نهاية الوصول في دراية الأصول

الصفي الهندي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن الحمد لله محي الأمم بعد فنائها، وجامع الرمم بعد شتاتها، ومسوي العظام بعد تفتتها، ومعيد الأرواح إلى الأشباح بعد مفارقتها، ومجدد العلوم بعد بلائها، وناظم المنثور منها بعد تبددها، ومؤيد الفكر لاستنباط غرائبها ودقائقها، ومتخذ الأذهان في كل زمان لإدراك ما خفي من غوائصها وغوامضها، وموفق الأخلاق لاقتفاء آثار أسلافها في إحيائها ونشرها، ومعطي كل منها فضائلها. فللأولين فضيلة الوضع وتمهيد القواعد، والآخرين مزية التمييز وإلحاق الفوائد وحذف الزوائد، فسبحان من أفاض بركتها على العالمين من بين العالمين، وخص سعادة الدارين السابقين منهم واللاحقين، والصلاة والسلام، على رسله الكرام "المبعوثين" من بين الأنام، إلى الخواص والعوام، بالمعجزات العظام، والآيات الجسام، خصوصا على سيدنا ومولانا محمد الختام، المظلل بالغمام، المبعوث بالحسام، إلى ألد الخصام، والمعاند الطغام. المرسل بالبراهين الساطعة، والآيات والبينات الدامغة، لتلقيح الخواطر العقام. وتوضيح المسالك الصعبة المرام، وعلى آله وأصحابه الهداة الأعلام، القادة إلى سبل السلام. أما بعد: فإن العلم أعلى ما تسمو إليه النفوس الفواضل، وأبهى ما ترنو إليه العقول الأوائل، وأنهى ما تصعد إليه أعناق العزائم، وأشهى

ما تميل" إليه أفئدة الصرائم، إذ كمالها فيه واشتغالها بعد مفارقة أجسادها به حين يحال بينهما وبين الأفهام، ويمنع عنها هواها، فلولا لها ما يشغلها عنها ويذهلها عن دوافعها لكانت معذبة دائما بالالتفات إليها، كالمغرم الفارع الممنوع. وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في التنزيل: {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد}. {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب}. ثم لا يخفى عليك أن العلوم تتفاوت مراتبها وشرفها، بسبب معلوماتها ومسيس الحاجة إليها، واحتياج غيرها من العلوم إليها وخاصة ضدها، ووثاقة براهينها وقواعدها، ففي بعضها قد يوجد كل هذه الجهات كما في العلم الإلهي الباحث عن الوجود المطلق وهو العلم الأعلى والأعم، ولا شك أنه أشرف العلوم وأنفسها، إذ فيه يطالعنا جلال الله وكبرياؤه الذي فيه أنواع السرور والحبور، وليس للعقول عنه تجاوز وعبور، بل تبقى فيه حائرة، وعن كل ما سواه غائبة، وعن غيبتها فائتة، فتكون في مقام فناء الفناء ناطقة بلسان الحال لا بلسان المقال ليس في الوجود سوى الله أو سبحاني ما أعظم شأني أو أنا الحق، ومعرفة الجواهر النورانية كالعقول والنفوس وسائر الممكنات التي لا تنفد عجائبها، ولا تنتهي غرائبها. وقد يوجد في بعضها أكثرها كما في أصول الفقه، أما مسيس الحاجة إليه فلاحتياج الفقه إليه المحتاج

إليه في تحصيل المصالح الدينية والدنيوية. أما/ (2/ب) الدينية فلأن سعادة الإنسان في الدين منحصرة في الحكمة العلمية والعملية، والحكمة العملية إنما تحصل بامتثال أوامر الله تعالى ومحافظة حدوده والانتهاء عن مناهيه، والعلم المتكفل ببيانها هو الفقه، وقد اندرج تحت ما ذكرنا أقسامها الثلاثة المشهورة، إذ التخلق بالأخلاق المرضية والاجتناب عن الرذيلة وكيفية معاشرة أهل المنزل والمدينة من جملة أوامر الله تعالى وحدوده ونواهيه. وبهذا ظهر أيضا كون الفقه محتاجا إليه في المصالح الدنيوية، إذ لا يتأتى للإنسان أن يستقل وحده بتحصيل مصالحه فيما يتعلق بمعاشه فلابد من المصالحة والمخالطة لتتم المصالح بالتعاون. وهي تحتاج إلى حدود مشروعة وزواجر رادعة، وقوانين مضبوطة كي لا يؤدي الأمر إلى الهرج والمرج وإلى أن من غلب سلب. وأما احتياج غيره من العلوم إليه فلأن الفقه وعلم النظر الذي به يتميز الحق من الباطل والصحيح من الفاسد يحتاجان إليه، وأما وثاقة البراهين واستحكام القواعد فأيضا حاصل فيه إذا أكثر قواعده ثبت بأدلة قاطعة، مثل كون الإجماع، والقياس، وخبر الواحد حجة، وإن الخبر المتواتر يفيد العلم

عن من يجعله نظريا. وأما من يجعله ضروريا فالأمر عنده أظهر، وإن النسخ جائز عقلا وواقع شرعا وغير ذلك من قواعده، فظهر بما ذكرنا أن أكثر جهات الشرف حاصل فيه وما عداه من العلوم غير العلم الإلهي فظاهر أنه ليس كذلك فيكون أشرف العلوم بعده، ولأنه ليس نقليا محضا الذي فيه الخطب يسير، ولا عقليا خالصا الذي فيه الأمر عسير والخطب كثير، بل ازدوج فيه العقل والنقل، واجتمع الصعب والسهل، فلا الحاكم السديد فيه معزول، ولا حكم التقليد فيه مقبول، بل هو بين طرفي التفريط والإفراط. وقد قيل: (خير الأمور الأوساط).

ثم أنه مع شرفه وعلو مرتبته ورفعة مكانته قد أصبح مهجور الجناب، مغلوق الباب، قلما يغشاه أحد من أولى الألباب، لأن الدواعي قد فترت عن اكتسابه، وملت عن اقتنائه وتعطلت المدارس عن تعليمه وتعلمه. فدعاني ما في من الشوق إلى تحصيل الفضائل، والتجنب عن الرذائل، أن أصرف طرفا صالحا من العمر إلى تعلم هذا الفن المهجور واستعادة هذا النوع المغمور. فأقبلت على تحصيل أصوله، وجمع فروعه وشذوذه، وتتبع نصوصه وتفتيش فصوصه، فحصلت منه ما قدره لي منحة، واحتويت على ما يسره لي [منه] عطية لا أدعى أنه لب/ (3/أ) الألباب، وعجب العجاب، فأكون كالمتصلف صورة، وإن لم أك ذاك حقيقة، بل فوضت فيه الأمر إليك لتعرف عند اطلاعك عليه. فإن المادح سلعته لا يفيد رواجها، ولا يحسنها في عين مبتغيها، ثم إني مع قصر باعي وضيق ضرعي وعزة مساعدي وكثرة عوائقي أردت تصنيف كتاب في هذا الفن مشتملا على المباحث الدقيقة والنكت اللطيفة، والأجوبة الشافية، والأسئلة القادحة، مع مراعاة الإنصاف في مواضع الاختلاف، وتجنب الاعتساف، لا لأني مهدي بالتصنيف المذكور إلى طلبة هذا الفن ما يعز وجوده، ولا يكاد يوجد مثله، بل لأغراض:- أحدها: أن يجد الناظر فيه من زبد المباحث وتفاوت المكاسب مجموعا ما لم يجده في غيره كان متفرقا ومتبددا ليستغنى به عن غيره.

وثانيها: التشبه بالأسلاف الصالحين والراسخين الماضين، وقد قيل: "من تشبه بقوم فهو منهم".

وثالثها: تكثير طرق الخير ونشرها، إذ كلما كثر التأليف كثر طرق تعلمه. ورابعها: تنشيط الطالبين وتكثير سواد المتعلمين، فإن لكل جديد لذة. وخامسها: وهو الغرض الأعظم الدعاء ممن ينتفع به فإن المنتفع به وإن كبر لا يخرج عن كونه منتفعا به، كيف وربما ينتفع فيه الشيء لا يوجد فيه غيره، ولما تأكد إرادتي وتصميم عزمي على ذلك شرعت فيه مستعينا بمبتدي النعم قبل استحقاقها، ودافع النقم بعد وجوبها وتحققها، على جمعه وإتمامه، وإراد ما وعدته على أكمل أحواله فإنه خير مجيب ومعين، اللهم اعصمنا من الزلل والخلل، واحفظنا من الملل والعلل، واحرس دواعينا عن الفتور، وخواطرنا عن العثور، ووفقنا بم وفقت به عبادك المخلصين، ووقفنا مواقف المقربين، فإنك ملاذ المحتاجين وكهف المحتاجين يا رب العالمين. واعلم أن هذا الكتاب الذي نحن بصدده سميناه "بنهاية الوصول في دراية علم الأصول" ليطابق الاسم مسماه والكنية مكناه، ورتبناه على مقدمة وأنواع من الكلام / (3/ب). أما المقدمة ففيها ثلاثة فصول.

"المقدمة" وفيها ثلاثة فصول

"الفصل الأول" في تعريف أصول الفقه بسيطا ومركبا وبيان موضوعه وعلتة غايته

"الفصل الأول" في تعريف أصول الفقه بسيطا ومركبا وبيان موضوعه وعلته غايته

الفصل الأول في تعريف أصول الفقه بسيطا ومركبا وبيان موضوعه وعلة غايته فإن عند الشعور بها تنبعث الخواطر على الطلب، أما بسائطه فثلاثة الأصل، والفقه، وهيئة التركيب التي هي الإضافة، ونقدم تعريف الفقه لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه تعريفا. فنقول: الفقه في اللغة: عبارة عن الفهم، قال الله تعالى حكاية عن الكفار {ما نفقه كثيرا مما تقول} أي: لا نفهم، ومنه قول الشاعر: أرسلت فيها قرما ذا إقحام .... طبا فقيها بذوات الإبلام

وصف القرم بالفقه لكونه فاهما، ومنه سمي الشاعر فقيها في الجاهلية لفهمه المعاني الخفية. وأما من فسره بأنه عبارة عن فهم غرض المتكلم. فقد زاد قيدا غير معتبر في مفهومه، يدل عليه ما أنشدناه من الشعر، وقوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأنه نفى عنهم فقه تسبيحهم، وتسبيحهم ليس بالكلام على ما هو مذهب المحققين.

وهو الحق الذي لا يسوغ غيره، إذ لو جوزنا ذلك لأدى إلى السفسطة، فلو كان الفقه عبارة عن فهم غرض المتكلم لم يكن في نفي الفقه عنه منقصة ولا تعيير، لأنه غير متصور لعدم بيانه الكلام. وقولهم: فلان يفقه الخير والشر وإن لم يكن ذلك بالكلام، ولأن الفهم أعم من فهم غرض المتكلم، فكان الحاجة إليه أكثر وكان جعل اللفظ حقيقة فيه أولى. ومنهم من قال: إنه عبارة عن الفهم والعلم، فإن أراد به أنه حقيقة فيهما فهو باطل، إذ الاشتراك خلاف الأصل، وإن زعم أنهما مترادفان فهو أيضا: باطل، إذ الفهم غير العلم، لأنه شرطه، والشرط غير المشروط. بل هو عبارة عن جودة الذهن لقبول ما يرد عليه من

المطالب. وأما العلم فستعرفه إن شاء الله تعالى. وأما في الاصطلاح: فهو عبارة عن العلم بجملة من الأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين إذا حصل بالنظر والاستدلال على أعيانها. وإنما فسرنا الفقه بالعلم مع أنه من باب الظنون، لأنه الأحكام معلومة بعد ظن طرائقها. فهو علم بهذا الاعتبار، وظن باعتبار الطريق.

بيانه [أنه] إذا غلب على ظن المجتهد تحقق مناط الوجوب مثلا في صورة، فإنه يقطع بوجوب العلم بمقتضاه، وإن كان كون ذلك الوصف مناطا للوجوب مظنونا، وكونه متحققا في تلك الصورة شرائطه وعدم موانعه كذلك. فالحكم معلوم والظن وقع في طريقه. وأما / (4/أ) قول من يقول: إن العلم وقع احترازا عن ظن الأحكام، فإنه وإن تجوز بإطلاق اسم الفقه عليه في العرف العامي فليس فقها في العرف العامي فليس فقها في العرف اللغوي والأصولي ممنوع، وهذا لأن الفقه في اللغة، هو الفهم على ما دللنا عليه وساعدنا هذا القائل عليه وهو في المعلوم والمظنون على السواء فوجب أن يكون حقيقة فيهما، وكذلك في العرف الأصولي إذ لا دليل يدل على أن إطلاق اسم الفقه على الأحكام المظنونة بطريق التجوز بالنسبة إلى اصطلاحهم، وما لا دليل عليه وجب أن لا يثبت، فيكف ما دل الدليل عليه نفيه، إذ المجاز خلاف الأصل لاسيما الشائع الذائع الذي يلزم منه تكثيره. وقولهم: الفقه عبارة عن العلم بالأحكام، لا يدل عليه لما ذكرنا أن الأحكام معلومة باعتبار وجوب العمل.

وقولنا: بجملة من الأحكام: احترزنا به من العلم بحكم أو حكمين فإنه لا يسمى فقها في اصطلاح الأصول، بدليل أنه لا يسمي صاحبه فقيها. وقولنا: بجملة من الأحكام خير من قول: القائل: هو العلم بالأحكام، لأن ذلك مشعر بالعموم وهو ليس بشرط، وإلا لوجب أن لا يكون أحد من المجتهدين فقيها، فإن العلم بجميع الأحكام غير حاصل لأحد منهم. واحترزنا: بالشرعية عن الأحكام العقلية والحسية كالتماثل والاختلاف. واحترزنا: بقولنا: الثابتة لأفعال المكلفين: عن الأحكام الشرعية العلمية لكون الإجماع والقياس حجة. واحترزنا: بقولنا: إذا حصل بالنظر والاستدلال: عما يعلم من الأحكام بالضرورة كعلم جبريل والنبي يتلقى الوحي، وعلمنا بوجوب الصلاة والصوم. واحترزنا: بقولنا: على أعيانها عن العلم المستفتي فإنه إذا استدل على أن ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقه بالطريق المشهور، وهو أن هذا ما أفتى به المفتي وكل ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقي فيلزم أن يكون هذا حكم في حقي، فإنه وإن كان عالما بجملة من الأحكام الشرعية العملية

التي عرفت بالنظر والاستدلال لكن لا يسمى فقها في اصطلاح الأصول، لأنه غير مستدل على عينه، ولذلك لا يسمى العامي المستفتى فقيها وإن كان عارفا بجملة من الأحكام، وأما إذا لم يستدل عليه أصلا فلا حاجة إلى إخراجه بهذا القيد، لأنه خرج بقيد العلم، فإن ذلك لا يسمى علما بل تقليدا. وأما الأصل فهو في اللغة: ما منه الشيء، لأنه/ (4/ب)

معنى عام في موارد استعماله، إذ يقال للأب أصل الولد، وللشجر أصل الثمر، وللعنب أصل الخمر. وغير ذلك من صور الاستعمال. فوجب جعله حقيقة فيه دفعا للاشتراك والمجاز. لا يقال: ما ذكرتم، وإن كان معنى عاما في موارد استعماله لكن أيضا: فيها معنى آخر، وهو كون الشيء محتاجا إليه فلم لا يجوز حقيقة فيه؟ لأنا نقول: لو كان حقيقة فيه: لا طرد حيث وجد هذا المعنى لوجوب اطراد الحقيقة على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى، لكنه غير مطرد إذ لا يقال للنفقة والكسوة والأواني والبيوت أصول. فإن قلت: لا نسلم وجوب اطراد الحقيقة، وهذا لأن الحقيقة قد لا تطرد كالقارورة فإنها فاعولة عن القرار مع إنها لا تطلق على الخوابي [و] سائر الأواني، وكذا لا يطلق الجواد والفاضل والدليل مطلقا على الله تعالى

وإن كان حقيقة في فاعل الدلالة مع تحقيق معانيها اللغوية فيه تعالى. قلت: نعم لكن المانع. إما شرعي كما في أسامي الله تعالى، فإنه توقيفية وبتقدير كونها قياسية، فإنها يجوز إطلاق مالا يوهم الباطل وهذه الألفاظ ليست كذلك. أو لغوي كما في القارورة فإن أهل اللغة منعوا من استعماله في غير معناها المعروف، أما حيث لا مانع فإنه يجب الاطراد للاستقراء وتمامه سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن أحالوا عدم الاطراد فيما نحن فيه إلى المانع كي لا يدل عدم الإطلاق على أنه ليس بحقيقة فيه كان جعل ما ذكرنا من المعنى العام مسمى اللفظ أولى مما ذكروه لعدم التعارض.

وأما هيئة التركيب: التي هي الإضافة فهي تفيد اختصاص معنى المضاف بمعنى المضاف إليه، وإنما جعلنا الاختصاص مدلولها دون الملك، كي لا يلزم الاشتراك أو المجاز، إذ هي مستعملة في الاختصاص أيضا كما في قولهم: "جل الفرس وإذا عرفته بحسب الإفراد، فاعرفه الآن بحسب المجموع. فنقول أصول الفقه: مجموع أدلة الفقه على سبيل الإجمال وكيفية دلالتها على الأحكام وكيفية الحال المستدل بها. فقولنا: مجموع أدلة الفقه: احترزنا به عن النوع الواحد فإنه وإن كان من أصول الفقه لكنه ليس أصول الفقه فإن بعض الشيء لا يكون نفسه.

وقولنا: أدلة الفقه: لا نعني بها ما يفيد القطع، كما هو في عرف طائفة، بل نعني بها ما يفيد القطع أو الظن ليتناول/ (5/أ) جميع مداركه. واحترزنا بقولنا: على سبيل الإجمال: عن علم الخلاف، فإنه وإن بحث فيه عن أدلة الفقه وعن كيفية دلالتها على الأحكام لكن على سبيل التفصيل. وأما في أصول الفقه فلا يبحث فيه إلا عن كون تلك الأدلة دون وجودها ودلالتها على المسائل الفرعية. وقولنا: وكيفية دلالتها على الأحكام: أردنا به الشرائط التي بها يصح الاستدلال بتلك الأدلة كالاستدلال بعموم اللفظ إنما يصح بشرط عدم المخصص، وبالحقيقة يشترط عدم قرينة صارفة عن مدلولها. وقولنا: وكيفية حال المستدل بها: أردنا به أن الذي يدل به حكم الله تعالى إن كان عالما وجب عليها الاجتهاد ويذكر فيه شرائط الاجتهاد وما به يكمل، وإن كان عاميا وجب عليه الاستفتاء ويذكر فيه شرائطه، وممن يستفتى عند اجتماع المجتهدين.

[موضوع علم أصول الفقه] وأما موضوعه: فاعلم أن موضوع كل علم لا يبحث فيه عن أعراضه الذاتية كأفعال المكلفين للفقه من حيث إنها تجوز أو لا تجوز، أو تجب أو لا تجب، والوجود للعلم الإلهي وبدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض للطب، والمقدار للهندسة، والمراد من الأعراض الذاتية: هو ما يلحق الشيء لما هو هو أو لمساوي له أو لأعم ذاتي له، فأما ما يلحق الشيء لأعم خارجي أو أخص فهو العرض القريب، فموضوع أصول الفقه هو أحوال الأدلة الموصولة إلى الأحكام الشرعية، من يحث إنها أدلة ومن حيث منطوقها ومفهومها وعمومها وخصوصها ومجملها ومبينها وغيرها من الأحوال العارضة للفظ واختلاف مراتبها وأقسامها وكيفية استثمار الأحكام منها على الوجه كله.

وأما علته الغائبة فهي معرفة الأحكام الشرعية التي بها انتظام المصالح الدينية والدنيوية كما عرفته من قبل.

"الفصل الثاني" في تعريف ما يحتاج إليه أصول الفقه من الألفاظ

الفصل الثاني في تعريف ما يحتاج إليه أصول الفقه من الألفاظ

الفصل الثاني في تعريف ما يحتاج إليه أصول الفقه من الألفاظ لما عرفنا أصول الفقه بمجموع أدلة الفقه، وكيفية دلالتها على الأحكام وجب علينا تعريف الدليل، والحكم الشرعي وما يتوقف عليه معرفتهما. أما الدليل في اللغة: فيطلق على ناصب الدليل، وعلى ذاكره، وعلى ما فيه الدلالة. ثم قيل: الأول هو الحقيقة، والباقيان مجازات كمخصص فإنه حقيقة في إرادة صاحب الكلام. وقد يطلق بطريق التجوز على نفس الكلام الذي يدل على إرادته وعلى ذاكره ومعتقده / (5/ب) وأما في اصطلاح الفقهاء: فالدليل: هو ما فيه الدلالة سواء كان النظر فيه موصلا إلى العلم أو الظن.

والمتكلمون: خصصوه ما يوصل إلى العلم، وأما الذي يوصل إلى الظن فخصصوه بالأمارة. وأما عند الفقهاء: فالدليل أعم منها، إذ الدليل قد يفيد العلم. والأمارة لا تفيده. أما النظر في اللغة: فقد جاء لمعاني كالانتظار. وتقليب الحدقة والرؤية، وبهذا المعنى يتعدى بإلى، والرأفة والرحمة، وبهذا المعنى يتعدى باللام، والتأمل والاعتبار وبهذا المعنى يتعدى بفي.

وقد جمع هذه المعاني الثلاثة بعض الخلفاء في قوله: ثلاث أحبهن صديق أنظر إليه ومحتاج أنظر له وكتاب أنظر فيه. وأما في الاصطلاح: فهو عبارة عن ترتيب أمور متصورة أو مصدق بها في الذهن لاستفادة أمر آخر مجهول منها، وهذا على رأي الجماهير القائلين بإمكان اكتساب التصورات.

وأما من يقول بأن التصورات كلها ضرورية فالنظر عنده فيها غير متصور. فنذكر مكان: أمور. تصديقات. ثم أن تلك الأمور إن كانت مطابقة لمتعلقاتها مع صحة التأليف على ما عرف ذلك في علم آخر فهو النظر صحيح وإلا فهو الفاسد. ثم تلك الأمور إن كانت تصديقات معلومة، كان اللازم عنها كذلك، وإن كانت ظنية أو بعضها كان اللازم عنها أيضا ظنيا، إذ الفرع لا يكون أقوى من الأصل. ويعرف مما ذكرنا أن شرط النظر العقل وانتفاء أضداده كالنوم والغفلة. وان لا يكون جاهلا بالمطلوب ولا عالما به من كل الوجوه، ولا من الوجه الذي يطلبه، لئلا يلزم تحصيل الحاصل. وأما العلم والظن: فتعريفهما يستدعى تقسيما جامعا مترددا بين النفي والإثبات. فنقول: العقل إما أن يتردد في ثبوت الشيء ونفيه تردد السواء، أو لا يتردد بل يحكم بأحدهما، أما مع تجويز نقيضه تجويزا سواء، أو تجويزا مرجوحا، أو لا مع تجويز النقيض، والقسمان الأولان هو الشك.

والفرق بينهما فرق ما بين العام والخاص، فإن الأول منهما قد يكون لعدم الدليل على الاحتمالين وقد يكون لدليلين متساويين على الاحتمالين. وأما الثاني فإنه لا يكون إلا لدليلين متساوين وإلا لم يكن ذلك الحكم معتبرا، لأنه حينئذ يكون بالتشهي. فإن قلت: فعند التساوي يكون الحكم بأحدهما أيضا بالتشهي. قلت: عند تعارض المتساويين يتخير المكلف في الحكم بأحدهما/ (6/أ) على رأى، وليس كذلك عند عدم الدليل. ثم الذي يدل على أن القسم الأول منهما شك- وإن لم يذكره كثير من الأصوليين- أن من توقف عن الحكم بثبوت الشيء ونفيه يقال: إنه شاك في وجوده ونقيضه، ويقال: للسوفسطائية المتوقفين في حقائق الأشياء

الشاكين والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأما الثالث فالراجح منه ظن صادق إن طابق وإلا فظن كاذب، والمرجوح منه وهم صادق إن طابق، وإلا فوهم كاذب. وأما الرابع: فإن لم يكن مطابقا فهو الجهل، وإن كان مطابقا ولم يكن

بموجب فهو اعتقاد المقلد، وإن كان بموجب فذلك الموجب إن كان حسا فهو العلم الحاصل من الحواس الخمس، وإن كان وجدانا فهو العلم بالوجدانيات وهذا على رأي من لم يخص العلم بالكليات، وإن كان عقلا فإن كان مجرد تصور طرفي القضية كاف في الجزم بذلك فهو البديهيات، وإلا فهو النظريات. وإن كان مركبا من العقل والحس فإن كان ذلك الحس السمع فهو العلم بالمتواترات أو غيره وهو المجربات والحدسيات. وفرق الإمام بينهما من حيث اللفظ أن التجربة إنما تستعمل فيما فيه لأفعالها مدخل كما في الأدوية والأغذية. وأما الحدس فيما ليس كذلك

كقولهم: لما روى اختلاف نور القمر عند قربه وبعده من الشمس فإنه يحدس عند ذلك بأن نوره مستفاد من الشمس. والصحيح أن بينهما فرقا من حيث المعنى أيضا. وهو أن الحدس إنما يكون فيما فيه سرعة الانتقال من الأقوال المؤثر بسبب الدوران ولا يشترط ذلك في التجربة فإن أكثر استعمالها في الأدوية والأغذية وخواص الأشياء، ومعلوم أن عليتها لا يعلم إلا بتكرر الفعل مرة بعد مرة، ومعنى الحدس في اللغة: ينبئ عن هذا الفرق وقد ظهر لك من هذا التقسيم معنى العلم والظن. ثم اعلم أن الأصوليين اختلفوا في تصور العلم فمنهم من زعم أنه ضروري غني عن التعريف. واستدلوا عليه بوجهين: أحدهما: أن كل واحد يعلم نفسه ضرورة، ويعلم أنه عالم بالضرورة، ومتى كان التصديق ضروريا كان ما يتوقف عليه ذلك التصديق أولى أن يكون ضروريا. وثانيهما: أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره لزم الدور. وهما ضعيفان.

