نواسخ القرآن = ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي

ابن الجوزي

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق بسم الله الرّحمن الرحيم وبه أستعين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد؛ فهذا مصنّف ماتع هام، في مسألة أصولية عظيمة؛ مسألة النسخ في القرآن الكريم، صنفه الإمام الحافظ المفسّر الواعظ جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي- رحمه الله-. ويعتبر هذا الكتاب من أهم المصنفات التي صنفت في هذا الباب، حيث اعتمد فيه المصنف على الآثار وأقوال الأئمة العلماء الواردة في هذا الباب، وأبدى رأيه في ما ادّعي أنه نسخ وهو ليس كذلك، مما تجده مفصلا في ثنايا هذا الكتاب. وقد تجلّى عملي في الكتاب، بأن ضبطت النص عن أصل مطبوع. وصحّحت ما فيه من الأخطاء بالمقارنة مع الأصول والمراجع. - خرجت أحاديثه وآثاره بشيء من الاختصار في أكثر الأحيان. - عزوت النصوص إلى قائليها بذكر المصادر والمراجع. - صنفت فهارس علمية للكتاب. هذا؛ وعلى الله قصد السبيل؛ فإن وفّقت فمنه سبحانه وتعالى التوفيق، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا به. اللهم صلّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتبه: أبو عبد الله العاملي السّلفي الداني بن منير آل زهوي الجية؛ منطقة جبل لبنان الموافق للسابع من شهر شوال عام: إحدى وعشرين وأربعمائة وألف

- المصنفات التي ألفت في هذا الموضوع

- المصنفات التي ألّفت في هذا الموضوع قبل أن أذكر ترجمة المصنف، أود أن أطلع القارئ الكريم على أهم ما صنّف في هذا الموضوع، مع التنبيه؛ أن المصنفات في الناسخ والمنسوخ، منها ما صنّف في نواسخ القرآن فقط، ومنها ما صنف في نواسخ الحديث، ومنها بالجمع بين الأمرين. 1 - «الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من الفرائض والسنن» لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت: 224). وقد قام على تحقيقه: محمد بن صالح المديفر، وطبع بمكتبة الرشد بالرياض سنة (1411). 2 - «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم» لأبي جعفر محمد بن أحمد بن إسماعيل الصفار المرادي النحوي المصري المعروف بأبي جعفر النحاس (ت: 338). وقد طبع بمؤسسة الكتب الثقافية ببيروت، عن نسخة مصحّحة ومقروءة على العلامة أحمد بن الأمين الشنقيطي. وطبع بتحقيق: سليمان اللاحم في كلية أصول الدين في الرياض. 3 - «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه» للعلامة أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437). طبع بتحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات، بدار المنارة بجدة سنة 1406. 4 - «الناسخ والمنسوخ في القرآن» لعبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت: 429) نشر بمكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة سنة (1418). 5 - «الناسخ والمنسوخ» لقتادة (ت: 117). 6 - «ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه» لابن البارزي (ت: 738). 7 - «الناسخ والمنسوخ» للزهري (ت: 124). وهي ضمن كتاب «أربعة كتب في الناسخ والمنسوخ» طبعت بمؤسسة الرسالة، بتحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن. 8 - «صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ» لشمس الدين محمد بن أحمد الموصلي (ت: 656) نشر بدار الجوزي بتحقيق: محمد بن صالح البراك. وغير ذلك مما صنف في هذا الباب، أتى عليها محقق كتاب «البرهان» الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي (2/ 153 - 158).

ومن المعاصرين من ألّف في هذا، ولعل أهمها: 1 - «النسخ في القرآن الكريم» للدكتور مصطفى زيد، طبع بمصر سنة 1963 م. 2 - «نظرية النسخ في الشرائع السماوية» للدكتور شعبان محمد إسماعيل القاهرة، سنة 1977 م. 3 - «فتح المنان في نسخ القرآن» لعلي حسن العريض. مكتبة الخانجي بمصر 1973 م.

ترجمة مختصرة للمصنف

ترجمة مختصرة للمصنف - اسمه ونسبه : هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي، البغدادي. - مولده : ولد ببغداد سنة 508، وقيل: سنة 510. واختلف في سبب تسميته بابن الجوزي: فقيل: إن جده جعفر نسب إلى فرضة من فرض البصرة، يقال لها: جوزة. وقيل: منسوب إلى محلة بالبصرة، تسمى محلة الجوز. وقيل: كانت بداره في واسط جوزة، لم يكن بواسط جوزة سواها. وقال ابن خلكان: «الجوزي؛ بفتح الجيم، وسكون الواو بعدها زاي، نسبته إلى فرضة الجوز، وهو موضع مشهور، ورأيت أن جده كان من مشرعة الجوز، إحدى محال بغداد بالجانب الغربي». - نشأته وطلبه للعلم : كان والده رحمه الله يعمل الصّفر (صناعة النحاس) بنهر القلابين، وقد توفي وهو صغير لم يتجاوز الثالثة من عمره، فكفلته أمه وعمته. فلما ترعرع حملته عمته إلى مجلس أبي الفضل بن ناصر، فاعتنى به وأسمعه الحديث. وحفظ القرآن الكريم، وقرأه على جماعة من أئمة القراء. وسمع الكتب الكبار؛ كالمسند وجامع الترمذي وصحيح البخاري وصحيح مسلم وتاريخ البغدادي وغيرها. وقرأ الفقه والخلاف والجدل والأصول على أبي بكر الدينوري والقاضي أبي يعلى وأبي حكيم النهرواني. وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي، وتتبع مشايخ الحديث وحمل عنهم.

وفاته

ولما توفي شيخه ابن الزاغوني سنة سبع وعشرين وخمسمائة كان قد احتلم؛ فطلب حلقة شيخه فلم يعطها لصغر سنه، وأخذها أبو علي الراذاني، فحضر ابن الجوزي بين يدي الوزير، وأورد فصلا في المواعظ، فأذن له في الجلوس في جامع المنصور. قال ابن الجوزي: «فتكلمت فيه، فحضر مجلسي أول يوم جماعة من أصحابنا الكبار من الفقهاء، منهم عبد الواحد بن سيف، وأبو علي القاضي، وأبو بكر بن عيسى وابن قثامى، وغيرهم. ثم تكلمت: في مسجد معروف وفي باب البصرة وبنهر المعسلي، فاتصلت المجالس، وقوي الزحام، وقوي اشتغالي بفنون العلوم». ومن ذلك الوقت اشتهر أمر أبي الفرج ابن الجوزي، وأخذ في التصنيف والجمع. وبورك له في عمره وعلمه، فروى الكثير، وسمع الناس منه أكثر من ستين سنة، وحدث بمصنفاته مرارا، وكانت أكثر علومه يستفيدها من الكتب. - وفاته : توفي ابن الجوزي في الثالث عشر من شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة (597). مصادر الترجمة : «ذيل تاريخ بغداد» لابن الدبيثي (15/ 238) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 365) و «العبر» (4/ 297) و «تذكرة الحفاظ» (4/ 1342) و «البداية والنهاية» (8/ 531) و «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (1/ 399) ومقدمة تحقيق «صيد الخاطر» للشيخ عامر علي ياسين، ففيه بحث نفيس عن عقيدة المصنف فارجع إليه لزاما.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة المؤلف حدّثنا الشيخ الإمام العالم الأوحد، شيخ الإسلام، وحبر الأمة، قدوة الأئمة، سيد العلماء؛ جمال الدين أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه. قال: الحمد لله على التوفيق، والشّكر لله على التّحقيق، وأشهد أن لا إله إلا هو شهادة سالك من الدليل أوضح طريق، ومنزّه له عما لا يجوز ولا يليق. وصلّى الله على أشرف فصيح، وأطرف منطيق، محمد أرفق نبي بأمته وألطف شفيق، وعلى أصحابه، وأزواجه وأتباعه إلى يوم الجمع والتفريق، وسلّم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن نفع العلم بدرايته لا بوراثته، وبمعرفة أغواره لا بروايته، وأصل الفساد الداخل على عموم العلماء تقليد سابقيهم، وتسليم الأمر إلى معظّميهم، من غير بحث عما صنّفوه، ولا طلب للدليل عما ألّفوه. وإني رأيت كثيرا من المتقدمين على كتاب الله عزّ وجلّ بآرائهم الفاسدة، وقد دسّوا في تصانيفهم للتفسير أحاديث باطلة، وتبعهم على ذلك مقلّدوهم، فشاع ذلك وانتشر، فرأيت العناية بتهذيب علم الأغاليط من اللازم. وقد ألّفت كتابا كبيرا سميته: «بالمغني في التفسير» يكفي عن جنسه، وألّفت كتابا متوسط الحجم مقنعا في ذلك العلم، سمّيته: «زاد المسير». وجمعت كتابا دونه سمّيته «بتيسير التبيان في علم القرآن» واخترت فيه الأصوب من الأقوال، ليصلح للحفظ، واختصرته «بتذكرة الأريب في تفسير الغريب»، وأرجو أن تغني هذه المجموعات عن كتب التفسير، مع كونها مهذّبة عن خللها، سليمة من زللها. فصل ثم إني رأيت الذين وقع منهم التفسير صحيحا قد صدر عنهم ما هو أفظع، فآلمني؛ وهو الكلام في الناسخ والمنسوخ، فإنهم أقدموا على هذا العلم فتكلّموا

فصل

فيه وصنّفوه، وقالوا بنسخ ما ليس بمنسوخ. ومعلوم أن نسخ الشيء؛ رفع حكمه، وإطلاق القول برفع حكم آية لم يرفع جرأة عظيمة. ومن نظر في كتاب «الناسخ والمنسوخ» للسّدّي (¬1) رأى من التخليط العجائب، ومن قرأ في كتاب هبة الله المفسر (¬2) رأى العظائم. وقد تداوله الناس لاختصاره، ولم يفهموا دقائق أسراره، فرأيت كشف هذه الغمة عن الأمة، ببيان إيضاح الصحيح، وهتك ستر القبيح، متعينا على من أنعم الله عليه بالرسوخ في العلم، وأطلعه على أسرار النقل، واستلب زمامه من أيدي التقليد، فسلّمه إلى يد الدليل، فلا يهوله قول معظّم، فكيف بكلام جاهل مبرسم. فصل وقد قدّمت أبوابا قبل الشروع في بيان الآيات، هي كالقواعد والأصول للكتاب، ثم أتيت بالآيات المدّعى عليها النسخ على ترتيب القرآن، إلا أني أعرضت عن ذكر آيات ادّعي عليها النسخ من حكاية لا تحصل إلا تضييع الزمان أفحش تضييع، كقول السدي: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: 2] نسخها وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [النساء: 5] وقوله: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ [النساء: 38] نسخها: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] وقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ [المائدة: 106] نسخها: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: 106] وقوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 62] نسخها: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [محمد: 11] وقوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] نسخها: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] في نظائر كثيرة لهذه الآيات. لا أدري أيّ الأخلاط الغالبة حملته على هذا التخليط. فلما كان مثل هذا ¬

_ (¬1) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد الحجازي ثم الكوفي الأعور السّدّي، نسبة إلى سدّة مسجد الكوفة. توفي سنة سبع وعشرين ومائة (127). ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (5/ 264) و «التاريخ الكبير» (1/ 360) و «الجرح والتعديل» (2/ 184) و «النجوم الزاهرة» (1/ 308). (¬2) هو: هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم البغدادي، المفسّر، صاحب كتاب «الناسخ والمنسوخ». كان من حفاظ أئمة التفسير، وكان ضريرا توفي سنة (410). ترجمته في: «تاريخ بغداد» (14/ 170) و «العبر» (3/ 106) و «شذرات الذهب» (5/ 60).

فصل

ظاهر الفساد، وريت عنه غيرة على الزمان أن يضيع، وإن كنت قد ذكرت مما يقاربه طرفا، لأنبه بمذكوره على مغفله. فصل ولما رأيت المصنّفين في هذا العلم قد تباينوا، فمنهم من أطال بما لا حاجة بمثل هذا التصنيف إليه، ومنهم من قلّد القائلين ولم يحكم على الاختلاف ببيان الصواب، ومنهم من نقص بحذف ما يحتاج إليه. وأنا أنبئك بهذا الكتاب متوسطا، وحذفت كثيرا من الأسانيد والطرق خوف الملل، والله ولي التوفيق.

الباب الأول باب بيان جواز النسخ والفرق بينه وبين البداء

الباب الأول باب بيان جواز النسخ والفرق بينه وبين البداء اتفق جمهور علماء الأمم على جواز النسخ عقلا وشرعا، وانقسم اليهود في ذلك ثلاثة أقسام (¬1): فالقسم الأول: قالوا: لا يجوز عقلا ولا شرعا، وزعموا أن النسخ هو عين البداء (¬2). والقسم الثاني: قالوا: يجوز عقلا وإنما منع الشرع من ذلك، وزعموا أن موسى عليه السلام، قال: إن شريعته لا تنسخ من بعده، وإن ذلك في التوراة. ومن هؤلاء من قال: لا يجوز النسخ إلا في موضع واحد، وهو أنه يجوز نسخ عبادة أمر الله بها بما هو أثقل على سبيل العقوبة لا غير (¬3). والقسم الثالث: قالوا: يجوز شرعا لا عقلا، واختلف هؤلاء في عيسى ومحمد صلى الله عليهما، فمنهم من قال: لم يكونا نبيّين لأنهما لم يأتيا بمعجزة، وإنما أتيا بما هو من جنس الشعوذة. ومنهم من قال: كانا نبيين صادقين، غير أنهما لم يبعثا بنسخ شريعة موسى ولا بعثا إلى بني إسرائيل إنما بعثا إلى العرب والأميين (3). فصل وأما الدليل على جواز النسخ عقلا؛ فهو أن التكليف لا يخلو أن يكون ¬

_ (¬1) وممن أنكره أيضا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني المعتزلي، وانظر «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني (2/ 341) و «رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار» ص 84. (¬2) وهذه الفرقة تسمى ب «الشمعونية» نسبة إلى شمعون بن يعقوب. انظر: «الأحكام» للآمدي (2/ 245) و «رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار» لأبي إسحاق الجعبري (ص 85) و «أصول السرخسي» (2/ 54) و «نهاية الوصول في دراية الأصول» (6/ 2244، 2245) و «التحقيقات في شرح الورقات» لابن قاوان الشافعي (ص 359) و «نهاية السول في شرح منهاج الوصول» للإسنوي (1/ 587) و «إرشاد الفحول» للشوكاني (3/ 618) وغيرها من كتب الأصول. (¬3) انظر المصادر السابقة.

فصل

موقوفا على مشيئة المكلف أو على مصلحة المكلف، فإن كان الأول؛ فلا يمتنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني؛ فجائز أن تكون المصلحة للعباد في فعل عبادة زمان دون زمان. ويوضح هذا أنه قد جاز في العقل تكليف عبادة متناهية كصوم يوم، وهذا تكليف انقضى بانقضاء زمان، ثم قد ثبت أن الله تعالى ينقل من الفقر إلى الغنى ومن الصحة إلى السقم، ثم قد رتب الحر والبرد والليل والنهار وهو أعلم بالمصالح وله الحكم. فصل والدليل على جواز النسخ شرعا؛ أنه قد ثبت أن من دين آدم عليه السلام وطائفة من أولاده، جواز نكاح الأخوات وذوات المحارم والعمل في يوم السبت، ثم نسخ ذلك في شريعة موسى. وكذلك الشّحوم؛ كانت مباحة ثم حرّمت في دين موسى، فإن ادّعوا أن هذا ليس بنسخ؛ فقد خالفوا في اللفظ دون المعنى. فصل وأما قول من قال: لا يجوز النسخ إلا على وجه العقوبة فليس بشيء، لأنه إذا أجاز النسخ في الجملة جاز أن يكون للرفق بالمكلف، كما جاز للتشديد عليه. فصل وأما دعوى من ادّعى أن موسى عليه السلام أخبر أن شريعته لا تنسخ؛ فمحال. ويقال: إن ابن الراوندي (¬1) علّمهم أن يقولوا: إن موسى قال: لا نبيّ بعدي. ويدل على ما قلنا؛ أنه لو صحّ قولهم لما ظهرت المعجزات على يد عيسى عليه السلام، لأن الله تعالى لا يصدق بالمعجزة من كذّب موسى، فإن أنكروا معجزة عيسى لزمهم ذلك في معجزة موسى، فإن اعترفوا ببعض معجزاته، لزمهم تكذيب من نقل عن موسى عليه السلام، لأنه قال: لا نبي بعدي. ومما يدلّ على كذبهم فيما ادّعوا؛ أن اليهود ما كانوا يحتجّون على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بكل شيء. ¬

_ (¬1) هو: أحمد بن يحيى بن إسحاق الريوندي، الملحد، صاحب التصانيف في الحطة على الملة، وله كتب في الإلحاد والزندقة، كان أبوه يهوديا فأسلم. هلك سنة ثمان وتسعين ومائتين (298). أخباره في: «سير أعلام النبلاء» (14/ 59) و «المنتظم» لابن الجوزي (6/ 99 - 105) و «البداية والنهاية» (11/ 112) و «النجوم الزاهرة» (3/ 175 - 177) و «شذرات الذهب» (4/ 7).

فصل

وكان نبينا صلّى الله عليه وسلّم مصدّقا لموسى عليه السلام، وحكم عليهم بالرّجم عملا بما في شريعة موسى (¬1) فهلّا احتجّوا عليه بذلك، ولو احتجّوا لشاع نقل ذلك، فدل على أنه قول ابتدع بعد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم. فصل وأما قول من قال: إن عيسى ومحمدا عليهما السلام كانا نبيين لكنهما لم يبعثا إلى بني إسرائيل؛ فتغفيل من قائله، لأنه إذا أقرّ بنبوة نبيّ فقد أقرّ بصدقه، لأن النبي لا يكذب، وقد كان عيسى عليه السلام يخاطب بني إسرائيل، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم يقول: «بعثت إلى النّاس كافة» (¬2) ويكاتب ملوك الأعاجم. فصل فأما الفرق بين النسخ والبداء، فذلك من وجهين: الأول: أن النسخ: تغيير عبادة أمر بها المكلّف، وقد علم الآمر حين الأمر أن لتكليف المكلف بها غاية ينتهي الإيجاب إليها ثم يرتفع بنسخها. والبداء: أن ينتقل الأمر عن ما أمر به وأراده دائما بأمر حادث، لا بعلم سابق. والثاني: أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحّة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالا على إفساد الموجب لصحّة الأمر الأول، مثل: أن يأمره بعمل يقصد به مطلوبا، فيتبين أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل، فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه، وكلا الأمرين يدل على قصور في العلم، والحق عزّ وجلّ منزّه عن ذلك (¬3). ... الباب الثاني باب إثبات أن في القرآن منسوخا انعقد إجماع العلماء على هذا، إلا أنه قد شذّ من لا يلتفت إليه؛ فحكى أبو ¬

_ (¬1) انظر «صحيح مسلم» رقم (1699). (¬2) جزء من حديث أخرجه البخاري (335، 438، 3122) ومسلم (521) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله. (¬3) وانظر «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر ابن النحاس (ص 11، 12) و «الواضح في أصول الفقه» لابن عقيل (1/ 237).

جعفر النحّاس (¬1) أن قوما قالوا: ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ وهؤلاء قوم لا يقرّون، لأنهم خالفوا نص الكتاب وإجماع الأمة، قال الله عزّ وجلّ: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106]. [1]- وأخبرنا المبارك بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن قريش، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس الورّاق، قال: بنا عبد الله بن داود، وقال: حدّثنا محمد بن عامر بن إبراهيم، عن أبيه، عن نهشل بن سعيد، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] قال: في الناسخ والمنسوخ. قال ابن أبي داود: وحدّثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدّثنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ويقول: يبدل الله ما يشاء من القرآن، فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله، وما يبدل وما يثبت وكل ذلك في كتاب (¬2). قال ابن أبي داود: وحدّثنا يونس بن حبيب، قال: حدّثنا أبو داود، وقال: حدّثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، في قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال: ينسخ الآية بالآية فترفع، وعنده أم الكتاب، أصل الكتاب. قال: وحدّثنا علي بن حرب، ومصعب بن محمد ويعقوب بن سفيان، قالوا: حدّثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله عزّ وجلّ: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال: نزلت في الناسخ والمنسوخ. قال: وحدّثنا محمد بن الحسن قال: حدّثنا كثير بن يحيى، قال: حدّثنا أبي، قال: بنا يونس بن عبيد، وهشام بن حسان جميعا، عن محمد بن سيرين يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يرفعه، ويثبت ما يشاء، فيدعه مقرا له. ¬

_ (¬1) هو: أحمد بن محمد بن إسماعيل، أبو جعفر بن النحّاس المصري النحوي. من كبار العلماء بالنحو، والقرآن. توفي سنة (ثمان وثلاثين وثلاثمائة 338). له من التصانيف: «إعراب القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» وغيرهما. ترجمته في: «سير أعلام النبلاء» (15/ 401) و «البداية والنهاية» (11/ 222) و «النجوم الزاهرة» (3/ 330). [1] إسناده ساقط. فيه نهشل بن سعيد؛ وهو متروك، وكذّبه إسحاق بن راهويه، وانظر «تهذيب الكمال» (30/ 32 - 33). (¬2) انظر «جامع البيان» للطبري (13/ 12).

الباب الثالث باب بيان حقيقة النسخ

قال: وحدّثنا موسى بن هارون، قال: حدّثنا الحسين قال: ثنا شيبان، عن قتادة مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمران: 7] قال: المحكمات الناسخ الذي يعمل به. قال: وحدّثنا محمد بن معمر: قال: ثنا روح، قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفان، عن عامر بن الفرات، عن أسباط، عن السدي يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما يشاء من المنسوخ ويثبت من الناسخ. قال: وحدّثنا ... مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قال: .... لم تنسخ. ورواه سفيان عن سلمة، عن الضحاك، قال: المحكمات؛ الناسخ. [2]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا وكيع، عن سلمة بن نبيط، عن الصحابة قال: المتشابه ما قد نسخ، والمحكمات ما لم ينسخ. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أبي أعلمنا بالمنسوخ (¬1). ... الباب الثالث باب بيان حقيقة النسخ النسخ في اللغة على معنيين: الأول: الرفع والإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا رفعت ظل الغداة بطلوعها وخلفه ضوؤها. ومنه قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: 52]. والثاني: تصوير مثل المكتوب في محل آخر، يقولون نسخت الكتاب، ومنه قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29]. وإذا أطلق النسخ في الشريعة أريد به المعنى الأول، لأنه رفع الحكم الذي ثبت تكليفه للعباد إما بإسقاطه إلى غير بدل أو إلى بدل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4481، 5005) وأحمد (5/ 113) بلفظ: «عليّ أقضانا، وأبيّ أقرؤنا، وإنا لندع كثيرا من لحن أبي، وأبي يقول: سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا أدعه لشيء، والله تبارك وتعالى يقول: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.

وقال شيخنا علي بن عبيد الله (¬1): الخطاب في التكليف على ضربين: أمر ونهي، فالأمر استدعاء الفعل، والنهي استدعاء الترك. واستدعاء الفعل يقع على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: ما يكون على سبيل الإلزام والانحتام، إما بكونه فرضا أو واجبا. ونسخ ذلك يقع على ثلاثة أوجه: الأول: أن يخرج من الوجوب إلى المنع، مثل ما كان التوجه إلى بيت المقدس واجبا ثم نسخ بالمنع منه (¬2). والثاني: أن ينسخ من الوجوب إلى الاستحباب، مثل نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة إلى أن جعل مستحبا. والثالث: أن ينسخ من الوجوب إلى الإباحة، مثل نسخ وجوب الوضوء مما غيرت النار إلى الجواز، فصار الوضوء منه جائزا. والضرب الثاني: استدعاء على سبيل الاستحباب، فهذا ينتقل إلى ثلاثة أوجه أيضا: الأول: أن ينتقل من الاستحباب إلى الوجوب، وذلك مثل الصوم في رمضان كان مستحبا فإن تركه وافتدى جاز، ثم نسخ ذلك بانحتامه في حق الصحيح المقيم. والثاني: أن ينسخ من الاستحباب إلى التحريم، مثل: نسخ اللطف بالمشركين وقول الحسنى لهم (¬3)، فإنه نسخ بالأمر بقتالهم (¬4). ¬

_ (¬1) هو: علي بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزّاغوني البغدادي أبو الحسن. شيخ الحنابلة، صاحب التصانيف. حدّث عنه السّلفي وابن ناصر الدين وابن عساكر وابن الجوزي، وغيرهم. كان من بحور العلم وأهل التقوى والزهد. وفاته سنة سبع وعشرين وخمسمائة (527). ترجمته في: «سير أعلام النبلاء» (19/ 605)، «وشذرات الذهب» (6/ 133). (¬2) انظر «الواضح في أصول الفقه» لابن عقيل (1/ 251). (¬3) وذلك في قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ .. [العنكبوت: 46]. (¬4) وذلك في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5]. وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29].

فصل

والثالث: أن ينسخ من الاستحباب إلى الاباحة، مثل: نسخ استحباب الوصية للوالدين (¬1) بالإباحة (¬2). والضرب الثالث: المباح؛ وقد اختلف العلماء هل هو مأمور به؟ والصحيح أنه مأذون فيه غير مأمور به (¬3)، ويجوز أن يدخله النسخ عن وجه واحد وهو النسخ إلى التحريم، مثاله: أن الخمر مباحة ثم حرمت. وأما نسخ الإباحة إلى الكراهة؛ فلا يوجد، لأنه لا تناقض. فأما انتقال المباح إلى كونه واجبا فليس بنسخ، لأن إيجاب المباح إبقاء تكليف لا نسخ. وأما القسم الثاني من الخطاب: وهو النهي فهو يقع على ضربين: الأول: على سبيل التحريم؛ فهذا قد ينسخ بالإباحة، مثل تحريم الأكل على الصائم في الليل بعد النوم والجماع. والثاني: على سبيل الكراهة، لم يذكر له مثال. فصل فأما الأخبار فهي على ضربين: الأول: ما كان لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الأمر كقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] فهذا لاحق بخطاب التكليف في جواز النسخ عليه. والثاني: الخبر الخالص، فلا يجوز عليه، لأنه يؤدي إلى الكذب وذلك محال. وقد حكي جواز ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسّدّي، وليس بشيء يعوّل عليه. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عظيم جدا يؤول إلى الكفر لأن قائلا لو قال: قام فلان ثم قال: لم يقم، فقال: نسخته لكان كاذبا. وقال ابن عقيل (¬4): الأخبار لا يدخلها النسخ، لأن نسخ الأخبار كذب، ¬

_ (¬1) في سورة البقرة، الآية رقم (180). (¬2) في آيتي النساء: 11، 12. (¬3) وهو قول الجمهور؛ انظر «إحكام الأحكام» للآمدي (1/ 177) و «المستصفى» للغزالي (1/ 75) و «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 314 - 315) و «المحصول» للرازي (2/ 210) و «نهاية الوصول في دراية الأصول» للأرموي الهندي (2/ 629) و «التحقيقات في شرح الورقات» (ص 108). (¬4) هو: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد الطفري البغدادي الحنبلي. مولده ببغداد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة (431). من العلماء الكبار المحققين، برع في علم الأصول وشتى أنواع الفنون، وزاحم أهل عصره، وكان له مكانة عالية بين العلماء.

فصل

وحوشي القرآن من ذلك (¬1). فصل وقد زعم قوم: أن المستثنى ناسخ لما استثني منه، وليس هذا بكلام من يعرف ما يقول، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وليس ذلك بنسخ، وكذلك التخصيص (¬2)، وقد يجوّزه بعض السلف؛ فيقول: هذه الآية نسخت هذه الآية؛ أي: نزلت بنسختها. ... الباب الرابع باب شروط النسخ الشروط المعتبرة في ثبوت النسخ خمسة: الشرط الأول: أن يكون الحكم في الناسخ والمنسوخ متناقضا ، بحيث لا يمكن العمل بهما جميعا، فإن كان ممكنا لم يكن أحدهما ناسخا للآخر، وذلك قد يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكون أحد الحكمين متناولا لما تناوله الثاني بدليل العموم، والآخر متناولا لما تناوله الأول بدليل الخصوص، فالدليل الخاص لا يوجب نسخ دليل العموم، بل يبين أنه إنما تناوله التخصيص لم يدخل تحت دليل العموم. والوجه الثاني: أن يكون كل واحد من الحكمين ثابتا في حال غير الحالة التي ثبت فيها الحكم الآخر، مثل تحريم المطلقة ثلاثا، فإنها محرمة على مطلقها في حال، وهي ما دامت خالية عن زوج وإصابة، فإذا أصابها زوج ثان ارتفعت الحالة الأولى، وانقضت بارتفاعها مدة التحريم، فشرعت في حالة أخرى حصل فيها حكم الإباحة ¬

_ له كثير من التصانيف، أهمها كتاب «الفنون» وهو في ثلاثمائة مجلد، ولا يزال مخطوطا، طبع منه جزء صغير. وفاته سنة ثلاث عشرة وخمسمائة (513). ترجمته في: «طبقات الحنابلة» (1/ 142) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 443) و «البداية والنهاية» (12/ 184) و «شذرات الذهب» (6/ 58) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 163). (¬1) نحوه في «الواضح في أصول الفقه» (4/ 244). (¬2) انظر في الفرق بين التخصيص والنسخ «الواضح في أصول الفقه» (1/ 238) و (4/ 240 - 242).

والشرط الثاني: أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ

للزوج المطلق ثلاثا، فلا يكون هذا ناسخا، لاختلاف حالة التحريم والتحليل. والشرط الثاني: أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ فذلك يقع بطريقين: أحدهما: من جهة النطق كقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال: 66] وقوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] ومثل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» (¬1). والثاني: أن يعلم بطريق التاريخ، وهو أن ينقل بالرواية بأن يكون الحكم الأول ثبوته متقدما على الآخر، فمتى ورد الحكمان مختلفين على وجه لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك الآخر، ولم يثبت تقديم أحدهما على صاحبه بأحد الطريقين؛ امتنع ادّعاء النسخ في أحدهما. والشرط الثالث: أن يكون الحكم المنسوخ مشروعا ؛ أعني أنه ثبت بخطاب الشرع، فأما إن كان ثابتا بالعادة والتعارف لم يكن رافعه ناسخا، بل يكون ابتداء شرع، وهذا شيء ذكر عند المفسرين، فإنهم قالوا: كان الطلاق في الجاهلية لا إلى غاية، فنسخه قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة: 229] وهذا لا يصدر ممن يفقه، لأن الفقيه يفهم أن هذا ابتداء شرع لا نسخ. والشرط الرابع: أن يكون ثبوت الحكم الناسخ مشروعا كثبوت المنسوخ فأما ما ليس بمشروع بطريق النقل، فلا يجوز أن يكون ناسخا للمنقول، ولهذا إذا ثبت حكم منقول لم يجز نسخه بإجماع ولا بقياس. والشرط الخامس: أن يكون الطريق الذي ثبت به الناسخ مثل الطريق الذي ثبت به المنسوخ أو أقوى منه، فأما إن كان دونه فلا يجوز أن يكون الأضعف ناسخا للأقوى. ... الباب الخامس باب ذكر ما اختلف فيه هل هو شرط في النسخ أم لا؟ اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة، فأما نسخ القرآن بالسنة، فالسنة تنقسم قسمين: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (977، 1977). من حديث بريدة بن الحصيب.

القسم الأول: ما ثبت بنقل متواتر، كنقل القرآن، فهل يجوز أن ينسخ القرآن بمثل هذا؟ حكى فيه شيخنا علي بن عبيد الله روايتين عن أحمد، قال: والمشهور أنه لا يجوز (¬1)، وهو مذهب الثوري والشافعي. والرواية الثانية يجوز؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك (¬2) قال: ووجه الأولى؛ قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106] والسنة ليست مثلا للقرآن، وروى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلامي لا ينسخ القرآن، ينسخ بعضه بعضا» (¬3). ومن جهة المعنى؛ فإن السنة تنقص عن درجة القرآن فلا تقدم عليه. ووجه الرواية الثانية؛ قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] والنسخ في الحقيقة بيان مدة المنسوخ، فاقتضت هذه الآية قبول هذا البيان، قال: وقد نسخت الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180] بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا وصية لوارث» (¬4). ونسخ قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 191] بأمره عليه الصلاة والسلام، أن يقتل ابن خطل، وهو متعلّق بأستار الكعبة (¬5). ومن جهة المعنى؛ أن السنة مفسرة للقرآن، وكاشفة لما يغمض من معناه، فجاز أن ينسخ بها. والقول الأول هو الصحيح، لأن هذه الأشياء تجري مجرى البيان للقرآن، لا ¬

_ (¬1) انظر «الواضح في أصول الفقه» (1/ 288) و (4/ 258 - 259) و «العدة» لأبي يعلى (3/ 788) و «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني (2/ 382) و «المحصول» (3/ 347) و «الإحكام» للآمدي (3/ 153). (¬2) «الواضح في أصول الفقه» (4/ 259) و «أصول السرخسي» (2/ 267). (¬3) أخرجه الدارقطني (4/ 145) وابن عدي في «الكامل» (2/ 180) من طريق: جبرون بن واقد، نا سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله به مرفوعا. قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» في ترجمة جبرون بن واقد رقم (1437): «متهم، فإنه روى بقلّة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «كلام الله ينسخ كلامي». وهذا الحديث موضوع». وحكم عليه بالوضع المحدث الألباني في «المشكاة» (1/ 68/ 195). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 267) وأبو داود (2870) و (3565) والترمذي (2120) وابن ماجة (2713) وغيرهم، من حديث أبي أمامة الباهلي. وهو حديث صحيح، وفي الباب عن غيره من الصحابة تخريجها في «نصب الراية» (4/ 403). (¬5) انظر «صحيح البخاري» (1846، 3044، 4286، 5808) و «صحيح مسلم» (1357).

فصل

النسخ، وقد روى أبو داود السجستاني قال: سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: السنة تفسر القرآن، ولا ينسخ القرآن إلا القرآن. وكذلك قال الشافعي: إنما ينسخ الكتاب الكتاب، والسنة ليست ناسخة له (¬1). والقسم الثاني: الأخبار المنقولة بنقل الآحاد؛ فهذه لا يجوز بها نسخ القرآن (¬2)، لأنها لا توجب العلم، بل تفيد الظن، والقرآن يوجب العلم، فلا يجوز ترك المقطوع به لأجل مظنون، وقد احتجّ من رأى جواز نسخ التواتر بخبر الواحد بقصة أهل قباء لما استداروا بقول واحد، فأجيب بأن قبلة بيت المقدس لم تثبت بالقرآن، فجاز أن تنسخ بخبر الواحد. فصل واتفق العلماء على جواز نسخ نطق الخطاب، واختلفوا في نسخ ما ثبت بدليل الخطاب وتنبيه وفحواه، فذهب عامة العلماء إلى جواز ذلك، واستدلوا بشيئين: أحدهما: أن دليل الخطاب دليل شرعي يجري مجرى النطق في وجوب العمل به فجرى مجراه في النسخ. والثاني: أنه قد وجد ذلك، فروى جماعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «الماء من الماء» (¬3). وعملوا بدليل خطابه، فكانوا لا يغتسلون من التقاء الختانين، ثم نسخ ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا التقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» (¬4). وقد حكي عن جماعة من أهل الظاهر أنه لا يجوز نسخ ما ثبت بدليل الخطاب وفحواه، قالوا: لأن ذلك معلوم بطريق القياس، والقياس لا يكون ناسخا ولا منسوخا، وليس الأمر على ما ذكر، بل هو مفهوم من معنى النطق وتنبيهه. فصل واتفق العلماء على أن الحكم المأمور به إذا عمل به ثم نسخ بعد ذلك؛ أن النسخ يقع صحيحا جائزا. ¬

_ (¬1) انظر «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/ 1194 - 1195/ 2355) ط. ابن الجوزي. (¬2) ونقل ابن عقيل في «الواضح» (4/ 290) رواية عن الإمام أحمد في جواز ذلك. (¬3) أخرجه مسلم (343) وأحمد (3/ 29، 36) وأبو داود (217) وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره من الصحابة. (¬4) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/ 247، 470) وأصله عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها. انظر تخريجه في «إرواء الغليل» رقم (80).

الباب السادس باب فضيلة علم الناسخ والمنسوخ والأمر بتعلمه

واختلفوا؛ هل يجوز نسخ الحكم قبل العمل به؟ فظاهر كلام أحمد: جواز ذلك، وهو اختيار عامة أصحابنا، وكان أبو الحسن التميمي يقول: لا يجوز ذلك، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واحتجّ الأولون بأن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ثم نسخ ذلك بالفداء قبل فعله. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرض عليه وعلى أمته ليلة المعراج خمسون صلاة ثم نسخ ذلك بخمس صلوات. ومن جهة المعنى: فإن الأمر بالشيء يقع فيه تكليف الإيمان به والاعتقاد له، ثم تكليف العزم على فعله في الزمان الذي عين له، ثم إذا فعل على الوجه المأمور به، فجاز أن ينسخ قبل الأداء، لأنه لم يفقد من لوازمه غير الفعل، والنية نائبة عنه. واحتج من منع من ذلك؛ بأن الله تعالى إنما يأمر عباده بالعبادة لكونها حسنة، فإذا أسقطها قبل فعلها خرجت عن كونها حسنة، وخروجه قبل الفعل يؤدي إلى البداء. وهذا كلام مردود بما بينا من الإيمان والامتثال، والعزم يكفي في تحصيل المقصود من التكليف بالعبادة. ... الباب السادس باب فضيلة علم الناسخ والمنسوخ والأمر بتعلّمه [3] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الصريفيني قال: أخبرنا عمر بن إبراهيم الكتاني، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد البغوي، قال: بنا زهير بن حرب، قال حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، أن عليا عليه السلام مرّ بقاصّ، فقال: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: «هلكت وأهلكت». ¬

_ (¬1) أثر صحيح. أخرجه أبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 7) - طبعة الكتب الثقافية- وأبو خيثمة في «العلم» رقم (130) وأبو بكر الهمداني في «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ» (ص 6 ط حمص) ورقم (3) بتحقيقي، وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (1) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 117) والزهري في «الناسخ والمنسوخ» ص (13). من طريق: سفيان الثوري، عن أبي حصين به. قال الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب «العلم» (ص 31): «إسناده صحيح على شرط الشيخين».

[4] (¬1) - أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا علي بن الحسين بن أيوب، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد، قال: حدّثنا أبو داود السجستاني، قال: حدّثنا حفص بن عمر، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: مرّ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على قاصّ يقص فقال: تعلّمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: «هلكت وأهلكت». [5] (¬2) - أخبرنا عبد الله بن علي المقري قال: أخبرنا أحمد بن ندار البقال، قال: أخبرنا محمد بن عمر بن بكير النجاب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: بنا إبراهيم بن عبد الله البصري، قال: حدّثنا أبو عمر حفص بن عمر الضرير قال: أبنا حماد بن سلمة؛ أن عطاء بن السائب أخبرهم، عن أبي البختري الطائي، قال: أتى علي عليه السلام على رجل في مسجد الكوفة وهو يقص، فقال: من هذا؟ قالوا: رجل يحدث، ثم أتى عليه يوما آخر فإذا هو يقص، فقال: من هذا؟ قالوا: رجل يحدث. فقال: اسألوه؛ يعرف الناسخ من المنسوخ. فسألوه؛ فقال: لا. فقال: إن هذا يقول: اعرفوني اعرفوني، أنا فلان ثم قال: لا تحدّث. [6]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدّثنا يزيد- يعني ابن إبراهيم بن العلاء الغنوي-، أن سعيد بن أبي الحسن لقي أبا يحيى فقال: يا أبا يحيى: من الذي قال له علي عليه السلام اعرفوني اعرفوني؟ فقال: إني أظنك عرفت أني أنا هو. قال: قال: ما عرفت أنك هو، قال: فإني أنا هو، مرّ بي وأنا قص بالكوفة، فقال: من أنت؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 244/ 239) وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 7) والزهري في «الناسخ والمنسوخ» (ص 14). من طريق: شعبة، عن أبي حصين به. وإسناده صحيح، وانظر الذي قبله. (¬2) إسناده ضعيف. عطاء بن السائب؛ «صدوق اختلط». وأبو البختري؛ هو: سعيد بن فيروز؛ ثقة لكنه يرسل، وهو لم يسمع من علي عليه السلام كما قال ابن معين وغيره؛ انظر «تهذيب الكمال» (11/ 33). والخبر أخرجه أبو جعفر النحاس (ص 8) والزهري في «الناسخ والمنسوخ» (ص 14) من طريق: حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب به. وأخرجه (ص 7) من طريق: أبي إسحاق، عن عطاء به.

فقلت: أنا أبو يحيى، قال: لست بأبي يحيى ولكنك اعرفوني، هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ قلت: لا. قال: هلكت وأهلكت، قال: فلم أعد بعد ذلك أقصّ على أحد. - قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: أخبرنا القاسم بن الفضل، قال حدّثنا علي بن زيد، عن أبي يحيى قال: أتاني علي عليه السلام وأنا أقص، قال: فذهبت أوسع له فقال: إني لم آتك لأجلس إليك، هل تعلم الناسخ من المنسوخ؟ قلت: لا. قال: «هلكت وأهلكت»، ما اسمك؟ قلت: أبو يحيى. قال: أنت أبو اعرفوني. [7] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس الوراق قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، قال: حدّثنا حجاج، قال: حدّثنا يزيد بن إبراهيم، قال: بنا إبراهيم بن العلاء الغنوي أبو هارون، عن سعيد بن أبي الحسن أنه لقي أبا يحيى المعرقب فقال له: من الذي قال له: اعرفوني اعرفوني؟ قال: يا سعيد؛ إني أنا هو. قال: ما عرفت أنك هو، قال: فإني أنا هو؛ مرّ بي عليّ رضي الله عنه وأنا أقص بالكوفة، فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا أبو يحيى. فقال: لست بأبي يحيى، ولكنك اعرفوني اعرفوني، ثم قال: هل علمت الناسخ من المنسوخ؟ قلت: لا. قال: «هلكت وأهلكت». قال: فما عدت بعدها أقص على أحد. - قال ابن أبي داود: وحدّثنا محمد بن عثمان العجلي، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة قال: قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة، رجل قد علم ناسخ القرآن من منسوخه، وأمير لا يجد في ذلك بدا أو أحمق متكلف. [8] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال: حدّثنا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو بكر الهمداني في «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ» (ص 6 - حمص) أو رقم (4) بتحقيقي- من طريق: أبي بكر بن أبي داود به. (¬2) أخرجه أبو جعفر النحاس (ص 8) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (2) وأبو بكر الهمداني في «الاعتبار» (ص 7) أو رقم (6) والزهري ص (14). من طريق: سلمة بن نبيط به. وإسناده صحيح.

الباب السابع باب أقسام المنسوخ

عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا وكيع، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: مرّ ابن عباس على قاص، قال: تعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا. قال: هلكت وأهلكت. - قال أحمد: وحدّثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: أخبرني سليم، عن ابن عون، عن محمد قال: جهدت أن أعلم الناسخ من المنسوخ فلم أعلمه. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره وحرامه وحلاله، وأمثاله (¬1). ... الباب السابع باب أقسام المنسوخ المنسوخ من القرآن على ثلاثة أقسام: فالقسم الأول: ما نسخ رسمه وحكمه [9] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن رهطا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبروه؛ أنه قام رجل منهم من جوف الليل يريد أن ¬

_ (¬1) أخرجه النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص (7 - 8) قال: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي، قال: حدّثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس به. وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 531/ 2822) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (5/ 576/ 6177 و 6/ 199/ 6623) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (3، 4). من طريق: معاوية بن صالح به. وإسناده ضعيف مرسل، علي بن أبي طلحة لم ير ابن عباس، قال الحافظ في «التقريب» (4788): «أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق قد يخطئ». (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (17) والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 417) - ط. الهند- من طريق: الزهري به. قال الطحاوي: «هكذا حدثنا يونس بهذا الحديث، فلم يتجاوز به أبا أمامة. وأصحاب الحديث يدخلون هذا في المسند، لأن أبا أمامة ممن ولد في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم».

