجهة الإشكال، والخطاب عام، أي: أتبتغون حكم أهل الجاهلية والحال أنه لا أحسن حكماً من الله تعالى لمن له إيقان يتدبر حكم الله ويعلم أنه لا أعدل من الله تعالى. اهـ قال أبو البقاء: (وَمَنْ أَحْسَنُ) مبتدأ وخبر، وهو استفهام في معنى النفي. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتراءى ناراهما ... )). أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث

سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر لهم بنصف العقل، وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى ناراهما. قال في النهاية: الترائي: تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم، إذا رأى بعضهم بعضاً، وإسناد الترائي إلى النار مجاز، من قولهم داري تنظر إلى دار فلان، أي: تقابلها. يقول: ناراهما مختلفتان، هذه تدعوا إلى الله تعالى، وهذه تدعوا إلى الشيطان فكيف يتفقان، والأصل في تراءى: تتراءى، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، والمعنى: لا ينبغي لمسلم أن ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تظهر لنار المشرك إذا أوقدها منزله، ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. اهـ قوله: (وتكون الدولة للكفار). قال الطَّيبي: لم يفرق المصنف بين الدولة والدائرة، وفرق بينهما الراغب حيث قال: الدائرة: عبارة عن الخط المحيط، ثم عبر بها عن الحادثة، وإنما يقال في المكروه، ويقال دولة في المحبوب. اهـ قوله: (روي أن عبادة ابن الصامت قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لى موالى ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير من حديث عطية، وأخرجه ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت. قوله: (يقطع شأفة اليهود). قال الجوهري: الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، يقال في المثل: استأصل الله شأفته، أي: أذهبه الله تعالى كما أذهب تلك بالكي. اهـ قوله: (أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم). قال الطَّيبي: عطف على قوله (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) يقطع شأفة اليهود، فعلى الأول

قوله: (عطفا على (أن يأتي) باعتبار المعنى).

الأمر بمعنى الشأن، وعلى الثاني أحد الأمور. اهـ قوله: (على أنه كلام مبتدأ). قال الطَّيبي: المعنى عسى الله أن يأتي بالفتح فيصير الكافرون نادمين، ويقول الذين آمنوا تشفياً عن الغيظ: أهولاء الذين أقسموا وكيت وكيت. اهـ قوله: (عطفاً على (أَنْ يَأْتِيَ) باعتبار المعنى). اقتصر في الكشاف على قوله: عطفاً على (أَنْ يَأْتِيَ)، فزاد المصنف قوله: باعتبار المعنى تحقيقاً لما هو المراد. قال الحلبي: في إعرابه لم يعترض أبو حيان على الكشاف بشىء، وقد رد ذلك بأنه يلزم عطف ما لا يجوز أن يكون خبراً على ما هو خبر، وذلك أن قوله تعالى (أَنْ يَأْتِيَ) خبر (عسى) وهو صحيح، لأنَّ فيه رابطاً عائداً على اسم (عسى) وهو ضمير الباري تعالى، وقوله (ويقُول) ليس فيه ضمير يعود على اسم (عسى) فكيف يصح جعله خبراً؟ وقد اعتذر من أجاز ذلك عنه بثلاثة أوجه: أحدها: أنه من باب العطف على المعنى، والمعنى: فعسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا، فتكون (عسى) تامة لإسنادها إلى (أنْ) وما في حيزها فلا تحتاج حينئذ إلى رابط، وهذا قريب من قولهم العطف على التوهم نحو (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). الثاني: أن يأتي بدل من اسم الله تعالى لا خبر، وتكون (عسى) حينئذ تامة، كأنه قيل: فعسى أن يقول الذين آمنوا. وهذان الوجهان منقولان عن أبي علي الفارسي، إلا أنَّ الثاني لا يصح لأنهم نصوا على أن عسى واخلولق وأوشك من بين سائر أخواتها يجوز أن تكون تامة بشرط أن يكون مرفوعها (أن يفعل)، قالوا: ليوجد في الصورة مسند ومسند إليه كما قالوا ذلك في ظن وأخواتها إنَّ (أنْ) و (أنَّ) تسد مسد مفعوليها.

والثالث: أن ثَمَّ ضميراً محذوفاً هو مصحح لوقوع (ويقُول) خبراً عن (عسى)، والتقدير: ويقول الذين آمنوا به، أي: بالله، ثم حذف للعلم به. ذكر ذلك أبو البقاء. وقال ابن عطية بعد حكايته نصب (وَيَقُول) عطفاً على (يَأْتِيَ): وعندي في منع (عسى الله أن يقول المؤمنون) نظرٌ، إذ الله تعالى يُصيرهم يقولون ذلك بنصره وإظهار دينه. قال الحلبي: قول ابن عطية في ذلك يشبه قول أبي البقاء في كونه قدر ضميراً عائداً على اسم عسى يصح به الربط. اهـ وقال الطَّيبي: فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: عسى الله أن يقول الذين آمنوا، لأنَّ (أَنْ يَأْتِيَ) خبر (عسى) والمعطوف عليه في حكمه فيفتقر إلى ضمير يرجع إلى اسم (عسى) ولا ضمير في قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) فيصير كقولك: عسى الله أن (يأتي بالفتح) ويقول الذين آمنوا؟ قيل: هو محمول على المعنى، لأنّ معنى (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) ومعنى عسى الله أن يأتي بالفتح واحد، كأنه قال: عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا، كما قال (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)، وأن يبدل (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) من اسم الله تعالى كما أبدل (أَنْ أَذْكُرَهُ) من الضمير في قوله تعالى (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، أو يعطف على لفظ (أَنْ يَأْتِيَ) على حذف الضمير، أي: ويقول الذين آمنوا به، أو يعطف على الفتح، أي: عسى الله أن يأتي بالفتح وبأن يقول الذين آمنوا، وقريب من كل ذلك ما ذكره أبو البقاء. اهـ قوله: (أو على الفتح ... ) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا لا يصح لأنه قد فصل بينهما بقوله (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)،

والمعطوف على المصدر من تمامه فلا يفصل بينهما، وبقوله (فَيُصْبِحُوا) [إلى آخره وذلك أجنبي من المتعاطفين لأن الظاهر عطف (فَيُصْبِحُوا)] على (يَأْتِيَ) والفصل بالأجنبي لا يجوز. اهـ قوله: (وهو كذلك في الإمام). قال الحلبي: نقل غيره أنها في مصاحف الشام والمدينة (يرتدد) بدالين، وفي الباقية (يرتد) بدال واحدة، وكل قارئ وافق مصحفه. اهـ قوله: (وذو الخمار). قال الشيخ سعد الدين: لأنه كان له حمار يقول له قف فيقف وسر فيسير، وكانت النساء يتعطرن بروث حماره، وقيل يعقدن روث حماره بخمورهن، فسمي ذو الخمار بالخاء المعجمة. اهـ قوله: (الأسود العنسي). بفتح العين وسكون النون، منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مدحج بن أزد بن زيد بن يشجب. قوله: (مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد: فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد: فإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). قوله: (طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد ... ). الصواب: فبعث إليه أبو بكر خالد. قوله: (جبله بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام). الجمهور أنه مات على ردته، وذكرت طائفة أنه عاد إلى الإسلام. وروى الواقدي: أنَّ عمر بن الخطاب كتب كتاباً إلى أجناد الشام أن جبلة ورد إليّ في سراة قومه وأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه فاستعدى الفزاري على جبلة إليَّ فحكمت إما العفو وإما القصاص فقال: اتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة، فقلت: شملك

وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعاقبة، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب في بني عمه ولحق بالشام مرتداً، وفي رواية أنه ندم على ما فعل وأنشد: تنصرت بعد الحق عاراً للطمة ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر فأدركني فيها لجاج حمية ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... صبرت على القول الذي قاله عمر. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسَّلام أشار إلى أبي موسى وقال: هم قوم هذا). أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري. قوله: (وقيل: الفرس، لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان فقال: هذا وذووه). قال الشيخ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه هكذا، ولعله وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى آخر سورة القتال (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. اهـ قوله: (واستعماله مع على). قال الطَّيبي: أي استعير على بدل اللام ليؤذن بأنهم علوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة. اهـ قوله: (أو حال بمعنى أنهم مجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين). قال الحلبي: تبعه الشيخ أبو حيان ولم ينكر عليه، وفيه نظر لأنهم نصوا على أن المضارع المنفي بـ (لا) أو (ما) كالمثبت في أنه لا يجوز أن تباشَره واو الحال وهذا كما ترى مضارع منفي بـ (لا)، إلا أن يقال إنَّ ذلك الشرط غير مجمع عليه. اهـ وقال الطَّيبي: فإن قلت: أي فرق بين أن يكون قوله (وَلا يَخَافُونَ) حالاً وبين أن يكون عطفاً؟ قلت: إذا جعل حالاً كان قيدا لـ (يُجَاهِدُونَ) فيكون تعريضاً

بمن يجاهد ولم يكن حاله كذلك، ومن ثم قال: وحالهم خلاف حال المنافقين، وإذا جعل عطفا كان تتميماً لمعنى (يجاهدون) فيفيد المبالغة والاستيعاب. اهـ قوله: (وفيها وفي تنكير (لائم) مبالغان). قال الطَّيبي: لأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم معها تنكر فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوام، وهذا تتميم في تتميم، أي: لا يخافون شيئاً من اللوم من أحد من اللوام. اهـ قوله: (لما نهى موالاة الكفرة ذكر عقبه من هو حقيق بها). قال الطَّيبي: إشارة إلى اتصال قوله (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وما توسط بينهما من الآيات لشد من المضاد النهي. اهـ قوله: (وإنما قل (وليكم) ولم يقل أولياؤكم للتنبيه على أنّ الولاية لله على الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع). قال صاحب الفرائد: وما ذكره بعيد عن قاعدة الكلام، لأنه جعل ما يستوي فيه الواحد والجمع جمعاً وهو الولي، ويمكن أن يقال التقدير: إنما وليكم الله وكذلك رسوله والمؤمنون، فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة التفصيل في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه ولياً لهم لجعله إياهم أولياء ففي الحقيقة هو الولي. اهـ وقال الطَّيبي: مراد المصنف غير ما قدره لا أن قوله (وَلِيُّكُمُ اللهُ) جمع لأنه هرب من هذا المعنى إلى التبعية فكأنه قال إنما وليكم الله وكذلك رسوله والمؤمنون لتصح التبعية، ففيه ما ذكر صاحب الفرائد رعاية حسن الأدب مع حضرة الرسالة، لأن ذكر المؤمنين بعد ذكر الرسول حينئذ لم يكن للتبعية بل لمجرد الأفضلية. اهـ

قلت: وبهذا التقرير يعلم أنَّ قول الحلبي: ويحتمل وجهاً آخر وهو أنَّ ولي بزنة فعيل، وفعيل قد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد كصديق، غيرُ واقع موقعه، لأن الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ. قوله: (صفة للذين آمنوا). لم يذكره الزمخشري بل اقتصر على البدل. وقال أبو حيان: لا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هى المتبادر إلى الذهن، ولأنَّ المبدل منه في نية الطرح ولا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه الوصف الذي يترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف. اهـ وقال الحلبي: لا نسلم أن المتبادر إلى الذهن الوصف، بل البدل هو المتبادر أيضاً فإن الوصف بالموصول على خلاف الأصل، لأنه مؤول بالمشتق وليس بمشتق، ولا نسلم أن المبدل منه على نية الطرح وهو المنقول عن سيبويه. اهـ وقال الطَّيبي: إنما عدل عن الوصف لأنَّ الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ولذلك قال القاضي: (الذِينَ يُقِيمُونَ) صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لم يجعله وصفاً لاشتراك الموصلين في كونهما وصفين، والوصف لا يوصف إلا إذا أجري مجرى الاسم كالمؤمن مثلاً. اهـ قوله: (نزلت فى عليٍّ حين سأله سائل ... ) الحديث. أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وعمار بن ياسر، وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل، والثعلبي عن أبي ذر، والحاكم في علوم الحديث عن علي. قوله: (نزلت فى رفاعة ... ) إلى آخره.

قوله: (أي اتخذوا الصلاة أو المناداة).

أخرجه بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. قوله: (أي اتخذوا الصلاة أو المناداة). قال الحلبي: في الوجه الثاني بُعد إذ لا حاجة تدعو إليه مع التصريح بما يصلح أن يعود الضمير عليه بخلاف قوله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى). اهـ قوله: (وفيه دليل على أنَّ الأذان مشروع للصلاة). قال الشيخ سعد الدين: من جهة أنه لما دل على اتخاذ المناداة هزوًا من منكرات الشرع دل على أن المناداة المذكورة من معروفاته. اهـ وعبارة الكشاف: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب؛ لا بالمنام وحده. اهـ قال الطَّيبي: وذلك أنه تعالى أخبر أن نداء الصلاة سبب لاتخاذهم إياها هزواً، وعلله بجهلهم، فدلت الآية على سبيل الإدماج وإشارة النص على ثبوته. قال: ولقائل أن يقول إن قوله تعالى (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) إخبار بحصول الاستهزاء عند النداء والظاهر أن يكون الأذان قبل نزول الآية، والواقع كذلك لأنَّ الأذان شرع عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة. اهـ وكذا قال أبو حيان: لا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ولم يقل ونادوا على سبيل الأمر وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط. اهـ وقال الشيخ ولي الدين العراقي: ولا شك أن فيه دليلاً على مشروعيته وإن لم يكن بصيغة الأمر، ولا يلزم من كونه دليلاً على المشروعية أن لا يفعل إلا بعد نزول الآية فنزول الآية على وفق ما فعل دليل على مشروعيته. قال: وهذا استنباط حسن لا ينبغي إنكاره.

قوله: (وأن أكثركم فاسقون)

قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: قد ذكر الله الأذان في كتابه فقال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ). قوله: (روي أنَّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله قال: أحرق الله الكاذب ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن السدي. قوله: (وأن أكثركم فاسقون) عطف على (أن آمنا)). قال أبو حيان: ذكروا في موضع (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) سبعة وجوه، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح وذلك أن (نقم) أصلها أن تتعدى بـ (على)، تقول: نقمت على الرجل أنقم ثم تبنى منها أفتعل فتعدى إذ ذاك بـ (من) وتضمن معنى الإصابة بالمكروه، قال تعالى (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنهُ)، ومناسبة التضمين فيها أنَّ من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه إن قدر فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل كقولهم: قدر واقتدر؛ ولذلك عدت بـ (من) دون (على (فصار المعنى: وما تنالون منا أو ما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي لأن آمنا فيكون (أَنْ آمَنَّا) مفعولاً لأجله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) عطف عليه. اهـ تنبيه: الوجه السابع فات المصنف وهو أن تكون الواو بمعنى مع، و (أن) بصلتها في موضع نصب على المفعول معه. قوله: (أو رفع على الابتداء والخبر محذوف، أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم). قال الشيخ سعد الدين: في جواز حذف الخبر إن كان المبتدأ (أنَّ) المفتوحة مع اسمها وخبرها بحث لأنَّ علة امتناع وقوعها في أول الكلام وهو الالتباس بـ (أنَّ) التي بمعنى (لعل) قائمة هنا. قال: ثم ما قدر من الخبر متأخراً عن المبتدأ إنما هو لبيان المعنى وعلى تقدير التعبير عن المبتدأ بلفظ المصدر، وإلا فلابد أن يقدر الخبر مقدماً أي: ثابت معلوم أنكم فاسقون. اهـ

قوله: (وعبد الطاغوت. . .)

وكذا قال أبو حيان: لا ينبغى أن يقدر الخبر إلا مقدماً أي: ومعلوم فسق أكثركم لأنَّ الأصح أن (أن) لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط. اهـ وقال الطَّيبي: يمكن أن يقال يفتقر في الأمور التقديرية ما لا يفتقر في اللفظية لا سيما وهذا جار مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر كيف ينطق به. اهـ قوله: (والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يؤمن به ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قوله: (على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع) قال الشيخ سعد الدين: أي في التهكم وإن كان ما في الآية استعارة لطي ذكر المشبه وما في البيت تشبيهاً انتزع وجهه من التضاد على طريق التهكم لذكر الطرفين بطريق حمل أحدهما على الآخر لكن على عكس قولك زيد أسد إذ التحية مشبه به والضرب مشبه. اهـ قوله: (بدل من (شر) على حذف مضاف). قال الطَّيبي: أي قيل ذلك، أو قيل (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) لأن الإيمان المشار إليه غير مطابق لقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) في معنى يشترك فيه لفظ (شر) فيقدر (أهل) عند (ذَلِك)، أو (دين) عند (مَن) ليطابقه. اهـ قوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ... ) إلى آخره. ذكر فيه ثمان قراءات، ومجموع ما نقل فيه إحدى وعشرون قراءة ذكرتها موجهة في أسرار التنزيل ونظمتها في أبيات وهي هذه: عَبَد الطاغوتَ فيما نقلوا ... فوق عشرين قراءات تعد فثلاث بعدها نصب وجر ... عَبُدَ الطاغوت مع عَبْدٍ عَبَد عَبَدُوا أعبدُ عُبَّاد عِبَادَ ... وعُبيداً عُبُداً ثم عبِد عُبَدَ الطاغوت يتلو عُبدَت ... عُبدَ الطاغوت والرفع ورد عابدوا الطاغوت يتلو عابدي ... عَابُدُ مع عبدة فأحفظ بجد

قوله: (جعل مكانهم شرًّا ليكون أبلغ). قال الطَّيبي: لأنه إذا نظر إلى أن التمييز فاعل في الأصل، أي: شر مكانهم كان إسناداً مجازياً، وإذا نظر إلى المعنى في إثبات الشر للمكان والمراد أهله كان من الكناية لأنَّ المكان من حيث هو لا يوصف بالشر بل بسبب من حلَّ فيه، فإذا وصف به يلزم إثباته للحال فيه بالطريق البرهاني. اهـ قوله: (والجملتان حالان من فاعل (قالوا)، و (به) و (بالكفر) حالان من فاعلي (دخلوا) و (خرجوا)). قال الطَّيبي: فعلى هذا في الكلام حالان مترادفان وكل واحدة منهما مشتملة على حال فتكونان متداخلتين. اهـ قوله: (دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً). قال الشيخ سعد الدين: لتكسر سَوْرَة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا فـ (قد) إنما تقرب إلى حال التكلم. قال: والظاهر أنَّ هذا في (وَقَد دَّخَلُوا) وأما (وَهُم قَد خَرَجوا) أعني الجملة الاسمية التي خبرها ماض فلم يقولوا فيها بلزوم (قد) إذا وقعت حالاً، وإنما لم يحتج إلى الواو لكونها معطوفة على الحال ولكون الرابط في صدر الجملة. اهـ وما أشار إليه الشيخ سعد الدين من الفرق بين الحالتين أوضحه السيد في حاشية المتوسط فقال: قيل إنَّ الماضي إنما يدل على الانقضاء قبل زمان التكلم والحال الذي بين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإنَّ كان العامل ماضياً كان الحال أيضاً ماضياً بحسب المعنى، وإن كان حالاً (كان حالاً)، وإن كان مستقبلاً (كان مستقبلاً) فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر

وهو الذي يقابل الماضي وبين ما (يبين الهيئة) المذكورة. قال: ويمكن أن يقال إنَّ الفعل إذا وقع قيداً لشيء يعتبر كونه ماضياً أو حالاً أو مستقبلاً بالنظر إلى ذلك القيد، فإذا قيل: جاءني زيد راكب، يفهم منه أنَّ الركوب كان متقدماً على المجيء فلا بد من قد حتى تقربه إلى زمان المجيء فتقارنه فتأمل. وقال شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي في شرح القواعد عند قوله والخامس تقريب الماضي من الحال: ولهذا تلزم (قد) مع الفعل الماضي الواقع حالاً، والسبب الداعي إلى هذا دفع التدافع بين الماضي والحال بقدر الإمكان، فاعترض على هذا بأن لفظة الحال مشتركة بين معان، فيقال على قيد العامل سواء كان ماضياً أو مضارعاً أو غيرهما، ويقال على زمن التكلم بمعنى الآن، والمقصود هاهنا الأول لا الثاني، و (قد) إنما هي للتقريب من الحال بمعنى الآن. قال: وأجيب عن هذا الاعتراض بأنَّ المضي والحال والاستقبال أمور إضافية، فطوفان نوح عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلينا ماض وبالنسبة إليه حال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام مستقبل بالنسبة إلينا حال بالنسبة إلى قوم ذلك الزمان، فإذا تمهد هذا فالمضي والحال المستعملان هنا منسوبان إلى زمان وقوع الفعل لا إلى زمان تكلمنا، فإذا قلت: جاء زيد يركب، كان معناه أن الركوب يقارن المجيء، وإذا قلت: جاء زيد وقد ركب، كان معناه أنَّ الركوب قد مضى في وقت المجيء ولذلك اشترط فيه (قد) ليقرب الركوب إلى ذلك الوقت. قال: وحاصل الجواب أنَّ الحال قيد العامل، وأن زمان وقوع ذلك القيد وجب أن يكون مقترناً بزمان وقوع مضمون العامل تحقيقاً أو تقديراً سواء كان مقترناً بزمان التكلم أو لا. قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قد لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى. قوله: (وقيل الكذب لقوله (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ)). قال ابن المنير: هذا الاستدلال لا يصح لأنَّ الإثم مقولٌ يحتمل كونه كذباً وشركاً. اهـ

قوله: (وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود)

وقال الطَّيبي: قولهم (آمنا) قرينة على أن المراد الكذب فخُصَّ به. اهـ قوله: (وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود). قال الشيخ سعد الدين: يعني في من لا تصلح له الحقيقة أصلا كما في هذا المقام، بخلاف قولك: يد فلان مغلولة أو مبسوطة فإنه كناية عن ذلك. اهـ وكذا قاله الطيبي جامعاً بين ما هنا وما في سورة طه. وقال ابن المنير: حكمة هذا المجاز تصوير الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالباً، والصور الحسية أثبت في الذهن من المعاني، والجود والبخل معنيان فمُثِّلا للحس. اهـ قوله: (ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله: جاد الحمى بسط اليدين بوابلٍ ... شكرت نداه تلاعه ووهاده) بسط اليدين: هو السحاب، والتلاع: جمع تلعة وهي ما ارتفع من الأرض، والوهاد: جمع وهدة وهي ما اطمأن منها. قوله: (كقوله: سبنى سبَّ اللهُ دابره). أي: فإنَّ المطابقة فيه من حيث اللفظ فإن المراد من سبِّ اللهِ: قَطعُ الدابرِ. قال الطَّيبي: وهذا نوع من المشاكلة لطيف المسلك بخلافه في قول الشاعر: قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً. فإنه وضع (اطبخوا) موضع (خيطوا) لمجرد مراعاة اللفظ دون المعنى. اهـ قوله: ((ينفق كيف يشاء) تأكيد لذلك، أي: هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: هذا تقييد للمطلق وهو ينفق كيف يشاء يعني من مقتضى الحكمة أن لا يؤدي بسط اليدين في العطاء إلى التبذير والإسراف والاصطناع إلى غير الأهل وهو شرط السخاء في الشاهد، وهذا تكميل لا تأكيد كقوله:

حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب والتأكيد أن يقال: ينفق كيف يشاء لا يمنعه مانع ولا يكفه من الإنفاق نقص ولا إعدام. اهـ قوله: (ومقتضى حكمته). قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة التعليق بمشيئة الحكيم الذي لا يشاء إلا ما هو حكمة ومصلحة. اهـ قوله: (ولا يجوز جعله حالاً ... ) إلى آخره. ذكرِ الحوفي أنه يجوز أن يكون حالاً من الضمير في (مَبسُوطَتَان) وأن يكون خبراً بعد خبر. قال أبو حيان: ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على ذي الحال أو المبتدأ محذوفاً، والتقدير: ينفق بهما. قال: والأولى أن يكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. اهـ قوله: (والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال: ذلك). أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه ابن جرير عن عكرمة. قوله: (فطرس الرومي) بالفاء والراء، قاله الطَّيبي. قوله: (أي يبين ما تعملونه، وفيه معنى التعجب، أي: ما أسوأ عملهم). قال الشيخ سعد الدين: هو مستفاد من المقام. اهـ قوله: (فما أديت شيئاً منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان

قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعا ... )

الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو فكأنك ما بلغت شيئاً منها ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: حاصل الجواب الأول أن ترك تبليغ أدنى شيء يستوجب عذاب كتمان الكل من جهة أن كتمان البعض يضيع ما أدى منها لعدم حصول غرض الدعوة، بمنزلة من ترك بعض أركان الصلاة، وحاصل الثاني أن ترك تبليغ أدنى شيء كترك التبليغ بالكلية وهو في غاية الشناعة، وهذا ما قاله ابن الحاجب إذا اتحد الشرط والجزاء كان المراد بالجزاء المبالغة، كأنه قيل: وإن لم تبلغ فقد ارتكبت أمراً عظيماً. قال الشيخ سعد الدين: وهذا الجواب هو الوجه، والأول قد يناقش فيه. اهـ وقال الإمام: الآية على حد قوله: وشعري شعري، أي: شعري الذي يبلغ مبلغاً بحيث أنه لا يوصف بأعظم من أن يقال فيه إنه شعري، وكذلك لا وعيد على ترك التبليغ أعظم من أن يقال أنه لم يبلغ. اهـ قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعاً ... ) الحديث. أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة، وأخرجه أبو الشيخ ابن حيان في تفسيره من مرسل الحسن. قوله: (وعن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة من أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس). أخرجه الترمذي والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة من حديث عائشة، وأخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وعصمة بن مالك الحطمي، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل من حديث أبي ذر، وله طرق أخرى، ولم يرد من حديث أنس وقد نبه عليه الطَّيبي والشيخ سعد الدين.

قوله: (والصابئون

قوله: (فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه). هذا منزع صوفي، قال أرباب المعرفة: قال تعالى (بلغ ما أنزل إليك) ولم يقل ما تعرفنا به إليك. قوله: (والصابئون رفع بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير). قال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرح الشواهد: قد يستبعد هذا التخريج لأنَّ فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجمل المعطوف عليها وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر فكذلك ينبغى أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه. قال: ويجاب بأنَّ الواو للاستئناف كسائر الواوات المقترنة بالجملة المعترضة كقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ). قوله: (فإني وقيار بها لغريب). هو لضابئ -بالضاد المعجمة والباء الموحدة بعدها همزة- ابن الحارث البرجمي بالجيم. كان عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه حبس ضابياً هذا حين تعدى عليه فقال: من يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب وما عاجلات الطير يدنين بالفتى ... رشاداً ولا عن ريثهن يخيب ورُبَّ أمور لا تضيرك ضيرة ... والقلب من مخشاتهن وجيب ولاخير في من لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب ولست بمستبق صديقاً ولا أخاً ... إذا لم يعد الشيء وهو يريب قال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرح الشواهد: قوله (من يك) روي بالفاء وبإسقاطها على الجزم، وقوله (أمسى بالمدينة رحله): كناية عن السكنى بالمدينة واستيطانها، وقيار: اسم فرسه، عن الخليل، وقال أبو زيد: اسم جمله. قال: والحذف في هذا البيت من الثاني، لأنَّ (غريب) خبر لأن لا للمبتدأ لاقترانها باللام، والتقدير: فإني بها لغريب وقيار كذلك، وقيل هو خبر عن الاسمين جميعا لأنَّ فعيلا يعبر به عن الواحد فما فوقه نحو (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).

قال: ورده الخلخالي بأنه لا يكون للاثنين وإن جاز كونه للجمع، وكذلك قال في فعول: لا يقال رجلان صبور، وإن صح في الجمع. قال الشيخ حمال الدين ابن هشام: وقد قيل في قوله تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) إن المراد قعيدان، قال: ثم كلامه يوهم أن ذلك يقال بالقياس، وليس كذلك وإنما المانع في البيت من أن يكون (غريب) خبراً عن الاسمين لزوم توارد عاملين على الخبر، وإنما يصح هذا على رأي الكوفيين لقولهم إنَّ الخبر على ما كان عليه. اهـ قوله: (وقوله: وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينا فِي شِقَاق). قال الشيخ جمال الدين بن هشام: هو لبشر بن أبي خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- الأسدي، وقبله: إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق وسبب قوله ذلك أن قوماً من آل بدر جاوروا الفزاريين من بني لأم من طي فجزوا نواصيهم وقالوا مننا عليكم ولم نقتلكم، فغضب بنو فزارة لذلك، فقال بشرٌ ذلك، ومعناه: إذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا، واحملوا الأسرى معهم، وإلا فإنا متعادون أبدا، و (ما) في البيت مصدرية ظرفية. اهـ قوله: (وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإِيمان والعمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك). قال الطَّيبي: إنما كان جارياً مجرى الاعتراض لا إياه لأن الاعتراض هو ما يتخلل في أثناء الكلام لتأكيد مضمون المعترض فيه، وهذا تأكيد لما يلزم من إيراد الكلام لا من مضمونه فجرى مجراه لكونه جملة في أثناء الكلام لقصد التأكيد وهو استطراد. اهـ قوله: (ويجوز أن يكون (والنصارى) معطوفاً عليه و (مَنْ آمَنَ) خبرهما، وخبر (إنَّ) مقدر دل عليه ما بعده).

(إنَّ) مقدر دل عليه ما بعده). قال الشيخ جمال الدين ابن هشام: قد يستبعد هذا لأنَّ فيه حذفاً من الأول لدلالة الثاني. قال: ويجاب بأنه واقع وإن كان عكسه أكثر. اهـ قوله: (كقوله: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ). هذا لرجل من الأنصار، وقيل لقيس بن الخطم -بالخاء المعجمة- بن عدي الظفري شاعر جاهلى، وقيل لعمرو بن امرئ القيس الأنصاري من أبيات أولها: أبلغ بني جحجبى وقومهم ... خطمة أنا وراءهم أُنُف وإنا دون ما يسومهم ... الأعداء من ضيم خطة نكف الحافظو عورة العشرة لا ... يأتيهم من ورائنا وكف يا مال والسيد المعمم قد ... يبطره بعد رأيه الشرف نحن بما عندنا ... جحجبى: بفتح الجيمين بينهما حاء مهملة ساكنة آخره موحدة مقصور بطن من الأنصار، وخطمة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء بطن من الأنصار أيضاً، وأُنُف: بضم الهمزة والنون: محامون واحدهم آنف كضارب وهو مأخوذ من الأنفة وهي الحمية، ويسومهم: أي يكلفهم، وضيم: ظلم، وخطة: أي أمر وشأن، ونكف: بضم النون والكاف جمع ناكف من نكف بمعنى إستنكف وأنف، والعورة: ما لم تُحمَ، وقال الثعلبي: كل مخوف عورة، ومن وارئنا: أي عيبنا والوكف العيب، وقيل: الإثم، وقيل: الخوف، وقيل: المكروه، وقيل: النقص، ومال: ترخيم مالك، والسيد المعمم: ذكر العمامة لأنَّها من مناقب العرب، وقد وصف أبو الأسود الدؤلي العمامة فقال: جنة في الحرب ومكنة في الحر ومدفأة من القر ووقار في الندى ووقاية من الأحداث وزيادة في القامة وعادة من عادات العرب. ذكره الجاحظ في البيان. قوله: (ولا يجوز عطفه على محل (إنَّ) واسمها -إلى قوله- فيجتمع عليه عاملان). قال الطَّيبي: معناه أنه لو رفع (وَالصَّابِئُونَ) بالابتداء بأن يكون عطفاً على محل (إنَّ) واسمها لكان العامل في المبتدأ التجريد وفي الخبر (إنَّ) فيلزم أن يكون العامل في

واسمها لكان العامل في المبتدأ التجريد وفي الخبر (إنّ) فيلزم أن يكون العامل في المبتدأ غير العامل في الخبر والواجب أن يكون الخبر مرفوعاً بما ارتفع به المبتدأ ولا يمكن تقدير عاملين فيه بأن يقال إنه مرفوع بـ (إنَّ) والابتداء معاً للقطع بأنَّ اسما واحداً لا يكون فيه رفعان. اهـ وقال صاحب الفرائد وتبعه الشيخ سعد الدين: في هذا نظر، لأنه إنما يلزم ذلك لو لم ينو التأخير وكان المذكور خبراً عنهما، وأما على نية التأخير واعتبار معنى الخبر تقديراً فيكون المذكور معمول (إنَّ) فقط وخبر المعطوف محذوف. قال: ولو تم ما ذكر لجرى في جميع صور معنى الخبر تقديراً. اهـ قوله: (وقيل: (إنَّ) بمعنى نعم). قال أبو حيان: هذا ضعيف، لأنَّ ثبوت (إنَّ) بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين، وعلى تقدر ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها فيكون تصديقاً له ولا تجيء أول الكلام. اهـ قوله: (على البدل من اسم (إنَّ) وما عطف عليه). زاد في الكشاف: أو من المعطوف عليه. اهـ قال الطَّيبي: قالوا أراد أنَّ (مَنْ آمَنَ) إما بدل من المجموع في المعطوف عليه والمعطوف أو بدل من اسم (إنَّ) فحسب. قال: فإذا كان بدلاً من المجموع فالمعنى على ما سبق: إنَّ الصابئين أشَد غياً، وأما إذا كان بدلاً من اسم (إنَّ) وحده لزم أنَّ يكون حكم (وَالذِين هَادُوا) و (النَّصَارَى) حكم (وَالصَّابِئُونَ) في الرفع وتقدير الخبر على ما سبق في (وَالصَّابِئُونَ) وحده، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا من آمن منهم فلا خوف عليهم والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك، فحينئذ يخرج الكلام عن المقصود. اهـ قوله: (جواب الشرط). قال أبو حيان: سمى (كلما) شرط، وليس بشرط بل (كل) نصب على الظرف

قال السفاقسي: سماها ظرفاً من حيث المعنى لاقتضائها جواباً كالشرط. اهـ قوله: (وقيل: الجواب محذوف). قال ابن المنير: يدل عليه مجيئه ظاهراً في الآية التي هي توأمة هذه الآية (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ ... ) إلى آخره. قال: الأولى أن يقدر المحذوف: استكبروا، لظهوره في هذه الآية. اهـ قوله: (على أن الله عماهم). قال الشيخ سعد الدين: يعني على تقدير فعل متعد بكون (عموا) بالضم مبيناً للمفعول منه. اهـ قوله: (كما يمنع المحرم ... ). قال الطَّيبي: أي (حَرَّمَ) هاهنا استعارة تبعية من المنع. اهـ قوله: (و (من) مزيدة للاستغراق). قال صاحب الإقليد: إفادة (من) الاستغراقية للاستغراق لأنَّها تدخل لابتداء الجنس إلى انتهائه، فقولك: هل من رجل؟ تقديره: هل من واحد هذا الجنس إلى أقصاه، إلا أنه اكتفى بذكر (من) عن ذكر (إلى) لدلالة إحدى الغايتين على الأخرى، وإنما قيل: إن مثل لا رجل متضمن لمعنى (من) الاستغراقية لأنَّ لا رجل في الدار أبلغ في النفي من (لا رجل في الدار) بالرفع، ومن (ليس رجل في الدار) ولا يمكن تقدير ما يكون به كذلك إلا صرف مؤكد مثبت للاستغراق فوجب تقدير (من)، ولو كانت (لا) مفيدة للاستغراق لذاتها لما جاز قولهم لا رجل في الدار بل رجلان. اهـ قال الإمام: قدر النحويون لا إله في الوجود وذلك غير مطابق للتوحيد الحق لأن هذا نفي لوجود الإله الثاني ولو لم يضمر هذا الإضمار لكان لا إله نفى لماهية الإله الثاني ومعلوم أن نفي الماهية أقوى بالتوحيد الصرف من نفي الوجود.

قوله: (كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق، أو يصدقن الأنبياء).

وقال غيره: لو ترك التقدير ليبقى مطلقاً فيتناول الوجود والإمكان وما يجري مجراها لكان أولى. قوله: (كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدقن الأنبياء). قال الحلبي والسفاقسي: القياس يقتضي أنه من صَدَق الثلاثي المجرد لأن أمثلة المبالغة تطرد منه دون المزيد. قوله: (أي لا ينهى بعضهم بعضاً). قال الطَّيبي: فوضع يتفاعلون موضع يفعلون للمبالغة. قال: وإنما احتيج إلى هذه التأويلات لأنَّ التناهي من منكر قد سبق ومضى محال. اهـ قوله: (هو المخصوص بالذم). قال أبو حيان: لا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفراء والفارسي من أن (ما) موصولة، أو على مذهب من جعل في (بئس) ضميرًا، أو جعل (ما) تمييزاً بمعنى شيئاً وقدمت صفة للتمييز، وأما على مذهب سيبويه فلا يتأتى ذلك لأنَّ (ما) عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء شيء قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا (أَنْ سَخِطَ) في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف، وعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن سخط. اهـ قوله: (والمعنى: موجب سخط الله). قال الحلبي: في تقدير هذا المضاف من المحاسن ما لا يخفى على متأمله، فإن نفس السخط المضاف إلى الباري تعالى لا يقال هو المخصوص بالذم إنما المخصوص بالذم أسبابه، وذهب إليه أيضاً الواحدي ومكي وأبو البقاء. اهـ قوله: (والفيض (1) انصباب ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: هنا عبارات أولها: فاض دمع عينه وهو الأصل، والثانية: المحولة فاضت عينه دمعا حول الفاعل تمييز مبالغة، والثالثة: فاضت عينه من الدمع

_ (1) في الأصل (الغيض) والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

فلم يحول عن الأصل كما في الثانية بل أبرز تعليلاً وهذا أبلغ لأنَّ التمييز قد اطرد وضعه في هذا الباب موضع الفاعل والتعليل لم يعهد فيه ذلك. اهـ قوله: ((ونطمع) عطف على (نؤمن)). هو أصوب من قول الزمخشري: عطف على (لا نُؤمِنُ) لفساد المعنى إذ يصير التقدير إنكار عدم الإيمان وإنكار الطمع وليس كذلك، وإنما المراد إنكار عدم الطمع أيضاً وذلك بالعطف على (نُؤمِن) المنفي فيكون النفي متعيناً على المعطوف عليه. قوله: (أو خبر محذوف والواو للحال، أي: ونحن نطمع والعامل فيهما عامل الأول). قال أبو حيان: هذا ليس بجيد لأنَّ الأصح أنه لا يعمل عامل واحد في حالين بلا عطف إلا أفعل التفضيل. قال: والأحسن والأسهل أن يكون استئنافاً. اهـ وقال السفاقسى: أما تعدد الحال واتحاد صاحبها فالحق جوازه. اهـ قوله: (مقيداً بها). قال الطَّيبي: فيعود المعنى: أي شىء حصل لنا غير مؤمنين طامعين (أي لو لم نكن مؤمنين طامعين). اهـ قوله: (أو نؤمن). قال الطَّيبي: فالحالان على هذا متداخلان، وعلى الأول مترادفان، والمعنى: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين في حال الطمع، وتحريره: ما لنا لا نوحد الله ونطمع من ذلك في مصاحبة الصالحين. اهـ قوله: (روي أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، بعث إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكتابه فقرأه، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين، فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن). قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه. قلت: قد أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والواحدي من طريق ابن شهاب عن

سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير مرسلاً. قوله: (وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة مريم فبكوا وآمنوا.). أخرجه بن جرير عن سعيد بن جبير. قوله: (روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف القيامة ... ) الحديث. ذكره الواحدي في أسباب النزول بلفظ المصنف عن المفسرين، وروى ابن جرير معناه بزيادة ونقص عن مجاهد وعكرمة والسدي، وللقصة شاهد في الصحيحين من حديث عائشة. وعثمان بن مظعون يكنى أبا السائب قرشي جمحي أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر الهجرتين وشهد بدراً وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة وقيل بعد اثنين وعشرين شهراً ودفن بالبقيع، ومظعون: بالظاء المعجمة وعين مهملة، والمسوح: جمع مِسْح وهو البلاس. قوله: (أو صفة لمصدر محذوف). قال الطَّيبي: هذا أولى أي: أكلاً حلالاً ليكون توسعة في الكل ودفعاً للتضييق سيما إذا اعتبر معنى (طَيِّبًا) معه وذلك أن ورود هذا الأمر عقب النهي عن التحريم للطيبات والتشديد فيه بقوله تعالى (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يقتضى ما يقابله من التوسعة، وسياق النظم ما أشار إليه

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: من حلف على يمين ... )

الراغب قال: لما ذكر حال الذين قالوا إنا نصارى وأن منهم قسيسين ورهباناً ومدحهم بذلك، وكانت الرهبان قد حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم ورأى الله قوماً تشوفوا إلى حالهم وهمّوا أن يقتدوا بهم نهاهم عن ذلك. اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: من حلف على يمين ... ) الحديث. أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. قوله: (من أقصده). في الأساس: من المجاز قصد في معيشته واقتصد وقصد في الأمر: إذا لم يجاوز فيه الحد ورضي بالتوسط. اهـ قوله: (أو من أوسط إن كان بدلاً). قال الطَّيبي: نقل في الحواشي عن صاحب الكشاف: ووجهه أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ) بدلاً من (إِطْعَامُ) والبدل هو المقصود، ولذلك كان البدل منه في حكم المنحى، فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون. وقال صاحب التقريب: قول صاحب الكشاف إنما يصح إذا كان محله مرفوعاً إما بدلاً من (إِطْعَامُ) على حذف موصوف، أي: إطعام من أوسط، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، والأظهر أنَّ (كِسْوَتُهُمْ) عطف على (إِطْعَامُ) لأن المشهور التخيير بين الخصال الثلاث وعدوا الكسوة منها، و (مِنْ أَوْسَطِ) إما منصوب على صفة المصدر المقدر أي إطعاماً من أوسط، أو على المفعول بإضمار أعني، أو على المفعول الثاني لـ (إِطْعَامُ) أي أن نطعمهم من الأوسط، أو مرفوع كما سبق، ولعله إنما عدل عن الأظهر لأنَّ الكسوة اسم ظاهر لا مصدر. قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس، فلا يليق عطفه على المصدر أو لأدى به إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهي كونها أوسط، ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر قال الزجاج في تفسيره: والكسوة أن يكسوهم نحو إزار. أو يضمر مصدراً نحو واللباس الكسوة، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما

الكسوة إما مصدر قال الزجاج في تفسيره: والكسوة أن يكسوهم نحو إزار. أو يضمر مصدراً نحو واللباس الكسوة، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون فحذف لقرينة ذكرها في المعطوف عليه، أو بأن تترك على إطلاقها، أو بإحالة بيانها إلى غيره (أي غير ما ذكر)، وأيضاً العطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد. انتهى كلام صاحب التقريب. قال الطَّيبي: ويمكن أن يقال إنما يصار إلى البدل إذا اعتبر معنى المبدل نحو: زيد رأيت غلامه رجلاً صالحاً، لا أن ينحى معناه كما في الحواشي، ولأنَّ أهل المعاني يعتبرون معنى المبدل وجوباً والنحوي يقول إن البدل ليس في حكم المنحى من جميع الوجوه ولذا يوجبون ضمير المبدل في بدل البعض والاشتمال، والتقدير: فكفرته إطعامٌ من أوسط ما تطعمون أهليكم لعشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين من أوسط ما تكسون أهليكم، هذا وإن المصير إلى البدل يورث الكلام إبهاماً وتبييناً وتوكيداً وتقريراً بخلافه إذا أخلى عنه. اهـ وقال العلم العراقي: قول الكشاف (أو كسوتهم): عطف على محل (مِن أوسَطِ)؛ غلط لم يتنبه له ابن المنير، وصوابه أنه عطف على قوله (إِطعَام). اهـ وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ) خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله، تقديره: طعامهم من أوسط، فالكلام تام على هذا عند قوله (عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكون من أوسط كذا، وأما إذا قلنا إن (مِنْ أَوْسَطِ) هو المفعول الثاني فيستحيل عطف (كِسْوَتُهُمْ) عليه لتخالفهما إعراباً. اهـ قوله: (والكاف فى محل الرفع). قال أبو حيان: هذا إن قدر (مِنْ أَوْسَطِ) في محل رفع وإلا فهي في محل نصب مثله. اهـ قوله: (وتقديره: أو إطعامهم كأسوتهم). قال الشيخ سعد الدين: ولا خفاء في زيادة الكاف وفي أنَّ التخيير على هذا بين

قوله: (رجس)

الإطعام والتحرير. اهـ وقال أبو حيان: هذه القراءة تنفي الكسوة. اهـ وقال السفاقسى: قدر أبو البقاء أي: مثل أسوة أهليكم في الكسوة، وعلى هذا لا تكون الآية عارية منها. اهـ قلت: في هذا التقدير نظر لأنه لم يتقدم ما يدل عليه. قوله: (فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه). قال الطَّيبي: قيل الضمير المجرور عائد إلى الحنث. اهـ وأقول: الظاهر عوده إلى الحلف أو إلى الشكر في قوله: ونعمه الواجب شكرها. قوله: ((رجس) قذر تعاف منه العقول). قال الراغب: الرجس والنجس متقاربان، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس أكثر ما يقال فيما يستقذر بالعقل. اهـ قوله: (وإفراده لأنه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف). قال الحلبي: ويجوز على هذا عكسه وهو أن يكون خبراً عن الآخر وحذف خبر ما قبله لدلالة خبر ما بعده عليه لأن لنا في نحو قوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) هذين التقديرين. اهـ قوله: (أو المضاف محذوف، كأنه قال: إنما تعاطي الخمر والميسر). قال أبو حيان: لا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنَّها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ). اهـ

قال الحلبي: وهو كلام حسن. اهـ قوله: (شرٌّ بحْت). بفتح الموحدة وبسكون الحاء المهملة ومثناة فوقية، أي: خالص. قوله: (شارب الخمر كعابد الوثن). أخرجه البزار من حديث عبد الله بن عمرو، وهو عند ابن ماجه وابن حبان بلفظ: مدمن الخمر، قال ابن حبان: يشبه أن يكون فيمن استحلها. قوله: (وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم). قال الطَّيبي: هذا من باب قوله تعالى (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ) من حيث الاختصاص بالذكر، ومن حيث التكرير، لأنَّ تكرير (عن) في قوله تعالى (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) كتكرير (رَأَيْتُهُمْ). اهـ قوله: (روي أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة فكيف بإخواننا ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس بلفظه، وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة بمعناه، وأصله في الصحيحين من حديث أنس. قوله: (نزلت عام الحديبية ... ) إلى آخره.

قوله: (روي: أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت).

أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. قوله: (والتقليل والتحقير في (بشيء) للتنبيه على أنه ليس من العظائم ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: ورد مثل هذه الصيغة في الفتن العظيمة في قوله تعالى (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) بل هو إشارة إلى أنما يقع به الابتلاء من هذه الأمور فهو بعض من كل بالإضافة إلى مقدور الله تعالى فإنه قادر على أن يبتليكم بأعظم وأهول منه ليبعثهم بذلك على الصبر، ويدل على ذلك أنه سبق الوعد به قبل حلوله ليوطن النفس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم، فإذا فكر العاقل وجد ما صرف عنه من البلاء أكثر مما وقع به بأضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده. اهـ قوله: (كرداح ... ). في الصحاح: الرداح: المرأة الثقيلة الأوراك، والجفنة العظيمة، وكتيبة رداح: ثقيلة السير لكثرتها. اهـ قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم ... ) الحديث. أخرجه الشيخان من حديث عائشة. قوله: (وفي رواية: الحية، بدل العقرب). أخرجها مسلم. قوله: (واختلف في هذا النهي هل يلغى حكم الذبح فليلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثنى أو لا؟). الأصح من المذهب الأول. قوله: (روي: أنه عنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله فنزلت). إنما هو أبو قتادة والحديث مخرج في الصحيحين من روايته وأنه هو الذي فعل.

_ (1) في الأصل (التعليل) والتصويب من تفسير البيضاوي. (مصحح النسخة الإلكترونية).