أما الأول. وهو الذي عول عليه الإمام، وذكره الإمام في كثير من كتبه/ (6/ب) في أن كل تصور يتوقف عليه التصديق الضروري أولى أن يكون ضروريا. وذكر في بعض مؤلفاته، أن هذا هو الضابط في تمييز التصورات الضرورية عن المكتسبة عند القائلين باكتساب التصورات، وقال: "وأما ما لا يكون تصديقه ضروريا فقد يكون تصوره ضروريا، وقد يكون كسبيا. وما ذكره لا يستقيم لا على رأيه ولا على رأي الجمهور. أما الأول: فلأن شيئا من التصورات غير كسبي عنده بل كلها ضروري فلا حاجة إلى الاستدلال بالتصديق على أن تصور طرفيه ضروري أيضا. وأما الثاني: فلأن التصديق الضروري عندهم مفسر بما يصور طرفيه كاف في الجزم به، ولو كانا كسبيين سواء قيل التصور شطر التصديق أو شرطه فلا يلزم من كون التصديق ضروريا أن يكون تصور

طرفيه ضروريا، نعم لو جعل التصديق عبارة عن الحكم، وعن تصور طرفيه لا عن الحكم فقط، كما هو مذهب جماهير المتقدمين ونعني بالتصديق الضروري ما يكون كل واحد من أجزائه ضروريا، فإنه حينئذ يلزم أن يكون تصور التصديق الضروري ضروريا لكن لا حاجة إلى الاستدلال على ذلك، فإن كون الشيء ضروريا عندنا يفرض [كونه] ضروريا ضروري، ولو فسر التصديق الضروري بما لا ينفك الذهن عنه لا معنى أنه حاصل فيه بالفعل أبدا، لأنه حينئذ يلزم أن لا يكون شيء من التصديقات الضرورية ضروريا ضرورة خلوه عنها جميعا في بعض الأحيان كما في حالة النوم والغفلة، ولا بمعنى أنه لا ينفك عنه بالقوة المطلقة، لأنه حينئذ يلزم أن تكون التصديقات النظرية ضرورية ضرورة أن الذهن لا ينفك عنها بالقوة بل بمعنى أنه لا ينفك عنه بالقوة القريبة من الفعل كما في المغفول عنه والمنسي فإنه متى تذكر خطر بالبال، فحينئذ يلزم أن كل ما يتوقف عليه التصديق الضروري يكون ضروريا، لأن مالا ينفك عن الملزوم لا ينفك عن اللازم لكن يرجع حاصله إلى أن تصورات التصديقات الضرورية ضرورية لكن ربما يتنبه الذهن لها في بعض الأوقات، فإن توجه إليها تمثلت. وأما الثاني: فلأن توقف غير العلم على العلم من حيث إنه إدراك له لا من حيث إنه صفة مميزة له وتوقف العلم على غيره من حيث إنه صفة مميزة له عما سواه، إذا تغاير الجهتان فلا دور. ومنهم من قال: إنه غير ضروري، بل/ (7/أ) يحتاج إلى التعريف

لكن بطريق القسمة والمثال فقط، وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي رحمهما الله- فإن قالا ذلك بناء على أن التعريف بالقسمة والمثال، مغاير

للتعريف بالحد والرسم فهو باطل، إذ التعريف بالقسمة لابد وأن يفيد إشارة عما عداه وإلا لم يصح التعريف بها، فإن كان ذلك بالذاتيات فهو إما حد تام أو ناقص، وإن كان بالخارجي فقط أو به وبالداخل فهو الرسم الناقص أو التام. وأما التعريف بالمثال فهو تعريف رسمي، لأن مثال الشيء مشابه له من وجه وتلك المشابهة من لوازم ماهيتهما فيكون تعريف الشيء به تعريفا رسميا، وإن قالا: ذلك بناء على أنه يتعذر أو يتعسر أن يذكر له حدا ورسما لتعذر الاطلاع. والوقوف أو تعسره على الذاتي

أو الخارجي. فهو حق لكنه غير مختص بالعلم، فإن ذلك في كل الأشياء، إذ التمييز بين الذاتي والخارجي في غاية العسر لو أمكن. ومنهم من قال: يمكن أن يعرف بالحد والرسم أيضا: وذكروا له حدودا كثيرة لا يكاد يصح واحد منها على ما عرف تزييفها في الكتب القديمة والجديدة، فمن أراد فعليه بمطالعتها. ولكن نذكر منها واحدا هو أقرب ما قيل: العلم عبارة عن صفة بها تميز بين حقائق الأشياء تمييزا لا يتطرق إليه احتمال نقيضة. فالصفة كالجنس له لاشتمالها عليه وعلى غيره. وقولنا: بها تميز: احترزنا: به عن الحياة والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بها. وقولنا: تمييزا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه: احترزنا: به عن الظن فإنه وإن ميز به بين حقائق الأشياء لكن بحيث يتطرق إليه احتمال نقيضه، وهذا على رأي من لم يخص العلم بالكليات. فأما من خصه فيجب أن يفيد بالكليات. تنبيه: قد عرفت مما سبق أن الظن: هو الاعتقاد الراجح مع تجويز النقيض ويغايره

اعتقاد الراجح، واعتقاد الرجحان، مغايرة العام والخاص فقد لا يكون معهما اعتقاد آخر، وحينئذ: إما أن يكون علما، وتقليدا، أو جهلا. وإن اعتبرت القدر المشترك بين أن يكون معه اعتقاد آخر أو لا يكون ففيه التقسيم من رأى سوى الشك فإنه لا ينشأ من تقسيم اعتقاد الرجحان، لأنه لما ترجح جانب الوقوع مثلا صار جانب اللاوقع ممتعنا أو مرجوحا فلم يحصل التساوي، وكذلك رجحان الاعتقاد ظنا بشرط أن يكون معه اعتقاد آخر مرجوح لا مطلقا، لأنه لا يستدعى/ (7/ب) أن يكون معه اعتقاد آخر مرجوح، إذا يصح تقسيمه إلى المانع من النقيض وإلى غير المانع منه فيصح أن يقال رجحان الاعتقاد، أما أن يكون بحيث يمنع من النقيض أو لا يمنع إلى آخر التقسيم. وكلام الإمام يدل على أن رجحان الاعتقاد بإطلاقه هو الظن. وهو غير سديد لما عرفت.

الفصل الثالث في الحكم الشرعي

الفصل الثالث في الحكم الشرعي

الفصل الثالث في الحكم الشرعي والحكم في اللغة: قد جاء بمعنى المنع والصرف، يقال: حكمت الرجل عن إرادته إذا صرفته عنه، ومنه سمي الرجل حكيما، لأنه يمنع نفسه عن ما لا ينبغي، ومنه الحديدة التي في اللجام، لأنها تمنع الدابة عن العدو والجموح، وبمعنى الإحكام والإتقان، ومنه الحكيم في صفاته تعالى، وهو فعيل بمعنى مفعل. فيكون الفعل حكما يحتمل أن يكون مأخوذا من الأول، لأنه شرع زاجرا وصارفا عما لا ينبغي من الأفعال. قال الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. ويحتمل أن يكون مأخوذا من الثاني، لأنه يدل على إحكام وإتقان شارعه، حيث خص كل فعل بما ينبغي تخصيصه به. [تعريف الحكم الشرعي في الاصطلاح] واختلفوا فيه في العرف الشرعي. فقال بعضهم: إنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين.

وقيل: مكان المكلفين: العباد، وهما غير مانعين، لأن أخبار الشارع "غير" أفعال المكلفين بكونه خالقا لها كقوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}، أو كونها مخلوقة لهم، كما دلت عليه آيات القدر وغير ذلك من أوصاف الفعل، وكقوله عليه السلام: "صلة الرحم تزيد في العمر"،

و "صلاة الضحى تزيد في الرزق" خطاب منه متعلق بأفعالهم مع أنه ليس حكما شرعيا. ويخص الثاني بأنه غير مانع من وجه آخر، وهو أنه يقتضى أن يكون الخطاب المتعلق بأفعال الصبيان والمجانين حكما وليس كذلك فإن فعل غير المكلف لا يوصف بحكم من أحكام الشرع كفعل البهيمة. وقيل: إنه خطاب الشارع المفيد شرعية. وهو غير مانع أيضا، لأنه يقتضى أن ما ثبت من صفات الله تعالى بخطاب الشارع الذي لا يدل العقل عليه نحو السمع والبصر عند من يجعلهما عقليتين، ونحو الاستواء والنزول

وغيرهما من الصفات السمعية يكون حكما شرعيا وليس كذلك وفاقا وقال الأكثرون من أصحابنا: إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء، أو التخيير، "أو الوضع". ولابد من شرح قيوده"- فالأول: / (8/أ) الخطاب، قيل: إنه عبارة عن الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئا. واعترض عليه: بأنه غير مانع، إذ يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد المتكلم به إفهام المستمع مع أنه يفهم منه شيئا وهو ليس بخطاب. ثم قال المعترض: والحق أن يقال: إنه لفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.

وقال: اللفظ المتواضع عليه: احتراز: ما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة، والمتواضع عليه: احتراز: عما ورد على الحد الأول. وقولنا: المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه: احتراز: عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه، فقول: المعترض: المتواضع عليه: احتراز: عما ورد على الحد الأول: مؤذن منه بأنه أراد بقوله: في الاعتراض: الكلام الذي لم يقصد به المتكلم إفهام المستمع عدم القصد لعدم الوضع. وحينئذ يكون الاعتراض ساقطا. لأن الكلام مذكور في التعريف وهو يمنع من دخول المهمل فيه على اصطلاح النحويين والأصوليين جميعا، إذ المهمل ليس بكلام عند أحد منهم. نعم يرد عليه الكلام الذي لم يقصد المتكلم به إفهام المستمع لا لعدم الوضع، بل إما لعدم قصده المتكلم به كالصادر من النائم والمغمى عليه، أو فإن وجد لكن لم يقصد به إفهام المستمع كما إذا شافه بكلامه جمادا أو حيوانا غير ناطق فإن السامع يفهم منه شيئا لو سمع مع أنه ليس بخطاب. لا يقال: لا نسلم أنه ليس بخطاب في الصورة الثانية. ولهذا يقال: خطاب الجماد وخطاب العربي بالزنجية قبيح، فلولا أنه خطاب وإلا لما حسن ذلك. لأنا نقول: تسميته خطابا مجاز لمشابهته الخطاب صورة، بديل أن الخطاب يستدعى مخاطبا ويشترط فيه كونه فاهما وفاقا.

وأما التعريف الثاني: فيرد عليه أن التكلم بالمجاز لا يكون خطابا، إن أراد بالوضع ما يخص الحقيقة، وأن أراد به ما يعم الحقيقة والمجاز، فلا نسلم أن إطلاق لفظ الوضع عليها بالاشتراك المعنوي حتى يصح إرادتهما منه، بل بالاشتراك اللفظي. وحينئذ لا يصح إرادتهما منه، ولئن سلمنا ذلك: لكن يقتضى أن يكون التكلم به لا يكون خطابا عند من لا يعتبر الوضع فيه، لكنه باطل. إذ التكلم بالمجاز خطاب سواء اعتبر الوضع فيه أو لم يعتبر. وإذا كان في اعتبار الوضع هذا النوع/ (8/ب) من الأشكال فالأولى أن يحذف. ويقال: إنه الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئا مع قصد المتكلم به إفهامه، ولا يرد عليه شيء مما ورد على التعريفين المذكورين. وقولنا: المتعلق بأفعال المكلفين: احترزنا به عن أفعال الصبيان والمجانين وسائر الحيوانات، إذ لا يتعلق بأفعالهما حكم شرعي، لا يقال: لا نسلم أنه لا يتعلق بأفعالهم حكم شرعي. إذا يتعلق بإتلاف الصبي والمجنون وسائر الحيوانات الضمان وهو حكم شرعي، وكذلك يتعلق بدلوك الشمس وجوب الصلاة، وأيضا: الصبي مأمور بالصوم والصلاة على طريق الاستحباب في سن التمييز لقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة لسبع"

الحديث والاستحباب حكم شرعي، وإذا كان كذلك كان الحد غير جامع فيكون باطلا.

لأنا نقول: الدليل على أنه لا يتعلق بأفعالهم حكم شرعي الإجماع، إذ جمعت الأمة على أن شرط التكليف العقل والبلوغ وإذا انتفى التكليف عنهم لفق شرطه انتفى الحكم الشرعي عن أفعالهم. والمعنى من تعلق الضمان بإتلاف الصبي، أن الولي مأمور بإخراج الضمان من ماله عند إتلافه. وهو الجواب عن تعلق الضمان بإتلاف المجنون والبهائم، والمعنى من وجوب الصلاة بالدلوك أن الرجل مكلف بالصلاة عند مشاهدته أو علمه أو ظنه به فيرجع إلى أنه يتعلق بفعل المكلف. ولا نسلم أن الصبي مأمور بالصوم والصلاة. وهذا لأن الأمر بالشيء لا يكون أمرا بذلك الشيء. سلمنا ذلك: لكن ليس ذلك على حقيقته بل هو على وجه التأديب كي لا يصير الترك عادة له. وإنما قلنا: بالاقتضاء أو التخيير: ليشمل الأحكام الخمسة. وهذا لأن الاقتضاء إن كان اقتضاء فعل مع المنع من النقيض فهو الوجوب. وإن لم يكن معه فهو الندب.

وإن كان الاقتضاء اقتضاء ترك، فإن كان مع المنع من النقيض فهو الحرمة. وإن لم يكن معه فهو الكراهة، وأما التخيير فهو الإباحة. وإنما قلنا أو بالوضع يتناول الحكم بالسببية، والشرطية، والمانعية. فإنها أحكام شرعية غير داخلة تحت الاقتضاء والتخيير، فلو لم يذكره لم يكن الحد جامعا. فإن قلت: تعريفكم يقتضي أن يكون الحكم حادثا، وهو نقيض مقصودكم من رد الحكم إلى الخطاب، فإنكم إنما رددتموه إليه ليلزم قدمه كقدم الخطاب. وإنما قلنا: ذلك لأن الأفعال حادثة، وتعلف الخطاب بها/ (9/أ) يتوقف على وجودها ضرورة استدعاء النسبة وجود المنتسبين، والمتوقف على

الحادث حادث فيكون الخطاب متعلقا بها حادث فيكون الحكم حادثا. قلت: تعلق الخطاب بالفعل لا يستدعى تحققه في الخارج، يدل عليه أن اقتضاء الفعل بالقول في الشاهد والغائب يكون قبل الفعل وإلا لكان تحصيلا للحاصل بل يكفى فيه تقدير وجوده، فحكم الله محل الفعل هو قوله رفعت الحرج عن فاعله. ولو فعله، وبوجوبه أن من فعله أثبته، ومن تركه عاقبته، ومعلوم أن هذا لا يستدعى وجود المخاطب فكيف فعله. فإن قلت: سلمنا: أنه لا يقتضى الحدوث بل يقتضى القدم لكنه باطل لوجوه: أحدهما: أن الفعل الحادث يوصف بالحل والحرمة فيقال: الغصب حرام

وإراقة دم المرتد حلال، وما يكون وصفا للحادث يستحيل أن يكون قديما. وثانيها: أن الحكم الشرعي معلل بالسبب الحادث كحل الوطء بالبيع والهبة والنكاح ومعلول الحادث يستحيل أن يكون قديما. وثالثها: لو كان الحكم قديما لما جاز التصريح بحدوثه، لكنه يجوز إذ يصح أن يقال: وجب هذا بعد أن لم يكن كذلك، وحلت المرأة بعد أن لم تحل فلم يكن قديما. الجواب عن الأول: ما تقدم وهو أن المعنى من كون الفعل حلالا هو قوله: في الأول: رفعت الحرج عن فاعله، وإنما الفعل متعلقة، وإنما أطلق عليه الحال لكونه مقولا فيه ذلك. وعن الثاني: أن المعنى من التعليل التعريف، ويجوز أن يكون الحادث معرفا للقديم. وعن الثالث: أنا لا نسلم أن ذلك تصريح بحدوث الحكم، بل بحدوث التعلق نحو [تعلق] الإحلال بها أو حدوث متعلق الحكم "فإن الحكم" عندنا هو ذلك القول الإزلي.

وأما الحنفية من أهل السنة فقد عرف بعضهم الحكم، بأنه عبارة عن تكوين الله الفعل على وصف حكمي. وقال: أعني به كونه حسنا أو قبيحا أو واجبا أو ندبا، وهو باطل، لأنه لا يعرف الوصف الحكمي ما لم يعرف الحكم بتعريف الحكم به دور، ثم تفسيره الوصف الحكمي بالحسن والقبح والوجوب والندب لا تفيد لأنها أنواع الحكم فتتوقف معرفتها على معرفة الحكم, فلو عرف الحكم بها لزم المحذور المذكور. سلمنا: أنه لا دور، لكنه تطويل من غير فائدة، فإنه يكفيه أن يقول: يكون الله الفعل على وصف الوجوب والندب والحسن والقبح من غير تعرض للحكم. والأولى: أن يقال في ذلك على أصلهم: بأنه عبارة عن تكون الفعل على وجه يكون المكلف مأذونا في فعله وتركه على السواء، أو يكون أحدهما أرجح من الآخر في نظر الشارع أو على وجه الوضع. واحترزنا بقولنا: / (9/ب) في نظر الشارع: عن جلب المنافع ودفع الآلام التي هي عقلية، فإنه وإن ترجح فيه أحد الجانبين على الآخر لكن ليس ذلك في نظر الشارع، بل بسبب اللذة ودفع المكروه عن النفس.

والأول: الإباحة. والثاني: يتناول الأحكام الأربعة الباقية. والثالث: الحكم بالسببية والشرطية والمانعية، فالحكم عندهم هو تكوين الله الفعل على الوجه المذكور. وكون الفعل على ذلك الوصف محكوم له تعالى لا حكمه، فعلى هذا يكونون موافقينا من وجه، وهو قدم الحكم، لأن التكوين والتخليق والإيجاد وما يجرى مجراها من صفات الأفعال كلها أزلي عندهم، ومخالفينا من وجه، وهو أن الحكم عندهم عبارة عن الفعل المخصوص، وعندنا عبارة عن الخطاب المخصوص. فإن قلت: قد أدخلت "أو" في التحديد وهي لتعليق الحكم بأحد المذكورين وذلك يقتضى الإبهام والتحديد للتوضيح وبينهما منافاة فيكون غير جائز. قلت: مرادنا منه: أن ما وقع تكوينه على أحد وجوه الثلاثة يكون حكما، وما لا فلا، ومعلوم أن هذا لا إبهام فيه.

النوع الأول: الكلام في اللغات وفيه فصول

النوع الأول الكلام في اللغات وفيه فصول

"الفصل الأول" في حد الكلام والكلمة وأقسامها

الفصل الأول: في حد الكلام والكلمة وأقسامها

الفصل الأول: في حد الكلام والكلمة وأقسامها اعلم أن لفظ الكلام مشتق من الكلم وهو الجرح، والحروف المسموعة المفهمة إنما سميت بذلك، إما لأنها تكلم القلب بالإفهام أي توثر فيه به، إذ الكلام يستلزم التأثير. وإما لأن بعض أنواعه يجرح القلب بالإيذاء والإنكاء ولذلك قيل. كلم الكلام أشد من كلم السهام. ثم سمي الجنس باسم نوعه كتسمية علم أصول الدين بعلم الكلام، فإن مسألة الكلام بعض [أنواع] مسائله. ثم اختلف العلماء في أن الكلام حقيقة فبماذا: أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنه حقيقة في العبارة فقط.

وأما أصحابنا فقد اختلفوا فيه، فالأكثرون على أنه لفظ مشترك بين المعنى القائم بالنفس وبين العبارة الدالة عليه، وإن كان الاشتقاق لا يشهد لهم في أنه حقيقة في المعنى، وقال بعضهم كإمام الحرمين إنه حقيقة في المعنى مجاز في العبارة تسمية للدليل باسم المدلول. وعلى التقديرين فالذي يتعلق غرضنا به في هذا الكتاب هو الكلام بمعنى العبارة سواء كان حقيقة فيه بطريق الانفراد أو الاشتراك- أو مجازا. وأما الكلام بالمعنى القائم بالنفس فالكلام في علم الكلام، فنقول اختلف الأصوليون والنحويون في تحديده. أما الأصوليون فقد قال أبو الحسين البصري/ (10/أ) منهم: الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها الصادرة عن

قادر واحد. وقولنا. المنتظم. وهو إن كان حقيقة فيما يوجد أجزاؤه معا بصفة التأليف وهو غير متصور الحصول في الحروف لتعاقبها في الوجود لكن إنما أطلقناه عليها على طريق التجوز. ووجهه أن الحروف المسموعة مشابهة له في كونها تحس معا من غير إحساس بالتعاقب. وقولنا: من الحروف: احترزنا بع من الحرف الواحد فإنه ليس بكلام. فإن قلت: لا نسلم أن الحرف الواحد ليس بكلام ألا ترى أن "ق" و "ع" كلام مع أنه حرف واحد. قلت: الدليل على أن الحرف الواحد ليس بكلام الإجماع، إذ النحاة والأصوليون أجمعوا على أن أقل ما يمكن أن يكون كلاما حرفان، وأما "ق" و "ع" فإن كل واحد منهما وإن كان حرفا واحدا في الظاهر، لكنهما في الأصل حرفان، القاف والياء والعين والياء، ولذلك يرجع الياء الساقطة في حالة التثنية فيقال: قيا وعيا. واحترزنا: بالمسموعة، عن المكتوبة، فإنه وإن أطلق عليها الكلام كما في قولهم: المكتوب في المصاحف كلام الله لكن على وجه التجوز.

وقولنا: المتميزة: احترزنا بها عن أصوات كثير من الطيور. واحترزنا: بالمتواضع عليها، من المهملات. وبالصادرة عن قادر واحد عن الصادر عن قادرين فصاعدا، كما إذا صدر "القاف" من "قف" من واحد، و "الفاء" من واحد آخر فإنه لا يسمى كلاما. واعلم أن هذا الحد: يقتضي أن يكون بعض ما هو كلمة عند النحاة. كالاسم والفعل والحرف الذي على حرفين كلاما عند الأصوليين، وهو قولهم: ولا يقتضي أن كل ما هو كلمة عند النحاة كلام عندهم حتى يتجه أن يقال الحد غير جامع، لأنه غير متناول لبعض الكلمة التي هي على حرف واحد كباء الإلصاق ولام التمليك. والأولى: أن نحد الكلام والكلمة على وجه لا يلزم منه مخالفة النحاة، لأن اتفاقهم في المباحث العربية حجة على غيرهم، فيقول: كل منطوق به على سبيل الاستقلال دال بالاصطلاح على معنى مفرد فهو الكلمة.

فقولنا. كل منطوق به: احترزنا به عن الإيماء والإشارة والكتابة. وقولنا: على سبيل الاستقلال: عن الحركات الإعرابية كالرفع والنصب، فإنه- وإن كان منطوقا به دال بالاصطلاح على معنى مفرد- وهو الفاعلية والمفعولية- لكنه ليس على سبيل الاستقلال. وقولنا: دال بالاصطلاح احتراز عن اللفظ المهمل فإنه وإن دل على حياة لافظه لكن ليس ذلك بالاصطلاح بل بالعقل، واحترزنا بالمعنى المفرد: عن الكلام. ومن هذا تعرف ضعف ما ذكره الإمام في حد الكلمة هو: / (10/ب) كل منطوق بع دل بالاصطلاح على معنى فهو الكلمة، وأما الكلام: فهو المركب الذي يحسن السكوت عليه.

فقولنا: المركب: احترزنا به عن الكلمة. وقولنا: يحسن السكوت عليه: عن مثل قولك غلام زيد، وهو إنما يتألف من اسمين كقولك: زيد قائم، "أو من اسم وفعل"، أو من اسم وحرف، وهو في النداء خاصة. وأما الأقسام الثلاثة الباقية فلا يحصل منها الكلام. ومنهم من لم يعتبر التأليف الأخير قسما مستقلا، بل زعم أنه راجع إلى القسم الثاني، لأن حرف النداء نائب مناب الفعل وتقديره أدعوك أو أناديك. واعترض عليه: بأنه لو كان كذلك لاحتمل التصديق والتكذيب كأصله. وأجيب عنه: بمنع الشرطية، وهذا لأنه نقل عن الخبرية إلى الإنشائية كصيغ العقود وهي غير قابلة للتصديق والتكذيب مع بقاء صيغة الخبرية فهذا أولى أن لا يقبلها لعدم معنى الخبرية وصيغته. ثم اعلم أن أنواع الكلام أربعة، الجملة الإسمية كقولنا: زيد قائم، أو زيد قام، والجملة الفعلية كقولنا: قام زيد، والجملة الشرطية كقولنا: إن تكرمني

أكرمك، والجملة الظرفية كقولنا: في الدار زيد، والأخيرتان ترجعان إلى الأولتين. وأما أقسام الكلمة فثلاثة: لأنها إن لم تدل على معنى في نفسها فهي الحرف، سميت بذلك، إما لوقوعها في طرف الكلام في الرتبة، وإما لأن بعض أنواعها على حرف واحد كباء الإلصاق ولام التمليك فسمي الجنس باسم نوعه. وإن دلت، فإما أن تدل على الزمان بصيغتها ووزنها أو لا تدل كذلك والأول هو الفعل والثاني الاسم، وإن شئت عبارة أخرى فقل: الكلمة إن دلت على معنى في غيرها فهي الحرف، وإن دلت على معنى في نفسها وعلى زمان هو ظرف لمسماه فهي الفعل، وإن دلت على معنى في نفسها من غير أن تدل على زمان هو ظرف لمسماه فهي الاسم، وسمي الفعل فعلا لكون مدلوله فعلا في الأكثر فهو من باب إطلاق اسم المدلول على الدليل. وأما الاسم فإنما سمي اسما إما لسموه على قسيميه، أو لأنه سما بمسماه فكشفه وأظهره، وإما لكونه علامة بمسماه. وقد ظهر بما ذكرنا من التقسيم تمييز كل واحد منها عن الآخر. تنبيه: اعلم أن ما ذكرنا من أن الفعل نوع من أنواع الكلمة على الإطلاق من غير تفصيل فإنما هو على رأي النحاة، وأما الحكماء فقد فصلوا بين الماضي والمضارع، واتفقوا على أن الماضي منه كلمة "واحدة" وإن دل على المصدر وعلى موضوعه الغير معين لما أنه ليس فيه جزء مستقل يدل على جزء

المعنى. واختلفوا في المضارع، فذهب أبو علي منهم إلى أن الذي للغائب منه / (11/أ) كلمة أيضا لكونه غير دال على الموضوع المعين كالماضي. وذهب الباقون إلى [أن] كل واحد من ألفاظ المضارع كلام لكونه محتملا للتصديق والتكذيب، مع أن لجزئه دلالة على جزء المعنى إذ حرف المضارع فيه يدل على الموضوع الذي صدر المصدر منه معينا كان أو غير معين كما في الغائب كلمة بالاتفاق كالماضي لكن الأول أقرب وأوثق، إذ الفرق عسير، فكان اتفاق الكل عليه أبعد.

الفصل الثاني في البحث عن مبدأ اللغات

الفصل الثاني في البحث عن مبدأ اللغات

الفصل الثاني في البحث عن مبدأ اللغات اعلم أن دلالة اللفظ على المعنى: إما لمناسبة طبيعية بينه وبين معناه، وإما بالوضع: والأول مذهب عباد بن سليمان من المعتزلة ومن وافقه من غيرهم.

وهو يحتمل وجهين:- أحدهما: أن تلك المناسبة الطبيعة حاملة للواضع على أن يضع ذلك اللفظ، لذلك المعنى سواء كان الواضع هو الله تعالى أو غيره. وهذا قريب لكن لا يمكن ادعاؤه في كل الألفاظ واللغات، لأنا نعلم بالضرورة أن ما يذكرونه من المناسبة بين حروف الألفاظ وبين معانيها غير مرعية في كل الألفاظ واللغات، ولأنه لو كان كذلك لما وقع المشترك بين الضدين كالقرء والجون، لأن الشيء الواحد لا يناسب الضدين مناسبة طبيعية، ولأنه لو كان كذلك لما اختلف دلالة الألفاظ على معانيها باختلاف الأمم والأزمنة، لأن المناسبة الطبيعة لا تختلف باختلافهما، فعلى هذا استدلال من استدل من أصحابنا على فساد قوله بما أنا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع لو وضع لفظ الوجود للعدم، أو بالعكس لما كان ممتنعا غير مستقيم، إذ الخصم لا يقول أن ذلك ممتنع على هذا التقدير، بل غايته أنه يلزم الترك بالمناسبة الطبيعية وهو غير ممتنع. وثانيهما: أن تلك المناسبة الطبيعة وحدها كافية في كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني من غير حاجة إلى الوضع. وهذا معلوم الفساد بالضرورة.

واحتج العباد على صحة ما ذهب إليه: بأن دلالة الألفاظ على معانيها لو لم تكن لمناسبة طبيعية لكان اختصاص اللفظ المعين للمعنى دون غيره ترجيحا لحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو باطل. وجوابه: النقض بالإعلام، فإن المناسبة الطبيعة غير حاصلة فيها بالاتفاق. سلمنا سلامته عن النقض لكن نقول: الواضع إن كان هو الله تعالى فله أن يرجح أحد الاختصاصين على الآخر من غير مرجح لكونه فاعلا مختارا. ولئن سلم أنه ليس له ذلك فلم لا يجوز أن يكون المرجح مصلحة يعلمها الله تعالى في ذلك / (11/ب) الاختصاص دون غيره، وإن كنا لا نعلمها. وإن كان هو العبد فله أيضا: أن يرجح أحد الاختصاصين على الآخر من غير مرجح لكونه فاعلا مختارا، وهذا على رأي المعتزلة غير أبي الحسين منهم. وأما على رأي أصحابنا: فلا يستقيم هذا الجواب. بل جوابه: أن يقال لم لا يجوز أن يكون هو حضور ذلك اللفظ في البال دون غيره؟ وهذا كما قيل: في الإعلام. وهو أيضا: جواب المعتزلة.

وأما الثاني: هو أن يكون دلالة اللفظ على معناه بالوضع من غير مناسبة طبيعية. فالواضع إن كان هو الله فهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري والفقهاء، وأهل الظاهر، وهو المسمى بالتوقيف، لكونه متوقفا على إعلام الله تعالى إيانا بأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني، إما بطريق الإيحاء والإلهام، أو بخلق العلم الضروري فينا بذلك. وإن كان هو العبد: فهو مذهب جمهور المعتزلة وهو المسمى بالاصطلاح. وإن كان فيهما

فإن كان ابتداء الوضع من الله تعالى، والباقي من العبد، فهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق. وإن كان بالعكس فهو مذهب بعضهم.