يفتتح سورة كان قد وعاها، فلم يقدر منها على شيء إلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فأتى باب النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أصبح يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وجاء آخر وآخر حتى اجتمعوا، فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم، فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة، ثم أذن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبروه خبرهم، وسألوه عن السورة. فسكت ساعة، لا يرجع إليهم شيئا، ثم قال: «نسخت البارحة، فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه». [10] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، أخبرنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أبنا أبو بكر محمد بن إسماعيل الوراق، قال: حدّثنا أبو بكر عبد الله بن أبي داود، قال: حدّثنا سليمان بن داود بن حماد قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كانت معه سورة فقام من الليل يقرؤها، فلم يقدر عليها قال: فأصبحوا فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمعوا عنده، فقال بعضهم: يا رسول الله؛ قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها، وقال الآخر: ما جئت يا رسول الله إلا لذلك، وقال الآخر: وأنا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها نسخت البارحة». - قال أبو بكر بن أبي داود: وحدّثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، قال: أبنا عوان، قال: بنا حماد، قال: بنا علي بن زيد، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن أبي موسى قال: نزلت سورة مثل براءة، ثم رفعت، فحفظ منها: «إن الله يؤيد الدين بأقوام لا خلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الذي قبله. (¬2) أخرجه مسلم (1050) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 323) وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. تنبيه: اتّكأ البعض على هذا الحديث بنسبة القول بالتحريف لأهل السنة! وهذا يشبه قول القائل: «رمتني بدائها وانسلّت». وممن ذكر هذا الحديث الخوئي في «البيان في تفسير القرآن» (ص 204) وجعفر مرتضى العاملي في «حقائق هامة حول القرآن» (ص 325 - وما بعدها). والحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، باب: لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا. ففقه الحديث في تبويبه كما ترى. والحديث مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس بن مالك وأبي بن كعب وأبي واقد الليثي وغيرهم. منهم من ذكر قول أبي موسى في أنه ظنها من القرآن، ومنهم من ذكر الحديث من قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال ابن أبي داود: وحدّثنا محمد بن عثمان العجلي قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا سيف، عن مجاهد قال: «إن الأحزاب كانت مثل البقرة أو أطول». قال ابن داود: وحدّثنا عباد بن يعقوب قال: أخبرنا شريك، عن عاصم، عن زر، قال: قال أبي بن كعب: كيف تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: سبعين أو إحدى وسبعين آية. قال: والذي أحلف به لقد نزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها (¬1). ¬

_ فالعجيب من تناقض صاحب «حقائق هامة»! كيف ادّعى ص 328 من الكتاب أن أبا موسى الأشعري هو الذي انفرد بهذه الرواية، مع أنه ذكر ص 326 من روى هذا الحديث. وجوابا على هذا أقول: هذا الحديث يندرج تحت باب النسخ كما هو هنا في هذا الكتاب، وكما قال علماء أهل السنة قاطبة. انظر «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» للقرطبي (3/ 93 - 94). حيث قال رحمه الله: «وهذا ضرب من النسخ؛ فإن النسخ على ما نقله علماؤنا على ثلاثة أضرب: أحدها: نسخ الحكم وبقاء التلاوة. والثاني: عكسه؛ وهو: نسخ التلاوة وبقاء الحكم. والثالث: نسخ الحكم والتلاوة؛ وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى، فإنهما رفع حكمهما وتلاوتهما. وهذا النحو من النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] على قراءة من قرأ بضم النون وكسر السين. وكذلك قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6، 7]. وهاتان السورتان مما قد شاء الله تعالى أن ينسيه بعد أن أنزله وهذا لأن الله تعالى فعّال لما يريد، قادر على ما يشاء، إذ كل ذلك ممكن. ولا يتوهّم متوهّم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء؛ فإن ذلك باطل، بدليل قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبّدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفّتي المصحف من غير زيادة ولا نقصان، كما قرّرناه في أصول الفقه» اه. وانظر «فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلاني (11/ 262 - 263) و «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (2/ 168). قلت: وممن قال بأن هذه الآية- أو هذا الحديث- يدخل في باب الناسخ والمنسوخ: 1 - أبو علي الطبرسي صاحب «مجمع البيان» حيث قال: «وقد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن، فنسخ تلاوتها، فمنها ما روي عن أبي موسى أنهم كانوا يقرءون: لو أن لابن آدم واديين من مال ... » «مجمع البيان» (1/ 230) - ط. دار إحياء التراث-. 2 - أبو جعفر الطوسي في تفسيره المسمى ب «التبيان في تفسير القرآن» حيث قال: «كانت أشياء من القرآن، ونسخت تلاوتها، ومنها: «لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» اه. «التبيان» (1/ 394) - مكتب الإعلام الإسلامي- إيران. 3 - كمال الدين العتائقي الحلي في «الناسخ والمنسوخ» ص 34 - ط. مؤسسة آل البيت- بيروت- حيث قال: «ما نسخ خطه وحكمه، وهي: «لو أن لابن آدم واديين من فضة ... » اه. (¬1) إسناده ضعيف. والخبر صحيح بالشواهد.

القسم الثاني: ما نسخ رسمه وبقي حكمه

وقد روي عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية فكتبتها في مصحفي فأصبحت ليلة فإذا الورقة بيضاء، فأخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أما علمت أن تلك رفعت البارحة». القسم الثاني: ما نسخ رسمه وبقي حكمه [11] (¬1) - أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن ¬

_ أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» (5/ 132) والنسائي في «الكبرى» (4/ رقم: 7150) والحاكم (2/ 415 و 4/ 359) وابن حبان (10/ رقم: 4428، 4429) والطيالسي (540) والبيهقي (8/ 211) وغيرهم. من طرق؛ عن عاصم به. (¬1) أخرجه البخاري (6829، 6830) ومسلم (1691) ومالك في «الموطأ» (2/ 268) - 41 - كتاب الحدود.- مختصرا- وأحمد في «المسند» (1/ 23، 29، 36، 40، 43، 47، 50، 55، 56) وأبو داود (4418) والترمذي (1431) والنسائي في «الكبرى» رقم (7151، 7514، 7157، 7158، 7159، 7160) وابن ماجة (2553) وغيرهم. قال جعفر مرتضى في كتابه «حقائق هامة حول القرآن الكريم» (ص 347): «وكلام عمر الآنف الذكر يدل على أن كتابتها في المصحف جائزة، ومعنى ذلك: هو أنها مما لم تنسخ تلاوته بنظره!! «ولو صحّ القول بنسخ التلاوة!! وقد أثبتنا عدم صحته، وعدم ثبوته ... » اه. أقول: قول عمر رضي الله تعالى عنه لا يدلّ البتة على جواز كتابتها على أنها من المصحف، وفي قوله: «كنا نقرؤها ... » دلالة واضحة على نسخها، فتأمل. أما إنكاره للنسخ؛ فهذا مخالفة صريحة لصريح القرآن، وقد صرّح بوقوع النسخ كبار علماء الشيعة، ولم ينكره إلا المتقدمين. وقد ألّف الحلي؛ كمال الدين عبد الرحمن العتائقي كتابا في ذلك هو «الناسخ والمنسوخ». وممن قال بالنسخ؛ الطوسي صاحب «التبيان» وأبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» بل قال: «والصحيح أن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة المقطوع عليها» «مجمع البيان» (1/ 232). والفيض الكاشاني في «تفسير الصافي» (1/ 178 - 179) وغيرهم كثير. والعجيب من الرجل أنه ذكر أنه قد رويت رواية في آية الرجم عن الإمام الصادق عليه السلام. ثم قال بعد ذلك: «ولأجل ذلك فقد حمل بعض العلماء ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام على التقية»!! أقول: وهكذا كذب على الإمام، فقد روى الكليني في «الكافي» - الفروع- (7/ 176) عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام قوله: «الرجم في القرآن، قول الله عزّ وجلّ: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة». وقد أحسن المعلق على الكتاب بقوله: «وقيل: إنها منسوخة التلاوة». ورواه أيضا ابن بابويه القمي في «من لا يحضره الفقيه» (4/ 24/ 4998). وصحّح هذه الرواية المجلسي في «مرآة العقول» (23/ 267) وقال: «وعدّت هذه الآية مما نسخت تلاوتها دون حكمها». وممن قال بهذا الطبرسي صاحب «مجمع البيان» (1/ 230) والطوسي في «التبيان» (1/ 294) والحلّي في «الناسخ والمنسوخ» (ص 35) وصاحب كتاب «لمحات من تاريخ القرآن» (ص 222) - الأعلمي-.

جعفر قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني إسحاق بن عيسى الطباع، قال: حدّثنا مالك بن أنس، قال: حدّثني ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، قال: جلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذّن قام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد؛ أيها الناس فإني قائل مقالة قد قدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها؛ فلا أحل له أن يكذب عليّ. إن الله عزّ وجلّ بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق، على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف، ألا وإنا قد كنا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية ابن عيينة عن الزهري: وأيم الله لولا أن يقول قائل: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها في القرآن. [12] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي قال: أخبرنا أبو العباس بن قريش قال: أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: حدّثنا ابن أبي داود، قال: حدّثنا عيسى بن حماد قال: أخبرنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قال: «أيها الناس؛ قد سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة، أن لا تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وآية الرجم لا تضلوا عنها، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رجم ورجمنا، وأنها قد أنزلت، وقرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، ولولا أن يقال: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي». - قال ابن أبي داود: وحدّثنا موسى بن سفيان، قال: حدّثنا عبد الله يعني ابن الجهم، قال: حدّثنا عمرو بن أبي قيس، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر؛ أن أبي بن كعب سأله: كم تقرأ هذه السورة؟ يعني الأحزاب. قال: إما ثلاثا ¬

_ فهل هؤلاء كلهم قالوا ذلك تقية؟!! فالحمد لله الذي هدانا للحق وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. (¬1) أثر صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 268) - 41 - كتاب الحدود. عن يحيى بن سعيد به. وإسناده صحيح كما قال ابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 93). وقد صحّ سماع سعيد بن المسيب من عمر رضي الله عنه على الصحيح.

وسبعين وإما أربعا وسبعين، قال: «إن كنا لنقرأها كما نقرأ سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (¬1). - قال ابن أبي داود: وحدّثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن عمر، قال: حدّثني أن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزله الله علينا: «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة»، فإنا لا نجدها. قال: سقطت فيما أسقط من القرآن (¬2). - قال: وحدّثنا محمد بن معمر، قال: حدّثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدّثني ابن أبي حميدة قال: أخبرتني حميدة، قال: أوصت لنا عائشة رضي الله عنها بمتاعها فكان في مصحفها: «إن الله وملائكته يصلّون على النّبي، والذين يصلون الصّفوف الأولى» (¬3). [13] (¬4) - أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: وأخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي قال: بنا ¬

_ (¬1) تقدم قبل قليل. (¬2) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 325) من طريق: سعيد بن أبي مريم به. وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه أبو داود في «المصاحف» (85) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 324). من طريق: حجاج به. وإسناده ضعيف؛ ابن أبي حميد؛ هو: عبد الملك بن عبد الرحمن بن خالد بن أسيد، ترجمه البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 355/ 1683) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/ 421/ 1369) وابن حبان في «الثقات» (7/ 106) وقالوا: يروي عن أمه عن عائشة. وقال العقيلي في «الضعفاء» (3/ 27): «حديثه غير محفوظ». وأمه لم أقف لها على ترجمة فيما بين يديّ من مصادر. فالخبر لا يصح. لكن جملة «إن الله وملائكته يصلون على النبيّ ... » صحّت عن عائشة مرفوعا. أخرجه أحمد (6/ 67، 89، 160) وابن ماجة (995) وابن خزيمة في «صحيحه» (1550) والحاكم (1/ 214) وابن حبان (5/ رقم: 2163، 2164) والبيهقي في «السنن» (1/ 101) و (3/ 103) وغيرهم. من طرق؛ عن عروة بن الزبير، عن عائشة مرفوعا. وصححه الحاكم والذهبي، وكذا الألباني في «الصحيحة» (2532). (¬4) أخرجه البخاري (4090، 4091) وغيره. وما ذكره صاحب «الحقائق»! (ص 354) شنشنة فارغة. فقد حكم بنسخ ذلك الطبرسي والطوسي، وقالا: بأن هذا النسخ هو من نسخ التلاوة. انظر «مجمع البيان» (1/ 230) و «التبيان» (1/ 294).

فصل

عبد الصمد، قال: حدّثنا همام قال: حدّثنا إسحاق، عن أنس رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث حراما خاله في سبعين رجلا، فقتلوا يوم بئر معونة. فأنزل علينا فكان مما نقرأ، فنسخ؛ «أن بلغوا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». انفرد بإخراجه البخاري. فصل ومما نسخ رسمه واختلف في بقاء حكمه. [14] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي قال: أخبرنا أبو العباس بن قريش، قال: أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق قال: أبنا ابن أبي داود، قال: حدّثنا عبد الله بن سعد قال: حدّثني عمر، قال: حدّثني أبي، عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «لقد نزلت آية الرّجم ورضعات الكبير عشرا، وكانت في ورقة تحت سرير في بيتي، فلما اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشاغلنا بأمره، فدخلت دويبة لنا فأكلتها» تعني الشاة. قال ابن أبي داود: حدّثنا أبو الطاهر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي مما يقرأ من القرآن (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 269) وابن ماجة (1944) والدارقطني (4/ 179) من طريق: محمد بن إسحاق به. وإسناده حسن، صرّح ابن إسحاق فيه بالتحديث. والخبر حسّنه المحدث الألباني في «صحيح سنن ابن ماجة» (1580). وقد أنكر هذا الخبر السرخسي في «أصوله» (2/ 79 - 80) فقال: «وحديث عائشة لا يكاد يصح .. ». وكذا القرطبي في تفسيره (14/ 113) حيث قال: «وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة، فأكلتها الداجن؛ فمن تأليف الملاحدة والروافض»!. وما ادّعاه صاحب «الحقائق» ونقله عن القزويني! أن ذلك لم يرد في كتب الشيعة، ولا رواه أحد من علمائهم، أو رد عليه .. منقوض بما ذكره الطوسي في «التبيان» في مقدمته (1/ 13) وقال: إن هذا من باب نسخ التلاوة والحكم معا. وانظر «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص 372 - وما بعدها) - طبع المكتب الإسلامي- و «حاشية السندي على سنن ابن ماجة» (1/ 599) وتأمل في الحديث الذي بعده. (¬2) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 116) - 30 - كتاب الرضاع (3) باب جامع ما جاء في الرضاعة.

قلت: أما مقدار ما يحرم من الرضاع فعن أحمد بن حنبل رحمه الله فيه ثلاث روايات: الأولى: رضعة واحدة، وبه قال أبو حنيفة ومالك أخذا بظاهر القرآن في قوله: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء: 23]، وتركا لذلك الحديث. والثانية: ثلاث، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحرم المصة والمصتان» (¬1). والثالثة: خمس لما روينا في حديث عائشة. وتأولوا قوله: «وهي مما يقرأ من القرآن» أن الإشارة إلى قوله: وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وقالوا: لو كان يقرأ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لنقل إلينا نقل المصحف، ولو كان بقي من القرآن شيء لم ينقل لجاز أن يكون ما لم ينقل ناسخا لما نقل، فذلك محال (¬2). ومما نسخ خطّه واختلف في حكمه؛ ما روى مسلم في أفراده عن عائشة رضي الله عنها؛ أنها أملت على كاتبها: «حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر، وقوموا لله قانتين» وقالت: سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (¬3). وقد اختلف الناس في الصلاة الوسطى على خمسة أقوال بعدد الصلوات الخمس، وقد شرحنا ذلك في التفسير. ¬

_ ومسلم (1452) وأبو داود (2062) والنسائي (6/ 100) والترمذي (3/ 456) - 10 - كتاب الرضاع. وابن ماجة (1942) وابن حبان (10/ رقم: 4221، 4222) والبيهقي (7/ 454) والدارمي (2/ 157) وغيرهم. (¬1) أخرجه مسلم (1450) وغيره. (¬2) انظر تفصيل هذه المسألة في: «المغني» لابن قدامة (9/ 192 - 194) و «المحلى» لابن حزم (11/ 88) مسألة: (1872) و «سبل السلام» للصنعاني (6/ 329 - بتحقيق الحلاق-) و «التمهيد» لابن عبد البر (8/ 263 - 271) و «فتح الباري» (9/ 147) و «شرح صحيح مسلم» للنووي (10/ 21) و «نيل الأوطار» (6/ 250) و «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ» (ص 188) و «رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار» (ص 462 - 463) و «أحكام الرضاع في الفقه الإسلامي» للدكتور محمد عمر الغروي (ص 81 - وما بعدها). (¬3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 88) - 8 - كتاب صلاة الجماعة (8) باب الصلاة الوسطى. ومسلم (629) وأحمد (6/ 73، 178) وأبو داود (410) والنسائي (1/ 236) والترمذي (2982) وغيرهم. وهي منسوخة التلاوة، وتعتبر من القراءات الشاذة. وقد اتكأ عليها صاحب كتاب «أكذوبة تحريف القرآن» ص 43. ولم يعلم هذا المسكين- أو أنه تجاهل- بأن كبار علمائه يقولون بأنها من القراءات الواردة ويثبتونها في تفاسيرهم. انظر «تفسير القمي» (1/ 106) ط. دار السرور. و «تفسير العياشي» (1/ 146) و «البرهان» للبحراني (1/ 230) و «تفسير الصافي» (1/ 269) و «بحار الأنوار» للمجلسي (18/ 72).

القسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه

القسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه ؛ وله وضعنا هذا الكتاب، ونحن نذكره على ترتيب الآيات والسور، ونذكر ما قيل، ونبين صحة الصحيح وفساد الفاسد، إن شاء الله تعالى، وهو الموفّق بفضله. ... الباب الثامن باب ذكر السور التي تضمن الناسخ والمنسوخ، أو أحدهما، أو خلت عنهما زعم جماعة من المفسرين: أن السور التي تضمنت الناسخ والمنسوخ خمس وعشرون: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، وإبراهيم، والنحل، ومريم، والأنبياء، والحج، والنور، والفرقان، والشعراء، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والتكوير، والعصر. قالوا: والسور التي دخلها المنسوخ دون الناسخ أربعون: الأنعام، والأعراف، ويونس، وهود، والرعد، والحجر، وسبحان، والكهف، وطه، والمؤمنون، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، والملائكة، والصافات، وص، والزمر، والمصابيح (¬1)، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، وسورة محمد، وق، والنجم، والقمر، والممتحنة، ون (¬2)، والمعارج، والمدثر، والقيامة، والإنسان، وعبس، والطارق، والغاشية، والتين، والكافرون. وقالوا: والسور التي اشتملت على الناسخ دون المنسوخ ست: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى. والسور الخاليات عن ناسخ ومنسوخ ثلاث وأربعون: سورة الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، والنبأ، والنازعات، والانفطار، والمطففين، والانشقاق، والبروج، والفجر، والبلد، والشمس، والليل، والضحى، وأ لم نشرح، والقلم، والقدر، والانفكاك [البينة]، والزلزلة، والعاديات، والقارعة، والتكاثر، والهمزة، والفيل، وقريش، والدين، والماعون، والكوثر، والنصر، وتبت، والإخلاص، والفلق، والناس. ¬

_ (¬1) أي سورة فصلت. (¬2) يعني: سورة القلم.

الباب التاسع باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة البقرة

قلت: واضح بأن التحقيق في الناسخ والمنسوخ يظهر أن هذا الحصر تخريف من الذين حصروه، والله الموفق. ... الباب التاسع باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النسخ في سورة البقرة ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] اختلف المفسرون في المراد بهذه النفقة على أربعة أقوال: الأول: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود وحذيفة. والثاني: الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثالث: الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أن الإشارة بها إلى نفقة كانت واجبة قبل الزكاة. ذكره بعض ناقلي التفسير، وزعموا: أنه كان فرض على الإنسان أن يمسك مما في يده قدر كفايته يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء، ثم نسخ بآية الزكاة (¬1). وهذا قوله ليس بصحيح لأن لفظ الآية لا يتضمن ما ذكروا وإنما يتضمن مدح المنفق، والظاهر أنها تشير إلى الزكاة لأنها قرنت مع الإيمان بالصلاة. وعلى هذا؛ لا وجه للنسخ، وإن كانت تشير إلى الصدقات النوافل والحث عليها باق، والذي أرى ما بها مدح لهم على جميع نفقاتهم في الواجب والنفل، وقد قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع: نسخت آية الزكاة كل صدقة كانت قبلها، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله. والمراد بهذا كل صدقة وجبت بوجود المال مرسلا كهذه الآية. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [البقرة: 62] اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال: الأول: أن المعنى: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، وهم أتباع ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ» لشمس الدين الموصلي (ص 40).

ذكر الآية الثالثة

موسى، والنصارى؛ وهم أتباع عيسى، والصابئون؛ الخارجون من الكفر إلى الإسلام، من آمن، أي: من دام منهم على الإيمان. والثاني: إن الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، والذين هادوا؛ وهم اليهود، والنصارى والصابئون؛ وهم كفار أيضا، من آمن؛ أي: من دخل في الإيمان بنية صادقة. والثالث: إن المعنى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 62] ومن آمن من الذين هادوا، فيكون قوله بعد هذا: من آمن راجعا إلى المذكورين مع الذين آمنوا، ومعناه: من يؤمن منهم. وعلى هذه الأقوال الثلاثة لا وجه لادّعاء نسخ هذه الآية. وقد قيل: إنها منسوخة بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85]. [15] (¬1) - فأخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن قريش، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدّثنا يعقوب بن سفيان قال: حدّثنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الآية. قال: فأنزل الله تعالى بعد هذه الآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. قلت: فكأنه أشار بهذا إلى النسخ وهذا القول لا يصح لوجهين (¬2): الأول: أنه إن أشير بقوله: وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى إلى من كان تابعا لنبيه قبل أن يبعث النبي الآخر، فأولئك على الصواب. وإن أشير إلى من كان في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فإن من ضرورة من لم يبدل دينه ولم يحرف أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويتبعه. والثاني: أن هذه الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: 81]. ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف. تقدم أن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس. (¬2) انظر «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» لمكي بن أبي طالب (ص 123 - 124) و «صفوة الراسخ» (ص 41).

ذكر الآية الرابعة

جمهور المفسرين على أن المراد بالسيئة الشرك (¬1)، ولا يتوجه على هذا القول نسخ أصلا، وقد روى السّدّي عن أشياخه: أن المراد بالسيئة الذنب من الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار (¬2). فعلى هذا يتوجه النسخ بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 116] على أنه يجوز أن يحمل ذلك، على من أتى السيئة مستحلا فلا يكون نسخا (¬3). ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] اختلف المفسرون في المخاطبين بهذا على قولين: الأول: أنهم اليهود، والتقدير: من سألكم عن شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فاصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج، ومقاتل (¬4). والثاني: أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم اختلف أرباب هذا القول، فقال الحسن: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر (¬5). وقال أبو العالية: وقولوا للناس معروفا (¬6). وقال محمد بن علي بن الحسين: كلّموهم بما تحبون أن يقولوا لكم، فعلى هذا الآية محكمة. وذهب قوم إلى أن المراد بذلك: مساهلة المشركين في دعائهم إلى الإسلام، فالآية عند هؤلاء منسوخة بآية السيف. وهذا قول بعيد؛ لأن لفظ الناس عام فتخصيصه بالكفار يفتقر إلى دليل، ولا دليل هاهنا، ثم إن إنذار الكفار من الحسنى (¬7). ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] قال ¬

_ (¬1) انظر «تفسير ابن كثير» بتحقيق الشيخ الحويني (2/ 562). (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (1/ 305/ 1426). (¬3) انظر «صفوة الراسخ» (ص 42). (¬4) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 161/ 845). (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 161/ 846) وضعّفه الشيخ أبو إسحاق الحويني- حفظه الله- في تحقيقه على «تفسير ابن كثير» (2/ 571). (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 161/ 843). (¬7) انظر «صفوة الراسخ» (ص 42 - 43) و «الإيضاح لناسخ القرآن» (ص 124) و «تفسير القرطبي- الجامع لأحكام القرآن-» (2/ 17).

ذكر الآية السادسة

المفسرون: كانت هذه الكلمة لغة في الأنصار، وهي من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله، ومنه قولهم: أرعني سمعك. وكانت الأنصار تقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي بلغة اليهود سبّ بالرعونة، وكانوا يقولونها له وينوون بها السب، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن قولها لئلا يقولها اليهود، وأمرهم أن يجعلوا مكانها أنظرنا (¬1). وقرأ الحسن والأعمش وابن المحيصن (راعنا) بالتنوين فجعلوه مصدرا، أي: لا تقولوا رعونة (¬2). وقرأ ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) على الأمر بالجماعة، كأنه نهاهم أن يقولوا ذلك فيما بينهم، والنهي في مخاطبة النبي بذلك أولى. وهذه الآية قد ذكروها في المنسوخ، ولا وجه لذلك بحال، ولولا إيثاري ذكر ما ادّعي عليه النسخ لم أذكرها. قال أبو جعفر النحاس: هي ناسخة لما كان مباحا قبله. قلت: وهذا تحريف في القول، لأنه إذا نهى عن شيء لم تكن الشريعة أتت به لم يسم النهي نسخا. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] قال المفسرون: أمر الله بالعفو والصفح عن أهل الكتاب قبل أن يؤمر بقتالهم، ثم نسخ العفو والصفح بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] هذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما (¬3). [16] (¬4) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري قال: أخبرنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الصمد، قال: أخبرنا ابن حموية، قال: أخبرنا إبراهيم بن حريم، قال ابن عبد الحميد، قال: بنا مسلم بن إبراهيم؛ وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا ابن بشران قال: أخبرنا إسحاق الكاذي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا عبد الصمد، كلاهما عن همام بن يحيى، عن قتادة قال: أمر الله نبيه أن يعفو ¬

_ (¬1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 196 - 197) و «تفسير ابن كثير» (1/ 198) و «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 57) و «فتح القدير» للشوكاني (1/ 247 - 249) و «الإيضاح لناسخ القرآن» (ص 125). (¬2) انظر «فتح القدير» (1/ 248). (¬3) انظر تفسير المصنف «زاد المسير» (1/ 132) و «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 71) و «الإيضاح» (ص 125 - 126). (¬4) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (2/ 503).

فصل

عنهم ويصفح، حتى يأتي الله بأمره، فأنزل في براءة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] فنسخها بهذه الآية، وأمره فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يقروا بالجزية. قال أحمد: وحدّثنا عبد الرزاق، قال: حدّثنا معمر، عن قتادة فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: 109] نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. [17] (¬1) - أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا علي بن أيوب قال: أخبرنا ابن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد، قال: أخبرنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد المروزي، قال أخبرنا آدم بن أبي إياس، قال: حدّثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا قال: نسخ بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية. فصل واعلم أن تحقيق الكلام دون التحريف فيه أن يقال: إن هذه الآية ليست بمنسوخة، لأنه لم يأمر بالعفو مطلقا، وإنما أمر به إلى غاية، وبيّن الغاية بقوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفا لما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخا للآخر، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر محتاجا إلى حكم آخر، وقد ذهب إلى ما قالته جماعة من فقهاء المفسرين وهو الصحيح، وهذا إذا قلنا: إن المراد العفو عن قتالهم، وقد قال الحسن: هذا فيما بينكم وبينهم دون ترك حق الله تعالى حتى يأتي الله بالقيامة. وقال غيره: بالعقوبة، فعلى هذا يكون الأمر بالعفو محكما لا منسوخا. ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]. اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على ثمانية أقوال: القول الأول: أنها نزلت في اشتباه القبلة ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف. أبو جعفر الرازي؛ هو عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان؛ «صدوق سيئ الحفظ». «تقريب» (8077). والربيع بن أنس؛ «صدوق له أوهام». والخبر أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 206/ 1090) من طريق: أبي جعفر به.

[18] (¬1) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب قال: أخبرنا علي بن الفضل، قال أخبرنا ¬

_ (¬1) - إسناده ضعيف جدا. فيه أشعث بن سعيد السمّان؛ «متروك» كما في «التقريب». وعاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب؛ «ضعيف». والخبر أخرجه: ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 211/ 1120) والترمذي في «الجامع» (345، 2957) وابن ماجة (1020) أو (1029) - بترقيم الشيخ علي الحلبي- وابن جرير الطبري في «تفسيره» (1/ 401) أو رقم (1841 - 1843) - شاكر- وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند (316) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 37 - الحميدان) والطبراني في «الأوسط» (1/ 284/ 463) والطيالسي في «مسنده» (1145) أو (1/ 85/ 268 - منحة المعبود) والبيهقي (2/ 11) والدارقطني (1/ 272) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 179 - 180) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 31). كلهم من طريق: أشعث بن سعيد السمّان، عن عاصم بن عبيد الله به. قال الترمذي: «هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمّان. وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمّان؛ يضعّف في الحديث». قلت: وقع عند عبد بن حميد في مطبوعة عالم الكتب من «المنتخب»: «سعد بن سعيد»! فليصحّح. وقد أغرب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه على جامع الترمذي (2/ 176 - 177) بتحسين إسناد الخبر. وبقوله عن أشعث هذا؛ «أنه تكلّم فيه من قبل حفظه، وهو صدوق»! والحديث حسّنه الشيخ الألباني- رحمه الله- في «إرواء الغليل» (1/ 323/ 291) باعتبار متابعة عمرو بن قيس لأشعث كما هي عند الطيالسي، فقال: «وقد تابعه عند الطيالسي عمرو بن قيس؛ وهو الملائي، احتج به مسلم». قلت: كذا وقع عند الطيالسي: (عمرو بن قيس) في المسندة وفي «منحة المعبود»، وهو تصحيف، صوابه: «عمر بن قيس» المعروف بسندل- وهو متروك أيضا- هذا ما ترجّح عندي؛ لثلاثة أمور: الأول: أن العلامة المباركفوري نقل في «تحفة الأحوذي» (2/ 335) عن الحافظ العراقي قوله: تابعه عليه عمر بن قيس الملقب بسندل، عن عاصم. أخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» والبيهقي في «سننه». إلا أن عمر بن قيس مشارك لأشعث في الضعف، بل ربما يكون أسوأ حالا منه، فلا عبرة حينئذ بمتابعته، وإنما ذكرته ليستفاد منه». الثاني: أن عاصم بن عبيد الله يروي عن عمر بن قيس (سندل)، لا عمرو بن قيس الملائي، انظر «تهذيب الكمال» (21/ 488 و 22/ 200). الثالث: أن الحافظ ابن حجر العسقلاني- رحمه الله- أثبت هذا الاسم على الصواب في كتابه «العجاب في بيان الأسباب» كما في مخطوطة الكتاب (ق 40/ أ). ووقع في هامش المطبوع بتحقيق عبد الحكيم الأنيس (1/ 363) بعد أن أثبت في المتن اسم (عمرو بن قيس) قال: «في الأصل (عمر) والصواب ما أثبتّ»! قلت: الصواب ما كان في الأصل. فتحصّل مما سبق أن الصواب في الاسم هو «عمر بن قيس» وما في «المسند» للطيالسي تصحيف

محمد بن عبد الصمد، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن حريم قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أشعث بن سعيد قال: حدّثنا عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة، فلم نعرف القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ. وروى جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة: القبلة هاهنا، فصلوا وخطوا خطا، وقال بعضهم هاهنا، فصلوا وخطوا خطا، فلما أصبحنا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فسكت، فأنزل الله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬1). ¬

_ [ثم تأكدت بعد من هذا بمراجعة أحد الأخوة الأفاضل للمخطوطة الهندية لمسند الطيالسي (ق 142/ أ) والاسم على الجادة فيها] فالحمد لله على إنعامه. فالخبر ضعيف لا يصح، كما قال ابن حزم في «المحلى» (3/ 137) والنووي في «المجموع» (3/ 224). والحمد لله على توفيقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم. (¬1) أخرجه الحاكم (1/ 206) والدارقطني (1/ 271) والبيهقي (2/ 10). من طريق: محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر به. قال الحاكم: «هذا حديث محتج برواته كلهم، غير محمد بن سالم فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح». وقال الذهبي: «هو أبو سهل؛ واه». وقال الدارقطني؛ «كذا قال: عن محمد بن سالم. وقال غيره: عن محمد بن يزيد، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء. وهما ضعيفان». وقال الدارقطني في «العلل» (4/ ق 131/ أ): «يرويه محمد بن يزيد الواسطي، واختلف عنه. فرواه داود بن عمرو، عن محمد بن يزيد، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر. وغيره يرويه عن محمد بن يزيد، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء، عن جابر. وكلاهما ضعيفان». وأخرجه البيهقي (2/ 11) والدارقطني (1/ 271) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 34). من طريق: أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري، قال: وجدت في كتاب أبي؛ ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر .. ». قال البيهقي: «ولا نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا، وذلك لأن عاصم بن عبيد الله بن عمر العمري، ومحمد بن عبيد الله العرزمي، ومحمد بن سالم الكوفي، كلهم ضعفاء والطريق إلى عبد الملك العرزمي غير واضح لما فيه من الوجادة». ونقل شمس الحق العظيم آبادي في «التعليق المغني على سنن الدارقطني» عن ابن القطان قوله: «وعلّة هذا، الانقطاع فيما بين أحمد بن عبد الله وأبيه والجهل بحال أحمد المذكور».

قلت: وهذا الحكم باق عندنا، وإن من اشتبهت عليه القبلة فصلّى بالاجتهاد فصلاته صحيحة مجزية، وهو قول سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وأبي حنيفة. وللشافعي قولان: الأول: كمذهبنا. والثاني: يجب الإعادة، وقال الحسن والزهري وربيعة: يعيد في الوقت، فإذا فات الوقت لم يعد، وهو قول مالك. القول الثاني: أن المراد بالآية صلاة التطوع [19] (¬1) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: بنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا ابن عبد الصمد، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حموية قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته تطوعا أينما توجهت به، وهو جاء من مكة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال ابن عمر رضي الله عنه: في هذا أنزلت الآية. القول الثالث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صلّى على النجاشي، قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف نصلّي على رجل مات وهو يصلي على غير قبلتنا؟ وكان يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة، فنزلت هذه الآية. رواه عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2). القول الرابع: أن المراد بالآية: أينما كنتم من شرق أو غرب فاستقبلوا الكعبة، قاله مجاهد (¬3). ¬

_ وأعله الحافظ ابن حجر في «العجاب» (1/ 362) بالانقطاع. وأخرجه البيهقي (2/ 11) من طريق: الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء به. وإسناده ضعيف جدا؛ لأجل الحارث بن نبهان، وهو «متروك». فالحديث ضعيف من جميع طرقه وشواهده، والله تعالى أعلم. (¬1) أخرجه مسلم (700) وأحمد (2/ 20) أو رقم (4714) - أحمد شاكر- والترمذي (2958) والنسائي (1/ 244) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 212/ 1121) وابن خزيمة في «صحيحه» (2/ 252 - 253/ 1267، 1269) وابن جرير في «تفسيره» (1/ 503) والدارقطني (1/ 272) والبيهقي (2/ 4) وغيرهم. (¬2) انظر «أسباب النزول» (ص 38). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 212/ 1122).

القول الخامس: أن اليهود لما تكلموا حين صرفت القبلة إلى الكعبة نزلت هذه الآية، ومعناها: لا تلتفتنّ إلى اعتراض اليهود بالجهل، وإن المشرق والمغرب لله يتعبدكم بالصلاة إلى مكان ثم يصرفكم عنه كما يشاء. ذكره أبو بكر بن الأنباري، وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما. القول السادس: أنه ليس المراد بالصلاة وحدها وإنما معنى الآية من أي وجه قصدتم الله وعلى أي حال عبدتموه علم ذلك وأثابكم عليه. والعرب تجعل الوجه بمعنى القصد، قال الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل معناه: إليه القصد والتقدم. ذكره محمد بن القاسم أيضا. القول السابع: أن معنى الآية أينما كنتم من الأرض فعلم الله بكم محيط لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. ذكره ابن القاسم أيضا، وعلى هذه الأقوال الآية محكمة. القول الثامن: ذكر أربابه أنها منسوخة، فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصلاته صخرة بيت المقدس فصلّى إليها، وكانت قبلة اليهود، ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعوا بذلك الأميين من العرب، فنسخ ذلك وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 150]. [20] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: ابنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال قال: ابنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، قال: ابنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن حنبل، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني حجاج بن محمد، قال: ابنا ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نسخ من القرآن- فيما ذكر لنا والله أعلم- شأن القبلة، قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق فقال: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: 142] يعنون بيت ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 212/ 1123) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (2/ 527/ 1833 - شاكر) والحاكم (2/ 267) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (21). من طريق ابن جريج به. وصحح إسناده الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ أحمد شاكر: «وهو كما قالا».

فصل

المقدس، فنسخها وصرف إلى البيت العتيق فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. قال أحمد بن حنبل: وحدّثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ونبي الله بمكة وبعدها هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله تعالى بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام (¬1). قال أحمد: وبنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: بنا همام قال: بنا قتادة: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: وكانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم وجهه الله نحو الكعبة. وقال عزّ وجلّ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من قبلة. [21]- أخبرنا محمد بن عبد الله العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يونس، عن شيبان، عن قتادة فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] قال: نسخ هذا بعد ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. قلت: وهذا قول أبي العالية والسدي. فصل واعلم: أن قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ليس فيه أمر بالتوجه إلى بيت المقدس ولا إلى غيره، بل هو دال على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها. فأما التوجه إلى بيت المقدس فاختلف العلماء؛ هل كان برأي النبي صلّى الله عليه وسلّم واجتهاده، أو كان عن وحي؟ فروي عن ابن عباس وابن جريج أنه كان عن أمر الله تعالى، لقوله عزّ وجلّ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة: 143]. [22]- وأخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن العباس، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (2/ 529/ 1835 - 1837).

قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن الحسين قال: بنا كثير بن يحيى قال: بنا أبي، قال: بنا أبو بكر الهدبي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت اليهود: إن محمدا مخالف لنا في كل شيء فلو تابعنا على قبلتنا، أو على شيء تابعناه، فظن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا منهم جد، وعلم الله منهم الكذب، وأنهم لا يفعلون فأراد الله أن يبين ذلك لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: إذا قدمت المدينة فصلّ قبل بيت المقدس، ففعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت اليهود: قد تابعنا على قبلتنا ويوشك أن يتابعنا على ديننا، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فقد علمنا أنهم لا يفعلون، ولكن أردنا أن نبين ذلك لك. وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية والربيع: بل كان برأيه واجتهاده. وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاءوا، بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثم أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم باستقبال بيت المقدس. وقال ابن زيد: كانوا ينحون أن يصلوا إلى قبلة شاءوا، لأن المشارق والمغارب لله، وأنزل الله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله- يعني بيت المقدس- فصلوا إليه» فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بضعة عشر شهرا، فقالت اليهود: ما اهتدى لقبلته حتى هديناه، فكره النبي صلّى الله عليه وسلّم قولهم ورفع طرفه إلى السماء فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ (¬1) [البقرة: 144]. [32]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن أيوب قال: بنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: بنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدّثني أبو العالية: أن نبيّ الله خيّر بين أن يوجه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس، لكي يتألف أهل الكتاب، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام. واختلف العلماء في سبب اختياره بيت المقدس على قولين: الأول: أن العرب لما كانت تحج ولم تألف بيت المقدس، أحب الله امتحانهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، كما قال تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 529/ 1838).

ذكر الآية الثامنة

وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وهذا قول الزجاج. والثاني: أنه اختاره ليتألف أهل الكتاب، قاله: أبو جعفر بن جرير الطبري. قلت: فإذا ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختار بيت المقدس فقد وجب استقباله بالسنة، ثم نسخ ذلك بالقرآن. والتحقيق في هذه الآية أنها أخبرت أن الإنسان أين تولى بوجهه فثم وجه الله، فيحتاج مدّعي نسخها أن يقول: فيها إضمار، تقديره: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة: 150] في الصلاة أين شئتم ثم نسخ ذلك المقدر، وفي هذا بعد، والصحيح إحكامها. ذكر الآية الثامنة : قوله تعالى: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [البقرة: 139] قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة للكفار ثم نسخ بآية السيف، ولا أرى هذا القول صحيحا، لأربعة أوجه: الأول: أن معنى الآية: أتخاصموننا في دين الله؟ وكانوا يقولون: نحن أولى بالله منكم، لأننا أبناء الله وأحباؤه، ومنا كانت الأنبياء، وهو ربنا وربكم؛ أي: نحن كلنا في حكم العبودية سواء، فكيف يكونون أحق به؟ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لا اختصاص لأحد به إلا من جهة الطاعة والعمل، وإنما يجازي كل منا بعمله، ولا تنفع الدعاوي وعلى هذا البيان لا وجه للنسخ. والثاني: أنه خبر خارج مخرج الوعيد والتهديد. والثالث: أنا قد علمنا أعمال أهل الكتاب وعليها أقررناهم. والرابع: أن المنسوخ ما لا يبقى له حكم، وحكم هذا الكلام لا يتغير فإن كل عامل له جزاء عمله، فلو ورد الأمر بقتالهم لم يبطل تعلق أعمالهم بهم. ذكر الآية التاسعة : قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158]. قد ذكر عن بعض المفسرين أنه قال: معنى الآية فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. قال: ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130] والسعي بينهما من ملة إبراهيم. قلت: وهذا قول مردود، لا يصلح الالتفات إليه، لأنه يوجب إضمارا في الآية، ولا يحتاج إليه، وإن كان قد قرئ به فإنه مروي عن ابن مسعود، وأبي بن

ذكر الآية العاشرة

كعب، وابن جبير، وابن سيرين، وميمون بن مهران أنهم قرءوا فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ [البقرة: 158]، ولهذه القراءة وجهان: الأول: أن تكون دالة على أن السعي بينهما لا يجب. والثاني: أن يكون «لا» صلة. كقوله: ما منعك أن لا تسجد، فيكون معناه معنى القراءة المشهورة، وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن السعي من أركان الحج، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو واجب يجزي عنه الدم. والصحيح في سبب نزول هذه الآية. [24] (¬1) - ما أخبرنا به أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: ابنا عبد الوهاب بن عطاء، عن داود، عن عامر، قال: كان على الصفا وثن يدعى أساف، ووثن على المروة يدعى نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحون الوثنين، فلما جاء الإسلام أمسك المسلمون عن السعي بينهما فنزلت هذه الآية. قلت: فقد بان بهذا أن المسلمين إنما امتنعوا عن الطواف لأجل الصنمين، فرفع الله عزّ وجلّ الجناح عمن طاف بينهما، لأنه إنما يقصد تعظيم الله تعالى بطوافه دون الأصنام. ذكر الآية العاشرة : قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله: اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] قد زعم قوم من القراء الذين قل حظهم من علم العربية والفقه أن هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها، ولو كان لهم نصيب من ذلك، لعلموا أن الاستثناء ليس بنسخ، وإنما هو إخراج بعض ما شمله اللفظ، وينكشف هذا من وجهين: الأول: أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه. والثاني: أن الجمل إذا دخلها الاستثناء بثبت أن المستثنى لم يكن ¬

_ (¬1) أخرجه الواحدي في «الوسيط» كما في «العجاب» (1/ 410) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (3/ 231/ 2335). وداود هو؛ ابن أبي هند. وعامر؛ هو: الشعبي.

