نواسخ القرآن = ناسخ القرآن ومنسوخه ت المليباري
ابن الجوزي
شكر وتقدير
بسم الله الرحمن الرحيم شكر وتقدير الحمد لله وحده حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه ومن تمسك برشده. أما بعد، فيقول الله تعالى في محكم تنزيله: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 1. ويقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" 2. فبناء على هذين المبدأين العظيمين يطيب لي أن أتقدم بجزيل الشكر وفائق الاحترام إلى فضيلة الشيخ عبد المحسن حمد العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية سابقاً، الذي أشرف على بحثي حوالي ثمانية أشهر، فتعاون معي في اختيار الموضوع والحصول على النسخ المخطوطة من الكتاب، وأرشدني إلى القيام برحلة علمية إلى بعض البلدان العربية كي أتزود لبحثي، فجزاه الله وتقبل منه، وشكر سعيه.
كما أتقدم بخالص شكري وامتناني وعظيم تقديري وثنائي إلى فضيلة العلامة الدكتور أحمد إبراهيم مهنا، حفظه الله، المشرف المباشر على رسالتي إلى نهاية المطاف، فأعطاني من علمه الجزيل، وخلقه النبيل، وتوجيهاته الدقيقة وإرشاداته القيّمة الشيء الكثير ووهبني أوقاته النفيسة بدون تقييد زمان ومكان، فبذل قصارى جهده بكل إخلاص بإعادة النظر في كل ما أكتب لكي تخرج هذه الرسالة على أكمل وجه سليمة قيّمة يعم نفعها على الباحثين والدارسين، فجزاه الله أحسن ما يجزي به عباده المخلصين وتقبل منه جهده وإخلاصه ووهب له مزيداً من التوفيق، وأطال عمره في خدمة دينه. كذلك أتوجه بالشكر الجزيل والثناء الحسن للشيخ العلامة حماد بن محمّد الأنصاري الذي كان يفيض عليّ من كنوز معلوماته ومن نوادر كتبه ومخطوطاته ما أسد به ثغوراً كثيرةً من ثنايا بحثي. فتقبل الله منه وشكر الله سعيه وإخلاصه. كما أتوجه بالدعاء الخالص لسماحة الشيخ الدكتور مصطفى زيد رحمه الله المدرّس بالدراسات العليا سابقاً، وصاحب كتاب (النسخ في القرآن الكريم) الذي شجعني إلى اختيار هذا الموضوع وأفادني كثيراً خلال تدريسه، فغفر الله له وجعل جهده الخالص صديق خير له في مرقده ومأواه إلى يوم الدين.
وأخيراً أتوجه بالشكر وفائق الاحترام والتقدير إلى جميع الإخوة الذين ساعدوني وتعاونوا معي على إنجاز بحثي وأداء مهمتي بخدماتهم الخالصة من موظفي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورّة، وبخاصة موظفوا الدارسات العليا. والله أسأل أن يتقبل من الجميع خدماتهم وتعاونهم وأن يوفقهم للعمل الدائب المستمر في التعاون على البرّ والتقوى، وهو حسبنا ونعم الوكيل. محمّد أشرف عليّ المليباري
مقدمة التحقيق
مقدّمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً. والصلاة والسلام على رسوله المبيّن للناس ما نزل إليهم، وعلى آله وصحبه الذين اتخذوا سبيله شرعة ومنهاجاً. أما بعد، فإن القرآن الكريم هو أعظم رسالة سماوية وأعلاها مكانة، وأجلّها معجزة، وأكملها نظاماً ومنهجاً، وقد تولى الله سبحانه وتعالى حفظه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. وكان هذا الوعد الإلهي مزيّة للقرآن الكريم من بين الكتب السماوية، حيث بدلت تلك وحرفت، والقرآن ما زال ولم يزل أهله يحفظونه في صدورهم ومصاحفهم، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار وينفذونه جيلاً بعد جيل، في حياتهم الفردية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، بل وفي جميع جوانب الحياة البشرية، ويتفرغ عبر القرون ثلة من خيارهم لدراسته وتفسيره واستنباط أحكامه، ومعرفة ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، والاعتبار بدعوته وقصصه، ووعظه وإرشاداته، بل ولأجل هذا الكلام المعجز يتوسعون في
العلوم والفنون الأخرى كي يتمتعوا ببلاغته وفصاحته، وإعجازه، ولكي يظهروا الفرق الشاسع بين كلام الخالق والخلق، فما من سورة من سوره ولا آية من آياته ولا كلمة من كلماته إلا ويدور حولها بحث بألسنة الباحثين والمؤلفين وأقلامهم. وقد شرف الله بهذا الكلام المعجز للعالم محمّداً خاتم النبيين وجعله مبيّناً لما أجمل فيه وشارحاً ما يحتاج إلى الشرح بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1 وجعل عبء مسؤوليته وثقل رسالته من بعده على عاتق أمته وكاهل علمائها، وهم الوارثون رسالته حيث يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 2. فكان كل فرد من مخلصي هذه الأمة وعلمائها يتنافس مع غيره في أخذ نصيبه من الميراث، ويسابق الآخرين للاشتراك في أداء الرسالة، وكان العلامة المحقق والفهامة المدقق فريد عصره ووحيد دهره جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن الجوزي القرشي، رحمه الله رحمة واسعة، واحداً منهم، فقد جاهد في سبيل الله بلسانه وقلمه وألّف في شتى الفنون حوالي (380) كتاباً حسب ما وصل إليه العلم، ومعظم مؤلفاته كانت مهملة تأكلها الأرضة والتراب. وكان من بينها كتاب لطيف فريد في نوعه (نواسخ القرآن) وها هو اليوم بعون الله وتوفيقه يظهر من عالم
المخطوطات ليكون في متناول الدارسين والباحثين، وذلك لأوّل مرة بعد غيابه حوالي ثمانية قرون عرضة للعث والأرضة، فلله الحمد والمنة.
أهمية الموضوع: إن موضوع هذا الكتاب الذي بين يديك، وهو (نواسخ القرآن)، أو (الناسخ والمنسوخ في القرآن) من أهم الموضوعات وأجلّها قدراً في شريعتنا الغراء، لأن مدار الدين كتاب الله سبحانه وتعالى، فما ثبت فيه محكماً غير منسوخ نفذناه، وعملنا به، وما كان منسوخاً منه لم نعمل به ومعرفة ذلك مهمة كبيرة ومسؤولية عظيمة، وهي في نفس الوقت شاقة جداً لا يستطيع الإنسان الحكم فيها بعقله وتفكيره مهما كان ولا يمكن ذلك إلا بنقل صحيح ثابت عن صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، ولا مجال للعقل أو الاجتهاد فيها، كما لا يجوز للإنسان أن يتصرف في مثل هذا الموضوع الحساس، بآرائه البحتة غير مستند إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أقوال الصحابة المحكية عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، بسند صحيح ثابت خال من الجرح والعلة. لذا، كان السلف الصالح يرى معرفة الناسخ والمنسوخ شرطاً في أهلية المفسر للتفسير والمحدث للحديث، وقد كان أمير المؤمنين عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ الله بن عمر، وعبد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهم، لا يرضون لأحد أن يتحدث في الدين إلا إذا كان عارفاً بالناسخ والمنسوخ من القرآن1. وقد جاء في الأثر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما بأنه كان
يفسر قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً} 1 بأن الحكمة معرفة ناسخ القرآن وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وحلاله وحرامه وأمثاله2. يقول يحيى بن أكثم التميمي رحمه الله، وهو أحد عظماء السلف المتوفى سنة: 242هـ: "ليس من العلوم كلّها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلمين، وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه، لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً والعمل به واجب لازم ديانة، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه، فالواجب على كلّ عالم، علم ذلك لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمراً لم يوجبه الله، أو يضع عنهم فرضاً أوجبه الله"3. ويقول الإمام ابن حزم الظاهري المتوفى سنة: 556هـ: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين، لأن الله عزوجل، يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ
بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 2. فكل ما أنزل الله في القرآن، وعلى لسان نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض اتباعه. فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ، فقد أوجب أن لا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف إلى أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل…"3. ويقول ابن الحصار عليّ بن محمّد الأنصاري المتوفى سنة: (611هـ) 4: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أو عن صحابي يقول آية كذا نسخت كذا. قال: وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صحيح ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع الحكم، وإثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد. قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول،
ومن متساهل: يكتفى فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما) 1. ولعلنا بهذا نكون قد اطلعنا على سورة صادقة عن خطورة هذا الموضوع وعلى مدى اهتمام العلماء به سلفاً وخلفاً. ويأتي من بعدهم عالم معاصر وهو الشيخ عبد العظيم الزرقاني فيلخص ما ذكره العلماء في أهمية هذا الموضوع في كتابه مناهل العرفان، فيقول: أوّلاً - هذا الموضوع كثير التعاريج متشعب المسالك طويل الذيل. ثانياً - هو مثار خلاف شديد بين العلماء الأصوليين القدامى والمحدثين. ثالثا - أن أعداء الإسلام كالملاحدة والمستشرقين والمبشرين قد اتخذوا من النسخ أسلحة مسمومة طعنوا بها في صدر الدين الحنيف، ونالوا من قدسية القرآن واجتهدوا في إقامة الحجج البراقة ونشروا شبهاتهم ونالوا من مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم من المسلمين فجحدوا وقوع النسخ. رابعاً - أن إثبات النسخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله تعالى في تربية الخلق وسياسته
للبشر وابتلائه للناس بتحديد الأحكام مما يدلّ بوضوح على أن مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النبيّ الأميّ، لا يمكن أن يكون مصدراً لمثل هذا القرآن، إنما هو تنزيل من حكيم حميد. خامساً - بمعرفة ذلك يهتدي الإنسان إلى صحيح الأحكام وينجو عن نسخ ما ليس بمنسوخ حين لا يجد التعارض بين الآيتين، لذا اعتنى السلف بهذه الناحية يحذقونها ويلفتون أنظار الناس إليها ويحملونهم عليها. انتهى بتصرف1. المؤلفون في هذا العلم قديماً وحديثاً: سبق أن قلنا، إن علماءنا الأجلاء قد أعطوا اهتماماً بارزاً لموضوع النسخ، ويظهر ذلك من خلال مؤلفاتهم حيث لا نكاد نرى معظم مفسري القرآن إلا وقد اهتموا بموضوع النسخ وألفوا فيه. يقول الزركشي في البرهان عن علم النسخ: "والعلم به عظيم الشأن وقد صنف فيه جماعة كثيرون منهم: قتادة بن دعامة السدوسي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وهبة الله بن سلامة الضرير، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن الأنباري، ومكي وغيرهم"2.
ويورد الداودي في طبقات المفسرين أسماء أربعة وثلاثين كتاباً ألف في علم النسخ1 بيد أن معظم تلك الكتب مفقودة اليوم أو لم تظهر بعد من عالم المخطوطات. وأما المطبوعة منها فقليلة تعد بالأصابع. وقبل أن نتعرف عليها وعلى مؤلفيها علينا أن نقدر اشتراك الإمام الشافعيّ في هذا العلم حيث يعتبر هو (من أوّل من تكلم في موضوع النسخ، وهو وإن لم يؤلف كتاباً مستقلاً في الموضوع لكنه ناقش نسخ القرآن ضمن رسالته على منهج علمي وأثبت وقوعه وبيّن مدلوله مستدلاً من الكتاب والسنة) 2.
الكتب المطبوعة: - معرفة الناسخ والمنسوخ، للإمام محمّد ابن حزم (ليس هو ابن حزم الظاهري المعروف) إنما هو شخص آخر توفي قبله بمائة وست وثلاثين سنة1. وهو أنصاري أندلسي محدث، لكنه مع جلالة قدره لدى المحدثين فقد وجدناه في كتابه يسرف في القول بالنسخ من غير أن يستند إلى أي دليل نقلي أو عقلي، وقد بلغ عدد الآيات المنسوخة عنده، بآية السيف فقط مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة2. وكتابه هذا مطبوع بمصر على هامش تفسير (تنوير المقباس) المنسوب إلى ابن عباس سنة: (1380هـ) كما طبع أيضاً على هامش (تفسير الجلالين) ولم يؤرخ. 2 - كتاب الناسخ والمنسوخ، للإمام أبي جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس المرادي النحوي المتوفى سنة: (338هـ) 3 هذا الكتاب يعتبر من أفضل ما وصل إلينا من الكتب المتقدمة في علم النسخ وقد أجاد مؤلفه،
رحمه الله، في عرض الآيات الناسخة والمنسوخة حيث أثبت ما ادعى فيه النسخ وعكسه بذكر الأسانيد غالياً، ويقوم بترجيح دعوى النسخ أو الإحكام حينًا، وهو كثير ويقف موقف المحايد حينًا آخر. وذلك إذا وجد ما يرجح إحدى الطرفين أو يؤيد كليهما. ويورد ابن الجوزي في هذا الكتاب نقولاً كثيرة من كلام النحاس يعضد بها رأيه ويؤكد بها أحكام الآية، طبع هذا الكتاب بمصر سنة: 1323هـ. 3 - الناسخ والمنسوخ، للإمام هبة الله بن سلامة الضرير المتوفى سنة: (410هـ) 1، وهو مع شهرته لدى المفسرين ومكانته في أوساط العلماء، نراه يسلك مسلك ابن حزم في معالجة قضايا النسخ حيث أورد في كتابه مائة وأربع عشرة آية منسوخة بآية السيف، كما ذكر من الآيات التي ادعى فيها النسخ مائتين وأربعًا وثلاثين آية في خمس وستين سورة ولم يورد الأدلة والآثار إلا نادرًا، ولو أورد لا يذكر لها إسنادًا ولكنه ذكر في آخر كتابه أهم مصادره، بأسانيدها ومعظم تلك الأسانيد لا يخلو من المطاعن، وهو مطبوع بمصر سنة: (1387هـ). 4 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، للإمام أبي محمّد مكي ابن أبي طالب القيسي رحمه الله، المتوفى سنة: (437هـ) 2 وكتابه
المذكور جليل القدر لا ينقص في الفضل عن كتاب النحاس، إلا أنه مع قيامه بمعالجة وقائع النسخ معالجة جدّيّة، لا يتعارض إلى ذكر الأسانيد بل يكتفي بعزو الآراء إلى القائلين بها، ويرجح حينًا ما يرتضيه من الآراء مؤيدًا وجهة نظره. وقد حقّق هذا الكتاب فضيلة الدكتور أحمد حسن فرحات، وطبع بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية سنة: 1396هـ. 5 - الموجز في الناسخ والمنسوخ، للحافظ المظفر بن الحسين بن زيد بن عليّ بن خزيمة الفارسي رحمه الله، هذا الكتاب مطبوع في آخر كتاب النحاس سنة: 1323هـ بمصر. ولا نرى فيه إلا سردًا للآيات الناسخة وعدًا للآيات المنسوخة بغض النظر عن الأدلة. فهو إذاً كنسخة أخرى لكتابي ابن حزم وابن سلامة لا يغني من جوع، مع أن مؤلّفه مجهول لم أجد له ترجمة إلا في غلاف الكتاب، ويقول في آخر كتابه: "أنه استخرج هذا الكتاب من خمسة وسبعين كتابًا من كتب الأئمة المقرئين، رحمة الله عليهم، المنقول عنهم بالأسانيد الصحيحة"1.
6 - الناسخ والمنسوخ، للإمام أبي عبد الله محمّد بن عبد الله الإسفرائيني العامري الشفعوي، رحمه الله، طبع هذا الكتاب في الأستانة، سنة: (1290هـ) وألحق مع لباب النقول للسيوطي، ومؤلفه لم أعثر على ترجمته بعد فيما راجعت من كتب التراجم ويوجد اسمه المذكور على غلاف الكتاب، وهو أيضًا يورد أقوال النسخ عن العلماء بدون إسناد ربما يذكر آثارًا ولم يسند1. هذه الكتب المتقدمة هي التي عثرت عليها مطبوعة حتى اليوم في علم النسخ في القرآن الكريم، وقد صدرت في الآونة الأخيرة عدة كتب في الموضوع، منها: - النسخ في القرآن الكريم، للدكتور مصطفى زيد، رحمه الله، الأستاذ في قسم التفسير بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية سابقًا، وهو كتاب جدير بالذكر والاهتمام، وقد تصدى فيه المؤلف لعرض الآيات المدعى عليها النسخ، وناقشها مناقشة جدية مفيدة مع ذكر الأدلة بالأسانيد، وقام برد وقائع النسخ التي لم تثبت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولم تنقل عن الصحابة بسند صحيح، وأبدى إثر كلّ آية وجهة نظره في دعوى النسخ حتى وصل إلى نهاية المطاف فعيّن بابًا خاصًا في وقائع النسخ في القرآن الثابتة بالأدلة الصحيحة وحصرها في ست آيات فقط2. ومنها:
- كتاب فتح المنان في نسخ القرآن، للشيخ عليّ حسن العريض مفتش الوعظ في الأزهر، وهو وإن لم يعالج الموضوع بشكل واسع وشامل إلا أنه عرض موضوع النسخ عرضًا تأريخيًا نقديًا ثم أورد في نهاية البحث بعض الآيات المدعى عليها النسخ فنقض معظمها لما يدعم رأيه مشيرًا بذلك إلى معظم ما ادعي فيه النسخ في القرآن دعوى بلا دليل1. ومنها كتاب (نظرية النسخ في الشرائع السماوية) لفضيلة الدكتور شعبان محمّد إسماعيل المدرس بجامعة الأزهر2. وقد عالج موضوع النسخ في كتابه كنظرية فقط، ولم يتعرض لمناقشة قضايا النسخ في آية أو حديث من حيث الوقوع أو عدمه بل اكتفى بعرض أقسام سور القرآن باعتبار وجود النسخ فيها ثم نقل عن الإمام السيوطي الآيات التي يراها منسوخة في الإتقان. وجاء في نهاية المطاف فعقد بابًا تحت عنوان: (الآيات التي نسختها آية السيف) فأورد فيه خمسين آية ادعى فيها النسخ ابن خزيمة الفارسي في كتابه الموجز في الناسخ والمنسوخ، السالف ذكره3 ولم يقم الدكتور شبعان بالمناقشة أو الاعتراض عليها بل تركها كقضية مسلمة لديه4.
ومنها: كتاب النسخ بين الإثبات والنفي، للدكتور محمّد محمود فرغلي، وهو يقع في مبحثين في مجلد واحد، يعالج فيه قضية النسخ من حيث الخلاف الحاصل بين المثبتين والنافين له ذاكرًا ما يثبت رأي كل مرجحًا ما يرجحه الدليل، بيد أنه لا يناقش وقائع النسخ من حيث وقوعه في آية ما أو عدم وقوعه1. ومنها: (النسخ في الشريعة الإسلامية كما أفهمه) للشيخ عبد المتعال الجبري، وقد تصدى فيه مؤلّفه - هداه الله - إلى إنكار جميع وقائع النسخ في الإسلام، وهو رسالة صغيرة الحجم، ومن أبرز عناوينه: 1 - لا منسوخ في القرآن، ولا نسخ في السنة المنزلة. 2 - أبدع تشريع قيل إنه منسوخ. يناقش فيه بعض وقائع النسخ فينقض وينكر وقوعه في القرآن زاعمًا: أن فيه نسبة للجهل لله سبحانه وتعالى هو منزه عن ذلك2 كأنه في ذلك أراد أ، يتبع مسلك أبي مسلم الأصفهاني3 - إن صح عنه ذلك
- حيث قيل: إنه كان يرى جواز النسخ عقلاً وينكر وقوعه سمعًا، وقد أورد جماعة خلاف أبي مسلم بأنه كان خلافًا لفظيًا فقط، فقال ابن دقيق العيد: "نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ، لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرفع، بل بمعنى أنه ينتهي بنص دلّ على انتهائه، فلا يكون نسخاً"1. وقد قام برد كل ما اقترحه الجبري في كتابه لإنكار النسخ، صاحب كتاب: (النسخ بين الإثبات والنفي) في خلال اثنتي عشرة صفحة وأجاد في ذلك فليرجع إليه من شاء2. وهناك بعض العلماء عالجوا وقائع النسخ بلا إفراط ولا تفريط، وذلك ضمن كتبهم المؤلَّفة في علوم القرآن. فمنهم: عالم القرن العاشر الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله، حيث اختصر الآيات المدعى عليها النسخ في كتابه الإتقان في علوم القرآن إلى ما يقارب عشرين آية، وأنشد: قد أكثر الناس في المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آيًا ليس تنحصر وهاك تحرير آي لا مزيد لها ... عشرين حررها الحذاق والكبر
فذكر تلك الآيات مع خلاف في بعضها1. ومنهم الشيخ أحمد شاه ولي الله الدهلوي شيخ الحديث في الهند في زمانه، وصاحب كتاب حجة الله البالغة، المتوفى سنة: 1179هـ فقد ألف كتابًا في علوم القرآن باسم (الفوز الكبير) وأنكر فيه على كل من يسرف بالقول في النسخ، ثم اختصر وقائع النسخ في القرآن في خمس آيات فقط مبينًا الأدلة ووجهة نظره، بعد أن أورد الآيات التي ذكرها السيوطي في الإتقان ضمن المنسوخة، ونقض منها ما يرى فيه النقض2. ومنهم محمّد عبد العظيم الزرقاني، صاحب كتاب (مناهل العرفان) حيث أورد في كتابه بعض وقائع النسخ التي اشتهرت أنها منسوخة، وهي حوالي اثنتين وعشرين واقعة، وقام بالترجيح منها حوالي تسع آيات فقط3. تلك هي الكتب المطبوعة المعروفة لدينا حتى اليوم في علم النسخ في القرآن، وهناك رسائل أخرى صدرت حديثًا تناقش موضوع النسخ ولا داعي لذكرها هنا؛ لأنها - كما يبدو حسب اطلاعي - لم تأت بشيء جديد في الموضوع إنما هي إعادة لما كتب وذكر مسبقًا. والله أعلم.
الكتب المخطوطة: أما الكتب المخطوطة في موضوع النسخ في القرآن فهي كثيرة، سأذكر منها ما عثرت عليها ووفقني الله للاطلاع عليها خلال رحلتي العلمية إلى بعض البلدان العربية، أو ما تأكدت من وجودها في المكتبات العالمية، بغية أن ينتفع بها الباحثون الذين يعملون لإحياء التراث الإسلامي. 1 - الناسخ والمنسوخ في كتاب الله، للإمام قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة: 117هـ1. سبق أن ذكرنا عن الزركشي بأن قتادة في مقدمة الذين ألفوا في الناسخ والمنسوخ في القرآن، وقد ذكر هبة الله بن سلامة أن كتاب قتادة من المصادر التي استمد منها كتابه وأن راوي كتاب قتادة عنه هو سعيد - يقصد سعيد بن أبي عروبة2 - . يوجد جزء من الكتاب المذكور في المكتبة الظاهرية تحت رقم: (7899) ورقة: (67) 3. 2 - الناسخ والمنسوخ، لعبد القاهر البغدادي المتوفى سنة: (429هـ) 4 وهو يقع في ثمانية وسبعين ورقة، يوجد له نسخة في
ميكروفيلم في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم: (265)، عمومية: (445)، كتب سنة: (612هـ) 1. 3 - الرسوخ في علم الناسخ والمنسوخ، لعبد القاهر بن طاهر بن محمّد البغدادي. يوجد منه نسخة بالجامع الكبير بصنعاء تحت رقم: (43 تفسير) ورقة: (28) ولعله مختصر لكتابه السابق ذكره2. 4 - الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه، لأبي عبد الله محمّد بن بركات بن هلال السعيدي المتوفى سنة: (520هـ) 3 وقد ذكر فيه أنه روى هذا الكتاب عنه أبو القاسم هبة الله بن عليّ بن مسعود المتوفى سنة: (598هـ) وجدت هذا الكتاب في الخزانة التيمورية التابعة لدار الكتب المصرية في ميكروفيلم يبلغ عدد أوراقها (25) وقد صورت منه نسخة
لنفسي عام: 1398هـ وهو يقع في الخزانة تحت رقم: (1015 تفسير) 1. 5 - كتاب ناسخ القرآن، لشرف الدين عبد الرحيم الحموي المعروف بابن البازي المتوفى سنة: 738هـ يقول في مقدمة كتابه إنه جمع فيه جميع الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن - ويوجد له نسخة في المكتبة الظاهرية تحت رقم: 5881) مكتوبة بالحبر الأحمر2. 6 - ناسخ القرآن ومنسوخه، لعليّ بن شهاب الدين حسن بن محمّد الحسيني الهمداني المتوفى سنة: (789هـ) هو رسالة مقتصرة تقع في المكتبة الظاهرية تحت: (4425) كتبت سنة: (907هـ) بقلم تاج الدين محمّد بن زهرة الحلبي3. 7 - جواب الناجي عن الناسخ والمنسوخ، للشيخ برهان الدين الناجي، المتوفى سنة: (900هـ) يوجد منه نسخة في الخزانة التيمورية التابعة لدار الكتب المصرية تحت رقم مجامع (207) كتبت سنة: (1316هـ) 4.
8 - قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ في القرآن، للشيخ مرعى ابن يوسف بن قدامة المتوفى سنة: (1033هـ) وله عدة نسخ: (أ) بخزانة دار الكتب في القاهرة تحت رقم: (13051ب)، أوراقها (139) 1. (ب) الخزانة العامة للكتب والوثائق في المغرب تحت رقم: (1882د) 2. (ج) مكتبة جامع الأزهر تحت رقم: (58) كتبت سنة: (1022هـ) 3. (د) في الخزانة التيمورية تحت رقم: (586) 4. 9 - فوائد قلائد المرجان وموارد منسوخ القرآن، للشيخ مرعى ابن يوسف الكرمي، أيضًا يوجد منه نسخة في الخزانة التيمورية تحت رقم: (المجامع 106) عدد صفحاتها: (205) 5.
10 - إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ والمتشابه من القرآن، للشيخ عطية الله البرهاني الشافعي، فقيه فاضل من أهل أجهور، تعلم وتوفي بالقاهرة سنة: (1190هـ)، يوجد لكتابه نسخة مخطوطة في الخزانة التيمورية تحت رقم: (42) تفسير1. 11 - الناسخ والمنسوخ، للإمام القاضي أبي عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عليّ العامري، منه نسخة في المكتبة الأزهرية تحت رقم: (المجامع 736) ورقة (27) 2. 12 - الناسخ والمنسوخ في القرآن عن ابن شهاب الزهري، تأليف أبي عبد الرحمن الحسين بن محمّد، منه نسخة كتبت في القرن السابع تقريبًا، بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم: (264) وفي دار الكتب المصرية تحت رقم: (1084) تفسير3. 13 - التبيان للناسخ والمنسوخ، لعبد الله بن حمزة بن النجم الصعدي منه نسخة بالجامع الكبير بصنعاء، كتبت سنة: (1350هـ) عدد أوراقها: (19) يقع تحت رقم: (4) أصول الفقه4.
14 - صفوة الراسخ في علم المنسوخ، للشيخ شمس الدين محمّد ابن أحمد بن أحمد الحسين الموصلي يوجد منه نسخة في الخزانة التيمورية ضمن مجموعة رقم: (737/ 225 تفسير)، عدد صفحاتها: (129) 1. 15 - عمدة البيان في زبدة نواسخ القرآن، للشيخ محمّد الرشيدي، يوجد منه نسخة في الخزانة التيمورية تحت رقم: (127) كتب بخط مؤلِّفه سنة: (1291هـ) 2. 16 - البيان في الناسخ، للشيخ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي النجم، توجد نسخة منه بالجامع الكبير بصنعاء كتبت سنة: (1048هـ) عدد أوراقها: (20) يقع تحت رقم: (76) 3. 17 - وقد عثرت على كتاب صغير الحجم كبير الفائدة باسم مختصر عمدة الراسخ، وهو لمؤلفنا العلامة ابن الجوزي، سوف أذكره إن شاء الله عند ذكر أوصاف النسخ المخطوطة لغلبة ظني أنه مختصر لكتابنا هذا. وهناك رسائل أخرى مخطوطة في النسخ لم يعلم مؤلفوها، فعلى الرغم من وجود هذه الكتب العديدة، فأنا لا أريد أن أقف عندها وقفة الدارسين، لأن معظم هذه الكتب التي وفقني الله للاطلاع عليها، امتداد
للاتجاه الذي بدأه ابن حزم الأنصاري وهبة الله بن سلامة في كتابيهما. وأما كتاب قتادة - وهو الأقدم منها إطلاقًا - فلم يصل إلينا منه إلا جزء قليل، كما صرح بذلك فهرس المكتبة الظاهرية، إلا أن كتاب عبد القاهر البغدادي، امتاز كثيرًا عن غيره، حيث يعالج موضوع النسخ على منهاج جديد ومفيد، غير أنه مثل مكيّ بن أبي طالب لا يذكر إسنادًا عند ذكر أقوال السلف، بل يكتفي بذكر أسمائهم وعزو الأقوال إليهم، وهو كتاب جدير بالدراسة في موضوعنا، وقد رشحه الدكتور مصطفى زيد لتحقيقه ونشره كما رشح كتابنا هذا لميزتهما على الكتب الأخرى1.
سبب اختياري لهذا الموضوع: في مستهلّ السنة الدراسية المنهجية للدراسات العليا كنت أبحث هنا وهناك كي أحصل على موضوع لرسالتي يكون له البروز اللامع في الأوساط العلمية وقد تم اختياري في أوّل الأمر على تحقيق كتاب (فضائل القرآن) لابن الضريس، ولكني رغم صدور موافقة المجلس على هذا الموضوع اضطررت بعد أن عملت فيه أكثر من سبعة أشهر إلى تغييره. وذلك لوجود نقص كبير في النسخة الموجودة لدى الجامعة الإسلامية، ولعدم الحصول على نسخة أخرى لها. وقد وقع اختياري بعد ذلك - بحمد الله - على تحقيق هذا الكتاب لما قدمنا من أهمية موضوع النسخ في القرآن الكريم وخطورته. وكان من أهم العوامل التي ساعدتني للتوصل إلى معرفة أهمية هذا الموضوع اختيار الجامعة الإسلامية موضوع النسخ كمادة مستقلة في منهج الدارسات العليا بقسم التفسير، فأتيحت لي بذلك فرصة ثمينة للاطلاع على كتب مفيدة في علم النسخ، والتوسع فيه فلم أر موضوعًا متشعب المسالك مترامي الأطراف تراكمت الاختلافات حوله من شتى الأديان كهذا الموضوع، حتى المسلمون أنفسهم قديمًا وحديثًا يختلفون فيه، فمن منكر مفرط ومن مثبت مسرف ومن مقتصد بينهما. ومن هنا، وقع في ذهني أن يكون لي شأن مذكور في هذا الموضوع، وكنت أذكر دائمًا ثناء شيخنا الفاضل الدكتور مصطفى زيد
على كتابي عبد القادر البغدادي وابن الجوزي - كما ذكرت آنفًا - وكان يشجعنا على العمل والبحث فيهما لميزتهما على كتب النسخ الأخرى في الصناعة والمنهج فتم اختياري بفضل الله على هذا الكتاب بغية أن يعم النفع وتكثر الفائدة في مجال العلم، إن شاء الله. علاوة على ذلك، فلم أجد أحدًا سبقني من خريجي الكلية إلى تحقيق كتاب من كتب النسخ في القرآن المتقدمة المخطوطة لنيل شهادة الماجستير، وأيضًا فإن هذا العلم مع كثرة تناول المؤلفين له جيلاً بعد جيل ما رأيت أحدًا سلك مسلك العلامة ابن الجوزي في الصناعة والردّ على المقدمين على كتاب الله بآرائهم الخالية عن الأدلة النقلية الصحيحة. ولقد نرى المؤلِّف ابن الجوزي رحمه الله، في هذا الكتاب برأ ذمّته، وأدّى مسؤوليته بإيراد الأسانيد على كل ما يقول وينقل، مؤدّيًا للعلم أمانته. فتمنيت أن ينشر هذا الكتاب النفيس ويظهر من وراء القرون إلى أيدي الطلبة والباحثين وينجو من الضياع تحت التراب. ثم إن إحياء التراث الإسلامي له دور كبير في نهضة العلم والعلماء في كل عصر، حيث نستطيع بذلك الوصول إلى الحقائق العلمية التي لم يعثر عليها جيلنا الحاضر بعد، كما نستطيع الاطلاع على النهضة العلمية
والثقافية التي كان المسلمون القدامى يتمتعون بها عبر الأجيال، فيكون ذلك نبراسًا لمستقبلنا الزاهر، لنصمد في العمل الدائب المستمر كما صمد أسلافنا. من أجل هذا كلِّه، أحببت أن يكون موضوع بحثي من أنفع الموضوعات وأشرفها وأحببت أن أتفرغ له تفرغًا كاملاً وأنقطع له عدة سنين. وبعد بحث دقيق لم يظهر لي شيء أنفع للمفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين من علم النسخ من حيث إنه يعتبر جزءًا أساسيًا لديهم، لكونه مدارًا لمعرفة الحلال والحرام والمحكم من المنسوخ، فهو كما أنه من أنفع الموضوعات فهو كذلك من أفضلها وأشرفها؛ لأن مادة (نواسخ القرآن) هي الآيات القرآن المنزلة على الصادق الوعد الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
ترجمة الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - هو: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن حمادي بن أحمد بن محمّد بن جعفر بن عبد الله ابن القاسم بن النضر بن القاسم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه القرشي التميمي البكري البغدادي الفقيه الحنبلي الحافظ المفسر الواعظ المؤرخ الأديب المعروف بابن الجوزي رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته1. مولده: ولد العلامة ابن الجوزي "بدرب حبيب" الواقعة في بغداد، واختلف في تأريخ ودلاته: قيل: سنة: 508، وقيل: سنة: 509، وقيل: سنة: 510 هجرية. والأرجح أنه ولد بعد العشرة كما يظهر ذلك في بعض مؤلَّفاته في الوعظ، حيث يقول: إنه بدأ التصنيف سنة: 528هـ، وله من العمر 17 سنة2. ولما قيل عنه أيضًا في ذيل تاريخ بغداد لابن النجار "أنه كان يقول: "لا أتحقق مولدي غير أنه مات والدي في سنة: 514هـ، وقالت الوالدة كان لك من العمر ثلاث سنين"3.
وعلى هذا تكون ولادته سنة: 511هـ، 1117م1. وكان أهله تجارًا في النحاس، ولهذا يوجد في بعض سماعاته القديمة: عبد الرحمن بن عليّ الجوزي الصفار2. نشأته: توفي والده عليّ بن محمّد وله من العمر ثلاث سنين، ولكن ذلك لم يؤثّر في نشأته نشأة صالحة، حيث أبدله الله عمته مربية مخلصة تعطيه كلّ عطفها وعنايتها وتسهر على خدمته وتعليمه، فهي حملته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر، فتلقى منه الرعاية التامة والتربية الحسنة حتى أسمعه الحديث3. وعلى الرغم من فراق والده في طفولته فقد ساعده في توجهه إلى طلب العلم وتفرغه لذلك ثروة أبيه الموسر، فقد ترك من الأموال الشيء الكثير، ولهذا نراه - رحمه الله - يكثر الكلام عن نفسه في أكثر من كتاب، فيبين أنه نشأ في النعيم، ويقول في صيد الخاطر:
"فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه، وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيت في ترف، فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى أثر معي مرضًا قطعني عن كثير من التعبد، حتى إني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن، فتناولت يومًا ما لا يصلح فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها، فقلت: إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات، إن تناوله لطاعة عظيمة، وإن مطعمًا يؤذي البدن فيفوّته فعل خير ينبغي أن يهجر، فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه"1. فلما بلغ ابن الجوزي رشده شعر بنفسه وبال الترف في طلب العلم، فقنع باليسير واستسهل الصعاب متحملاً كلّ الشدائد والمحن فهمته في طلب العلم أنسته كل الترف فانكب على طلب العلم - وهو ألذ من كلّ لذيذ - فيقول عن نفسه: "ولقد كنت في مرحلة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو. كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم"2.
قد عاش ابن الجوزي منذ طفولته ورعًا تقيًا زاهدًا، لا يحب مخالطة الناس خوفًا من ضياع الوقت، ووقوع الهفوات، فصان بذلك نفسه وروحه ووقته: يقول الإمام ابن كثير عند ترجمته له: "وكان - وهو صبي - ديّنًا منجمعاً على نفسه لا يخالط أحدًا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلاّ للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان"1. حبه للعزلة: وكان يحب العزلة تقديرًا لقيمة الوقت وابتعادًا عن الوقوع في اللهو. يقول في صيد الخاطر: "فليس في الدنيا أطيب عيشًا من منفرد عن العالم بالعلم، فهو أنيسه وجليسه، قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة، لا عن تكلف ولا تضييع دين، وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها، والتحف القناعة باليسير، إذا لم يقدر على الكثير بهذا الاستعفاف يسلم دينه ودنياه، واشتغاله بالعلم يدلّه على الفضائل ويفرجه عن البساتين، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة، ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم، فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتحبط"2.
ردّه على المتزهدين والمتصوفين: في موضع آخر من صيد الخاطر عين فصولاً للرد على العزلة العمياء والمتزهدين فيقول: "فكم فوتت العزلة علمًا يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بليته هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب"1. ويقول في ذم المتزهدين والصوفية العمياء: "وإني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة، وصار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم، فيقال: قال أبو طالب المكي: كان من السلف من يزن قوته بكربة فينقص كل يوم. وهذا شيء ما عرفه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولا أصحابه وإنما كانوا يأكلون دون الشبع. وما كانت سيرة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم. فقد كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك ويمزح ويختار المستحسنات ويسابق عائشة رضي الله عنها، وكان يأكل اللحم ويحب الحلوى ويستعذب الماء وعلى هذا كانت طريقة أصحابه، فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة، وكلها على غير الجادة"2.
مكانته وثناء العلماء عليه: لقد أعجب بشخصيته وجهده الجبار علماء أجلاء من بعده فمدحوه وأثنوا عليه. يقول ابن خلكان: "إنه كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وفي صناعة الوعظ صنف في فنون كثير" فعد بعض مؤلَّفاته، ثم قال: "وبالجملة فكتبه تكاد لا تعد، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا، والناس يغالون في ذلك حتى يقولوا إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خصّ كل يوم تسع كراريس"1. وكان ابن الجوزي كثير الاطلاع ومشغوفًا بالقراءة فقد حكى عن نفسه أنه طالع عشرين ألف مجلد أو أكثر، وهو ما يزال طالبًا2. يقول في صيد الخاطر: "سبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي تخلفت من المصنفات فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلوّ هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة، وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي به المقتدي ولا صحاب ورع فيستفيد منه
الزاهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم"1. فقد استطاع بهذا الاطلاع الواسع أن يتفوق على كثير من معاصريه في المشاركة في عديد من العلوم والفنون، فألف في التفسير والحديث والطب والوعظ وغيرها الشيء الكثير ويبدو أن ابن الجوزي كان ماهرًا في التفسير وفي التأريخ والوعظ ومتوسطًا في الفقه، وأما بالنسبة إلى متون الحديث فهو واسع الاطلاع فيها لكنه غير مصيب في الحكم على الصحيح والسقيم. يقول الذهبي عند ترجمة ابن الجوزي: "كان مبرزًا في التفسير والوعظ والتأريخ ومتوسطًا في المذهب وله في الحديث اطلاع تام على متونه، وأما الكلام على صحيحه وسقيمه فما له ذوق المحدثين ولا نقد الحفاظ المبرزين"2. وقال الذهبي في التأريخ الكبير: "لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه"3.
مدرسة ابن الجوزي: كان له دور كبير ومشاركة فعالة في الخدمات الاجتماعية، وقد بنى مدرسة بدرب دينار وأسس فيها مكتبة كبيرة ووقف عليها كتبه وكان يدرس أيضًا بعده مدارس بغداد1. قال الحافظ ابن الدبيثي عن ابن الجوزي: "كان من أحسن الناس كلامًا وأتمهم نظامًا وأعذبهم لسانًا، وأجودهم دينًا، وبورك في عمره وعمله، فروى الكثير، وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة وحدث بمصنفاته مرارًا"2. منزلة في الوعظ: لم يكن جهاده محصورًا في القلم والتأليف إنما كان له شأن عظيم وشهرة كبيرة في الوعظ والخطب والدعوة والإرشاد بين الخواص والعوام. يقول ابن كثير رحمه الله: "تفرد ابن الجوزي بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه، وفي طريقته وشكله وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعظه، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة بما يشهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك بحيث يجمع المعاني الكثير في الكلمة اليسيرة"3.
شجاعته في إظهار الحقّ: كان لا يخاف في الله لومة اللائم، وكان يحضر في وعظة الرؤساء والخلفاء، وقد التفت مرة إلى ناحية الخليفة المستضيء العبّاس، وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين إن تكلمت، خفت منك وإن سكتّ خفت عليك، وإن قول القائل لك: اتق الله، خير لك من قوله: لكم أنتم أهل البيت مغفور لكم… وأضاف قائلاً: لقد كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني من عامل ظلم فلم أغيره فأنا الظالم1. وهكذا دافع ابن الجوزي عن الحقّ بدون خوف لومة لائم وحارب البدع والمنكرات والتعصب في المذاهب والتقليد الأعمى، وقد كان يعترف بنجاحه في هذا المجال فيقول: "وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب، فأعانني الله عزوجل عليهم وكانت كلمتنا هي العليا"2. محنته في سبيل الحقّ: وقد امتحن ابن الجوزي رحمه الله، في آخر عمره، وذلك أن الوزير ابن يونس الحنبلي كان في ولايته قد عقد مجلسًا للركن عبد السلام ابن عبد الوهّاب بن عبد القادر الجيلي، وأحرقت كتبه. وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأي الأوائل شيء كثير، وذلك بمحضر ابن
الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير منه مدرسة جدّه وسلمها إلى ابن الجوزي. فلما ولى الوزارة ابن القصاب - وكان رافضيًا خبيثًا - سعى في القبض على ابن يونس وتتبع أصحابه، فقال الركن: أين أنت عن ابن الجوزي، فإنه ناصبي، ومن أولاد أبي بكر، فهو أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبه في مشورته؟ فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر - وكان الناصر له ميل إلى الشيعة - وكان يقصد إيذاء ابن الجوزي فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه وأهانه وختم على داره وشتت عياله، ثم أخذه في سفينة إلى واسط فحبس بها في بيت وبقي يغسل ثوبه ويطبخ، ودام على ذلك خمس سنين وما دخل فيها حمامًا1. فالمحنة بشتى أنواعها والصبر عليها والاستمرار على الوقوف في وجه الباطل والظلم والطاغوت من دأب العلماء العاملين والمجاهدين المخلصين. وقد رسم لنا العلامة ابن الجوزي من خلال حياته سلسة متصلة من الكفاح والجهل الطويل والربط بين العلم والعمل ربطًا وثيقًا. وقد عقد فصلاً مستقلاً في كتابه صيد الخاطر تحت عنوان: (العلماء العاملون) فمدح فيه من يستحق المدح من أقرانه، وذمّ من يستحق ذلك ثم قال: "فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر.
والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلسًا مع قوّة الحجة عليه"1. ما أخذ عليه: رغم وصوله إلى قمة العلم والمعرفة فقد أخذ العلماء عليه مآخذ هامة: أوّلاً- كان يميل إلى التأويل في بعض كلامه. يقول ابن رجب في الذيل: "اشتد إنكار العلماء عليه في ذلك، وكان مضطربًا في قضية التأويل رغم سعة اطلاعه على الأحاديث في هذا الباب فلم يكن خبيرًا بحل شبه المتكلمين، ويقول: كان أبو الفرج تابعًا لشيخه أبي الوفاء ابن عقيل في ذلك، وكان ابن عقيل بارعًا في علم الكلام ولكنه قليل الخبرة في الأحاديث والآثار لذا نراه مضطربًا في هذا الباب"2. نعم، قد نجد ما يثبت ميله إلى التأويل من ثنايا كتبه حيث ألّف كتابًا مستقلاً يناقش هذا الموضوع باسم (دفع شبه التشبيه) وهو
مطبوع أورد فيه بعض آيات قرآنية، وستين حديثًا ورد فيها الكلام عن ذات الله وصفاته صلى الله عليه وسلم، كالوجه، واليد، والنفس، والساق، والاستواء، فيؤوّلها بما يحتمل التأويل بخلاف ما ذهب إليه السلف من إمرارها كما وردت بدون تأويل ولا تشبيه، ولا تعطيل1. ونجد أيضًا في صيد الخاطر، ينقد نهج السلف فيقول: "… ولا أقوامًا قصرت علومهم فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعليل، ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا"2. وقد قام بالردّ على ما كتبه ابن الجوزي مائلاً إلى التأويل عالم معاصر له، وهو الشيخ إسحاق بن أحمد بن غانم العلثي3 حيث كتب
رسالة يردّ فيها على ابن الجوزي ردًّا عنيفًا طالبًا فيها العودة إلى الحقّ وإلى العقيدة السلفية وعلى ما كان عليه إمامه أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، حيث يقول فيها: "وإذا تأولت الصفات على اللغة وسوغته لنفسك وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس روحه، فلا يمكنك الانتساب بهذا، فاختر لنفسك مذهبًا حتى قال: فلقد استراح من خاف مقام ربّه وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم. فانتبه قبل الممات، وحسن القول العمل، فقد قرب الأجل لله الأمر من قبل ومن بعد ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم". ثانيًا - كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذره في هذا واضح وهو أنه كان مكثرًا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتعل بغيره وربما كتب في الوقت الواحد تصانيف عديدة ولولا ذلك لم تجتمع له هذه المصنفات الكثيرة.
سيجد القارئ مثالاً لذلك من ثنايا هذا الكتاب، حيث يذكر المؤلف في المقدمة أنه سيناقش وقائع النسخ ببيان صحة الصحيح وفساد الفاسد، ثم يأتي إلى قضايا النسخ فيوردها ببيان الخطأ أو الصواب تارة - وهو كثير - وتركه أخرى. وأمثال ذلك كثيرة، سأبيّنه في الخاتمة إن شاء الله. ثالثًا - ما يوجد في كلامه من الثناء على نفسه والترفع والتعاظم، وكثرة الدعاوى، ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه) كقوله في صيد الخاطر: "… ونظرت إلى علوّ همتي فرأيتها عجبًا" ويقول في موضع آخر: "خلقت لي همة عالية تطلب الغايات" وأمثال ذلك كثيرة. ولعل ما قدم للأمة من القدوة الصالحة والخدمة الخالصة التي لا مثيل لها، تغطي مساوئه، وترفع درجاته. لأن الحسنات يذهبن السيئات. والله واسع المغفرة والكرم وهو عليم بذات الصدور.
وفاته: بعد أن عاش رحمه الله داعيًا مرشدًا كاتبًا بارعًا زاهدًا مخلصًا، قرابة تسعين عامًا، انتقل إلى جوار ربّه ببغداد. وكانت وفاته ليلة الجمعة (12 رمضان 597هـ) بين العشائين، فغسل وقت السحر، واجتمع أهل بغداد وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيرًا جدًّا، وما وصل إلى حفرته إلا وقت صلاة الجمعة، والمؤذن يقول: "الله أكبر"، ودفن بباب حرب، بالقرب من مدفن الإمام أحمد بن حنبل وكان ينشد حال احتضاره يخاطب ربّه: يا كثير العفو عمن ... كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو ... الصفح عن جرم يديه أنا ضيف وجزاء ... الضيف إحسان إليه فرحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته ونفعنا بعلومه آمين1
شيوخه: وقد ألّف في مشيخته كتابًا خاصًا، ذكر فيه حوالي تسعة وثمانين شيخًا ونرى فيه حسن اختياره للمشايخ حيث تتلمذ على طائفة من خيرة أعلام عصره، ويذكر اهتمامه في اختيار أبرع وأفهم المشايخ في بداية كتابه المذكور، حيث قال: "حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر وأسمعني العوالي، وأثبت سماعاتي كلّها بخطّه، وأخذ لي إجازات منهم، فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم وأوثر من أرباب النقل أفهمهم، فكانت همتي تجويد المدد لا تكثير العدد". فمن مشايخه:
2 - أبو بكر محمّد بن الحسن بن عليّ بن إبراهيم المعروف بالمزرعي، قال ابن الجوزي إنه سمع منه وكان ثقة ثبتًا، عالمًا، حسن العقيدة، وسمع الحديث الكثير من ابن المهتدي، والصيريفيني وغيرهما. توفي رحمه الله سنة: (527هـ). 3 - أبو الحسن عليّ بن عبد الواحد الدينوري، يقول المؤلِّف: إنه سمع منه الفقه والحديث، والجدل، والخلاف، والأصول، وهو من أقدم شيوخه وكان يسكن باب البصرة من غربي بغداد. وتوفي في جمادى الآخرة سنة: (521هـ). 4 - أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي، قال ابن الجوزي: إنه سمع منه بقراءة شيخه الأوّل أبي الفضل بن ناصر عليه، وكان عبد الملك صالحًا صدوقًا، سمع جماعة كثيرة وخرج إلى مكة فجاورها. وتوفي في ذي الحجّة بعد رحيل الحجّ بثلاثة أيام سنة: (548هـ).
5 - أبو سعد أحمد بن محمّد بن الحسن بن عليّ البغدادي، يقول ابن الجوزي: إنه سمع منه بقراءة أبي الفضل بن ناصر عليه، وكان خيراً ثقة وأملى بمكة والمدينة وكان على طريقة السلف صحيح العقيدة حلو الشمائل مطرح التكلف. ولد بأصبهان ونشأ بها وتوفي بنهاوند سنة: (540هـ).
تلاميذه: كما اختار ابن الجوزي ثلة من خيرة أساطين علماء عصره، كذلك اختاره هو شيخًا، وأخذ العلم والحكمة على يده نخبة من الأفذاذ فورثوا بعده مقتدين بخطواته في التأليف والنصح والإخلاص، فمنهم: 1 - الحافظ عبد الغني عبد الواحد بن عليّ بن سرور. ولد في أرض نابلس سنة: (541هـ) سمع الحديث والعلوم من دمشق والموصل وهمدان، والإسكندرية، وكان حافظًا تقيًا ورعًا، وسمع من ابن الجوزي ببغداد، وألّف كتبًا عديدة، قال يوسف بن خليل: كان ثقة ثبتًا ديّنًا مأمونًا حسن التصنيف دائم الصيام. توفي بمصر سنة: (600هـ). 2 - يوسف بن فرغلي بن عبد الله، أبو المظفر الواعظ، سبط الإمام ابن الجوزي، روى عن جدّه ببغداد، وسمع أبا الفرج بن كليب وغيره، وسمع بالموصل ودمشق، وحدّث بها وبمصر وأعطى القبول، وصنف الكتب العديدة منها: كتاب مرآة الزمان في التأريخ، وشرح الجامع الكبير، واللوامع في أحاديث المختصر، وغيرها. أخذ العلم من ابن الجوزي في بغداد. وتوفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من ذي الحجّة سنة: (654هـ).
3 - أحمد بن عبد الدائم بن نعمة الكاتب المحدّث. ولد سنة: (575هـ) في نابلس، ودخل بغداد، وسمع بها ابن الجوزي وغيره، وسمع بدمشق وحران، وكان حسن الخلق والخلق، ديّنًا متواضعًا، وحدّث بالكثير بضعًا وخمسين سنة، وكتب ما لا يوصف كثرة من الكتب الكبار، متأثرًا بشيخه ابن الجوزي حتى صار هو شيخًا للأئمة الكبار، والحفاظ والمحدّثين، والفقهاء كالشيخ محي الدين النووي، وشيخ شمس الدين بن عمر، وشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ تقي الدين بن تيمية، وأمثالهم، رحمهم الله جميعًا. توفي أحمد بن عبد الدائم سنة: (668هـ).