وأما جمهور المحققين: كالقاضي أبي بكر، إمام الحرمين. فقد توقفوا في الكل ولم يقطعوا بشيء من هذه الاحتمالات الأربعة، وقالوا: إن كل هذه الاحتمالات ممكنة. أما الأول: فلأنه لا امتناع في أن يضع الله تعالى اللفظ لمعنى ثم يخلق فينا علما ضروريا بذلك ويلهمنا به. وأما الثاني: فلأنه لا امتناع أيضا: في أن يضع الواحد منا لفظاً بمعنى،

ثم يعرف ذلك غيره بإيماء أو إشارة، وهذا كما يعرف كل واحد من المصاحبين لغته لصاحبه إذا لم يعرف لسانه، وكما يتكلم الولد لغة والديه، وإذا ثبت إمكان تقدير الاحتمالين ثبت إمكان الاحتمالين الباقيين. واعلم: أن الحق في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور المحققين إذ لا قاطع يدل على أحد الاحتمالات المذكورة على ما سيظهر ذلك عند القدح في أدلتهم، وليست المسألة عملية ولا آيلة إلى العمل حتى يكتفي فيها بالأدلة الظنية، وقد ثبت إمكان الكل فوجب التوقف. واحتج القائلون بالتوقف بوجوه: أحدهما: قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} الآية. دلت الآية

على أن الأسماء معلمة من جهته تعالى، بمعنى أنه تعالى اوجد العلم بها فيه عليه السلام، إذ التعلم حقيقة في تحصيل العلم واستعماله في فعل يصلح أن يترتب العلم عليه في مثل قولهم: علمته فلم يتعلم بطريق التجويز، بدليل احتياجه إلى القرينة وهو قوله: فلم يتعلم، إذ لو اقتصر على قوله: علمته، لم يفهم منه هذا المعنى، وإذا / (12/أ) كانت الأسماء معلمة من جهته تعالى وجب أن تكون الأفعال أو الحروف كذلك، ضرورة أنه لا قائل بالفرق، ولأن تعليمها إما لحاجته إليها أو لتكرمته عليه السلام وهما موجودان في الأفعال والحروف، إذ يتعذر التعبير عن كل ما تمس الحاجة إليه بالجملة الإسمية، فيثبت الحكم وهو التعليم لثبوت علته. فإن قيل: هب أن التعليم حقيقة في إيجاد العلم، لكن العلم الحاصل بعد الاصطلاح عندنا من خلق الله تعالى فلم يكن تعليم الأسماء بمعنى إيجاد العلم بها دالا على التوقيف. سلمنا: أن العلم الحاصل بعد الاصطلاح ليس من خلقه تعالى. لكن لا نسلم دلالة الآية على صورة النزاع، لجواز أن يكون المراد من الأسماء الصفات والعلامات، مثل ما يقال: أن الله تعالى علم آدم، أن الخيل تصبح للكر والفر، والجمل للحمل، والثور للحرث، وهذا وإن كان على خلاف العرف لكن الاشتقاق يشهد له، لأن الاسم مشتق من السمو أو السمة، وعلى

التقديرين مما يكشف عن الشيء يكون اسما وحينئذ لا تكون الآية دالة على أن اللغات توقيفية. لا يقال: ما المراد من قولك: يجوز أن يكون المراد من الأسماء الصفات والعلامات. أي: أنها من جملة المراد أو أنها المراد فقط، وهذا الاحتمال وإن كان خلاف ما أشعر به كلامكم، وهو التمسك بشهادة الاشتقاق، لكن لا يمتنع إرادته منه، فإن أردتم به الأول فمسلم، وإن كان على خلاف العرف لكن لا ينافى المقصود بل يحصله، لأن الآية حينئذ تكون دالة على أن كل ما يكشف عن الشيء معلم من جهته تعالى لكونها عامة، ومن جملة الألفاظ الدالة على معاينها، فتكون الآية دالة على أنها معلمة من جهته تعالى. وإن أردتم به الثاني. فنقول: إنه غير جائز لكونه على خلاف العرف والاشتقاق والعموم. قلنا: أردنا به الثاني وتمسكنا بالاشتقاق لبيان صحة كونها مرادة من الأسماء على وجه تخصيص العام ببعض مسمياته. قوله: إنه غير جائز لكونه على خلاف الأصل. قلنا: التمسك بمثله لا يفيد إلا الظن، وقد ذكرنا أن المسألة علمية فلا يجوز التمسك به عليها. سلمنا: أن المراد من الأسماء الألفاظ المخصوصة لكن لا نسلم دلالة الآية على التوقيف، وهذا لأنه يجوز أن تكون تلك الألفاظ موضوعة خلق خلقه الله تعالى قبل آدم من الملائكة والجن ثم أنه تعالى علمها لآدم

سلمنا. دلالة الآية عليه لكن بالنسبة إلى كل اللغات أو بعضها / (12/ب). والأول: ممنوع وهذا لأنا لا نسلم أن الجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم، ولئن سلمنا إفادته لذلك في الجملة، لكن لا نسلم أنه يفيده هاهنا، وهذا لأنا نعلم بالضرورة حدوث بعض اللغات بعده عليه السلام، بل في كل زمان كالألفاظ العرفية وأسامي الحروف والصناعات والآلات الحادثة فيستحيل أن تكون تلك الألفاظ مرادة من الآية فلم يكن العموم مرادا منها. والثاني: مسلم لكن لا يحصل مطلوبكم. سلمنا ذلك لكن لا يلزم منه توقيف هذه اللغات التي نتكلم بها بالنسبة إلينا لجواز أن يقال: إنه عليه السلام نسى هذه اللغات، أو لم يوقف عليها غيره ثم اصطلح عليها من بعده. سلمنا ذلك لكن لم قلت: إن الأفعال والحروف كذلك. قوله: أو لأنه لا قائل بالفصل. قلنا: لا نسلم أن الإجماع دليل قاطع حتى يجوز التمسك به في هذه المسألة. سلمنا: أن الإجماع المطلق دليل قاطع، لكن لا نسلم أن هذا الإجماع وأمثاله كالسكوتي دليل قاطع، بل إما أن لا يكون حجة أو وإن كان حجة لكنه حجة ظنية. قوله: ثانيا عليه التعليم للحاجة.

قلنا: مسمى الحاجة، أو الحاجة المخصوصة والأول ممنوع، والثاني مسلم، ولا يلزم منه كون الأفعال والحروف معلمة أيضا لعدم تلك الحاجة المخصوصة فيها. واعلم أنه وإن أمكن الجواب عن بعض هذه الأسئلة لكن بأجوبة ظنية وقد عرفت أن المسألة عليمة فلا يجوز أن يعول عليها فلذلك تركنا ذكرها. ثانيها: قوله تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم} الآية. ووجه: التمسك بها هو أنه ليس المراد من اللسان الجارحة المخصوصة، لأنه ليس فيه كبير اختلاف، وبتقدير تحققه فإنه ليس بظاهر بخلاف غيره من الأعضاء كالوجه فإنه مع ظهوره واختصاصه بكثرة إبداع الصنع اختص بمزيد الجمال وهو داع للنظر إليه والتفكر فيه فكان ذكره أولى وأفضى إلى المقصود، فلم يكن في ذكره اللسان فائدة، بل المراد منه اختلاف اللغات، إما بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو بطريق إطلاق اسم العلة على المعلول أو اسم المحل على الحال واختلافها إنما يكون آية على وجوده تعالى أن لو كانت اللغات توقيفية. وأجيب عنه: هب أنا نسلم أنه ليس المراد من اللسان الجارحة المخصوصة،

لكن على الحمل على ما ذكرنا من المجاز أولى من الحمل على مجاز آخر، هو الاقتدار على اختراع اللغات أو على تلفظها فلم يتعين ما ذكرتم. ولقائل: / (13/أ) أن يقول: مجاز المستدل أولى. أما إذا قلنا: إنه من باب إطلاق اسم العلة على المعلول أو إطلاق اسم المحل على الحال فظاهر، لأن مجازكم من قبيل الإضمار على ما يبين ومجازه على هذا التقدير ليس كذلك، وإذا وقع التعارض بين المجاز والإضمار فالمجاز أولى. لأنه أكثر والكثرة تدل على قلة المفسدة. وأما إن قلنا: إنه بطريق الإضمار فكذلك لقلة الإضمار على هذا التقدير بخلاف مجازكم فإنه يلزم منه كثرة الإضمار أو المجاز والإضمار معا. بيانه أنا لو حملنا على مجازكم يصير تقدير الآية، واختلاف اقتدار ألسنتكم باللغات، واختلاف اقتداركم باللغات على أنه أطلق اللسان وأورد الاقتدار، كما في إطلاق اليد وإرادة القدرة.

فعلى الأول: يلزم كثرة الإضمار، وعلى الثاني: يلزمه المجاز والإضمار معا وعلى ما ذكرنا لا يلزمه إلا الإضمار الذي هو أقل من إضماركم، لأنه يصير تقدير الآية على ما ذكرنا، واختلاف لغات ألسنتكم وكان أولى. "والأولى أن يجاب بمنع أن اختلاف اللغات إنما يكون آية لو كانت اللغات توقيفية". وهذا لأن واضعها، وإن كان هو العبد فهي مخلوقة لله تعالى على ما عرف عن مذهبنا أن أفعال العباد ونتائجها بخلق الله تعالى. وثالثها: قوله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنت وآباؤكم} الآية. ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف لقوله تعالى: {ما أنزل الله بها من سلطان} يدل عليه، فلو كان غيرها من الأسماء اصطلاحيا

أيضا: لم يكن لتقييد الذم بتلك الأسماء فائدة. وجوابه: أنا لا نسلم أنه ذمهم على مجرد التسمية، بل الذم للتسمية المخصوصة وهي تسمية الأصنام آلهة، مع اعتقاد الإلهية فيها لا مجرد التسمية. سلمنا: أن المجموع ليس علة فلم لا يجوز أن تكون العلة هي التسمية المخصوصة لا مطلق التسمية حتى يلزم ما ذكرتم، وهو أنه لم يكن لتقييد الذم بتلك الأسماء فائدة. سلمنا: أن الذم بمجرد التسمية وأنه يدل على أن ما عداها من الأسماء توقيفا لكن لا يدل على مطلوبكم، وهو أن اللغات بأسرها توقيفية، لأن من جملتها تلك الأسماء وهي ليست توقيفية، بل لو دل فإنما يدل على [أن] البعض منه كذلك كما هو مذهب قوم.

ورابعها: التمسك بالعمومات الدالة على أن علم المخلوقات كله بتعلم الله تعالى كقوله تعالى حكاية عن الملائكة: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} الآية. وقوله تعالى: {علم الإنسان ما لم يعلم}، واللغات من جملتها. وجوابه: يعرف مما تقدم. وخامسها: / (13/ب) وهو الوجه المعقول: أنها لو كانت اصطلاحية لافتقر الواضع في تعريف ذلك الغير إلى طريق، لأن مجرد وضع اللفظ لمعنى غير كاف في كونه مصطلحا عليه ما لم يساعده عليه غيره، وذلك الطريق إن كان اصطلاحيا أيضا كان الكلام فيه كالكلام في الأول ولا يتسلسل

لبطلانه، بل ينتهي إلى التوقيف وهو المطلوب. وجوابه: النقض بتعلم الولد لغة والديه من غير توقيف على التوقيف. سلمنا: سلامته عن النقض لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الطريق هو الإشارة إلى المسمى مع ذكر اللفظ وتكرره، وليس تعريف دلالة هذه الطريقة على كون ذلك اللفظ موضوعا لذلك المعنى يحتاج إلى طريقة أخرى، فإن من رأي غيره مع مسيس حاجته إلى تعريف لغته أنه يشير إلى شيء وتكرر لفظا علم بالضرورة أنه قصد تعريف كون ذلك اللفظ موضوعا لذلك الشيء. سلمنا: أنه لابد وأن ينتهي إلى توقيف لغة ما. فلم قلت: إن تلك اللغة هي هذه؟ هذا من جملة ما اعترض به بعض أصحابنا على الدلالة المذكورة. وهو يشعر بأن النزاع إنما هو في هذه اللغات، وفيه نظر، لأن الكلام في مبادئ اللغات لا في اللغة المخصوصة. سلمنا: أن تلك اللغة هي هذه لكن ما ذكرتم من الدلالة لا يقتضي أن جميعها توقيفيا، الذي هو مطلوبكم بل بعضها، إذ يمكن تعريف ما هو بالاصطلاح بذلك البعض كما هو مذهب الأستاذ.

وأما القائلون بالاصطلاح فقد احتجوا بوجهين:- أحدهما: قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}. دلت الآية على تقديم اللغات على البعثة المتوقف عليها التوقيف، فلو كانت اللغات توقيفية لزم تقدمها على البعثة وتأخيرها عليها معا وهو محال. وثانيهما: لو كانت اللغات توقيفية فطريق وصولها إلى الخلق، إما الإيحاء أو خلق العلم الضروري فيهم بأنه تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني أو غيرها، والأول باطل لما تقدم، والثاني أيضا كذلك، لأن خلق ذلك العلم، إما أن يكون في جميع الخلق المكلفين وغير المكلفين، أو في المكلفين فقط، أو في غيرهم فقط، والقسمان الأولان باطلان لاقتضائهما كون العلم بالله ضروريا، لأنه لما خلق فيهم علما ضروريا بأن واضع الألفاظ لمعانيها هو الله تعالى كان العلم بالله تعالى ضروريا قطعا لكنه باطل، لأنه يلزم منه أن يبطل التكليف بمعرفة الله تعالى. والثالث: باطل أيضا.

أما أولا فلأنه يجب أن لا يحصل العلم بتلك اللغات لغيرهم، لأنه لا يحصل العلم بها إلا بالتعلم منهم وهو غير حاصل منهم إذ / (14/أ) الثقة لا تحصل بقولهم وفعلهم. وأما ثانيا: فلأن من البعيد أن يصير غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات البديعة وبمعانيها الغريبة. والثالث أيضا: باطل وهو أن ذلك الطريق غيرهما، لأن الكلام فيه كالكلام في الأول ولا يتسلسل لبطلانه، بل ينتهي إلى الاصطلاح وهو المطلوب. والجواب: عن الأول أنا لا نسلم توقف التوقيف على البعثة، لأنه يجوز أن يخلق الله فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني لا أنه تعالى وضع. وبه خرج الجواب أيضا عن الثاني، لأنه لا يلزم حينئذ أن تكون معرفة الله ضرورية. ثم نقول: ما ذكرتم معارض بما أن اللغات لو كانت اصطلاحية لما حصل القطع بشيء من مدلولات الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة لاحتمال أن يقال أنها كانت في العصر الأول تدل على معاني غير ما نعرفه الآن، ثم أن الناس اصطلحوا بعد ذلك العصر على دلالتها على هذه المعاني التي نعرفها الآن.

واعلم: أنه يمكنك أن تعرف مما سبق دليل المذهبين الباقيين وجوابه فلا حاجة إلى ذكره.

"الفصل الثالث" في العلة الغائية لوضع الألفاظ للمعاني وسبب اختيارها على غيرها من الطرق

الفصل الثالث في العلة الغائية لوضع الألفاظ للمعاني وسبب اختيارها على غيرها من الطرق

الفصل الثالث في العلة الغائية لوضع الألفاظ للمعاني وسبب اختيارها على غيرها من الطرق اعلم: أن الواحد منا لما خلق بحيث لا يستقل بتحصيل جميع ما لابد له منها احتاج إلى غيره ليعاونه على ذلك وهو إنما يعاونه أن لو عرف حاجته فيحتاج كل واحد من الناس إلى أن يعرف صاحبه ما في ضميره ليمكن التعاون ولابد في ذلك من طريق، وذلك الطريق وإن كان يمكن أن يكون غير الألفاظ، مثل الإيماءات المخصوصة والإشارات المعينة والحروف والرقوم المكتوبة، مثل أن يجعل صورة "الألف" مثلا دليلا على طلب الماء، و "الباء" على طلب الطعام، لكن اختيرت الألفاظ عليها لوجوه: أحدها: أنه يمكن أن يعرف بها كل ما في الضمير موجودا كان أو معدوما محسوسا كان أو معقولا بخلاف غيرها من الطرق، فإنه لا يمكن أن يعرف بها ما غاب عن الحس. وثانيها: أن العبارة توجد حين يراد وجودها وتنعدم حين يستغنى عنها وهو بعد وجودها فلا يطلع عليها من لا يراد اطلاعه عليها بخلاف كتابة الحروف والرقوم وبعض أنواع الإشارات فإنه يحتاج في إزالتها بعد وجودها إلى تعاطي فعل آخر ولا يخفى أن ذلك أشق.

وثالثها: أن الإنسان لابد له من التنفس في حياته، فصرفه ذلك التنفس / (14/ب) الضروري إلى ما ينتفع به انتفاعا كليا أولى من اختراع طريق آخر مستغن عنه. ورابعها: أن المعاني التي يحتاج الإنسان إلى التعبير عنها كثيرة جدا، فلو وضعوا لكل واحد منها علامة خاصة من الرقوم والحروف لزم الاشتراك في أكثرها أو يعسر ضبطها، لأن حفظها غير ممكن. وخامسها: أنه يمكن أن يعلم بالعبارة من لا يكون حاضرا، كما يمكن أن يعرف بها ما لا يكون محسوسا ولا موجودا، وهذا بخلاف الإيماء والإشارة، فإنه لا يمكن أن يعلم بهما من لا يكون حاضرا، كما لا يمكن أن يعرف بهما ما لا يكون محسوسا ولا موجودا، وأما الحروف والرقوم فإنه وإن أمكن إعلام الغائبين بها لكن بطريق الكتابة فقط، وأما الألفاظ فإنه يمكن الإعلام بها بالرسالة والكتابة معا، والمفضي إلى المقصود بطريقين أولى من المفضي إليه بطريق واحد. تنبيه: اعلم: أنه ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة أن تعاد فيها معانيها المفردة

لأن إفادتها لها متوقفة على العلم بها ضرورة أن العلم بالنسبة يستدعي العلم بالمنتسبين، فلو استفيد العلم بها منها لزم الدور، بل الغرض منه التمكن من إفادة المعاني المركبة بتركيبها والدور غير لازم هنا، إذ يكفي في تلك الإفادة العلم بوضع تلك الألفاظ المفردة وانتساب بعضها إلى بعض بالنسب المخصوصة والحركات المخصوصة.

"الفصل الرابع" في الطريق الذي به يعرف كون اللفظ موضوعاً للمعنى

الفصل الرابع في الطريق الذي به يعرف كون اللفظ موضوعا للمعنى

الفصل الرابع في الطريق الذي به يعرف كون اللفظ موضوعا للمعنى فنقول: الطريق إليه: إما النقل، أو المركب منه ومن العقل، إذ لا سبيل للعقل وحده إليه. وأما النقل: فهو إما آحاد، أو تواتر. والآحاد لا يفيد إلا الظن. وأما التواتر فهو يفيد العلم، إما الضروري، أو النظري على اختلاف فيه. وأما المركب منهما: فهو يفيد الظن مهما كان شيء من مقدماته ظنيا، والقطع إذا لم يكن شيء من مقدماته ظنيا بل كله قطعيا. مثال المركب: إنا إذا عرفنا أنهم جوزوا الاستثناء عن صيغ الجموع المعروفة بالألف واللام. وعرفنا أيضا أن الاستثناء من الكلام ما لولاه لدخل فيه.

كلاهما بالنقل، فيعلم بالعقل هاتين المقدمتين أن صيغة الجمع للعموم. وقد قدح في كل واحد من هذه الطرق الثلاثة، أما في التواتر: فبسبب كثرة الاختلاف الواقع في أكثر الألفاظ دورانا على الألسن كلفظة الله، فإنه اختلف فيه في أنه هل هو عربي؟ أو غير عربي، وبتقدير كونه عربيا، وهل هو موضوع/ (15/أ) أو مشتق؟ وبتقدير كونه موضوعا هل هو اسم علم أو اسم جنس؟ وبتقدير كونه مشتقا، اختلفوا مما اشتق منه اختلافا كثيرا، ولو كانت اللغات متواترة لما كان ذلك، وأما الآحاد فهي لا تفيد إلا الظن إن سلمت عن

الجرح والقدح وهي غير "مسلم في رواه" اللغة لما عرف من قدح بعضهم بعضا، وبتقدير سلامته عن ذلك وجب أن لا يقطع لشيء من مدلولات الكتاب والسنة وهو خلاف الإجماع. وأما الثالث: فهو نادر جدا فلا يعول عليه في معرفة الوضع في عامة اللغات. ولئن سلمنا: أنه غير نادر فهو إنما يفيد اليقين أن لو عرف أن واضع تينك المقدمتين هو الله تعالى لعدم جواز التناقض عليه، وأما بتقدير أن يكون الواضع هو العبد لا يأمن التناقض عليه، فجاز أن يضع إحدى المقدمتين بحيث تناقض الأخرى فلا تفيد المطلوب فضلا عن أن يكون ذلك يقينا لكن قد ذكرنا أن ذلك غير معلوم. وجوابه: أن دلالة المتداول من اللغات كالسماء والأرض والماء والطعام على مدلولاتها قاطعة معلومة بالتواتر وقد حكم فيه، لو سلم سلامته عن القدح يجرى مجرى قدح السوفسطائية في المحسوسات فكما أن ذلك لا يستحق

الجواب وكذا ما ذكرتموه. وأما غير المتداول منها فهو مظنون الدلالة ولا يثبت له من الأحكام إلا ما هو مظنون ويثبت وجوب العمل به، إما بالإجماع الذي يثبت حجيته بالنصوص المتواترة الواردة بالألفاظ المتداولة المقطوعة الدلالة أو بالنصوص الدالة على وجوب العمل بالمظنون الواردة باللألفاظ المتداولة كقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر"، "وأقضى بالظاهر"

"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وما يجرى مجراها ولعل أكثر ألفاظ

القرآن والسنة فيما يحتاج إليه أصول الدين وفروعه المعلوم من قبيل القسم الأول فلا جرم قامت بها الحجة في المسائل المقطوعة.

"الفصل الخامس" في بيان أنه لا يجب أن يكون لكن معنى لفظ والمعاني التي تدل عليها الألفاظ

"الفصل الخامس" في بيان أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ والمعاني التي تدل عليها الألفاظ

"الفصل الخامس" في بيان أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ والمعاني التي تدل عليها الألفاظ وفيه مسائل: المسألة الأولى [لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ] في أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ، بل يمتنع ذلك، والدليل عليه أن المعاني غير المتناهية، لأن من جملتها الأعداد وهي غير متناهية فتكون المعاني غير متناهية، فلو كان لكل معنى لفظ فلا يخلو، إما أن يكون ذلك على سبيل الانفراد أو الاشتراك. والأول باطل. أما أولا: فلأنه يقتضى/ (15/ب) وجود ألفاظ لا نهاية لها، وهو محال، لأنها مركبة من حروف متناهية، والمركب من المتناهي متناهي فوجود الألفاظ الغير المتناهية محال. وأما ثانيا: فلأن وضع الألفاظ للمعان الغير المتناهية على سبيل التفصيل يستدعى تعقل تلك المعاني على سبيل التفصيل وهو محال منا، وهذا ظاهر إن اللغات اصطلاحية. وأما إن قيل إنها توقيفية فكذلك. لأن العلم بما لا نهاية له على سبيل التفصيل، وإن كان حاصلا لله تعالى لكن وضع الألفاظ لتلك المعاني إنما هو لحاجة العباد إليها على ما عرفته، فإذا لم يمكنهم تعقل ما لا نهاية له، لم يمكنهم أن يعرفوا كون "تلك" الألفاظ موضوعة

لتلك المعاني، فيكون الوضع خاليا عن الغرض والفائدة، فيكون عيبا، وهو على الحكيم محال. والثاني باطل أيضا لأنه لابد وأن يوجد في تلك الألفاظ ما يدل على المعاني الغير متناهية وإلا لم يكن لكل معنى لفظ ضرورة أن ضم المتناهي إلى المتناهي بمرات متناهية متناهي ولا شك أن هاهنا كذلك، وإنما قيدنا "بمرات" متناهية، احترازا عن مرات غير متناهية، فإنه وإن كان كل واحد من تلك المرات متناهيا فإنه لا يجب أن لا يكون متناهيا كما في العدد لكن ذلك محال لما تقدم، وهو أن تعقل ما لا نهاية له على سبيل التفصيل منا محال، وفي هذه الدلالة نظر يعرف في فصل الاشتراك، وإذا بطل أن يكون لكل معنى لفظ. فاعلم: أن المعاني منها ما تمس الحاجة إلى التعبير عنه، ومنها مالا يكون كذلك والأول: يجب أن يكون له لفظ، لأن الداعي إلى الوضع موجود وهو مسيس الحاجة والموانع مرتفعة ظاهرا، ومتى كان كذلك وجب الفعل فوجب أن يكون له لفظ، وأما الذي لا يكون كذلك جاز أن يكون له لفظ وألا يكون.

المسألة الثانية في المعنى الذي يدل عليه اللفظ قبل اللفظ

المسألة الثانية في المعنى الذي يدل عليه اللفظ قبل اللفظ. إنما يدل على ما فيه الأذهان من المعاني دون ما في الخارج، واستدل عليه في المفرد: بأنه تختلف دلالته عند اختلاف المعنى في الذهن، وإن لم يختلف في الخارج من غير عكس، مثل ما إذا رأينا شبحا من بعيد واعتقدناه مثلا حيوانا مخصوص فإنا نطلق عليه اسم ذلك الحيوان، فإذا تغير ذلك الاعتقاد باعتقاد آخر فإنا نطلق عليه بحسب ذلك الاعتقاد اسما آخر، فلولا أن اللفظ [يدل] على ما في/ (16/أ) الأذهان وإلا لما كان كذلك.

لا يقال: ما ذكرتم لا يدل على "أن اللفظ لا يدل على" ما في الخارج لاحتمال أن يقال: "إنه" يدل على ما في الخارج لكن شرط موافقة الصورة الذهنية له، والشيء ينتفي عن انتفاء شرطه ولما لم تكن الصورة الذهنية موافقة لما في الخارج فيما ذكرتم من الصور لا جرم لا يدل عليه, لأنا نقول: لو كان اللفظ دالا على المعنى الخارجي لكان هو، إما ركن الدلالة عليه أو شرطا لها وعلى التقديرين يجب تغير الدلالة عند تغير المعنى في الخارج وعدم تغيره في الذهن ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لا دلالة عليه. وأما في المركب فقد استدل عليه: بأن قولنا: "قام زيد" لا يدل على قيام زيد في الخارج، وإلا لم يكن الخبر محتملا الكذب، بل يدل على حكم القائل به وإخباره عنه من غير أن يشترط فيه الاعتقاد والظن بثبوت النسبة إذ قد يحكم بالنسبة من غير اعتقاد، وإنما يستدل به على وجود المخبر عنه في الخارج على وجه القطع إذا عرف براءة القاتل عن الكذب عمدا ونسيانا وخطأ قطعا، أو على وجه الظن إذا عرف براءته عنه ظنا لا لأن اللفظ يدل عليه، وهو ضعيف، لأنا نمنع الملازمة مطلقا، وهذا لأن بتقدير أن تكون دلالته ظنية لا يلزم أن لا يحتمل الكذب، بلى لو كانت دلالته قاطعة يلزم ما ذكرتم. ثم نقول: ما ذكرتم يقتضى أن خبر من أخبر عن شيء وهو غير ظان به ولا قاطع وهو غير مطابق لا في الخارج أن لا يكون كذبا، لأن الكذب هو

الخبر الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه، [والمخبر عنه] على ما ذكرتم هو المعنى الذهني وهو مطابق له فلا يكون كذبا، وهو خلاف الإجماع. وأيضا: على هذا الخبر إنما يكون كذبا، إذا كان القائل به غير متصور لثبوت النسبة بأن كان نائما أو سابقا لسانه إليه، وإن كان مطابقا لما في الخارج وهو خلاف الإجماع أيضا: لأن الجاحظ وإن خالف الجمهور في صدق هذا الخبر لكن وافقهم في أنه ليس بكذب.