قال الطَّيبي: وما وجدت حديث أبو اليسر في الأصول. اهـ قوله: (واللفظ للأول أوفق). قال الطَّيبي: لأنَّ قوله (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) حقيقة فيه، وفي جعله القيمة ارتكاب المجاز، ويؤيده قراءة ابن مسعود (فجزاءه مثل ما قتل من النعم). اهـ قوله: (أو من (جزاء)). قال الطَّيبي: إنما يستقيم على مذهب الأخفش وهو أن يكون التقدير: فعليه جزاء مثل ما قتل هدياً، فهو حال من فاعل الجار والمجرور من غير اعتماد. اهـ قوله: (وإن نون لتخصيصه بالصفة). قال الحلبي: وكذا خصصه الشيخ أبو حيان، وهذا غير واضح، بل الحالية جائزة مطلقاً سواء قرئ مرفوعاً أو منصوباً منوناً أم مضافاً. اهـ قوله: (وقرأ نافع واين عامر (كَفَّارَةُ طَعَامُ) بالإضافة للتبيين). قال الإمام: إنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء الهدي والطعام والصيام حسنت الإضافة فكأنه قيل: كفارةُ طعامٍ لا كفارةُ صيامٍ. اهـ وإليه الإشارة بقول الكشاف: وهذه الإضافة مبينة. قوله: (كقولك: خاتمُ فضةٍ). قال أبو حيان: ليست هذه الإضافة من هذا الباب، لأنَّ خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه، والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيدٍ جداً. قال: وإنما هي إضافة الملابسة لأنَّ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيام. اهـ قوله: (وقرئ بكسر العين ... ) إلى آخره. قال الراغب: العَدْل والعِدْل متقاربان، لكن العَدل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة

كالأحكام، وعلى ذلك قوله (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)، والعدل والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعدل: هو التقسيط على سواءٍ وعلى هذا روي: بالعَدل قامت السماوات، تنبيهاً على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظماً. اهـ قوله: ((لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) متعلق بمحذوف، أي: عليه الجزاء). قال أبو حيان: هذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف (فَجَزَاءٌ) أو نون ونصب، وأما على قراءة من نون ورفع (مِثْلُ) فلا يجوز أن تتعلق اللام به، لأنَّ (مِثْلُ) صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة، لو قلت: أعجبني ضربُ زيدٍ الشديدَ عمروا لم يجز، فإنْ تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك، والصواب أن يتعلق على هذه القراءة بفعل محذوف، التقدير: جوزي بذلك ليذوق وبال أمره، ووقع لبعض المعربين أنَّها تتعلق بـ (عَدْلُ ذَلِكَ) وهو غلط. اهـ قال الحلبي: وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً لما تقدم من أنه يلزم أن يُتبعَ الموصول أو يُخبرَ عنه قبل تمام صلته وهو ممنوع. قال الحلبي: وقد أفهم كلامُ الشيخ أبي حيان بصريحه أنه على قراءة إضافة الجزاءِ إلى (مِثْلُ) يجوز ما قاله صاحب الكشاف، وأنا أقول: لا يجوز ذلك أيضاً، لأنَّ (لِيَذُوقَ) من تمام صلة المصدر وقد عطف عليه قوله (أَوْ كَفَّارَةٌ) (أَوْ عَدْلُ) فيلزم أن يعطف على الموصول قبل تمام صلته وذلك لا يجوز، لو قلت: جاء الذي ضرب وعمروٌ زيداً لم يجز للفصل بين الصلة -أو أبعاضها- والموصول بأجنبي فتأمل فإنه موضع حسن. اهـ وقال السفاقسي: تنظير أبي حيان بقوله أعجبني ضرب زيد الشديد عمروا ليس بسديد؛ لأنَّ عمروا مفعول به وليس هو كالمجرور. اهـ قوله: (فهو ينتقم الله منه).

قوله: (جعل الله الكعبة)

قال الطَّيبي: يعني (ينتقم) خبر مبتدأ محذوف (فهو جملة اسمية تحتاج إلى الفاء ولو لم تكن خبر مبتدأ محذوف لم يحتج إلى الفاء، لأنَّ الشرط إذا كان ماضياً والجزاء مضارعاً جاز الرفع وترك الفاء. اهـ قوله: (وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكى عن ابن عباس ... ). قال الإمام: دليل ابن عباس من أنه أعظم من أن يُكفَّر بالتصدق بل الله ينتقم منه لأن قوله تعالى (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) جزاء والجزاء كاف وكونه كافياً يمنع من وجوب شيء آخر. اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام فى البحر: هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته). أخرجه مالك والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وصححوه من حديث أبي هريرة. قوله: (نصب على الغرض). أي المفعول له كما عبر به في الكشاف. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: لحم الصيد حلال لكم، ما لم تصطادوه أو يصد لكم). أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث جابر. قوله: ((جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ): صيرها). أقول: فسر (جَعَل) بمعنى صير، وقال بعد ذلك: إن نصب (قِيَامًا) على المصدر

قوله: (وأشياء اسم جمع كطرفاء. . .)

أو الحال، والذي ذكره أبو البقاء أنه إن كان (جَعَل) بمعنى صير فـ (قِيَامًا) مفعول ثان، أو بمعنى خلق فهو حال. قوله: (وإنما سمي البيت كعبة لتكعبه). (روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد قال: إنما سميت الكعبة لتربيعها)، (ورويا أيضاً عن عكرمة قال: إنما سميت الكعبة لتربعها). قوله: (البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح). قال أبو حيان: ليس كما ذكر، لأنهم شرطوا في عطف البيان الجمود، والجامد ليس فيه إشعار بمدح إنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال إنه لما وصف عطف البيان بقوله (الحرام) اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك. اهـ قوله: (انتعاشاً لهم). في الصحاح: نعشه الله: رفعه، وانتعش العاثر: نهض من عثرته. قوله: (وأشياء اسم جمع كطرفاء ... ) إلى آخره. قال ابن الشجري في أماليه: ذهب الأخفش والفراء إلى أن أصل أشياء أَشْيِئاء بوزن أَفْعلاء فحذفت الهمزة التي هي لام فوزنها الآن أفعاء، فعورضا بأنَّ الواحد مثاله (فَعْل) وليس قياس (فَعْل) أن يجمع على (أفعلاء)، فاحتجا بقولهم في جمع سمح سمحاء. وروي عن الفراء أنه قال: أصل شيء شيِّءٌ، كهين، وخفف كما خفف هين إلا أن

شيئاً لزم التخفيف، ولما كان أصله (فيعل) جمعوه على (أفعلاء) كهين وأهوناء. وقوله في شيء أنَّ أصله التثقيل دعوى لا دليل عليها. وذكر أبو على في التكملة مذهب الخليل وسيبويه في أشياء ثم قال: فيه قول آخر وهو أن يكون أفعلاء ونظيره سمح وسمحاء وحذفت الهمزة التي هي لام كما حذفت من قولهم سواية حيث قالوا سوااية، ولزم حذفها في (أفعلاء) لأمرين أحدهما: تقارب الهمزتين، وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة مفردة فجدير إذا تكررت أن يلزم الحذف، والآخر: أنَّ الكلمة جمع وقد يستثقل في المجموع ما لا يستثقل في الآحاد بدلالة إلزامهم (خطايا) القلبَ، وإبدالهم من الأولى في ذوائب الواو. قال: وهذا قول أبي الحسن، فقيل له: كيف تحقرها؟ قال: أقول في تحقيرها أُشَيّاء، فقيل له: هلا رددت إلى الواحد فقلت شييئات، لأن (أفعلاء) لا يصغر؟ فلم يأت بمقنع. قال ابن الشجري: الذي ناظره في ذلك أبو عثمان المازني فأراد أن (أفعلاء) من أمثلة الكثرة، وجموع الكثرة لا تحقر على ألفاظها ولكن تحقر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تحقير دراهم دريهمات، ثم قال أبو علي بعد ذلك فلم يأت بمقنع. والجواب عن ذلك أن (أفعلاء) في هذا الموضع جاز تصغيرها وإن لم يجز التصغير فيها في غير هذا الموضع لأنها قد صارت بدلاً من أفعال (بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما ضيف إلى أفعال ويدل على كونها بدلاً من أفعال) تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم ثلاثة أشياء، فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة التي ذكرت كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال، وإذا كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شىء واحد. انتهى كلامه.

قال ابن الشجري: وأقول في تفسير قوله (أن أفعلاء في هذا الوضع صارت بدلاً من أفعال): يعني أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروف كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد، ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشَياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلاً من أفعال بدلالة أنَّهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا: ثلاثة أشَياء مما لا تقوم به دلالة، لأنَّ أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنَّهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثاً لأنَّ الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول: ثلاثة أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء، فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثاً، وذلك لأنَّ الواحد نبي وصديق وشَاعر كما أنَّ واحد أشياء شَيء، فأي دلالة في قوله: (ويدل على كونها بدلاً من أفعال تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم ثلاثة أشياء)؟. قال ابن الشجري: وأقول إنَّ الذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأنَّ وزنه نقص بحذف لامه فصار أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وقول أبي علي في أشياء إن أصلها أفعلاء وحذفت الهمزة التي هي لام كما حذفت من قولهم سواية ولزم حذفها من أفعلاء لأمرين أحدهما: تقارب الهمزتين، وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة مفردة فجدير إذا تكررت أن يلزم الحذف، يعني إن الهمزتين في أشياء تقاربتا حتى لم يكن بينهما فاصل إلا الألف مع خفائها فهي كلام فاصل، وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة المفردة في سواية فحذف الهمزة التي وليتها همزة أولى، فأما مذهب الخليل وسيبويه في أشياء فإنَّها اسم يراد به الجمع، وكان القياس فيه شيئاء ليكون فعلاء كطرقاء وحلفاء فاستثقلوا تقارب الهمزتين فأخروا الأولى التي هي اللام إلى أول الحرف فصار أشياء وزنه لفعاء. قال أبو علي: والدلالة على أنَّها اسم مفرد ما روي من تكسيرها على أشاوي؛ كسروها كما كسروا صحراء على صحاري حيث كانت مثلها في الإفراد. قال ابن الشجري: وأقول إن أشياء يتجاذبها أمران: الإفراد والجمع، فالإفراد في

اللفظ، والجمع في المعنى كطرفاء وحلفاء وقصباء هن في اللفظ كصحراء وفي المعنى جمع طرفة وقصبة وحلفة بكسر لامها وفتحه على الخلاف، وكذلك أشياء لفظها لفظ الاسم المفرد من نحو صحراء وهو في المعنى جمع شيء، ودليل ذلك ما ذكره أبو علي من قولهم في جمعها أشاوي كصحاري، وأصله أشاياء فأبدلوا الياء واواً على غير قياس كإبدالها واواً في قولهم: جبيت الخراج جباوة، ودليل آخر وهو قولهم في تحقيرها (أُشيَّاء كصحراء، ولو كانت جمعاً لفظاً ومعنى وجب أن يقال في تحقيرها) شييئات، ويدل على أنَّها في المعنى جمعٌ إضافةُ العدد إليها في قولهم ثلاثة أشياء، ولو كانت اسما مفرداً لفظاً ومعنى لم يجز إضافة العدد إليها ألا ترى أنه لا يجوز ثلاثة صحراء. اهـ وقد لخص ابن يعيش هذا الكلام وزاده تحقيقاً فقال في كتابه شرح التعريف الملوكي: وأما أشياء فظاهر اللفظ يقضي بكونها جمع شيء لأنَّ فعلاء إذا كان معتل العين يجمع فيه القلة على أفعال، نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ، إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير نحو قوله تعالى (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) فحينئذ تشعبت أرآء الجماعة فيها، فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث، وأنَّ الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو العضاء والحلفاء والطرفاء في أنها اسم للجمع ليس بتكسير، ومثله حامل وباقر، فأشياء في الأصل شيئاء وزنه فعلاء مقلوبه إلى لفعاء كأنهم فعلوا ذلك استثقالاً لتقارب الهمزتين، وإذا كانوا قد قبلوا نحو قسي مع عدم الثقل فمع الثقل أولى، فإذن الهمزة الأولى في أشياء لام والثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا ينصرف، وذهب أبو الحسن إلى أن أصلها أشياء على زنة أفعلاء فحذفت الهمزة الأولى تخفيفاً على حد حذفها من سؤية سواية ثم فتحت الياء المجاورة للألف وشذ عنه جمع فعل على أفعلاء كما قالوا شاعر وشعراء وسمح وسمحاء، جمعوا فاعلاً وفعلا على فعلاء كأنه استبعد القلب فلم يحملها عليه ورآها غير مصروفة فلم يحملها على أفعال، وذهب الفراء إلى مثل مذهبه في أنها أفعلاء إلا أنه استبعد جمع فعل على أفعلاء، فادعى أنَّ شيًْء مخفف من شيِّء كهيْن وهيِّن فكما جمعوا هيناً على أفعلاء فقالوا أهوناء كذلك جمعوا شيئا على أفعلاء لأنَّ أصله شيِّء عنده، وذهب الكسائي إلى أنَّ أشياء أفعال بمنزلة أبيات وأشياخ إلا

أنهم لما جمعوها على أشياوات أشبهت ما واحده فعلاء فلم ينصرف لأنَّها جرت مجرى صحراء وصحراوات كأنه تبع اللفظ وحمله على حي وأحياء، واحتال لمنع الصرف. والأظهر مذهب سيبويه والخليل لقولهم في جمعه أشاوي، فجمعوا جمع الأشياء على حد صحراء وصحارى، وكان القياس أشياياء بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوا واواً شاذاً كما قالوا: جبيت الخراج جباوة، وقالوا: رجاء بن حيوة وحيوان وأصلهما حية وحيياء فأشياء عند سيبويه لفعاء، وهي عند أبي الحسن أفاعل، كأنه لما جمع أفعلاء حذف الألف والهمزة التي بعدها للتأنيث للتكسير كما حذفهما من القاصعاء قالوا قواصع فصار أشياواء ثم قلب كما قلب مدارى، ومما يؤيد كونه مفرداً أنَّهم قد قالوا في التصغير أُشيَّاء فحقروه على لفظه، كما قالوا في قضباء قضيباء، وفي طرفاء طريفاء، ولو كان أفعلاء كما ظن أبو الحسن والفراء لرد في التحقير إلى واحده فقيل شييئات لأنَّ أفعلاء من أبنية الكثرة فيرد إلى واحده في التحقير كما ترد أنصباء في التحقير إلى نصييبات، وشعراء إلى شويعرون. قال المازني: سألت أبا الحسن عن تصغير أشياء فقال: العرب تقول أُشيَّاء فاعلم فيدعونها على لفظها. فقلت: لم لا ردت إلى واحدها كما ردوا شعراء إلى واحده؟ فلم يأت بمقنع. وأما ما ذهب إليه الفراء من أن أصل شيء شيِّء بالتشَديد فهو جيد لو أنَّ عليه دليلاً، وأما اعتلال الكسائي في منع الصرف من أنه عنده أفعال ففيه تعسف فلا يصار إليه ما وجد عنه مندوحة، وإذا جاز أن يكون فعلاء كقضباء وطرفاء فلا يحمل على ما ذكره وليس فيه تكلف سوى القلب، وهو كثير في الكلام فأعرفه. انتهى. قوله: (على أن أصله شيئ كهين، أو شيء كصديق). قال أبو حيان: فعلى الأول اجتمع همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي اللام لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً. قال: وزنها إلى أفلا، وعلى الثاني: حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفاً.

قال: وزنها إلى أفياء. اهـ قوله: (رُوي أنه لما نزل (ولله على الناس حج البيت) قال سراقة ابن مالك ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة، لكن فيه أن القائل عكاشة بن محصن. قوله: (وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم ... ) الحديث. أخرجه البخاري نحوه، وهو بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة أخرجه الفريابي في تفسيره. قوله: (الضمير للمسألة). أي راجع إلى المصدر لا إلى المفعول ليحتاج إلى تعديته بـ (عن). قال أبو حيان: ولا يتجه ذلك إلا على حذف مضاف، وقد صرح به بعض المفسرين، أي: قد سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات. اهـ قال الراغب: (قَدْ سَأَلَهَا) يحتمل وجهين أحدهما: أنه استخبار إشارة إلى نحو قول أصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله تعالى (قَدْ سَأَلَهَا) وبين قوله قد سأل عنها، والثاني: أنه استعطاء إشارة إلى نحو المستنزلين للمائدة من عيسى، والسائلين من صالح الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها. اهـ قال الطَّيبي: اعلم أنَّ الطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام ألفاظ متقاربة ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك وفيما تطلبه من نفسك، والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك، فكل سؤال طلب وليس كل طلب سؤالاً، والسؤال يقال في الاستعطاء فيقال: سألته كذا، ويقال في الاستخبار فيقال: سألته عن كذا، وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر وذلك أخص من السؤال، فكل استخبار سؤال وليس كل سؤال استخباراً، والاستفهام طلب الإفهام

وهو أخص من الاستخبار فإن قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) استخبار وليس استفهام، فكل استفهام استخبار وليس كل استخبار استفهاماً، والاستعلام طلب العلم فهو أخص من الاستفهام، وليس كل ما يفهم يعلم بل قد يظن ويخمن، وكل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما. اهـ قوله: (وليس صفة لـ (قوم) فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة). قال أبو حيان: هذا إنما هو في ظرف الزمان المجرد من الوصف، أما إذا وصف فإنه يكون خبراً وقبل وبعد وصفان في الأصل، فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو، فالمعنى: جاء في زمان قبل زمان مجيئه، أي متقدم عليه، ولذا صح وقوعه صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة، قال تعالى (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ولا يجوز: والذين اليوم. اهـ قوله: (نتجت ... ). بالبناء للمفعول. قوله: (ومعنى ما جعل: ما شرع ... ) إلى آخره. قال أبو حيان: ولم يذكر النحويون في معاني جعل: شرع، فالأولى جعلها بمعنى صيَّر والمفعول الثاني محذوف أي: ما صير الله بحيرة مشروعة بل هي من شرع غير الله تعالى. اهـ قوله: (الواو للحال). قال الشيخ سعد الدين: الزمخشري يجعل الواو في مثل هذا الموضع للحال، مع أنَّ ما دخلته الواو ليس حالاً من جهة المعنى بل ما دخلته لو، أي: ولو كان الحال أنَّ آباءهم لا يعلمون، وبعضهم على أنَّها للعطف على مقدر. اهـ قوله: (من رأى منكم منكرًا ... ) الحديث. أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد.

قوله: (على ليقم)

قوله: ( ... على ليقم). قال أبو حيان: هذا مخالف لقول النحاة: لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا إن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ ... ) الآية، أو أجيب به نفي أو استفهام، وليست الآية واحداً من الثلاثة، فالذي عندي تخريجها على وجهين: أحدهما: أن تكون (شَهَادَةَ) منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و (اثْنَانِ) مرتفع به، والتقدير: ليشهد بينكم اثنان، فيكون من باب ضربا زيداً، إلا أن الفاعل في ضربا مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه: اضرب، وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه: ليشَهد، الثاني: أن يكون مصدراً لا بمعنى الأمر بل خبراً ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلاً كقوله: وقوفاً بها صحبي علي مطيهم، فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير: وقف صحبي على مطيهم، والتقدير في الآية: يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان. اهـ قوله: (من الذين جُنى عليهم). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن استحقاق الإثم عليهم كناية عن هذا المعنى، وذلك لأنَّ معنى استحق الشيء: لاقَ به أن ينسب إليه، والجاني للإثم (المرتكب له يليق أن ينسب إليه الاثم)، ثم استحق الإثم في معنى ارتكبه وجناه، فالذي استحق عليهم الإثم أي: جُني عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة. اهـ قوله: (ومعنى الآيتين: أنّ المحتضر ... ) إلى آخره. قال الطيبي: هذا تلخيص المعنى وهو في غاية من الجودة. قال: واعلم أنَّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب. قاله الزجاج. وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. وقال الإمام: اتفق المفسرون على أنَّ هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً

قوله: (يوم يجمع الله الرسل) ظرف له).

وحكماً. اهـ قوله: (روي أنّ تميماً الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام ... ) الحديث. أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس. قوله: ((يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف له). قال الحلبي: فيه نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا. قال: وفي تقدير الزمخشري: لا يهديهم طريق الجنة نُحوٌ إلى مذهبه من أنَّ نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى، ولذلك خصص المهدي إليه ولم يذكر غيره، والذي سهل ذلك عنده أيضاً كونه في يومٍ لا تكليف فيه، وأما في دار التكليف فلا يجيز المعتزلي أن ينسب إلى الله تعالى نفي الهداية مطلقاً. اهـ قوله: (وقيل: بدل من مفعول (واتقوا)). قال أبو حيان: فيه بعد لطول الفصل بالجملتين. اهـ وقال الحلبي: لا بعد فإنَّ هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى. اهـ قوله: (بدل الاشتمال). زاد في الكشاف: كأنه قيل: واتقوا الله يوم جمعه. اهـ قال العلم العراقي في الإنصاف: بدل الاشتمال هنا ممتنع، لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه (أو اشتمال المبدل منه) على البدل، وهنا يستحيل ذلك، وإنما يتم ذلك ببيان الإضمار، فإن تقديرها: واتقوا عذاب الله يوم. .، فيكون حينئذ بدلاً لاشتمال اليوم على العذاب. اهـ وكذا قال الحلبي: لابد من حذف مضاف على هذا الوجه حتى تصح له هذه العبارة

التي ظاهرها ليس بجيد، لأنَّ الاشتمال لا يوصف به الباري تعالى على أي مذهب فسرناه من مذاهب النحويين في الاشتمال، والتقدير: واتقوا عقاب الله يوم يجمع رسله، فإنَّ العقاب مشتمل على زمانه، أو زمانه مشتمل عليه، أو عاملها مشتمل عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدل الاشتمالي. اهـ وقال ابن المنير: إذا أعرب بدلاً يكون منصوباً مفعولاً به لا ظرفاً. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف، بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي، مثلاً إذا قيل: اتقوا الله، يتبادر الذهن إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم (من أيام) أفعاله يجب الاتقاء يوم جمعه للرسل وللأمم أم غير ذلك. اهـ قوله: (أو منصوب بإضمار اذكر). قال ابن المنير: وعلى هذا يكون مفعولاً به. اهـ تنبيه: قال أبو حيان: ذكروا في نصب (يَومَ) سبعة أوجه، بإضمار اذكر، أو احذر، أو بـ اتقوا، أو بـ اسمعوا، أو بـ لا يهدي، أو على البدل، أو على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره: يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت. قال: والذي نختاره غير ما ذكر، وهو أن يكون معمولاً لقوله (قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا)، أي: قال الرسل وقت جمعهم. اهـ قوله: (أو بأي شيء أجبتم، فحذف الجار). قال الطَّيبي: لم يلتفت صاحب الكشاف إلى هذا القول. اهـ قوله: (أي: إنك الموصوف بصفاتك المعروفة). زاد الكشاف: ومن العلم وغيره. اهـ

قال الطَّيبي: والتركيب حيننئذ من باب: أنا أبو النجم وشعري شعري. اهـ قوله: (و (عَلاّم) منصوب على الاختصاص). قال الحلبي: يعني بالاختصاص النصب على المدح، لا الاختصاص الذي هو شبيه بالنداء فإن شرطه أن يكون حشوا. اهـ قوله: (أو النداء). زاد في الكشاف: أو هو صفة لاسم إنَّ. اهـ قال الطَّيبي: قيل: وفيه نظر لأنَّ اسم إنَّ ضمير، والضمير لا يوصف. قال: وأجيب بأنَّ النظر مدفوع لأنه يذكر الأقوال المذكورة وبعضهم جوز وصف الضمير، وهذا بناءً على ذلك المذهب. اهـ وقال أبو حيان: أجمعوا على أنَّ ضمير المتكلم والمخاطب لا يجوز أن يوصف، وإنما جرى الخلاف في ضمير الغائب. اهـ وقال الحلبي: يمكن أن يقال: أراد بالصفة البدل، وهي عبارة سيبويه، يطلق الصفة ويريد البدل، فله أسوة بإمامه، ولكن يبقى فيه البدل بالمشتق وهو أسهل من الأول. قال: ولم أرهم خرجوه على لغة من ينصب الجزأين بـ (إن) ولو قيل به لكان جواباً. اهـ قال الطَّيبي: لا ارتياب أنَّ الكلام إذا انقطع عند قوله (أَنْتَ) كما صرح به لم يكن لقوله تعالى (عَلاّمُ الْغُيُوبِ) تعلق إعراب به، فلا وجه لجعله صفة نحوية، فيكون التقدير: يا علام الغيوب، على النداء، أو اذكر علام الغيوب على المدح، أو أعني علام الغيوب على الوصف والتفسير، فإن الجملة الثانية بيان للجملة الأولى من حيث الصفة التي يستند عليها المقام على طريقة: أنا أبو النجم، وأنت تعلم أنَّ نحو هذا التركيب لا يفيد معنى بنفسه ما لم يستند إلى ما ينبيء عن وصف خاص، وههنا لما قيل: إنك أنت الموصوف بأوصافك لم يعلم أنَّ الصفة التي يقتضيها المقام ما هي فقيل:

(إذ قال. . .)

علام الغيوب، للكشف والبيان للاحتياج إلى تعيين ما يقتضيه المقام، وقوله: (شعري شعري على الوصف الذي يستدعيه أنا، أي: أنا ذلك المشهور بالبلاغة والفصاحة) وشعري هو البالغ في الكمال. اهـ قوله: (بدل من (يوم يجمع)) قال الطَّيبي: لما كان البدل كالتفسير للمبدل وكان قوله (مَاذَا أُجِبْتُمْ) مبهماً أجاب بقوله (إِذ قَالَ ... ) إلى آخر السورة بياناً وتفصيلاً لذلك المجمل، وأوضح أنَّ الجواب كان جواب رد لا قبول، ولهذا قال: والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذ، وختم الآية بقوله (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ). اهـ قوله: (وقرئ: آيَّدْتُكَ). زاد في الكشاف: على أفعلتك. اهـ وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك. اهـ وقال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب، فإن كان يؤايد فهو فاعل، وإن كان يؤيد فهو أفعل. اهـ قوله: (ويؤيده قوله (تُكَلِّمُ النَّاسَ ... )) إلى آخره. قال الطَّيبي: أي الدليلُ على أنَّ المراد بروح القدس الكلام إيقاعُ قوله (تُكَلِّمُ النَّاسَ ... ) إلى آخره إما بياناً للجملة الأولى أو استئنافاً. اهـ قوله: (والمعنى: تكلمهم ... ) إلى آخره. قال الطيبي: يعني فائدة انضمام (كَهْلاً) مع (الْمَهْدِ) هذا، فعلى هذا يكون الثاني تابعاً للأول. قال: والأحسن ما في كلام الإمام أنَّ الثاني أيضاً معجزة مستقلة، لأنَّ المراد يكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين ينزل من السماء في آخر الزمان، لأنه حين رفع

قوله: (فيكون تنبيها على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم. (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة)

لم يكن كهلاً. اهـ قوله: (فيكون تنبيهاً على أن ادعاءهم الإِخلاص مع قولهم. (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة). قال الحلبي: هذا القول خارق للإجماع، وقال ابن عطية: لا خلاف أحفظه أنهم كانوا مؤمنين، وأجيب عن الآية بأجوبة منها: أنَّ معناها هل يفعل ربك، وهل يقع منه إجابة لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ أي هل تحب ذلك؟. اهـ وقال ابن المنير: هو من التعبير عن المسبب بالسبب لأنَّ الاستطاعة من أسباب الإيجاد أي: هل يفعل، تقول للقادر هل تستطيع كذا مبالغة في التقاضي فيكون إيمانهم سالماً. اهـ قال الواحدي: لا يدل قولهم على الشك كما تقول لصاحبك هل تستطيع أن تقوم. اهـ قال الزجاج: يحتمل أنَّهم أرادوا أن يزدادوا تبياناً وتثبيتاً كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى). وقال البغوي: لم يقولوا شاكين في قدرة الله تعالى ولكن معناه: هل يُنزل أم لا؟. اهـ قال الطَّيبي: ويقوي ذلك قولهم (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) وقوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ)، ولأنَّ وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل، فإن الله سبحانه أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله تعالى (كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ ... ) الآية، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير بقوله: إنَّ لكل نبيٍّ حواريًّا وإن حواري الزبير. اهـ

قوله: (وقيل: يأكل منها أولنا وآخرنا)

قوله: (أو من ماده إذا أعطاه). قال الطَّيبي: روى الزجاج عن أبي عبيدة أنَّها مفعولة ولفظها فاعلة، نحو (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ). اهـ وقال الزجاج: إنَّها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها. اهـ قوله: (وقيل: العيد السرور). قال الطيبي: فعلى هذا الضمير يعود إلى المائدة، ولا يحتاج إلى تقدير المضاف. اهـ قوله: (وقيل: يأكل منها أولنا وآخرنا). قال الطَّيبي: يريد أنَّ التكرار في (أولنا) لرفع التفاوت بين قوم وقوم، يعني: لا تفاوت بين من يأكل أولاً وبين من يأكل آخراً لإنزال الله سبحانه البركة فيها، ومثله في التكرير المعنوي قوله تعالى (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين. اهـ قوله: (عَذَابًا) (أي: تعذيباً). قال أبو البقاء: (عَذَابًا) اسم المصدر الذي هو التعذيب كالسلامة بمعنى التسليم، فيقع موقعه. اهـ قوله: (ويجوز أن يجعل مفعولاً به على السعة). قال الحلبي: إطلاق العذاب على ما يعذب به كثير، لكن ليس لقائل أن يقول: كان الأصل: بعذاب، ثم حذف الحرف فانتصب المجرور به لأن ذلك لا يطرد إلا مع إنَّ وأنَّ بشرط أمن اللبس. اهـ قوله: (الضمير للمصدر). قال الكواشي: المعنى لا أعذب مثل تعذيب الكافر بالله تعالى وبعيسى عليه الصلاة والسلام بعد نزول المائدة أحداً من العالمين. اهـ

قوله: (قال سبحانك)

قوله: (أو للعذاب إن أريد به ما يعذب على حذف حرف الجر). قال أبو البقاء: يجوز أن يكون الهاء للعذاب، وفيه وجهان: أنَّ يكون على حذف حرف الجر، أي: أعذب به أحداً، وأن يكون مفعولاً به على السعة، ويجوز أن يكون ضمير المصدر المؤكد نحو: ظننته زيداً منطلقاً، ولا تعود الهاء على العذاب الأول. فإن قلت: (لا أُعَذِّبُهُ) صفة لـ (عذاب) وحينئذٍ لا راجع من الصفة إلى الموصوف؟ قلت: لما وقع الضمير موقع المصدر والصدر جنس عام و (عَذَابًا) نكرة كان الأول داخلاً في الثاني، نحو: زيد نعم الرجل. اهـ قوله: (ولا تجعلها مثلة). قال الطَّيبي: أراد بالمثلة العقوبة القريبة مثل المسخ. اهـ قوله: ((قَالَ سُبْحَانَكَ) أي: أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك). قال الطَّيبي: فإن قلت قوله (اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) لا يقتضي الشركة بل يقتضي اتخاذهما إلهين من دونه على أنه يوهم إنكار الإفراد ولأنهم لو اتخذوهما إلهين معه كان جائزاً لأنك إذا قلت: اتخذت فلاناً من دوني حبيباً، جاز إنكار إفراده بالاتخاذ؟ وأجاب الراغب بأن قوله (مِن دُونِ اللهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: إنكار اتخاذهما معبودين، وعدم اتخاذه معبوداً، وذلك أنَّهم لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد بها لأن الله تعالى لا يرضى أن يُعبد معه غيرُه، والثاني: أنَّ (دُون) هاهنا للقاصر عن الشيء، وهم عبدوا المسيح وأمه كيما يوصلا إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) فكأنه قيل: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال: سبحانك، منزهاً عن ذلك. اهـ قوله: (وقوله (فى نفسك) للمشاكلة). قال الطَّيبي: يعني لو لم يقل ما في نفسي لم يجز أن يقال (وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، لأنه لا يجوز أن يطلق على الله تعالى ابتداءً اسم النفس. قال الراغب: ويجوز أيضاً أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه بها فكأنه قال تعالى

قوله: ((أن اعبدوا الله ربي وربكم)

(ما في نفسي) ولا نفس لك فأعلم ما فيها، كقول الشاعر: ولا يرى الضب بها ينجحر أي لا ضب ولا جحر بها فيكون من الضب الانجحار. اهـ قوله: (تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه). أي لأفادته الحصر. قوله: ((أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) عطف بيان للضمير في (به)). قال أبو حيان: هذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام. اهـ وقال السفاقسي: هو وإن كان في الأعلام أكثر لكن لا يمنع وقوعه في غيرها، وقد أجازه أبو علي في غيرها من القرآن، وهو قوله تعالى (شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) قال إنه عطف بيان، على أنَّ ما ذكره المصنف من حيث المعنى حسن جداً. اهـ وقال ابن هشام في المغني: لا يجوز أن يكون عطف بيان على الهاء في (به) لأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أنَّ الضمير لا ينعت كذلك لا يعطف عليه عطف بيان، ووهم الزمخشري حيث أجاز ذلك ذهولاً عن هذه النكتة، ممن نص عليها من المتأخرين أبو محمد بن السيد وابن مالك والقياس معهما في ذلك. اهـ وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ في حاشيته على المغني وتبعه البدر ابن

الدماميني: ليست هذه النكتة من القوة بحيث يُوهَّم الزمخشري بالذهول عنها، ولعله لم يذهل وإنما رآها غير معتبرة بناءً على أنَّ ما يتنزل منزلة الشيء لا يلزم أن تثبت جميع أحكامه له، ألا ترى أنَّ المنادى المفرد المعين منزل منزلة الضمير ولذلك بُني، والضمير لا ينعت ومع ذلك لا يمتنع نعت المنادى. اهـ قوله: (أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقاً ليلزم بقاء الموصول بلا راجع). تصريح بمخالفة الزمخشري حيث منع من كونه بدلاً، وعلله بأنك لو أقمت (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مقام الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصول راجع إليه من صلته، وقد أطبق الناس على الرد على الزمخشري في ذلك. قال ابن المنير: هذا لا يمنع البدل فقد قال في مفصله: وقولهم إن البدل في حكم تنحية الأول يؤذن باستقلاله ومفارقته للتأكيد والصفة في كونهما اسمين لما يتبعانه لا أن يعنوا إهدار الأول واطراحه، تقول: زيداً رأيت غلامه رجلاً صالحاً، ولو أهدرت الأول لم يسند كلامك، ثم إنه لم يفرق في المفصل بين عطف البيان والبدل إلا في مثل قوله: أنا ابن التارك البكري بشر، وأنَّ المعتمد في عطف البيان الأول والثاني موضح، وفي البدل المعتمد الثاني والأول توطئة وبساط له. اهـ وقال أبو حيان: لا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين: زيد مررت به أبي عبد الله، ولو قال زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز إلا على رأي الأخفش. اهـ وقال ابن هشام: وهم الزمخشري فمنع أن يكون بدلاً من الهاء ظناً منه أن المبدل منه في قوة الساقط فتبقى الصلة بلا عائد، والعائد موجود حساً فلا مانع. اهـ وكذا قال صاحب الفرائد وصاحب التقريب.

لكن وافق الحلبي الزمخشري فقال رداً على أبي حيان: قوله إنَّ حلول البدل محل المبدل منه غير لازم، واستشهاده بما ذكر غير مسلم، لأن هذا معارض بنصهم على أنه لا يجوز: جاء الذي مررت به أبي عبد الله، بحرِّ عبد الله بدلاً من الهاء، وعللوه بأنه يلزم بقاء الموصول بلا عائد، ويكفيه كثرةُ قولهم في مسائل: لا يجوز هذا لأنَّ البدل يحل محل المبدل منه، فيجعلون ذلك علة مانعة يعرف ذلك من عانى كلامهم. اهـ قوله: (ولا يجوز إبداله بـ (ما أمرتني به) فإن المصدر لا يكون مفعول القول). عبارة الكشاف: لأن العبادة لا تقال. اهـ وتعقبوه أيضاً، فقال ابن المنير: إن لم تقل العبادة فيقال الأمر بها، فإذا جعلت موصولة مع فعل الأمر فمجازه: ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة على طريقة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهو متعلق القول لا نفسه وكذلك (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ). اهـ وقال أبو حيان: قوله لأن العبادة لا تقال صحيح لكن يصح ذلك على حذف مضاف أي: ما دلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله أي القول المتضمن عبادة الله. اهـ وقال الحلبي: وفيه بعض جودة. اهـ وقال السفاقسي: فيه تعسف. اهـ وقال ابن هشام: إنْ أُوِّل القول بالأمر كما فعل الزمخشري في وجه التفسير به جاز كونه بدلاً من (ما)، وقد فاته هذا الوجه هنا فأطلق المنع، فإن قيل: لعل امتناعه من إجازته، لأن (أمر) لا يتعدى بنفسه إلى الشيء المأمور به إلا قليلاً، فكذا ما أول به؟ قلنا: هذا لازم له على توجيه التفسير به. اهـ وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال: معناه: ما قلت لهم إلا عبادته، بالنصب،

أي: الزموا عبادته فيكون هو المراد بـ (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، ويصح كون الجملة وهي الزموا عبادته بدلاً من (مَا أَمَرْتَنِي) من حيث إنَّها في حكم المفرد لأنَّها مقولة و (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) مفرد لفظاً وجملة ومعنى. اهـ قوله: (ولا أن تكون (أن) مفسرة، لأنَّ الأمر مستند إلى الله تعالى وهو لا يقول: اعبدوا الله ربى وربكم). قال الطَّيبي: فيه نظر، لم لا يجوز أنه نقل معنى كلام الله تعالى بهذه العبارة، كأنه قيل: ما قلت لهم شيئاً سوى قولك لي قل لهم أن اعبدوا الله، كما سبق في قوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) على قراءة التحتية. اهـ وقال ابن المنير: يجوز على حكاية معنى قول الله تعالى بعبارة أخرى، كأنه قال: مرهم بعبادتي، وقال على لسان عيسى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فحكاه عيسى عليه الصلاة والصلام فكنى عن اسمه كما قال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا) وكذلك آية الزخرف (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى قوله (فَأَنْشَرنا). اهـ وقال أبو حيان: يستقيم ذلك على جعل (اعْبُدُوا اللهَ) فقط هو المفسر ويكون (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه الصلاة والسلام على إضمار أعني لا على الصفة لله. اهـ وردَّ الحلبي على أبي حيان: بأن ذلك في غاية البعد عن الأفهام، والمتبادر إلى الذهن أن (رَبِّي) تابع للجلالة. اهـ وكذا قال السفاقسي: فيه خروج عن الظاهر باقتطاع (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من جملة (اعْبُدُوا) وجعله على إضمار فعل، والزمخشري إنما ألزم المحذور على ظاهر اللفظ. اهـ

وقد اعتمد ابن الصائغ كلام أبي حيان فقال في حاشية المغني: يمكن أن يقال المحكى ًإنما هو (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وقوله (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه الصلاة والسلام أردف به الكلام المحكي تعظيماً لله تعالى، كما قال الزمخشري في قوله تعالى حكاية عن اليهود (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ): ويجوز أن يضع الله تعالى الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه الصلاة والسلام كما يذكرونه وتعظيماً لما أرادوا بمثله. وقال ابن الحاجب في أماليه: فإن أحكى: حاك كلاماً، فله أن يصف المخبر عنه بما ليس في كلام الشخص المحكي عنه. ثم قال ابن الصائغ: ويمكن أن يصرف التفسير إلى المعنى بأن يكون عيسى عليه الصلاة والسلام قد حكى قول الله تعالى بعبارة أخرى، وكأنه تعالى قال له مرهم بأن يعبدوني، ومرهم بأن يعبدوا الله ربك وربهم، فعبر عيسى عليه الصلاة والسلام عن نفسه بطريق التكلم وعنهم بطريق الخطاب، ونظيره في الحكاية بالمعنى قوله تعالى (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ) والأصل: إنكم لذائقون. اهـ وحكى هذين الوجهين البدر الدماميني ثم قال: ولا يمتنع أيضاً أن يكون الله تعالى قال لعيسى عليه الصلاة والسلام: قل لهم اعبدوا الله ربي وربكم، فحكاه كما أمر به ولا إشكال. اهـ قوله: (والقول لا يفسر). قال ابن المنير: أجاز بعضهم وقوع (أن) المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسراً له، اهـ قوله: (ألا أن يؤول القول بالأمر ... ) إلى آخره. فيه أمور: الأول: قال صاحب الفرائد: تأويل القول لا يصح إذا كان في التقسيم قسم يصح، لأن التأويل عند الضرورة. اهـ الثاني: قال ابن المنير: هذا التأويل تكلف ولا طائل تحته. اهـ

الثالث: قال أبو حيان: تجويز كون (أن) هنا مفسرة لا يصح، لأنَّها جاءت بعد (إِلاّ)، وكل ما كان بعد (إِلاّ) المستثنى بها فلا بد أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. اهـ وقال السفاقسي: الذي بعد (إِلاّ) هو و (مَا) موضعها نصب بـ (قُلْتُ)، و (أن) التفسيرية للجملة المتقدمة على (إِلاّ) وهي (مَا قُلْتُ لَهُمْ) المتضمن معنى ما ًأمرتهم. اهـ واستحسن ابن هشام في المغني جواب الزمخشري الرابع. قال الشيخ سعد الدين: في جعل (أن) المفسرة لفعل الأمر المذكور صلته -مثل: أمرته بهذا أن قم- نظر، أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغنٍ عن الآخر، وأما في الاستعمال فلأنه لا يوجد. اهـ قوله: (على أنه ظرف لـ (قال)). قال أبو البقاء ثم الطَّيبي: أي قال الله هذا القول في يوم ينفع، والقول هو (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وجاء على لفظ الماضي نحو (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) وليس ما بعد (قَال) على الحكاية في هذا الوجه كما في الوجه الآخر. اهـ قوله: (وليس بصحيح لأنّ المضاف إليه معرب). هذا على مذهب البصريين ومذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره جواز بناء المضاف إلى معرب. قوله: (من قرأ سورة المائدة). الحديث رواه ابن مردويه والثعلبي والواحدي وابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي، وهو موضوع كما بيناه في آخر سورة آل عمران. * * *

سورة الأنعام

سورة الأنعام قوله: (والجعل فيه معنى التضمين). قال الشيخ سعد الدين: أي جعل شيء في ضمن شيء بأن يحصل منه، أو يصير إياه، أو ينقل منه أو إليه، وبالجملة فيه اعتبار شيئين وارتباط بينهما. اهـ قوله: (وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها). أي بخلاف النور فإنه جنس واحد وهو النار. قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل الأجرام النيرة كثيرة كالكواكب، وقد ذكر في سورة البقرة أنَّ النور ضوء النار وضوء كل نير، ولو سلم فأفراد النور كثيرة قطعاً، فاتحاد جنس منشأ النور لا يقتضي إفراد اللفظ؟ قلنا: مرجع كل نير إلى النار كما قال: إن الكواكب أجرام نورانية نارية، وإن الشهب منفصلة من نار الكواكب، فيصح أن النور من جنس النار فقط، وأنه ضوء النار وضوء الكواكب وغيره، وإفراد اللفظ للقصد إلى هذا المعنى، وهو غير القصد إلى الجنس. اهـ قوله: (عطف على قوله تعالى الحمد لله ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني أن الكفر يصح أن يحمل على معنى الشرك تارة وعلى كفران النعمة أخرى، وبحسب هذين المعنيين يدور معنى (يَعْدِلُونَ) وتعلق الباء، فإذا جعل بمعنى الكفران يجب أن يعطف على (الْحَمْدُ للهِ) لأن الحمد بإزاء النعمة ولا نعمة أعظم من إخراج الممكنات إلى الوجود، فـ (يَعْدِلُونَ) على هذا من العدول، والباء صلة (كَفَرُوا) على حذف المضاف، أي: كفروا بنعمة ر بهم، وإذا جعل بمعنى الشرك يجب أن يعطف على (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) لأنَّ كفرهم بتسويتهم الأصنام بخالق السماوات والأرض كما قالوا (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فـ (يَعْدِلُونَ) على هذا بمعنى يسوون ليستقيم معنى الشرك، والباء متعلقة به، وعلى الوجهين قوله تعالى (بِرَبِّهِمْ) مظهر أقيم مقام المضمر للعلية، وعلى الأول معناه

التربية، وعلى الثاني المالكية والقهر، والحمد على الأول محمول على الشكر اللساني، وعلى الثاني النداء على الجميل. اهـ ًقال صاحب الانتصاف: في العطف على قوله (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) نظر، لأنَّ العطف على الصلة يوجب الدخول في حكمها، ولو قلت: الحمد لله الذي الذين كفروا بربهم يعدلون لم يستقم، ويحتمل أن يقال: وضع الظاهر موضع المضمر تفخيماً، ومجازه: الذي يعدل به الذين كفروا، أو الذي الذين كفروا بربهم يعدلون به، فساغ وقوعها صلة لهذا، ونظيره (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) فيمن جعلها موصولة لا شرطية، لأنَّ الظاهر وضع فيه موضع المضمر، تقديره: ثم جاءكم رسول مصدق له، لكن في آية الأنعام نظر إذ يصير تقديرها: الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون، ووقوعه بعد الحمد غير مناسب، فالوجه هو الأول. اهـ ولذا قال أبو حيان: هذا الوجه الثاني لا يجوز، ووجهه بمثل ما ذكره صاحب الانتصاف ثم قال: إلاّ أن يخرج على قولهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، فكأنه قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون، وهذا من الندور بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل عليه كتاب الله تعالى. اهـ وكذا قال ابن هشام إنه ضعيف. وقال الحلبي بعد حكايته كلام أبي حيان: الزمخشري إنما يريد العطف بـ (ثم) لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرح به هو فكيف يلزمه ما ذكر من الخلو عن الرابط، وكيف يتخيل كونها للمهملة في الزمان؟. اهـ وقال الطَّيبي بعد حكايته كلام الانتصاف: وليس بذاك لأنه من باب عطف حصول مضمون الجملتين لقوله إنه خلق كذا ثم هم يعدلون به، يعني: حصل من الله تعالى

خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور للمكلفين ليعرفوه ويوحدوه ويعبدوه فحصل منهم عكس ذلك حيث سووا معه غيره، نحو قوله تعالى (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، فموقعه الفاء في الظاهر فجيء بـ (ثم) للاستبعاد، ولأنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر لأنه ابتداء كلام الكفار، على أنه لو قيل: ثم الكافرون والمشركون كان ظاهراً أيضاً، فإن قلت: الحمد هو النداء على الجميل من نعمة أو غيرها فما معنى هذا الترتيب؟ قلت: معناه بيان فضله وكمال حكمته ورحمته، كأنه قيل: ما أحلمه وما أرحمه لما يصدر منه تلك الفضائل والأنعام ويقابل بذلك الكفر والكفران ولا يصب عليهم العذاب صباً، كما في قوله تعالى (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). اهـ قوله: (ومعنى (ثم) استبعاد عدولهم). قال الشيخ سعد الدين: إنما لم يحمل (ثم) على التراخى مع استقامته لكون الاستبعاد أوفق بالمقام. اهـ قال الطَّيبي: ذيل كل من الآيتين بكلمة الاستبعاد بحسب ما يقتضيه من المعنى، أما هذه الآية فلما تضمنت دلائل الآفاق من الأجرام والأعراض ذكر منها أعظمها جِرْماً في النظر وأشملها متناولاً للأعراض ليدخل في الأول سائر الأجسام من الكبير والصغير، وفي الثاني جميع الأعراض الظاهرة والخفية، ولهذا فسره الزجاج: بالليل والنهار، والقاضي: بالضلال والهداية، والدليل على الاستيعاب والجمع في أحد المكررين والإفراد في الآخر لأن في ذكر الأرض والنور مفردين واقترانهما بالجمعين إشعاراً بإرادة الجنسية في الإفراد والاستغراق في الجمع، وفي ذكر الخلق والجعل إشارة إلى استيعاب الإنشائين، ثم إنَّ الله تعالى بعد هذا الكلام الجامع والبيان الكامل نعى على الكفار بقوله عز وجل (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) يعني: انظروا إلى هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الأدلة كيف يتركون عبادة خالق الأرض

والسماوات ويشتغلون بعبادة الحجارة والموات، وأما الآية الثانية فلمّا اشتملت على دلائل الأنفس ذكر فيها المبدأ والمنتهى تصريحاً، ولوح إلى ما يتوسطها تلويحاً ذكر خلقهم من طين، ونص على الأجلين وعبر بـ (ثم) دلالة على أطوار ما في البين من النطفة والعلقة والمضغة المخلقة وغير المخلقة والنشوء حياً ثم الطفولة والشباب والشيخوخة إلى الموت، ونبه بذكر الامتراء والعدل من الغيبة في قوله (بِرَبِّهِمْ) إلى الخطاب في قوله عز وجل (أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) على التنبيه من رقدة الغفلة والجهالة، وأن دلائل الأنفس أقرب الدلائل وأدق، وهي التي يضطر معها الناظر إلى المعرفة التامة. وتلخيص المعنى: أنَّ دلائل الآفاق موجبة لإزالة الشرك وإثبات التوحيد فناسب أن يستبعد منهم الشرك مع وجودها، وأن دليل الأنفس مقتض لحصول اليقين فناسب أن يستبعد منهم الامتراء، واعلم أنَّ قطب هذه السورة الكريمة يدور مع إثبات الصانع ودلائل التوحيد وما يتصل بها، انظر كيف جعل احتجاج الخليل على قومه ومآله إلى قوله (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، وكيف أوقع أمر حبيبه صلوات الله وسلامه عليه بقوله (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) بعد ذكر معظم الأنبياء واسطة العقد ولجة بحر التوحيد، ثم تفكر في قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) كيف جاءت خاتمة لها! فسبحان من له تحت كل سورة من كتابه الكريم بل كل آية وكلمة أسرار تنفد دون نفاد بيانها الأبحر. اهـ قوله: (والباء على الأول متعلقة بـ (كفروا) ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: هذا تخصيص من غير مخصص لتأتي التقديرين على كل من الوجهين. اهـ قوله: (و (أجل) نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغنى عن تقديم الخبر). قال أبو حيان: لا يتعين هنا أن يكون المسوغ الوصف، لأنه يجوز أن يكون المسوغ التفصيل فإنه من مسوغات الابتداء بالنكرة. اهـ

قال الحلبي: لم يقل المصنف إنه تعين ذلك حتى يلزمه به، وإنما ذكر الوصف لأنه أشهر منه في المسوغات. اهـ قوله: (والاستئناف لتعظيمه). قال ابن المنير: هذا لا يوجب التقديم وقد ورد (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) والمراد تعظيمها. اهـ وقال الطَّيبي: ما يكون معظماً مفخماً فلا بد أن يكون مهتماً بشأنه، والاهتمام موجب للتقديم. اهـ زاد الشيخ سعد الدين: وأما تقديم الظرف في (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلإفادة الاختصاص. اهـ قوله: (متعلق باسم الله نعالى). عبارة الكشاف: بمعنى اسم الله تعالى. اهـ وهي أحسن. قال الطَّيبي: قال الزجاج: لو قلت: هو زيد في المدينة؛ لم يجز إلا أن يكون في الكلام دليل على أنَّ زيداً يدبر أمر المدينة. ونقل أبو البقاء عن أبي علي أنه قال: لا يجوز أن يتعلق باسم الله تعالى، لأنه صار بدخول الألف واللام والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا). قال الطَّيبي: والزمخشري اختار مذهب الزجاج، وزاد عليه في الاعتبار، فأوَّل التركيب على وجوه: أحدها: جعل اسم الله تعالى مشتقاً من أَلِهَ يأله إذا عبد، فالإله

: فعال في معنى المفعول، أي المألوه المعبود ثم تصرف فيه فصار (الله)، وهو المراد من قول الكشاف: وهو المعبود فيهما، وثانيها: جعل معنى شهرته في الإلهية عاملاً في الظرف، كما تقول: هو حاتم في طيء، على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به كأنك قلت: هو جواد في طىء، ومنه قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي: أنا ذلك المشهور في الفصاحة وشعري هو المعروف بالبلاغة، وهو الذي عناه صاحب الكشاف بقوله: وهو المعروف بالإلهية. قال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال (فِي السَّمَاوَاتِ) حال مؤكدة، أي: (وَهوَ اللهُ) معروف في السماوات والأرض، كقولك: هو زيد معروفاً في العالم. وقال المالكي: لا يكون الحال المؤكد بها خبر جملة جزأها معرفتان جامدتان إلا بلفظ دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم في تقديم العلم به والعامل فيها أحقه أو أعرفه. وثالتها: أن يكون رداً على المشركين في إثبات إله غيره. قال الزجاج: هو المنفرد بالتدبير في السماوات والأرض، خلافاً للقائل المخذول إن المدبر فيهما غيره. وإليه الإشارة بقول الكشاف: المتوحد بالإلهية فيهما. قال ابن الحاجب: وفائدة قولك: أنا زيد، وهو زيد الإخبار عما كان يجوز أنه متعدد بأنه واحد في الوجود وهذا إنما يكون إذا كان المخاطب قد عرف مسميين في ذهنه أو أحدهما فيذهنه والآخر في الوجود، فيجوز أن يكونا متعددين، فإذا أخبر المخبر بأحدهما عن الآخر كان فائدته أنهما في الوجود ذات واحدة.