مؤلَّفاته: لقد فارقنا جسمًا وروحًا ولكن ذكراه وثمرات جهده الجبار المرسومة على صفحات التاريخ لم تزل ولا تزال تحيي حياة طيبة، كما قال الشاعر: الجاهلون فماتوا قبل موتهم ... والعاملون وإن ماتوا فأحياء وقد أورد المؤرخون من بعده بكل غرابة وإعجاب مؤلّفاته الضخمة في كتبهم فيقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في (أجوبته المصرية): "كان الشيخ أبو الفرج مفتيًا كثير التصنيف والتأليف وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك ما لم أره". ويقول الحافظ الذهبي: "ما علمت أن أحدًا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل". ويصفه صاحب البداية والنهاية بأنه: "أحد أفراد العلماء برز في علوم كثيرة وانفرد بها عن غيره، ومجموع المصنفات الكبار والصغار نحوًا
من ثلاثمائة مصنف وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلد. وله في العلوم كلّها اليد الطولى، والمشاركات في جميع أنواعها؛ من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنجوم والطب والفقه. وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك كلّه ما يضيق هذا المكان عن تعدادها، وحصر أفرادها، منها: كتابه في التفسير المشهور بـ (زاد المسير) وله تفسير أبسط منه - أي أوسع - لكنه ليس بمشهور. وله جامع المسانيد استوعب غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب (المنتظم في تاريخ الأمم من العرب والعجم) في عشرين مجلدًا، (ويقول ابن كثير) ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار هو تاريخًا: ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدًا ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبًا وقد أورد ابن رجب عن القطيعي في تأريخه، ثبت التصانيف التي كتبها ابن الجوزي بخطّه فذكر فيه حوالي 199 كتابًا. ولا يتسع هذا المقام لذكر أسماء تلكم الكتب مفصلة، إنما أختار ما ألّفه في علم التفسير، وأكتفي في الباقي بالإحالة إلى كتاب الأستاذ عبد الحميد العلوجي العراقي الذي صدر قريبًا باسم (مؤلَّفات ابن الجوزي) وقد جمع فيه أسماء مؤلَّفات
ابن الجوزي في شتى الفنون، ورتبها على حروف المعجم مع ذكر ما طبع منها وأماكن وجود المخطوطة منها، وقد وصل عدد تلك الكتب عنده بأساميها المختلفة حوالي (376) كتابًا ما بين مطبوع ومخطوط. الكتب التي ألَّفها ابن الجوزي في علم التفسير: 1 - الأريب في تفسير الغريب، سيأتي ذكره في مقدمة المؤلِّف إن شاء الله. 2 - أسباب النزول، ذكره في كشف الظنون، وهدية العارفين. 3 - الإشارة إلى القراءة المختارة، ذكره ابن رجب. 4 - تذكرة المنتبه في عيون المشتبه، ذكره ابن رجب وحاجي خليفة. وقال إنه في القراءات. وقد أورد فيه المؤلِّف متشابه القرآن. 5 - تفسير الفاتحة. قال العلوجي: ذكر بروكلمان أنه يوجد منه نسخة في مكتبة داماد زادة، قاضي عسكر محمّد مراد بإستامبول تحت رقم: (63).
6 - التلخيص. قال العلوجي: "ذكره سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان مرتين. وقال: إنه في مجلد واحد. وأنه في علم التفسير". 7 - تيسير البيان في تفسير القرآن. وسيأتي ذكره في مقدمة المؤلّف باسم تيسير التبيان في علم القرآن. 8 - الرسوخ في علم الناسخ والمنسوخ. قال العلوجي: "يوجد قطعة منه ضمن مجموعة في الأمبروزيانا تحت رقم: (304د) ". 9 - زاد المسير في علم التفسير. سيأتي ذكره في مقدمة المؤلّف. 10 - غريب الغريب. ذكره ابن رجب، وفي هدية العارفين غريب العزيز. 11 - فنون الأفنان في علوم القرآن. ذكره ابن رجب بعنوان فنون الأفنان في عيون علوم القرآن. يوجد له نسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد. تحت رقم: (2412) ونسخة أخرى في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية تحت رقم: (222).
12 - كتاب السبعة في قراءات السبع. قال العلوجي: ذكره سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان. وقال: إنه أجزاء. 13 - كتاب في عجائب علوم القرآن. ذكر بروكلمان أن له نسخة مخطوطة في مكتبة غوطلبر، تحت رقم: (544). 14 - المجتبى في علوم القرآن. قال بروكلمان: "يوجد منه نسخة مخطوطة في دار الكتب الخديوية تحت رقم: 7/ 530، ودار الكتب المصرية تحت رقم: 5/ 325". 15 - المجتبى من المجتبي. وهو مختصر للمجتبى يوجد منه نسخ مخطوطة في دار الكتب المصرية مصوّرة من إستانبول تحت رقم: 5/ 325، و6، 188. 16 - مختصر فنون الأفنان في علوم القرآن. ذكر بروكلمان أن له نسخة في دار الكتب الخديوية تحت رقم: 7/ 530، ودار الكتب المصرية تحت رقم: 1/ 61، ونسخة أخرى في مكتبة (الغازي خروبك بسراجيفوا) في يوغوسلافيا ضمن مجموعة تحت رقم: (300).
17 - مختصر قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر. يوجد له نسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم: 2/ 36، (في مجموعة الجامع الأحمدي بطنطا) ونسخة أخرى (في مجموعة مكتبة طلعة) تحت رقم: 471 تفسير. 28 - المغني في تفسير القرآن. سيأتي ذكره في مقدمة المؤلّف. 19 - المنعش. ذكره حاجي خليفة وإسماعيل البغدادي. 20 - المنقبة في عيون المنبه. ذكره سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان. وقال: إنه أجزاء. 21 - المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ. ذكره ابن رجب ضمن ثبت المؤلّفات في علوم القرآن لابن الجوزي. يوجد له نسختان في مكتبة الأوقاف ببغداد (2397ز، و 2410)، وله نسخة أخرى في الخزانة التيمورية التابعة لدار الكتب المصرية، تحت عنوان مختصر عمدة الراسخ. وقد صوّرت منه نسخة لنفسي وتأكدت بالمقارنة بأنه كتاب المصفى، الموجود بمكتبة الأوقاف ببغداد. وهو يقع في الخزانة التيمورية تحت رقم: (148) تفسير.
22 - نواسخ القرآن، أو الناسخ والمنسوخ بالقرآن. وهو الكتاب الذي نحن بصدده. سيأتي ذكره مفصلاً عند ذكر وصف النسخ إن شاء الله. 23 - نزهة العيون النواظر في الوجوه والنظائر. ذكره ابن رجب وقال: إنه مجلد واحد. وذكره بروكلمان. وقال: يوجد منه نسخة في المكتبة العمومية بإستانبول تحت رقم: 498/ 9. 24 - ورد الأغصان في فنون الأفنان. وهو جزء. 25 - الوجوه النواضر في الوجوه والنظائر. ذكره ابن رجب. وقال إنه مجلد ومختصر لكتاب نزهة العيون النواظر المذكور سابقاً. وجعله ضمن ثبت مؤلّفات ابن الجوزي في علوم القرآن. وذكره حاجي خليفة. وقال: فيه وجوه الآيات المفسرة في مجلس الوعظ ونظائرها وفيه غنى عن كلّ كتاب صنف في ذلك. فهذه هي بعض مؤلّفاته وثمرات جهده الجبار. وتلك هي بعض ملامح ذلك الرجل الفذ الذي له ثقله ووزنه في ميزان العلم والعلماء حتى اليوم. وليس من الممكن أن أعطي لذلك البطل حقّه في هذه العجالة بعد أن أعجب به المؤرخون والباحثون، حتى ألّف عن شخصيته مؤلّفات عديدة. وقد ذكر لي الشيخ عبد الرحيم طحان الشامي أنه: يعد رسالة
لنيل شهادة الدكتوراة بجامعة الأزهر، في موضوع (ابن الجوزي ومنهجه في التفسير). وهكذا ما زالت بقايا آثاره ومصنفاته ميدانًا خصبًا للباحثين والدارسين يعبق أريجها ويعمّ نفعها على المسلمين.
نسبة الكتاب إلى ابن الجوزي: لقد ورد ذكر هذا الكتاب، في معظم كتب التراجم بأسماء مختلفة. فيذكر سبط ابن الجوزي، أبو الظفر الواعظ شمس الدين فرغلي في كتابه مرآة الزمان ضمن ثبت مصنفات جده ابن الجوزي، كتابًا، باسم (ناسخ القرآن ومنسوخه)، وكتابًا آخر باسم: (مختصر ناسخ القرآن ومنسوخه). وأما الذهبي، فيذكره في تأريخ الإسلام بعنوان: (الناسخ والمنسوخ) وبه قال الزركلي أيضًا في الإعلام. وأما ابن رجب فيورد في الذيل عن ابن القطيعي تلميذ ابن الجوزي، في تأريخه. قال: (ناولني ابن الجوزي كتابًا بخطّه…) فذكر له (199) كتابًا، من ضمنها (عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ) و (كتاب المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ). ومن ناحية أخرى، فقد وجدت في غلاف النسخة المدينة، اسم (نواسخ القرآن)، بينهما وجدت في غلاف النسخة الهندية، اسم:
(الناسخ والمنسوخ) ويذكره بروكلمان وعبد الحميد العلوجي، بهذين الاسمين، وأشار إلى حيث وجدتهما. فالكتاب إذن من حيث نسبته إلى المؤلِّف لا شبهة في ذلك، إنما الشبهة هل للمؤلّف ثلاثة كتب، ومختصران في الموضوع، أم هي أسماء استعملها النساخ لكتاب واحد ومختصره؟ والذي يظهر لي بعدما اطلعت على النسختين المدنية والهندية، وبعدما قارنت بينهما، أنهما كتاب واحد، كما تبين لي أيضًا أن مختصر عمدة الراسخ الذي صورّته من الخزانة التيمورية، وكتاب (المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ) الموجود في مكتبة الأوقاف ببغداد، أيضًا كتاب واحد. علاوة على ذلك، غلب على ظني، بعدما قارنت هذا المختصر مع نواسخ القرآن أن (عمدة الراسخ) هو اسم آخر لكتابنا هذا بدليل أنهما يتفقان مع نواسخ القرآن في التعبير والأسلوب والترتيب والمناقشة، وقد صرح المؤلِّف نفسه في مقدمته أنه مختصر لعمدة الراسخ، كما سبق ويؤكد هذا أيضًا ثبت مؤلّفات المؤلّف الذي كتبه بخطّه السابق ذكره، حيث لم نجد إلاّ عمدة الراسخ، ومختصره، والمصفى بأكف أهل الرسوخ
من علم الناسخ والمنسوخ، فالخلاصة كأنهم اختلفوا في عنوان الكتاب على أربعة أسماء: 1 - عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ. 2 - نواسخ القرآن. 3 - ناسخ القرآن ومنسوخه. 4 - الناسخ والمنسوخ. كما اختلفوا في عنوان مختصره على ثلاثة أسماء: 1 - المصفى بأكف أهل الرسوخ في علم الناسخ والمنسوخ. 2 - مختصر عمدة الراسخ. 3 - مختصر ناسخ القرآن ومنسوخه. أما القطعة الصغيرة الموجودة في مكتبة أنبروزيانا، السالف ذكرها باسم الرسوخ في (علم الناسخ والمنسوخ). فقد جعله العلوجي في علوم القرآن، ولم يتبين لي بعدما إذا كانت هي نفس كتاب (المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ)، أم هي في (علم الحديث) والله أعلم. ومما يؤكد ما قلته أيضًا، أن المؤلّف يعد الكتب التي ألّفها في علم التفسير في مقدمة هذا الكتاب، فلو كان له في النسخ غير هذا لأشار إليه. كما أن المؤلّف يحيل بعض القضايا إلى تفسيره زاد المسير لمن يريد التفصيل الأمر الذي يؤكد أيضًا نسبة هذا الكتاب إليه، حيث ثبتت نسبة زاد
المسير إليه بأسانيد وطرق متعددة. وسوف ترى مناقشات عديدة يذكرها المؤلف بنصّها في هذا الكتاب من زاد المسير. زيادة على هذه الشواهد الظاهرة لقد وجدت العلامة الشوكاني يروي هذا الكتاب بسند متصل إلى ابن الجوزي، في كتابه (إتحاف الأكابر)، فيقول الشيخ المفسر الشهير محمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني: (روى لنا كتاب (الناسخ والمنسوخ) السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن السيد أحمد بن محمّد الأهدل عن السيد يحيى بن عمر الأهدل عن السيد العلامة أبي بكر بن عليّ البطاح الأهدل عن الحافظ الديبج عن زين الدين الشرجي عن نفيس الدين العلوي عن أبيه عن أحمد بن أبي الخير الشماخي عن شيخه الشراجي عن محمّد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني عن عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد المعروف بابن الجوزي رحمه الله). فالكتاب إذن معروف لدى العلماء قديمًا وحديثًا، ولكنه لم يكن متداولاً بينهم إلا في الآونة الأخيرة حيث نقل عنه محققو كتاب (زاد المسير)، والدكتور مصطفى زيد في (النسخ في القرآن الكريم)، والدكتور شعبان محمّد في (نظرية النسخ في الشرائع السماوية)، وغيرهم من المعاصرين.
توجد هنا صورة من الورقة (2) من ((م))
وصف النسخ المخطوطة: يوجد لدينا من كتاب (نواسخ القرآن) نسختان مخطوطتان فقط فيما وصل إليه العلم: النسخة الأولى: في مكتبة (مدينة) الملحقة بمكتبة طبقبوسراي بتركيا، تحت عنوان: (نواسخ القرآن) برقم: (182/ 1)، قياس: 14 x 19، في 136 ورقة. في كلّ صفحة خمسة عشر سطرًا. يوجد على غلافها، أنها مكتوبة في القرن التاسع الهجري بقلم معتاد. وقد تبيّن لي بعد تكبير الفيلم، وبعد مقارنتها مع النسخة الثانية، سقوط ورقة من مقدمة الكتاب وورقة أخرى من وسط الكتاب، ووجود بياض في أربع صفحات. كما ظهر لي تكرار الصفحة الأولى بخط مختلف عن الخط الذي يستمر به الكتاب إلى النهاية، وسوف أشير إلى ذلك كلّه في الهوامش إن شاء الله. والجدير بالذكر، أنه يوجد في الورقة الأولى منها ختم للمكتبة المحمودية بالمدينة المنوّرة الأمر الذي يوحي بأنها أصلاً من المدينة المنورّة، ويؤكد هذا ما وجدته في مجلة (المجمع العلمي العربي) الصادرة بدمشق سنة: (1928م) في جزئها الثامن ص: 758، أن كتاب (نواسخ القرآن لابن الجوزي) يوجد في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورّة ضمن نوادر مخطوطاتها. وينقل ذلك أيضًا صاحب كتاب مؤلّفات ابن الجوزي عن بروكلمان (199) عند ذكر هذا الكتاب.
وقد قمت بتصوير هذه النسخة من معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بمصر خلال رحلتي العلمية عام: 1398هـ، وتجد هذه النسخة مكبرة اليوم في مكتبة قسم الدارسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورّة.
توجد هنا صورة من الورقة (1) من ((ك))
النسخة الثانية: وأما النسخة الثانية للكتاب فقد وجدناها في مكتبة خدابخش ببنكبور، الواقعة في ولاية يتنا، شمال شرق الهند وذلك تحت عنوان (الناسخ والمنسوخ) وتقع برقم: 18/ 1481، عدد أوراقها حسب ما كتب في فهرس المكتبة المذكورة (145) ثم بدا لي بعد تكبيرها وبعد المقارنة بينها وبين النسخة الأولى وجود نقص كبير في وسط الكتاب، حيث لم أجد في الميكروفيلم إلا (91) ورقة فقط وإنما كان هذا النقص من النساخ، لا من المصورين، بدليل أن بداية النقص كانت في وسط الصفحة حيث توجد العبارات التي لا صلة بينها متلاصقة في سطر واحد. وسوف أشير إلى أماكن النقص في الهوامش إن شاء الله. وذكر في فهرس مكتبة خدابخش أن هذه النسخة مكتوبة في القرن الثاني عشر من الهجرة تقريباً وقياسها 4 x 6.05 سم و 5 x 8.05 سم في كل صفحة 19 سطراً وكتابتها جيدة، ولكن الفيلم كان رديئاً جداً لذا تجد معظم أوراقها إما مسودة أو ساقطة العبارات أو ممسوحة غير واضحة. وتجد هذه النسخة مكبرة اليوم في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة. وقد قامت الجامعة بتصويرها، من نسختها الأصلية بالهند عام 1397. ويقول عبد الحميد العلوجي نقلاً عن بروكلمان
(199) أن هناك نسخة أخرى لهذا الكتاب في خزانة المرحوم مصطفى بن محمود العمري بالموصل ببغداد، ولكن مع الأسف بعد جهد طويل وبحث شاق في جميع المكتبات ببغداد، بل وبعد الوصول إلى عقر دار الوارثين لمكتبة مصطفى محمود العمري، لم أتمكن من الحصول عليها كما لم أتمكن من التأكد من وجودها أو عدمها، من إجاباتهم المترددة. وقد أغناني الله بفضله بالنسختين الموجودتين، حيث كانت تغطي كل منهما نقص الأخرى ومساوئها غالباً. وأما مختصر عمدة الراسخ الذي تكرر ذكره سابقاً، فهو يقع في حجم صغير تبلغ أوراقه (14) فقط، وقد سقطت من الفيلم الورقة الرابعة وفي كل ورقة (33) سطراً ما عدا الورقة الأخيرة ففيها (19) سطراً. وكان من حسن الحظ الحصول على هذا الكتاب القيم الذي يغلب على ظني أنه مختصر لكتابنا هذا. يقول المؤلف في مقدمته: "أما بعد: حمداً لله ذي العز الرفيع الشامخ، والصلاة على رسوله محمد ذي القدر المنيع الباذغ، فهذا حاصل التحقيق في علم المنسوخ والناسخ، وقد بالغت في اختصار لفظه لأحثّ الراغبين على حفظه، فالتفت أيها الطالب لهذا العلم إليه وأعرض عن جنسه تعويلاً عليه، فإن أنكرت زيادة بسط واخترت الاستظهار بقوة احتجاج أو ملت إلى
إسناد فعليك بالكتاب الذي اختصر هذا منه وهو كتاب عمدة الراسخ". وقد استعنت بهذا الكتاب المختصر كثيراً في تصحيح الكلمات وتقويم العبارات وتحديد موقف المؤلف من دعوى النسخ في كل آية وردت فيه فلله الحمد. الأصل في التحقيق ورمز النسختين: وقد تبيّن لنا مما ذكر في أوصاف النسختين: أن أقدم وأوضح وأكمل النسختين الموجودتين لدينا هي النسخة الأولى المكتوب عليها (نواسخ القرآن) كما تبيّن لنا أيضاً أنها أصلاً وابتداء كانت في المدينة المنورّة، فبناء على هذا وذاك جعلتها أصلاً وأساساً في التحقيق، كما اخترت ما عليها عنواناً للكتاب، لما فيه من التصريح بكلمة القرآن فيؤمن من الالتباس بين الناسخ والمنسوخ في الحديث، والناسخ والمنسوخ في القرآن. وكذلك جعلت رمز هذه النسخة (م) مشيرًا إلى أنها مدنية، ورمز النسخة الثانية (هـ) مشيرًا إلى أنها هندية.
منهج المؤلِّف وأسلوبه: ابن الجوزي رحمه الله يسلك في هذا الكتاب مسلكًا جديدًا لمعالجة قضايا النسخ. وهو وإن كان موافقًا لأسلافه في عرض الآيات حسب ترتيب القرآن كابن حزم وابن سلامة، إلا أنّه يمتاز عنهم كثيرًا في سوق الآراء وعزوها إليهم حيث لا يكتفي بذكر القيل والقال ولا بعزو الأقوال، إنما ينقل كلّ ما أثر عن السلف بسند متصل منه إليهم، حتى كاد أن يكون كتابه موسوعة لكلّ كتاب صنف قبله في موضوعه. فيروي عن معظم المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم وعن شيوخ المذاهب الفقهية، وأئمتها وعن كبار المحدّثين، والمفسرين بالمأثور. فقد وصل هذا الكتاب إلى درجة أنه يمكن الاستغناء به عن كثير مما صنف في موضوعه. وقد بدأ المؤلِّف بمقدمة رائعة يقرر فيها أن العلم عبارة عن التحقيق والتدقيق بالاجتهاد والاستنباط من الأدلة الصحيحة الثابتة، وليس مجرد نقول بتقليد السابقين تقليدًا أعمى، ولا عزو الآراء إلى كلّ من قال وروى. وبعد ذلك يهاجم المؤلِّفين في علم النسخ الذين لم يعنوا في معالجة قضايا النسخ بالأدلة الصحيحة الثابتة، فملؤوا كتبهم بالآراء الفاسدة. ثم يصف ما جاء بالكتاب بأنه إنقاذ لكلام الله من أباطيل هؤلاء الجهلة ويأتي بعده بفصل كبيان لمنهجه في الكتاب، فيقول:
"وقد قدمت أبوابًا قبل الشروع في بيان الآيات وهي كالقواعد والأصول للكتاب" فذكر ثمانية أبواب، وفي الباب الأوّل خمسة فصول، وفي الباب الخامس فصلان. ويذكر ضمن منهجه أنه أعرض عن ذكر الآيات التي ادُّعِيَ عليها النسخ بدون أي دليل عقلي أو نقلي، فذكر لذلك أمثلة من الآيات، لكن التزامه بعدم إيراد أمثال هذه الآية ليس على إطلاقه، بدليل أنه يقول في نهاية بيان منهجه "فقد ذكرت مما يقاربه طرفاً لأنبه بمذكوره عن مغفله" ولو أردت أن أمثل لذلك لطال الكلام أكثر من اللازم، والأمثلة كثيرة سيجدها القارئ مبثوثة في ثنايا الكتاب، إن شاء الله. وقد عقد المؤلِّف فصلاً ثالثاً قبل أن يشرع في الأبواب الثمانية يعيد فيه سبب تأليفه للكتاب، فيقول: "ولما رأيت المصنفين في هذا العلم قد تباينوا فمنهم من أطال بما لا حاجة لمثل هذا التصنيف إليه، ومنهم من قلد القائلين ولم يحكم على الاختلاف ببيان الصواب، ومنهم من نقص بحذف ما يحتاج إليه، أنبئك بهذا الكتاب متوسطاً"، ويختم المقدمة بالباب الثامن، يورد فيه السُّوَرِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مبدياً فيه موقفه الشديد ضد كل من يدعي النسخ في آية محكمة بدون بصيرة وعلم وبدون استناد إلى أدلة ثابتة حيث يقول: "زعم بعض المفسرين ... " فعد
تلك السورة المزعومة عليها النسخ، ويقول: "إن بيان التَّحْقِيقَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ يُظْهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَصْرَ تَخْرِيفٌ مِنَ الذين حصروه، والله الموفق". بعد هذه المقدمة المفيدة يستعرض ابن الجوزي حوالي مائتين وسبع وأربعين واقعة من الوقائع التي ادعى فيها النسخ، في اثنتين وستين سورة، ويعقد لكل سورة باباً مستقلاً، ما عدا سورة الكهف وعبس والتكوير فلم يبوب لها، لكون دعوى النسخ في سورة الكهف في غاية الضعف، ولكون مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سورتي عبس والتكوير مُشابهاً لما في سورة الدهر السابقة. أما قضايا النسخ في هذا الكتاب، فهي وإن كانت كثيرة -لم يصح عند ابن الجوزي منها إلا ما يعد بالأصابع وبقية الوقائع إما أن يردها بالحجج ويثبت الإحكام - وهي كثيرة - وإما أن يقف موقف المحايد مكتفياً بما أورده من أقوال وأدلة تشهد لكل قول. ونحصر ذلك كله في الخاتمة التي تلي الكتاب إن شاء الله.
شدته في الرد على خصمه: نرى المؤلف ابن الجوزي رحمه الله، قويًّا شديداً في الرد على خصمه حين يخطئ ويذكر من المنسوخ ما ليس منه، فيقول: مثلاً - في سورة مريم عند ذكر آية {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (39) "زَعَمَ بَعْضُ الْمُغَفَّلِينَ مِنْ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الإِنْذَارَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السيف"، ثم يأتي في النهاية ويقول: "وَهَذَا تَلاعُبٌ مِنْ هَؤُلاءِ بِالْقُرْآنِ" ويقول في الآية التالية: "زعم ذلك الجاهل" ثم يقنعهم بالأدلة لعدم صلاحية أمثال هذه الآية للنسخ ويقول: "فَسُبْحَانَ مَنْ قَدَّرَ وُجُودَ قَوْمٍ جُهَّالٍ يَتَلاعَبُونَ بِالْكَلامِ فِي الْقُرْآنِ ويدعون نسخ ما ليس بمنسوخ كل ذلك سوء فهم، نعوذ بالله منه". وأمثال ذلك كثير جداً في الوقائع التي لا يقول بنسخها. ما التزمه المؤلِّف في مقدمة الكتاب: وقد التزم في مقدمة الكتاب بأنه يرتب كلّ آية حسب ترتيب القرآن، كما التزم أيضاً تصحيح وقائع النسخ إن كانت صحيحة، وتبين الباطل إن كانت باطلة واختصار الأسانيد خوفاً من الملل. ولكن هل أخذ نفسه بما التزمه في كتابه كلّه؟ أم التزمه حيناً وانحرف عنه حيناً آخر؟ سوف يظهر لنا ذلك في نتائج البحث وتقويم الكتاب في نهاية البحث إن شاء الله.
ما استخدم من الرموز: نجد ابن الجوزي في النسختين يختصر في الكتابة على: ثنا، وهو قليل، وأبنا، وبنا، وهما كثيران. وبنى، لم أجده إلا في مكان واحد. فالأول - رمز لحدثنا مقبول متبع لدى المحدثين قديمًا وحديثًا. والثاني - رمز لأخبرنا، بحذف الخاء والراء، وقد فعله البيهقي وطائفة من المحدثين، قال عنه ابن الصلاح: "وليس هذا بحسن". وقال السخاوي عن كلام ابن الصلاح: "وكأنه فيما يظهر للخوف من أشباهها بأنبأنا، وإن لم يصطلحوا على اختصار أنبأنا كما نشاهده من كثيرين". وأما الثالث والرابع - بتقديم الباء ثم النون فلم أقف على أحد من المحدثين المتقدمين رمزوا بذلك ولو جعلناها اختصاراً لأنبأنا، أو نبأنا، أو أنبأني أو نبأني فهو شاذ غير متبع لدى أهل الحديث. ويمكن القول أن هذه الرموز لم يستخدمها ابن الجوزي، إنما كان ذلك من النساخ بدليل أننا نجد الناسخين يختلفان في استخدامها أثناء
الكتابة. فهذا يقول: أبنا، وهذا يقول بنا، ولم أشر إلى ذلك في الهامش لكثرتها، وإنما التزمت فيها ما يكتبه الناسخ للمدنية.
عملي في التحقيق: 1 - قارنت بين نسختي الكتاب مشيراً إلى ما في كلّ نسخة من الزيادات أو النقص ولم أكتف في إخراج النص كاملاً غير ناقص، بالنسختين فحسب، إنما بذلت أقصى جهدي في كلّ قضية بل في كلّ سطر وكلمة في المراجعة في كتابي المؤلِّف: (زاد المسير) و (مختصر عمدة الراسخ المخطوط)، لما فيهما من توافق في العبارات والكلمات غالبًا مع كتابنا هذا. فالأوّل مصنف قبل هذا الكتاب كما أشار إليه المؤلِّف في مقدمة هذا الكتاب، والثاني مصنف بعده، كما هو ظاهر. فإذا لم تغط النقص كتبه رجعت إلى مصادر أخرى من كتب التفسير أو الحديث أو النسخ أو الأصول، وفي مقدمتها: تفسير الإمام الجليل ابن جرير الطبري رحمه الله، لما فيه من كثرة الطرق في الآثار الواردة في موضوع النسخ. 2 - قد وجدت في (م) عبارات عديدة كان قد تركها الناسخ سهوًا ثم تذكر وأضافها في الهامش مشيرًا إلى أماكن سقوطها، فكتبتها في متن الكتاب بعد تأكد مكان السقوط بالمقارنة أو السياق، وذلك بدون أدنى إشارة في الهامش. 3 - عزوت الآيات القرآنية الواردة في الكتاب. 4 - إذا وجدت المؤلِّف يكتب بقراءة غير مشهورة بينت قارئها.
5 - رقمت كلّ سورة حسب ترتيب المؤلِّف لكي يسهل على الباحث الوصول إليها. 6 - رقمت الأبواب الواردة في المقدمة. 7 - خرجت الأحاديث الواردة في الكتاب من الكتب المعتمدة في السنة مع ذكر ما يراه العلماء من الصحة والضعف متى أمكن، مشيرًا إلى الكتاب والجزء والصفحة. فإذا كان الحديث مخرجًا في الصحيحين وعند غيرهما اكتفيت بذكر الجزء والصفحات فيهما فقط. 8 - خرجت الآثار الواردة في الكتاب عن الصحابة أو التابعين أو المفسرين، من كتب السنة متى أمكن، أو من كتب التفسير المعتبرة كتفسير جامع البيان، وتفسير أبي حاتم، وتفسير ابن كثير، وتفسير الدر المنثور، وغيرها، أو من كتب النسخ المعتمدة المتقدمة ككتاب الناسخ والمنسوخ للنحاس، وكتاب الإيضاح لمكي بن أبي طالب، وكتاب الناسخ والمنسوخ لعبد القاهر البغدادي وغيرها. 9 - التزمت في معظم الآيات تحديد رأي المؤلِّف عن النسخ بالمقارنة بين كتابيه التفسير ومختصر عمدة الراسخ، إذا وجدت ذلك مع بيان موقف علماء النسخ والتفسير في القضية نسخًا وإحكامًا. 10 - حررت عزو أقوال العلماء من المصادر الموثوقة.
11 - ترجمت كلّ صحابي وصحابية، وكلّ من برز في علم التفسير، وكلّ من يقدم المؤلِّف له رأيًا في الكتاب وقت تقديمه، سواء في علم التفسير أو غيره، كما قمت بترجمة كلّ شيخ مباشر للمؤلِّف عند ورود أسمائهم مشيرًا إلى مصادر ترجمتهم كتابًا وجزءًا وصفحة أو رقم الترجمة إذا رقمت. 12 - قومت العبارات المخالفة لقواعد النحو بطريقة صحيحة متمشية معها. 13 - شرحت المفردات الغريبة من كتب اللغة. 14 - صححت الأخطاء الإملائية التي وجدتها في النسختين: حيث كان يكتب الناسخ المدني مثلاً: خطأ ... صواب - ... - ادعى ... ادعاء استثنى ... استثناء طايفة ... طائفة، وأمثال ذلك كثير وكان يكتب الناسخ الهندي مثلاً: بينها ولاء ... يبن هؤلاء سما ... سماء جز ... جزاء، وأمثال ذلك كثير
15 - الرموز والمصطلحات المستعملة في التحقيق: سبق أن أشرنا إلى أن (م) إشارة إلى النسخة المدنية و (هـ) إشارة إلى النسخة الهندية، وهناك أقواس واصطلاحات أخرى استخدمتها خلال التحقيق، وهي كالتالي: أ- (): للقرآن الكريم والأحاديث النّبويّة. ب-[]: للسقوط في إحدى النسختين إما لوجود سواد أو بياض أولم أجد للعبارة الساقطة فراغاً أصلاً. ج = =: اخترت هذين الخطين المزدوجين إذا أضفت عبارة - كانت ساقطة من النساخ- حسبما أجد من المصادر الموثوقة الأخرى سواء للمؤلِّف أو لغيره، أو أضفتها من عندي نظراً لما يتطلبه المعنى الصحيح، أو أضفت التسليم على الأنبياء، أو الترضية على الصحابة حين لم أجدهما في كلتا النسختين. د- (): لعدم الوضوح في إحدى النسختين أوكليهما، أو لتكرار العبارة. هـ- اقتصرت عند عدم الالتباس في ذكر أسماء الكتب كالتالي: في ناسخه: لكلّ من ألف في النسخ وتكرر ذكر كتابه وأمن اللبس. الإيضاح: للإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكيّ بن أبي طالب.
المنتظم: للمنتظم في تأريخ الملوك والأمم لابن الجوزي. الفتح: فتح الباري شرح البخاري للحافظ ابن حجر. التهذيب: لتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر. التقريب: لتقريب التهذيب للحافظ ابن حجر. الذيل: للذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب. الإتقان: للإتقان في علوم القرآن للسيوطي. 16 - ختمت الكتاب بخاتمة وجيزة تتضمن ما يلي: (أ) نتائج البحث وثماره. (ب) وقائع النسخ عند ابن الجوزي. (ج) تقويم الكتاب. 17 - وضعت فهارس علمية تساعد الباحث على الاستفادة من الكتاب، وهي تشمل: أ- فهرس الآيات القرآنية: روعي فيه أن يكون جامعاً لجميع الآيات المدعى عليها النسخ الواردة في الكتاب، موافقًا لترتيبها في المصحف مع وضع رقم الصفحة أمام كل آية. ب- فهرس الموضوعات الواردة في مقدمة التحقيق وفي مقدمة المؤلف. ج- فهرس الأعلام المترجمة في الهامش وفي مقدمة التحقيق: روعي فيه أن يكون مرتباً حسب الحروف الهجائية مع وضع رقم الصفحة
أمام كل اسم. د- قائمة المراجع: روعي فيها ذكر جميع المصادر والمراجع التي استفدت خلال بحثي ونقلت منها، مطبوعاً ومخطوطاً، على ترتيب حروف الهجاء، مع الإشارة إلى أماكن طبعها، وتاريخ الطبع إذا وجد، أو الإشارة إلى أماكن وجودها إذا كانت مخطوطة. وبهذا، نأتي إلى كتاب إمامنا الجليل، نتمتع بعلومه وننتفع بجهوده حيث أفرغ جهده كله طيلة حياته ذوداً عن الدين وحماية لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مكر الطغاة وجهل الجاهلين. وسوف نذكر إن شاء الله في نهاية الكتاب نتائج التحقيق وثمرة جهدي المتواضع لكي يستغني القارئ والباحث عن كثير من الكتب في الموضوع بهذا الكتاب القيم والتراث الثمين، والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به نفسي وأناساً أخلصوا قلوبهم لله، فما أصبت في عملي فمن الله وحده، وما أخطأت فأسأل الله العفو والمغفرة، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
مقدمة المؤلف
تحقيق كتاب نواسخ القرآن مقدّمة المؤلِّف بسم الله الرحمن الرحيم حدثنا1 الشيخ الإمام العالم الأوحد شيخ الإسلام وحبر الأمة قدوة الأئمة سيد العلماء، جمال الدين أبوالفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي2 قدس الله روحه، ونور ضريحه. قال: الحمد لله على التوفيق، والشكر لله على التحقيق، وأشهد أن لا إله إلا هو شهادة سالك من الدليل أوضح طريق، ومنزه له عما لا يجوز ولا يليق. وصلى الله على أشرف فصيح، وأطرف3 منطيق، محمّد أرفق نبي بأمته وألطف شفيق4، وعلى أصحابه، وأزواجه وأتباعه إلى يوم الجمع والتفريق، وسلم تسليمًا كثيراً. أما بعد:
فإن نفع العلم بدرايته لا بوراثته1 وبمعرفة أغواره2 لا بروايته3 وأصل الفساد الداخل على عموم العلماء تقليد سابقيهم، وتسليم الأمر إلى معظميهم، من غير بحث عما صنفوه ولا طلب للدليل عما ألفوه. وإني رأيت كثيراً من المتقدمين على كتاب الله عزوجل بآرائهم الفاسدة، وقد دسوا في تصانيفهم للتفسير أحاديث باطلة وتبعهم على ذلك مقلدوهم، فشاع ذلك وانتشر، فرأيت العناية بتهذيب علم التفسير عن الأغاليط من اللازم. وقد ألفت كتاباً كبيراً سميته بـ: (المغني في التفسير) 4 يكفي عن جنسه، وألفت كتاباً متوسط الحجم مقنعاً في ذلك العلم سميته (زاد
المسير) 1 وجمعت كتاباً دونه سميته بـ: (تيسير التبيان في علم القرآن) 2 واخترت فيه الأصوب من الأقوال ليصلح للحفظ، واختصرته بتذكرة الأريب في تفسير الغريب3، وأرجو أن تغني هذه المجموعات عن كتب التفسير مع كونها مهذبة عن خللها سليمة من زللها.
فصل1: [ثم إني رأيت الذين وقع منهم التفسير صحيحاً قد صدر عنهم ما هو أفظع فآلمني] 2 وهو الكلام في الناسخ والمنسوخ، فإنهم أقدموا) 3 على هذا العلم فتكلموا فيه، وصنفوه، وقالوا بنسخ [ما ليس] بمنسوخ، ومعلوم أن نسخ الشيء، رفع حكمه وإطلاق القول [برفع حكم آية] لم يرفع جرأة عظيمة. ومن نظر في كتاب الناسخ والمنسوخ للسدي4 رأى من (التخلط) العجائب، ومن قرأ في كتاب هبة الله المفسر5 رأى العظائم.
وقد تداوله1 الناس لاختصاره، ولم (يفهموا) دقائق أسراره فرأيت كشف هذه الغمة عن الأمة ببيان إيضاح الصحيح، وهتك ستر2 القبيح، متعيناً على من أنعم الله عليه بالرسوخ في العلم وأطلعه على أسرار النقل، واستلب زمامه من أيدي التقليد فسلمه إلى يد3 الدليل فلا يهوله قول معظم، فكيف بكلام جاهل مبرسم4.
فصل: و [قد] قدمت أبواباً قبل الشروع في بيان الآيات هي كالقواعد والأصول للكتاب ثم أتيت بالآيات المدعى عليها النسخ [على ترتيب القرآن إلا أني أعرضت عن ذكر آيات أدعي عليها النسخ] [من] حكاية لا تحصل إلا تضييع الزمان أفحش تضييع كقول السدي: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} 1 نسخها {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} 2 وقوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} 3 نسخها {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} 4وقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} 5. [نسخها {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}] 6 وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} 7 نسخها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ] مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [} 8 وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} 9 نسخها {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 10 في نظائر
كثيرة لهذه الآيات"1. لا أدري أي الأخلاط الغالبة حملته على هذا التخليط. فلما كان مثل هذا ظاهر الفساد، وريت2 (عنه غيرةً) 3 على الزمان أن يضيع، وإن كنت قد ذكرت مما يقاربه طرفاً، لأنبه. بمذكوره على (مغفله) 4.
فصل: ولما رأيت المصنفين في هذا العلم، قد تباينوا، فمنهم من أطال بما لا حاجة بمثل هذا التصنيف إليه، ومنهمِ من قلد [القائلين] ولم يحكم على الاختلاف ببيان [الصواب، منهم] من نقص بحذف ما يحتاج إليه أتيتك بهذا الكتاب متوسطاً، وحذفت كثيراً من الأسانيد الطرق خوف الملل والله ولي التوفيق1.
الباب الأول: باب [بيان] جواز النسخ والفرق بينه وبين البداء
الباب الأول: بَابُ [بَيَانِ] جَوَازِ النَّسْخِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَاءِ 1 اتَّفَقَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الأُمَمِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلا وَشَرْعًا وَانْقَسَمَ الْيَهُودُ فِي ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَقْسَامٍ: فَالْقِسْمُ الأَوَّلُ: قَالُوا: لا يَجُوزُ عَقْلا وَلا شَرْعًا، وَزَعَمُوا أَنَّ النسخ هو عين البداء2.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: 1 قَالُوا: يَجُوزُ عَقْلا وَإِنَّمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ زعموا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، (قَالَ) 2 إِنَّ شَرِيعَتَهُ لا تُنْسَخُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّ3 ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ قَالَ: لا يَجُوزُ النَّسْخُ إِلا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ (أَنَّهُ) 4 يَجُوزُ نَسْخُ عِبَادَةٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا بِمَا هُوَ أَثْقَلُ عَلَى سَبِيلِ الْعُقُوبَةِ لا غَيْرَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: 5 قَالُوا: يَجُوزُ شَرْعًا لا عَقْلا، وَاخْتَلَفَ هَؤُلاءِ فِي عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لم يكونا نبيين لأنهما
(لَمْ يَأْتِيَا بِمُعْجِزَةٍ، وَإِنَّمَا أَتَيَا بِمَا) 1 هُوَ مِنْ جِنْسِ (الشَّعْوَذَةِ) 2. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَا نَبِيَّيْنِ صَادِقَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لَمْ يُبْعَثَا بِنَسْخِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَلا بُعِثَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا بُعِثَا إلى العرب والأميين3.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلا، فَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ (لا يَخْلُو) أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ الْمُكَلِّفِ أَوْ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ، فَلا [يُمْتَنَعُ أَنْ يُرِيدَ] تَكْلِيفَ الْعِبَادِ عِبَادَةً فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ثُمَّ يَرْفَعَهَا وَيَأْمُرَ بِغَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ [الثَّانِي] فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ لِلْعِبَادِ فِي فِعْلِ عِبَادَةِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ [وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ جَازَ] فِي الْعَقْلِ تَكْلِيفُ عِبَادَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ كَصَوْمِ يَوْمٍ، وَهَذَا تَكْلِيفٌ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ زَمَانٍ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْقِلُ مِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السُّقْمِ [ثُمَّ] قَدْ رَتَّبَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصَالِحِ [وله] الحكم1.
فَصْلٌ: وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ شرعاً، أنه قد ثَبَتَ أَنَّ مِنْ دِينِ آدَمَ [عَلَيْهِ السَّلامُ] وَطَائِفَةٍ مِنْ أَوْلادِهِ، جَوَازُ نِكَاحِ الأَخَوَاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ1 وَالْعَمَلِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى2 وكذلك
(الشُّحُومُ) 1 كَانَتْ مُبَاحَةً ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي دِينِ مُوسَى، فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فَقَدْ خَالَفُوا فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: لا يَجُوزُ النَّسْخُ إِلا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ2 فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ النَّسْخَ فِي الْجُمْلَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلرِّفْقِ بِالْمُكَلَّفِ، كَمَا جَازَ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا (دَعْوَى مَنِ ادَّعَى) 3 أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أَخْبَرَ أَنَّ شَرِيعَتَهُ لا تُنْسَخُ فَمُحَالٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ الرَّاوُنْدِيِّ4 عَلَمَّهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَنَّ مُوسَى قَالَ: لا نَبِيَّ بَعْدِي. وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ قَوْلُهُمْ لَمَا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى [لا يصدق] بالمعجزة
مَنْ كَذَّبَ مُوسَى فَإِنْ أَنْكَرُوا مُعْجِزَةَ عِيسَى لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فِي مُعْجِزَةِ مُوسَى، فَإِنِ اعْتَرَفُوا بِبَعْضِ مُعْجِزَاتِهِ، لَزِمَهُمْ تَكْذِيبُ مَنْ نَقَلَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ (لِأَنَّهُ قَالَ: لا نَبِيَّ بَعْدِي [وَمِمَّا] يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّ الْيَهُودَ مَا كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَكَانَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّجْمِ عَمَلا بِمَا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى1 [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَهَلا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَلَوِ احْتَجُّوا لَشَاعَ نَقْلُ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ ابْتُدِعَ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ من قال: [إن عيسى و] محمداً = عَلَيْهِمَا السَّلامُ = كَانَا نَبِيَّيْنِ لَكِنَّهُمَا لَمْ يُبْعَثَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَغْفِيلٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ فَقَدْ أَقَرَّ بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لا يَكْذِبُ، وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يُخَاطِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً" 2 وَيُكَاتِبُ مُلُوكَ الأعاجم3.
فَصْلٌ: فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ والبداء، فذلك من وجهين: أحدهما: أَنَّ النَّسْخَ (تَغْيِيرُ) 1 عِبَادَةٍ أَمَرَ بِهَا الْمُكَلِّفُ، وَقَدْ عَلِمَ الْآمِرُ حِينَ الأَمْرِ أَنَّ (لِتَكْلِيفِ) 2 الْمُكَلَّفِ بِهَا غَايَةً يَنْتَهِي الإِيجاب (إِلَيْهَا) 3 ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِنَسْخِهَا. وَالْبَدَاءُ (أَنْ ينتقل الأمر عن ما أمر بِهِ) 4 وَأَرَادَهُ دَائِمًا بِأَمْرِ حَادِثٍ لا بِعِلْمٍ سَابِقٍ5. وَالثَّانِي: أَنَّ (سَبَبَ) 6 النَّسْخِ لا يُوجِبُ إِفْسَادَ الْمُوجِبِ لِصِحَّةِ الْخِطَابِ الأَوَّلِ، وَالْبَدَاءُ يَكُونُ (سَبَبُهُ) 7 دَالًّا عَلَى إِفْسَادِ الْمُوجِبِ، لِصِحَّةِ الأَمْرِ الأَوَّلِ، مِثْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَمَلٍ يَقْصِدُ بِهِ مطلوباً فيتبين أن
الْمَطْلُوبَ لا يَحْصُلُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ (فَيَبْدُوَ) 1 لَهُ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، وَكِلا الأَمْرَيْنِ يَدُلُّ عَلَى قصور في العلم والحق عزوجل منزه عن ذلك.
الباب الثاني: باب [إثبات] أن في القرآن منسوخا
الْبَابُ الثَّانِي: بَابُ [إِثْبَاتِ] 1 أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ [عَلَى] 2 هَذَا إِلا أَنَّهُ قَدْ شَذَّ مَنْ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ3 أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ. وَهَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُقِرُّونَ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا نَصَّ الْكِتَابِ، وَإِجْمَاعَ الأُمَّةِ قَالَ الله عزوجل: {مَا نَنْسَخْ [4 مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} 5.
وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ1 قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ، قال: بنا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَشْهَلِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ2 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما3 في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 4 قال:
فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ1 قَالَ ابْنُ] أبي [2 داود: وحد] ثنا [3 يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ =4 ابْنِ عَبَّاسٍ= رضي الله عنهما: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ} 1 وَيَقُولُ: يُبَدِّلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ] فَيْنَسَخُهُ وَيُثْبِتُ [2 مَا يَشَاءُ فَلا يُبَدِّلُهُ،] وَمَا يُبَدِّلُ [3 وَمَا يُثْبِتُ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي كتاب4. قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ5 عَنْ عِكْرِمَةَ6 فِي قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ} 1 قَالَ: يَنْسَخُ الْآيَةَ بِالْآيَةِ فَتُرْفَعُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، أَصْلُ الْكِتَابِ2 قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وَمُصْعَبُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مُوسَى بْنِ عبيدة عن محمّد ابن كعب3 في قوله عزوجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ4 قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى، قال: حدثنا أبي، قالت: بنا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ جَمِيعًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين5 {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 6 يرفعه، ويثبت
مَا يَشَاءُ فَيَدَعُهُ مُقِرًّا لَهُ قال: وحدثنا موسى بن هرون، قال حدثنا الحسين قال: بنا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} 1 قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ النَّاسِخُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ2 قَالَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ معمر: قال: بنا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ علي ابن عَفَّانَ 3 عَنْ عَامِرِ بْنِ الْفُرَاتِ عن أسباط4 عن السدي {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 5 مَا يَشَاءُ مِنَ الْمَنْسُوخِ وَيُثْبِتُ مِنَ النَّاسِخِ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا ... {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} 6 قَالَ: ... لَمْ تُنْسَخْ7 وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ8 عَنِ الضحاك، قال: المحكمات الناسخ9.
أخبرنا إسماعيل] ابن [1 أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ2 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رضي الله عنه3 قال:
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ 1 عَنِ الصَّحَابَةِ] 2 قَالَ: الْمُتَشَابِهُ مَا قَدْ نُسِخَ، وَالْمُحْكَمَاتُ مَا لَمْ يُنْسَخْ3. وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّهُ عَنْهُ: 4 "أُبَيٌّ5 أَعْلَمُنَا بِالْمَنْسُوخِ"6.
الباب الثالث: باب بيان حقيقة النسخ
الْبَابُ الثَّالِثُ: بَابُ بَيَانِ حَقِيقَةِ النَّسْخِ النَّسْخُ فِي اللُّغَةِ عَلَى معنيين: أحدهما: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا رَفَعَتْ ظِلَّ الْغَدَاةِ بِطُلُوعِهَا وَخَلَفَهُ ضَوْؤُهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} 1. وَالثَّانِي: تَصْوِيرٌ مِثْلَ الْمَكْتُوبِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، (يَقُولُونَ) 2 نَسَخْتُ الْكِتَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3. وَإِذَا أُطْلِقَ النَّسْخُ فِي الشَّرِيعَةِ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الأَوَّلُ، لِأَنَّهُ رَفَعَ الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ تَكْلِيفُهُ لِلْعِبَادِ إِمَّا بِإِسْقَاطِهِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ أَوْ إِلَى بَدَلٍ. وَقَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ4: الْخِطَابُ فِي التَّكْلِيفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَمَرٌ، وَنَهْيٌ، فَالأَمْرُ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ، وَاسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ يقع على ثلاثة أضرب:
أحدهما: 1 مَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ2 الْإِلْزَامِ وَالِانْحِتَامِ إِمَّا بِكَوْنِهِ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا وَنَسْخُ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى ثلاثة أوجه: أحدها: 3 أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْوُجُوبِ إِلَى الْمَنْعِ، مِثْلَ مَا كَانَ4 التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ [بِالْمَنْعِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُنْسَخَ مِنَ الْوُجُوبِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ مِثْلَ نَسْخِ] 5 وُجُوبِ الْوُضُوءِ (لِكُلِّ صَلاةٍ إِلَى أَنْ) 6 جُعِلَ مُسْتَحَبًّا. وَالثَّالِثُ: 7 أَنْ يُنْسَخَ [مِنَ] 8 الْوُجُوبِ إِلَى الْإِبَاحَةِ مِثْلَ نَسْخِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ إِلَى الْجَوَازِ فَصَارَ الْوُضُوءُ مِنْهُ جَائِزًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: اسْتِدْعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، فَهَذَا يَنْتَقِلُ إِلَى ثَلاثَةِ أوجه أيضاً:
أحدها: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الِاسْتِحْبَابِ إِلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ مِثْلَ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَإِنْ تَرَكَهُ (وَافْتَدَى) 1 جَازَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِانْحِتَامِهِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُنْسَخَ مِنَ الِاسْتِحْبَابِ إِلَى التَّحْرِيمِ، مِثْلَ نَسْخِ (اللُّطْفِ) 2 بِالْمُشْرِكِينَ وَقَوْلِ الْحُسْنَى لَهُمْ فَإِنَّهُ نُسِخَ بِالأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُنْسَخَ مِنَ الِاسْتِحْبَابِ إِلَى الْإِبَاحَةِ، مِثْلَ3 نَسْخِ اسْتِحْبَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِالْإِبَاحَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: 4 الْمُبَاحُ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ5 [مَأْمُورٌ بِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ] غَيْرُ [6 مَأْمُورٍ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ عَنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ النَّسْخُ إِلَى التَّحْرِيمِ. مِثَالُهُ: أَنَّ الْخَمْرَ مُبَاحَةٌ ثُمَّ حُرِّمَتْ. وَأَمَّا نَسْخُ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْكَرَاهَةِ، فَلا يُوجَدُ، لِأَنَّهُ لا تَنَاقُضَ، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْمُبَاحِ إِلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ (إِيجَابَ) 7 الْمُبَاحِ إِبْقَاءُ تَكْلِيفٍ لا نَسْخٌ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْخِطَابِ: وَهُوَ النَّهْيُ فَهُوَ يَقَعُ عَلَى ضربين: أحدهما: عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ، فَهَذَا قَدْ يُنْسَخُ بِالْإِبَاحَةِ، مِثْلَ تَحْرِيمِ الأَكْلِ عَلَى الصَّائِمِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَالْجِمَاعِ1. وَالثَّانِي: عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ، لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مِثَالٌ.
فَصْلٌ: فَأَمَّا (الأَخْبَارُ) 1 فَهِيَ عَلَى ضربين: أحدهما: مَا كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ} 2، فَهَذَا لاحِقٌ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْخَبَرُ الْخَالِصُ، فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْكَذِبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَقَدْ حَكَى جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ3 وَالسُّدِّيِّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وهذا القول عظيم جداً يؤول إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ قَائِلا لَوْ قَالَ: قَامَ فُلانٌ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَقُمْ، فَقَالَ: نَسَخْتُهُ لَكَانَ كاذباً4.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ1: الأَخْبَارُ لا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ، لِأَنَّ نَسْخَ الأَخْبَارِ كَذِبٌ وَحُوشِيَ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ.