ذكر الآية الحادية عشر

مرادا دخوله في الجملة السابقة، وما لا يكون مرادا باللفظ الأول لا يدخل عليه النسخ. ذكر الآية الحادية عشر : قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ [البقرة: 173]. ذهب جماعة من مفسّري القرآن إلى أن أول هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173]. وزعم بعضهم أنه إنما نسخ منها حكم الميتة والدم، بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحلّت لنا ميتتان ودمان؛ السمك والجراد، والكبد والطحال» (¬1). وكلا القولين باطل، لأن الله تعالى استثنى من التحريم حال الضرورة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم استثنى بالتخصيص ما ذكره في الحديث ولا وجه للنسخ بحال. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 97) أو رقم (5723) - شاكر- وابن ماجة (3218، 3314) والبيهقي في «السنن» (1/ 254) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (820) والبغوي في «شرح السنة» (11/ 244) والشافعي في «مسنده: (ص 240 - العلمية) والدارقطني (2/ 271) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1582). من طريق: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا. وإسناده ضعيف؛ لأجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف جدا. وتابعه أخوه عبد الله عند الدارقطني (2/ 272) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1503) والبيهقي (1/ 254) وكذا أخوه أسامة. قال البيهقي: «أولاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يحيى بن معين، وكان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يوثقان عبد الله بن زيد، إلا أن الصحيح من هذا الحديث الأول». قلت: يريد الموقوف على ابن عمر، فقد أخرجه (1/ 254) من طريق: ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر موقوفا. وأخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (13/ 245) من طريق: يحيى بن حسان، عن مسور بن الصلت، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، بنحو منه. وإسناده ضعيف جدا لأجل مسور بن الصلت؛ فهو متروك كما قال النسائي وغيره. خلاصة القول أن الحديث لم يصحّ مرفوعا، ولكنه صحّ موقوفا والموقوف هنا له حكم المرفوع، لأن قول الصحابي: «أحلّ لنا كذا» أو «حرم علينا كذا». هو من نوع المرفوع كما هو مقرر في الأصول. والحديث صحّحه موقوفا؛ أبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي والنووي وابن حجر وأحمد شاكر والألباني وغيرهم. انظر «المجموع» (9/ 25) و «التلخيص الحبير» (1/ 36) و «فتح الباري» (9/ 536) و «كشف الخفاء» (1/ 60 - 61/ 148) و «نصب الراية» (4/ 202) وتعليق العلامة أحمد شاكر على «المسند» (8/ 102 - 105/ 5723) فقد أسهب في الكلام على الحديث و «الصحيحة» (1118).

ذكر الآية الثانية عشر

ذكر الآية الثانية عشر : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: 178] ذهب بعض المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذا لما قال: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] وإلى هذا أشار ابن عباس فيما رواه عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس قال: نسختها الآية التي في المائدة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (¬1)، وإلى نحو هذا ذهب سعيد بن جبير ومقاتل (¬2). [25] (¬3) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا أبو بكر محمد بن إسماعيل أذنا، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، وكان أحد الحيّين يتطاولون على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا نرضى حتى نقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فرضوا بذلك فصارت آية الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى منسوخة نسخها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. قلت: وهذا القول ليس بشيء لوجهين: الأول: أنه إنما ذكر في آية المائدة ما كتبه على أهل التوراة، وذلك لا يلزمنا، وإنما نقول في إحدى الروايتين عن أحمد: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 362/ 572) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (252) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 294/ 1578). وانظر «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 19) و «الإيضاح» (ص 134). (¬2) انظر «صفوة الراسخ» (ص 47 - 49) و «أحكام القرآن» للجصاص (1/ 133) و «التفسير القرطبي» (2/ 246 - 247). (¬3) إسناده ضعيف. عبد الله بن لهيعة فيه كلام، وكان قد اختلط، ثم هو مرسل؛ أرسله سعيد بن جبير. وقد أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 293/ 1576).

ذكر الآية الثالثة عشر

يثبت نسخه، وخطابنا بعد خطابهم قد ثبت النسخ، فتلك الآية أولى أن تكون منسوخة بهذه من هذه بتلك. الثاني: أن دليل الخطاب عند الفقهاء حجة ما لم يعارضه دليل أقوى منه، وقد ثبت بلفظ الآية أن الحر يوازي الحر فلأن الحر يوازي العبد أولى، ثم إن أول الآية يعم، وهو قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ وإنما الآية نزلت فيمن كان يقتل حرا بعبد وذكرا بأنثى، فأمروا بالنظر في التكافؤ. [26]- أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن حبيب قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: ابنا يونس، عن شيبان، عن قتادة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: 178] قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحيّ منهم إذا كان فيه عدد وعدّة، فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين. قالوا: لن نقتل به إلا حرا تعززا وتفضلا على غيرهم في أنفسهم. وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة. قالوا: لن نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وينهاهم عن البغي، ثم أنزل في سورة المائدة: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إلى قوله: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45]. ذكر الآية الثالثة عشر : قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180] اختلف المفسرون في هذه الوصية، هل كانت واجبة أم لا، على قولين: الأول: أنها كانت ندبا لا واجبة، وهذا مذهب جماعة منهم الشعبي والنخعي (¬1)، واستدلوا بقوله: بِالْمَعْرُوفِ، قالوا: المعروف لا يقتضي الإيجاب وبقوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180] والواجب لا يختص به المتقون. والثاني: أنها كانت فرضا ثم نسخت، وهو قول جمهور المفسرين (¬2)، واستدلوا بقوله: كُتِبَ وهو بمعنى فرض كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ¬

_ (¬1) انظر مصنف عبد الرزاق (3/ 57) و «تفسير الطبري» (3/ 392) و «الإيضاح» لمكي بن أبي طالب (ص 144) و «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 21) و «صفوة الراسخ» (ص 49 - 50) و «تفسير القرطبي» (2/ 259). (¬2) انظر المصادر السابقة.

فصل

[البقرة: 183] وقد نص أحمد في رواية الفضل بن زياد على نسخ هذه الآية، فقال: الوصية للوالدين منسوخة. وأجاب أرباب هذا القول أهل القول الأول، فقالوا: ذكر المعروف لا يمنع الوجوب، لأن المعروف بمعنى العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة، فذكر المعروف في الوصية لا يمنع وجوبها بل يؤكده، وكذلك تخصيص الأمر بالمتقين دليل على توكيده لأنها إذا وجبت على المتقين كان وجوبها على غيرهم أولى، وإنما خصهم بالذكر، لأن فعل ذلك من تقوى الله تعالى، والتقوى لازمة لجميع الخلق. فصل ثم اختلف القائلون بإيجاب الوصية ونسخها بعد ذلك في المنسوخ من الآية على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن جميع ما في الآية من إيجاب الوصية منسوخ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. [27] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: أخبرنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180]. قال: نسخت الفريضة التي للوالدين والأقربين الوصية. [28] (¬2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا الحسن بن محمد؛ وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا علي بن محمد بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي قال: بنا حجاج قال: بنا ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير (3/ 291/ 2653) وانظر الذي بعده. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 299/ 1604) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 21) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (423)، من طريق حجاج بن محمد به.

نسختها: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ [النساء: 7]. [29] (¬1) - أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف قال: ابنا محمد بن مرزوق، قال: ابنا أبو بكر الخطيب، قال: ابنا ابن رزق، قال: ابنا أحمد بن سليمان، قال: بنا أبو داود، قال: بنا أحمد بن محمد- هو المروزي- قال: حدّثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث. [30] (¬2) - أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: بنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: ابنا النضر بن شميل، قال: ابنا ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كان ابن عباس يخطب، فقرأ هذه الآية: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فقال: هذه نسخت. قال عبد الحميد: وحدّثنا يحيى بن آدم، عن ابن حماد الحنفي، عن جهضم، عن عبد الله بن بدر الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يسأل عن هذه الآية: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قال: نسختها آية المواريث. قال عبد الحميد: وحدّثنا يحيى بن آدم، عن محمد بن الفضل، عن أشعث، عن الحسن إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قال: نسختها آية الفرائض. قال عبد الحميد: وأخبرني شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان الميراث للولد، والوصيّة للوالدين والأقربين، فهي منسوخة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2869) والنسائي (206، 207) والبيهقي (6/ 265) والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 245/ 240). من طريق: أحمد بن محمد المروزي به. وفي إسناده علي بن حسين بن واقد؛ «صدوق يهم» لكنه توبع. وقال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2493): «حسن صحيح». (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (3/ 291/ 2652) والحاكم (2/ 273) وسعيد بن منصور في «سننه» (2/ 663/ 252 - آل حميد) والبيهقي (6/ 265 و 7/ 427 - 428) وأبو عبيد في «ناسخه» (421). من طريق: إسماعيل بن إبراهيم بن عليّة، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين به. وإسناده صحيح إلى ابن سيرين، وهو لم يسمع من ابن عباس. لكن يشهد له ما قبله.

وكذلك قال: سعيد بن جبير: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ قال: نسخت. القول الثاني: أنه نسخ منها الوصية للوالدين [31] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، عن الورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ منه الوالدين. [32]- أخبرنا إسماعيل، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا أسود بن عامر، قال: بنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كانت الوصية للوالدين فنسختها آية الميراث، وصارت الوصية للأقربين. قال أحمد: وحدّثنا أبو داود، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: نسخت الوصية عن الوالدين، وجعلت للأقربين. قال أبو داود: وحدّثنا حماد بن مسلمة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سألت العلاء بن زياد ومسلم بن يسار عن الوصية، فقالا: هي للقرابة (¬2). القول الثالث: أن الذي نسخ من الآية الوصية لمن يرث، ولم ينسخ الأقربون الذين لا يرثون، رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول الحسن والضحاك وأبي العالية. [33]- أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا مسلم بن إبراهيم، عن همام بن يحيى، عن قتادة، قال: أمر أن يوصي لوالديه، وأقربيه، ثم نسخ الوالدين، والحق لكل ذي ميراث نصيبه منها، وليست لهم منه وصية فصارت الوصية لمن لا يرث من قريب أو غير قريب. [34] (¬3) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: بنا أبو الحسن بن بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (424) من طريق: حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (426). (¬3) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (425). وانظر «تفسير الطبري» (3/ 389/ 2644، 2645) و «السنن الكبرى» للبيهقي (6/ 265).

قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا هشيم، قال: ابنا يونس، عن الحسن، قال: كانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ ذلك، وأثبتت لهما نصيبهما في سورة النساء وصارت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، ونسخ من الأقربين كل وارث. قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: أمر الله أن يوصي لوالديه وأقربائه ثم نسخ ذلك في سورة النساء، فألحق لهم نصيبا معلوما، وألحق لكل ذي ميراث نصيبه منه وليست لهم وصية، فصارت الوصية لمن لا يرث من قريب أو بعيد (¬1). [35] (¬2) - أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابن ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في «سننه» (2/ 511/ 3261) عن يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة به. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 267) وأبو داود (2870) و (3565) والترمذي (2203) وابن ماجة (2713) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 107/ 427) - الأعظمي- والطيالسي (1127) وعبد الرزاق في «مصنف» (4/ 148 - 149/ 7277) و (9/ 48/ 16308) والطبراني في «المعجم الكبير» (8/ رقم: 15، 76) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (11/ 149/ 10765) والبيهقي في «سننه (6/ 212، 244، 264) والدارقطني (3/ 40 - 41) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 230 و 14/ 298 - 299 و 24/ 439) والدولابي في «الكنى» (1/ 64). وابن عدي في «الكامل» (1/ 290). من طريق: إسماعيل بن عياش، قال: حدّثني شرحبيل بن مسلم الخولاني، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: فذكره مرفوعا. قال الترمذي: «هذا حديث حسن». قلت: إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا منها، فإن شرحبيل شامي ثقة. وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 1082) والشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 88). والحديث مروي عن جمع من الصحابة؛ منهم: 1 - عمرو بن خارجة رضي الله عنه: أخرجه أحمد (4/ 176 - 186، 187، 187، 238) والنسائي (6/ 247) والترمذي (2121) وابن ماجة (2712) والطيالسي (1317) والدارقطني (4/ 152) والبيهقي (6/ 264) والطبراني في «الكبير» (17/ رقم: 60، 71) وفي «الأوسط» (8/ 388/ 7787) وأبو يعلى في «مسنده» (3/ 78/ 1508) وابن عبد البر في «التمهيد» (14/ 299) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 126/ 428 - الأعظمي) والدارمي (2/ 511/ 3260) وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 605). كلهم من طريق: شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة به. قال الترمذي: «حديث حسن صحيح». قلت: في إسناده شهر بن حوشب؛ وهو ضعيف. لذا قال المحدث الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 89): «لعلّ تصحيحه من أجل شواهده الكثيرة، وإلا فشهر بن حوشب ضعيف لسوء حفظه».

عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: ابنا إبراهيم، قال: بنا عبد الحميد، ¬

_ 2 - عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (4/ 98) والبيهقي (6/ 263) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1570) وابن عبد البر في «التمهيد» (14/ 299). من طريق: عبد الله بن محمد بن ربيعة، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس به مرفوعا. وإسناده ضعيف، لأجل عبد الله بن محمد بن ربيعة، أبو محمد المصيصي. قال ابن عدي: «عامة أحاديثه غير محفوظة، وهو ضعيف على ما تبيّن لي من روايته، واضطراب فيها، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فأذكره». وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/ 39 - 40): «لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الاعتبار». وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (2/ 488 - 489/ 4544): «أحد الضعفاء؛ أتى عن مالك بمصائب». وقد حسّن إسناده الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/ 1082) فأغرب. وقد رواه طاوس مرسلا، وهو الصواب كما سيأتي. 3 - أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه ابن ماجة (2714) أو (2764) - علي الحلبي- والدارقطني (4/ 70) والبيهقي (6/ 264) والضياء في «المختارة» (6/ 150/ 2146) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1575). من طريق: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، نا سعيد بن أبي سعيد، عن أنس بن مالك مرفوعا. قال البوصيري في زوائده: «وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات». وسعيد بن أبي سعيد؛ هو الساحلي، لا المقبري. كما رجّحه العلامة الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 90، 91). وعلى هذا فالإسناد ضعيف. وأخرجه تمام في «الفوائد» (1/ 36/ 66 - السّلفي) من طريق: سليمان بن سالم الحرّاني، عن الزهري، عن أنس به. وإسناده ضعيف لأجل سليمان بن سالم؛ فهو ضعيف. 4 - جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (4/ 97) وابن عدي في «الكامل» (1/ 202). من طريق: إسحاق بن إبراهيم الهروي، نا سفيان، عن عمرو، عن جابر به مرفوعا. وانظر تعليق المحدث الألباني على هذه الطريق في «الإرواء» (6/ 92 - 93). وله طريق أخرى عن جابر؛ أخرجها أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 227) وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (3/ 172 - 173/ 433). من طريق: نوح بن دراج، عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر به. وإسناده واه جدا؛ نوح بن دراج متروك الحديث، وقد كذّبه ابن معين وغيره. 5 - عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (4/ 98) وابن عدي (2/ 817). من طريق: حبيب بن الشهيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به.

قال: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا إسماعيل بن عياش، قال: بنا شرحبيل بن مسلم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلية يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث». ¬

_ وحسّن إسناده الشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 91). قلت: في إسناد الدارقطني سهل بن عمار؛ وهو متروك. لكنه توبع عند ابن عدي، لكنه اختلف فيه، فوقع عند الدارقطني حبيب ابن الشهيد، وعند ابن عدي حبيب المعلم، والله أعلم. 6 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (4/ 97) والبيهقي (6/ 267) والخطيب البغدادي في «الموضح لأوهام الجمع والتفريق» (2/ 88). من طريق: يحيى بن أبي أنيسة الجزري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، عن علي به مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا؛ لأجل يحيى بن أبي أنيسة، فهو متروك. وتابعه ناصح بن عبد الله الكوفي عن أبي إسحاق الهمداني به عند ابن عدي (7/ 2511). لكن ناصح هذا ضعيف؛ ضعّفه النسائي كما أشار ابن عدي، وفي إسناده عنده أيضا الحارث الأعور؛ وهو ضعيف، فلا يصلح للاعتبار. وضعّف إسناده الحافظ في «التلخيص». 7 - زيد بن أرقم والبراء بن عازب: أخرجه ابن عدي (6/ 2349) من طريق: موسى بن عثمان الحضرمي، عن أبي إسحاق، عن البراء وزيد بن أرقم به. قال ابن عدي عن موسى الحضرمي: «حديثه ليس بمحفوظ». 8 - أسماء بنت يزيد: أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (5/ 165/ 2287) من طريق: يحيى بن يمان، نا سفيان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قال:- أراها رفعته- قالت: «لا وصية لوارث». وهذا إسناد ضعيف مسلسل بالضعفاء، يحيى بن يمان؛ صدوق يخطئ كثيرا. وليث هو: ابن سليم ضعيف لسوء حفظه واختلاطه فترك حديثه. وشهر بن حوشب ضعيف. 9 - طاوس مرسلا. أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (11/ 151/ 10774) و (11/ 166/ 10833) وعبد الرزاق في «مصنفه» (9/ 81 - 82/ 16426، 16437 و 9/ 87/ 16450) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 93/ 358 - الأعظمي و 2/ 665/ 253 - آل حميد) والبيهقي (6/ 265) وابن عدي (4/ 1570). من طرق؛ عن طاوس به مرسلا. خلاصة الكلام: أن الحديث صحيح، بل عدّه العلماء من المتواتر لكثرة طرقه، وفيها الحسن لذاته والحسن لغيره والضعيف الذي ينجبر، وشديد الضعف. وانظر «فتح الباري» (5/ 438 - 439) و «إرواء الغليل» (6/ 87 - 96/ 1655).

ذكر الآية الرابعة عشر

ذكر الآية الرابعة عشر : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] أما قوله: كُتِبَ فمعناه: فرض، والذين من قبلنا؛ هم أهل الكتاب. وفي كاف التشبيه في قوله: كَما ثلاثة أقوال: القول الأول: أنها ترجع إلى حكم الصوم وصفته لا إلى عدده [36] (¬1) - أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق، قال: ابنا محمد بن مرزوق، قال: ابنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: ابنا عبد الله بن يحيى السكري، قال: ابنا جعفر الخلدي، وقال: ابنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد، قال: بنا أبي قال: بنا يونس بن راشد، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. [37] (¬2) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، وقال: بنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا أبو الحسن بن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي قال: بنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما- ولم يذكر عكرمة- قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني بذلك: أهل الكتاب، وكان كتاب على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح، ما بينه وبين أن يصلي العتمة، أو يرقد وإذا صلّى العتمة أو رقد منع ذلك إلى مثلها، فنسختها هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 187]. [38] (¬3) - أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: ابنا علي بن أبي أيوب، قال: ابنا أبو ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 251/ 248) من طريق: يونس بن راشد به. وإسناده حسن. (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (51) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 305/ 1628). من طريق: حجاج به. وإسناده ضعيف، لأجل تدليس ابن جريج، والانقطاع بين عطاء وابن عباس. وأخرجه أبو داود (2313) من طريق: علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس. وعلي بن الحسين بن واقد؛ «صدوق يهم». فالإسناد حسن بما قبله. وقال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2028): «حسن صحيح». (¬3) أخرجه البخاري (1915) وأحمد (4/ 295) وأبو داود (2314) والترمذي (2968) والنسائي (4/ 147) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 50 - 51) وغيرهم. من طريق: إسرائيل به.

علي بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا نصر بن علي، قال: بنا أبو أحمد، قال: بنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها من القابلة، وإن قيس بن صرمة أتى امرأته، وكان صائما فقال: عندك شيء؟ قالت لعلي أذهب فأطلب لك، فذهبت وغلبته عينه فجاءت فقالت: خيبة لك. فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]. وقال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم. فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الآية. وقد روي أن قيس بن صرمة أكل بعد ما نام، وأن عمر بن الخطاب جامع زوجته بعد أن نامت، فنزل فيهما قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ الآية. القول الثاني: أنها ترجع إلى عدد الصوم لا إلي صفته، ولأرباب هذا القول في ذلك ثلاثة أقوال: [39]- أما الأول: فأخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل العامري قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: بنا هاشم بن القاسم، قال: بنا محمد بن طلحة، عن الأعمش، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كتب على النصارى الصيام كما كتب عليكم، فكان أول أمر النصارى أن قدموا يوما قالوا: حتى لا نخطئ، قال: ثم آخر أمرهم صار إلى أن قالوا: نقدمه عشرا ونؤخر عشرا حتى لا نخطئ، فضلوا. وقال دغفل بن حنظلة: كان على النصارى صوم رمضان، فمرض ملكهم، فقالوا: إن شفاه الله ليزيدن سبعة أيام، ثم ملك بعده ملك، فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام أن نتمها، ونجعل صومنا في الربيع، ففعل فصارت خمسين يوما (¬1). وروى السدي عن أشياخه، قال: اشتدّ على النصارى صيام رمضان، وجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ رقم: 4203). من طريق: معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن دغفل بن حنظلة، موقوفا.

بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما. فعلى هذا البيان الآية محكمة غير منسوخة. [40]- وأما الثاني: فأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ فكان ثلاثة أيام في كل شهر، ثم نسخ ذلك ما أنزل من صيام رمضان. وقال قتادة: كتب الله عزّ وجلّ على الناس قبل نزول شهر رمضان ثلاثة أيام من كل شهر. وأما الثالث: فقد روى النزال بن سبرة عن ابن مسعود، أنه قال: ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء. وقد زعم أرباب هذا القول أن الآية منسوخة بقوله: شَهْرُ رَمَضانَ [البقرة: 185]. وفي هذا بعد كثير، لأن قوله: شَهْرُ رَمَضانَ جاء عقيب قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فهو كالتفسير للصيام والبيان له. القول الثالث: إن التشبيه راجع إلى نفس الصوم لا إلى صفته ولا إلى عدده وبيان ذلك، أن قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لا يدل على عدد ولا صفة، ولا وقت، وإنما يشير إلى نفس الصيام كيف وقد عقبه الله بقوله تعالى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة: 184] فتلك يقع على يسير الأيام وكثيرها، فلما قال تعالى في نسق التلاوة شَهْرُ رَمَضانَ بين عدد الأيام المعدودات ووقتها، وأمر بصومها؛ فكان التشبيه الواقع في نفس الصوم. والمعنى: كتب عليكم أن تصوموا كما كتب عليهم، وأما صفة الصوم وعدده فمعلوم من وجوه أخر لا من نفس الآية. وهذا المعنى مرويّ عن ابن أبي ليلى (¬1). وقد أشار إليه السّدّي والزجاج، والقاضي ¬

_ وإسناده ضعيف لانقطاعه، فالحسن لا يعرف له سماعا من دغفل. وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 254/ 880) والطبراني في «المعجم الأوسط» كما في «مجمع البحرين» مرفوعا. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 139): «رجال إسنادهما رجال الصحيح». قلت: إضافة إلى الانقطاع بين الحسن ودغفل؛ فإن دغفل لا يعرف له إدراك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال البخاري وغيره. والله تعالى أعلم. (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» معلّقا- 30 - كتاب الصوم، 39 - باب (وعلى الذين يطيقونه

ذكر الآية الخامسة عشر

أبو يعلى. وما رأيت مفسرا يميل إلى التحقيق إلا وقد أومى إليه، وهو الصحيح. وما ذكره المفسّرون فإنه شرح حال صوم المتقدمين، وكيف كتب عليهم لأنه تفسير للآية، وعلى هذا البيان لا تكون الآية منسوخة أصلا. ذكر الآية الخامسة عشر : قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184] اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين: القول الأول: أنه يقتضي التخيير بين الصوم والإفطار مع الإطعام ، لأن معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، فعلى هذا يكون الكلام منسوخا بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]. [41] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي أحمد بن حنبل، قال: بنا عبد الرزاق قال: بنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. قال أحمد: وحدّثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وكانت الإطاقة أن الرجل والمرأة يصبح صائما، ثم إن شاء أفطر وأطعم لذلك مسكينا، فنسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (¬2). ¬

_ فدية). قال: وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، حدثنا ابن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: «نزل رمضان فشقّ عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخّص لهم في ذلك، فنسختها: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فأمروا بالصوم». ووصله أبو نعيم في «المستخرج» كما في «الفتح» (4/ 223). وأخرجه أبو داود (506) ضمن حديث طويل، من طريق: شعبة، عن عمرو بن مرة به. وأخرجه الطبري أيضا (3/ 415/ 2731) وأبو عبيد في «ناسخه» (58). وأخرجه ابن أبي حاتم (1/ 306، 309/ 1632، 1646) من طريق الأعمش، عن عمرو بن مرة به. وأخرجه أحمد (5/ 246 - 247) وأبو داود (507) والطبري (3/ 414/ 2729) والحاكم (2/ 274). من طريق: المسعودي، عن عمرو بن مرة. والمسعودي؛ صدوق لكنه اختلط. لذا قال الحافظ في «العجاب» (1/ 430): «رواية شعبة أصح». (¬1) تقدّم أن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 307/ 1637) وأبو عبيد في «ناسخه» (59).

قال أحمد: وحدّثنا عبد الله بن إدريس، قال: بنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. قال أحمد: وحدّثنا وكيع، قال: بنا محمد بن سليم، عن ابن سيرين، عن عبيدة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: نسختها التي بعدها والتي تليها (¬1). [42] (¬2) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: بنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: ابنا عبيد الله موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كانوا إذا أراد الرجل أن يفطر يوما من رمضان من غير مرض أفطر وأطعم نصف صاع حتى نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فلم يكن إلا لهما. قال عبد بن حميد: وحدّثنا مسلم بن إبراهيم: قال: بنا وهيب بن خالد، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: لما نزلت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. أفطر الأغنياء وأطعموا وحصل الصوم على الفقراء، فأنزل الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فصام الناس جميعا (¬3). [43]- أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: ابنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: ابنا أبو عمرو بن مهدي، قال: ابنا محمد بن مخلد، قال: بنا القاسم بن عياد، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حماد بن زيد، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين؛ أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال: هذه منسوخة. وروى عطية وابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في الصوم الأول فدية طعام مسكين فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر كان ذلك رخصة له، ثم نسخ ذلك. [44] (¬4) - أخبرنا محمد بن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا علي بن ¬

_ (¬1) أخرجه عبد بن حميد كما «العجاب» (1/ 432). وقال الحافظ هناك: «وهذا أيضا مرسل، وسنده معدود في أصح الأسانيد». (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (3/ 420/ 2736) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (62). (¬3) ذكره الحافظ بن حجر في «العجاب» (1/ 432)، عن عبد بن حميد، وقال: «وهذا مرسل صحيح السند». (¬4) أخرجه البخاري (4507) ومسلم (1145) وأبو داود (2315) والنسائي (4/ 190 المجتبى)

والقول الثاني: أنه محكم غير منسوخ

شاذان، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني قال: بنا قتيبة. وابنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو بكر محمد بن هبة الله الطبري، قال: ابنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: بنا أبو محمد بن درستويه قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أبو صالح، قال: بنا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن يزيد مولى أم سلمة، عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وقال أنس رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام، وكانوا قوما لم يتعوّدوا الصيام، وكان الصوم عليهم شديدا، وكان من لم يصم أطعم مسكينا. وقد روى هذا المعنى: أنه كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ إلى أن نزل قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فنسخ ذلك بهذه، عن جماعة منهم معاذ بن جبل وابن مسعود، وابن عمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والنخعي، والزهري رضي الله عنهم. والقول الثاني: أنه محكم غير منسوخ ، وأن فيه إضمارا تقديره: وعلى الذين كانوا يطيقوه أو لا يطيقونه فدية. وأشير بذلك إلى الشيخ الفاني الذي يعجز عن الصوم، والحامل التي تتأذّى بالصوم والمرضع. [45] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل قال: ابنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدّثني أبي قال: بنا عمي الحسين بن حسن بن عطية، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ وهو الشيخ الكبير كان يطيق صيام رمضان وهو شاب فكبر وهو عليه لا يستطيع صومه، فليتصدّق على مسكين واحد كلّ يوم أقط. [46] (¬2) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، ¬

_ وفي «الكبرى» (6/ 295 - 296/ 11017) والترمذي (798) والحاكم (1/ 423) وابن حبان (5/ 198/ 3469) والبيهقي (4/ 200) وابن خزيمة (1903) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (61) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 26). من طرق؛ عن بكير به. (¬1) إسناده ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري (4505) والنسائي في «الصغرى» (4/ 190 - 191) وفي «الكبرى» (6/ 296/ 11018) وعبد الرزاق (4/ رقم: 7577) وابن أبي حاتم (1/ 407/ 1634) والطبراني في

قال: ابنا بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال: بنا روح قال: بنا زكريا بن إسحاق، قال: بنا عمرو بن دينار، عن عطاء؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: ليست بمنسوخة وهو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعما مكان كل يوم مسكينا. [47]- أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: ابنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يقول: لم ينسخ. قال عبد الحميد: وأخبرنا النضر بن شميل، قال: بنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: هم الذي يكلفونه ولا يطيقونه هو الشيخ والشيخة. قال عبد الحميد: وأخبرنا إبراهيم، عن أبيه، عن عكرمة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: هو الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم عنه لكل يوم مسكين. وقد روى قتادة عن عكرمة قال: نزلت في الحامل والمرضع. [48] (¬1) - وقد أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا أبو طالب بن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، قال: بنا موسى بن مسعود النهدي، قال: بنا سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرؤها وعلى الذين «يطوّقونه» قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم عنه. [49] (¬2) - وبالإسناد؛ حدّثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب وعلى الذين «يطوقونه» قال: الشيخ الكبير الذي يصوم فيعجز والحامل إن اشتد عليها الصوم يطعمان لكل يوم مسكينا. ¬

_ «الكبير» (11/ رقم: 11388) والحاكم (1/ 440) والبيهقي (4/ 271) والدارقطني (2/ 205) وابن جرير الطبري (3/ 431 - 433/ 2778، 2785). من طرق؛ عن عمرو بن دينار به. (¬1) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (71). من طريق: سفيان به. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2/ 680/ 264 آل حميد) والبيهقي (4/ 271 - 272) بإسناد ضعيف.

ذكر الآية السادسة عشر

قلت: هذه القراءة لا يلتفت إليها لوجوه: الأول: أنها شاذة خارجة عما اجتمع عليه المشاهير فلا يعارض ما تثبت الحجة بنقله (¬1). والثاني: أنها تخالف ظاهر الآية، لأن الآية تقتضي الإطاقة لقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184] وهذه القراءة تقتضي نفيها. والثالث: إن الذين يطيقون الصوم ويعجزون عنه ينقسمون إلى قسمين (¬2): الأول: من يعجز لمرض أو لسفر، أو لشدة جوع أو عطش، فهذا يجوز له الفطر ويلزمه القضاء من غير كفارة. والثاني: من يعجز لكبر السّن، فهل يلزمه الكفارة من غير قضاء؟ لم يلزمه القضاء والكفارة، وقد يجوز الإفطار للعذر لا للعجز، كما نقول في الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد، وهذا كله ليس بمستفاد من الآية، إنما المعتمد فيه على السنة وأقوال الصحابة. فعلى هذا البيان يكون النسخ أولى من الآية بالإحكام، يدل على ما قلنا قوله تعالى في تمام الآية: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وغير جائز أن يعود هذا الكلام إلى المرضى والمسافرين، ولا إلى الشيخ الكبير، ولا إلى الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد، لأن الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم من جهة أنهم قد نهوا أن يعرضوا أنفسهم للتلف، وإنما عاد الكلام إلى الأصحّاء المقيمين خيروا بين الصوم والإطعام فانكشف بما أوضحنا أن الآية منسوخة. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: لا تكون الآية على القراءة الثانية، وهي: يُطِيقُونَهُ إلا منسوخة (¬3). ذكر الآية السادسة عشر : قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة على قولين (¬4): ¬

_ (¬1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 286 - 287) و «فتح الباري» (8/ 29). (¬2) انظر «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 48). (¬3) «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 47). (¬4) انظر «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (1/ 296 - 297) و «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 347 - 350) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 27 - 28) و «الناسخ والمنسوخ» لعبد القاهر البغدادي (ص 31 - 32) و «صفوة الراسخ» (ص 55).

القول الأول: أنها منسوخة

القول الأول: أنها منسوخة ، ثم اختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين: الأول: أنه أولها، وهو قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، قالوا: وهذا يقتضي أن القتال إنما يباح في حق من قاتل من الكفار فأما من لم يقاتل فإنه لا يقاتل ولا يقتل. ثم اختلف هؤلاء في ناسخ ذلك على أربعة أقوال: الأول: أنه قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36]. والثاني: أنه قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191]. والثالث: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29]. والرابع: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. قلت: وهذا القول الذي قالوا، وإنما أخذوه من دليل الخطاب؛ إنما هو حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه، وقد عارضه ما هو أقوى منه؛ كآية السّيف وغيرها مما يقتضي إطلاق قتل الكفار، قاتلوا أو لم يقاتلوا. فأما الآية الأولى التي زعموا أنها ناسخة فإنها تشبه المنسوخة وتوافقها في حكمها، لأنها إنما تضمّنت قتال من قاتل. وأما الآية الثانية؛ فإنها إنما تضمّنت قتال الذين أمروا بقتالهم؛ لأن قوله: وَاقْتُلُوهُمْ عطف على المأمور بقتالهم. وأما الآية الثالثة؛ فإنها تتضمّن قتال أهل الكتاب، والآية التي ادّعي نسخها مطلقة في كل من يقاتل. وأما الرابعة؛ تصلح ناسخة لو وجدت ما تنسخه، وليس هاهنا إلا دليل الخطاب، وليس بحجة هاهنا على ما بيّنا. القول الثاني: أن المنسوخ منها قوله: وَلا تَعْتَدُوا للمفسّرين في معنى هذا الاعتداء خمسة أقوال: الأول: لا تعتدوا بقتل النساء والولدان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. [القول الثاني انها محكمة] الثاني: بقتال من لم يقاتلكم؛ قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير، وابن زيد. وهؤلاء إن عنوا من لم يقاتل، لأنه لم يعد نفسه للقتال كالنساء، والولدان،

ذكر الآية السابعة عشر

والرهبان، فالآية محكمة، لأن هذا الحكم ثابت. وإن عنوا من لم يقاتل من الرجال المستعدين للقتال توجّه النّسخ. والثالث: أن الاعتداء إتيان ما نهى الله عنه، قاله الحسن. والرابع: أنه ابتداء المشركين بالقتال في الشهر الحرام في الحرم قاله مقاتل. والخامس: لا تعتدوا بقتال من وادعكم وعاقدكم. قاله ابن قتيبة (¬1). والظاهر إحكام الآية كلها، ويبعد ادّعاء النسخ فيها. ذكر الآية السابعة عشر : قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 191] اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أو محكمة على قولين: القول الأول: أنها منسوخة ، واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: الأول: أنه قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فأمر بقتلهم في الحل والحرم، قاله قتادة. [50] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقّال، قال: ابنا ابن بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن همام، عن قتادة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فأمر أن لا يبدءوا بقتال، ثم قال: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217] ثم نسخت الآيتان في براءة فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. قال أحمد: وحدّثنا حسين، عن شيبان، عن قتادة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. قال: كانوا لا يقاتلون به حتى يقاتلوهم، ثم نسخ ذلك فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فأمر الله بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال. والثاني: قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] قاله الربيع بن أنس وابن زيد. والثالث: قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ قاله مقاتل. والقول الثاني: أنها محكمة ، وأنه لا يجوز أن يقاتل أحد في المسجد الحرام حتى يقاتل، وهذا قول مجاهد والمحقّقين. ويدلّ عليه ما روي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في مكة: ¬

_ (¬1) كما في «القرطين» - كتابي مشكل القرآن وغريبه- (ص 69). (¬2) أخرجه أبو داود في «ناسخه» كما في «فتح القدير» للشوكاني (1/ 347).

ذكر الآية الثامنة عشر

«إنها لا تحلّ لأحد من بعدي، وإنما أحلّت لي ساعة من نهار» (¬1). وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولا يحلّ إلا ساعة من نهار» (¬2). وقد ادّعى بعض من لا علم له أن هذه الآية نسخت بحديث أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فأمر بقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة» (¬3). وهذا باطل من وجهين: الأول: أن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن (¬4)، ولو أجزنا نسخه بالسنة لاحتجنا إلى أن نعتبر في نقل ذلك الناسخ ما اعتبرنا في نقل المنسوخ، وطريق الرواية لا يثبت ثبوت القرآن. والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن أنه إنما خصّ بالإباحة في ساعة من نهار، والتخصيص ليس بنسخ، لأن النسخ ما رفع الحكم على الدوام كما كان ثبوت حكم المنسوخ على الدوام، فالحديث دال على التخصيص لا على النسخ. ثم إنما يكون النسخ مع تضاد اجتماع الناسخ والمنسوخ، وقد أمكن الجمع بين ما ادّعوه ناسخا ومنسوخا وصح العمل بهما، فيكون قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ في غير الحرم، بدليل قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ وكذلك قوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: في غير الحرم، بدليل قوله عقيب ذلك وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة: 191]. ولو جاز قتلهم في الحرم لم يحتج إلى ذكر الإخراج، فقد بان مما أوضحنا إحكام الآية، وانتفى النسخ عنها. ذكر الآية الثامنة عشر : قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 192] اختلف المفسرون في المراد بهذا الانتهاء على قولين: الأول: أنه الانتهاء عن الكفر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (112، 2434، 6880) ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (1349) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (1353). (¬3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 284/ 247) في- 20 - الحج، (81) جامع الحج. والبخاري (1846) و (3044) و (4286) ومسلم (1357) وأبو داود (2685) والنسائي (5/ 200 - 201) والترمذي (1963) وغيرهم. (¬4) والصحيح من أقوال أهل العلم المحقّقين؛ أن القرآن ينسخ بالسنة الصحيحة.

ذكر الآية التاسعة عشر

والثاني: عن قتال المسلمين لا عن الكفر. فعلى القول الأول الآية محكمة، والثاني يختلف في المعنى؛ فمن المفسرين من يقول: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذ لم يأمركم بقتالهم في الحرم، بل يخرجون منه على ما ذكرنا في الآية التي قبلها، فلا يكون نسخ أيضا. ومنهم من يقول: المعنى اعفوا عنهم وارحموهم، فيكون لفظ الآية لفظ خبر، ومعناه: الأمر بالرحمة لهم والعفو عنهم، وهذا منسوخ بآية السيف. ذكر الآية التاسعة عشر : قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: 194] اختلف العلماء هل في هذه الآية منسوخ أم لا على قولين: الأول: أن فيها منسوخا . واختلف أرباب هذا القول فيه على قولين: الأول: أنه قوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قالوا: وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر في ذي القعدة فصدّه المشركون عن أداء عمرته فقضاها في السنة الثانية في ذي القعدة (¬1). فاقتضى هذا أن من فاته أداء ما وجب عليه بالإحرام الذي عقده في الأشهر الحرم أنه يجب عليه قضاؤه في مثل ذلك الشهر الحرام، ثم نسخ ذلك وجعل له قضاؤه أي وقت شاء، إما في مثل ذلك الشهر أو غيره، قال شيخنا علي بن عبيد الله: وممن حكي ذلك عنه عطاء. قلت: وهذا القول لا يعرف عن عطاء ولا يشترط أحد من الفقهاء المشهورين على من منع من عمرته أو أفسدها أن يقضيها في مثل ذلك الشهر. والثاني: أنه قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]. ثم اختلف أرباب هذا القول في معنى الكلام ووجه نسخه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا نزل بمكة، والمسلمون قليل ليس لهم سلطان يقهرون به المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله تعالى المسلمين أن يأتوا إليهم مثل ما أتوا إليهم أو يعفوا ويصبروا، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأعزّ الله سلطانه؛ نسخ ما كان تقدم من ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2). ¬

_ (¬1) انظر «أسباب النزول» للواحدي (ص 55 - 56) و «تفسير الطبري» (3/ 576). وأخرج القصة الطبري (3/ 575 - 576/ 3130) عن ابن عباس؛ بإسناد ضعيف جدا. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 329/ 1740). وإسناده ضعيف، علي بن أبي طلحة؛ قال عنه الحافظ في «التقريب» (4788): «أرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق قد يخطئ».

الثانى أنها محكمة غير منسوخة

والثاني: أنه كان في أول الأمر إذا اعتدي على الإنسان فله أن يقتصّ لنفسه بنفسه من غير مرافعة إلى سلطان المسلمين، ثم نسخ ذلك بوجوب الرجوع إلى السلطان في إقامة الحدود والقصاص، قال شيخنا: وممن حكي ذلك عنه ابن عباس رضي الله عنهما. قلت: وهذا لا يثبت عن ابن عباس ولا يعرف له صحة، فإن الناس ما زالوا يرجعون إلى رؤسائهم، وسلاطينهم في الجاهلية والإسلام، إلا أنه لو أن إنسانا استوفى حق نفسه من خصيمه من غير سلطان أجزأ ذلك، وهل يجوز له ذلك؟ فيه روايتان عن أحمد. والثالث: أن معنى الآية فمن اعتدى عليكم في الشهر الحرام فاعتدوا عليه فيه ثم نسخ ذلك، وهذا مذكور عن مجاهد، ولا يثبت، ولو ثبت كان مردودا، بأن دفع الاعتداء جائز في جميع الأزمنة عند جميع العلماء، وهذا حكم غير منسوخ، [الثانى أنها محكمة غير منسوخة] والصحيح في هذه الآية أنها محكمة غير منسوخة، فأما أولها فإن المشركين لما منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من دخول مكة في شهر حرام اقتصّ لنبيه عليه السلام بإدخاله مكة في شهر حرام. [51] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: ابنا أحمد بن المشن بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل القاضي، قال: ابنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمي الحسين بن حسن بن عطية، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون حبسوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة عن البيت ففخروا عليه بذلك فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله البيت الحرام فاقتص له منهم. فأما قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فقال سعيد بن جبير: كان المشركون قد عاهدوه يوم الحديبية أن يخلوا له مكة ولأصحابه العام المقبل ثلاثة أيام، فلما جاء العام الذي كان الشرط بينهما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه محرمين بعمرة، فخافوا أن لا يوف لهم المشركون بما شرطوا وأن يقتلوهم عند المسجد الحرام، وكره المسلمون القتال في شهر حرام وبلد حرام؛ فنزلت: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي: من قاتلكم من المشركين في الحرم فقاتلوه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 578/ 3138). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 329/ 1741) عن سعيد بن جبير مختصرا. وفي إسناده عبد الله بن لهيعة، ثم هو مرسل.