ورابعها: أن يكون مأخوذاً من قوله تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، وهو المراد من قول الكشاف: وهو الذي يقال له الله فيها لا يشرك به في هذا الاسم، وهو اختيار أبي علي. وخامسها: أن لا يكون (فِي السَّمَاوَاتِ) متعلقاً بالاسم، وذلك بأن يكون خبراً بعد خبر، ومعناه: أنه عالم بما فيهما، كقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أي: بالعلم والقدرة. اهـ ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: لا خفاء ولا خلاف في أنه لا يجوز تعلقه بلفظ الله تعالى لكونه اسماً لا صفة وكذا في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) لأن (إِلَه) اسم وإن كان بمعنى المعبود كالكتاب بمعنى المكتوب بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي تضمن اسم الله كما في قولك: هو حاتم في طيء حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد، والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم -أعني المعبودية- وأما ما اشتهر به الاسم من الألوهية وصفات الكمال ودلت عليه (وَهُوَ اللهُ) مثل: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي: هو المعروف بذلك في السماوات وفي الأرض، أو ما يدل عليه التركيب الحصري من التوحد والتفرد بالألوهية، أو ما تقرر عند الكل من مقولية هذا الاسم عليه خاصة، فهذه أربعة أوجه وأما الخامس فهو أن يكون (فِي السَّمَاوَاتِ) خبراً آخر للمبتدأ، ومعنى كونه فيهما: أنه عالم بما فيها على التشبيه والتمثيل شبهت حالة علمه بها بحالة كونها فيها، لأن العالم إذا كان في مكان كان عالماً به وبما فيه بحيث لا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يَكون كناية فيمن لم يشترط جواز المعنى الأصلي، ولا يستقيم الكلام بدون هذا المجاز أو الكناية وكذا قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ). اهـ قلت: والمصنف اقتصر من الأوجه المذكورة على الأول والخامس وترك الثلاثة لأنها قريبة المعنى من الأول، وقال في قوله تعالى (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ): إنه بيان وتقرير لجملة (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)، أي: إيضاح لمعنى العلم المراد منهما على الوجه الأخير وهو الوجه الخامس، لأنه على الأول استئناف كما في الكشاف. قال الطَّيبي: إنه لما قيل هو المعبود فيها اتجه لسائل أن يسأل: فما شأنه مع عابديه

حينئذ؟ فأجيب: يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون فيجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وكذا على الوجه الثاني والرابع، ويقدر السؤال: بماذا عرف فيهما؟ وما وصفه فيهما؟ فقيل: وصفه فيهما بالعلم الشامل الكلي والجزئي، وأما على الثالث فهو بيان وتقرير كالخامس. اهـ قوله: (وليس متعلقاً بالمصدر لأن صلته لا تتقدم). يريد بالمصدر السر والجهر، أي ليس قوله (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلقاً بهما على معنى أنه يعلم السر والجهر الكائنين في السماوات والأرض لهذا المانع النحوي. وقد وهى ابن هشام في المغني هذا الكلام فقال: وقد أجيز في قوله تعالى (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تعلقه بـ (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، ورد بأن فيه تقديم وتأخير معمول المصدر، وتنازع عاملين في متقدم، وليس بشيء لأن المصدر هنا ليس مقدراً بحرف مصدري وصلته، ولأنه قد جاء نحو (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) والظرف متعلق بأحد الوصفين قطعاً، فكذا هنا. اهـ وقال الشيخ بدر الدين ابن الدماميني متعقباً على ابن هشام: ولا نسلم ذلك، ولم لا يجوز أن يكون مقدراً بما يسرون وما يجهرون. اهـ وقال شيخنا الإمام تقي الدين الشمني: ليس السر بمصدر، ففي الصحاح: السر الذي يكتم، وإذا لم يكن مصدراً لا يقدر بحرف مصدري وصلته، وأما الجهر فهو مصدر إلا أنه أريد به هنا ما يقابل السر، وهو الذي لا يكتم لا معناه المصدري، فلا يكون هنا مقدراً بحرف مصدري وصلته، ولا يخفى أنَّ المراد هنا بصلة الحرف المصدري فعل ذلك المصدر المقدر، وحينئذ فقول الدماميني: إنه يقدر بما يسرون

(وما تأتيهم من آية من آيات ربهم

ليس بظاهر لأنه يسر فعل الأسرار لا السر. قوله: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ): (مِنْ) الأولى مزيدة للاستغراق، والثانية للتبعيض). قال ابن الحاجب: ....................... (وقال الشيخ سعد الدين في توجيه التبعيض): لأنَّ الآية الواحدة وإن استغرقت في حكم النفي فهي بعض من جميع الآيات، وحملها على التبيين كما زعم ابن الحاجب إنما يستقيم لو كانت النكرة في النفى بمعنى جميع الأفراد، وما قال إنَّها لو كانت تبعيضية لما كانت الأولى استغراقية ممنوع لصحة قولنا ما يأتيهم بعض من الآيات أيُّ بعض كان. اهـ قوله: (أي: ما يظهر لهم دليل قط ... ). قال أبو حيان: فيه استعمال قط مع المضارع وليس بجيد لأنها ظرف مختص بالماضي. اهـ قوله: (أو عند ظهور الإسلام). قال الطَّيبي: فإن قلت: اتصال قوله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ) بما قبله على أنَّ المراد بالإنباء ظاهر، لمناسبة الاعتبار بترول العذاب على الأمم السالفة بالتهديد والوعيد، فما وجه اتصاله به إذا أريد به ما قال: عند ظهور الإسلام؟ قلت: معناه: فسوف يأتيهم أنباء القرآن ومن نزل عليه عند ظهور تباشير الظفر ونصر الله الإسلام وقهر أعداء الدين وغلبة أوليائه، أَوَلم يروا كم أهلكنا من قبلهم من المكذبين ونصرنا الأنبياء، وضعفة المؤمنين على من هم أشد من هؤلاء. اهـ قوله: (كما مثل جبريل فى صورة دحية). أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه

قوله: (سؤال تبكيت)

وسلم في صورة دحية الكلبي. وأخرج الطبراني عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان جبريل يأتيني على صورة دحية الكلبي، وكان دحية رجلاً جميلاً. قوله: (حيث أهلكوا لأجله). قال الطَّيبي: يعني أن قوله (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) من إطلاق السبب على المسبب، لأنَّ المحيط بهم هو العذاب لا المستهزأ به، ولما كان سبباً له وضع موضعه للمبالغة. اهـ قوله: (والفرق بينه وبين قوله (قل سيروا) ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يريد الأمر على الأول واحد مقيد، وعلى الثاني شيئان، والأول مباح، والثاني واجب لدلالة (ثم). قال صاحب التقريب: إنما لم يحمل على التراخي وعدل إلى المجاز إذ واجب النظر في آثار الهالكين حقه أن لا يتراخى عن السير. قال الطَّيبي: ويمكن أن يأمرهم بالسير أولاً وبالنظر ثانياً على الوجوب، ويكون الثاني أعلى مرتبة لأن الكلام مع المنكرين، كما تقول: توضأ ثم صل، والآية مع الفاء متضمنة للتنبيه على الغفلة والتوبيخ على التغافل، ومع (ثم) للتعبير على التواني والتقاعد. اهـ قوله: (سؤال تبكيت). في الأساس: ومن المجاز: بكته بالحجة أي: غلبه، وبكته: ألزمه ما عيّ بالجواب عنه. اهـ قال الطَّيبي: يعني إذا سئلوا عن قوله تعالى (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؟

لا محيد لهم إلا أن يقولوا الله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). اهـ قوله: (تقرير لهم). قال الشيخ سعد الدين: أي إلجاء إلى الإقرار بأن الكل لله، لأنَّ هذا من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن ينكره. اهـ وحكاه الطَّيبي بـ (قيل) ثم قال: والأولى أنَّ يكون من تقرير الشيء إذا جعل في مكانه. قال الجوهري: قررت عنده الخبر حتى استقر. أي قرر الجواب لأجلهم، فكأنَّ قولُه قولهَم لأنه لا خلاف بينه وبينهم، وهذا هو المراد من (قوله: لا خلاف بيني وبينكم). اهـ قوله: (أنه المتعين للجواب بالاتفاق). قال الإمام: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالسؤال أولاً والجواب ثانياً، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه مدافع. اهـ قوله: (أو رفع على الخبر، أي: وأنتم الذين). قال الحلبي: إنما قدر المبتدأ (أنتم) ليرتبط مع قوله تعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) وقوله تعالى (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من مراعاة الموصول. اهـ قوله: ((وله) عطف على (للهِ)). قال الشيخ سعد الدين: يجوز أنه يريد من عطف المفرد على المفرد، أعني الخبر على الخبر والمبتدأ على المبتدأ، كما تقول في له الملك وله الحمد: إنَّ (له) عطف على (له) و (الحمد) على (الملك)، وأنه يريد أن (وَلَهُ مَا سَكَنَ) عطف على لله

ما في السماوات والأرض بعد حذف المبتدأ والخبر بقرينة السؤال، والأول أظهر، والمقصود أن يدخل هذا أيضاً تحت (قُل) ليكون احتجاجاً ثانياً على المشركين، أي: لله ما استقر في الأمكنة وله ما استقر فى الأزمنة، ولذا جعل (سَكَنَ) من السكنى دون السكون إذ لا وجه للسكون على التحريك في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. اهـ وقال صاحب التقريب: إنما أدرجه تحت (قل) ولم يجعله مستأنفاً كما هو السابق إلى الفهم ليكون احتجاجاً ثانياً على المشركين، وإيذاناً بأنَّ له ما استقر في الأمكنة وما استقر في الأزمنة. اهـ قوله: (من السكنى). قال الطَّيبي: مقصوده من جعله من السكنى دون السكون التعميم والشمول، إذ لو جعل من السكون الذي يقابل الحركة لفات الشمول. اهـ قوله: (وتعديته بـ (في) كما في قوله تعالى: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ)). قال الطَّيبي: يعني سكن من السكنى جاء متعدياً بنفسه وبـ (في). قال في الأساس: سكنوا الدار وسكنوا فيها، وأسكنتهم الدار وأسكنتهم فيها. اهـ قوله: (وهو (السميع) لكل مسموع (العليم) بكل معلوم). قال الطَّيبي: المناسب أن يكون مردوداً إلى المعطوف والمعطوف عليه، أي: يعلم كل معلوم من الأجناس المختلفة في السماوات والأرض، ويسمع هواجس كل ما يسكن في الليل والنهار من الحيوان وغيره. اهـ قوله: (فلذلك قدم وأولى الهمزة). قال الشيخ سعد الدين: يعني قدم المفعول للاختصاص، وأولى حرف الاستفهام ليدل على أنَّ الإنكار راجع إلى نفس المفعول لا إلى الفعل. اهـ قوله: (وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى (فاطر) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها).

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن جرير في تفسيره. قوله: (وجره على الصفة لله). خرجه أبو البقاء على البدل. قال أبو حيان: وكأنه رأى أن الفصل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت لأنه على تكرار العامل. اهـ قوله: (يَرزقُ ولا يُرزقُ). قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المعنى على خصوص المطعم بل مطلق النفع تعبيراً عن كل الشىء بمعظمه. اهـ قوله: (على أنَّ الضمير لغير الله) أي في قوله (وهو يُطعم) على البناء للمفعول. قال الطَّيبي: وفيه إشكال، لأنَّ الكلام مع عبدة الأصنام والأصنام لا توصف بأنها تطعم، وليس الكلام مع اليهود والنصارى ليقال المسيح وعزير يَطعم ولا يُطعم. قال: والجواب أنَّ المقصود من قوله تعالى (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) إذا أخذ بمريديه أنه يُربَّى ولا يُربِّى كقوله تعالى (لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ). اهـ وقال الشيخ سعد الدين: صح ذلك بالنظر إلى إطلاق غير الله تعالى فإن منه من يُطعَم كالمسيح من معبودات الكفرة فغلب أو ورد على طريقتهم في إطعام الأصنام. اهـ قوله: (وقيل لي لا تكونن). قال الشيخ سعد الدين: عطفاً على (أُمِرْتُ) لظهور أنه لا يصح عطف (وَلا تَكُونَنَّ) على (أَنْ أَكُونَ) إذ لا وجه للالتفات، ولا معنى لقولك: أمرت أن لا تكونن. اهـ

قوله: ((فقد رحمه)

قوله: ((فقد رحمه) نجاه وأنعم عليه). قال الشيخ سعد الدين: لما اتحد ظاهر الشرط والجزاء احتيج إلى التأويل ليفيد. اهـ وقال صاحب الانتصاف: لو بقيت الرحمة على لفظها لما زاد الجزاء على الشرط، لأن صرف العذاب رحمة فاحتيج إلى التأويل. اهـ قوله: (فكان قادرًا على حفظه وإدامته). قال الشيخ سعد الدين: بيان لوجه ارتباط الجزاء بالشرط. اهـ وقال الطَّيبي: يريد أن قوله (فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جواب للشرط مقابل لقوله تعالى (فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ) وكان الظاهر أَن يقال (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) كما في آية يونس، لكن جيء به هنا عاماً ليشتمل على ذلك وغيره وليتصل به قوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). اهـ قوله: (تصوير لغيره). قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تخييلية فلا تلزم الجهة. اهـ قوله: (ويجوز أن يكون (الله شهيد) هو الجواب). قال الطَّيبي: أي المجموع، فعلى هذا هو من باب الأسلوب الحكيم، يعني: شهادته معلومة لا كلام فيها وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم مبيِّن لدعواي بإنزال هذا الكتاب الكريم، وإذا ثبت أن الله تعالى شاهد لي يلزم، فأكبر شيء شهادةً شهيد له. اهـ

قوله: ((ويوم نحشرهم)

وعبارة الشيخ سعد الدين: كأنه قيل: معلوم أن الله تعالى هو الأكبر شهادة، ولكن الكلام الأنسب بالمقام هو الإخبار بأن الله تعالى شهيد لي لينتج مع قولنا الله أكبر شهادة (أنَّ الأكبر شهادة) شهيد لي. اهـ وقال أبو حيان: هذا الوجه أرجح من الأول، لأنه لا إضمار فيه مع صحة معناه، وفي الأول إضمار أولاً وآخراً. اهـ قوله: (الذين خسروا أنفسهم من أهل الكتاب والمشركين). قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس إشارة إلى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) خاصة، ولذا كان مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، لا نصباً على الذم أو رفعاً كما في ما تقدم. اهـ قوله: (وإنما ذكر (أو) وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أنّ كلاً منهما وحده بالغ غاية الإفراط فى الظلم على النفس). قال الطَّيبي: يعني في مجيء (أو) وأنهم قد جمعوا بين الكذب والتكذيب إشارة إلى أنَّ كل واحد منهما بلغ في الفظاعة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فإنَّ الثابت أحد الأمرين، وهم في الجمع بينهما كمن جمع بين أمرين متناقضين. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: معنى جمعهم بين الأمرين أنَّهم ذهبوا إليهما جميعاً، لكن ورد في النظم كلمة (أو) لأنَّ المعنى أنه لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف من جمع بينهما. اهـ قوله: ((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) منصوب بمضمر). زاد في الكشاف: متأخر تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف. هـ والذي ذكره ابن عطية وأبو البقاء أنه بإضمار (اذكر).

قوله: (وإنما سماه فتنة لأنه كذب). قال الطيبي: يعني إنما سمي الجواب فتنة لأنَّ قولهم (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كان كذباً، والكذب سبب لإيقاع الإنسان في الفتنة وورطة الهلاك، فعلى هذا قولهم (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) مجرىً على ظاهره، و (ثُمَّ) للتراخي في الرتبة، يعني أن جوابهم هذا أعظم في تشويرهم من توبيخنا إياهم بقولنا (أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ)، وهذا الداعي إلى وضع الفتنة موضع الجواب، وعلى الأول -وهو تفسير الفتنة بالكفر- قولهم (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كناية عن التبري عنهم، وانتفاء التدين به، و (ثُمَّ) مجرىً على ظاهره، كقوله: ثم لم تكن عاقبة كفرهم. اهـ قوله: (والتأنيث للخبر كقولهم: من كانت أمك). قال صاحب التقريب: في الاستشهاد به نظر، لأنَّ (من) تذكر أو تؤنث. اهـ قال الطَّيبي: وأجيب أنَّ (من) إنما يذكر ويؤنث باعتبار مدلوله وإيهامه وشيوعه كالمشترك، وأما لفظه فليس إلا مذكر. اهـ قوله: (وقيل معناه: وما كنا مشركين عند أنفسنا). قال الجبائي: فيه مستند إلى أنَّ أهل المحشر لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيلجؤن إلى ترك القبيح. والجمهور على خلافه وإن الكذب عليهم في الآخرة جائز بل واقع واستدلوا بآيات كثيرة، وحمل هذه الآية على أنَّ المراد: ما كنا مشركين في ظنوننا واعتقادنا مخالفةٌ للظاهر. قوله: (وحمله على كذبهم فى الدنيا تعسف). قال الشيخ سعد الدين: أي أخذٌ على غير الطريق، لأن الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنَّها في شأن حشرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا، بل تنبو

عنه أشد نبو لأنَّ أول الكلام (ويومَ نَحْشُرُهمْ) وآخره (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وذلك في أمر القيامة لا غير. اهـ قوله: (يخل بالنظم). قال الطَّيبي: لما فيه من صرف أول الآية إلى أحوال القيامة وآخرها إلى أحوال الدنيا. اهـ قوله: (خرافات). قال الشيخ سعد الدين: قيل أصل الخرافة: ما اخترف من الفواكه من الشجر، ثم جعل اسماً لما يتلهى به من الأحاديث. وفي المستقصى: أنه رجل من خزاعة استهوته الجن فرجع إلى قومه وكان يحدثهم بالأباطيل، فكانت العرب إذا سمعت ما لا أصل له قالت: حديث خرافة، ثم كثر حتى قيل للأباطيل: خرافات. اهـ قلت: روى البزار عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث ذات ليلة نساءه حديثاً، فقالت امرأة منهن: هذا حديث خرافة. قال: أتدرون ما خرافة؟ كان رجلاً من عذرة أسرته الجن فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة. وفي الصحاح: الخرافات بتخفيف الراء الأباطيل والأكاذيب جمع خرافة، اسم رجل من عذره استهوته الجن وكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا حديث خرافة، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وخرافة حق. والراء فيه خفيفة، ولا تدخل الألف واللام لأنه معرفة علم إلا أن يراد به الخرافات الموضوعة في حديث الليل.

قوله: (ويجوز أن تكون الجارة (وإذا جاءوك) في موضع الجر)

قوله: (ويجوز أن تكون الجارة (وإذا جاءوك) في موضع الجر). قال الشيخ سعد الدين: هذا مبني على أنَّ (إذا) عنده ليس بلازم بالظرفية بل يجري عليه إعراب الأسماء. اهـ وقال أبو حيان: ما جوزه في (إذا) بعد (حتى) من كونها مجرورة تبعه عليه ابن مالك في التسهيل، وهو خطأ كما بينّاه في شرحه. اهـ قوله: (استئنافُ كلام منهم على وجه الإثبات). قال الشيخ سعد الدين: أي دون التمني يريد أنه ليس عطفاً على (نُرَدُّ) ليدخل تحت التمني ويكون المعنى: ليتنا لا نكذب، بل هو عطف على التمني عطف أخبار على إنشاء وهو جائز باقتضاء المقام. اهـ وقال الطَّيبي: قال صاحب المرشد: التقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب ونحن من المؤمنين رددنا أو لم نُرد، فلا يدخلان في جملة التمني، ويرتفعان على أنه استئناف خبر. اهـ قوله: (كقولهم: دعنى ولا أعود). قال الطَّيبي: قال صاحب الإقليد: وهو كالشرح لكلام ابن الحاجب، وإنما ذكر هذا الرفع لتعذر النصب والجزم على العطف، أما النصب فيفسد المعنى، إذ المعنى على هذا: يجتمع تركك لي وتركي لما تنهاني عنه، وقد علم أن طلب هذا المتأدب لترك المؤدب إياه إنما هو في الحال بقرينة ما عداه من ألمه بتأديب مؤدبه، وغرض المؤدب الترك لما نهى عنه في المستقبل، ولا يحصل هذا الغرض بترك المتأدب المنهي عنه في الحال، وإنما يحصل بالترك للعود في المستقبل، ولا يستقيم الجزم لأنه إذا جزم عطفاً أدى إلى عطف المعرب على المبني وهو ممتنع إذ العطف لاشتراك الشيئين في الإعراب ولا موضع للأول حتى يحمل عليه، وأما امتناع الجزم في (ولا أعود)

فلما فيه من عطف الجملة المنهية على الأمرية، فكأنه قال: دعني، ثم شرع في الجملة الأخرى ناهياً لنفسه عن العود، لأنه لا يلزم من النهي تحقق الامتناع والمقصود نفي وقوع العود في المستقبل ولا يحصل هذا إلا بالخبر. اهـ قوله: (أو عطف على (نرد)). قال الشيخ سعد الدين: والمعنى على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب. اهـ قوله: (على الجواب بإضمار (أن) بعد الواو). (قال أبو حيان: ليس كذلك فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب لأن الواو لا تقع جواب الشرط، فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو مع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها، وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة: وهي المعية ويميزها (من الفاء) تقدير موضعها كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميزها تقدير شرطٍ قبلها أو حالٍ مكانها، وشبهة من قال إنَّها جوابٌ أنَّها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنَّها جواب. قال: ويوضح لك أنَّها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط. اهـ وقال الحلبي: سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج فقال: نصب على الجواب بالواو في التمني. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: أما قراءة النصب فعلى تقدير: ليت لنا ردٌ أو عدم تكذيب

قوله: ((وقفوا على ربهم)

، فإن إضمار (أن) بعد الواو كإضمارها بعد الفاء، وما ذكر من معنى الجزائية والسببية أي: إن رددنا لم نكذب، ففيه نظر. اهـ قوله: (أو على (إنهم لكاذبون)). قال الطَّيبي: هو من عطف الخاص على العام. اهـ قوله: ((وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للسؤال). قال الشيخ سعد الدين: لاستحالة حقيقتة. اهـ وقال الطَّيبي: لا يجوز أن يقال وقفوا على الله حقيقة ولا كناية، لأنَّ الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، فوجب الحمل على المجاز، أي الاستعارة التمثيلية. اهـ قوله: (غاية لـ (كذبوا) لا لـ (لخسر)، لأن خسرانهم لا غاية له). قال الطَّيبي: ويمكن أن يحمل على قوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)، أي: إنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى يوم الدين ثم إذا جاء ذلك اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه، أي: خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع من المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون في ما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين. قال: وهذا أقرب مما قاله المصنف، لأن قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) مقارن بالتحسر المذكور في الآية وهو غير مناسب إلا بالحشر. اهـ قوله: (أضمرت وإن لم يجر لها ذكر). قال الشيخ سعد الدين: يعني في هذا المقال وبالنسبة إلى هؤلاء القائلين، وأما قوله (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فمقالٌ آخر وقوم آخرون. اهـ وقال الطَّيبي: فإن قلت: أما سبق قُبيل هذا (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا)

(وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم)

وضع الظاهر موضع المضمر؟ قلت: لا ارتياب أن القائلين لقوله (إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) هم الناهون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، وإن قوله (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ) إلى قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كالاعتراض والتوكيد لما يتضمن معنى الكلام السابق واللاحق من التهديد والوعيد لاشتماله على جميع من أنكر الحشر وسوء مغبتهم وإظهار حسرتهم وندامتهم ووخامة أمر حياة الدنيا، وليس المقام من مجاز وضع المظهر موضع المضمر لأن الاعتراض مستقل بنفسه ولا تعلق له بالسابق إلا من حيثُ المعنى. اهـ قوله: ((وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) تمثيل لاستحقاق آصار الآثام). قلت: بل هو على حقيقته كما وردت به الآثار. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسه حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك؟ قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك؟ فيقول: إن عملك كان دنساً. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك. قال فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني، فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله عز وجل (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس الملائي: أن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحاً، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أنَّ الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم، وتلا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا).

وقوله (للذين يتقون)

وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الذي طالما ركبتني في الدنيا، وأنا اليوم اركبك، وتلا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن قيس عن أبي مرزوق مثله. قوله: (وقوله (للذين يتقون) تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو). قال الطَّيبي: وذلك أن الظاهر أن يقال: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وما الدار الآخرة إلا جد وحق لا باطل زائل، فوضع موضعه (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) إطلاقاً لاسم المسبب على السبب. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لأنه لما خص خيرية أعمال الآخرة بالمتقين -وهي في مقابلة أعمال الدنيا- أي لعب ولهو، فما ليس من أعمال المتقين ليس من أعمال الآخرة وما ليس من أعمال الآخرة فهو من أعمال الدنيا، وأعمال الدنيا لعب ولهو، فما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو. اهـ قوله: (معنى (قد) زيادة الفعل وكثرته). قال أبو حيان: هذا قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم، وما استشهدوا به عليه فالتكثر فيه لم يفهم من (قد)، وإنما فهم من سياق الكلام، لأن الفخر والمدح إنما يحصلان بكثرة وقوع المفتخر به والممدوح به، وعلى تقدير أن تكون (قد) للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك في قوله (قَدْ نَعْلَمُ) لأنَّ علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير. اهـ

وقال الحلبي: قد يجاب عن هذا بأن التكثير في متعلقات العلم لا في العلم. اهـ ولذا قال السفاقسي: قد تصبح الكثرة باعتبار المعلومات. اهـ وقال الطَّيبي: يعني أن لفظة (قد) للتقليل ثم يراد به في بعض المواضع ضده وهو الكثرة كقوله تعالى (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، والنكتة ههنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتكذييهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله من إظهارك الشكوى إلا قليلاً، أو يكون تهكماً بالمكذبين وتوبيخاً لهم لقوله تعالى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). اهـ قوله: (كما في قوله: وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ) هو لزهير ابن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري وأولها: صحى القلب عن سلمى واقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: مما يستجاد له قوله: وذي نعمة تممتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحق باطله دفعت بمعروف من القول صائب ... إذا ما أضل القائلين تفاضله وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يُلْمِمْ به فهو قائله عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب نوافله غدوة عليه غدوة فوجدته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله يفدِّينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله فأعرضن منه عن كريم مرزإٍ ... جموع على الأمر الذي هو فاعله أخي ثقة لا تهلك الخمر رأسه ... ولكنه قد يهلك المال نائله تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله

(ولقد كذبت رسل من قبلك)

ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: يريد جوده ذاتي ليس مما يحدث بالسكر. قوله: (ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها). قال الشيخ سعد الدين: لما كان ظاهر الكلام كالمتناقض بناءً على أنَّ الجحود بالآيات المنزلة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب له فيما يدعيه من النبوة والشرائع أجيب بأنَّ المراد ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي. اهـ قوله: (روي أنَّ أبا جهل كان يقول: ما نكذبك ... ). الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديث علي. قوله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دليل على أن قوله عز وجل (لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس بنفى تكذيبه مطلقاً). قال ابن المنير: لا يدل لأنه لا يصح أيضاً مع نفي التكذيب، أي: هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن تصبر لأن من قبلك كذبوا وصبروا فأنت أجدر ولكنه أقرب من وجه آخر إذ قد ورد مثل هذه التسلية صريحاً في قوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ). اهـ قوله: ((وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي: من قصصهم). قال أبو حيان: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنَّ (من) لا تكون فاعلة، والذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي: وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نُصروا. اهـ

قوله: (وإن كان كبر)

وقال ابن عطية: الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان. اهـ وقال الرماني: تقديره ولقد جاءك نبأ. قوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ). قال الشيخ سعد الدين: وإنما أتى فيه بلفظ كان ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلاً، لأن كان لقوة دلالته على المعنى لا تقلبه كلمة (إن) إلى الاستقبال بخلاف سائر الأفعال. اهـ قوله: (وصفه به قطعاً لمجاز السرعة) قال الشيخ سعد الدين: للقوم كلام في أنَّ هذا من قبيل الصفة أو التأكيد أو عطف البيان، والأول هو الوجه، وكذا في قوله سبحانه وتعالى (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ). قوله: (روي أنه يأخذ للجماء من القرناء). أخرجه البخاري ومسلم. قولة: (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشرها موتها). أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم. قوله: (بل الفعل معلق أو المفعول محذوف). اختار أبو حيان أنَّ المسألة من باب التنازع، وأنَّ (أَرَأَيْتَكُمْ) والشرط تنازعا في عذاب الله تعالى فأعمل الثاني وهو (أَتَاكُمْ) فارتفع (عَذَابُ اللهِ) به فاعلاً، ولو أعمل الأول لنصب مفعولاً أول، وأما المفعول الثاني لـ (أَرَأَيْتَكُمْ) فهو الجملة الاستفهامية (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) والرابط لها بالمفعول الأول محذوف تقديره: أغير الله تدعون لكشفه، والمعنى: قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله سبحانه تدعونه لكشفه أو كشف نوازلها.

تنبيه: لم يتعرض المصنف لبيان جواب الشرط وهو (إِنْ أَتَاكُمْ)، وقد جعله الحوفي (أَرَأَيْتَكُمْ)، قُدم لدخول الهمزة عليه، ورُدَّ بأن تقديم جواب الشرط عليه ممنوع عند البصريين، وجعله الزمخشري محذوفاً تقديره: فمن تدعون، وقدره غيره: دعوتم الله، ودل عليه (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)، و جوز الزمخشري كونه جملة (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)، ورده أبو حيان بأن جملة الاستفهام المصدرة بالهمزة لا يجوز أن تقع جواباً للشرط، قال: والذي عندي أنه محذوف تقديره: فأخبروني عنه، دل عليه (أَرَأَيْتَكُمْ) لأنه بمعناه. قوله: (وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله). قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (وَتَنسَوْن) مجاز عن الترك، أو هو حقيقة. اهـ ونقل الإمام أنَّ بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق فقال له جعفر: هل ركبت البحر؟ قال: نعم. قال: هل رأيت أهواله؟ قال: نعم، هاجت يوماً رياح هائلة فكسرت السفن، وغرق الملاحون، فتعلقت ببعض ألواحها ثم ذهب عني اللوح فدفعت إلى تلاطم الأمواج حتى وصلت الساحل. قال جعفر: قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح وعلى اللوح فلما ذهبت هل سلمت نفسك إلى الهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد؟ قال: بل رجوت السلامة. قال: ممن؟ فسكت، فقال جعفر: إن الصانع هو الذي كنت ترجوه ذلك الوقت، وهو الذي أنجاك، فأسلم الرجل. قوله: (مراوحة) بالراء والحاء المهملة: وهو العمل بأحد العملين بمرة وبالآخر أخرى، من راوح بين الرِّجْلين: قام على إحداهما مرة وعلى الأخرى أخرى.

قوله: ((بغتة) من غير مقدمة. . .)

قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: مكر بالقوم ورب الكعبة). لم أقف عليه مرفوعاً إنما هو من قول الحسن أخرجه ابن أبي حاتم عنه بزيادة: أعطوا حاجتهم ثم أخذوا، لكن روى أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر مرفوعاً: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلما نسوا ما ذكروا به) الآية والتي بعدها. قوله: (نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها). قال الطَّيبي: هذا يؤذن أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) كما قال الكواشى إخبار بمعنى الأمر، أي: احمدوا الله، وكذا كل ما ورد في القرآن من هذا. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لأن مثل هذا تعليم للعباد ومقول على ألسنتهم. اهـ (قوله: (يأتيكم به) أي: بذلك). قال الشيخ سعد الدين: يريد أن ضمير (به) عائد إلى السمع والإبصار والقلوب بتأويل اسم الإشارة، وإفراد اسم الإشارة بتأويل المذكور. اهـ قوله: ((بَغْتَةً) من غير مقدمة ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: (جَهْرَةً) لا تقابل (بَغتة) من حيث اللفظ، لأنَّ مقابل الجهرة الخفية، لكن معنى (بَغتَة): وقوع الأمر من غير شعور، فكأنها في معنى خفية، فحسن لذلك أن يقال (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً). اهـ قوله: (أي: ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب). قال الشيخ سعد الدين: قيد بذلك ليستقيم الحصر، إذ غير الظالمين أيضاً يهلكون لكن لا تعذيباً وسخطاً بل إثابة ورفع درجة. اهـ

قوله: (ولم نرسلهم (1) ليقترح عليهم ويتلهى بهم). قال الطَّيبي: يعني: يلعب بهم ويسخر. قال: وهو إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). اهـ قوله: (جعل العذاب ماساً لهم، كأنه الطالب للوصول إليهم). قال الطَّيبي: يجوز أن يريد أن الاستعارة واقعة في المس فتكون تبعية، أو في العذاب فتكون مكنية، والظاهر الثاني. اهـ وبذلك جزم الشيخ سعد الدين فقال: جعل العذاب من قبيل الأحياء استعارة بالكناية. اهـ قوله: (وهو من جملة المفعول). قال أبو حيان: الظاهر أنه معطوف على (لا أَقُولُ) لا معمول له، فهو أُمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث، فهذه معمولة للأمر الذي هو (قُل). اهـ وقال الحلبي: في الإعراب الأول نظر من حيث أنه يؤدي إلى أن يصير التقدير: ولا أقول لكم لا أعلم الغيب، وليس بصحيح. اهـ قلت: كلا بل التقدير: ولا أقول لكم أعلم الغيب، فالقول صحيح مضمر بين (لا) و (أَعْلَمُ)، لا بين الواو و (لا). قال الشيخ سعد الدين: لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب، وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك، ليكون نفياً لادعاء الأمرين اللذين هما خواص الإلهية، ليكون المعنى: إني لا أدعى الإلهية ولا الملكية، ويكون تكرير (إِنِّي مَلَكٌ) دون (لا أَعْلَمُ) إشارة إلى هذا المعنى، و (لا) في (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) مزيدة مذكرة للنفي، وفي (لا أَقُولُ) يحتمل المذكرة والنافية. اهـ قوله: (تبرأ عن دعوى الإلهية والملكية).

(1) في الأصل (ولم يرسلهم) والتصويب من تفسير البيضاوي. (مصحح النسخة الإلكترونية).

قال الطَّيبي: جعل مجموع قوله (عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ) و (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عبارة عن معنى الإلهية، لأن قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة علم الغيب مخصوصتان به، ولهذا كرر في الملكية لفظ (لا أَقُولُ). قال: وهذا يهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على تفضيل الملك على البشر، لأنَّ الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى يعني من الإلهية إلى الملكية. اهـ قوله: (مثل للضال والمهتدي). قال الطَّيبي: يريد أنَّ هذه الخاتمة كالتذييل الذي يقع في آخر الكلام على سبيل التمثيل، وقوله (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) كالتتميم للتذييل والتنبيه على مكان التذييل، ثم المذيَّل إما ما سبق من أول هذه السورة وجميع ما جرى له مع القوم من الدعوة إلى الحق وإبائهم إلا الباطل وإما ما سبق من قوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) فالبصير من يتبع ما يوحى إليه، والأعمى من لا يرفع به رأساً، أو من قوله (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) فالأعمى من يدعي هذا والبصير من يتبع الوحي ويدعي النبوة. اهـ قوله: (أو مدعى المستحيل كالألوهية والملكية). قال ابن المنير: دعوى الملكية من الممكنات، لجواز أن يجعل الله تعالى البشر ملكاً والملك بشراً ويدل عليه قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً)، ولأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها. اهـ قال العلم العراقي: ومن البين في ذلك قوله تعالى (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أطمع آدم في أن يصير مَلَكاً والنبي لا يطمع في مستحيل. اهـ وحكى ذلك الطَّيبي وأقره.

قوله: (هم المؤمنون المفرطون في العمل

وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل دعوى الملكية من الممكنات، أي من دعوى الأمور الممكنة، لأنَّ الجواهر متماثلة يجوز أن يقوم بكلها ما يقوم ببعضها، ولهذا لما قيل لآدم (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أقدم على الأكل طمعاً في الملكية مع أن النبي لا يطمع في المحال فالجواب: أنَّ المقدمات على تقدير تمامها إنما تفيد إمكان أن يصير البشر ملكاً، وأما أن يكون ملكاً فلا، لتمايزهما بالعوارض المتنافية بلا خلاف، وهذا كما أنَّ كلاً من العناصر يجوز أن يصير الآخر لا أن يكون، وعلى هذا ينبغي أن يحمل طمع آدم لو سلم نبوته، وكونه نبياً عند الأكل. اهـ قوله: (هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر ... ). قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن الإنذار بالقرآن والوحي لقصد ترتب التقوى عليه إنما ينجع ويؤثر في من يكون له تقصير ويتوقع فيه اعتقاد أن يحشر من غير ولي ولا شفيع، فلذا فسر (الَّذِينَ يَخَافُونَ) المفرطين في العمل، أو بالكفرة الخائفين من الحشر، وجعل قوله (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) حالاً من الحشر، إذ لا يتصور حصول الاتقاء للمؤمنين المتقين، ولا يؤثر الإنذار في الكفرة المتمردين، ولا في الذين يعتقدون مجرد الحشر من غير اعتقاد أن لا ولي سوى الله تعالى ولا شفيع. اهـ قوله: (ينجع). أي: يؤثر. قوله: (روي أنهم قالوا: لو طردت هؤلاء الأعبد). الحديث أخرجه هكذا وفيه قول عمر ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة مرسلاً، وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبيهقي في الذيل من حديث خباب وليس فيه ذكر قول عمر.

قوله: (والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام).

قوله: (والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام). قال الطَّيبي: يقولون أنا عند فلان صباحاً ومساء، ويريدون الدوام. اهـ قوله: (وإن كان لهم باطن غير مرضي). قال أبو حيان: فكيف يفرض هذا وقد أخبر الله تعالى بإخلاصهم في قوله تعالى (يريدون وجهه) وإخباره هو الصدق الذي لا شك فيه. اهـ قوله: (ويجوز عطفه على (فتطردهم) على وجه التسبب). قال الشيخ سعد الدين: دفع لما يتوهم من أنه لو جعل عطفاً على جواب النفي لصح أن يقع جواباً للنفي، وليس كذلك إذ لا معنى لقولك: ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين. اهـ قوله: (وفيه نظر). قال الطَّيبي: وجه النظر هو أن قوله تعالى (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) حينئذ مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض أمر الحساب إليه، فيفهم منه أن لو كان حسابهم عليه وطردهم كان ظالماً وليس كذلك، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. قال: والجواب أنه أراد بذلك المبالغة في معنى الطرد، يعني لو قدر تفويض الحساب إليك مثلاً ليصح منك طردهم لم يصح أيضاً، فكيف والحساب ليس إليك، نظيره في إرادة المبالغة قول عمر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. اهـ قوله: (وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً؟ فلم يرد عليهم شيئاً، فنزلت). أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ماهان مرسلاً. قوله: (أي من عمل ذنباً جاهلاً ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فالجهالة على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز. اهـ قوله: (ومثل ذلك التفصيل الواضح).

قوله: ((وما أنا من المهتدين)

قال الطَّيبي: إشارة إلى ما سبق من أحوال الطوائف الثلاث من لدن قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) لأنَّ هذه الطائفة هم المطبوع على قلوبهم، والذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم هي الطائفة التي يرى فيها أمارة القبول لأنَّها هي المنذرة التي يرجى إسلامها لقوله (يَخَافُونَ) وقوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، والتي في قوله (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هي الطائفة التي دخلت في الإسلام إلا أنها لا تحفظ حدوده، ومن ثم خوطبوا بقوله (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) فعلى هذا قوله (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) إذا قدر المعلل فصلنا ذلك التفصيل بدلالة السابق عطف جملة على جملة. اهـ قوله: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فى شيء من الهدى). قال الطَّيبي: قالوا في تفسير هذا بهذا نظر لأن هذا الأسلوب في الإثبات يوجب أن يكون المدخول ليس من له حظ قليل في ذلك الوصف بل له حظوظ وافرة إلا أنه غير محظوظ منه، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول ممن له حظ ما فيه. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ): قولك: فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعرفه مساهمة لهم في العلم. وأجيب: بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدى ليست من هذا القبيل بل من قبيل كون قوله (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) جوابًاً وجزاءً لما دل عليه قوله تعالى (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) على سبيل التعريض، كأنه قيل: إن اتبعتُ أهواءكم قد ضللتُ إذن وكنتُ مثلكم متوغلاً في الضلال منغمساً فيه ولا أكون من الهدى في شيء كما أنتم عليه. اهـ قوله: (ويجوز أن يكون صفة لـ (بينة)). قال الشيخ سعد الدين: على معنى كائنة من ربي صادرة عنه. اهـ قوله: (أو للبينة باعتبار المعنى).

قوله: (مستعار من المفاتح)

قال الزجاج: لأن البينة والبيان في معنى واحد. اهـ قوله: (مستعار من المفاتح). قال الطَّيبي: يمكن أن تكون الاستعارة مصرحة تحقيقية، استعير العلم للمفاتح لعلم الله لأن المفاتح هي التي يتوصل بها من علم بها وبكيفية فتح المخازن المستوثق منها بالأغلاق وإلى ما في المخازن من المتاع، فعلم منه أنه تعالى أراد بهذه العبارة أنه هو من المتوصل إلى المغيبات وحده، وأن يكون استعارة تمثيلية بأن يجعل الوجه منتزعاً من أمور متوهمة وهوماً يتوهم من تمكن تحصيل شيء مستوثق منه يختص حصوله بمن عنده ما يتوصل به، وأنه مركب من أمور متعددة، وإن شئت جعلت الاستعارة في الغيب على سبيل المكنية والقرينة إضافة المفتاح إليه على التخييلية. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هي استعارة بالكناية تشبيهاً للغيب بالأشياء المستوثق منها بالأقفال، وإثبات المفاتح تخييلية كأظفار المنية، وكذا على جعلها جمع مَفتح -بفتح الميم- بمعنى المخزن هي مكنية أيضاً، جعل للغيب مخازن أودعها هو وهي عنده فلا يطلع على الغيب غيره، فهو أيضاً عبارة عن علمه بالمغيبات كما دل عليه قوله تعالى (لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ) لا عن قدرته على جميع الممكنات كما قال الإمام الرازي. اهـ قوله: (والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات). قال ابن المنير: لا يجوز إطلاق المتوصل على الله تعالى لما يوهم من تجدد الوصول. اهـ وقال الطَّيبي: لا بأس إن أريد الاستمرار الدائم. اهـ قال الشيخ سعد الدين: وما قيل من أنَّ إطلاق التواصل على الله تعالى ولو بطريق

التجوز بعيدٌ لما ينبئ من تجدد الوصول ليس ببعيد. اهـ قلت: هذه العبارة تعطي مساعدة ابن المنير، ولا شك في منع ذلك لعدم الورود، والألفاظ المطلقة عليه سبحانه توقيفية. قوله: ((إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) بدل من الاستثناء الأول). قال أبو البقاء: (إِلاّ فِي كِتَابٍ) إلا هو في كتاب، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه (يَعلَمُهَا) لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإثبات أي: لا يعلمها إلا في كتاب، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في كتاب، فإذاً يكون الاستثناء بدلاً من الأول، أي: وما تسقط من ورقة (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) إلا في كتاب وما يعلمها (إلا هو). اهـ قال الشيخ سعد الدين: هو صفة للمذكورات، كما أن (إِلاّ يَعْلَمُهَا) صفة لـ (وَرَقَة)، وأما ما يقال إنه تأكيد للاستثناء الأول أو بدل منه وأنه ليس استثناء من (إِلاّ يَعْلَمُهَا) للزوم كونه نفياً في الإثبات لكون (إِلاّ يَعْلَمُهَا) إثباتاً من النفي فمما لا ينبغي أن يصغي إليه المحصل. اهـ قوله: (وَكَتِيبَهٌ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَة ... حَتَّى إِذَا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدَي). قال الطَّيبي: ألحق الهاء بالكتيبة لأنه جعله اسماً للجيش، وهو من تكتبت الخيل إذا تجمعت، يقول: رب جيش خلطتها بجيش فلما اختلطت نفضت يدي وتركتهم وشأنهم، وفي البيت كنايات: إحداها: أنه مهياج للحروب، وثانيتها: قوله: نفضت لها يدي، فإنه يدل على أنه خلاهم والفتنة، وثالثتها: أنه فتان جبان. اهـ قوله: (ولا يجوز عطفه على محل (من شىء) لأن (من حسابهم) يأباه).