المسألة الثالثة في أن اللفظ المتداول المشهور بين الخواص والعوام، إنما يدل على المعنى المشهور فيما بينهما

المسألة الثالثة في أن اللفظ المتداول المشهور بين الخواص والعوام، إنما يدل على المعنى المشهور فيما بينهما. ولا يجوز أن يكون موضوعا في اللغة لما لا يعرفه إلا الخواص كلفظ الحركة، لما يقوله: مثبتوا الحال. وهو أنه معنى يوجب كون الذات متحركا، فإن هذا المعنى بتقدير تحققه لا يعرفه إلا الخواص بالبرهان الدقيق دون أهل اللغة من أرباب اللسان. والدليل عليه أن من شرط وضع اللفظ للمعنى أن يكون ذلك المعنى معلوما للواضع فإذا لم يعرف أهل/ (16/ب) اللغة ذلك المعنى استحال أن يقال: إنهم وضعوا ذلك اللفظ لذلك المعنى وهذه الدلالة غير آتية إذ قلنا: اللغات توقيفية، لأنه يقال: لا يخفى عليه خافية، فيحتاج إلى دليل آخر يدل على المطلوب على هذا التقدير فنقول: الدليل عليه وجهان:- أحدهما: أن الحاجة إلى المعنى المشهور أكثر، وظن كون اللفظ موضوعاً له

أغلب وليست المسألة عملية محضة حتى لا يجوز الاستدلال عليها بما يفيد الظن، بل هي آيلة إلى العمل، فيجوز الاستدلال عليها بالظنيات لما يأتى. وثانيهما: أن لو كان الأصل موضوعا لذلك المعنى الخفي، فأما أن يكون معه موضوعا لذلك المعنى المشهور أيضا: أو لا يكون، وكل واحد منهما باطل فالوضع لذلك المعنى الخفي باطل. أما الأول: فلأنه يلزم منه الاشتراك وهو خلاف الأصل. وأما الثاني: فلأنه يلزم منه النقل إن أمارة الحقيقة- وهو التبادر إلى الفهم في المعنى المشهور- ظاهرة.

"الفصل السادس" في تقسيم دلالة الألفاظ المفردة بحسب المطابقة

الفصل السادس في تقسيم دلالة الألفاظ المفردة بحسب المطابقة

الفصل السادس في تقسيم دلالة الألفاظ المفردة بحسب المطابقة فهو من وجوه: الأول: اعلم أن دلالة اللفظ على تمام مسماه هي المطابقة كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، وعلى جزئه هي التضمن، كدلالته على الحيوان وحده، وعلى الناطق وحده، وعلى لازمه الخارج عن مسماه هي الالتزام، كدلالته على الكاتب أو الضاحك والنعه في الكل من حيث هو كذلك، احترازا عن اللفظ المشترك بين الجزء والكل واللازم والملزوم. أما الأول: فهو كالإمكان العام والخاص، والعام جزء من الخاص فإذا أطلق وأريد به الخاص فقد دل على العام بطريق التضمن هو تمام مسماه أيضا: فيصدق عليه أنه دل على تمام مسماه، فلو لم يقيد الدلالة بالقيد المذكور لزم أن تكون دلالة التضمن دلالة المطابقة وهو خلف. وأما الثاني: فمثل فعيل المشترك بين الفاعل والمفعول، كالرحيم فإنه قد يكون بمعنى المرحوم كما يكون بمعنى الراحم نص عليه الجوهري، وهو دال على

أحدهما بطريق المطابقة دل على الآخر بطريق الالتزام لكونه لازما له، وهو أيضا: تمام مسماه فيصدق عليه أنه دل على تمام مسماه، فلو لم يقل: من حيث هو كذلك لزم أن تكون دلالة الالتزام دلالة المطابقة، فلم يكن التعريف مانعا. تنبيهات: الأول: منهم من لم يقيد دلالة المطابقة بالقيد المذكور وقيد الباقين، لا لأنه لا حاجة إليه في المطابقة، فإن الحاجة إليه بينة لما ذكرنا وكيف يتوهم ذلك؟ فإنه كما/ (17/أ) يحتاج إليه لدفع النقض في التضمن والالتزام عند حمل اللفظ المشترك بين الكل والجزء واللازم والملزوم على الجزء واللازم، فكذلك يحتاج إليه في المطابقة "لدفعه عند حمله على الكل والملزوم بل لعله ظن أن دلالة التضمن والالتزام لا يمكن معرفتهما إلا بعد معرفة المطابقة" لكونهما تابعين لها، فلو جعل القيد المذكور جزء من معرفة المطابقة للاحتراز عنهما لزم أن يكونا معلومين قبل المطابقة، فيلزم أن يكون

الشيء معلوما قبل كونه معلوما وهو محال. ولا يخفى عليك ما فيه. الثاني: دلالة المطابقة قد تنفك عن التضمن، وذلك حيث يكون مدلول اللفظ بسيطا لا جزء له. وهي ينفك عن دلالة الالتزام، أم لا؟ فالأكثرون علي أنها لا تنفك، لأن كل ماهية لابد وأن يكون له لازم لعله أنه ليس غيره. ومنهم من جوزوا الانفكاك زاعما أن شرط دلالة الالتزام أن يكون اللازم بحيث يكون تصوره لازما لتصور الملزوم. وهو ممنوع فيما ذكر من اللازم، وهذا لأنه يمكننا أن نعقل الماهية مع الذهول عن الاعتبار المذكور.

وأما المطابقة ولازمها [فلا وجه] لهما لاستحالة وجود التابع من حيث إنه تابع بدون المتبوع. الثالث: قيل: الدلالة الحقيقية والوضعية واللفظية هي المطابقة والباقيتان عقليتان ومجازيتان. وهذا ظاهر لا إشكال فيه وإنما وصفنا بكونهما عقليتين، إما لأن العقل يستقل باستعمال اللفظ فيهما من غير افتقار إلى استعمال أهل اللسان اللفظ فيهما، وهذا يستقيم على رأى من لم يعتبر الوضع في المجاز، وإما لأن المتميز بين مدلوليهما وهما الجزء واللازم هو العقل. وقال: بعضهم دلالة التضمن لفظية أيضا: دون الالتزام، وهو ضعيف، لأنه إن جعل دلالة التضمن لفظية لأجل أن فهم الجزء فيهما إنما هو بواسطة اللفظ فدلالة الالتزام أيضا: كذلك لأن فهم اللازم إنما هو بواسطة اللفظ الدال على الملزوم. وإن كان لأجل أن اللفظ موضوع له بالوضع المختص بالحقيقة فهو باطل، أو بالوضع المشترك بين الحقيقة والمجاز فاللازم أيضا: كذلك أن اعتبر الوضع في المجاز وإلا فليس فيهما الوضع، وإن كان لأجل أن الجزء داخل في المسمى واللازم خارج عنه فهو تحكم محض واصطلاح من غير مناسبة على أنه يلزم منه أن تكون الدلالة اللفظية مطلقة عليها بالاشتراك اللفظي، وأنه خلاف الأصل. الرابع: دلالة اللفظ على المعنى بواسطة الوضع منحصره فيما ذكرنا من الوجوه/ (17/ب) الثلاثة. والدليل عليه أن المعنى من دلالة اللفظ على المعنى أن يفهم المعنى عند سماعه، أما وحدة كما في المطابقة، وأما مع القرينة

كما في التضمن والالتزام، فلو فهم منه معنى عند سماعه ليس هو موضوعه ولا جزء موضوعه ولا لازمه لزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، لأن نسبة ذلك اللفظ إلى ذلك المعنى، كنسبته إلى سائر المعاني ففهمه دون سائر المعاني ترجيح من غير مرجح. واحترزنا بقولنا: بواسطة الوضع، عن دلالته بواسطة العقل، كدلالته على حياة اللافظ. وقدرته على التكلم عن دلالته بالطبع، كدلالة: أح على الوجع، وأف على الضجر، وعن دلالته بالعرف، كنباح الكلب بالليل على دخول الطارق، فإن هذه الدلالات خارجة عن تلك الدلالة الثالثة. الخامس: المعتبر في دلالته الالتزام اللزوم الذهني ظاهرا، دون الخارجي، فلأنه لولاه لما فهم المعنى لما تقدم، وإنما قلنا: ظاهرا لأن القطعي غير معتبر وإلا لم يجز إطلاق اسم اليد على القدرة ونحوه، فإن اليد لا تستلزم القدرة قطعا، لأن اليد قد تكون شلاء بل ظاهراً، وكإطلاق

اسم "أحد" المتقابلين على الآخر، فإن فهم أحدهما لا يستلزم فهم الآخر قطعا بل ظاهرا [على] الحال، واسم الجزء على الكل إذ المحل غير مستلزم للحال قطعا ولا الجزء للكل، وأما الثاني فلحصول الفهم بدونه كما في الضدين المتقابلين تقابل العدم والملكة، إذ يقال للأعمى بصير وهو عدم البصر عما من شأنه أن يبصر. واستدل الإمام على عدم اعتبار اللزوم الخارجي بوجه آخر، وهو أن الجوهر والعرض يتلازما في الخارج مع أنه لا يستعمل لفظ أحدهما في الآخر. وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من وجود ما يعتبر في وجود الشيء وجوده لجواز أن يكون شرطا أو لازما أعم. والعجب منه، أنه صرح عقيب هذا الاستدلال، أن اللزوم الذهني شرط لا موجب، فبتقدير أن يكون الملزوم

الخارجي معتبرا كان كذلك، فكيف استدل بوجوده مع عدم الاستعمال على عدم الاعتبار؟. ولنرجع إلى التقسيم. فنقول: الدال بالمطابقة، إن قصد لكل جزء منه دلالة على كل جزء من المعنى حين هو جزؤه فهو المركب كعبد الله إذا أريد منه النعت، وإن لم يقصد لكل جزء من المعنى حين جرؤه فهو المفرد، وأما [ما] يقصد بأحد جزئي اللفظ دلالة على أحد جزئي المعنى حين هو جزؤه "فهو المفرد/ (18/أ) وأما ما يقصد بأحد جزئي اللفظ دلالة على أحد جزئي المعنى وحين هو جزؤه" دون الجزء الآخر، فهو غير واقع، سواء كان له دلالة في غيره، أو لم يكن له دلالة على شيء أصلا، إذ التركيب لا يصار إليه إلا لفائدة، وضم المهمل إلى المستعمل غير مفيد، والذي له دلالة في غير ذلك المعنى مهمل أيضا بالنسبة إلى ذلك التركيب. لا يقال: كلمات المضارع على رأي الحكماء كذلك، لأن كل واحد من حروف المضارع يدل على جزء من معنى الجملة، فإن الهمزة تدل على الفاعل المتكلم، والنون تدل عليه مع غيره، وكذا البواقي وما بعده لا يدل على شيء أصلا، إما لأن دلالته على الشيء فرع كونه لفظا وهو ليس بلفظ، إذ لا يمكن التلفظ به لسكون أول جزئه، وأما لأنه ليس من أنواع الكلمة إذا ليس حرفا من حروف المعاني وهو ظاهر، ولا فعلا لأنه ليس ماضيا ولا مضارعا ولا أمرا لانتفاء علامة كل واحد منها عنه ولا اسما.

أما أولا: فلانتفاء علامته أيضا. وأما ثانيا: فلأنه لا يتركب كلام من الاسم والحرف إلا في النداء للاستقراء. وكلمات المضارع كلام عندهم، فلا يكون مركبا من حرف واسم، وإذا لم يكن من أنواع الكلمة، لم يكن دالا على شيء لانحصار الألفاظ الدالة بواسطة الوضع في تلك الأنواع الثلاثة، فظهر أن كلمات المضارع على رأي الحكماء مركبة من جزء يدل على جزء معنى الجملة ومن جزأ ليس له دلالة أصلا. لأنا نقول: إن عنيت بقولك: إن ما بعد حرف المضارع لا يدل على شيء أصلا، أنه كذلك سواء كان حالة التركيب أو حالة التحليل، فهو ممنوع ولا يمكن دعواه لأنه معلوم الفساد بالضرورة، إذ نعلم بالضرورة أنه يدل على معنى المصدر حالة التركيب. وإن عنيت به أنه لا يدل على شيء أصلا حالة التحليل، فهذا مسلم ولا يضرنا لأنا نعنى من سلب الدلالة عن الجزء وعموم السلب أي لا يدل على شيء أصلا، سواء كان حالة التركيب أو حالة التحليل ولا يخفى أن ما ذكرتموه غير مناف له. اعلم أنه يدخل تحت المفرد على مذكرنا، أقسام خمسة:- أحدها: ما ليس له جزء كـ ق، وع. إذا جعل علما. وثانيها: ما له جزء لكن ليس لشيء من أجزائه دلالة لا في معنى. اللفظ ولا في غيره كفرس وجمار. وثالثها: ما لأحد جزئيه دلالة لكن في غير معنى اللفظ، وليس للجزء

التقسيم الثاني: اللفظ ينقسم إلى كلي وجزئي

الآخر دلالة أصلا لا فيه ولا في غيره، كالإنسان، فإن: لـ "إن" معنى في غيره، وليس لـ "إن" معنى، لا في مدلول اللفظ ولا في غيره. رابعها: ما [لجز] ئية دلالة لكن لا في معنى اللفظ [لكن لا يقصد بهما الدلالة عليهما] بل في غيره/ (18/ب) كعبد الله إذا جعل علما. خامسها: ما لجزئيه دلالة على جزء المعنى المدلول عليه باللفظ، لكن لا يقصد بهما الدلالة عليهما كالحيوان الناطق إذا جعل علما لإنسان. ثم لا فرق بين المركب والمؤلف. والقول: عن بعضهم كالمسح، وفرق بعضهم بين المركب والمؤلف، ففسر المؤلف بما فسرنا المركب وخص المركب بم يكون لأحد جزئيه أو لكليهما دلالة لكن على غير جزء المعنى المدلول عليه باللفظ، وبينهما على هذا التفسير مباينة، ولو فسر المؤلف بما لجزئه دلالة، أما على جزء المعنى أو على غيره، والمركب بما تقدم كان بينهما نسبة العموم والخصوص. التقسيم الثاني: اللفظ أن منع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة فهو الجزئي، ولا حاجة

إلى تقييده بالمفرد كما وقع في كلام الإمام وغيره، فإن المركب قد يكون جزئيا، مثل قولنا: هذا الرجل، فإن نفس تصور ذلك الرجل المشار إليه يمنع من وقوع الشركة فيه، وإن كان نفس تصور المعنى هذا وحده والرجل وحده لا يمنع من وقوع الشركة فيه، وإن لم يمنع فهو الكلي. ثم اعلم: أن الجزئي والكلي بالذات هو ذلك المعنى وإنما يقال: اللفظ الدال عليه كلي وجزئي بالعرض، والكلي: إما أن يمتنع وجود فرد من أفراده، لدليل دل على امتناعه كشريك الباري، أو لا يمتنع وجوده وحينئذ: إما أن يجب أو يمكن. أما الأول: فإما أن يجب وجود فرد منه مع امتناع غيره، كالباري تعالى، أو لا مع الامتناع، وحينئذ: أما أن يجب وجود الأفراد الكثيرة منه، أو يجب واحد منها مع إمكان [غيره] ولنطلب لهما مثال إن وجد. وأما الثاني: وهو أن يمكن، فإما أن لا يوجد فرد من أفراده كجبل من ياقوت، وبحر من زئبق، أو وجد واحد إما مع إمكان غيره، كالعالم والشمس، عند من يجوز وجود عالم آخر وشمس آخر أو مع امتناع غيرهما عند من لا يجوز وجود أمثالهما، أو وجد مع واحد مثله، إما متناهيا

كالكواكب، أو غير متناه كالنفوس على رأي الفلاسفة. فرعان: الأول: في تقسيم المعنى الكلي. الكلي: إما تمام الماهية، أو جزء منها، أو خارج عنها، وليس المراد من كونه تمام الماهية أنه تمام ماهيته في نفسه [وإلا لزم أن يكون الجزء الخارج عن الماهية قسمين داخلين فيه ضرورة أن الجزء الخارجي أيضا تمام الماهية نفسه] فلا يكونان قسمين له، بل المراد منه أن الماهية، إما أن تعتبر من حيث إنها ماهية مع قطع النظر عما يعرض لها من العوارض كالجزئية والخارجية، أو يعتبر مع العارض نحو كونها جزء لغيرها، أو خارج عن ماهية غيرها/ (19/أ)

فالأول: تمام الماهية، والثاني: جزء منها، والثالث: خارج عنها. واعلم أن المقول: في جواب، ما هو؟ إنما هو الأول، لأن ما هو سؤال عما به هو به الشيء وهو بتمام الماهية فيكون جوابه بتمام الماهية، وهي على ثلاثة أقسام:- أحدها: ما يصلح أن يكون جوابا عنه إذا سئل به عن الشيء حده، ولا يصلح أن يكون جوابا إذا سئل عنه مع غيره، كالحد بالنسبة إلى المحدود، وهو المقول في جواب، ما هو بالخصوصية المحضة. وثانيها: عكسه كالجنس إلى أنواعه، وهو المقول في جواب، ما هو بالشركة المحضة؟ وثالثها: ما يصلح أن يكون جوابا عنه في حالتي الانفراد والاجتماع معا، كالنوع بالنسبة إلى الأفراد الداخلة تحته، وهو المقول في جواب ما هو بحسب الشركة والخصوصية معا. وأما الكلي الذي هو جزء الماهية: فهو المسمى بالذاتي على رأي الأكثرين.

وقد فسر الشيخ الذاتي بما ليس بعرضي فيتناول تمام الماهية وجزءها، ولا يخفى أنه مخالف للمعنى اللغوي، إذ الذاتي في اللغة ما يكون منسوبا إلى الذات، والشيء لا ينسب إلى نفسه، وقد فسر الذاتي في غير هذا الموضع بحيث يتناول الجزء والخارجي، وهو وإن كان موافقا للمعنى اللغوي لكنه خلاف العرفي الاصطلاحي، والذي نريد منه هنا هو الأول. فنقول: إنه إما أن يكون تمام المشترك، وهو الجنس، أو تمام المميز وهو الفصل وإن لم يكن تمام المشترك ولا تمام المميز فهو إما جنس الجنس أو جنس الفصل، أو فصل الجنس، أو فصل الفصل، والأول كالجسم بالنسبة إلى الحيوان والنامي، والثاني كالإدراك بالنسبة إلى الإدراك الكلي والجزئي والثالث كالحساس والمحرك بالإرادة بالنسبة إلى أنواع الحيوان، والرابع كالفصيح بالنسبة إلى الناطق، وهذا على رأي من لا يفسر الفصل بكمال المميز فيكون الجزء عنده منحصر في الجنس

والفصل. وهذا لأنه إن لم يكن مشتركا بينه وبين ماهية ما كان فصلا قريبا، وإن لم يكن كذلك، فإما أن يكن تمام المشترك أو بعضا منه وحينئذ يجب أن يكون مساويا له دفعا للتسلسل، فإن كان الأول فهو الجنس، إما قريب أو بعيد، وإن كان الثاني فهو الفصل البعيد، لأنه يصلح أن يكون مميزا له عن شيء ما في ذاته، ويقال: له أيضا فصل الجنس، وأما الثالث: وهو الكلي الخارج عن الماهية وهو العرضي فنقول: إنه إن اختص بنوع واحد لا يوجب في غيره فهو الخاصة سواء عم جميع الأفراد كالكتابة بالقوة للإنسان أو لم يعم كما بالفعل، وسواء كان/ (19/ب) يوسط كالضحك له بواسطة التعجب، [وبغير وسط كالتعجب] وسواء كان لازما كالضحك والكتابة له بالقوة، أو فارقا لهما بالفعل، وإن لم يختص بنوع واحد بل يوحد في غيره من الأنواع أيضا، فهو العرض العام. وهو

منقسم إلى ما يعم جميع الأفراد، وإلى ما لا يعم، وإلى لازم ومفارق، واللازم، إلى لازم الماهية، وإلى لازم الشخصية، وكل واحد منهما ينقسم إلى بين، وهو الذي يكون تصوره لازما لتصور الملزوم، وإلى غير بين، وهو الذي لا يكون كذلك، فعلى هذا كل ما يكون بوسط لا يكون بينا، وأما الذي لا يكون كذلك فقد يكون بينا، وقد لا يكون كذلك. والمفارق، إلى بطئ الزوال، وإلى سريعه، وإلى ما يكون بوسط، وإلى ما [لا] يكون كذلك، والذي يكون بوسط لابد وأن ينتهي إلى ما يكون بغير وسط لبطلان الدور والتسلسل. الفرع الثاني: في تقسيم اللفظ الكلي: اللفظ الكلي، إما أن يدل على موصوفية أمر ما بصفة وهو المشتق ويسمى بالصفة أيضا في اصطلاح النحاة، وأما أن لا يدل عليه وحينئذ إن دل على نفس الماهية فقط فهو اسم الجنس كالإنسان والفرس إذا كان الألف واللام لتعريف الماهية. وهذا أولى من قول: من يقول: هو ما علق على الشيء لا بعينه، إذ الأول منقوض بالضمائر المنفصلة وأسماء الإشارات والموصولات والنكرات، فإن "أنت" مثلا معلق بالمخاطب المعين وعلى كلما يشبهه في كونه مخاطبا مع أنه ليس باسم جنس وفاقا. والثاني بالنكرة، إذ الحد يتناولها وأنها ليست باسم جنس، وإن زعم بعضهم أنها كذلك. ويدل عليه وجوه:-

أحدها: أن الجنس عندهم هو القدر المشترك سواء كان بين الأنواع، أو بين الأصناف، أو بين الأفراد، وهو نفس ماهية المشترك فاسمه ما يكون دالا عليه، والنكرة [قد] تدل على فرد من أفراد النوع أو الصنف، وذلك يستحيل أن يكون مشتركا بين الأنواع والأصناف، بل النكرة تدل على ذلك المشترك بطريق التضمن، فيكون اسم جنس بهذا الاعتبار، ولكنه مجاز من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، وبهذا الاعتبار أورد من أورد من المتقدمين النكرة في مثال اسم الجنس فظن أنه بطريق الحقيقة. وثانيها: أنهم اتفقوا على أن اسم الجنس لا يثنى ولا يجمع إلا باعتبار اختلاف الأنواع، لأنه لا تعدد في الماهية من حيث إنها ماهية وكون الاسم مثنى وجمعا مشروط يكون المسمى كذلك فلا يتصور في الاسم/ (20/أ) الدال عليه التثنية والجمع، والنكرة تثنى وتجمع فلا تكون اسم جنس. وثالثها: أنهم يقولون في بعض موارد استعمال النكرات أنه أريد بها الجنس، كما في قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} فلو كان كل نكرة كذلك لما صح ذلك، ولو أريد باسم الجنس اسم ما يكون داخلا في الجنس بحيث لا يختص بواحد من ذلك الجنس، بل يتناول الأفراد الداخلة تحته، إما على البدل أو على الجمع كانت النكرة والعام اسم جنس، لكن لا يخفى عليك أن ذلك مجاز وإن دل على الماهية وعلى قيد آخر زائد عليها فإن [كان] ذلك القيد هو الوحدة أو الكثرة الغير المعينة فهو

التقسيم الثالث: اللفظ إما أن يكون واحدا أو كثيرا

النكرة، وإن كان هو الكثرة المعينة الغير المنحصرة فهو العام، وإن كانت منحصرة فهو اسم العدد. التقسيم الثالث: اللفظ إما أن يكون واحدا أو كثيرا، وعلى التقديرين فالمعنى، إما أن يكون واحدا أو كثيرا، فهذه أقسام أربعة. أولها: أن يكون اللفظ واحدا. والمعنى أيضا واحدا، فإن كان نفس تصور ذلك المعنى يمنع من وقوع الشركة فيه فهو العلم وإن لم يمنع كان الاشتراك واقعا فيه بالفعل وعلى السوية فهو "المتواطئ"، سمي بذلك لتوافق تلك المحال فيه. وإن لم يكن على التسوية بل في بعضها أقوى وأشد وأولى وأقدم فهو "المشكك" كالوجود للواجب والممكن عند من لا يجعله عين الماهية،

سمي بذلك لأنه يشكك الناظر أنه هل هو من قبيل المشترك أو المتواطئ؟ لمشابهته إياهما ويحتمل أن يجعل اسم المفعول لكون الناظر يتشكك فيه في ذلك. وثانيهما: أن يكون اللفظ واحدا والمعنى كثيرا فذلك اللفظ: إما أن يكون قد وضع أو لا، أولا لواحد من تلك المعاني ثم نقل منه إلى غيره، أو وضع لها ابتداء من غير نقل. فإن كان الأول: فإما أن تكون دلالته على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه، أو لا تكون، فإن كان الأول: فهو المنقول بالنسبة إلى المنقول إليه والحقيقة الأصلية بالنسبة إلى المنقول

عنه، سواء كان النقل لمناسبة أو لا لمناسبة، وسواء كان نفس تصور المنقول إليه يمنع من وقوع الشركة فيه أو لا يمنع، لكن يخص القسم الأول منه بالمجاز المنقول، والثاني والثالث بالعلم المنقول، ولم يخص الرابع باسم خاص لكن يفهم من إطلاق المنقول. ثم المنقول ينقسم إلى شرعي وعرفي عاما أو خاصا بحسب الناقلين. وإن كان الثاني: وهو أن دلالته على المنقول إليه ليست أقوى من دلالته على المنقول عنه. فإن كان ذلك النقل لمناسبة فهو المجاز/ (20/ب)، وإن لم يكن لمناسبة فهذا غير جائز وواقع، وبتقدير وقوعه فليس له اسم مخصوص، وإن كان الثاني: ومن التقسيم الأول: وهو أن ذلك اللفظ موضوع لتلك المعاني ابتداء من غير نقل، فهو المسمى بالمشترك بالنسبة إلى كل تلك المعاني، وبالمجمل بالنسبة إلى كل واحد منها، ثم أن تلك المعاني قد تكون متضادة كالجون الموضوع للسواد والبياض، والقرء للطهر والحيض، وقد لا يكون كذلك وحينئذ، إما أن يكون لأحدهما تعلق بالآخر، أو لا يكون فإن كان الأول: فإما أن يكون ذلك التعلق تعلق الجزئية أو تعلق الصفتيه والأول كالإمكان للإمكان العام والخاص، والثاني كالأسود إذا جعل علما للشخص المتصف بالسواد، وإن كان الثاني: فهو كالعين الجارحة المخصوصة ولينبوع الماء وللشمس وللميزان وكالمشترى للكوكب المخصوص

التقسيم الرابع: في تقسيم اللفظ إلى نص وظاهر ومجمل ومسؤل

ولقابل العقد. وثالثها: أن تكون الألفاظ كثيرة والمعنى واحد وهي الألفاظ المترادفة سواء كانت من لغة واحدة أو من لغات مختلفة. ورابعها: أن تكون الألفاظ كثيرة المعاني أيضا: كثيرة وهي الألفاظ المتباينة سواء كانت تلك المعاني مختلفة بحسب الذات، كما في الإنسان والفرس، أو باعتبار صفتين كالصارم والمهند أو باعتبار الذات والصفة كالسيف والصارم أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالناطق والفصيح. التقسيم الرابع: اللفظ إن أفاد معنى بحيث لا يحتمل غيره فهو "النص" سمي بذلك لظهوره فإنه عبارة عن الظهور قال: نص عنقه إذا رفعه وأظهره، ويقال: نص في المشي إذا أسرع. وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وجد فرجه نص في مشيه" أي أسرع، وهذا لأن المشي السريع أظهر

للحس من غيره ومنه يقال: منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه. والظاهر- على ما سيأتي تفسيره إن شاء الله تعالى- وإن شاركه في الظهور لكنه اختص به لبلوغه أقصى مراتب الظهور، وإن احتمل غيره احتمالا سواء سمي مجملا وإن كان احتمالا مرجوحا سمي بالنسبة إلى الراجح ظاهرا وإلى المرجوح مؤولا، والدال على القدر المشترك بين النص والظاهر

التقسيم الخامس: مدلول اللفظ إما أن يكون لفظا، وإما أن يكون غيره

يسمى محكما والدال على القدر المشترك بين المجمل والمؤول يسمى متشابها، وقد عرف بما ذكرنا حد كل واحد منهما وذكر فيه حدود مزيفة يأتي ذكرها ووجه تزييفها إن شاء الله تعالى- في باب المجمل والمبين. التقسيم الخامس: مدلول اللفظ إما أن يكون لفظا، وإما أن يكون غيره، وهذا الثاني قد مضى ذكره، أما الأول فذلك اللفظ: إما أن يكون مركبا أو مفردا. وكل واحد منهما، إما أن يدل على معنى أو لا يدل على معنى فهذه أقسام أربعة:- الأول: اللفظ الدال على اللفظ المركب الدال/ (21/أ) على معنى مركب، كالخبر فإنه يدل على قولك: ضرب زيد، وهو لفظ مركب دال على معنى مركب. الثاني: اللفظ الدال على اللفظ المركب الغير الدال على معنى. قيل: إنه غير موجود، لأن التركيب لا يصار إليه لفائدة فحيث لا فائدة لا تركيب.