ذكر الآية العشرين

فإن قال قائل: فكيف يسمى الجزاء اعتداء؟ فالجواب: إن صورة الفعلين واحدة وإن اختلف حكمهما، قال الزجّاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته: أي: جازيته بظلمه، وجهل عليّ فجهلت عليه، أي: جازيته بجهله. قلت: فقد بان بما ذكرنا أن الآية محكمة ولا وجه لدخولها في المنسوخ أصلا. ذكر الآية العشرين : قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] اختلف المفسرون في المراد بإتمامها على خمسة أقوال: الأول: أن يحرم بهما من دويرة أهله، قاله علي وسعيد بن جبير وطاوس. والثاني: الإتيان بما مر الله به فيهما، قاله مجاهد. والثالث: إفراد كل واحد عن الآخر، قاله الحسن وعطاء. والرابع: أن لا يفسخهما بعد الشروع فيهما، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس: أن يخرج قاصدا لهما لا يقصد شيئا آخر من تجارة أو غيرها، وهذا القول فيه بعد. وقد ادّعى بعض العلماء على قائله أنه يزعم أن الآية نسخت بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198]. والصحيح في تفسير الآية ما قاله ابن عباس، وهو محمول على النهي عن فسخهما لغير عذر أو قصد صحيح، وليست هذه الآية بداخلة في المنسوخ أصلا. ذكر الآية الحادية والعشرين : قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196]. ذكر بعض المفسرين أن هذا الكلام اقتضى تحريم حلق الشعر، سواء وجد به أذى أو لم يوجد، ولم يزل الأمر على ذلك حتى رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه، فقال: «أتجد شاة؟» فقال: لا. فنزلت: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (¬1) [البقرة: 196]. والمعنى: فحلق ففدية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1814، 1818، 4159، 4190، 4191، 4517، 5665) ومسلم (1201) وغيرهما.

ذكر الآية الثانية والعشرين

فاقتضى هذا الكلام إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية وصار ناسخا لتحريمه المتقدم. قلت: وفي هذا بعد من وجهين: الأول: أنه يحتاج أن يثبت أن نزول قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً تأخّر عن نزول أول الآية، ولا يثبت هذا. والظاهر نزول الآية في مرة، بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتجد شاة» والشاة هي النسك المذكور في قوله: أَوْ نُسُكٍ. والثاني: إنا لو قدرنا نزوله متأخرا فلا يكون نسخا، لأنه قد بان بذكر العذر أن الكلام الأول لمن لا عذر له، فصار التقدير: ولا تحلقوا رءوسكم إلا أن يكون منكم مريض أو من يؤذيه هوامه، فلا ناسخ ولا منسوخ. ذكر الآية الثانية والعشرين : قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: 215]. اختلفوا: هل هذه منسوخة أم محكمة؟ روى السّدّي عن أشياخه أنه يوم نزلت هذه لم تكن زكاة، وإنما هي نفقة الرجل على أهله، والصدقة يتصدقون بها فنسختها الزكاة (¬1). وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسخت هذه بآية الصدقات في براءة. وروى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسخ منها الصدقة على الوالدين، وصارت الصدقة لغيرهم الذين لا يرثون من الفقراء والمساكين والأقربين. وقد قال الحسن البصري: والمراد بها التطوع على من لا يجوز إعطاؤه الزكاة؛ كالوالدين والمولودين، وهي غير منسوخة. وقال ابن زيد: هي في النوافل وهم أحق بفضلك. قلت: من قال بنسخها ادّعى أنه وجب عليهم أن ينفقوا فسألوا عن وجوه الإنفاق فدلّوا على ذلك، وهذا يحتاج إلى نقل، والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع، فحكمها ثابت غير منسوخ، لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة، وما يتطوّع به لم ينسخ بالزكاة. وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد، وهذه الآية بالتطوع أشبه، لأن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 381/ 2010).

ذكر الآية الثالثة والعشرين

ظاهرها أنهم طلبوا بيان الفضل في إخراج الفضل فبينت لهم وجود الفضل. ذكر الآية الثالثة والعشرين : قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة: 216]. اختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟ فقال قوم: هي منسوخة لأنها تقتضي وجوب القتال على الكل؛ لأن الكل خوطبوا بها، وَكِتابٌ بمعنى فرض. قال ابن جريج سألت عطاء، أواجب الغزو على الناس من أجل هذه الآية؟ فقال: إنما كتب على أولئك حينئذ. وقال ابن أبي نجيح سألت مجاهدا هل الغزو واجب على الناس؟ فقال: لا؛ إنما كتب عليهم يومئذ. وقد اختلف أرباب هذا القول في ناسخها على قولين: الأول: أنه قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] قاله عكرمة. والثاني: قوله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122]. وقد زعم بعضهم أنها ناسخة من وجه، ومنسوخة من وجه، وذلك أن الجهاد كان على ثلاث طبقات: المنع من القتال، وذلك مفهوم من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء: 77] فنسخت بهذه الآية ووجب بها التعين على الكل، وساعدها قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] ثم استقرّ الأمر على أنه إذا قام بالجهاد قوم سقط عن الباقين بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ والصحيح أن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة: 216] محكم، وأن فرض الجهاد لازم للكل، إلا أنه من فروض الكفايات، إذا قام به قوم سقط عن الباقين. فلا وجه للنسخ (¬1). ذكر الآية الرابعة والعشرين : قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217]. سبب سؤالهم عن هذا، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية فقتلوا عمرو بن الحضرمي في ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 57 - 58).

أول ليلة من رجب، فعيّرهم المشركون بذلك، فنزلت هذه الآية (¬1). وهي تقتضي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 384/ 2022) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 162/ 1670) والطبري في «تفسيره» (4/ 306) وفي «تاريخه» (2/ 45) والبيهقي في «سننه» (9/ 11 - 12) وأبو يعلى في «مسنده» (3/ 102 - 103/ 1534). من طريق: معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله، وذكر القصة. وحسّن إسناده الحافظ في «العجاب» (1/ 539) فقال: «وهذا سند حسن، وقد علّق البخاري طرفا منه في كتاب العلم من «صحيحه»». قلت: يشير إلى قول الإمام البخاري في كتاب العلم (3) باب (7) ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان. قال: «واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كتب لأمير السرية كتابا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم». قال الحافظ في «الفتح» (1/ 186): «والحديث الذي أشار إليه لم يورده موصولا في هذا الكتاب؛ وهو صحيح، وقد وجدته من طريقين: إحداهما مرسلة، ذكرها ابن إسحاق في «المغازي» عن يزيد بن رومان وأبو اليمان في نسخته عن شعيب، عن الزهري، كلاهما عن عروة بن الزبير. والأخرى موصولة؛ أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي، بإسناد حسن. ثم وجدت له شاهدا من حديث ابن عباس عند الطبري في «التفسير». فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحا» اه. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 198): «رواه الطبراني، ورجاله ثقات». وصحّح إسناده السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 250) والشوكاني في «فتح القدير» (1/ 385) والشيخ أحمد شاكر في «عمدة التفسير» (2/ 88). وأخرجه ابن إسحاق وعنه الطبري في «التفسير» (4/ 302/ 4082) وفي «التاريخ» (2/ 410 - 413) وابن أبي حاتم (2/ 385/ 2024) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 18 - 19). قال: حدثني يزيد بن رومان والزهري، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش .. فذكره. وإسناده حسن مرسلا. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» (ص 69) عن محمد بن إسحاق، عن الزهري مرسلا، ولم يذكر فيه عروة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» (ص 68) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 17). من طريق: أبي اليمان؛ الحكم بن نافع، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، فذكره. وأخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 308/ 4087)، عن ابن عباس؛ بإسناد ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق (1/ 101) - التفسير- وابن جرير (4/ 308/ 4086) وابن أبي حاتم (2/ 384/ 2023). عن معمر، عن الزهري وعثمان الجزري، عن مقسم مولى ابن عباس.

تحريم القتال في الشهر الحرام، لقوله: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: عظم العقوبة، وهذا إقرار لهم على ما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم. [52]- أخبرنا أبو الحسن الأنصاري، قال: ابنا عبد الله بن علي الألوسي، قال: أخبرني عبد الملك بن عمر الرزّاز، قال: ابنا ابن شاهين، قال: بنا يحيى بن محمد صاعد، قال: بنا محمد بن توبة العنبري، قال: ابنا أزهر بن سعد، قال: بنا ابن عون، قال: أبو رجاء العطاردي: كان إذا دخل شهر رجب قالوا: قد جاء منصل الأسنة فيعمد أحدهم إلى سنان رمحه فيخلعه ويدفعه إلى النساء، فيقول: اشددن هذا في عكومكن (¬1) فلو مر أحدنا على قاتل أبيه لم يوقظه. قلت: واختلف العلماء هل هذا التحريم باق أم نسخ. [53]- وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا الكاذي قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي قال: بنا حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ما لهم إذ ذلك لا يحل لهم أن يغزو أهل الشرك في الشهر الحرام ثم غزوهم فيه بعد، فحلف لي بالله؛ ما يحل للناس الآن أن يغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزو ومنا نسخت. وروى عبد خير، عن علي عليه السلام في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قال: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وقال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار وسائر علماء الأمصار: إن القتال في الشهر الحرام جائز، فإن هذه الآية منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ¬

_ وأخرجه البزار (3/ 41/ 2191 - كشف الأستار) من طريق: أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال الهيثمي في «المجمع» (6/ 196): «وفيه أبو سعيد البقال؛ وهو ضعيف». على كل حال القصة صحيحة بمجموعة طرقها، كما قال الحافظ وغيره. وانظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي- المغازي- (ص 48 - 50) و «عيون الأثر» لابن سيد الناس (1/ 227) و «البداية والنهاية» (3/ 248 - 252) و «السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة» للدكتور بريك محمد بريك العمري (ص 95 - 106) ط. دار ابن الجوزي. (¬1) العكوم: الأحكام والغرائر التي تكون فيها الأمتعة وغيرها. أو: الحبل الذي تشد عليه الثياب. انظر «لسان العرب» (9/ 343 - 344) و «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 258).

ذكر الآية الخامسة والعشرين

وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29]. [54]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال قال: ابنا ابن بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: قال: حدّثني أبي قال: بنا عبد الرازق، عن معمر قال: قال الزهري: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ثم أحل له بعد. ذكر الآية الخامسة والعشرين : قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [التوبة: 219]. اختلف العلماء في هذه الآية: فقال قوم: إنها تضمنت ذم الخمر لا تحريمها، وهو مذهب ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة. وقال آخرون: بل تضمنت تحريمها، وهو مذهب الحسن وعطاء. فأما قوله تعالى: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] فيتجاذبه أرباب القولين، فأما أصحاب القول الأول فإنهم قالوا: إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبله. وقال أصحاب القول الثاني: إثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما حينئذ أيضا، لأن الإثم الحادث عن شربها من ترك الصلاة والإفساد الواقع عن السكر لا يوازي منفعتها الحاصلة من لذة أو بيع، ولما كان الأمر محتملا للتأويل، قال عمر بن الخطاب بعد نزول هذه الآية: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا (¬1)، وعلى القول الأول يتوجه النسخ بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90]. ذكر الآية السادسة والعشرين : قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219]، فالمراد بهذا الإنفاق ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه الصدقة والعفو ما يفضل عن الإنسان. [55]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل قال: ابنا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 53) وأبو داود (3670) والترمذي (3049) والنسائي (8/ 286) والحاكم (4/ 143) وغيرهم.

ذكر الآية السابعة والعشرين

محمد بن إسماعيل بن سعد قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قُلِ الْعَفْوَ قال: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم. لم يفرض فيه فريضة معلومة، ثم نزلت بعد ذلك الفرائض مسماة. وقد قيل: إن المراد بهذه الصدقة الزكاة. [56] (¬1) - أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: بنا شبابة، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قال: العفو الصدقة المفروضة. والقول الثاني: أنه كان فرض عليهم قبل الزكاة أن ينفقوا ما يفضل عنهم، فكان أهل الحرث يأخذون قدر ما يكفيهم من نصيبهم، ويتصدّقون بالباقي، وأهل الذهب والفضة يأخذون قدر ما يكفيهم في تجارتهم ويتصدقون بالباقي، ذكره بعض المفسرين. والثالث: أنها نفقة التطوع، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما حثهم على الصدقة ورغبهم بها قالوا: ماذا ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية. قال مقاتل بن حيان في قوله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قال: هي النفقة في التطوع، فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه سنة ويتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل ببدنه أمسك ما يكفيه يوما ويتصدق بسائره، وإن كان من أصحاب الحقل والزرع أمسك ما يكفيه سنة ويتصدق بسائره، فاشتد ذلك على المسلمين فنسختها آية الزكاة. قلت: فعلى هذا القول معنى قوله: اشتد ذلك على المسلمين، أي: صعب ما ألزموا نفوسهم به، فإن قلنا هذه النفقة نافلة أو هي الزكاة فالآية محكمة، وإن قلنا إنها نفقة فرضت قبل الزكاة فهي منسوخة بآية الزكاة، والأظهر في أنها الإنفاق في المندوب إليه (¬2). ذكر الآية السابعة والعشرين : قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] اختلف المفسّرون في المراد بالمشركات هاهنا على قولين: الأول: أنهن الوثنيات. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 393/ 2072). (¬2) انظر «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 52 - وما بعدها) و «صفوة الراسخ» (ص 60، 61).

ذكر الآية الثامنة والعشرين

[57]- أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا قبيصة، عن حماد، قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية، قال: لا بأس به. فقلت: أليس الله تعالى يقول: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال: إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان. قال عبد الحميد: حدّثنا يونس، عن سفيان، عن قتادة وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال: المشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه. قال سعيد بن جبير: هن المجوسيات وعابدات الأوثان. والثاني: أنه عام في الكتابيات وغيرهن من الكافرات، فالكل مشركات، وافترق أرباب هذا القول على قولين: الأول: أن هذا القدر من الآية نسخ بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5]. [58]- فأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال بنا ابن مبارك، عن يونس، عن الزهري وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ثم أحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب فلم ينسخ من هذه الآية غير ذلك، فنكاح كل مشرك سوى نساء أهل الكتاب حرام. والثاني: أن قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ لفظ عام خص منه الكتابيات بآية المائدة وهذا تخصيص لا نسخ، وعلى هذا الفقهاء وهو الصحيح، وقد زعم قوم أن أهل الكتاب ليسوا مشركين، وهذا فاسد، لأنهم قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله فهم بذلك مشركون. ذكر الآية الثامنة والعشرين : قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: 222]. توهّم قوم قلّ علمهم أن هذه الآية منسوخة، فقالوا: هي تقتضي مجانبة الحائض على الإطلاق كما يفعله اليهود، ثم نسخت بالسنة، وهو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أباح الاستمتاع بالحائض إلا النكاح، وكان صلّى الله عليه وسلّم يستمتع من الحائض بما دون الإزار. وهذا ظن منهم فاسد، لأنه لا خلاف بين الآية والأحاديث. قال أحمد بن حنبل: الحيض موضع الدم. ويوضّح هذا التعليل للنهي بأنه أذى، فخصّ المنع

ذكر الآية التاسعة والعشرين

مكان الأذى. ثم لو كانت الأحاديث تضاد الآية قدمت الآية، لما بينا في أول الكتاب من أن الناسخ ينبغي من أن يشابه المنسوخ في قوته، والقرآن أقوى من السنة. ذكر الآية التاسعة والعشرين : قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]. قد ذهب جماعة من القدماء إلى أن في هذه الآية منسوخا، ثم اختلفوا في المنسوخ منها على قولين: القول الأول: أنه قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. قالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ ثلاثة قروء، فنسخ من ذلك حكم الحامل بقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ونسخ حكم الآيسة والصغيرة من ذلك بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4]، ونسخ حكم المطلقة قبل الدخول بقوله: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49]، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة إلا أن ابن عباس استثنى، ولفظ قتادة نسخ. [59]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا أبو الحسين بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال: فجعل عدة المطلقة ثلاث حيض، ثم نسخ منها التي لم يدخل بها فقال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فهذه ليس لها عدة، وقد نسخ من الثلاثة قروء، امرأتان، فقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فهذه العجوز التي لا تحيض عدتها ثلاثة أشهر، ونسخ من الثلاثة قروء الحامل فقال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. والقول الثاني: أن أول الآية محكم، وإنما المنسوخ منها قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة: 228] قالوا: فكان الرجل إذا طلق ارتجع، سواء كان الطلاق ثلاثا أو دون ذلك، فنسخ هذا بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230].

ذكر الآية الثلاثين

واعلم: أن القول الصحيح المعتمد عليه أن هذه الآية كلها محكمة، لأن أولها عام في المطلقات، وما ورد في الحامل والآيسة والصغيرة فهو مخصوص من جملة العموم، وليس على سبيل النسخ. وأما الارتجاع فإن الرجعية زوجة، ولهذا قال: وَبُعُولَتُهُنَّ ثم بين الطلاق الذي يجوز منه الرجعة، فقال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة: 229] إلى قوله: فَإِنْ طَلَّقَها يعني الثلاثة: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. ذكر الآية الثلاثين : قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قد زعم قوم: أن هذه الآية نسخت ما كانوا عليه، من أن أحدهم كان يطلق ما شاء. [60]- أخبرنا ابن ناصر، قال: بنا علي بن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد، قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الرجل إذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ الله ذلك، فقال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ الآية. وروي عن سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قال: فنسخ هذا ما كان قبله وجعل الله حد الطلاق ثلاثا. قلت: وهذا يجوز في الكلام يريدون به تغيير تلك الحال وإلا فالتحقيق أن هذا لا يقال فيه ناسخ ولا منسوخ، وإنما هو ابتداء شرع وإبطال لحكم العادة. وزعم آخرون: أن هذه الآية لما اقتضت إباحة الطلاق على الإطلاق من غير تعيين زمان، نزل قوله: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي: من قبل عدّتهنّ وذلك أن تطلّق المرأة في زمان طهرها لتستقبل الاعتداد بالحيض. وهذا قول من لا يفهم الناسخ والمنسوخ وإنما أطلق الطلاق في هذه الآية وبين في الأخرى كيف ينبغي أن يوقع. ثم إن الطلاق واقع، وإن طلقها في زمان الحيض، فعلم أنه تعليم أدب، والصحيح أن الآية محكمة. ذكر الآية الحادية والثلاثين : قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229]. هذه الآية مبينة لحكم الخلع، ولا تكاد تقع الفرقة بين الزوجين إلا بعد فساد

ذكر الآية الثانية والثلاثين

الحال، ولذلك علّق القرآن جوازه مخافة تركهما القيام بالحدود، وهذا أمر ثابت والآية محكمة عند عامة العلماء. [61]- إلا أنه قد أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال قال: ابنا أبو الحسين بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا حماد بن خالد الخياط، قال: بنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل سألته امرأته الخلع؟ فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت له: يقول الله عزّ وجلّ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة: 229] قال: نسخت، قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة النساء: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: 20]. قلت: وهذا قول بعيد من وجهين: الأول: أن المفسرين قالوا في قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ نزلت في الرجل يريد أن يفارق امرأته ويكره أن يصل إليها ما فرض لها من المهر فلا يزال يتبعها بالأذى حتى ترد عليه ما أعطاها لتخلص منه. فنهى الله تعالى عن ذلك، فأما آية الخلع فلا تعلق لها بشيء من ذلك. والثاني: أن قوله: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً إذا كان النشوز من قبله، وأراد استبدال غيرها، وقوله: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ إذا كان النشوز من قبلها فلا وجه للنسخ. وقد ذكر السّدّي في هذه الآية نسخا من وجه آخر فقال: قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً منسوخ بالاستثناء وهو قوله: إِلَّا أَنْ يَخافا. قلت وهذا من أرذل الأقوال، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ وليس بنسخ. ذكر الآية الثانية والثلاثين : قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233]. عامة أهل العلم على أن هذا الكلام محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق بهذه المدة أحكام الرضاع. وذهب قوم من القراء إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا [البقرة: 233] قالوا فنسخ تمام الحولين باتفاقهما على ما دون ذلك وهذا ليس بشيء، لأن الله تعالى قال: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233]، فلما قال: فَإِنْ أَرادا فِصالًا. خيّر بين الإرادتين فلا تعارض.

ذكر الآية الثالثة والثلاثين

وفي الآية موضع آخر: وهو قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة: 233]. اختلفوا في الوارث: فقال بعضهم: هو وارث المولود. وقال بعضهم: هو وارث الوالد. وقال بعضهم: المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر. وقيل: المراد بالوارث الصبي نفسه، عليه لأمه مثل ما كان على أبيه لها من الكسوة والنفقة. وقيل: بل على الوارث أن لا يضار. واعلم: أن قول من قال: الوارث الصبي والنفقة عليه لا ينافي قول من قال: المراد بالوارث وارث الصبي لأن النفقة إنما تجب على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وقال مالك بن أنس: لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة، ولا ذي رحم منه، قال: وقول الله عزّ وجلّ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ منسوخ ولم يبين مالك ما الناسخ. قال أبو جعفر النحاس: ويشبه أن يكون الناسخ عنده أنه لما أوجب الله عزّ وجلّ للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى، ثم نسخ ذلك ورفعه نسخ ذلك أيضا عن الوارث (¬1). ذكر الآية الثالثة والثلاثين : قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240]. قال المفسرون: كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم مكثت زوجته في بيته حولا ينفق عليها من ميراثه، فإذا تم الحول خرجت إلى باب بيتها ومعها بعرة فرمت بها كلبا، وخرجت بذلك من عدتها وكان معنى رميها بالبعرة؛ أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية (¬2). وهي قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه وهذا مجموع قول الجماعة. ¬

_ (¬1) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 68، 69). (¬2) «صفوة الراسخ» (ص 65).

ذكر الآية الرابعة والثلاثين

[62] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال: قال، ابنا أبو الحسن بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال حدّثني أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فكان للمتوفى زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسخها آية الميراث فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج. وقال أحمد: وحدّثنا عبد الصمد، عن همام، عن قتادة مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ فنسختها يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فنسخت ما كان قبلها من أمر النفقة في الحول ونسخت الفريضة الثمن والربع ما كان قبلها من نفقة في الحول (¬2). قال أحمد: وحدّثنا محمد بن جعفر الوركاني، قال: بنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قال: نسختها وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. قال أحمد: وحدّثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قال: كانت المرأة في الجاهلية تعطى سكنى سنة من يوم توفي زوجها فنسختها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. وعن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم قال: هي منسوخة. قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ قال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا من ماله ما لم تخرج من بيته، ثم نسخ ذلك بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. ذكر الآية الرابعة والثلاثين : قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256]. اختلف العلماء هل هذا القدر من الآية محكم أو منسوخ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (233) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 451/ 2390) وغيرهما. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 452/ 2392) من طريق: سعيد بن عامر، عن همام به.

فذهب قوم إلى أنه محكم

فذهب قوم إلى أنه محكم ، ثم اختلفوا في وجه إحكامه على قولين: الأول: أنه من العام المخصوص وأنه خصّ منه أهل الكتاب فإنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وكان السبب في نزول هذه الآية: [63] (¬1) - ما أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا علي بن عاصم، قال: بنا داود بن أبي هند، عن عامر، قال: كانت المرأة في الأنصار إذا كانت لا يعيش لها ولد تدعى المقلاة، فكانت المرأة إذا كانت كذلك نذرت إن هي أعاشت ولدا تصبغه يهوديا، فأدرك الإسلام طوائف من أولاد الأنصار- وهم كذلك- فقالوا إنما صبغناهم يهودا ونحن نرى أن اليهود خير من عباد الأوثان، فأما إذ جاء الله بالإسلام فإنا نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قال أحمد، وحدّثنا حسين، قال: بنا أبو هلال، قال: بنا داود، قال: قال عامر: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ كانت تكون المرأة مقلاة في الجاهلية لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لله عليها؛ إن عاش لها ولد لتسلّمنه في خير دين تعلمه، ولم يكن في الجاهلية دين أفضل من اليهودية فتسلّمه في اليهودية، فلما جاء الله بالإسلام قالوا: يا نبي الله كنا لا نعلم أو لا نرى أن دينا أفضل من اليهودية، فلما جاء الله بالإسلام نرتجعهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لا تكرهوهم ولا ترتجعوهم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (5/ 408/ 5814) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (516). من طريق: داود بن هند به. وأخرجه أبو داود (2682) والنسائي في التفسير من «الكبرى» (6/ 304/ 11048) والطبري في «تفسيره» (5/ 408/ 5813) وابن حبان (1/ 352/ 140) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 76) وفي «معاني القرآن» (1/ 266 - 267) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 493/ 2609) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 83) والبيهقي في «سننه» (9/ 186) والخطابي في «غريب الحديث» (3/ 80 - 81). من طرق؛ عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وصحّحه العلامة الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2333). وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي- عافاه الله من كل سوء- في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص 47): «رجاله رجال الصحيح».

والقول الثاني: أنه منسوخ

قال أحمد: وبنا وكيع، قال: بنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، قال: كان ناس مسترضعون في بني قريظة فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (¬1). [64] (¬2) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا ابن جبرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا ابن كامل قال: بنا محمد بن سعد قال: أخبرني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية. والثاني: أن المراد به ليس الدين ما يدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وينطوي عليه الضمائر، وإنما الدين هو المعتقد بالقلب، وهذا قول أبي بكر بن الأنباري. والقول الثاني: أنه منسوخ ؛ لأن هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ثم نسخت بآية السيف، وهذا قول الضحاك والسّدّي وابن زيد. [65] (¬3) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: بنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود، قال: بنا جعفر بن محمد، قال: بنا عمرو بن طلحة القناد، قال: بنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السّدّي فأسنده إلى من فوقه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في براءة. [66]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسن بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا حمر بن نوح، قال: بنا أبو معاذ قال: بنا أبو مصلح، عن الضحاك لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر بالقتال. قال أبو بكر: وذكر المسيب بن واضح، عن بقية بن الوليد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن سليمان بن موسى قال: هذه الآية منسوخة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ نسختها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 493/ 2611). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 495/ 2617). (¬3) أخرجه الطبري (5/ 410/ 5819) وإسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» وأبو داود في «الناسخ والمنسوخ» كما في «العجاب في بيان الأسباب» للحافظ ابن حجر العسقلاني (1/ 611 - 612).

ذكر الآية الخامسة والثلاثين

ذكر الآية الخامسة والثلاثين : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]. هذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب، وإثبات الشهادة في البيع والدين، واختلف العلماء هل هذا أمر وجوب أم استحباب، فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب (¬1). [67] (¬2) - أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: ابنا أبو محمد الجوهري، قال: ابنا محمد بن المظفر، قال: ابنا علي بن إسماعيل، قال: ابنا أبو حفص عمرو بن علي قال: بنا معمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول: سألت الحسن عن الرجل يبيع ولا يشهد فقال: أليس ما قال الله عزّ وجلّ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283]. قال أبو حفص: وحدّثنا يزيد بن زريع قال: بنا داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: إن شاء أشهد (¬3). [68]- وأخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا أبو طالب بن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن ميمون، قال: بنا موسى بن مسعود، قال: بنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ثم قرأ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. فعلى هذا القول الآية محكمة، وذهب آخرون إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان، وهو مرويّ عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وعطاء وابن سيرين والضحاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد في آخرين. ثم اختلف أرباب هذا القول هل نسخ أم لا؟ فذهب قوم منهم عطاء وإبراهيم إلى أنه لم ينسخ، وذهب آخرون منهم أبو سعيد الخدري والشعبي وابن زيد إلى أنه نسخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. [69]- أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: ابنا أبو محمد الجوهري، قال: ابنا محمد بن المظفر، قال: بنا علي بن إسماعيل بن حماد، قال: ابنا أبو حفص عمرو بن علي قال: بنا محمد بن مروان، قال: بنا عبد الملك بن أبي ¬

_ (¬1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (3/ 402 - 405). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (268). (¬3) أخرجه الطبري (6/ 50/ 6335) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (266).

نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيد، أنه قرأ هذه الآية: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ حتى بلغ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قال: هذه نسخت ما قبلها. [70]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي قال: بنا عفان، قال: بنا عبد الوارث. [71]- وأخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: ابن أحمد بن أحمد، قال: بنا أبو نعيم الحافظ، قال: ابنا أحمد بن إسحاق قال: بنا أبو يحيى الرازي، قال: بنا عبد الرحمن بن عمر قال: بنا عبد الرحمن بن مهدي قال: بنا محمد بن دينار، كلاهما عن يونس، عن الحسن؛ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: 282] قال: نسختها: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. قلت: وهذا ليس بنسخ، لأن الناسخ ينافي المنسوخ ولم يقل هاهنا فلا تكتبوا، ولا تشهدوا، وإنما بين التسهيل في ذلك. ولو كان مثل هذا ناسخا لكان قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة: 6] ناسخا للوضوء بالماء، وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ [النساء: 92] ناسخا قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: 92] والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ وأنه أمر ندب. وقد اشترى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفرس الذي شهد فيه خزيمة بلا إشهاد (¬1). [72] (¬2) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 215 - 216) وأبو داود (3607) والنسائي (7/ 301) من حديث عمارة بن خزيمة بن ثابت، أن عمّه حدّثه- وهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلّى الله عليه وسلّم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمع نداء الأعرابي فقال: «أو ليس قد ابتعته منك»؟ فقال الأعرابي: لا؛ والله ما بعتكه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلى قد ابتعته منك» فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدا. فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم على خزيمة فقال: «بم تشهد»؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. والحديث صحيح، صحّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3073). وانظر أخي القارئ الكريم في هذه القصة كيف كانت سيرة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ناصعة نقية؛ كيف صدّق هذا الصحابي نبيّه وشهد على البيع مع أنه لم يره، ما دفعه إلا أنه متيقّن من صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «بتصديقك يا رسول الله». هكذا كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرضي عنهم وأرضاهم وأرضى من أحبهم ووالاهم، وسخط الله على من تنقّص منهم وأبغضهم وعاداهم، اللهم آمين. (¬2) إسناده صحيح موقوفا.

قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن بشار، قال: بنا محمد، قال: بنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: «ثلاثة يدعون الله فلا ¬

_ وأخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» رقم (6) من طريق: عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة به. والحديث روي مرفوعا: أخرجه الحاكم (2/ 302) والبيهقي في «السنن» (10/ 146) وفي «شعب الإيمان» (6/ 249/ 8041) وابن شاذان في «المشيخة الصغرى» كما في «الصحيحة» (4/ 420). من طريق: أبي المثنى معاذ بن المثنى بن معاذ بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى مرفوعا. ووقع عند الحاكم: «أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري، ثنا أبي، ثنا شعبة به». وقد أشار الطحاوي إلى هذه الرواية في «مشكل الآثار» (3/ 216/ 211). قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى». قال الذهبي في «التلخيص»: «ولم يخرجاه لأن الجمهور رووه عن شعبة موقوفا، ورفعه معاذ بن معاذ عنه». وقال في «المهذب» - أي: تهذيب السنن للبيهقي- كما نقله عنه المناوي في «فيض القدير» (6/ 2848 - ط الباز): «هو مع نكارته إسناده نظيف». وتابع معاذ بن معاذ عليه؛ داود بن إبراهيم الواسطي، عن شعبة به عند أبي نعيم في «مسانيد أبي يحيى فراس الهمداني» (ص 94 رقم: 29). قال الشيخ الألباني: «وداود هذا ثقة كما قال في «الجرح» (1/ 2/ 407)». قلت: داود بن إبراهيم الواسطي «متروك الحديث كان يكذب». أما الذي وثقه أبو حاتم هو داود بن إبراهيم الواسطي، لكنه ليس راوي هذا الخبر؛ إنما هو آخر الذي يروي عن حبيب بن سالم. فاختلط الأمر على الشيخ الألباني- رحمه الله- فظن أن الموثق هو راوي هذا الحديث والصواب أنه «متروك الحديث». وسبب هذا الوهم أن أبا حاتم ترجم للرجلين معا، وقد ذكر أن الأول يروي عن حبيب بن سالم، وهو ثقة. والثاني يروي عن شعبة، وهو متروك الحديث، وهو الراوي هنا. وانظر «الجرح والتعديل» (3/ 407/ 1866). وتابعه أيضا عمرو بن حكام، عن شعبة به. عند الطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 216). وعمرو بن حكام؛ «ليس بالقوي» كما قال أبو زرعة؛ انظر «الجرح والتعديل» (6/ 227 - 228/ 1265). فالحديث مختلف في رفعه على شعبة والصواب فيه أنه موقوف. وقد أعلّه الشيخ المحدث مقبل بن هادي الوادعي- سلّمه الله- فأودعه في كتابه الماتع «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (ص 270 رقم: 293). وأودعه الشيخ الألباني في «الصحيحة» (1805). والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر الآية السادسة والثلاثين

يستجاب لهم ... أحدهم: رجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه». ذكر الآية السادسة والثلاثين : قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284]. أما إبداء ما في النفس فإنه العمل بما أضمره العبد أو نطق به، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، فأما ما يخفيه في نفسه فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين: الأول: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول الأكثرين، ثم اختلفوا هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين: الأول: أنه منسوخ بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] هذا قول علي بن مسعود في آخرين. [73] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد العزيز- يعني ابن أبان- قال: بنا إسرائيل، عن السدّي، عمن سمع عليا رضي الله عنه قال: نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] أحزنتنا وهمتنا فقلنا: يحدّث أحدنا نفسه فيحاسب به، فلم ندر ما يغفر منه وما لم يغفر، فنزلت بعدها فنسختها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. [74]- أخبرنا المبارك بن علي قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريض، قال: ابنا إسحاق البرمكي قال ابنا: محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود قال: بنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، قال: بنا حجاج قال: بنا هشيم، عن سيار أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: نسختها الآية التي تليها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286]. [75] (¬2) - أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا أبو عبد الله الطوسي، قال: ابنا ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف. وأخرجه عبد بن حميد كما في «العجاب» (1/ 652) والترمذي (2990) وضعّف إسناده الألباني في «ضعيف سنن الترمذي» رقم (573). (¬2) أخرجه مسلم (125) وأحمد (2/ 412) وأبو عوانة في «مسنده» (1/ 75 - 76/ 222) وابن حبان (1/ 250 - 251/ 139) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 94) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 573/ 3060). من طرق؛ عن العلاء بن عبد الرحمن به.

علي بن أحمد النيسابوري قال: ابنا عبد القاهر بن ظاهر، قال: ابنا محمد بن عبد الله بن علي قال: ابنا محمد بن إبراهيم اليوشنجي، قال: ابنا أمية بن بسطام، قال: بنا يزيد بن زريع، قال: بنا روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتدّ ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: كلّفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة والصيام والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم» - أراه قال: سمعنا وعصينا- قولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم، فأنزل الله عزّ وجلّ في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: 285] كلها، ونسخها الله تعالى فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية إلى آخرها. [76]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: بنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ نسختها الآية التي بعدها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (¬1). [77] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، قال: بنا علي بن حفص، قال: بنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قال: نسخت هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. قال أحمد: وحدّثنا محمد بن حميد، عن سفيان، عن آدم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ شق ذلك على المسلمين، قال: فنزلت: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فنسختها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (125) وأحمد (1/ 233) والطبري في «تفسيره» (6/ 104/ 6457) وأبو عوانة في «المسند» (1/ 75/ 220). من طريق: آدم بن سليمان به. (¬2) انظر الذي قبله.

[78]- أخبرنا بن ناصر، قال: بنا علي بن أيوب، قال: ابنا علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد بن ثابت، قال: حدّثني علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: نسخت، فقال الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. [79] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: بنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا علي بن سهل بن المغيرة، قال: بنا عفان، قال: بنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسختها الآية التي بعدها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. [80] (¬2) - أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا عاصم بن الحسن، قال: ابنا أبو عمر بن مهدي، قال: بنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال: بنا يعقوب الدورقي، قال: بنا يزيد بن هارون، قال: ابنا سفيان عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه تلا هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع ما صنع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت فنسختها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. [81] (¬3) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن المذهب، قال: ابنا أحمد بن جعفر، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: دخلت على ابن عباس، فقلت: يا ابن عباس كنت عند ابن عمر، فقرأ هذه الآية، فبكى قال: أية آية؟ قلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال ابن عباس: إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غما شديدا، وغاظتهم غيظا شديدا يعني وقالوا: يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا به وبما نعمل به، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا» قالوا: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عوانة في «مسنده» (1/ 75/ 221). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (507) والنحاس في «ناسخه» (ص 82) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 108/ 6462) من طريق: سفيان به. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» كما في «العجاب» (1/ 649).

سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة: 285] إلى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. [82]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد الكاذي، بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي: قال بنا وكيع، قال: بنا سفيان؛ عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، وعن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم، وعن جابر عن مجاهد، قال: ونسخت هذه الآية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها نسخت وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. قال أحمد: وحدّثنا معاوية بن عمرو، قال: بنا زائدة عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، نسخت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ. قال أحمد: وحدّثنا يونس قال: بنا حماد يعني ابن سلمة، عن حميد، عن الحسن وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: نسختها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة قال: نزلت هذه الآية فكبرت عليهم، فأنزل الله تعالى بعدها آية فيها تيسير وعافية وتخفيف لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. [83] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زيادة بن أيوب، قال: بنا هشيم، عن يسار، عن الشعبي قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ كان فيها شدة حتى نزلت الآية التي بعدها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فنسخت ما قبلها. قال أبو بكر: وحدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: بنا الأسود، عن حماد، عن يونس، عن الحسن وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال نسختها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (3/ 1017/ 480) من طريق: هشيم به. وأخرجه ابن أبي حاتم (2/ 578/ 3089) من طريق هشيم، ثنا سيار أبو الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله.

وإلى هذا القول ذهبت عائشة رضي الله عنها، وعلي بن الحسين، وابن سيرين، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد، ومقاتل. والقول الثاني: أنه لم تنسخ، ثم اختلف أرباب هذا القول على ثلاثة أقوال: الأول: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم فيؤاخذ به من يشاء ويغفر لمن يشاء. وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وابن عمر، والحسن واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى. والثاني: أن المؤاخذة به واقعة، ولكن معناها اطلاع العبد على فعله السيّئ. [84] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال: ابنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عزّ وجلّ إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لهم: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يقول: يخبركم به الله. وفي رواية أخرى: وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284]. وقال أبو بكر: وحدّثنا محمد بن أيوب، قال: بنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: بنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هي محكمة لم ينسخها شيء بقوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يقول: يعرّفه يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا فلا يؤاخذه (¬2). والثالث: أن محاسبة العبد به نزول الغم والحزن والعقوبة والأذى به في الدنيا، وهذا قول عائشة رضي الله عنها. والقول الثاني: أنه أمر به خاص في نوع من المخفيات. ثم لأرباب هذا القول فيه قولان: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 572/ 3057) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (512) والطبري في «تفسيره» (6/ 113/ 6481) من طريق: أبي صالح به. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 572/ 3055) من طريق: أحمد بن عبد الرحمن به. ثم أخرجه (2/ 574 - 575/ 3065).

الأول: أنه في الشهادة، والمعنى: إن تبدوا بها الشهود ما في أنفسكم من كتمان الشهادة أو تخفوه. [85] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زياد بن أيوب. وأخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا عاصم بن الحسن، قال: ابنا أبو عمر بن مهدي، قال: ابنا أبو عبد الله المحاملي، قال: بنا يعقوب الدورقي. وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا هشيم، قال: ابنا يزيد بن أبي زيادة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال: نزلت في كتمان الشهادة، وإقامتها. قال أحمد: وحدّثنا يونس، قال: بنا حماد، عن حميد، عن عكرمة، قال: هذه في الشهادة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] وبهذا قال الشعبي. والثاني: أنه الشك واليقين. [86] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي. وأخبرنا المبارك بن علي قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا المؤمل بن هشام قال: بنا إسماعيل بن علية. وأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (6/ 102 - 103/ 6450/ 6454) وأبو عبيد في «ناسخه» (502). من طريق: يزيد بن أبي زياد به. وإسناده ضعيف لأجل يزيد بن أبي زياد. وأخرجه ابن جرير الطبري (6/ 102/ 6449) وابن أبي حاتم (2/ 572/ 3056) وسعيد بن منصور في «سننه» (3/ 1004/ 473 - آل حميد). من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس به. (¬2) أخرجه أبو عبيد (501) والنحاس (ص 82).

ذكر الآية السابعة والثلاثين

قال: بنا ورقاء، كلاهما عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ من الشك واليقين. فعلى هذا الآية محكمة. قال ابن الأنباري: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي. وقال أبو جعفر النحاس (¬1): لا يجوز أن يقع في مثل هذه الآية نسخ؛ لأنها خبر، وإنما التأويل أنه لما أنزل الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد عليهم ووقع في قلوبهم منه شيء عظيم، فنسخ ذلك قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: نسخ ما وقع بقلوبهم، أي: أزاله ورفعه. ذكر الآية السابعة والثلاثين : قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة على قولين: الأول: أنها محكمة وأن الله تعالى إنما يكلف العباد قدر طاقتهم فحسب وهذا مذهب الأكثرين. والثاني [أنها منسوخة]: أنها اقتضت التكليف بمقدار الوسع بحيث لا ينقص منه، فنزل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 285] وذلك ينقص عن مقدار الوسع فنسختها. والقول الأول أصح. ... الباب العاشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة آل عمران ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران: 20] قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى الاقتصار على التبليغ دون القتال، ثم نسخ بآية السيف. ¬

_ (¬1) في «الناسخ والمنسوخ» ص 82.

ذكر الآية الثانية

وقال بعضهم: لما كان صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمانهم مزعجا نفسه في الاجتهاد في ذلك سكن جأشه بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] ونَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ والمعنى: لا تقدر على سوق قلوبهم إلى الصلاح فعلى هذا لا نسخ. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران: 28] قد نسب قوم إلى أن المراد بالآية اتقاء المشركين أن يوقعوا فتنة أو ما يوجب القتل والفرقة ثم نسخ ذلك بآية السيف. وليس هذا بشيء، وإنما المراد من الآية جواز اتقائهم إذا أكرهوا المؤمن على الكفر بالقول الذي لا يعتقده، وهذا الحكم باق غير منسوخ، وهو المراد بقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106]. [87] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال: ابنا ابن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: حدّثني محمد بن سعد العوفي قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً والتقية باللسان: من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية الله؛ فتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره. [88] (¬2) - وأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد؛ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قال: إلا مصانعة في الدين. وقد زعم إسماعيل السّدي، أن قوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ [آل عمران: 28] منسوخة بقوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. ومثل هذا ينبغي تنزيه الكتب عن ذكره فضلا عن رده، فإنه قول من لا يفهم ما يقول! ذكر الآية الثالثة والرابعة والخامسة : قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إلى قوله: يُنْظَرُونَ [آل عمران: 86 - 88] اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآيات على ثلاثة أقوال: الأول: أنها نزلت في الحارث بن سويد؛ كان قد أسلم ثم ارتدّ ولحق ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 629/ 3381). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 630/ 3385).