قال أبو البقاء: (من) في (من شيءٍ) زائدة، و (مِن حِسَابِهم) حال تقديره: شيء من حسابهم. اهـ يعني: شيء كائن من حسابهم، فإذ عطف (ذِكرَى) على محل (من شيءٍ) لرجع المعنى إلى ما يلزم المتقين الذكرى الذي من حسابهم لأن (من شيءٍ) مقيد بقيد (مِن حِسَابِهم) فإذا عطف عليه لا بد من تقييده به. قال الطَّيبي: واعترض صاحب التقريب وقال: لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف المعطوف به، وأجيب: أن ذلك في عطف الجملة على الجملة، وأما في عطف مفردات الجمل فملتزم. اهـ وقال الشيخ سعد الدين في توجيه قوله (يأباه): لأنه حال (من شيءٍ) قدم عليه فصار قيداً للعامل، فإذا عطف (ذكرَى) على (شيءٍ) عطف المفرد على المفرد كان جهة القيد معتبرة فيه، ويؤول المعنى إلى أنَّ عَليك من حسابهم ذكرى وذكرى ليس من حسابهم، فإن قيل: لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف المعطوف به، قلنا: نحن لا ندعي ذلك، بل إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف ألبتَّة بحكم الاستعمال، تقول: ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكباً أو من هذا القوم رجل ولكن امرأة يلزم أن يكون مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون هي من ذلك القوم ألبتَّة، لا يجوز الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف مثل: ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة، فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب. اهـ قال أبو حيان: كأنه تخيل أنه يلزم في العطف القيد الذي في المعطوف عليه وهو

قوله: (وهذا بسل عليك، أي: حرام)

(مِن حِسَابِهم) لأنه قيد في (شيءٍ) فيصير التقدير: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى عليه، وهذا الذي تخيله ليس بشيء، لأنه لا يلزم في العطف بـ (لكن) ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات، والعطف إنما هو الواو، ودخلت (لكن) للاستدراك. اهـ وقال الحلبي: هذه الأمثلة التي ذكرها لا ترد على الزمخشري، لأن أهل اللسان والأصوليين يقولون إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف عليه بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمرواً فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة، فإن قلت: وعمرواً يوم السبت، لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول، أي لم يؤت مع العطف بقرينة تخرجه فالظاهر مشاركته للأول في قيده وحينئذ يلزم ما ذكره الزمخشري، وأما الأمثلة التي أوردها أبو حيان فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيد به الأول. قال: وقوله على محل (من شيءٍ) ولم يقل على لفظه لفائدة حسنة تعسر معرفتها وهي أن (لكن) حرف إيجاب فلو عَطف ما بعدها على المجرور لفظاً لزم زيادة (من) في الواجب والأكثر يمنعونه، ويدل على اعتبار الإيجاب في (لكن) أنَّهم إذا عطفوا بعد خبر (ما) الحجازية أبطلوا النصب لأنَّها لا تعمل في المنتقض النفي، و (بل) كـ (لكن) في ذلك. اهـ وقال السفاقسي: المنع صحيح، وهو أنه لا يلزم في المعطوف من التقييد ما في المعطوف عليه، وتقييده بـ (لكن) فيه نظر بل ولا في غيرها، والمثال أيضاً فيه نظر فتدبره. اهـ قوله: (وهذا بسل عليك، أي: حرام). قال الراغب: البسل: ضم الشيء، ومنعه، ولتضمنه معنى الضم استعير لتقطيب

الوجه فقيل: هو باسل ومبتسل الوجه، ولتضمنه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتهن: بسل، والفرق بين الحرام والبسل أنَّ الحرام عام للممنوع منه حكماً وقهراً، والبسل هو الممنوع منه قهراً. اهـ قوله: (و (كل) نصب على المصدر). قال ابن المنير: لتعدي الفعل إليه بغير واسطة ولو كان مفعولاً به لقيل: بكل عدل. اهـ قوله: ((لا يؤخذ منها) الفعل مسند إلى (منها) لا إلى ضميره). زاد في الكشاف: لأنه مصدرٌ، وهو ليس بمأخوذ. قال الشيخ سعد الدين: نعم يمكن أن يراد بضميره الفدية على ما هو طريق الاستخدام فيصح الإسناد إليه، كما في قوله تعالى (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) لكنه تكلف لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور كما في قولك: سيرٌ من البلد وأخذٌ من المال. اهـ وقال أبو حيان: هو مسند إلى ضمير المعدول به المفهوم من السياق. اهـ قوله: (بخلاف قوله (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) فإنه المفدى به). قال الطَّيبي: فإن قيل: كيف صح إسناده في هذه الآية على تأويل المفدى به ولم يصحِ في (كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا)؟ أجيب: بأنه فيها لم يقع مفعولاً مطلقاً ابتداءً بخلافه في الأخرى. اهـ قوله: (ومحل الكاف النصب على الحال ... ) إلى آخره. قال صاحب الفرائد: حاصل هذا الكلام: نُرَدُّ في حال أشباهنا، كقولك: جاء زيد راكباً، أي في حال ركوبه، والرد ليس في حال الأشباه كما أنَّ المجيء في حال الركوب.

قال الطَّيبي: الحال مؤكدة كقوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) فلا يلزم ذلك. قال: والتشبيه على أن يكون حالاً من التمثيلي، شبه حال من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهب به الغيلان في المهمه بعدما كان على الجادة المستقيمة، وعلى أن يكون مصدراً يكون من المركب العقلي. اهـ قوله: (واللام لتعليل الأمر). تابع في ذلك صاحب الكشاف. وقال ابن المنير: هذا منه بناءً على أن الأمر تلزمه الإرادة، وأما أهل السنة فيرون في هذه اللام وفي قوله (إِلاّ لِيَعبُدُوَا) إن كان تعليلاً أنَّهم بإزاحة العلل عوملوا معاملة من أريد منهم ذلك وإن لم تكن الطاعة مرادة. اهـ قوله: (أي أمرنا بذلك لنسلم، وقيل هي بمعنى الباء، وقيل زائدة). قال الزجاج: العرب تقول أمرتك أن تفعل وأمرتك بأن تفعل وأمرتك لتفعل، فعلى الأول الباء محذوفة وهى للإلصاق، أي: وقع الأمر بهذا الفعل، وعلى الثالث اللام للتعليل فقد أخبر بالعلة التي بها وقع هذا الأمر. اهـ قوله: (أو على موقعه، كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا). هذا بناء على أن الكلام في (لِنُسْلِمَ) زائدة. وقال الطيبي: قوله على موقع (لِنُسْلِمَ) أي لو وقع موقعه (أن نسلم) بحذف الجار

قوله: (أي: قوله الحق يوم يقول)

لصح العطف، فعطف عليه بذلك الاعتبار كما في (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ). اهـ وقال الشيخ سعد الدين: قيل: المراد أنه كثيراً ما يقع في هذا الموقع (أن نسلم)، فعطف عليه (وَأَنْ أَقِيمُوا) بهذا الاعتبار على طريقة (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)، وبهذا يشعر قوله: كأنه قيل أمرنا أن نسلم وأن أقيموا، لكن لا يخفى أنَّ (أن) في (أن نسلم) مصدرية ناصبة للمضارع وفي (وَأَنْ أَقِيمُوا) مفسرة، وقيل لا حاجة إلى هذا الاعتبار بل المراد أنه عطف على مجموع اللام وما بعدها. اهـ قال الإمام: كان من الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم، وإنما عدل إلى قوله (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) (وَأَنْ أَقِيمُوا) ليؤذن بأن الكافر ما دام كافراً كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما يخاطب به الغُيَّب، وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون. قوله: (أي: قَوْلُهُ الْحَقُّ يوم يقول). قال الشيخ سعد الدين: على أنَّ المراد به المعنى المصدري، يعني قضاؤه الحكمة والصواب ليصح الإخبار عنه بظرف الزمان أعني (وَيوْمَ يَقُولُ)، وتقدم الخبر يكون لكونه الشائع في الاستعمال مثل (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، وإن كان الحصر غير مناسب هنا. اهـ قوله: (أو بمحذوف دل عليه (بالحق)). زاد في الكشاف: كأنه قيل وحين يكون ويقدر ويقوم بالحق. اهـ قال أبو حيان: وهذا إعراب متكلف. اهـ قوله: (أو فاعل يكون). قال أبو البقاء: المعنى: فيوجد قوله الحق، فعلى هذا (قَوْلُهُ) بمعنى مقوله، أي:

فيوجد ما قال له كن، فخرج. اهـ قوله: (تارح). قال ابن الأثير: هو بالتاء المثناة من فوق وفتح الراء وبالحاء المهملة. اهـ قوله: (ومثل هذا التبصير نبصره). قال أبو حيان: مقتضاه أنه من رأى بمعنى عرف، ويحتاج كون رأى بمعنى عرف يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل عن العرب، والذي نقل النحويون أنَّ رأى بمعنى عرف يتعدي لمفعول، وبمعنى علم إلى مفعولين. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: قد تقرر أنَّ اسم الإشارة (في مثل هذا المقام) إشارة إلى هذه الإرادة لا لشيء آخر يشبه هذه، وأورد بدل الإرادة التعريف والتبصير تصحيحاً لتذكير اسم الإشارة، وتنبيهاً على أنه من رؤية البصر، لكن استعيرت للمعرفة ونظر البصيرة لأنَّ الملكوت بمعنى الربوبية والإلهية ليس مما يبصر حساً. اهـ قوله: (فأراد أن ينبههم على ضلالهم ... ) إلى آخره. هذا القول أظهر لأنَّ قوله تعالى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يدل على أنه كان عارفاً بأن له ربًّا يستحق العبادة ومنه الهداية وأن قومه على الضلال، ويشعر بأن محاجته كانت مع منكِرٍ مبالغ في الإنكار حيث احتيج إلى القسم فإن اللام في (لَئِنْ) موطئة وفي (لَأَكُونَنَّ) جواب قسم، وقوله (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) صريح في أنَّ الكلام مع القوم، وحمله على حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر. قاله الشيخ سعد الدين. وقال الطَّيبي: أما حسن التأليف فإن قوله لأبيه وإنكاره عليه بقوله (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا

قوله: (روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة. . .).

آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إنما ينتظم انتظاماً مع قوله (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إذا كان الاستدلال لأجل القوم، لأن صرف الخطاب منه إلى القوم يستدعي أن لا يكون قد أشرك بالله تعالى طرفة عين. اهـ وقال الشيخ تقى الدين السبكى: تكلم الناس في تفسير هذه الآية كثيراً، وفهمت منها أن ذلك تعليم من الله تعالى لإبراهيم الحجة على قومه، فأراه ملكوت السماوات والأرض، وعلمه كيف يحاج قومه ويقول لهم إذا حاجهم في مقام بعد مقام على سبيل التنزل إلى أن يقطعهم بالحجة، ولا يحتاج مع هذا إلى أن نقول ألف الاستفهام محذوفة، ويؤخذ منه أنَّ القول على سبيل التنزل ليس اعترافاً وتسليماً مطلقاً. قال: وهذا الذي فهمته أرجو أنه أقرب من كل ما قيل فيها. اهـ قوله: (ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر). قال أبو حيان: يمكن أن يقال إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء عندهم، فأشار في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وحين أخبر الله تعالى عنها بقوله (بَازِغَة) و (أَفَلَت) أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. اهـ قوله: (روي أنَّ الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة ... ). الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن مسعود. قوله: (ولبس الإيمان به ... ) إلى آخره. قوله جواب عن قول الكشاف: أبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس. قوله: (وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين).

قال الشيخ سعد الدين: فـ (مَنْ نَشَاءُ) مفعول (نَرْفَعُ) و (دَرَجَاتٍ) نصب على المصدر أو الظرف أو التمييز إن جوزنا تقديمه. اهـ قوله: (الضمير لإبراهيم إذ الكلام فيه). قال الشيخ سعد الدين: هو المقصود بالذكر دلالة على أنه لما قرر حجة التوحيد وذب عنها أكرمه الله تعالى في الدارين برفع الدرجات وجعل مشاهير الأنبياء من ذريته كرامة باقية إلى يوم القيامة مع كون بعض آبائه أنبياء كنوح وإدريس وشيث. اهـ قوله: (وقيل لنوح لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم). قال الطَّيبي: يجاب بأن صاحب جامع الأصول ذكر أنَّ يونس من ذرية إبراهيم، وأنه كان من الأسباط في زمن شعياء، ولما كان لوط ابن أخيه وآمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من الذرية على سبيل التغليب. اهـ قوله: (رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكاً ... شَدِيداً بِأَعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ). هو لابن ميادة، واسمه الرماح بن أبرد من قصيدة يمدح بها الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقبل هذا البيت: هممت بقول صادق أن أقوله ... وإني على رغم العداة لقائله أضاء سراج الملك فوق جبينه ... غداة تناجي بالنحاة قوابله وأول القصيدة: ألا تسأل الربع الذي ليس ناطقاً ... وإني على أن لا يبين لسائله كم العام منه أو متى عهد أهله ... وهل يرجعن لهو الشباب وعاطله الأعباء: جمع عبىء بكسر المهملة وسكون الموحدة ثم همزة النقل، والكاهل: ما بين الكتفين، وهو مرفوع بـ (شديد)، وفي البيت شواهد: أحدها: زيادة الألف واللام في العَلَم وهو اليزيد، وقال ابن جرير: نكتة إدخالها في اليزيد الإتباع للوليد، الثاني: دخول (أل) للمح الصفة في العلم المنقول من الوصف وهو الوليد، الثالث: صرف ما لا ينصرف إذا دخلته (أل)، ولو كانت زائدة كما في اليزيد، الرابع: نصب (رأيت) بمعنى (علمت) مفعولين، وثانيهما مباركاً، فإن كانت بصرية فهو

قوله: (فاختص طريقهم بالاقتداء).

حال، الخامس: تعدد الخبر لأن جزئ باب علم أصلهما المبتدأ والخبر وهو هنا في شديد، السادس: إعمال فعيل لاعتماده على ذي خبر، السابع: الفصل بين فعيل ومعموله بالجار والمجرور، الثامن: الاستعارة بتنزيل المعقول منزلة المحسوس، ويصح أن يكون استعارة بالكناية، شبه أمور الخلافة الشاقة بالجسم الذي يثقل حمله، وإضافتها إلى الخلافة ترشيح، وذكر الكاهل تخييل. قوله: (فاختص طريقهم بالاقتداء). قال الشيخ سعد الدين: أي: اجعله منفرداً بذلك بمعنى: اجعل الاقتداء مقصوراً عليه، فإن قيل: الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع، فلا يجوز - سيما للنبي صلى الله عليه وسلم - أن يقلد غيره، فما معنى أمره بالاقتداء بهداهم؟ قلنا: معناه الأخذ به لكن لا من حيث أنه طريقهم بل من حيث إنه طريق العقل والشرع، ففيه تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقتهم هي الحق الموافق لدليل العقل والسمع. اهـ قوله: (على أنها كناية عن المصدر). قال الفارسي: أي: اقتد اقتداء. قوله: (وما عرفوه حق معرفته ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني أن قوله تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يحتمل أن يكون صفة لطف وصفة قهر. اهـ قوله: (وإنما قرأ بالياء ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: فيكون على هذه القراءة التفاتاً حيث جعلوا غيباً لارتكابهم شناعة ذلك الفعل. اهـ قوله: (روي أن مالك بن الصيف ... ). الحديث أخرجه ابن جرير عن سعيد ابن جبير. قوله: ((ولتنذر أم القرى) عطف على ما دل عليه (مبارك)، أي: للبركات ولتنذر). قال الشيخ سعد الدين: لا أرى حاجة إلى هذا التكلف لجواز أن يكون عطفاً على

قوله: (والمعنى: وقع التقطع بينكم).

صريح الوصف، أي: كتاب مبارك وكائن للإنذار، ومثل هذا أعني عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير. اهـ قوله: (كعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب ... ). الحديث أخرجه ابن جرير عن السدي بدون قصة (فَتَبَارَكَ اللهُ ... ) الآية. قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في سيرته: تشفع ابن أبي سرح بعثمان فقبله عليه الصلاة والسلام بعد تلوم، وحسن بعد ذلك إسلامه حتى لم ينقم عليه في شيء، ومات ساجداً. اهـ قوله: (كالمتقاضي الملظ) أي: الملازم لغريمه لا يفارقه. قال ابن المنير: جعله من مجاز التشبيه، والأولى حمله على الحقيقة. اهـ قلت: وبها ورد الأثر. قوله: (والمعنى: وقع التقطع بينكم). قال الشيخ سعد الدين: يريد أن الفعل المبني للفاعل اللازم أسند إلى ضمير مصدره، بمعنى: وقع التقطع، كما أن المبني للمفعول يسند إليه مثل: جمع بينكم، أي: جمع الجمع؛ بمعنى: أوقع الجمع، واعترض بأنه واقع في الكلام مثل (وَحِيل بَينهم) بخلاف هذا، فالأولى أنه أسند إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس، أي: تقطع الأمر بينكم، كما تحمل عليه قراءة من قرأ (تقطع ما بينكم) على أن (ما) موصولة أو موصوفة، وأما على قراءة رفع (بينُكم) فإن جعل بمعنى الوصل

قوله: (ذكره بلفظ الاسم حملا على (فالق الحب) فإن قوله (يخرج الحي) واقع موقع البيان له).

ولا يكون من الظروف فظاهر، وكذا إن جعل ظرفاً غير لازم الظرفية. اهـ وقال أبو حيان: ما ذكر الزمخشري من أنه أسند إلى ضمير المصدر ليس بجيد، لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز: قام ولا جلس، وأنتَ تريد قام هو أي القيام. اهـ وقال السفاقسي: هذا لا يرد، لأن الزمخشري تجوز بـ (تَقَطَّعَ) وجعله عبارة عن وقع، والتغاير حاصل بهذا الاعتبار، لأن وقع أعم من التقطع، ولو سلم فالتقطع معرف بلام الجنس و (تَقَطَّعَ) منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه ثَمَّ؟. اهـ قال أبو حيان: وقيل يقدر ضمير الاتصال الدال عليه قوله (شُرَكَاءُ)، أي: لقد تقطع الاتصال بينكم. قال: والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (تَقَطَّعَ) و (وَضَلَّ) فأعمل الثاني وهو (وَضَلَّ)، وأضمر في (تَقَطَّعَ) ضمير (ما) فالمعنى: لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضل عنكم. قال: وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد. اهـ قوله: (ذكره بلفظ الاسم حملاً على (فالق الحب) فإن قوله (يخرج الحي) واقع موقع البيان له). قال ابن المنير: تكرر في القرآن (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) فيبعد قطعها عن نظائرها، والوجه أنََّ قياس الآية أن تَكون الصفات باسم الفاعل كقوله (فَالِقُ الْحَبِّ) (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) (وَجَاعِلُ اللَّيْلِ) (1) وإنما عدل إلى صيغة المضارع في (مُخْرِجُ) للدلالة على تصوير ذلك وتمثيله واستحضاره، وإخراج الحيِ من الميت أولى في الوجود وأعظم في القدرة فإن العناية به أتم، ولذلك جاء مقدماً في مواضعه، وحسن عطف الاسم على المضارع لأنه في معناه. اهـ وقال ابن هشام في المغني: لم يجعله معطوفاً على (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) لأن

_ (1) قرأ الكوفيون (وجَعَلَ الليلَ) وقرأ الباقون (جَاعلُ الليلِ). (النشر. 2/ 196).

عطف الاسم على الاسم أولى، ولكن مجيء قوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالفعل فيهما يدل على خلاف ذلك. اهـ وقالَ الطَّيبي: فإن قلت لم لم يعطف على الفعل كما ذهب إليه الإمام ويكون الغرض إرادة الاستمرار فى الأزمنة المختلفة كما سبق في قوله تعالى (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ليكون إخراج الحي من الميت أولى في القصد من عكسه، ولأن المناسبة في الصنعة البديعية تقتضي هذا لأنه من باب العكس والتبديل كقوله (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ولورود سائر ما يشبه الآية على المنوال؟ قلت: يمنعه ورود الجملة الثانية مفصولة عن الأولى على سبيل البيان، ولو عطف الثالثة على الثانية كانت بيانية مثلها، لكنها غير صالحة له لأن (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ليس متضمناً لإخراج الميت من الحي، فإن قلت: فقدر مبيناً مناسباً لها على تقدير (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)؟ قلت: يفوت إذن غرض التعميم الذي تعطيه الآية من إرادة تخرج الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، فإن هذا المعنى إنما يحصل إذا قدر (وَمخرِج) معطوفاً على (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ثم يسري معنى العموم إلى قرينتها: فيصح أن يقال مخرج الحي من الميت أي: الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي، ولو قدر معطوفاً على (تُخرِج) اختص بالحب والنوى. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: قد شاع في الكلام (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)، وحسن التقابل كما في (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، وجاز عطف اسم الفاعل على الفعل المضارع لأنه في معناه، إذ سوق الآية على كون الصفات بلفظ اسم الفاعل وإنما عدل في إخراج الحي من

الميت إلى المضارع استحضاراً له لكونه أدل في الوجود وأعظم في القدرة، ولكن لا يخفى أن قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) في موقع البيان لـ (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ولذا ترك العطف وَ (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) لا يصلح بياناً فلا يحسن عطفه عليه فلذا جعله عطفاً على (فَالِقُ الْحَبِّ). اهـ قوله: (أو به على أنَّ المراد منه جعل مستمر فى الأزمنة المختلفة ... ) إلى آخره. قال أبو حيان هذا ليس بصحيح لأنَّ اسم الفاعل إِذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار فلا يجوز إعماله ولا لمجروره محل، وقد نصوا على ذلك. اهـ وقال ابن هشام في المغني: قد نص -يعني الزمخشري- في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على أنه إذا حمل على الزمن المستمر كان بمنزلته إذا حمل على الماضي وكانت إضافته محضة. اهـ وكذا قال الحلبي. وقال صاحب التقريب: ما قاله هنا بخلاف ما ذكره في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وقال الشيخ سعد الدين: بين كلاميه تدافع. قال: وذكر في وجه التوفيق أنَّ الاستمرار لمّا تناول الماضي والحال والاستقبال، فبالنظر إلى حال الماضي تجعل الإضافة حقيقية كما في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وإلى الآخَرَين غير حقيقية كما في (وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا) لئلا يلزم مخالفة الظاهر بقطع (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على الوصفية إلى البدلية، ويجعل (سَكنًا) منصوباً بفعل محذوف فليتأمل فإن هذا هو المشار إليه. اهـ وكذا قال الطَّيبي: إذا كان بمعنى الاستمرار يكون معناه موجوداً في جميع الأزمنة من الماضي والمستقبل والحال كالعالم والقادر فيكون في إضافته اعتباران: أحدهما: أنها محضة باعتبار معنى المضي فيه، وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة، والآخر: غير محضة باعتبار معنى الاستقبال، وبهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، ونحوه قوله تعالى (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فإن (أَيًّا) من جهة كونها متضمنة لمعنى

قوله: (ذكر مع ذكر النجوم (يعلمون)

الشرط عامل في (تَدْعُوا)، ومن جهة كونها اسماً متعلق بـ (تَدْعُوا) معمول له. اهـ ثم قال الشيخ سعد الدين: وما يقال إنه لما بعد بمعنى المضي عن شبه الفعل فبمعنى الاستمرار بَعُدَ ليس بشيء، لأنَّ شبهه الخاص إنما هو بالمضارع وباعتباره يعمل، ولهذا يشترط معنى الحال أو الاستقبال الذي هو حقيقة المضارع عند الجمهور، والمضارع قد يجيء بمعنى الاستمرار كثيراً، فاسم الفاعل بالاستمرار لا يبعد عن شبه الفعل بخلاف معنى المضي، وأما أنَّ اللام الموصولة تدخل على الذي بمعنى المضى دون الذي بمعنى الاستمرار فلأن المعتبر في الكون صلة هو محض الحدوث الذي هو أصل الفعل حتى يقولون إنه فعل في صورة الاسم، كما أنَّ اللام اسم في صورة الحرف محافظةً على كون ما دخلته اللام التي في صورة حرف التعريف اسماً صورةً، والاستمرار يبعد عن معنى الحدوث للفعل فيكون محض مفرد فلا يقع صلة، بخلاف المضي. اهـ قوله: (ذكر مع ذكر النجوم (يعلمون) ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الفقه هو الفهم والحذاقة وتدقيق النظر فكان أليق بالاستدلال بالأنفس لما فيه من الدقة والخفاء، بخلاف الاستدلال بالآفاق ففيه الظهور والجلاء. اهـ وقال ابن المنيرِ: لا يتحقق الفرق، وإنما أريد أن يكون لكل آية فاصلة مستقلة بالمقصود بعداً عن التكرار وتفنناً بالبلاغة. اهـ قوله: ((وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) عطف على (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)). قال الطَّيبي: الأظهر أن يكون عطفاً على (حَبًّا) لأن قوله (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) مفصل يشتمل على كل صنف من أصناف النامي، والنامي: الحب والنوَى وشبههما. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: الأقرب لفظاً ومعنى أن يجعل عطفاً على (خَضِرًا)، و (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) على (حَبًّا). اهـ

قوله: (والجن بدل من شركاء).

قوله: (ولا يجوز عطفه على (قِنْوَانٌ) إذ العنب لا يخرج من النخل). قال الشيخ سعد الدين: يجاب بأنها لما كانت معروشة تحت أشجار النخل جاز وصفها بكونها مخرجة من النخيل مجازاً لكونها مدركة من خلالها كما يدرك القنوان. اهـ وذكر الطيبي نحوه. قوله: (حال من الرمان أو من الجميع). وقال أبو حيان: لا يجوز أن يكون حالاً منهما وإن أجازه بعضهم، لأنه لو كان حالاً منهما لكان التركيب: مشتبهين وغير متشابهين. اهـ قوله: (كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن التقييد بقوله (قِنْوَانٌ) للإشعار بأنه حينئذ ضعيف غير منتفع به، فيقابل حال الينع، ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. اهـ قوله: (أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية). قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: أليس هذا قول المعتزلة بعينه؟ قلنا: لا فإن المراد بكل ضار ما يعم الأعيان الضارة كالحيات والأفاعي، والمعتزلة لا يقولون بذلك. اهـ قوله: (والجن بدل من شركاء). قال أبو حيان: هذا لا يجوز، لأنه لو أحل محله وقيل: وجعلوا لله الجن لم ينتظم. اهـ وتعقبه الحلبي والسفاقسي بأن ذلك لا يلزم في كل بدل، كما رد به على الزمخشري في قوله تعالى (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ). ثم قال أبو حيان: وأحسن إعراب فيه ما قاله أستاذنا أبو جعفر بن الزبير أنه نصب بإضمار فعل جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من جعلوا (لله شركاء)؟ فقيل:

الجن، أي: جعلوا الجن، ويؤيده قراءة (الجنُّ) بالرفع على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: من الذي جعلوه. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: قيل: الأولى أن ينتصب بمحذوف جواباً عن سؤال، وذلك لأنه لو كان بدلاً لكان التقدير: وجعلوا لله الجن، وليس له كبير معنى، اللهم إلا أن يقال: إن المبدل ليس في حكم التنحية بالكلية. اهـ قوله: (وبالجر على الإضافة للتبيين). قال أبو حيان: لا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله. اهـ وقال الحلبي: معناها واضح بما فسره الزمخشري في قوله: والمعنى أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله، ولذلك سماها إضافة تبيين أي: بين الشركاء، كأنه قيل الشركاء المطيعين للجن. اهـ قوله: (أو إلى الظرف كقولهم: ثبت الغدر بمعنى عدم النظير فيهما). قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الإضافة حقيقية بمعنى (في) على ما يراه البعض في ثبت الغدر، ثم بين وجه الظرفية على وجه لا يخل بالتنزه عن المكان والجهة وحاصله توفية معنى البداعة والتنزه وانتفاء المثل والنظير وهو لا يوجب كونه نفسه في السماوات. اهـ قوله: (وفى الآية استدلال على نفي الولد من وجوه ... ) ذكرها ثلاثة. وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنَّ العلم بكل شيء وجه مستقل، فتكون الوجوه

أربعة، إلا أنه أدرجه وجعله مع (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وجهاً واحداً لأن المعنى إنما يتحقق بالإيجاد الاختياري وذلك بالعلم، ولأنه ربما يناقش في لزوم كون الولد كالوالد في العلم بكل شيء. اهـ وقال الإمام بعد ما طول في تقرير الوجوه: ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه أو يدانيه في القوة والكمال لعجزوا عنه. اهـ قوله: (ويجوز أن يكون البعض بدلاً أو صفة). لم يجز ذلك في الكل لأنَّ الله عَلَمٌ لا يجوز أن يقع صفةً لاسم الإشارة. نبه عليه الشيخ سعد الدين. قوله: (وهي للنفس كالبصر للبدن). قال الطَّيبي: فيه بيان لربط هذه الآية بما قبلها، كما نفى إدراك البصر عن المكلفين أثبت لهم البصيرة ومنَّ عليهم بها. اهـ قوله: (فلنفسه أبصر). قال أبو حيان: الأولى تقدير المصدر أي: فالإبصار لنفسه والعمى عليها وذلك لوجهين: أحدهما: أنَّ المحذوف يكون مفرداً لا جملة، ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة، وفي تقديره هو المحذوف جملة، والجار والمجرور فضلة، والثاني: وهو أقوى أنه لو كان المقدر فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت (من) شرطاً أم موصولة لامتناعها في الماضي. اهـ وقال الحلبي: الذي قدره المصنف سبقه إليه الكلبي، وقوله إن الفاء لا تدخل فيما ذكر قد ينازع فيه. اهـ وقال السفاقسي: أما الترجيحان الأولان فمعارضان بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة، وبأن تقديره فيه تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص، وأما الثالث فلا يلزم لأنه لم يقدر الفعل موالياً لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدماً ولا بد فيه من الفاء، لو قلت: من أكرم زيداً فلنفسه أكرمه، لم يكن بد من

قوله: ((فعليها) وباله)

الفاء. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: قدر الفعل متأخراً لكون المعنى على الاختصاص، واللفظ على الفاء، تقول: من جاء فللإكرام جاء، ولا تقول: فجاء للإكرام إلا بتأويل. اهـ قوله: ((فعليها) وباله). قلت: كذا قدره المصنف هنا خلاف ما قدره الزمخشري حيث قال: فعلى نفسه عمى، ولا أدري أغاير بين الموضعين فلا هو قدر الفعل فيهما كالزمخشري ولا المبتدأ فيهما كأبي حيان، وكأنه أشار إلى جواز الأمرين. قوله: (والله هو الحفيظ). قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ تقديم الضمير وإيلاءه حرف النفي للحصر وإن كان الخبر صفة لا فعلاً، أي: الحفيظ غيري وهو الله لا أنا. اهـ قوله: (وهو كلام ورد على لسان الرسول). قال الشيخ سعد الدين: كأنه قيل: قل ذلك. اهـ قوله: ((ودُرِست) على البناء للمفعول بمعنى: قرئت، أو عُفِيَتْ). قال أبو حيان: أما قُرِّئت فظاهر، لأن دَرَّس بمعنى: كرر القراءة متعدٍ، وأما بمعنى بلي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وجدناه فيمن وقفنا على شعره من العرب إلا لازماً. اهـ وقال السفاقسي: بل حفظ أيضاً متعدياً، قال الزبيدي: درس الشيء يدرس درساً: عفا، ودرسته الريح. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: جاء درس لازماً ومتعدياً بالمعنيين. اهـ قوله: ((لا إله إلا هو) اعتراض أكد به إيجاب الاتباع). قال الطَّيبي: لما في كلمة التوحيد من التمسك بحبل الله والاعتصام به والتبري والإعراض عما سواه، ولأنَّ الموحى ليس إلا التوحيد قال تعالى (إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ

أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). اهـ قوله: (أو حال مؤكدة). قال صاحب التقريب: فيه نظر، إذ شرط المؤكدة تقدم جملة اسمية. اهـ وقال الطَّيبي: هذا لحذف العامل كما تقدم لي مراراً. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: على تجويزها بعد الجملة الفعلية كما سبق في (قَائِمًا بِالْقِسْطِ). اهـ قوله: (وما يدريكم ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: إذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنني إذا أكرمته يكافئني، فإن قيل: لا تكرم زيداً فإنه لا يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنه لا يكافئني، تريد وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين أن يقال لهم: وما يدريكم أنَّها إذا جاءت يؤمنون، وإثبات (لا) يعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفى، فلهذا حملها بعض العلماء على زيادة (لا)، وبعضهم على معنى (لعل)، والزمخشري أبقاها على وجهها بطريق موضحة بمثالنا المذكور، فإذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك فلك فيه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاءه العلم لما تعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم بأنه لا يكافئ، وإنكار الأول بحذف (لا)، وإنكار الثاني يجوز معه ثبوت (لا) بمعنى: ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من أنه لا يكافئ، فالآية أقيم فيها عذر المؤمنين في عدم علمهم بالغيب الذي علمه الله، وهو عدم إيمان هؤلاء، واستقام دخول (لا). اهـ قوله: (أنكر السبب مبالغة في نفى المسبب).

قوله: ((ونقلب أفئدتهم)

قال الطَّيبي: يعني أنكر الدراية بهذا العلم وأريد إنكار إظهار الحرص على إيمانهم، أي: أنتم لا تدرون هذه المسألة فلذلك تطمعون في إيمانهم. اهـ قوله: ((وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) عطف على (لا يؤمنون)). قال أبو حيان: الظاهر أنَّها استئناف أخبار. اهـ وقال الحلبي: الظاهر ما قاله المصنف، ويساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن أبي زيد. اهـ قوله: (أو لام الأمر، وضعفه أظهر). حيث لم يحذف آخر الفعل المعتل. قوله: (أو خطاب الرسول كخطاب الأمة). قال الطَّيبي: يريدون أن قوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من باب تلوين الخطاب، فيجوز أن يراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة مزيداً للثبات على اليقين والتجنب عن الامتراء تهييجاً وإلهاباً، ولأمته عامة بالطريق الأولى وأن يراد به جميع الناس ابتداء، وأنَّ يراد جميع الناس لكن على سبيل التبعية تعظيماً للمخاطب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رئيس أمته وعليه تدور رحى الأمة كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ). اهـ قوله: (ونصبهما يحتمل التمييز والحال). قال الطَّيبي: إما من (رَبك) أو من الكلمة على الإسناد المجازي. اهـ قوله: (لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق). أي أخباراً. (أو أعدل) أي: أمراً ونهياً ووعداً ووعيداً. قال الشيخ سعد الدين: قال: والباء في قوله (بما) ليست في موقعها، لأن معنى

قوله: ((إلا ما اضطررتم إليه)

بدَّله بخوفه أمناً: أزال خوفه إلى الأمن. اهـ قوله: ((إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: ظاهر تقديره أنَّ (ما) موصولة فلا يستقيم سوى أن يجعل الاستثناء منقطعاً، ولك أن تجعله استثناء من ضمير (حَرَّمَ)، و (ما) مصدرية في معنى المدة، أي: الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها. اهـ قوله: (وقيل: الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخذان). قال الطيبي: فعلى هذا قوله (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) معطوف على قوله (فَكُلُوا) وداخل في حكم التسبب على إنكار اتباع المضلين في تحليل ما حرمه الله وتحريم ما أحله من أكل الميتة ومن الزنا، لكن الذي يقتضيه النظم أن تكون معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهو قوله (وَلا تَأْكُلُوا) (فَكلُوا) ومعناه ما قال أولاً ما نعلن وما نسر، أو بالجوارح وما بالقلب توكيداً للإنكار في قوله (وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). اهـ قوله: (وقال مالك والشافعى بخلافه) قال الشيخ سعد الدين: ذكر صاحب الانتصاف -وهو مالكي- أنَّ مالكاً يوافق أبا حنيفة. اهـ قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه). أخرجه عبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلاً. قوله: (وأوَّله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه). قال الشيخ سعد الدين: التأويل بذلك إنما يتم على مذهب الشافعي حيث لم يفرق بين العمد والنسيان، وأما على مذهب أبي حنيفة فالناسي ليس بتارك، لأن تسمية الله تعالى في قلب كل مؤمن على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن متروك التسمية ناسياً فقال: كلوه فإن تسمية الله في قلب كل مؤمن. ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة،

وإما لأنه لما ترك التسمية عمداً فكأنه نفى ما في قلبه، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقاً، وبأننا لا نسلم أن التارك عمداً بمنزلة الناسي لما في قلبه، بل ربما يكون ذلك لوثوقه بذلك وعدم افتقاره إلى الذكر، فذهبوا إلى أنَّ الناسي خارج بقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إذ الضمير عائد إلى عدم ذكر التسمية لكونه أقرب المذكورات، ومعلوم أن الترك نسياناً ليس بفسق لعدم التكليف والمؤاخذة، فتعين العمد، وقد عرفت ما فيه، وللشافعية وجوه: الأول: أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمناً فلا يتحقق منه عدم الذكر، فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أُهلَّ به لغير الله، الثاني: أن قوله تعالى (لَفِسْقٌ) على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً كان أو سهواً إذ لا فسق بفعل ما هو في محل الاجتهاد، الثالث: أن قوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) في موقع الحال إذ لا يحسن عطف الأخبار على الإنشاء وقد بين الفسق بقوله (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فيكون النهي عن الأكل مقيداً بكون ما لم يذكر اسم الله عليه وقد أهل به لغير الله، فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة، واعترض بأن التأكيد بـ (إن) واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه ألبتَّة والرد على المنكر تحقيقاً أو تقديراً على ما بين في علم المعاني، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقاً، فلا يحسن وإنه لفسق بل وهو فسق، والجواب: أنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال به لغير الله كان التأكيد مناسباً، كأنه قيل: لا يأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرون. اهـ قوله: (والضمير لـ (ما)). قال الشيخ سعد الدين: أي إلى ما لم يذكر إما بحذف المضاف، أي: إن أكله، وإما بجعل ما لم يذكر نفس الفسق على طريقة: رجل عدل، ولم يجعل الضمير للمصدر المأخوذ من مضمون (لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي: إنَّ تَرْك اسم الله عليه فسق، لأن كون ذلك فسقاً سيما على وجه التحقيق والتأكيد مما لم يذهب إليه أحد، ولا يلائم قوله تعالى (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) مع أن القرآن يفسر بعضه بعضاً سيما في حكم واحد، ولأنَّ ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن

قوله: (مثل به من هداه (الله سبحانه وتعالى) وأنقذه من الضلال. . .)

ترك التسمية عليها ليس بفسق. اهـ قوله: (فإن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك). قال الشيخ سعد الدين: أي صار مشركاً بالله تعالى جاعلاً له شريكاً في استحقاق الطاعة وشرعية الدين والملة ونحو ذلك مما هو من خواص الإلهية للاتفاق على أنه لا حاكم في أمر الدين سواه. اهـ قوله: (مثل به من هداه (الله سبحانه وتعالى) وأنقذه من الضلال ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: في الآية استعارتان تمثيليتان، وتشبيه تمثيلي، أما الاستعارة الأولى فشأنها ما قال: مثل به من هداه ... إلى آخره، والثانية: مثل من بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها، والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا) و (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ) من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحاً، ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية: أن يكون الأسد كالثعلب أي الشجاع كالمحتال. اهـ قوله: (أي كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها ... ). قال الطَّيبي: مشعر بأن قوله (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا ... ) الآية متصلة بقوله (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، لأن الضمير المرفوع للمسلمين والمنصوب للمشركين وهم الذين قيل فيهم (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ). اهـ قوله: (ومفعولاه (أكابر مجرميها) على تقديم المفعول الثاني، أو فى كل قرية أكابر، ومجرميها بدل). قال أبو حيان: هذان التخريجان خطأ وذهول عن قاعدة نحوية، وهو أن أفعل التفضيل يلزم إفراده إذ كان بـ (من) ظاهرة أو مقدرة أو مضافاً إلى نكرة،

و (أَكَابِرَ) هنا جمع وهو غير مضاف على هذين التخريجين. قال: وقد نبه لذلك الكرماني فقال: أضاف أَكَابِرَ إلى مجرميها لأنَّ أفعل لا يجمع إلا مع (أل) والإضافة. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: الذي يقتضيه النظر الصائب والتأمل الصادق في عبارة المصنف أن (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) لغو، و (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) مفعول أول، و (لِيَمْكُرُوا) هو الثاني. اهـ قوله: (كفرسي رهان). أي سابقين إلى غاية. قوله: (استئناف للرد عليهم). قال الطيبي: أي جواب عن سؤال مورده قوله (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) يعني لما قالوا ذلك سئل: فما كان جواب الباري سبحانه لهم؟ قيل: أجيبوا بأن النبوة فضل من الله يختص بها من يشاء. اهـ قوله: (وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه). قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأن تعلق (حَيث) بـ (أعلم) تعلق المفعول به، وفيه إعمال أفعل التفضيل في المفعول به، وإخراج (حيث) عن الظرفية. اهـ قوله: (وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حين سئل عنه فقل: نور يقذفه الله). الحديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير من حديث أبي جعفر مرسلاً، وأخرجه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان موصولاً من حديث ابن

قوله: (وهو وليهم. . .)

مسعود نحوه. قوله: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ... ) إلى آخره. قال الطيبي: يريد أنَّ الولي إذا كان بمعنى المحب والناصر فالوجه أن تكون للباء سببية أي يحبهم وينصرهم بسبب أعمالهم، وإذا كان بمعنى متولي الأمور فالباء للملابسة، والمعنى: يتولاهم ملتبساً بجزائهم، أي: يُعد لهم الثواب. اهـ قوله: (ولكل من المكلفين). قال الطَّيبي: أي المطيعين والعاصين اهـ. قوله: (درجات: مراتب). قال الشيخ سعد الدين: على ما يعم الدرجات والدركات تغليباً أو نظراً إلى أصل الوضع. اهـ قوله: ((وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) ... ) إلى آخره). قال الإمام: اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي وذكر أنَّ لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة تبين أن تخصيص المطيعين بالثواب والمذنبين بالعقاب ليس أنه يحتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص لمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة شاملة، ولا سبيل إلى تربية المكلفين وإيصالهم إلى درجات الأبرار المقربين إلا بعد الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات. اهـ قال الطَّيبي: وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: يترحم عليهم بالتكليف ... إلى آخره. اهـ قوله: (وفيه تنبيه على أن ما سبق ... إلى آخره).

قوله: (على غاية تمكنكم).

قال الطَّيبي: يعني أنه تعالى إنما ذكر الرحمة وقرن به الغنى لأمرين: أحدهما: ليشير إلى أنَّ ذلك الإرسال المذكور لم يكن إلا لمحض رحمة العباد لأنه غني مطلقاً، وثانيهما: أن يكون تخلصاً إلى خطاب العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لأجل ذلك الاقتران، يعني أنه تعالى مع كونه ذا الرحمة بإرسال المرسل كذلك غني عن العالمين وعنكم خاصة أيها العصاة أن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين، ولذلك عقبه بقوله (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ). اهـ قوله: (على غاية تمكنكم). قال الشيخ سعد الدين: بأن يكون المكانة على حقيقة معناها المصدري، أو على ناحيتكم وجهتكم بأن يكون مجازاً عن التي بمعنى المكان. اهـ قوله: (كالمأمور به). قال الشيخ سعد الدين: يريد أن الأمر للتهديد من قبيل الاستعارة تشبيهاً لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لابد أن يكون. اهـ قوله: (العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى لها هذه الدار) هذه عبارة الكشاف. قال الطيبي: وتفسيره ما ذكره في القصص أنَّ الله عز وجل وضع الدنيا مجازاً إلى الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليتلقوا خاتمة الخير، ومن عمل خلاف ما وضعه الله فقد حرف، فإذاً عاقبتها الأصلية هي الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنَّها من نتائج تحريف الفجار. قال الطَّيبي: وهذا بناءً على مذهبه، والحق أن عبارة الدار كناية عن خاتمة الخير فكأنه قيل: من تكون له عاقبة الخير سواءً كان الظفر في الدنيا أو الجنة في العقبى. اهـ قوله: (وفيه مع الإنذار إنصاف فى المقال). قال الشيخ سعد الدين: حيث ذكر العملين بطريق واحد حيث قال (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) أي: على مكانتي، وحسن الأدب حيث لم يخاشن في

قوله: (ومثل ذلك التزيين).

الكلام ولم يصرح العذاب، ومع هذا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيد شديد، ويدل على أن المنذر واثق بأن العاقبة الحسنة له لا لهم، يعني: إني عالم بذلك اليوم وأنتم غداً ستعلمونه. اهـ قوله: (ومثل ذلك التزيين). قال الطَّيبي: يعني المشار إليه بقوله: ذلك ما يعلم من قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ... ) الآية. اهـ قوله: (وقرأ ابن عامر (زُيِّنَ) على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله، وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر). تبع في ذلك الزمخشري، وقد أطبق الناس على الإنكار عليه في ذلك. قال ابن المنير: نبرأ إلى الله تعالى ونبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه عما رماهم به، فقد ركب عمياء، وتخيل القراءة اجتهاداً أو اختياراً لا نقلاً وإسناداً، وزعم أن مستنده ما وجده مكتوباً في بعض المصاحف شركائهم بالياء وجعل قراءته سمجة، ونحن نعلم أنَّ هذه القراءة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل كما أنزلها عليه، وبلغت إلينا بالتواتر عنه، فالوجوه السبعة متواترة عن أفصح من نطق بالضاد جملةً وتفصيلاً، ولا مبالاة بقول الزمخشري وأمثاله، ولولا عذر أنَّ المُنكِر ليس من أهل علمي القراءة والأصول لخيف عليه الخروج من ربقة الإسلام بذلك، ثم مع ذلك هو في عهدة خطرة وزلة منكرة، والذي ظن أنَّ تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواتراً غالط، ولكنه أقل غلطاً من هذا، فإن هذا جعلها موكلة إلى الآراء، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين، ظناً منه اطراد الأقيسة النحوية الذي يحرم برد من خالفها، ثم يبحث معه فإنَّ إضافة المصدر إلى معموله مقدر بالفعل وهذا عمل، وهو وإن كانت إضافته محضة مشبهة بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة: هي غير محضة، والحاصل أنَّ اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وجاء الفصل في غيره بالظرف فتميز المصدر على غيره بجوازه في غير الظرف، ويؤيده

أيضاً أنَّ المصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول، وقد التزم بعضهم اختصاص جواز الفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل لوقوعه في غير مرتبته، كما جاز تقديم المضمر على الظاهر في غير رتبته، وأنشد أبو عبيد: وحلق الماذي والقوانس ... فداسهم دوس الحصاد الدائس وأنشد: يفركن حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج ففصل بين الفاعل والمفعول، ويقوي عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه نصباً وجراً، فهذه شواهد من العربية يجمع شملها هذه القراءة، وليس القصد تصحيح القراءة بالعربية بل تصحيح العربية بالقراءة. اهـ قال الكواشي: كلام الزمخشري يشعر أن ابن عامر قد ارتكب محظوراً، وأن قراءته قد بلغت من الرداءة مبلغاً لم ييلغه شيء من جائز كلام العرب وأشعارهم، وأنه غير ثقة لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ ومع ذلك أسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جاهل بالعربية، وليس الطعن في ابن عامر طعناً فيه وإنما هو طعن في علماء الأمصار حيث جعلوه أحد القراء السبعة المرضية، وفي الفقهاء حيث لم ينكروا عليهم إجماعهم على قراءته، وأنهم يقرءونها في محاريبهم، والله أكرم من أن يجمعهم على الخطأ. اهـ وقال أبو حيان: أعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هذا عذر أشَد من الجرم حيث طعن في إسناد القراء السبعة

وروايتهم وزعم أنَّهم إنما يقرءون من عند أنفسهم، وهذه عادته يطعن في تواتر القراءات السبع وينسب الخطأ تارة إليهم كما في هذا الموضع، وتارة إلى الرواة عنهم، وكلاهما خطأ لأن القراءات متواترة، وكذا الروايات عنهم وهى ما يستشهد بها لها، وقد وقع الفصل فيها بغير الظرف ينبغي أن يحكم بالجواز كما قالوا في قوله: تمر على ما تستمر وقد شفت ... غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها فعبد القيس فاعل شفت وقع فصلاً بين المضاف وهو غلائل والمضاف إليه وهو صدورها. وقوله: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهم تنقاد الصياريف فالدراهم بالنصب فصل بين نفي وتنقاد، أو يحمل على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف من الثاني على ما ذهب إليه صاحب المفتاح، لأن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد من ذلك، أو يعتذر لمثله بما ذكر صاحب الانتصاف من أن إضافة المصدر إلى معموله وإن كانت محضة لكنها تشبه غير المحضة، واتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره وقد جاز في الغير الفصل بالظرف فيتميز هو عن الغير بجواز الفصل بغير الظرف. اهـ قال الطَّيبي: ذهب هنا إلى أن مثل هذا التركيب ممتنع، وخطأ إمام أئمة المسلمين، وضعفه في قوله (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)، فبين كلاميه تخالف. وقال مكى: لم أر أحداً تحمل قراءته إلا على الصحة والسلامة، وقراءته أصل يستدل به لا له. وقال الإمام: وكثيراً أرى النحوين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلاً على صحته كان أولى.