واعلم أن هذا حق أن عنى بالمركب ما يكون جزؤه دالا على جزء المعنى حين هو جزؤه، فإن على هذا التقدير لا يتصور أن يكون له معنى، وإن عنى بالمركب ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه، أو ما يكون مؤلفا من لفظين كيف كان التأليف، وإن لم يكن لشيء من أجزائه دلالة فهو باطل. أما الأول: فمثل عبد الله إذا كان علما فإن اسم العلم يدل عليه وهو لفظ مركب على هذا التقدير غير دال على المعنى المركب. وأما الثاني: فلفظ الهذيان فإنه يدل على المركب من مهملتين أو من لفظة مهملة ومستعملة وهو غير دال على المعنى المركب، هذا إن أراد بعدم دلالته على معنى المعنى المركب، أما إن أراد به أن لا يدل على معنى أصلا وأورد باللفظ المركب المعنى الثاني فينتقض بالثاني دون الأول. الثالث: اللفظ الدال على لفظ مفرد وهو دال على معنى مفرد وهو كلفظ الكلمة وأنواعها، فإنها تتناول الاسم والفعل والحرف وكل واحد من هذه الثلاثة يدل أيضا: على لفظ مفرد هو دال على معنى مفرد، فإن

الاسم مثلا يدل على الرجل وهو دال على معنى مفرد. الرابع: اللفظ الدال على لفظ مفرد، وهو غير دال على معنى، وهو كحروف المعجم، فإنه يدل على كل واحد من حروف التهجي وهو غير دال على معنى.

"الفصل السابع" في تقسيم اللفظ المركب بحسب المطابقة

الفصل السابع في تقسيم اللفظ المركب بحسب المطابقة

الفصل السابع في تقسيم اللفظ المركب بحسب المطابقة اللفظ المركب إما تام، أو غير تام، أما التام: فهو الذي يحسن السكوت عليه. وقد ذكرنا أنه يسمى كلاما، وهو إما أن يحتمل التصديق والتكذيب أو لا، فإن لم يحتمل، فأما أن يفيد طلب الشيء إفادة أولية بصيغة مخصوصة، أو لا، والمعنى من الإفادة الأولية الوصفية، فإن ما يفيد طلب شيء بالالتزام كالترجي والتمني لا تكون إفادة أولية بل ثانية. فإن كان الأول: فإما أن يفيد طلب ذكر ماهية الشيء، أو طلب الفعل، أو طلب الترك. فهذه أقسام خمسة: الأول: وهو "الخبر" ويسمى أيضا قضية. والثاني: هو الاستفهام. والثالث: "الأمر" إن كان مع الاستعلاء أو العلو على اختلاف فيه، والدعاء والسؤال: إن كان مع الخضوع والالتماس إن كان مع التساوي. والرابع: هو النهي على التفصيل المتقدم. والخامس: يسمى تنبيها، وأقسامها بالاستقراء "التمني" و "الترجي"

و "التعجب" و "القسم" و "النداء"/ (21/ب)، وأدخل بعضهم "التعجب" و "القسم" في الخبر ولا يخفى عليك بعده. والفرق بين التمني والترجي أن الترجي إنما يكون في الأمور الممكنة مع مباشرة سبب حصولها كحراثة الأرض وسقيها ونثر البذور فيها لتحصيل الزرع. والتمني قد يكون في الأمور الممتنعة، إما لذواتها أو للعادة كحصول الزرع بدون مباشرة أسبابه. وإما غير التام: فهو ينقسم إلى تقييدي وغير تقييدي، والتقييدي أقله أن يتركب من اسمين أو من اسم وفعل يكون الثاني قيدا في الأول، كقولنا: الحيوان الناطق أو الحيوان الذي ينطق، وأما غير التقييدي فهو ما يتركب من اسم وحرف لا ينوب مناب الفعل، أو من فعل وحرف، أو من حرف وحرف.

"الفصل الثامن" في تقسيم دلالة التضمن والالتزام

الفصل الثامن في تقسيم دلالة التضمن والالتزام

الفصل الثامن في تقسيم دلالة التضمن والالتزام اللفظ الدال على جزء المسمى بطريق التضمن، إما أن يدل عليه أيضا بطريق المطابقة، أو لا وكل واحد منهما إما أن يدل على الجزء الذي به إمكان الشيء وهو الجزء المادي، أو على الجزء الذي به الشيء وهو الجزء الصوري وإذا وقع التعارض بين أن يكون اللفظ محمولا على الجزء الصوري أو المادي بطريق التضمن كان حمله على الجزء الصوري أولى، لأن الملازمة بين المدلول المطابقي وبين هذا الجزء حاصلة من الجانبين، بخلاف الجزء المادي فإنه غير مستلزم للمدلول المطابقي. وينقسم أيضا باعتبار آخر وهو أنه إما أن يدل على الجزء المشترك بينه وبين غيره، سواء كان تمام المشترك أو بعضه، وإما أن يدل على جزء لا يشارك به غيره، إذا وقع التعارض بين هذين المجازين كان حمل اللفظ على المجاز الثاني أولى لما تقدم. واعلم: أنه إنما يوجد لكل واحد من هذه الأقسام اسم مخصوص لعدم الاحتفال به لقلة فائدته في العلوم. وأما دلالة الالتزام. فنقول: المعنى الذي يدل عليه اللفظ بطريق الالتزام

إما أن يكون "ذلك اللفظ" مفردا أو مركبا. أما المفرد فبيان أنواع دلالته ببيان أقسام المجاز وسيأتي- إن شاء الله تعالى-. وأما المركب، فنقول: المعنى المدلول عليه بطريق الالتزام له، إما أن يكون شرطا للمدلول عليه بطريق المطابقة له، أو لا يكون بل يكون تابعا له. فإن كان الأول: فهو المسمى بدلالة الاقتضاء سواء كانت الشرطية عقلية، كما في أصعد السطح، فإنه يدل على نصب السلم بطريق الالتزام، وهو شرط للمدلول عليه بطريق المطابقة، أو شرعية كالأمر بالصلاة، يدل على تحصيل الطهارة بطريق الالتزام وشرطيتها للصلاة شرعية، وإن/ (22/أ) كان الثاني [فإنه] وهو إن كان من المكملات للمدلول المطابقي، فهو المسمى بمفهوم الموافقة كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب عند من لا يجعل اللفظ منقولا إلى المنع من جميع أنواع الأذى بالعرف العام. وإن لم يكن من المكملات: فإما أن يكون ثبوتيا كما في قوله تعالى: {فالآن باشروهن} الآية. فإنه يدل على صحة صوم المصبح جنبا،

وكما في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} فإنه يدل على وجوب غسل جزء من العضد، إذا لا يمكن غسل جميع المرفق إلا به، وهذا النوع [من] الدلالة يسمى بدلالة الإشارة. وإما أن يكون عدميا كما في قوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم" فإنه يدل على عدم وجوب

......................................................................................

الزكاة في المعلوفات بطريق الالتزام عند من يقول به وهو المسمى بمفهوم المخالفة.

"الفصل التاسع" في الأسماء المشتقة

الفصل التاسع في الأسماء المشتقة

الفصل التاسع في الأسماء المشتقة وفيه مسائل: المسألة الأولى في حد المشتق قيل: هو ما غير من الأسماء المعاني عن شكله بزيادة أو نقصان في الحروف أو الحركات أو فيهما، وجعل دالا على ذلك المعنى وعلى موضوع له غير معين. وهو غير جامع، فإنه التثنية والجمع من أسماء الأعيان كقولك رجلان ورجال مشتقات من المفرد مع أنه ليس اسم المعنى. وأيضا يخرج عنه الأسماء المنسوبة كالبصري والبكري والبزاز والبقال، فإنها

مشتقات، أيضا مع أنها غير مغيرة من أسماء المعاني. وأيضا يخرج عنه الأمثلة الثلاثة من فعل المضارع التي هي للمتكلم وحده ومع غيره وللمخاطب لأنها تدل على موضوعات معينة، وهي مشتقة من المصادر، وهذا إذا قلنا: إن الأفعال مشتقة من المصادر. وأما إذا قلنا: إن المصادر مشتقة من الأفعال، فعدم الاطراد إذا ظهر، لأن المشتق منه حينئذ ليس من أسماء المعاني إذا الفعل ليس اسما، ولأن المشتق حينئذ غير دال على موضوع له غير معين، إذا لا دلالة للمصدر على الموضوع أصلا لا معين ولا غير معين. فإن قلت: لا نسلم أن الأمثلة المذكورة تدل على موضوعات معينة. قلت: الدليل عليه تقسيم الأفعال إلى ما يدل على الموضوع المعين، وهو الأمثلة الثلاثة المذكورة من المضارع، وإلى ما لا يدل عليه وهو الماضي، وفعل الغائب من المضارع، نعم لا دلالة للأمثلة الثلاثة المذكورة على التعيين الشخصي لكن من الظاهر أن ذلك ليس هو المراد فقط من قولنا: "ليس له دلالة على الموضوع المعين". وقال صاحب الكشاف: الاشتقاق أن ينتظم الصيغتان فصاعدا على معنى واحد. هو غير مانع، فإن الضارب/ (22/ب) والمضروب، قد

انتظمهما معنى واحد وهو الضرب مع أنه لا اشتقاق بينهما، وكذلك تنتظم الأفعال كلها معنى واحد [في] معنى المصدر مع أن بعضها ليس مشتقا من البعض. هذا إن أراد أن يكون بينهما اشتقاق وإن أراد أعم منه وهو إما أن يكون بينهما أو بينهما وبين الثالث اشتقاق فيكون التعريف مختلا، لأنه أصل يذكر المشتق منه ومعرفته شرط في معرفة الاشتقاق ضرورة توقف معرفة النسبة على معرفة المنتسبين. وقال الميداني- رحمه الله-: الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر.

اعلم أنه إن عنى بقوله: فترد أحدهما إلى الآخر. أنه حكم لازم لما سبق كالنتيجة له فهو باطل، بما سبق في تعريف الزمخشري، وإن عنى به العطف حتى يكون معناه، هو أن يكون أحدهما مردودا إلى الآخر ويكون لأحدهما حيثية الرد إلى الآخر وتكون هذه الحيثية قيدا آخر في التعريف فهو صحيح لكن فيه نوع تعسف. وأركانه على هذا خمسة: الأول، والثاني: اللفظان الموضوعان للمعنيين المتناسبين. والثالث: مشاركتهما في الحروف الأصلية وهو المعنى من المناسبة في التركيب. والرابع: أن يكون لأحدهما حيثية الرد إلى الآخر.

والخامس: تغيير يلحق ذلك اللفظ في حرف فقط أو في حركة فقط أو فيهما معا. وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إما أن يكون بالزيادة أو بالنقصان أو بهما معا، فهذه هي الأقسام الممكنة فيه، وعلى اللغوي طلب ما وجد منها.

المسألة الثانية [لا يصدق المشتق بدون المشتق منه]

المسألة الثانية [لا يصدق المشتق بدون المشتق منه] لا يصدق المشتق بدون المشتق منه عندنا. خلافا للمعتزلة. وهم وإن لم يصرحوا به، لكنهم، قالوا: به ضمنا حيث قالوا: إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في غيره، وهو قائم به مع أنه لا معنى للمتكلم في اللغة إلا من قام به الكلام.

وأيضا: فإن بعضهم قال: "العلم" و "القدرة" و "الحياة" أسماء لمعاني توجب "العالمية" و "القادرية" و "الحيية"، وهي غير ثابتة لله تعالى. ثم أنهم يطلقون عليه القادر [والعالم] والحي، ولا شك أنها أسماء مشتقة منها. وأما الذي يقول: منهم كأبي الحسن البصري: إنها ليست أسماء لمعاني، بل مسمى العلم والقدرة هو نفس العالمية، والقادرية فلا يتحقق معه الخلاف، لأن العالمية والقادرية ثابتة له عنده فلا يكون المشتق صادقا بدون المشتق منه. لنا: أن المشتق ماله المشتق منه فيستحيل أن يثبت بدونه لاستحالة لكل بدون الجزء. واحتجوا بوجهين:- أحدهما: أنه لا معنى للمشتق إلا أنه ذو المشتق منه وذو الشيء/ (23/أ) لا معنى له إلا صاحب الشيء، وهذا المفهوم لا يقتضى الاتصاف به بطريق الحلول والقيام به.

المسألة الثالثة في أن بقاء ما منه الاشتقاق، هل هو شرط في إطلاق اسم المشتق بطريق الحقيقة أم لا؟

وثانيهما: الأسامي المنسوبة إلى البلدان والصنائع مشتقة مع أنه يمتنع قيام المشتق فيه بالمشتق. وأجيب: عن الأول بمنع أنه لا معنى للمشتق إلا أنه ذو المشتق منه، بل هو عندنا أخص منه، فإن كل ما يمكن أن يوصف بالشيء بطريق الاشتقاق أمكن أن يوصف به بدونه من غير عكس. وعن الثاني: أنه غير وارد على محل النزاع، إذ النزاع في الأسماء المشتقة "له" عما يتصور قيامه به وما ذكروه ليس كذلك. المسألة الثالثة في أن بقاء ما منه الاشتقاق، هل هو شرط في إطلاق اسم المشتق بطريق الحقيقة أم لا؟ فمن لا يشترط وجوده، لم يشترط بقاءه قطعا.

وأما الذين شرطوا وجوده اختلفوا فيه، فالأكثرون: على اشتراط بقائه فيما هو ممكن الحصول بتمامه، أو حصول آخر جزئه فيما ليس كذلك، كما في المصادر السيالة مثل الكلام وأنواعه. وذهب بعضهم إلى أنه لا يشترط البقاء مطلقا، ونسب ذلك إلى الشيخ أبي علي بن سيناء أيضا. أحتج للأكثرين: بأن الضارب لو صدق على الذات بعد صدور الضرب عنه بطريق الحقيقة لما صدق نفيه عنه مطلقا، لكن يصدق عليه أنه ليس بضارب على الإطلاق لصدق الأخص منه وهو أنه ليس بضارب في الحال فلا يصدق عليه أنه ضارب. فإن قيل: ما الذي تعني بقولك أنه لو صدق عليه الضارب لما صدق نفيه عنه مطلقا. إن عنيت به أنه لا يصدق عليه في شيء من الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل أنه ليس بضارب فهذا مسلم. إذ الإثبات الجزئي يناقض السلب الكلي لكن لا نسلم أنه يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه ليس بضارب. وأما قوله: لأنه يصدق عليه ما هو أخص منه وهو أنه ليس بضارب في الحال. فممنوع، فإن من الظاهر أن قولنا: "ليس بضارب في الحال" ليس

أخص من قولنا: ليس بضارب في شيء من الأزمنة لعدم استلزامه إياه، بل هما نوعان داخلا تحت مطلق السلب هو قدر مشترك بين السلب الكلي والسلب الجزئي. وإن عنيت به أنه لا يصدق على أنه ليس بضارب ولو باعتبار زمان ماضيا كان أو غيره، فالملازمة ممنوعة، إذ الضارب لا يقتفى الإثبات في كل الأوقات، حتى يكون قولنا: "ليس بضارب" بالمعنى المذكور مناقضا له حتى يلزم من صدق الضارب عدم صدق ليس بضارب. ثم الذي يدل على أن الضارب لا يقتضى/ (23/ب) الإثبات الكلي وجوه:- أحدهما: بأنه يصدق على الشخص حال تلبسه بالضرب أنه ضارب بطريق الحقيقة بالإجماع، وإن لم يكن ضاربا في الماضي والمستقبل، ولو كان مقتضيا لإثباته في كل الأوقات لم يكن كذلك. وثانيها: أنه حينئذ لا يبقى فرق في المعنى بين قولنا: ضارب وبين قولنا: ضارب في الأزمنة الثلاثة، لكن الفرق معلوم بالضرورة. وثالثها: أن الضارب لو كان مقتضيا للإثبات الكلي، لكان قولنا: "ليس بضارب" في المستقبل لكنه باطل بالإجماع وإذا لم يكن قولنا: ليس بضارب بالمعنى المذكور مناقضا للضارب لم يكن صدقه مستلزما لكذبه فجاز أن يصدقا باعتبار زمانين. لا يقال: استعمال أهل اللسان كل واحد من لفظي ضارب وليس بضارب بإطلاقهما من غير تعيين زمان في تكذيب الآخر يدل على تناقضهما

وتناولهما زمانا معينا، إذا ليس قولنا: ليس بضارب يقتضى عموم السلب في الأزمنة الثلاثة أيضا للوجوه المذكورة حتى يكون مناقضا لقولنا: ضارب وليس ذلك الزمان غير الحاضر بالاتفاق، فهو عينه فيلزم أنه لو صدق عليه بعد انقضاء الضرب أنه ضارب لما صدق عليه أنه ليس بضارب. لا نقول: لا نسلم أنهما يستعملان في التكاذب بإطلاقهما، بل إنما يستعملان فيه عند توافق المتخاطبين على زمان معين بقرينة خالية أو مقالية حاضرا كان ذلك الزمان أو غيره أو عند إرادة العموم من أحدهما بقرينة معينة له، أما بدون هذين الشرطين فلا، ثم الذي يدل على أن الزمان الحاضر ليس مدلولا لهما مع أنه لو كان مدلولهما، فإما أن تكون تلك الدلالة بطريق المطابقة أو التضمن أو الالتزام والأول ظاهر الفساد غنى عن الإفساد، والثاني أيضا باطل. أما أولا: فلاقتضائه دخول اسم الفاعل تحت الفعل، إذ لا معنى للفعل إلا أنه لفظ يدل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، واسم الفاعل على تقدير دلالته على الزمان الحاضر يكون كذلك، فوجب أن يكون فعلا. وأما ثانيا: فلأنه يلزم أن يكون بين قولنا: ضارب، وبين قولنا: ضارب في الحال، فرق وهو خلاف المعلوم من كلامهم. والثالث: باطل أيضا، لأنه إذا لم يكن الزمان الحاضر داخلا في معنى اسم الفاعل لم يكن مدلوله حينئذ إلا الذات المتصف بمعنى المصدر، ومعلوم أن هذا المعنى لا يستلزم فهم الزمان/ (24/أ) المعين حتى يكون لفظه الدال عليه بطريق المطابقة دالا عليه بطريق الالتزام، أو من شرط دلالة الالتزام حصول الملازمة الذهنية بينه وبين المدلول المطابقي، نعم قد تعرف له الدلالة على الزمان المعين نحو الماضي والحال بواسطة العمل وعدمه لكن تلك الدلالة

عارضة غير لازمة له. سلمنا: صحة الملازمة بهذا المعنى، لكن لا نسلم انتفاء اللازم، قوله: لأنه يصدق عليه ما هو أخص منه وهو أنه ليس بضارب في الحال "فيصدق أنه هو". قلنا: لا نسلم أنه أخص منه، بل هو سلب الضاربية في زمان مخصوص، ولا يلزم منه سلب الضاربية على الإطلاق، وهذا كما يصدق إن الفرس ليس بحيوان ناطق، ولا يلزم منه [أنه] ليس بحيوان، وكذا يصدق لا رجل في الدار، ولا في الزمان المعين، ولا يلزم منه صدق لا رجل على الإطلاق، لأنه نفيه على الإطلاق نفى الماهية وذلك ينفي جميع أفرادها. سلمنا: أنه أخص لكنه مناقض لما سبق لكم في تقرير الملازمة، فإنه يدل على أن ليس بضارب بمعنى ليس بضارب في الحال فكيف يكون أخص منه؟ سلمنا: سلامته عن المناقضة لكن لا حاجة إليه، إذ يتم الدليل بدونه، بأن يقال لو صدق الضارب على الذات بعد انقضاء الضرب، كما صدق عليه أنه ليس بضارب، لما سبق لكنه يصدق عليه أنه ليس بضارب ضرورة عدم تلبسه بالضرب في الحال فلا يصدق عليه أنه ضارب بطريق الحقيقة. واحتج من لم يشترط البقاء بوجوه:-

أحدها: أن الضارب من حصل منه الضرب، وهذا المفهوم المشترك بين الضارب في الحال والضارب في الماضي فيكون حقيقة فيهما باعتبار ذلك المشترك لا يقال: ما ذكرتم يقتضى أن يكون الضارب حقيقة فيمن سيحصل منه الضرب، لأن حصول الضرب قدر مشترك بين الضارب في الماضي والحال والمستقبل. لا نقول: الضارب من حصل منه الضرب لا من منه حصول الضرب، ومعلوم أن المفهوم الأول غير مشترك بين الضارب في المستقبل وغيره. وثانيها: أنا نعلم بالضرورة تفرقة في المعنى بين قولنا: ضارب، وبين قولنا: ضارب في الحال، فلو كان معنى قولنا: "ضارب" عين معنى قولنا: "ضارب في الحال" لم تكن التفرقة حاصلة في المعنى. وثالثها: أن أهل اللغة قالوا: إن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل أطلقوا اسم الفاعل على الذات باعتبار الفعل/ (24/ب) الصادر عنه في الماضي، والأصل في الإطلاق الحقيقة. لا يقال كما أطلقوه عليه أيضا: باعتبار ما سيحصل منه الفعل في المستقبل. إذ قالوا: إذا كان بمعنى المستقبل عمل عمل الفعل، فيكون حقيقة فيه تعين ما ذكرتم، وبالإجماع ليس كذلك، لأنا نقول: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن ترك العمل بالدليل في صورة بمعنى يخص تلك الصورة لا

يوجب تركه في غيرها فلا يلزم من ترك العمل بمقتضى الإطلاق في صورة الاستقبال ترك العمل بمقتضاه في صورة الماضي. وثانيهما: أن المجاز خلاف الأصل فكان تقليله أوفق. ورابعها: لو شرط البقاء لما كان اسم "المخبر" و "الآمر" و "المتكلم" حقيقة في شيء من المسميات واللازم باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن لكلام اسم لمجموع تلك لحروف التي يتألف منها الكلام إجماعا، ولا وجود لمجموع تلك الحروف في الخارج، لأنه حين وجود الحرف الأول لم يكن "كذلك" الحرف الثاني موجودا وحين وجوده ينعدم الأول والعلم به ضروري وإذا لم يكن لمجموع تلك الحروف وجود في الخارج لم يكن اسم المتكلم حقيقة فيمن صدر عنه الكلام على تقدير اشتراط البقاء، وإذا لم يكن حقيقة فيه لم يكن حقيقة فير غيره بالإجماع وأما بطلان اللازم فقد احتج الإمام عليه بأن هذه الألفاظ مستعمله في المعاني وكل مستعمل، إما حقيقة أو مجاز وكل مجاز فله حقيقة، فيجب أن تكون هذه الألفاظ حقائق في بعض الأشياء، وهو ضعيف، إذا المقدمتان

ممنوعتان. أما الأولى: فلأنا لا نسلم: أن كل مستعمل في معنى، إما حقيقة، أو مجاز. ألا ترى أن العلم مستعمل في معناه وهو ليس بحقيقة فيه ولا مجاز "وكذا إذا استعمل لفظ الأرض في السماء بحيث يفيده فإنه أيضا ليس بحقيقة فيه ولا مجاز" على ما اعترف هو به باب الحقيقة والمجاز. وأما الثانية: فلا نسلم أيضا أن كل مجاز حقيقة، فإن المجاز لا تستدعى الحقيقة، بل تستدعى الوضع فقط، ووضع اللفظ لمعنى من غير استعماله فيه ليس بحقيقة "على ما ستعرفه". والعجب منه أنه رد على الأصحاب قولهم: أن كل مجاز يستدعى الحقيقة في مسألة: إثبات الحقيقة اللغوية بما ذكرنا، فكيف استدل هو به هنا؟

واستدل بعضهم: على امتناع اللازم بوجه آخر وهو: أنه لو لم يكن (25/أ) المتكلم حقيقة حقيقة فيمن صدر عنه الكلام لصح نفيه عنه، إذ هو لازم نفى الحقيقة على ما ستعرفه، ولوجب أن لا يحنث من حلف إلا يتكلم حقيقة عند تلفظه بتلك الحروف المفيدة. واللازمان ممتنعان، فالملزوم كذلك فيكون حقيقة فيه فيمتنع أن لا يكون حقيقة في شيء. وهذا مما لا بأس به. وإن كان فيه نظر: فإن لقائل أن يقول: أن تدعى أن صحة النفي لازم لفني الحقيقة مطلقا، أم لازم لنفي الحقيقة اللغوية. فإن ادعيت الأول: فو مسلم لكن لا يلزم حينئذ من عدم صحة نفي المتكلم عمن صدر عنه الحروف المتوالية المفيدة أن يكون هو حقيقة فيه بحسب اللغة لجواز أن يكون حقيقة فيه بحسب العرف وكلامنا فيه إنما هو بحسب الحقيقة اللغوية. وإن ادعيت الثانية: فهو ممنوع، وهذا لأن اللفظ إذا صار حقيقة في معنى بوضع عرفي أو شرعي، فإنه لا يصح نفيه عنه إلا مقيدا، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: الخارج المستقذر ليس بغائط مطلقا، وإن كان يصح أن يقال إنه ليس بغائط في اللغة. فإن ادعيت عدم صحة نفيه مقيدا أيضا: فممنوع وهو النظر بعينه في مسألة اليمين، بل يقوى فيها، إذ مبنى الإيمان على العرف، والحقيقة قد تترك فيها

بمجاز مشهور. فكان تركنا المنقول أولى. ويمكن أن يجاب عنه بأن النقل خلاف الأصل، والأصل بقاء ما كان على ما كان. وللشارطين أن يقولوا أنه غير وارد على محل النزاع، فإنا إنما نشترط البقاء فيما يمكن حصوله فيه، فأما ما لا يمكن حصوله فيه فإنا إنما نشترط فيه حصول آخر جزئه لا غير وهو متحقق في المصادر السيالة. وخامسها: لو كان بقاء ما منه الاشتقاق شرطا لصدق المشتق، لوجب أن لا يصدق المؤمن بطريق الحقيقة وما يجرى مجراه على الشخص حال ما [لا] يكون الشخص متلبسا بالإيمان كما في حالة النوم والغفلة. سواء كان الإيمان عبارة عن التصديق أو عن غيره لكنه يصدق عليه. فوجب أن لا يكون البقاء شرطا. أما الملازمة فبينة، وأما نفي اللازم فلأنه يقال: للنائم يقال: للنائم والمغمى عليه، والمجنون أنه مؤمن والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولأنه لو كان بطريق التجوز لصح نفي المؤمن عنهم على ما

سيأتي، أنه من إمارة نفي الحقيقة لكن لا يصح أن يقال: في أكابر الصحابة، بل آحاد المؤمنين حال نومهم وغفلتهم عن مسمى الإيمان نحو التصديق/ (25/ب) والإقرار ليسوا بمؤمنين. لا يقال: ما ذكرتم معارض بما أنه "لو لم" يشترط البقاء، بل يكفى فيه الوجود، إما في الحال أو في الماضي، لجاز إطلاق الكافر على كل صحابي سبق إيمانه الكفر، والنائم على اليقظان، والقائم على القاعد، والمجامع على المصلى، وعكس كل واحد منها، لكنه غير جائز وفاقا، فيشترط البقاء. لأنا نقول: الحقيقة قد تترك، إما لطلب التعظيم كما في السلام عليك، فإن تلك الألفاظ وإن كانت حقائق في تلك الصور لكن عدل عنه "كما عدل" إلى قولهم السلام على المجلس العالي. وإما للمانع كما في أسامي الله تعالى، وإما للعرف كما في القارورة، والخابية، وإذا ثبت هذا. فنقول: إن المانع من الإطلاق في بعضها ما فيه من الأما [ن] عن النقص، وفي بعضها التخصيص العرفي. وله أن يجيب عنه بأنه حينئذ يقع التعارض بين المقتضى والمانع، وأنه خلاف الأصل، فهذا ما عندي في هذه المسألة.

المسألة الرابعة المعنى القائم بالشيء إذا كان له اسم يمكن الاشتقاق منه، فهل يجب أن يشتق لمحله اسم أم لا؟

المسألة الرابعة المعنى القائم بالشيء إذا كان له اسم يمكن الاشتقاق منه، فهل يجب أن يشتق لمحله اسم أم لا؟ ذهب أصحابنا: إلى أن ذلك واجب. وقالت المعتزلة: أنه غير واجب، إذا قالوا: إن الله تعالى تكلم بكلام يخلقه غير غيره ولا يحب أن يقال كذلك الغير متكلم بذلك الكلام، بل ربما لا يجوزونه، لأن ذلك الكلام عندهم كلام الله تعالى، فلا يجوز أن يوصف به غيره.