بقومه، فنزلت فيه هذه الآيات، فحملها إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فرجع وأسلم، قاله مجاهد (¬1). والثاني: أنها نزلت في عشرة آمنوا ثم ارتدّوا، ومنهم طعمة ووحوح والحارث بن سويد، فندم منهم الحارث وعاد إلى الإسلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2). والثالث: أنها نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، ثم كفروا به. رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن. وقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا [آل عمران: 86] استفهام في معنى الجحد، أي: لا يهديهم الله، وفيه طرف من التوبيخ، كما يقول الرجل لعبده: كيف أحسن إلى من لا يطيعني. أي: لست أفعل ذلك. والمعنى: أنه لا يهدي من عاند بعد أن بان له الصواب. وهذا محكم لا وجه لدخول النسخ عليه، وقد زعم قوم منهم السّدّي أن هذه الآيات منسوخات بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [آل عمران: 89]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسدّد كما في «العجاب» (2/ 710) وعبد الرزاق في «مصنفه» (التفسير) (1/ 125) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 573/ 7363) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 114) وابن بشكوال في «الغوامض والمبهمات» (1/ 399/ 364). من طريق: جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد به. وإسناده إلى مجاهد صحيح، لكنه مرسل. وسيأتي مرفوعا من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فالخبر صحيح. (¬2) أخرجه النسائي في «المجتبى» (7/ 107) وفي «الكبرى» كتاب التفسير (6/ 311/ 11065) وأحمد (1/ 247) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 699 - 700/ 3789، 3795) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 572 - 573/ 7360) والحاكم (2/ 142 و 4/ 366) وابن حبان في «صحيحه» (10/ 329/ 4477) والبيهقي في «السنن» (8/ 197) والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 64 و 7/ 37) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 114) وابن بشكوال في «الغوامض والمبهمات» (1/ 398/ 363). من طرق؛ عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رجلا من الأنصار- هو الحارث بن سويد- ارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين، فأنزل الله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إلى آخر الآية. فبعث بها قومه؛ فرجع تائبا، فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منه، وخلّى عنه. وإسناده صحيح؛ صحّحه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» رقم (2218) والعلامة الألباني في «صحيح سنن النسائي» رقم (3792) والعلامة مقبل بن هادي الوادعي- عافاه الله- في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص 54).

ذكر الآية السادسة

[89]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن الحسين، قال: بنا أحمد بن الفضل، قال: بنا أسباط، عن السدي، كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا قال: نزلت في الحارث ثم أسلم فنسخها الله عزّ وجلّ فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا. قلت: وقد بينا فيما تقدم أن الاستثناء ليس بنسخ وإنما هو مبين أن اللفظ الأول لم يرد به العموم وإنما المراد به من عاند ولم يرجع إلى الحق بعد وضوحه، ويؤكد هذا أن الآيات خبر، والنسخ لا يدخل على الأخبار بحال. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97]. قال السّدّي: هذا الكلام تضمّن وجوب الحجّ على جميع الخلق الغني والفقير والقادر والعاجز، ثم نسخ في حق عادم الاستطاعة بقوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]. قلت: وهذا قول قبيح، وإقدام بالرأي الذي لا يستند إلى معرفة اللغة العربية التي نزل بها القرآن على الحكم بنسخ القرآن، وإنما الصحيح ما قاله النحويون كافة في هذه الآية؛ فإنهم قالوا: «من» بدل من «الناس» وهذا بدل البعض، كما يقول: ضربت زيدا برأسه، فيصير تقدير الآية: ولله على من استطاع من الناس الحج أن يحج. ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] اختلف العلماء هل هذا محكم أو منسوخ على قولين: القول الأول: أنه منسوخ [90]- أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: بنا إبراهيم، عن أبيه، عن عكرمة اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال ابن عباس: فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله عزّ وجلّ بعد ذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].

قال عبد الحميد: وابنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: نسختها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. [91] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: أن يطاع فلا يعصى، ثم نسختها قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. [92] (¬2) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا ابن بكير، قال: بنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ اشتدّ على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا عن المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الآية الأولى. وعن ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: نسختها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. قال أبو بكر: وحدّثنا محمد بن الحسين بن أبي حنيف، قال: ابنا أحمد بن المفضل، قال: ابنا أسباط عن السدي قال: أما حَقَّ تُقاتِهِ أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. فلم يطق الناس هذا فنسخها الله عنهم فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإلى هنا ذهب الربيع بن أنس، وابن زيد، ومقاتل بن سليمان. ومن نص هذا القول قال: حَقَّ تُقاتِهِ؛ هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعة واجتناب معصية، قالوا: هذا أمر تعجز الخلائق عنه، فكيف بالواحد منهم؟ فوجب أن تكون منسوخة، وإن تعلق الأمر بالاستطاعة، ويوضح هذا. [93] (¬3) - ما أخبرنا به يحيى بن علي المدبر قال: ابنا أبو الحسين بن المنصور ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (7/ 68/ 7557) من طريق أخرى عن قتادة به. (¬2) إسناده ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 722/ 3911). (¬3) أثر صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 294) وابن أبي حاتم (3/ 772/ 3908) وابن جرير الطبري في «تفسيره»

والقول الثاني: أنها محكمة

قال: ابنا أحمد بن محمد الحرزي، قال: ابنا البغوي، قال: بنا محمد بن بكار، قال: بنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود رضي الله عنه اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. والقول الثاني: أنها محكمة [94] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: لم تنسخ، ولكن حَقَّ تُقاتِهِ: أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وهذا مذهب طاوس، وهو الصحيح؛ لأن التقوى: هو اجتناب ما نهى الله عنه. ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت الطاقة، كما قال عزّ وجلّ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] فالآيتان متوافقتان، والتقدير: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، فقد فهم الأولون من الآية تكليف ما لا يستطاع فحكموا بالنسخ، وقد ردّ عليهم ذلك قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وإنما قوله: حَقَّ تُقاتِهِ كقوله: «حق جهاده» الحق هاهنا بمعنى الحقيقة، ثم إن ¬

_ (7/ 65/ 7536) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (475) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 84 - 85) والطبراني في «المعجم الكبير» (8/ 92/ 8501، 8502). من طريق: زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود موقوفا. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 326): «رواه الطبراني بإسنادين؛ رجال أحدهما رجال الصحيح، والآخر ضعيف». وقال ابن كثير في «تفسيره»: (1/ 505): «إسناده صحيح موقوف». تنبيه: عزا الحافظ ابن كثير الأثر للحاكم، وقال: «كذا رواه الحاكم من حديث مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود مرفوعا». وقال الشيخ أحمد شاكر في «عمدة التفسير» (2/ 14 - 15): «إن الرواية عند الحاكم موقوفة، وكذلك ثبتت في مخطوطة مختصره للذهبي، إلا أن يكون الحاكم رواه في موضع آخر مرفوعا، ولا أظنه». (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 722/ 3910) والطبري في «تفسيره» (7/ 67/ 7552) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (474). والنحاس في «ناسخه» (ص 85) من طريق: أبي صالح به.

ذكر الآية الثامنة

هفوة المذنب لا تنافي أن يكون مكلفا للتحفظ، وإنما شرع الاستغفار والتوبة، بوقوع الهفوات. وقال أبو جعفر النحاس: «معنى قول الأولين نسخت هذه الآية، أي: أنزلت الأخرى بنسختها وهما واحد، وإلا فهذا لا يجوز أن ينسخ، لأن الناسخ هو المخالف للمنسوخ من جميع جهاته الرافع له المزيل حكمه». وقال ابن عقيل: ليست منسوخة، لأن قوله: مَا اسْتَطَعْتُمْ بيان لحق تقاته وأنه تحت الطاقة، فمن سمى بيان القرآن نسخا فقد أخطأ، وهذا في تحقيق الفقهاء يسمى: تفسير مجمل أو بيان مشكل، وذلك أن القوم ظنوا أن ذلك تكليف ما لا يطاق فأزال الله إشكالهم، فلو قال: لا تتقوه حق تقاته كان نسخا، وإنما بيّن أنه لم أراد بحق التقاة؛ ما لي في الطاقة. ذكر الآية الثامنة : قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمران: 111]. قال جمهور المفسرين: معنى الكلام: لن يضروكم ضرا باقيا في جسد أو مال إنما هو شيء يسير سريع الزوال، وتثابون عليه. وهذا لا ينافي الأمر بقتالهم فالآية محكمة على هذا، ويؤكده أنها خبر، والأخبار لا تنسخ. وقال السدي: الإشارة إلى أهل الكتاب، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم، فنسخت بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] والأول أصح. ذكر الآية التاسعة : قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: 145]. جمهور العلماء على أن هذا الكلام محكم واستدلوا عليه بشيئين. الأول: أنه خبر، والخبر لا يدخله النسخ. والثاني: أنهم قالوا: ما أحد إلا وله من الدنيا نصيب مقدر، ولا يفوته ما قسم له، فمن كانت همته ثواب الدنيا أعطاه الله منها ما قدّر له، وذلك هو الذي يشاؤه الله، وهو المراد بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] ولم يقل يؤته منها ما يشاء هو. ويمكن أن يكون المعنى: لمن يريد أن يفتنه أو يعاقبه.

ذكر الآية العاشرة

وذهب السّدّي إلى أنه منسوخ بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [آل عمران: 18] وليس هذا بقول من يفهم الناسخ والمنسوخ، فلا يعول عليه. ذكر الآية العاشرة : قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]. الجمهور على إحكام هذه الآية، لأنها تضمّنت الأمر بالصبر والتقوى، ولا بد للمؤمن من ذلك. وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور هاهنا منسوخ بآية السيف. ... الباب الحادي عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة النساء وهي ست وعشرون ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6]. اتفق العلماء على أن الوصي الغني لا يحل له أن يأكل من مال اليتيم شيئا، وقالوا: معنى قوله: فَلْيَسْتَعْفِفْ أي: بمال نفسه عن مال اليتيم، فإن كان فقيرا فلهم في المراد بأكله بالمعروف أربعة أقوال: القول الأول: أنه الاستقراض منه، روى حارثة بن مضرب قال: سمعت عمر يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ثم قضيت (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا ابن خيثمة، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر به. ذكره عن ابن أبي الدنيا ابن كثير في «تفسيره» (1/ 592). وأخرجه سعيد بن منصور كما في «المصدر السابق» قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: قال لي عمر .. فذكره. وأخرجه ابن سعد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في «سننه» (6/ 4) كما في «فتح القدير» (1/ 688 - 689).

[95]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل قال: ابنا محمد بن سعد قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: يستقرض منه فإذا وجد ميسرة فليقض ما يستقرض، فذلك أكله بالمعروف. [96]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر، قال: ابنا ابن شاذان قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: ابنا آدم قال: ابنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يأكل بالمعروف، يعني: سلفا من مال يتيمه. وهذا القول مذهب عبيدة السلماني، وأبي وائل، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومقاتل (¬1). وقد حكى الطحاوي عن أبي حنيفة مثله. وروى يعقوب بن حيان عن أحمد بن حنبل مثله. القول الثاني: أن الأكل بالمعروف أن يأكل من غير إسراف. [97] (¬2) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن الحسن، قال: ابنا موسى بن مسعود، قال: ابنا الثوري؛ قال: ابنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: ما يسد الجوع ويواري العورة. وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم، ولا يلبس عمامة. وقال الحسن، وعطاء، ومكحول: يأخذ ما يسد الجوع ويواري العورة ولا يقضي إذا وجد. قال عكرمة والسدي: يأكل بأطراف أصابعه، ولا يسرف في الأكل ولا يكتسي منه، وهذا مذهب قتادة. والقول الثالث: أنه يقول: مال اليتيم بمنزلة الميتة يتناول منه عند الضرورة، فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فهو في حل؛ قاله الشعبي. [98]- وأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي وقال: ابنا ¬

_ (¬1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 869). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 870/ 4832).

فصل

عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: ابنا آدم، قال: ابنا ورقاء، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يأكل والي اليتيم من مال اليتيم قوته ويلبس منه ما يستره ويشرب فضل اللبن ويركب فضل الظهر، فإن أيسر قضاه، وإن أعسر كان في حل. فهذه الأقوال الثلاثة تدل على جواز الأخذ عند الحاجة وإن اختلف أربابها في القضاء. القول الرابع: أن الأكل بالمعروف أن يأخذ الولي بقدر أجرته إذا عمل لليتيم عملا. وروى القاسم بن محمد: أن رجلا أتى ابن عباس فقال: ليتيم لي إبل فما لي من إبله؟ قال: إن كنت تلوط حياضها وتهنأ جرباها وتبغي ضالتها وتسعى عليها، فاشرب غير ناهك بحلب ولا ضار بنسل. [99]- أخبرنا عبد الوهاب قال: ابنا أبو طاهر، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: ابنا آدم، قال: ابنا ورقاء، عن ابن نجيح، عن عطاء بن أبي رباح قال: يضع يده مع أيديهم ويأكل معهم بقدر خدمته وقدر عمله. وقد روى أبو طالب وابن منصور عن أحمد بن حنبل مثل هذا. فصل وعلى هذه الأقوال الآية محكمة، وقد ذهب قوم إلى نسخها، فقالوا: كان هذا في أول الأمر ثم نسخت بقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النساء: 29] وقد حكي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما. [100] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: نسخ من ذلك الظلم والاعتداء فنسخها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10]. [101]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا ¬

_ (¬1) أخرجه النحاس في «ناسخه» (ص 89).

ذكر الآية الثانية

أبو بكر بن أبي داود، قال: محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، عن الحسين، عن الحسن بن عطية، عن ابن عباس، رضي الله عنهما في قوله: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ نسختها الآية التي تليها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية. قلت: وهذا مقتضى قول أبي حنيفة، أعني النسخ، لأن المشهور عنه أنه لا يجوز للوصي الأخذ من مال اليتيم عند الحاجة على وجه القرض، وإن أخذ ضمن. وقال قوم: لو أدركته ضرورة جاز له أكل الميتة ولا يأخذ من مال اليتيم شيئا (¬1). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7]. قد زعم بعض من قل عمله وعزب فهمه من المتكلمين في الناسخ والمنسوخ؛ أن هذه الآية نزلت في إثبات نصيب النساء مطلقا من غير تحديد، لأنهم كانوا لا يورثون النساء، ثم نسخ ذلك بآية المواريث. وهذا قول مردود في الغاية، وإنما أثبتت هذه الآية ميراث النساء في الجملة وأثبتت آية المواريث مقداره، ولا وجه للنسخ بحال. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ اختلف العلماء في هذه الآية على قولين: الأول: أنها محكمة فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الناس يزعمون أن هذه الآية نسخت، والله ما نسخت ولكنها مما تهاون الناس به. [102] (¬2) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا يحيى بن آدم، قال: ابنا الأشجعي، عن سفيان، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. قال: وكان ابن عباس إذا ولي رضخ، وإذا كان المال فيه قلة اعتذر إليهم وذلك القول المعروف. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 72). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 874/ 4860).

القول الثاني: أنها منسوخة

قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: ابنا همام قال: ابنا قتادة، قال الأشعري: ليست بمنسوخة. وقال أحمد: وبنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن مطر، عن الحسن قال: والله ما هي بمنسوخة، وإنها الثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحّوا، وكان الناس إذا قسم الميراث حضر الجار والفقير واليتيم والمسكين فيعطونهم من ذلك. قال أحمد: وبنا هشيم، قال: ابنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير. قال: وبنا مغيرة عن إبراهيم قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة. قال أحمد: وبنا يزيد، قال: ابنا سفيان بن حسين، قال: سمعت الحسن ومحمدا، يقولان في هذه الآية: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى هي مثبتة لم تنسخ، وكانت القسمة إذا حضرت حضر هؤلاء فرضخ لهم منها، وأعطوا. قال أحمد: وبنا يحيى بن آدم قال: ابنا الأشجعي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة. قال أحمد: وبنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري أنها محكمة لم تنسخ. وممن ذهب إلى إحكامها عطاء وأبو العالية ويحيى بن يعمر، ثم اختلف من قال بإحكامها في الأمر المذكور فيها. فذهب أكثرهم: إلى أنه على سبيل الاستحباب والندب وهو الصحيح، وذهب بعضهم: إلى أنه على الوجوب (¬1). القول الثاني: أنها منسوخة [103] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فنسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبا مما ترك مما قل منه أو كثر. قال أحمد: وبنا يحيى بن آدم، قال: ابنا الأشجعي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قال: نسختها آية الميراث. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 74). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 875/ 4864).

[104]- أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً [النساء: 8] يعني عند قسمة الميراث، وذلك قبل أن ينزل الفرائض وأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسختها يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11]. [105] (¬1) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، قال: قال سعيد بن المسيب: كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث، فلما جعل الله لأهل الميراث ميراثهم صارت منسوخة. قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: ابنا همام، قال: ابنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، إنها منسوخة، قال: كانت قبل الفرائض، وكان ما ترك من مال أعطي منه الفقراء، والمساكين، واليتامى، وذوي القربى إذا حضروا القسمة، ثم نسخ ذلك بعد، نسخها المواريث فألحق الله لكل ذي حق حقه، فصارت وصية من ماله يوصي بها لذي قرابته، وحيث يشاء. [106]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، قال: حدّثني يحيى بن يمان، عن سفيان عن السدي، عن أبي مالك وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قال: نسختها آية الميراث. قال أبو بكر: وبنا يعقوب بن سفيان قال: ابنا عبد الله بن عثمان قال: ابنا عيسى بن عبيد الكندي، قال: ابنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم أن الضحاك بن مزاحم قال في قوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى قال: نسختها آية الميراث. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 876/ 4865) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (37).

ذكر الآية الرابعة

وقال عكرمة: نسختها آية الفرائض، وممن ذهب إلى هذا القول قتادة، وأبو الشعثاء وأبو صالح وعطاء في رواية (¬1). ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: 9] في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. ثم في معنى الكلام على هذا القول قولان: الأول: أن المعنى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا وليخش الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله فيمن لا يرثه فيفرقه ويترك ورثته، ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لأولاده كما لو كانوا هم الذين يوصون لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والحسن ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: على الضد، وهو أنه نهي لحاضري الموصي عند الموت أن يمنعوه عن الوصية لأقاربه، وأن يأمروه الاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم وسليمان التميمي. القول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، راجع إلى قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا [النساء: 6] فقال تعالى:- يعني أولياء اليتامى- وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فيمن ولوه من اليتامى وليحسنوا إليهم في أنفسهم وأموالهم كما يحبون أن يحسن ولاة أولادهم لو ماتوا هم إليهم، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. والقول الثالث: أنه خطاب للأوصياء بإجراء الوصية على ما رسم الموصي وأن يكون الوجوه التي فيها مرعية بالمحافظة، كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 182]، فأمر بهذه الآية إذا وجد الوصي من الموصي في الوصية جنفا أو ميلا عن الحق فعليه الإصلاح في ذلك، واستعمال قضية الشرع ورفع الحال الواقع في الوصية. ذكره شيخنا علي بن عبيد الله وغيره، وعلى هذا القول تكون الآية منسوخة، وعلى الأقوال قبلها هي محكمة. والنسخ منها بعيد، لأنه إذا أوصى بجور لم يجز أن يجري على ما أوصى. ¬

_ (¬1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 875) و «صفوة الراسخ» (ص 74 - 75).

ذكر الآية الخامسة

ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قد توهم قوم لم يرزقوا فهم التفسير وفقهه أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220] وأثبتوا ذلك في كتب الناسخ والمنسوخ، ورووه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما المنقول عن ابن عباس. [107] (¬1) - ما أخبرنا به المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا عمرو بن علي بن بحر قال: ابنا عمران بن عيينة، قال: ابنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قال: كان يكون في حجر الرجل اليتيم فيعزل طعامه وشرابه، فاشتد ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، فأحل لهم طعامهم. وقال سعيد بن جبير: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً عزلوا أموالهم من أموال اليتامى، وتحرجوا من مخالطتهم فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. وهذا ليس على سبيل النسخ؛ لأنه لا خلاف أن أكل أموال اليتامى ظلما حرام. وقال أبو جعفر النحاس: هذه الآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ، لأنها خبر ووعيد، ونهي عن الظلم والتعدي، ومحال نسخ هذا، فإن صح ما ذكروا عن ابن عباس فتأويله من اللغة: أن هذه الآية على نسخ تلك الآية. وزعم بعضهم أن ناسخ هذه الآية قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وهذا قبيح، لأن الأكل بالمعروف ليس بظلم فلا تنافي بين الآيتين. ذكر الآية السادسة والسابعة : قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وقوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النساء: 15، 16] الآيتان. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 878/ 4879) وأحمد (1/ 325) وأبو داود (2871) والنسائي (6/ 256) والحاكم (2/ 278 - 279، 303، 318) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 72). من طرق؛ عن عطاء بن السائب به. وعطاء بن السائب كان قد اختلط، لكن رواه غير واحد عنه، ثم إن له شواهد يصحّ بها. والأثر حسّنه المحدث الألباني في «صحيح سنن أبي داود» رقم (2495).

أما الآية الأولى؛ فإنها دلّت على أن حدّ الزانية كان أول الإسلام الحبس إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلا، وهو عام في البكر والثيب. والآية الثانية؛ اقتضت أن حدّ الزانيين الأذى. فظهر من الآيتين أن حدّ المرأة كان الحبس والأذى جميعا، وحدّ الرجل كان الأذى فقط، لأن الحبس ورد خاصا في النساء، والأذى ورد عاما في الرجل والمرأة، وإنما خصّ النساء في الآية الأولى بالذكر، لأنهن ينفردن بالحبس دون الرجال، وجمع بينهما في الآية الثانية، لأنهما يشتركان في الأذى، ولا يختلف العلماء في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين؛ أعني الحبس والأذى، وإنما اختلفوا بماذا نسخا؟ فقال قوم: نسخا بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2]. [108] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود قال: ابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا أبو صالح قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قال: كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير، والضرب بالنعال، فنزلت: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وإن كانا محصنين رجما بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. [109]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: ابنا آدم، قال: ابنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فَآذُوهُما يعني سبا، ثم نسختها الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. [110]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الرزاق، قال: ابنا معمر، عن قتادة، فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [النساء: 15] قال: نسختها الحدود. قال أحمد: وبنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 895 - 896/ 4988) والطبري (8/ 74/ 8797 و 8/ 85/ 8822) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (239) والبيهقي في «سننه» (8/ 211) والنحاس في «ناسخه» (ص 94). من طرق؛ عن أبي صالح به.

ذكر الآية الثامنة والتاسعة

قال: كانت هذه الآية قبل الحدود ثم أنزلت وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما قال: كانا يؤذيان بالقول والشتم وتحبس المرأة ثم إن الله تعالى نسخ ذلك فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. قال أحمد: وبنا علي بن حفص، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما قال: نسخته الآية التي في النور بالحد المفروض. قال قوم: نسخ هذان الحكمان بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا؛ الثّيّب بالثّيّب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة» (¬1). قالوا: فنسخت الآية بهذا الحديث، وهؤلاء يجيزون نسخ القرآن بالسنة. وهذا قول مطروح؛ لأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة لكان ينبغي أن يشترط التواتر في ذلك الحديث، فأما أن ينسخ القرآن بأخبار الآحاد فلا يجوز ذلك وهو من أخبار الآحاد. وقال الآخرون: السبيل الذي جعل الله لهن هو الآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قال آخرون: بل السبيل قرآن نزل ثم رفع رسمه وبقي حكمه، وظاهر حديث عبادة يدل على ذلك، لأنه قال: «قد جعل الله لهن سبيلا» فأخبر أن الله تعالى جعل لهن السبيل، والظاهر أنه بوحي لم تستقر تلاوته، وهذا يخرج على قول من لا يرى نسخ القرآن بالسنة، وقد اختلف العلماء بماذا ثبت الرجم على قولين: الأول: أنه نزل به قرآن ثم نسخ لفظه، وانعقد الإجماع على بقاء حكمه. والثاني: أنه ثبت بالسنة. ذكر الآية الثامنة والتاسعة : قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ وقوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 17 - 18] إنما سمى فاعل الذنب جاهلا، لأن فعله مع العلم بسوء مغبته، فأشبه من جهل المغبة والتوبة من قريب ما كان قبل معاينة الملك، فإذا حضر الملك لسوق الروح لم تقبل توبته، لأن الإنسان حينئذ يصير كالمضطر إلى التوبة، فمن تاب قبل ذلك قبلت توبته، أو أسلم عن كفر قبل إسلامه، وهذا أمر ثابت محكم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1690) وغيره، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ذكر الآية العاشرة

وقد زعم بعض من لا فهم له أن هذا الأمر أقر على هذا في حق أرباب المعاصي من المسلمين، ونسخ حكمه في حق الكفار بقوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء: 18]، وهذا ليس بشيء؛ فإن حكم الفريقين واحد. ذكر الآية العاشرة : قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] هذا كلام محكم عند عامة العلماء ومعنى قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي: بعد ما قد سلف في الجاهلية، فإن ذلك معفو عنه. وزعم بعض من قلّ فهمه أن الاستثناء نسخ ما قبله. وهذا تخليط لا حاصل له ولا يجوز أن يلتفت إليه من جهتين: الأول: أن الاستثناء ليس بنسخ. والثاني: أن الاستثناء عائد إلى مضمر تقديره: فإن فعلتم عوقبتم إلا ما قد سلف، فإنكم لا تعاقبون عليه، فلا معنى للنسخ هاهنا. ذكر الآية الحادية عشر : قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] وهذه حكمها حكم التي قبلها. وقد زعم الزاعم هناك: أن هذه كتلك في أن الاستثناء ناسخ لما قبله، وقد بينا رذولة هذا القول. ذكر الآية الثانية عشر : قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24]، وقد ذكر في هذه الآية موضعان منسوخان: الأول: قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ، هذا عند عموم العلماء لفظ عام دله التخصيص بنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها» (¬1). وليس هذا على سبيل النسخ. وقد ذهب قوم لا فقه لهم إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث، وهذا إنما يأتي من عدم فهم الناسخ والمنسوخ والجهل بشرائطه وقلة المعرفة بالفرق بين التخصيص والنسخ. وأما الموضع الثاني: فقوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ [النساء: 24] اختلف العلماء في المراد بهذا الاستمتاع على قولين: الأول: أنه النكاح والأجور المهور، وهذا مذهب ابن عباس ومجاهد والجمهور. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1408) وغيره.

والثاني: أنه المتعة التي كانت في أول الإسلام، كان الرجل ينكح المرأة إلى أجل مسمى، ويشهد شاهدين، فإذا انقضت المدة ليس له عليها سبيل. قاله قوم منهم السدي. اختلفوا هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة. [111]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب. قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: حدّثنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا محمد بن المثنى، قال: ابنا محمد بن جعفر، قال: ابنا شعبة، عن الحكم، قال: سألته عن هذه الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أمنسوخة هي قال: لا. قال الحكم: وقال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر نهى عن المتعة- فذكر شيئا (¬1). وقال آخرون: هي منسوخة، واختلفوا بماذا نسخت على قولين: الأول: بإيجاب العدة. [112] (¬2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا أبو علي بن شاذان قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمد، قال: ابنا هاشم بن مخلد، عن ابن المبارك، عن عثمان بن عطاء، ¬

_ (¬1) وهو قوله: «لولا أن عمر نهى عن المتعة؛ لما زنى إلا شفي»!. وهذا الخبر لم أجده في كتب الحديث المعتبرة، بل لم أجده مسندا بسند صحيح. إنما هو في «فروع الكافي» للكليني (5/ 448 - 449) بإسناده ضعيف. بل هو مخالف للصحيح من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية». وهذا أثر صحيح؛ مروي في كتب السنة والشيعة. رواه من علماء السنة كل من: مالك في «الموطأ» كتاب النكاح، باب نكاح المتعة. والبخاري (4216 و 5115 و 5523 و 6961) ومسلم (1407) وأحمد (1/ 79) والنسائي (7/ 126، 201 - 202) والحميدي في «مسنده» (37) والترمذي (1121) وسعيد بن منصور (848) والبيهقي (7/ 201 - 202) وأبو يعلى (576) والدارمي (2/ 189/ 2197) وابن حبان (10/ 450/ 4143) وابن شاهين في «ناسخ الحديث ومنسوخه» (424) وغيرهم. من طرق؛ عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي به. ومن علماء الشيعة الذين رووه؛ الطوسي في «التهذيب» (2/ 186) وصاحب كتاب «الاستبصار» (3/ 142) والحر العاملي في «وسائل الشيعة» (14/ 441). فبهذا تعلم أيها المسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي حرّم المتعة، وليس عمر كما يدّعيه البعض. وتفصيل هذا وبيانه في مصنّف مستقل عن هذا الموضوع يسّر الله ذلك. (¬2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (140) والنحاس (ص 99). وإسناده ضعيف.

ذكر الآية الثالثة عشر

عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً فنسختها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] أَشْهُرٍ [الطلاق: 4]. والثاني: أنها نسخت بنهي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة، وهذا القول ليس بشيء لوجهين: الأول: أن الآية سيقت لبيان عقدة النكاح بقوله: مُحْصِنِينَ أي: متزوجين، عاقدين النكاح، فكان معنى الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ على وجه النكاح الموصوف فآتوهن مهورهن، وليس في الآية ما يدل على أن المراد نكاح المتعة الذي نهي عنه، ولا حاجة إلى التكلف، وإنما جاز المتعة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم منع منها. والثاني: أنه لو كان ذلك لم يجز نسخه بحديث واحد. ذكر الآية الثالثة عشر : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النساء: 29] هذه الآية عامة في أكل الإنسان مال نفسه، وأكله مال غيره بالباطل. فأما أكله مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله عزّ وجلّ. وأما أكل مال الغير بالباطل، فهو تناوله على الوجه المنهي عنه سواء كان غصبا من مالكه، أو كان برضاه، إلا أنه منهي عنه شرعا، مثل القمار والربا وهذه الآية محكمة والعمل عليها. [113]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا أسود بن عامر، قال: ابنا سفيان، عن ربيع، عن الحسن لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قال: ما نسخها شيء. قال أحمد: وحدّثنا حسين بن محمد، قال: ابنا عبيد الله عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو، أن مسروقا قال في هذه الآية: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قال: إنها لمحكمة ما نسخت. وقد زعم بعض منتحلي التفسير، ومدّعي علم الناسخ والمنسوخ؛ أن هذه الآية لما نزلت تحرّجوا من أن يواكلوا الأعمى والأعرج والمريض، وقالوا: إن الأعمى لا يبصر أطيب الطعام، والأعرج لا يتمكن من المجلس، والمريض لا

ذكر الآية الرابعة عشر

يستوفي الأكل، فأنزل الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61]. فنسخت هذه الآية، وهذا ليس بشيء، ولأنه لا تنافي بين الآيتين، ولا يجوز أكل المال بالباطل بحال، وعلى ما قد زعم هذا القائل قد كان يجوز أكل المال بالباطل. ذكر الآية الرابعة عشر : قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 33] اختلف المفسرون في المراد بهذه المعاقدة على ثلاثة أقوال: الأول: أنها المحالفة التي كانت في الجاهلية، واختلف هؤلاء على ما كانوا يتعاقدون على ثلاثة أقوال: الأول: على أن يتوارثوا. [114] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل فيقول: ترثني وأرثك، فنسختها هذه الآية وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75]. [115]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمد المروزي، قال: ابنا علي بن الحسين عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وقال الحسن: كان الرجل يعاقد الرجل، على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر، فنسختها آية المواريث. والثاني: أنهم يتعاقدون على أن يتناصروا، ويتعاقلوا في الجناية. والثالث: أنهم كانوا يتعاقدون على جميع ذلك. [116]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الرزاق، قال، قال: ابنا معمر، عن قتادة في قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 937/ 5237) وأبو عبيد في «ناسخه» (414).

فصل

قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. فصل وهل أمروا في الشريعة أن يتوارثوا بذلك فيه قولان: الأول: أنهم أمروا أن يتوارثوا بذلك؛ فمنهم من كان يجعل لحليفه السدس من ماله، ومنهم من كان يجعل له سهما غير ذلك، فإن لم يكن له وارث فهو أحق بجميع ماله. [117]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: كان الرجل في الجاهلية يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه الميراث، وبقي تابعه ليس له شيء، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وكان يعطى من ميراثه، فأنزل الله تعالى بعد ذلك، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. قلت: وهذا القول- أعني: نسخ الآية بهذه الآية- قول جمهور العلماء منهم الثوري، والأوزاعي ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: هذا الحكم ليس بمنسوخ، غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فإذا فقد ذوي الأرحام ورثوا، وكانوا أحق به من بيت المال (¬1). والثاني: أنهم لم يؤمروا بالتوارث بذلك، بل أمروا بالتناصر، وهذا حكم باق لم ينسخ، وقد قال عليه السلام: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدّة» (¬2). وأراد بذلك النصرة والعون وأراد بقوله: «لا حلف في الإسلام» أن الإسلام قد استغنى عن ذلك، بما أوجب الله تعالى على المسلمين بعضهم لبعض من التناصر، وهذا قول جماعة منهم سعيد بن جبير، وقد روى عن مجاهد أنهم ينصرونهم ويعقلون عنهم. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 81). (¬2) أخرجه مسلم (2530) وغيره.

[118] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال: ابنا وكيع، قال: ابنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: هم الحلفاء فآتوهم نصيبهم من العقل والمشورة والنصرة، ولا ميراث. والقول الثاني: أن المراد بالمعاقدة، المؤاخاة التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه. [119] (¬2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا هارون بن عبد الله، قال: ابنا أبو أسامة، قال: حدّثني إدريس بن يزيد، قال: ابنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يورثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ [النساء: 33] نسخت، فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة والرفادة. ويوصي لهم وقد ذهب الميراث. وروى أصبغ عن ابن زيد وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: الذين عاقد بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فآتوهم نصيبهم إذا لم يأت ذو رحم يحول بينهم. قال: وهذا لا يكون اليوم إنما كان هذا في نفر آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم انقطع ذلك ولا يكون هذا لأحد إلا للنبي صلّى الله عليه وسلّم. القول الثالث: أنها نزلت في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية فأمروا أن يوصوا لهم عند الموت توصية ورد الميراث إلى الرحم والعصبة. رواه الزهري عن ابن المسيب (¬3). ¬

_ (¬1) أثر صحيح. أخرجه الطبري في «تفسيره» (8/ 270، 279، 280/ 9260، 9278، 9280، 9283، 9284) وعبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 157) وفي «المصنف» (10/ 306/ 19198) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 71/ 260 - الأعظمي) و (4/ 1241/ 626 - آل حميد) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (412) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 102). من طرق؛ عن سفيان به. (¬2) أخرجه البخاري (2292، 4580، 6747) وأبو داود (2922) والنسائي في «الكبرى» في الفرائض (4/ 90/ 6417) وفي «التفسير» (6/ 322/ 11103) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 937/ 5236) والطبري في «تفسيره» (8/ 277/ 9275). (¬3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (8/ 280/ 9288) وأبو عبيد في «ناسخه» (416).

ذكر الآية الخامسة عشر

ذكر الآية الخامسة عشر : قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43]. قال المفسرون: هذه الآية اقتضت إباحة السّكر في غير أوقات الصلاة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ. [120]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمد بن قهزاد، قال: حدّثني علي بن الحسين بن واقد قال: حدّثني أبي، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال: نسختها إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90]. قال أبو بكر: وابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا عبد الله بن صالح، قال: ابنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال: كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون حتى يذهب عنهم السكر، فإذا صلوا الغداة شربوها، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ، فحرّم الله الخمر (¬1). قال أبو بكر: وبنا محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، عن الحسين بن الحسن بن عطية، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال: نسختها الآية التي في المائدة فَاجْتَنِبُوهُ. قال أبو بكر: وابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا عبد الله بن عثمان، قال: ابنا عيسى بن عبيد، قال: ابنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم، أن الضحاك بن مزاحم أخبره في قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال: نسختها إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ. ذكر الآية السادسة عشر : قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: 63]. قال المفسرون: في هذه الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: فعظهم فإن امتنعوا عن الإجابة فأعرض. وهذا كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ ذلك بآية السيف. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (451).

ذكر الآية السابعة عشر

ذكر الآية السابعة عشر : قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64]. قال المفسرون: اختصم يهودي ومنافق، وقيل: بل مؤمن ومنافق، فأراد اليهودي، وقيل: المؤمن، أن تكون الحكومة بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأبى المنافق. فنزل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء: 60] إلى هذه الآية، وكان معنى هذه الآية: ولو أن المنافقين جاءوك فاستغفروا من صنيعهم واستغفر لهم الرسول، وقد زعم بعض منتحلي التفسير: أن هذه الآية نسخت بقوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80]. وهذا قول مرذول، لأنه إنما قيل: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لإصرارهم على النفاق، فأما إذا جاءوا فاستغفروا واستغفر لهم الرسول، فقد ارتفع الإصرار فلا وجه للنسخ. ذكر الآية الثامنة عشر : قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً [النساء: 71] وهذه الآية تتضمن الأمر بأخذ الحذر، والندب إلى أن يكونوا عميا وقت نفيرهم، ذوي أسلحة عند بروزهم إلى عدوهم ولا ينفروا منفردين، لأن الثبات الجماعات المتفرقة. وقد ذهب قوم: إلى أن هذه الآية منسوخة. [121]- أخبرنا ابن ناصر قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا الحسن بن محمد، قال: ابنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج وعمر بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ، وقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] وقال: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ [التوبة: 39] ثم نسخ هذه الآيات، فقال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122]. قلت: وهذه الرواية فيها مغمز، وهذا المذهب لا يعمل عليه، وأحوال المجاهدين تختلف، والأمر في ذلك على حسب ما يراه الإمام، وليس في هذه الآيات شيء منسوخ بل كلها محكمات، وقد ذهب إلى ما قد ذهبت إليه أبو سليمان الدمشقي.

ذكر الآية التاسعة عشر

ذكر الآية التاسعة عشر : قوله تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء: 80]. روى أبو صالح عن بن عباس رضي الله عنهما قال معناه: فما أرسلناك عليهم رقيبا تؤخذ بهم. وقال السدي وابن قتيبة حفيظا أي: محاسبا لهم. وقد ذهب قوم منهم عبد الرحمن بن زيد، إلى أن هذه الآية نزلت في بداية الأمر ثم نسخت بآية السيف. وفيه بعد؛ لأنه إذا كان تفسيرها ما ذكرنا فأي وجه للنسخ. ذكر الآية العشرين : قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء: 81]. قال المفسرون: معنى الكلام: أعرض عن عقوبتهم، ثم نسخ هذا الإعراض عنهم بآية السيف. ذكر الآية الحادية والعشرين : قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84]. قال المفسرون: معناه لا تكلف إلا المجاهدة بنفسك، ولا تلزم فعل غيرك، وهذا محكم. وقد زعم بعض منتحلي التفسير أنه منسوخ بآية السيف فكأنه استشعر أن معنى الكلام لا تكلف أن تقاتل أحدا، وليس كذلك؛ إنما المعنى لا تكلف في الجهاد إلا فعل نفسك. ذكر الآية الثانية والعشرين : قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النساء: 90]. قوله تعالى: يَصِلُونَ يدخلون في عهد بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى: ينتسبون بالعهد أو يصلون إلى قوم جاءوكم، حصرت صدورهم أي: ضاقت عن قتالكم لموضع العهد الذي بينكم وبينهم، فأمر المسلمون في هذه الآية بترك قتال من له معهم عهد أو ميثاق، أو ما يتعلق بعهد، ثم نسخ ذلك بآية السيف، وبما أمروا به من نبذ العهد إلى أربابه في سورة براءة، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة. [122] (¬1) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب قال: ابنا ابن شاذان، قال: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 1027/ 5756) وأبو عبد في «ناسخه» (366) والبيهقي في «سننه» (9/ 11). من طريق: حجاج به.

ذكر الآية الثالثة والعشرين

ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا الحسن بن محمد، قال: ابنا حجاج، قال: قال ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وقال: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] وقال: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة: 8] نسخ هذا: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. [123]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا أحمد بن إسحاق الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. قال: نسخ ذلك في براءة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمر الله نبيه أن يقاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. ذكر الآية الثالثة والعشرين : قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء: 91] والمعنى: أنهم يظهرون الموافقة للفريقين ليأمنوهما، فأمر الله تعالى بالكف عنهم، إذا اعتزلوا وألقوا إلينا السلم، وهو الصلح كما أمر بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق، ثم نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. ذكر الآية الرابعة والعشرين : قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النساء: 92]. جمهور أهل العلم على أن الإشارة بهذا إلى الذي يقتل خطأ فعلى قاتله الدية والكفارة، وهذا قول ابن عباس والشعبي، وقتادة والزهري، وأبي حنيفة، والشافعي، وهو قول أصحابنا، فالآية على هذا محكمة. وقد ذهب بعض مفسري القرآن إلى أن المراد به من كان من المشركين بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم هدنة إلى أجل، ثم نسخ ذلك بقوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وبقوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58]. ذكر الآية الخامسة والعشرين : قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء: 93]. اختلف العلماء هل هذه محكمة أم منسوخة على قولين:

القول الأول: أنها منسوخة

القول الأول: أنها منسوخة ؛ وهو قول جماعة من العلماء قالوا: بأنها حكمت بخلود القاتل في النار، وذلك منسوخ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وقال بعضهم: نسخها قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِلَّا مَنْ تابَ [الفرقان: 68 - 70]. وحكى أبو جعفر النحاس: أن بعض العلماء قال: معنى نسختها آية الفرقان أي: نزلت بنسخها (¬1). والقول الثاني: أنها محكمة ؛ واختلف هؤلاء في طريق إحكامها على قولين: القول الأول: أن قاتل المؤمن مخلّد في النار، وأكّدوا هذا بأنها خبر، والأخبار لا تنسخ. [124] (¬2) - أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: ابنا أبي، قال: ابنا أبو بكر البرقاني قال: ابنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قال: أخبرني البغوي، قال: ابنا علي بن الجعد، قال: ابنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، قال: سمعت سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قال: فرحلت فيها إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد نزلت في آخر ما نزل وما نسخها شيء. وعن شعبة، عن منصور قال: سمعت سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قال: لا توبة له. [125] (¬3) - أخبرنا ابن الحسين، قال: ابنا غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن الحسين، قال: ابنا ابن حذيفة النهدي، قال: ابنا سفيان الثوري، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قال: ليس لقاتل مؤمن توبة، ما نسختها آية منذ نزلت. [126] (¬4) - أخبرنا سعيد بن أحمد، قال: ابنا ابن اليسري، قال: ابنا ¬

_ (¬1) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 106) و «صفوة الراسخ» (ص 82). (¬2) أخرجه علي بن الجعد في «مسنده» (471) عن شعبة به. وأخرجه البخاري (4590) و (4763) ومسلم (3023) وأبو داود (4275) والنسائي (7/ 85) و (8/ 62) وفي «الكبرى» التفسير (6/ 326، 421/ 11115، 11371). (¬3) أخرجه الطبري (9/ 66/ 10195) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (491) وأبو داود (4275). من طريق: عن سفيان به. (¬4) إسناده فيه ضعف، والحديث صحيح. يحيى الجابر؛ هو: ابن عبد الله بن الحارث، قال أحمد: «ليس به بأس»، وضعفه ابن معين

المخلص، قال: ابنا البغوي، قال: ابنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ابنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس الملائي، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس رضي الله عنهما. أنه تلا هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ حتى فرغ منها، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: وأنى له التوبة؛ قد سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «ثكلته أمّه، قاتل المؤمن إذا جاء يوم القيامة واضعا رأسه على إحدى يديه آخذا بالأخرى، القاتل تشخب أوداجه قبل عرش الرحمن عزّ وجلّ فيقول: رب سل هذا فيم قتلني؟» قال: وما نزلت في كتاب الله عزّ وجلّ آية نسختها. [127] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق ابن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال ابنا مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فرحلت إلى ابن أبي عباس رضي الله عنهما فقال: إنها من آخر ما نزل، وما نسخها شيء. قال أحمد: وابنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدّثني القاسم بن ¬

_ وأبو حاتم والنسائي. وقال الحافظ في «التقريب»: «ليّن الحديث». لكن تابعه عمار الدّهني- وهو ثقة-. أخرجه الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2/ 942 - 943/ 2300). من طريق: عمرو بن قيس الملائي، عن يحيى الجابر به. وأخرجه أحمد (1/ 230، 294، 364) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (9/ 356/ 7781) وابن جرير الطبري (9/ 63 - 64/ 10188، 11089) من طرق؛ عن يحيى بن عبد الله الجابر به. وأخرجه الحميدي في «مسنده» (1/ 228/ 488) وسعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1318/ 666). من طريق: عمار الدهني ويحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد به. وأخرجه أحمد (1/ 222) والنسائي (7/ 85) وابن ماجة (2621) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 1036/ 5813) والنحاس في «ناسخه» (ص 106). من طريق: سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني، عن سالم به. وأخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (9/ 65/ 10191) من طريق: عمار بن رزيق، عن عمار الدهني به. والحديث صححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» رقم (2142) والمحدث الألباني في «صحيح سنن ابن ماجة» (2122). (¬1) انظر رقم [124].