وقال السكاكي: لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، ونحو قوله: بين ذراعي وجبهة الأسدِ محمول على حذف المضاف إليه من الأول، ونحو قراءة من قرأ (قتلَ أولادَهم شركائِهم) و (مخلفَ وعدَه رسله) لإسنادها إلى الثقات، وكثير نظائرها من الأشعار -ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني- محمولةٌ عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني على قراءة من قرأ (والله يريد الآخرةِ) بالجر أي عرض الآخرة، وما ذكرت وإن كان فيه نوع بُعد فتخطئة الثقات والفصحاء أبعد. اهـ وقال ابن مالك في كافيته: وظرف أو شبيهه قد يَفْصِلُ ... جزأيْ إضافةٍ وقد يُستعمَل فصلانِ في اضطرار بعض الشعرا ... وفي اختيار قد أضافوا المصدرا لفاعلٍ من بعد مفعول حجز ... كقول بعضِ القائلين للرجز يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج وعمدتي قراءة ابن عامر ... وكم لها من عاضد وناصر وقال في الشرح: إضافة المصدر إلى الفاعل مفصولاً بينهما بمفعول المصدر جائزة في الاختيار إذ لا محذور فيها مع أن الفاعل كجزء من عامله فلا يضر فصله لأن رتبته منبهة عليه، والمفعول بخلاف ذلك، فعلم بهذا أن قراءة ابن عامر غير منافية لقياس العربية، على أنَّها لو كانت منافية له لوجب قبولها لصحة نقلها، كما قبلت أشياء تنافي القياس بالنقل، وإن لم تساو صحتها صحة القراءة المذكورة ولا قاربتها، كقولهم: استحوذ، وقياسه استحاذ، وكقولهم: بنات ألببه، وقياسه ألبه، وكقولهم: هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ، وقياسه خربٌ، وكقولهم: لدن غدوةً، بالنصب، وقياسه الجر، وأمثال ذلك كثير. اهـ قوله: (فَزَجَجْتُهَا متمكناً ... زَجَّ القلوصِ أَبِي مُزَادَه). قال الطَّيبي: أورده في المفصل بلفظ فزججتها بمزجة، الزج: الطعن، والمزجة: بكسر الميم الرمح القصير كالمزراق، والقلوص: الشابة من النوق، وأبو مزادة: كنية رجل. ونقل صاحب الإقليد عن الزمخشري أن وجهه أن يجر القلوص على الإضافة، ويقدر

قوله: ((افتراء عليه)

مضاف إلى أبي مزادة محذوفاً بدل عن القلوص، تقديره: زج القلوص قلوص أبي مزادة. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: ضمير زججتها للكتيبة. اهـ وقال ابن يعيش في شرح المفصل: هذا البيت أنشده الأخفش ولا يثبته أهل الرواية. اهـ قال الثمانيني: أنشده الكوفيون ولا يعرفه البصريون. قوله: ((افْتِرَاءً عَلَيْهِ) نصب على المصدر ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: الحال أولى الوجوه لملائمته قوله (بِزَعمِهم) لأنه حال من فاعل (قالوا)، أي: قالوا زاعمين مفتريين. اهـ قوله: (لخفة عقلهم). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن (سَفَهاً) مفعول له لكن عطف وجهلهم عليه إنما هو لبيان المعنى، وإلاّ فقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع الحال. اهـ وقال الطَّيبي: وقوله لخفة عقلهم: تفسير لقوله (سَفَهاً) وهو مفعول له، وقوله (وجهلهم) عطف على خفة وتفسير لقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ). اهـ قوله: (ويجوز نصبه على الحال أو المصدر). زاد أبو البقاء: لفعل محذوف. اهـ قوله: (أو للنخل، والزرع داخل فى حكمه لكونه معطوفاً عليه). قال الطَّيبي: لأنَّ الأصل أن يطلق الأُكل على الثمرة والجنات بالحقيقة فغلّب فيه الزرع. اهـ وقال أبو حيان: ليس هذا بجيد، لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضميره.

قوله: (ولا تسرفوا

قال: فالظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو الزرع، ويكون قد حذفت حال النخل لدلالة هذه الحال عليها، التقدير: والنخل مختلفاً أكله (والزرع مختلفاً أكله). اهـ قوله: (ولا تسرفوا في التصدق). قال الشيخ سعد الدين: بقرينة القرب، ولو علقه بالأكل والصدقة بقرينة الإطلاق لكان أقرب، وأما إذا أريد بالحق الزكاة المفروضة فهي مقدرة لا تحتمل الإسراف. اهـ وقال الطَّيبي: علق (وَلا تُسْرِفُوا) بالقريب وهو (وَآتُوا حَقَّهُ) على طريقة التنازع، فيقدر مثله لقوله (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ). اهـ قوله: ((وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) عطف على (جنات)). قال الطَّيبي: والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بالنوعين في عرف الشرع، وذلك أنه تعالى لما حكى عن المشركين تحريم أجنة البحائر والسوائب وسجل عليهم بالخسران بسبب تحريمهم ما رزقهم الله تعالى افتراء على الله نص على ما خلق للمكلفين وأباح لهم أكله وحمل الأثقال عليه، وقدم أولاً ذكر الجنات المختلفة والزروع المتفاوتة وأمرهم بالأكل منها وأداء حقوق الله منها ثم ثنى بذكر الأنعام المختلفة ثم عم الخطاب في إباحة أكل سائر ما رزقهم الله تعالى ونهى عن اتباع خطوات الشيطان من تحريم ما أحله الله تعالى. اهـ قوله: (وهو بدل من (ثمانية)). قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن (مِنَ الضَّأْنِ) بدل من (الأنعام)، و (اثْنَيْنِ) من (حَمُولَةً وَفَرْشًا) أو من (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) إن جوزنا للبدل بدلاً. اهـ قوله: (والمعنى إنكار أن الله تعالى حرم الأجناس الأربعة ... ) إلى آخره.

قال الشيخ سعد الدين: يعني أن المقصود إنكار فعل التحريم لكنه أورد في صورة إنكار المفعول ليطابق ما كانوا يدعونه من التفصيل في المفعول وللترديد فيه، فيكون الإنكار بطريق برهاني من جهة أنه لا بد للفعل من متعلق فإذا نفى جميع متعلقاته على التفصيل لزم نفيه. اهـ في حاشية الطَّيبي: قال صاحب المفتاح: قل في إنكار نفس الضرب: أزيداً ضربت أم عمرواً، فإنك إذا أنكرت من تردد الضرب بينهما تولد منه إنكار الضرب على وجه برهاني، ومنه قوله تعالى (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ). وقوله (على وجه برهاني) يعني: أن الضرب يستلزم محلا، فإذا نفيت المحل نفي اللازم، وانتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. اهـ قوله: (ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له من (أهل)، وهو عطف على (يكون) والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في (يكون)). قال أبو حيان: هذا إعراب متكلف جداً، وتركيبٌ على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ (إلا أن تكون ميتةٌ) بالرفع فيبقى الضمير في (به) ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير: أو شيء أُهلَّ لغير الله به، لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. اهـ قال الحلبي: يعني بذلك أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام (من) التبعيضية، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن لم يكن فيه (من) كان ضرورة كقوله: ترمي بكفي كان مِنْ أرمى البشر أي بكفي رجل، وهذا رأي بعضهم، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقاً، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي. اهـ

وقال السفاقسي: منعه من حيث رفعُ الميتة فيه نظر، لأنه يعود على ما يعود عليه ضمير (كان) بتقدير النصب، ورفعها لا يمنع من ذلك. اهـ وقال الطَّيبي: الإعراب الأول أولى ليحصل في الكلام الترقي، وليؤذن بأن ما أهل لغير الله به أقذر وأخبث من لحم الخنزير. اهـ قوله: (الثروب). قال الجوهري: الثروب شحم قد يغشى الكرش والأمعاء رقيق. اهـ قوله: (والإضافة لزيادة الربط). قال الطَّيبي: المراد إضافة الشحوم إلى الضمير، لأن الظاهر أن يقال: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم، فأضيف لزيادة الربط. اهـ قال الشيخ سعد الدين: يريد أن إضافة شحوم إلى ضمير البقر والغنم لزيادة الربط ًوإلا فأصل الربط حاصل بدونها، مثل: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لأن (من) متعلق بهذا الفعل، وأما فيمن يجعل (وَمِنَ الْبَقَرِ) عطفاً على (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) و (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) تبييناً للمحرم منهما فالإضافة للربط المحتاج إليه. اهـ قوله: (وقيل: هو عطف على (شحومهما)، و (أو) بمعنى الواو). قال الشيخ سعد الدين: على الأول كان عطفاً على المستثنى، يعني: حرمنا جميع شحومهما إلا هذه الثلاثة، فكان المناسب هو الواو دون (أو) لأن المخرج من حكم التحريم ثلاثتها لا أحدها فقط، وأجيب بأن الاستثناء من الإثبات نفي، و (أو) في النفي تفيد العموم لكونه بمنزلة النكرة في سياق النفي، فيصير المعنى: لم يحرم واحداً من الثلاثة لا على التعيين وذلك ينفي المجموع ضرورة وهو معنى إباحة الكل، وفيه نظر لأنَّ الاستثناء إنما يفيد نفي الحكم من المستثنى بمنزلة قولك: انتفى التحريم

عن هذا وذاك والعموم إنما يوجبه نفي الحكم عن هذا وذاك بمنزلة قولك انتفى تحريم هذا وذاك، والحاصل أن النكرة إذا تعلقت بالمنفى عمت ضرورة أنَّ نفى إيجاب المبهم لا يتحقق إلا بنفى الكل، وأما إذا تعلقت بالنفى كقولنا: الأمي من لا يحسن من الفاتحة حرفاً، فلا يفيد سوى تعلق النفي بفرد مبهم، وهذا ما يقال إن (أو) في النفي قد تكون لنفي أحد الأمرين فتعم، وقد تكون لأحد النفيين فلا تعم، فالوجه أن يقال: كلمة (أو) في العطف على المستثنى أيضاً من قبيل: جالس الحسن وابن سيرين كما ذكره في العطف على المستثنى منه يعني أنَّها لإفادة التساوي في الحكم فيحرم الكل، وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل: لا تأكل أحد الثلاثة، وهو معنى العموم، وهذا ما نقل عن صاحب الكشاف أنَّ الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنَّها بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً وعمرواً كان له أن يطيع زيداً على حده، وأما إذا قلت: لا تطع زيداً أو عمرواً أو خالداً فالمعنى أن هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحداً منهم ولا الجماعة، وبهذا يتبين فساد ما يتوهم من أنه يريد أن على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أكل أيها كان وأكل الآخرين، والظاهر أنَّ مثل هذا وإن كان جائزاً فليس من الشرع أن يحرم واحد مبهم من أمور معينة، وإنما ذلك في الواجب فقط. اهـ وقال الزجاج: يجوز أن تكون (الْحَوَايَآ) نسقاً على (شُحومَهُمَا) لا على المستثنى، المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم، ودخلت (أو) على طريق الإباحة كما قال عز وجل (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أي: هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا،

و (أو) بليغة في هذا المعنى، لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً وعمرواً، فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معاً، فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية، فإذا قلت: لا تطع زيداً أو عمرواً أو خالداً، أي: هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومثله: جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي، فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحداً منهم فأنت مصيب. اهـ وقال ابن الحاجب: (أو) في قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) بمعناها وهو أحد الأمرين، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي، لأن المعنى قبل وجود النهي فيهما يطيع آثماً أو كفوراً، أي واحداً منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تطع واحداً منهما، فيجيء العموم فيهما من جهة النهى الداخل، بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر، وهو معنى دقيق. اهـ قال الطيبي: وحاصل ذلك أنك إذا عطفت (أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) على (شُحُومَهُمَا) دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثنى منه، وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم، و (أَو) على الأول للإباحة، وعلى الثاني للتنويع. وقال أبو البقاء: (أَو) هنا لتفصيل مذاهبهم لاختلاف أماكنها كقوله تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فلما لم يفصل في قوله (وَقَالُوا) جاء بـ (أَو) للتفصيل إذ كانت موصوفة لأصل الشيئين. اهـ وقال أبو حيان: الأحسن في هذه الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على (شُحُومَهُمَا) أن تكون (أَو) فيه للتفصيل، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم. اهـ وقال ابن عطية متعقباً القول بأنه عطف على (شُحُومَهُمَا): وعلى هذا تدخل الحوايا في التحريم، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه ولم يبين وجه

قوله: (أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء. . .)

ذلك. اهـ قوله: (ذلك التحريم أو الجزاء). قال أبو حيان: ظاهر هذا أن ذلك منتصب انتصاب المصدر، وقد ذكر ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا وأتبع بالمصدر نحو: قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود، ولا يجوز: قمت هذا ولا قعدت ذاك، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر. اهـ وقال الحلبي: ما قاله ابن مالك غير صحيح لورود اسم الإشارة مشاراً به إلى المصدر غير متبوع به، قال الشاعر: ياعمرو إنك قد مللت صحابتي ... وصحابتيك إخال ذاك قليل قال النحويون: (ذاك) إشارة إلى مصدر (خال) المؤكدة له وقد أنشده هو على ذلك. اهـ قوله: (أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: الكفرة يحتجون بذلك على حقيقة الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبونه من القبائح وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر على ما هو مذهب القدرية من عدم التفرقة بين المأمور والمراد وإن كل ما هو مراد الله تعالى فهو ليس بمعصية نهى عنها، وأهل السنة وإن اعتقدوا أنَّ كل الكل بمشيئة الله لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقهما العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن البعض بحكم الوعد، فهم في ذلك يصدقون الله تعالى فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء، والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على بعض ما هو بمشيئة الله تعالى، ويزعمون أن الكفر والمعاصي إذا كانت بإرادة الله تعالى لم يكن عليها عذاب ألبتة ولم يكن مخالفة للأمر، بل ربما كانت مرضية عنده. قال: وحاصل الكلام في هذا المقام ما قال الامام وهو أنَّ في كلام المشركين مقدمتين إحداهما: أنَّ الكفر بمشيئة الله تعالى، والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية إذ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان

قوله: (مفعول (أتل)

ويعذبه على الكفر، ويبعث الأنبياء دعاة إلى دار السلام وإن كان لا يهدي إلا من يشاء. اهـ وقال إمام الحرمين في الإرشاد: أنَّهم إنما استوجبوا التوبيخ لأنهم كانوا يهزؤن بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان قد قرع مسامعهم من شرائع الرسل تفويض الأمور إلى الله تعالى فلما طولبوا بالإسلام والتزام الأحكام تعللوا بما احتجوا به على النبيين وقالوا (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا) ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، والدليل عليه (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ) فكيف لا يكون الأمر كذلك والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان بالله والمقرعون بالآية كفرة. اهـ قوله: (وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم). قال الشيخ سعد الدين: سكت عن التثنية مع أنَّهم يقولون: هلمّا لأنه أراد بالجمع ما يعم المثنى. اهـ قوله: (فإن تسليمه موافقة لهم في الشهادة). قال الطيبي: تلخيصه أن قوله (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أبلغ في النهي من قوله: فلا تصدقهم، فهو من باب الكناية، ويجوز أن يكون من باب المشاكلة. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: ربما يشعر بأن (فَلا تَشْهَدْ) مسمتعار بمعنى: لا تسلم، استعارة تبعية، وقيل: مجاز من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم، لأن الشهادة من لوازم التسليم، وقيل: كناية، وقيل: مشاكلة. اهـ قوله: (والجملة). قال الشيخ سعد الدين: أي (حَرَّمَ) مع مفعوله المقدم. اهـ قوله: (مفعول (أَتْلُ)). زاد غيره: على وجه التعليق، ورده أبو حيان بأن (أَتْلُ) ليس من أفعال القلوب

فلا تعلق. وقال الشيخ سعد الدين: من حيث تضمنه معنى القول كأنه قيل: اتل أي شىء حرم. اهـ قوله: (أي لا تشركوا ... ) إلى آخره. يعني أنَّ (أن) مفسرة لا مصدرية فلذا عبر بـ (أي). قال الشيخ سعد الدين: نظم الكلام لا يخلو عن إشكال لأن (أن) إما أن تجعل مصدرية أو مفسرة، فإن جعلت مصدرية كانت في موقع البيان للمحرم بدلاً من (ما) أو من العائد المحذوف، وظاهر أنَّ المحرم هو الإشراك لا نفيه، وأن الأوامر الواردة بعد ذلك معطوفة على (تشرِكُوا) وفيه ارتكاب عطف الطلبي على الخبري وجعل المعاني الواجبة المأمور بها محرمة فاحتيج إلى تكلفات متل جعل (لا) مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل (لا) ناهية واقعة موقع الصلة لـ (أن) المصدرية فلا سبيل إليه هنا لأن زيادة (لا) الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام، وإن جعلت (أن) مفسرة على أن (لا) ناهية والنواهى بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان: أحدهما: عطف (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) على (أَلاّ تُشْرِكُوا) مع أنه لا معنى لعطفه على (أن) المفسرة مع الفعل، ثانيهما: عطف الأوامر المذكورة على النواهي فإنَّها لا تصلح بياناً لتلاوة المحرمات بل الواجبات، والمصنف اختار كون (أن) مفسرة لأن انعطاف الأوامر على المذكورات قرينة ظاهرة على أنَّها نواه ولا سبيل حينئذ إلى جعل (أن) مصدرية موصولة بالنهي لما عرفت فأجاب عن الإشكال بأن قوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) ليس عطفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا) بل هو تعليل للاِّتباع متعلق بـ (اتبعوه) على حذف اللام وجاز عود ضمير (اتبعوه) إلى الصراط لتقدمه في اللفظ. فإن قيل: فعلى هذا يكون (اتبعوه) عطفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا) ويصير التقدير: فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع يبن حرفي عطف أعني الواو والفاء و ليس بمستقيم، وإن جعلنا الواو استئنافية اعتراضية قلنا: ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلاً بينهما شائع في الكلام مثل (وَرَبَّكَ فَكبِّر) (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ

لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) فإن أبيت الجميع ألبتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقاً بمحذوف والمذكور بالفاء عطفاً عليه مثل عطف (فَكبِّر) (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا) وآثروه فاتبعوه، وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد (أن) المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأنَّ المأمور به لا يكون محرماً دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها، بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل: أتلو ما حرم أن لا تسيؤا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل وتنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف، وأما انتصاب (أَلاّ تُشْرِكُوا) بـ (عَلَيْكُمْ) يعني: الزموا ترك الشرك، فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل (لا) ناهية و (أن) المصدرية موصولة بالنواهي والأوامر. اهـ وقال أبو حيان: لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه (لا) لأنا بينا جواز عطف (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) على (تعالوا)، وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) معطوفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا). قال: وقوله إنَّ التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بعيد جداً، وإلغاز في المعاني ولا ضرورة تدعوا إلى ذلك. قال: وأما ما عطف عليه هذه الأوامر فتحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيثُ كانت في حيز (أن) التفسيرية بل هي معطوفة على قوله تعالى (أَتْلُ مَا حَرَّمَ)، أمرهم أولاً بأمر ترتب عليه ذكر مناه، ثم أمرهم ثانياً بأوامر، وهذا معنى واضح، والثاني: أن يكون الأوامر معطوفة على النواهي، وداخلة تحت (أن) التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون (أن) مفسرة له وللمعطوف قبله الذي دل على حذفه، والتقدير: وما أمركم به، فحذف وما أمركم به لدلالة (مَا حَرَّمَ) عليه، لأن معنى (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ): ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى: قل تعالوا أتل ما نهاكم

قوله: (و (ثم) للتراخى فى الأخبار، أو للتفاوت فى الرتبة)

ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف، ألا ترى أنه يجوز أن يقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهى على الأمر كقول امرئ القيس: يقولون لا تهلك أسىً وتجمل وهذا لا نعلم فيه خلافاً، بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً. اهـ قوله: (من أجل فقر ومن خشيته). قال الشيخ سعد الدين: هذا يخالف ما اشتهر من أن هذا الخطاب للفقراء من الذين لهم إملاق بالفعل ولذا قدم رزقهم فقيل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، والخطاب في (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) للأغنياء ولذا قدم رزق أولادهم فقيل (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ). اهـ قوله: ((إلا وسعها): أي ما يسعها). قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الواسع فعل بمعنى فاعل، أي: أمر يسع النفس ولا تعجز النفس عنه. اهـ قوله: (عطف على (وصاكم)). قال الشيخ سعد الدين: يعني جملة (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) لظهور أنه ليس عطفاً على الفعلية الواقعة خبر (ذَلِكُمْ). اهـ قوله: (و (ثم) للتراخى فى الأخبار، أو للتفاوت فى الرتبة). قال الطَّيبي: يمكن الجمع بينهما إذ لا منافاة بين الاعتبارين، وذلك أن قوله (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ) من جملة ما وصاه الله تعالى قديماً وحديثاً ويكون قوله (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ) مشاراً به إلى جميع ما ذكر من أول هذه السورة لا سيما هذه المنهيات المختتمة بقوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)

فالعطف على طريقة (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) لشرفهما على سائر ما وصاه الله تعالى وأنزل فيه كتاباً فحصل التراخي بحسب الزمان وبحسب المرتبة أيضاً. اهـ قوله: ((تماماً) للكرامة). قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن (تَمَامًا) في موقع المفعول له وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماماً فيكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل وللكرامة في موقع المفعول به لـ (تَمَامًا). اهـ قوله: (على من أحسن القيام به ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (الَّذِي أَحْسَنَ) إما للجنس أو للعهد، والمعهود إما (مُوسَى) ففاعل (أَحْسَنَ) ضمير يعود إلى (الَّذِي) ومفعوله محذوف، وإما العلم والشرائع التي أحسنها موسى وأجاد معرفتها ففاعل (أَحْسَنَ) ضمير (مُوسى) ومفعوله محذوف هو العائد إلى الموصول، و (تَمَامًا) على هذا حال من (الكتاب)، وأما على قراءة (أحسنُ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف فـ (الَّذِي) وصف لـ (الَّذِي)، أو للوجه الذي يكون عليه الكتاب، و (تَمَامًا) على الوجهين حال من (الكِتاب)، و (عَلَى الَّذِي) في الوجه الأول متعلق به وهو على معناه المصدري، وفي الثاني: مستقر حال بعد حال و (تَمَامًا) بمعنى تاماً، أي: حال كون الكتاب تاماً كاملاً كائناً على أحسن ما يكون، والأحسنية يجب أن تعتبر بالنسبة إلى غير دين الإسلام وإلى غير ما عليه القرآن. اهـ وقال الطَّيبي: قوله أو (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) أي: تاماً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب عطف على قوله (تَمَامًا) للكرامة، فعلى الوجه الأول (تَمَامًا) مفعول له، قال الزجاج: وكذلك (وَتَفصِيلا)، أي: آتيناه الكتاب للتمام وللتفصيل. وعلى الثاني حال من (الْكِتَابَ) ثم التعريف في (الَّذِي أَحْسَنَ) إما للجنس أو للعهد، فعلى الجنس يوافق معناه قوله تعالى (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ

قوله: (كراهة أن يقولوا).

هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) وإليه الإشارة بقوله: على من أحسن القيام به يريد جنس المحسنين، وعلى العهد (أَحْسَنَ) إما بمعنى الإحسان في الطاعة والامتثال لجميع ما أمر به كقوله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، أو بمعنى الجودة في العمل والإتقان فيه، وفي هذا الوجه من المبالغة ما ليس في الأول لأنَّ الإحسان على الأول نفس الطاعة، وفي هذا زيادة عليها. اهـ قوله: (كراهة أن يقولوا). قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء أن نفس هذا القول لا يصلح مفعولاً له لـ (أنزلنا) بل عدمه، فحمله الكوفيون على حذف (لا) أي: لئلا يقولوا، والبصريون على حذف المضاف، أي: كراهة أن يقولوا. اهـ قوله: (أي: وإنه كنا). قال أبو حيان: ما ذهب إليه من أن أصله وإنه كنا يلزم منه أن (أن) المخففة من الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حالة التخفيف، والذي نص عليه الناس أنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر لا مثبت ولا محذوف. اهـ وقال السفاقسي: لم يصرح المصنف بأنها عاملة حال التخفيف بل قدرها بالثقيلة، أتى بالضمير معها لأجل أن المثقلة لا تكون إلا عاملة فتوهم منه أنه ذهب إلى إعمال الخفيفة وليس كذلك. اهـ قوله: (وثقابة أفهامنا) بمثلثة ثم قاف ثم باء موحدة، والمثقب بكسر الميم: العالم الفطن. قال الطَّيبي: ويروى بالفاء بدل الموحدة يقال: غلام ثقف لقف أي: ذو فطنة

وذكاء. اهـ قوله: (أو كل آياته). قال الشيخ سعد الدين: فسر إتيان الرب سبحانه ليقابل إتيان بعض الآيات، ولو حمل على حقيقته لابتني الكلام على إعتقاد الكفرة. اهـ قوله: (وعن حذيفة والبراء بن عازب: كنا نتذكر الساعة ... ) الحديث. قال الشيخ ولي الدين: إنما هو معروف من حديث حذيفة بن أسيد رواه مسلم في صحيحه. وجزيرة العرب: قال أبو عبيد: اسم صقع من الأرض وهو ما بين حَفَر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض. قال الأزهري: سميت جزيرة لأنَّ بحر فارس وبحر السودان أحاط بجانبيها وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات. اهـ قوله: (وقرئ (تنفع) بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث).

زاد في الكشاف: الذي هو بعضه، كقولك: ذهبت بعض أصابعه. اهـ قال أبو حيان: هذا غلط لأنَّ الإيمان ليس بعضاً للنفس، ويحتمل أن يكون أنث على معنى الإيمان وهو المعرفة والعقيدة فيكون مثل: جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة. اهـ وقال الحلبي: يشهد لما قاله المصنف قول النحاس: في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه وذلك أنَّ الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها، فالمراد البعضية المجازية. اهـ قوله: (وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد). قال الشيخ سعد الدين: أجيب عن التمسك بالآية بأنها من باب اللف التقديري، أي: لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه خيراً، فيوافق الآيات والأحاديث الشاهدة بأن مجرد الإيمان ينفع. اهـ وقريب منه ما قاله ابن الحاجب أنَّ المعنى: لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها وهو العمل الصالح لم تكن آمنت من قبل ولم تعمل العمل الصالح قبل فاختصر للعلم به. وقال صاحب الانتصاف: هذا الفن من الكلام في البلاغة يلقب باللف، وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد، ولا نفساً لم تكسب في إيمانها خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلها كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغة. قال: فظهر بذلك أنَّها لا تخالف مذهب الحق ولا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير وإن نفع الإيمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهى بالرد على مذهب الاعتزال أولى من أن تدل له. اهـ وقال ابن هشام: بهذا التقدير تندفع هذه الشبهة، وقد ذكر هذا التأويل ابن عطية وابن الحاجب.

قوله: ((ملة إبراهيم)

قال الطَّيبي: وعند هذا البيان أمر الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم أولاً بأن يقول انتظروا ذلك الموعود إنا منتظرون إقناطاً له عن إيمانهم، ثم ثنى بما ينبئ عن الإعراض عنهم بقوله (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، وثلث بالإقبال على من ينجع فيه الإنذار والوعظ بقوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، وربع بما يسليه عن خاصة نفسه صلى الله عليه وسلم بقوله (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وخمس بخامسة شريفة مطابقة لما بدئت به السورة من المقاصد وهى قوله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). فإن فاتحة السورة ابتدئت بذكر بدء النشأة الأولى لبيان إثبات التوحيد ونفي الشرك، والخاتمة بذكر النشأة الأخرى والأمر بالاخلاص ونفي الشرك، فسبحانه ما أعظم شأنه وما أعجب بيانه وأعز سلطانه. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: افترقت اليهود ... ) الحديث. أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة. قوله: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) عطف بيان). قال الشيخ سعد الدين: لما في الإضافة من زيادة التوضيح. اهـ وقال الطيبي: يريد أن الدين القيم هو ملة إبراهيم بعينه. قال الراغب: الملة كالدين وهو اسم لما شرع الله تعالى على لسان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يتوصلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينهما أنَّ الملة لا تضاف إلا إلى النبي الذي تسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع، وأصلها من أمللت الكتاب. اهـ قوله: (وما أنا عليه في حياتي ... ) إلى آخره.

قوله: (لأن ما هو آت قريب).

قال الشيخ سعد الدين: يريد أن المحيا والممات مجازان عما يقارنهما ويكون معهما من الإيمان والعمل الصالح لأنه مناسب للحكم لكونه خالصاً لوجه الله تعالى كالصلاة وسائر العبادات. اهـ قوله: (وهو جواب عن دعائهم). قال الطَّيبي: لأنَّ كل تقديم إما للاهتمام أو جواب إنكار، وكذا ما فيه أداة الحصر، ولهذا قال (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا) جواب عن قولهم (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ). اهـ قوله: (لأنَّ ما هو آتٍ قريب). قال الطَّيبي: أي الموعود سريع الوصول فإن سرعة العقاب تستدعي سرعة إنجاز الوعد. اهـ قوله: (أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد) أخرج هذا القدر الطبراني في المعجم الصغير، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر. قوله: (فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة). هذا أورده الثعلبي عن أبي كعب وهو موضوع كما تقدم، والله أعلم. تمت سورة الأنعام يتلوها سورة الأعراف. * * *

سورة الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سورة الأعراف قوله: (فإن الشك حَرج الصدر). قال الطَّيبي: أي أطلق الحرج وأريد الذي هو لازمه الشك فيكون كناية. اهـ قوله: (وتوجيه النهي إليه للمبالغة). قال العلم العراقي: لأنَّ الحرج منهي والمراد المنهى عنه. اهـ قوله: (كقولهم: لا أريتك هاهنا). قال الطَّيبي: أي هو من الكناية، ظاهره يقتضي أنَّ المتكلم ينهى نفسه عن أن يرى المخاطب هناك، والمراد نهي المخاطب، أي: لا تكن هاهنا حتى لا أراك فيه فإنَّ كينونتك هاهنا مستلزم لرؤيتي إياك، المعنى: أنَّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناك عنه (فانته عنه) بترك التعرض له. اهـ قوله: (والفاء تحتمل العطف والجواب). قال الطَّيبي: وأقول إن الفاء أذنت بترتب النهي على كون الكتاب منزلاً، وتقريره على الشك أن يقال: إذا تيقنت أن الكتاب منزل من عند الله تعالى فلا ينبغي أن تشك فيه لأن اليقين والشك لا يجتمعان، فالنهي من باب التهييج والإلهاب ليداوم على اليقين ويزيد فيه كقوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) وقوله تعالى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، وعلى نفي الضيق والحرج أن يقال: إن (المص) إما وارد على قرع العصا لمن تحدى بالقرآن وبغرابة نظمه أو هو تقدمة لدلائل الإعجاز، والمعنى: (المص) هو كتاب منزل من عند الله بالغ حد الإعجاز فكن منشرح الصدر فسيح البال قوي الجأش ولا تبال بهم وأنذرهم به فإن الغلبة لك عليهم

والسلطان وهم مقهرون، فالنهى من باب التشجيع هذا هو الوجه معنى ونظماً. اهـ قوله: (متعلق بـ (أُنْزِلَ) أو بـ (لا يَكُنْ)). قال أبو حيان: في تعليق المجرور والظرف مكان الناقصة خلاف، مبناه على أنَّها هل تدل على حدث أم لا؟ فمن قال: نعم، جوزه، ومن قال: لا، منعه. اهـ وقال الحلبي: الصحيح دلالتها على الحدث. قال: ثم إنه ليس في عبارة الزمخشري ما يدل على أنه متعلق بـ (فَلا يَكُنْ) فإنه قال بالنهي فقد يريد بما تضمنه من المعنى. اهـ قوله: (يحتمل النصب بإضمار فعلها). قال الطَّيبي: روي عن صاحب الكشاف أنه قال: لم أزعمه معطوفاً على محل (لِتُنذِرَ) لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً حتى يجوز حذف اللام منه. اهـ قوله: (والرفع عطفاً على (كتاب)، أو خبر محذوف). قال الزجاج: التقدير: هو ذكرى. اهـ قال الطَّيبي: فإن قلت: ما الفرق بينه إذا كان عطفاً على (كِتَاب) وبينه إذا كان خبر مبتدأ محذوف؟ قلت: المعنى على الأول هو جامع بين كونه كتاباً وكونه ذكرى للمؤمنين لتنذر به، وعلى الثاني عطف جملة على جملة، أي: هو كتاب منزل من عند الله لإنذار الكافرين وهو ذكرى للمؤمنين وبشارة لهم، فيكون كل من الوصفين مستقلاً بنفسه والتركيبان مستبدين برأسهما. اهـ قوله: (وإن جعلت مصدرية لم ينتصب (قليلاً) بـ (تذكرون)). قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون (ما) مصدرية، لأنَّ (قَلِيلاً) لا يبقى له ناصب. اهـ

قوله: (وإنما حذفت واو الحال استثقالاً لاجتماع حرفي عطف، فإنها واو عطف استعيرت للوصل). قال أبو حيان: هذا التعليل ليس بصحيح لأنَّ واو الحال ليس حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنَّها ليست واو عطف، ولا لحظ فيها معنى واو عطف، تقول: جاء زيد والشمس طالعة، فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف. اهـ ًوقال السفاقسي: تعقبه عليه ليس بطائل لأن الزمخشري إنما قال إنَّها واو العطف على الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط، فقد صرح بخروجها عن أصله، فكيف يلزمه وقوع حال قبلها؟ وقوله: استثقالاً لاجتماع حرفي العطف، يعني في واو الحال اعتباراً بأصلها. اهـ وقال الحلبي: لم يدع الزمخشري في واو الحال أنها عاطفة بل ادعى أن أصلها العطف، ويدل على ذلك قوله: استعيرت للوصل، فلو كانت عاطفة على حالها لما قال: استعيرت، فدل قوله ذلك على أنَّها خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر، وأما تسميتها حرف عطف فباعتبار أصلها، ونظر ذلك أيضاً واو مع فإنَّهُم نصوا على أن أصلها واو العطف ثم استعملت في المعية، فكذلك واو الحال. قال: وقد سبقه في تسمية هذه الواو حرف عطف الفراء وابن الأنباري. قال الفراء: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) فيه واو مضمرة، المعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، فاستثقلوا نسقاً على إثر نسق، ولو قيل لكان صواباً. وقال أبو بكر ابن الأنباري: أضمرت واو الحال لوضوح معناها، ومن أجل أنَّ (أو) حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا جمعاً بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني.

قال الحلبي: فهذا تصريح من هذين الإمامين بما ذكره الزمخشري. قال: وإنما ذكرت نصها لأعلم اطلاعه على أقوال الناس، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل العلم كما يرميه به غير مرة. اهـ وقال الطَّيبي: قوله: واو عطف استعيرت للوصل، صريح في أنَّ واو الحال غير العاطفة الصرفة، وتحقيق ذلك ما قال صاحب المفتاح: وحق النوعين أي الحال بالإطلاق والحال المؤكدة أن لا يدخلهما الواو؛ نظراً إلى إعرابهما الذي ليس بتبع؛ لأنَّ هذه الواو وإن كنا نسميها واو الحال أصلها العطف، وقال أيضاً: الأصل في الجملة إذا وقعت موقع الحال أن لا يدخلها الواو، ولكن النظر لها من حيث كونها جملة مفيدة مستقلة بفائدة غير متحدة بالأولى وغير منقطعة عنها كجهة جامعة بينهما يبسط العذر في أن يدخلها واو الجمع بينها وبين الأولى، مثله في نحو: قام زيد وقعد عمرو. اهـ قوله: (لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح). قال أبو حيان: تبع في ذلك الفراء، وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها، وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين. قال: وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة. اهـ قوله: (وقت دعة). قال الجوهري: الدعة: الخفض، والهاء عوض من الواو، ويقال: ودع الرجل -بالضم- فهو وديع، أي: ساكن. اهـ قوله: (روي أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً ... ) الحديث. أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بنحوه. قال الطَّيبي: البطاقة: رقعة صغيرة، وهي ما يجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه. اهـ

قوله: (وقيل: (ثم قلنا) لتأخير الإخبار).

وقال القرطبي في التذكرة: قوله في الحديث (فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله) ليست هذه شهادة التوحيد لأنَّ من شأن الميزان أن يوضع في كفته (شىء وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة) فهذا غير مستحيل لأنَّ العبد يأتي بهما جميعاً، ويستحيل أن يأتي بالكفر والإيمان عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في كفة، فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان، وأما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة فتوضع في الميزان مع سائر الحسنات قاله الترمذي الحكيم. قال القرطبي: ويدل على هذا قوله في الحديث (فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة) ولم يقل إن لك عندنا إيماناً، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله أمن الحسنات هي؟ فقال: من أعظم الحسنات. قال: ويجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا. اهـ قوله: (رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قل: إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة). أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. قوله: (يكذبون بدل التصديق). قال الطَّيبي: يريد أنَّ قوله (يَظْلِمُونَ) ضمن معنى التكذيب فعدي بالياء. اهـ قوله: (وقيل: (ثم قلنا) لتأخير الإخبار). قال الطيبي: يمكن أن تحمل (ثم) على التراخي في الرتبة، لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجوداً للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم، وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثَمَّ عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي. اهـ قوله: (و (لا) صلة مثلها في (لئلا يعلم) مؤكدة معنى الفعل). قال الطَّيبي: قال صاحب المفتاح: للتعلق بين الصارف عن فعل الشيء وبين الداعي إلى تركه يحتمل عندي أن يكون (مَنَعَك) في الآية مراداً به: ما دعاك إلى أن لا تسجد،

قوله: (وقيل: تقديره: على صراطك).

وأن تكون (لا) غير صلة قرينة للمجاز. اهـ وقال الراغب: المنع يقال في ضد العطية، وقد يقال في الحماية، وقوله (مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ) أي: ما حملك. اهـ قوله: (جواب من حيث المعنى). قال الطَّيبي: لأنَّ الجواب الحقيقي: منعني كذا وكذا، وقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواب أيكما خير، والمعنى: منعني من السجود فضلى عليه. قال: فالجواب من الأسلوب الأحمق كقول نمرود (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). اهـ قوله: (قال عليه الصلاهَ والسلام: من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله). أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عمر بن الخطاب. قوله: (كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ). أوله: لدنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فيه ............... يصف الرمح، لدن: أي لين، وعسل الرمح: اهتز واضطرب، والذئب: أسرع، وضمير (فيه) للكف أو للهز، والبيت من قصيدة لساعدة بن جؤية وأولها: هجرتْ غضوبُ، وحبَّ من يتجنب ... وعدت عوادٍ دون وَلْيِك تشعب شاب الغراب ولا فؤادك تارك ... ذكر الغضوب ولا عتابك يعتب قوله: (وقيل: تقديره: على صراطك). قال الطيبي: لا اختلاف بين النحويين في أنَّ (على) محذوفة، وفي التخريج الأول إشكال لأنَّ حكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف فلا يحذف، والبيت شاذ. اهـ قوله: (بالتسويل).

قوله: ((ويا آدم): وقلنا يا آدم).

في النهاية: التسويل: تحسين الشيء وتزيينه للإنسان ليفعله أو يقوله. اهـ قوله: (وعن ابن عباس: (من بين أيديهم): من قبل الآخرة، (ومن خلفهم): من قبل الدنيا، (وعن أيمانهم وعن شمائلهم): من جهة حسناتهم وسيئاتهم). أخرجه ابن أبي حاتم. قوله: (وقرئ «لِمَنْ» بكسر اللام على أنه خبر (لأملأن) على معنى: لمن تبعك هذا الوعيد). قال أبو حيان: إن أراد ظاهر هذا الكلام فهو خطأ على مذهب البصريين، لأنَّ (لأملأن) جملة وهي جواب قسم محذوف، فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن يكون مبتدأة، ومن حيث كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً لأنَّها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يتصور أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال. اهـ وقال الحلبي: بعد أن قال: على معنى لمن تبعك هذا الوعيد، كيف يورد عليه ذلك مع تصريحه بالتأويل؟، وأما قوله علي أن (لأملأن) في محل الابتداء لأنه دال على الوعيد الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدال ما ينسب إلى المدلول من جهة المعنى. اهـ قوله: ((ويا آدم): وقلنا يا آدم). قال الطَّيبي: إنما قدر (قلنا) ليؤذن بأنَّ هذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهي قوله (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) لا على (قَال) وهو أقرب، وأنها كرامة أخرى منحت أبا البشر امتناناً على المخاطبين من أولاده، ومن ثم أتى بصيغة التعظيم وأن قوله (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ ... ) إلى آخره وارد على الاستطراد لحديث الأمر بالسجود وامتناع إبليس منه، كما أن قوله (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) مستطرد لذكر بدو السوءات، وقوله (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) استطراد في استطراد لأنه حكاية عن فعلٍ قبيح كانوا يفعلونه ويزعمون أنه نسك من المناسك وهو طوافهم بالبيت عراة، فشنع عليهم بتسميته فاحشة، والدليل على كونه مستطرداً العود إلى حديث الاستطراد الأول بقوله (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وفائدة عنه الأمر بالستر

وأكل المباحات بعد تقبيح تلك الفعلة والتزي بزي المتقين ولذلك صرح بذلك بكل مسجد، ويؤيده قول الإمام: إن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون الطعام في الموسم إلا القليل ويحترزون عن الدسم تعظيماً فأنزل الله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) بياناً لفساد تلك الطريقة. وسبيل هذا الاستطراد سبيل قوله تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) سواء بسواء. اهـ قوله: (وفيه دليل على أنَّ كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن فى الطباع). تبع فيه صاحب الكشاف وقد قال ابن المنير: فيه ميل إلى الاعتزال وأن العقل يقبح ويحسن. قال: وهذا اللفظ لو صدر من السني كان تأويله أن العقل أدرك المعنى الذي لأجله حَسَّن الشرعُ الستر وقبَّح الكشف. اهـ وقال الطَّيبي: في تقديره أي في جعل الإبداء غرضاً للشيطان في الوسوسة دليل على أن المطلوب الأولي منه أنه مهتم بشأنه لكونه مستتبعاً للإخراج من الجنة وموجباً للفضيحة وشماتة العدو، ثم في إيقاع الصلة الموصولة وهي (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا) موضع العورة على نحو قوله تعالى (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) إشعار بزيادة التقبيح، وفي جعل (مِنْ سَوْءَاتِهِمَا) بياناً له إيذان بمزيد الشناعة والقبح على منوال قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، وإنما كان مستقبحاً في الطباع والعقول لأنه لم يكن في الجنة تكليف سوى المنع من قربان الشجرة وإنما علم قبحه من جهة العقل. اهـ ثم عقبه بكلام ابن المنير السابق.

قوله: (واستدل به على تفضيل الملائكة على الأنبياء. . .)

قوله: (أو يصل). أصلة: وويصل. قوله: (لأن الثانية مدة). قال الطَّيبي: أي إنما تقلب إذا كانت الثانية متحركة، شبه الواو الثانية بالألف لسكونها في أن لا أثر لها، أما أو يصل فحركتها أخرجتها من ذلك الحكم. اهـ قوله: (واستدل به على تفضيل الملائكة على الأنبياء ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: الجواب أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك أن يكون الأمر على ما اعتقده ووسوس به، فقد علل إبليس منع الشجرة بأنه كراهية أن يخلد أو يكونا ملكين وهو كاذب فيه، ولم يقرر الله تعالى قوله بل أشَار إلى كذبه بقوله (فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ) فدل على أن تفضيل الملائكة من جملة غروره. اهـ قوله: (وقيل: أقسما له بالقبول). قال ابن المنير: إنما يتم هذا لو لم يذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما إذا ذكره فلا يتم إلا بأن يسمي قبول النصح نصحاً للمقابلة كما قرئ (ووعدنا موسى) جعل التزامه بالوعد وحضوره وعداً. اهـ قوله: (وقيل: أقسما عليه بالله إنه لمن الناصحين وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة). قال ابن المنير: فيكون في الكلام لف، لأن آدم وحواء لا يقسمان بلفظ المتكلم بل بلفظ الخطاب. اهـ وقال الطَّيبي: هو إلى التغليب أقرب. اهـ قوله: (وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف فى ثياب عصينا الله تعالى فيها، فنزلت). أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن جبير، وأصله في صحيح مسلم من حديث ابن عباس.

قوله: (ولباسا يتجملون به).

قوله: (ولِبَاسًا يتجملون به). قال الطَّيبي: إنما عطف (وَرِيشُا) على (لِبَاسًا) ليؤذن بأن الزينة أيضاً غرض صحيح كقوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)، وكما أن ستر العورة مأمور به كذلك أخذ الزينة مأمور به قال تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). اهـ قوله: ((ذلك) صفته) قال الطيبي: قال نور الدين الحكيم: الوصف بذلك غير سديد على الظاهر، لأن حق الموصوف أن يكون أخص، وذلك أخص من لباس التقوى، وقد صرحوا بأن عامهم هذا جائز والعام هذا غير جائز والمضاف إلى المعرف باللام أحط درجة من المعرف باللام. قال أبو البقاء: يجوز ذلك على تأويل المذكور أو المشار إليه. وقال صاحب الكشاف: كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه، كما تقول: زيد هذا قائم. اهـ قوله: (كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها). قال الطَّيبي: يريد أن قوله (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) وضع موضع مصدر (يَفْتِنَنَّكُمُ) وضعاً للسبب موضع المسبب، أي: أوقعه في المحن والبلاء بسبب الإخراج. اهـ قوله: (لا يقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا). قال أبو حيان: لأنه تعالى أثبت أنَّهم يروننا من جهةٍ نحن لا نراهم منها، وهي الجهة التي يكونون فيها على أصل خلقهم من الأجسام اللطيفة، ولو أريد نفي رؤيتنا على العموم لم يتقيد بهذه الحيثية، وكان يكون التركيب: إنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهم، وأيضاً فلو فرض أن في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان. اهـ

قوله: (فى كل وقت سجود، أو مكانه وهو الصلاة).

قوله: (فى كل وقت سجود، أو مكانه وهو الصلاة). قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله (مَسجِد) مصدر ميمي، والوقت مقدر، واسم مكان كنى به عن الصلاة، وإليه الإشارة بقوله: وهو الصلاة. اهـ قوله: (وعن ابن عبَّاسٍ رضى الله تعالى عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة). أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في تفسيره. قوله: (وانتصابها على الحال). قالي أبو البقاء: العامل فيها (للذِين) أو (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إذا جعلته خبراً أو حالاً، والتقدير: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة، أي الزينة يشاركون فيها في الدنيا وتخلص لهم في الآخرة، ولا يجوز أن تعمل في (خَالِصَةً) (زِينَةَ اللهِ) تعالى لأنَّها وصفت بقوله (التِي) والمصدر إذا وصف لا يعمل، ولا قوله (أَخْرَجَ) لأجل الفصل الذي بينهما وهو قوله (قُل)، وأجاز أبو على أن يعمل (حَرَّم) وهو بعيد لأجل الفصل أيضاً. اهـ قوله: ((ما لم ينزل به سلطاناً) تهكم بالمشركين). قال ابن المنير: لأنه أجري مجرى ما له سلطان إلا أنه لم ينزل لأنه نفى أن ينزل السلطان ولم ينف السلطان، وقياسه أن يكون كقوله: على لاحبٍ لا يهتدي بمناره. اهـ قوله: (أقصر وقت). قال الطَّيبي: يريد أن تقدير الساعة ليس للتحديد بل للمثل لأقصر وقت، لأن التقديم والتأخير لا يتصور ثمة. اهـ قال الزجاج: ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء

قوله: (وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال (ما وعدنا)

الأوقات. اهـ قوله: (ورتبوه عليه). قال الطَّيبي: على وجه التسبب لأن إخبار الله بقوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سبب لعلمهم بالمساواة وحملهم على أن يقولوا وإذا كان كذلك فقد ثبت حينئذ أن لا فضل لكم علينا في استحقاق الضعف. اهـ قوله: (وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال (مَا وَعَدَنا) ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني أن الله تعالى وعد المؤمنين الثواب والكافرين العقاب فلو قال: وعدكم لاختص بالعقاب، لأن المخاطبين أصحاب النار، كما أن (وَعَدَنَا) مختص بالثواب يدل عليه ذكر الجنة والنار في قوله (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) فأطلق ليتناول الثواب والعقاب وما يتصل بهما، يعني هل وجدتم المواعيد كلها صدقاً؟. اهـ قال ابن المنير: ينعكس ويرد في قوله (وعَدَنَا) ولو ذكر المفعول في الثاني أو في الأول لم ينف إرادة جميع ذلك، والوجه حذفه تخفيفاً واستغناءً بالأول. اهـ قوله: (أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم). قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله تعالى (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِةِ) جزاء شرط محذوف لدلالة قوله تعالى (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا) وكلاهما كالتفصيل لقوله تعالى (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)، وإنما قدر: نظروا دون (صُرِفَتْ) للمقابلة ليؤذن بأن النظر إلى أصحاب الجنة وجد منهم على سبيل الرغبة وميل النفس وأصحاب النار بخلافه. اهـ قوله: (من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة). قال الحلبي: يعني أنَّ الإفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه من المائعات، فقدر: من سائر الأشربة، ليصح تسليط الإفاضة عليه. اهـ قوله: (أو من الطعام، كقوله: علفتها تبناً وماءً بارداً)

قوله: (يفعل بهم فعل الناسين).

أي على تضمين (أفِيضُوا) معنى (ألقوا) ليصح انصبابه على الشراب والطعام معاً، أو على تقدير فعل ألقوا بعد (أو)، والوجهان جاريان في البيت وفي كل ما شابهه. قال أبو حيان: والصحيح منهما التضمين لا الإضمار. اهـ قال الطَّيبي: وهذا المصراع أنشد تمامة ابن قتيبة في كتاب مشكل القرآن عن الفراء: حتى شتت همالة عيناها. قوله: (يفعل بهم فعل الناسين). قال الطَّيبي: يعني إنه تمثيل، لأنه متعال أن ينسى شيئاً، لكن شبه معاملته مع هؤلاء المتكبرين بمعاملة من ينسى عبده من الخير فلا يلتفت إليه. اهـ قوله: (عالمين بوجه تفصيله). قال الطَّيبي: يعني أوقع (عَلَى عِلْمٍ) حالاً عن ضمير الفاعل في (فَصَّلْنَاهُ) ليكون كناية عن كون الكتاب حكيماً غير ذي عوج، لأن الفاعل إذا كان عالماً بما يفعل متقناً فيه جاء فعله محكماً مستقيماً. اهـ قوله: (أو لأنَّ اللفظ يحتملها). قال الطَّيبي: أي يحتمل أن يكون النهار ملحقاً بالليل وأن يكون الليل ملحقاً بالنهار. اهـ قوله: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء ... ) الحديث. أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث سعد، وفيه: لا أدري (وحسب المرء أن يقول ... ) هو من قول سعد أو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصدره في سنن أبي داود وابن ماجه وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم. قوله: (لأن الرحمة بمعنى الرحم).