فَصْلٌ: وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى نَاسِخٌ لِمَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَلامِ مَنْ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ، لِأَنَّ] الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا شَمَلَهُ [1 اللَّفْظُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ، وَكَذَلِكَ التَّخْصِيصُ، وَقَدْ يُجَوِّزُهُ بَعْضُ السَّلَفِ فَيَقُولُ "هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. أَيْ: نزلت بنسختها"2.
الباب الرابع: باب شروط النسخ
الْبَابُ الرَّابِعُ: بَابُ شُرُوطِ النَّسْخِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي ثُبُوتِ النَّسْخِ خمسة: أحدها: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مُتَنَاقِضًا. بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وجهين: أحدهما: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُتَنَاوِلا لما تناوله [الثاني [1 بِدَلِيلِ الْعُمُومِ، وَالْآخَرُ مُتَنَاوِلا لِمَا تَنَاوَلَهُ [الأَوَّلُ [2 بِدَلِيلِ الْخُصُوصِ، فَالدَّلِيلُ الْخَاصُّ لا يُوجِبُ نَسْخَ دَلِيلِ الْعُمُومِ، بَلْ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَنَاوَلَهُ التَّخْصِيصُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ دَلِيلِ الْعُمُومِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ ثَابِتًا فِي حَالٍ (غَيْرَ) 3 الْحَالَةِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا (الْحُكْمُ) 4 الْآخَرُ مِثْلَ تَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى مطلِّقها فِي حَالٍ، وَهِيَ مَا دَامَتْ خَالِيَةً عَنْ زوج وإصابة
فَإِذَا أَصَابَهَا زَوْجٌ ثانٍ ارْتَفَعَتِ الْحَالَةُ الأُولَى، وَانْقَضَتْ بِارْتِفَاعِهَا مُدَّةُ التَّحْرِيمِ فَشُرِّعَتْ فِي حَالَةٍ أُخْرَى حَصَلَ فِيهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ المطلِّق ثَلاثًا، فَلا يَكُونُ هَذَا نَاسِخًا، لِاخْتِلافِ حَالَةِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ ثَابِتًا قَبْلَ ثُبُوتِ حُكْمِ النَّاسِخِ فَذَلِكَ يَقَعُ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} 1 وَقَوْلُهُ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} 2 وَمِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلا فَزُورُوهَا" 3. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ بِطَرِيقِ التَّارِيخِ، وَهُوَ أَنْ يُنْقَلَ (بِالرِّوَايَةِ) 4 بِأَنْ يَكُونَ [الْحُكْمُ الأَوَّلُ ثُبُوتُهُ [5 مُتَقَدِّمًا عَلَى الْآخَرِ فَمَتَى وَرَدَ الْحُكْمَانِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى وَجْهٍ [لا يُمْكِنُ الْعَمَلُ6 [بِأَحَدِهِمَا إِلا بِتَرْكِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ امْتُنِعَ ادِّعَاءُ النَّسْخِ في أحدهما.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: (أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ مَشْرُوعًا) 1 أَعْنِي أَنَّهُ ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالْعَادَةِ وَالتَّعَارُفِ لَمْ يَكُنْ رَافِعُهُ نَاسِخًا، بَلْ يَكُونُ ابْتِدَاءَ شَرْعٍ وَهَذَا شَيْءٌ (ذُكِرَ عِنْدَ) 2 الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: كَانَ الطَّلاقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لا إِلَى غَايَةٍ فنسخه قوله: (الطلاق [مرتان [3 وَهَذَا لا يَصْدُرُ مِمَّنْ (يَفْقَهُ) 4، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ (شَرْعٍ) 5 لا نَسْخٌ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ مَشْرُوعًا كَثُبُوتِ الْمَنْسُوخِ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ النَّقْلِ، فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْمَنْقُولِ، وَلِهَذَا إِذَا ثَبَتَ حُكْمُ مَنْقُولٍ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بِإِجْمَاعٍ وَلا بِقِيَاسٍ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ النَّاسِخُ مِثْلَ الطَّرِيقِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْمَنْسُوخُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ] 6 دُونَهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأَضْعَفُ نَاسِخًا للأقوى.
الباب الخامس: باب ذكر ما اختلف [فيه]
الْبَابُ الْخَامِسُ: بَابُ ذِكْرِ مَا اخْتُلِفَ [فِيهِ] 1 هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي النَّسْخِ أَمْ لا؟ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، فَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَالسُّنَّةُ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أحدهما: مَا ثَبَتَ بِنَقْلٍ مُتَوَاتِرٍ، كَنَقْلِ الْقُرْآنِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ القرآن هَذَا حَكَى فِيهِ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد2 قال: والمشهور لا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ3 والشافعي4، والرواية الثانية
يَجُوزُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ1، وَمَالِكٍ2 قَالَ: وَوَجْهُ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3 وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ مِثْلا لِلْقُرْآنِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ4 مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ1 قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلامي لا ينسخ القرآن، والقرآن ينسخ بعضه بعضاً" 2. ومن جِهَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ السُّنَّةَ تَنْقُصُ عَنْ دَرَجَةِ الْقُرْآنِ فَلا تَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3 وَالنَّسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانُ مُدَّةِ الْمَنْسُوخِ، فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُبُولَ هَذَا الْبَيَانِ، قَالَ: وَقَدْ نُسِخَتْ الوصية للوالدين والأقربين4 بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" 5 وَنُسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} 1 بأمره عليه السلام، أَنْ يُقْتَلَ ابْنُ خَطَلٍ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ2 وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَنَّ السُّنَّةَ مُفَسِّرَةٌ لِلْقُرْآنِ وَكَاشِفَةٌ لِمَا يَغْمُضُ مِنْ مَعْنَاهُ فَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهَا. وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيَانِ لِلْقُرْآنِ، (لا النَّسْخُ) 3 وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ4 قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: السُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ، وَلا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إِلا الْقُرْآنُ. وَكَذَلِكَ قال الشَّافِعِيِّ: "إِنَّمَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ الْكِتَابُ والسنة ليست ناسخة له"5.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الأَخْبَارُ الْمَنْقُولَةُ بِنَقْلِ الْآحَادِ فَهَذِهِ لا يَجُوزُ بِهَا نَسْخُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا لا تُوجِبُ الْعِلْمَ، بَلْ تُفِيدُ الظَّنَّ، وَالْقُرْآنُ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَلا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَقْطُوعِ بِهِ لِأَجْلِ مَظْنُونٍ، وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ رَأَى جَوَازَ نَسْخِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءٍ لَمَّا اسْتَدَارُوا بِقَوْلٍ وَاحِدٍ1. فَأُجِيبَ بِأَنَّ قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ تَثْبُتْ بِالْقُرْآنِ فَجَازَ أَنْ (تنسخ) 2 بخبر الواحد.
فَصْلٌ: وَاتَّفَقَ (الْعُلَمَاءُ) 1 عَلَى جَوَازِ نَسْخِ نُطْقِ الْخِطَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ مَا (ثَبَتَ) 2 بِدَلِيلِ الْخِطَابِ و (تنبيهه) 3 و (فحواه) 4 (فَذَهَبَ) 5 عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجْرِي مَجْرَى النُّطْقِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ (فَجَرَى مَجْرَاهُ) 6 فِي النَّسْخِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" 7 وَعَمِلُوا بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، فَكَانُوا (لا يَغْتَسِلُونَ) 8 مِنَ
الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بقوله عليه السلام: "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانُ بِالْخِتَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أَوْ (لَمْ يُنْزِلْ" 1 وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ (قَالُوا) 2: لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ لا يَكُونُ نَاسِخًا وَلا مَنْسُوخًا وَلَيْسَ الأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ مَعْنَى النُّطْقِ وَتَنْبِيهِهِ3.
فَصْلٌ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِذَا عُمِلَ بِهِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ صَحِيحًا جَائِزًا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ فَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ1 يَقُولُ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ 2. وَاحْتَجَّ الأَوَّلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْفِدَاءِ قَبْلَ فِعْلِهِ3 وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ خَمْسُونَ صَلاةً ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ4 وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: فَإِنَّ الأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقَعُ فِيهِ تَكْلِيفُ الْإِيمَانِ [بِهِ] وَالِاعْتِقَادِ لَهُ، ثُمَّ تَكْلِيفُ الْعَزْمِ على
فِعْلِهِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي عين له ثم إذا فعله عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ الأَدَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ مِنْ لَوَازِمِهِ غَيْرَ الْفِعْلِ، وَالنِّيَّةُ نَائِبَةٌ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِالْعِبَادَةِ، لَكَوْنِهَا (حَسَنَةً) (فَإِذَا) 1 أَسْقَطَهَا قَبْلَ فِعْلِهَا، خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا حَسَنَةً وَخُرُوجُهَا قَبْلَ الْفِعْلِ يُؤَدِّي إِلَى الْبَدَاءِ2 وَهَذَا كَلامٌ مَرْدُودٌ بِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْإِيمَانِ وَالِامْتِثَالِ. وَالْعَزْمِ يَكْفِي فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، من (التكليف) 3 بالعبادة.
الباب السادس: باب فضيلة علم الناسخ والمنسوخ والأمر بتعلمه
الْبَابُ السَّادِسُ: بَابُ فَضِيلَةِ عِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالأَمْرِ بِتَعَلُّمِهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الأَنْمَاطِيُّ1 قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ (الصَّرِيفِينِيُّ) 2 قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (الْكَتَّانِيُّ) 3 قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، قال: بنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا وكيع عن سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ [عَنْ أَبِي] عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَلِيًّا
عَلَيْهِ السَّلامُ1 مَرَّ بِقَاصٍّ، فَقَالَ: "أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: لا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ" 2. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ3 قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ4 السجستاني، قال: حدثنا
حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: مَرَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَاصٍّ يَقُصُّ (فَقَالَ1: تَعَلَّمْتَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ قَالَ: لا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ2 أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي3 قال: أخبرنا أحمد بن بندار البقال، قال: أخبرنا محمد ابن عمر بن بكير النجار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بن حمدان، قال: بنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بن عمر الضريرة قَالَ: أَبْنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ السَّائِبَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ (الطَّائِيِّ) 4، قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى رَجُلٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَهُوَ يَقُصُّ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ يُحَدِّثُ، ثُمَّ أَتَى عَلَيْهِ يوماً آخر [فإذا
هُوَ يَقُصُّ] فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ يُحَدِّثُ1 فَقَالَ: اسْأَلُوهُ، يَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لا. فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَقُولُ: اعْرِفُونِي اعْرِفُونِي، أَنَا فُلانٌ ثُمَّ قَالَ: لا تُحَدِّثْ2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلاءِ الْغَنَوِيُّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ لَقِيَ (أَبَا يَحْيَى) 3 فَقَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى: مَنِ الَّذِي قَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ اعْرِفُونِي اعْرِفُونِي؟ فَقَالَ إِنِّي أَظُنُّكَ عَرَفْتَ أَنِّي أنا هو، قال: قَالَ: مَا عَرَفْتُ أَنَّكَ هُوَ، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، مَرَّ بِي وَأَنَا أَقُصُّ بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ فَقُلْتُ أَنَا أَبُو يحيى، قال: لست بأبي
يَحْيَى وَلَكِنَّكَ اعْرِفُونِي، هَلْ عَرَفْتَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ أَقُصُّ عَلَى أحد1. قال أحمد: وبنا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى قَالَ: أَتَانِي عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَنَا أَقُصُّ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أُوَسِّعُ لَهُ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ إِلَيْكَ، هَلْ تَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، مَا اسْمُكَ، قُلْتُ: أَبُو يَحْيَى. قَالَ: أَنْتَ أَبُو اعْرِفُونِي. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ حَدَّثَنَا (يَزِيدُ) 2 بْنُ إبراهيم، قال: (بنا) 3 إبراهيم بن
العلاء الغنوي أبو هرون عَنْ سَعِيدِ بْنِ [أَبِي] 1 الْحَسَنِ أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا يَحْيَى (الْمُعَرْقَبَ) 2 فَقَالَ لَهُ: مَنِ الَّذِي قَالَ لَهُ: اعْرِفُونِي اعْرِفُونِي. قَالَ: يَا سَعِيدُ. إِنِّي أَنَا هُوَ. قَالَ: مَا عَرَفْتُ أَنَّكَ هُوَ، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، مَرَّ بِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَا أَقُصُّ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ فَقُلْتُ: أَنَا أَبُو يَحْيَى. فَقَالَ: لَسْتَ بِأَبِي يَحْيَى، وَلَكِنَّكَ اعْرِفُونِي اعْرِفُونِي، ثُمَّ قَالَ: هَلْ عَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. قَالَ: فَمَا عُدْتُ بَعْدَهَا أَقُصُّ عَلَى أَحَدٍ3. قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بن حذيفة قال: قالت: حُذَيْفَةُ4 [إِنَّمَا يُفْتِي] النَّاسَ أَحَدُ ثلاثة: رجل قد علم
نَاسِخَ الْقُرْآنِ مِنْ مَنْسُوخِهِ، وَأَمِيرٌ (لا يَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا) 1 أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ (أَحْمَدَ) 3 الكازي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ (نُبَيْطٍ) 4 عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَرَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى قَاصٍّ، قَالَ: تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: هَلَكْتَ وأهلكت5 قال:
أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمٌ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ1 قَالَ: جَهِدْتُ أَنْ أَعْلَمَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ فَلَمْ أَعْلَمْهُ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً} 2 قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ، وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهِ، وَمُؤَخَّرِهِ وَحَرَامِهِ وحلاله، وأمثاله3.
الباب السابع: باب أقسام المنسوخ
الْبَابُ السَّابِعُ: بَابُ أَقْسَامِ الْمَنْسُوخِ الْمَنْسُوخُ1 مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: فَالْقِسْمُ الأَوَّلُ: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، (قال) 2 أخبرني أبو أمامة ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ3 أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرُوهُ، أَنَّهُ (قَامَ) 4 رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ سُورَةً كَانَ قَدْ وَعَاهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ إِلا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 5 فَأَتَى بَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ يَسْأَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، جَاءَ آخَرُ وَآخَرُ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا جَمَعَهُمْ، فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِشَأْنِ تِلْكَ السُّورَةِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأخبروه
خَبَرَهُمْ، وَسَأَلُوهُ عَنِ السُّورَةِ فَسَكَتَ سَاعَةً، لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: "نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ", فَنُسِخَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ فِيهِ"1. [أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ] أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا [سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ حَمَّادٍ] 2 قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ (ابْنِ شِهَابٍ) 3 قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ "أَنَّ رَجُلا كَانَتْ مَعَهُ سُورَةٌ فَقَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقْرَؤُهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا قَالَ: (فَأَصْبَحُوا) 4 فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: قُمْتُ الْبَارِحَةَ لِأَقْرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: مَا جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا لِذَلِكَ [وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ] 5 فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ"
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الملك الدقيقي، قال: أنبأنا عفان، قال: بنا حماد، قالت بنا عَلِيُّ [بْنُ] زَيْدٍ عَنْ أَبِي حرب (ابن) 1 أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى2 قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةٌ مِثْلُ بَرَاءَةٌ ثُمَّ رُفِعَتْ فَحُفِظَ مِنْهَا: "إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لا خَلاقَ لَهُمْ وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تاب"3 قال بْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعِجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ4 قَالَ: (إِنَّ الأَحْزَابَ كَانَتْ مِثْلَ الْبَقَرَةِ أَوْ أَطْوَلَ).
قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا عباد بْنُ [يَعْقُوبَ] 1 قَالَ أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، قَالَ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَيْفَ تَقْرَأُ [سُورَةَ الأَحْزَابِ] قُلْتُ سَبْعِينَ أَوْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ آيَةً (قَالَ) وَالَّذِي (أَحْلِفُ بِهِ) لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ الْبَقَرَةَ أَوْ [تَزِيدُ] عَلَيْهَا2. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (آيَةٌ) 3 فَكَتَبْتُهَا [فِي] مُصْحَفِي فَأَصْبَحْتُ لَيْلَةً فَإِذَا الْوَرَقَةُ بَيْضَاءُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقالت: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ تِلْكَ رُفِعَتِ البارحة) 4.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ: أَخْبَرَنَا (ابْنُ) 1 الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ حَدَّثَنِي (ابْنُ) 2 شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي قَائِلٌ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ وَعَاهَا (وَعَقِلَهَا) 3 فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ (انْتَهَتْ) 4 بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَعِهَا، فَلا أُحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ على أن الله عزوجل: بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ (فَكَانَ) 1 فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقِلْنَاهَا وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ قَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، فَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ، عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ (الْحَبَلُ) 2 أَوِ الِاعْتِرَافُ، أَلا: وَإِنَّا قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ: لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ [أَنْ تَرْغَبُوا] عَنْ آبَائِكُمْ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ3 وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ [وَايْمُ اللَّهِ] لَوْلا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا في القرآن4.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ [قَالَ أَخْبَرَنَا] أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ قُرَيْشٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا [عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ أَخْبَرَنَا] 1 اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (عَنْ سَعِيدِ) 2 (بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سَنَنْتُ لَكُمُ السُّنَنَ، وَفَرَضْتُ لَكُمُ الْفَرَائِضَ، وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، أَنْ لا تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالا، وَآيَةُ الرَّجْمِ لا تَضِلُّوا عَنْهَا، فَإِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ وَرَجَمْنَا، وَأَنَّهَا قَدْ أُنْزِلَتْ، وَقَرَأْنَاهَا (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ" وَلَوْلا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ (لَكَتَبْتُهَا) 3 بِيَدِي4. قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ (عَنْ عَاصِمِ) بْنِ أَبِي النُّجُودِ عَنْ زِرٍّ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ سَأَلَهُ: كَمْ تَقْرَأُ هَذِهِ السورة؟ يعني
الأَحْزَابَ، قَالَ: إِمَّا ثَلاثًا وَسَبْعِينَ وَإِمَّا أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ، قَالَ: (إِنْ كنا لنقرأها كَمَا نَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنْ كُنَّا) 1 لَنَقْرَأُ فِيهَا، إِذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ2 قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد ابن أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ (عَنِ الْمِسْوَرِ بن مخرمة) 3 قال: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ4 أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا (أَنْ جَاهِدُوا كَمَا جَاهَدْتُمُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فَإِنَّا لا نَجِدُهَا قَالَ: سَقَطَتْ فيما أسقط من القرآن5.
قَالَ: 1 وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أبي حميد قالت: 2 أَخْبَرَتْنِي حُمَيْدَةُ، قَالَ أَوْصَتْ لَنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا3 بِمَتَاعِهَا فَكَانَ فِي مُصْحَفِهَا: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ الأُولَى"4 أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: بنا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ 5 "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بعث)
حَرَامًا1 خَالَهُ فِي سَبْعِينَ رَجُلا فقتلوا يوم (بير مَعُونَةٍ) 2 قَالَ: فَأُنْزِلَ عَلَيْنَا فَكَانَ مِمَّا نَقْرَأُ، فَنُسِخَ، أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ3.
فَصْلٌ: وَمِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَاخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ حُكْمِهِ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكِ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَرَّاقُ قَالَ أَبْنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ (عمر] و [، عن عمرة) وعن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا [قَالَتْ: (لَقَدْ نَزَلَتْ) 2 آيَةُ الرَّجْمِ وَرَضَعَاتُ الْكَبِيرِ عَشْرًا وَكَانَتْ فِي وَرَقَةٍ تَحْتَ سَرِيرٍ فِي بَيْتِي فَلَمَّا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَاغَلْنَا بِأَمْرِهِ رَبِيبَةً لنا فأكلتها، تعني الشاة3.
قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أبو الطاهر، قال: أخبرنا بن وَهْبٍ، قَالَ: (أَخْبَرَنِي) 1 مَالِكٌ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخَتْ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ القرآن"2.
قُلْتُ: (أَمَّا مِقْدَارُ) مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ فَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حنبل- رحمه الله [فيه ثلاث] روايات: إحداهن: رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَخَذَا بِظَاهِرِ الْقِرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1، وَتَرَكَا لِذَلِكَ الْحَدِيثَ. وَالثَّانِيَةُ: ثَلاثٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم "لا تحرم المصة و [المصتان] " 2. وَالثَّالِثَةُ: خَمْسٌ3 لِمَا رُوِّينَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهَا: "وَهِيَ [مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ] أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وَقَالُوا: لَوْ كَانَ يُقْرَأُ (بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، لَنُقِلَ إِلَيْنَا نَقْلَ الْمُصْحَفِ، وَلَوْ كَانَ بَقِيَ [مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَمْ] يُنْقَلْ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُنْقَلْ نَاسِخًا لِمَا نُقِلَ، فَذَلِكَ مُحَالٌ. وَمِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ4 فِي أَفْرَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَمْلَتْ عَلَى كَاتِبِهَا: "حافظوا على الصلوات
وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَصَلاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ" وَقَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الصَّلاةِ الْوُسْطَى عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ2. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ: وَلَهُ وَضَعْنَا هَذَا الْكِتَابَ وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ (ونذكر) 3 ما قيل
وَنُبَيِّنُ صِحَّةَ الصَّحِيحِ وَفَسَادَ الْفَاسِدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُوَفِّقُ بِفَضْلِهِ
الباب الثامن: باب ذكر السور التي تضمنت الناسخ والمنسوخ، أو أحدهما، أو خلت عنهما
الْبَابُ الثَّامِنُ: بَابُ ذِكْرِ السُّوَرِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، أَوْ أَحَدَهُمَا، أَوْ خَلَتْ عَنْهُمَا. زَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ السُّوَرَ الَّتِي تَضَمَّنَتِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالأَنْفَالُ، وَالتَّوْبَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالنَّحْلُ، وَمَرْيَمُ، وَالأَنْبِيَاءُ، وَالْحَجُّ، وَالنُّورُ، والفرقان، والشعراء، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، وَالشُّورَى، وَالذَّارِيَاتُ، وَالطُّورُ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُجَادَلَةُ، والمزمل، والتكوير، والعصر. (وقالوا: وَالسُّوَرُ الَّتِي دَخَلَهَا الْمَنْسُوخُ دُونَ النَّاسِخِ أَرْبَعُونَ): الأَنْعَامُ، وَالأَعْرَافُ، وَيُونُسُ، وَهُودٌ، وَالرَّعْدُ، وَالْحِجْرُ، وَسُبْحَانَ، وَالْكَهْفِ، وَطَهَ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالنَّمْلُ، وَالْقَصَصُ، وَالْعَنْكَبُوتُ، وَالرُّومُ، وَلُقْمَانُ، وَالسَّجْدَةُ، وَالْمَلائِكَةُ، وَالصَّافَّاتِ، وَص، وَالزُّمَرُ، (وَالْمَصَابِيحُ) 1 وَالزُّخْرُفُ، وَالدُّخَانُ، وَالْجَاثِيَةُ، (وَالأَحْقَافُ) 2، وَسُورَةُ مُحَمَّدٍ، وَق، وَالنَّجْمُ، وَالْقَمَرُ، وَالْمُمْتَحَنَةُ، وَن، وَالْمَعَارِجُ، وَالْمُدَّثِّرُ، وَالْقِيَامَةُ، وَالْإِنْسَانُ، وَعَبَسَ، وَالطَّارِقُ، والغاشية، والتين، والكافرون.
وَقَالُوا: وَالسُّوَرُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى النَّاسِخِ دُونَ الْمَنْسُوخِ سِتٌّ: الْفَتْحُ، والحشر، والمنافقون، والتغا بن، وَالطَّلاقُ، وَالأَعْلَى. وَالسُّوَرُ الْخَالِيَاتُ عَنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ ثَلاثٌ وَأَرْبَعُونَ: 1 سُورَةً الْفَاتِحَةُ، وَيُوسُفُ، وَيس، وَالْحُجُرَاتُ، وَالرَّحْمَنُ، وَالْحَدِيدُ، وَالصَّفُّ، وَالْجُمُعَةُ، وَالتَّحْرِيمُ، وَالْمُلْكُ، وَالْحَاقَّةُ، وَنُوحٌ، وَالْجِنُّ، وَالْمُرْسَلاتُ، وَالنَّبَأُ، وَالنَّازِعَاتُ، وَالِانْفِطَارُ، وَالْمُطَفِّفِينَ، وَالِانْشِقَاقُ، وَالْبُرُوجُ، وَالْفَجْرُ، وَالْبَلَدُ، وَالشَّمْسُ، وَاللَّيْلُ، وَالضُّحَى، وألم نشرح، والقلم، والقدر، (والانفطار)، (وَالزَّلْزَلَةُ) 2، وَالْعَادِيَاتُ، وَالْقَارِعَةُ، (وَالتَّكَاثُرُ) وَالْهُمَزَةُ، والفيل، وقر يش، وَالدَّيْنُ، (وَالْكَوْثَرُ)، وَالنَّصْرُ، وَتَبَّتْ، وَالْإِخْلاصُ، وَالْفَلَقُ، وَالنَّاسُ. قُلْتُ: وَاضِحٌ بِأَنَّ التَّحْقِيقَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ يُظْهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَصْرَ تَخْرِيفٌ مِنَ الذين حصروه، والله الموفق.
ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ مناقشة (247) قضيّة من (62) سورة قرآنيّة
سورة البقرة
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ 1 ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 2. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ النفقة على أربعة أقوال: أحدها: أَنَّهَا النَّفَقَةُ عَلَى الأَهْلِ وَالْعِيَالِ، قاله ابن مسعود3 وحذيفة4.
وَالثَّانِي: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ1. وَالثَّالِثُ: الصَّدَقَاتُ النَّوَافِلُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ2. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْإِشَارَةَ بِهَا إِلَى نَفَقَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ الزَّكَاةِ. ذَكَرَهُ بَعْضُ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ، وَزَعَمُوا: أَنَّهُ كَانَ فَرْضٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَمْسِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ (يَوْمَهُ) 3 وَلَيْلَتَهُ وَيُفَرِّقُ بَاقِيهِ عَلَى (الْفُقَرَاءِ) 4 ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الزَّكَاةِ5 وَهَذَا قَوْلٌ لَيْسَ (بِصَحِيحٍ)
لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لا يَتَضَمَّنُ مَا ذَكَرُوا وَإِنَّمَا يَتَضَمَّنُ مَدْحَ الْمُنْفِقِ، وَالظَّاهِرُ، أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا قُرِنَتْ مَعَ الْإِيمَانِ بِالصَّلاةِ. وَعَلَى هَذَا، لا وَجْهَ لِلنَّسْخِ (وَإِنْ كَانَتْ) 1 تُشِيرُ إِلَى الصَّدَقَاتِ النَّوَافِلِ وَالْحَثُّ عَلَيْهَا بَاقٍ، وَالَّذِي أَرَى، مَا بِهَا مَدْحٌ لَهُمْ عَلَى جَمِيعِ نَفَقَاتِهِمْ فِي الْوَاجِبِ وَالنَّفْلِ2 وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ3: نَسَخَتْ آيَةُ الزَّكَاةِ كُلَّ صَدَقَةٍ (كَانَتْ) قَبْلَهَا وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ4 وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلُّ صَدَقَةٍ وَجَبَتْ بِوُجُودِ الْمَالِ مرسلاً كهذه الآية5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: (قَوْلُهُ) 1 تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَةَ.2. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَهُمْ أَتْبَاعُ مُوسَى، (وَالنَّصَارَى، وَهُمْ) أتباع عيسى، والصابؤون: الْخَارِجُونَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلامِ مَنْ آمَنَ، أَيْ: مَنْ دَامَ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ3. وَالثَّانِي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمُ، الْمُنَافِقُونَ4 وَالَّذِينَ هَادُوا: وَهُمُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى والصابؤن: وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْضًا،: مَنْ آمَنَ أي من دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْمَعْنَى (إِنَّ الَّذِينَ آمنوا) وَمَنْ آمَنْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْدَ هَذَا: مَنْ آمَنَ رَاجِعًا إِلَى الْمَذْكُورِينَ مَعَ الذين آمنوا،
وَمَعْنَاهُ: مَنْ يُؤْمِنْ [مِنْهُمْ] 1 وَعَلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ الثَّلاثَةُ لا وَجْهَ لِادِّعَاءَ نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2. فَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ (الصَّيْرَفِيُّ) 3 قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} الْآيَةَ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. قُلْتُ: فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى النَّسْخِ4 وَهَذَا الْقَوْلُ لا يَصِحُّ لوجهين:
أحدهما: أَنَّهُ إِنْ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} إِلَى مَنْ كَانَ تَابِعًا لِنَبِيِّهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْآخَرُ فَأُولَئِكَ عَلَى الصَّوَابِ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَى مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ دِينَهُ وَلَمْ يُحَرِّفْ أَنْ يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَّبِعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَبَرٌ وَالأَخْبَارُ لا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ1. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} 2. جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الشِّرْكُ3 فَلا يَتَوَجَّهُ عَلَى هذا
الْقَوْلِ نَسْخٌ (أَصْلا) 1 وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الذَّنْبُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا النَّارَ2 فَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ، عَلَى مَنْ أَتَى السَّيِّئَةَ مستحلاً فلا يكون نسخاً4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا على قولين: أحدهما: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ سَأَلَكُمْ عَنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاصْدُقُوهُ وَبَيِّنُوا لَهُ صِفَتَهُ وَلا تَكْتُمُوا أَمْرَهُ، قَالَهُ ابن عباس، وا بن جبير2 وابن جريج3 ومقاتل4.
وَالثَّانِي: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ الْحَسَنُ1: "مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهُوهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ"2 وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ3: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ مَعْرُوفًا"4 وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ5: "كَلِّمُوهُمْ بِمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَقُولُوا لَكُمْ"6 فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ محكمة.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: مُسَاهَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلامِ، فَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلاءِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ النَّاسِ عَامٌّ فَتَخْصِيصُهُ بِالْكُفَّارِ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ ولا دليل ها هنا، ثُمَّ إِنَّ (إِنْذَارَ) 1 الْكُفَّارِ مِنَ الحسنى2.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} 1. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لُغَةٌ فِي الأَنْصَارِ، وَهِيَ مِنْ رَاعَيْتُ الرَّجُلَ إِذَا تَأَمَّلْتُهُ وَتَعَرَّفْتُ أَحْوَالَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَرْعِنِي (سَمْعَكَ) 2 وكانت الأنصار تقولها لرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِلُغَةِ الْيَهُودِ سَبٌّ بِالرُّعُونَةِ3 وَكَانُوا يَقُولُونَهَا لَهُ وَيَنْوُونَ بِهَا السَّبَّ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قولها لئلا يقولها اليهود
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا مَكَانَهَا (أَنْظِرْنَا) وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالأَعْمَشُ1 وَابْنُ الْمُحَيْصِنِ2 (رَاعِنًا) بِالتَّنْوِينِ فَجَعَلُوهُ مَصْدَرًا، أَيْ: لا تَقُولُوا رُعُونَةً3. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لا تَقُولُوا رَاعُونَا) عَلَى الأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ4 كَأَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالنَّهْيُ فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ ذَكَرُوهَا فِي الْمَنْسُوخِ، وَلا وَجْهَ لِذَلِكَ بِحَالٍ، ولولا إيثاري
ذِكْرَ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ لم أذكرها. قال أبوجعفر النَّحَّاسُ: "هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مباحاً قوله"1. قُلْتُ: وَهَذَا تَحْرِيفٌ فِي الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ أَتَتْ بِهِ لَمْ يُسَمَّ النَّهْيُ نَسْخًا2. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 3. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ4، هَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما وغيرهما5.
أخبرنا أبوبكر بن حبيب الله الْعَامِرِيُّ1 قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا (ابْنُ) 2 حَمُّويَةَ، قَالَ: أخبرنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الْكَاذِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حدثنا عبد الصمد، كِلاهُمَا عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، فَأَنْزَلَ3 فِي بَرَاءَةٍ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الآية] 4 فنسخها بهذه
الْآيَةِ، وَأَمَرَهُ فِيهَا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا،] أَوْ يُقِرُّوا [1 بِالْجِزْيَةِ2. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قتادة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} 3 نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 4. أَخْبَرَنَا ابُنْ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو داود السجستاني، قال: بنا أحمد ابن مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} قَالَ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية5.
فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْكَلامِ دُونَ التَّحْرِيفِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْعَفْوِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ إِلَى غَايَةٍ وَبَيَّنَ الْغَايَةَ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يَكُونُ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لا يَكُونُ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلآخَرِ، بَلْ يَكُونُ الأَوَّلُ قَدِ انقضت مدته بغايته والآخر محتاجاً1 إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَقَدْ ذَهَبَ إلى ما قلته جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ2 وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ الْعَفْوُ عَنْ قِتَالِهِمْ (وَقَدْ قَالَ) 3 الْحَسَنُ: هَذَا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ دُونَ تَرْكِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِالْقِيَامَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بِالْعُقُوبَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الأَمْرُ بِالْعَفْوِ مُحْكَمًا لا منسوخاً.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الآية على ثمانية أقوال: أحدها: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بن خريم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن عبد الله بنا (عَامِرِ) 2 بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ3 قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً كُنْتُ فِيهَا فَأَصَابَتْنَا ظُلْمَةٌ فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقِبْلَةُ هَاهُنَا فَصَلُّوا وَخَطُّوا خَطًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا فَصَلُّوا وَخَطُّوا خَطًّا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَفَلْنَا مِنْ سَفَرِنَا سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحُكْمُ باقٍ عِنْدَنَا وَإِنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى بِالِاجْتِهَادِ فَصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ مُجْزِيَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ1 ومجاهد و] عطاء [2 وَالشَّعْبِيِّ3، وَالنَّخَعِيِّ4 وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قولان:
أحدهما: كَمَذْهَبِنَا1. وَالثَّانِي:] يَجِبُ [2 الْإِعَادَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ3، وَرَبِيعَةُ4 يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يُعِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ صَلاةُ التَّطَوُّعِ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حموية قال: أبنا إبراهيم
ابن خريم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ1 قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَهُوَ جَاءٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2 فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي هَذَا أُنْزِلَتِ الْآيَةُ3. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، قَالَ أَصْحَابُ رسوله اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى غَيْرِ قِبْلَتِنَا؟ وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى مَاتَ وَقَدْ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما4.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: أَيْنَمَا كُنْتُمْ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ فَاسْتَقْبِلُوا الْكَعْبَةَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ1. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا تَكَلَّمُوا] حِينَ [2 صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَعْنَاهَا: لا تَلْتَفِتَنَّ إِلَى اعْتِرَاضِ الْيَهُودِ بِالْجَهْلِ وَإِنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ لِلَّهِ يَتَعَبَّدُكُمْ بِالصَّلاةِ إِلَى مَكَانٍ ثُمَّ يَصْرِفُكُمْ عَنْهُ كَمَا يَشَاءُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ3، وَقَدْ رَوَى مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالصَّلاةِ وَحْدَهَا وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ قَصَدْتُمُ اللَّهَ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ عَبَدْتُمُوهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَأَثَابَكُمْ عَلَيْهِ. وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْوَجْهَ بِمَعْنَى الْقَصْدِ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَسْتِغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ مَعْنَاهُ: إِلَيْهِ الْقَصْدُ وَالتَّقَدُّمُ. ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا1. وَالْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَيْنَمَا كُنْتُمْ [مِنَ] 2 الأَرْضِ فَعِلْمُ اللَّهِ بِكُمْ مُحِيطٌ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ3 ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا وَعَلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: ذَكَرَ أَرْبَابُهُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، فَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ شَأْنُ الْقِبْلَةِ، قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 فَاسْتَقَبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلاتِهِ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (فَصَلَّى) 2 إِلَيْهَا، وَكَانَتْ قِبْلَةَ اليهود، ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعوا بِذَلِكَ الأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ فَنُسِخَ ذَلِكَ {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 3. أَخْبَرَنَا] إِسْمَاعِيلُ [4 بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ قَالَ أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا أبو الحسين إسحاق ابن أحمد الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بن محمد، قال: أنبا بن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ5 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ - فِيمَا ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ - شَأْنُ الْقِبْلَةِ، قَالَ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 فَاسْتَقَبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَرَكَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَقَالَ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ماولاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} 2 يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَنَسَخَهَا وَصَرَفَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَقَالَ: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 3. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنَا سعيد ابن أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 4 قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَبِيُّ اللَّهِ بِمَكَّةَ وَبَعْدَمَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ وَجْهَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، قَالَ أَحْمَدُ، وبنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قال: بنا همام قال، بنا قَتَادَةَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ: وَكَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ نَحْوَ الكعبة5
وقال عزوجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1 فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ قِبْلَةٍ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يُونُسُ، عَنْ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ: نُسِخَ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ، فقال الله عزوجل {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ والسدي2.
فَصْلٌ: وَاعْلَمْ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلا إِلَى غَيْرِهِ بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الِجَهَاتِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا. فَأَمَّا التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ كَانَ بِرَأْيِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم واجتهاده، أوكان عَنْ وَحْيٍ؟ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عزوجل: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} 2. وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أبنا أبو بكربن أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بن الحسين قال بنا كثير بن يحيى قال: بنا أبي، قال: بنا أَبُو بَكْرٍ الْهُدْبِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ مُحَمَّدًا مُخَالِفٌ لَنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ فَلَوْ تَابَعَنَا عَلَى قِبْلَتِنَا، أو على شيء لتابعناه، فَظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْهُمْ جَدٌّ، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْكَذِبَ، وَأَنَّهُمْ لا يَفْعَلُونَ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
فَقَالَ: إِذَا قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ فَصَلِّ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: قَدْ تَابَعَنَا عَلَى قِبْلَتِنَا وَيُوشِكُ أَنْ يُتَابِعَنَا على ديننا، فأنزل الله عزوجل {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} 1 فقد علمنا أنهم لايفعلون، وَلَكِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ ذَلِكَ لَكَ2. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بَلْ كَانَ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ3 وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ النَّاسُ يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ثُمَّ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "كَانُوا يَنْحُونَ أن يصلوا إلى أي قبلة"4 شاؤوا، لِأَنَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ لِلَّهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَؤُلاءِ يَهُودٌ قَدِ اسْتَقْبَلُوا بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ - يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ- فَصَلُّوا إِلَيْهِ" فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا اهْتَدَى لِقِبْلَتِهِ حَتَّى هَدَيْنَاهُ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُمْ وَرَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 5.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل الوراق، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا محمد بن أيوب قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُوَجَّهَ حَيْثُ يَشَاءُ، فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، لِكَيْ يَتَأَلَّفَ أَهْلُ الْكِتَابِ ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ [الْحَرَامِ] 1. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ اخْتِيَارِهِ بيت المقدس على قولين: أحدهما: أَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا كَانَتْ تَحُجُّ وَلَمْ تَأْلَفْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَحَبَّ اللَّهُ امْتِحَانَهُمْ بِغَيْرِ مَا أَلِفُوهُ لِيَظْهَرَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ لا يَتَّبِعُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} 2 وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ3. وَالثَّانِي: أَنَّهُ (اخْتَارَهُ) 4 لِيَتَأَلَّفَ أَهْلَ الْكِتَابِ، قَالَهُ: أبو جعفر ابن جرير الطبري5.
قُلْتُ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَدْ وَجَبَ اسْتِقْبَالُهُ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَيْنَ تَوَلَّى بِوَجْهِهِ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فَيَحْتَاجُ مُدَعِّي نَسْخِهَا أَنْ يَقُولَ: فِيهَا إِضْمَارٌ. تَقْدِيرُهُ: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) فِي الصَّلاةِ أَيْنَ شِئْتُمْ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ، وَفِي هَذَا بعد، والصحيح إحكامها1.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} 1. قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ اقْتَضَى نَوْعَ مُسَاهَلَةٍ لِلْكُفَّارِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلا أَرَى هَذَا الْقَوْلَ صحيحاً، لأربعة أوجه: أحدها: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَتُخَاصِمُونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ2 وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، لِأَنَّنَا أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَمِنَّا كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ أَيْ: نَحْنُ كُلُّنَا فِي حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ سَوَاءٌ فَكَيْفَ يَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ؟ {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أَيْ (لا اخْتِصَاصَ لِأَحَدٍ بِهِ) 3 إِلا مِنْ جِهَةِ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يُجَازَى كُلٌّ مِنَّا بِعَمَلِهِ. وَلا تَنْفَعُ الدَّعَاوَى وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لا وَجْهَ لِلنَّسْخِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَعْمَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَيْهَا أَقْرَرْنَاهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنْسُوخَ مَا لا يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ، وَحُكْمُ هَذَا الْكَلامِ لا يَتَغَيَّرُ فَإِنَّ كُلَّ عَامِلٍ لَهُ (جَزَاءُ) 4 عَمَلِهِ فَلَوْ وَرَدَ الأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ لَمْ يَبْطُلْ تعلق أعمالهم بهم5.
ذِكْرُ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ1. قَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطُوفَ بِهِمَا. قَالَ: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 2 وَالسَّعْيُ بَيْنَهُمَا مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ3. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْذُولٌ: لا يَصْلُحُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ إِضْمَارًا فِي الْآيَةِ وَلا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قُرِئَ بِهِ فَإِنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مسعود، وأبي بن كعب، وأنس، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمَيْمُونَ بن مهران4 أنهم قرأوا5 (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطُوفَ بِهِمَا) 6، وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ:
أحدهما: أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا لا يَجِبُ1. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ (لا) صِلَةً. كَقَوْلِهِ: مَا (مَنَعَكَ) أَنْ لا تَسْجُدَ2 فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ3 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ وَاجِبٌ (يَجْزِي) 4 عَنْهُ الدَّمُ5. وَالصَّحِيحُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآية، ما أخبرنا به أبوبكر بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ حَمُّويَةَ، قَالَ: أَبْنَا: إِبْرَاهِيمُ بْنُ خريم، قال: بنا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ عَلَى الصَّفَا [وَثَنٌ] 6 يُدْعَى (أَسَافُ) 7 وَوَثَنٌ عَلَى الْمَرْوَةِ يُدْعَى نَائِلَةُ، وَكَانَ أهل
الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمَا وَيُمَسِّحُونَ الْوَثَنَيْنِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلامُ أَمْسَكَ الْمُسْلِمُونَ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ1. قُلْتُ: فَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا امْتَنَعُوا عَنِ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الصَّنَمَيْنِ فَرَفَعَ اللَّهُ عزوجل الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَافَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى بطوافه دون الأصنام2.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله: {اللاّعِنُونَ} 1. قد زعم قوم مِنَ الْقُرَّاءِ (الَّذِينَ) 2 قَلَّ حَظُّهُمْ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَهَا3 ولوكان لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، لَعَلِمُوا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا شَمَلَهُ اللَّفْظُ، وَيَنْكَشِفُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أحدهما: أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ لا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا إِلا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بالآخر، وههنا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجُمَلَ إِذَا دَخَلَهَا الِاسْتِثْنَاءُ يَثْبُتُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَكُنْ مُرَادًا دُخُولُهُ فِي الْجُمْلَةِ الباقية وَمَا لا يَكُونُ مُرَادًا بِاللَّفْظِ الأَوَّلِ لا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النَّسْخُ4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الْآيَةَ1. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُفَسِّرِي الْقُرْآنِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ [تَعَالَى] 2 {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} 3 وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا نُسِخَ مِنْهَا حُكْمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ" 4 وَكِلا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: اسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ حَالَ الضَّرُورَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى بِالتَّخْصِيصِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ ولا وجه للنسخ بحال5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأْثَى} 1. ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ دَلِيلَ خِطَابِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} اقْتَضَى أَنْ لا يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَكَذَا لَمَّا قَالَ: {وَالأُنْثَى بِالأْثَى} اقْتَضَى، أَنْ لا يُقْتَلَ الذَّكَرُ بِالأُنْثَى مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2 وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ3 عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي المائدة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 4 وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ محمد بن إسماعيل إذنا قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: أَبْنَا يَعْقُوبُ بن سفيان، قال: بنا يحيى بن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلامِ بِقَلِيلٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى قَتَلُوا (الْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ) 1 فَلَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى أَسْلَمُوا وَكَانَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعُدَّةِ وَالأَمْوَالِ فَحَلَفُوا أَنْ لا نَرْضَى حَتَّى نَقْتُلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرَّ مِنْهُمْ، وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَنَزَلَ فِيهِمْ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأْثَى} فَرَضُوا بِذَلِكَ فَصَارَتْ آيَةُ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأْثَى} منسوخة نسخها {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2. قُلْتُ: وَهَذَا (الْقَوْلُ) 3 لَيْسَ بِشَيْءٍ لوجهين: أحدهما: أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ مَا كَتَبَهُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَذَلِكَ لا يَلْزَمُنَا وَإِنَّمَا نَقُولُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نسخه، وبخطابنا بَعْدَ خِطَابِهِمْ قَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ، فَتِلْكَ الْآيَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِهَذِهِ مِنْ هَذِهِ بِتِلْكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِلَفْظِ الْآيَةِ أَنَّ الْحُرَّ يُوَازِي الحر فلأن يوازي العبد
أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يَعُمُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَإِنَّمَا الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَقْتُلُ حُرًّا بِعَبْدٍ وَذَكَرًا بِأُنْثَى فَأُمِرُوا بِالنَّظَرِ فِي التَّكَافُؤِ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يُونُسُ عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأْثَى} 1. قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ بَغْيٌ وَطَاعَةٌ (لِلشَّيْطَانِ) 2 فَكَانَ الْحَيُّ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ فِيهِمْ عَدَدٌ وَعُدَّةٌ، فَقُتِلَ لَهُمْ عَبْدٌ قَتَلَهُ عَبْدُ قَوْمٍ آخَرِينَ. قَالُوا: لَنْ نَقْتُلَ بِهِ إِلا حُرًّا تَعَزُّزًا وَتَفَضُّلا عَلَى غَيْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَإِذَا قُتِلَتْ لَهُمْ أُنْثَى قَتَلَتْهَا امْرَأَةٌ. قَالُوا: (لَنْ نَقْتُلَ) 3 بِهَا إِلا رَجُلا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْحُرَّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى، وَيَنْهَاهَمْ عَنِ الْبَغْيِ ثُمَّ أَنْزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لا على قولين: أحدهما: أَنَّهَا كَانَتْ نَدْبًا لا وَاجِبَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ2 وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ (بِالْمَعْرُوفِ) قَالُوا: الْمَعْرُوفُ لا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَبِقَوْلِهِ: (على المتقين) وَالْوَاجِبُ لا يُخْتَصُّ بِهِ الْمُتَّقُونَ.
وَالثَّانِي: (أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، واستدلوا بقوله: (كتب) وهوبمعنى فرض كقونه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 1 وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَلَى نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، مَنْسُوخَةٌ2. وَأَجَابَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ أَهْلَ الْقَوْلِ الأَوَّلِ، فَقَالُوا: ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ لا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، لِأَنَّ المعروف بمعنى العدل الذي لاشطط فيه ولاتقصيركقوله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 3 وَلا خِلافَ فِي وُجُوبِ هَذَا4 [الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَصِيَّةِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا بَلْ يُؤَكِّدُهُ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الأَمْرِ بِالْمُتَّقِينَ دَلِيلٌ عَلَى تَوْكِيدِهِ لِأَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُتَقِّينَ كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّقْوَى لازِمَةٌ لجميع الخلق.
فَصْلٌ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ، بِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ وَنَسْخِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فِي الْمَنْسُوخِ مِنَ الْآيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أقوال: أحدها: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ إِيجَابِ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخٌ، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أبنا أبو الفضل ابن خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أخبرنا بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ ابْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}. قَالَ: "نَسَخَتِ الْفَرِيضَةُ الَّتِي لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين (الوصية) "1.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي قال بنا حجاج قال:
بنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عن ابن عبابس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} 1 نَسَخَتْهَا {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} الْآيَةَ2. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ يُوسُفَ3 قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ رِزْقٍ، قَالَ: أَبْنَا أحمد ابن سلمان، قال: بنا أبو داود، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَتْهَا آية الميراث4.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أبنا ابن حموية، قال: بنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَبْنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَخْطُبُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَقَالَ: هَذِهِ نُسِخَتْ1. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنِ ابْنِ حَمَّادٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ جَهْضَمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ2. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدم عن محمد بن الفضيل، عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} قال: نسختها آية الفرائض3.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ وَأَخْبَرَنِي شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ (ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) 1 عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ، فَهِيَ منسوخة، وكذلك قال: سعيدبن جُبَيْرٍ: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} قَالَ: نُسِخَتْ) 2. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدَمُ عَنِ الْوَرْقَاءِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} قَالَ: كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ الوالدين3.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الفضل البقال قَالَ: أَبْنَا بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الْكَاذِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا أسود بن عامر، قال: بنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: "كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ، وَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِلأَقْرَبِينَ"1. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عن زمعة عن ابن طاؤس عَنْ أَبِيهِ2 قَالَ: "نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَجُعِلَتْ لِلأَقْرَبِينَ"3. قَالَ أبوداود: وحدثنا حماد بن سلمة عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْعَلاءَ بْنَ زِيَادٍ4 وَمُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ5 عَنِ الْوَصِيَّةِ، فقالا: "هي للقرابة".
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي نُسِخَ مِنَ الْآيَةِ الْوَصِيَّةُ (لِمَنْ) 1 يَرِثُ وَلَمْ يُنْسَخِ الأَقْرَبُونَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ2. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أبنا علي بن الفضل، قالت: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَمَرَ أَنْ يُوصِيَ لِوَالِدَيْهِ، وَأَقْرَبِيهِ ثُمَّ نَسَخَ الْوَالِدَيْنِ وَأَلْحَقَ لِكُلِّ ذِي مِيرَاثٍ نَصِيبَهُ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ لَهُمْ مِنْهُ وَصِيَّةٌ فَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ لا يَرِثُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ غَيْرِ قَرِيبٍ3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الفضل البقال، قال: بنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أبنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَأَثْبَتَتَ لهما نصيبهما
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِلأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ، وَنُسِخَ مِنَ الأَقْرَبِينَ كُلُّ وَارِثٍ1. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قَالَ: "أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُوصِيَ لِوَالِدَيْهِ وَأَقْرِبَائِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَأَلْحَقَ لَهُمْ نَصِيبًا مَعْلُومًا، وَأَلْحَقَ لِكُلِّ ذِي ميراث نصيبه منه وليست لَهُمْ وَصِيَّةٌ، فَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ لا يَرِثُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ"2. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ حَمُّويَةَ، قَالَ: أبنا إبراهيم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا إسماعيل بن عياش، قال: بنا شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ3 يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول:
"إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وَصِيَّةَ لوارث" 1
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1. أَمَّا قَوْلُهُ كُتِبَ، فَمَعْنَاهُ: فُرِضَ2. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ3 وَفِي كَافِ التَّشْبِيهِ فِي قوله: (كما) ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حُكْمِ الصَّوْمِ وَصِفَتِهِ لا إِلَى عَدَدَهِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، وَقَالَ: أَبْنَا أَبُو عِلاثَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بن خالد، قال: بنا أبي قال: بنا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَأَخْبَرَنَا إسماعيل بن أحمد، وقال: بنا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: بنا إسحاق الكاذي قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حدثني أبي قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يَذْكُرْ عِكْرِمَةَ.
قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1 يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكَانَ كِتَابُهُ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَنْكِحُ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَتْمَةَ، أَوْ يَرْقُدَ وَإِذَا صَلَّى الْعَتْمَةَ أَوْ رَقَدَ مُنِعَ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهَا، فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 2. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ 3 قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر النجاد، قال: بنا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا نصر بن علي، قال: بنا أبو أحمد، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ4، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا صَامَ فَنَامَ لَمْ يَأْكُلْ إِلَى
مِثْلِهَا مِنَ الْقَابِلَةِ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ1، أَتَى امْرَأَتَهُ، وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ: عِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ: لَعَلِّي أَذْهَبُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَذَهَبَتْ وَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: خَيْبَةٌ لَكَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله {مِنَ الْفَجْرِ} 2. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "كُتِبَ عَلَيْهِمْ إِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطْعَمَ إِلَى الْقَابِلَةِ، وَالنِّسَاءُ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ لَيْلَةَ الصِّيَامِ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ ثَابِتٌ وَقَدْ أَرْخَصَ لَكُمْ"3. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ أَكَلَ بَعْدَمَا نَامَ، وأن عمربن الْخَطَّابِ جَامَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ4 أَنْ نَامَتْ، فَنَزَلَ فِيهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية5.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى عَدَدِ الصَّوْمِ لا إِلَى صِفَتِهِ، وَلِأَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ ثلاثة أقواله: أَمَّا الأَوَّلُ: فَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بن حبيب، قالت: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ الْعَامِرِيُّ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ حَمُّويَةَ، قَالَ: أبنا إبراهيم ابن خريم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: بنا هاشم بن القاسم، قال بنا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُتِبَ عَلَى النَّصَارَى الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ، فَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِ النَّصَارَى أَنْ قَدِمُوا يوماً قالوا: حتى لا نخطىء. قَالَ: ثُمَّ آخِرُ أَمْرِهِمْ صَارَ إِلَى أَنْ قَالُوا: نُقَدِّمُهُ عَشْرًا ونؤخر عشراً حتى لا نخطىء. فَضَلُّوا، وَقَالَ دَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ1 كَانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ رَمَضَانَ فَمَرِضَ مَلِكُهُمْ (فَقَالُوا) 2 إِنْ شَفَاهُ الله تعالى لنزيدن
عَشَرَةً، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ مَلِكٌ آخَرُ فَأَكَلَ اللَّحْمَ فَوَجِعَ فُوهُ فَقَالَ: إِنْ شَفَاهُ لَيَزِيدَنَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلِكٌ بَعْدَهُ مَلِكٌ، فَقَالَ: مَا نَدَعُ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ الأَيَّامِ أَنْ نُتِمَّهَا، وَنَجْعَلَ صَوْمَنَا فِي الرَّبِيعِ، فَفَعَلَ فَصَارَتْ خَمْسِينَ يَوْمًا1. وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: اشْتَدَّ عَلَى النَّصَارَى صِيَامُ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اجْتَمَعُوا فَجَعَلُوا صِيَامًا فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَقَالُوا نَزِيدُ عِشْرِينَ يَوْمًا نُكَفِّرُ بِهَا مَا صَنَعْنَا2 فَجَعَلُوا صِيَامَهُمْ خَمْسِينَ يَوْمًا3 فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا. أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ ابن الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عباس رضي الله
عَنْهُمَا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَكَانَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ مَا أُنْزِلَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ1 وَقَالَ قتادة: كتب الله عزوجل عَلَى النَّاسِ قَبْلَ نُزُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ2. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَدْ رَوَى (النَّزَّالُ) 3 بْنُ سَبْرَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: ثَلاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَيَوْمُ (عَاشُورَاءَ) 4 وَقَدْ زَعَمَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} 5 وَفِي هَذَا بُعْدٌ كَثِيرٌ، لِأَنَّ قوله {شَهْرُ رَمَضَانَ} جَاءَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلصِّيَامِ وَالْبَيَانِ لَهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ التَّشْبِيهَ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ الصَّوْمِ لا إِلَى صِفَتِهِ وَلا إِلَى عَدَدِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لا يَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ وَلا صِفَةٍ، وَلا وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يُشِيرُ إِلَى نَفْسِ الصِّيَامِ كَيْفَ وَقَدْ عَقَّبَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فَتِلْكَ يَقَعُ عَلَى يَسِيرِ الأَيَّامِ وَكَثِيرِهَا. فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فِي نَسَقِ التِّلاوَةِ شَهْرُ رَمَضَانَ، بَيَّنَ عَدَدِ الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَوَقْتَهَا، وَأَمَرَ بِصَوْمِهَا فَكَانَ التَّشْبِيهُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الصَّوْمِ. وَالْمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصُومُوا كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا صِفَةُ الصَّوْمِ وَعَدَدُهُ فَمَعْلُومٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لا مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى1 وَقَدْ أشار إليه السُّدِّيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى2، وَمَا رَأَيْتُ مُفَسِّرًا يَمِيلُ إِلَى التحقيق إلا
وقد أومأ إِلَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَإِنَّهُ شَرْحُ حَالِ صَوْمِ المتقدمين، وكيف كتب عليهم لا أنه تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً أَصْلا 1. ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 2. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ على قولين: أحدهما: أنه يقتضي التخيير بين الصوم وبين الإفطار مَعَ الْإِطْعَامِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلامِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وَلا يَصُومُونَهُ فِدْيَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلامُ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 3.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أبنا بن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قال: بنا عبد الرازق قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قالت: نَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وَكَانَتِ الْإِطَاقَةُ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يُصْبِحُ صَائِمًا، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ لِذَلِكَ مِسْكِينًا فَنَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن إدريس، قال: بنا الأَعْمَشُ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ3 {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 4.
قَالَ أحمد: وحدثنا وكيع، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ1 {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا الَّتِي بَعْدَهَا وَالَّتِي تَلِيهَا2. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصمد، قال. بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قالت أَبْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَانُوا إِذَا أراد الرَّجُلَ أَنْ يُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ حَتَّى نَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فَلَمْ يَكُنْ إِلا لَهُمَا3. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَحَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبراهيم، قال: بنا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. أَفْطَرَ الأَغْنِيَاءُ وَأَطْعَمُوا وَحَصَلَ الصَّوْمُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فصام الناس جميعاً 4.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ1 قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَبْنَا أبوعمرو بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بن مخلد، قال: بنا القاسم بن عياد، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ ابن عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ2. وَرَوَى عَطِيَّةُ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ فِي الصَّوْمِ الأَوَّلِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ شَاءَ مِنْ مُسَافِرٍ أَوْ مُقِيمٍ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا وَيُفْطِرَ، كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لَهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ3. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أبو علي ابن شاذان، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني قال: بنا قُتَيْبَةُ. وَأَبْنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ القطان، قال: بنا أبو محمد بن
درستويه قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أبو صالح، قال: بنا بَكْرُ بْنُ مُضَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ1 قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، فَعَلَ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا2. وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانُوا قَوْمًا لَمْ يَتَعَوَّدُوا الصِّيَامَ وَكَانَ الصَّوْمُ عَلَيْهِمْ شَدِيدًا وَكَانَ مَنْ لَمْ يَصُمْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَافْتَدَى لِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَنُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ، عَنْ جَمَاعَةٍ منهم معاذبن جبل3 وابن مسعود، وا بن عمر، وا لحسن، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ رضي الله عنهم4.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ أَوْ لا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ، وَأُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي يَعْجَزُ عَنِ الصَّوْمِ، وَالْحَامِلِ الَّتِي تَتَأَذَّى بِالصَّوْمِ وَالْمُرْضِعِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، وَأَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا محمّد ابن سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قال: بنا عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} وَهُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ كَانَ يُطِيقُ صِيَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ شَابٌّ فَكَبُرَ وَهُوَ عَلَيْهِ لا يَسْتَطِيعُ صَوْمَهُ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ أَقِطٌ1. وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الكاذي، قال بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا روح قال: بنا زكريا بن إسحق، قال: بنا عمرو ابن دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَهُوَ الشَّيْخُ الكبير والمرأة الكبيرة لايستطيعان أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يوم مسكيناً2.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أبنا عبد الرازق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمْ يُنْسَخْ1. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَأَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قال: بنا حمادبن سلمة عن عمروبن دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ: هُمُ الَّذِي يُكَلَّفُونَهُ وَلا يُطِيقُونَهُ هُوَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ2. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ وَأَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ: هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُطْعِمُ عَنْهُ لكل يوم مسكين3. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ4 وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ غَيْلانَ، قال: أبنا أبو بكر
الشافعي، قال: أبنا إسحق بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بنا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ النَّهْدِيُّ، قَالَ: بنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقْرَؤُهَا (وَعَلَى الذين] يطوقونه [فدية) 1. قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُطْعِمُ عَنْهُ2 وَبِالْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب (وعلى الذين] يطوقونه [3 فدية) قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَصُومُ فَيَعْجَزُ وَالْحَامِلُ إِنِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ يُطْعِمَانِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا4 قُلْتُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لا يُلْتَفَتُ إليها لوجوه: أحدها: أَنَّهَا شَاذَّةٌ خَارِجَةٌ عَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمَشَاهِيرُ فَلا يُعَارَضُ مَا تثبت الحجة بنقله. والثائي: أَنَّهَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْآيَةِ، لِأَنَّ الآية تقتضي إثبات الْإِطَاقَةَ لِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 5 وهذا القراءة تقتضي نفيها.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ وَيَعْجَزُونَ عَنْهُ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أحدهما: مَنْ يَعْجَزُ لِمَرَضٍ أَوْ لِسَفَرٍ، أَوْ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ وَيَلْزَمُهُ القضاء من غيركفارة. وَالثَّانِي: مَنْ يَعْجَزُ لِكِبَرِ السِّنِّ (فهذا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَقَدْ يَجُوزُ الْإِفْطَارُ لِلْعُذْرِ لا للعجز ثم يلزمه القضاء والكفارة) 1، كَمَا نَقُولُ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى الْوَلَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمُسْتَفَادٍ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ. فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ يكون النسخ أولى بالآية من الإحكام، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي تَمَامِ الْآيَةِ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعُودَ هَذَا الْكَلامُ إِلَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ وَلا إِلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَلا إِلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْفِطْرَ فِي حَقِّ هَؤُلاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ قَدْ نُهُوا أَنْ يُعَرِّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلتَّلَفِ، وَإِنَّمَا عَادَ الْكَلامُ إِلَى الأَصِحَّاءِ الْمُقِيمِينَ خُيِّرُوا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ فَانْكَشَفَ بِمَا أوضحنا أن الآية منسوخة.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ1 لا تَكُونُ الْآيَةُ عَلَى القراءة الثانية، وهي: {يُطِيقُونَهُ} إِلا مَنْسُوخَةً2. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 3. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ على قولين:
أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا على قولين: أحدهما: أَنَّهُ أَوَّلُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِتَالَ إِنَّمَا يُبَاحُ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الْكُفَّارِ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَإِنَّهُ لا يُقَاتَلُ وَلا يُقْتَلُ1. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ في ناسخ ذلك على أربعة أقوال: أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 2. والثاني: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} 3. وَالثَّالِثُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} 4. وَالرَّابِعُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5.
قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوا إنما أَخَذُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ (إِنَّمَا هُوَ) 1 حُجَّةُ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ وَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَآيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَقْتَضِي إِطْلاقَ قَتْلِ الْكُفَّارِ، قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. فَأَمَّا الْآيَةُ الأُولَى الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا نَاسِخَةٌ فَإِنَّهَا تُشْبِهُ الْمَنْسُوخَةَ وَتُوَافِقُهَا فِي حُكْمِهَا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ قِتَالَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ؛ لأن قوله (واقتلوهم) عَطْفٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْآيَةُ الَّتِي ادُّعِيَ نَسْخُهَا مُطْلَقَةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُقَاتِلُ. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ تَصْلُحُ نَاسِخَةً لَوْ وَجَدَتْ مَا تَنْسَخُهُ وَلَيْسَ ههنا إِلا دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ههنا عَلَى مَا بَيَّنَّا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلا تَعْتَدُوا} لِلْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى هَذَا الِاعْتِدَاءِ خمسة أقوال: أحدها: لا تَعْتَدُوا بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ2. الثَّانِي: بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْكُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ وَهَؤُلاءِ إِنْ عَنُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعِدَّ نَفْسَهُ للقتال كالنساء
وَالْوِلْدَانِ، وَالرُّهْبَانِ فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ1. وَإِنْ عَنُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الرِّجَالِ المستعدين للقتال توجه النسخ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاعْتِدَاءَ إِتْيَانُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ2. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْحَرَمِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ3. وَالْخَامِسُ: لا تَعْتَدُوا بقتال من وادعكم وَعَاقَدَكُمْ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ4 وَالظَّاهِرُ إحكام الآية كلها ويبعد ادعاء النسخ فيها5.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} 1. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهَا على ثلاثة أقواله: أحدها: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2 فأمر بقتلهم فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ قَالَهُ قَتَادَةُ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَبْنَا إسحق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}، فأمر أن لا يبدؤوا بِقِتَالٍ، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 3 ثُمَّ نُسِخَتِ الْآيَتَانِ فِي بَرَاءَةٍ فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 4. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. قال: كانوا لا يقاتلون فيه حَتَّى يُقَاتِلُوهُمْ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ
فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَأَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ1. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 2 قاله الربيع ابن أَنَسٍ3 وَابْنُ زَيْدٍ4. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} 5 قَالَهُ مُقَاتِلٌ6. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتَلَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْمُحَقِّقِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ7 عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
فِي مَكَّةَ (أَنَّهَا لا تَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) 1 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ الْقِتَالَ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلا يَحِلُّ إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" 2. وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَأَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خطل وهومتعلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) 3. وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وجهين:
أحدهما: أَنَّ الْقُرْآنَ لا يَنْسَخُ إِلا الْقُرْآنَ، وَلَوْ أَجَزْنَا نَسْخَهُ بِالسَّنَّةِ لاحْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَعْتَبِرَ فِي نَقْلِ ذَلِكَ النَّاسِخِ مَا اعْتَبَرْنَا فِي نَقْلِ الْمَنْسُوخِ، وَطَرِيقُ الرِّوَايَةِ لا يَثْبُتُ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ بِالْإِبَاحَةِ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ مَا رَفَعَ الْحُكْمَ عَلَى الدَّوَامِ كَمَا كَانَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَلَى الدَّوَامِ. فَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى التَّخْصِيصِ لا عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ إِنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ مَعَ تَضَادِّ اجْتِمَاعِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ادَّعُوهُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا وَصَحَّ الْعَمَلُ بِهِمَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فِي غَيْرِ الْحَرَمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أَيْ: فِي غَيْرِ الْحَرَمِ بِدَلِيَلِ قوله عقب ذَلِكَ {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.ولوجاز قَتْلُهُمْ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْإِخْرَاجِ، فَقَدْ بَانَ مِمَّا أَوْضَحْنَا إِحْكَامُ الْآيَةِ وَانْتَفَى النسخ عنها1.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الانتهاء على قولين: أحدهما: أَنَّهُ الِانْتِهَاءُ عَنِ الْكُفْرِ2. وَالثَّانِي: عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ3 لا عَنِ الْكُفْرِ فَعَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَالثَّانِي يَخْتَلِفُ فِي الْمَعْنَى فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِذْ لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِقِتَالِهِمْ فِي الْحَرَمِ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلا يَكُونُ نَسْخٌ أَيْضًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْنَى اعْفُوا عَنْهُمْ وَارْحَمُوهُمْ، فَيَكُونُ لَفْظُ الْآيَةِ لَفْظُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ: الأَمْرُ بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالْعَفْوُ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بآية السيف4.
ذِكْرُ الْآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} 1. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ أَمْ لا عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّ فِيهَا مَنْسُوخًا. وَاخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أَدَاءِ عُمْرَتِهِ فَقَضَاهَا فِي السَّنَّةِ الثَّانِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَاقْتَضَى هَذَا، أَنَّ مَنْ فَاتَهُ أَدَاءُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ الَّذِي عَقَدَهُ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَجُعِلَ لَهُ قَضَاؤُهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، أَمَّا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشَّهْرِ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَمِمَّنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ عَطَاءٌ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لا يُعْرَفُ عَنْ عَطَاءٍ وَلا يَشْتَرِطُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ عَلَى مَنْ مُنِعَ مِنْ عُمْرَتِهِ أَوْ أَفْسَدَهَا أَنْ يَقْضِيَهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشَّهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 2.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْكَلامِ وَوَجْهُ نَسْخِهِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ لَيْسَ لَهُمْ سُلْطَانٌ يَقْهَرُونَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَاطُونَهُمْ بِالشَّتْمِ وَالأَذَى فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِمْ مِثْلَ مَا أَتَوْا إِلَيْهِمْ أَوْ يَعْفُوا وَيَصْبِرُوا فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعَزَّ اللَّهُ سُلْطَانَهُ نَسَخَ مَا كَانَ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا1. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى الْإِنْسَانِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَافَعَةٍ إِلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى السُّلْطَانِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. قَالَ شَيْخُنَا2 وَمِمَّنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قُلْتُ: وَهَذَا لا يَثْبُتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ3 وَلا يُعْرَفُ لَهُ صِحَّةٌ، فَإِنَّ النَّاسَ مَا زَالُوا يَرْجَعُونَ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ وَسَلاطِينِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلامِ إلا
أَنَّهُ لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ مِنْ خَصِيمِهِ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ أَجْزَأَ ذَلِكَ1، وَهَلْ يجوز له ذلك؟ فيه رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْكُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلا يَثْبُتُ2 ولو ثَبَتَ كَانَ مَرْدُودًا، بِأَنَّ دَفْعَ الِاعْتِدَاءِ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا حُكْمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الآية أنها محكمة غير
مَنْسُوخَةٍ1. فَأَمَّا أَوَّلُهَا فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ مكة في شهر حرام اقتصر لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِدْخَالِهِ مَكَّةَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَبْنَا أحمد بن الحسن بْنُ خَيْرُونَ وَأَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ. حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حَبَسُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنِ الْبَيْتِ فَفَخَرُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَرَجَعَّهُ اللَّهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَأَدْخَلَهُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَاقْتَصَّ لَهُ مِنْهُمْ2. فَأَمَّا قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ عَاهَدُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ وَلأَصْحَابِهِ الْعَامَ الْمُقْبِلَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا جاء العام الذي كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ فَخَافُوا، أَنْ لا (يُوَفِّ) 3 لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَا
شَرَطُوا وَأَنْ يَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَبَلَدٍ حَرَامٍ فَنَزَلَتْ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أَيْ: مَنْ قَاتَلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَرَمِ فَقَاتِلُوهُ1. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يُسَمَّى الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ صُورَةَ الْفِعْلَيْنِ وَاحِدَةٌ وإن اختلف حكماهما. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ظَلَمَنِي فلا] ن2 فَظَلَمْتُهُ: أَيْ: جَازَيْتُهُ بِظُلْمِهِ، وَجَهِلَ عَلَيَّ فَجَهِلْتُ عَلَيْهِ، أَيْ جَازَيْتُهُ بجهله. قلت: فقد بان بماذكرنا أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَلا وَجْهَ لِدُخُولِهَا فِي الْمَنْسُوخِ أَصْلا 3. ذِكْرُ الْآيَةِ الْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 4. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِإِتْمَامِهَا على خمسة أقوال:
(أحدها):1 أَنْ يَحْرُمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ2 أهله، قاله علي وسعيد ابن جبير وطاوس3. وَالثَّانِي: الْإِتْيَانُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهِمَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ4. وَالثَّالِثُ: إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ عَنِ الْآخَرِ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ5. وَالرَّابِعُ: أَنْ لا يَفْسَخَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ6. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَخْرُجَ قَاصِدًا لَهُمَا لا يَقْصِدُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ تجارة أوغيرها7 وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ. وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَائِلِهِ أنه
يَزْعُمُ أَنَّ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} 1. وَالصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ فَسْخِهِمَا لِغَيْرِ عذر أو قصد صحيح، وليست هَذِهِ الْآيَةُ بِدَاخِلَةٍ فِي الْمَنْسُوخِ أَصْلا2. ذِكْرُ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرِينَ: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 3 ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْكَلامَ اقْتَضَى تَحْرِيمَ حَلْقِ الشَّعْرِ، سَوَاءٌ وُجِدَ بِهِ أَذًى أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يَزَلِ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كعب ابن عُجْرَةَ) 4.وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِهِ، فقال: (أتجد) 5 شاة فقال.
لا. فَنَزَلَتْ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 1 وَالْمَعْنَى: فَحَلَقٌ فَفِدْيَةٌ. فَاقْتَضَى هَذَا الْكَلامُ إِبَاحَةَ حَلْقِ الشَّعْرِ عِنْدَ الأَذَى مَعَ الْفِدْيَةِ وَصَارَ نَاسِخًا لِتَحْرِيمِهِ الْمُتَقَدِّمِ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا بعد من وجهين: أحدهما: أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ نُزُولَ قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} تَأَخَّرَ عَنْ نُزُولِ أَوَّلِ الْآيَةِ وَلا يَثْبُتُ هَذَا. وَالظَّاهِرُ نُزُولُ الْآيَةِ فِي مَرَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَتَجِدُ شَاةً" 2 وَالشَّاةُ هِيَ النُّسُكُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ نُسُكٍ}. وَالثَّانِي: إِنَّا لَوْ قَدَّرْنَا نُزُولَهُ مُتَأَخِّرًا فَلا يَكُونُ نَسْخًا، [لِأَنَّهُ قَدْ بَانَ بِذِكْرِ الْعُذْرِ أَنَّ الْكَلامَ] 3 الأَوَّلَ لِمَنْ لا عُذْرَ لَهُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَلا تَحْلِقُوا رؤسكم إلا أن يكون منكم مريض أَوْ مَنْ يُؤْذِيهِ هَوَامُّهُ فَلا ناسخ ولا منسوخ4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} 1. اخْتَلَفُوا: هَلْ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ أَمْ مُحْكَمَةٌ؟ رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّهُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ لَمْ تَكُنْ زَكَاةً، وَإِنَّمَا هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَالصَّدَقَةُ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا فَنَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ2 وَرَوَى عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ فِي بَرَاءَةٍ3. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نُسِخَ مِنْهَا الصَّدَقَةُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَصَارَتِ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِهِمُ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ وَالأَقْرَبِينَ وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْمُرَادُ بِهَا التَّطَوُّعُ عَلَى مَنْ لا يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ الزَّكَاةَ، كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَهِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هِيَ فِي النَّوَافِلِ وهم أحق بفضلك4.
قُلْتُ: مَنْ قَالَ بِنَسْخِهَا ادَّعَى أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنْفِقُوا فَسَأَلُوا عَنْ وُجُوهِ الْإِنْفَاقِ فَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ فَحُكْمُهَا ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، لِأَنَّ مَا يَجِبُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ لَمْ يُنْسَخْ بِالزَّكَاةِ، وَمَا يُتَطَوَّعُ بِهِ لَمْ يُنْسَخْ بِالزَّكَاةِ وَقَدْ قَامَتِ الدِّلالَةُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لا تُصْرَفُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بِالتَّطَوُّعِ أَشْبَهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُمْ طَلَبُوا بَيَانَ الْفَضْلِ فِي إِخْرَاجِ الفضل (فبينت) 1 لهم وجوه الْفَضْلِ2. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} 3.
اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هي منسوخة أومحكمة؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ خُوطِبُوا بِهَا، وَكُتِبَ بِمَعْنَى فُرِضَ 1. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ سألت عطاء، أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ مِنْ أجل هذه الآية؟ فقال: لا، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَى أُولَئِكَ حينئذٍ2. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا (هَلِ الْغَزْوُ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ؟) 3 فَقَالَ: لا. إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ يومئذٍ4. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي نَاسِخِهَا عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 5 قاله عكرمة6.
والثاني: قَوْلُهُ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} 1 وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمَنْسُوخَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجِهَادَ كَانَ عَلَى ئلاث طَبَقَاتٍ: الأُولَى: الْمَنْعُ مِنَ الْقِتَالِ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} 2 فنسخت بهذ الْآيَةِ وَوَجَبَ بِهَا التَّعَيُّنُ عَلَى الْكُلِّ، وَسَاعَدَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 3 ثُمَّ اسْتَقَرَّ الأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَامَ بِالْجِهَادِ قَوْمٌ سَقَطَ عَلَى الْبَاقِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} 4. وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} مُحْكَمٌ وَأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ لازِمٌ لِلْكُلِّ، إِلا أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، إِذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ فَلا وَجْهَ للنسخ) 5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 1 سَبُبُ سُؤَالِهِمْ عَنْ هَذَا، أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَقَتَلُوا عَمْرَو ابن الحضرمي فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ فَعَيَّرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ2 وَهِيَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لا يَحِلُّ3. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَظَّمَ الْعُقُوبَةَ4 وَهَذَا إِقْرَارٌ لَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ في الأشهر الحرم.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ1، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الأبنوسي، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عمر الرزاز، قال: أبنا بن شاهين، قال: بنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: بنا ابن عون، قال: قَالَ: أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ2: كَانَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قَالُوا: قَدْ جَاءَ مُنْصِلُ الأَسِنَّةِ فَيَعْمِدُ أَحَدُهُمْ إِلَى سِنَانِ رُمْحِهِ فَيَخْلَعُهُ وَيَدْفَعُهُ إِلَى النِّسَاءِ، فَيَقُولُ: أشدُن هَذَا فِي عِكُومِكُنَّ فَلَوْ مَرَّ أَحَدُنَا عَلَى قَاتِلِ أَبِيهِ لَمْ يُوقِظْهُ3. قُلْتُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا التَّحْرِيمُ بَاقٍ أَمْ نُسِخَ؟
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قالت بنا الكاذي قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي قال (بنا) 1 حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ما لهم إذ ذاك لا يحل لهم أن يغزو أَهْلَ الشِّرْكِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ غَزَوْهُمْ فِيهِ بَعْدُ فَحَلَفَ لِي بِاللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ الآن أن يغزو فِي الْحَرَمِ وَلا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهِ (أو يغزو) 2 وما نُسِخَتْ3. وَرَوَى (عَبْدُ خَيْرٍ) 4 عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 5 قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 6.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ1 وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الأَمْصَارِ إِنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ جَائِزٌ فإدن هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2 وَقَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} 3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَبْنَا إسحاق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي قال: بنا عبد الرازق عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَّنَا يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ أُحِلَّ له بعد4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 1. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا تَضَمَّنَتْ ذَمَّ الْخَمْرِ (لا تَحْرِيمَهَا) 2 وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ3. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَضَمَّنَتْ تَحْرِيمَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ4. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 5 فَيَتَجَاذَبُهُ أَرْبَابُ الْقَوْلَيْنِ، فَأَمَّا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الأَوَّلِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِثْمُهُمَا بَعْدُ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قبله6.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي: إِثْمُهُمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا حينئذٍ أَيْضًا1 لِأَنَّ الْإِثْمَ الْحَادِثَ عَنْ شُرْبِهَا مِنْ تَرْكِ الصَّلاةِ وَالْإِفْسَادِ الْوَاقِعِ عَنِ السُّكْرِ لا يُوَازِي مَنْفَعَتَهَا الْحَاصِلَةَ مِنْ لَذَّةٍ أَوْ بَيْعٍ وَلَمَّا كَانَ الأَمْرُ محتملاً للتأويل، قال عمربن الْخَطَّابِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: اللَّهُمَّ بَيِّنَ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ يتوجه النسخ بقوله تعالى فا [جتبوه] 2.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 1 فالمراد بهذا الإنفاق ثلاثة أأقوال: أحدها: أَنَّهُ الصَّدَقَةُ وَالْعَفْوُ مَا يَفْضُلُ عَنِ الْإِنْسَانِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ (إِسْمَاعِيلَ بْنِ) 2 سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (قل العفوا) 3 قَالَ مَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَاقْبَلْهُ منهم لم يفرض
فِيهِ فَرِيضَةً مَعْلُومَةً، ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَائِضُ مُسَمَّاةً1، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمُّويَةَ، قَالَ: أَبْنَا إبراهيم بن خريم، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: بنا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْعَفْوُ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ2. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: [3 أَنَّهُ كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الزَّكَاةِ أَنْ يُنْفِقُوا مَا يَفْضُلُ عنهم، فكان أهل (المكاسب) 4 يَأْخُذُونَ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ نَصِيبِهِمْ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِالْبَاقِي، وَأَهْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَأْخُذُونَ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِمْ في تجار = تهم وَيَتَصَدَّقُونَ =5 بِالْبَاقِي، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَفَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ (وَرَغَّبَهُمْ بِهَا قَالُوا: مَاذَا نُنْفِقُ؟ وَعَلَى مَنْ نُنْفِقُ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) 1. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حيان2 في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} قَالَ: هِيَ النَّفَقَةُ فِي التَّطَوُّعِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُمْسِكُ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيهِ سَنَةً وَيَتَصَدَّقُ بِسَائِرِهِ، وإن كان ممن يعمل بيديه أَمْسَكَ مَا يَكْفِيهِ يَوْمًا وَيَتَصَدَّقُ بِسَائِرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقْلِ وَالزَّرْعِ أَمْسَكَ مَا يَكْفِيهِ سنة وتصدق (بِسَائِرِهِ) 3 فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الزَّكَاةِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، مَعْنَى قَوْلِهِ: اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ: صَعُبَ ما ألزموا نفوسهم به، فإن قلنا إن هَذِهِ النَّفَقَةُ نَافِلَةٌ أَوْ هِيَ الزكاة فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا نَفَقَةٌ فُرِضَتْ قَبْلَ الزَّكَاةِ فَهِيَ منسوخة بآية الزكاة والأظهر أنها في الإنفاق في المندوب إليه4.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُشْرِكَاتِ هاهنا على قولين: أحدهما: أَنَّهُنَّ الْوَثَنِيَّاتُ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا قبيصة عن سفيان عن حماد، قال:
سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ تَزْوِيجِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ}؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْمَجُوسِيَّاتُ وَأَهْلُ الأَوْثَانِ1. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ قَتَادَةَ {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} قَالَ: الْمُشْرِكَاتُ الْعَرَبُ اللاتِي لَيْسَ لهن كتاب يقرأنه2 قال سعيدبن جُبَيْرٍ: هُنَّ الْمَجُوسِيَّاتُ وَعَابِدَاتُ الأَوْثَانِ3. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ مِنَ الْكَافِرَاتِ، فَالْكُلُّ مُشْرِكَاتٌ، وَافْتَرَقَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قولين: [أحدهما] 4 (أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْآيَةِ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 5.
فَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قال: أبنا إسحق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن إسحق الطالقاني، قال بنا ابْنُ مُبَارَكٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} ثُمَّ أُحِلَّ نِكَاحُ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَمْ يُنْسَخْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ فَنِكَاحُ كُلِّ مُشْرِكٍ سِوَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَرَامٌ1. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} لَفْظٌ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْكِتَابِيَّاتُ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لا نَسْخٌ2. وَعَلَى هَذَا الْفُقَهَاءُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا مُشْرِكِينَ، وَهَذَا فاسد، لأنهم قالوا عزير بن الله) 3 والمسيح بن الله فهم بذلك مشركون4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} 1. تَوَهَّمَ قَوْمٌ قَلَّ عِلْمُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، فَقَالُوا: هِيَ تَقْتَضِي مُجَانَبَةَ الْحَائِضِ عَلَى الْإِطْلاقِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُودُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بالسنة، وهو ماروي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَبَاحَ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْحَائِضِ إِلا النِّكَاحَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَسْتَمْتِعُ) 2 مِنَ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْإِزَارِ3. وَهَذَا ظَنٌّ مِنْهُمْ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لا خِلافَ بين الآية والأحاديث.
قال أحمد بن حنبل: المحيض مَوْضِعُ الدَّمِ1 وَيُوَضِّحُ هَذَا التَّعْلِيلُ لِلنَّهْيِ بِأَنَّهُ أَذًى فَخَصَّ الْمَنْعُ مَكَانَ الأَذَى ثُمَّ لَوْ كَانَتِ الأَحَادِيثُ تُضَادُّ الْآيَةِ قُدِّمَتِ الْآيَةُ، لِمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ يَنْبَغِي مِنْ أَنْ يُشَابِهَ الْمَنْسُوخَ فِي قُوَّتِهِ والقرآن أقوى من السنة2.
ذِكْرُ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1. قَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ إِلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمَنْسُوخِ منها على قولين: أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. قالوا: فكان يجب عَلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الْحَامِلِ بِقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2. وَنُسِخَ حُكْمُ (الْآيِسَةِ) 3 وَالصَّغِيرَةِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} 4 وَنُسِخَ حُكْمُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 5. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةَ إِلا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَثْنَى وَلَفْظُ قتادة [نسخ] 6.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الْكَاذِيُّ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قَالَ: فَجُعِلَ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاثُ حِيَضٍ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهَا الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَقَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ، وَقَدْ نُسِخَ مِنَ الثَّلاثَةِ قُرُوءٍ، امْرَأَتَانِ، فَقَالَ: {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} فَهَذِهِ الْعَجُوزُ الَّتِي لا تَحِيضُ عِدَّتُهَا ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَنُسِخَ مِنَ الثَّلاثَةِ قُرُوءٍ الْحَامِلُ فَقَالَ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ مُحْكَمٌ وَإِنَّمَا الْمَنْسُوخُ مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2.
قَالُوا: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ ارْتَجَعَ،، سَوَاءً كَانَ الطَلاقُ ثَلاثًا أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَنُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 1. وَاعْلَمْ: أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ الْمُعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا مُحْكَمَةٌ، لِأَنَّ أَوَّلَهَا عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْحَامِلِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ جُمْلَةِ الْعُمُومِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ النسخ. وأما الارتجاع فإن الرجعية زوجة، ولهذا قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ} ثُمَّ بَيَّنَ الطَّلاقَ الَّذِي يَجُوزُ مِنْهُ الرَّجْعَةُ، فَقَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني: الثلاثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 2. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} 3.
قَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُطَلِّقُ مَا شَاءَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابن شاذان، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمّد، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ (يَزِيدَ) 1 النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلاثًا فَنَسَخَ اللَّهُ ذلك، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية2. وروى سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قَالَ: فَنَسَخَ هَذَا مَا كَانَ قَبْلَهُ وَجَعَلَ اللَّهُ حَدَّ الطَّلاقِ ثلاثاً3. قلت: وَهَذَا يَجُوزُ فِي الْكَلامِ يُرِيدُونَ بِهِ تَغْيِيرَ تِلْكَ الْحَالِ وَإِلا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لا يُقَالُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ وَإِبْطَالٌ لِحُكْمِ العادة.
وَزَعَمَ آخَرُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا اقْتَضَتْ إِبَاحَةَ الطَّلاقِ عَلَى الْإِطْلاقِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَمَانٍ، نزل قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} 1 أَيْ: مِنْ قَبْلِ عِدَّتِهِنَّ وَذَلِكَ أَنْ تُطَلَّقَ الْمَرْأَةُ فِي زَمَانِ طهرها لتستقبل الاعتداد بِالْحَيْضِ2. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لا يَفْهَمُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الطَّلاقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبُيِّنَ فِي الأُخْرَى كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُوقَعَ. ثُمَّ إِنَّ الطَّلاقَ وَاقِعٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ تَعْلِيمُ أَدَبٍ وَالصَّحِيحُ أن الآية محكمة3.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1. هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ الْخُلْعِ وَلا تَكَادُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلا بَعْدَ فَسَادِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ الْقُرْآنُ جَوَازَهُ مَخَافَةَ تَرْكِهِمَا الْقِيَامَ بِالْحُدُودِ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. إِلا أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَنَا إسماعيل ابن أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أبنا إسحاق ابن أحمد الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ، قَالَ: بنا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ2، (قَالَ: سألت
بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) 1 عَنْ رَجُلٍ سَأَلَتْهُ (امْرَأَتُهُ) 2 الْخُلْعَ؟ فَقَالَ: لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، قُلْتُ لَهُ: يَقُولُ الله عزوجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} الْآيَةَ؟ قَالَ: نُسِخَتْ، قُلْتُ: فَأَيْنَ جُعِلَتْ؟ قَالَ: فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} 3. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ (بَعِيدٌ) 4 مِنْ وجهين: أحدهما: أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ وَيَكْرَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا مَا فُرِضَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُهَا بِالأَذَى حَتَّى تَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَعْطَاهَا لِتَخْلُصَ مِنْهُ. فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا آيَةُ الْخُلْعِ فَلا تَعَلُّقَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذلك.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ، وَأَرَادَ اسْتِبْدَالَ غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا1 فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: قَوْلُهُ {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} منسوخ بالاستثناء وهوقوله: {إِلاّ أَنْ يَخَافَا} 2. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ أَرْذَلِ الأَقْوَالِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا شَمَلَهُ اللَّفْظُ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 4.
عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ مُحْكَمٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ (مُدَّةِ) 1 الرَّضَاعِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ (الْمُدَّةِ) 2 أَحْكَامُ الرَّضَاعِ3. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْقُرَّاءِ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} 4 قَالُوا فَنُسِخَ تَمَامُ الْحَوْلَيْنِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، فَلَمَّا قَالَ: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} خَيَّرَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ (فَلا تَعَارُضَ) 5.
وفي الآية موضع آخروهو قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} 1. اخْتَلَفُوا فِي الْوَارِثِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَارِثُ الْمَوْلُودِ2. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَارِثُ الْوَالِدِ3. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ، الْبَاقِي مِنْ وَالِدَيِ الْوَلَدِ بَعْدَ وَفَاةِ الْآخَرِ4. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ الصَّبِيُّ نَفْسُهُ، عَلَيْهِ لِأُمِّهِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَى أَبِيهِ لَهَا مِنَ (الْكِسْوَةِ) 5 وَالنَّفَقَةِ6.
وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ لا يُضَارَّ1. وَاعْلَمْ: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْوَارِثُ الصَّبِيُّ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ لا يُنَافِي قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ وَارِثُ الصَّبِيِّ لِأَنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ2، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: لا يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَةُ أَخٍ وَلا ذِي قَرَابَةٍ، وَلا ذِي رَحِمٍ مِنْهُ. (قَالَ) 3 وَقَوْلُ اللَّهِ عزوجل: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} مَنْسُوخٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَالِكٌ مَا الناسخ4.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لما أوجب الله عزوجل للمتوفى عنها زوجها من مال الْمُتَوَفِّي نَفَقَةَ حَوْلٍ وَالسُّكْنَى ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَرَفَعَهُ نَسَخَ ذَلِكَ أيضاً عن الوا رث1. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ مَكَثَتْ زَوْجَتُهُ فِي بَيْتِهِ حَوْلا يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ مِيرَاثِهِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ خَرَجَتْ إِلَى بَابِ بَيْتِهَا وَمَعَهَا بعرة فرمت بها كلباً، وخرجت بِذَلِكَ مِنْ عِدَّتِهَا وَكَانَ مَعْنَى رميها
بِالْبَعْرَةِ: أَنَّهَا تَقُولُ مُكْثِي بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِي أَهْوَنُ عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الْبَعْرَةِ1. ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلامُ فأقرهم على ماكانوا عَلَيْهِ مِنْ مُكْثِ الْحَوْلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 2 وَنُسِخَ الأَمْرُ بِالْوَصِيَّةِ لَهَا بِمَا فَرَضَ لَهَا مِنْ مِيرَاثِهِ3 وَهَذَا مجموع (قول) 4 الجماعة.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ: قَالَ، أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، فال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فكان للمتوفي زوجها نفقتها وسكناها فِي الدَّارِ سَنَةً فَنَسَخَهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ فَجُعِلَ لَهُنَّ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ مِمَّا تَرَكَ الزَّوْجُ1. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} فَنَسَخَتْهَا {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فَنَسَخَتْ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي الْحَوْلِ وَنَسَخَتِ الْفَرِيضَةُ الثُّمُنُ وَالرُّبُعُ مَا كَانَ قبلها من نققة (فِي الْحَوْلِ) 2. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ [جَعْفَرٍ] 3 الْوَرْكَانِيُّ، قَالَ بنا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً
لأَزْوَاجِهِمْ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 1. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عطاء (وصية لأزواجهم) قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعْطَى سُكْنَى سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا [فَنَسَخَتْهَا (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشراً]) 2. وَعَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ3. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا كَانَ لَهَا السُّكْنَى والنفقة حولاً من ماله مالم تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا الْقَدَرُ من الآية محكم أومنسوخ. فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِحْكَامِهِ على قولين: أحدهما: أَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَأَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ لا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلامِ بَلْ يُخَيَّرُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قال: أبنا إسحق الْكَاذِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قال: بنا علي بن عاصم قال: بنا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الأَنْصَارِ إِذَا كَانَتْ لا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ تُدْعَى الْمُقْلاةُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ نَذَرَتْ إِنْ هِيَ أَعَاشَتْ وَلَدًا تَصْبُغْهُ يَهُودِيًّا، فَأَدْرَكَ الْإِسْلامَ طَوَائِفٌ مِنْ أَوْلادِ الأَنْصَارِ - وَهُمْ كَذَلِكَ - فَقَالُوا إِنَّمَا صَبَغْنَاهُمْ يَهُودًا وَنَحْنُ نَرَى أن
الْيَهُودَ خَيْرٌ مِنَ (عُبَّادِ) 1 الأَوْثَانِ. فَإِمَّا إِذْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلامِ فَإِنَّا نُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِسْلامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. قال أحمد، وحدثنا حسن، قال: بنا أبو هلال، قال بنا دَاوُدُ، قَالَ: قَالَ (عَامِرٌ) 2 {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} كَانَتْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مِقْلاةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ لا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَكَانَتْ تُنْذِرُ اللَّهَ عَلَيْهَا، إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُسَلِّمَنَّهُ فِي خَيْرِ دِينٍ تَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ دِينٌ أَفْضَلَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ فَتُسَلِّمُهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ فَلَمَّا جاء الله بالإسلام قالوا: يانبي اللَّهِ كُنَّا لا نَعْلَمُ أَوْ لا نَرَى أَنَّ دِينًا أَفْضَلَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بالإسلام نرتجعهم، فأنزل الله عزوجل {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لا تُكْرِهُوهُمْ وَلا تَرْتَجِعُوهُمْ 3. قَالَ أحمد: (وبنا) 4 وكيع، قال: بنا سُفْيَانُ، عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مُسْتَرْضَعُونَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلامِ فَنَزَلَتْ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 5. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أبنا ابن جبرون، وَأَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ كامل (قال) 6 بنا محمد
ابن (سَعْدٍ) 1 قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: وَذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلامِ وَأَعْطَى أَهْلُ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ2. وَالثَّانِي: (أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ) ليس الدين ما يدين بِهِ فِي الظَّاهِرِ عَلَى جِهَةِ الإِكْرَاهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ القلب وينطوي عليه الضمائر، إنما الدِّينُ هُوَ الْمُعْتَقَدُ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الأَنْبَارِيِّ3. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، (لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ) 4 نَزَلَتْ قَبْلَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو داود قال: بنا جعفر بن محمد قال: بنا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ (الْقَنَّادُ) 5 قَالَ: بنا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فَأَسْنَدَهُ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ نُسِخَ وَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الكتاب في براءة.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا حمر بن نوح، قال بنا أبو معاذ قال: بنا أَبُو مُصْلِحٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ1 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَكَرَ الْمُسَيَّبُ [بْنُ وَاضِحٍ عَنْ بَقِيَّةَ] 2 بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى3 قَالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} نسختها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} 4.
ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1. هَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ الأَمْرَ بِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ فِي كِتَابٍ وَإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ فِي الْبَيْعِ وَالدَّيْنِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا أَمْرُ وُجُوبٍ أَمِ اسْتِحْبَابٍ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أبنا أبو حفص عمر وابن علي قال: بنا معتمر بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنِ الرَّجُلِ يَبِيعُ وَلا يَشْهَدُ فَقَالَ: أَلَيْسَ قد قال الله عزوجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} 2. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ بن (زريع) 3 قال: بنا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "إِنْ شَاءَ أَشْهَد". وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ غَيْلانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَيْمُونَ، قَالَ: بنا موسى بن مسعود،
قال: بنا الثَّوْرِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِنْ شَاءَ أَشْهَدَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشْهِدْ ثُمَّ قَرَأَ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} 1 فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ (الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ). وَذَهَبَ آخَرُونَ) 2 إِلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشْهَادَ وَاجِبَانِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي قِلابَةَ3 وَالْحَكَمِ4 وَابْنِ زَيْدٍ فِي آخَرِينَ5. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ هَلْ نُسِخَ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ إلى أنه لم ينسخ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ1 وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ المظفر، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بن علي قال: بنا محمد بن مروان، قال: بنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي (نَضْرَةَ) 2 عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أنه قرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} حتى بلغ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} قَالَ: "هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا"3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الْكَاذِيُّ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: بنا عفان، قال: بنا عبد الوارث.
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، قال: بنا أحمد بن أحمد، قال: بنا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أحمد بن إسحاق قال: بنا أبو يحيى الرازي، قال: بنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: بنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ بنا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ كِلاهُمَا عَنْ يؤنس عَنِ الْحَسَنِ {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} 1. قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّاسِخَ (يُنَافِي) 2 الْمَنْسُوخَ وَلَمْ يَقُلْ هَهُنَا فَلا تَكْتُبُوا، وَلا تُشْهِدُوا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ التَّسْهِيلِ فِي ذَلِكَ ولوكان مِثْلَ هَذَا نَاسِخًا لَكَانَ قَوْلُهُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} 3 نَاسِخًا لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ، وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} 4 ناسخاً قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 5 وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا نَسْخٌ وَأَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ. وَقَدِ اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرَسَ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ خزيمة6 (بلا) 7 إشهاد8.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا محمد بن بشار، قال: بنا محمد، قال: بنا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى. قَالَ: "ثَلاثَةٌ يَدْعُونَ1 اللَّهَ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ ... " أَحَدُهُمْ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فلم يشهد عليه2.
ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ} 1. أَمَّا إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ فَإِنَّهُ الْعَمَلُ بِمَا أَضْمَرَهُ الْعَبْدُ أَوْ نَطَقَ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ. فَأَمَّا مَا يُخْفِيهِ فِي نَفْسِهِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَخْفِيِّ في هذه الآية على قولهم: أحدهما: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَخْفِيَّاتِ. وَهُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْمُؤَاخَذَةِ أَمْ2 مَنْسُوخٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 3. هذا قول علي وابن مسعود في آخرين.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أبنا إسحق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي: ابْنَ أَبَانٍ، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ سَمِعَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نزلت {لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أَحْزَنَتْنَا وَهَمَّتْنَا1 فَقُلْنَا: يُحَدِّثُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ فَيُحَاسَبُ بِهِ فَلَمْ نَدْرِ مَا يُغْفَرُ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُغْفَرْ، فَنَزَلَتْ بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا: مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن عباس، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ، قال: بنا حجاج قال: بنا هُشَيْمٌ عَنْ (سَيَّارٍ) 3 أَبِي الْحَكَمِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قوله: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 1. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ ظَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ اليوشنجي، قَالَ: أَبْنَا2 أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، قال: بنا يزيد بن زريع، قال: بنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْعَلاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (لَمَّا أنزل الله عزوجل {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فقالوا: لوكلفنا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَتُرِيدُونَ) 3 أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ - أَرَاهُ (قَالَ) 4 سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا - قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإليك المصير (فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا) 5 الْقَوْمُ (ذَلَّتْ) 6 بِهَا ألسنتهم فأنزل الله عزوجل فِي إِثْرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ} 1 الْآيَةَ كُلَّهَا، وَنَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا2. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قال: بنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم. قال: بنا وَرْقَاءُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ بنا علي بن حفص، قال بنا ورقاء عن عطاء ابن السَّائِبِ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} قال نسخت هذه الآية {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ آدَمَ عن سعيد ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لما نزلت: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} شُقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} فَنَسَخَتْهَا1. أَخْبَرَنَا بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: بنا علي ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، قال: حدثني أبو عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال: نسخت، فقال لله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: بنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا محمد بن إسماعيل بن عباس، قال: بنا أبو بكر ابن أبي داود، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قال: بنا عفان، قال: بنا أبو عَوَانَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 2.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: بنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، قَالَ: بنا يعقوب الدورقي، قال: بنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَبْنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ فَبَلَغَ صَنِيعُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ فَنَسَخَتْهَا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 1". أخبرنا بن الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ الْمُذَهَّبِ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل، قال: حدثتي أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: "يَا ابْنَ2 عَبَّاسٍ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَبَكَى قَالَ: "أَيَّةُ آية؟ "3 قلت: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم غماً
شَدِيدًا، وَغَاظَتْهُمْ1 غَيْظًا شَدِيدًا يَعْنِي وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلِكْنَا إِنْ كُنَّا نُؤَاخَذُ بِمَا تَكَلَّمْنَا بِهِ وَبِمَا نَعْمَلُ بِهِ فَأَمَّا قُلُوبُنَا فَلَيْسَتْ بِأَيْدِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قَالُوا: سمعنا وأطعنا، قَالَ: فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربه والمؤمنون} إِلَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فَتُجُوِّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَأُخِذُوا بِالأَعْمَالِ2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابن بشران، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ بنا وكيع، قال: بنا سفيان عن عطاء ابن السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: وَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} نسخت {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عمرو، قال: بنا زَايِدَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، نسخت {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} 1. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَثَّنَا يُونُسُ قَالَ: بنا حَمَّادٌ يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ عَنْ حميد عن الحسن {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهَا آيَةً فِيهَا تَيْسِيرٌ وَعَافِيَةٌ وَتَخْفِيفٌ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل الوراق، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا زياد بن أيوب، قال: بنا هُشَيْمٌ عَنْ يَسَارٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قال: لما نزلت: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} كَانَ فِيهَا شِدَّةٌ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فنسخت ما قبلها.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بن إبراهيم، قال بنا الأَسْوَدُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ يُونُسَ عن الحسن {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ والسدي، وا بن زيد، ومقاتل1. والقول الثاني: أنه لَمْ تُنْسَخْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَيُؤَاخِذُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ وَاخْتَارَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدمشقي2، والقاضي أبو يعلى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ وَاقِعَةٌ، لكن مَعْنَاهَا إِطْلاعُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ السيئ. أخبرنا المبارك بن محلي، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ. أَبْنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل بن عباس، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال: بنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عبهما {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ (لَمْ تُنْسَخْ) 1 ولكن الله عزوجل إِذَا جَمَعَ الْخَلائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِمَّا (لَمْ يَطَّلِعْ) 2 عَلَيْهِ مَلائِكَتِي فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: يُخْبِرُكُمْ بِهِ اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْا مِنَ التَّكْذِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} 3. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن أيوب، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنس، قال:
هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. (يقول) 1 {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: يُعَرِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ أَخْفَيْتَ فِي صَدْرِكَ كَذَا وَكَذَا فَلا يُؤَاخِذُهُ2. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُحَاسَبَةَ الْعَبْدِ بِهِ نُزُولُ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْعُقُوبَةِ وَالأَذَى بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا3. وَالْقَوْلُ الثَّانِي:4 أَنَّهُ أَمْرٌ بِهِ خَاصٌّ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمَخْفِيَّاتِ ثُمَّ لِأَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ فيه قولان: أحدهما: (أَنَّهُ) 5 فِي الشَّهَادَةِ وَالْمَعْنَى إِنْ تُبْدُوا بِهَا (الشُّهُودَ) 6 مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوْ تُخْفُوهُ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا زياد بن أيوب.
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المحاملي، قال: بنا يَعْقُوبُ الدُّورَقِيُّ. وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أحمد، ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: قال: أبنا عمربن عبيد الله، قال: أبنا بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي قال: بنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَإِقَامَتِهَا1. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا يُونُسُ، قال: بنا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: هَذِهِ فِي الشَّهَادَةِ {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ2. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: (أَبْنَا) 3 عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي، فال: بنا عبد الله ابن أحمد ابن حنبل، قال: حدثني أبي.
وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن عباس، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود، قال: بنا المؤمل بن هشام (قال) 1 بنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلْيَةَ. وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الحسن، قال: بنا إبرإهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءُ كِلاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي نجيح عن مجاهد {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} مِنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ2 فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ. قَالَ: ابْنُ الأَنْبَارِيِّ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى الأَمْرِ وَالنَّهْيِ3. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: "لا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ (فِي) 4 مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخٌ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ، وَإِنَّمَا التَّأْوِيلُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إن تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ وَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} أي: نسخ ماوقع بِقُلُوبِهِمْ، أَيْ: أَزَالَهُ وَرَفَعَهُ"1. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 2. اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ قَدْرَ طَاقَتِهِمْ فَحَسْبُ وَهَذَا مَذْهَبُ الأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا اقْتَضَتِ التَّكْلِيفَ بِمِقْدَارِ الْوُسْعِ بِحَيْثُ لا يَنْقُصُ مِنْهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} 3 وَذَلِكَ يَنْقُصُ عَنْ مِقْدَارِ الْوُسْعِ فنسختها4.
والقول الأول1 أصح2.
سورة آل عمران
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} 1. قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ اقْتَضَى الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّبْلِيغِ دُونَ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ2 وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ مُزْعِجًا نَفْسَهُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ سَكَنَ جَأْشُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} 3 و {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} وَالْمَعْنَى: لا تَقْدِرُ عَلَى سَوْقِ قُلُوبِهِمْ إِلَى الصَّلاحِ فَعَلَى هَذَا لا نسخ4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1. قد ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ اتِّقَاءُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُوقِعُوا فِتْنَةً أَوْ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ وَالْفُرْقَةَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ اتِّقَائِهِمْ إِذَا أَكْرَهُوا الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ الَّذِي لا يَعْتَقِدُهُ وَهَذَا الْحُكْمُ باقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإٍِيمَانِ} 3. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ قَالَ: أَبْنَا بْنُ خَيْرُونَ وَأَبُو طَاهِرٍ الباقلاوي، قالا: أَبْنَا بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ قَالَ حَدَّثَنِي محمد ابن سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}. وَالتُّقْيَةُ بِاللِّسَانِ: مِنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّهُ4. وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً} قَالَ: إِلا مُصَانَعَةً فِي الدِّينِ1 وَقَدْ زَعَمَ إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، أَنْ قَوْلَهُ: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}. وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي تَنْزِيهُ الْكُتُبِ عَنْ ذِكْرِهِ فَضْلا عَنْ رَدِّهِ فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ لا يَفْهَمُ مَا يَقُولُ2. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {يُنْظَرُونَ} 3. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيات على ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ4 كَانَ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ. فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَاتُ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْهِ فَرَجَعَ وأسلم، قاله مجاهد5.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَشَرَةٍ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا، وَمِنْهُمْ طُعْمَةُ وَوُحُوحُ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، فَنَدِمَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلامِ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا1. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ2. وَقَوْلُهُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} استفهام في معنى الجحد، أي: لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ. وَفِيهِ طَرْفٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: كَيْفَ أُحْسِنُ إِلَى مَنْ لا يُطِيعُنِي. أَيْ: لَسْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ (لا يَهْدِي) 3 مَنْ عَانَدَ بَعْدَ أَنْ بَانَ لَهُ الصَّوَابُ. وَهَذَا مُحْكَمٌ لا وَجْهَ لِدُخُولِ النَّسْخِ عَلَيْهِ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمُ السُّدِّيُّ4 أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْسُوخَاتٌ بِقَوْلِهِ: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود، قال: بنا محمد بن الحسين، قال: بنا أحمد بن المفضل، قال: بنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} قال:
نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ ثُمَّ أَسْلَمَ فنسخها الله عزوجل فَقَالَ: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} 1. قُلْتُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَيِّنٌ، أَنَّ اللَّفْظَ الأَوَّلَ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْعُمُومُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ عَانَدَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الآيَاتِ خَبَرٌ، والنسخ لا يدخل في الأَخَبْارِ بِحَالٍ2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3. قَالَ السُّدِّيُّ: "هَذَا الْكَلامُ تَضَمَّنَ وُجُوبَ الْحِجِّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ عَادِمِ الاسْتِطَاعَةِ بِقَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}
قلت: وهذا قوله قَبِيحٌ، وَإِقْدَامٌ بِالرَّأْيِ الَّذِي لا يَسْتَنِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْحُكْمِ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ النَّحْوِيُّونَ كَافَّةً فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: (مَنْ) بَدَلٌ مِنَ (النَّاسِ) وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ1 كَمَا يَقُولُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِرَأْسِهِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ النَّاسِ الحج أَنْ يَحُجَّ2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} 3. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا مُحْكَمٌ أو منسوخ على قولين: أحدهما: أنه منسوب. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ حَمُّويَةَ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن خريم، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: بنا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشُقَّ ذَلِكَ على المسلمين فأنزل الله عزوجل بَعْدَ ذَلِكَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَأَبْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 5.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، ثُمَّ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: (أَبْنَا مُحَمَّدُ) 2 بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا ابن بكير، قال: بنا ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ فَقَامُوا حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَخْفِيفًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الآية الأولى3. وعن ابن لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الحسين بْنِ أَبِي حُنَيْفٍ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: أَبْنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: "أَمَّا حق تقاته: أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ فَلَمْ (يُطِقِ) 4 النَّاسُ هَذَا فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ".
وَإِلَى هُنَا ذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ1. وَمِنْ نَصَّ هَذَا الْقَوْلِ قال: حق تقاته: هُوَ الْقِيَامُ لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ طَاعَةٍ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَةٍ، قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ تَعْجَزُ الْخَلائِقُ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً وَأَنَّ تَعَلُّقَ الأَمْرِ بِالاسْتِطَاعَةِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا مَا أَخْبَرَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُدِيرُ2 قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمَنْصُورِ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِرْزِيُّ، قَالَ: أَبْنَا البغوي، قال: بنا محمد بن بكار، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: "أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرُ"3. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: بنا أبو
بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: "لَمْ تُنْسَخْ, وَلَكِنْ حَقَّ تقاته: أَنْ تُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَلا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ". وَهَذَا مَذْهَبُ طَاوُسٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ1. لأن التقوى: هو اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ وَلا أَمَرَ بِهِ إِلا وَهُوَ دَاخِلٌ تحت (الطاقة) 2 كما قال عزوجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 3. فَالْآيَتَانِ مُتَوَافِقَتَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ". فَقَدْ فَهِمَ الأَوَّلُونَ مِنَ الآيَةِ تَكْلِيفَ مَا لا يُسْتَطَاعُ فَحَكَمُوا بِالنَّسْخِ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} وإنما قوله حق تقاته، كقوله: حق جهاده، الحق ها هنا بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَفْوَةَ المذنب
لا تُنَافِي أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا لِلتَّحَفُّظِ، وَإِنَّمَا شُرِعَ الاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ بِوُقُوعِ الْهَفَوَاتِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: "مَعْنَى قَوْلِ الأَوَّلِينَ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ أَيْ: أُنْزِلَتِ الأُخْرَى بِنُسْخَتِهَا وَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِلا فَهَذَا لا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ، لِأَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ الرَّافِعُ لَهُ الْمُزِيلُ حُكْمَهُ"1. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} بَيَانٌ لِحَقِّ تُقَاتِهِ وَأَنَّهُ تَحْتَ الطَّاقَةِ فَمَنْ سَمَّى بَيَانَ الْقُرْآنِ نَسْخًا فَقَدْ أَخْطَأَ. وَهَذَا فِي تَحْقِيقِ الْفُقَهَاءِ يُسَمَّى: تَفْسِيرٌ مُجْمَلٌ أَوْ بَيَانٌ مُشْكَلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ تَكْلِيفُ (مَا لا يُطَاقُ) 2 فَأَزَالَ اللَّهُ إِشْكَالَهُمْ. فَلَوْ قَالَ: لا تَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ كَانَ نَسْخًا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ3 أَنِّي لَمْ أُرِدْ بِحَقِّ التُّقَاةِ، مَا لَيْسَ فِي الطَّاقَةِ4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً} 1. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى الْكَلامِ: لَنْ يَضُّرُوكُمْ ضُرًا بَاقِيًا فِي جَسَدٍ (أَوْ مَالٍ) 2 إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَتُثَابُونَ عَلَيْهِ. وَهَذَا لا يُنَافِي الأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى هَذَا، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهَا خَبَرٌ، وَالأَخْبَارُ لا تُنْسَخُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الإِشَارَةُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ فَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} 3 وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. ذِكْرُ الآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} 4. جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ مُحْكَمٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ (بِشَيْئَيْنِ) 5: أحدهما: أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لا يَدْخُلُهُ النسخ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أَحَدٌ إِلا وَلَهُ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، وَلا يَفُوتُهُ مَا قُسِمَ لَهُ. فَمَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْهَا مَا قُدِّرَ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَشَاؤُهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} 1 وَلَمْ يَقُلْ يُؤْتِهِ مِنْهَا مَا يَشَاءُ هُوَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: (لِمَنْ يُرِيدُ) 2 أَنْ يَفْتِنَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ. وَذَهَبَ السُّدِّيُّ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ3 بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} وَلَيْسَ هَذَا بِقَوْلِ مَنْ يَفْهَمُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، فَلا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} 4 الْجُمْهُورُ عَلَى إِحْكَامِ هَذِهِ الآيَةِ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الأَمْرَ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَلا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الصبر المذكور ها هنا منسوخ بآية السيف5.
سورة النساء
المجلد الثاني بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ سِتٌّ وَعِشْرُونَ. ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 1. اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ الْغَنِيَّ لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا، وقالوا: معنى قوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} أَيْ: بِمَالِ نَفْسِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِأَكْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ أَرْبَعَةُ أقوال: أحدها: أَنَّهُ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْهُ، رَوَى حَارِثَةُ بْنُ (مُضَرِّبٍ) 2 قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ مَالَ اللَّهِ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ ثم قضيت3.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ (سَعْدٍ) 1 قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ فَإِذَا وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيَقْضِ مَا يَسْتَقْرِضُ (فَذَلِكَ) 2 أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ3. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا آدَمُ قَالَ: أَبْنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ: يَعْنِي: سَلَفًا مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ4. وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَأَبِي وَائِلٍ5 وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ6 وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ. وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِيُّ7 عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَهُ8 وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ أَحْمَدَ بن حنبل مثله.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ غَيْلانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بكر الشافعي، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا موسى بن مسعود، قال: بنا الثوري؛ قال: بنا سُفْيَانُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: ما سد الْجُوعَ (وَيُوَارِي) 1 الْعَوْرَةَ2. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "الْوَصِيُّ إِذَا احْتَاجَ وَضَعَ يَدِهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلا يَلْبَسُ عِمَامَةً"3. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ4: "يَأْخُذُ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ وَيُوَارِي الْعَوْرَةَ وَلا يَقْضِي إِذَا وَجَدَ"5. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: "يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَلا يُسْرِفُ فِي الأَكْلِ وَلا يَكْتَسِي منه"، وهذا مذهب قتادة6.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقُولُ: مَالُ الْيَتِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ يُتَنَاوَلُ مِنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِنْ لَمْ يُوسِرْ فَهُوَ فِي حِلٍّ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ1. وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ وَقَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءُ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "يَأْكُلُ وَالِي الْيَتِيمِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قُوتَهُ وَيَلْبَسُ مِنْهُ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشْرَبُ فَضْلَ اللَّبَنِ وَيَرْكَبُ فَضْلَ الظَّهْرِ، فَإِنْ أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِنْ أَعْسَرَ كَانَ فِي حِلٍّ"2. فَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الأَخْذِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُهَا فِي الْقَضَاءِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَتِهِ إِذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ عَمَلا، وَرَوَى الْقَاسِمُ3 بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِيَتِيمٍ لِي إِبِلٌ فَمَا لِي مِنْ إِبِلِهِ؟ قَالَ: "إِنْ كُنْتَ تلوظ حِيَاضَهَا (وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا) 4 وَتَبْغِي ضَالَّتَهَا وَتَسْعَى عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ نَاهِكٍ بحلب ولا ضار بنسل"5.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ1 عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ وَيَأْكُلُ معهم بقدر خدمته وقدر عمل"، وَقَدْ رَوَى أَبُو طَالِبٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مثل هذا2.
فَصْلٌ: وَعَلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى نَسْخِهَا: فَقَالُوا: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} 1 وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ الظُّلْمُ والاعتداء فنسخها: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} 2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: بنا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْحُسَيْنِ (بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ) 3 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما في قوله: {مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآية4.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود: وبنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا عبد الله ابن عثمان، قال: بنا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: بنا عبيد الله مولى عمر ابن مُسْلِمٍ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ أخبره، قال: {مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية نسخت فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} 1 الآيَةُ. قُلْتُ: وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَعْنِي النَّسْخَ، لِأَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الأَخْذُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ (عِنْدَ) 2 الْحَاجَةِ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ، وَإِنْ أُخِذَ ضُمِنَ3. وَقَالَ قَوْمٌ: لَوْ أَدْرَكَتْهُ ضَرُورَةٌ جَازَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلا يَأْخُذُ مِنْ مال اليتيم شيئاً.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} 1. قَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَعَزُبَ فَهْمُهُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي إِثْبَاتِ نَصِيبِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ2. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ فِي الْغَايَةِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِيرَاثَ النساء في الجملة وثبت آيَةُ الْمَوَارِيثِ مِقْدَارَهُ وَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ بِحَالٍ. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 3. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ على قولين: أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآية قد نُسِخَتْ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مما تهاون الناس به4.
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قال بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ1. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا وَلِيَ (رَضَخَ) 2 وَإِذَّا كَانَ الْمَالُ فِيهِ قِلَّةٌ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ القول المعروف3. قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: بنا همام قال بنا قَتَادَةُ: قَالَ الأَشْعَرِيُّ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ4. قال أحمد: وبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مَطَرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَاللَّهِ ما هي بمنسوخة، وإنها لثابتة. وَلَكِنَّ النَّاسَ بَخِلُوا وَشَحُّوا وَكَانَ النَّاسُ إِذَا قُسِّمَ الْمِيرَاثُ حَضَرَ الْجَارُ وَالْفَقِيرُ {5 وَالْيَتِيمُ (وَالْمِسْكِينُ) 6 فَيُعْطُونَهُمْ من ذلك7.
قَالَ أحمد: وبنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو (بِشْرٍ) 1 عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: وَأَبْنَا مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ (قَالا:) 2 هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ3. قَالَ أحمد: وبنا يَزِيدُ، قَالَ: أَبْنَا سُفْيَانُ بْنُ حسين، قال: سمعت الحسن ومحمداً، يقولان قي هذه الآية: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} هِيَ مُثْبَتَةٌ 0لَمْ تُنْسَخْ وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ إِذَا حَضَرَتْ حَضَرَ (هَؤُلاءِ) 4 فَرُضِخَ لَهُمْ مِنْهَا، وَأُعْطُوا5. قَالَ أحمد: وبنا يحيى بن آدم قال: بنا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قَالا: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ6. قال أحمد: وبنا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِنَّهَا مُحَكْمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ7.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى إِحْكَامِهَا عَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ1. ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِإِحْكَامِهَا فِي الأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الاستحباب أو الندب وَهُوَ الصَّحِيحُ2. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بشران، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: (بنا) 3 حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ فَجُعِلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ نَصِيبًا مِمَّا تَرَكَ مِمَّا قلّ منه أو كثر4.
قال أحمد: وبنا يحيى بن آدم قال: بنا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ1 وَإِذَا حَضَرَ القسمة قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ2. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} يَعْنِي: عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْفَرَائِضُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَائِضَ فَأَعْطَى3 كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ4. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَسَخَتْهَا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} الآيَةُ5. وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد بن حنبل
قال: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَتْ هَذِهِ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً. قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: بنا همام، قال: بنا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالَ: كَانَتْ قَبْلَ الْفَرَائِضِ، وَكَانَ مَا تُرِكَ مِنْ مَالٍ أُعْطِيَ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، واليتامى، وذوي الْقُرْبَى إِذَا (حَضَرُوا) 1 الْقِسْمَةَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ، نَسَخَهَا الْمَوَارِيثُ فَأَلْحَقَ اللَّهُ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حقه، فصارت وصية من ما له يُوصِي بِهَا لِذِي قَرَابَتِهِ، وَحَيْثُ يَشَاءُ2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ3. قَالَ أبو بكر: وبنا يعقوب بن سفيان قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: أَبْنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، قال: بنا عُبَيْدُ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ مسلم
أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قَالَ: "نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ"1. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "نَسَخَتْهَا آيَةُ الْفَرَائِضِ"2. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَتَادَةُ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ3 وَأَبُو صَالِحٍ وَعَطَاءٌ في رواية4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} 1 فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةُ أقوال: أحدهما: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ عِنْدَ الْمُوصِي. ثُمَّ فِي مَعْنَى الْكَلامِ عَلَى هذا القول قولان: أحدهما: أَنَّ الْمَعْنَى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} وليخش الذين يحضرون موصياً بوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ما له فِيمَنْ لا يَرِثُهُ فَيُفَرِّقُهُ وَيَتْرُكُ وَرَثَتَهُ وَلَكِنْ لِيَأْمُرُوهُ أَنْ يُبْقِيَ مَالَهُ لِأَوْلادِهِ كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يُوصُونَ لَسَرَّهُمْ أَنْ يَحُثَّهُمْ مَنْ حَضَرَهُمْ عَلَى حِفْظِ الأَمْوَالِ لِلأَوْلادِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، والسدي ومقاتل2.
وَالثَّانِي: عَلَى الضِّدِّ، وَهُوَ أَنَّهُ نَهَيٌ لِحَاضِرِي الْمُوصِي عِنْدَ الْمَوْتِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِأَقَارِبِهِ، وَأَنْ يَأْمُرُوهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَلَدِهِ وَهَذَا قَوْلُ مِقْسَمٍ1 وَسُلَيْمَانَ التَّمِيمِيِّ2. الْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ الْيَتَامَى، رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} 3 فَقَالَ تَعَالَى: - يَعْنِي أَوْلِيَاءَ الْيَتَامَى - {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} فِيمَنْ وُلُّوهُ مِنَ الْيَتَامَى وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ وُلاةُ أَوْلادِهِمْ لَوْ مَاتُوا هُمْ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما أيضاً4.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلأَوْصِيَاءِ بِإِجْرَاءِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا رَسَمَ الْمُوصِي وَأَنْ يَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي فِيهَا مَرْعِيَّةً بِالْمُحَافَظَةِ كَرَعْيِ الذُّرِّيَّةِ الضِّعَافِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْه} 1 فَأُمِرَ بِهَذِهِ الآيَةِ إِذَا وَجَدَ الْوَصِيُّ مِنَ الْمُوصِي فِي الْوَصِيَّةِ جَنَفًا أَوْ مَيْلا (عَنِ الْحَقِّ فَعَلَيْهِ) 2 الإِصْلاحُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتِعْمَالُ قَضِيَّةِ الشَّرْعِ وَرَفْعِ الْحَالِ الْوَاقِعِ فِي الْوَصِيَّةِ. ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ3. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، وَعَلَى الأَقْوَالِ قَبْلَهَا هِيَ مُحْكَمَةٌ4. وَالنَّسْخُ مِنْهَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِجَوْرٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يجري على ما أوصى5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} 1. قَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ لَمْ يُرْزَقُوا فَهْمَ التَّفْسِيرِ (وَفِقْهَهُ) 2 أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} 3 وَأَثْبَتُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَرَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أنبا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن العباس، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا (عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ) 4 قال: بنا عمران بن عيينة، قال: بنا عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} قَالَ: كَانَ يَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ الْيَتِيمُ فَيَعْزِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} 5 فأحل لهم طعامهم6.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عَزَلُوا أَمْوَالَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وتحرجوا من مخاطبتهم فَنَزَلَ قَوْلُهُ: تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} 1. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لا خِلافَ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا حَرَامٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: "هَذِهِ الآيَةُ لا يَجُوزُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهَا خَبَرٌ وَوَعِيدٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي، وَمُحَالٌ نَسْخُ هَذَا، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأْوِيلُهُ مِنَ اللُّغَةِ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى نسخة تلك الآية"2. وزعم بَعْضُهُمْ أَنَّ نَاسِخَ هَذِهِ الآيَةِ قوله تعالى: {َمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 3 وَهَذَا قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ الأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ لَيْسَ بِظُلْمٍ فَلا تَنَافِيَ بَيْنَ الآيتين4.
ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} وقوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 1. الآيَتَانِ. أَمَّا الآيَةُ الأُولَى فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَةِ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلامِ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهَا سَبِيلا، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ. وَالآيَةُ الثَّانِيَةُ اقْتَضَتْ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ الأَذَى فَظَهَرَ مِنَ الآيَتَيْنِ أَنَّ حَدَّ الْمَرْأَةِ كَانَ الْحَبْسَ وَالأَذَى جَمِيعًا، وَحَدَّ الرَّجُلِ كَانَ الأَذَى فَقَطْ، لِأَنَّ الْحَبْسَ وَرَدَ خَاصًّا فِي النِّسَاءِ، وَالأَذَى وَرَدَ عَامًّا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ النِّسَاءُ فِي الآيَةِ الأُولَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُنَّ يَنْفَرِدْنَ بِالْحَبْسِ دُونَ الرِّجَالِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الأَذَى، وَلا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي نَسْخِ (هَذَيْنِ) 2 الْحُكْمَيْنِ عَنِ الزَّانِيَيْنِ، أَعْنِي: الْحَبْسَ وَالأَذَى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بِمَاذَا نُسِخَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ نسخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن العباس، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال:
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1 قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا زَنَتْ حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا زَنَى أُوذِيَ بالتعيير، وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا بِسُنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم2. أبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عن مجاهد {فآذوهما} يَعْنِي سَبًّا ثُمَّ نَسَخَتْهَا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: بنا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} 4 قال: نسختها الحدود5.
قال أحمد: وبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَبْلَ الحدود ثم أنزلت: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} قَالَ: كَانَا يُؤْذَيَانِ بِالْقَوْلِ وَالشَّتْمِ وَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ فَقَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1. قال أحمد: وبنا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ عَنِ ابْنِ أبي نجيح عن مجاهد {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} قَالَ: "نَسَخَتْهُ الآيَةُ الَّتِي فِي النور بالحد المفروض"2. وقال قَوْمٌ: نُسِخَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ3 عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ4 جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ونفي سنة" 5.
قَالُوا فَنُسِخَتِ الْآيَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَؤُلاءِ يُجِيزُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ (بِالسُّنَّةِ) 1 وَهَذَا قَوْلٌ مُطْرَحٌ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ التَّوَاتُرُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِأَخْبَارِ الآحَادِ فَلا يَجُوزُ ذلك وهذا مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ. وَقَالَ الآخَرُونَ: السَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ هُوَ الآيَةُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2. وقال آخَرُونَ: بَلِ السَّبِيلُ قُرْآنٌ نَزَلَ ثُمَّ رُفِعَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ3. وَظَاهِرُ حَدِيثِ عُبَادَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، (لِأَنَّهُ) 4 قَالَ: (قَدْ جَعَلَ الله لهن سبيلاً) فأخبر أن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ لَمْ تَسْتَقِرَّ تِلاوَتُهُ5 وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لا يَرَى نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ6، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِمَاذَا ثبت الرجم على قولين:
أحدهما: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ قُرْآنٌ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ، وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ1. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} وَقَوْلُهُ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} الآيتان2.
إِنَّمَا سُمِّيَ فَاعِلُ الذَّنْبِ جَاهِلا، لِأَنَّ فِعْلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِسُوءِ مَغَبَّتِهِ1 فَأَشْبَهَ مَنْ جَهِلَ (الْمَغَبَّةَ) 2. وَالتَّوْبَةُ مِنْ قَرِيبٍ: مَا كَانَ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْمَلَكِ فَإِذَا حَضَرَ الْمَلَكُ لِسَوْقِ الرُّوحِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حينئذٍ يَصِيرُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى التَّوْبَةِ فَمَنْ (تَابَ) 3 قَبْلَ ذَلِكَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، أَوْ أَسْلَمَ عَنْ كُفْرٍ قُبِلَ إِسْلامُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ: أَنَّ هَذَا الأَمْرَ أُقِرَّ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ أَرْبَابِ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَنُسِخَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} 4، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الفريقين واحد5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} 1. هَذَا كَلامٌ مُحْكَمٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: بعد ما قَدْ سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ نَسَخَ مَا قَبْلَهُ. وَهَذَا تَخْلِيطٌ لا حَاصِلَ لَهُ وَلا يَجُوزُ أن يلتفت إليه من جهتين: أحدهما: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ إِلَى مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ فَعَلْتُمُ عُوقِبْتُمْ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ، فَإِنَّكُمْ لا تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، فَلا مَعْنَى لِلنَّسْخِ هَهُنَا2. ذِكْرُ الآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ} 3. وَهَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ زَعَمَ الزَّاعِمُ هُنَاكَ: أَنَّ هَذِهِ كَتِلْكَ فِي أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا رذولة هذا القول4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الآيَةِ مَوْضِعَانِ مَنْسُوخَانِ: الأَوَّلُ: قَوْلُهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2، وهذا عِنْدَ (عُمُومِ) 3 الْعُلَمَاءِ لَفْظٌ عَامٌّ دَلَّهُ التَّخْصِيصُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْ تُنْكَحَ المرأة على عمتها أو أعلى خَالَتِهَا"4 وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ لا فِقْهَ لَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ مَنْسُوخٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَأْتِي مِنْ عَدَمِ فَهْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْجَهْلِ بِشَرَائِطِهِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ5. وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ} 6.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الاستمتاع على قولين: أحدهما: أَنَّهُ النِّكَاحُ، وَالأُجُورُ الْمُهُورُ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْجُمْهُورِ1. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُتْعَةُ الَّتِي كَانَتْ في أول الإسلام، كَانَ الرَّجُلُ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيَشْهَدُ شَاهِدَيْنِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ. قَالَهُ قَوْمٌ مِنْهُمُ السُّدِّيُّ2 ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ، فَقَالَ3 قَوْمٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: بنا محمد ابن المثنى، قال: بنا محمد بن جعفر، قال: بنا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ} أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لا. قَالَ الْحَكَمُ: وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْلا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ - فَذَكَرَ شَيْئًا –"4. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَاخْتَلَفُوا بِمَاذَا نسخت على قولين: أحدهما: بإيجاب العدة.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا (أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ) 1 قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَبْنَا هَاشِمُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابن المبارك، عن عثمان ابن عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} فنسختها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 2 {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3 {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} 4. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نُسِخَتْ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المتعة5.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِوَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّ الآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ عُقْدَةِ النكاح بقوله: {مُحْصِنِينَ} أَيْ: مُتَزَوِّجِينَ، عَاقِدِينَ النِّكَاحَ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ الْمَوْصُوفِ فَآتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، وَلَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَلا حاجة إلى التكلف، وإنما أجاز المتعة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مُنِعَ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. نَسْخُهُ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ1. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 2. هَذِهِ الآيَةُ عَامَّةٌ فِي أَكْلِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ، وَأَكْلِهِ مَالَ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ. فَأَمَّا أَكْلُهُ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ فَهُوَ إِنْفَاقُهُ فِي معاصي الله عزوجل.
وَأَمَّا أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ، فهو تناوله على الْوَجْهَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ غَصْبًا مِنْ مَالِكِهِ، أَوْ كَانَ بِرِضَاهُ، إِلا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شرعاً، مثل القمار والربا. وَهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: حدثني أبي، قال: بنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: أَبْنَا سُفْيَانُ عَنِ رَبِيعٍ عَنِ الْحَسَنِ {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1 قَالَ: مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ، قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: بنا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَمْرٍو، أَنَّ مَسْرُوقًا2 قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قَالَ: "إِنَّهَا لَمُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ"3. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي التَّفْسِيرِ، وَمُدَّعِي عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ تَحَرَّجُوا مِنْ أَنْ يُوَاكِلُوا الأَعْمَى وَالأَعْرَجَ وَالْمَرِيضَ، وَقَالُوا إِنَّ الأَعْمَى لا يبصر أطايب الطَّعَامِ، وَالأَعْرَجَ لا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْمَرِيضَ لا يَسْتَوْفِي الأَكْلَ، فأنزل الله عزوجل: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ} الآية4 فنسخت هذه الآية5.
وهذا ليس بشيء، ولأنه لا تَنَافِيَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وَلا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِحَالٍ، (وَعَلَى مَا قَدْ زَعَمَ) 1 هَذَا الْقَائِلُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} 2.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ المعاقدة على ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّهَا الْمُحَالَفَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلاءِ عَلَى مَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أحدها: عَلَى أَنْ يَتَوَارَثُوا. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْإِسْلامِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، فنسختها هذه الآية {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآيَةُ1. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بن محمد المروزي، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ ليس
بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فنسخ ذلك قوله: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} 1. وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ، عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الآخَرُ، فَنَسَخَتْهَا آيَةُ المواريث"2. والثاني: أنهم كانوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى أَنْ يَتَنَاصَرُوا، وَيَتَعَاقَلُوا فِي الْجِنَايَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلامُ بَقِيَ مِنْهُمْ نَاسٌ فَأُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ وَهُوَ السُّدُسُ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بالميراث، فقال: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 3.
فَصْلٌ: وَهَلْ أُمِرُوا فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَوَارَثُوا بِذَلِكَ فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَتَوَارَثُوا بِذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُ لِحَلِيفِهِ السُّدُسَ مِنْ مَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُ لَهُ سهماُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ مَالِهِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَلْحَقُ بِهِ الرَّجُلُ فَيَكُونُ تَابِعَهُ، فَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ صَارَ لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ الْمِيرَاثُ، وَبَقِيَ تَابِعُهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَكَانَ يُعْطِي مِنْ مِيرَاثِهِ، فَأَنْزَلَ الله تعالى بعد ذلك، {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي: نَسْخَ الآيَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ2 وَمَالِكٌ، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، غَيْرَ أَنَّهُ جَعَلَ ذَوِي الأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوَالِي الْمُعَاقَدَةِ، فَإِذَا فَقَدَ ذَوِي الأَرْحَامِ وَرِثُوا، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالتَّوَارُثِ بِذَلِكَ، بَلْ أُمِرُوا بِالتَّنَاصُرِ، وَهَذَا حُكْمٌ باقٍ لَمْ يُنْسَخْ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: "لا حِلْفَ فِي الْإِسْلامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلامَ (لَمْ يَزِدْهُ إِلا شِدَّةً" 1 وَأَرَادَ بِذَلِكَ النُّصْرَةَ وَالْعَوْنَ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "لا حِلْفَ فِي الْإِسْلامِ" أَنَّ الْإِسْلامَ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ، بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنَ التَّنَاصُرِ2 وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ وَيَعْقِلُونَ عَنْهُمْ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا وكيع، قال: بنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: "هُمُ الْحُلَفَاءُ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْمَشُورَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَلا مِيرَاثَ"1. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَاقَدَةِ، الْمُؤَاخَاةُ الَّتِي عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ قَالَ: أَبْنَا أبو داود السجستاني، قال: بنا هرون بن عبد الله، قال: بنا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي إِدْرِيسُ2 بن يزيد، قال: بنا طلحة3 ابن مُصَرِّفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يُوَرِّثُونَ الأَنْصَارَ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِمْ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} 4 نَسَخَتْ، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالنَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ. وَيُوصِي لَهُمْ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ5. وَرَوَى أَصْبَغُ6 عَنِ ابْنِ زَيْدٍ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: الَّذِينَ عَاقَدَ بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِذَا لَمْ يَأْتِ ذو رحم يحول بينهم.
(قَالَ: وَهَذَا) 1 لا يَكُونُ الْيَوْمَ إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي نَفَرٍ آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْقَطَعَ ذَلِكَ وَلا يَكُونُ هَذَا لِأَحَدٍ إِلا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ أَبْنَاءَ غَيْرِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُمِرُوا أَنْ يُوصُوا لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ تَوْصِيَةً وَرَدُّ الْمِيرَاثِ إِلَى (الرَّحِمِ) 3 وَالْعُصْبَةِ. رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ4. ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 5. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الآيَةُ اقْتَضَتْ إِبَاحَةَ السُّكْرِ فِي غَيْرِ (أَوْقَاتِ) 6 الصَّلاةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلُهُ تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ} 7.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ إسماعيل بن العباس، قال: بنا (أَبُو) 1 بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ (قُهْزاد) 2، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قَالَ: نَسَخَتْهَا {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 3. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَبْنَا يَعْقُوبُ بن سفيان، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: بنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قَالَ: كَانُوا لا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلاةِ فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا فَلا يُصْبِحُونَ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ، فَإِذَا صَلُّوا الْغَدَاةَ شَرِبُوهَا، فأنزل الله عزوجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ} الآية4 فحرم الله الخمر5.
قَالَ أبو بكر: وبنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي المائدة {فَاجْتَنِبُوهُ} 1 قال أبو بكر: وبنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أَبْنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: بنا عُبَيْدُ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ مُسْلِمٍ، أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ أَخْبَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قَالَ: "نَسَخَتْهَا {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ} " الآيَةَ2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} 3.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. تَقْدِيرُهُ: فَعِظْهُمْ فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الإِجَابَةِ فَأَعْرِضْ. وَهَذَا كَانَ قَبْلَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَّيْفِ1. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اخْتَصَمَ يَهُودِيٌّ وَمُنَافِقٌ، وَقِيلَ: بَلْ مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ، فَأَرَادَ الْيَهُودِيُّ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ، أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى الْمُنَافِقُ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} 3 إِلَى هَذِهِ الآيَةِ، وَكَانَ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ: وَلَوْ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا مِنْ (صَنِيعِهِمْ) 4 وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ5،وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ منتحلي التفسير:
أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 1. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْذُولٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ، فَأَمَّا إِذَا جَاءُوا فَاسْتَغْفَرُوا وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، فَقَدِ ارْتَفَعَ الإِصْرَارُ فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} 3. وَهَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ الأَمْرَ بِأَخْذِ الْحِذْرِ، وَالنَّدْبِ إِلَى أَنْ يَكُونُوا عصباً وَقْتَ نَفِيرِهِمْ، ذَوِي أَسْلِحَةٍ عِنْدَ بُرُوزِهِمْ إِلَى عَدُوِّهِمْ وَلا يَنْفِرُوا مُنْفَرِدِينَ4 لِأَنَّ الثُّبَاتَ: الْجَمَاعَاتُ الْمُتَفَرِّقَةُ5.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ هذه الآية منسوخة. أَخْبَرَنَا بْنُ1 نَاصِرٍ قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أبنا أبو داود السجستافي، قال: بنا الحسن بن محمد، قال: بنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} 2، وقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 3 وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 4 ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ الآيَاتِ، فَقَالَ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآيَةَ5. قُلْتُ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيهَا مَغْمَزٌ6. وَهَذَا الْمَذْهَبُ لا يُعْمَلُ عَلَيْهِ. وَأَحْوَالُ الْمُجَاهِدِينَ تَخْتَلِفُ، وَالأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يراه الإمام
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَاتِ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ بَلْ كُلُّهَا مُحْكَمَاتٌ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى مَا قَدْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ1. ذِكْرُ الْآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} 2. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَعْنَاهُ: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ (رَقِيبًا تُؤْخَذُ بِهِمْ) 3. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ (قُتَيْبَةَ) 4: حَفِيظًا أَيْ: مُحَاسِبًا لَهُمْ5. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، إِلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي بِدَايَةِ الأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ6 وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَفْسِيرُهَا مَا ذَكَرْنَا فَأَيُّ وَجْهٍ لِلنَّسْخِ7. ذِكْرُ الْآيَةِ الْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 8.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَى الْكَلامِ: أَعْرِضْ عَنْ عُقُوبَتِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ هَذَا الإِعْرَاضُ عَنْهُمْ بِآيَةِ السَّيْفِ1. ذِكْرُ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ: لا تُكَلَّفُ إِلا الْمُجَاهَدَةَ بِنَفْسِكَ، وَلا تُلْزَمْ فِعْلَ غَيْرِكَ، وَهَذَا مُحْكَمٌ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ3 (فَكَأَنَّهُ) 4 اسْتَشْعَرَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلامِ: لا تُكَلَّفُ أَنْ تُقَاتِلَ أَحَدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا الْمَعْنَى: لا تُكَلَّفُ فِي الْجِهَادِ إِلا فِعْلَ نَفْسِكَ5. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 6.
قوله تعالى: {يَصِلُونَ}: يَدْخُلُونَ فِي عَهْدٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. وَالْمَعْنَى: يَنْتَسِبُونَ بِالْعَهْدِ1 أَوْ يصلون إلى قوم جاؤوكم، حصرت
صُدُورُهُمْ أَيْ: ضَاقَتْ عَنْ قِتَالِكُمْ1 لِمَوْضِعِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، فَأُمِرَ2 الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِتَرْكِ قِتَالِ مَنْ (لَهُ) 3 مَعَهُمْ عَهْدٌ، أَوْ مِيثَاقٌ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِعَهْدٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَبِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ نَبْذِ الْعَهْدِ إِلَى أَرْبَابِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ. (أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ) 4 قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ. أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السجستاني، قال: بنا الحسن ابن محمد، قال: بنا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِلاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 5 وَقَالَ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ} 6 وَقَالَ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 7 نَسَخَ هَذَا {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 8 {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} 9.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أبنا عمر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بن إسحاق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {إِلاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآيَةَ. قَالَ: نُسِخَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٍ، وَنُبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ، وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية1.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} 1. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْمُوَافَقَةَ لِلْفَرِيقَيْنِ لِيَأْمَنُوهُمَا فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، إِذَا اعْتَزَلُوا وَأَلْقُوا إِلَيْنَا السَّلَمَ، وَهُوَ الصُّلْحُ كَمَا أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 3.
جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذَا إِلَى الَّذِي يُقْتَلُ خَطَأً (فَعَلَى) 1 قَاتِلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا2. فَالآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ (بَعْضُ) 3 مُفَسِّرِي الْقُرْآنِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عهد (وهدنة) 4 إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5 وبقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} 6. ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية7. اختلف العلماء هل هذه مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: (أَنَّهَا) 1 مَنْسُوخَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: بِأَنَّهَا حَكَمَتْ بِخُلُودِ الْقَاتِلِ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِلاّ مَنْ تَابَ} 3. وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: مَعْنَى نَسَخَتْهَا آية (الفرقان) 4 أي: نزلت بنسختها5. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَاخْتَلْفَ هَؤُلاءِ فِي طَرِيقِ أَحْكَامِهَا عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَأَكَدُّوا هَذَا بِأَنَّهَا خَبَرٌ، وَالأَخْبَارُ لا تُنْسَخُ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ6، قَالَ: أَبْنَا أَبِي، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي البغوي، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، قَالَ: أَبْنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، قال: سمعت
سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قَالَ: (فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نزلت وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ) 1. وَعَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عباس عن قول الله عزوجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قَالَ: لا تَوْبَةَ لَهُ2. أَخْبَرَنَا ابن الحصين، قَالَ: أَبْنَا غَيْلانُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا ابن حذيفة النهدي، قال: بنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قَالَ: لَيْسَ لِقَاتِلِ مُؤْمِنٍ تَوْبَةٌ، مَا نَسَخَتْهَا آيَةٌ مُنْذُ نَزَلَتْ3. أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ4، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ الْيَسَرِيِّ، قَالَ: أَبْنَا المخلص،
قال: بنا البغوي، قال: بنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: بنا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرِ، عَنْ عُمَرَ بن قيس الملاي، عَنْ يَحْيَى الْجَابِرِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ: وَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ قَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، قَاتِلُ الْمُؤْمِنِ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى إِحْدَى يَدَيْهِ آخِذًا بِالأُخْرَى الْقَاتِلَ (تَشْخُبُ) 1 أَوْدَاجُهُ قِبَلَ عرش الرحمن عزوجل فَيَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ: وَمَا نَزَلَتْ فِي كتاب الله عزوجل آيَةٌ نَسَخَتْهَا2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بشران، قال: أبنا إسحاق ابن أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قال بنا مغيرة بن
النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ أَبِي عَبَّاسٍ رضي الله عنها فَقَالَ: إِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ1. قَالَ أحمد: وبنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جريج، قال: حدثني القاسم ابن أَبِي بَزَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لا. فَتَلَوْتُ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ {إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} 2 فَقَالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 3. قال أحمد: وبنا حسين بن محمد قال بنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّيَادِ، قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخَنَا يُحَدِّثُ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَاكَ، (قَالَ) 4: نَزَلَتِ الشَّدِيدَةُ بَعْدَ الْهَيِّنَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَوْلُهُ: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقّ} 5 وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 6.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ التَّشْدِيدَ بِهَذَا الْقَوْلِ. فَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ قَالَ: بنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: أبنا يزيد بن هرون، قَالَ: أَبْنَا أَبُو مَالِكٍ، قَالَ: بنا سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: لِمَنْ قَتَلَ الْمُؤْمِنَ تَوْبَةٌ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، أَلِمَنْ قَتَلَ مؤمناً توبة؟ قال: لا إِلا النَّارَ. فَلَمَّا قَامَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: مَا هَكَذَا؟ كُنْتَ تَفْتِينَا أَنَّهُ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ، فَمَا شَأْنُ هَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: إِنِّي أَظُنُّهُ رَجُلا مُغْضَبًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، فَبَعَثُوا فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ1. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن (للقاتل) توبة2.
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ (مِينَاءَ) 1 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: (سَأَلَهُ) 2 رَجُلٌ، قَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ رَجُلا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: تَزَوَّدْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ، فَإِنَّكَ لا تَدْخُلُهَا أَبَدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ضِدَّ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ لِلْقَاتِلِ: "تُبْ إِلَى اللَّهِ يَتُبْ عَلَيْكَ" وَرَوَى سَعِيدُ بن مينا) 3 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا تَقُولُ فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ، هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَالَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ4. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ، بِدَلِيلِ5 أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ الْكَافِرُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا مِنَ الْعَامِّ الْمُخَصَّصِ، فَأَيُّ دَلِيلٍ صَلُحَ لِلتَّخْصِيصِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَمِنْ أَسْبَابِ التَّخْصِيصِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَهُ مُسْتِحِلًّا لِأَجْلِ إِيمَانِهِ فيستحق التخليد لاستحلاله.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود، قال: بنا الْحَسَنُ بْنُ عَطَاءٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ محمد الحسين، قالا: بنا خلاد بن يحيى، قال بنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الصَّيْرَفِيُّ أَبُو رَوِيَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَعَلَيْهَا أَمِيرٌ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَهْلِ مَاءٍ خَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِلَى مَا تَدْعُو؟ فَقَالَ: إِلَى الْإِسْلامِ، قَالَ: وَمَا الْإِسْلامُ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ تُقِرَّ بِجَمِيعِ الطَّاعَةِ، قَالَ: هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ لا يَقْتُلُهُ إِلا عَلَى الْإِسْلامِ، فَنَزَلَتْ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} لا يَقْتُلُ إِلا عَلَى إِيمَانِهِ الآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي (مَقِيسِ بْنِ ضُبَابَةَ) قَتَلَ مُسْلِمًا عَمْدًا وَارْتَدَّ كَافِرًا1. وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فَقَالَ: وَمِنْ لَفْظٍ عَامٍّ لا يُخَصُّ إِلا (بِتَوْقِيفٍ) 2 أَوْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ3. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاّ مَنْ تَابَ} 4.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الآيَتَيْنِ مُحْكَمَتَانِ، فَإِنْ كَانَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ أُنْزِلَتْ أَوَّلا فَإِنَّهَا مُحْكَمَةٌ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِ الْوَعِيدِ غَيْرَ مُسْتَوْفَاةٍ الْحُكْمَ، ثُمَّ بُيِّنَ حُكْمُهَا فِي الآيَةِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ، وَكَثِيرٌ مِنَ المفسرين منهم ابن عباس وأبوا مِجْلَز1 وَأَبُو صَالِحٍ. يَقُولُونَ: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ إِنْ جَازَاهُ. وَقَدْ رَوَى لَنَا مَرْفُوعًا إِلا أَنَّهُ لا يَثْبُتُ رَفْعُهُ2. وَالْمَعْنَى: يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُقْطَعُ لَهُ بِهِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ لِقَوْلِهِ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}. فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ عَذَابِهِ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ الأُولَى فَقَدِ اسْتَغْنَى بِمَا فِيهَا عَنْ إِعَادَتِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ بحال3.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الاّسْفَلِ} 1. زَعَمَ بَعْضُ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ إنها نسخت بالاستثناء بعد ها، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا} 2 وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الاستثناء ليس بنسخ3.
باب ذكر الآيات اللواتي قَدْ زَعَمَ (قَوْمٌ) 1 أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ، فَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ بنا محمّد بن بشار، قال: بنا عبد الرحمن2، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ، قَالَ: الْمَائِدَةُ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ3 قَالَ ابْنُ بشار: وبنا ابن أبي عدي، قال: بنا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: نُسِخَ مِنَ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لا4. وَقَدْ ذَهَبَ الأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ فِي الْمَائِدَةِ مَنْسُوخًا وَنَحْنُ نذكر ذلك.
ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} الآيَةَ1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ منسوخة؟ على قولين: أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلا يَجُوزُ اسْتِحْلالُ الشَّعَائِرِ وَلا الْهَدْيِ قَبْلَ أَوَانِ ذَبْحِهِ2. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْقَلائِدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْرُمُ رَفْعُ (الْقِلادَةِ) 3 عَنِ الْهَدْيِ حَتَّى (يُنْحَرَ) 4. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُقَلِّدُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَقِيلَ لَهُمْ لا تَسْتَحِلُّوا أَخْذَ الْقَلائِدِ مِنَ الْحَرَمِ وَلا تَصُدُّوا الْقَاصِدِينَ إِلَى الْبَيْتِ5. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، ثُمَّ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا ثَلاثَةُ أقوال: أحدهما: قَوْلُهُ: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فَإِنَّ هَذَا اقْتَضَى جَوَازُ إِقْرَارِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قَصْدِهِمُ الْبَيْتَ، وَإِظْهَارِهِمْ شَعَائِرَ الْحَجِّ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} 6 وَبِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 7 وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قال: أبنا عمر بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ ابن (أَحْمَدَ) 1، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قال. بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: نُسِخَ مِنْهَا: {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. وَقَالَ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 3. وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} 4. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْهَا تَحْرِيمُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَتَحْرِيمُ الآمِّينَ لِلْبَيْتِ إِذَا كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهَدْيِ الْمِشْرِكِينَ، إذا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَانٌ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ5. وَالثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَهَا مَنْسُوخٌ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ. أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح،
قَالَ: بنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} 1 قَالَ: "كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَيُهْدُونَ الْهَدَايَا وَيُحَرِّمُونَ (حُرْمَةَ) 2 الْمَشَاعِرِ، وَيَنْحَرُونَ فِي حَجِّهِمْ، فَأَنْزَلَ الله عزوجل {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أَيْ لا تَسْتَحِلُّوا قِتَالا فِيهِ، {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} يَقُولُ: مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} " 3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا يَزِيدُ، قَالَ: أَبْنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 4. قال أحمد: وبنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ، {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} قال: هي منسوخة، كان
الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقَلَّدَ من (السَّمْر) 1 فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، فَإِذَا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلادَةَ شَعْرٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُ يومئذٍ لا يَصُدُّ عَنِ الْبَيْتِ، فَأُمِرُوا أَنْ لا يُقَاتِلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلا عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَنَسَخَهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا بْنُ غَيْلانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو حذيفة النهدي، قال: بنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ بَيَّانٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ المائدة غير آية واحدة {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (نَسَخَتْهَا) 3 {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 4. وفصل الخطاب في هذا أَنَّهُ لا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِنَسْخِ جَمِيعِ الآيَةِ فَإِنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ أَعْلامُ مُتَعَبَّدَاتِهِ5. وَلا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِنَسْخِ هَذَا (إِلا أَنْ يَعْنِي)
بِهِ: لا تَسْتَحِلُّوا نَقْضَ مَا شَرَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَنْسُوخًا. وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ وَالْقَلائِدُ، وَكَذَلِكَ الآمُّونَ لِلْبَيْتِ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ صَدُّهُمْ إِلا أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَمَنْسُوخُ الْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 1. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 2 فَلا وَجْهَ لِنَسْخِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} فَمْنَسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3 وَبَاقِي الآيَةِ مُحْكَمٌ (بِلا) 4 شَكٍّ.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ على ثلاثة أقوال: أحدهما: أَنَّهَا اقْتَضَتْ إِبَاحَةَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْإِطْلاقِ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ أَهَلُّوا عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، أَوْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ2 فِي آخَرِينَ، وَهَؤُلاءِ زَعَمُوا أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 3. قال أبو بكر: وبنا حَرَمِيُّ بْنُ يُونُسَ4 قَالَ: أَبْنَا أَبِي، يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: بنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمَسِيحَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، قَالَ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا هُمْ قَائِلُونَ، وَقَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ. قال أبو بكر: وبنا زياد بن أيوب، قال: بنا مروان، قال بنا أيوب ابن يَحْيَى الْكِنْدِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ نَصَارَى نَجْرَانَ فَقُلْتُ: مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الْمَسِيحَ. قَالَ: كُلٌّ، وَأَطْعَمَنِي.
قال أبو بكر: وبنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبٍ، قال: بنا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جِرُيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُلُوا وَإِنْ ذُبِحَ لِلشَّيْطَانِ. قَالَ أَبُو بكر: وبنا محمود بن خالد، قال: بنا الْوَلِيدُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ يَقُولُ: "لا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا ذَبَحَتِ النَّصَارَى لِأَعْيَادِ كَنَائِسِهَا، وَلَوْ سمعته يقوله: عَلَى اسْمِ جُرْجِيسَ وَبُولِسَ"1. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2 مَا ذَبَحَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أُحِلَّ لَكُمْ ذَبَائِحُهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ3. قال أبو بكر: وبنا محمد بن بشار، قال: بنا يحيى، قال: بنا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: إِذَا ذَبَحَ النَّصْرَانِيُّ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فكل4.
قال أبو بكر: وبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: بنا ابن أبي غنية، قال: بنا أَبِي، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: لَوْ ذَبَحَ النَّصْرَانِيُّ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ الْمَسِيحُ لَأَكَلْتُ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه} 1 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَتْ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا (فمتى علم) 2 أنهم قد ذَكَرُوا غَيْرَ اسْمِهِ لَمْ يُؤْكَلْ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي3. وَمِمَّنْ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اللَّهِ فَلا تَأْكُلْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَطَاؤُسٌ وَالْحَسَنُ4، وعن عبادة
ابن الصَّامِتِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ1 (كَهَذَا الْقَوْلِ) 2. وَكَالْقَوْلِ الأَوَّلِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 4. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّ فِي (الْكَلامِ) 5 إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ مُحْدِثِينَ. وَهَذَا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، والفقهاء6.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى إِطْلاقِهِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَرَادَ الصَّلاةَ أَنْ يَتَوَضَّأَ سَوَاءً كَانَ مُحْدِثًا أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: عَلِيٌّ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ1. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هَذَا الْحُكْمُ باقٍ أَمْ نُسِخَ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ باقٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ منسوخ بالسنة وَهُوَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ2: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ. فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ"3. وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الآحَادِ لا تَجُوزُ أَنْ تَنْسَخَ الْقُرْآنَ4 وَإِنَّمَا يُحْمَلُ فِعْلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم هذا على تبيين مَعْنَى الآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ: إِذَا قُمْتُمْ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ. وَإِنَّمَا كَانَ يَتَوَضَّأُ لَكُلِّ صَلاةٍ لِطَلَبِ الْفَضِيلَةِ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ وُكِّلْنَا إِلَى الآيَةِ لَكَانَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلاةِ الطَّهَارَةُ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الصَّلَوَاتِ) 1 بِطَهُورٍ وَاحِدٍ، بَيَّنَهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِذَا قُمْتُمْ وَقَدْ أَحْدَثْتُمْ فَاغْسِلُوا2. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ نُسِخَ بِوَحْيٍ لَمْ تَسْتَقِرَّ تِلاوَتُهُ. فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى أبو جعفر ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ3 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ فَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَرُفِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلا مِنْ حَدَثٍ"4. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} 5. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا مَنْسُوخٌ أم محكم؟ على قولين،:
أحدهما: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، قَالَهُ الأَكْثَرُونَ، وَلَهُمْ في ناسخه ثلاثة أقوال: أحدهما: آيَةُ السَّيْفِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثْتُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَاعْفُ عَنْهُمْ} 1 {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} 2 وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ نُسِخَ (كُلُّهُ) 3 بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 4. وَالثَّانِي: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 5. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قال بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} قَالَ: نَسَخَتْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} 6.
وَالثَّالِثُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} 1. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُحْكَمٌ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَغَدَرُوا وَأَرَادُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ، وَلَمْ تُنْسَخْ2. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَعْفِيَ عَنْهُمْ فِي غَدْرَةٍ فعلوها مالم يَنْصِبُوا حَرْبًا، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالإِقْرَارُ بِالصِّغَارِ فَلا يتوجه النسخ3.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} 1. هَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ أَمْ عَلَى التَّخْيِيرِ. فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ فِي جَمَاعَةٍ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا قُتِلُوا وَصُلِبُوا وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلافٍ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ نُفُوا2. وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي إِقَامَةِ أَيِّ الْحُدُودِ شَاءَ سَوَاءٌ قَتَلُوا أَمْ لَمْ يَقْتُلُوا، أَخَذُوا الْمَالَ أو لم يأخذوا3.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ لا فَهْمَ لَهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ فِي مَوَاضِعَ1. ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2. اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا إِذَا تَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخَيَّرًا (إِنْ شَاءَ حَكَمَ) 3 بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ ثم نسخ ذلك، بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 4 فَلَزِمَهُ الْحُكْمُ (وَزَالَ) 5 التَّخْيِيرُ، رَوَى هَذَا الْمَعْنَى أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ بأسانيده عن
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَدْ رَوَى أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ (وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) 1. وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ غَيْلانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، قال: بنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنِ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2 قال: نسختها {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ بنا عمر بنا عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بن أحمد، قال: بنا عبد الله ابن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قال: نسختها {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 4.
قال أحمد: وبنا هشيم قال: بنا أَصْحَابُنَا مِنْهُمْ: مَنْصُورٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قَالَ: نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا، قَوْلَهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 1. قال أحمد: وبنا وكيع، قال: بنا سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قال: نسخ قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} قَوْلِهِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2. قال أحمد: وبنا حُسَيْنٌ عَنْ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بَعْدَمَا كَانَ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ إِنْ شَاءَ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَا كَانَ قَبْلَهَا3. وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ قَالُوا: إِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الإِمَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ لَمْ يَحْكُمْ. وَقَالَ أَصْحَابُهُ: بَلْ يَحْكُمْ. قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا خِيَارَ لِلْإِمَامِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ العلماء أن الآية منسوخة4.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّ الْإِمَامَ وَنُوَّابَهُ فِي الْحُكْمِ مُخَيَّرُونَ وإذا ترافعوا إليهم إن شاؤوا حكموا بينهم وإن شاؤوا أَعْرَضُوا عَنْهُمْ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، قَالا: إِذَا ارْتَفَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَحُكْمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، وَإِنْ حَكَمَ، حَكَمَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ1. قال أحمد: وبنا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: إِنْ شَاءَ حَكَمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْكُمْ2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنى المثنى بن أحمد، قال: بنا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} جَعَلَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ عَلَى (الخيرة) 1 إما أن يحكم (و) 2 إما أَنْ يَتْرُكَهُمْ فَلا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ3. قال أبو بكر: وبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خلاد، قال: بنا يزيد قال: بنا مُبَارَكٌ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: إِذَا ارْتَفَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إِلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ، فَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَبِهِ قَالَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ. لِأَنَّهُ لا (تَنَافِي) 4 بَيْنَ الآيَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَحَدَهُمَا خَيَّرَتْ بَيْنَ الْحُكْمِ وَتَرْكِهِ، وَالأُخْرَى ثَبَتَتْ كَيْفِيَّةَ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ5. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} 6.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الرَّسُولِ التَّبْلِيغُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الاقْتِصَارَ عَلَى التَّبْلِيغِ دُونَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ1 وَالأَوَّلُ أَصَّحُ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 3. لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ: قَالَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ هِيَ تَتَضَمَّنُ كَفَّ الأَيْدِي عَنْ قِتَالِ (الضَّالِّينَ) 4 فَنُسِخَتْ. وَلَهُمْ فِي ناسخها قولان: أحدهما: آيَةُ السَّيْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ آخِرَهَا نَسَخَ أَوَّلَهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ جَمَعَتِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ غير هذه وموضع الْمَنْسُوخِ مِنْهَا إِلَى قَوْلِهِ: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} والناسخ قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والهدى ها هنا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ5.
قُلْتُ: وَهَذَا الْكَلامُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَثْبُتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهَا: إِنَّمَا أَلْزَمَكُمُ اللَّهُ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ لا يُؤَاخِذُكُمْ بِذُنُوبِ غَيْرِكُمْ. قَالَ: وَهَذِهِ الآيَةُ لا تُوجِبُ تَرْكَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تَرَكَهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لَهُ، فَهُوَ ضَالٌّ وَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ1. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَيَدُلُّ على إحكامها أربعة أشياء: أحدها: أن قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يَقْتَضِي (إِغْرَاءَ) 2 الْإِنْسَانِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ الإِخْبَارَ بِأَنَّهُ لا يُعَاقَبُ بِضَلالِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لا يُنْكِرَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا غَايَةُ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. لِأَنَّ قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَمْرٌ بِإِصْلاحِهَا وَأَدَاءِ مَا عَلَيْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُهْتَدِيًا إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّرْعِ، وَمِمَّا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ: قُولُوا مَا قُبِلَ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أنفسكم3.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ الْمُذَهَّبِ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بن جعفر، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ حدثني أبي، قال: بنا هاشم بن القاسم، قال: بنا زَهَيْرٌ يَعْنِي: ابْنَ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: بنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: بنا قَيْسٌ قَالَ: قَامَ (أَبُو بَكْرٍ) 1 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ وَأَنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رأوا المنكر، ولا يغيرونه أو شك الله عزوجل أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ" 2. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الآيَةَ قَدْ حَمَلَهَا قَوْمٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا أَدُّوا الْجِزْيَةَ فَحِينَئِذٍ لا يُلْزَمُونَ بِغَيْرِهَا. فَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
كَتَبَ إِلَى حُجْرٍ، وَعَلَيْهِمْ مِنْذِرُ بْنُ (سَاوِيٍّ) 1 يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلامِ، فَإِنْ أَبَوْا فَلْيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ عَرَضَهُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَكَرِهُوا الْإِسْلامَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا الْعَرَبُ فَلا تَقْبَلُ مِنْهُمْ إِلا الْإِسْلامَ أَوِ السَّيْفَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ فَاقْبَلْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ) فَلَمَّا قرؤوا الْكِتَابَ أَسْلَمَتِ الْعَرَبُ (وَأَعْطَى) 2 أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ الْجِزْيَةَ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: عَجَبًا لِمُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ لِيُقَاتِلَ النَّاسَ كَافَّةً حَتَّى يُسْلِمُوا، وَقَدْ قَبِلَ مِنْ مَجُوسِ هَجْرٍ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، الْجِزْيَةَ، فَهَلا أَكْرَهَهُمْ عَلَى الْإِسْلامِ وَقَدْ رَدَّهَا عَلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْعَرَبِ. فَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ3. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ (لَمَّا عَابَهُمْ) 4 فِي تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ بِالآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَعْلَمَهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ لا يضره ضلال
مَنْ (ضَلَّ) 1 إِذَا كَانَ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُ لا يَلْزَمُهُمْ مِنْ ضَلالِ آبَائِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ2 وَإِذَا تَلَمَّحَتِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ لِلأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر ها هنا مَدْخَلٌ وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي الآيَةِ3. ذِكْرُ الآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} 4. الإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الشَّاهِدَيْنِ الَّذِينَ يَشْهَدَانِ عَلَى الْمُوصِي فِي السَّفَرِ. وَالنَّاسِ (فِي قَوْلِهِ) 5: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قائلان: أحدهما: مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: من أهل
الإسلام1. وهذا قوله ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ2 وَسَعِيدِ بْنِ المسيب، وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ (سِيرِينَ) 3 وَالشَّعْبِيِّ، والنخعي، وقتادة، وأبو مَخْلَدٍ4 وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ5، وَالثَّوْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا6. وَالثَّانِي: أَنَّ معنى قوله {مِنْكُمْ} أَيْ: مِنْ عَشِيرَتِكُمْ، وَقَبِيلَتِكُمْ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْضًا. قَالَهُ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَعَنْ عُبَيْدَةَ كَالْقَوْلَيْنِ7، فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَتْ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ إِنَّمَا الْمَعْنَى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ8 وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِكُمْ قولان:
أحدهما: مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ، قَالَهُ أَرْبَابُ الْقَوْلِ الأَوَّلِ. وَالثَّانِي: مِنْ غير عشرتكم وَقَبِيلَتِكُمْ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْضًا. قَالَهُ أَرْبَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي وَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ شَهَادَةُ المسلمَينِ مِنَ الْقَبِيلَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْقَبِيلَةِ لا يُشَكُّ فِي إِحْكَامِ هَذِهِ الآيَةِ. فَأَمَّا الْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أَهْلُ الْكِتَابِ إِذَا (شَهِدُوا عَلَى الْوَصِيَّةِ) فِي السَّفَرِ فَلَهُمْ فِيهَا قولان: أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَهُمْ بَاقٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ1. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2 وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ3 وَإِلَيْهِ يَمِيلُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، قَالُوا: وَأَهْلُ الْكُفْرِ لَيْسُوا بِعُدُولٍ4.وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ هَذَا موضع ضرورة فجاز
كَمَا يَجُوزُ فِي بَعْضِ الأَمَاكِنِ شَهَادَةُ نِسَاءٍ لا رَجُلٍ مَعَهُنَّ بالحيض، والنفاس، والاستهل.
سورة الأنعام
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. زَعَمَ بَعْضُ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخَافَ عَاقِبَةَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 2. قُلْتُ: فَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الشِّرْكُ، لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي عُقَيْبِ قَوْلِهِ: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 فَإِذَا قَدَّرْنَا الْعَفْوَ عَنْ ذَنْبٍ - إِذَا كَانَ - لَمْ تُقَدَّرُ الْمُسَامَحَةُ فِي شِرْكٍ - لَوْ تَصَوَّرَ - إِلا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي حَقِّهِ، (بَقِيَ) 4 ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَتِهِ كَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 5 فَعَلَى هَذَا الآيَةُ مُحْكَمَةٌ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهَا خَبَرٌ، وَالأَخْبَارُ (لا تُنْسَخُ) 6. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} 7.
للمفسرين فيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ اقْتَضَى الاقْتِصَارَ فِي حَقِّهِمْ عَلَى الإِنْذَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا1. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَسْتُ حَفِيظًا عَلَيْكُمْ إِنَّمَا أَطْلُبُكُمْ بِالظَّوَاهِرِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ، لا بِالأَسْرَارِ. فَعَلَى هَذَا هُوَ مُحْكَمٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. يُؤَكِّدُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَالأَخْبَارُ لا تُنْسَخُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ 2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} 3. الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَوْضِ: الْخَوْضُ بِالتَّكْذِيبِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْإِعْرَاضُ الْمَذْكُورُ ههنا منسوخاً بآية السيف4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 1 أَيْ: مِنْ كُفْرِ الْخَائِفِينَ وَإِثْمِهِمْ، وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} 2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا إِسْحَاقُ بُنْ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قَالا: نَسَخَهَا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} 3 الآية. قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: هَؤُلاءِ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ كَانَ أَصْلَحَ4 وَكَانَ (مَعْنَاهَا) 5 عِنْدَهُمْ إِبَاحَةَ مُجَالَسَتِهِمْ وَتَرْكَ الاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهَا خَبَرٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْنَى: مَا عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْ آثَامِهِمْ إِنَّمَا يَلْزَمُكُمْ إِنْذَارُهُمْ6.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} 1. للمفسرين فيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ اقْتَضَى الْمُسَامَحَةَ لَهُمْ وَالإِعْرَاضَ عَنْهُمْ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. أَخْبَرَنَا بن نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قال: أبنا أبو علي ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَرَاءَةٍ، وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِهِمْ2. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 3، فَعَلَى هَذَا هُوَ مُحْكَمٌ، وَهَذَا مذهب مجاهد4 وهو الصحيح5.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} 1 فيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ، فَهُوَ مُحْكَمٌ، وَهَذَا أَصَحُّ3. ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} 4 فيه قولان: أحدهما: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ قِتَالِ الْكُفَّارِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ5. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَسْتُ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ أُحْصِي أَعْمَالَكُمْ فَهِيَ على هذامحكمة6.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1. رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هَذَا (وَنَحْوَهُ) 2 مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ عَنِ المشركين فإنه نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3. ذِكْرُ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 4. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَظَائِرِهَا تَكُونُ محكمة5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ نُسِخَتْ بِتَنْبِيهِ الْخِطَابِ فِي آيَةِ السَّيْفِ. لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الأَمْرَ بِقَتْلِهِمْ، وَالْقَتْلُ أَشْنَعُ مِنَ السَّبِّ2 وَلا أَرَى هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةً، بَلْ يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمَا يُوجِبُ ذِكْرَ مَعْبُودِهِ بِسُوءٍ أَوْ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. ذِكْرُ الآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 4 إِنْ قُلْنَا إِنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ كَمَا سَبَقَ فِي الآيَةِ السَّادِسَةِ فَهُوَ مُحْكَمٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ أَمْرٌ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بآية السيف5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1. قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، أَنَّهُمْ قَالُوا: نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 2 وَهَذَا (غَلَطٌ) 3؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ (أَرَادُوا) 4 النَّسْخَ حَقِيقَةً وَلَيْسَ هَذَا بِنَسْخٍ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّخْصِيصَ (وَأَنَّهُ خُصَّ) 5 بِآيَةِ الْمَائِدَةِ طَعَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَيُحْمَلُ أَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا ذِكْرَهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَنْ نِسْيَانٍ، وَالنِّسْيَانُ لا يَمْنَعُ الْحِلَّ، فَإِنْ تَرَكُوا لا عَنْ نِسْيَانٍ، لَمْ يَجُزِ الأَكْلُ فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ أَصْلا. وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عليه الْبَتَّةِ6 فَقَدْ خَصَّ عَامًّا، وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ أَصَحُّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ. لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا عِنْدَهُ الْمَيْتَةُ أو يكون نهي كراهة7.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1 للمفسرين فيها قولان: أحدهما: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَرْكُ قِتَالِ الْكُفَّارِ، فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّهْدِيدُ فَعَلَى هَذَا هِيَ مُحْكَمَةٌ وَهَذَا هُوَ الأَصَحُّ3. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 4 فيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ اقْتَضَى تَرْكَ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ فَهُوَ مُحْكَمٌ5. ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 6.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الحق على قولين: أحدهما: أَنَّهُ الزَّكَاةُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الباقي البزاز1. قال: بنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدٌ الْمُظَفَّرُ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: بنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قال: بنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قال: بنا (يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ) 2 قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: "الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ"3. قَالَ أَبُو حفص: وبنا معلي بن أسد قال بنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: بنا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: "الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ"4. قَالَ أبو حفص: وبنا عبد الرحمن، قال: بنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ طاؤس عَنْ أَبِيهِ، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: "الزكاة"5.
قال أبو حفص: وبنا عبد الرحمن، قال: بنا أبو هلال، عن حيان الأَعْرَجِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: "الزَّكَاةُ"1. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: وبنا محمد بن جعفر، قال: بنا (شُعْبَةُ) 2 عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: "الزَّكَاةُ"3. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ4، وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي آخَرِينَ5. فَعَلَى هَذَا الآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ هَؤُلاءِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقُّ غَيْرِ الزَّكَاةِ أُمِرَ بِهِ يَوْمَ الْحَصَادِ، وَهُوَ إِطْعَامُ مَنْ حَضَرَ وَتَرْكُ مَا سَقَطَ مِنَ الزَّرْعِ، وَالتَّمْرِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ قَالَ: أَبْنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا الظَّفَرُ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو حَفْصٍ، قَالَ: أَبْنَا يحيى بن سعيد، قال:
بنا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: "الْقَبْضَةُ مِنَ الطَّعَامِ"1. وَقَالَ: يحيى بن سعيدعن سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَآتُوا حَقَّهُ} قَالَ: "شَيْءٌ سِوَى الزَّكَاةِ فِي الحصاد (والجذاذ) 2 إذا حصدوا، و (إذا جذوا) "3. وقال أبو حفص: وبنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "إِذَا حَصَدُوا أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ السُّنْبُلِ، وَإِذَا جَذُّوا النَّخْلَ أَلْقَى لَهُمْ مِنَ (الشَّمَارِيخِ) 4 فَإِذَا كَالَهُ زَكَّاهُ"5. قار أبو حفص: وبنا معمر بن سليمان، قال: بنا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {وَآتُوا حَقَّهُ} قَالَ: "كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى] الزكا ة ["6. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثنا أبي، قال: بنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا مُغِيرَةُ عَنْ شِبَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: "كَانُوا يُعْطُونَ حَتَّى نَسَخَتْهَا، الصَّدَقَةُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ"1. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، قَالَ: "كَانُوا إِذَا حَصَدُوا، (وَإِذَا دبس وَإِذَا غَرْبَلَ أَعْطُوا) مِنْهُ شَيْئًا، فَنَسَخَ ذَلِكَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ2، قال: أبو بكر: وبنا محمد بن (بشار) 3 قال: بنا يَزِيدُ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: "لَيْسَ بِالزَّكَاةِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَيَّلَ قَبَضَ مِنْهُ قَبَضَاتٍ مِنْ شَهِدَ رَضَخَ لَهُ مِنْهُ"4. وَاخْتَلَفَ العلماء: هل نسخ ذلك أَمْ لا؟ (إِنْ قُلْنَا أَنَّهُ أَمْرُ وُجُوبٍ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، فهو باقي الحكم5.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} 1 الآيَةَ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هذه الآية على قولين: أحدهما: أَنَّ الْمَعْنَى: لا أَجِدُ مُحَرَّمًا مِمَّا كُنْتُمْ تَسْتَحِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلا هذا، قاله طاؤس وَمُجَاهِدٌ2. وَالثَّانِي: أَنَّهَا حَصَرَتِ الْمُحَرَّمَ، فَلَيْسَ فِي الْحَيَوَانَاتِ مُحَرَّمٌ إِلا مَا ذُكِرَ فِيهَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَرَى بِلُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ بَأْسًا، وَيَقْرَأُ هَذِهِ الآية ويقول: ليس شيء (حَرَامًا) 3 إِلا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ4. وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، والشعبي.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا نُسِخَتْ بِمَا ذُكِرَ فِي الْمَائِدَةِ مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ، وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ1 وَقَدْ رَدَّ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ، بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ، وَقَدْ ذكرت الميتة ها هنا فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَبِالسُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ2 وَمَخْلَبٍ3 مِنَ الطَّيْرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَمَّا آيَةُ الْمَائِدَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الآيَةِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْقُرْآنِ لا يُقَاوِمُهَا أَخْبَارُ الأَحَادِ وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ ذَلِكَ الإِطْلاقَ أَوِ ابْتَدَأَتْ حُكْمًا، كَانَ أَصْلَحَ. وَإِنَّمَا الصَّوَابُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَلَمْ تَكُنِ الْفَرَائِضُ قَدْ تَكَامَلَتْ وَلا الْمُحَرَّمَاتُ الْيَوْمَ قَدْ تَتَامَّتْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فِي مَا أُوحِيَ} عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي وَقَدْ كَانَ حينئذ من قال: لا إله إلِا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، وقعت
الْمُطَالَبَةُ بِهَا، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ إِنَّمَا أَخْبَرَتْ بِمَا كَانَ فِي الشَّرْعِ مِنَ التَّحْرِيمِ يَوْمَئِذٍ، فَلا نَاسِخَ إِذَنْ وَلا مَنْسُوخَ. ثُمَّ كَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُهَا وَهِيَ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ لا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ1. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي مَا أُوحِيَ} 2. للمفسرين فيها قولان: أحدهما: أَنَّهَا اقْتَضَتِ الأَمْرَ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ3. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّهْدِيدُ، فهي محكمة وهو الصحيح4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 1. لِلْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهُ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: لَسْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ2. وَالثَّانِي: لَيْسَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مِنْكَ بَرَاءٌ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْجَزَاءِ فَعَلَى هذين القولين الآية محكمة3.
سورة الأعراف
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1. قال ابن زيد: نسخها الأَمْرُ بِالْقِتَالِ2 وَقَالَ غَيْرُهُ هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَهَذَا لا يُنْسَخُ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 4. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِكَيْدِهِ: مُجَازَاةُ أَهْلِ الْكَيْدِ، وَالْمَكْرِ، وَهَذِهِ خَبَرٌ، فَهِيَ مُحْكَمَةٌ5. وَقَدْ ذَهَبَ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ مِنْ مُنْتَحِلِي التَّفْسِيرِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الآيَةِ الأَمْرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمتاركتهم. قَالَ: وَنُسِخَ مَعْنَاهَا بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا قَوْلٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ6.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 1. الْعَفْوُ (الْمَيْسُورُ) 2 وَفِي الَّذِي أُمِرَ بأخذ العفو ثلاثة أقوال: أحدها: أخلاق الناس، قاله ابن عمر، وَابْنُ الزُّبَيْرِ3 وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى: اقْبَلِ الْمَيْسُورَ مِنْ أَخْلاقِ النَّاسِ وَلا تَسْتَقْصِ عَلَيْهِمْ فَتَظْهَرُ مِنْهُمُ الْبَغْضَاءُ، فَعَلَى هَذَا هُوَ مُحْكَمٌ4. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَالُ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: أَنَّ الْمُرَادَ (بِعَفْوِ الْمَالِ) 5: الزَّكَاةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ6. وَالثَّانِي: أَنَّهَا صَدَقَةٌ كَانَتْ تُؤْخَذُ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا7، قَالَ الْقَاسِمُ وسالم8:
الْعَفْوُ شَيْءٌ (فِي) 1 الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ فَضْلُ الْمَالِ مَا كان عن ظهر غنى2. والثالث: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ (مُسَاهَلَةُ) 3 الْمُشْرِكِينَ وَالْعَفْوُ عَنْهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ4. وَقَوْلُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 5 فيهم قولان: أحدهما: أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ أُمِرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَّيْفِ6. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِيمَنْ جَهِلَ، أُمِرَ بِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ (مُقَابَلَتِهِمْ عَلَى) 7 سَفَهِهِمْ، وَأَنَّ وَاجِبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الآيَةُ محكمة وهو الصحيح8.
سورة الأنفال
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} 1. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ نَاسِخَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَنْسُوخَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَنَائِمَ كَانَتْ حَرَامًا فِي شَرَائِعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ وَجَعَلَ الأَمْرَ فِي الْغَنَائِمِ إِلَى مَا يَرَاهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قال: أبنا وكيع، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، قَالا: "كَانَتِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ فَنَسَخَهَا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} " هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ3. وَقَالَ آخَرُونَ المراد بالأنفال شيئان:
أحدهما: مَا يَجْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَائِفَةٍ مِنْ شُجْعَانِ الْعَسْكَرِ وَمُقَدِّمِيهِ، يَسْتَخْرِجُ بِهِ نُصْحَهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ. وَالثَّانِي: مَا يَفَضُلُ مِنَ الْغَنَائِمِ بَعْدَ قِسْمَتِهَا، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَغَنِمْنَا إِبِلا، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا بَعِيرًا بَعِيرًا"1. فَعَلَى هَذَا هِيَ مُحْكَمَةٌ2؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمُ باقٍ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا, وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَإِنَّ عَامَّةَ، مَا تَضَمَّنَتْ أَنَّ الأَنْفَالَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ فِيهَا وَقَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ فِيهَا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْخُمُسِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الأَمْرَ بِنَفْلِ الْجَيْشِ مَا أَرَادَ، فَهَذَا حُكْمٌ باقٍ، فَلا يُتَوَجَّهُ النَّسْخُ بِحَالٍ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنْ آيَةٍ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ إِلا أَنْ يُرْفَعَ حُكْمُهَا وَحُكْمُ هَذِهِ مَا رُفِعَ فَكَيْفَ يُدَّعَى النَّسْخُ؟ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْتُهُ أبو جعفر ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ3. ذِكْرُ الآيَةِ الثانية: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} 4.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ إِلَى أَنَّهَا فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا محمد بن جعفر، قال: بنا شُعْبَةُ عَنْ دَاوُدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قَالَ: "نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ"1. قال أحمد: وبنا روح، قال: بنا حَبِيبُ [بْنُ] 2 الشَّهِيدِ عَنِ الْحَسَنِ، {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} قَالَ: "نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ"3. قال أحمد: وبنا روح، قال: بنا شُعْبَةُ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ4: إِنَّمَا شَدَّدَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ. قَالَ أحمد: وبنا حسين، قال: بنا5 حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قال: "يوم بدر"6.
قُلْتُ: لَفْظُ الآيَةِ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا عَامَّةٌ، ثُمَّ لِهَؤُلاءِ فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 1 فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفِرُّوا عَنْ مِثْلَيْهِمْ2. قَالَ آخَرُونَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ3. فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَعْلَى] مِنْ [4 عَدِدِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ذَهَبْ إِلَى نَحْوِ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ5. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} 6.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمّد، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {وَمَا لَهُمْ إلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} 1. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ2. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ لا يَدْخُلُ عَلَى الأَخْبَارِ، وَهَذِهِ الآيَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ فِيهِمْ مَنَعَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَكَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَغْفِرُونَ بَيْنَهُمْ مَنَعَ أَيْضًا وَالآيَةُ الَّتِي (تَلِيهَا) 3 بَيَّنَتِ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَابَ لِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، غَيْرَ أَنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بَيْنَهُمْ مَنَعَ مِنْ تَعْجِيلِ ذَلِكَ، أَوْ عُمُومِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ مُدَعِّي النَّسْخِ4. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} 5.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذَهِ الآية على قولين: أحدهما: أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ فِي آخَرِينَ2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: حدثني أبي، قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فَنَسَخَتْهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآيَةَ3. وَأَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ (أَبْنَا) 4 أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ ابن محمّد، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} 5 نسختها
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1 قال أحمد بن محمد: وبنا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "بَنُو قُرَيْظَةَ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوهاب، قال: بنا أبو ظاهر قال: بنا شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ قال: أبنا إبراهيم تال: بنا آدم قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} يَعْنِي: قُرَيْظَةَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَرْكِ حَرْبِ أَهْلِ الْكِتَابِ3 إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ وَقَامُوا بِشَرْطِ الذِّمَّةِ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَإِنْ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُوَادَعَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ تَوَجَّهَ النَّسْخُ لَهَا بِآيَةِ الْجِزْيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 1. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَفْظُ هَذَا الْكَلامِ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الأَمْرُ، وَالْمَرَادُ: يقاتلون مِائَتَيْنِ، وَكَانَ هَذَا فَرْضًا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 2، فَفَرَضَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَثْبُتَ لِرَجُلَيْنِ (فَإِنْ زَادَ) 3 جَازَ لَهُ الْفِرَارُ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بن بندار، قال: أنبأنا أَبِي، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ، قال: بنا حَيَّانُ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قال: سمعت الزبير ابن الخِرِّيت4 عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله عزوجل:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ عَشَرَةٍ وَلا قَوْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ أَمْثَالَهُمْ، قَالَ: فَجَهَدَ النَّاسَ ذَلِكَ وَشُقَّ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتِ الآيَةُ الأُخْرَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ} الآيَةَ1 "فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلا قَوْمٌ مِنْ مِثْلَيْهِمْ وَنَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنَ الْعَدَدِ"2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قال: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أبنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 3 فَنَسَخَتْهَا {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 4. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ محمّد، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} نُسِخَ فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 5.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ غَيْلانَ1 قَالَ: أَبْنَا أَبُو بكر الشافعي، قال: أبنا إسحق بن الحسن، قال: بنا أبو حذيفة قال: بنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} قَالَ: "كَانَ لا يَنْبَغِي لِوَاحِدٍ أَنْ يَفِرَّ مِنْ عَشَرَةٍ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم ابن الحسين قال: بنا آدم قال: بنا وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ قَدْ جُعِلَ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قِتَالُ عَشَرَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ (فَضَجُّوا) 2 مِنْ ذَلِكَ فَجُعِلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ قِتَالُ رَجُلَيْنِ فَنَزَلَ التَّخْفِيفُ من اللهعزوجل فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 3. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَخْفِيفٌ لا نَسْخٌ. لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ رَفْعُ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَلَمْ يُرْفَعْ حُكْمُ الأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ لا يُقَاتِلُ الرَّجُلُ عَشَرَةً بَلْ إِنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الاخْتِيَارُ لَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا إِفْطَارُ الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ، لا يُقَالُ إِنَّهُ نَسَخَ الصَّوْمَ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْفِيفٌ وَرُخْصَةٌ (وَالصِّيَامُ) 4 له أفضل5.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} 1. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي آخَرِينَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 2 وَلَيْسَ لِلنَّسْخِ وَجْهٌ لِأَنَّ غُزَاةَ بَدْرٍ كَانَتْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ نَزَلَتِ الآيَةُ الأُخْرَى، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلَهُ: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: (لَيْسَ ها هنا نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ قَالَ عزوجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} فَلَمَّا أَثْخَنَ فِي الأَرْضِ كَانَ لَهُ أَسْرَى1. ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 2 قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي لا يُهَاجِرُ (لا يَرِثُ) 3 قَرِيبَهُ الْمُهَاجِرَ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 4. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قال: بنا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كان المؤمنون على
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلاثَةِ مَنَازِلَ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ (الْمُرَافِقُ) 1 لِقَوْمِهِ فِي الْهِجْرَةِ خَرَجَ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَعَقَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ] وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا وَأَعْلَنُوا مَا أَعْلَنَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ وَشَهَرُوا السُّيوفَ عَلَى مَنْ كَذَبَ وَجَحَدَ [2 فَهَذَانَ مُؤْمِنَانِ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ بِالْوَلايَةِ فِي الدَّيْنِ، وَكَانَ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لا يَرِثُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ، ثُمَّ الحِقَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ بِرَحْمِهِ"3. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا محمد بن قهزاذ4 قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} قَالَ: "وَكَانَ الأَعْرَابِيُّ لا يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَلا يَرِثُهُ الْمُهَاجِرُ، فَنَسَخَهَا، فقال: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآيَةِ1. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ الله، قال: أبناابن بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله ابن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قال بنا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قال: بنا عمر بن فروخ، قال: بنا حَبِيبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} قَالَ: "لَبِثَ النَّاسُ بُرْهَةً، وَالأَعْرَابِيُّ لا يَرِثُ الْمُهَاجِرَ، وَالْمُهَاجِرُ لا يَرِثُ الأَعْرَابِيَّ حَتَّى فُتِحَتْ مَكَّةُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الدِّينِ فَأَنْزَلَ الله {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} "2. وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَانَ الأَعْرَابِيُّ لا يَرِثُ الْمُهَاجِرَ وَلا يَرِثُهُ الْمُهَاجِرُ، فنسخها {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} "3.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (وَلايَةُ) 1 النُّصْرَةِ وَالْمَوَدَّةِ. قَالُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَانْصُرُوهُمْ إِلا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَلا تَغْدُرُوا بِأَهْلِ الْعَهْدِ3. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى أَحْيَاءٍ مِنْ كُفَّارِ الْعَرَبِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَادَعَةٌ، فَكَانَ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ عَاوَنُوهُ، وَإِنِ احْتَاجُوا عَاوَنَهُمْ فَنُسِخَ ذلك بآية السيف4.
سورة التوبة
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ 1 ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} 2. زَعَمَ بَعْضُ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ مِمَّنْ لا يَدْرِي مَا يَنْقُلُ: أَنَّ التَّأْجِيلَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ3. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} 4 وَهَذَا سُوءُ فَهْمٍ، وَخِلافٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الأَشْهُرُ على أربعة أقوال: أحدها: أَنَّهَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِ الْعَهْدِ، فَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا حُطَّ إِلَيْهَا، وَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَقَلَّ مِنْهَا رُفِعَ إِلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ انْسِلاخُ الْمُحَرَّمِ خَمْسُونَ لَيْلَةً. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ5 وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الأَجَلُ خَمْسِينَ لَيْلَةً، لِأَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ نُودِيَ بِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَقِيلَ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً مَنْ لَهُ عَهْدٌ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ عهد، قاله مجاهد والقرظي وَالزُّهْرِيُّ1. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَجَلُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ أَمَّنَهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَمَانُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ، فَأَمَّا مَنْ لا أَمَانَ لَهُ فَهُوَ حَرْبٌ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ2. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا أَمَانٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ وَلا عُهُودَ، فَأَمَّا أَرْبَابُ الْعَهْدِ فَهُمْ عَلَى عُهُودِهِمْ. قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ3. وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ نَادَى يَوْمَئِذٍ: "وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَعَهْدُهُ إلى
مُدَّتِهِ"1 وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ} 2 قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الأَشْهُرَ الَّتِي قِيلَ لَهُمْ فِيهَا {فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} 3 وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ فَلا نَسْخَ أَصْلا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالأَشْهُرِ الْحُرُمِ: رَجَبٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ4. وَهَذَا كَلامٌ غَيْرُ مُحَقَّقٍ. لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ {فَسِيحُوا فِي الأرْضِ} فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ يَجُوزُ قَتْلُهُ بَعْدَ الْمُحَرَّمِ، وَمَنْ لَهُ عَهْدٌ فَمُدَّتُهُ آخِرَ عَهْدِهِ فَلَيْسَ لِذِكْرِ رَجَبٍ ها هنا معنى5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 قَدْ ذَكَرُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّ حُكْمَ الأُسَارَى كَانَ وُجُوبَ قَتْلِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 2 قَالَهُ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ (فِي آخَرِينَ) 3، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ: {وَخُذُوهُمْ} وَالثَّانِي: بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ فِي الأُسَارَى، أَنَّهُ لا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ صَبْرًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ، بِقَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 4 ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 5. قاله مجاهد وقتادة6.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الآيَتَيْنِ مُحْكَمَتَانِ، لِأَنَّ قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} أمر بالقتل وقوله: {وَخُذُوهُمْ} أَيِ: ائْسِرُوهُمْ، فَإِذَا حَصَلَ الأَسِيرُ فِي يَدِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ فَادَاهُ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ صبراً، أي ذلك رأي فيه المصلحة للمسلمين. فعلى هَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ1. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ مِنْ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ وَهِيَ آيَةُ السَّيْفِ نَسَخَتْ مِنَ الْقُرْآنِ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَعِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ صَارَ آخِرَهَا نَاسِخًا لِأَوَّلِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سبيلهم) 2. وَهَذَا سُوءُ فَهْمٍ. لِأَنَّ الْمَعْنَى: اقْتُلُوهُمْ وَأْسِرُوهُمْ إِلا أَنْ يَتُوبُوا مِنْ شِرْكِهِمْ، وَيُقِرُّوا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ فخلوا سبيلهم ولا تقتلوهم3.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} 1. فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّهُمْ بَنُو ضَمْرَةَ2. وَالثَّانِي: قُرَيْشٌ. رُوِيَ الْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا3. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَكَثُوا وَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ4. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ خُزَاعَةُ دَخَلُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ5. وَقَوْلُهُ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} أَيْ: مَا أَقَامُوا عَلَى الْوَفَاءِ بعهدهم {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: ثُمَّ نُسِخَ هذا بآية السيف6.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ على ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، قَالَهُ (أَبُو ذَرٍّ) 2 وَالضَّحَّاكُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ3. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ4 وَالسُّدِّيُّ، وَفِي المراد بالإنفاق ها هنا قولان:
أحدهما: إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ عِيسَى1، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَارِسِيُّ2، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أبي شريح، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد البغوي، قال: بنا الْعَلاءُ بْنُ مُوسَى الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: "أَبْنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: (مَا كَانَ مِنْ مال تؤدي زكاته فإنه ليس بكنز" وإن3 "كان مدفوناً وما ليس مدفوناً لا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، فَإِنَّهُ الْكَنْزُ الَّذِي ذكره الله عليه السلام فِي كِتَابِهِ"4. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالإِنْفَاقِ إِخْرَاجُ مَا فَضُلَ عَنِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ (نَقَلَةِ) 5 التَّفْسِيرِ: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالزَّكَاةِ، وَفِي (هَذَا) 6 القول (بعد) 7.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أبنا أبو أسامة عن عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (وعراك) 1 ابن مَالِكٍ قَالا فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2. ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو داود السجستاني، قال: بنا أحمد ابن محمد قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} نَسَخَتْهَا {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 1. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ2 وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لا تَنَافِيَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ كُلِّ آيَةٍ قَائِمٌ في موضعها. فإن قلنا: إن قوله: {إِلاّ تَنْفِرُوا} أُرِيدَ بِهِ غَزْوَةُ3 تَبُوكٍ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً النَّفِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا عَاتَبَ الْمُخَلَّفِينَ وَجَرَتْ قِصَّةُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا4. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الَّذِينَ اسْتَنْفَرُوا حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ فَكَانَ عَذَابَهُمْ5. فَإِنَّ أُولَئِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ النَّفِيرُ6 حِينَ اسْتَنْفَرُوا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى إِحْكَامِ الآيَتَيْنِ وَمَنْعِ النَّسْخِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ: ابْنُ جَرِيرٍ7 وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَحَكَى القاضي
أَبُو يَعْلَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ هَاهُنَا نَسْخٌ، وَمَتَى لَمْ يُقَاوِمْ أَهْلُ الثُّغُورِ الْعَدُوَّ فَفَرْضٌ عَلَى النَّاسِ النَّفِيرُ إِلَيْهِمْ، وَمَتَى اسْتَغْنَوْا عَنْ (إِعَانَةِ) 1 من ورائهم، عُذِرَ الْقَاعِدُونَ عَنْهُمْ2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 3. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: حدثني أبي، قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال: في براءة {نْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 4 فَنَسَخَ (هَؤُلاءِ) 5 الآيَاتِ، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 6. وَقَالَ السُّدِّيُّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} 7.
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ مَتَى حُمِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ الَّتِي قَبْلَهَا لَمْ يُتَوَجَّهْ نَسْخٌ1. ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله} 2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: بنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد، قال بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} نَسَخَتْهَا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} 3. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السجستاني، قال: بنا محمد بن أحمد4 = قال=5: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عن يزيد النحوي، عن
عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله} نَسَخَتْهَا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ} 1. قُلْتُ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّسْخِ ها هنا مَدْخَلٌ، لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالآيَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَابَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أن يستأذنوه في القعود عَلَى الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَأَجَازَ لِلْمُؤْمِنِينَ الاسْتِئْذَانَ لِمَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ حَاجَةٍ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا كَانُوا مَعَهُ، فَعَرَضَتْ لَهُمْ حَاجَةٌ، ذَهَبُوا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ. وَإِلَى نَحْوِ هَذَا، ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ2 وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدمشقي.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 1. لَفْظُ هَذِهِ الآيَةِ لَفْظُ الأَمْرِ وليس كذلك، وإنما الْمَعْنَى: إِنِ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 2 فَعَلَى هَذَا الآيَةُ مُحْكَمَةٌ. هَذَا قول المحققين. وقد ذهب وقوم إِلَى أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يُعْطِي أَنَّهُ إِنْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ رُجِيَ لَهُمُ الْغُفْرَانُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3. فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الحسن، قال: بنا إبراهيم ابن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 4.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: (سأزيد عَلَى سَبْعِينَ مَرَّةً) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ (لَنْ يغفر الله لهم) عزماً1. وَقَدْ حَكَى2 أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: فَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} 3. قُلْتُ: وَالصَّحْيِحُ إِحْكَامُ الآيَةِ عَلَى مَا سَبَقَ4. ذِكْرُ الآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} 5. قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ (إِلَى أَنَّ) 6 هَذِهِ الآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا كَانَ في أول الأمر
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 1، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: لِكُلِّ آيَةٍ وَجْهُهَا وَلَيْسَ لِلنَّسْخِ عَلَى إِحْدَى الآيَتَيْنِ طَرِيقٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الآية الخامسة2.
سورة يونس عليه السلام
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. الْكَلامُ فِي هَذِهِ كَالْكَلامِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي الأَنْعَامِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا هُنَاكَ2 وَمَقْصُودُ الآيَتَيْنِ تَهْدِيدُ الْمُخَالِفِ، وَأُضِيفَ إِلَى الرَّسُولِ لِيُصَعِّبَ الأَمْرَ فِيهِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا نَسْخٌ، وَيُقَوِّي مَا قُلْنَا، أَنَّ الْمُرَادَ بالمعصية ها هنا تَبْدِيلُ الْقُرْآنِ وَالتَّقَوُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُوَافَقَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا هم عليهم، وَهَذَا لا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} 3 كيف وقد قال عزوجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ} 4 وَقَالَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 5 وَقَالَ: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} 6 وإنما
هَذَا وَأَمْثَالُهُ1 لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ آثار الْمَعَاصِي وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ أَنْ يَقَعَ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} 3. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ، وَهَذَا بَعِيدٌ من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ تنافٍ، وَالْمَنْسُوخُ لا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ النَّاسِخِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يُدَّعَى نَسْخُ هَذِهِ الآيَةِ بَلْ إِنْ قِيلَ مَفْهُومُهَا منسوخ، ومفهومها عِنْدَهُمْ، فَقُلْ لِي عَمَلِي، وَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلا تُقَاتِلْهُمْ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ إِنَّمَا مَعْنَى الآيَةِ: لِي جَزَاءُ عَمَلِي فَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَوَبَالُهُ عَلَيَّ، وَلَكُمْ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ فِي تَكْذِيبِكُمْ لِي، وَفَائِدَةُ هذا أنه لا يجازي أحد إلاّ بعمله ولا يأخذ بجرم غيره وهذا لا يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْهَا فلا وجه للنسخ4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} 1. زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، فَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهَا: اتْرُكْ قِتَالَهُمْ، فَرُبَّمَا رَأَيْتَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا شَيْءٌ2. ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 3. زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَبَيَانُ. ذَلِكَ: أَنَّ الْإِيمَانَ لا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الإِكْرَاهُ عَلَى النُّطْقِ لا عَلَى الْعَقْلِ4. ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} 5.
رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَهَذَا لا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لا يُتَوَجَّهُ النَّسْخُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ1، لِأَنَّ مَعْنَى الآيَةِ: مَا أَنَا بِوَكِيلٍ فِي مَنْعِكُمْ مِنِ اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَحَافِظٍ لَكُمْ مِنَ الْهَلاكِ إِذَا لَمْ (تَعْمَلُوا) 2 أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مَا يُخَلِّصُهَا3. ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} 4. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هذه مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَهَذَا لا يَثْبُتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ إِنَّ الأَمْرَ بِالصَّبْرِ هَاهُنَا مَذْكُورٌ إِلَى غَايَةٍ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 5 فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ فِي شَيْءٍ من هذه الآيات6.
سورة هود
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ هُودٍ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 1. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ: اقْتَصَرَ عَلَى إِنْذَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: (إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ) 3، لِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: مَعْنَاهَا: إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُنْذِرَهُمْ بِالْوَحْيِ لا أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِمُقْتَرَحِهِمْ مِنَ الآيَاتِ، وَالْوَكِيلُ: الشَّهِيدُ4. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} 5.
زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِعَمَلِهِ أُعْطِيَ فِيهَا ثَوَابَ عَمَلِهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْخَيْرِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} 1. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الآيتين خبر، وهذه الآية نظيرة قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} 2 وَقَدْ شَرَحْنَاهَا هُنَاكَ. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} 3. قَالَ: بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَاتَانِ الآيَتَانِ اقْتَضَتَا تَرْكَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَالاقْتِنَاعَ بِإِنْذَارِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَتَا بِآيَةِ السَّيْفِ4.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، مَعْنَاهُ: اعْمَلُوا مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ فَسَتَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ، وَانْتَظِرُوا مَا يَعِدُكُمُ الشَّيْطَانُ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا يعدنا ربنا وهذا لا يُنَافِي قِتَالَهُمْ فَلا وَجْهَ للنسخ1.
سورة الرعد
باب: ذكر الآيات التي1ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} 2. قَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: المراد بالظلم ها هنا الشِّرْكُ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 3وَهَذَا التَّوَهُّمُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الظُّلْمَ عام، وتخصيصه بالشرك ها هنا- يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشِّرْكُ، فَلا يخلوا الْكَلامُ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يراد به التَّجَاوَزُ عَنْ تَعْجِيلِ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْغُفْرَانُ لَهُمْ إِذَا رَجَعُوا عَنْهُ، وَلَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُغْفَرُ لِلْمُشْرِكِينَ إِذَا مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ4. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} 5.
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ وَفَرْضِ الْجِهَادِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: قَتَادَةُ1. وَعَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ (تَأْتِيَهُمْ) 2بِمَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الآيَاتِ إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبِلِّغَ3. تَكُونُ مُحْكَمَةً ولا يكون بينها وبين آية السيف منافات4.
سورة الحجر
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 1. قَدْ زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَذَلِكَ لا يُنَافِي قِتَالَهُمْ فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} 4. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بن أبي داود، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: بنا عُقْبَةُ، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} قال: هذا قبل القتال5.
قال أبو بكر: وبنا موسى بن هارون، قال: بنا الحسين، قال: بنا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} قَالَ: نُسِخَ هَذَا بَعْدُ، فَقَالَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} 1.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ} 1. قَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَقِيلَ: لا تَحْزَنْ بِمَا أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيَا، وَلا وَجْهَ للنسخ، وَكَذَلِكَ قَالَ: أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ، قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ3. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} 4. زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَاهَا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ5. لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: اقْتَصَرَ عَلَى الإِنْذَارِ، وَهَذَا خَيَالٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَتَضَمَّنُ هَذَا، ثُمَّ هِيَ خبر فلا وجه للنسخ6.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثْتُ عن معاوية بنا صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} قَالَ: نَسَخَتْهَا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: بنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بن أبي داود، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، قال: هذا من المنسوخ3.
سورة النحل
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ بِالْمُرَادِ بِالْسَكَرِ عَلَى ثلاثة أقوال: أحدها: أَنَّهُ الْخَمْرُ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد ابن حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} قَالَ: النَّبِيذُ فَنَسَخَتْهَا: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} 2 الآيَةُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا حفص بن
عمر، قال: بنا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي رَزِينٍ1 أنهم قَالُوا: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} 2 (قَالُوا) 3 هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ4. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ العباس، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: بنا أبو علي الحنفي، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً}، قَالَ: الْخَمْرُ5. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرحمن بن الحسن قال: بنا إبراهيم ابن الحسين قال: بنا آدم، قال بناورقاء عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مجاهد {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} قَالَ: السَّكَرُ: الْخَمْرُ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، وهذا قول الحسن6 وابن
أَبِي لَيْلَى وَالزَّجَّاجِ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ1 وَمَذْهَبُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ (إِذْ كَانَتِ) 2 الْخَمْرُ مُبَاحَةٌ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} 3 وَمَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ4. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هذا القول ليست بِمَنْسُوخَةٍ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَ لَكُمْ هَذِهِ الثِّمَارَ لِتَنْتَفِعُوا بِهَا عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَاتَّخَذْتُمْ أَنْتُمْ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهَا خَبَرٌ وَالأَخْبَارُ لا تُنْسَخُ وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ (أَبُو الوفاء) 5 ابن عَقِيلٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ السُّكْرِ، إِنَّمَا هِيَ مُعَاتَبَةٌ وَتَوْبِيخٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: بنا أبو بكر ابن أبي داود، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عن الحسين بن
الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ الْحَبَشَةَ يُسَمُّونَ الْخَلَّ السَّكَرَ1. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْخَلُّ بِلِسَانِ الْيَمَنِ2. وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّكَرَ: الطَّعْمُ. يُقَالُ هَذَا لَهُ سَكَرٌ أَيْ: طَعْمٌ3. وَأَنْشَدُوا: جُعِلَتْ (عِنَبُ الأَكْرَمِينَ سَكَرًا) 4. قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ5. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 6.
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا مُنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي نَظَائِرِهَا أَنَّهُ لا حَاجَةَ بِنَا إِلَى (ادِّعَاءِ) 1 النَّسْخِ فِي مِثْلِ هَذِهِ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 3. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ4 فِي هَذِهِ الْآيَةِ على أربعة أقوال: أحدها: أَنَّ الْمَعْنَى جَادِلْهُمْ بِالْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَالْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،5 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الأَنْمَاطِيُّ قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ الْحُسَيْنُ، قَالَ: أَبْنَا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 6 قَالَ: يَقُولُ أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إياك7.
وَالرَّابِعُ: جَادِلْهُمْ غَيْرَ فَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ1. وَقَدْ ذَهَبْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْمُجَادَلَةَ لا تُنَافِي الْقِتَالَ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ، اقْتَصِرْ عَلَى جِدَالِهِمْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى جَادِلْهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَالسَّيْفُ فَلا يُتَوَجَّهُ نَسْخٌ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 4. لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: أحدهما: أَنَّهَا (نَزَلَتْ) 5 قَبْلَ بَرَاءَةٍ، فَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، وَلا يَبْدَأُ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالْجِهَادِ. قَالَهُ ابْنُ عباس والضحاك.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أحمد بن كامل، قال: حدثي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} 1 فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، فَهَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ ظُلِمَ ظَلامَةً فَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ الظُّلْمُ مِنْهُ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم قال بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} يَقُولُ: لا تَعْتَدُوا يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ3. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عَلَى الْمِثْلَةِ لا عَنِ4 الْقِتَالِ. وَهَذَا أَصَحُّ من القول الأول5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} 1. هَذِهِ الآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الصَّبْرَ هَاهُنَا مَنْسُوخٌ بآية السيف2.
سورة بني إسرائيل
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عليهن النَّسْخُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} 1. قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الْمُطْلَقَ نُسِخَ مِنْهُ الدُّعَاءُ لِلْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٌ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود، قال: بنا محمد بن قهزاذ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فِي) 2 قَوْلِهِ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} إِلَى قَوْلِهِ: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} نَسَخَتْهَا {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 3.
قال أبو بكر: وبنا مُحَمَّدُ بْنُ (سَعْدٍ) 1 قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ) 2 بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} إِلَى قوله: {صَغِيراً} فَنَسَخَهَا {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 3. قال أبو بكر: وبنا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة نحوه4. أَخْبَرَنَا بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ محمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عيسى بن عبيد الله عن عُبَيْدِ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ عَنِ الضحاك {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} نُسِخَ مِنْهَا بِالآيَةِ الَّتِي (فِي) 5 بَرَاءَةٍ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 6.
قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ وَإِلَى نَحْوِ مَا قُلْتُهُ ذهب ابن جرير والطبري1. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} 2. لِلْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ ثَلاثَةِ أقوال: أحدها: كفيلاً (تؤخذ بهم) 3 قاله بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: حَافِظًا وَرَبًّا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ4. وَالثَّالِثُ: كَفِيلا بِهِدَايَتِهِمْ وَقَادِرًا عَلَى إِصْلاحِ قُلُوبِهِمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ. وَعَلَى هَذَا، الآيَةُ مُحْكَمَةٌ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ5، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا على نظائرها فيما سبق6.
ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. قَدْ زَعَمَ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ، مِنْ نَقَلَةِ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمَّا نَزَلَتِ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} 2. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ قَائِلِهِ بِالتَّفْسِيرِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ أَيَرَاهُ يُجَوِّزُ قُرْبَ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يُتَصَوَّرَ نَسْخٌ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلِطُونَ طَعَامَهُمْ بِطَعَامِ الْيَتَامَى، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَزَلُوا طَعَامَهُمْ عَنْ طَعَامِهِمْ، وَكَانَ يَفْضُلُ الشَّيْءُ فَيَفْسَدُ، فَنَزَلَ قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} 3 فَأَمَّا أَنْ تُدْعَى نَسْخٌ فَكَلا…4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بها} 1. رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} 2 وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 3 وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَيْسَ بَيْنَ الآيَاتِ تَنَافٍ وَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الصَّلاةُ الشَّرْعِيَّةُ، لا تَجْهَرْ بِقِرَاءَتِكَ فِيهَا وَلا تخافت بها4.
وَقَالَ آخَرُونَ الصَّلاةُ: الدُّعَّاءُ، فَأُمِرَ التَّوَسُّطَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، وَذَلِكَ لا ينافي التضرع1.
فَأَمَّا سُورَةُ الْكَهْفِ: فَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ إِلا أَنَّ السُّدِّيِّ يَزْعُمُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 1. قَالَ: وَهَذَا تَخْيِيرٌ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2 وَهَذَا تَخْلِيطٌ فِي الْكَلامِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ (كَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ) 3 وَلا وجه للنسخ.
سورة مريم
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} 1. زَعَمَ بَعْضُ الْمُغَفَّلِينَ مِنْ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ، أَنَّ الإِنْذَارَ (مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ) 2 وَهَذَا تَلاعُبٌ مِنْ هَؤُلاءِ بِالْقُرْآنِ وَمِنْ أَيْنَ يَقَعُ التَّنَافِي بَيْنَ إِنْذَارِهِمُ الْقِيَامَةَ، وَبَيْنَ قِتَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} 3. زَعَمَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالاسْتِثْنَاءِ بَعْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ4. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 5.
زَعَمَ ذَلِكَ الْجَاهِلُ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} 1 وَهَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكَلامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْجَهْلِ. وَهَلْ بَيْنَ الآيَتَيْنِ تَنَافٍ فَإِنَّ الأُولَى (تُثْبِتُ) 2 أَنَّ الْكُلَّ يَرِدُونَهَا، وَالثَّانِيَةُ (تُثْبِتُ) 3 أَنَّهُ يَنْجُو مِنْهُمْ مَنِ اتَّقَى، ثُمَّ (هُمَا) 4 خَبَرَانِ وَالأَخْبَارُ لا تُنَسْخُ5. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} 6. وَزَعَمَ ذَلِكَ الْجَاهِلُ، أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ7. وَهَذَا بَاطِلٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الآيَةُ لَفْظُهَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَمَعْنَاهَا الْخَبَرُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ جَزَاءَ ضَلالَتِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ فِيهَا8. وَعَلَى هَذَا لا وَجْهَ لِلنَّسْخِ. ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} 9.
زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ1. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَعْنَى: لا تَعْجَلْ بِطَلَبِ عَذَابِهِمُ الَّذِي (يَكُونُ) 2 فِي الآخِرَةِ فَإِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ أعمارهم (سَرِيعَةُ) 3 الْفَنَاءِ، فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ. وإن كان المعنى: ولا تَعْجَلْ بِطَلَبِ قِتَالِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُؤْمَرْ حِينَئِذٍ بِالْقِتَالِ فَنَهْيُهُ عَنِ الاسْتِعْجَالِ بِطَلَبِ الْقِتَالِ، وَاقِعٌ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ أَمْرُهُ بِقِتَالِهِمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لا يُنَافِي النَّهْيَ عَنِ طَلَبِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ فَكَيْفَ يُتَوَجَّهُ النَّسْخُ. فَسُبْحَانَ مَنْ قَدَّرَ وُجُودَ قَوْمٍ جُهَّالٍ يَتَلاعَبُونَ بِالْكَلامِ فِي الْقُرْآنِ، ويدعون نَسْخَ مَا لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ، نَعُوذُ بالله منه4.
سورة طه
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ طَهَ. ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} 1. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مَعْنَاهَا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا (تَسْمَعُ) 2 مِنْ أَذَاهِمْ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} 4. قَالُوا: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ5. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ مَا لا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ مِمَّا ادعوا فيه النسخ فأضربنا عنه.
سورة الحج
باب: ذكر الآيات التي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} 1. اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ كَانَتْ تَظْهَرُ مِنْهُمْ فَلَتَاتٌ ثُمَّ يُجَادِلُونَ عَلَيْهَا فَأُمِرَ أَنْ يَكِلَ أُمُورَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 4 فيها قولان: أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ فِعْلَ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ لا يُتَصَوَّرُ مِنْ أَحَدٍ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلاءِ في ناسخها على قولين:
أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 1، وَالثَّانِي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 2. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، لِأَنَّ حَقَّ الْجِهَادِ الْجِدُّ فِي الْمُجَاهَدَةِ، وَبَذْلُ الإِمْكَانِ مَعَ صِحَّةِ الْقَصْدِ. فعلى هَذَا هِيَ مُحْكَمَةٌ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الله تعالى لم يؤمر بِمَا لا يُتَصَوَّرُ، فَبَانَ أَنَّ قوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} تَفْسِيرٌ لِحَقِّ الْجِهَادِ فَلا يَصِحُّ نَسْخٌ، كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} 3.
سورة المؤمنون
باب: ذكر الآيات (التي) 1 ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ2 ذِكْرُ الآيَةِ الأَولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} 3 أَيْ: فِي (عَمَايَتِهِمْ) 4 وَحِيرَتِهِمْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ مَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ أَمْ لا، عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ لِأَنَّهَا اقْتَضَتْ تَرْكَ الْكُفَّارِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ5. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ، فَهِيَ مُحْكَمَةٌ6. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} 7.
للمفسرين في معنا هذا أربعة أقوال: أحدها: ادفع إساءة المسيء (بالصفح) قاله الْحَسَنُ1. وَالثَّانِي: ادْفَعِ الْفُحْشَ بِالإِسْلامِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ2. وَالثَّالِثُ: ادْفَعَ الشرك بالتوحيد قاله بن السَّائِبِ. وَالرَّابِعُ: ادْفَعَ الْمُنْكَرَ بِالْمَوْعِظَةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ3. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ؛ لِأَنَّ الْمُدَارَاةَ مَحْمُودَةٌ مَا لَمْ تَضُرَّ بِالدِّينِ، وَلَمْ تُؤَدِّ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ وَإِثْبَاتِ بَاطِلٍ4.
سورة النور
باب: ذكر الآيات (التي) 1 ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ النُّورِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} 2. قَالَ عِكْرِمَةُ هَذِهِ الآيَةُ فِي بَغَايَا كُنَّ بِمَكَّةَ أَصْحَابَ رَايَاتٍ وَكَانَ لا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ إِلا زَانٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ، فَأَرَادَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نِكَاحَهُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ3. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى: الزَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً مِنْ أُولَئِكَ الْبَغَايَا إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً؛ لِأَنَّهُنَّ كَذَلِكَ، وَالزَّانِيَةُ مِنْ أُولَئِكَ الْبَغَايَا لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ4. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قال: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قال: بنا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ ابن أحمد، قالت: بنا عبد الله بن أحمد،
قال: حدثني أبي، قال: بنا هُشَيْمٌ، وَأَبْنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابن شاذان، قال بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا وهب بن بقية عن هشيم، قَالَ: أَبْنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قَالَ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ} 1. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ2.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} 1. زَعَمَ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ، مِنْ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ، أَنَّهَا نُسِخَتْ (بِالاسْتِثْنَاءِ) 2 بَعْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا} 3 وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لا يَكُونُ نَاسِخًا4. ذِكْرُ الآية الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآيَةَ5. ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ نُسِخَ مِنْ حُكْمِ هَذَا النَّهْيِ الْعَامِّ حُكْمُ الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَهْلٌ يُسْتَأْذَنُونَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} 6.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: أبنا محمد بن قهزاذ، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآيَةَ ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} (وَهَذَا) 2 مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ3، (وَلَيْسَ هَذَا نَسْخٌ) 4 إِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ5. وَالثَّانِي: أَنَّ الآيَتَيْنِ محكمتان (فالاستئذان) 6 شَرْطٌ فِي الأُولَى، إِذَا كَانَ للدار أهل، و (الثانية) 7 وَرَدَتْ فِي بُيُوتٍ لا سَاكِنَ لها
(وَالإِذْنُ) 1 لا يُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ آذِنٍ، فَإِذَا بَطُلَ الاسْتِئْذَانُ لَمْ يَكُنِ الْبُيُوتُ الْخَالِيَةُ دَاخِلَةٌ فِي الأُولَى، وَهَذَا أَصَحُّ2. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 3. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الرِّدَاءُ4. وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ هَذَا نَسْخٌ، بِقَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُن} 5.أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا محمد بن قهزاذ قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَزِيدَ النحوي عن عكرمة عن بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ} إِلَى قَوْلِهِ: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} 6 نسخ ذلك
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} 1 وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ2 وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الآيَةَ الأُولَى فِيمَنْ يَخَافُ (الافْتِتَانَ) 3 بِهَا وَهَذِهِ الآيَةُ فِي الْعَجَائِزِ، فَلا نَسْخَ4. ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} 5. زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ6 وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا، فَإِنَّ الأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ لا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ، وَعَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَمَتَى لَمْ يَقَعِ التَّنَافِي بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَمْ يكن] نسخ [7.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1. اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَذَهَبَ الأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: (بنا) 2 عفان، قال: بنا أبو عوانة، قال: بنا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: هَذِهِ الآيَةُ مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهِ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَمَا نُسِخَتْ قَطُّ3. قَالَ أَحْمَدُ: وبنا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زيد4. (فقد) 5 أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أبنا عمر، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا هشيم، قال: بنا شعبة عن دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ ابن
المسيب، قال: هذه الآية منسوخة1. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ2: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} 3 وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الآيَةِ: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ} أَيْ: مِنَ الأَحْرَارِ (الْحُلُمَ) 4 فَلْيَسْتَأْذِنُوا، أَيْ: فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْكُمْ {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: كَمَا اسْتَأْذَنَ الأَحْرَارُ الْكِبَارُ الَّذِينَ بَلَغُوا قَبْلَهُمْ، فَالْبَالِغُ يَسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالطِّفْلُ وَالْمَمْلُوكُ يستأذنان في العورات الثلاث5.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} 1. هَذِهِ الآيَةُ كُلُّهَا مُحْكَمَةٌ، وَالْحَرَجُ الْمَرْفُوعُ عَنْ أَهْلِ الضُّرِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: المعنى: ليس عليكم في مواكلتكم حَرَجٌ، لِأَنَّ الْقَوْمَ تَحَرَّجُوا (وَقَالُوا) 2: الأَعْمَى لا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ، وَالْمَرِيضُ لا يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ، فكيف نواكلهم3 وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بَلْ كَانُوا يَضَعُونَ مَفَاتِحَهُمْ إِذَا غَزَوْا عِنْدَ أَهْلِ (الضُّرِّ) 4 وَيَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا فَيَتَوَرَّعُ أُولَئِكَ عَنِ الأَكْلِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية5.
وَأَمَّا الْبُيُوتُ الْمَذْكُورَةُ فَيُبَاحُ لِلْإِنْسَانِ الأَكْلُ مِنْهَا لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ أهلها الطعام لأهلهم، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْكَمٌ، وَقَدْ زَعَمَ بعضهم: أنها منسوخة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1 وليس هذا بقول فقيه2.
سورة الفرقان.
بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ. ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} 1. زعم الكلبي2 أنه مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَفَأَنْتَ تَكُونُ حَفِيظًا عَلَيْهِ تَحْفَظُهُ مِنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ؛ فَلَيْسَ لِلنَّسْخِ وَجْهٌ3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} 4. قَالَ الْحَسَنُ فِي تَفْسِيرِهَا: "لا يَجْهَلُونَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ جَهِلَ عليهم حلموا"5. وَهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ، لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ غَيْرُ السَّلامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ السَّلامَ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ، وإنما المراد بالسلام التسلّم، أَيْ: تَسَلُّمًا مِنْكُمْ وَمُتَارَكَةً لَكُمْ، كَمَا يَقُولُ: بَرَاءَةٌ (مِنْكَ) 1 أَيْ: لا أَلْتَبِسُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْجَاهِلِ يَعُمُّ الْمُشْرِكَ وَغَيْرَهُ، فَإِذَا خَاطَبَهُمْ مُشْرِكٌ، قَالُوا: السَّدَادَ وَالصَّوَابَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ. وَحُسْنُ (الْمُحَاوَرَةِ) 2 فِي الْخَطَّابِ لا يُنَافِي الْقِتَالَ. فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِلاّ مَنْ تَابَ} 4. لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَلِهَؤُلاءِ فِي نَاسِخِهَا ثَلاثَةُ أقوال: أحدها: أَنَّهُ قَوْلُهُ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} 5، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا6 وَالأَكْثَرُونَ عَلَى خِلافِهِ فِي أن القتل لا
يُوجِبُ الْخُلُودَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} الآيَاتِ نَسَخَهَا قَوْلُهُ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} فَمَعْنَاهُ نَزَلَ بِنُسْخَتِهَا1. وَالآيَتَانِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ هَذَا لا يَقَعُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2. الآيَةَ (وَهَذَا لا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لا يُغْفَرُ إِذَا مَاتَ الْمُشْرِكُ عَلَيْهِ) 3. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نُسِخَتْ بِالاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِلاّ مَنْ تَابَ} وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَالْخُلُودُ إِنَّمَا كَانَ لِانْضِمَامِ الشِّرْكِ إلى القتل والزنا4.
سورة الشعراء
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. قَوْلُهُ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} 1. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابن أيوب، قل: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتُثْنِيَ، فَقَالَ: {إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} 2. قُلْتُ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَلا يُعَوَّلُ عَلَى هَذَا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الأَلْفَاظُ مِنْ تَغْيِيرِ (الرُّوَاةِ) 3 وَإِلا فَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح،
قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عن علي بن أيي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَهَذَا هُوَ اللَّفْظُ الصَّحِيحُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنَّ هَذَا هُوَ (اسْتِثْنَاءٌ) 1 لا نَسْخٌ وَإِنَّمَا الرُّوَاةُ تَنْقِلُ، بِمَا (تظنه) 2 المعنى فيخطئون3.
سورة النمل
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النسخ في سورة النَّمْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} 1. رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى جِنْسِ هَذَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ2.
سورة القصص
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ هَاهُنَا، فَقَالَ: مُجَاهِدٌ: هُوَ الأَذَى وَالسَّبُّ2، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الشِّرْكُ3. فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ (ادِّعَاءُ) 4 النَّسْخِ5. وَقَوْلُهُ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَنَا حِلْمُنَا وَلَكُمْ سَفَهُكُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ، وَقَوْلُهُ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يُرِيدُوا التَّحِيَّةَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ (الْمُتَارَكَةُ) 6 (وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ) 7 وَقَوْلُهُ: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي:
لا نَطْلُبُ (مُجَاوَرَتَهُمْ) 1 قَالَ الأَكْثَرُونَ: فَنُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ، بِآيَةِ السَّيْفِ2.
سورة العنكبوت
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. اختلفوا فيها على قولين: أحدهما: أَنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2 قَالهَ قَتَادَةُ وَابْنُ السَّائِبِ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا أَبِي، وَأَبْنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبْنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قال: بنا أحمد بن محمد، قال: بنا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ هَمَّامٍ كِلاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} فَلا مُجَادَلَةَ أَشَدُّ مِنَ السَّيْفِ3.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ ابْنُ زَيْدٍ1. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا قَيْسٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ: مَنْ أَدَّى مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ فَلا تَقُلْ لَهُ إِلا حُسْنًا2. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإنما أنا نذير مبين} 3.
زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا لَوْ كَانَ فِي قَوْلِهِ وَمَا {أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ} احْتَمَلَ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَلا. لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ أَثْبَتَتْ أَنَّهُ نَذِيرٌ، وهو نَذِيرٌ، وَيُؤَيِّدُ إِحْكَامَهَا، أَنَّهَا خَبَرٌ1.
سورة الروم
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الرُّومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} 1. زَعَمَ السُّدِّيُّ: أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَنْ قِتَالِهِمْ فَأَمَّا إِذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صَبْرًا عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ عَمَّا نُهِيَ عنه لم يتصور نسخ2.
سورة لقمان
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} 1. ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُسِخَ مَعْنَاهَا لا لَفْظُهَا بِآيَةِ السَّيْفِ2، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَضَمَّنَتِ التَّسْلِيَةَ لَهُ عَنِ الْحُزْنِ، وَذَلِكَ لا يُنَافِي القتال3.
سورة الأحزاب
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} 1. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، مَعْنَاهُ: لا تُجَازِهِمْ عَلَيْهِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي كِفَايَةِ شَرِّهِمْ قَالُوا وَنُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنّ} 3.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ لِمَنْ هَذِهِ الْمُتْعَةُ، فَقَالَ الأَكْثَرُونَ: هِيَ لِمَنْ لَمْ (يُسَمِّ) 1 لَهَا مَهْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} 2 وَهَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا قَوْلانِ: ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا واجبة للمطلقة التي لم يسم لَهَا مَهْرًا إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ [3 وَعَلَى هَذَا الآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ بِهَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 4. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل، قال: بنا أبي، قال: بنا (محمد بن سواء) 5.
قال: بنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ} قَالا: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَهَا الْمَتَاعُ1. قَالَ أَحْمَدُ: وبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 2 فَصَارَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلا مَتَاعَ لَهَا3. قَالَ سَعِيدٌ: وَكَانَ قتادة يأخذ بهذا. قال أحمد: وبنا حُسَيْنٌ عَنْ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ} الآية قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ثُمَّ نَسَخَ هَذَا الْحَرْفُ4 الْمُتْعَةَ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} 1. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} 2 وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ3 وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ4 وَالضَّحَّاكِ5. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود، قال:
بنا عِمْرَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: بنا أبو عاصم قال: ابنا بن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ (لَهُ) 1 أَنْ يَنْكِحَ مَا شاء"2 قال أبو سلمان الدِّمَشْقِيُّ: يَعْنِي نِسَاءَ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَغَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، ثُمَّ فِيهَا قولان: أحدهما: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى (أَثَابَ) 3 نِسَاءَهُ حِينَ اخْتَرْنَهُ بِأَنْ قَصَرَهُ، عَلَيْهِنَّ فَلَمْ يُحِلَّ لَهُ غَيْرَهُنَّ، وَلَمْ يُنْسَخْ هَذَا. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ. أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ. بنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى أَنَّ يُوسُفَ بْنَ السَّفَرِ حَدَّثَهُمْ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} قَالَ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ كَمَا حَبَسَهُنَّ عَلَيْهِ4. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وبنا إسحاق بن إبراهيم، قال: بنا حجاج، قال: بنا (حَمَّادٌ) 5 عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} قال:
قَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى نِسَائِهِ (التِّسْعِ) 1 اللاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي أُمَامَةَ (بْنِ سَهْلٍ) 2 وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ3 وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ هَاهُنَا، الْكَافِرَاتُ وَلَمْ يُجِزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِكَافِرَةٍ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ4.
سورة سبأ
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ (عَلَيْهِ) 1 النَّسْخُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، الْمَعْنَى: لا تُؤَاخَذُونَ بِجُرْمِنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَالْمَعْنَى: إِظْهَارُ التَّبَرِّي مِنْهُمْ، قَالُوا: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ3. وَلا أَرَى لِنَسْخِهَا وَجْهًا، لِأَنَّ مُؤَاخَذَةَ كُلِّ وَاحِدٍ بِفِعْلِهِ لا يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِ الكفار4.
سورة فاطر
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ} 1. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: نُسِخَ مَعْنَاهَا بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى جِنْسِهَا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لا نَسْخَ3.
سورة الصافات
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سِورَةِ الصَّافَّاتِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} 1. لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ (بِالْحِينِ) 2 ثَلاثَةُ أقوال: أحدها: أَنَّهُ زَمَانُ الأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ3. وَالثَّانِي: مَوْتُهُمْ: (قَالَهُ قَتَادَةُ) 4. وَالثَّالِثُ: الْقِيَامَةُ: (قَالَهُ) 5 ابْنُ زَيْدٍ، وَعَلَى هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ يَتَطَرَّقُ نَسْخُهَا، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ6. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 7. أَيِ: انْظُرْ إِلَيْهِمْ إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِهِمْ بِبَدْرٍ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ مَا أَنْكَرُوا، وَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ
تَكْذِيبًا وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِحْكَامِهَا، وَزَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ1. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ: وَهُمَا تَكْرَارُ الأوليين: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا تَكْرَارٌ لِمَا تَقَدَّمَ (تَوْكِيدٌ) 3 لِوَعْدِهِ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ ابن عقيل: الآيتان المتقدمتان عائدتان إِلَى أَذِيَّتِهِمْ لَهُ، وَصَدِّهِمْ لَهُ عَنِ الْعُمْرَةِ. وَالْحِينُ الأَوَّلُ: حِينُ الْفَتْحِ فَالْمَعْنَى: أَبْصِرْهُمْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَوَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْكَ بِالذُّلِّ، وَطَلَبِ الْعَفْوِ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عِزَّكَ وَذُلَّهُمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ، يَوْمَ الْقَضَاءِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي:4 {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَبْصِرْ مَا يَكُونُ مِنْ عَذَابِ الله لهم.
قُلْتُ: وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا لا وَجْهَ لِلنَّسْخِ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ نَسْخَ الآيَتَيْنِ خُصُوصًا إِذَا قُلْنَا إنها تكرار للأوليين1.
سورة ص
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ ص ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} 1. وَمَعْنَى الْكَلامِ: إِنِّي مَا عَلِمْتُ قِصَّةَ آدَمَ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} 2 إِلا بِوَحْيٍ وَعَلَى هَذَا الآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَقَدْ زَعَمْ بَعْضُ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ3. وَقَدْ رَدَدْنَا مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي نَظَائِرِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ4 ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 5 زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ وَعِيدٌ بِعِقَابٍ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِوَقْتِهِ الْمَوْتُ أو القتل والقيامة وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ قِتَالَ الكفار6.
سورة الزمر
بَابُ: ذِكْرِ1 مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا حُكْمُ الآخِرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ نَسْخَهَا بِآيَةِ السَّيْفِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ حُكْمُ الدُّنْيَا3 بِأَنْ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ4. ذِكْرُ الآيَةِ الثانية: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 5 قَدِ ادَّعَى قَوْمٌ نَسْخَهَا بِقَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ من ذنبك وما تأخر} 6 وقد منعنا ذلك في ذكر نظيرتها في الأنعام7.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 1. لَيْسَ هَذَا بِأَمْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ، وَهُوَ مُحْكَمٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2 وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ3. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَمْرٌ، وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ وَخَيَالٌ رَدِيءٌ4. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 5. زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ (أَنَّهُمَا نُسِخَتَا) 6 بِآيَةِ السَّيْفِ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُمَا التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ7.
ذِكْرُ الْآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 1قَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَدْ سَبَقَ كَلامُنَا فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالآرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3. زَعَمَ بَعْضُ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ حجج (المحقين) 4 وَإِبْطَالِ شُبَهِ (الْمُلْحِدِينَ) 5 وَفِي الآخِرَةِ بِإِدْخَالِ هَؤُلاءِ الْجَنَّةَ، وَهَؤُلاءِ النَّارَ، وهذا لا ينافي قتالهم6.
سورة المؤمن
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ قَوْلُهُ تعال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} 1. هَذِهِ الآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي نَظَائِرِهَا لا نَسْخَ2.
سورة حم السجدة
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: أَبْنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مهران، قال: بنا عَامِرِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيِّ، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ: هَذَا قَبْلَ الْقِتَالِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ كَدَفْعِ الْغَضَبِ بِالصَّبْرِ، (وَالْإِسَاءَةِ) 3 بِالْعَفْوِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُعَامَلَةُ الْكُفَّارِ فَلا يُتَوَجَّهُ النَّسْخُ. أَخْبَرَنَا الْمُحَمَّدَانِ، ابْنُ نَاصِرٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالا: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، قَالَ: بنا سليمان أبي أحمد، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ: هُوَ السَّلامُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: المصافحة4.
سورة حم عسق
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ حم عسق ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الآرْضِ} 1. زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ مُنَبِّهٍ2 وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 3. وَهَذَا قَبِيحٌ، لِأَنَّ الآيَتَيْنِ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ لا يُنْسَخُ، ثُمَّ لَيْسَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ تَضَادٌّ؛ لِأَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ اسْتَغْفَارٌ خَاصٌّ لا يَدْخُلُ فِيهِ إِلا مَنِ اتَّبَعَ الطَّرِيقَ المستقيم فلأولئك طلبوا الغفران والإعادة مِنَ النِّيرَانِ وَإِدْخَالَ الْجِنَانِ. وَاسْتِغْفَارُهُمْ لِمَنْ فِي الأَرْضِ لا يَخْلُوا مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْحِلْمَ عَنْهُمْ وَالرِّزْقَ لَهُمْ، وَالتَّوْفِيقَ لِيَسْلَمُوا، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدُوا بِهِ مَنْ فِي الأَرْضِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمَعْنَى خاصاً، وقد دلت عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِهِ قَوْلُهُ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} والدليل الموجب لصرفه عَنِ الْعُمُومِ إِلَى الْخُصُوصِ أَنَّ الْكَافِرَ لا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ له فعلى هذا البيان
لا وَجْهَ لِلنَّسْخِ، وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الآرْضِ} قَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ1. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي2 فِي الْكَلامِ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ: لِمَنْ فِي الأَرْضِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهْبُ بْنُ مُنَبَّهٍ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى نَسْخِ تِلْكَ الآيَةِ، لأنه لا فرق بينهما3. ذ كر الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 4.
قَدْ زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا مُنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَنَا فِي نَظَائِرِهَا وَأَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّا لَمْ نُوَكِّلْكَ بِهِمْ فَتُؤْخَذُ بِأَعْمَالِهِمْ فَلا يُتَوَجَّهُ نَسْخٌ1. ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} 2. لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: أحدهما: أَنَّهَا اقْتَضَتِ الاقْتِصَارَ عَلَى الإِنْذَارِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ السَّيْفِ فَنَسَخَتْهَا. قَالَهُ الأَكْثَرُونَ وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} مُخَاطَبَةً لِلْيَهُودِ أَيْ لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ، قَالَ: ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآيَةَ3 وَهَكَذَا قَالَ مِجَاهِدٌ4. وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا الحسين بن علي، قال: بنا عَامِرِ بْنِ الْفُرَاتِ عَنْ أَسْبَاطٍ عن
السُّدِّيِّ {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ: هَذِهِ1 قَبْلَ السَّيْفِ، وَقَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْجِزْيَةِ2. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: أَنَّ الْكَلامَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينَ قَدْ سَقَطَ بَيْنَنَا فَلَمْ يَبْقَ إِلا السَّيْفُ فَعَلَى هَذَا هِيَ مُحْكَمَةٌ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ3. ذِكْرُ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} هَذَا مُحْكَمٌ. وَقَوْلُهُ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} 4. للمفسرين فيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، بِقَوْلِهِ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} 5 رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِهِ قَالَ مقاتل6.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُحْكَمٌ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ قَالَهُ قَتَادَةُ1، (وَوَجَّهَهُ) 2 مَا بَيَّنَّاهُ فِي نَظِيرِهَا فِي آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} 3. ذِكْرُ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 للمفسرين فيها قولان: أحدهما: أَنَّ هَذَا الاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْجِنْسِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَائِلا أَجْرًا، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} 5 وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُقَاتِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الأَوَّلِ، لأن الأنبياء لا يسألون عن تَبْلِيغِهِمْ أَجْرًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَكِنِّي أُذَكِّرُكُمُ الْمَوْدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَةٌ عَنِ ابن عباس، منهم طاؤس والعوفي6.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا بن الْمُذَهَّبِ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ جعفر، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ طاؤوس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ يَكْنُ بَطْنٌ من قُرَيْشٍ إِلا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَنَزَلَتْ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} إِلا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ1. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلا يُتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا نَسْخٌ أَصْلا2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} 3. اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ ابْنُ زيد4 وكأنهم
يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّهَا أَثْبَتَتِ الِانْتِصَارُ بَعْدَ بَغْيِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا جَازَ لَنَا أَنْ نَبْدَأَهُمُ الْقِتَالَ دَلَّ عَلَى نَسْخِهَا. وَلِلْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا فِي المسلمين قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} 1 فَكَأَنَّهَا نَبَّهَتْ عَلَى مَدْحِ الْمُنْتَصِرِ، ثُمَّ أَعْلَمَنَا أَنَّ الصَّبْرَ وَالْغُفْرَانَ أَمْدَحُ، فَبَانَ وَجْهُ النَّسْخِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالْغُفْرَانَ فَضِيلَةٌ، وَالانْتِصَارُ مُبَاحٌ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مُحْكَمَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ2. ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 3. زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ، أَنَّ هَذَا الْكَلامَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} 4 وَلَيْسَ هَذَا بِقَوْلِ مَنْ يَفْهَمُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، لِأَنَّ مَعْنَى الآيَةِ: أَنَّ مَنْ جَازَى مُسِيئًا فَلْيُجَازِهِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ، وَمَنْ عَفَا فَهُوَ أفضل5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} 1. زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لا يَفْهَمُ، أَنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الآمُورِ} 2 وَلَيْسَ هَذَا (بِكَلامِ) 3 مَنْ يَفْهَمُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، لِأَنَّ الآيَةَ الأُولَى تُثْبِتُ جَوَازَ الانْتِصَارِ، وَهَذِهِ تُثْبِتُ أن الصبر (أفضل) 4.
ذِكْرُ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاغُ} 1. زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَنَا فِي نَظَائِرِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ3.
سورة الزخرف
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ ذِكْرُ الآيَةِ الأَولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} 1. زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَدْ عُرِفَ مَذْهَبُنَا فِي نَظَائِرِهَا وَأَنَّهَا وَارِدَةٌ لِلْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، فَلا نَسْخَ إِذَنْ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 3. يَرْوِي الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ.
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، وَأَبْنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ (قال) 1 بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: فِي قَوْلِهِ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْهَا بَرَاءَةٌ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. هَذَا مَذْهَبُ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلُ بْنُ سليمان.
سورة الدخان
باب: ذكر ما ادعي عيه النَّسْخُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ قَوْلُهُ تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} 1. قَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَلا نَرَى ذَلِكَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ لا تَنَافِي بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وَارْتِقَابِ عَذَابِهِمْ أَمَّا عِنْدَ الْقَتْلِ أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الآخِرَةِ وليس في هذا منسوخ3.
سورة الجاثية
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} 1. جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهَا عَلَى أربعة أقوال: أحدها: آيَةُ السَّيْفِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: بنا أحمد بن كامل، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه}. قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا آذَوْهُ، وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، فَكَانَ هَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ2 رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ3. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال:
بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ فِيهِ بِالْعَفْوِ عَنِ المشركين فإنه نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 وَقَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} 2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}. قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَاسِخَهَا قَوْلُهُ فِي الأَنْفَالِ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} 4 وَقَوْلُهُ فِي بَرَاءَةٍ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 5 رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ. أَخْبَرَنَا إسماعيل به أَحْمَدَ قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني
أبي قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة قال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} 1. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} 2. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ، قال: بنا أحمد بن محمد، قال بنا ابْنُ رَجَاءٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} ثُمَّ نُسِخَ فَقَالَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية3. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} 4 قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ5. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَلَى بِيرٍ فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ غُلامَهُ لِيَسْتَقِيَ الْمَاءَ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَتَى، قَالَ مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: غُلامُ عُمَرَ مَا تَرَكَ أَحَدًا يَسْتَقِي حَتَّى مَلَأَ قِرَبَ النَّبِيِّ وَقِرَبَ أَبِي بَكْرٍ وَمَلَأَ لِمَوْلاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا مِثْلُنَا وَمِثْلُ هَؤُلاءِ إِلا كَمَا قِيلَ: (سَمِنَ) 6 كَلْبُكَ يَأْكُلُكَ فبلغ قوله عمر
فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. رَوَاهُ عَطَاءٌ عن ابن عباس1.
سورة الأحقاف
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الأَحْقَافِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 1. اخْتَلَفَ (الْمُفَسِّرُونَ) 2 فِي هَذَا عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ لهؤلاء فيه قولان: أحدهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ مَكَثُوا بُرْهَةً لا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَتَى نُهَاجِرُ فَسَكَتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَمَعْنَاهَا: لا أَدْرِي أَخْرُجُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي أَمْ لا رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا3. قَالَ عَطِيَّةُ مَا أَدْرِي هَلْ يَتْرُكُنِي بِمَكَّةَ أَوْ يُخْرِجُنِي مِنْهَا4. وَالثَّانِي: مَا أَدْرِي هَلْ أُخْرَجُ كَمَا أُخْرِجَ الأنبياء قبلي أو أقتل كَمَا قُتِلُوا، أَوْ لا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ، أَتُعَذَّبُونَ أَمْ تُؤْجَرُونَ أَتُصَدَّقُونَ أَمْ تُكَذَّبُونَ، قَالَهُ الحسن5.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الآخِرَةِ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 1فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 2 وَقَالَ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} 3 فَأَعْلَمَهُ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ4 وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى نَحْوِ هَذَا أَنَسٌ وِعْكِرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَسَخَتْهَا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآيَةَ5. وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر ابن أبي داود قال:
بنا محمد بن قهزاذ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، وَأَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النجاد، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي} 1 نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي فِي الْفَتْحِ، فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَبَشَرَّهُمْ بِالَّذِي غفر له، ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فقال رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هَنِيئًا لَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْنَا الآنَ مَا يُفْعَلُ بِكَ فَمَاذَا يُفْعَلُ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} 2. وَقَالَ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الآنْهَارُ} 3. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا لا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ عِلْمُ شَيْءٍ ثُمَّ أُعْلِمَ بِهِ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ فِي نَاسِخٍ وَلا مَنْسُوخٍ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَمْ يَزَلْ يُخْبِرُ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، وَمَنْ مَاتَ على الإيمان
فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَدْ دَرَى مَا يُفَعْلُ بِهِ وَبِهِمْ فِي الآخِرَةِ، وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الآيَةِ قَوْلُ الْحَسَنِ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} فِي الدُّنْيَا1. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 2. زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلا يَصِحُّ لَهُ هَذَا إِلا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَاصْبِرْ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَسِيَاقُ الآيَاتِ يَدُلُّ على غير ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَأَنَّهُ ضجر من قومه، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ بِمَنْ أبى منهم (فأمر بالصبر) 3.
سورة محمد صلى الله عليه وسلم
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 1 فيها قولان: أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ2. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنَّ وَالْفِدَاءَ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3 وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيِّ، وأبي حنيفة. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، (قَالا) 4: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قَالَ: الْفِدَاءُ مَنْسُوخٌ نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1. أَخْبَرَنَا بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا ابْنُ السَّرْحِ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بن بزار، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عن حجاج ابن الْحَجَّاجِ الْبَاهِلِيِّ عَنْ قَتَادَةَ {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قَالَ: كَانَ أَرْخَصَ لَهُمْ أَنْ يَمُنُّوا عَلَى مَنْ شَاءُوا وَيَأْخُذُوا الْفِدَاءَ إِذَا أَثْخَنُوهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ، فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قَالَ: نُسِخَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٍ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. قال: أحمد: وبنا عَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي بَرَاءَةٍ، فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. قال أحمد: وبنا حجاج، قال: بنا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ، قَالَ: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3.
قال أحمد: وبنا حجاج، قال: بنا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ، قَالَ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قال: نسختها {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} 1. قال أحمد وبنا معاوية بن عمرو، قال: بنا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةُ لا يُفَادُونَ، وَلا يرسلون2.قال أحمد: وبنا حجاج قال بنا شَرِيكٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ (سَعِيدٍ) 3 قَالَ: "يُقْتَلُ أَسْرَى الشِّرْكِ، وَلا يُفَادُونَ حَتَّى يَثْخِنَ فِيهِمُ الْقَتْلُ"4.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} 1. زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لا يَسْأَلْكُمْ جَمِيعَ أَمْوَالِكُمْ (قَالَ السُّدِّيُّ) 2 إِنْ يَسْأَلْكُمْ جَمِيعَ مَا فِي أَيْدِيكُمْ تَبْخَلُوا. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُغَفَّلِينَ مِنْ نَقَلَةِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} 3 وهذا ليس معه حديث.
سورة ق
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ ق. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} 1 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: (لم تبعث لِتَجَبُّرِهِمْ عَلَى الْإِسْلامِ) 2 وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ قَالُوا وَنُسِخَ هذا بآية السيف.
سورة الذاريات
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ مِنْ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 1 الحق ها هنا النصيب، وفيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ مَا يَصِلُونَ بِهِ رَحِمًا، أَوْ يُقْرُونَ بِهِ ضَيْفًا، أَوْ يَحْمِلُونَ بِهِ كَلًّا، أَوْ يُغْنُونَ بِهِ مَحْرُومًا وَلَيْسَ بِالزَّكَاةِ. قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا2. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الزَّكَاةُ، (قَالَهُ) 3، قَتَادَةُ وَابْنُ سِيرِينَ4 وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ اقْتَضَتْ وُجُوبَ إِعْطَاءِ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حَثٌّ عَلَى التطوع ولا يتوجه نسخ5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} 1. زَعَمَ قَوْمٌ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهَا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: آيَةُ السَّيْفِ2، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ نَاسِخَهَا {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 3 وَهَذَا قَدْ يُخَيِّلُ أَنَّ مَعْنَى قوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أَعْرِضْ4 عَنْ كَلامِهِمْ، فَلا تُكَلِّمْهُمْ، وَفِي هَذَا بُعْدٌ فَلَوْ قَالَ: هَذَا إِنَّ الْمَعْنَى أَعْرِضْ عَنْ قِتَالِهِمْ صَلُحَ نَسْخُهَا بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الآيَةِ أَعْرِضْ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ فَقَدْ أَوْضَحْتَ لَهُمُ الْحِجِجَ، وَهَذَا لا يُنَافِي قتالهم5.
سورة الطور
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الطُّورِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} 1. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهَا: انْتَظِرُوا فِي رَيْبِ الْمَنُونِ فَإِنِّي مُنْتَظِرٌ عَذَابَكُمْ فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2 وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لا3 تَضَادَّ بَيْنَ الآيَتَيْنِ4. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} 5 فِي هَذَا الْيَوْمِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّهُ يَوْمُ مَوْتِهِمْ6. وَالثَّانِي: يَوْمُ النفحة الأولى.
وَالثَّالِثُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ1. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بآية السيف2 وإذا كان معنى: {فَذَرْهُمْ} الْوَعِيدَ لَمْ يَقَعْ نَسْخٌ3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 4 زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ مَعْنَى الصَّبْرِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ5 وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصْبِرَ لِحُكْمِ رَبِّهِ وَيُقَاتِلَهُمْ، وَلا تَضَادَّ بين الآيتين6.
سورة النجم
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ. ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} 1 المراد بالذكر ها هنا الْقُرْآنُ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى} 3 رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعَناهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} 4 قَالَ: فَأُدْخِلَ الابْنُ الْجَنَّةَ بِصَلاحِ الآباء.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى} 1 قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} 2 فَأَدْخَلَ اللَّهُ الأَبْنَاءَ بِصَلاحِ الآبَاءِ الْجَنَّةَ3. قُلْتُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا نَسْخٌ غَلَطٌ، لِأَنَّ الآيَتَيْنِ خَبَرٌ، وَالأَخْبَارُ لا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ ثُمَّ إِنَّ إِلْحَاقَ الأَبْنَاءِ بِالآبَاءِ إِدْخَالُهُمْ فِي حُكْمِ الآبَاءِ بِسَبَبِ إِيمَانِ الآبَاءِ فَهُمْ كَالْبَعْضِ تَبَعُ الْجُمْلَةِ، (ذَاكَ) 4 لَيْسَ لَهُمْ إِنَّمَا فَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ وَهَذِهِ الآيَةُ تُثْبِتُ مَا لِلإِنْسَانِ إِلا مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِ5.
سورة القمر
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النسخ من سُورَةِ الْقَمَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} 1. قَالَ الزَّجَّاجُ الْوَقْفُ التَّامُّ، فَتَوَلَّ عنهم ويوم مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ} 2. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلى يوم يدع الداع، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا (التَّوَلِّي) 3 مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ4 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَظَائِرِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ5.
سورة المجادلة
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 1. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ عِيسَى، قال: أبنا بن المظفر الداوودي، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمُّويَةَ، قَالَ: أَبْنَا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد ابن حميد، قال: حدثني أبي شَيْبَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيِّ عن سالم ابن أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ (الأَنْمَارِيِّ) 2 عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} 3 قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا تَرَى دِينَارًا) قَالَ: قُلْتُ: لا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: فَكَمْ قُلْتُ شُعَيْرَةٌ قَالَ: إنك لزهيد، قال: فنزل {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 4 الآية فبيّ خفف الله عزوجل عن هذه الأمة5.
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قال: أبنا أبو علي ابن شاذان، قال: بنا أحمد بن إسحاق بن بنجاب، قال: بنا محمد بن أحمد ابن أبي العوام، قال: بنا سعيد بن سليمان قال: بنا أَبُو شِهَابٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آيَةٌ فِي كِتَابِ الله عزوجل مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي آيَةُ النَّجْوَى، كَانَ لِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَكُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُنَاجِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ، فَمَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلا بَعْدِي1. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} نسختها الآية التي تليها {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 2. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي قال بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عطاء الخراساني عن ابن
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} نسختها {أأشفقتم أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صدقات} 1. قال أحمد: وبنا عبد الرزاق، قال: بنا ابن عينية عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} قَالَ: أُمِرَ أَنْ لا يُنَاجِيَ أَحَدٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ تصدق علي ابن أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَنَاجَاهُ فَلَمْ يُنَاجِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ نَزَلَتِ الرخصة {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 2. قال عبد الرزاق، وبنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مَا كَانَتْ إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ3. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الفضل ابن خَيْرُونُ وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَدِّمُونَ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى صَدَقَةً فَلَمَّا نَزَلَتِ الزكاة نسخ هذا4.
قُلْتُ: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَفِيهَا {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1 قال المفسرون نزل قوله: {أَأَشْفَقْتُمْ} أَيْ: خِفْتُمْ بِالصَّدَقَةِ الْفَاقَةَ {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي: أتجاوز عَنْكُمْ وَخَفَّفَ بِنَسْخِ إِيجَابِ الصَّدَقَةِ2. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَشْرُ لَيَالٍ3 وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ إِلا سَاعَةً مِنْ نهار4.
سورة الحشر
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النسخ من سُورَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} 1. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الفيء على قولين: أحدهما: أَنَّهُ الْغَنِيمَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَنْوَةً وَكَانَتْ فِي بَدْءِ الْإِسْلامِ لِلَّذِينَ سَمَّاهُمُ الله ها هنا دُونَ (الْغَالِبِينَ) 2 الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الأَنْفَالِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} 3 الآيَةِ - هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ4 فِي آخَرِينَ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} 5 الآية، قال:
كَانَ الْفَيْءُ بَيْنَ هَؤُلاءِ فَنَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي فِي الأَنْفَالِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} 1. قال أحمد: وبنا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، قَالا: نَسَخَتْ سُورَةُ الأَنْفَالِ سُورَةَ الْحَشْرِ2. قال أحمد: وبنا وكيع، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ قَالا: كَانَتِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، فَنَسَخَتْهَا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْفَيْءُ مَا أخذ من أموال المشاركين مِمَّا لَمْ (يُوجَفْ) 3 عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ، كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَالْعُشُورِ وَمَالِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي دار الإسلام وَلا وَارِثَ لَهُ، فَهَذَا كَانَ يُقَسَّمُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ فَأَرْبَعَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ يَفْعَلُ بِهَا مَا يَشَاءُ وَالْخُمُسُ الْبَاقِي لِلْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ. وَاخْتَلَفَ العلماء فيها (يُصْنَعُ) 4 بِسَهْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لِلخْلِيفَةِ بَعْدَهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ. فَعَلَى هذا
تَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مُبِيِّنَةً لِحُكْمِ الْفَيْءِ وَالَّتِي فِي الأَنْفَالِ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ الْغَنِيمَةِ فَلا يُتَوَجَّهُ نَسْخٌ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، يَقُولُ: رَوَى لَنَا الثِّقَةُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: دَخَلَتْ آيَةُ الْفَيْءِ فِي آيَةِ الْغَنَائِمِ، قَالَ أَحْمَدُ (بْنُ شَبُّوَيْهِ) 1 هَذَا أَشْبَهُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَسُورَةُ الْحَشْرِ نَزَلَتْ بَعْدَ الأَنْفَالِ بِسَنَةٍ فَمُحَالٌ أَنْ يَنْسَخَ مَا قَبْلُ مَا بَعْدُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وبنا (خشيش) 2 بن أصرم، قال: بنا يحيى بن حسان، قال: بنا محمد بن راشد، قال: بنا لَيْثُ بْنُ أَبِي رُقَيَّةَ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ، أَنَّ سَبِيلَ الخمس سبيل الفيء.
سورة الممتحنة
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ مِنْ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآيَةُ1 وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآيَةُ2. زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ منسوخ بآية السيف. أخبرنا بن ناصر، قال: بنا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو دَاوُدَ، قال: بنا محمد بن عبيد، قال: بنا محمّد ابن ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} قَالَ نَسَخَتْهَا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3 وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الآيَتَيْنِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ4. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لا وَجْهَ لِادِّعَاءِ النَّسْخِ، لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُحَارِبِينَ سواء كانوا قَرَابَةً أَوْ غَيْرَ قَرَابَةٍ5 غَيْرُ مُحَرَّمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلاحٍ أَوْ دِلالَةٍ لهم على عورة
أَهْلِ الْإِسْلامِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ - حَدِيثُ أَسْمَاءَ1 بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "لَمَّا قَدِمَتْ عَلَيْهَا أُمُّهَا قَتِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى الْمَدِينَةَ بِهَدَايَا فَلَمْ (تَقْبَلْ) 2 هَدَايَاهَا وَلَمْ تُدْخِلْهَا مَنْزِلَهَا، فَسَأَلَتْ لَهَا عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية فأمرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْخِلَهَا مَنْزِلَهَا وَتَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُكْرِمَهَا وَتُحْسِنَ إِلَيْهَا"3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الآيَةُ4 وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} الآيَةُ5. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَالَحَ مُشْرِكِي مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَى أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَهُوَ لهم وكتبوا بذلك
الْكِتَابَ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ، وَفِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ ثلاثة أقوال: أحدها: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ1. وَالثَّانِي: سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ2. وَالثَّالِثُ: أُمَيْمَةُ3 بنت بشر فنزلت: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} وَفِيمَا كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهِ ثَلاثَةُ أقوال: أحدها: الإِقْرَارُ بِالإِسْلامِ4. وَالثَّانِي: الاسْتِحْلافُ لَهُنَّ: مَا خَرَجْنَ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ وَلا رَغْبَةً عَنْ أَرْضٍ وَلا الْتِمَاسَ دُنْيَا وَمَا خَرَجْنَ إِلا حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ5. وَالثَّالِثُ: الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} 6 فَإِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ لَمْ يَرُدَّهُنَّ إليهم7. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ دَخَلَ رَدُّ النِّسَاءِ إِلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لفظاً أو عموماً؟
فقالت طَائِفَةٌ: قَدْ كَانَ شَرْطُ رَدِّهِنَّ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُنَّ مِنَ العقد وأبقاه في الرجال1. وقال طائفةلم يَشْرُطْهُ صَرِيحًا بَلْ كَانَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ اشْتِمْالَ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ مَعَ الرجال فبين الله عزوجل خُرُوجَهُنَّ عَنْ عُمُومِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وبين الرجال، لأمرين: أحدهما: أَنَّهُنَّ ذَوَاتُ فُرُوجٍ تَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَسْرَعُ تَقَلُّبًا. فَأَمَّا الْمُقِيمَةُ عَلَى شِرْكِهَا فَمَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: "إِنَّمَا لَمْ يَرُدَّ النِّسَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْفِعْلُ2. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَآتُوهُمْ} يَعْنِي: أَزْوَاجَهُنَّ الْكُفَّارَ، {مَا أَنْفَقُوا} يَعْنِي: الْمَهْرَ، وَهَذَا إِذَا تَزَوَّجَهَا مُسْلِمٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا أَحَدٌ، فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا الْكَافِرِ شَيْءٌ، وَالأُجُورُ: الْمُهُورُ {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 3 وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 4 وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بالكوافر (الوثنيات) ثم لو
قُلْنَا إِنَّهَا عَامَّةٌ كَانَتْ إِبَاحَةُ الْكِتَابِيَّاتِ تَخْصِيصًا لَهَا لا نَسْخًا كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات} 1 وقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} أَيْ: إِنْ لَحِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْكُمْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ مُرْتَدَّةً فسألوهم مَا أَنْفَقْتُمْ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا لم (يدفعوها) 2 إليكم {وَلْيَسْأَلوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ الذَّينَ لَحِقَتْ أَزْوَاجُهُمْ بِكُمْ مُؤْمِنَاتٍ إِذَا تَزَوَّجْنَ مِنْكُمْ، من تزوجهن ما أنفقوا وهوالمهر، وَالْمَعْنَى: عَلَيْكُمْ أَنْ تَغْرَمُوا لَهُمُ الصَّدَقَاتِ كَمَا يَغْرَمُونَ لَكُمْ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} 3 أَيْ: أَصَبْتُمُوهُمْ فِي الْقِتَالِ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى غَنِمْتُمْ4 {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} أَيْ: أَعْطُوا الأَزْوَاجَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْمَهْرِ5.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كُنَّ إِذَا فَرَرْنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، إِلَى أَصْحَابِ نَبِيِّ اللَّهِ فَتَزَوَّجُوهُنَّ، بَعَثُوا بِصَدَاقِهِنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَإِذَا فَرَرْنَ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إلى كفار لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَتَزَوَّجُوهُنَّ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً أُعْطِيَ زَوْجُهَا مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ اقْتَسَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ، وَنُبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ وَأُمِرَ بِقِتَالِ المشركين كافة1. قال أحمد: وبنا أسود بن عامر، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} 2 قَالَ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صُلْحٌ (فَإِذَا خَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ أَعْطَوْا زوجها ما أنفق، وإذا خرجت امرأة من المشركين إلى المسلمين أَعْطَوْا زَوْجَهَا مَا أَنْفَقَ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهَذِهِ الأَحْكَامُ من أداء
الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ، قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ مَنْسُوخَةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى هَذَا وَكَذَلِكَ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: "كُلُّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ نَسَخَتْهَا آيَةُ السيف"1.
سورة التغابن
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. قُلْتُ: قَدْ رُوِّينَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ من
مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (مَنَعَتْهُ) 1 زَوْجَتُهُ وَوَلَدُهُ2 وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ آمَنُوا مَعَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ حُبًّا لِإِقَامَتِهِ3 فَلا يُتَوَجَّهُ نسخ4.
سورة ن
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ ن ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} 1. زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ فَلا نَسْخَ2. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} 3 قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الصَّبْرِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ4 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نظائر هذا فيما سبق5.
سورة سأل سائل
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} 1 قَالَ الْمُفَسِّرُونَ صَبْرًا لا جَزَعَ فِيهِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ2 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَظَائِرِ هَذَا3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} 4، زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ وَعِيدٌ بِلِقَاءِ الْقِيَامَةِ فَلا وَجْهَ للنسخ5.