أبي بزّة، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لا بن عباس: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا، فتلوت هذه الآية التي في الفرقان إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فقال: هذه الآية مكية نسختها آية مدنية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ (¬1). قال أحمد: وابنا حسين بن محمد، قال: ابنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: سمعت شيخنا يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت، قال: سمعت أباك، قال نزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر قوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان: 68] وقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ (¬2). وقد روي عن ابن عباس ما يدل على أنه قصد التشديد بهذا القول. [128]- فأخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش قال: ابنا إبراهيم بن عمر قال: ابنا محمد بن إسماعيل قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمد بن عبد الملك، قال: ابنا يزيد بن هارون، قال: ابنا أبو مالك، قال: ابنا سعد بن عبيدة، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: لمن قتل المؤمن توبة، فجاءه رجل فسأله، ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: إلا النار، فلما قام قال له جلساؤه: ما هكذا؟ كنت تفتينا أنه لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم؟ قال: إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا، فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. قال أبو بكر بن أبي داود: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن للقاتل توبة. وقد روى سعيد بن ميناء، عن عبد الله بن عمر، قال: سأله رجل؛ قال: إني قتلت رجلا فهل لي من توبة؟ قال: تزود من الماء البارد، فإنك لا تدخلها أبدا. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ضد هذا، فإنه قال: للقاتل تب إلى الله يتب عليك. وروى سعيد بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءه رجل فقال: يا أبا هريرة، ما تقول في قاتل المؤمن، هل له من توبة؟ قال: والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4762) ومسلم (3023) والنسائي (7/ 85 و 8/ 62) وفي «الكبرى» التفسير (6/ 421/ 11370) وأبو عبيد في «ناسخه» (487). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (488) وأبو داود (4272) والنسائي (7/ 85) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 1037/ 5814). وضعفه الألباني في «ضعيف سنن النسائي» (264).

ذكر الآية السادسة والعشرين

والقول الثاني: أنها عامة دخلها التخصيص، بدليل أنه لو قتله كافر ثم أسلم الكافر سقطت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العام المخصص، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قد قتله مستحلا لأجل إيمانه فيستحق التخليد لاستحلاله. [129]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا الحسن بن عطاء، وأحمد بن محمد الحسين، قالا: ابنا خلاد بن يحيى، قال ابنا أنس بن مالك الصير في أبو روية، عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية وعليها أمير، فلما انتهى إلى أهل ماء خرج إليه رجل من أهل الماء فخرج إليه رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن تقر بجميع الطاعة، قال: هذا؟ قال: نعم. فحمل عليه فقتله لا يقتله إلا على الإسلام، فنزلت: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً لا يقتل إلا على إيمانه الآية كلها. قال سعيد بن جبير: نزلت في مقيس بن ضبابة قتل مسلما عمدا وارتد كافرا، وقد ضعف هذا الوجه أبو جعفر النحاس فقال: ومن لفظ عام لا يخص إلا بتوقيف أو دليل قاطع وقد ذهب قوم إلى أنها مخصوصة في حق من لم يتب، بدليل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ والصحيح أن الآيتين محكمتان، فإن كانت التي في النساء أنزلت أولا فإنها محكمة نزلت على حكم الوعيد غير مستوفاة الحكم، ثم بين حكمها في الآية التي في الفرقان، وكثير من المفسرين منهم ابن عباس وأبو مجلز وأبو صالح؛ يقولون: فجزاؤه جهنم إن جازاه. وقد روي لنا مرفوعا، إلا أنه لا يثبت رفعه، والمعنى يستحق الخلود غير أنه لا يقطع له به. وفي هذا الوجه بعد لقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ فأخبر بوقوع عذابه كذلك، وقال أبو عبيد: وإن كانت التي في الفرقان الأولى فقد استغنى بما فيها عن إعادته في سورة النساء فلا وجه للنسخ بحال. ذكر الآية السادسة والعشرين : قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ [النساء: 145]. زعم بعض من قل فهمه أنها نسخت الاستثناء بعدها وهو قوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [النساء: 146] وقد بيّنا في مواضع أن الاستثناء ليس بنسخ.

الباب الثاني عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة المائدة

الباب الثاني عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة المائدة قد زعم قوم أنه ليس في المائدة منسوخ. [130] (¬1) - فأخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال ابنا محمد بن بشار، قال: ابنا عبد الرحمن، قال: ابنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، قال: المائدة ليس فيها منسوخ. قال ابن بشار: وابنا ابن أبي عدي، قال: ابنا ابن عون، قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا. وقد ذهب الأكثرون إلى أن في المائدة منسوخا، ونحن نذكر ذلك. ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ الآية [المائدة: 2]. اختلف المفسرون في هذه الآية، هل هي محكمة أم منسوخة؟ على قولين: القول الأول: أنها محكمة ، ولا يجوز استحلال الشعائر ولا الهدي قبل أوان ذبحه، ثم اختلفوا في القلائد؛ فقال بعضهم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر. وقال آخرون منهم: كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم فقيل لهم لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ولا تصدوا القاصدين إلى البيت. والقول الثاني: أنها منسوخة ، ثم في المنسوخ منها ثلاثة أقوال: الأول: قوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ فإن هذا اقتضى جواز إقرار المشركين على قصدهم البيت، وإظهارهم شعائر الحج ثم نسخ هذا بقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] وبقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي عنهما. [131]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف.

ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، قال: نسخ منها آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وقال: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: 17]. وقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28]. والثاني: أن المنسوخ منها تحريم الشهر الحرام، وتحريم الآمين للبيت إذا كانوا مشركين، وهدي المشركين إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أن جميعها منسوخ. [132] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا أبو صالح، قال: ابنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا ويحرمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تستحلوا قتالا فيه، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يقول: من توجه قبل البيت. ثم أنزل الله، فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [133] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا يزيد، قال: ابنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، قال: نسخت هذه الآية لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. قال أحمد: وابنا عبد الرزاق، قال: ابنا معمر، عن قتادة، لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ قال: هي منسوخة، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد السمر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة شعر ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف. وأخرجه النحاس في «ناسخه» (ص 111). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (247).

ذكر الآية الثانية

فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام، ولا عند البيت الحرام، فنسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (¬1). [134] (¬2) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن الحسن، قال: ابنا أبو حذيفة النهدي، قال: ابنا سفيان الثوري، عن بيان، عن الشعبي، قال: لم ينسخ من المائدة غير آية واحدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وفصل الخطاب في هذا أنه لا يمكن القول بنسخ جميع الآية فإن شعائر الله أعلام متعبداته، ولا يجوز القول بنسخ هذا إلا أن يعني به: لا تستحلوا نقض ما شرع فيه المشركون من ذلك، فعلى هذا يكون منسوخا. وكذلك الهدي والقلائد، وكذلك الآمّون للبيت فإنه لا يجوز صدهم إلا أن يكونوا مشركين، وأما الشهر الحرام فمنسوخ الحكم على ما بينا في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [البقرة: 217]. فأما قوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] فلا وجه لنسخه، وأما قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: 2] فمنسوخ بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وباقي الآية محكم بلا شك. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5]. اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنها اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب على الإطلاق، وإن علمنا أنهم قد أهلوا عليها بغير اسم الله، أو أشركوا معه غيره. وهذا مروي عن الشعبي، وربيعة، والقاسم بن مخيمرة في آخرين، وهؤلاء زعموا أنها ناسخة لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121]. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 182) والنحاس في «ناسخه» (ص 111). (¬2) إسناده صحيح. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 181) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (9/ 475 - 476/ 10966) وأبو عبيد في «ناسخه» (248) والنحاس في «ناسخه» (ص 111) وسعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1437/ 712 - آل حميد). من طرق؛ عن بيان بن بشر به.

قال أبو بكر: وابنا حرمي بن يونس قال: ابنا أبي، يونس بن محمد، قال: ابنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن، قال: قيل له: إنهم يذكرون المسيح على ذبائحهم، قال: قد علم الله ما هم قائلون، وقد أحل ذبائحهم. قال أبو بكر: وابنا زياد بن أيوب، قال: ابنا مروان، قال: ابنا أيوب بن يحيى الكندي، قال: سألت الشعبي عن نصارى نجران فقلت: منهم من يذكروا الله ومنهم من يذكر المسيح، قال: كل، وأطعمني. قال أبو بكر: وابنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، قال: ابنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كلوا وإن ذبح للشيطان. قال أبو بكر: وابنا محمود بن خالد، قال: ابنا الوليد، قال: ابنا ابن جابر، قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: لا بأس بأكل ما ذبحت النصارى لأعياد كنائسها، ولو سمعته يقول: على اسم جرجيس وبولس. [135] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: 3] ما ذبح اليهود والنصارى أحل لكم ذبائحهم على كل حال. قال أبو بكر: وابنا محمد بن بشار، قال: ابنا يحيى، قال: ابنا عبد الملك، عن عطاء، قال: إذا ذبح النصراني باسم المسيح فكل. قال أبو بكر: وابنا عبد الله بن سعيد، قال: ابنا ابن أبي غنيمة، قال: ابنا أبي، عن الحكم، قال: لو ذبح النصراني وسمعته يقول: باسمك اللهم المسيح لأكلت منه، لأن الله قد أحل لنا ذبائحهم، وهو يعلم أنهم يقولون ذلك. والقول الثاني: أن ذلك كان مباحا في أول الأمر، ثم نسخ بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. والقول الثالث: أنه إنما أبيحت ذبيحة أهل الكتاب، لأن الأصل أنهم يذكرون اسم الله عليها فمتى علم قد ذكروا غير اسمه لم يؤكل، وهذا هو الصحيح عندي، وممن قال: إذا سمعت الكتابي يسمّي غير الله فلا تأكل: علي بن أبي طالب، ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف.

ذكر الآية الثالثة

وعبد الله بن عمر، وعائشة، وطاوس والحسن، وعن عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء كهذا القول. وكالقول الأول، فعلى هذا القول الآية محكمة، ولا وجه للنسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6]. اختلف العلماء فيها على قولين: الأول: أن في الكلام إضمارا تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، وابن عباس، والفقهاء. والثاني: أنه على إطلاقه، وأنه يوجب على كل من أراد الصلاة أن يتوضأ سواء كان محدثا أو غير محدث، وهذا مروي عن جماعة منهم علي، وعكرمة، وابن سيرين، ثم اختلفوا: هل هذا الحكم باق أم نسخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه باق، وقال بعضهم: بل هو منسوخ بالسنّة، وهو حديث بريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى يوم الفتح بوضوء واحد، فقال له عمر: صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال: عمدا فعلته يا عمر (¬1). وهذا قول بعيد لما سبق بيانه من أن أخبار الآحاد لا تجوز أن تنسخ القرآن، وإنما يحمل فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا على تبين معنى الآية، وأن المراد: إذا قمتم وأنتم محدثون. وإنما كان يتوضأ لكل صلاة لطلب الفضيلة. وقد حكى أبو جعفر النحاس عن الشافعي أنه قال: لو وكلنا إلى الآية لكان على كل قائم إلى الصلاة الطهارة، فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلوات بطهور واحد بيّنها، فيكون المعنى: إذا قمتم وقد أحدثتم فاغسلوا (¬2). وقد قال بعضهم: يجوز أن يكون ذلك قد نسخ بوحي لم تستقر تلاوته، فإنه قد روى أبو جعفر بن جرير الطبري، بإسناده عن عبد الله بن حنظلة الغسيل رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (277) وأحمد (5/ 350 - 351، 358) وأبو داود (172) والنسائي (1/ 86) والترمذي (61) وابن ماجة (510) وأبو عوانة (647، 648، 649) وابن خزيمة (1/ 10/ 13) وغيرهم، من حديث بريدة رضي الله عنه. (¬2) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 115 - 116).

ذكر الآية الرابعة

ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: 13]. اختلف العلماء هل هذا منسوخ أم محكم؛ على قولين: الأول: أنه منسوخ ؛ قاله الأكثرون، ولهم في ناسخه ثلاثة أقوال: الأول: آية السيف. [136] (¬1) - أخبرنا ابن ناصر قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمد، قال: حدّثت عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران: 159] وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا [التغابن: 14]، ونحو هذا من القرآن نسخ كله بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. والثاني: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29]. [137] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال ابن عبد الرزاق، قال: ابنا معمر، عن قتادة فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قال: نسختها قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والثالث: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الأنفال: 58]. والقول الثاني: أنه محكم ، قال بعض المفسرين: نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد، فغدروا وأرادوا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأظهره الله عليهم، ثم أنزل هذه الآية، ولم تنسخ (¬3). قال ابن جرير: يجوز أن يعفي عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار، فلا يتوجه النسخ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (355) والبيهقي في «سننه» (9/ 11). من طريق: معاوية بن صالح به. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 185). (¬3) انظر «تفسير ابن جرير الطبري» (10/ 134).

ذكر الآية الخامسة

ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة: 33] هذه الآية محكمة عند الفقهاء. واختلفوا هل هذه العقوبة على الترتيب أم على التخيير. فمذهب أحمد بن حنبل في جماعة أنها على الترتيب، وأنهم إذا قتلوا وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا قتلوا وصلبوا وإن أخذوا المال ولم يقتلوا، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يأخذوا المال نفوا. وقال مالك: الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء سواء قتلوا أم لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا. وقد ذهب بعض مفسّري القرآن ممن لا فهم له؛ أن هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها، وقد بينا فساد هذا القول في مواضع. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42]. اختلفوا في هذه الآية على قولين: الأول: أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك، بقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 48]. فلزمه الحكم وزال التخيير، روى هذا المعنى أبو سليمان الدمشقي بأسانيده عن ابن عباس، وعطاء ومجاهد، وعكرمة، والسدي، وقد روى أيضا عن الزهري وعمر بن عبد العزيز. [138] (¬1) - وقد أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا أبو طالب بن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا يحيى بن آدم، عن الأشجعي، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ قال: نسختها فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. [139] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد (244) من طريق: سفيان، عن السّدّي، عن عكرمة، ولم يذكر ابن عباس. وأخرجه النحاس (ص 123) من طريق؛ سفيان به. (¬2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (243).

والقول الثاني: أنها محكمة

عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي قال: ابنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ قال: نسختها فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. قال أحمد: وابنا هشيم قال: ابنا أصحابنا منهم منصور وغيره، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قال: نسخت ما قبلها، قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (¬1). قال أحمد: وابنا وكيع، قال: ابنا سفيان، عن السدي، عن عكرمة، قال: نسخ قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (¬2). قال أحمد: وابنا حسين، عن شيبان، عن قتادة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قال: أمر الله نبيه أن يحكم بينهم بعد ما كان رخص له أن يعرض عنهم إن شاء، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها. وحكى أبو جعفر النحاس عن أبي حنيفة وأصحابه قالوا: إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام فليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم. وقال أصحابه: بل يحكم قال: وقال الشافعي: لا خيار للإمام إذا تحاكموا إليه قال النحاس: وقد ثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة (¬3). والقول الثاني: أنها محكمة وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيّرون، وإذا ترافعوا إليهم إن شاءوا حكموا بينهم، وإن شاءوا أعرضوا عنهم. [140] (¬4) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (2/ 312) والبيهقي (8/ 248 - 249) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/ 1135/ 6388) والطبراني في «الكبير» (10/ رقم: 11054) والنحاس في «ناسخه» ص (123) وأبو عبيد (247). من طريق: سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد به. وأخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (244) من طريق: منصور، عن الحكم به. وصحّح إسناده الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري (10/ 331/ 11988) وأبو عبيد (245). (¬3) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 124). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/ 1136/ 6390) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (10/ 329 - 330، 334/ 11979، 11983، 11997) وعبد الرزاق في «مصنفه» (6/ 63/ 10008 و 8/ 322/ 19240) وسعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1479/ 476 - آل حميد)

ذكر الآية السابعة

بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال: ابنا هشيم، قال: ابنا مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، قالا: إذا ارتفع أهل الكتاب إلى حاكم المسلمين فإن شاء أن يحكم بينهم، وإن شاء أن يعرض عنهم، وإن حكم، حكم بما في كتاب الله. قال أحمد: وابنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم. [141]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي أبي داود، قال: ابنا المثنى بن أحمد، قال: ابنا عمرو بن خالد، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ جعله الله في ذلك على الخيرة إما أن يحكم وإما أن يتركهم فلا يحكم بينهم. قال أبو بكر: وابنا عبد الله بن محمد بن خلاد قال: ابنا يزيد قال: ابنا مبارك، عن الحسن، قال: إذا ارتفع أهل الذمة إلى حاكم من حكام المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء رفعهم إلى حكامهم، فإن حكم بينهم حكم بالعدل، وبما أنزل الله. وهذا مروي عن الزهري. وبه قال: أحمد بن حنبل وهو الصحيح؛ لأنه لا تنافي بين الآيتين من جهة أن أحدهما خيرت بين الحكم وتركه، والأخرى ثبتت كيفية الحكم إذا كان. ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99]. اختلف المفسرون فيها على قولين: الأول: أنها محكمة وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ وليس عليه الهدي. ¬

_ والبيهقي (8/ 246) وأبو عبيد في «ناسخه» (242) والنحاس في «ناسخه» (ص 123). من طرق؛ عن مغيرة بن مقسم، عن الشعبي وإبراهيم به. ومغيرة به مقسم ثقة؛ لكنه مدلّس، وقد عنعنه هنا. تنبيه: وقع في مطبوعة تفسير ابن أبي حاتم بدل «مغيرة»؛ «ضميرة»! فليصحّح.

والثاني أنها منسوخة:

والثاني [أنها منسوخة]: أنها تتضمن الاقتصار على التبليغ دون الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السيف والأول أصح. ذكر الآية الثامنة : قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]. للعلماء فيها قولان: القول الأول: أنها منسوخة: قال أرباب هذا القول هي تتضمن كف الأيدي عن قتال الضالين فنسخت. ولهم في ناسخها قولان: الأول: آية السيف. والثاني: أن آخرها نسخ أولها. قال أبو عبيد القاسم بن سلام (¬1): ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه وموضوع المنسوخ منها إلى قوله: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ والناسخ قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ والهدى هاهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلت: وهذا الكلام إذا حقق لم يثبت. القول الثاني: أنها محكمة ، قال الزجاج: معناها إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم. قال: وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضال وليس بمهتد. قلت: وهذا القول هو الصحيح وأنها محكمة ويدل على إحكامها أربعة أشياء: الأول: أن قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يقتضي إغراء الإنسان بمصالح نفسه، ويتضمن الإخبار بأنه لا يعاقب بضلال غيره، وليس مقتضى ذلك أن لا ينكر على غيره، وإنما غاية الأمر أن يكون ذلك مسكوتا عنه فيقف على الدليل. والثاني: أن الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف، لأن قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أمر بإصلاحها وأداء ما عليها، وقد ثبت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار من جملة ما على الإنسان في نفسه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقد دل على ما قلنا قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنما يكون الإنسان مهتديا إذا امتثل أمر الشرع، ومما أمر الشرع به الأمر بالمعروف. ¬

_ (¬1) في «ناسخه» ص 286.

وقد روي عن ابن مسعود والحسن وأبي العالية: أنهم قالوا في هذه الآية: قولوا ما قبل منكم فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم. [142] (¬1) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن المذهب، قال: ابنا أحمد بن جعفر، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال حدّثني أبي. قال: ابنا هاشم بن القاسم، قال: ابنا زهير يعني: ابن معاوية، قال: ابنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: ابنا قيس قال: قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى آخر الآية، وأنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيّرونه أوشك الله عزّ وجلّ أن يعمّهم بعقابه». والثالث: أن الآية قد حملها قوم على أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، فحينئذ لا يلزمون بغيرها. فروى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى حجر، وعليهم منذر بن ساوي يدعوهم إلى الإسلام؛ فإن أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب، واليهود والنصارى والمجوس، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية» فلما قرءوا الكتاب أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية. فقال المنافقون: عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هجر، وأهل ¬

_ (¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 2، 5، 7، 9) وأبو داود (4338) والنسائي في «الكبرى» (6/ 338 - 339/ 11157) والترمذي (2168، 3057) وابن ماجة (4005) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/ 1226/ 6919) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (11/ 149/ 12873) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (15/ 174 - 175/ 19429) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (1) وابن حبان في «صحيحه» (1/ رقم: 304، 305) وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 118 - 120/ 128 - 132) والبزار في «مسنده» (1/ 135، 137/ 65، 68) وسعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1636/ 840) والحميدي في «مسنده» (1/ 3، 4/ 3) وأبو بكر المروزي في «مسند أبي بكر» (87، 88) والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 62 - 64) والبيهقي في «سننه» (10/ 91) وفي «شعب الإيمان» (6/ 82/ 7550) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/ 187/ 123) والبغوي في «شرح السنة» (14/ 344/ 4153) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/ 93، 94/ 63، 64) والطبراني في «مكارم الأخلاق» (79) والخطابي في «العزلة» رقم (58) وغيرهم. من طرق؛ عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس به.

ذكر الآية التاسعة

الكتاب، الجزية، فهلا أكرههم على الإسلام وقد ردها على إخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية (¬1). والرابع: أنه لما عابهم في تقليد آبائهم بالآية المتقدمة أعلمهم بهذه الآية أن المكلف إنما يلزمه حكم نفسه، وأنه لا يضره ضلال من ضل إذا كان مهتديا، حتى يعلموا أنه لا يلزمهم من ضلال آبائهم شيء من الذم والعقاب. وإذا تلمحت هذه المناسبة بين الآيتين لم يكن الأمر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هاهنا مدخل، وهذا أحسن الوجوه في الآية. ذكر الآية التاسعة : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: 106] الإشارة بهذا إلى الشاهدين الذين يشهدان على الموصي في السفر. والناس في قوله: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ قائلان: الأول: من أهل دينكم وملتكم. [143]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: حدّثني محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: من أهل الإسلام. وهذا قول ابن مسعود وشريح، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وأبي مخلد، ويحيى بن يعمر، والثوري، وهو قول أصحابنا (¬2). والثاني: أن معنى قوله: مِنْكُمْ أي: من عشيرتكم، وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا؛ قاله الحسن، وعكرمة والزهري والسدي، وعن عبيدة كالقولين. فأما قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فقال ابن عباس: ليست «أو» للتخيير، إنما المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم. في قوله: من غيركم قولان: الأول: من غير ملّتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول. والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا، قال أرباب القول ¬

_ (¬1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» (ص 212) عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (¬2) انظر «صفوة الراسخ» (ص 94).

الباب الثالث عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الأنعام

الثاني: والقائل بأن المراد شهادة المسلمين من القبيلة أو من غير القبيلة لا يشك في إحكام هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر فلهم فيها قولان: الأول: أنها محكمة والعمل على هذا عندهم باق. وهو قول ابن عباس وابن المسيب وابن جبير، وابن سيرين، وقتادة والشعبي والثوري وأحمد بن حنبل. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وهو قول زيد بن أسلم وإليه يميل أبو حنيفة ومالك والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة فجاز كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض، والنفاس، والاستهلال. ... الباب الثالث عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الأنعام ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15]. زعم بعض ناقلي التفسير أنه كان يجب على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2]. قلت: فالظاهر من هذه المعاصي أن المراد بها الشرك؛ لأنها جاءت في عقيب قوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] فإذا قدرنا العفو عن ذنب- إذا كان- لم تقدر المسامحة في شرك- لو تصور- إلا أنه لما لم يجز في حقه، بقي ذكره على سبيل التهديد والتخويف من عاقبته كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 66] فعلى هذا الآية محكمة، يؤكده أنها خبر، والأخبار لا تنسخ (¬1). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 66]. للمفسرين فيه قولان: الأول [أنها منسوخة]: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة ثم نسخ بآية ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق (ص 95 - 96).

والثاني أنها محكمة:

السيف وهذا المعنى في رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني [أنها محكمة]: أن معناه: لست حفيظا عليكم إنما أطلبكم بالظواهر من الإقرار والعمل، لا بالأسرار، فعلى هذا هو محكم، وهذا هو الصحيح يؤكد أنه خبر، والأخبار لا تنسخ. وهذا اختيار جماعة منهم أبو جعفر النحاس (¬1). ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: 68] المراد بهذا الخوض: الخوض بالتكذيب، ويشبه أن يكون الإعراض المذكور هاهنا منسوخا بآية السيف. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 69] أي من كفر الخائفين وإثمهم، وقد زعم قوم منهم سعيد بن جبير: أن هذه الآية منسوخة بقوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء: 140]. [144]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن السدي، عن سعيد بن جبير وأبي مالك في قوله: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قالا: نسخها: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها الآية. قلت: ولو قال: هؤلاء إنها منسوخة بآية السيف كان أصلح، وكان معناها عندهم إباحة مجالستهم وترك الاعتراض عليهم. والصحيح أنها محكمة؛ لأنها خبر، وقد بينا أن المعنى: ما عليكم شيء من آثامهم إنما يلزمكم إنذارهم. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً [الأنعام: 70] للمفسرين فيه قولان: الأول: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب قتادة والسدي. ¬

_ (¬1) في «ناسخه» (ص 131).

ذكر الآية السادسة

[145]- (¬1) أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمد، قال: ابنا عبد الله بن رجاء، عن همام، عن قتادة وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ثم أنزل الله في براءة، وأمرهم بقتالهم. والثاني: أنه خرج مخرج التهديد: كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] فعلى هذا هو محكم، وهذا مذهب مجاهد، وهو الصحيح. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] فيه قولان: الأول: أنه أمر به بالإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف. والثاني: أنه تهديد، فهو محكم، وهذا أصح. ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الأنعام: 104] فيه قولان: الأول: أن هذه الآية تتضمن ترك قتال الكفار ثم نسخت بآية السيف. والثاني: أن المعنى لست رقيبا عليكم أحصي أعمالكم فهي على هذا محكمة. ذكر الآية الثامنة : قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 106]. روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذا ونحوه مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين فإنه نسخ بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. ذكر الآية التاسعة : قوله تعالى: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسخ بآية السيف. وعلى ما ذكرنا في نظائرها تكون محكمة. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 212) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/ 1317/ 7448) والنحاس في «ناسخه» (ص 132).

ذكر الآية العاشرة

ذكر الآية العاشرة : قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]. قال المفسرون: هذه نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف؛ لأنها تضمنت الأمر بقتلهم، والقتل أشنع من السب. ولا أرى هذه الآية منسوخة، بل يكره للإنسان أن يتعرض بما يوجب ذكر معبوده بسوء أو بنبيه صلّى الله عليه وسلّم. ذكر الآية الحادية عشر : قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112] إن قلنا إن هذا تهديد كما سبق في الآية السادسة فهو محكم، وإن قلنا إنه أمر بترك قتالهم فهو منسوخ بآية السيف. ذكر الآية الثانية عشر : قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121]. قد روى عن جماعة منهم الحسن، وعكرمة، أنهم قالوا: نسخت بقوله: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] وهذا غلط؛ لأنهم إن أرادوا النسخ حقيقة وليس هذا بنسخ، وإن أرادوا التخصيص وأنه خص بآية المائدة طعام أهل الكتاب فليس هذا بصحيح؛ لأن أهل الكتاب يذكرون الله على الذبيحة فيحمل أمرهم على ذلك، فإن تيقنا أنهم تركوا ذكره جاز أن يكون عن نسيان، والنسيان لا يمنع الحل، فإن تركوا لا عن نسيان، لم يجز الأكل فلا وجه للنسخ أصلا. ومن قال من المفسرين إن المراد بها لم يذكر اسم الله على البتة فقد خص عاما، والقول بالعموم أصح وعلى قول الشافعي هذه الآية محكمة، لأنه إما أن يراد بها عنده الميتة أو يكون نهى كراهة. ذكر الآية الثالثة عشر : قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 135] للمفسرين فيها قولان: الأول: أن المراد بها ترك قتال الكفار، فهي منسوخة بآية السيف. والثاني: أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة وهذا هو الأصح. ذكر الآية الرابعة عشر : قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ [الأنعام: 137] فيه قولان: الأول: أنه اقتضى ترك قتال المشركين، فهو منسوخ بآية السيف. والثاني: أنه تهديد ووعيد فهو محكم.

ذكر الآية الخامسة عشر

ذكر الآية الخامسة عشر : قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: 141] اختلف العلماء في المراد بهذا الحق على قولين: الأول: أنه الزكاة. [146] (¬1) - أخبرنا محمّد بن عبد الباقي البزاز، قال: ابنا أبو محمّد الجوهري، قال: ابنا محمّد المظفر، قال: ابنا علي بن إسماعيل بن حماد، قال: ابنا أبو حفص عمرو بن علي، قال: ابنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ابنا يزيد بن درهم قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: الزكاة المفروضة. قال أبو حفص: وابنا معلى بن أسد، قال: ابنا عبد الواحد بن زياد، قال: ابنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: العشر ونصف العشر. قال أبو حفص: وابنا عبد الرحمن، قال: ابنا إبراهيم بن نافع، عن ابن طاوس عن أبيه، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال الزكاة. قال أبو حفص: وابنا عبد الرحمن، قال: ابنا أبو هلال، عن خباب الأعرج، عن جابر بن زيد وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال الزكاة. قال أبو حفص: وابنا محمّد بن جعفر، قال: ابنا شعبة، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن عن قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال الزكاة. وهذا قول سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وابن الحنفية، وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم في آخرين، فعلى هذا الآية محكمة وينبغي على قول هؤلاء أن تكون هذه الآية مدنية لأن السورة مكية، والزكاة إنما أنزلت بالمدينة (¬2). والثاني: أنه حق غير الزكاة أمر به يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع، والتمر. [147] (¬3) - أخبرنا محمّد بن أبي طاهر قال: ابنا الجوهري، قال: ابنا الظفر، قال: ابنا علي بن إسماعيل، قال: ابنا أبو حفص، قال: ابنا يحيى بن سعيد، قال: ابنا عبد الملك، عن عطاء وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: القبضة من الطعام. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1398/ 7953) والنحاس (ص 133). (¬2) انظر «صفوة الراسخ» (ص 100 - 101). (¬3) نحوه عند ابن أبي حاتم (5/ 1397/ 7950).

ذكر الآية السادسة عشر

وقال: يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، وَآتُوا حَقَّهُ قال: شيء سوى الزكاة في الحصاد والجذاذ إذا حصدوا وإذا جذوا (¬1). وقال أبو حفص: وبنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: إذا حصدوا ألقى إليهم من السنبل، وإذا جذوا النخل ألقى لهم من الشماريخ، فإذا كاله زكّاه (¬2). قال أبو حفص: وبنا معمر بن سليمان، قال: بنا عاصم، عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ قال: كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة. [148]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثنا أبي قال: بنا هشيم، قال: ابنا مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، قال: كانوا يعطون حتى نسختها، الصدقة العشر أو نصف العشر. [149] (¬3) - أخبرنا المبارك بن علي، قال ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود قال: ابنا عبد الله بن سعيد، قال: ابنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: كانوا إذا حصدوا، وإذا يبس، وإذا غربل، أعطوا منه شيئا، فنسخ ذلك العشر ونصف العشر. قال أبو بكر: وبنا محمّد بن بشار قال: بنا يزيد، قال: ابنا عبد الملك، عن عطاء وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: ليس بالزكاة، ولكنه إذا كيل قبض منه قبضات من شهد رضخ له منه. واختلف العلماء، هل نسخ أم لا؟ إن قلنا أنه أمر وجوب فهو منسوخ بالزكاة، وإن قلنا إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم. ذكر الآية السادسة عشر : قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام: 145] اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين: الأول: أن المعنى لا أجد محرما مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا، قاله طاوس ومجاهد. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1398/ 7951). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (40) والطبري (12/ 164/ 13995). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1398/ 7954).

ذكر الآية السابعة عشر

والثاني: أنها حصرت المحرم، فليس في الحيوانات محرم إلا ما ذكر فيها. ثم اختلف أرباب هذا القول؛ فذهب بعضهم إلى أنها محكمة، وأن العمل على ما ذكر فيها، فكان ابن عباس لا يرى بلحوم الحمر الأهلية بأسا، ويقرأ هذه الآية ويقول: ليس بشيء حراما إلا ما حرمه الله في كتابه، وهذا مذهب عائشة، والشعبي. وذهب آخرون إلى أنها نسخت بما ذكر في المائدة من المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وقد رد قوم هذا القول، بأن قالوا: كل هذا داخل في الميتة، وقد ذكرت الميتة هاهنا فلا وجه للنسخ. وزعم قوم: أنها نسخت بآية المائدة، وبالسنة من تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وهذا ليس بصحيح، أما آية المائدة فقد ذكرنا أنها داخلة في هذه الآية. وأما ما ورد في السنة فلا يجوز أن يكون ناسخا، لأن مرتبة القرآن لا يقاومها أخبار الآحاد ولو قيل: إن السنة خصت ذلك الإطلاق أو ابتدأت حكما، كان أصلح، وإنما الصواب عندنا أن يقال: هذه الآية نزلت بمكة، ولم تكن الفرائض قد تكاملت ولا المحرمات اليوم قد تتامت، ولهذا قال: فِي ما أُوحِيَ على لفظ الماضي وقد كان حينئذ من قال: لا إله إلا الله ثم مات، دخل الجنة، فلما جاءت الفرائض والحدود، وقعت المطالبة بها، فكذلك هذه الآية إنما أخبرت بما كان في الشرع من التحريم يومئذ، فلا ناسخ إذن ولا منسوخ. ثم كيف يدعى نسخها وهي خبر، والخبر لا يدخله النسخ (¬1). ذكر الآية السابعة عشر : قوله تعالى: انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الأنعام: 158] للمفسرين فيها قولان: الأول: أنها اقتضت الأمر بالكف عن قتالهم، وذلك منسوخ بآية السيف. والثاني: أن المراد بها التهديد، فهي محكمة وهو الصحيح. ذكر الآية الثامنة عشر : قوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] للمفسرين في معناه ثلاثة أقوال: الأول: لست من قتالهم في شيء، ثم نسخ بآية السيف، قاله السدي. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 102 - 103).

الباب الرابع عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الأعراف

والثاني: ليس إليك شيء من أمرهم، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنت بريء منهم، وهم منك برآء، إنما أمرهم إلى الله سبحانه في الجزاء فعلى هذين القولين الآية محكمة. ... الباب الرابع عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الأعراف ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 180]. قال ابن زيد: نسخها الأمر بالقتال، وقال غيره هذا تهديد لهم وهذا لا ينسخ. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183]. قال المفسرون: المراد بكيده مجازاة أهل الكيد والمكر، وهذه خبر؛ فهي محكمة. وقد ذهب من قل علمه من منتحلي التفسير إلى أن معنى الآية الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بمشاركتهم، قال: ونسخ معناها بآية السيف، وهذا قول لا يلتفت إليه. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] العفو الميسور وفي الذي أمر بأخذ العفو ثلاثة أقوال: القول الأول: أخلاق الناس، قاله ابن عمرو، وابن الزبير والحسن ومجاهد، فعلى هذا يكون المعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء، فعلى هذا هو محكم. والقول الثاني: أنه المال، ثم فيه قولان: الأول: أن المراد بعفو المال الزكاة، قاله مجاهد في رواية الضحاك. والثاني: أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نسخت بالزكاة، روي

الباب الخامس عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الأنفال

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال القاسم وسالم: العفو شيء في المال سوى الزكاة، وهو فضل المال ما كان عن ظهر غنى. والقول الثالث: أن المراد به مساهلة المشركين والعفو عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن زيد وقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فيهم قولان: الأول: أنهم المشركون أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أنه عام فيمن جهل أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وأن واجب الإنكار عليهم، وعلى هذا تكون الآية محكمة، وهو الصحيح (¬1). ... الباب الخامس عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الأنفال ذكر الآية الأولى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1]. اختلف العلماء في هذه الآية، فقال بعضهم: هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه، وذلك أن الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدمين، فنسخ الله ذلك بهذه الآية وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41]. [150] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: ابنا وكيع، قال: بنا إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد ¬

_ (¬1) انظر «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» لمكي (ص 291 - 292) و «صفوة الراسخ» (ص 104 - 105) و «الجامع لأحكام القرآن» (7/ 346) و «جمال القراء وكمال الإقراء» للسخاوي (2/ 707 - 708) و «زاد المسير» للمصنف (3/ 307). (¬2) أخرجه النحاس (ص 143) من طريق: وكيع به. وأخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (399) من طريق: ابن جريج، عن مجاهد. وابن جريج مدلس؛ وقد دلّس هنا فأسقط منه سليم مولى أبي علي. وهو على الجادة عند النحاس (ص 143) فأخرجه من طريق: ابن جريج، قال: أخبرني سليم مولى أبي علي، عن مجاهد.

ذكر الآية الثانية

وعكرمة، قالا: كانت الأنفال لله فنسخها وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. هذا قول السدي. وقال آخرون المراد بالأنفال شيئان: الأول: ما يجعله النبي صلّى الله عليه وسلّم لطائفة من شجعان العسكر ومقدميه، يستخرج به نصحهم ويحرضهم على القتال. والثاني: ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سرية فغنمنا إبلا، فأصاب كل واحد اثني عشر بعيرا، ونفلنا بعيرا بعيرا (¬1). فعلى هذا هي محكمة، لأن هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا، والعجب ممن يدّعي أنها منسوخة فإن عامة ما تضمنت أن الأنفال لله والرسول، والمعنى: أنهما يحكمان فيها وقد وقع الحكم فيها بما تضمنته آية الخمس، وإن أريد أن الأمر بنفل الجيش ما أراد، فهذا حكم باق، فلا يتوجه النسخ بحال، ولا يجوز أن يقال عن آية إنها منسوخة إلا أن يرفع حكمها وحكم هذه ما رفع فكيف يدعي النسخ؟ وقد ذهب إلى نحو ما ذكرته أبو جعفر ابن جرير الطبري. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ [الأنفال: 15 - 16]. وقد ذهب قوم، منهم ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، والحسن وابن جبير، وقتادة والضحاك إلى أنها في أهل بدر خاصة. [151] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: بنا محمّد بن جعفر، قال: بنا شعبة، عن داود، قال: سمعت الشعبي، يحدث عن أبي سعيد الخدري: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: نزلت في يوم بدر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (3134، 4338) ومسلم (7149). (¬2) أخرجه أبو داود (2648) والنسائي في التفسير من «الكبرى» (6/ 350/ 11203) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (5/ 1670/ 8891) والحاكم (2/ 327) والنحاس في «ناسخه» (ص 146). من طرق؛ عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري. وإسناده صحيح. كما قال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2306).

ذكر الآية الثالثة

قال أحمد: وبنا روح، قال: بنا حبيب بن الشهيد، عن الحسن: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: نزلت في أهل بدر. قال أحمد: وبنا روح، قال: بنا شعبة، عن الحسن، قال: إنما شدد على أهل بدر. قال أحمد: وبنا حسين، قال: بنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال: يوم بدر. قلت: لفظ الآية عام، وإن كانت نزلت في قوم بأعيانهم، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أنها عامة. ثم لهؤلاء فيه قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66]. فليس للمؤمنين أن يفروا عن مثليهم. قال آخرون: هي محكمة، وهذا هو الصحيح، لأنها محكمة في النهي عن الفرار، فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير (¬1). ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33]. [152] (¬2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمّد، قال: بنا علي بن الحسين. عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ نسختها الآية التي بعدها وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الأنفال: 34]. وقد روى مثله عن الحسن وعكرمة، وهذا القول ليس بصحيح؛ لأن النسخ لا يدخل على الأخبار، وهذه الآية بينت أن كون الرسول فيهم منع نزول العذاب بهم، وكون المؤمنين يستغفرون بينهم منع أيضا، والآية التي تليها بينت استحقاقهم العذاب لصدهم عن سبيل الله، غير أن كون الرسول والمؤمنين بينهم منع من تعجيل ذلك، أو عمومه، فالعجيب من مدّعي النسخ. ¬

_ (¬1) انظر «تفسيره» (14/ 42) و «صفوة الراسخ» (ص 106 - 107) و «الإيضاح» (ص 295 - 297) و «جمال القراء» (2/ 712). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1693/ 9030).

ذكر الآية الرابعة

ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61]. اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية على قولين: الأول: أنهم المشركون، وأنها نسخت بآية السيف، وبعضهم يقول: بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة في آخرين. [153] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا حجاج عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فنسختها قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. [154]- وأخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمّد، قال: ابنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها نسختها قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. قال أحمد بن محمد: وابنا موسى بن مسعود، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. والثاني: أنهم أهل الكتاب. وقال مجاهد: بنو قريظة. [155]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر قال: ابنا شاذان قال: ابنا عبد الرحيم قال: ابنا إبراهيم قال: ابنا آدم قال: ابنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها يعني: قريظة. فعلى هذا القول إن قلنا إنها نزلت في ترك حرب أهل الكتاب إذا بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة فهي محكمة، وإن قيل: نزلت في موادعتهم على غير ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «سننه» (9/ 11) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (361). من طريق: حجاج به. وإسناده ضعيف؛ لكن له شواهد يصحّ بها، والله أعلم.

ذكر الآية الخامسة

جزية توجه النسخ لها بآية الجزية وهي قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (¬1). ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65]. قال المفسرون: لفظ هذا الكلام لفظ الخبر، ومعناه الأمر والمراد: يقاتلوا مائتين، وكان هذا فرضا في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: 66] ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين فإن زاد جاز له الفرار. [156] (¬2) - أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: ابنا أبو بكر البرقاني، قال: ابنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قال: أخبرني الحسن، قال: ابنا حيان، قال: ابنا عبد الله، قال: ابنا جرير بن حازم، قال: سمعت الزبير بن الخريت، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزّ وجلّ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ قال: فرض عليهم أن لا يفر رجل من عشرة ولا قوم من عشرة أمثالهم، قال: فجهد الناس ذلك وشق عليهم فنزلت الآية الأخرى الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ [الأنفال: 66]، فرض عليهم أن لا يفرّ رجل من رجلين، ولا قوم من مثليهم، ونقص من الصبر بقدر ما خفّف من العدد. [157] (¬3) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فنسختها الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. [158]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 107) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 149) و «الإيضاح» (ص 300) و «الناسخ والمنسوخ» لعبد القاهر البغدادي (ص 66 - 67) و «جمال القراء» (2/ 714 - 715) و «الجامع لأحكام القرآن» (8/ 39 - 40). (¬2) أخرجه البخاري (4653) وأبو داود (2646) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (5/ 1729/ 9141) والبيهقي في «سننه» (9/ 76) وابن المبارك في «الجهاد» (237) وأبو بكر الدينوري في «المجالسة» (6/ 190 - 191/ 2537) والنحاس في «ناسخه» ص 149. من طريق: جرير به. (¬3) إسناده ضعيف، والخبر صحيح بما قبله. أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (358) والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 250/ 246). من طريق: حجاج به.