واحتج أصحابنا: بأنه لا معنى للمشتق إلا أنه ذات قام به المشتق منه فأي ذات حصل فيه المشتق منه وجب أن يصدق عليه المشتق كسائر الأسماء المتواطئة. واحتجت المعتزلة: بأن القتل والجرح كل واحد منها قائم بالمقتول والمجروح مع أنه لا يسمى قاتلا ولا جارحا. قال الأصحاب: لا نسلم أنهما قائمان بالمقتول والمجروح، بل بالقاتل والجارح، وهذا لأن القتل والجرح عبارة عن تأثير القادر في المقتول والمجروح وهو حكم حاصل للفاعل لا المفعول. أجابت المعتزلة: بأن التأثير عين الأثر وإلا فإن كان قديما، فإن لم يتخلف الأثر عنه لزم من قدمه قدم الأثر، وإن تخلف لزم تقدم النسبة

على المنتسبين، وإن كان حادثا افتقر في حدوثه إلى تأثير والكلام فيه كالكلام في الأول ولزم التسلسل. وهو ممتنع. قال الأصحاب: إن العلم الضروري حاصل بأن التأثير غير الأثر، إذ الأثر ينقسم إلى الجوهر والجسم والعرض، والتأثير غير منقسم إليها/ (26/ب)، ولأن التأثير من الأمور النسبية، والأثر ليس كذلك، ولأنا نعلل الأثر بالتأثير. والعلة غير المعلول، ولأن التأثير من الأمور القائمة بالغير، والأثر قد لا يكون كذلك، ولأن التأثير من الأمور الاعتبارية على ما تقرر ذلك في علم آخر، والأثر ليس كذلك، وعند هذا يظهر أن ما ذكروه من التسلسل فهو غير ممتنع، إذ التسلسل في الأمور الاعتبارية غير ممتنع، فإن الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاث، وربع الأربع وهلم جرا إلى ما لا نهاية له من الأعداد. تنبيه: المشتق لا دلالة له على خصوصية الذات، لا بطريق المطابقة ولا بطريق التضمن، لما عرفت أنه لا معنى له إلا أنه ذات قام به المشتق منه، فإن دل على خصوصية كونه جسما أو حيوانا أو غيره فإنما يدل عليه بطريق الالتزام.

المسألة الخامسة في أن القياس، هل هو جار في اللغات، أم لا؟

المسألة الخامسة في أن القياس، هل هو جار في اللغات، أم لا؟ اختلف العلماء فيه، فذهب القاضي أبو بكر، وابن سريج، وكثير من فقهائنا، وأهل العربية، كالمازني، وأبي علي الفارسي، وابن

جني. إلا أنه جار فيها، واختاره الإمام أيضا. وذهب المعظم من أصحابنا: كإمام الحرمين، والغزالي، ومعظم الحنفية، وجماعة من أهل العربية إلى امتناعه.

وقبل الخوض في الحجاج لابد من تلخيص محل النزاع. فنقول: لا خلاف في امتناعه في أسماء الأعلام، لأنها غير معقولة المعاني ولا في دائرة بدوران وصف في محالها، والقياس فرعهما، إذ لا يمكن إلحاق الفرع بالأصل إلا بعد أن يعقل في الأصل معنى هو على التسمية أو يعرف فيه صفة يدور الاسم معه وجودا وعدما فهي كالأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها. فإن قلت: قد ساغ في العرف العام، أن يقال للشخص البالغ في علم الأحكام شافعي الوقت، ونعمان الثاني، والبالغ في علم العربية سيبويه الزمان، وليس ذلك إلا بطريق القياس وإلا لم يحصل مقصودهم، وهو المدح يذلك النوع من العلم. قلت: لا نسلم أنه بطريق القياس. ولم لا يجوز أن يكون ذلك بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والتقدير أنه حافظ كتاب سيبويه، وعارف علم الشافعي، وأبي حنيفة رحمهما الله.

سلمنا: أنه ليس بهذا الطريق، لكن لا نسلم أنه طريق له إلا القياس. قوله: إن لم يكن بطريق القياس، لم يحصل المقصود من المدح. قلنا: لا نسلم. ولم لا يجوز أن يقال؟: إنهم توهموا فيه أنه إنما أطلق على الشخص المعين/ (26/ب) بإزاء ذلك العلم المخصوص، فحيث توهموا وجوده أو أرادوا أن يمدحوا الشخص المعين بوجوده أطلقوا ذلك الاسم عليه، فعلى هذا التقدير يصير اللفظ من أسماء الصفات بالعرف الطارئ، وإن كان حكما في أصله، والمراد أسماء الصفات حيث يوجد معانيها ليس من القياس في شيء على ما سيأتي. ولا يجرى القياس أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين، وأسماء الصفات كالعالم والقادر، لأن القياس لابد فيه من أصل وفرع وهو غير متحقق فيها. إذ ليس جعل البعض أصلا والبعض الآخر فرعا أولى من العكس. ولا يجرى فيها القياس، فاطرادها ليس مستفادا منه بل هو معلوم بالضرورة وطريق الوضع. لا يقال: لم ينقل عن العرب أنهم وضعوا العالم والقادر والمريد بإزاء كل من قام به العلم والقدرة والإرادة، بل غاية ما يعلم منهم أنهم استعملوا هذه الأسامي في ذوات موجودة في زمانهم متصفة بتلك الصفات فإلحاق الغائب بها في كونه كذلك يكون بطريق القياس، وبهذا ظهر أيضا ضعف قولهم: ليس جعل البعض أصلا والبعض الآخر فرعا أولى من العكس، فإن الذي كانت موجودة في زمانهم أولى بذلك من غيرها، ويكون ما عداها أولى بالفرعية.

لأنا نقول: فعلى هذا تناول الإنسان والحيوان للأفراد التي حدثت بعدهم، يكون بطريق القياس أيضا، إذ لم ينقل عنهم بصراحته أنهم وضعوا الإنسان بإزاء كل حيوان ناطق، ولا الحيوان بإزاء كل جسم حساس متحرك الإرادة، بل غايته أنهم استعملوا في الأفراد التي كانت موجودة في زمانهم من ذلك الجنس، وحينئذ يلزم أن يكون كل اللغات قياسيا ولا قائل به، فإن منعهم "عدم" النقل بصراحته هنا، منعنا نحن أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين وأسماء الصفات بطريق القياس؟ فإنه مختلف فيه، واطرادها متفق عليه، والمتفق عليه غير مستفاد من المختلف، ولئن سلم: أنه غير مختلف فيه على ما زعم بعضهم أنه غير مختلف فيه، بين أهل العربية، أذا اتفقوا على صحة تعليم الأحكام الإعرابية وإلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه بالعلة التي فيه، وذلك يدل على اتفاقهم على جريان القياس في اللغات، لكن الحكم المستفاد منه ظني، لأن الطرق الدالة على علية الوصوف/ (27/أ) فيها نحو الدوران والمناسبة "ظنية"، واطراد أسماء الصفات والفاعلين والمفعولين قطعي معلوم بالضرورة من كلامهم فلا يجوز أن يكون مستفادا من القياس. وبهذا ظهر أيضا: ضعف ما استدل به المازني على جريانه في اللغات: وهو أنه لا خلاف بين أهل العربية، أن كل فاعل رفع وكل مفعول منصوب، ولم يثبت ذلك إلا بالقياس، لأنهم رفعوا بعض الفاعلين ونصبوا بعض المفعولين واستمروا عليه في كلامهم، ولم تختلف عاداتهم في ذلك. علم أنهم إنما رفعوا لكونه فاعلا ونصبوا لكونه مفعولا، فإلحاق غيره

به بطريق القياس، لأن اطراد ذلك كاطراد أسماء الصفات، وقد ظهر أنه ليس بطريق القياس. إذا عرفت هذا فاعلم: أن النزاع إنما هو في الأسماء الموضوعة للمعاني المخصوصة الدائرة مع الصفات الموجودة فيها وجودا وعدما، كالخمر فإنها اسم للمسكر المعتصر من العنب، وهذا الاسم يدور مع وصف الإسكار، فإن المعتصر من العنب لما لم يكن في الأول مسكر لم يسم خمرا بل يسمى عصيرا، فإذا حدث فيه وصف الإسكار سمي بالخمر ثم إذا زال ذلك الوصف عنه زال عنه ذلك الاسم ويسمى باسم آخر وهو الخل. فهل يجوز أن يقاس عليها النبيذ في كونه مسمى بذلك الوصف لمشاركته إياه في وصف الإسكار أم لا؟. فمن جوز القياس في اللغات جوزها، ومن لا فلا. وكذلك السرقة اسم لأخذ مال الغير على سبيل الخفية، وهذا الاسم يدور مع وصف الخفية وجودا وعدما، أما وجودا فظاهر، وأما عدما فلأنه

إذا لم يكن مع الخفية يسمى اختلاسا إن كان مع الصون وغصبا إن لم يكن معه، فهذا يجوز أن يقاس النبش عليها في كونه مسمى بذلك الاسم لمشاركته إياها في الوصف المذكور فعلى الخلاف السابق. واحتج من قال به بوجوه:- أحدها: "أن الاسم" يدور مع الوصف وجودا وعدما، كما سبق، والدوران يفيد ظن العلية لما سيأتي إن شاء الله تعالى في القياس، فيحصل ظن أن العلة لتلك التسمية هو ذلك الوصف فإنما حصل ذلك الوصف حصل ظن كونه مسمى بذلك الاسم وحينئذ يلزم أن يثبت لتلك المحال الأحكام المرتبة

على ذلك الاسم. وجوابه: أن الدوران إنما يفيد ظن العلية بمعنى الأمارة والعلامة لا بمعنى الداعي، لأنه لا مناسبة بين الاسم والمسمى وحينئذ لا يكون الدوران خاليا عن المزاحم، لأنه كما/ (27/ب) دار مع ما ذكرتم من الوصف فكذا مع خصوصية إسكار المعتصر من العنب والدوران إنما يفيد ظن العلية عند خلوه عن المزاحم المعارض، وهو غير خال عنه هنا على هذا التقدير. فإن قلت: لو اعتبر في كون الدوران يفيد ظن العلية خلوه عن مثل هذا المزاحم لوجب أن لا يفيده في الشرعيات أيضا لعدم خلوه عنه. قلت: إن فسرت لعلة ثمة بالداعي والباعث اندفع هذا النقص، وإن فسرت بالعرف والعلامة فكذلك، لأن القاطع الذي دل على جواز القياس في الشرعيات دال على أن تلك الخصوصيات لا مدخل لها في إثبات تلك الأحكام وإلا لم يصح القياس فلا يصلح أن "يقال" الخصوصية مزاحمة ثمة فيكون الدوران عريا عن المزاحم ولا قاطع في اللغات يدل على جريان القياس فيها فلا يكون الدوران خاليا عن المزاحم، كيف؟ والاستقراء يدل على أن للخصوصيات مدخلا في الأكثر في إطلاق اللفظ دون الشرعيات،

فإن الفرس المتلون بلونين يسمى أبلق وغيره المتصف به لا يسمى به، والأسود منه يسمى أدهم ولا يسمى غيره به، ومنه ما يلغب بياضه سواده أسهل وغيره لا يسمى به، والقارورة مختصة بالوعاء المخصوص وغيرها لا يسمى بها، إن كان فيه معنى القرار والنخلة تطلق على الطويل من الإنسان ولا تطلق على كل طويل يشاركها فيه، وأمثاله كثيرة غير عديدة بخلاف الشرعيات، فإن كل حكم عقل معناه فإنه قل ما يختص بمحله. سلمنا: أنه يفيد ظن العلية لكن إنما يلزم من علية ذلك الوصف جواز إطلاق ذلك الاسم حيث ثبت ذلك الوصف إن ثبت أن علية ذلك الوصف بجعل الشارع، فإن بتقدير أن يكون عليته بجعل العبد لم يلزم ذلك، فإن الحكم لا يطرد باطراد ما يجعله العبد [علة] ألا ترى أنه لو قال: لوكيله اعتق غانما لسواده، والعلة فيه هو السواد لا غير، وقس عليه غيره فإنه لا يجوز له أن يعتق غيره للسواد لكن لم يثبت أن اللغات توقيفية على ما تقدم فلا يلزم جواز الإطلاق.

وثانيها: ما ذكرناه عن المازني وقد عرفت ضعفه أيضا. وثالثها: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} فإنه يتناول كل الأقيسة بعمومه. وجوابه: منع عمومه وفيه كلام ستعرفه- إن شاء الله تعالى- في القياس ولئن سلمنا: عمومه لكنه خص عنه بعض الأقيسة وفاقا، والعام بعد التخصيص لا يكون حجة لما سيأتي. سلمنا: ذلك لكنه يقتضى ما لا يقولون به، وما يقولون به لا/ (28/أ) يقتضيه، لأنه يقتضى وجوب القياس في اللغات ولا قائل به، فإن منهم من أنكر جوازه، ومنهم من أثبت جوازه، فأما الوجوب فلم يقل به أحد، وأما الجواز الذي يقولون به فلم يدل عليه. سلمنا: ذلك لكنه مخصوص بالنسبة إلى اللغات لما يذكر من الأدلة المانعة من جواز القياس في اللغات. ورابعها: وهو الوجه الإلزامي على من أنكره من الشافعية خاصة أن إنكار القياس مناقض لمذهبكم، فإنكم سميتم النبيذ خمرا وأدرجتموه تحت الأدلة الدالة على تحريمها وحد شاربها فحرمتموه وأوجبتم على شاربه الحد،

وكذلك سميتم اللائط زانيا وأدرجتموه تحت عموم قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} فأوجبتم عليه الحد، وكذلك سميتم النباش سارقا وأدرجتموه تحت قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فأوجبتم عليه القطع. وجوابه: أنا لا نثبت تلك الأحكام في تلك الصور بالطريق الذي ذكرتموه، وإنما أثبته كذلك بعض أصحابنا القائلون: بالقياس في اللغة كابن سريج وغيره. وأما نحن نثبتها إلا بالقياس الشرعي وذلك بأن نبين أن الموجب للحكم في الأصل هو الوصف الفلاني وذلك الوصف بعينه حاصل في المتنازع فيه فيلزم منه ثبوت الحكم فيه.

وأما المانعون احتجوا بوجوه:- أحدها: الوجوه التي تدل على أن اللغات بأسرها توقيفية، وقد سبق ذكرها، وحينئذ يمتنع أن يكون شيء منها بالقياس. وقد عرفت ضعف تلك الوجوه. ولئن سلمنا: صحة دلالتها على التوقيف لكن لا نسلم أنها تنافى القياس فيها، وهذا لأنه يجوز أن يكون للكل بوضع الله تعالى: لكن علمنا البعض بالتنصيص والبعض الآخر بالقياس كما في الأحكام الشرعية. وثانيها: أن اللغات إن كانت اصطلاحية: فيمتنع فيها القياس لما ذكرنا أن ما يجعله العبد عليه فإنه لا يتكرر الحكم بتكرره، وإن صرح بالقياس فكيف فيما لم يوجد ذلك فيه؟ وإن كانت توقيفية: فيحتمل أن يجرى فيها القياس عند حصول أركانه وشرائطه نحو ورود الإذن به، وعدم المانع منه ويحتمل أن لا يجري فيها، إما لعدم العلة، أو وإن كانت موجودة لكنها قاصرة، أو وإن كانت متعدية لكن وجد المانع من التعدية، أو وإن لم تكن كذلك لكن لم يرد الإذن به، وما يحتمل وقوعه على الطرق الكثيرة يكون راجحا على ما يحتمل وقوعه على طريق واحد. فيكون المنع من القياس راجحا على الإذن فيه، فيكون العمل بالقياس/ (28/ب) مرجوحا فيكون غير جائز.

وثالثها: الوصف الذي جعل علة التسمية إن نقل من العرب فيه أن كل ما اتصف به فهو مسمى بذلك الاسم، فحينئذ تكون تسمية تلك الموصوفات تلك الأسامى بالنص لا بالقياس. وإن نقل فيه عنهم أن الذات الفلاني إذا اتصف به يسمى بكذا خاصة دون غيره فحينئذ يمتنع القياس عليه، لأنه خلاف النص، وإن لم ينقل لا هذا ولا ذاك ولم يوجد إلا استعمال بإزائه وجودا وعدما فيحتمل أن يكون الوصف علة متعدية، ويحتمل أن لا يكون كذلك لكن الاحتمال الثاني أظهر لاعتضاده بالأصل من وجهين فتمتنع التعدية عملا بالاحتمال الراجح. مقتضى هذا الدليل والذي قبله أن لا يجوز القياس الشرعي أيضا، لكن ترك العمل به فيه لوجود القاطع الدال على جوازه فيبقى معمولا به فيما عداه. ورابعها: أنا وجدنا الاسم معللا بوصف دائر معه وجودا وعدما. في محل مخصوص مع أنه لا يجوز إلحاق غيره به إجماعا. وذلك يدل على جريان القياس في اللغات. بيان الأول: بما تقدم من الصور، وزيد هنا صور ثلاثة:- أحدها: أن الجن والجنين إنما سميا بذلك لاستتارهما عن العيون، ثم إن الملائكة والنفوس البشرية كذلك مع أنها تسمى بذلك. وثانيها: أن الملك مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة، ثم إنها حاصلة للبشر مع أنه لا يسمى بذلك. وثالثها: أن المصلى من الفرس إنما يسمى به، لكونه رأسه عند صلا

السابق، ثم إن الإنسان الذي يتلو الإنسان الآخر أو حيوانا غيره بحيث يكون رأسه عند صلاة لا يسمى به. بيان الثاني: أن اعتماد القياس على تعليل التسمية بالوصف الدائر معه الاسم وجودا وعدما فإذا لم يحصل تعديه العلة بهذا الطريق لم يصح القياس. لا يقال: حاصل ما ذكرتم يرجع إلى أنه حصل في اللغات ألفاظ قليلة لا يجرى القياس فيها وذلك لا يقدح في صحة القياس فيها، كما أنه حصل في أحكام الشرع أحكام لا يجرى القياس فيها وهو غير قادح فيه وفاقا. لأنا نقول: الأحكام التي لا يجرى القياس فيها في الشرع هي الأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها. وتلك الأحكام غير دائرة مع شيء من الأوصاف، ولا يدل أيضا طريق من الطرق الدالة على علية الوصف على علية وصف هناك لتلك الأحكام، بخلاف ما نحن فإنه لا طريق إلى معرفة علية الوصف في اللغات إلا الدوران وإذ لا يناسب الاسم المسمى وظاهر أن

غيرها من الطرق سوى الدوران متعذر فيه/ (29/أ) وبتقدير أن تعرف عليته بطريق من الطرق، لكن لم تجر التعدية مع ذلك فلم يبق طريق معول عليه في صحة القياس في اللغات. فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذه المسألة.

"الفصل العاشر" في الترادف والتوكيد

الفصل العاشر في الترادف والتوكيد

الفصل العاشر في الترادف والتوكيد وفيه مسائل: المسألة الأولى في تعريف الألفاظ المترادفة. وهى الألفاظ المفردة المتغايرة الدالة على مسمى واحد. فقولنا: الألفاظ، احترزنا بها عن اللفظ الواحد. وقولنا: المتغايرة، احترزنا بها عن اللفظ الواحد إذا كرر للتأكيد، كقولك زيد زيد، أو رجل رجل فإنهما ليسا بمترادفين لعدم التغاير. واحترزنا بقولنا: "الدالة على مسمى واحد" عن الألفاظ المتباينة بأسرها وقد عرفت أقسامها من قبل. ولا حاجة إلى ما زيد فيه. باعتبار واحد. أو: من غير تفاوت، ليخرج عنه ما دل على الذات فقط،

المسألة الثانية في وقوع الترادف

وما دل عليه مع الصفة أو صفة الصفة، فإن دلالتهما على الذات باعتبارين لا باعتبار واحد، لأنهما من جملة الأقسام المتباينة على ما تقدم فيخرجان بقيد كون المسمى واحدا فلا حاجة إلى قيد آخر. المسألة الثانية في وقوع الترادف من الناس من أنكر وقوعه في اللغة العربية، وزعم أن كل ما يظن أنه من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، كما في الإنسان والبشر, فإن الأول: موضوع له باعتبار النسيان، أو باعتبار أنه "يونس"، والثاني: باعتبار أنه بادي البشرة، وكذلك الخندريس، والعقار، فإن الأول: باعتبار العتق، والثاني: باعتبار عقر الدن لشدتها. أو بالذات، والصفة، كالأسد والليث، فإن الثاني: يدل على الذات مع اعتبار الصفة

وهي: إما "مع" التوثب، إذا "الليث" اسم لضرب من "العناكب" التي تصطاد الذباب بالتوثب، أو باعتبار أنه يلوث ويكثر للفساد. أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كـ "الأسود" و "الأفحم"، فإن الثاني وإن كان يدل على الذات المتصف بالسواد كالأسود لكن باعتبار أنه يميل إلى الصفرة. واعلم أن ما ذكروه وأن كان ممكنا، لكن الأغلب على الظن وقوعه بالاستقراء، وما يتكلفه الاشتقاقيون من التكلفات النادرة البارزة فذلك مما لا يشهد لصحته عقل ولا نقل. نعم "بعض" ما يظن انه من المترادفات فيجوز أن يكون من المتباينات تباين الصفتين أو تباين الصفة وصفة الصفة، فأما الكل فلا. ثم/ (29/ب) نقول: الدليل على إمكان وقوعه وإن كان لا يظن بعاقل أن ينازع فيه وجوه:-

أحدها: أنه ممكن نظرا إلى ذاته، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال، ونظرا إلى داعية الواضع، فإن الواضع يتبع الغرض، وقد يتعلق الغرض به لتسهيل التعبير عن الشيء، فإن الشيء إذا كان له اسمان كان التعبير عنه أسهل مما إذا كان له اسم واحد، لجواز أن ينسى أو يعسر حفظه لتنافر تركيبه وللأقدار على الفصاحة ورعاية السجع والتجنيس وسائر أصناف البديع، فإن الشعر قد يمتنع وزنه وقافيته مع أحد الاسمين ولا يمتنع ذلك مع الآخر، وكذلك الكلام في السجع والتجنيس وسائر أصناف البديع. وثانيها: أن الشيء إذا كان له اسم واحد كانت الدواعي متوفرة على حفظه، لأنه لا يمكن التعبير عنه إلا به، فإذا ورد خطاب الشرع به عرفه كل واحد من غير اجتهاد في طلبه. أما إذا كان له اسمان لم تكن الدواعي متوفرة في حفظهما، لأن تعريفه حاصل بأحدهما فإذا ورد خطاب الشرع به فربما ورد بالاسم الذي لم يعرفه المكلف فيجتهد في طلب معناه فيتناول الثواب، فهذا الغرض يجوز أن يكون باعتبار للواضع على الوضع.

وثالثها: أن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر له من غير أن تشعر كل واحدة منهما بصنيع الأخرى، ثم يتسع الوضعان فيكون الترادف واقعا ضمنا بالداعي الأصلي للوضع، ويشبه أن يكون هذا هو السبب الأكثري لوقوعه، ولا يخفى عليك أن هذا مبني على كون اللغات اصطلاحية. وأما الدليل على وقوعه: أما بالنسبة إلى لغتين فلا حاجة إليه لأنه معلوم بالضرورة. وأما بالنسبة إلى اللغة العربية فما نقل من العرب أنهم وضعوا الحنطة والقمح والبر للطعام المخصوص، واللجين والفضة للنقد المخصوص، وغير ذلك من الأسامي التي لا يعقل في معناها التفاوت أصلا. واحتجوا على عدم وقوع بوجوه:- أحدها: أنه يتضمن تعريف المعرف، وهو عيب غير واقع من الحكيم.

وثانيها: أنه يؤدي إلى أحد المحذورين، وهو: إما الإخلال بالفهم، أو حصول المشقة الزائدة. فما يؤدي إليه يغلب على الظن عدم وقوعه لأنهما يقبحان من الحكيم إذا أمكنه الاحتراز عنهما. بيان الملازمة: أن كل واحد من أهل اللسان إن لم يحفظ المترادفين لزم الأمر الأول، على تقدير أن يرد الخطاب باللفظ الآخر وإن حفظهما لزم الاسم الثاني. وثالثها: الترادف مشتمل على المفسدة الراجحة، ولهذا قل وجوده على رأي من/ (30/أ) يقول به وما كان كذلك وجب أن لا يكون. والجواب: عن الأول: أنه إنما يكون عيبا ممتنع الوقوع، إن لو كانت الفائدة منحصرة في التعريف، وهو ممنوع بل فيه فوائد أخر، كما تقدم ذكرها. وهذا إن قيل بالتحسين والتنقيح العقلي وإلا فأصله مندفع. وعن الثاني: النقض باللغات المختلفة، ثم ما ذكرتم من المحذور معارض بفوائد الترادف كما سبق ذكرها. وعن الثالث: أنا نسلم أنه مشتمل على المفسدة التي توجب قلة وجوده، لا على ما يوجب عدمه، على أنه فاسد الوضع، لأنه استدلال بندورته المستلزمة لوجوده على عدمه.

المسألة الثالثة في أنه هل يصح "صحة" إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر؟

فرعان: الأول: القائلون بوقوع الترادف: اعترفوا أنه خلاف الأصل. واحتجوا عليه: بأنه نادر، إذ الغالب تعدد المسميات عند تعدد الأسماء يدل على الاستقراء. ولا نعني بكونه خلاف الأصل سوى هذا. الثاني: نحو: أن يكون أحد المترادفين شرحا للآخر عند ما يكون أجلى منه عند المخاطب، فعلى هذا يختلف التعريف بحسب اختلافهما في الجلاء والخفاء بالنسبة إلى المخاطب. وهذا هو الحد اللفظي المسألة الثالثة في أنه هل يصح "صحة" إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر؟ في صحة الضم إلى اللفظ. اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب: منهم من أوجب ذلك على الإطلاق، سواء كان ذلك بالنسبة إلى اللغة الواحدة أو بالنسبة إلى لغتين. ومنهم من منع ذلك مطلقا.

ومنهم من فصل، فأوجب ذلك في اللغة الواحدة دون لغتين, وهو الأظهر. وهذا القول وإن لم يكن صريحا لكن يكن ضمنا في كلامهم. واحتج من منع مطلقا: بأنه يجوز أن يقال: ضربت زيدا، وأخذت الدراهم، ولو أبدلت لفظتي "ضربت" و "أخذت" بمرادفهما بالفارسية و "لم" يصح التركيب. وإذا لم يصح ذلك في اللغتين، فلم لا يجوز أن يكون لأمر كذلك في اللغة الواحدة؟ فلم يجب صحة إقامة كل واحد منها مقام الآخر. وأجيب عنه: بمنع الملازمة تارة، والفرق أخرى. أما الأول: فلأنا لا نسلم أنه لم يصح التركيب عند اختلاف اللغتين مطلقا، بل لو لم يصح فإنما لم يصح بالنسبة إلى غير العارف باللغتين، أما

بالنسبة إلى العارف لهما فلا نسلم عدم صحته، وهذا لأنه لا حجر في التركيب. سلمنا: الملازمة لكن إنما يصح ثمة لاختلاط اللغتين المؤدي إلى اختلال الفهم في الأغلب ولتنافر التركيب، وهذا المعنى غير حاصل في التركيب الحاصل من لغة واحدة، والأصل عدم مانع آخر فوجب/ (30/ب) أن يبقى صحة إقامة كل واحد منهما مقام الآخر فيه كما في حالة الإفراد. واحتج من قال: بتعميم الوجوب: بأن المعنى لما صح أن يضم إلى معنى عندما يكون كل واحد منهما أو أحدهما مدلولا عليه بمرادفهما أو بمرادف أحدهما، لأن صحة الضم من عوارض المعاني دون الألفاظ. وأجيب: بمنعه، وهذا لأنه يجوز أن يكون صحة الضم من عوارض الألفاظ كما في اللغتين. وأما حجة من قال: بالتفصيل فتعرف مما سبق فلا حاجة إلى الإعادة.

المسألة الرابعة في التأكيد

المسألة الرابعة في التأكيد التأكيد: هو اللفظ المستعمل لتقوية ما فهم من لفظ آخر. فقولنا: المستعمل خير من "الموضوع" فإن الاسم الواحد إذا كرر كان تأكيدا. وهو غير موضوع لتقوية ما فهم منه ابتداء، بل هو موضوع له، وكذلك لفظ "النفس" و "العين" و "الكل" استعمل في التأكيد مع أنه غير موضوع للتأكيد، وإلا لكان كل واحد منهما في قول القائل: "رأيت نفس زيد" و "عين زيد" و "كل القوم"، بل في قوله: "رأيت النفس" مستعملا في غير ما وضع له لأنه ليس بتأكيد لا لفظي ولا معنوي لكنه ليس كذلك. أما أولا: فلأن ذلك إما بطريق التجوز، أو بطريق النقل، أو كلاهما على خلاف الأصل. وأما ثانيا: فبالاتفاق. وهو ينقسم إلى: لفظي: وهو بإعادة اللفظ الأول: جملة كان كان أو مفردا، اسما كان أو غيره. وإلى معنوي:

المسألة الخامسة في الفرق بين المترادف والتأكيد وبينهما وبين التابع

وهو بألفاظ مخصوصة. فمنه ما يؤكد به المفرد، والمثنى والجمع، وهو "العين" و "النفس" ومنه ما يختص بالمثنى وهو "كلا" و "كلتا"، ومنه ما يختص بذي أجزاء وهو "كل" و "أجمع" و "أكتع" و "أبصع" و "الكل" أصل الباب والبواقي تؤل به. المسألة الخامسة في الفرق بين المترادف والتأكيد وبينهما وبين التابع أما التأكيد: فيفارق المرادف في إفادة التقوية، واشتراط تقدم ذكر المؤكد، واختصاصه بالنافي، بخلاف المترادفين فإن كل واحد منهما مرادف للآخر، ففي جواز كونه عين المؤكد أو الشيء لا يرادف نفسه وفي وجوب أن يكونا من لغة واحدة. بخلاف المترادفين، فإنه يجوز أن يكون من لغتين.