قوله: (فإن المقل للشيء يستقله).

بالضم، قال تعالى (وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، وفي نسخة بمعنى الترحم، وهي عبارة أبي البقاء. قال الزجاج: إن الرحمة والغفران والعفو في المعنى واحد. اهـ وقال الأخفش: إن الرحمة في معنى المطر. اهـ ذقوله: (أو على تشبيهه بفعيل الذي بمعنى مفعول). يعني فإنه يستوي في المذكر والمؤنث كجريح، وأسير، وقتيل، وقيل: هو نفسه فعيل بمعنى مفعول. قوله: (أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره). قال الزجاج: هذا غلط كل ما قرب من مكان أو نسب يجوز فيه التذكير والتأنيث. اهـ قوله: (فإن المقل للشيء يستقله). قال صاحب الكشاف: حقيقة أقله: جعله قليلاً في زعمه، كقولك: أكذبه، إذا جعله كاذباً في زعمه. اهـ وقال نور الدين الحكيم: أقله: وجده قليلاً واعتقده قليلاً، من الجعل الاعتقادي كأكذبه. قوله: (وإفراد الضمير باعتبار اللفظ). لأنَّ (سحاباً) لفظه مفرد. قوله: ((لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لأجله). قال أبو حيان: جعل اللام لام العلة، ولا يظهر، وفرق بين قولك: سقت لك مالاً، وسقت لأجلك مالاً، فإن الأول معناه: أوصلته لك وأبلغتكه، والثاني لا يلزم منه وصوله إليه، بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علل به السوق، ألا ترى إلى صحة قول القائل: لأجل زيد سقت لك مالا. اهـ

قوله: (ليس بي ضلالة) أي شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات).

قال الحلبي: وهذا واضح. اهـ قوله: (بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق). قال الطَّيبي: فالباء على الأول بمعنى (في)، وعلى الآخرين كما في قولك: كتبت بالقلم. اهـ قوله: ((لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإِثبات). عبارة الكشاف: فإن قلت: لم قال (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ولم يقل (ضلال) كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت: ما لي تمرة. اهـ قال صاحب الانتصاف: قوله: نفيها أبلغ لأنَّها أخص، لا يستقيم، فإن نفي الأعم أخص من نفي الأخص، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فلا يستلزمه، لأن الأعم لا يستلزم الأخص، فإذا قلت: هذا ليس بإنسان، لا يلزمه سلب الحيوانية عنه، ولو قلت: هذا ليس بحيوان، لم يكن إنساناً، والحق أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال لأنَّها لا تطلق إلا على الفعلة منه، والضلال يصلح للقليل والكثير، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. اهـ وفي حاشية الطَّيبي: عن صاحب الكشاف روى أنه قال: نفى أن يكون معه طرف من الضلال وأثبت أنه في الغاية القصوى من الهدى حيث كان رسولاً من رب العالمين، وفيه إظهار لمكابرتهم وفرط عنادهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال المبين الظاهر شأنه لا ضلال بعده. (قال صاحب الفرائد: جعل التاء في الضلالة بمنزلة التمرة والفعلة في أنَّها للوحدة)، وقد قال صاحب المجمل: الضلال والضلالة بمعنى واحد. وقال صاحب المثل السائر: الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث فإنه متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالاً وضلالة كان القولان سواء، لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة الواحدة، فإذا نفى نوح صلى الله عليه وسلم عن نفسه المرة

الواحدة من الضلال فقد نفى ما فوق ذلك من المرتين والمرات الكثيرة. وقال صاحب الفلك الدائر على المثل السائر: الذي ذكره غير صحيح لا إن كانت الضلالة مصدراً ولا إن كانت المرة الواحدة، أما الأول فلأنهما لما دلا على المصدر لم تكن دلالة أحدهما أبلغ من الآخر، لأن المصدر يدل على الماهية فقط فإذا نفى نفيت الماهية، وأما الثاني فلا يصح أيضاً، لأنه لو قال القائل: ما عندي تمرة، يعني ما عندي تمرة واحدة وعندي تمر كثير يصح، لأنه لو أظهر ما أضمر فقال ليس عندي تمرة واحدة بل تمرات لم يكن مناقضاً، وقول نوح صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) بمعنى ضلالة واحدة لم يكن نافياً لكونه ضلالاً، لأنه إذا كانت الضلالات مختلفة الأنواع لم يفده قوله لجواز أن لا تكون ضلالة واحدة بل ضلالات مختلفة متنوعة، ومن وجدت عنده ضلالات كثيرة فقد صدق عليه أنه انتفت عنه ضلالة واحدة. وقال صاحب التقريب: في قول صاحب الكشاف نظر، لأنَّ الضلال إما أن يراد الكثرة أو الجنس، فعلى الأول لا نسلم أنَّ الواحد أخص بل الصحيح العكس، لأنه كلما وجدت الكثرة وجد الواحد، ولا ينعكس، فالواحد أعم ويتم الجواب، إذ يلزم من نفي العام نفي الخاص من غير عكس، فكان نفيها أبلغ، أي: ليس بي شيء من الضلال، وعلى الثاني يصح أن الضلالة أخص ولكن لا يتم الجواب، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، ولما تضمن كونه رسولاً مع كونه مهتدياً صح الاستدلال به عن انتفاء الضلالة. وقال الطَّيبي: العجب من هؤلاء الفضلاء كيف يتكلمون بما لا جدوى منه، وطولوا من غير نظر إلى المقام، فإن الزمخشري إنما يتكلم بمقتضى الحال ومطابقة الجواب للسؤال، ولا يعتبر مفردات اللفظ، وبيانه أن القوم لما أثبتوا له نوعاً من الضلال وهو كونه ضلالاً مبيناً لا مطلق الضلال كما توهموه، يدل عليه قوله السابق: وصفوه بالضلال المبين والظاهر شأنه لا ضلال بعده، والجواب إنما يطابق إذا كان أبلغ منه، فإذا لم تحمل الضلالة على ما قدره فمن أين تفيده الأبلغية، ولو لم ترد المبالغة لكان مقتضى الظاهر أن يقال في جواب (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ): ليس بي ضلال، فلما أثبتوا النوع نفى الواحدة. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام نفى الجنس لتنتفي الماهية، فيحصل المقصود؟ قلت: إذاً يفوت مقتضى العدول من لفظ الضلال إلى الضلالة وإرادة النزرة منها لأن نفي الشيء مع الصفة في مقام نفيه أبلغ من نفيه وحده، ولأن نفي

قوله: (استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سؤال ... )

الواحدة لإرادة انتفاء الماهية أبلغ من العكس لمكان الكناية واستلزام الاستغراق بحسب إفراد الجنس كما قال صاحب المثل السائر: فإذا نفى نوح عليه الصلاة والسلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلالة فقد نفى ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة، فظهر أن التركيب إنما يفيد المطلوب إذا وقع جواباً مع إرادة المبالغة لا بالنظر إلى اللفظ من حيث هو، ألا ترى أن قوله تعالى (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إنما كان أبلغ من قوله (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) من حيث كونه وقع جواباً له، ولو نظر إلى اللفظ فقط كان هو أحط منه بدرجات كثيرة، وأما مسألة التمرة فإذا قال القائل: ليس عندي تمرة، ابتداءً يصح ما قاله الزاعم، أما لو قاله على سبيل الإنكار لمن يتهمه بإدخار التمر يصح ما قال والحاصل أن اقتضاء المقام ينحي بالهدم لجميع ما بنوه، ولما كان الإمام الداعي إلى الله تعالى ذا حظ وافر من علم البيان قال في تفسيره: فإن قيل: إن القوم قالوا (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا وعدل إلى قوله (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ)؟ قلنا: لأن المراد بقوله (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة. وقال القاضي: (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أيّ شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات. اهـ قوله: (استدراك باعتبار ما يلزمه). جواب سؤال تقديره: إنَّ (لكن) حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً فأين هذا المعنى في الآية؟ وتقرير الجواب: أن التغاير حاصل من حيث المعنى، لأن معنى قوله (رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنه على صراط مستقيم، كأنه قال: ليس بي ضلالة فقط لكني على الهداية ألبتة، كقولك: جاءني زيد لكن عمرواً غائب. قاله الطَّيبي. قوله: (والأول أبلغ لدلالته على الثبات). قال الطَّيبي: لدلالة الصفة المشبهة على الثبوت (والعامي على العمى حادث لأن اسم الفاعل دونها في الدلالة على الثبوت). اهـ قوله: (استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سؤال ... ) إلى آخره.

قوله: (إذا كان من أشرافهم من آمن).

قال الطَّيبي: حاصله إن كان الفاء رابطاً لفظياً فالإستئناف رابط معنوي. قال صاحب الفرائد: إنما حسن هذا لأنَّ قصة نوح عليه الصلاة والسلام ابتداء كلام، فالسؤال غير مقتضى الحال، وأما قصة هود عليه الصلاة والسلام فكانت معطوفة على قصة نوح عليه الصلاة والسلام فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هودٌ ما قال نوحٌ أم قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ماذا قال هود لقومه؟ فقيل: قال ما قال نوح لقومه (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). اهـ قوله: (إذا كان من أشرافهم من آمن). قال الطَّيبي: يعني إنما وصف الملأ من قوم هود دون قوم نوح ليمتاز الذين كفروا من الذين لم آمنوا، ولما لم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن لم يفتقر إلى التفرقة. قال الإمام بهاء الدين الكاشي: وفيه نظر، لأن قوله تعالى في سورة المؤمنين (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وارد في قوم نوح، فهو لا يساعد هذا الجواب. اهـ قوله: (قد وجب أو حق عليكم). قال الطَّيبي: يعني استعمال (وَقَعَ) في الرجس والغضب مجاز من الوجوب الذي هو اللزوم من إطلاق السبب على المسبب، كاستعمال الوجوب الشرعي لأنه في الأصل للوقوع، ويجوز أن تكون استعارة تبعية، شبه تعلق الرجس والغضب بهم بنزول جسم من علو وهو المراد من قوله: أو قد نزل عليكم. اهـ قوله: (تعريض بمن آمن منهم). قال الطَّيبي: يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده. اهـ قوله: (وضعوا (آمنتم به) موضع (أُرسل به)). قال ابن المنير: لو طابقوا لقالوا: إنا بالذي أرسل به كافرون، لكن عدلوا عن ذلك لما فيه من إثبات رسالته وهم يجحدونها، وقد ثبت مثل ذلك على وجه التهكم في قوله

قوله: (أي: وأرسلنا لوطا - إلى قوله - أو واذكر لوطا، و (إذ) بدل منه)

(إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، لكن هؤلاء بالغوا في التحرز حذراً من النطق بثبوت الرسالة. اهـ قوله: (تنفحج). بفاء وحاء مهملة ثم جيم. قال في الصحاح: التفحج مثل التفشج وهو أن يفرج بين رجليه. اهـ قوله: (سقبها). السقب: الذكر من أولاد الإبل. قوله: (أي: وأرسلنا لوطاً -إلى قوله- أو واذكر لوطاً، و (إذ) بدل منه). قال الطَّيبي: على هذا عَطَفَ جملةَ القصة على مثلها، وعلى الأول من عطف بعض مفردات الجملة على مثله، أي: لقد أرسلنا نوحاً ولوطاً، وقوله (إذ) ظرف لـ (أرسلنا) فمعناه الزمان أو القرن الذي أرسل فيه لوط، قيل إن الوقت الحقيقي لقوله (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) هو الجزء المعين من الزمان الذي وقع فيه هذا الكلام، وذلك الجزء لا يصح أن يكون ظرفاً للإرسال، لكن كما أن ذلك الجزء زمان هذا القول فكذلك ذلك اليوم وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن، فيتحقق من هذا التقرير معنى الأين الحقيقي وغير الحقيقي، وعلى عطف القصة على القصة و (إذ) بدل يكون أفيد، وذلك أن ذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لتثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليته مما يقاسي من قومه، أي: اذكر تلك الحالة وصورها في نفسك لتعلم أن الأنبياء السالفة درجوا على ما أنت عليه مع القوم. اهـ قوله: (والباء للتعدية). قال أبو حيان: معنى التعدية هنا قلق جداً، لأن الباء المعدية من الفعل المتعدي إلى واحد بجعل الفعل الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء، فهي كالهمزة، فإذا قلت: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت الحجر يصك الحجر، وكذلك: دفعت زيداً بعمرو عن خالد، معناه: أدفعت زيداً عمروا، أي: جعلت زيداً يدفع عمرواً عن

قوله: (وكان يقال له خطيب الأنبياء)

خالد، فللمفعول الأول تأثير في الثاني، ولا يتأتى هذا المعنى هنا إلا بتكلف. اهـ قوله: (والثانية للتبعيض). قال الطَّيبي: فيكون بدلاً من محل (من أحد)، أي: ما سبقكم بها بعض العالمين، أي: أنتم تفردتم لهذا الفعل من بين من عداكم من العالمين. اهـ قوله: (والجملة استئناف). قال الطَّيبي: أي ابتداء، وهو الاستئناف اللغوي لا الاصطلاحي. اهـ قوله: (و (شهوة) مفعول له، أو مصدر فى موضع الحال بمعنى: مشتهين). قال الطيبي: الفرق بينهما أنه إذا قدر حالاً كان المطلوب مجرد الذم من متابعة الشهوة والجري على الطبيعة، وإذا قدر مفعولاً له يعود معناه إلى تقبيح توخى قلب الحكمة لأن الحكمة في موضعها أن تكون ذريعة إلى بقاء النوع وتكثير النسل، أو وسيلة إلى التعفف والتخلي للعبادة، فإذا جعل الغرض الأصلى هو الشهوة كان أسمج وأقبح من طلب مجرد الشهوة. اهـ قوله: (سدوم). قال الشيخ سعد الدين: بفتح السين قرية قوم لوط، والذال المعجمة رواية الأزهري دون غيره. اهـ قوله: (وكان يقال له خطيب الأنبياء). أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً يقول: ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه. قوله: (وإرهاصاً). قال الطَّيبي: هو أن يظهر الله تعالى على يد من سيصير نبياً خوارق العادات. اهـ قوله: (أو أصلحوا فيها ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: بيان لكون المعنى على الظرفية وإلا فالتحقيق أنه من إضافة

قوله: (لكن غلبوا الجماعة. . .) إلى آخره.

المصدر إلى الفاعل، حيث جعل الأرض مصلحة على الإسناد المجازي، كما جعل الليل والنهار ماكرين. اهـ قوله: (بكل طريق من طرق الدين). قال الطَّيبي: يعني القعود على الصراط تمثيل، مَثَّلَ إغوائهم الناس عن دين الحق بكل ما يمكن من الحيل بمن يريد أن يقطع الطريق على السابلة فيكمن لهم من حيث لا يدرون. اهـ وقال أبو حيان: حمل القعود والصراط على المجاز، والظاهر أنه حقيقة وأنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب. اهـ قوله: (وقيل كانوا يجلسون على المراصد ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يكون تمثيلاً، ولا يكون (تَصُدُّونَ) حالاً ولا (عَن سَبِيلِ اللهِ) من وضع الظاهر موضع المضمر كما في الوجه السابق، و (تُوعِدُون) استئناف لبيان المقتضى، كأنه لما قال لهم: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ). قالوا: لم ذلك؟ فأجيب: لأنكم توعدون وتصدون عن سبيل الله وعن دين الله. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: على هذا الوجه هل يكون (تُوعِدُون) وما عطف عليه حالاً؟ فقيل: لا بل استئنافاً، والأظهر الحال. اهـ قوله: (لكن غلبوا الجماعة ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: وقد يستعمل عاد من أخوات كان بمعنى صار فلا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة بل عكس ذلك وهو الانتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كأنهم قالوا: أو لتصيرن كفاراً في ملتنا. اهـ قوله: (وعلى ذلك أُجْريَ الجواب).

قوله: (ويسرناه لهم من كل جانب).

قال الطيبي: أي أجابهم كما أوردوا عليه كلامهم من التغليب ليتطابقا، ويجوز أن يكون على المشاكلة. اهـ قوله: (واستأنف الجملتين). قال الشيخ سعد الدين: يعني ابتداء (الَّذِينَ كَذَّبُوا شعَيبًا) من غير عطف. اهـ وقال الطَّيبي: إنه تعالى لما رتب العذاب بأخذ الرجفة على التكذيب والعناد وتركهم هامدين لا حراك بهم أتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثو؟ فقيل: الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، أي: استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا في ديارهم. ثم سأل: أختص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين، أي: اختص الدمار بهم، فجعلت صلة الأول ذريعة إلى تحقيق الخبر، كقول الشاعر: إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول ولذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم بقوله (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) فارق تقوى الحكم على التخصيص، وجعلت صلة الثانية علة لوجود الخبر نحو قولك: الذين آمنوا لهم جنات النعيم والذين كفروا لهم دركات الجحيم. اهـ قوله: (ثم أنكر على نفسه). قال الطَّيبي: أي جرد من نفسه شخصاً وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه كما فعل امرئ القيس في قوله: تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد. اهـ قوله: (ويسرناه لهم من كل جانب). قال الشيخ سعد الدين: يعني أن ذكر السماء والأرض لتعميم الجهات لا لتبين ما منه البركات كما هو رأي من فسرها بالمطر والنبات. اهـ قوله: ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) عطف على قوله (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً)). في حاشية الطَّيبي: قال صاحب الفرائد: ما ذكر يشكل بما قيل إن لهمزة الاستفهام صدر

قوله: (بياتا. . .)

الكلام فلم يجز عطف ما بعدها على ما قبلها، وإنما الواجب أن يقدر المعطوف عليه بعد الهمزة وقبل الواو. وقال صاحب الإيجاز: إنما تدخل ألف الاستفهام على فاء العطف مع منافاة العطف للاستئناف لأن المتنافي في المفرد إذ الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام الأول والاستئناف يخرجه عن أن يكون منه ويصح ذلك في عطف جملة على جملة لأنه على استئناف جملة على جملة. وقال الطَّيبي: الحق أن هذه الهمزة مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، فتدخل بين الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر والحال وعاملها، وقد نص عليه الزجاج في قوله تعالى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ). اهـ وقال الشيخ سعد الدين: اختلفت كلمتهم في الواو والفاء وثم الواقعة بعد همزة الاستفهام، فقيل: عطفت على مذكور قبلها لا مقدر بعدها بدليل أنه لا يقع ذلك قط في أول الكلام وقيل بل بالعكس لأن الاستفهام له صدر الكلام، وصاحب الكشاف يحملها في بعض المواضع على هذا وفي بعضها على ذلك بحسب مقتضى المقام وسياق الكلام، ولم يلزم بطلان صدارة الهمزة إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه وتعلق معناها بمضمونه، غاية الأمر أنَّها توسطت بين الكلامين المتعاطفين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو وقوعه بعده متراخياً أو غير متراخ، ولا ينبغي أن يخفى على المحصل أن هذا مراد من قال إن الهمزة مقحمة مزيدة للإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد إعتبار عطفه، ولم يرد أنَّها مزيدة بمنزلة حروف الصلة غير مذكورة لإفادة معناها. فإن قيل: هلا جعل المعطوف عليه (فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فإنه أقرب؟ قلنا: لأن مساق (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى) إلى (يَكْسِبُونَ) مساق التكرير والتأكيد بخلاف ما قبله فإنه لبيان حال القرى وقصة هلاكها قُصدا، فالعطف عليه أنسب وإن كان هذا أقرب. اهـ قوله: (بَيَاتًا ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (بَيَاتًا) إذا جعل بمعنى البتوت فنصب على المصدر من

(يَأْتِيَهُمْ) لكونه نوعاً فيه، أو على الحال من ضمير (يَأْتِيَهُمْ) لكونه بمعنى اسم المفعول أو من (بَأسُنَا) لكونه بمعنى اسم الفاعل. اهـ قوله: (تقرير لقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى)). قال الطَّيبي: فحينئذ مكر الله تعالى عبارة عما ذكره الله تعالى في دوله (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ... ) الآيتين، والفاء في (فَلا يَأْمَنُ) للعطف على مقدر، والهمزة في قوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) للتقريع والتوبيخ يعني: من بعدما عرفوا ذلك أمنوا واطمأنوا فإذن خسروا لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. اهـ قوله: (وإنما عدى (يهد) باللام لأنه بمعنى: يبين). قال الطَّيبي: وذلك أنه يتعدى إلى المفعول الثاني باللام أو بـ (إلى)، وهنا عدى إلى الأول باللام. اهـ قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن اعتبار التضمين إنما هو على قراءة النون حيث ذكر المفعول الثاني، وأما على قراءة الياء فهو من قبيل التنزيل منزلة اللازم ولا حاجة إلى تقدير المفعول، أي: ألم يبين لهم هذا البيان الطريق المستقيم. اهـ قوله: ((ونطبع على قلوبهم) عطف على ما دل عليه (أولم يهد) أي: يغفلون عن الهداية). قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف، لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صح أن يكون على الاستئناف من باب عطف الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام، وهو الوجه الثاني من كلام المصنف. اهـ قوله: (أو منقطع عنه بمعنى: ونحن نطبع). هذا ما رجحه أبو حيان. وقال الطَّيبي: المختار أن تكون الجملة منقطعة واردة على الاعتراض والتذييل: أي: ونحن نطبع على قلوبهم، أي: من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلوب من لم نرد منه الإيمان حتى لا يعتبر بأحوال الأمم السالفة ولا يلتفت إلى الدلائل الدالة كما شوهد من هؤلاء حيث آمنوا واطمأنوا. اهـ

وقال الشيخ سعد الدين: معنى الانقطاع في هذا الوجه أنه استئناف واعتراض ولا يعتبر في مثله معطوف عليه معين بخلاف الأول. اهـ قوله: (ولا يجوز عطفه على (أصبناهم) على أنه بمعنى: وطبعنا لأنه في سياقه جواب (لو) لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم). قال الطَّيبي: أي لأنه لو عطف ما في خبره (أو) لدخل في حكمه، وهي لامتناع الشىء لامتناع غيره، فيلزم أن القوم لم يكونوا مطبوعاً على قلوبهم، والحال أنهم مطبوعون. وقال في الانتصاف: يجوز عطفه عليه ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولو كانوا كفاراً إذ ليس الطبع من لوازم الكفر والاقتراف، إذ الطبع هو التمادي في الكفر والإصرار حتى ييأس من قبول صاحبه للحق، وليس كل كافر ولا مقترف بهذه المثابة بل يهدد الكافر بأن يطبع على قلبه، فتكون الآية قد هددتهم بأمرين: الإصابة ببعض الذنوب، والطبع على القلوب، وهذا الثاني وإن كان نوعاً من الإصابة بالذنوب فهو أشد كما قال تعالى (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). وقال صاحب التقريب: في كلام الزمخشري نظر، لأنَّ المذكور من كونهم مذنبين دون الطبع، وأيضاً جاز أن يراد: لو شئنا لزدنا في الطبع على قلوبهم أو لأدمنا. وقال الطَّيبي: هذا مردود، لأن الكلام وارد على التوبيخ والتهديد بالإهلاك والاستئصال لقوم ورثوا ديار قوم هلكوا بالاستئصال وهؤلاء استخلفوهم واقتفوا آثارهم بمثل تلك الذنوب وهم أهل مكة لأن قوله (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) إما مظهر وضع موضع المضمر، أو عام فيدخلون فيه دخولاً أولياً، ولا شك أنَّ الطبع وازديادهم ليس من الإهلاك في شيء حتى يهددوا به. اهـ قال الشيخ سعد الدين: استدل في الكشاف على نفي كونه عطفاً على جواب (لو) بأنه يستلزم انتفاء كونهم مطبوعاً على قلوبهم لما تعطيه كلمة (لو) من انتفاء جملتها، واللازم باطل لقوله تعالى (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي مصرون على عدم القبول وكقوله تعالى (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) على ما يعم أهل القرى من الوارثين والموروثين وقوله (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) لدلالته على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منهم ألبتة، وبهذا يندفع الاعتراض بأن غاية الأمر كونهم كفاراً مذنبين ولا يلزم

كونهم مطبوعاً على قلوبهم لأن معناه التمادي والإصرار على الكفر بحيث لا يرجى زواله، وأما الدفع بأنَّ الكافر مخذول غير موفق ولا معنى للطبع سوى هذا، غاية الأمر أنه قد يكون دائماً وقد يكون زائلاً كما في الكافر الذي وفق للإيمان ففي غاية الفساد. اهـ وقال أبو حيان: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون معطوفاً على (أصبنا) إذا كان بمعنى نصيب، فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما قال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) أي: إن يشاء، يدل عليه قوله تعالى (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا). قال أبو حيان: فجعل لو شرطية بمعنى (إن) ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره، ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب، وهذا الذي قاله ابن الأنباري رده الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون (وَنطبَع) بمعنى: وطبعنا، فيكون قد عطف المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابن الأنباري جعل التأويل في (أصبنا) الذي هو جواب (لوْ نشَآءُ) فجعله بمعنى نصيب، فتأول المعطوف عليه وهو الجواب ورده إلى المستقبل، والزمخشري تأول المعطوف ورده إلى المضي، وأنتج رد الزمخشري أن كلا التقديرين لا يصح. قال: وما رد به الزمخشري ظاهر الصحة، وملخصه: أن المعطوف على الجواب جواب سواء تأولنا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب (لو) لم يقع بعدُ سواءً كانت حرفاً لما كان يقع لوقوع غيره أم بمعنى (إن) الشرطية، والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا يصح أن يعطف على الجواب فلو تأول (وَنَطْبَعُ) على معنى: ونستمر على الطبع على قلوبهم، أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع. اهـ قوله: (حال إن جعلنا (القرى) خبراً، وتكون إفادته بالتقييد بها). في حاشية الطَّيبي: قال صاحب التقريب: فيه نظر، لأنه جعل شرط كون (تِلْكَ الْقُرَى) كلاماً مقيداً تقييده بالحال، وإذا جعل (نقُصُّ) خبراً ثانياً انتفى ذلك الشرط إلا أن يريد: تلك القرى المعلومة حالها وصفتها، على أن اللام للعهد، لكنه حينئذ يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال. وقال الطَّيبي: هذا وهم، لأن ذلك على الوجه الأول، لأن المشهور أن الحال فضلة في فائدة الجملة، بخلافه إذا كان خبراً بعد الخبر، لأن القرى حينئذ بمنزلة حلو في قولك: هذا حلو حامض، فلا يكون كلاماً تاماً.

قال الزجاج: الحال هنا من لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: هذا زيدٌ قائماً فإن قصدت أن تخبر من لم يعرف زيداً أنه زيد لم يجز أن يقول: هذا زيدٌ قائماً، لأنه يكون زيد ما دام قائماً فإذا زال عن القيام فليس بزيد، وإنما يقول ذلك للذي يعرف زيداً فيعمل في الحال التنبيه أي: أنبه لزيد في حال قيامه، أو أشير إلى زيد في حال قيامه لأن هذا إشارة إلى ما حضر يريد بقوله أحضر تقييد المشار إليه بالحال وإلا فلا فائدة في الجملة لأن السامع يعرفها، وكذا في الآية المعنى: نخبرك عن القرى التي عرفتها في حال أنَّا قاصُّون بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وإذا كان المقصود من الإيراد هذا فلا بد من ذكر الحال. فبطل قوله: لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال. اهـ وقال الشيخ سعد الدين في تقرير ما قاله المصنف: لا خفاء أنَّ الكلام فيما إذا أريد الجنس لا تلك القرى المعلومة حالها وقصتها، أو تلك القرى الكاملة في شأنها مثل (ذَلِكَ الكتابُ) فإن الكتاب بمنزلة الموصوف، واعترض بأن الحال راجع إلى تقييد المبتدأ لأن العامل فيه ما في اسم الإشارة من معنى الفعل، ولو سلم فالسؤال إنما يندفع على تقدير كون (نقُص) حالاً لا خبراً بعد خبر، والقول بأن حصول الفائدة بانضمام الخبر الثاني الذي هو بمنزلة الجزء على طريقة هذا حلو حامض أي مر فالسؤال إنما هو على تقدير الحالية لأن الحال فضلة ربما يتوهم عدم حصول الفائدة بها ليس بشيء لظهور أن ليس هذا من قبيل حلو حامض بمعنى مر، بل كل من الخبرين مستقل. اهـ قوله: (والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان). قال الطَّيبي: هو تفسير لقوله: لتأكيد النفي، يعني جاء باللام تأكيد لهذا المعنى الذي يعطيه التركيب. اهـ قوله: (والآية اعتراض). قال الشيخ سعد الدين: إن كان الضمير للناس، وإن كان للأمم المذكورين من تتمة الكلام السابق. اهـ وقال الحلبي: فيه نظر، لأنه إذا كان الأول خاصاً ثم ذكر شيء مندرج فيه ما بعده وما

قوله: (فقلب لأمن الإلباس).

قبله كيف يجعل ذلك العام معترضاً بين الخاصين. اهـ قوله: (أو لأكثر الأمم المذكورين). قال الطَّيبي: فعلى هذا تكون الجملة تتميماً لا اعتراضاً. قال: وعلى الوجهين قوله (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) من باب الطرد والعكس إن فسرنا الفاسقين بالناكثين. اهـ قوله: (ذا الحفاظ). قال الجوهري: يقال أنه لذو حفاظ: إن كانت له أنفة. اهـ قوله: (الضمير للرسل فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) أو للأمم). قال الطيبي: الأول أوفق لأن تلك القصص ذكرت تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أصالةً (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) واعتبار الأمة تبع، ويقويه أنه قيل (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ) ولم يقل: ثم أنشأنا من بعدهم أمة فرعون وبعثنا إليهم موسى. اهـ قوله: (فقلب لأمن الإلباس). قال أبو حيان: أصحابنا يخصون القلب بالضرورة، فينبغي أن ينزه القرآن عنه. اهـ وقال الحلبي: الناس فيه ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع، والتفصيل بين أن يفيد معنى بديعاً فيجوز، أو لا فيمتنع. اهـ قوله: (كقوله: وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر). هو لخداش ابن زهير، وأوله: وتلحق خيل لا هوادة بينها وقبلها: كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا ... قوادم قرب لا تلين ولا تمرى. يقال: أمرت الناقة إذا در لبنها، والهوادة: الصلح، والميل، والتهويد: المشي

قوله: (أو للإغراق في الوصف بالصدق. . .)

الرويد مثل الدبيب، والضيطر: الرجل الضخم الذي لا غناء عنده، والحمر: العجم، لأن الشقرة غلبت عليهم، والأصل: ويشقى الضياطرة بالرماح. قوله: (أو لأن ما لزمك فقد لزمته). قال صاحب التقريب: حقيق في هذا الوجه بمعنى اللازم. وقال الطَّيبي: بل هو إيماء إلى أن الأسلوب من الكناية الإيمائية كقوله: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير يعني: بلغت اللازمة بين الجود والممدوح بحيث وجب وحق على الجود أن لا يفارق ساحته فيسير حيث سار، وهو المراد بقول الكشاف: فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق. اهـ قوله: (أو للإغراق في الوصف بالصدق ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني كيف ينسحب إلي الكذب ولو كان الصدق مما يعقل لكان الواجب عليه أن يجعلني قائله، أي: يجتهد لتحصيل ما يوجب أن أكون أنا قائله، فيكون من الاستعارة المكنية. اهـ وقال أبو حيان: لا يتضح هذا الوجه إلا إن عنى أن يكون (عَلَى أَنْ لا أَقُولَ) صفة له، كما تقول: أنا عليَّ قول الحق، أي: طريقي وعادتي قول الحق. اهـ وقال السفاقسي: هو على المبالغة في اتصاف موسى بالصدق بحيث يجب على الحق أن لا يقوم به إلا هو. اهـ قوله: (أو ضمن (حقيق) معنى حريص). قال ابن المنير: هذا يلائم بين القراءتين. اهـ

قوله: (وأرهبوهم).

قال أبو شامة بعد ذكره هذه الأوجه الأربعة: هذه وجوه متعسفة، والأوجه (عَلَى) متعلقة بـ (رَسُول). قال ابن مقسم: حقيق من نعت الرسول، أي: رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق (عَلَى) بـ (رَسُول)، ولم يخطر لهم تعليقه إلا بـ (حَقِيق). قال أبو حيان: وكلامه فيه تناقض في الظاهر، لأنه قدر أولاً العامل في (عَلَى) أرسلت، وقال أخيراً: إنهم غفلوا عن تعليق على بـ (رَسُول)، فأما هذا الأخير فلا يجوز عند البصريين لأن رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز، وأما تعليقه بأرسلت مُقَدَّراً لدلالة لفظ رسول عليه فهو تقدير سائغ ويتأول كلامه أنه أراد بقوله تعليق (عَلَى) بـ (رَسُول) أنه لما كان دالاً عليه صح نسبة التعليق إليه. اهـ قوله: (فاغراً). أي: فاتحاً. قوله: (وتعريف الخبر وتوسط الفصل). قال الطَّيبي: فإن قلت ما الفرق بين أن يكون الضمير مؤكداً وبين أن يكون فصلاً؟ قلت: التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي: نحن نفعل الإلقاء ألبتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لأنه لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد. اهـ قوله: (وتأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل). قلت: في جمع المصنف بين العبارتين نظر فإنه ليس في الآية إلا لفظ (نحن) فإما أن يكون من باب ضمير الفصل، وإما أن يكون من باب تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الاعراب، وعلى الثاني كالمؤكد. قوله: (وأرهبوهم).

قوله: (فثبت الحق).

إشارة إلى أن استفعل في (اسْتَرْهَبُوهُمْ) كما قال أبو حيان بمعنى أفعل، لا للاستدعاء والطلب كما قال الزمخشري، لعدم ظهوره هنا، إذ لا يلزم منه حصول المستدعي والمطلوب. قوله: (وهي مع الفعل). أي المصدر. قوله: (بمعنى المفعول) أي المأفوك. قوله: (فثبت الحق). قال الطَّيبي: استعير للثبوت الوقع لأنه في مقابل (وَبَطَل) والباطل زائل، وفائدتها شدة الرسوخ والتأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام. اهـ قوله: (أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته). قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه تمثيل شبه حالهم في سرعة الخرور وشدته بحال من أُلقي. اهـ قوله: (وقرأ حفص (آمنتم) على الإخبار). قال الكشاف: توبيخاً لهم. اهـ قال الشيخ سعد الدين: يعني أن هذا الإخبار الصوري لقصد التوبيخ على ما يقتضيه المقام، فإنَّ إلقاء الجملة الخبرية قد يكون لأغراض آخر سوى إفادة الحكم أو لازمه. اهـ وقال الطَّيبي: في هذا الخبر معنى التوبيخ كما في الاستفهام ونحوه، لأن الجملة إذا ألقيت إلى من هو عالم بها تؤكد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام. اهـ قوله: (أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء). قال الطَّيبي: فهي استعارة تبعية في (أَفْرِغْ)؛ والقرينة (صَبْرًا)؛ لأن الصبر لا يستعمل فيه الإفراغ. اهـ قوله: (أو صب علينا ماءً يطهرنا من الآثام وهو الصبر).

قوله: (ثم اشتق منها فقيل: أسنت القوم، إذا قحطوا).

قال الطَّيبي: فعلى هذا الاستعارة مكنية مستلزمة للتخييلية، لأن الإفراغ إنما يستعمل في الماء والصبر المكنية. اهـ قال الشيخ سعد الدين: وقد فهم البعض وحاشاه من سوء الفهم من قوله: كما يفرغ الماء أن الأول أيضاً كذلك إلا أن الجامع ثمة الغمر وهنا التطهير. اهـ قوله: (كقول الحطيئة: ألم أك جاركم وتكون بينى ... وبينكم المودة والإخاء). أول القصيدة: ألا قالت أمامة هل تعزى ... فقلت أمام هل غلب العزاء وقبل هذا البيت: ألا أبلغ بني عوف بن كعب ... فهل قوم على خلق سواء ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والرجاء قوله: (أو اسئئناف أو حال). قال الطيبي: بإضمار، أي: وهو يذرك، أما الاستئناف فعلى أن تكون الجملة معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق، وأما الحال فمقررة لجهة الإشكال. اهـ قوله: (وقرئ بالسكون، كأنه قيل ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه من قبيل العطف على التوهم فإن جواب الاستفهام كثيراً ما يكون بالجزم وترك الفاء فكان هنا كذلك فعطف عليه (يذرْك) بالجزم كما جعل (فَأَصَّدَّقَ) بالنصب في جواب التخصيص منزلاً منزلة أصدق بالجزم فعطف عليه (وَأَكُنْ). اهـ وقال ابن جني: بل هو كقراءة أبي عمرو (يأمرْكم) بسكون الراء استثقالاً للضمة عند توالي الحركات. اهـ قوله: (ثم اشتق منها فقيل: أسنت القوم، إذا قحطوا). قال في الصحاح: السنة إذا قلته بالهاء وجعلت نقصانه بالواو فهو من الناقص يقال: أسنى الناس يسنون إذا لبثوا في موضع سنة، وأسنتوا: إذا أصابتهم الجدوبة بقلب الواو

قوله: (أي سبب خيرهم وشرهم ... )

تاءً للفرق بينهما فقال المازني: هذا شاذ لا يقاس. اهـ وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذا وجدوها ثالثة فقلبوها تاء. اهـ قوله: (أي سبب خيرهم وشرهم ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: اعلم أن لفظ الطائر يطلق على الحظ والنصيب سواءً كان خيراً أو شراً، وهو المراد بقوله: أي سبب خيرهم وشرهم، وعلى التشاؤم وحده وهو الوجه الثاني. اهـ قوله: (أصلها (ما) الشرطية ضمت إليها (ما) المزيدة للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء). قال أبو حيان في شرح التسهيل: اختلف النحويون في (مهما) من حيث البساطة والتركيب، فذهب الخليل إلى أنها مركبة من (ما) التي هي جزاء و (ما) التي تزاد بعد الجزاء نحو: أيًّا ما، فكان الأصل ما ما فاستقبحوا التكرير فقلبوا الألف الأولى هاء، ونظير ذلك قولهم: جأجأت جأجيت، ودهدهت الحجر ودهديت قلبوا الألف والهاء الأخيرة ياء كراهية اجتماع الأمثال، وذهب الأخفش والزجاج والبغداديون إلى أنها مركبة من (مه) بمعنى: اكفف، و (ما) الشرطية، وذهب بعض النحويين إلى أنَّ مهما اسم بسيط ليس مركباً من شيء، ووزنه فعلى والألف فيه للإلحاق وللتأنيث. قال أبو حيان: والذي نختاره أنَّها ليست مركبة وأنها موضوعة كلمة مفردة بسيطة لأن دعوى التركيب لم يقم عليه دليل، ولأن من يدعي أن أصلها ما ما يضعف لأنه أصل لم ينطق به في موضع من المواضع. اهـ وقال ابن هشام في المغني: (مهما) بسيطة، لا مركبة من (مه) و (ما) الشرطية، ولا من (ما) الشرطية و (ما) الزائدة، ثم أبدلت الهاء من الألف الأولى دفعاً للتكرار، خلافاً لزاعمي ذلك. اهـ قوله: (والضمير فى (به) و (بها) لـ (مهما) ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ، وأنثه باعتبار المعنى). قال الطَّيبي: قالوا اللطيفة فيه هى أن الضمير الأول لما عاد إلى (مَهْمَا) ولفظه مذكر ذُكر، والضمير الثاني إنما رجع إليه بعد ما بين بقوله (مِنْ آيَةٍ) فأنث بهذا الاعتبار. اهـ

قوله: (بعهده عندك وهو النبوة).

وقال ابن هشام في المغني: الأولى أن يعود ضمير (بِهَا) لـ (ءَايَة). اهـ قوله: (بعهده عندك وهو النبوة). قال الشيخ سعد الدين: قيل سميت النبوة عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبي، وهو عهد أن يستقل بأعبائها، أو لأن فيها كلفةً واختصَاصاً كما بين المتعاهدين، أو لأن لها حقوقاً تحفظ كما يحفظ العهد، أو أنَّها بمنزلة عهد ومنشور يكتب للولاة. اهـ قوله: (فاجؤوا النكث). قال الشيخ سعد الدين: محافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة (لما) من الفعلين يجب أن يكون ماضياً لفظاً أو معنى؛ لإنَّ مقتضى ما ذكروا من (إذا) الفجائية في موضع موقع المفعول به للفعل المتضمن فيما أتاه أن يكون التقدير: فاجأوا زمان النكث؛ أو مكانه وحقيقته، على ما نقل صاحب الكشاف أنه شبه وجود هذا بوجود ذاك، فكأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان. اهـ وقال أبو حيان: لا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير، لأن ما دخلت عليه (لما) ترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل الابتداء أو الاستمرار حتى تتحقق الغاية، ولذلك لا تصح الغاية في الفعل غير المتطاول لا يقال: لما قتلت زيداً إلى يوم الجمعة جرى كذا وكذا، وجعل بعضهم (إِلَى أَجَلٍ) من تمام الرجز أي الرجز كائناً إلى أجل، والمعنى أن العذاب كان مؤجلاً، ويقوي هذا التأويل كون جواب (لما) بـ إذا الفجائية، أي: فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم إلى أجل فاجأوا بالنكث، وعلى معنى تغيية الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتي المفاجأة إلا على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة. اهـ وقال الحلبي بعد نقله كلام أبي حيان: وهو حسن، وقد يجاب عنه بأن المراد بالأجل هنا وقت إيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المراد بالكشف: استمرار رفع الرجز، كأنه قيل: فلما تمادى كشفنا عنهم إلى أجل، وأما من فسر الأجل بالموت أو بالغرق فيحتاج إلى حذف مضاف تقديره: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى قُرْب أجلٍ هم بالغوه، وإنما احتاج إلى ذلك لأن بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكث فكيفَ يتصور أن يكون

قوله: (فأردنا الانتقام).

النكث منهم بعد موتهم أو غرقهم. اهـ وقال السفاقسي: لا نسلم إن ما دخلت عليه (لما) يترتب جوابه على ابتداء وقوعه، بل قد يترتب على ابتدائه وقد يترتب على انتهائه، فلا يمتنع أن يقال: لما قرأ زيد من يوم السبت إلى يوم الخميس قرأ عمرو، والكشف يمتد باستمراره فلا يشبه ما ذكره من المثال. اهـ قوله: (فأردنا الانتقام). قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: إنما قدر أردنا لأن ما تعقبه الإغراق هم إرادة الانتقام لا هو بعينه فإن الإغراق عين الانتقام، ومنهم من يجعل الفاء لمجرد التفسير كقوله تعالى (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). اهـ قوله: (وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لـ (إن)). قال أبو حيان: لا يتعين هذا، بل الأحسن في إعرابه أن يكون خبر (إِن) (مُتَبَّرٌ) وما بعده مرفوع به، وكذا (ما كَانوا) مرفوع بقوله (وَبَاطِلٌ) فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم (إِن) بمفرد لا جملة. اهـ قال الحلبي: وهو كما قال إلا أن الزمخشري رجح ما ذكره من جهة ما ذكر من المعنى، وإذا دار الأمر بين مرجح لفظي ومرجح معنوي فاعتبار المعنوي أولى. اهـ قال الشيخ سعد الدين: ما ذكر من تقديم الخبر مبني على أن (ما هُم فيهِ) مبتدأ و (مُتَبَّرٌ) خبر له وإن كان يحتمل احتمالاً مساوياً أو راجحاً أن يكون (ما هُمْ فيهِ) فاعل (مُتَبَّرٌ) لاعتماده على المسند إليه وذلك لاقتضاء المقام الحصر المستفاد من التقديم، أي: (مُتَبَّرٌ) لا ثابت وباطل لا حق، ولم يتعرض في تقديره لهذا الحصر لظهوره. اهـ قوله: (وهو فضلكم على العالمين). قال الشيخ سعد الدين: أي على جميع من سواكم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء

قوله: ((موعظة وتفصيلا لكل شيء)

والملائكة. اهـ قوله: ((مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار ولمجرور). قال الشيخ سعد الدين: لم يجعل (مَوْعِظَةً) مفعولاً له وإن كانت شرائط النصب حاصلة لأن الظاهر أنَّ (وَتَفْصِيلاً) عطف عليه، وظاهر أنه لا معنى لقولك: كتبنا له من كل شىء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفاً على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى. اهـ قوله: (أي: وكتبنا له كل شيء). قال الشيخ سعد الدين: ربما يشعر بأن (من) مزيدة لا تبعيضية ولم يجعلها ابتدائية حالاً من (مَوْعِظَةً)، و (مَوْعِظَةً) مفعولاً به لأنه ليس له كبير معنى. اهـ قوله: (من زمرذ). قال الشيخ سعد الدين: بالذال المعجمة وضم باقي الحروف، وعن الأزهري: فتح الراء. اهـ وقوله: (وسقفها بأصابعه). قال الطَّيبي: أي جعلها سقائف وهي الألواح، وقال في بعض النسخ: شقفها بالشين المعجمة. اهـ قوله: (عطف على (كتبنا) أو بدل من قوله (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ)). قال الطَّيبي: العطف على (كتَبْنَا) أجرى على سنن البلاغة لما يلزم في البدل من تباطل التركيب وفك النظم لأن قوله تعالى (وَكتَبْنَا لَهُ) مع ما عقب به من قوله (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) معطوف على قوله (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) مع ما عقب به وهو (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) على سبيل البيان والتفصيل، فلو جعل بدلاً لدخل بين المعطوف والمعطوف عليه أجنبي. اهـ قوله: (كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار والاقتصاص). قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل هو

قوله: (من بعد ذهابه إلى الميقات).

القصاص قطعاً. زاد الشيخ سعد الدين: والجواب أنه مثال للحسن والأحسن لا أنه مكتوب في التوراة بعينه. اهـ قوله: (كقولهم: الصيف أحر من الشتاء). قال الشيخ سعد الدين: أي هو في حره أبلغ من الشتاء في برده، فكذا هنا المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح. اهـ قوله: (لتعتبروا فلا تفسقوا). قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) تأكيد لأمر القوم بالأخذ بأحسن ما في التوراة، وبعث عليه في موضع الإرادة موضع الاعتبار إقامة للسبب مقام المسبب. اهـ قوله: (أي ولقائهم الدار الأخرة، أو ما وعد الله تعالى في الدار الآخرة). قال في الكشاف: هو على الأول من إضافة المصدر إلى المفعول به، وعلى الثاني من إضافته إلى الظرف. اهـ قال الشيخ سعد الدين: على تنزيله منزلة المفعول؛ كما ذكر في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). اهـ إتساعاً كما أفصح به أبو حيان، لأن الإضافة إلى الظرف لا على وجه الاتساع، ونصبه نصب المفعول به لا يجوز لأنه على تقدير (فِي)؛ والإضافة إنما تكون على تقدير اللام أو (من). قوله: (من بعد ذهابه إلى الميقات). قال الطَّيبي: فيكون (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) عطفاً على (وَوَاعَدنَا مُوسىَ) عطف قصة على قصة. اهـ قوله: ((ولما سقط في أيديهم) كناية). قال الشيخ سعد الدين: جعله كناية لا مجازاً لعدم المانع عن الحقيقة. اهـ

قوله: (الذي وعدنيه من الأربعين).

قوله: (بمعنى وقع العض فيها). قال الشيخ سعد الدين: جعل الفاعل ضمير العض دون الغم لأنه أقرب إلى المقصود، ولأن كونه كناية إنما هو حيث يكون سقوط الغم على وجه العض، ثم الأيدي على هذا حقيقة والكلام كناية. اهـ قوله: (و (ما) نكرة موصوفة تفسير المستكن في (بئس)). قال الشيخ سعد الدين: لأنه يلزم أن يكون فاعل (بئس) مضمراً مفسراً بالنكرة، أو مظهرًا معرفاً باللام أو بالإضافة. اهـ زاد الطَّيبي: ولا يجوز أن تكون (ما) هي المخصوص بالذم لأنه يبقى (بئس) بلا فاعل لأنه إنما يضمر فاعل (بئس) بشرط أن يعقبه المفسر. اهـ قوله: (الذي وعدنيه من الأربعين). قال الطَّيبي: هذا الميعاد غير ميعاد الله تعالى لموسى في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) لضرب ميعاد موسى قبل مضيه إلى الطور لقوله سبحانه (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وميعاد القوم عند مضيه لقوله (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ). اهـ قوله: (وفى هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث أنه جعل الغضب ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فهو استعارة مكنية مقارنة بالتخييلية، شبه الغضب بإنسان يغري موسى ويقول له: افعل كذا وكذا، ثم يقطع الإغراء ويترك كلامه، وجعلها صاحب المفتاح استعارة تبعية لأنه استعار لتفاوت الغضب عن اشتداده إلى السكون إمساك اللسان عن الكلام والظاهر الأول. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: مرجعه إلى كون الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق، والسكوت استعارة تصريحية عن ظفره وسكون هيجانه وغليانه لكن في غاية من اللطف والبراعة وغاية من الفصاحة والبلاغة. اهـ قوله: (ما كلفوا به من التكاليف الشاقة). قال الزجاج: الأغلال تمثيل. اهـ

قول: (و (إذ) ظرف - إلى قوله - أو بدل منه).