سورة المزمل
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} 1. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، الْمَعْنَى: انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَى النِّصْفِ فَجُعِلَ لَهُ سَعَةً فِي مُدَّةِ قِيَامِهِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ مَحْدُودَةً فَكَانَ (يَقُومُ) 2 وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ مَخَافَةَ أَنْ لا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} 3 هَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالُوا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ نَسَخَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا سِوَى هَذِهِ السُّورَةِ4 وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ نُسِخَ5 قِيَامُ اللَّيْلِ فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} 6 وَنُسِخَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ7 وَقِيلَ: نُسِخَ عَنِ الأُمَّةِ وَبَقِيَ فَرْضُهُ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ دُونَهُمْ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ1 قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو داود، قال بنا أحمد بن محمد، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً} نَسَخَتْهَا {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِيِّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود، قال: بنا زيد بن أخرم، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُتِبَ عَلَيْنَا قِيَامُ اللَّيْلِ فَقُمْنَا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُنَا وَكُنَّا فِي مَغْزًى لَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} إلى آخر السورة.
قال أبو بكر: وبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خلاد، قال: بنا يزيد، قال: بنا مُبَارَكٌ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا نزلت: {يا أيها الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} كَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا كُلُّهُمْ قَامَ بِهَا فَخَفَّفَ اللَّهُ فَأَنْزَلَ آخِرَ السُّورَةِ {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}، إِلَى آخِرِ الآيَةِ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة، عن زرارة بن أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (كَانَ اللَّهُ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثني عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةٌ فِيهَا يُسْرٌ وَتَخْفِيفٌ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ"1. قال قتادة: "نسختها {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الآية"2. قال أحمد: وبنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {يا أيها المزمل قُمِ اللَّيْلَ} قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الآيَةُ {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} الآية3.
قال أحمد: وبنا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، فَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ حَوْلا ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِهَا، فَقَالَ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} فَنُسِخَ مَا كَانَ قَبْلَهَا1. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} 2. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ وَأَذَاهُمْ لك {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} لا جَزَعَ فِيهِ3 وَهَذِهِ مَنْسُوخَةٌ عِنْدَهُمْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ قَتَادَةَ4 وَعَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ تَفْسِيرِهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُحْكَمَةً5.
ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} 1. زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قوله {ذَرْنِي} وَعِيدٌ، وَأَمْرُهُ بِإِمْهَالِهِمْ لَيْسَ عَلَى الإِطْلاقِ، بَلْ أَمَرَهُ بِإِمْهَالِهِمْ إِلَى حِينِ يُؤْمَرُ بِقِتَالِهِمْ فَذَهَبَ زَمَانُ الإِمْهَالِ فَأَيْنَ وَجْهُ النَّسْخِ؟ 3. ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} 4. زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لا فَهْمَ لَهُ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5 وَلَيْسَ هَذَا بِكَلامِ مَنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ، لِأَنَّ الآيَةَ الأُولَى أَثْبَتَتْ لِلإِنْسَانِ مَشِيئَتَهُ، وَالآيَةَ الثَّانِيَةَ أَثْبَتَتْ أَنَّهُ لا يَشَاءُ حَتَّى يَشَاءَ اللَّهُ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ؟ 6.
سورة المدثر
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 1. هَذِهِ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ2. وَالْمَعْنَى: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَإِنِّي أَتَوَلَّى هَلاكَهُ. وَقَدْ زَعَمْ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ3. وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَعِيدٌ فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَظَائِرِهَا فِيمَا سَبَقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَآيَةُ السَّيْفِ مَدَنِيَّةٌ، وَالْوَلِيدُ هَلَكَ بِمَكَّةَ قبل نزول آية السيف4.
سورة هل أتى
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ هَلْ أَتَى ذِكْرُ الْآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} 1. زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ تَضَمَّنَتِ الْمَدْحَ عَلَى إِطْعَامِ الأَسِيرِ الْمُشْرِكِ، قَالَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: أَبْنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: بنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سعيد بن جبير: {وَأَسِيراً} قَالَ: يَعْنِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ، نَسَخَ السَّيْفُ الأَسِيرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ3. قُلْتُ: وإنما أشار بهذا إِلَى أَنَّ الأَسِيرَ يُقْتَلُ وَلا يُفَادَى فَأَمَّا إِطْعَامُهُ فَفِيهِ ثَوَابٌ بالإجماع لقول عزوجل (فِي كُلِّ كَبِدٍ (حَرَّى) أَجْرٌ)
وَالآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّطَوُّعِ بِالإِطْعَامِ فَأَمَّا الْفَرْضُ فَلا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْكُفَّارِ1. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} 2. زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَظَائِرِهَا، وَبَيَّنَّا عَدَمَ النَّسْخِ3. ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} 4. قَالَ بَعْضُهُمْ، نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5 وقال: وكذلك قوله، في:
باب: جزء عم
باب: جزء عم عَبَسَ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} 1 (قال) 2: وكذلك في سورة:
التَّكْوِيرِ. قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} 1 وَقَدْ رَدَدْنَا هَذَا فِي سُورَةِ المزمل2.
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ. ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} 1. زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ2 مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ وَعِيدٌ فلا نسخ3.
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْغَاشِيَةِ. قَوْلُهُ تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 1. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثْتُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} قَالَ: نُسِخَ ذَلِكَ فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهَا: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَلَّطٍ فَتُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ3، فَعَلَى هَذَا لا نسخ.
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ التِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} 1. زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ نُسِخَ مَعْنَاهَا بِآيَةِ السَّيْفِ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهَا: دَعْهُمْ وَخَلِّ عَنْهُمْ2 وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا ظَنَّ، فَلا وَجْهَ للنسخ3.
بَابُ: ذِكْرِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ النَّسْخُ فِي سُورَةِ الْكَافِرِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 1. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ2. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى، قَدْ أَقْرَرْتُمْ عَلَى دِينِكُمْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَفْهُومُ الآيَةِ بَعْدَ النسخ3. آخر الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيّدنا محمّد النبي وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
خاتمة التحقيق
خاتمة التحقيق نتائج البحث وثماره: بعد أن عشنا نتتلمذ على العلامة ابن الجوزي رحمه الله بواسطة كتابه القيم، وعلومه المفيدة علينا أن نقوم حصيلة هذا البحث الذي قضيت في إعداده قرابة سنتين، وعلينا أن نتساءل، ونتدارس عن مدى ثمرة هذا الكتاب وميزته أيضاً من بين كتب النسخ الأخرى هل قدم لنا شيئاً جديداً أم هو تكرار لما سطر الآخرون قبله. ولا شك أن كل مجد ومجتهد يسر بأثر جهده، ويتمتع بثمرة عمله إذا أخلص فيه، لقد ترك لنا ذلك العالم الفذ في ثنايا كتابه أشياء عديدة وجديدة ومفيدة، منها: 1 - إظهار مسؤولية الدعاة وحماة القرآن كتاباً ومؤلفين خطباء ومدرسين، تجاه كتاب الله المحكم حينما تتناوله أيد فاسدة وجاهلة - ولو بحسن النية - لجعل الآيات المحكمة منسوخة، وإظهار خطورة هذا الموضوع حين يضيع بين القيل والقال من غير استناد إلى الأدلة الصحيحة الثابتة عن صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه. 2 - التعرف على شخصية المؤلف التي بدت لنا من خلاله معالجته لقضايا النسخ، وعرضه للأحاديث والآثار التي يرويها لنا عن مشايخه بأسانيد متصلة، كأنه محدّث ومفسر وفقيه وأصولي في آن واحد، يجيد فهم القرآن ويحسن الاستنباط من آيات الأحكام فيه، ودارس لوقائع
النسخ وحقيقته، ومتمكن فيه، لا يتجاوز شروطه في قبول قضاياه، ذوداً عن الحق ودفاعاً عن القرآن العظيم. 3 - ليست آية السيف - كما يظن البعض - سيفاً صارماً يقضي بها على مئات الآيات القرآنية الواردة فيها الصفح والإعراض عن المشركين والعفو عنهم فيجعل تلك الآيات بين دفتي القرآن رسماً بلا عمل، كما قضى بها على أساطين الشرك والضلال يوم نزلت، بل إنما هي آيات محكمات نزلت ليتأسى بها الدعاة ويعملوا بها في توجيه دعوتهم بالحكمة والبصيرة عبر القرون تبعاً للبيئة والظروف، فيعرض الداعي عن سفه الكفار أو الجهلة، وطلباتهم واختراعاتهم تارة، ويصبر على أذاهم حتى يتمكن من الدخول إلى قلوبهم إن أمكن أو يجاهدهم بالسيف حتى يفتح البلاد وينقذ العباد، وربما اكتفى بالإبلاغ والإنذار حسبما تقتضيه المصلحة. فهي إذاً آيات محكمات يعمل بها من يوم نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. 4 - كون الآية منسوخة أو غير منسوخة ليس أمراً اجتهادياً، يتصرف فيه الإنسان كيف يشاء وأصل كل آية الإحكام فيحتاج للقول بنسخها نزول أمر آخر من الله أو ورود أمر مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صحيحاً، لذا رأينا، علماء النسخ لا يعتبرون القول بالنسخ، وحتى ولو ثبتت الرواية عن الصحابة والسلف الصالح، إلا بعد أن يقابلوه بالشروط المتفق عليها
لديهم، المنبثقة من كتاب الله، وسنة نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فإذا توافرت الشروط وصحت الرواية عن السلف قبلوها وقالوا به، وإلا أولوا كلامهم بمعنى المصطلح المعروف عندهم الثابت عنهم، وهو إطلاق النسخ على الاستثناء والتخصيص والتقييد وما إلى ذلك أو يؤولون معنى نسخت هذه الآية بهذه الآية، أي: نزلت بنسختها. 5 - وكما امتاز ابن الجوزي عن غيره من مؤلفي النسخ بسرد الأسانيد المتعددة الطرق، كذلك امتاز عنهم بتبويب السور دون ذكر عدد الآيات في بدايتها. خلاف ما فعله السابقون له. 6 - بعد الإيجاز والاقتصار وترك ما لا يلتفت إليه من أقوال واهية نرى ابن الجوزي أكثر المؤلفين إيراداً لوقائع النسخ مع أنه أقلهم قبولاً لها. فقد بلغ عدد القضايا التي قيل فيها بالنسخ لدى السابقين لابن الجوزي كالتالي: عند ابن حزم الأنصاري ... 214 قضية وعند أبي جعفر النحاس ... 134 قضية وعند ابن سلامة ... 213 قضية وعند مكي بن أبي طالب ... 200 قضية وعند عبد القاهر البغدادي ... 66 قضية وعند ابن بركات ... 210 قضية
وعند ابن الجوزي 247 قضية في 62 سورة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرصه الخالص لكشف الغطاء عن بعض المفسرين الذين لم يفهموا معنى النسخ وحقيقته، فقالوا بنسخ ما ليس بمنسوخ. 7 - ابن الجوزي لم يهتم بالكتب المتقدمة في النسخ إذا كانت خالية عن الأدلة والآثار، أو كانت مجرد نقول وحكايات مع أن بعضها كانت معروفة لديه وقت تأليفه لهذا الكتاب ككتاب هبة الله بن سلامة. 8 - خلال استعراضه لقضايا النسخ، يختار المؤلف وقوعه في عدد ضئيل من الآيات، وبالتحديد لم يقل بوقوع النسخ إلا في 22 واقعة فحسب. بينما يرى الإحكام في حوالي (205) واقعة، وفي الآيات الباقية وقف موقف الحياد.
وقائع النسخ عند ابن الجوزي
وقائع النسخ عند ابن الجوزي: يلاحظ هنا أن المؤلف، رحمه الله، لم يصرح في هذا الكتاب بالنسخ في جميع هذه الوقائع الآتية، وإنما صرح به في سبع وقائع فقط، واكتفى في الباقي بسرد أقوال القائلين بالنسخ، أو أدلتهم بدون أدنى اعتراض على ذلك وبدون ذكر أدلة المعارضين وهذا يعني القول بنسخ الآية. بيان مفصل بالوقائع المذكورة: 1 - الآية (184) من البقرة، نص على نسخها هنا وفي مختصر عمدة الراسخ. 2 - الآية (217) من البقرة، نص على نسخها عند ذكر الآية الأولى من سورة المائدة في هذا الكتاب وصرح بذلك في مختصر عمدة الراسخ. 3 - الآية (240) من البقرة، اكتفى هنا وفي مختصر عمدة الراسخ بذكر أدلة القائلين بالنسخ بدون اعتراض وصرح بذلك في زاد المسير عند ذكر آية (234) من نفس السورة. 4 - الآيتان (15 - 16) من سورة النساء، صرح بنسخها هنا وفي زاد المسير، وأما في مختصر عمدة الراسخ فقد سقط من الفلم جزء كبير من سورتي آل عمران والنساء.
5 - الآية (43) من النساء، أورد هنا أدلة القائلين بالنسخ ولم يعترض عليها وصرح بذلك في زاد المسير. 6 - الآية (63) من النساء، ذكر هنا قول النسخ عن المفسرين بدون أدنى اعتراض وهكذا سلك في زاد المسير أيضاً. 7 - الآية (81) من النساء، ذكر قول النسخ هنا وفي التفسير عن المفسرين ولم يعترض عليه. 8 - الآية (90) من النساء، ذكر هنا أدلة القائلين بالنسخ بدون اعتراض. 9 - الآية (91) من النساء، صرح بنسخها في هذا الكتاب. 10 - الآية (2) من المائدة، اختار النسخ في موضعين منها وصرح بذلك في هذا الكتاب. 11 - الآية (68) من سورة الأنعام، قال في هذا الكتاب "ويشبه أن تكون منسوخة". 12 - الآية (72) من الأنفال، أورد هنا وفي زاد المسير ومختصر عمدة الراسخ أدلة القائلين بالنسخ بدون أدنى رد ولا اعتراض. 13 - الآية (106) من الأنعام، أورد النسخ هنا، وفي زاد المسير ومختصر عمدة الراسخ ولم يرد على ذلك. 14 - الآية (85) من سورة الحجر، ذكر دعوى النسخ عن المفسرين هنا ولم يعترض وصرح بالنسخ في مختصر عمدة الراسخ.
15 - الآية (94) من الحجر ذكر قوله النسخ هنا وفي زاد المسير والمختصر عن المفسرين بدون أدنى اعتراض. 16 - الآية (3) من سورة النور، أورد النسخ وأدلة القائلين به هنا وذكر دعوى النسخ في تفسيره ومختصر عمدة الراسخ ولم يعترض على ذلك. 17 - الآية (30) من سورة السجدة ذكر دعوى النسخ عن المفسرين هنا وفي مختصر عمدة الراسخ ولم يرد على ذلك. 18 - الآية (89) من الزخرف، أورد دعوى النسخ هنا وفي المختصر ولم يرد على ذلك. 19 - الآية (45) من سورة (ق) ذكر النسخ عن المفسرين هنا وفي زاد المسير ومختصر عمدة الراسخ ولم يرد على ذلك. 20 - الآية (12) من المجادلة، ساق هنا أدلة القائلين بالنسخ، وصرح به في زاد المسير وفي مختصر عمدة الراسخ. 21 - الآيتان (10 - 11) من الممتحنة أورد هنا دعوى النسخ في الآية العاشرة وجزء من الحادي عشرة وصرح بنسخها في التفسير والمختصر. 22 - الآيات (1 - 3) من سورة المزمل ذكر هنا أدلة القائلين بالنسخ وصرح بذلك في زاد المسير ومختصو عمدة الراسخ.
ولا يخفى على القارئ أن كون هذه الآيات كلها منسوخة أو غير منسوخة ليس محل اتفاق بين العلماء، وقد بينا فيما تقدم من الحواشي اختلاف العلماء وآرائهم في ذلك وفيه الكفاية إن شاء الله.
تقويم الكتاب
تقويم الكتاب: لقد رأينا المؤلف ابن الجوزي -رحمه الله- في مقدمة الكتاب يرسم نموذجاً للخطة التي قرر السير عليها في هذا الكتاب، ونحن الآن نعرض تلك الخطة عرضاً سريعاً، لنرى مدى التزامه بها أثناء التأليف. فيقول في نهاية الباب السابع من المقدمة: إنه "يبين صحة الصحيح وفساد الفاسد)) يعني بذلك: أنه يقوم بإيضاح الصحة والخطأ في دعاوي النسخ. نعم، حينما نقارن بين ما التزمه وبين ما فعله في معالجة قضايا النسخ نجده يبين الخطأ بإثبات الإحكام في (205) واقعة تقريباً بينما يختار وقوع النسخ في (22) قضية، ولكن هناك وقائع أخرى تصل إلى عشرين قضية لم يصححها ولم يضعفها ولم يردها، بل وقف فيها موقف المحايد بعد إيراد أدلة الفريقين أو سرد أقوالهم. كما وجدناه أيضاً لا يقف موقفاً واحداً تجاه آيات وردت بمعنى واحد، وهو الإعراض عن المشركين، حيث نسب دعوى النسخ في الآيات (63) و (81) من سورة النساء و (106) من الأنعام و (94) من الحجر و (30) من السجدة، إلى المفسرين بدون رد ولا اعتراض على ذلك بينما قال في آية (68) من الأنعام: "ويشبه أن يكون الإعراض ههنا منسوخاً بآية السيف"، وقال في آية النجم (29): "زعموا أنها منسوخة" علماً بأن هذه الآيات السبع كلها وردت في
الإعراض عن المشركين، كما أن الأدلة التي ساقها المؤلف عن ابن عباس وقتادة في وقوع النسخ فيها تعم جميع الآيات المذكورة، حيث قالا: كل ما ورد في القرآن بمعنى الإعراض أو العفو منسوخ بآية السيف. ومن المعلوم أن كلمة "يشبه" دالة على ميله إلى النسخ كما أن كلمة "زعموا" دالة إلى عدم قبوله النسخ، فكأن المؤلف تناقض مع نفسه في قضية واحدة وهي الإعراض عن المشركين، ويؤيد ذلك عرض المؤلف آية النجم في كتابيه التفسير والمختصر بنفس الأسلوب، والله أعلم. وتبين مما ذكرنا، أن التزام المؤلف بالتصحيح والتضعيف ليس على إطلاقه بل هو محمول على الغالب، كما تبين لنا أن بعض الأخطاء التي دخلت في بعض كتبه نتيجة كثرة التأليف، قد دخلت في هذا الكتاب أيضاً. ومن خطته حذف كثير من الأسانيد خوف الملل وقد أدركنا ذلك فعلاً حيث كان يترك الشيوخ بينه وبين الإمام أحمد وبينه وبين ابن أبي داود، وبينه وبين عبد الحميد وأبي حفص وأمثال ذلك كثير، وكل هؤلاء ليسوا من أقرانه. ومن خطته أيضاً ترتيب السور والآيات حسب ترتيب القرآن فقد التزم بذلك في جميع الكتاب إلا في آية واحدة فقط حيث قدم الآية (54) من سورة الإسراء على آية (34) منها ولعل ذلك سهو منه فسبحان من لا ينام ولا يسهو.
ومما لاحظنا من خلاله ترقيمه للآيات أنه إذا كان في الآية موضعان ادعي فيهما النسخ كما في آية (233) البقرة، و (24) النساء، و (72) الأنفال يقول: ((وفي الآية موضع آخر))، هذا هو الغالب، وهو نهج سليم. بينما نرى في بعض الآيات الواردة على هذا المنوال، يذكر رقمين مستقلين، كما فعل في آية (196) من البقرة، وقد أشرت إلى ذلك كله في الهامش. وفي الحقيقة لا أرى هذه الملاحظات مما يؤخذ عليه أو مما يلام بسببه، لأنه رحمه الله كان يؤلف عدة كتب في عدة فنون في آن واحد، ثم لا يمكنه مراجعة ما كتب1. حقاً إن موقفه في معالجة قضايا النسخ ومناقشتها يمتاز عن أسلافه كثيراً، فرغم التزامه بحذف ما لا يلتفت إليه، فقد كان حريصاً في جمع أوجه الاختلاف بين المفسرين والفقهاء. ولم أجد قضية من قضايا النسخ أعرض المؤلف عن ذكرها، إلا وهي في منتهى الضعف، كما أشار في المقدمة2. وفلتاته في هذا الكتاب الصغير ليست معياراً للحكم على شخصيته إنما ذلك بالنظر إلى مدى جهده وجهاده طول حياته، وقد سئل
رحمه الله في عدد تآليفه، فقال: تزيد عن ثلاثمائة وأربعين مصنفاً منها ما هو عشرون مجلداً ومنها ما هو كراس واحد فرحم الله ذلك المجاهد ونفعنا بعلومه، ووفقنا لخدمة دينه، فحمداً لله أولاً وآخراً. ومن هنا أكرر شكري مرة أخرى إلى المشرف على الرسالة فضيلة الدكتور أحمد إبراهيم مهنا، الذي لم يدخر وسعاً ولم يأل جهداً في مساعدتي بل أنفق قصارى جهده من أجل إنجاز هذه الرسالة، بإرشاداته القيمة وتوجيهاته الدقيقة، فجزاه الله أحسن الجزاء وأطال عمره في خدمة دينه آمين. وبهذا آتي إلى نهاية التحقيق راجياً من الله العلي القدير أن يغفر زلاتي وأن يتقبل جهدي المتواضع وأن يلهمنا رشدنا ويسدد خطانا وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تطور تعريف النسخ
تطور تعريف النسخ: في العصر الأوّل كان مفهوم النسخ واسعاً حيث كان الصحابة، رضوان الله عليهم، والتابعون من بعدهم يرون أن النسخ هو مطلق التغير الذي يطرأ على بعض الأحكام سواء كان ذلك بالاستناد أو التخصيص، أو التقيد أو التفصيل أو برفع الحكم السابق بحكم شرعي متأخر. لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو مطلق التغيير. ولكن بمرور الزمن، وصل العلماء إلى وضع المصطلحات المختلفة المتميزة بمدلولاتها فحدد تعريف النسخ، فصار النسخ الاصطلاحي؛ وهو: (رفع حكم شرعي بحكم شرعي متأخر). هذا، وقد قمنا بعمل المقارنة بين المراجع المختلفة المعتبرة في علم النسخ في القرآن، لنرى وقائع النسخ حسب تطبيقهم على ضوء المعنى المصطلح المتعارف لديهم، وأثبتنا ذلك في الجدول التالي وقد روعي في هذا الجدول: 1 - أن يكون متضمناً لآراء الكتب المعتبرة في علم النسخ في القرآن بحيث تثبت وقوع النسخ أو عدم وقوعه مستمدة من الأدلة النقلية أو العقلية. 2 - أن يكون مرتباً ترتيباً زمنياً لتأليف الكتاب. 3 - أن يكون متضمناً للآيات الناسخة والمنسوخة.
ومن هنا يتبين للقارئ أن المتفق عليه مما قيل بنسخه لا يزيد عن آيتين اثنتين فقط، هما: 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (12) من سورة المجادلة. 2 - {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَليلاً} (1 - 3) من سورة المزمل. وما عدا ذلك فهو موضع اختلاف بينهم. ويمكنك العودة إلى المصادر المختلفة لمعرفة وجهة نظر كل من علماء النسخ، والله تعالى أعلى وأعلم. وصلى الله وسلم على محمد الناطق بالصدق والصواب وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.
فهرس المراجع
فهرس المراجع (أ) 1 - إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر، للشوكاني (محمد بن علي بن محمد)، من أئمة الزيدية المجتهدين، المتوفى سنة1200هـ، المطبوع بحيدرأباد، دكن، الهند، بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية،1328هـ. 2 - الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر) المتوفى سنة 911هـ، من توزيع دار الفكر ببيروت، لبنان، ولم يؤرخ، يقع في جزئين. 3 - أحكام القرآن، للإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ، طبع بدار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1395هـ/1975م. 4 - أحكام القرآن، لأحمد بن علي الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370هـ، طبع بمطبعة الأوقاف الإسلامية، بيروت، لبنان سنة 1335هـ، في ثلاثة أجزاء. 5 - أحكام القرآن لابن العربي (محمّد بن عبد الله القرطبي المتوفى سنة 543هـ)، طبع بمطبعة عيسى البابي حلبي سنة 1387هـ/1967. 6 - الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الأندلسي الظاهري المتوفى سنة 456هـ، طبع بمطبعة الإمام في (8) أجزاء ولم يؤرخ. 7 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (علي بن أبي علي بن محمّد الشافعي المتوفى سنة 631هـ)، في أربعة أجزاء، مع تعليق عبد الرزاق عفيفي طبع بتاريخ: 7/ 8/1387هـ، مؤسسة النور. 8 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1356هـ/1937م.
9 - الأريب في تفسير الغريب، للعلامة ابن الجوزي، وهو مخطوط مصور من الهند، يوجد منه نسختان بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وقد تم تحقيقه فيها في جمادى الثاني من سنة 1400هـ. 10 - أسباب النزول، للواحدي (علي بن أحمد النيسابوري)، المتوفى سنة 468هـ، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت لبنان،1395هـ/1975م. 11 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، المتوفى سنة 463هـ، المطبوع على هامش الإصابة، بمصر سنة 1328هـ، الطبعة الأولى. 12 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعز الدين أبي الحسن المعروف بابن الأثير المتوفى سنة 630هـ طبع بالمطبعة الإسلامية، بالأوفست، سنة1966م، في خمسة أجزاء. 13 - الأسماء والكنى، للحاكم النيسابوري (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حمدويه، المتوفى سنة 405هـ)، نسخة مصورة مخطوطة بمكتبة بالدراسات العليا، بالجامعة الإسلامية. 14 - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852هـ، المطبوع بمصر، في أربعة أجزاء سنة 1328هـ. 15 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، للعلامة محمد بن موسى بن حازم الهمذاني، المتوفى سنة584هـ. طبع بحمص، بمطبعة الأندلس 1386هـ/ 1966م. 16 - اعتقاد أهل السنة والجماعة، للشيخ عدي بن مسافر، المتوفى سنة 557هـ، طبع بمصر، ولم يؤرخ.
17 - أعلام العالم بعد رسوخه في حقائق ناسخ الحديث ومنسوخه، للعلامة ابن الجوزي، حقق وطبع بجامعة الملك بجدة سنة 1399هـ. 18 - الأعلام، لخير الدين الزركلي، طبع على آلة الأوفست سنة 1389هـ في بيروت، في عشرة أجزاء. 19 - أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، لعمر رضا كحالة، طبع سنة 1397هـ1977م، مؤسسة الرسالة. 20 - أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، لسعيد الخوري اللبناني، طبع بمطبعة مرسلي اليسوعية ببيروت سنة 1889م. 21 - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتعدد السماع، للقاضي عياض بن موسى المتوفى سنة 544هـ، تحقيق أحمد صقر، الناشر دار التراث بالقاهرة، سنة 1379هـ/1978م. 22 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، المطبوع بالهند على سبعة أجزاء، بمطبعة أبناء مولوي (بومباي) ولم يؤرخ. 23 - إنباه الرواة على أنباه النحاة، للشيخ جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف، بتحقيق محمد أبي الفضل، طبع بمطبعة دار الكتب المصرية 1369هـ/ 1950م. 24 - الإيجاز في الناسخ والمنسوخ، المخطوط، لمحمد بن بركات بن هلال، المتوفى سنة 525هـ، صورت نسخة من دار الكتب المصرية، لنفسي، وهو يقع في الدار تحت رقم 1085 تفسير.
25 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب، المتوفى سنة 437هـ، طبع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1396هـ/1976م، بتحقيق الأستاذ بالجامعة الدكتور أحمد حسن فرحات.
(ب) 26 - البداية والنهاية، لابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن كثير المتوفى سنة 774هـ). في 14 جزء، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، سنة 1351هـ/1932م. 27 - البرهان في علوم القرآن، للزركشي (محمد بن بهادر بن عبد الله المتوفى سنة 794هـ)، بتحقيق محمّد أبي الفضل. في أربعة أجزاء، بمطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأولى 1376هـ/1957م. (ت) 28 - تاج التراجم في طبقات الحنفية، لشيخ أبي العدل زين الدين المتوفى 879هـ، المطبوع ببغداد سنة 1962م، بمطبعة العاني. 29 - تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الزبيدي في عشرة أجزاء طبع بمطبعة الخيرية بمصر سنة 1306هـ. 30 - تأريخ ابن الوردي (عمر بن مطفر بن عمر المتوفى سنة 749هـ)، اسم الكتاب تتمة المختصر في أخبار البشر مطبوع بمصر في مجلدين سنة 1375هـ. 31 - تأريخ الإسلام وطبقات المشاهير الأعلام، للحافظ الذهبي (الحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد الدمشقي المتوفى سنة 748هـ)، يقع على خمسة أجزاء من منشورات مكتبة ((القيسي)) القاهرة، بدون تأريخ. 32 - تأريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري (محمد بن جرير المتوفى سنة 310هـ) في عشرة أجزاء، مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1358هـ. 33 - تأريخ بغداد، للخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد به عاب المتوفى سنة 463هـ)، طبع بمطبعة السعادة بمصر في أربعة عشر مجلداً سنة 1349هـ.
34 - تأريخ التراث الإسلامي، لفؤاد سزكين، نقله إلى العربية الدكتور فهمي أبو الفضل، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، سنة 1971م، طبع منه جزءان. 35 - التأريخ الصغير، للإمام البخاري (الإمام محمد بن إسماعيل المتوفى سنة 256هـ)، طبع بالهند سنة 1325هـ. 36 - التأريخ الكبير، للإمام البخاري، انتهى طبع الجزء الرابع من القسم الثامن سنة 1361هـ، وهو في ثمانية مجلدات من منشورات دار الكتب العلمية ببيروت. 37 - التبصرة والتذكرة في شرح الألفية للعراقي، لزين الدين بن عبد الرحيم المتوفى سنة 806هـ، المطبوع بمطبعة فاس بالمغرب سنة 1354هـ، ويقع في جزئين. 38 - تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، لابن حجر، المطبوع بمصر، القاهرة، بمطبعة المعاهد سنة 1351هـ. 39 - تجريد أسماء الصحابة، للحافظ شمس الدين الذهبي، طبع في بومباي بالهند، سنة 1389هـ، 1969م في جزئين. 40 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين السيوطي مطبعة السعادة بمصر سنة 1385هـ 1966م، في جزئين. 41 - تذكرة الحفاظ، للذهبي، المطبوع في أربع أجزاء والذيل نشر: دار أحياء التراث العربي. 42 - تقريب التهذيب، للحافظ بن حجر، طبعة لاهور بباكستان سنة 1393هـ/1973م، بمطبعة نفيس.
43 - التقرير والتحبير شرح التحرير (للعلامة بن أمير الحاج المتوفى سنة 879هـ)، المطبوع بالمطبعة الأميرية بمصر، سنة 1317هـ، الطبعة الأولى. 44 - تفسير إرشاد العقل السليم، لأبي السعود، طبعة مصرية 1347هـ. 45 - تفسير تنوير المقياس في تفسير ابن عباس، لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزابادي صاحب القاموس، المطبوع في مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1380هـ/1967م. 46 - تفسير جامع البيان في تفسير القرآن، للإمام محمد بن جرير الطبري في ثلاثين مجلداً، نشر دار المعرفة ببييروت، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1329هـ. 47 - تفسير الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (محمد بن أحمد الأنصاري، المتوفى سنة 671هـ)، في عشر مجلدات، المكتبة العربية، القاهرة 1387هـ/1967م. 48 - تفسير الدر المنثور للسيوطي، في ستة أجزاء، من نشر دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت. 49 - تفسير روح المعاني للألوسي (السيد محمود بن عبد الله الحسيني البغدادي المتوفى سنة 1270هـ)، في ثلاثين جزء، نشر دار التراث العربي، بيروت. 50 - تفسير فتح القدير، للشوكاني، في خمسة أجزاء، الطبعة الثانية في مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1383هـ/1964م. 51 - تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم (الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن محمّد بن إدريس بن المنذر الرازي، المتوفى سنة 327هـ،) نسخة مخطوطة مصورة، من سورة البقرة إلى سورة يوسف تحت رقم 180 و 212 يقع بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
52 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، طبعة عيسى البابلي الحلبي وشركاه بمصر، في أربعة أجزاء، ولم يؤرخ. 53 - تفسير القرآن، لسفيان الثوري (الإمام المجتهد المتوفى سنة 161هـ) رواية أبي جعفر محمد عن أبي حذيفة النهدي عنه، المطبوع في رامبور، الهند، سنة 1915م. 54 - تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري (جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي، المتوفى سنة 538هـ)، نشر دار المعرفة، بيروت، في أربعة أجزاء. 55 - تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلي بن محمد البغدادي المعروف بالخازن المتوفى سنة 741هـ دار المعرفة للطباعة والنشر، ببيروت. 56 - تفسير مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي (محمد بن عمر بن الحسن البكري، المتوفى سنة 606هـ) في ثمانية أجزاء مطبعة بولاق بمصر، سنة 1289هـ. 57 - تفسير معالم التنزيل، للبغوي (الحسن بن مسعود، المتوفى سنة 516هـ)، مطبوع مع ابن كثير في تسعة أجزاء بمطبعة المنار في مصر سنة 1343هـ. 58 - التفسير والمفسرون، للدكتور محمد حسين الذهبي، في جزئين، طبع بمطبعة السعادة، سنة 1396هـ/1976م. 59 - التكملة لوفيات النقلة، للمنذري (زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المتوفى سنة 656هـ) بتحقيق بشار عواد معروف، مطبوع بمطبعة الآداب في النجف الأشرف سنة 1389هـ/1969م.
60 - توضيح الأفكار، للشوكاني طبع في جزئين بمطبعة السعادة بمصر سنة 1366هـ. 61 - تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، المطبوع في 12 مجلداً بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدرأباد، الهند، سنة 1325هـ. (ج) 62 - جامع بيان العلم وفضله، للحافظ يوسف بن عبد البر القرطبي، المطبوع بالمطبعة العاصمة بالقاهرة. 63 - جامع الترمذي لابن عيسى محمد بن عيسى بن سورة، المتوفى سنة 279هـ، مطبوع في مطبعة مصطفى البابلي الحلبي، بمصر سنة 1356هـ/1937م، بتحقيق أحمد شاكر، في خمسة أجزاء. 64 - جذوة المقتبس، تأليف الحميدي (محمد بن أبي نصر المتوفى سنة 488هـ) طبع بالدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م. 65 - الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرأباد الدكن، الهند سنة 1371هـ/1952م في تسعة أجزاء. (ح) 66 - حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني، المتوفى سنة 430هـ الناشر: مكتبة الخانجي بمصر، في عشرة أجزاء سنة 375هـ. (خ) 67 - الخلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للإمام صفي الدين أحمد الخزرجي المتوفى بعد سنة 923هـ، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية بيروت، الطبعة الثانية 1391هـ. (د) 68 - دائرة المعارف الإسلامية، النسخة العربية، نقلها إلى العربية محمد ثابت الفندي، وآخرون، طبع بمصر 1933م.
69 - دفع شبه التشبيه، للعلامة ابن الجوزي، طبع بمصر بتحقيق محمد زاهد الكوثري، ولم يؤرخ. 70 - دول الإسلام، للحافظ الذهبي، المطبوع بالهيئة المصرية العامة سنة 1974م، بتحقيق فهيم شلتوت، ومحمد مصطفى إبراهيم في جزئين. (ذ) 71 - الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي، المتوفى سنة 795هـ)، طبع بمطبعة السنة المحمدية سنة 1372هـ/1952م، في جزأين. 72 - الذيل على مرآة الزمان، للشيخ قطب الدين موسى المتوفى سنة 726هـ، المطبوع بحيدرأباد، دكن- بالهند - بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية سنة 1380هـ 1960م، في أربعة أجزاء. (ر) 73 - الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، طبع مصطفى البابلي الحلبي، بمصر سنة 1358هـ، 1954م، بتحقيق وشرح المرحوم أحمد شاكر. 74 - روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، للإمام محمد باقي الموسى المتوفى سنة 1313هـ، طبع حجر بطهران، سنة 1307هـ (ز) 75 - زاد المسير في علم التفسير، للعلامة ابن الجوزي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1385هـ/1965م. (س) 76 - سنن أبي داود، للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني، من كبار العلماء، المتوفى سنة 275هـ، في أربعة عشر مجلداً الطبعة الثانية 1388هـ/1968م، مع شرحه عون المعبود.
77 - سنن الدارقطني، للإمام الكبير علي بن عمر الدارقطني المتوفى385هـ، طبع بمطبعة دار المحاسن، القاهرة، بتحقيق السيد عبد الله هاشم في أربعة أجزاء. 78 - سنن الدارمي، للإمام الكبير أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن المتوفى سنة 255هـ، في جزأين نشرته دار إحياء السنة النبوية. 79 - السنن الكبرى، للبيهقي (الحافظ أحمد بن الحسين علي البيهقي المتوفى سنة 458هـ)، الطبعة الأول في الهند بمطبعة مجلس دائرة المعارف سنة 1244هـ. 80 - سنن ابن ماجه، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، المتوفى سنة 275هـ، في جزأين، بتحقيق محمد عبد الباقي، نشرته دار إحياء التراث العربي، بيروت. 81 - سنن النسائي، للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي المتوفى سنة 303هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأولى 1384هـ/1965م، في ثمانية أجزاء. 82 - سير أعلام النبلاء، للذهبي، نسخة مصورة توجد في المكتبة العامة بالجامعة الإسلامية (930 ق) وطبع منه الجزء الأول والثاني والثالث بمصر، دار المعارف، سنة 1962م. 83 - السيرة النبوية، لابن كثير، في أربعة أجزاء، طبع بمطبعة دار المعرفة 1395هـ/1976م، بيروت، لبنان. 84 - سيرة بن هشام، في أربعة أجزاء، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، سنة 1375هـ/1955م. (ش) 85 - الشافعي، حياته، وعصره، آرائه، وفقهه - للشيخ محمد أبي زهرة، التزم بالطبع دار الفكر العربي بمصر، ولم يؤرخ.
86 - شرح الأسنوي، لجمال الدين المتوفى سنة 772هـ المسمى نهاية السول في شرح منهاج الأصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي، مطبعة التوفيق الأدبية بمصر في ثلاثة أجزاء، ولم يؤرخ. 87 - شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين أحمد بن إدريس المتوفى سنة 684هـ، بتحقيق عبد الرؤوف، شركة الطباعة الفنية بالقاهرة، 1393هـ. 88 - شرح مسلم، للنووي (يحيى بن شرف النووي الشافعي أبو زكريا، المتوفى 676هـ)، في 18 مجلداً، طبع بمصر. 89 - شذرات الذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد المتوفى سنة 1089هـ، نشر المكتبة التجارية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان. (ص) 90 - صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل المتوفى سنة 256هـ، المطبوع مع شرحه فتح الباري في (7) أجزاء بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1378هـ/1959م. 91 - صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، المتوفى سنة 261هـ، المطبوع مع شرحه للنووي المذكور في حرف الشين آنفاً. 92 - صفوة الصفوة، للعلامة ابن الجوزي، دار الشعب، بالقاهرة سنة 1393هـ، في أربعة أجزاء. 93 - صيد الخاطر، للعلامة ابن الجوزي، من منشورات المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، يقع في جزء واحد. (ط) 94 - طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسين محمد، في جزئين طبع بمطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1371هـ/1952م.
95 - طبقات الشافعية، لتاج الدين عبد الوهاب المتوفى سنة: 771هـ، تحقيق عبد الفتاح، ومحمد الطناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، في عشر مجلدات. 96 - الطبقات الكبرى، لابن سعد (محمد بن سعد بن منيع الهاشمي، كاتب الواقد وأحد الحفاظ، توفي سنة 230هـ)، في ثمانية أجزاء، نشرته دار صادر بيروت. 97 - طبقات القراء، لابن الجزري (محمد بن محمد بن علي بن يوسف الدمشقي الشافعي، شيخ القراء في زمانه، توفي سنة 833هـ) اسم الكتاب: غاية النهاية في طبقات القراء، طبع بمطبعة السعادة، مصر 1352هـ، في جزأين. 98 - طبقات المفسرين، للسيوطي، بتحقيق علي محمد عمر، مطبعة الحضارة بمصر، سنة 1396هـ. 99 - طبقات المفسرين، للداودي (محمد بن علي بن أحمد المالكي شيخ أهل الحديث في عصره من تلاميذ السيوطي، توفي سنة 945هـ) في جزأين، مطبعة الاستقلال الكبرى 1392هـ. (ع) 100 - العبر في خبر من غبر، للحافظ الذهبي، تحقيق صلاح الدين المنجد، وفؤاد سيد، طبع الكويت في خمسة أجزاء، سنة 1965 - 1966م. 101 - العسجد المسبوك (للملك الأشرف القسامي المتوفى سنة 853هـ) مطبوع بدار التراث الإسلامية ببيروت سنة 1395هـ/1975م. 102 - عقود الجوهر لجميل بك الأعظم، طبع بالمطبعة الأهلية ببيروت سنة 1362هـ.
103 - علوم الحديث، لابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن المتوفى سنة 643هـ، مطبعة الأصيل، حلب 1386هـ/1966م. 104 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ومعه شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، مطبوع في 14 مجلداً، مذكور في حرف السين آنفاً. (ف) 105 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، انظر حرف الصاد. 106 - فتح الباقي على ألفية العراقي، للشيخ زكريا الأنصاري المتوفى سنة 925هـ، طبع بمطبعة فاس بالمغرب سنة 1354هـ. 157 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للسخاوي (محمد بن عبد الرحمن، المتوفى سنة 902هـ) مطبعة العاصمة بالقاهرة في ثلاثة أجزاء، سنة 1969م. 108 - فتح المنان في نسخ القرآن، لعلي حسن العريص، طبع بمصر سنة 1973م. 109 - فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري، تأليف فضل الله الجيلاني الأستاذ بجامعة حيدرأباد. توزيع ونشر مطابع الإرشاد، حمص، سورية في جزأين، سنة 1388هـ. 110 - فقه سعيد بن المسيب (أحد علماء الإثبات الفقهاء المتوفى بعد التسعين من الهجرة)، أعده دكتور هاشم جميل عبد الله، وطبع بالعراق مطبعة الإرشاد ببغداد في 4 أجزاء سنة: 1394هـ. 111 - الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، تحقيق صلاح الدين المنجد، نشر دار إحياء السنة المحمدية.
112 - الفوز الكبير في أصول التفسير، للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي الهندي المتوفى سنة 1179هـ. المطبوع في مقدمة إرشاد الراغبين، نشرتها إدارة الطباعة المنيرية بدمشق سنة 1346هـ. 113 - فهرس خزانة التيمورية، مطبعة دار الكتب المصرية 1367هـ،/1948م. 114 - فهرس مخطوطات جامعة الدول العربية، لفؤاد سيد، القاهرة، دار الرياض للطبع، 1954م. 115 - فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية، علوم القرآن، للدكتور عزة حسن، دمشق، مطبوعات المجمع العلمي العربي 1391هـ/1962م. 116 - فهرس مخطوطات دار الكتب المصرية، لفؤاد سيد، مطبعة دار الكتب 1380هـ/1961م. 117 - فهرس المخطوطات العربية، بمكتبة الأوقاف ببغداد، كتبه عبد الله الجبور، طبع بمطبعة الإرشاد ببغداد 1393هـ/1973م. 118 - فهرس مكتبة الأزهر، مطبعة الأزهر 1366هـ/1947م. 119 - فهرس مكتبة خدابخش، تحت عنوان: مفتاح الكنوز الخفية في مجلدين طبع بالهند سنة 1918م. 120 - فهرس مخطوطات المكتبة الغربية، بالجامع الكبير بصنعاء إعداد محمد سعيد المليح، وأحمد محمد عيسوي، مكتبة الأطلس بالقاهرة. (ق) 121 - القرآن الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان وبهامشه كتاب نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن لأبي بكر السجستاني، المتوفى سنة330هـ.
(ك) 122 - الكامل، لابن الأثير (علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري، المتوفى سنة 630هـ)، في اثني عشر جزء، طبع بيروت، دار صادر للطباعة والنشر سنة 1385هـ. 123 - كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، لابن حبان، المتوفى سنة 354هـ، بتحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب 1395هـ، في ثلاثة أجزاء. 124 - الكتاب المقدس، طبع بالمطبعة الأميركانية، ببيروت، سنة 1969م. 125 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة (مصطفى ابن عبد الله كاتب شلبي، المتوفى سنة 1066هـ، طبع بمطبعة البهية في جزأين 1941م/1360هـ 126 - كنز الأصول، للبزدوي (علي بن محمد بن الحسن عبد الكريم من كبار الحنفية، توفى سنة 483هـ)، وهو مطبوع في جزأين بشرح عبد العزيز البخاري المسمى بكشف الأسرار طبعة جديدة بالأوفست 1394هـ/1974م، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. (ل) 127 - اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير الجزري، دار صادر، بيروت. 128 - لباب النقول، للسيوطي المطبوع على هامش تفسير تنوير المقياس، السابق ذكره في حرف التاء. 129 - لسان الميزان، للحافظ بن حجر، في سبعة أجزاء، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1971م/1390هـ. 130 - اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، طبعة مصطمى البابي الحلبي بمصر سنة 1377هـ/1957م.
(م) 131 - مؤلفات ابن الجوزي، لعبد الحميد العلوجي، شركة دار الجمهورية للنشر والطبع، بغداد 1385هـ/1965م. 132 - المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر، لعبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب ومطبعتها بالقاهرة. 133 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة: 807هـ في عشرة أجزاء، مكتبة القدسي، القاهرة، 1353هـ. 134 - مختصر عمدة الراسخ، مخطوط في أربعة عشر أوراق، لابن الجوزي، يوجد منه نسخة في الخزانة التيمورية بالقاهرة تحت رقم (148) تفنير (3). 135 - مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعي (عبد الله بن أسعد المتوفى سنة 768هـ) في أربعة أجزاء، طبع بحيدرأباد، دكن - الهند 1337ـ1339هـ. 136 - المستدرك على الصحيحين في الحديث، للحافظ محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم المتوفى 405هـ، في أربعة أجزاء الناشر مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض. 137 - مختار الصحاح، لمحمد بن عبد القادر الرازي المتوفى سنة 666هـ، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان سنة 1967م. 138 - المختصر المحتاج إليه من تأريخ أبي عبد الله الدبيش المتوفى سنة 639هـ مطابع الزمان، بغداد 1963م. 139 - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، مع شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني في 23 جزء، مطبعة الأخوان المسلمين بالقاهرة، الطبعة الأولى 1353هـ.
140 - مسند الإمام الشافعي، المطبوع مع الأم السابق ذكره في حرف الألف. مشكل الآثار، للطحاوي، في أربع مجلدات، ولم يكمل دار صادر، بيروت. 141 - مشيخة ابن الجوزي، تحقيق محمد محفوظ، طبع الشركة التونسية 1977م. 142 - المشيخة للنعال (صائف الدين محمد المتوفى سنة 679هـ) مطبعة المجمع العلمي ببغداد سنة 1395هـ/1975م. 144 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي، تأليف أحمد بن محمد الفيومي المتوفى سنة 770هـ، بتصحيح مصطفى السقا، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي، بمصر، في سنة 1369هـ، في جزأين. 145 - المصنف، للحافظ عبد الرزاق الصنعاني المتوفى 211هـ في إحدى عشر مجلداً، حققه حبيب الأعظمي، من منشورات المجلس العلمي. 146 - معالم السنن للخطابي (أبي سليمان محمد بن محمد المتوفى سنة 388هـ طبع في أربعة أجزاء بالمطبعة العلية بحلب سنة 1353هـ/1932م. 147 - المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب المتوفى سنة: 436هـ، بتحقيق محمد حميد الله، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية لدمشق. 148 - معرفة القراء الكبار، للحافظ الذهبي، تحقيق محمد سيد جاد الحق في جزأين. دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 149 - معرفة الناسخ والمنسوخ، المطبوع على هامش تنوير المقياس، انظر حرف التاء فيما سبق.
150 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، في عشرين جزء، مطبعة دار المأمون بالقاهرة، 1357هـ/1938م. 151 - معجم البلدان، لياقوت الحموي، في ثمانية أجزاء، طبع بمصر 1323هـ/1325م. 152 - المعجم الكبير: للطبراني، المتوفى سنة 365هـ، بتحقيق عبد المجيد السلفي الدار العربية للطباعة، بغداد سنة 1979م. 153 - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة في (15) جزء، دار أحياء التراث العربي، بيروت. 154 - المغنى في الضعفاء، للحافظ شمس الدين الذهبي، في جزأين بتحقيق نور الدين عن، دار المعارف، حلب، سوريا 1391هـ/971ام. 155 - المغنى، لابن قدامة (موفق الدين أبي محمد بن قدامة المتوفى سنة630هـ) في اثني عشر جزء، مطبعة المنار بمصر سنة 1348هـ. 156 - مقدمة أصول التفسير لابن تيمية (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 738هـ)، تحقيق الدكتور عدنان زرزور طبع ببيروت، بدار القاع سنة 1391هـ/1971م. 157 - مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الصلاح، بتحقيق بنت الشاطىء مطبعة دار الكتب 1974م، القاهرة. 158 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لطاش كبرى زادة (أحمد مصطفى، المتوفى سنة 968هـ) في ثلاثة أجزاء مطبوع بالهند سنة 1329هـ. 159 - المفردات، للراغب أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المتوفى سنة 502هـ، بتحقيق محمد السيد كيلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1381هـ/1961م.
160 - ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل، للشيخ سعيد الأنصاري الهندي المطبوع بالهند، كلكتا سنة 1330هـ. 161 - الملل والنحل، للشهرستاني (محمد بن عبد الكريم بن أحمد المتوفى 548هـ) المطبوع بهامش الملل والنحل لابن حزم الظاهري، مطبعة الأدبية القاهرة 1320هـ، في خمسة أجزاء. 162 - مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، طبع بمصر سنة 1349هـ. 163 - المنتظم، لابن الجوزي المطبوع من 5 إلى 10 مجلدات، حيدرأباد، دكن - الهند 1359هـ. 164 - مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني في جزأين، طبعة عيسى البابي الحلبي مصر 1392هـ. 165 - موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان، للحافظ الهيثمي بتحقيق محمد عبد الرزاق حمزة، طبع بمطبعة السلفية بشارع الفتح بالروضة. 166 - الموافقات للشاطبي (أبي إسحاق إبراهيم بن موسى المتوفى 790هـ، في أربعة أجزاء، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت. 167 - الموجز في الناسخ والمنسوخ، لابن خزيمة، المطبوع مع الناسخ والمنسوخ للنحاس سنة 1322هـ بمطبعة السعادة. 168 - موسوعة فقه إبراهيم النخعي، بقلم الدكتور محمد رواس، في جزأين نشرته جامعة الملك عبد العزيز، بمكة المكرمة 1399هـ/199م. 169 - الموطأ للإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ مع شرحه تنوير الحوالك للسيوطي طبعة عيسى البابي الحلبي، في ثلاثة أجزاء. 170 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للحافظ الذهبي، في ثلاثة أجزاء، مطبعة السعادة بمصر سنة 1325هـ.
(ن) 171 - الناسخ والمنسوخ، لأبي جعفر النحاس المتوفى سنة 328هـ، طبع بمطبعة السعادة 1323هـ. 172 - الناسخ والمنسوخ، لعبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429هـ له نسخة في ميكروفيلم بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية رقم 265، عمومية 445 كتب سنة 612هـ. 173 - الناسخ والمنسوخ، لهبة الله بن سلامة المتوفى سنة 490هـ طبع بمصر (1387هـ). 174 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ليوسف بن تغري بردى (12) مجلد دار الكتب المصرية 1348 - 1375هـ. 175 - النسخ بين الإثبات والنفي، للدكتور محمد محمود فرغلي، طبع بمصر 1391هـ/1971م. 176 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية، للدكتور شعبان محمد مطابع النجوي بالقاهرة، بدون تاريخ. 177 - النسخ في الشريعة الإسلامية، لعبد المتعال الجبري، مطبعة دار الجهاد بمصر 1380هـ. 178 - النسخ في القرآن الكريم، للدكتور مصطفى زيد في مجلدين، دار الفكر 1383هـ/1963م. (و) 179 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، بتحقيق محمد محيي الدين في ستة أجزاء مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1367هـ/1948م.