ذكر الآية السادسة

ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمّد، قال: ابنا علي بن الحسين عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ نسخ فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. [159]- أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن غيلان قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن الحسن، قال: ابنا أبو حذيفة قال: ابنا سفيان الثوري، عن ليث، عن عطاء: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ قال: كان لا ينبغي لواحد أن يفر من عشرة، فخفف الله عنهم. [160]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن قال: ابنا إبراهيم بن الحسين قال: ابنا آدم قال: ابنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان قد جعل على أصحاب محمد يوم بدر على كان رجل منهم قتال عشرة من الكفار، فضجوا من ذلك فجعل على كل رجل قتال رجلين، فنزل التخفيف من الله عزّ وجلّ فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. قال أبو جعفر النحاس (¬1): وهذا تخفيف لا نسخ، لأن معنى النسخ رفع حكم المنسوخ ولم يرفع حكم الأول، لأنه لم يقل فيه: لا يقاتل الرجل عشرة، بل إن قدر على ذلك فهو الاختيار له. ونظير هذا إفطار الصائم في السفر، لا يقال إنه نسخ الصوم، وإنما هو تخفيف ورخصة، والصيام له أفضل. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67]. روي عن ابن عباس ومجاهد في آخرين أن هذه الآية منسوخة بقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمّد: 4]. وليس للنسخ وجه لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلة، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزلت الآية الأخرى، ويبين هذا قوله: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. قال أبو جعفر النحاس: ليس هاهنا ناسخ ولا منسوخ، لأنه قال عزّ وجلّ: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فلما أثخن في الأرض كان له أسرى (¬2). ¬

_ (¬1) «الناسخ والمنسوخ» (ص 149). (¬2) انظر «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 150) و «الإيضاح» (ص 301 - 302) و «الناسخ والمنسوخ» لعبد القاهر البغدادي (ص 74 - 75) و «جمال القراء» (2/ 716 - 717).

ذكر الآية السابعة

ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 72]. قال المفسرون: كانوا يتوارثون بالهجرة، وكان المؤمن الذي لا يهاجر لا يرث قريبه المهاجر وذلك معنى قوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. [161] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: حدّثني محمّد بن سعد العوفي، قال: ابنا أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المؤمنون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة منازل: منهم المؤمن المهاجر المرافق لقومه في الهجرة، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم، وفي قوله: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد فهذان مؤمنان، وكانوا يتوارثون إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر، ثم ألحق كل ذي رحم برحمه. [162] (¬2) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمّد بن قهزاد قال: ابنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا قال: وكان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر، فنسخها، فقال: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ الآية [الأنفال: 75]. [163] (¬3) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي قال: ابنا أبو سعيد مولى بني هاشم، قال: ابنا عمر بن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (5/ 1738/ 9185). (¬2) أخرجه أبو داود (2924). وقال الشيخ الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2537): «حسن صحيح». (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (5/ 1739/ 9190).

الباب السادس عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة التوبة

فروخ، قال: ابنا حبيب بن الزبير، عن عكرمة: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا قال: لبث الناس برهة، والأعرابي لا يرث المهاجر، والمهاجر لا يرث الأعرابي، حتى فتحت مكة ودخل الناس في الدين فأنزل الله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وقال الحسن: كان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر فنسخها وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وقد ذهب قوم إلى أن المراد بقوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ولاية النصرة والمودة. قالوا: ثم نسخ هذا بقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وأما قوله: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ [الأنفال: 72] فقال المفسرون: إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تغدروا بأهل العهد. وذهب بعضهم إلى أن الإشارة إلى أحياء من كفار العرب كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موادعة، فكان إن احتاج إليهم عاونوه، وإن احتاجوا عاونهم فنسخ ذلك بآية السيف (¬1). ... الباب السادس عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة التوبة ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2]. زعم بعض ناقلي التفسير ممن لا يدري ما ينقل؛ أن التأجيل منسوخ بآية السيف، وقال بعضهم منسوخ بقوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] وهذا سوء فهم، وخلاف لما عليه المفسرون، فإن المفسرين اختلفوا فيمن جعلت له هذه الأشهر على أربعة أقوال: الأول: أنها أمان لأصحاب العهد، فمن كان عهده أكثر منها حط إليها، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها، ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاخ المحرم خمسون ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 109) و «الناسخ والمنسوخ» (ص 151) و «الإيضاح» (ص 305) و «الناسخ والمنسوخ» لقتادة (ص 43) و «جمال القراء» (ص 2/ 717).

ذكر الآية الثانية

ليلة. وهذا قول ابن عباس، وقتادة والضحاك، وإنما كان هذا الأجل خمسين ليلة؛ لأن هذه الآيات نودي بها يوم عرفة، وقيل يوم النحر. والثاني: أنها للمشركين كافة من له عهد ومن ليس له عهد، قاله مجاهد والقرطبي والزهري (¬1). والثالث: أنها أجل من كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد أمنه أقل من أربعة أشهر، وكان أمانه غير محدود، فأما من لا أمان له فهو حرب، قاله ابن إسحاق. والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهود، فأما أرباب العهد فهم على عهودهم قاله ابن السائب. ويؤكده أن عليا عليه السّلام نادى يومئذ: «ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فعهده إلى مدته». وقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ قال الحسن: يعني الأشهر التي قيل لهم فيها: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وعلى هذا البيان فلا نسخ أصلا. وقد قال بعض المفسرين: المراد بالأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهذا كلام غير محقق؛ لأن المشركين إنما قيل لهم: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ في ذي الحجة، فمن ليس له عهد يجوز قتله بعد المحرم، ومن له عهد فمدته آخر عهده فليس لذكر رجب هاهنا معنى. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] قد ذكروا في هذه الآية ثلاثة أقوال: الأول: أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ثم نسخ بقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمّد: 4] قاله الحسن، وعطاء والضحاك في آخرين، وهذا يرده قوله: وَخُذُوهُمْ [التوبة: 5] والمعنى ائسروهم. والثاني: بالعكس فإنه كان الحكم في الأسارى، أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المن أو الفداء، بقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ثم نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. قاله مجاهد وقتادة. والثالث: أن الآيتين محكمتان، لأن قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ أمر بالقتل وقوله: وَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم، فإذا حصل الأسير في يد الإمام فهو مخير إن شاء من عليه وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبرا، أي ذلك رأى فيه المصلحة ¬

_ (¬1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (8/ 73) و «الإيضاح» (ص 309) و «جمال القراء» (2/ 721).

ذكر الآية الثالثة

للمسلمين فعل، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء. وقد ذكر بعض من لا فهم له من ناقلي التفسير أن هذه الآية وهي آية السيف نسخت من القرآن مائة وأربعا وعشرين آية ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] وهذا سوء فهم لأن المعنى: اقتلوهم وأسروهم إلا أن يتوبوا من شركهم، ويقروا بالصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم ولا تقتلوهم. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة: 7]، في المشار إليهم بهذه المعاهدة ثلاثة أقوال: الأول: أنهم بنو ضمرة. والثاني: قريش. روي القولان عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية فنكثوا وظاهروا المشركين. والثالث: أنهم خزاعة؛ دخلوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عاهد المشركين يوم الحديبية. وهذا قول مجاهد وقوله: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي: ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال بعض المفسرين: ثم نسخ هذا بآية السيف. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34] اختلف في هذه الآية على ثلاثة أقوال: الأول: أنها عامة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر والضحاك. والثاني: أنها خاصة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان (¬1). والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس والسدي، وفي المراد بالإنفاق هاهنا قولان: الأول: إخراج الزكاة، وهذا مذهب الجمهور، والآية على هذا محكمة. [164] (¬2) - أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال: ابنا محمد بن عبد العزيز ¬

_ (¬1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (6/ 1789). (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (10/ 118).

ذكر الآية الخامسة

الفارسي، قال: ابنا عبد الرحمن بن أبي جريج، قال: ابنا عبد الله بن محمّد البغوي، قال: بنا العلاء بن موسى الباهلي، قال: ابنا الليث بن سعد، عن نافع، أن عبد الله بن عمر، قال: «ما كان من مال تؤدى زكاته، فإنه الكنز الذي ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه». والثاني: أن المراد بالإنفاق إخراج ما فضل عن الحاجة، وقد زعم بعض نقلة التفسير: أنه كان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بالزكاة، وفي هذا القول بعد. [165] (¬1) - وقد أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا عبد الله بن سعيد، قال: ابنا أبو أسامة، عن عمر بن راشد، أو غيره أن عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك قالا في هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ نسختها الآية الأخرى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103]. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التوبة: 39]. [166]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد من محمّد قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً نسختها وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122]. وقد روي مثل هذا عن الحسن وعكرمة، وهذا ليس بصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها فإن قلنا: إِلَّا تَنْفِرُوا أريد به ¬

_ ونحوه عند البخاري (1404، 4661) معلقا، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر ... فذكره. وأخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 167) - 17 - كتاب الزكاة (10) باب ما جاء في الكنز. عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ نحوه. وأخرجه (2/ 161/ 340) برواية محمّد بن الحسن الشيباني- ط. دار القلم- عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1788/ 10081) من طريق: وكيع، عن نافع، عن ابن عمر- ووقع في مطبوعته: ابن عمير! فليصحّح-. وانظر «فتح الباري» (3/ 320 - 321). (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1789/ 10087).

ذكر الآية السادسة

غزوة تبوك فإنه كان قد فرض على الناس كافة النفير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا عاتب المخلّفين وجرت قصة الثلاثة الذين خلّفوا. وإن قلنا: إن الذين استنفروا حيّ من العرب معروف كما ذكرنا في التفسير عن ابن عباس، فإنه قال: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، وأمسك عنهم المطر فكان عذابهم، فإن أولئك وجب عليهم النفير حين استنفروا. وقد ذهب إلى إحكام الآيتين ومنع النسخ جماعة منهم ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وحكى القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس هاهنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ففرض على الناس النفير إليهم، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم، عذر القاعدون عنهم (¬1). ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41]. [167] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في براءة: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التوبة: 39] فنسخ هؤلاء الآيات، وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122]. وقال السدي: نسخت بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91]. واعلم: أنه متى حملت هذه الآية على ما حملنا عليه التي قبلها لم يتوجه نسخ. ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. [168] (¬3) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: بنا عمر بن عبيد الله، قال: بنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد، قال بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني ¬

_ (¬1) انظر «الإيضاح» (ص 316) و «جمال القراء» (2/ 724 - 725). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1803/ 10062) وأبو عبيد في «ناسخه» (385). من طريق: حجاج به. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1806/ 10081) من طريق: محمّد بن شعيب؛ أخبرني عثمان بن عطاء، عن أبيه عطاء، ولم يذكر فيه ابن عباس.

ذكر الآية الثامنة

أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 44] نسختها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62]. [169]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا محمّد بن أحمد، قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن أبي يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ نسختها: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قلت: فالصحيح أنه ليس للنسخ هاهنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة وكان المنافقون إذا كانوا معه، فعرضت لهم حاجة، ذهبوا من غير استئذانه، وإلى نحو هذا ذهب أبو جعفر بن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. ذكر الآية الثامنة : قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80]. لفظ هذه الآية لفظ الأمر وليس كذلك، وإنما المعنى: إن استغفرت لهم، وإن لم تستغفر لهم لا يغفر الله لهم، فهو كقوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] فعلى هذا الآية محكمة، هذا قول المحققين. وقد ذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين رجى لهم الغفران، ثم نسخت بقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] فروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80] نسخت بقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. [170] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي قال: ابنا أبو علي بن شاذان قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (14/ 396/ 17025) وأبو عبيد في «ناسخه» (521) وهو مرسل.

ذكر الآية التاسعة

الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لما نزلت إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80]، قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأزيدن على سبعين مرة» فأنزل الله تعالى في سورة المنافقين فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ عزما. وقد حكى أبو جعفر النحاس؛ أن بعض العلماء قال: فنسخت بقوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: 84]. قلت: والصحيح إحكام الآية على ما سبق. ذكر الآية التاسعة : قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 120]. قد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذه الآية اقتضت أنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا كان في أول الأمر ثم نسخ ذلك بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122]. قال أبو سليمان الدمشقي: لكل آية وجهها وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق، وهذا هو الصحيح على ما بينا في الآية الخامسة (¬1). ... الباب السابع عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة يونس (عليه السّلام) ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15]. الكلام في هذه كالكلام في نظيرتها في الأنعام، وقد تكلمنا عليها هناك، ومقصود الآيتين تهديد المخالف، وأضيف إلى الرسول ليصعب الأمر فيه، وليس هاهنا نسخ، ويقوي ما قلنا؛ أن المراد بالمعصية هاهنا تبديل القرآن، والتقول على الله تعالى، وموافقة المشركين على ما هم عليه، وهذا لا يدخل في قوله: ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 111) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 169).

ذكر الآية الثانية

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] كيف وقد قال عزّ وجلّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: 44]. وقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وقال: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 75] وإنما هذا وأمثاله في بيان آثار المعاصي وليس من ضرورة ما علق بشرط أن يقع. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ [يونس: 41]. روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسختها آية السيف، وهذا بعيد من ثلاثة أوجه: الأول: أنه لا يصح عن ابن عباس. والثاني: أنه ليس بين الآيتين تناف، والمنسوخ لا يصح اجتماعه مع الناسخ. والثالث: أنه لا يصح أن يدعي نسخ هذه الآية، بل إن قيل مفهومها منسوخ عندهم، فقل لي عملي، واقتصر على ذلك ولا تقاتلهم، وليس الأمر كذلك إنما معنى الآية: لي جزاء عملي، فإن كنت كاذبا فوباله عليّ، ولكم جزاء عملكم في تكذيبكم لي، وفائدة هذا لا يمنع من قتالهم وهو أقرب إلى ما يفهم منها فلا وجه للنسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يونس: 46]. زعم بعضهم: أنها منسوخة بآية السيف، فكأنه ظن أن معناها: اترك قتالهم، فربما رأيت بعض الذي نعدهم، وليس هذا شيء. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]. زعم قوم منهم مقاتل بن سليمان أنها منسوخة بآية السيف، والصحيح أنها محكمة وبيان ذلك أن الإيمان لا يصح مع الإكراه، لأنه من أعمال القلب، وإنما يتصور الإكراه على النطق لا على العقل (¬1). ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس: 108]. ¬

_ (¬1) وانظر «صفوة الراسخ» (ص 111).

ذكر الآية السادسة

روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهذا لا يصح عن ابن عباس، وقد بينّا أنه لا يتوجه النسخ في مثل هذه الأشياء، لأن معنى الآية: ما أنا بوكيل في منعكم من اعتقاد الباطل، وحافظ لكم من الهلاك إذا لم تعملوا أنتم لأنفسكم ما يخلصها. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ [يونس: 109]. روى أبو صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه منسوخة بآية القتال. وهذا لا يثبت عن ابن عباس، ثم إن الأمر بالصبر هاهنا مذكور إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة عند قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] فلا وجه للنسخ في شيء من هذه الآيات (¬1). الباب الثامن عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة هود ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: 12]. قال بعض المفسرين: معنى هذه الآية اقتصر على إنذارهم من غير قتال، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والتحقيق أن يقال: إنها محكمة، لأن المحققين قالوا: معناها: إنما عليك أن تنذرهم بالوحي لا أن تأتيهم بمقترحهم من الآيات، والوكيل: الشهيد (¬2). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: 15]. زعم قوم منهم مقاتل بن سليمان أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير، ثم نسخ ذلك بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18]. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 112). (¬2) «صفوة الراسخ» (ص 112).

ذكر الآية الثالثة والرابعة

وهذا القول ليس بصحيح، لأن الآيتين خبر، وهذه الآية نظير قوله في آل عمران: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: 146] وقد شرحناها هناك (¬1). ذكر الآية الثالثة والرابعة : قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود: 121، 122]. قال بعض المفسرين: هاتان الآيتان اقتضتا تركهم على أعمالهم، والاقتناع بإنذارهم، ثم نسختا بآية السيف. وقال المحققون: هذا تهديد ووعيد، معناه: اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة أمركم، وانتظروا ما يعدكم الشيطان، إنا منتظرون ما يعدنا ربنا. وهذا لا ينافي قتالهم، فلا وجه للنسخ. ... الباب التاسع عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة الرعد ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6]. قد توهم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة، لأنه قال: المراد بالظلم هاهنا الشرك، ثم نسخت بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48]. وهذا التوهم فاسد، لأن الظلم عام، وتخصيصه بالشرك هاهنا يحتاج إلى دليل، ثم إن كان المراد به الشرك فلا يخلو الكلام من أمرين: إما أن يراد التجاوز عن تعجيل عقابهم في الدنيا، أو الغفران لهم إذا رجعوا عنه، وليس في الآية ما يدل على أنه يغفر للمشركين إذا ماتوا على الشرك. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40]. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 112 - 113).

الباب العشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الحجر

روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ نسخ بآية السيف وفرض الجهاد، وكذلك قال قتادة: وعلى ما سبق تحقيقه في مواضع من أنه ليس عليك أن تأتيهم بما يقترحون من الآيات إنما عليك أن تبلغ، تكون محكمة ولا يكون بينها وبين آية السيف منافاة. الباب العشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة الحجر ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3]. قد زعم كثير من المفسرين: أنها منسوخة بآية السيف والتحقيق أنها وعيد وتهديد، وذلك لا ينافي قتالهم فلا وجه للنسخ. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85]. [171]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش قال: ابنا البرمكي قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا عبد الله بن سعيد، قال: بنا عقبة، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ قال: هذا قبل القتال. قال أبو بكر: وبنا موسى بن هارون، قال: ابنا الحسين، قال: بنا شيبان، عن قتادة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ قال: نسخ هذا بعد، فقال: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191]. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ [الحجر: 88]. قد زعم قوم أن هذا كان قبل أن يؤمر بقتالهم ثم نسخ بآية السيف، وهذا ليس بشيء؛ لأن المعنى: لا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا، وقيل: لا تحزن بما أنعمت عليهم في الدنيا، ولا وجه لنسخ، وكذلك قال أبو الوفاء بن عقيل: قد

ذكر الآية الرابعة

ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف؛ وليس بصحيح. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89]. زعم بعضهم أن معناها نسخ بآية السيف، لأن المعنى عنده اقتصر على الإنذار، وهذا خيال فاسد، لأنه ليس في الآية ما يتضمن هذا، ثم هي خبر فلا وجه للنسخ. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94]. [172]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمّد، قال: حدّثت عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال: نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. [173]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: بنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمّد بن سعد، قال: حدّثني أبي عن الحسين بن الحسن بن عطية، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، قال: هذا من المنسوخ. ... الباب الحادي والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة النحل ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل: 67]. اختلف المفسرون بالمراد بالسكر على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه الخمر: قاله ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم.

[174] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا أبو الحسن بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً قال: النبيذ فنسختها: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة: 90] الآية. [175] (¬2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا حفص بن عمر، قال: بنا شعبة عن مغيرة عن إبراهيم، والشعبي، وأبي رزين أنهم قالوا: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً قالوا هذه منسوخة. [176]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا عبد الله بن الصباح، قال: بنا أبو علي الحنفي، قال: بنا إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير في قوله: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً، قال: الخمر. [177]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن قال: بنا إبراهيم بن الحسين قال: بنا آدم، قال بنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً قال: السكر: الخمر قبل تحريمها. وهذا قول الحسن وابن أبي ليلى والزجاج، وابن قتيبة، ومذهب أهل هذا القول أن هذه الآية نزلت إذ كانت الخمر مباحة ثم نسخت بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90]. ومن صرح بأنها منسوخة سعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والنخعي، ويمكن أن يقال على هذا القول ليست بمنسوخة، ويكون المعنى: أنه خلق لكم هذه الثمار لتنتفعوا بها على وجه مباح، فاتخذتم أنتم منها ما هو محرّم عليكم، ويؤكّد هذا أنها خبر والأخبار لا تنسخ، وقد ذكر نحو هذا المعنى الذي ذكرته أبو الوفاء بن عقيل فإنه قال: ليس في الآية ما يقتضي إباحة السّكر، إنما هي معاتبة وتوبيخ. والقول الثاني: أن السّكر الخل بلغة الحبشة، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (458). (¬2) أخرجه أبو عبيد (456) من طريق: شعبة به.

ذكر الآية الثانية

[178]- وأخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمّد بن سعد، قال: حدّثني أبي، عن الحسين بن الحسن بن عطية، عن أبيه، عن عطية- قال: قال ابن عمر: إن الحبشة يسمّون الخل السّكر. وقال الضحاك: هو الخل بلسان اليمن. والثالث: أن السّكر الطعم يقال هذا له سكر أي طعم وأنشدوا: جعلت عنب الأكرمين سكرا. قاله: أبو عبيدة، فعلى هذين القولين الآية محكمة. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: 82]. قال كثير من المفسرين: إنها منسوخة بآية السيف، وقد بينا في نظائرها أنه لا حاجة بنا إلى ادعاء النسخ في مثل هذه. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]. اختلف المفسرون في هذه الآية على أربعة أقوال: الأول: أن المعنى جادلهم بالقرآن. والثاني: بلا إله إلا الله، والقولان عن ابن عباس رضي الله عنهما. والثالث: أعرض عن أذاهم إياك. [179]- أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي قال: ابنا أبو طاهر، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم الحسين، قال: ابنا آدم، قال: بنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال: يقول أعرض عن أذاهم إياك. والرابع: جادلهم غير فظ ولا غليظ وألن لهم جانبك، قاله الزجاج. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف وفيه بعد، لأن المجادلة لا تنافي القتال، ولم يقل له، اقتصر على جدالهم، فيكون المعنى جادلهم فإن أبوا فالسيف فلا يتوجه نسخ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 115 - 116) و «الإيضاح» (ص 387) و «جمال القراء» (2/ 746) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (10/ 200).

ذكر الآية الرابعة

ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]. للمفسرين في هذه الآية قولان: الأول [أنها منسوخة]: أنها نزلت قبل براءة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أن يقاتل من قاتله، ولا يبدأ بالقتال، ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد؛ قاله ابن عباس والضحاك. [180]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: حدّثني محمّد بن سعد، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ فقال: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل من قاتله، ثم نزلت براءة، فهذا من المنسوخ، فعلى هذا القول، يكون المعنى: ولئن صبرتم عن القتال، ثم نسخ هذا بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. والثاني: أنها محكمة ، وأنها نزلت: فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظلم منه. قاله الشعبي، والنخعي وابن سيرين، والثوري. [181]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم قال: بنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ يقول: لا تعتدوا. يعني: محمّدا وأصحابه، وعلى هذا القول يكون المعنى ولئن صبرتم على المثلة لا عن القتال. وهذا أصح من القول الأول. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [النحل: 127]. هذه الآية متعلقة بالتي قبلها فحكمها حكمها، وقد زعم بعض المفسرين أن الصبر هاهنا منسوخ بآية السيف. ***

الباب الثاني والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة بني إسرائيل

الباب الثاني والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة بني إسرائيل (¬1) ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما [الإسراء: 24]. قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الدعاء المطلق نسخ منه الدعاء للوالدين المشركين، وروي نحو هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وعكرمة ومقاتل. [182] (¬2) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمّد بن قهزاد قال: حدّثني علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء: 23] إلى قوله: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء: 23، 24] نسختها ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113]. قال أبو بكر: وبنا محمّد بن سعد قال: حدّثني أبي، عن الحسين بن الحسن بن عطية، عن عطية، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ إلى قوله: صَغِيراً فنسخها ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. قال: أبو بكر: وبنا أحمد بن يحيى بن مالك، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة نحوه. [183]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمّد، قال: بنا عبد الله بن عثمان، عن عيسى بن عبيد الله، عن عبيد الله مولى عمر، ¬

_ (¬1) أي: سورة الإسراء. (¬2) أخرجه أبو عبيد (518) من طريق: حجاج، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس به.

ذكر الآية الثانية

عن الضحاك وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما نسخ منها بالآية التي في براءة، ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113]. قلت: وهذا ليس بنسخ عند الفقهاء، إنما هو عام دخله التخصيص وإلى نحو ما قلته ذهب ابن جرير الطبري (¬1). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [الإسراء: 54]. للمفسرين في معنى الوكيل ثلاثة أقوال: الأول: كفيلا تؤخذ بهم قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: حافظا وربا، قاله الفراء. والثالث: كفيلا بهدايتهم وقادرا على إصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري. وعلى هذه الآية محكمة، وقد زعم بعضهم: أنها منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح، وقد تكلمنا على نظائرها فيما سبق. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34]. قد زعم من قل فهمه، من نقلة التفسير أن هذه الآية لما نزلت امتنع الناس من مخالطة اليتامى فنزلت: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220]. وهذا يدل على جهل قائله بالتفسير ومعاني القرآن؛ أيراه يجوز قرب مال اليتيم بغير التي هي أحسن حتى يتصور نسخ؟! وإنما المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين أنهم كانوا يخلطون طعامهم بطعام اليتامى، فلما نزلت هذه الآية عزلوا طعامهم عن طعامهم، وكان يفضل الشيء فيفسد، فنزل قوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220] فأما أن يدّعى نسخ فكلا (¬2) ... ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110]. روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: 205]. ¬

_ (¬1) انظر تفسير المصنف «زاد المسير» (5/ 26) و «الجامع لأحكام القرآن» (10/ 244) و «الإيضاح» لمكي (ص 337). (¬2) انظر «الإيضاح» (ص 339) و «صفوة الراسخ» (ص 118).

فأما سورة الكهف: فليس فيها منسوخ

وقال ابن السائب: نسخت بقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]. وهذا القول ليس بصحيح وليس بين الآيات تناف ولا وجه للنسخ. وبيان هذا؛ أن المفسرين اختلفوا في المراد بقوله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فقال قوم: هي الصلاة الشرعية لا تجهر بقراءتك فيها ولا تخافت بها. وقال آخرون: الصلاة الدعاء، فأمر التوسط في رفع الصوت، وذلك لا ينافي التضرع. ... فأما سورة الكهف: فليس فيها منسوخ إلا أن السدي يزعم: أن قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29]، قال: وهذا تخيير نسخ بقوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] وهذا تخليط في الكلام، وإنما هو وعيد وتهديد، وليس بأمر، كذلك قال الزجاج وغيره ولا وجه للنسخ. ... الباب الثالث والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النسخ في سورة مريم ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم: 39]. زعم بعض المغفلين من ناقلي التفسير، أن الإنذار منسوخ بآية السيف وهذا تلاعب من هؤلاء بالقرآن، ومن أين يقع التنافي بين إنذارهم القيامة، وبين قتالهم في الدنيا؟ ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]. زعم بعض الجهلة أنه منسوخ بالاستثناء بعده، وقد بينا أن الاستثناء ليس بنسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71]. زعم ذلك الجاهل أنها نسخت بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72] وهذا من أفحش الإقدام على الكلام في كتاب الله سبحانه بالجهل. وهل بين الآيتين

ذكر الآية الرابعة

تناف؟ فإن الأولى تثبت أن الكل يردونها، والثانية تثبت أنه ينجو منهم من اتّقى، ثم هما خبران والأخبار لا تنسخ. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مريم: 75]. وزعم ذلك الجاهل أنها منسوخة بآية السيف، وهذا باطل. قال الزجاج: هذه الآية لفظها لفظ أمر، ومعناها الخبر، والمعنى: إن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها، وعلى هذا لا وجه للنسخ. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84]. زعم بعض المفسرين وأنها منسوخة بآية السيف. وهذا ليس بصحيح، لأنه إن كان المعنى لا تعجل بطلب عذابهم الذي يكون في الآخرة، فإن المعنى أن أعمارهم سريعة الفناء، فلا وجه للنسخ. وإن كان المعنى؛ لا تعجل بطلب قتالهم، فإن هذه السورة نزلت بمكة ولم يؤمر حينئذ بالقتال، فنهيه عن الاستعجال بطلب القتال واقع في موضعه، ثم أمره بقتالهم بعد الهجرة لا ينافي النهي عن طلب القتال بمكة، فكيف يتوجه النسخ؟ فسبحان من قدّر وجود قوم جهال يتلاعبون بالكلام في القرآن، يدّعون نسخ ما ليس بمنسوخ، وكل ذلك من سوء الفهم، نعوذ بالله منه. ... الباب الرابع والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة طه ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: 130]. قال جماعة من المفسرين، معناها: فاصبر على ما تسمع من أذاهم، ثم نسخت بآية السيف (¬1). ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 119) و «جمال القراء» (2/ 760) و «زاد المسير» للمصنف (5/ 333) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (11/ 260).

ذكر الآية الثانية

ذكر الآية الثانية : قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا [طه: 135]. قالوا: هي منسوخة بآية السيف. وقد ذكروا في سورة الأنبياء ما لا يحسن ذكره مما ادعوا فيه النسخ فأضربنا عنه. ... الباب الخامس والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة الحج ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ [الحج: 68]. اختلفوا في هذه الآية على قولين: الأول: أنها نزلت قبل الأمر بالقتال ثم نسخت بآية السيف. والثاني: أنها نزلت في حق المنافقين؛ كانت تظهر منهم فلتات ثم يجادلون عليها، فأمر أن يكل أمورهم إلى الله تعالى، فالآية على هذا محكمة (¬1). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الحج: 78] فيها قولان: القول الأول: أنها منسوخة ، لأن فعل ما فيه وفاء لحق الله لا يتصور من أحد، واختلف هؤلاء في ناسخها على قولين: الأول: أنه قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]. والثاني: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]. والقول الثاني: أنها محكمة ، لأن حق الجهاد الجد في المجاهدة وبذل الإمكان مع صحة القصد فعلى هذا هي محكمة، ويوضحه أن الله تعالى لم يأمر بما لا يتصور، فبان أن قوله: مَا اسْتَطَعْتُمْ تفسير لحق الجهاد فلا يصح نسخ، كما بينا في قوله تعالى في آل عمران: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102]. ... ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 119) و «جمال القراء» (2/ 763).

الباب السادس والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة المؤمنون

الباب السادس والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة المؤمنون ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 54] أي: في عمايتهم وحيرتهم إلى أن يأتيهم ما وعدوا به من العذاب. واختلفوا: هل هذه منسوخة أم لا، على قولين: الأول: أنها منسوخة بآية السيف لأنها اقتضت ترك الكفار على ما هم عليه. والثاني [أنها محكمة]: أن معناها الوعيد والتهديد، فهي محكمة. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96]. للمفسرين في معناها هذه أربعة أقوال: الأول: ادفع إساءة المسيء بالصفح، قاله الحسن. والثاني: ادفع الفحش بالإسلام، قاله عطاء والضحاك. والثالث: ادفع الشرك بالتوحيد، قاله ابن السائب. والرابع: ادفع المنكر بالموعظة، حكاه الماوردي. وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة، وقال بعض المحققين من العلماء: لا حاجة بنا إلى القول بالنسخ؛ لأن المداراة محمودة ما لم تضر بالدين، ولم تؤد إلى إبطال حق وإثبات باطل (¬1). ... الباب السابع والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة النور ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور: 3]. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 120) و «جمال القراء» (2/ 765).

ذكر الآية الثانية

قال عكرمة: هذه الآية في بغايا كنّ بمكة أصحاب رايات، وكان لا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن فنزلت هذه الآية. قال ابن جرير: فعلى هذا يكون المعنى: الزاني من المسلمين لا يتزوج امرأة من أولئك البغايا إلا زانية أو مشركة، لأنهن كذلك، والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان أو مشرك. [184] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: بنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: بنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا هشيم؛ وابنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا وهب بن بقية، عن هيثم، قال: ابنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ قال: نسختها الآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32]. قال الشافعي: القول كما قال ابن المسيب إن شاء الله. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4]. زعم من لا فهم له، من ناقلي التفسير، أنها نسخت بالاستثناء بعدها، وهو قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [النور: 5] وقد بينا في مواضع أن الاستثناء لا يكون ناسخا. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الآية [النور: 27]. ذهب بعض المفسرين إلى أنه نسخ من حكم هذا النهي العام حكم البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون، بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور: 29]. [185]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2524/ 14134) وأبو عبيد في «ناسخه» (171) والشافعي في «الأم» (5/ 12، 148) والبيهقي في «السنن» (7/ 154) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/ 271) والنحاس في «ناسخه» (ص 191) وغيرهم.

ذكر الآية الرابعة

قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمّد بن قهزاد، قال: بنا علي بن الحسين بن واقد قال: حدّثني أبي، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: 27] الآية. ثم نسخ واستثنى من ذلك: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ [النور: 29]. وهذا مروي عن الحسن، وعكرمة، والضحاك، وليس هذا نسخ إنما هو تخصيص. والثاني: أن الآيتين محكمتان فالاستيذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها والإذن لا يتصور من غير آذن، فإذا بطل الاستئذان لم يكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها [النور: 31]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: هو الرداء. وقد زعم قوم: أن هذا نسخ، بقوله: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ [النور: 60]. [186]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبو داود، قال: بنا محمّد بن قهزاد قال: بنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ إلى قوله: لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31] نسخ ذلك واستثنى من قوله: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً. وكذلك قال الضحاك. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الآية الأولى فيمن يخاف الافتتان بها، وهذه الآية في العجائز؛ فلا نسخ. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ [النور: 54]. زعم بعضهم: أنها منسوخة بآية السيف وليس هذا صحيحا، فإن الأمر بقتالهم لا ينافي أن يكون عليه ما حمل، وعليهم ما حملوا، ومتى لم يقع التنافي بين الناسخ والمنسوخ لم يكن نسخ.

ذكر الآية السادسة

ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النور: 58]. اختلفوا في هذه الآية، فذهب الأكثرون إلى أنها محكمة. [187] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عفان، قال: بنا أبو عوانة، قال: بنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه الآية مما تهاون الناس به لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال: ليست منسوخة (¬2). وهذا قول القاسم بن محمّد، وجابر بن زيد. [188]- فقد أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا هاشم، قال: بنا شعبة، عن داود أبي هند، عن ابن المسيب، قال: هذه الآية منسوخة. وقد روي عنه أنه قال: هي منسوخة بقوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور: 59] وهذا ليس بشيء، لأن معنى الآية: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أي: من الأحرار الحلم فليستأذنوا، أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كما استأذن الأحرار الكبار الذين بلغوا قبلهم، فالبالغ يستأذن في كل وقت، والطفل والمملوك يستأذن في العورات الثلاث (¬3). ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور: 61]. ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن أبي حاتم (8/ 2632/ 14789) من طريق: عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير به. وإسناده ضعيف. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (8/ 2633/ 14790) وأبو عبيد في «ناسخه» (404) والنحاس في «ناسخه» (ص 196). من طريق: سفيان به. (¬3) انظر «صفوة الراسخ» (ص 122 - 123) و «الإيضاح» (ص 366 - 368) و «الجامع لأحكام القرآن» (12/ 303) و «جمال القراء» (2/ 772 - 773).

الباب الثامن والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة الفرقان

هذه الآية كلها محكمة، والحرج المرفوع عن أهل الضر مختلف فيه، فمن المفسرين من يقول، المعنى: ليس عليكم في مؤاكلتكم حرج، لأن القوم تحرجوا وقالوا: الأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام، فكيف نؤاكلهم؟ وبعضهم يقول: بل كانوا يضعون مفاتحهم إذا غزوا عند أهل الضر ويأمرونهم أن يأكلوا، فيتورع أولئك عن الأكل، فنزلت هذه الآية. وأما البيوت المذكورة فيباح للإنسان الأكل منها لجريان العادة ببذل أهلها الطعام لأهلها، وكل ذلك محكم، وقد زعم بعضهم أنها منسوخة بقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] وليس هذا بقول فقيه. الباب الثامن والعشرون باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهن النسخ في سورة الفرقان ذكر الآيات الأولى : قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43]. زعم الكلبي أنها منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح، لأن المعنى: أفأنت تكون حفيظا عليه تحفظه من اتباع هواه؟ فليس للنسخ وجه (¬1). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63]. قال الحسن في تفسيرها: لا يجهلون على أحد وإن جهل عليهم حلموا، وهذه الآية محكمة عند الجمهور، وقد زعم قوم: أن المراد بها أنهم يقولون للكفار، ليس بيننا وبينكم غير السلام، وليس المراد السلام الذي هو التحية، وإنما المراد بالسلام التسليم، أي: تسلما منكم ومتاركة لكم، كما يقول: براءة منك؛ أي: لا التبس بشيء من أمرك. ثم نسخت بآية السيف، وهذا باطل، لأن اسم الجاهل يعم المشرك وغيره، فإذا خاطبهم مشرك، قالوا: السداد والصواب في الرد عليه، وحسن المحاورة في الخطاب لا ينافي القتال، فلا وجه للنسخ. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 123).

ذكر الآية الثالثة

ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إلى قوله: إِلَّا مَنْ تابَ [الفرقان: 68 - 70] للعلماء فيها قولان: القول الأول: أنها منسوخة ، ولهؤلاء في ناسخها ثلاثة أقوال: الأول: أنه قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء: 93]، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والأكثرون على خلافه في أن القتل لا يوجب الخلود. وقال أبو جعفر النحاس، من قال: إن قوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الآيات نسخها قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فمعناه نزل بنسختها والآيتان واحد، لأن هذا لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ، لأنه خبر. والثاني: قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] الآية وهذا لا يصح، لأن الشرك لا يغفر إذا مات المشرك عليه. والثالث: أنه نسخت بالاستثناء في قوله: إِلَّا مَنْ تابَ وهذا باطل، لأن الاستثناء ليس بنسخ. والقول الثاني: أنها محكمة ، والخلود إنما كان لانضمام الشرك إلى القتل والزنا. ... الباب التاسع والعشرون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الشعراء قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: 224]. [189]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمّد، قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ فنسخ من ذلك واستثنى، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الشعراء: 227]. قلت: وقد بينا أن الاستثناء ليس بنسخ، ولا يعول على هذا، وإنما هذه الألفاظ من تغيير الرواة وإلا.

الباب الثلاثون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة النمل

[190] (¬1) - فقد أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: ابنا أبو بكر بن داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ثم استثنى المؤمنين فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فهذا هو اللفظ الصحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن هذا هو استثناء لا نسخ وإنما الرواة تنقل، بما تظنه المعنى فيخطئون. ... الباب الثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة النمل قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النمل: 92]. روي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا منسوخ بآية السيف، وكذلك قال قتادة، وقد تكلمنا على جنس هذا وبينا أن الصحيح أنه ليس بمنسوخ. ... الباب الحادي والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة القصص قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55]. اختلف المفسرون في المراد باللغو هاهنا، فقال: مجاهد: هو الأذى والسب، وقال الضحاك: الشرك، فعلى هذا يمكن ادعاء النسخ. وقوله: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ قال المفسرون: لنا حلمنا ولكم سفهكم، وقال بعضهم: لنا ديننا ولكم دينكم. ¬

_ (¬1) أخرجه النحاس في «ناسخه» (ص 201).

الباب الثاني والثلاثون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة العنكبوت

وقوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: لم يريدوا التحية، وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال وقوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي: لا نطلب مجاورتهم قال الأكثرون: فنسخت هذه الآية بآية السيف (¬1). ... الباب الثاني والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة العنكبوت ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] اختلفوا فيها على قولين: القول الأول: أنها نسخت بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله: وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] قاله قتادة وابن السائب. [191] (¬2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: بنا أبي، وابنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل: قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا أحمد بن يحيى بن مالك، قال: بنا عبد الوهاب عن سعيد، وابنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمّد، قال: بنا أبو رجاء، عن همام كلاهما عن قتادة، وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ثم نسخ بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] فلا مجادلة أشد من السيف. والقول الثاني: أنها ثابتة الحكم ، وهو مذهب جماعة منهم ابن زيد (¬3). [192] (¬4) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 125) و «الإيضاح» (ص 375) و «جمال القراء» (2/ 783). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم (9/ 3068/ 17355) من طريق: عبد الرزاق، ثنا معمر، عن قتادة به. والنحاس (ص 204) من طريق أخرى عن قتادة. (¬3) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (9/ 3068/ 17356). (¬4) أخرج نحوه ابن أبي حاتم (9/ 3069/ 17357، 17360، 17361) من طرق؛ عن مجاهد به.

ذكر الآية الثانية

البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا قيس، عن حصين، عن مجاهد وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال: من أدّى منهم الجزية فلا تقل له إلا حسنا. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [العنكبوت: 50] زعم بعضهم أنه منسوخ بآية السيف، وهذا لو كان في قوله وما أنا إلا نذير احتمل، فأما هاهنا فلا، لأن هذه الآية أثبتت أنه نذير، ويؤيد إحكامها أنها خبر. ... الباب الثالث والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الروم قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الروم: 60] زعم السدي: أنها نسخت بآية السيف، وهذا إنما يصح له أن لو كان الأمر بالصبر عن قتالهم فأما إذا احتمل أن يكون صبرا على ما أمر به أو عما نهى عنه لم يتصور نسخ. ... الباب الرابع والثلاثون باب ذكر ادّعي عليه النسخ في سورة لقمان قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان: 23]. ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا منسوخ بآية السيف، وقال بعضهم: نسخ معناها لا لفظها بآية السيف، وهذا ليس بشيء؛ لأنها إنما تضمنت التسلية له عن الحزن، وذلك لا ينافي القتال. ***

الباب الخامس والثلاثون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة السجدة

الباب الخامس والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة السجدة قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 30]. روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسختها آية السيف فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. [193]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة قال: كل شيء في القرآن فأعرض عنهم وانتظر منسوخ نسخته براءة والقتال. ... الباب السادس والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الأحزاب ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: 48] قال المفسرون: معناه: لا تجازهم عليه وتوكل على الله في كفاية شرهم. قالوا: ونسخت بآية السيف. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب: 49]. اختلف العلماء لمن هذه المتعة، فقال الأكثرون: هي لمن لم يسم لها مهرا لقوله تعالى في البقرة: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: 237]. أحدهما: أنها واجبة للمطلقة التي يسم لها مهرا إذا طلقها قبل الدخول، وعلى هذا الآية محكمة، وقال قوم المتعة واجبة لكل مطلقة بهذه الآية ثم نسخت بقوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237].