قوله: (من الحراك). أي: الحركة. قوله: (ويجوز أن يكون (به) متعلقاً بـ (اتبعوا)). قال الطَّيبي: فعلى الأول هو حال من الضمير في (أُنزِل) والمضاف مقدر، المعنى: اتبعوا النور الذي أُنزل مصحوباً معه نبوته يعني إن حكم ثبوت نبوته نزل من السماء، وهو مشفوع بهذا النور، وعلى الثاني يكون ظرفاً لـ (اتبَعُوا) فيكون كل واحد من النور والنبي مستقلاً بالاتباع، وقد أشير به إلى متابعة الكتاب والسنة. اهـ قوله: (أو مدح منصوب). قال في الكشاف: إنه الأحسن. قال الشيخ سعد الدين: أما لفظاً فلسلامته من الفصل بين الصفة والموصوف وإن كان جائزاً وبغير أجنبي، وأما معنى فلما له من نوع أصالة واستقلال. اهـ قوله: (وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله) في الكشاف: أنه بدل من الصلة أيضاً. قال الشيخ سعد الدين: والإبدال لا ينافي البيان، ولم يجعله عطف بيان لتغاير المدلولين، ولأنه ليس لمجرد الإيضاح والتفسير، وسوق كلامه يشعر بأن بدل اشتمال. اهـ وقال أبو حيان: إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه، والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى. اهـ قول: (و (إذ) ظرف -إلى قوله- أو بدل منه). قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأن (إذ) من الظروف التي لا تنصرف، ولا يدخل عليها حرف جر، وجعلها بدلاً يجوز دخول (عن) عليها لأن البدل على نية تكرار العامل. اهـ وأورد ذلك أيضاً على قوله بعد: أو بدل بعد بدل.

قوله: ((وإذ قالت) عطف على (إذ يعدون).

قوله: ((وإذ قالت) عطف على (إِذْ يَعْدُونَ)). قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على (إِذْ تَأْتِيهِمْ) وإن كان أقرب لفظاً لأنه إما بدل أو ظرف، فيلزم أن يدخل هؤلاء في حكم أهل العدوان، وليس كذلك. اهـ قوله: (أو عزم، لأن العازم على الشىء يؤذن نفسه بفعله ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني إنما عبر عن العزم بالإذن لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم على الفعل ويطلب من النفس الإذن بالفعل، فكنى عن العزم بالإذن، ولما كان العازم جازماً على الشيء مخاطباً كان معنى عزم: جزم وقضى، فصار كفعل القسم في التأكيد وأجيب بما يجاب به القسم. اهـ قوله: (وهم الذين بالمدينة). قال الطَّيبي: الظاهر خلافه لما يقتضيه النظم لقوله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بالفاء. اهـ قوله: (ومنهم ناس دون ذلك). قال الشيخ سعد الدين: قد شاع في الاستعمال وقوع المبتدأ والخبر ظرفين، واستمر النحاة على جعل الأول خبراً والثاني مبتدأً بتقدير موصوف دون العكس وإن كان أبعد من جهة المعنى، والتأخير بالخبر أحرى وكأنهم يرون المصير إلى الحذف في أوانه أولى. اهـ قوله: ((وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) حال من الضمير في (لَنا) أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه). لم يصرح في الكشاف بأن الحال من ماذا. وقال الطَّيبي: الحال من الضمير في (ويقُولُون)، والقول بمعنى الاعتقاد والظن، ولذلك قال: يرجون المغفرة مصرين. اهـ وقال الحلبي: إنما جعل الزمخشري الواو للحال للغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطه التوبة، وهو رأي المعتزلة، وأما أهل السنة فيجوزون المغفرة مع عدم التوبة. اهـ

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)

وقال السفاقسي: فيه اعتزال، ولا يرد عليه بأن جملة الشرط لا تكون حالاً لأن ذلك جائز. قال: والظاهر أن هذه الجملة مستأنفة. اهـ قوله: (ودرسوا ما فيه) عطف على (ألم يؤخذ) من حيث المعنى فإنه تقرير). قال الطَّيبي: أي عطف عليه وإن اختلفا خبراً وطلباً، لأن الاستفهام وارد على التقرير فهو بمنزلة الإخبار عن الثابت فصح العطف لعدم المنافاة. اهـ قوله: (على طريقة التمثيل). أي الاستعارة التمثيلية المركبة من عدة أمور متوهمة، وهذا تبع فيه الزمخشري، وقد قال ابن المنير: قد أجراه قوم على ظاهره وقالوا: لا تترك الحقيقة مع إمكانها. قلت: والأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك. قوله: (وقيل: لما خلق الله تعالى آدم أخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر). قلت: هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده، والبخاري في تأريخه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن مسلم بن يسار الجهني أنَّ عمر ابن الخطاب سئل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله اللهُ الجنةَ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اللهُ النارَ.

قال الإمام: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير الآية بالحديث لأنَّ قوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من قوله (مِنْ بَنِي آدَمَ)، فالمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، ولأنه لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بل كان يجب أن يقول: من ظهره وذريته. ثم أجاب بأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ولا على نفيه إلا أن الخبر قد دل فثبت إخراج الذرية من ظهر بني آدم بالقرآن وإخراج الذر من ظهر آدم بالحديث ولا منافاة بينهما فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الاختلاف. وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما حد المعتزلة في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضي ظاهر الحديث لكان قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) فيقال: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضاً أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرمناهما من بعد ولو أمددناهما أبداً لكانت كل شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول، فتبين أن الميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من المعقول وآتاهم من البصائر لأنَّها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب، ولهم في ذلك كلام كثير اكتفينا منه بهذا المقدار والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال. اهـ وقال الطَّيبي: الواجب على المفسر المحقق أن لا يفسر كلام الله المجيد برأيه إذا وجد من جانب السلف الصالح نقلاً معتمداً، فكيف بالنص القاطع من جانب حضرة الرسالة صلوات الله وسلامه على صاحبها؛ فإن الصحابي رضي الله تعالى عنه إنما سأله صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليه من معنى الآية أن الإشهاد هل هو حقيقة أم لا؟ والإخراج والمقاولة بقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أهما على التعارف أم على الاستعارة؟

فلما أجابه صلوات الله وسلامه عليه بما عرف منه ما أراده سكت لأنه كان بليغاً، ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة، وكذا فهم الفاروق رضوان الله تعالى عليه، وأما قولهم: لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال (مِن ظُهُورِهِم) بل يجب أن يقول من ظهره وذريته، فجوابه أنَّ المراد آدم وذريته لكن غلب إخراج الذراري من أصلاب أولاده نسلاً بعد نسل حينئذ على ذراري نفسه لأنَّ الكلام في الاحتجاج على الأولاد بشهادة قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، ونحوه لكن في إرادة الامتنان قوله تعالى (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) بقرينة قوله (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ويعضده ما رواه الواحدي عن الكسائي أنه قال: لم يذكر ظهر آدم وإنما أخرجوا جميعاً من ظهره لأنَّ الله تعالى قد أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء عن الآباء فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنَّهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره. وأما قولهم: إن كان هذا الإقرار عن الاضطرار إلى آخره فخلاصته أنه يلزم أن يكونوا محجوجين يوم القيامة، وجوابه: أنَّهم إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى رأينا كان كذا كُذِّبوا بأنكم ما وكلتم إلى أرآئكم بل أرسلنا رسلنا تتراً ليوقظوكم عن سنة الغفلة. قال محي السنة: فإن قيل: كيف تلزم الحجة واحداً لا يذكر ذلك الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله سبحانه الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق. وأما الجواب عن قولهم: فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرمناهما من بعد فهو أن يقال: إن هذا مشترك الإلزام لأنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر. فلهم أن يقولوا: فإذن حرمنا اللطف والتوفيق، فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة. ثم قال: ومن أبى هذا التقرير قرب أن يعدل إلى مذهب المعتزلة، والذي يقضي منه العجب أن التوربشتي كيف نقل كلامهم هذا وقرره ولم يرد عليهم مع رسوخ علمه وعلو مرتبته، إلى أن قال: والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات بأنها متروكة العمل لعلة كونها من

قوله: ((فانسلخ منها)

الآحاد لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم منح الإلهية. ثم ساق جملة من الأحاديث الواردة في وعيد من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فرده، ومن كلام الأئمة في وجوب قبول خبر الواحد، من ذلك ما روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها. وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة. وروي الدرامي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، وما قالوه برأيهم فألقه في الحش. اهـ قوله: ((فَانْسَلَخَ مِنْهَا) من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها). قال الطيبي: هذه للمبالغة لأن السلخ حقيقتة هو كشط الجلد من المسلوخ وإزالته عنه بالكلية. قال الإمام: يقال لكل من فارق الشيء بالكلية انسلخ. اهـ قوله: (وإلى السفلة). قال الطَّيبي: الرواية بفتح السين، وفي الصحاح: السفالة بضم السين نقيض العلم، وبالفتح النذالة. اهـ قوله: (والشرطية في موضع الحال). في حاشية الطَّيبي: قال صاحب الضوء: الشرطية لا تكاد تقع بتمامها موقع الحال، ولو أريد ذلك فجعلت خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو: جاءني زيد وهو إن يسأل يعط، فالحال إذن جملة اسمية، والسر فيه أن الشرطية لتصدرها بما يقتضي الصدرية لا تكاد ترتبط بما قبلها إلا أن يكون هناك فضل قوة، نعم إنما يجوز إذا خرجت عن حقيقة الشرط ثم هي لم تخل من أن عطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف، والأول حذف الواو فيه مستمر نحو: أتيتك إن تأتي أو لم تأتني لأن النقيضين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على

قوله: (لعلهم يتفكرون)

معنى الشرط بل يتحولان، ومعنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، وأما الثاني فلابد فيه من الواو نحو: أتيتك وإن لم تأتني، ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة. قال الطَّيبي: والآية من الأول، ولذا ترك الواو لأن المراد إن حمل عليه أو لم يحمل. اهـ قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ). قال الطَّيبي: من تفكر في هذا المثل المضروب في قصة بلعام تحقق له أن حال علماء السوء أسوأ، وأقبح من ذلك وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها ومن متابعة النفس الأمارة بالسوء وإرغامها في حرامها. وكتب شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي إلى الإمام فخر الدين الرازي: من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله عليه، ينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفى الله مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحراً من العلم، ونوازع الهوى المركون في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم خطتة من أوجه، وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته وهذه مرتبة الراسخين في العلم لأن المترسمين به وهم ورثة الأنبياء كثر عملهم على علمهم وكثر علمهم على عملهم وتناوب العلم والعمل بينهم حتى صفت أعمالهم ولطفت فصارت مسامرات مرئية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال

الله تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي تركت العقول الصغار المداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال؛ فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسوح في ميادين القدس، فالنزاهة النزاهة من محبة حطام الدنيا، والفرار الفرار من استجلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع ... إلى آخره. اهـ قوله: (أو منقطعاً). قال الطَّيبي: وهذا الكلام تذييل وتأكيد لمضمون الجملة. اهـ قوله: (أو ذرهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام ... ) إلى آخره. قال ابن المنير: هذا هو الصواب. اهـ قوله: (واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن كل قرن طائفة بهذه الصفة). فعلى هذا هذه الآية من الأدلة على أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى الساعة، لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع. قوله: (لقوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله). أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن أبي شعبة). قوله: (روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير عن قتادة بلفظ: يصوت، وهو معنى يهوت. قال الطيبي: والأصل فيه حكاية الصوت، وقيل: هو أن يقول ياه ياه؛ وهو نداء الداعي لصاحبه من بعد. اهـ قوله: (و (أن) مصدرية أو مخففة من الثقيلة). تبع في ذلك أبا البقاء، واقتصر في الكشاف على المخففة.

قوله: (مغافصة الموت)

وقال الشيخ سعد الدين: لأن المصدرية لا تدخل الأفعال الغير المنصرفة التي لا مصادر إليها. اهـ قوله: (مغافصة الموت). في الأساس: غافصه الأمر: فاجأه على غرة منه، ووقاك غوافص الدهر أي: حوادثه. اهـ قوله: (ورسو الشىء: ثباته). قال الطَّيبي: الرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة، وإطلاقه على الساعة تشبيهاً للمعاني بالأجسام. اهـ قوله: (وإشتقاق أيَّان من أي). قال الشيخ سعد الدين: الاشتقاق في غير المنصرفة مما يأباه الأكثرون، وكذا اشتقاق أي من أويت، وعبارة ابن جني في المحتسب: أيان بفتح الهمزة فَعلان، وبكسرها فعلان، والنون فيهما زائدة حملاً على الأكثر في زيادة النون في نحو ذلك، ولم يجعل فَِعَّالا من لفظ أين لما يمنع منه وهو كون أيان ظرف زمان وأين ظرف مكان، وأي من لفظ أَوَيْت ومعناه، أما اللفظ فلأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت وعييت، وأما المعنى فلأن البعض آوٍ إلى الكل ومتساند إليه، فأصلها على هذا أَوْىٌ ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وصارت أيا، كقولك: طويت الكتاب طياً وشويت اللحم شياً. اهـ قوله: (قال عليه الصلاة والسَّلام: إن الساعة تهيج بالناس ... ) الحديث. أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير من مرسل قتادة، وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه. قوله: (وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب). أي لئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى والأمر بخلافه، قاله الطَّيبي.

زاد الشيخ سعد الدين: لأن الذكَر هو الذي يميل في غالب الأمر إلى الأنثى ويجامعها، ولأنه خلق أولاً وخلقت هي إزالةً لاستيحاشه فكان نسبة المؤانسة إليه أولى. اهـ قوله: (وقيل لما حملت حواء أتاها إبليس -إلى قوله- وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء). قال الطَّيبي: هذا مكتسب من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة فقد أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن سمرة ابن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما ولدت حواء طاف بها إبليس -وكان لا يعيش لها ولد- فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره (1). قال محي السنة: وهو قول السلف مثل ابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة. قال: ولم يكن هذه إشراكاً في العبادة ولا أن الحارث ربهما فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد أنَّ الحارث كان سبباً لنجاة الولد وسلامة أمه، ويطلق اسم العبد على من لا يراد أنه مملوك كما إن اسم الرب يطلق على من لا يراد أنه معبود، فعلى هذا قوله تعالى (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ابتداء كلام وأريد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث كان الأولى بهما أن لا يفعلانه من الإشراك في الاسم. قال الطَّيبي: ويدفع هذا قوله (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا) فإنه في الأصنام قطعاً على القول أنه ابتداء كلام. اهـ قال غيره: يؤيد هذا التقرير أنَّ تقدير المضاف لا يصار إليه إلا عند الحاجة وكلمة (لما) تستقيم عليه لأن إشراك أولادهما لا يكون حين آتاهما صالحاً بل بعده بأزمنة متطاولة. قوله: (ويحتمل أن يكون الخطاب لآل قصي من قريش فلأنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له زوج من جنسه عربية قرشية). قال الشيخ سعد الدين: استبعد هذا الوجه بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصي كلهم وإنما هو مجتمع قريش، ولم تكن زوجه عربية قرشية بل هي بنت سيد مكة من خزاعة

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا الله مِنْ ضِلْعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاها آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ... فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ/ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ؟ فَخَافَتْ حَوَّاءُ، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمْ يَزَالا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ: إِنْ سَأَلْتِ الله أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِكِ تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أَيْ لَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شَرِيكًا أَيْ جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ له شريكاً، والمراد به الحرث هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَافِ: 191] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لله تَعَالَى، وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرٌ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَنْ لا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ بِصِيغَةِ «مَنْ» لا بِصِيغَةِ «مَا» الرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فَكَانَ لا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أن اسم إبليس هو الحرث فَمَعَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ؟ الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ الْخَيْرَ وَالصَّلاحَ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْقَدْرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا السَّادِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فَلا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ، أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أنه عبد الحرث وَمَخْلُوقٌ مِنْ قِبَلِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بالله لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلامِ وَالْأَلْقَابِ لا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلاً بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ اعْتَقَدَ أَنَّ لله شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ، وَذَلِكَ لا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَأْوِيلِ الآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ. التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ/ وَبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَةِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَظَهَرَ الْحَمْلُ، دَعَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلائِكَ وَنَعْمَائِكَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لله شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَنَزَّهَ الله عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا عَرَبِيَّةً قُرَشِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَعَبْدِ اللاّتِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمَا فِي الشِّرْكِ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ وَرَدَتْ فِي شَرْحِ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَيَرْجِعُ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إِلَيْهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَحَكَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صَالِحًا لاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ وَرَدَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْعِيدِ، وَالتَّقْرِيرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا أجعلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى الله عَنْ شِرْكِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالشِّرْكِ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُنْعِمَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ يُقَالُ لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ ذَمَّكَ وَإِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ: فَعَلْتُ فِي حَقِّ فُلانٍ كَذَا وأحسنت إليه بكذا وكذا وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ يُقَابِلُنِي بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا هاهنا. الْو

قوله: (شبه وسوسته ... )

وقريش إذ ذاك متفرقون. اهـ وقال صاحب الانتصاف: أقرب من هذا ومن الأول أن يراد جنسا الذكر والأنثى من غير قصد إلى معين معلوم، أي: خلقكم جنساً وجعل أزواجكم منكم لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس جنسه الآخر جرى من هذين الجنسين كذا وكذا، ويجوز إضافة الكلام إلى الجنس تقول: قتل بنو تميم فلاناً، وعلى التفسير الأول إضافة الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من بعضهم، وعلى الثاني أضافه إلى قصي وعقبه وأراد بعضهم، ويسلم هذا من حذف المضاف اللازم للأول ومن استبعاد إرادة قصي بهذا، فالظاهر من قوله (لِيَسْكُنَ إِلَيهَا) أن المراد الجنس. اهـ قال الطيبي: إن لزم من التفسيرين ما ذكر من المحذور لزم من تفسيره أيضاً إجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة، والتأويل ما نص عليه من أُوحي إليه التنزيل كما سبق بيانه. اهـ قوله: (شبه وسوسته ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تبعية تشبيهاً للإغراء على المعاصي بالنزغ. اهـ قوله: (فيكون الخبر جارياً على ما هو له). قال الطَّيبي: فعلى الأول التقدير: وإخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين الشياطين يمدونهم؛ الضمير المسند إليه الفعل ليس للمبتدأ بل لمتعلقه، وعلى الثاني التقدير: وإخوان الجاهلين الذين هم الشياطين يمدون الجاهلين. اهـ قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: [" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ] ... ) الحديث. (1) رواه الثعلبي عن أُبي وهو موضوع.

_ (1) في الأصل [إذا قرأ ابن آدم السجدة ... )] الحديث. رواه الثعلبي عن أُبي وهو موضوع. والحديث صحيح وهذا نصه في مسلم (" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ "). وكلام الإمام السيوطي -رحمه الله- على رواية " «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة»." وهو ما أثبتناه بفضل الله تعالى. ولم يتنبه محقق الكتاب لهذا الأمر. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

سورة الأنفال

سورة الأنفال قوله: (وإنما سميت الغيمة نفلاً لأنها عطية من الله وفضل). عبارة الإمام: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم. اهـ قوله: (وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر ... ) إلى آخره. أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن الصامت. قوله: (وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له بلاء ... ) الحديث. أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قوله: (كنا ردءاً). أي: عوناً. قوله: (سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص ... ) الحديث. أخرجه أحمد وابن أبي شيبة. وقال أبو عبيد: كذا فيه سعيد بن العاص، والمحفوظ عندنا العاص بن سعيد. قوله: (فى القبض). هو بالتحريك: ما قبض من الغنائم. قوله: (كما أخرجك ربك خبر مبتدأ -إلى قوله- أو صفة مصدر ... ) إلى آخره. قال ابن الشجري في أماليه: الوجه هو الأول، والثاني ضعيف لتباعد ما بينهما. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن الأوجه هو الرفع، لأن الناصب

بعيد والفاصل كثير، وجعل (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) داخلاً في حيز (قُل) ليس بحسن الانتظام. اهـ وقال أبو حيان: في الوجه الثاني بعد لكثرة الفصل بين المشبه والمشبه به، ولا يظهر كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة. قال: وخطر لي في المنام أن هنا محذوفاً وهو نصرك، والكاف فيها معنى التعليل أي: لأجل أن خرجت لإعزاز دين الله نصرك وأيدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله بعد (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ... ) الآيات. اهـ قوله: (وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام ... ) إلى آخره. هو في سيرة ابن هشام من قول ابن إسحاق، وروى ابن جرير بعضه عن ابن عباس وبعضه عن عروة ابن الزبير وبعضه عن السدي. قوله: (النجاء النجاء). قال الطيبي: هو منصوب بفعل مضمر، اللام فيهما للجنس، والنجاء ممدودة: الإسراع. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هو مصدر، أي: أسرعوا الإسراع، أو إغراء، أي: الزموا الإسراع. اهـ قوله: (على كل صعب وذلول). قال الطيبي: أي: أسرعوا وبادروا مجتمعين ولا تقفوا لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب. اهـ قوله: (عيركم وأموالكم). قال الشيخ سعد الدين: أي: الزموها وبادروها واحفظوها. اهـ

قوله: ((إذ تستغيثون ربكم)

وقال الطَّيبي: أموالكم بدل من عيركم. اهـ قوله: (حلق بها). قال الطَّيبي: التحليق بالشيء الرمي به إلى فوق. اهـ قوله: (فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو). قال الطَّيبي: هذا هو المراد من إيراد هذه القصة لأنَّها سبقت لبيان أن قوله تعالى (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) حال. اهـ قوله: (إلى عدن أبين). قال في النهاية: عدن أبين: مدينة معروفة باليمن أضيفت إلى أبين -بوزن أبيض- وهو رجل من حمير عدن بها، أي: أقام. اهـ وقال المرتضي اليماني: أبين اسم قصبة بينها وبين عدن مقدار ثمانية فراسخ يجلب منها إلى عدن الفواكه والخضروات. قوله: (لو استعرضت بنا هذا البحر). أي: طلبت أن نقطعه عرضاً في صحبتك. قوله: (أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير، فناداه العباس وهو فى وثاقه ... ) الحديث. أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بزيادة: قال: صدقت. قوله: (وما كان فيهم إلا فارسان). قال الطَّيبي: قيل: هما المقداد بن الأسود والزبير بن العوام. اهـ قوله: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو متعلق بقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَّ)). قال الطَّيبي: هذا أوجه من أن يكون بدلاً لأن زمان الوعد غير زمان الاستغاثة إلا على

تأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمان واسع كما تقول: كفتنة سنة كذا. اهـ قوله: (وعن عمر أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين ... ) الحديث. أخرجه مسلم والترمذي. قوله: (متبعين المؤمنين ... ) إلى آخره. قال أبو حيان: هذا تكثير في الكلام وملخصه أن اتبع مشدداً يتعدى إلى واحد، وأتبع مخففاً يتعدى إلى اثنين، وأردف أتى بمعناهما، والمفعول لاتبع محذوف، والمفعولان لأتبع محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى. اهـ قلت: فقول المصنف: ولا متبعين المؤمنين بالتشديد، وقوله ثانياً: أو متبعين بعضهم بعضاً بالتخفيف، وقوله: أو أنفسهم المؤمنين، أي: متبعين أنفسهم المؤمنين، أي: يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم. قوله: (أو متعلق بالنصر). قال أبو حيان: فيه ضعف من وجوه: أحدها: أنه مصدر فيه أل، وفي إعماله خلاف. الثاني: أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو (إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وذلك لا يجوز، لا يقال: ضرب زيد شديد عمراً. الثالث: أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى منه أو صفة له، و (إذ) ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة، وجوز ذلك الكسائي والأخفش. اهـ قوله: (أو بما في (عند الله) من معنى الفعل). قال أبو حيان: يضعفه المعنى، لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف، والنصر من عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره. اهـ وقال الحلبي: هذا لا يضعف به، لأن المراد هذا النصر نصر خاص، وهذا النصر الخاص

كان مقيداً بذلك الظرف. اهـ قوله: (أو بجعل). قال أبو حيان: هو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك الثلاثة. اهـ قوله: (وهو مفعول له باعتبار المعنى). أي لوجوب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً، ولا يتأتى ذلك إلا بهذا التقدير، أي: ينعسون لأمنكم. قوله: (ويجوز أن يراد بها الأمان). قال الشيخ سعد الدين: هذا بعيد في اللغة. اهـ قوله: (وأن تجعل على القراءة الأخيرة) أي: قراءة ابن كثير وأبي عمرو (يغشاكم النعاسُ) بالرفع. قوله: (فعل النعاس على المجاز). قال الطَّيبي: أي على أنه من الاستعارة المكنية شبه النعاس بشخص طالب للأمن ثم خيل أنه إنسان بعينه حيث أثبت له على سبيل الإستعارة التخييلية الأمنة التي هي من لوازم المشبه به وجعل نسبتها إليه قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وفيه إغراق في الوصف لأنه جعل النعاس الذي هو سبب للأمن بسبب غشيانه إياهم ملتمساً للأمن منهم. وقد صوب ابن المنير هذا الوجه. وقال العلم العراقي: فيه بعد، لأن مثل هذه الاستعارة البعيدة للنوم قد يستحسن في الشعر لبنائه على المبالغة وغلبة باطله على حقه، ولا يكاد يوجد مثلها في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقال الطَّيبي متعقباً عليه: إن منع استعمال المجاز في كتاب الله المجيد يمشى له هذا المنع وإلا فهو غير مستحسن لأن هذا الأسلوب في الدرجة القصوى من البلاغة، وكلام الله

قوله: ((ذلكم) الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات).

تعالى إنما كان معجزاً من حيث اللفظ والمعنى إذا استعمل فيه أمثال ذلك. اهـ قوله: (يهاب النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً ... تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ شَرُودُ). قال الطَّيبي: قيل إن هذا البيت للزمخشري، وتهابك: صفة لـ (عيوناً)، فهو: ضمير للنوم، ونفار: صيغة مبالغة من نفرت الدابة نفاراً، وشرود: من شرد البعير، والمعنى: يخاف النوم أن يدخل عيون أعدائك فهو لذلك نفار شرود. اهـ قوله: (روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر ... ) إلى آخره. أخرجه ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من حديث ابن عباس بمعناه، وليس فيه: فاحتلم أكثرهم. قوله: (كثيب أعفر). أي: رمل أبيض تعلوه حمرة. قوله: (تسوخ فيه الأقدام). أي: تدخل وتغيب. قوله: ((ذلكم) الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات). قال الطَّيبي: من الغيبة في (شَآقُّوا). اهـ وقال الشيخ سعد الدين: فيه إرشاد إلى أن الخطاب المعتبر في الالتفات أعم من أن يكون بالاسم على ما هو الشائع كما في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، أو بالحرف كما في (ذَلِكُم) بشرط أن يكون خطاباً لمن وقع الغائب عبارة عنه. اهـ قوله: (أو نصب بفعل دل عليه (فذوقوه)). أي: على الاشتغال. قال أبو حيان: لا يجوز ذلك لأن الاشتغال إنما يصح إن جوزنا صحة الابتداء فِي (ذَلِكم)، وما بعد الفاء لا يكون خبر المبتدأ إلا إن كان المبتدأ موصولاً أو نكرة موصوفة. اهـ قوله: (أو عليكم). قال أبو حيان: لا يجوز هذا التقدير لأن (عليكم) من أسماء الأفعال، وأسماء الأفعال

قوله: (وانتصاب (متحرفا) على الحال، وإلا لغو. . .)

لا تضمر. اهـ وقال الحلبي: قد يكون المصنف نحى نحو الكوفيين، فإنَّهُم يجرونه مجرى الفعل مطلقاً، وكذلك يعملونه متأخراً نحو (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ). اهـ قوله: (عطف على (ذلكم) أي: على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو عكسه. قوله: (ووضع الظاهر فيه موضع المضمر). أي: وضع (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) موضع: وأن لكم. قوله: (وقرئ (وإن) بالكسر على الاستئناف). قال الطَّيبي: فالجملة تذييل، واللام للجنس. اهـ قوله: (روى ابن عمر أنه كان في سرية ... ) الحديث. أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه بمعناه، وقال: العكَّار الذي نفر إلى إمامه لينصره لا يريد الفرار من الزحف. وفي النهاية: العكارون: الكرارون إلى الحرب، والعطافون نحوها، يقال للرجل يولي عن الحرب ثم يكر راجعاً إليها عكر واعتكر. اهـ قوله: (وانتصاب (مُتَحَرِّفًا) على الحال، وإلا لغو ... ). قال الطَّيبي: من حيث اللفظ، أي: زائدة، لأن العامل يعمل في الحال استقلالاً لكنها معطية في المعنى فائدتها، والكلام في سياق النفي، المعنى: (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) في حال من الأحوال إلا متحرفاً. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: إلا لغو في اللفظ مستوٍ وجودها وعدمها في حق إعراب ما بعدها بخلاف النصب على الاستثناء فإن إلا عامل أو مشارك للعامل أو واسطة في العمل. اهـ

وقال أبو حيان: لا يريد بقوله: إلا لغو أنها زائدة بل يريد أن العامل وهو (يُوَلِّهِمْ) وصل لما بعدها، كقولهم في نحو: جئت بلا زاد أنها لغو، وفي الحقيقة هي استثناء من حال محذوفة، والتقدير: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) ملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا، وإن لم يقدر حال عامة محذوفة لم يصح دخول (إلا) لأن الشرط عندهم واجب والواجب حكمه أن لا تدخل (إلا) فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه استثناء مفرغ والمفرغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك يؤول. اهـ قوله: (ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يحوز). زاد في الكشاف: كالمتدير. قال الشيخ سعد الدين: وذكر المرزوقي أن تدير تفعل نظراً إلى شيوع ديار بالياء. قال: وعلى هذا يجوز أن يكون تحيز تفعل نظراً إلى شيوع الحيز بالياء ولهذا لم يجئ يدور ولا يحوز. اهـ قوله: (روي أنه لما طلعت قريش ... ) الحديث. أخرجه ابن جرير عن عروة مرسلاً، وليس فيه أمر جبريل له بذلك. وروي ابن جرير وابن مردويه أمر جبريل له بذلك عن ابن عباس، ولم يقف عليه الطَّيبي فقال: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت يوم بدر إنما هي يوم حنين. واغتر به الشيخ سعد الدين فقال: المحدثون على أن الرمية لم تكن إلا يوم حنين. وليس كما قالا، والطَّيبي وإن كان له إلمام بالحديث لكنه لم ييلغ فيه درجة الحفاظ، ومنتهى نظره الكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ومسند الدارمي لا يُخَرِّج من غيرها،

قوله: (وأن الله موهن كيد الكافرين)

وكثيراً ما يورد صاحب الكشاف الحديث المعروف فلا يحسن تخريجه ويعدل إلى ذكر ما هو في معناه مما في هذه الكتب، وهو قصور في التخريج. قوله: (من العقنقل). قال في الصحاح: العقنقل: الكثيب العظيم المتداخل الرمل؛ والجمع: عقاقل، وربما سموا مصارين الضب عقنقلا. اهـ قوله: (شاهت الوجوه). أي: قبحت. قوله: (والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم). قال أبو حيان: ليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) وكان امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي: لستم مستبدين بالقتل لأن الإقدار عليه والخالق له إنما هو الله سبحانه. اهـ قال السفاقسى: وهذا أولى من دعوى الحذف. اهـ وقال ابن هشام: تبع بدر الدين ابن مالك الزمخشري على ذلك، ويرده أن الجواب المنفي بـ (لم) لا تدخل عليه الفاء. قوله: (وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات). أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري. قوله: (أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه). أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير. قوله: ((وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) معطوف عليه). قال الطَّيبي: أي عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون عطف جملة، أي: الأمر ذلكم

قوله: (شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم)

، والأمر أن الله موهن. وعليه كلام أبي البقاء. اهـ قوله: (شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم). قال الطَّيبي: الأول محمول على عرف اللغة، والثاني على العرف العام. اهـ قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي ... ) الحديث. أخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة. قوله: (لاَ تعْجَبَنَّ الجَهُولَ حِلَّته ... فَذَاكَ مَيتٌ وَثَوْبُهُ كَفَن). هو للزمخشري. قال الطَّيبي: هو مأخوذ من قول المتنبي: لا يعجبن مضيما حسن بزتة ... وهل يذوق دفيناً جودة الكفن. قوله: (كإقرار المنكر). قال الطَّيبي: أي تمكين الفعل المنكر بين المسلمين، من أقره في مكانه فاستقر. اهـ قوله: ((لا تُصِيبَنَّ) إما جواب الأمر ... ). قال ابن هشام: هذا فاسد لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، وقوله: إن التقدير: إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة مردود لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب ألا ترى أنك تقدر في: ائتني أكرمك، إن تأتني أكرمك. اهـ وذكر أبو حيان نحوه. وقال صاحب التقريب: هذا ليس بجواب للأمر بل جواب لشرط مقدر إذ لا يستقيم: إن تتقوا لا تصب، وهو ما يقتضيه جواب الأمر. اهـ

قال الطَّيبي: أراد أن الآية ليست من باب جواب الأمر إذ لو قدر ذلك رجع إلى أن يقال: إن تتقوا لا تصب، فيفسد، بل هو من باب آخر وهو أن يقدر الشرط بقرينة الجزاء واقتضاء المقام كما قال: إن أصابتكم لا تصب الظالمين. اهـ وقال ابن الحاجب: قد قيل إنَّ (لا تُصِيبَنَّ) جواب للأمر، ويقدر: واتقوا فتنة إن أصبتموها لا تصب الظالمين خاصة ولكن تعم فتأخذ الظالم وغيره، وهو غير مستقيم إذ جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس المظهر لا من جنس الجواب، وإن يقول: فإنكم إن تتقوا لا تصب الظالمين، فيفسد المعنى لأنه يصير الانتفاء سبباً لانتفاء الإصابة عن الظالم المرتكب وهو بالعكس أشبه. اهـ قال الطيبي: وجوابه: أنَّ هذا إذا أجرى الكلام على ظاهره، وإما إذا جعل الظاهر مهجوراً وذهب إلى قوة المعنى فجعل القرينة المعنوية حاكمة على اللفظية فيجوز أن يحمل على مسألة: لا تدن من الأسد يأكلك، وأن يقال: واتقوا فتنة فإنكم إن لم تتقوها أصابتكم فإن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، فاكتفى بالسبب عن المسبب. وقال نور الدين الحكيم: تقرير كلام الزمخشري أنه مثل قول القائل: اتق غضب الله لا يحلل عليك فإن من شأن غضبه إن حل لا يحل بالمجرم خاصة بل يعم، وأقرب منه: اتق غضباً لا يحل على المجرم خاصة. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: هذا الوجه عليه إشكال ظاهر وهو أنَّ الشرط المقدر بجواب الأمر يكون مضمون الأمر مثل: أسلم تدخل الجنة، إن تسلم تدخل الجنة، فيجب أن يكون التقدير هنا: إن تتقوا لا تصيبن الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، وفساده بين، وأجيب بأنه على رأي الكوفيين حيث يقدرون ما يناسب الكلام ولا يلتزمون أن يكون المقدر من جنس الملفوظ، ففى مثل: لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي: إن تدن يأكلك، وفي مثل: اتقوا فتنة لا تصيبنكم النفى أي: إن لم تتقوا تصبكم، فالمصنف قدر شرطاً يستقيم به المعنى لا مضمون الأمر ولا يقتضيه فلا يتبين به كون المذكور جواب الأمر فقيل: مراده أنَّ التقدير: إن تتقوا لا تصبكم وإن أصابتكم لا تصب

قوله: (أو النهي عن إرادة القول).

الظالمين خاصة بل تعمكم، فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو مضمون الأمر لتسببه عنه وأنت خبير بأنَّ عموم إصابة الفتنة ليس سبباً عن عدم الإصابة ولا عن الأمر، وقيل: مراده أن التقدير: إن لم تتقوا أصابتكم على مذهب الكسائي وإن أصابتكم لا تخص الظالمين، وأنت خبير بأنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة بل يكفي إن لم تتقوا لا تصيب الظالمين خاصة. اهـ قوله: (أو النهي عن إرادة القول). قال الشيخ جمال الدين ابن هشام في المغني: وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب إضمار القول، أي: واتقوا فتنة مقولاً فيها ذلك. اهـ قال البدر ابن الدماميني: هذا هو المشهور بين القوم، وقرره بعض المتأخرين على وجه لا يحتاج معه إلى إضمار القول فقال: لا شك أن طلب الضرب مثلاً صفة قائمة بالمتكلم وليس حالاً من أحوال الرجل مثلاً في قولك: مررت برجل أضربه، إلا باعتبار تعلقه به أو كونه مقولاً فيه واستحقاقه أن يقال فيه فلا بد أن يلاحظ في وقوعه صفة له هذه الحيثية فكأنه قيل: مررت برجل مطلوب ضربه، أو مقول في حقه ذلك لا على معنى الحكاية بل على معنى أنه يستحق أن يقال فيه. اهـ قوله: (حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط). قال المبرد في الكامل: العرب تختصر التشبيه وربما أومأت إليه إيماء، قال أحد الرجاز: بتنا بحسان ومعزاه تئط ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط يقول في لون الذئب واللبن إذا خلط بالماء ضرب إلى الغبرة. اهـ والمذق: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وقاف اللبن الممزوج بالماء. قوله: (ويحتمل أن يكون نهياً بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم فإن وباله يصيب الظالم خاصة). قال أبو حيان: الذي دعاه إلى هذا استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بـ (لا) واعتياض تقريره نهياً فعدل إلى جعله دعاء، فيصير المعنى: لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة، واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير: لا أصابت ظالماً ولا غير

ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنة لا أوقعها الله تعالى بأحد. اهـ قوله: (و (من) فى (منكم) على الوجه الأول. .). قال الطَّيبي وأبو حيان والشيخ سعد الدين: أي على أن يكون جواباً للأمر. قوله: (للتبعيض). قال الطَّيبي: محله نصب على أنه بدل من (الذين ظلموا). اهـ قوله: (وعلى الأخيرين ... ). قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: أي على أن يكون صفة أو نهياً. اهـ قوله: (للتبيين). قال الطَّيبي: لأنه تفسير للذين ظلموا، أي: لا يصيبن الظالم الذي هو أنتم. قال صاحب التقريب: وفي تخصيص (من) بالتبعيض في الأول والتبيين في الثاني حزازة. اهـ وكذا قال الحلبي: في هذا التخصيص نظر، إذ المعنى يصح في كل الوجوه مع التبعيض والبيان. اهـ وقال الطَّيبي: إذا حقق النظر تبين أنَّ المخاطبين في الأول كل الأمة، وراكب الفتنة بعضهم، فـ (من) لا محالة تبعيض، وفي الثاني بعض الأمة الذين باشروا الفتنة خصوصاً فـ (من) بيان ولا محيد عنه. اهـ ولذا قال الشيخ سعد الدين: إنما كان (من) للتبعيض على جواب الأمر لأن الذين ظلموا بعض من كل الأمة المخاطبين بقوله (وَاتَّقُوا)، وللتبيين على النهي سواء أعتبر مستقلاً أو صفة لأن المعنى لا تتعرضوا للظلم فتصيب الفتنة الظالمين الذين هم أنتم. اهـ قوله: (وروي أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة) الحديث. أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب، ومن

وقوله: (إنه الذبح)

طريق سعيد بن المسيب نحوه وفيه أنه حاصرهم خمساً وعشرين ليلة. وأبو لبابة اسمه رفاعة بن عبد المنذر صحابي معروف، وفي حديث ابن المسيب أنه تصدق بثلث ماله ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك إلا خيراً حتى فارق الدنيا. وقوله: (إنه الذبح). قال الشيخ سعد الدين: يعني أن حكم سعد هو القتل. اهـ قوله: ((وأنتم تعلمون) أنكم تخونون، أو أنتم علماء). قال الطَّيبي: يريد (أنتم تعلمون) إما مفعول مقدر منوي معه بقرينة السياق وهو أنكم تخونون، أو غير منوى بمنزلة اللازم وهو المراد بقوله: وأنتم علماء. اهـ قوله: (أو محنة من الله تعالى). قال الطَّيبي: عطف على قوله: سبب الوقوع. اهـ قوله: ((فُرْقَانًا) هداية ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: فإن قلت: ذكر لقوله تعالى (فُرْقَانًا) وجوهاً وهو أن يكون نصراً أو بياناً أو مخرجاً أو تفرقةً فأيها أحسن؟ قلت: الجمع بينها، لأن هذه الآية كالخاتمة لجميع ما سبق بدليل عوده إلى بدء القصة وهو قوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، و (أو) في كلام المصنف للتخيير كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. اهـ قوله: (تذكار لما مكر قريش به ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: يعني بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قريش بتمامه ذكره بدء حالهم معه ليعتبر فيشكر، وفيه بيان لتوفيق النظم. اهـ قوله: (وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ... ) إلى آخره. أخرجه ابن هشام في السيرة الكبرى وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل من حديث ابن

قوله: (للمزاوجة).

عباس بمعناه، وابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وابن عباس. ودار الندوة بمكة بناها قصي لينتدوا فيها أي: ليجتمعوا للمشاورة. ولم يحسن الطيبي تخريج الحديث على عادته فقال: إنه في مسند أحمد، وليس فيه ذكر إبليس. وأساء والحديث إنما هو بتمامه في الكتب التي أشرنا إلى التخريج منها. قوله: (للمزاوجة). أي: المشاكلة. قال الطَّيبي: هو وجه، وحمله صاحب الكشاف على الاستعارة بجامع الإخفاء والأخذ بغتة، شبه صورة صنع الله تعالى ذلك معهم بصورة صنع الماكر، وعلى هذا لا يحتاج إلى وقوعه في صحبة مكر العبد، ومنه قول علي رضي الله تعالى عنه: من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في غفلة. اهـ قوله: (وقرئ (صَلاتَهُمْ) بالنصب على أنه الخبر المقدم). فيه كون الخبر معرفة والاسم نكرة كقول حسان: يكون مزاجها عسل وماء وقد ذهب صاحب المفتاح إلى أنه من باب القلب. وقال ابن جني: إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، فإنك لو قلت: خرجت فإذا أسد بالباب أو إذا الأسد بالباب لم تجد الفرق بينهما لأنك لا تريد بالصورتين أسداً معيناً فكأنه تعالى قال: ما كان صَلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية، أي: هذا الجنس من الفعل، ولم يجر هذا مجرى: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في قائم

قوله: (وجعل ذاتها تصير حسرة).

وجالس معنى الجنسية التي يتلاقى معنى معرفتها ونكرتها. اهـ قال الشيخ سعد الدين عقب حكايته: وما يقال إن في المعرفة الإشارة إلى الجنس واعتبار الحضور في الذهن والنكرة خلو عن ذلك فتدقيق علمي بيّن الفرق بين المعرفة وفائدة اللام، ولا أدري هل هو من اللغة؟. اهـ ثم قال ابن جني: ويجوز أيضاً مع النفي جعل اسم كان نكرة ولا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيراً منك، ولا تقول: كان إنسان خيراً منك. اهـ قوله: (وجعل ذاتها تصير حسرة). قال الطَّيبي: يعني الظاهر أن يقال: ثم يكون عاقبة إنفاقها حسرة فأنث الفعل رداً إلى الأموال. اهـ قوله: (مبالغة). قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقها حسرة بكون ذاتها حسرة وأطلق المشبه به على المشبه. اهـ قوله: (سجالاً). أي: مساجلة تارة لهم وتارة عليهم، وأصله المساجلة في ملء الدلو. قوله: (والمعنى: قل لأجلهم). قال أبو حيان: بل الظاهر أنَّها لام التبليغ، وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها. اهـ قوله: (على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد). قال الطَّيبي: هذه خاتمة شريفة في أمر الجهاد ولذلك كانت مخلصاً إلى ذكر ما بدأت به السورة من حديث الغنائم وقسمتها. اهـ قوله: ((فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف). قال أبو البقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم أن لله خمسه. اهـ

قال الشيخ سعد الدين: وفيه زيادة حذف -أعني اللام- إلا أنه ترجح بأن حذف المبتدأ أكثر. اهـ قوله: (وقرئ (فإن) بالكسرة). قال أبو البقاء: فعلى هذا تكون (أن) وما عملت فيه مبتدأ وخبر في موضع خبر المبتدأ. اهـ قوله: (لما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة). أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، وأبو داود في المراسيل، وابن جرير عن أبي العالية مرسلاً. قلت: فينبغي أن يعزا قول المصنف لما روى -بفتح الراء والواو مبيناً للفاعل- والضمير فيه لأبي العالية في قوله: وذهب أبو العالية. قوله: (رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى) الحديث. أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم، وفي الصحيحين بعضه. والطَّيبي على عادته خرج هذا الحديث لكونه في الأصول المذكورة ولم يخرج هذا الحديث الذي قبله لعزته عليه. قوله: (وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة). وذلك أن هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفل الأربعة أولاد عبد مناف، ونسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء ينتهي إلى عبد مناف فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف صلوات الله تعالى عليه وسلامه، وأما عثمان فهو ابن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأما جبير فهو ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. قوله: ((إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) متعلق بمحذوف). قال الطَّيبي: أي جزاؤه محذوف. اهـ

قوله: (وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة)

قوله: (من الآيات والملائكة والنصرة). قال الطيبي: يعني لم يذكر مفعول (وَمَا أَنْزَلْنَا) ليشتمل على جميع ما يناسب أن ينزل في ذلك المقام. اهـ وقال الشيخ سعد الدين في تفسير (وَمَا أَنْزَلْنَا) بذلك: شبه الجمع بين الحقيقة والمجاز. اهـ ثم قال الطَّيبي: الآيات في قول المصنف مطلقة فيجوز أن يراد بها قوله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) على ما ذهب إليه محي السنة، ويجوز أن يراد بها الآيات الدالة على القدرة الباهرة ويكون عطف الملائكة والنصرة من باب عطف جبريل وميكائيل على ملائكته، والذي يشعر بالثاني قوله (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقراءة من قرأ (عُبُدنا) بالجمع. اهـ قوله: (وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة). أي فإن المقرر في التصريف قلب واو (فعلى) الاسم ياءً دون الصفة. قال الطَّيبي: فإن قلت لا شك في وقوع الدنيا والقصوى في الآية صفتين للعدوة فكيف يقال إنهما إسمان لا صفتان؟ فالجواب: ما قاله ابن جني أنهما وإن كانا صفتين في الأصل إلا أنهما ذهب بهما مذهب الأسماء بتركهم إجراهما وصفاً في أكثر الأمر واستعمالهم إياهما استعمال الاسماء، ولذا كان القياس فيهما قلب الواو ياء. اهـ قوله: (كالقود). قال الطَّيبي: يعني القياس أن تقلب واوه ألفاً كأشباهه فتركوه. اهـ قوله: (وهو أكثر استعمالاً من القصيا). وإن كان القصيا هو القياس. قوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه). أو من (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحرف. قوله: (أو متعلق بقوله مَفْعُولاً).

زاد أبو البقاء: أو بقوله (لِيَقْضِيَ). قال الطَّيبي: والبدل أولى، لأن المراد بالحياة: الإيمان، وبالهلاك: الكفر، وبالبينة: إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة، أي: فعلنا ذلك لتظهر حجة من أسلم، ويدحض باطل من كفر، ولا ارتياب في أن هذه المعاني في هذا التركيب أوضح منها في قوله تعالى (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً). اهـ قوله: (وقرئ (لِيَهْلَكَ) بالفتح). قال ابن جني في المحتسب: هي شاذة مرغوب عنها لأن ماضيه هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة. قوله: (أكله جزور). جمع آكل، أي: قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في العد والأمر الذي لا يعبء به. قاله الطَّيبي. قوله: (ولم يصفها). قال الشيخ سعد الدين: أي لم يقل فيه كافرة مع أنه المقصود. اهـ قوله: (والريح مستعارة للدولة). قال الطَّيبي: شبهت الدولة في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به إدِّعاءً، وأطلق المشبه به وهو الريح على المشبه المتروك. اهـ قوله: (وقيل: المراد بها الحقيقة). قال الطَّيبي: ويجوز أن يكون كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد. اهـ قوله: (فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله). أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو وإذا كان كذلك لم يكن لهم قوام. وأخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا

قوله: (وهو مبتدأ خبره (يضربون).