وأما التابع: "كعطشان، ونطشان" و "شيطان، وليطان"، فيفارقهما، في أنه لابد وأن يكون على أنه المتبوع، وأنه لا يقدر فائدة أصلا إلا عن الأول ولا يقويه. ولهذا قال بعضهم حين سئل عن معنى "بسن" وهو تابع "حس" لا أدري ما هو. ويفارق المترادف خاصة، في أنه لا/ (31/أ) يجوز أن يفرد بالذكر. ويفارق التأكيد خاصة، في أنه لا يكون بتكرر الأول البتة، وأما التأكيد فقد يكون به.

المسألة السادسة [في حكم التأكيد في الكلام]

المسألة السادسة [في حكم التأكيد في الكلام] التأكيد يجوز في كلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام الفصحاء خلافا للملاحدة والطاعنين في القرآن، بسبب وقوعه فيه. والدليل عليه وجهان:- أحدهما: أن جواز وقوعه معلوم بالضرورة، لأنا نعلم بالضرورة أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال، نظرا إلى ذاته، ونظرا إلى داعية الوضع، فإن الداعية مما توجب وقوعه لا مما تحيله، وهذا لأن تقوية معنى الخبرية والإنشائية مطلوبة العقلاء لإزالة اللبس والغلط والتأكيد يفندها فيكون مطلوبا لهم.

وثانيهما: وقوعه في القرآن دليل الجواز وزيادة إذ قد ثبت أنه كلام الله تعالى. وأما وقوعه في كلام الفصحاء فيدل عليه استقراء اللغات. وأعلم: أنه وإن جاز وقوعه في الكلام لكن إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على فائدة مستقلة، أما إذا أمكن فلا، إذ الفائدة التأسيسية أولى من التأكيدية.

"الفصل الحادي عشر" في الاشتراك

الفصل الحادي عشر في الاشتراك

الفصل الحادي عشر في الاشتراك وفيه مسائل:- المسألة الأولى في حد اللفظ المشترك وهو اللفظ الواحد الموضوع لشيئين مختلفين أو أكثر من حيث هما كذلك من غير نقل عن أحدهما إلى الآخر. فاللفظ: كالجنس، واحترزنا: بالواحد. عن الأسماء المتباينة والمترادفة. وبقولنا: "الموضوع لشيئين مختلفين" عن العلم. وقولنا: لشيئين. خير من قولنا: لحقيقتين. لتناوله ما وضع لحقيقتين، ولصفتين، وفردين من حقيقة واحدة دون قولنا: الحقيقتين. فإنه لا يتناول القسمين الأخيرين مع أنه مشترك.

المسألة الثانية حكم اللفظ المشترك

واحترزنا بقولنا: "من حيث هما كذلك". عن "المتواطئ". وبقولنا. من غير نقل- عن "المجاز" و "المنقول". المسألة الثانية حكم اللفظ المشترك اختلف الناس في أن اللفظ المشترك، هل هو واجب أم لا؟ وبتقدير أن لا يكون واجبا. فهل هو ممتنع أو ممكن؟ وبتقدير أنه ممكن. فهل هو واقع أم لا؟ فهذه احتمالات أربعة بحسب الانقسام العقلي، وقد ذهب إلى كل واحدة منها طائفة منهم. واحتج من قال: بالوجوب بوجهين:- أحدهما: أن المعاني غير متناهية، لأن من جملتها الأعداد وهي غير متناهية، والألفاظ متناهية، لأنها مركبة من الحروف الهجائية وهي متناهية، والمركب من المتناهي متناه، فتكون الألفاظ متناهية، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك بالضرورة.

وثانيهما: أنه لابد وأن يكون في/ (31/ب) اللغات لفظ دال على مسمى الوجود لمسيس الحاجة إلى التعبير عنه والمانع زائل ظاهرا، كما هو بالنسبة إلى سائر الألفاظ، وثبت في علم الكلام أن وجد كل شيء عين ناهيته، فتكون وجودات الأشياء المختلفة بالماهية متخالفة بالماهية، فيكون اللفظ الدال عليهما مشتركا. الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أن المعاني غير متناهية، وهذا لأن حصول ما لا نهاية له في الوجود محال عندنا. وأما قوله: الأعداد غير متناهية، فمسلم، لكن بمعنى أنه لا مرتبة من مراتبه إلا وأمكن أن يوجد بعده مرتبة أخرى، مع أن المراتب الداخلة في الوجود منه أبدا يكون متناهيا لا بمعنى أن الحاصل منه في الوجود غير متناهي فلا يلزم من كون الأعداد غير متناهية بالمعنى الذي تقدم ذكره أن تكون المعاني الموجودة غير متناهية. سلمنا: أن المعاني غير متناهية، لكن لا نسلم أن المعاني المتضادة أو المختلفة

التي بحسبها يكون اللفظ مشتركا غير متناهية، وحينئذ لا يلزم الاشتراك، لأن أفراد النوع الواحد وإن كانت غير متناهية في الوجود الخارجي لكن يمكن أن يعبر عنها بأسرها بلفظ واحد كالعام. سلمنا: أنها غير متناهية أيضا: لكن إنما يلزم الاشتراك إن لو يوضع اللفظ لكل واحد منها على سبيل الخصوصية، فإن تقدير أن يوضع له باعتبار قدر مشترك لا يلزم ذلك، لكن ذلك محال، لأن وضع اللفظ لما لا يتناهى على سبيل الخصوصية يستدعي تعقله على سبيل التفصيل لكن ذلك محال منا. سلمنا: عدم إحالته، لكن لا نسلم أن الألفاظ متناهية. قوله: لأنها مركبة من الحروف المتناهية، والمركب من المتناهي متناه. قلنا: متى إذا كانت وجوه التركيبات متناهية، أم على الإطلاق؟ والأول: مسلم، والثاني: ممنوع. لكن لما قلت: أن وجوه التركيبات أيضا متناهية حتى يلزم التناهي؟ سلمنا: المقدمتين، وأن المتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك، لكن إنما يجب وجود الاشتراك أن لو يجب أن يكون لكل معنى لفظ وهو ممنوع. ونحن وإنما سلمنا: في هذا المقام عدم إحالة تعقل ما لا يتناهى على سبيل التفصيل، لكن لا يلزم منه وجوب أن يكون لكل معنى لفظ، بل جوازه، وهو غير مستلزم لوجوب الاشتراك. ثم الذي يدل على أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ، هو أنا لا نجد لكثير من المعاني كأنواع الروائح والاعتمادات وكثير من الصفات أسماء/ (32/أ) مستقلة لا مشتركة ولا مفردة بعد الاستقراء والبحث التام.

وعن الثاني: أنا لا نسلم أن وجود كل شيء عين ماهيته، ودلائل مثبتيه معارض بدلائل نفاته. سلمنا: ذلك لكن يجوز اشتراك تلك الوجودات المتخالفة في أمر واحد ويكون لفظ الوجود وما يجري مجراه دالا على تلك الوجودات باعتبار ذلك المشترك لا باعتبار خصوصياتها، وحينئذ لا يلزم الاشتراك. وأما القائلون بامتناعه فقد احتجوا أيضا بوجهين:- أحدهما: أن المخاطبة به إذا كانت بدون القرينة. فهو إما عبث، أو تكليفي ما لا يطاق لأنه إن لم يقصد الإفهام لزم الأول: وإن قصد لزم الثاني: وإن كانت معها قرينة فهو تطويل من غير فائدة. ولئن سلمنا: أنه ليس تطويلا من غير فائدة، لكن القرينة قد تخفى وتظهر، وبتقدير الظهور قد تخفى وجه جلالتها على المقصود، وحينئذ يلزم المحذور المذكور وما يكون كذلك وجب أن لا يكون. وثانيهما: أن المشترك وإن تعلق به غرض لكن مفسدته راجحة عليه

وهي الإخلال بالفهم التام وغيره مما سيأتي [و] ذلك المقصود حاصل أيضا من المفرد بإدخال كلمة الترادد عليه، وما كان منشأ للمفسدة الراجحة مع عدم مسيس الحاجة إليه وجب أن لا يصدر من الحكيم. الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أنه إن قصد به الإفهام بدون القرينة يلزم تكليف ما لا يطاق، وإنما يلزم ذلك أن لو يكون المقصود منه إفهام واحد منهما عينا "أما إذا لم يكن المقصود ذلك بل إفهام أحدهما لا عينا" لم يلزم ذلك، بل المقصود حاصل وهو معرفة أحدهما لا بعينه، إذ المشترك يفيد ذلك بدون القرينة. سلمان: لزوم تكليف ما لا يطاق على هذا التقدير، فلم لا يجوز أن يكون مع القرينة؟ قوله: " لأنه تطويل من غير فائدة". قلنا: لا نسلم أن يكون تطويلا، وإنما يكون كذلك لو كانت القرينة لفظية وهو غير لازم. سلمنا: أن يكون تطويل لكن لا نسلم أنه من غير فائدة، فلعل فيه فائدة لا نطلع عليها وعدم الاطلاع على الشيء لا يدل على عدمه، على أن فيه فائدة لا تخفى عليك.

وعن الثاني: أن تلك المفسدة لا توجب العدم، بل المرجوحية فغن الإخلال بالفهم التام حصل في أسماء الأجناس والمشتقات مع أنها حاصلة. أما لقائلون بالإمكان فقد احتجوا عليه بوجوه:- أحدهما: أنه ممكن في نفسه، إذ لا يلزم للفرد/ (32/ب) وقوعه محال ولا من فرد عدمه، والأصل عدم لا يوجب امتناعه أو وجوبه فوجب أن يبقى ممكنا. وثانيها: أن الوضع يتبع الغرض والتعريف على سبيل الإجمال قد يكون غرض المتكلم، إما لمضرة في التعريف التفصيلي، كما في قول أبي بكر رضي الله عنه حين سئل عن النبي عليه السلام وقت ذهابهما إلى الغار "هو رجل يهديني السبيل".

وأما لكونه مترددا بين الشيئين غير واثق بأحدهما على التعين فلا يخبر عن أحدهما بما يدل عليه على التعين لئلا يكذب ويكذب ويظهر جهله، بل يخبر عنه بما له صلاحية كل واحد منهما ليكون صادقا أيهما كان واقعا. وأما لأن في التعريف الإجمال نوع لذة ليس في التعريف التفصيلي. وبيانه: أن الإنسان إذا كان غافلا عن الشيء وليس له به شعور ألبته فإنه لا يتألم بسبب فقده، وإذا حصل له العلم به دفعة واحدة لم يتلذذ به أيضا: كمال اللذة، لأنه يحص له عقيب الشوق والألم، أما إذا عرفه من وجه

حصل هناك ما يوجب اللذة والألم، فإذا حصل بعد ذلك له العلم به على سبيل التفصيل حصل له كمال اللذة، إذا حصل بعد الاشتياق إليه. فثبت بهذه الوجوه أن التعريف على سبيل الإجمال قد يكون غرض المتكلم، وثبت أن الوضع يتبع الغرض فجاز أن يوضع له اللفظ. وثالثها: أنه يجوز أن تضع إحدى القبيلتين اللفظ بمعنى، والأخرى تضع ذلك اللفظ بعينه بمعنى آخر، من غير أن نعلم الوضع الأول، ثم يشتهر الوضعان، فيكون الاشتراك واقعا بالداعية الأصلية للوضع. ثم منهم من زعم أنه غير واقع، وأن كل ما يظن أنه مشترك فهو، إما متواطئ وحقيقة في أحدهما مجاز في الآخر. وهذا لأنه لم ينقل من العرب بالصراحة في لفظ معين أنه مشترك، بل غاية ما يعلم منهم أنهم استعملوه في معنيين مختلفين أو متضادين، لكن يمكن جعله حقيقة في القدر المشترك كما في لفظ العين، أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، كما في القرء

والجون، فوجب المصير إليه لما يأتي: أن التواطؤ والمجاز خير من الاشتراك. ومنهم من قال: بوقوعه وهم الجماهير. واحتجوا عليه بأنا إذا سمعنا لفظ القرء والجون لم يتبادر فهمنا إلى أحد المعنيين، بل يبقى الذهن مترددا فيه إلى وجود القرينة، ولو كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، أو كان حقيقة في القدر المشترك لما كان كذلك، لأن الذهن لا يبقى مترددا/ (33/أ) عند سماع اللفظ بين الحقيقة والمجاز وإلا لما حصل الفهم من شيء من الألفاظ إلا عند وجود قرينة معينة، أما للحقيقة أو للمجاز. وما يقال: لعل التردد حصل بسبب عرف طارئ لكثرة الاستعمال في المجاز، فهو وإن كان محتملا له "لكنه" خلاف الأصل، إذ الأصل عدم التعبير، ولأن التردد حاصل في مفهومات ألفاظ قلما يستعملها أهل العرف كما في عسعس الليل فإنا لا نفهم منه الإقبال والإدبار على التعيين إلا بقرينة فلا يجوز إحالته إلى استعمال أهل العرف.

المسألة الثالثة في أقسام اللفظ المشترك

المسألة الثالثة في أقسام اللفظ المشترك. وقد عرف ذلك من قبل، والذي نزيد هنا هو أن اللفظ هل يجوز أن يكون مشتركا بين الشيء ونقيضه أم لا؟ فجوزه قوم. ومنعه آخرون. مثاله: لفظة "إلى" على رأي من يزعم أنها مشتركة بين إدخال الغاية، وعدمه. احتج من منع: بأن اللفظ المشترك لا يفيد إلا التردد بين مفهوميه. وهذا التردد حاصل بين النقيضين قبل وضع اللفظ له وسماعه فوضع اللفظ لهما عبث. وهو ضعيف، لأنا نمنع حصر الفائدة فيما ذكروه من التردد، وهذا فإنه كما يفيد أيضا إخراج ما عداهما عن أن يكون مراد التكلم، ألا ترى أن قوله تعال: {إلى المرافق}. كما يفيد التردد بين دخول المرفق، وعدم دخوله على تقدير أن يكون مشتركا بينهما، يفيد أيضا إخراج العضد عن الأمر بالغسل، فلا يكون الوضع لهما عيبا.

المسألة الرابعة في السبب الذي به يعرف كون اللفظ مشتركا

سلمنا: انحصار الفائدة فيما ذكروه من التردد، لكن يحصل بعد الوضع من الفائدة ما لا يحصل قبله، وهو تعين آحدهما بأدنى قرينة خالية أو مقالية، بخلاف قبل الوضع فإنه لا يزول التردد بذلك. سلمنا: صحة دليلكم لكنه إنما ينفي ما يكون مشتركا فيهما بوضع قبيلة واحدة، وأما ما يحصل بوضع قبيلتين فلا. المسألة الرابعة في السبب الذي به يعرف كون اللفظ مشتركا فنقول: معرفة كون اللفظ مشتركا، إما بالنص، وإما بالاستدلال، أما الأول: فهو بأن يقول الواضع: هذا اللفظ مشترك بين هذين المفهومين. أو يقول: هذا حقيقة في هذا وفي هذا من غير نقل. أو وضعت لهذا ولهذا سواء كان القائل: واضعا واحدا أو واضعين لكن يجب أن لا يكون بطريق النقل. أو يقول: إذا أطلقت هذا اللفظ فلا تحملوه على أحد هذين المفهومين على التعيين إلا بقرينة. وأما الاستدلال فمن وجوه:-

أحدها: أن يبقى الذهن مترددا/ (33/ب) في مفهوماته، لا يتبادر شيء منها إليه إلا بقرينة. وثانيها: أن أهل اللسان إذا أرادوا إفهام أحد المعنيين على التعيين، اقتصروا على مجرد إطلاق اللفظ، وإن أرادوا إفهام أحدهما على التعيين لم يقتصروا عليه، بل ضموا إليه شيئا آخر، فيعلم أن اللفظ مشترك بينهما. وثالثها: أن يكون اللفظ مستعملا في معنيين، ولا يصح سلبه عن كل واحد منهما، فيعلم أنه حقيقة فيهما، إذ لو كان مجازا فيهما أو في أحدهما لصح سلبه عنهما، أو عن أحدهما، لأن صحة السلب من لوازم المجاز. وأما مجرد الاستعمال في المعنيين، فليس دليل الاشتراك، لاحتمال أن يكون أحدهما بطريق التجوز، وهذا وإن كان على خلاف الأصل لكنه خير من الاشتراك لما سيأتي. وكذلك حسن الاستفهام ليس دليل الاشتراك، لما سنذكر عن شاء الله تعالى من فوائده.

المسألة الخامسة [في وقوع المشترك في كلام الله ورسوله]

المسألة الخامسة [في وقوع المشترك في كلام الله ورسوله] المشترك يجوز أن يقع في كلام الله تعالى، وكلام رسوله، والدليل على وقوعه، قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}. وقوله {والليل إذا عسعس}. وقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، وهو دليل الجواز وزيادة، وإذا ثبت جواز وقوعه

في كلام الله تعالى، ثبت جواز وقوعه أيضا في كلام الرسول، إذ لا قائل بالفصل. احتج المانعون: بأن المقصود من الخطاب الإفهام، فإن لم يقصد الله تعالى باللفظ المشترك ذلك كان عبثا، وهو على الحكيم محال، وإن قصده فإما أن يكون مع القرينة، أو بدونها، فإن كان الأول: فإما أن تكون القرينة متصلة، أو منفصلة. فإن كان الأول: فهو تطويل من غير فائدة. وإن كان الثاني: فيمكن أن لا يصل إلى السامع فيعرى الخطاب عن الفائدة، وهو محذور، وإن لم يكن مع القرينة، فهو تكليف مالا يطاق. وجوابه: على رأي أصحابنا: بمنع امتناع اللوازم كلها، فإن العبث، وتكليف مالا يطاق، وكونه تطويلا من غير فائدة، وإنما يمتنع عليه أن لو كان التحسين والتقبيح عقليا، ونحن لا نقول به. وأما على رأي المعتزلة: فمن قال منهم بجواز حمله على كل مفهوماته، منع لزوم تكليف ما لا يطاق عند تجرده عن القرينة، وأما من لم يقل به فإنه

المسألة السادسة في أن الأصل عدم الاشتراك

يقول: لا يبعد أن يكون في ذكره وإردافه بالقرينة- سواء كانت متصلة أو منفصلة- فائدة لا يطلع عليها، كيف وإن الفائدة فيه ظاهرة، وهي ما يجده المكلف من الثواب بسبب طلب القرينة والاجتهاد فيها، فإن دلالة/ (34/أ) القرينة في الأكثر ظنية. وأما قولك: يمكن أن يصل إليه القرينة. فهو ممنوع على رأي بعضهم. ولئن سلم: إمكانه لكن الأغلب الاطلاع عليها، لاسيما عند الاجتهاد التام والبحث الشديد وهو كاف في الحسن. المسألة السادسة في أن الأصل عدم الاشتراك. والمعنى به: أن اللفظ إذا دار بين أن يكون مشتركا ولن أن يكون كذلك كان ظن عدم الاشتراك أغلب، ويدل عليه وجوه:- أحدها: أن الاستقراء دل على أن الكلمات في الأكثر مفردة لا مشتركة،

فإذا وقع التردد في فرد من أفرادها بأنه مشترك وغير مشترك، كان ظن عدم الاشتراك راجحا على ظن الاشتراك إلحاقا للفرد بالأعم ولا غلب، ولأن كثرته يدل على قلة مفسدته، فكان الإلحاق به أولى. فإن قلت: لا نسلم أن الكلمات في الأكثر مفردة، وهذا لأن أنواع الكلمة منحصرة في الاسم، والفعل، والحرف. أما الحروف: فبأسرها مشتركة يدل عليه الاستقراء. وأما الفعل: فهو إما ماضي: وهو مشترك بين الدعاء، والخبر. وإما مضارع وهو مشترك بين الحال، والاستقبال. وأما أمر وهو أيضا مشترك بين الوجوب، والندب، والإباحة، وبين غيرها، فلم يبق إلا الأسماء. والاشتراك فيها أيضا: كثير فإذا ضم إليه القسمان الباقيان فلعل الاشتراك يغلب. فإن لم يكن "كذلك" فلا أقل من التساوي وحينئذ لا يحصل ظن عدم الاشتراك. قلت: لا نسلم: أن الحروف بأسرها مشتركة والذي يذكر في الكتب النحوية أن الحرف الفلاني يرد لكذا ولكذا فليس فيه ما يدل [على] أن ذلك بطريق الحقيقة، إذ [قد] تجوز أن يكون لبعضهما بطريق الحقيقة، ولبعضها بطريق التجوز، وكيف لا؟ واحتمال التجوز راجح على احتمال الاشتراك.

ولئن سلم: أنه بطريق الحقيقة لكن لا يلزم منه الاشتراك أيضا، لجواز أن يكون حقيقة في الكل باعتبار أمر مشترك بين تلك المعاني. سلمنا: اشتراك الحروف، لكن لا نسلم اشتراك الأفعال. قوله: الماضي منه مشترك بين الخبر والدعاء. قلنا: لان نسلم: بل هو عندنا حقيقة في الخبر، مجاز في الدعاء. ووجه التجوز ظاهر غني عن البيان. فلم قلت: إنه لا يجوز أن يكون كذلك؟ فإن قلت: "المجاز خلاف الأصل". قلت: قد سبق جوابه. قوله: "المضارع منه مشترك بين الحال والاستقبال". قلنا: لا نسلم: بل هو حقيقة في الحال. مجاز في الاستقبال، ولذلك جعل/ (34/ب) لتعينه قرينة وهي السين وسوف دون تعين الحال. قوله: الأمر مشترك بين الوجوب والندب. قلنا: لا نسلم، بل هو حقيقة في الوجوب فقط وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى. "سلمنا اشتراك الأفعال أيضا لكن لا نسلم كثرة الاشتراك في الأسماء بل نادر يدل عليه الاستقراء". سلمنا: ذلك لكن لا نسلم: أنه إذا ضم المشترك منه إلى الحروف والأفعال، كان الاشتراك أغلب أو يكون مساويا للإفراد. وهذا لأن، الغلبة للأسماء. فإن الأفعال بأسرها مشتقة من المصادر، وهي نوع من أنواع الأسماء والمصادر بالنسبة إلى الأسماء قليل جدا وأما الحروف فهي

محصورة قليلة جدا. وقد ذكرنا أن الاشتراك في الأسماء نادر، وحينئذ لا يلزمه غلبة الاشتراك ولا يساويه. وثانيها: أن احتمال كون اللفظ منفردا، إن كان راجحا على احتمال كونه مشتركا، فقد حصل الغرض، إذ لا نعني بكون الاشتراك على خلاف الأصل سوى هذا. وإن كان مساويا له، أو مرجوحا بالنسبة إليه، وجب أن لا يحصل الفهم عن شيء من الألفاظ إلا بعد الاستفسار، أو يكون معها قرينة تعين مدلولتها ولما لم يكن كذلك، علمنا فساد هذين القسمين. فإن قلت: لا نسلم أن تقدير [تقدير] التساوي والمرجوحية لا يحصل الفهم، وهذا لأن احتمال الإفراد، وإن كان مساويا لاحتمال الاشتراك، لكن لما حصل ظن كونه اللفظ موضوعا للمعنى المعين يحصل فهمه عند سماعه وظن إرادته منه، وإن كان احتمال كونه موضوعا للآخر مساويا له. قلت: فعلى هذا الفهم إنما يحصل بسبب ظن كون اللفظ موضوعا للمعنى المعين، ولا شك أن الفهم حاصل في أكثر الألفاظ من غير استكشاف وقرينة فظن كونه موضوعا لتلك المعاني دون غيرها أكثر، فيكون ظن الإفراد أكثر ولا نعني بكون الاشتراك على خلاف الأصل إلا هذا. وثالثها: أن الاشتراك، قد يكون منشئا للمفاسد، مثل مضرة القائل: فإن السيد إذا قال لعبده: أعط الفقير العين مثلا، وأراد بها الماء، ولم يضم ليها قرينة تدل عليه اعتمادا فهم العبد أو ضم إليه قرينة لكن لم ينتبه لها إما لغفلته، أو لأنها تحتاج إلى تدقيق النظر فيها، وهو لم يأت به، ففهم

العبد منها الذهب، وأعطى الفقير ذلك، فإن السيد يتضرر به. ومثل إخلال فهم/ (35/أ) السامع، فإنه إذا سمع اللفظ المشترك مجردا عن القرينة، فربما لا يراجع المتكلم فيه، إما لمهابته، وإما للاستنكاف عن السؤال، ويحمله على غير مراده، فيحصل غير المراد، ولا يحصل المراد يوقع "في" الجهل. ولاشك أن كل ذلك مفاسد، وبتقدير أن يراجع المتكلم، فالمتكلم إن أجاب بلفظ آخر مفرد، فيقع التلفظ بالمشترك أو لا ضائعا، وإن أجابه بإيماء أو إشارة، فربما لا يحصل به البيان، وبتقدير حصوله، ففيه زيادة كلفة ليس في مفرد فيكون مضرة في حقه والسامع. فثبت بما ذكرنا أن الاشتراك منشئ للمفاسد، وما يكون كذلك وجب أن لا يكون، فإن لم يقتض ذلك فلا أقل من أن يكون قليلا تقليلا للمفاسد الناشئة منه. ورابعها: الحاجة إلى الألفاظ المفردة "ضرورة لما عرفته والحاجة غير ضرورية إلى المشترك، لأن التعريف الإجمالي وإن كان قد مس الحاجة إليه"، لكنه نادر وبتقدير أن لا يكون نادرا، لكن يحصل ذلك المقصود بإدخال حرف الترديد عليها. فثبت بهذا أن الحاجة إلى المشترك غير ضرورية، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون احتمال الإفراد راجحا على احتمال الاشتراك وهو المطلوب.

المسألة السابعة في أن اللفظ المشترك المفرد المثبت، إذا صدر عن متكلم واحد مرة واحدة مجردة عن القرائن. هل يجوز حمله على جميع معانيه بطريقة الحقيقة أم لا؟

المسألة السابعة في أن اللفظ المشترك المفرد المثبت، إذا صدر عن متكلم واحد مرة واحدة مجردة عن القرائن. هل يجوز حمله على جميع معانيه بطريقة الحقيقة أم لا؟ فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا. ومن المعتزلة كالجبائي، والقاضي عبد الجبار.

بن أحمد، إلى جوازه. بشرط أن لا يمتنع الجمع لأمر خارج كما في الضدين والنقيضين إن جوز ذلك. وذهب الباقون من الأصحاب: كإمام الحرمين، والشيخ الغزالي، والإمام، ومن الحنفية: كالكرخي.

ومن المعتزلة: كأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، إلى منعه.

ثم منهم: من منع مطلقا أي لا يجوز أن يراد باللفظ المشترك كلا مفهوميه معا، نظرا إلى الإرادة، والوضع، كما لا يجوز أن يراد بالمؤمنين: المؤمنون والمشركون. وهذا لأن إرادة كل واحد منهما مستلزمة لعدم إرادة الآخر به على ما ستعرف إن شاء الله تعالى أنه موضوع لهما على البدلية لا على المعية، فلو كانا مرادين معا لزم أن لا يكونا مرادين معا وهو محال. أو نقول: بعبارة "أخرى" عن المتكلم باللفظ المشترك، إذا أراد أحدهما فقد أراد ما/ (35/ب) وضع له اللفظ، فلو أراد معه المفهوم الآخر، فقد أراد العدول عما وضع له اللفظ لما سبق، فيلزم أن يكون مريدا به لما وضع له، ومريدا للعدول عنه وهو محال.