ذكر الآية الثالثة

[194]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: بنا أبي، قال: بنا محمّد بن سواء، قال: بنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وأبي العالية، في هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ قالا: ليست بمنسوخة لها نصف الصداق، ولها المتاع. قال أحمد: وبنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب، قال: هي منسوخة نسختها الآية التي في البقرة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها. قال سعيد: وكان قتادة يأخذ بهذا. وقال أحمد: وبنا حسين، عن شيبان، عن قتادة: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الآية. قال: قال سعيد بن المسيب ثم نسخ هذا الحرف المتعة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب: 52]. اختلف المفسرون فيها على قولين: القول الأول: أنها منسوخة بقوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [الأحزاب: 50] وهذا مروي عن علي وابن عباس وعائشة وأم سلمة وعلي بن الحسين والضحاك. [195] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين قال: ابنا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 180، 201) والنسائي في «المجتبى» (6/ 56) وفي «الكبرى» (6/ 434/ 11415) وابن سعد في «الطبقات» (8/ 141) والحاكم (2/ 437) وابن حبان (14/ 281/ 6366) والبيهقي (7/ 54) والطبري في «تفسيره» (22/ 32) والدارمي في «سننه» (2/ 205/ 2241). من طريق: ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة به. وإسناده صحيح، صرّح ابن جريج فيه بالتحديث في بعض طرق الحديث، وصحّح إسناده المحدث الألباني في «صحيح سنن النسائي» (2/ 674/ 3004). وأخرجه أحمد (6/ 41) والنسائي في «المجتبى» (6/ 56) والحميدي في «مسنده» (1/ 115/ 235) والطبري (22/ 24) والترمذي (3216) والبيهقي (7/ 54) وابن سعد في «الطبقات» (8/ 140) والشافعي في «الأم» (2/ 140) والنحاس في «ناسخه» (ص 207). من طريق: سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن عائشة به. وإسناده صحيح؛ انظر «صحيح سنن النسائي» (2/ 674/ 3003). وزاد السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 212) لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود في «ناسخه» وابن المنذر، وابن مردويه.

والقول الثاني: أنها محكمة

البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا عمران بن محمّد الأنصاري، قال: بنا أبو عاصم قال: ابنا ابن جريج، عن عطاء، [عن عبيد] بن عمير، عن عائشة قالت: «ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل له أن ينكح ما شاء». قال أبو سليمان الدمشقي: يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات. والقول الثاني: أنها محكمة ، ثم فيها قولان: الأول: إن الله تعالى أثاب نساءه حين اخترنه بأن قصره عليهن فلم يحل له غيرهن، ولم ينسخ هذا. [196]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: بنا إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ذكر محمّد بن مصفى أن يوسف بن السفر حدثهم عن الأوزاعي، عن عثمان بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه. قال أبو بكر: وبنا إسحاق بن إبراهيم، قال: بنا حجاج، قال: بنا حماد، عن علي بن زيد، عن الحسن؛ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن. وهذا قول ابن سيرين وأبي أمامة بن سهل وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث والسدي (¬1). والثاني: أن المراد بالنساء هاهنا، الكافرات ولم يجز له أن يتزوج بكافرة قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد. ... الباب السابع والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة سبأ قوله تعالى: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ: 25]. قال المفسرون: المعنى: لا تؤاخذون بجرمنا ولا نسأل عما تعملون من الكفر والتكذيب. والمعنى: إظهار التبري منهم، قالوا: وهذا منسوخ بآية السيف ولا أرى لنسخها وجها، لأن مؤاخذة كل واحد بفعله لا يمنع من قتال الكفار. ... ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 127) و «مناهل العرفان» (2/ 267) و «الإيضاح» (ص 386).

الباب الثامن والثلاثون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة فاطر

الباب الثامن والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة فاطر قوله تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: 23]. قال بعض المفسرين: نسخ معناها بآية السيف وقد تكلمنا على جنسها وبينا أنه لا نسخ. ... الباب التاسع والثلاثون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الصافات ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: 174]. للمفسرين في المراد بالحين ثلاثة أقوال: الأول: أنه زمان الأمر بقتالهم. قاله مجاهد. والثاني: موتهم: قاله قتادة. والثالث: القيامة: قاله ابن زيد. وعلى هذا والذي قبله يتطرق نسخها، وقال مقاتل بن حيان نسختها آية القتال. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات: 175] أي: انظر إليهم إذا نزل العذاب بهم ببدر فسوف يبصرون ما أنكروا، وكانوا يستعجلون به تكذيبا وهذا كله دليل على إحكامها، وزعم قوم: أنها منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح. ذكر الآية الثالثة والرابعة : وهما تكرار الأولتين: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات: 178، 179] قال المفسرون: هذا تكرار لما تقدم توكيد لوعده بالعذاب، وقال ابن عقيل: الآيتان المتقدمتان عائدتان إلى أذيتهم له، وصدهم له عن العمرة، والحين الأول؛ حين الفتح، فالمعنى أبصرهم إذا جاء نصر الله، ووقفوا بين يديك بالذل

الباب الأربعون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة ص

وطلب العفو، فسوف يبصرون عزّك وذلهم على ضدّ ما كان يوم القضاء. والموضع الثاني: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وهو يوم القيامة والله أعلم، وأبصر ما يكون من عذاب الله لهم. قلت: وعلى ما ذكرنا لا وجه للنسخ، وقد ادّعى بعضهم نسخ الآيتين خصوصا إذا قلنا أنها تكرار للأولتين. ... الباب الأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة ص ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ص: 70]. ومعنى الكلام: إني ما علمت قصة آدم: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] إلا بوحي. وعلى هذا الآية محكمة، وقد زعم بعض من قل فهمه أنها منسوخة بآية السيف. وقد رددنا مثل هذه الدعوى في نظائرها المتقدمة. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 71]. زعم بعض من لا فهم له أنها منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح، لأنه وعيد بعقاب إما أن يراد بوقته الموت أو القتل أو القيامة، وليس فيه ما يمنع قتال الكفار. ... الباب الحادي والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الزمر ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر: 3]. قال المفسرون: هذا حكم الآخرة، وهذا أمر محكم، وقد ادّعى بعضهم

ذكر الآية الثانية

نسخها بآية السيف، وعلى هذا يكون الحكم حكم الدنيا بأن أمر بقتالهم. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزمر: 13]. قد ادّعى قوم نسخها بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وقد منعنا ذلك في ذكر نظيرتها في الأنعام. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 15]. ليس هذا بأمر وإنما هو تهديد، وهو محكم فهو كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وقد زعم بعض من لا فهم له أنه منسوخ بآية السيف وإنما قال هذا، لأنه ظن أنه أمر، وهذا ظن فاسد وخيال رديء. ذكر الآية الرابعة والخامسة : قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [الزمر: 39، 40] زعم بعض المفسرين أنهما نسختا بآية السيف، وإذا كان معناهما التهديد والوعيد، فلا وجه للنسخ. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] قد زعم قوم: أنها منسوخة بآية السيف، وقد سبق كلامنا في هذا الجنس أنه ليس بمنسوخ. ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر: 46]. زعم بعض ناقلي التفسير أن معناه نسخ بآية السيف، وليس هذا بصحيح؛ لأن حكم الله بين عباده في الدنيا بإظهار حجج المحقين وإبطال شبه الملحدين، وفي الآخرة بإدخال هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، وهذا لا ينافي قتالهم. ***

الباب الثاني والأربعون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة المؤمن [غافر]

الباب الثاني والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة المؤمن [غافر] قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غافر: 77]. هذه الآية في هذه السورة في موضعين وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف وعلى ما قررنا في نظائرها لا نسخ. ... الباب الثالث والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة حم السجدة [فصلت] قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34]. وقد زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف. [197]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا الحسن بن علي بن مهران، قال: بنا عامر بن الفرات، عن أسباط، عن السدي، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال: هذا قبل القتال. وقال أكثر المفسرين: هو كدفع الغضب بالصبر، والإساءة بالعفو، وهذا يدل على أنه ليس المراد بذلك معاملة الكفار فلا يتوجه النسخ. [198]- أخبرنا المحمدان، ابن ناصر وابن عبد الباقي، قالا: ابنا أحمد بن أحمد، قال: ابنا أحمد بن عبد الله الأصفهاني، قال: بنا سليمان أبي أحمد، قال: بنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ابنا عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم، عن مجاهد ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال: هو السلام يسلم عليه. ورواه منصور، عن مجاهد قال: المصافحة. ***

الباب الرابع والأربعون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة حم عسق [الشورى]

الباب الرابع والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة حم عسق [الشورى] ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] زعم قوم منهم ابن منبه والسدي، ومقاتل بن سليمان، أنها منسوخة بقوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 6] وهذا قبيح، لأن الآيتين خبر، والخبر لا ينسخ، ثم ليس بين الآيتين تضاد، لأن استغفارهم للمؤمنين استغفار خاص لا مدخل فيه إلا من اتبع الطريق المستقيم فلأولئك طلبوا الغفران والإعادة من النيران وإدخال الجنان (¬1). واستغفارهم لمن في الأرض لا يخلو من أمرين: إما أن يريدوا به الحلم عنهم والرزق لهم، والتوفيق ليسلموا وإما أن يريدوا به من في الأرض من المؤمنين، فيكون اللفظ عاما والمعنى خاصا، وقد دل على تخصيص عمومه قوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا والدليل الموجب يصرفه عن العموم إلى الخصوص؛ أن الكافر لا يستحق أن يغفر له فعلى هذا البيان لا وجه للنسخ، وكذلك قال قتادة: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قال: للمؤمنين منهم. وقال أبو الحسين بن المنادي: في الكلام مضمر، تقديره: لمن في الأرض من المؤمنين. وقال أبو جعفر النحاس: يجوز أن يكون وهب بن منبه أراد أن هذه الآية على نسخ تلك الآية، لأنه لا فرق بينهما. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6]. قد زعم كثير من المفسرين: أنها منسوخة بآية السيف، وقد بينا مذهبنا في نظائرها وأن المراد: أنا لم نوكّلك بهم فتؤخذ بأعمالهم، فلا يتوجه نسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ [الشورى: 10]. ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 130) و «الإيضاح» (ص 89) و «الجامع لأحكام القرآن» (16/ 4 - 5).

ذكر الآية الرابعة

للمفسرين في هذه الآية قولان: القول الأول: أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل الأمر بالقتال ثم نزلت آية السيف فنسختها، قاله الأكثرون وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ مخاطبة لليهود أي لنا ديننا ولكم دينكم، قال: ثم نسخت بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية. وهكذا قال مجاهد. [199]- وأخبرنا المبارك بن علي قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا الحسين بن علي، قال: بنا عامر بن الفرات، عن أسباط، عن السدي لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ قال: هذه قبل السيف، وقبل أن يؤمر بالجزية. والقول الثاني: أن معناها: أن الكلام بعد ظهور الحجج والبراهين قد سقط بيننا فلم يبق إلا السيف، فعلى هذا هي محكمة؛ قاله جماعة من المفسرين، وهو الصحيح. ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ هذا محكم. وقوله: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشورى: 20] للمفسرين فيه قولان: الأول: أنه منسوخ ، بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال مقاتل: والثاني: أنه محكم م؛ لأنه خبر، قاله قتادة. ووجهه ما بيناه في نظيرها في آل عمران عند قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: 145]. ذكر الآية الخامسة : قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23]. للمفسرين فيها قولان: الأول: أن هذا الاستثناء من الجنس، فعلى هذا يكون سائلا أجرا، وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى ثم قال: نسخت هذه الآية بقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] وإلى هذا ذهب مقاتل. والثاني: أنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجرا، وإنما المعنى: لكني أذكركم المودة في القربى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم طاوس والعوفي.

ذكر الآية السادسة

[200] (¬1) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا المذهب، قال: ابنا أحمد بن جعفر، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي، قال: بنا يحيى، عن شعبة، قال: حدثني عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لم يكن بطن في قريش إلا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم قرابة، فنزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. هذا هو الصحيح، ولا يتوجه على هذا نسخ أصلا. ذكر الآية السادسة : قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]. اختلفوا في هذه الآية، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين إلى أنها منسوخة بآية السيف، وهو مذهب جماعة منهم ابن زيد، وكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بغي المشركين فلما جاز لنا أن نبدأهم القتال دل على نسخها. وللقائلين بأنها في المسلمين قولان: الأول: أنها منسوخة بقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ [الشورى: 43] فكأنها نبهت على مدح المنتصر، ثم أعلمنا أن الصبر والغفران أمدح، فبان وجه النسخ. والثاني: أنها محكمة لأن الصبر والغفران فضيلة، والانتصار مباح فعلى هذا تكون محكمة وهو الصحيح (¬2). ذكر الآية السابعة : قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40]. زعم بعض من لا فهم له، أن هذا الكلام منسوخ بقوله: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] وليس هذا بقول من يفهم الناسخ والمنسوخ، لأن معنى الآية: أن من جازى مسيئا فليجازه بمثل إساءته، ومن عفا فهو أفضل. ذكر الآية الثامنة : قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41]. زعم بعض من لا يفهم، أنها نسخت بقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3497، 4818) وأحمد (1/ 229، 286) والترمذي (3251) وابن جرير (25/ 15) وغيرهم. من طريق: شعبة به. (¬2) «صفوة الراسخ» (ص 130 - 131).

ذكر الآية التاسعة

وليس هذا بكلام من يفهم الناسخ والمنسوخ، لأن الآية الأولى تثبت جواز الانتصار، وهذه تثبت أن الصبر أفضل. ذكر الآية التاسعة : قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48]. زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف. وقد بينا مذهبنا في نظائرنا وأنها ليست بمنسوخة. ... الباب الخامس والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الزخرف ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف: 83]. زعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف، وقد عرف مذهبنا في نظائرها وأنها واردة للوعيد والتهديد، فلا نسخ إذن. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89] يروي الضحاك عن ابن عباس، قال: نسخ هذا بآية السيف. [201]- وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، وابنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا أحمد بن يحيى بن مالك، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، قال: قال قتادة: في قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قال قتادة: نسختها براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. هذا مذهب قتادة ومقاتل بن سليمان.

الباب السادس والأربعون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة الدخان

الباب السادس والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الدخان قوله تعالى: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان: 59]. قد ذهب جماعة من المفسرين إلى أنها منسوخة بآية السيف، ولا نرى ذلك صحيحا لأنه لا تنافي بين الآيتين، وارتقاب عذابهم إمّا عند القتل أو عند الموت أو في الآخرة وليس في هذا منسوخ. ... الباب السابع والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الجاثية قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14]. جمهور المفسرين على أنها منسوخة، لأنها تضمنت الأمر بالإعراض عن المشركين، واختلفوا في ناسخها على أربعة أقوال: القول الأول: آية السيف. [202] (¬1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: بنا أحمد بن كامل، قال: بنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ قال: كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزءون به ويكذّبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نسخت بآية السيف. [203] (¬2) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (25/ 86). (¬2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (355) والبيهقي (9/ 11).

يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ونحو هذا من القرآن مما أمر الله فيه بالعفو عن المشركين فإنه نسخ ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29]. [204] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا معمر، عن قتادة: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. قال: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. والقول الثاني: أن ناسخها قوله في الأنفال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الأنفال: 57] وقوله في براءة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] رواه سعيد عن قتادة. [205]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة قال: نسختها فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال: 57]. والثالث: قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29]. [206]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد قال: ابنا أبو داود، قال: بنا أحمد بن محمد، قال: بنا ابن رجاء، عن همام، عن قتادة: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ثم نسخ فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. والرابع: قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39] قاله أبو صالح. ويمكن أن يقال: إنها محكمة، لأنها نزلت على سبب وهو أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر فأرسل عبد الله بن أبي غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه فلما أتى، قال ما حبسك؟ قال: غلام عمر ما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي ¬

_ (¬1) أخرجه النحاس في «ناسخه» (ص 219).

الباب الثامن والأربعون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة الأحقاف

وقرب أبي بكر وملأ لمولاه فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: «سمّن كلبك يأكلك» فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. ... الباب الثامن والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الأحقاف ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: 9]. اختلف المفسرون في هذا على قولين: القول الأول: أنه راجع إلى الدنيا، ثم لهؤلاء فيه قولان: الأول: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصّها على أصحابه ثم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول الله؛ متى نهاجر؟ فسكت، فنزلت هذه الآية، ومعناها: لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال عطية: ما أدري هل يتركني بمكة أو يخرجني منها. والثاني: ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي وأقتل كما قتلوا؟ أو لا أدري ما يفعل بكم، أتعذّبون أم تؤجرون، أتصدّقون أم تكذّبون؟ قاله الحسن. والقول الثاني: أنه راجع إلى الآخرة. [207]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، ابنا أبو بكر أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فأنزل الله بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الفتح: 5] فأعلمه ما يفعل به وبالمؤمنين. وممن ذهب إلى نحو هذا أنس وعكرمة وقتادة، وقد زعم قوم أن هذا من

ذكر الآية الثانية

الناسخ والمنسوخ؛ فروى الضحاك عن ابن عباس، قال: نسختها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآية [الفتح: 1]. [208]- وأخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن قهزاد قال: حدّثني علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي، وابنا محمد بن أبي منصور، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أحمد بن محمد، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ نسختها الآية التي في الفتح، فخرج إلى الناس فبشّرهم بالذي غفر له، وما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله؛ قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله في سورة الأحزاب وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] وقال: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح: 5]. قلت: والقول بنسخها لا يصح لأنه إذا خفي عليه علم شيء ثم أعلم به لم يدخل ذلك في ناسخ ولا منسوخ. وقال النحاس: محال أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، ولم يزل يخبر أن من مات على الكفر يخلد في النار، ومن مات على الإيمان فهو في الجنة، فقد درى ما يفعل به وبهم في الآخرة. والصحيح في معنى الآية قول الحسن: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا (¬1). ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35]. زعم بعضهم أنها نسخت بآية السيف، ولا يصح له هذا إلا أن يكون المعنى فاصبر عن قتالهم وسياق الآيات يدل على غير ذلك، قال بعض المفسرين: كأنه ضجر من قومه، فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم فأمر بالصبر. ... ¬

_ (¬1) انظر «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 219 - 220) و «صفوة الراسخ» (ص 133) و «جمال القراء» (2/ 831 - 833) و «الإيضاح» لمكي (ص 411 - 412).

الباب التاسع والأربعون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة محمد صلى الله عليه وسلم

الباب التاسع والأربعون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمّد: 4] فيها قولان: الأول: أنها محكمة ، وأن حكم المنّ والفداء باق لم ينسخ، وهذا مذهب ابن عمر والحسن وابن سيرين ومجاهد، وأحمد والشافعي. والثاني: أن المنّ والفداء نسخ بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. وهذا مذهب ابن جريج والسدي، وأبي حنيفة (¬1). [209]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: حدثني محمّد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً قال: الفداء منسوخ نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [210]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا ابن السرح قال: حدثني خالد بن بزار، قال: حدثني إبراهيم بن طهمان، عن حجاج بن الحجاج الباهلي، عن قتادة: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً قال: كان أرخص لهم أن يمنوا على من شاءوا ويأخذوا الفداء إذا أثخنوهم، ثم نسخ، فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [211]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً قال: نسخ ذلك في براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. ¬

_ (¬1) انظر «أحكام القرآن» لابن العربي (4/ 131 - 132) و «أحكام القرآن» للكيا الهراسي (4/ 399 - 401) و «المغني» لابن قدامة (10/ 400 - 401) و «الجامع لأحكام القرآن» (16/ 228) و «الإيضاح» لمكي (ص 414) و «صفوة الراسخ» (ص 134 - 135) و «جمال القراء» (2/ 836 - 838) و «زاد المسير» (7/ 397).

ذكر الآية الثانية

قال: أحمد، وبنا عبد الصمد، عن همام، عن قتادة، قال: رخص له أن يمن على من يشاء منهم بأخذ الفداء ثم نسخ ذلك بعد في براءة، فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. قال أحمد: وبنا حجاج، قال: بنا سفيان، قال: سمعت السدي، قال: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً قال: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (¬1). قال أحمد وبنا معاوية بن عمرو، قال: ابنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنه قال: هي منسوخة لا يفادون، ولا يرسلون. قال أحمد: وبنا حجاج قال: بنا شريك، عن سالم، عن سعيد قال: يقتل أسرى الشرك، ولا يفادون حتى يثخن فيهم القتل. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [محمّد: 36]. زعم بعضهم أنها منسوخة بآية الزكاة، وهذا باطل، لأن المعنى: لا يسألكم جميع أموالكم. قال السدي: إن يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا. وزعم بعض المغفلين من نقلة التفسير أنها منسوخة بقوله: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا [محمّد: 37] وهذا ليس معه حديث. ... الباب الخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة ق قوله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم، قالوا: ونسخ هذا بآية السيف. ... ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (26/ 26) وأبو عبيد (393).

الباب الحادي والخمسون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ من سورة الذاريات

الباب الحادي والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ من سورة الذاريات ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] الحق هاهنا النصيب وفيه قولان: الأول: أنه ما يصلون به رحما، أو يقرون به ضيفا، أو يحملون به كلا، أو يغنون به محروما، وليس بالزكاة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: أنه الزكاة، قاله، قتادة وابن سيرين. وقد زعم قوم: أن هذه الآية اقتضت وجوب إعطاء السائل والمحروم، فذلك منسوخ بالزكاة، والظاهر أنها حث على التطوع ولا يتوجه نسخ. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54]. زعم قوم: أنها منسوخة، ثم اختلفوا في ناسخها: فقال بعضهم: آية السيف، وقال بعضهم: إن ناسخها وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. وهذا قد يخيل أن معنى قوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عن كلامهم، فلا تكلمهم، وفي هذا بعد. فلو قال: هذا إن المعنى أعرض عن قتالهم صلح نسخها بآية السيف، ويحتمل أن يكون معنى الآية أعرض عن مجادلتهم فقد أوضحت لهم الحجج، وهذا لا ينافي قتالهم. ... الباب الثاني والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الطور ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور: 31].

ذكر الآية الثانية

قال المفسرون: معناها: انتظروا فيّ ريب المنون فإني منتظر عذابكم، فعذّبوا يوم بدر بالسيف. وزعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح؛ إذ لا تضاد بين الآيتين. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [الطور: 45] في هذا اليوم ثلاثة أقوال: الأول: أنه يوم موتهم. والثاني: يوم النفخة الأولى. والثالث: يوم القيامة. وقد زعم بعضهم: أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وإذا كان معنى ذرهم الوعيد لم يقع نسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48]. زعم بعض المفسرين: أن معنى الصبر منسوخ بآية السيف وليس بصحيح، لأنه يجوز أن يصبر لحكم ربه ويقاتلهم، ولا تضاد بين الآيتين. ... الباب الثالث والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة النجم ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ [النجم: 29]. المراد بالذكر هاهنا القرآن، وقد زعموا أن هذه الآية منسوخة بآية السيف. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39]. روي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية منسوخة بقوله: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ [الطور: 21] قال: فأدخل الابن الجنة بصلاح الآباء.

الباب الرابع والخمسون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة القمر

[212] (¬1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال ابنا البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى قال: فأنزل الله تعالى بعد هذا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ [الطور: 21] فأدخل الله الأبناء بصلاح الآباء الجنة. قلت: قول من قال: إن هذا نسخ غلط؛ لأن الآيتين خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ثم إن إلحاق الأبناء بالآباء إدخالهم في حكم الآباء بسبب إيمان الآباء فهم كالبعض تبع الجملة، ذاك ليس لهم إنما فعله الله سبحانه بفضله وهذه الآية تثبت ما للإنسان إلا ما يتفضل به عليه. ... الباب الرابع والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة القمر قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6]. قال الزجاج: الوقف التام، (فتول عنهم) و (يوم) منصوب بقوله: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ [القمر: 7]. وقال مقاتل: المعنى: فتول عنهم إلى يوم يدع الداع، وليس هذا بشيء، وقد زعم قوم أن هذا التولي منسوخ بآية السيف، وقد تكلمنا على نظائره وبينا أنه ليس بمنسوخ. ... الباب الخامس والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة المجادلة قوله تعالى: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (27/ 44) والنحاس (ص 230) وإسناده ضعيف.

[213] (¬1) - أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال: ابنا ابن المظفر الداوديّ، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد بن حميد، قال حدّثني أبي شيبة، قال حدّثني يحيى بن آدم قال حدّثني عبيد الله الأشجعي، عن سفيان بن سعيد، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] قال: لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ترى دينارا» قال: قلت: لا يطيقونه، قال: «فكم». قلت: شعيرة، قال: «إنك لزهيد»، قال: فنزل أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [المجادلة: 31] الآية، فبي خفّف الله عزّ وجلّ عن هذه الأمة. [214] (¬2) - أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا أبو ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف، والحديث صحيح. أخرجه الترمذي (3300) والنسائي في «خصائص علي» (152) وابن أبي شيبة (12/ 81) وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 322/ 400) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (90) وابن حبان في «صحيحه» (15/ 390 - 391/ 6941، 6942) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (28/ 21) وابن عدي في «الكامل» (5/ 1847 - 1848) والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 243) والحسكاني في «شواهد التنزيل» (2/ 234 - 235/ 954، 955) وابن المغازلي في «مناقب علي» (372) والنحاس في «ناسخه» (ص 233). من طريق: عثمان بن المغيرة الأشجعي به. وإسناده ضعيف لأجل علي بن علقمة؛ قال فيه البخاري: «في حديثه نظر» وقال عنه الحافظ في «التقريب»: «مقبول»! قلت: بل هو مجهول؛ تفرّد بالرواية عنه سالم بن أبي الجعد، وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/ 109): «منكر الحديث؛ ينفرد عن علي بما لا يشبه حديثه. ثم قال: والذي عندي ترك حديثه». وقال الألباني في «ضعيف سنن الترمذي» (652): «ضعيف الإسناد». قلت: لكن يشهد له الحديث الذي بعده؛ فيرتقي إلى درجة الصحّة، والله أعلم. (¬2) إسناده ضعيف، والأثر صحيح. ليث بن أبي سليم، ضعيف. لكن تابعه منصور عن مجاهد به، كما سيأتي، وهو منقطع بين مجاهد وعلي عليه السلام. وأخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (473). من طريق: ليث، عن مجاهد به. وأخرجه الحاكم (2/ 481 - 482) وابن أبي شيبة (12/ 81/ 12174) والجصاص في «أحكام القرآن» (3/ 526) والمغازلي في «مناقب علي» (373). من طريق: جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي به. وصحّحه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. تنبيه: كنت قد عزوت- في تحقيقي على «الخصائص» (ص 113) - هذه الطريق إلى ابن الجوزي

علي بن شاذان، قال: بنا أحمد بن إسحاق بن سحاب، قال: بنا محمّد بن أحمد بن أبي العوام، قال: بنا سعيد بن سليمان قال: بنا أبو شهاب، عن ليث، عن مجاهد، قال: قال علي بن أبي طالب: آية في كتاب الله عزّ وجلّ ما عمل بها أحد من الناس غيري آية النجوى، كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تصدّقت بدرهم، فما عمل بها أحد قبلي ولا بعدي. [215]- أخبرنا ابن ناصر، قال ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني قال: ابنا أحمد بن محمّد، قال: حدثني علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً نسختها الآية التي تليها: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ. [216] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] نسختها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [المجادلة: 13]. قال أحمد: وبنا عبد الرزاق، قال: بنا ابن عينية، عن سليمان الأحول، عن مجاهد: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ قال: أمر أن لا يناجي أحد منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يتصدق بين يدي ذلك، وكان أول من تصدق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورضي الله عنه، فناجاه فلم يناجه أحد غيره، ثم نزلت الرخصة أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ. قال عبد الرزاق، وبنا معمر، عن قتادة: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار. [217]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: حدّثني محمّد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ قال: كان المسلمون ¬

_ في «نواسخ القرآن» وهذا خطأ، فطريق ابن الجوزي من رواية ليث، عن مجاهد، وليست من رواية منصور عنه، فليصحّح، واللهم غفرا. (¬1) أخرجه أبو عبيد (470) من طريق: حجاج به.

الباب السادس والخمسون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة الحشر

يقدمون بين يدي النجوى صدقة فلما نزلت الزكاة نسخ هذا. قلت: كأنه أشار إلى الآية التي بعدها وفيها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [الحج: 78] قال المفسرون: نزل قوله: أَأَشْفَقْتُمْ أي خفتم بالصدقة الفاقة وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] أي تجاوز عنكم وخفف بنسخ إيجاب الصدقة. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال. وقد ذكرنا عن قتادة أنه قال: ما كان إلا ساعة من نهار. ... الباب السادس والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الحشر قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ اختلف العلماء في المراد بهذا الفيء على قولين: الأول: أنه الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكفار عنوة، وكانت في بدء الإسلام للذين سماهم الله هاهنا دون الغالبين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية. هذا قول قتادة ويزيد بن رومان في آخرين (¬1). [218]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الصمد، عن همام، عن قتادة ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى [الحشر: 7] الآية، قال: كان الفيء بين هؤلاء فنسختها الآية التي في الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 41]. قال أحمد: وبنا معاوية بن عمرو، قال: ابنا أبو إسحاق، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة، قالا: نسخت سورة الأنفال سورة الحشر. قال أحمد: وبنا وكيع، قال: بنا إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 137 - 138) و «الإيضاح» (ص 430) و «جمال القراء» (2/ 860 - 865) و «الجامع لأحكام القرآن» (18/ 12 - 13) و «جامع البيان» للطبري (28/ 41).

الباب السابع والخمسون باب ذكر ما ادعي عليهن النسخ من سورة الممتحنة

قالا: كانت الأنفال لله وللرسول، فنسختها: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. والثاني: أن هذا الفيء ما أخذ من أموال المشركين مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كالصلح والجزية والعشور ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة أخماس فأربعة لرسول الله يفعل بها ما يشاء والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية. واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، فقال قوم: هو للخليفة بعده، وقال قوم: يصرف في المصالح، فعلى هذا تكون هذه الآية مبينة لحكم الفيء، والتي في الأنفال مبينة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه نسخ. [219]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا علي بن الحسين بن أيوب قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا أحمد بن محمّد، قال: سمعت علي بن الحسين، يقول: روى لنا الثقة أن عمر بن عبد العزيز، قال: دخلت آية الفيء في آية الغنائم. قال أحمد بن شبويه هذا أشبه من قول قتادة، وسورة الحشر نزلت بعد الأنفال بسنة فمحال أن ينسخ ما قبل ما بعد. قال أبو داود: وبنا خشيش بن أصرم، قال: بنا يحيى بن حسان، قال: بنا محمّد بن راشد، قال: بنا ليث بن أبي رقية، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد، أن سبيل الخمس سبيل الفيء. ... الباب السابع والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليهن النسخ من سورة الممتحنة ذكر الآية الأولى والثانية : قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة: 8] الآية. وقوله: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة: 9] الآية. زعم قوم أن هذا عام في جميع الكفار، وأنه منسوخ بآية السيف.

ذكر الآية الثالثة والرابعة

[220] (¬1) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب قال: ابنا ابن شاذان قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود، قال: بنا محمّد بن عبيد، قال: بنا محمّد بن ثور، عن معمر، عن قتادة لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ قال نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وقال غيره: معنى الآيتين منسوخ بآية السيف. قال أبو جعفر ابن جرير الطبري: لا وجه لادّعاء النسخ، لأن برّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام. ويدل على ذلك حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما قدمت عليها أمها قتيلة بنت عبد العزى المدينة بهدايا فلم تقبل هداياها ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها (¬2). ذكر الآية الثالثة والرابعة : قوله تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] الآية. وقوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ [الممتحنة: 11] الآية. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد صالح مشركي مكة عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم وكتبوا بذلك الكتاب، فجاءت امرأة بعد الفراغ من الكتاب، وفي تلك المرأة ثلاثة أقوال: الأول: أم كلثوم بنت عقبة (¬3). والثاني: سبيعة بنت الحارث. والثالث: أميمة بنت بشر. ¬

_ (¬1) أخرجه النحاس (ص 237). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 4) والحاكم (2/ 485 - 486) والبزار (2/ 372/ 1874 - كشف الأستار) وابن سعد في «الطبقات» (8/ 252). من طرق؛ عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه رضي الله عنه. وإسناده ضعيف؛ مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير؛ ليّن الحديث. لكن له شاهد من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله؛ إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة؛ أفأصلها؟ قال: «نعم؛ صليها». أخرجه البخاري (2620، 3183، 5978) ومسلم (1003) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (2711، 2712).

فنزلت: فَامْتَحِنُوهُنَّ وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال: الأول: الإقرار بالإسلام. والثاني: الاستحلاف لهن: ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة [عن أرض ولا التماس] دنيا وما خرجن إلا حبا لله ولرسوله. والثالث: الشروط المذكورة في قوله: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: 12] فإذا أقررن بذلك لم يردهن إليهم. واختلف العلماء، هل دخل رد النساء إليهم في عقد الهدنة لفظا أو عموما؟ فقالت طائفة: قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة بلفظ صريح فنسخ الله تعالى ردهن من العقد وأبقاه في الرجال. وقالت طائفة: لم يشرطه صريحا بل كان ظاهر العموم اشتمال العقد عليهن مع الرجال، فبين الله عزّ وجلّ خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال، لأمرين: الأول: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم. والثاني: أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا. فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم، وقال القاضي أبو يعلى: إنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكن من الفعل، وإن لم يقع الفعل فأما قوله: وآتوهم، يعني أزواجهن الكفار، ما أنفقوا، يعني: المهر، وهذا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء، والأجور: المهور وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 10]. وقد زعم بعضهم: أنه منسوخ بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5] وليس هذا بشيء، لأن المراد بالكوافر الوثنيات ثم لو قلنا إنها عامة كانت إباحة الكتابيات تخصيصا لها لا نسخا كما بينا في قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ [البقرة: 221] وقوله: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10] أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وَلْيَسْئَلُوا [الممتحنة: 10] يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، من تزوجهن ما أنفقوا وهو المهر، والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصدقات كما يغرمون لكم وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ [الممتحنة: 11] أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فَآتُوا

الباب الثامن والخمسون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة التغابن

الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا [الممتحنة: 11] أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر. [221]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: بنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن شاذان قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، قال: كن إذا فررن من المشركين الذين بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، إلى أصحاب نبي الله فتزوجوهن، بعثوا بصداقهن إلى أزواجهن من المشركين الذين بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فإذا فررن من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى كفار ليس بينهم وبين نبي الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فتزوجوهن فأصاب المسلمون غنيمة أعطى زوجها من جميع الغنيمة ثم اقتسموا بعد ذلك، ثم نسخ هذا الحكم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وأمر بقتال المشركين كافة. قال أحمد: وبنا أسود بن عامر، قال: بنا إسرائيل، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] قال: هؤلاء قوم كان بينهم وبين المسلمين صلح فإذا خرجت امرأة من المسلمين إليهم أعطوا زوجها ما أنفق. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام من أداء المهر وأخذه من الكفار وتعويض الزوج من الغنيمة أو من صداق، قد وجب رده على أهل الحرب منسوخة عند جماعة من أهل العلم، وقد نص أحمد بن حنبل على هذا، وكذلك قال مقاتل بن سليمان: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف (¬1). الباب الثامن والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة التغابن قوله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14]. [222]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا ¬

_ (¬1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 140 - 142) و «الجامع لأحكام القرآن» (18/ 63 - 69) و «أحكام القرآن» للكيا الهراسي (4/ 462) و «المغني» لابن قدامة (7/ 534 - 535) و «جمال القراء» (2/ 868 - 871) و «الإيضاح» (ص 431 - 435).

الباب التاسع والخمسون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة ن

البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا ونحو هذا من القرآن مما أمر الله به المؤمنين بالعفو عن المشركين فإنه نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]. قلت: قد روينا عن جماعة من المفسرين منهم ابن عباس رضي الله عنهما أن سبب نزول هذه الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة منعته زوجته وولده، وعلى هذا يمكن أن يكونوا قد آمنوا معه ولكنهم يمنعونه حبا لإقامته فلا يتوجه نسخ. ... الباب التاسع والخمسون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة ن ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ [ن: 44]. زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف، وإذا قلنا إنه وعيد وتهديد فلا نسخ. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [ن: 48]. قال بعضهم معنى الصبر منسوخ بآية السيف وقد تكلمنا على نظائر هذا فيما سبق. ... الباب الستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة سأل سائل ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [المعارج: 5]. قال المفسرون: صبرا لا جزع فيه، وزعم قوم منهم ابن زيد أن هذا كان قبل

ذكر الآية الثانية

الأمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف وقد تكلمنا على نظائر هذا. ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [المعارج: 42]. زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف، وإذا قلنا: إنه وعيد بلقاء القيامة فلا وجه للنسخ. ... الباب الحادي والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة المزمل ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 2، 3]. قال المفسرون، المعنى: انقص من النصف قليلا أو زد على النصف، فجعل له سعة في مدة قيامه إذا لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين فشق ذلك عليه وعليهم، وكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، فنسخ الله ذلك عنه وعنهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] هذا مذهب جماعة من المفسرين. وقالوا: ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها سوى هذه السورة. وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام الليل في حقه بقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس وقيل: نسخ عن الأمة وبقي فرضه عليه أبدا، وقيل إنما كان مفروضا عليه دونهم. [223] (¬1) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود، قال بنا أحمد بن محمّد، قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نسختها عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]. [224]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في «سننه» (1304). وحسّنه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1156).

قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباسي، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زيد بن أخرم، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي المتوكل، عن جابر بن عبد الله، قال: كتب علينا قيام الليل فقمنا حتى انتفخت أقدامنا، وكنا في مغزى لنا فأنزل الله الرخصة عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل: 20] آخر السورة. قال أبو بكر: وبنا عبد الله بن محمّد بن خلاد، قال: بنا يزيد، قال: بنا مبارك، عن الحسن، قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 1 - 4] كان قيام الليل فريضة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة. قال الحسن: أما والله ما كلهم قام بها فخفف الله فأنزل آخر السورة عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلى آخر الآية. [225] (¬1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله قال ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان الله افترض قيام الليل في أول سورة المزمل، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله آية فيها يسر وتخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة». قال قتادة: نسختها فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ الآية. قال أحمد: وبنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ قال: فلما قدم المدينة نسختها هذه الآية إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ الآية (¬2). قال أحمد: وبنا عبد الصمد، عن همام، عن قتادة، قال: فرض قيام الليل في أول سورة المزمل، فقام أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء حولا ثم أنزل الله التخفيف في آخرها، فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فنسخ ما كان قبلها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (746) وأحمد (6/ 54) وأبو داود (1342، 1349، 1352) والترمذي (445) والنسائي في «المجتبى» (3/ 60 - 61، 199 - 201، 220، 221، 240، 241، 242) وفي «الكبرى» (1/ 443/ 1411، 1414) و (6/ 500/ 11627) وابن ماجة (1191، 1348) وغيرهم. (¬2) أخرجه أبو عبيد (467).

ذكر الآية الثانية

ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل: 10]. قال المفسرون: واصبر على ما يقولون من تكذيبهم إياك وأذاهم لك وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا لا جزع فيه وهذه منسوخة عندهم بآية السيف، وهو مذهب قتادة وعلى ما بينا من تفسيرها يمكن أن تكون محكمة. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11]. زعم بعض المفسرين أنها منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح، لأن قوله ذَرْنِي وعيد، وأمره بإمهالهم ليس على الإطلاق، بل أمره بإمهالهم إلى حين يؤمر بقتالهم فذهب زمان الإمهال، فأين وجه النسخ؟ ذكر الآية الرابعة : قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: 19]. زعم بعض من لا فهم له أنها نسخت بقوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] وليس هذا بكلام من يدري ما يقول، لأن الآية الأولى أثبتت للإنسان مشيئته، والآية الثانية أثبتت أنه لا يشاء حتى يشاء الله، فكيف يتصور النسخ؟ ... الباب الثاني والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة المدثر قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11]. هذه نزلت في الوليد بن المغيرة (¬1) والمعنى: خلّ بيني وبينه فإني أتولى هلاكه. وقد زعم بعضهم أنها نسخت بآية السيف وهذا باطل من وجهين. الأول: أنه إذا ثبت أنه وعيد فلا وجه للنسخ، وقد تكلمنا على نظائرها فيما سبق. ¬

_ (¬1) انظر «المستدرك» (2/ 506).

الباب الثالث والستون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة (هل أتى)

والثاني: أن هذه السورة مكية وآية السيف مدنية، والوليد هلك بمكة قبل نزول آية السيف. ... الباب الثالث والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة (هل أتى) ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8]. زعم بعضهم أن هذه تضمنت المدح على إطعام الأسير المشرك، قال: وهذا منسوخ بآية السيف. [226]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين قال: ابنا البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا يحيى بن بكير، قال: حدّثني ابن لهيعة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: وَأَسِيراً قال: يعني من المشركين، نسخ السيف الأسير من المشركين. قلت: إنما أشار إلى أن الأسير يقتل ولا يفادى، فأما إطعامه ففيه ثواب بالإجماع لقوله عليه الصلاة والسلام: «في كل كبد حرى أجر» (¬1). والآية محمولة على التطوع بالإطعام فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفار. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 175) وابن ماجة (3686) والبيهقي (4/ 186) والحاكم (3/ 619) والطبراني في «الكبير» (7/ رقم: 6600) والحميدي (2/ 401/ 902). من طريق: الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك بن جعشم، عن أبيه، عن عمه سراقة بن مالك قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضالة من الإبل تغشى حياضي قد لطتها من الإبل، هل لي من أجر في شأن ما أسقيها؟ قال: «نعم؛ في كل ذات كبد حراء أجر». وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (2/ 299/ 542) من طريق: ابن شهاب، عن محمود بن الربيع؛ عن سراقة به. وأخرجه أحمد (4/ 175) وعبد الرزاق في «مصنفه» (19692) والبيهقي (4/ 186) والطبراني في «الكبير» (7/ رقم: 6587). من طريق: معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن سراقة. وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (112) من طريق: سفيان، عن الزهري، عن ابن سراقة أو غيره، عن سراقة. والحديث صحيح؛ انظر «الصحيحة» (2152).

ذكر الآية الثانية

ذكر الآية الثانية : قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: 24]. زعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف، وقد تكلمنا على نظائرها، وبينا عدم النسخ. ذكر الآية الثالثة : قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الإنسان: 29]. قال بعضهم، نسخت بقوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] وقال: وكذلك قوله في: عبس قال تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس: 12] قال: وكذلك في سورة: التكوير قال تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: 28] وقد رددنا هذا في سورة المزمل. الباب الرابع والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الطارق ذكر الآية الأولى : قوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17]. زعم بعضهم أنه منسوخ بآية السيف، وإذا قلنا أنه وعيد فلا نسخ. ... الباب الخامس والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الغاشية قوله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22]. [227]- أخبرنا محمّد بن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا ابن

الباب السادس والستون باب ذكر ما ادعي عليه النسخ في سورة التين

شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود، قال: بنا أحمد بن محمّد، قال: حدّثت عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قال: نسخ ذلك فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. قلت: وقد قال بعض المفسرين في معناها: لست عليهم بمسلط فتكرههم على الإيمان، فعلى هذا لا نسخ. ... الباب السادس والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة التين قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التين: 8]. زعم بعضهم: أنه نسخ معناها بآية السيف لأنه ظن أن معناها: دعهم وخل عنهم، وليس الأمر كما ظن، فلا وجه للنسخ. ... الباب السابع والستون باب ذكر ما ادّعي عليه النسخ في سورة الكافرين قوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6]. قال كثير من المفسرين: هو منسوخ بآية السيف، وإنما يصح هذا إذا كان المعنى، قد أقررتم على دينكم وإذا لم يكن هذا مفهوم الآية بعد النسخ. ... آخر الكتاب، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمّد النبي وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا (¬1). ¬

_ (¬1) وكان الفراغ من تحقيقه والتعليق عليه ليلة السابع من شهر شوال، عام إحدى وعشرين وأربعمائة وألف.

§1/1