كان عند القتال لم يقاتل أول النهار إلى أن تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر. قوله: (وفي الحديث: نصرت بالصبا، وأُهلكت عاد بالدبور). أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس. قوله: (وتعزف). قال في النهاية: العزف: اللعب بالمعازف وهي الدفوف وغيرها مما يضرب. قوله: (والعطف لتغاير الوصفين). قال الشيخ سعد الدين: أي نقول الجامعون بين صفتي النفاق ومرض القلب. قال: وجعل الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، أو من قبيل: أعجبني زيد وكرمه وهْمٌ. اهـ يشير إلى الرد على الطَّيبي حيث قال: ويجوز أن تكون الواو في (وَالذِين) من التي تتوسط بين الصفة والموصوف لتأكيد لصوق الصفة، لأن هذه الصفة في المنافقين صفة لا تنفك، قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، أو تكون من التي تدخل بين المفسر والمفسر؛ نحو: أعجبني زيد وكرمه. اهـ قوله: (ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً). قال الشيخ سعد الدين: لا بد أن يحمل المضي ههنا على الغرض والتقدير، وكأنه قيل: قد مضى هذا المعنى ولم تره ولو رأيته لرأيت أمراً عظيماً قطعياً، وإلا فظاهر أن ليس المعنى هنا على حقيقة المضي. اهـ قوله: (وهو مبتدأ خبره (يضربون)). قال الطَّيبي: فالجملة على هذا استئناف. قوله: (ويقولون ذوقوا).

قوله: ((ومن رباط الخيل)

قال الشيخ سعد الدين: ليس الاحتياج إلى هذا التقدير لمجرد قبح عطف الإنشاء على الإخبار، بل لأن المعنى على ذلك، لأن هذا من كلام الملائكة قطعاً وإنما الكلام في (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) حيث يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى. اهـ قوله: (فلا يتوقع منهم إيمان). قال الطَّيبي: يعني دل قوله (فَهُم لا يُؤمِنُونَ) لما فيه من بناء (لا يؤمِنُونَ) على (هم) المفيد لتقوي الحكم على عدم توقع الإيمان منهم وذلك لترتب هذه الجملة على قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث أوقع (الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو معرفة خبراً لـ (إِنَّ) وجعل اسمه (شَرَّ الدَّوَابِّ). اهـ قوله: (أن لا يمالؤا). أي: يساعدوا. قوله: (وعن عقبة بن عامر: سمعته عليه الصلاة والسلام على المنبر يقول: ألا إن القوة الرمي، قالها ثلاثاً). أخرجه مسلم. قوله: ((وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) اسم للخيل التى تربط في سبيل الله تعالى). قال الطَّيبي: قيل: فإذن يلزم من إضافته إضافة الشيء إلى نفسه. اهـ قال الشيخ سعد الدين: وليس بشيء، بل في التحقيق الرباط: اسم للمربوطات إلا أنه لا يستعمل إلا في الخيل، فالإضافة باعتبار عموم المفهوم الأصلي. اهـ قوله: (أو مصدر). قال في الانتصاف: هذا هو المطابق للرمي. اهـ قوله: (قال جرير: إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا). بعده: وإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا

قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين)

قال الطَّيبي: حسبكم أي: محسبكم، وأن تلبسوا: فاعله، وخز الثياب: نفيسها، ويروى خز بالخاء والزاي المعجمتين وهو نوع من الإبريسم، وتقنعوا: أي غطوا رءوسكم ووجوهكم من الحياء، يهجوهم بأن همتهم مقصورة على المآكل والملابس. اهـ قلت: ذكر الزمخشري في شرح شواهد سيبويه أنَّ هذين البيتين لعبد الرحمن بن حسان، وقيل: لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان وأورد الأول بلفظ: إني رأيت، وقال: جعل (أن تلبسوا) أحد مفعولي (رأيت) و (حسبكم) المفعول الثاني، يهجو بني أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص وكانوا زوجوا أختهم من سليمان بن عبد الملك وحملوها إلى الشام فصحبهم وكانوا وعدوه بالقيام بحوائجه فقصروا فهجاهم. قوله: ((وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إما فى محل النصب على المفعول معه). قال أبو حيان: هذا مخالف لكلام سيبويه فإنه قال: قالوا: حسبك وزيداً درهم لما كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قيل: بحسبك وبحسب زيداً درهم. قال: وفي ذلك الفعل المضمر ضمير يعود على الدرهم، والنية بالدرهم التقديم، فيكون من عطف الجمل، ولا يجوز أن يكون من باب الإعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك فيه. اهـ قوله: (فحسبك والضحاك سيفٌ مهند). أوله: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا. قال الطيبي: انشقاق العصا عبارة عن التفرق، ونصب (الضحاكَ) بـ (حسبك) لأنه في معنى يكفيك، يقول: إذا كان يوم الحرب ووقع الخلاف بينكم فحسبك مع الضحاك سيف هندي. وقال ابن يعيش في شرح شواهد الإيضاح: يروي (الضحاك) بالرفع والنصب والجر، فالرفع على أنه مبتدأ خبره (سيف) وخبر (حسبك) محذوف لدلالة الكلام عليه لأنه

في معنى الأمر، أي: فلتكتف ولتثق والضحاك سيفك الأوثق، والنصب على أنه مفعول معه و (حسبك) مبتدأ و (سيف) خبره، والمعنى: كافيك سيف مع صاحبه الضحاك وحضوره، أي حضور هذا السيف المغني عن سواه، والجر على أن الواو واو قسم، أو عطفاً على الكاف في (حسبك). قال: وكلاهما مخالف للمعنى، لأن القصد الإخبار بأن الضحاك نفسه هو السيف الكافي والإخبار بأن المخاطب يكفيه ويكفي الضحاك معه سيف. اهـ قوله: (أو الرفع عطفاً على اسم الله). زاد أبو البقاء: أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره: كذلك، أي: حسبهم الله تعالى. اهـ قوله: (أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بِاللَّيْلِ نَاراً) هو لأبي داود جعفر بن الحجاج، وقيل: حارثة بن حمران الإيادي الحذاقي من أبيات أولها: ودارٍ يقول لها الرائدو ... ن ويلُ امِّ دار الحذاقيّ دارا يصف أيام لذته بالتقييد ثم مصيره إلى حال أنكرت عليه امرأته بمنزلته من السوء فأنبأها بجهلها بمكانه وأنه لا ينبغي أن يغتر بأمرئٍ من غير امتحانه. قال ابن يعيش: سيبويه يحمل قوله: (ونار) على حذف مضاف تقديره: وكل نار، إلا أنه حذف ويقدرها موجودة، وأبو الحسن يحمله على العطف على عاملين، فيخفض (نارا) بالعطف على (امرئٍ) المخفوض بـ (كل)، وينصب بالعطف على (أمرأً) المنصوب، وهذا البيت من أوكد ما استشهد به أبو الحسن. اهـ وقال غيره: يروي (وناراً) الأول بالنصب فراراً من العطف عاملين. ووقع في كامل المبرد نسبة هذا البيت إلى عدي بن زيد. قوه: (روي أنه عليه الصلاة والسلام أُتي يوم بدر بسبعين أسير ... ) الحديث. أخرجه أحمد وابن جرير وابن مردويه من حديث ابن مسعود، ومسلم من حديث ابن عباس بنحوه.

قوله: (إلا تفعلوا ما أمرتم به).

قوله: (روي أنه عليه السلام قال: لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ). أخرجه ابن جرير عن محمد بن إسحاق بلفظ: لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليَّ، وأخرجه ابن مردويه من حديث ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ. قوله: (روي أنها نزلت في العبَّاس ... ) الحديث. أخرجه الحاكم وصححه من حديث عائشة. قوله: (تشبيهاً لها بالعمل والصناعة). قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (فعاله) بالكسر في المصادر إنما يكون في الصناعات وما يزاول كالكتابة والزراعة والحراثة والخياطة، والولاية ليست من هذا القبيل إلا على التشبيه. اهـ قوله: (إلا تفعلوا ما أمرتم به). قال الطَّيبي: يريد أن الضمير في (تَفعَلُوهُ) بمنزلة اسم الإشارة الذي يشار به إلى جميع ما ذكر. اهـ قوله: (من قرأ سورة الأنفال ... ) الحديث. رواه الثعلبي عن أُبيٍّ وهو موضوع.

سورة التوبة

سورة التوبة قوله: (ولها أسماء أخر ... ) إلى آخره. قلت: لبراءة أكثر من عشرة أسماء، وقد نظمتها في أبيات فقلت: أسماء براءة تفوق العشرة ... فاضحة البحوث والمنقرة وسورة العذاب والتوبة ... مع حافرة مثيرة مبعثرة مخزية مقشقشة مدمدمة ... منكلة مشردة يا بررة قوله: (والبحوث). بفتح الباء، كذا ضبطه. قوله: (لما فيها من التوبة للمؤمنين). أي في قوله (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) إلى قوله تعالى (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). قاله الطَّيبي. قوله: (وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت سورة ... ) الحديث. أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن عباس. قوله: (روي أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ... ) الحديث. هو ملفق من عدة أحاديث بعضها في مسند أحمد من حديث علي، وبعضها في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وبعضها في الدلائل للبيهقي من حديث ابن عباس، وبعضها في تفسير ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره. الشيخ سعد الدين. قوله: (أمرت بأربع).

أي بأن أخبر وأنادي بها، وكان العلم بأن الكافر لا يدخل الجنة لم يكن حاصل للمشركين قبل ذلك، أو أريد الإعلام بأنه لا يقبل من المشركين بعد هذا إلا الإيمان، أو بأن التعادي والتباين بين النفسين المسلمة والكافرة ثابت في الدنيا والآخرة. الطَّيبي. قوله: (العضباء). لقب لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصله المشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته الشريفة كذلك. قوله: (في بعض الروايات: لا ينبغى لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي). أخرج هذه الرواية أحمد والترمذي وحسنه من حديث أنسٍ. قوله: (روي أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر). أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر. قوله: (الحج عرفة). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر. قوله: ((ورسوله) عطفاً على المستكن في (بريء) لوجود الفاصل). قال الشيخ سعد الدين: ويحتمل أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي ورسوله كذلك. اهـ قوله: (أو على محل (إن) واسمها في قراءة من كسرها). قال الطيبي: وذلك لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على

قوله: (استثناء من المشركين)

محل ما عملت فيه، هذا معنى قولهم: يعطف على محلها مع اسمها، هذا على ما قرئ في الشاذة بكسر (إن)، وأما على المشهورة بفتح (أن) فقال أبو البقاء: إنه عند المحققين غير جائز لأن المفتوحة لها موضع غير الابتداء بخلاف المكسورة. وقال ابن الحاجب: (وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوف على (أنَّ) باعتبار المحل وإن كانت مفتوحة لأنَّها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون فإنَّهُم قالوا (إذا) يعطف على اسم (إنَّ) المكسورة دون غيرها، توهموا أنه لا يجوز العطف على المفتوحة، والمفتوحة تنقسم إلى قسمين: قسم يجوز العطف فيه على اسمها بالرفع، وقسم لا يجوز، فالذي يجوز هو أن يكون في حكم المكسورة كقولك: علمت أنَّ زيداً قائمٌ وعمرو، لأنه في معنى إنَّ زيداً قائم وعمرو فكما جاز العطف ثَمَّ جاز هنا، ألا ترى أنَّ (عَلمَ) لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر، يدل على ذلك وجوب الكسر في قولك: علمتَ إنَّ زيداً القائم، وإنما انتصب بعدها توفيراً لما تقتضيه علمت من معنى المفعولية، وإذا تحقق أنها في حكم المكسورة جاز العطف على موضعها، وإن كانت المفتوحة على غير هذه الصفة لم يجز العطف على اسمها بالرفع مثل قولك: أعجبني أنَّ زيداً قائم وعمرو، فلا يجوز إلا النصب لأنَّها ليست مكسورة ولا في حكمها. وقال في موضع آخر: إنما لم يعطف على المفتوحة لفظاً ومعنى لأنها واسمها وخبرها بتأويل جزء واحد، فلو قدرت أنها في حكم العدم لأخللت بموضعها بخلاف (إن) المكسورة لأنَّها لا تغير المعنى فجاز تقدير عدمها لكونها للتأكيد المحض كما جاز تقدير عدم الباء المؤكدة في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا. اهـ قوله: (استثناء من المشركين). أي في قوله (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قوله: (أو استدراك). أي: استثناء منقطع. قال الشيخ سعد الدين: ولا يضره تخلل الفاصل -أعني قوله (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ... ) إلى آخره- لأنه ليس بأجنبي بالكلية لكونه أمراً بالإعلام، كأنه قيل لهم: فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن اللهَ بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا عهدهم أتموا إليهم عهدهم ولا تجعلوهم في حكم الناكثين الذين لا رخصة في إمهالهم أربعة أشهر.

قال: وفي جعله استثناء متصلاً من (الْمُشْرِكِينَ) يلزم تخلل الفاصل الأجنبي مع منافاته لعموم المشركين في قوله تعالى (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إلا أن يحمل على المعهود أعني المشركين الذين استثنى منهم غير الناكثين، أو يخص عمومهم بهذه القرينة، لكن تأخر الاستثناء ينافي ذلك ولا محيص سوى أن يجعل من جهة المعنى من المشركين الثاني أيضاً. وذهب صاحب الانتصاف إلى أنه لا حاجة إلى تقدير القول في (فَسِيحُوا) وإنما هو تفنن وذهاب من خطاب المسلمين إلى خطاب المشركين ثم رجوع إلى خطاب المسلمين بقوله تعالى (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ). اهـ وعبارة الانتصاف: يجوز أن يكون (فَسِيحُوا) خطاباً من الله تعالى ولا يضمر قبله قولوا، ويكون استثناء من قوله (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)، والمعنى: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في (عَاهَدْتُمْ) إلى خطاب المشركين في (فَسِيحُوا)، والتفات بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ ... ) وقياسه: غير معجزي وأني، فيه افتنان وتفخيم للشأن، ثم يعود إلى خطاب المؤمنين في قوله تعالى (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ). اهـ قوله: (وانتصابه على الظرف). قال أبو حيان: سبقه إلى ذلك الزجاج، ورده أبو علي، لأنَّ المرصد: المكان الذي يرصد فيه العدو، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً. قال أبو حيان: وأقول يصح انتصابه على الظرف لأن قوله (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) ليس معناه حقيقة القعود بل المعنى: أرصدوهم في كل مرصد يرصد فيه، ولما كان المعنى هذا جاز قياساً أن يحذف منه (في) لأن العامل في الظرف المختص إذا كان من لفظه أو معناه جاز أن يصل إليه بغير وساطة (في). اهـ وقال صاحب الانتصاف: يحتمل أن يكون المرصد مصدراً لأن اسم الزمان والمكان والمصدر من فعله واحد. اهـ قوله: (وَخَبَّرتماني أَنَّما الموْتُ بِالقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ وَقَلِيبُ).

قوله: ((وأكثرهم فاسقون)

هو لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه وقبله: لعمركما إن البعيد الذي مضى ... وإن الذي يأتي غداً لقريب الهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض، والقليب: البئر. قال الزمخشري في شرح شواهد سيبويه: أي قلتما لي إن من سكن القرى مرض للوباء الذي فيها فكيف مات أخي في برية وهذه هضبة أي جبل وقليب أي بئر، أشار إلى هضبة وبئر في الموضع الذي مات فيه أخوه ومن أبيات هذه القصيدة قوله: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجب عند النداء مجيب فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا ... لعل أبا المغوار منك قريب قوله: (قال حسان: لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإِلَّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ). السقب: ولد الناقة الذكر، والرأل: ولد النعام. قوله: (وهو الجؤار). بضم الجيم والهمز: رفع الصوت. قوله: ((وأكثرهم فاسقون) متمردون). قال الطَّيبي: الكافر إذا وصف بالفسق دل على نهاية ما هو فيه من الكفر. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: أشار بقوله متمردون إلى دفع ما يقال إن الكفر أقبح من الفسق كله فما وجه إخراج البعض بقوله (وَأَكْثَرُهُمْ)؟. اهـ قوله: (من التفادي). بالفاء، يقال: تفادى الرجل من كذا، إذا تحاماه. قاله الطيبي. قوله: ((وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض). قال الشيخ سعد الدين: بين (فَإن تَابُوا) (وَإِنْ نَكَثُوا). اهـ قوله: (وإظهار الياء لحن). قال الحلبي: لأنه إنما اشتهر من القراء التسهيل بين بين لا الإبدال المحض حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء فقال: وفي النحو إبدالاً. اهـ

قلت: فقوله: لحن مراده اللحن الخفي عند القراء لا الجلي الذي هو خلاف مما تقتضيه قواعد النحو، فاندفع ما أورد عليه من أنه خلاف ما ذكره النحاة ومنهم الزمخشري في المفصل حيث قال: إذا التقت همزتان في كلمة واحدة فالوجه قلب الثانية إلى حرف لين على حسب حركتها. قال ابن الحاجب في شرحه: كقولك أيمة بياء محضة. هذه عبارته. قوله: (فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه). قال الطَّيبي: وذلك أن المؤمن إذا اعتقد أن لا ضار ولا نافع إلا الله وإن أحداً لا يقدر أن يضره وينفعه إلا بإذنه ومشيئته فلا يخاف إلا ربَّه. اهـ قوله: (روي أنه لما أُسر العبَّاس. .) إلى آخره. أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، وأخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك بلفظه. قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد ... ) الحديث. أخرجه الطبراني من حديث سلمان بلفظ: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره، وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيريهما والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن ميمون قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقاً على الله أن يكرم من زاره فيها. قوله: (وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول لما علم أن الإيمان باللهِ تعالى قرينه ... ) إلى آخره. قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه مذكور بطريق أبلغ لما اشتهر من تقارنهما وعدم إنفكاك أحدهما عن الآخر. وقال الطَّيبي: خلاصة الجواب أن في الكلام دلالة على ذكره وليس فيه بيان الفائدة في

قوله: (وموطن يوم حنين ... )

طي ذكره، ويمكن أن يقال: إن المراد بـ (مَنْ آمَنَ) الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم الأحق بعمارة مساجد الله، وهو الذي يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى وعبادته وذكره، فلما كان داخلاً في لفظ (من) لم يحسن أن يقال ورسوله. اهـ قوله: (نزلت فى المهاجرين ... ) إلى آخره. أخرجه الثعلبي عن ابن عباس. قوله: (وقيل نزلت نهياً عن مولاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة). رواه الثعلبي عن مقاتل. قوله: (وموطن يوم حنين ... ) إلى آخره. تبع الزمخشري في تقدير موطن في الثاني، أو تفسير موطن بالوقت في الأول ليكون من عطف الزمان على المكان، (وقد قال صاحب الانتصاف متعقباً عليه: لا مانع من عطف الزمان على المكان كعطف أحد المفعولين على الآخر تقول: ضرب زيد عمرواً يوم الجمعة وفي المسجد، كما تقول: ضربت زيداً وعمروا. وقال الحلبي: لا أدري ما حمل الزمخشري على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن بالوقت ليصح عطف زمان على زمان أو مكان على مكان إذ يصح عطف أحد الطرفين على الآخر. اهـ وقال الطَّيبي في توجيه صنع صاحب الكشاف: قيل يعني أن الفعل كما يقتضي ظرف المكان يقتضي ظرف الزمان فلا يجوز أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر كما لا يعطف المفعول به على المفعول فيه ولا الفاعل على المفعول ولا المصدر على شيء من ذلك ولا بالعكس. ثم قال الطَّيبي: والزمخشري إنما راعى المناسبة وهي واجبة عند علماء البيان دون النحويين. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لا ينبغي أن يذهب في وجه ذلك لأنه ليس بينهما من المناسبة ما يصلح معه العطف فإنه ظاهر الفساد، بل وجهه إن كلاً منهما متعلق بالفعل بلا توسط العاطف كسائر المتعلقات لا يعطف بعضها على بعض، وإنما تعطف على البعض

ما هو من جنسه ولا يتعلق معه استقلالاً مثل: ضربت زيداً وعمرواً، وصمت يوم الخميس ويوم الجمعة، وصليت في الدار وفي المسجد، ونحو ذلك، فاحتاج إلى أن يجعله من عطف المكان على المكان بتقدير المضاف، أو الزمان على الزمان كذلك، أو يجعل الموطن اسم زمان على ما يجوزه القياس وإن كان بعيداً من الفهم قليلاً في الاستعمال، كأنه قيل: في أزمنة أوقات مواقف الحروب. اهـ قوله: (ولا يمنع إبدال قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) منه أن يعطف على موضع (في مَواطِنَ) فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن). هذا ردٌّ لقول الكشاف على أن الواجب أن يكون (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أن قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) فلو جعل ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فنفى أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به إلا إذا كان نصبت (إذ) بإضمار اذكر. وقد تكلم الناس على كلام الزمخشري هذا فمن متعقب ومن مقرر، فقال صاحب الانتصاف: ما ذكره غير لازم، تقول: اضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، والناصب للظرفين واحد، وهما متغايران، إنما يمتنع أن ينتصب الفعل الواحد بظرفي زمان مختلفين عند عدم العطف. اهـ قال الطَّيبي بعد أن حكاه: وعليه قول القاضي: ولا يمتنع إبدال قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) ... إلى آخره. وقال صاحب التقريب تقريراً لقول الزمخشري: الواجب أن ينصب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) بـ (نصر) مضمراً لئلا يعطف زمان على مكان بل يكون عطف جملة على جملة لا بهذا الظاهر إن جعل (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدلاً من (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) لا منتصباً بـ (اذكر) إذ التقدير على البدلية نصركم في مواطن كثيرة زمان أعجبتكم كثرتكم، ولا يصح لأن الإعجاب والكثرة لم يكونا في جميع تلك المواطن، وقد يقال: يمكن أن ينصب بهذا الظاهر مطلقاً لا مقيداً بالظرف، وغاية الجواب أنه إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف نحو: صليت قائماً في المسجد، فالمعنى أن الصلاة المقيدة بالقيام

وقعت في المسجد، والحال في المعنى ظرف فيعتبر في الثاني ذلك الظرف كما يعتبر في الحال وللبحث فيه مجال. قال الطَّيبي: وتمام التقرير أنَّ الأصوليين ذكروا أن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فِى المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما هذا هو المراد من كلام الزمخشري وصاحب التقريب. قال: فالواجب أن يقال: ما في الآية ليس من باب عطف المفرد على المفرد بل هو من باب عطف الجملة على الجملة، إما على تقدير ناصب من جنس المذكور، أو تقدير اذكر من غير إبدال لئلا يلزم المحذور، وبيانه أن (نصر) مطلق وتقييده بحسب كل واحد من الظرفين فإن الأحوال والظروف كلها مقيدات للفعل المطلق، فإذا قيد أحدهما بقيد لزم تقييد الفعل به، لأن القيد بيان المراد من المطلق فيسري منه إلى الآخر، لعل هذا هو المعنى من قول صاحب التقريب: إذا تقدم فعل مقيد بحال عنى ظرف نحو: صليت قائماً في المسجد فيعتبر في الثاني ذلك القيد قريب من قولهم المتعقب للحمل للجميع. اهـ وقال الحلبي: كلام الزمخشري حسن، وتقديره أن الفعل مقيد بظرف المكان، فإذا جعلنا (إِذ) بدلاً من (ويوْم) كان معمولاً له، لأن البدل يحل محل المبدل منه، فيلزم أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض المواطن لم يكونوا بهذه الصفة، إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل في جميع المواطن حتى يلزم ما قاله. اهـ وقال الشيخ سعد الدين في تقرير كلام الكشاف: الواجب أن ينتصب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) بفعل مضمر وهو (نَصَرَكُمُ) ليكون من عطف الجملة على الجملة، لا بقوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ) ليكون عطفاً على (فِي مَوَاطِنَ) بالتأويل وبدون التأويل وذلك لأن (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) فيكون زمان الإعجاب بالكثرة ظرفاً للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لأن الفعل واحد، ولأن الأصل في العطف أن يتقيد المعطوف بما يتقيد به المعطوف عليه وبالعكس مثل: أعجبني قيام زيد يوم الجمعة وقيام عمرو، وبالعكس، و (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) مقيد بزمان الإعجاب بالكثرة لأن العامل

منسحب على البدل والمبدل منه جميعاً وكذا المواطن، واللازم باطل إذ لا إعجاب بالكثرة في المواطن، وبهذا التقرير يندفع ما يقال: هذا إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حذف حرف العطف ليؤول إلى: نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم، وليس كذلك، بل يؤول إلى: نصركم في مواطن إذ أعجبتكم، وعلى ما ذكره الزمخشري منع ظاهر مرجعه إلى أن الفعل في المعطوف والمعطوف عليه لا يلزم أن يكون واحداً بحيث لا يكون له تعدد أفراد، ألا ترى إلى قولنا: ضرب زيد اليوم وعمرو غداً، وأضربه حين يقوم وحين يقعد، وأضرب زيداً قائماً وعمرواً قاعداً، إلى غير ذلك ولا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر خلافه إلى الدليل. اهـ قلت: وهذا المنع هو تقرير ما مشى عليه البيضاوي. (ثم قال الشيخ سعد الدين: وأما ما يقال إن هذه النكتة تدفع ما تقدم أيضاً) لأن الزمان إنما لا يعطف على المكان لو كان زمان ذلك الفعل وهو ليس بلازم لجواز تغاير الفعلين ففيه نظر لأن مراده الامتناع فيما إذا كان معمولي فعل واحد في اللفظ نحو: ضربت زيداً وعمرواً في الدار ويوم الجمعة، حتى يجري فيما إذا تحقق التغاير مثل: أكرمت أول الزائرين وآخرهم في الدار ويوم الجمعة. اهـ قوله: (وحنين واد ... ) إلى آخره. الحديث أخرجه مسلم من حديث العبَّاس بنقص يسير، وروى البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ). قال الربيع: وكانوا اثني عشر ألفاً منهم ألفان من أهل مكة. قوله: (الطلقات). قال الشيخ سعد الدين: هم الأسارى الذين أخذوا يوم الفتح وأطلقوا. اهـ قوله: (لن نغلب اليوم من قلة). قال الطَّيبي: ليس نفياً للمغلوبية بل نفي للقلة، يعني متى غلبنا كان سببه غير القلة. اهـ

وقال الشيخ سعد الدين: هو نفى للقلة وإعجاب بالكثرة، يعني إن وقعت مغلوبية فليس عنها. اهـ قوله: (فقال العبَّاس وكان صيتاً). أي عالي الصوت. روى ابن سعد في الطبقات عن كذا. قوله: (يا أصحاب الشجرة). أي أصحاب بيعة الرضوان المذكورين في قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). قوله: (يا أصحاب سورة البقرة). قال الطَّيبي: قيل: أريد المذكورون في قوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)، وقيل: الذي أنزل عليهم سورة البقرة. اهـ قلت: الظاهر أن المراد الذين حفظوا سورة البقرة فإنَّهُم عظماء الصحابة، قال أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا. قوله: (فكرُّوا عنقاً واحداً). قال الزمخشري: أي رجعوا جماعة واحدة واحدة، أي دفعة، منه قوله (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) أي رؤساءهم وجماعاتهم. اهـ قوله: (حمى الوطيس). قال في النهاية: الوطيس: التنور. وهو كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب، ذكر ابن دريد في المجتبى وغيره أن أول من قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يومئذ، ولم يسمع قبله.

قوله: (وأكثر ما جاء تابع لرجس).

قال الطَّيبي: وهو من أحسن الاستعارات. اهـ قوله: (رُوي أن ناساً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) الحديث. ذكره الثعلبي بلفظ المصنف بغير إسناد، وأصله عند البخاري من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم بنحوه. قوله: (ما نعدل بالأحساب شيئاً). قال في الأساس: الحسب ما يعده الرجل من مفاخر آبائه. اهـ قال الشيخ سعد الدين: كنوا بذلك عن اختيار الذراري والنساء على استرجاع الأموال لأن تركهم في ذل الأمر يقضي إلى الطعن في أحسابهم. اهـ قوله: (فشأنه). قال الشيخ سعد الدين: أي فيلزم أمره وشأنه. اهـ قوله: (وأكثر ما جاء تابع لرجس). قال الطَّيبي: أي أكثر ما جاء نجس بكسر النون اهـ. في الصحاح: قال الفراء: إذا قالوه مع الرجس أتبعوه إياه قالوا رجس نجس بالكسر. اهـ قوله: (أهل تبالة). هي بفتح التاء وتخفيف الموحدة بلدة صغيرة باليمن. قوله: (وجُرَش). بضم الجيم وفتح الراء: مخلاف من مخاليف اليمن، والمخلاف في اليمن كالرستاق في العراق. قوله: (مواتية). أي: موافقة.

قوله: (أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف

قوله: (أو عن يد قاهرة). قال في الانتصاف: هدا الوجه أملأ بالفائدة. قوله: (ويؤيده أن عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنه عليه الصلاة والسَّلام أخذها من مجوس هجر). أخرجه البخاري إلى هنا، وأما قوله: وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب، فحديث آخر أخرجه مالك في الموطأ والشافعي في الأم عنه عن جعفر عن أبيه عن عمر أنه قال: ما أدري ما أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول لم الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا هم سنة أهل الكتاب. قوله: (ووى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب). أخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عنه. قوله: (أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا، وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر). قال الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز طاعناً في هذا الوجه: الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلماً، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم وحصل تسليم كونه ابناً لله وذلك كفر. اهـ وقال الإمام: هذا الطعن ضعيف، أما قوله إنه يتوجه الإنكار إلى الخبر فمسلم، وأما قوله ويكون ذلك تسليماً للوصف فممنوع لأنه لا يلزم من كونة مكذباً لذلك الخبر كونه مصدقاً لذلك الوصف إلا أن يقال تخصيص ذلك الخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف. اهـ وقال الطَّيبي: هذا الكلام يحتمل أمراً آخر وهو أن يقال إنَّ المراد من إجراء تلك الصفة على الموصوف بناء الخبر عليه فحينئذ يرجع التكذيب إلى جعل الوصف علة للخبر، قال

: فبطل ما ذكره المصنف من التزييف. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: القول بالوصفية ليكون حذف التنوين من اللفظ والألف من الخط قياساً كما في قولك زيد بن عمرو حاضر يوهم بل يدل بدليل الخطاب وشهادة الاستعمال أن الوصف -أعني النبوة- ثابتة وإنما الكذب والخطأ في الحكم وهو كونه معبوداً، مثلاً إذا أنكرت على من قال زيد بن عمرو سيدنا كان إنكارك راجعاً إلى كونه سيداً لا إلى كونه ابن عمرو. قال: وقد يتمحل فيجاب بأن الصفة هنا للعلمية أو للمدح فإنكار العبودية يتضمن إنكارها، ولو سلم فلا يستلزم تسليمها. قال: وذكر بعضهم أن القول ههنا بمعنى الوصف فلا حاجة إلى تقدير الخبر، كما أنَّ أحداً إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت ذلك المنكر فقط. قال: وهو مع كونه مخالفاً لظاهر قوله (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ليس دفعاً للتزييف المذكور بل وجهاً آخر. اهـ قوله: (إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها). لم يذكر هذا الوجه في الكشاف، وقال أصحاب الحواشي إنه غير مناسب. قال الطَّيبي: فإن قلت: فهلا يعتبر التأكيد نحو رأيته بعيني وقلته بفمي وكتبته بيدي؟ قلت: المقام يأباه، لأن المقصود الإخبار عن ذلك القول الشنيع الذي يخرج من أفواههم من غير تحاش ولا مبالاة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا يقال ذلك الأسلوب إلا في أمر يعظم مثاله ويعز الوصول إليه ليؤذن بنيله وحصوله. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن جعل (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) من قبيل كتبته بيدي وأبصرته بعيني وسمعته بأذني غير مناسب للمقام، فلذا حمله صاحب الكشاف على وجهين حاصل الأول: أنه مجرد ملفوظ لا معقول له كالمهملات، وحاصل الثاني: أنه رأي ومذهب لا أثر له في قلوبهم، وإنما يرونه ويتكلمون به جهلاً وعناداً. اهـ قوله: (ومنه قولهم: امرأة ضهياء على فعيل).

قوله: (وقيل إنه تمثيل لحالهم ... )

قال أبو البقاء: الأشبه أن لا يكون مشتقاً منه، لأنَّ الياء في (ضهياء) أصلية والهمزة زائدة. اهـ وقد قال الزجاج إن وزن ضهياء فعلاء والهمزة زائدة. قوله: (وقيل إنه تمثيل لحالهم ... ) إلى آخره. قال الطَّيبي: هو استعارة مصرحة تمثيلية، والمستعار جملة الكلام، لأنَّ حالهم في محاولة إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب هو المشبه وهو مطوي، والمشبه به حال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق المعنى بقوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) وهو الظرف المذكور، وقوله (وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ترشيح للاستعارة، لأنَّ إتمام النور زيادة في استنارته ونشر ضوءه فهو تفريع على الأصل أي المشبه به، وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) تجريد للاستعارة وتفريع على الفرع، وروعي في كل من الممثل والممثل به معنى الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى، وما شأن نور يضاف إلى الله تعالى؟، وكيف السبيل إلى إطفائه لا سيما بالفم؟، ومن ثم قال: في نور عظيم منبث في الآفاق، وتمم كلاً من الترشيح والتجريد بقوله تعالى (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وأوهم التناسب بين الكفر والإطفاء، لأن الكفر التغطية والستر، وبين الشرك ودين الحق، لأنَّ دين الحق التوحيد. قال: ويجوز أن يجعل (نُورَ اللهِ) استعارة تحقيقية، والقرينة الإضافة، والمراد بالنور رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، شبه بذلك لما جلى الله سبحانه به صلى الله عليه وسلم من ظلمات الشرك وهدى به الضالين، ثم أطلق اسم النور والسراج على المشبه المتروك، ثم رشح الاستعارة لأنه صفة ملائمة للمشبه به وهو السراج ولذلك قال (بِأَفْوَاهِهِمْ)، وأما قوله تعالى (وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) فكما سبق في الاستعارة الأولى. اهـ قوله: (نور عظيم). قال الشيخ سعد الدين: مستفاد من الإضافة إلى الله تعالى. اهـ قوله: (منبث).

قوله: (ما أدي زكاته فليس بكنز).

قلت: الظاهر أنَّها بالنون ثم الموحدة ثم المثلثة المشددة، أي: منتشر. قوله: (لأنه فى معنى النفي). أي: لا يرضى ولا يريد. قوله: (لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) الحديث. أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس كذا. قوله: (ما أدي زكاته فليس بكنز). أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدي الكامل وابن مردويه من حديث أبي ذر، والطبراني من حديث أبي أمامة. قوله: (أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز). أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن حبان عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه. قوله: (قانون التمول). في الصحاح: القوانين: الأصول، الواحد قانون وليس بعربي. قوله: (أو للفضة ... ) إلى آخره. قال الراغب: أعيد الضمير للفضة دون الذهب لأن جنس الفضة عن الناس أعظم ضرراً

قوله: (وقيل الضمير للرسول - صلى الله عليه وسلم)

، والحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب. اهـ قوله: (وعن عطاء). قال الشيخ سعد الدين: إذا أطلق عطاء فهو ابن أبي رباح. اهـ قوله: (وقيل الضمير للرسول - صلى الله عليه وسلم). قال الشيخ سعد الدين: وعلى الأول لله تعالى. اهـ وقال في الانتصاف: يريد الثاني في قوله عقبه (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ). اهـ قوله: (أي إن لم تنصروه فسينصره الله ... ) إلى آخره. قال في الانتصاف: الفرق بين الوجهين عسير، وغايته أن في الأول وعد بنصر مستقبل أكد تحقيقه بوجود نصره من قبل، وفي الثاني إخبار باستمرار نصر ماضي، والأمر فيهما متقارب. اهـ قال الطَّيبي: قوله (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) من باب قولك إن تكرمني الآن فقد أكرمتك أمس، فقوله: فسينصره الله كما نصره؛ إخبار على سبيل التوبيخ، والمقصود أن الله تعالى ناصره الآن كما كان ناصره فيما مضى، فهو مستغن عنكم ولا يضره خذلانكم، وقوله: وأوجب له النصر، إخبار بأن الله تعالى حكم بأنه منصور، والنصر على الأول وقع تحقيقاً، وهو إمارة النصر المستقبل، وعلى الثاني النصر محتوم مقدر وما قدره الله تعالى واجب الوقوع. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: الوجهان متقاربان، وحاصلهما أنَّ الجواب محذوف، والمذكور بمنزلة العلة له، والفرق عائد إلى جهة العِلِّية، فالأول بمنزلة القياس الجلي، أي: إن لا تنصروه فسينصره الله تعالى كما نصره، ولأنه نصره في وقت أصعب من هذا، والثاني بمنزلة الاستصحاب المعلوم للمخاطبين، أي: فلا يخذله الله تعالى بل ينصره، لأنه في حكم الله تعالى وفي سالف الزمان وسائر الأحوال من المنصورين لا من المخذولين، وأنتم عالمون بذلك. اهـ وقال أبو حيان: الوجه الثاني لا يظهر منه جواب الشرط لأنَّ إيجاب النصر له أمر سبق،

والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي يظهر الوجه الأول. اهـ وقال السفاقسي: نصره له ثابت مستمر في المستقبل، فيصح حينئذ ترتبه على المستقبل، وقد أشار إليه بقوله: فلن نخذله في غيره، وقد ذكر الشيخ أبو حيان جواز ذلك إذا كان بهذا المعنى في البقرة. اهـ قوله: (روي أن المشركين طلعوا فوق الغار ... ) الحديث. أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي بكر إلى قوله: الله ثالثهما. قوله: (فأعماهم الله تعالى عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه). أخرجه ابن سعد والبزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل من حديث أنس وزيد ابن أرقم والمغيرة بن شعبة. قوله: (وقيل لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين) الحديث. أخرجه المذكورون من هذا الوجه. قوله: (أو على صاحبه وهو الأظهر). قال الشيخ سعد الدين: ولا ينافي كون ضمير (وَأَيَّدَهُ) للرسول ألبتة، لأنه عطف على (فَقَدْ نَصَرَهُ) لا على قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ). اهـ قوله: (والرفع أبلغ). قال الطَّيبي: لأنه يدل على الدوام والثبوت، وأن الجعل لم يتطرق على كلمة الله، وأنها في نفسها غالبة، وفيه إشارة إلى قدم كلمة الله تعالى. اهـ وقال أبو البقاء: النصب ضعيف لأنه فيه دلالة على أن كلمة الله كانت سُفلى فصارت عُليا، وليس كذلك، ولأن التوكيد بالضمير المرفوع للمنصوب بعيد إذ القياس يأباه. اهـ

قوله: (لخرجنا معكم)

وقال الشيخ سعد الدين: إنما كان الرفع أبلغ لما في النصب من إيهام التقييد بالظروف السابقة أعني (إِذْ أَخْرَجَهُ) و (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) و (إِذْ يَقُولُ)، لكن لا يخفى أن هذا ورد على قوله (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ) فالأَولى التعليل بأن جعل (وَكَلِمَةُ اللهِ) في حيز الجعل، والتصيير غير مناسب بل هو دائم ثابت، ولا كذلك تسفيل كلمة الذين كفروا فإنه عبارة عن جعل دعوتهم إلى الكفر مضمحلة مقهورة منكوسة فيما بين الناس، وأما التعليل بأن قولنا جعل الله كلمة الله هى العليا؛ بمنزلة: أعتق زيد غلام زيد؛ فمدفوع بأن في إضافة الكلمة إلى صريح اسم الله زيادة إعلاء لمكانها وتنويهاً بشأنها. اهـ قوله: ((لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابى القسم والشرط). قال أبو حيان: ليس هذا بجيد بل للنحويين في هذا مذهبان أحدهما: أن (لَخَرَجْنَا) هو جواب القسم وجواب (لَو) محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهو اختيار ابن عصفور، والآخر: أنَّ (لَخَرَجْنَا) هو جواب (لَو)، وجواب القسم هو (لَو) وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك، وأما أنه سد مسدهما فلا أعلم أحداً ذهب إليه. قال: ويحتمل أن يتأول كلامه على أنه لما حذف جواب (لَو) ودل عليه جواب القسم جعل كأنه سد مسدهما. اهـ قوله: (وهو بدل من (سيحلفون)). قال أبو حيان: هذا بعيد لأنَّ الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. اهـ وقال الحلبي: يصح على أنه بدل اشتمال، وذلك لأنَّ الحلف سبب للإهلاك فهو مشتمل عليه فأبدل المسبب من سببه لاشتماله عليه، وله نظائر كثيرة منها قوله: إن عليَّ الله أن تبايعا ... تؤخذَ كرهاً أو تجيء طائعا فـ (تؤخذ) بدل من (تبايعا) بدل اشتمال بالمعنى المذكور، وليس أحدهما نوع من الآخر. اهـ قلت: وهذا معنى قول المصنف: لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك. قوله: (كناية عن خطئه في الإذن لهم فإن العفو من روادفه).

تبع في هذه العبارة السيئة الزمخشري، وقد قال صاحب الانتصاف: هو بين أمرين: أن لا يكون هذا المعنى مراداً فقد أخطأ، أو يكون مراداً لكن كنى الله تعالى عنه إجلالاً ورفعاً لقدره، أفلا يتأدب بأدب الله تعالى لا سيما في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم. اهـ وقال الطَّيبي: أخطأ الزمخشري في هذه العبارة خطأً فاحشاً، ولا أدري كيف ذهب عنه -وهو العَلَمُ في استخراج لطائف المعاني- أنَّ في أمثال هذه الإشارات وفي تقديم العفو إشعار بتعظيم المخاطب وتوقير حرمته. اهـ وقال السجاوندي: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) تعليم بعظمته صلوات الله وسلامه عليه، ولولا تصدير العفو في المقال لما قام بصولة الخطاب، وربما يستعمل في ما لم يسبق به ذنب ولا يتصور كما يقول لمن يعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: ما كان ينبغي له أن يعبر بهذه العبارة الشنيعة بعدما راعى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقديم العفو وذكر الإذن المنبيء عن علو المرتبة وقوة التصرف وإيراد الكلام في صورة الاستفهام وإن كان القصد إلى الإنكار على أن قولهم: عفا الله عنك؛ قد يقال عند ترك الأولى والأفضل بل وفي مقام التعظيم والتبجيل مثل: عفا الله عنك ما صنعت في أمري. اهـ وقال القاضي عياض في الشفا: قال مكي: هذا افتتاح كلام بمنزلة: أصلحك الله وأعزك الله. اهـ وقد ألف في هذا الموضع رداً على الزمخشري الصدر حسن بن محمد بن صالح النابلسي الحنبلي كتاباً سماه جنة الناظر وجُنة المناظر في الانتصاف لأبي القاسم الطاهر صلى الله عليه وسلم، وبهذه النكتة وأمثالها اشمأز أهل الدين والورع من النظر في الكشاف

ونهوا عن مطالعته وإقرائه. وألف الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين السبكي كتاباً سماه (سبب الانكفاف عن إقراء الكشاف) قال فيه: وبعد فإن كتاب الزمخشري كنت قرأت منه شيئاً على الشيخ علم الدين عبد الكريم بن علي المشهور بالعراقي في سنة اثنين وسبعمائة وكنت أحضر قراءته عند قاضي القضاة شمس الدين السروجي وكان له عناية ومعرفة ثم لم أزل أسمع دروس الكشاف وأبحث فيه ولي فيه غرام لما اشتمل عليه من الفوائد والفضائل التي لم يسبق إليها، والنكت البديعة والدقائق التي تقر العيون عليها، وأتجنب ما فيه من الاعتزال، وأتخرج الكدر وأشرب الصفو الزلال، وفيه ما لا يعجبني مثل كلامه في قوله تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ)، وطلب مني مرة بعض أهل المدينة بنسخة من الكشاف فأشرت عليه بأن لا يفعل حياءً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل إليه كتاب فيه ذلك الكلام، ثم صار هذا الكتاب يقرأ عليَّ وأنا أبقر عن فوائده حتى وصلت إلى تفسير سورة التحريم وقد تكلم في الزلة فحصل لي بذلك الكلام غص، ثم وصلت إلى كلامه في سورة التكوير في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) إلى آخر الآية، والناس اختلفوا في هذا الرسول الكريم من هو، فقال الأكثرون: جبريل، وقال بعضهم: هو محمد صلى الله عليه وسلم، فاقتصر الزمخشري على القول الأول ثم قال: وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكان جبريل وفضله على الملائكة ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما وقايست بين قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21). وبين قوله تعالى (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). فطرحت الكشاف من يدي، وأخرجته من خلدي، ونويت أن لا أقربه ولا أنظر فيه إن شاء الله تعالى، وذلك لأني أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأجله بحسب ما رزقني الله تعالى من محبته وإجلاله، وأمتنعت من هذه الموازنة والمقايسة التي قالها الزمخشري، وهب أن الملائكة أفضل البشر كما تقوله المعتزلة أما كان هذا الرجل يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذه المقايسة بينه وبين جبريل (1) بل بهذه

_ (1) قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ورد في القرآن الكريم مرتين الأولى في سورة الحاقة والثانية في سورة التكوير والمشهور عند سادتنا المفسرين أن آية الحاقة يراد منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآية التكوير يراد بها سيدنا جبريل - عليه السلام - والآيتان سُبقتا بالقسم ففي الحاقة {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} وفي التكوير {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}. وتأمل في سورة التكوير أقسم الله تعالى بالكواكب وبالليل والنهار، وفي الحاقة أقسم ربُّ العالمين بكل شيء {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39)} الليل والنهار، الدنيا والآخرة، الملك والملكوت، الخلق والخالق، ماذا بعدد يقال بعد ذلك.؟!! ولم يقسم ربُّنا - عز وجل - بعُمْرِ أحدٍ من خلقه إلا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}. والموضوع به كلام طويل لكن أختمه بلطيفة ذكرها الإمام ابن القيم. قال عليه سحائب الرحمة والرضوان ما نصه: فائدة: هل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أم الكعبة؟ قال ابن عقيل: "سألني سائل أيما أفضل حُجْرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الكعبة فقلت: إن أردتَ مجرد الحجرة فالكعبة أفضل وإن أردتَ وهو - صلى الله عليه وسلم - فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنة عدْنٍ ولا الأفلاك الدائرة لأنَّ بالْحُجْرة جسداً لو وُزن بالكونَين لرجح. اهـ (بدائع الفوائد. 3/ 135 - 136). (مصحح النسخة الإلكترونية).

قوله: (أي ليس من عادة المؤمنين).

العبارة، والذي أقوله إن كتاب الله تعالى المبين لا مرية فيه وفيه (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) و (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) وغير ذلك مما القرآن طافح به وبتعظيمه - صلى الله عليه وسلم -، وأنا واحد الناس كل ما أنا فيه من خير أمور الدنيا والآخرة من الله تعالى بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم أن الله سبحانه تعبدني بذلك، (ومقام جبريل) صلى الله عليه وسلم مقام عظيم قُوانا وعلومنا تقصر عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أكثر منا، فما لنا وللدخول في هذا المكان الضيق ولم يكلفنا الله تعالى بذلك، فحسب امرئ إذا لم يعرف تفضيل الملك على البشر ولا البشر على الملك أن يتأدب ويقف عند حده، ويعظم كلاً منهما بما يجب له من التعظيم، ويكف لسانه وقلبه عن فضول لا يعنيه ولم يكلف به، ويقدر في نفسه أنَّ هذين المخلوقين العظيمين حاضران وهو بين أيديهما ضئيل حقير والله تعالى رابعهم وهو عالم بما تخفي الصدور. اهـ قوله: (أي ليس من عادة المؤمنين). قال الطَّيبي: نفي العادة مستفاد من نفي فعل المستقبل، والمراد به الاستمرار، على نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم. اهـ وقال الشيخ سعد الدين: حمله على نفي الاستمرار، ولو حمله على استمرار النفي كما في أكثر المواضع أي عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد. اهـ قوله: (شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه). قال الطَّيبي: أما الشهادة فمن وضع الظاهر موضع المضمر، أو إرادة الجنس بالمتقين فيدخلون فيه دخولاً أولياً، وأما العدة فإن مقتضى العلم بعد ذكر أعمال العباد خيراً أو شراً إما الوعد بالثواب أو الوعيد بالعقاب. اهـ قوله: (وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا).

قوله: (ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة).

أوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا. الخليط: المخالط، والإنجراد: المضي في الأمر. قوله: (ولا سرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة). قال الطَّيبي: يعني أنه من الاستعارة التبعية، شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنمائم بسرعة سير الركائب ثم استعير لها الإيضاع وهو إسراع البعير، وأصل الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامهما لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب. اهـ قال الشيخ سعد الدين: ولو قدر: ولأوضعوا النمائم، على أنَّها استعارة مكنية والإيضاع تخييل لكفى. اهـ قوله: (أي أن الفتنة هى التى سقطوا فيها -إلى قوله- لا ما احترزوا عنه). قال الطَّيبي: التخصيص يفيده معنى تقديم الظرف على عامله، والتحقيق من تصدير الجملة بأداة التنبيه فإنَّها تدل على تحقيق ما بعدها. اهـ تم بفضل الله إلى نهاية الآية التاسعة والأربعين من سورة التوبة

§1/1