ومنهم من خص المنع لأمر يرجع إلى الوضع: كالغزالي، وأبي الحسين البصري، واختاره الإمام أيضا: إذ قالوا: يجوز أن يحمل المشترك على مفهوميه معا، نظرا إلى الإرادة والاستحالة في إرادتهما لكن يلزم منه مخالفة الوضع، وهذا لأنه يجوز إرادتهما قبل التلفظ باللفظ المشترك، أو عند التلفظ به مرتين، فالتلفظ به مرة واحدة لا يحيل ما كان ممكنا، وليس هو كإطلاق لفظ المؤمنين وإرادتهم وإرادة المشتركين، لأنه غير صالح للدلالة على كل واحد منهما لا بطريق البدلية ولا بطرق المعية، وجواز الإدارة مشروط بصلاحية الدلالة. وقبل الخوض في الدلالة لابد من تقديم مقدمة: وهي أن كون اللفظ موضوعا لمسميين مختلفين على البدل، ليس عين كونه موضوعا لكل واحد منهما معا، ولا عين كونه موضوعا لهما باعتبار الكلية وهيئة المجموعية وغير مستلزم لهما أيضا. أما الأول: فلأن المغايرة بين هذه المفهومات الثلاثة معلومة، ألا ترى أن النكرة من المتواطئ يدل على كل واحد من أفراد ما صدق عليه على البدل، ولا يدل عليها بحسب الدلالتين الباقيتين، والعام يدل على جميع الأفراد الداخلة تحته، لكن باعتبار كل واحد منها مع الآخر، ولا يدل بطريق البدلية

ولا بطريق هيئة المجموعية، ولذلك لا تتغير دلالته بقلة أفراده ولا بزيادته وأسماء العدد مثل العشرة، والعشرين، ومثل الرهط، والقوم، وتدل على مسمياتها باعتبار مجموعة أجزائها، دون اعتبار كل واحد منها، ولذلك تتغير دلالته بالزيادة والنقصان. وأما الثاني: وهو أن الوضع بطريق البدلية غير مستلزم للوضعين الآخرين فظاهر أيضا مما سبق. إذا عرفت هذا. فنقول: احتج النفاة: بأن واضع المشترك إن وضعه لأحد المسميين على البدل فقط، لم يجز حمله عليهما بأي اعتبار كان من الاعتبارين المذكورين، لأنه حمل له على غير موضوعه بدون القرينة، وهو ممتنع. وإن وضعه لهما معا بأي اعتبار كان منهما ولم يضعه لأحدهما على البدل، لم يكن اللفظ حينئذ مشتركا، لأنه غير موضوع/ (36/أ) لمسممين متغايرين، وبتقدير كونه مشتركا، لم يكن حمله عليهما حملا للمشترك على كل مفهوميه، بل على مفهوم واحد، فإن المجموع من حيث إنه مجموع، أو باعتبار كل واحد منهما مفهوم واحد. ولئن سلم: أنه حمل عله على كلا مفهوميه، لكنه يقتضي أن يكون حمله على كل واحد منهما على البدل مجازا، أو هو باطل. أما أولا: فبالاتفاق. وأما ثانيا: فلأنه المتبادر إلى الفهم عند إطلاق المشترك دون مجموع مفهوماته

والتبادر دليل الحقيقة، وإحالته إلى العرف الطارئ دليل الحقيقة، وإحالته إلى العرف الطارئ خلاف الأصل. فإن قلت: كيف ادعيت الاتفاق على أن حمله على كل واحد منهما على البدل ليس بمجاز. وقد قال الشافعي، والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما: إنه يجب حمل المشترك على جميع مفهوماته عند تجرده عن القرينة المخصصة لأحدهما، كما يجب ذلك في سار الألفاظ العامة. ولا فرق عندهما بين العام والمشترك في أن كل واحد منهما يتناول جميع مفهوماته، إلا أن العام يتناول جميع أفراده لمشترك مدلول له بين تلك الأفراد، بخلاف المشترك، فإنه لا يدل عليها باعتبار قدر مشترك بينها. وهذا دليل منهم على أن حمله على كل واحد منهما على البدل مجاز كما هو في العام. قلت: لا نسلم أن ذلك يدل على ما ذكرت، وإنما يدل عليه إن لو لم يكن له علة سوى كون اللفظ حقيقة فيه فقط، وهو ممنوع. وكيف يقال ذلك؟. وقد قال القاضي: لو أطلق المشترك مرتين، وأريد به كل مرة معنى جاز، فأي بعد في أن يقتصر على مرة واحدة ويراد به كلا المفهومين. وهو تصريح منه بأنه يجوز إرادة أحدهما منه بطريق الحقيقة حتى يستقيم. قوله: بل إنما صار إلى ما ذكرت، وإن كان اللفظ حقيقة عندهم في المجموع، وفي أحدهما على البدل، لأن حمله على المجموع يقتضي رفع الإجمال عن الخطاب، بخلاف ما إذا حمل على أحدها على البدل، فإنه يتوقف فيه إلى وجود القرينة المعينة، ولأن الحمل على المجموع أحوط،

وإن وضعه للمجموع أو لأحدهما على البدل أيضا: فإن استعمل في المجموع فقط سواء كان اعتبار هيئة المجموعية، أو باعتبار كل واحد منهما لم يكن ذلك استعمالا للمشترك في كل مفهوماته بل في بعضها، وإن استعمله فيهما معا فهو بحال، لأن المعنى من استعماله في المجموع بطريق الحقيقة أن لا يحصل الاكتفاء "إلا به والمعنى من استعماله في البدلية طريق الحقيقة أن يحصل الاكتفاء" بأحدهما/ (36/ب) فيلزم أن يحصل الاكتفاء بواحد وأن لا يحصل وهو جمع يبن النقيضين وإنما قيدنا الاستعمالين أعني الاستعمال في المجموع وفي البدلية بطريق الحقيقة لئلا يرد السؤال الذي يورد في هذا المقام. وهو أن الاكتفاء بأحدهما إنما يجب أن يحصل إذا لم

يكن داخلا في المجموع، أما إذا كان داخلا فلا نسلم حصول الاكتفاء به. والمعنى من استعماله فيه أنه لابد منه، لا أنه مكتف به كالعام فإنه مستعمل من كل واحد من أنواعه وأفراد أنواعه مع أنه لا يحصل الاكتفاء ببعض أنواعه وأفراد أنواعه، لأن المعنى من استعماله فيه أنه لابد منه لا أنه مكتف به فإنه إذا كان مستعملا في أحدهما بطريق الحقيقة لا يكون مستعملا فيه باعتبار أنه داخل في المجموع فلا يكون مستعملا فيه بمعنى أنه لابد منه فإن ذلك قد يصدق على التضمن وهو غير صادق عليه. واحتج المجوزون بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} والصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ثم عن تعالى أرادهما

من قوله "يصلون" في الآية والأصل في الكلام الحقيقة. وثانيها: قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وكثير من الناس}. والسجود من الناس هو وضع الجبهة على الأرض، لأنه المتبادر إلى الفهم عندما يضاف إليه، ولأنه لو أريد من السجود المضاف إلى الناس الخشوع، لم يبق لتقييد الناس بكثير فائدة، إذ السجود بمعنى الخشوع حاصل من كل الناس، المؤمن، والكافر، والسجود من الشجر، والدواب، هو الخشوع لأنه المتصور منهما، وقد أراداهما الله تعالى بالسجود في الآية. وثالثها: قوله: تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. أراد الله تعالى من القروء المذكورة في الآية الطهر والحيض من المرأة المجتهدة، بشرط أن يؤدي اجتهادها إلى التطهر أو إلى الحيض، بدليل وجوب الاعتداد بما أدى إليه اجتهادها.

ورابعها: قول سيبويه: "إن قول القائل لغيره الويل لك دعاء وخبر" جعله مفيدا لكلا المعنيين مع اتحاد اللفظ، وقوله: في المباحث اللغوية حجة. وخامسها: وهو الوجه المعقول: أنه لا يمتنع إرادة ذينك المعنيين قبل التلفظ به، أو عند التلفظ به مرتين، أو عند القرينة المعينة لهما، فوجب أن لا يمتنع أيضا عند التلفظ مرة واحدة، لأن وجود اللفظ/ (37/أ) وإيجاده لا يحيلان ما كان ممكنا، وهو حجة على من أنكر جواز إرادتهما مطلقا خاصة. الجواب عن الأول، والثاني: أن الصلاة، والسجود، وإن كان كل واحد منهما مذكورا في الآية مرة واحدة، لكنهما مستندان إلى ضمير فاعلين مختلفين، فهما كالمتعددين لتعدد فاعليهما، فيجوز أن يراد بكل واحد

منهما معنيان مختلفان، ولا يلزمه صحة إرادتهما منه عند التكلم به مرة واحدة. سلمنا: أنه ليس كالمتعدد، لكن يجوز أن يكون موضوعا لذينك المفهومين على الجمع، كما هو موضوع لهما على البدل، فاستعماله في المجموعة على هذا التقدير استعمالا له في أحد مفهوماته لا في كلها. فإن قلت: الاشتراك خلاف الأصل، فكان تقليله أوفق للأصل، وقد ثبت أن اللفظ مشترك بين ذينك الفردين، فلا يجوز أن يجعل مشتركا بينهما وبين المجموع. قلت: التزام مخالفة الأصل أولى من مخالفة الدليل القاطع. سلمنا: أنه غير موضوع للمجموع فلم لا يجوز أن يكون الاستعمال بطريق التجوز؟ فإن قلت: إنه خلاف الأصل أيضا. فالجواب عنه ما سبق، وقد أجيب عنهما بجوابين آخرين: أحدهما: ما ذكره الغزالي رحمه الله: وهو أنا لا نسلم أن إطلاق الصلاة على المعنيين وهما المغفرة والاستغفار، وإنما هو بالاشتراك اللفظي، بل هو

بالاشتراك المعنوي، والقدر المشترك بينهما هو العناية بأمر النبي عليه السلام لشرفه وحرمته والعناية من الله تعالى المغفرة والرحمة، ومن الملائكة الاستغفار, وكذا القول في السجود فإن المشترك بين السجودين أعنى سجود الشجر، الدواب، وسجود الناس، هو الخشوع، وكون كل واحد منهما داخلا تحت التخير. وفيه نظر لا يخفى عليك. وثانيها: ما ذكره أبو هاشم: وهو أن كل واحد من لفظي الصلاة والسجود، وإن كان موضوعا لأحد المسميين المذكورين على البدل، لكن لا يبعد أن يقال: إنه في عرف الشرع موضوع للمجموع. فعلى هذا لا يكون اللفظ مشتركا، بالنسبة إلى الوضع الشرعي. ولئن سلم: كونه مشتركا، لكن لا يكون ذلك استعمالا للمشترك في جميع مفهوماته. وفيه نظر أيضا. أما أولا: فلأنه مبني على القول بالنقل، وفيه كلام، والخصم غير مساعد عليه. وأما الثانية: فلأن من شرطه الاشتهار بحيث يتبادر المنقول إليه إلى الفهم

عند سماعه، ولا شك/ (37/أ) أنه غير حاصل فيما نحن فيه. وعن الثالث: بعض ما سبق، ويخصه منع أنه أرادهما، ووجوب الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر، عند أداء اجتهادها إليه لا يدل على ذلك، فإن ما غلب على ظن المجتهد يجب العمل به، وإن كان [ذلك] غير مدلول عليه باللفظ، بل وإن كان على خلاف ما دل عليه اللفظ، كما في تخصيص العام بالقياس والقرائن الخالية. وعن الرابع: أيضا بعض ما سبق، ويخصه "بأنه" بيان كونه موضوعا لذينك المعنيين، لا أنه مستعمل فهما على الجمع. سلمنا: ذلك لكن قوله حجة، إذا كان سالما عن المعارض، وهو غير مسلم، فإن كثيرا من أهل العربية ممن هو في رتبته منعوا من استعماله في جميع مفهوماته. وعن الخامس: أنا لا نقول: بامتناع إرادتهما مطلقا، بل لأمر يرجع إلى الوضع. ولئن قلنا به، لكن ما ذكرنا من الدليل، يوجب إحالة إرادتهما معا

لا نفس التكلم به مرة واحدة. فروع أربعة: الأول: اللفظ إذا كان حقيقة في شيء، ومجازا في شيء آخر، فهل يجوز حمله عليهما، عند عدم القرينة المخصصة لهما، أو لأحدهما؟ اختلفوا فيه، على حسب اختلافهم في المسألة السابقة، إلا أنه نقل بعضهم عن القاضي أبي بكر رحمه الله إحالته. واحتج على إحالته: بأن المعنى من كونه اللفظ مستعملا في حقيقته أنه مستعمل فيما وضع له، والمعنى من كونه مستعملا في مجازه أنه غير مستعمل فيما وضع له، فلو كان مريدا لاستعماله في حقيقته ومجازه يلزم أن يكون مريدا لاستعماله فيما وضع له، ومريدا لعدم استعماله فيه، وذلك يستلزم كزنه غير مريد لاستعماله فيه وهو متناقض. ولأن استعماله في المفهوم المجازى يقتضي إضمار كاف التشبيه، واستعماله في الحقيقة يقتضي عدمه، والجمع بين الإضمار، وعدمه في الكلمة الواحدة محال. وهما ضعيفان. أما الأول: فلأنا لا نسلم أن المعنى من كونه مستعملا في مجازه أنه غير

مستعمل فيما وضع له، بل المعنى منه أنه مستعمل في غير ما وضع وهو أعم من كونه غير مستعمل فيما وضع والعام لا يستلزم الخاص فلا يتحقق التناقض. وأما الثاني: فلأن الجمع بين الإضمار وعدمه في الكلمة الواحدة إنما يمتنع بالنسبة إلى الشيء الواحد، أما بالنسبة [إلى الشيئين فلا نسلم امتناعه. مثال اللفظ الواحد المحمول على حقيقته ومجازه، "اللمس" فإنه حقيقة في "المس" ومجازى في "الوطء"، فهل يجوز أن يحمل عليهما في قوله تعالى: {أو لامستم النساء} حتى يجب التيمم على اللامس والمجامع

عند فقد الماء أم لا؟ فمن جوزه حمله عليهما، ومن لم يجوزه لم يحمله عليهما. وعلى هذا الخلاف أيضا جواز حمل اللفظ على مفهومين محاذين عند تعذر حمله على حقيقته ومجازه الراجح. الثاني: أنه وإن جوز استعمال المشترك في مفهومين مختلفين عند تجرده عن القرينة، لكن لا يجب الحمل عليهما عند الأكثرين منهم، لأن اللفظ كما هو حقيقة في المجموع، فكذا هو حقيقة في أحدهما على البدل أيضا. فلو قلنا: بوجوب الحمل عليهما عند تجرده عن القرينة، كان ذلك ترجيحا لأحد المفهومين على الآخر من غير مرجح. وقال الشافعي، والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما: إنه يجب ذلك تكثيرا للفائدة ودفعا للإجمال ومصيرا إلى الاحتياط. وعند هذا ظهر أن ما ذكروه أن ذلك يكون ترجيحا غير مرجح باطل.

الثالث: الذين أنكروا استعمال المفرد المشترك في جميع مفهوماته. اختلفوا في تثنيته، وجمعه في جانب الإثبات: فالأكثرون منهم طردوا النفي، محتجا: بأن التثنية، والجمع إنما هو باعتبار ضم الشيء أو الشيئين إلى مثله، وذلك لا يتحقق إلا عند اتحاد المعنى فلا تتحقق التثنية والجمع عند اختلاف المفهومات. ومنهم من جوزه: زاعما بأنه لا معنى لقول القائل: اعتدى بالإقراء إلا أنه اعتدى بقرء وقرء وقرء، فإذا جاز أن يراد بكل مرة معنى، جاز أيضا أن يراد بالجمع كل تلك المفهومات، لأنه بمعناه. وجوابه: لا نسلم أنه لا معنى له إلا ما ذكرتم، بل معناه اعتدى ثلاثة أقراء، وهي إطهار أو حيض، لأن بعضها طهر وبعضها حيض. الرابع: المنكرون لتعميم المشترك المفرد في الإثبات.

اختلفوا في تعميمه، في جانب النفي مفردا كان أو جمعا: كقولك لا تعتدي، بقرء، أو بالإقراء. فالأكثرون منهم سووا بين النفي والإثبات وأنكروا العموم فيهما مفردا، وجمعا متمسكا بأن النفي لا يرفع إلا مقتضى الإثبات، فإذا لم يفد اللفظ في جانب الإثبات إلا مفهوما واحدا، فردا كان أو جمعا، وجب أن لا يفيد في جانب النفي إلا واحدا، نعم لو أريد به نفي المسمى حتى يكون معنى قولنا: لا تعتدي بقراء لا تعتد بما هو مسمى بالقرء، فحينئذ يعم، لأنه يفيد مسمى القرء الذي هو مشترك بين الطهر والحيض، فنفيه يستلزم نفيهما، لكن يصير اللفظ حينئذ متواطئا ويخرج عن أن يكون مشتركا. ومنهم من قال: بالتعميم في طرفي النفي محتجا: بأن دخول حرف النفي على اللفظ اقتضى نفيه مطلقا، ونفيه مطلقا يستلزم نفي ما يطلق عليه وإلا لزم أن لا يكون منفيا مطلقا، ولذلك قيل: النكرة في سياق النفي تعم وحينئذ يلزم تعميمه، وعلى هذا النحو الحجاج من الجانبين في نفي الجمع، لكن نفي المفرد أقرب إلى التعميم من نفي الجميع قليلا، لأن انتفاء الجمع يجوز أن يكون لانتفاء فرد من أفراده وحينئذ لا يلزم تعميمه بالنسبة إلى جميع مفهوماته، ولهذا نفى الجمع المذكر من المتواطئ لا يقتضي عموم النفي وإن كان فرده يقتضي ذلك.

المسألة الثامنة [في اللفظ المشترك إذا لم توجد معه قرينة يكون مجملا]

المسألة الثامنة [في اللفظ المشترك إذا لم توجد معه قرينة يكون مجملا] اللفظ المشترك، إن لم توجد معه القرينة المخصصة لبعض مدلولاتها، أو لكلها كان مجملا، عند من لم يجوز حمله على جميع معانيه. وعند من جوزه أيضا لكن لا يوجب الحمل عليه. وإن وجد معه قرينة، فإما أن تكون معينة أو ملغية، فإن كانت معينة، فإما أن تكون معينة لبعض مدلولاته [أولا]. فإن كان الأول: فقد زال الإجمال عن اللفظ، ووجب حمله على ما تعنيه القرينة. وإن كان الثاني: فإما تكون تلك المدلولات متنافية، أو لا تكون. فإن كان الأول: كان اللفظ بعد القرينة مجملا، كما قبلها لتعذر حمله عليها بأسرها. وإن كان الثاني: فقيل: يتعارض الدليل المانع من حمل المشترك على جميع مفهوماته والقرينة الموجبة لحمله عليها. وهو باطل، لأن تلك القرينة، إن كانت دلالته ظنية لا تكون معارضة للقطعي، لأن الظني لا يعارض القطعي، وإن كانت دلالته قطعية، فلا يعارض أيضا، لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن المتكلم تكلم به مرات، وأراد بكل مرة معنى من معانيه، والدليل المانع لا ينفي ذلك، وإن فرض وجود تلك القرينة عندما

يعلم أن المتكلم تكلم به مرة واحدة، فلا يعارض أيضا. لجواز أن يقال: إنها مرادة على وجه التجوز، اللهم إلا أن يفرض أن تلك القرينة تعين كل واحد من تلك المفهومات على سبيل الحقيقة إن أمكن ذلك، فحينئذ يثار إلى الترجيح إن قيل: بجريانه بين القاطعين، وإلا فلا. وقول الإمام في التوفيق بينهما: أنه يمكن أن يكون اللفظ موضوعا للكل كما هو موضوع لكل واحد من تلك المفهومات] / (39/أ) بالاشتراك. غير سديد، لأن القرينة على هذا التقدير، يجب أن تكون معينة لكل تلك المفهومات، ولكل واحد منها- أيضا- حتى تكون معينة لكل مفهوماته، فإن تقدير أن تكون معينة لكل تلك المفهومات، من حيث إنه قل: لا لكل واحد منها، لا تكون معينة لكل مفهوماته، بل لبعضها، فإن كل تلك المفهومات أحد الأمور المسماة به، وحينئذ يتعذر الجمع بين الدليل المانع، وبين القرينة، لأنها تقتضي أن يكون اللفظ مستعملا في الكل، وفي كل واحد من تلك المفهومات والدليل المانع ينفيه. وأما إن كانت القرينة ملغية، فإما أن تكون ملغية للبعض، أو للكل، فإن كان الأول: فالباقي بعد الإلغاء، وإن كان واحدا تعين الحمل عليه وارتفع الإجمال، وإن كان أكثر منه بقي اللفظ مجملا بين ما بقي كما كان مجملا بين الكل قبل الإلغاء. وإن كان الثاني: فحينئذ يتعذر حمله على شيء منها، ويجب حمله على مجازات تلك الحقائق الملغاة، كي لا يتعطل اللفظ، ثم تلك المجازات إما تكون متساوية، أو لا تكون وعلى التقديرين. فالحقائق الملغاة إما أن تكون بحال لو لم تكن دلالة القرينة. على إلغائها كان البعض أرجح من البعض، أو لا تكون كذلك. فهذه أقسام أربعة:-

إحداها: أن تكون المجازات متساوية، والحقائق متفاوتة، فحينئذ يحمل على مجاز الحقيقة الراجحة، مراعاة لذلك القدر من الرجحان. وثانيها: أن تكون الحقائق أيضا متساوية، وعلى هذا التقدير يكون اللفظ مجملا بين تلك المجازات، كما كان مجملا بين تلك الحقائق الملغاة لولا قرينة الإلغاء، هذا على رأي من لم يجوز حمل اللفظ على معنيين مختلفين، أما على رأي من يجوزه فإنه يحمله على تلك المجازات كما كان يحمله على كل تلك الحقائق لولا القرينة الملغية. وثالثها: أن تكون المجازات والحقائق كلاهما متفاوتين وهو على قسمين:- أحدهما: أن يكون الراجح مجاز الحقيقة الراجحة، فهاهنا تعين الحمل عليه [لجهة] الرجحان. وثانيهما: أن يكون الراجح "مجاز" الحقيقة المرجوحة، فهاهنا يقع التعارض بينه وبين المجاز المرجوح للحقيقة الراجحة، لأن كل واحد منهما راجح من وجه ومرجوح من وجه، فيكون اللفظ مجملا بينهما إلى ظهور الترجيح. ويمكن أن يقال الحمل على المجاز الراجح، أولى من الحمل على المجاز المرجوح للحقيقة الراجحة، لأن. الرجحان فيه حاصل في نفس ما يحمل

اللفظ عليه، بخلاف المجاز المرجوح، فإن الرجحان غير حاصل فيه بل في غيره فكان أولى. ورابعها: أن تكون المجازات متفاوتة والحقائق متساوية، فهاهنا يجب/ (39/أ) حمل اللفظ على المجاز الراجح وهو ظاهر غني عن البيان.

"الفصل الثاني عشر" في الحقيقة

الفصل الثاني عشر في الحقيقة

الفصل الثاني عشر في الحقيقة وفيه مسائل المسألة الأولى في تفسير الحقيقة بحسب اللغة اعلم أن الحق في اللغة: هو الثابت، قال الله تعالى: {ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين}. أي وجبت وثبتت، وهو من أسماءه تعالى بهذا الاعتبار، لأنه الثابت أزلا وأبدا لذاته، بخلاف غيره من الموجودات. ويقال: الحق لما يقابل الباطل، لأنه جدير بالثبوت كما أن الباطل جدير بالزهوق. ومنه يقال: لذات الشيء وماهيته حقيقته، لأنها الثابتة واللازمة له. والحقيقة فعيلة منه والياء دخلت فيه لنقله من الوصفية إلى الإسمية الصرفة، كما في الأكيلة.

المسألة الثانية في حد الحقيقة بحسب اصطلاح العلماء

وفي التهذيب: يقال: فلانة أكيلي للمرأة التي تؤاكلك وفي حديث النهي عن المنكر: والنطيحة، إذ لا يقال: شاة أكيلة ونطيحة. ثم إن الحقيقة يحتمل أن تكون بمعنى "الفعل" فيكون معناها الثابتة. ويحتمل أن تكون هي "المفعول" فيكون معناها المثبتة. المسألة الثانية في حد الحقيقة بحسب اصطلاح العلماء. الحقيقة: عبارة عن اللفظ المستعمل في إفادة ما وضع اللفظ له أولا، بالنسبة إلى الاصطلاح الذي وقع التخاطب به. خرج بقولنا: اللفظ المستعمل في إفادة ما وضع اللفظ له أولا. المجاز. هذا على رأي من يفسره الوضع في المجاز لأنه وإن كان اللفظ موضوعا له،

لكن ليس ذلك الوضع أولا بل ثانيا. أما على رأي من لم يعتبره، فلا حاجة إلى قيد الأولوية، لأنه خرج بقيد الوضع، اللهم إلا إن أريد بالوضع ما يعم الوضع الحقيقي، والمجازي. وإنما كنا: "بالنسبة" إلى الاصطلاح الذي وقع التخاطب به ليتناول الحقيقة اللغوية، والعرفية، والشرعية. إذا عرفت هذا. فاعلم أن لفظ الحقيقة بالنسبة إلى هذا المفهوم حقيقة عرفية، ومجاز لغوي. أما الأول: فلأن الذهن عند سماعها مجردة عن القرائن يتبادر إلى فهم ما ذكرنا من المعنى، والتبادر دليل الحقيقة، وإلا ليست حقيقة لغوية لما سيأتي، ولا شرعية، وهو ظاهر فهي عرفية لكنها غير عامة، لأن ذلك المعنى لا يتبادر إلى فهم كل واحد من أهل العرف، بل إلى فهم العلماء فهي عرفية خاصة.

المسألة الثالثة في إثبات الحقيقة اللغوية والعرفية

وأما الثاني: فلأن الحق في اللغة: هو الثابت، ثم نقل منه إلى الاعتقاد المطابق تجوزا، لأنه ليس بثابت حقيقة، إذ هو من قبيل الأعراض. ووجه التجوز هو: أنه جدير بالوجود من الاعتقاد غير المطابق ثم نقل منه إلى القول المطابق لما سبق، ثم منه إلى اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي، لأن فيه تحقيق ذلك الوضع فهو مجاز في الرتبة الثالثة. المسألة الثالثة في إثبات الحقيقة اللغوية والعرفية (40/أ) أما الأول: فمتفق عليه، ولا نزاع لأحد فيه. وأيضا لا شك في وجود ألفاظ مستعملة في معان، فتلك الألفاظ عن كانت موضوعة لتلك المعاني فقد حصل الغرض. وإن لم تكن كذلك فيلزم أن تكون مجازات فيها، إذ ليست أعلاما لها، لكن ذلك باطل. لأن شرط المجاز حصول المناسبة الخاصة بين الموضوع الأصلي وبين المعنى المجازي، ولا يمكن جعل

اللفظ مجازا في صورة، إلا بعد العلم بتلك المناسبة الخاصة، وحصول ذلك العلم مشروط بالعلم بالموضوع الأصلي ولما لم يعلم لتلك الألفاظ موضوعات أخر أصلية لما يكن جعلها مجازات في تلك الصور المستعملة. وأما الثاني: فاعلم أولا: أن اللفظة العرفية: هي الفظة التي نقلت عن موضوعها الأصلي إلى غيره بعرف الاستعمال. وهي منقسمة إلى خاصة، وعامة بحسب الناقلين، فإن كان الناقل طائفة مخصوصة سميت خاصة وإن كان عامة الخلائق، سميت عامة. أما الخاصة: فلا نزاع في وقوعها، إذ هو معدوم بالضرورة بعد الاستقراء، مثل الألفاظ المستعملة في اصطلاح أرباب العلوم والصنائع، في معانيها المخصوصة التي لا يعرفه أرباب اللغة. وإنما النزاع في وقوع العرفية العامة، والأكثرون على وقوعها. وهي على قسمين:- أحدهما: أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام، ثم يخصص بالعرف

العام ببعض أنواعه كلفظ "الدابة" بذوات الأربعة دون غيرها مما يدب على وجه الأرض، كالإنسان والطير مع أنه في أصل اللغة موضوع لكل ما يدب على وجه الأرض. وثانيها: أن يكون الاسم في أصل اللغة، قد وضع لمعنى ثم كثر استعماله فيما له به نوع مناسبة وملابسة، بحيث لا يفهم المعنى الأول: كإطلاق "الغائط" على الخارج المستقذر من الإنسان، فإنه في الأصل موضوع للمطمئن من الأرض، الذي قضي فيه الحاجة غالبا فكنوا عنه الأصل باسم محله لنفرة الطباع عن التصريح به. وكالرواية بالنسبة إلى المزادة، فإنها في الأصل موضوعة للناقة التي تحملها لكن في العرف لا يفهم منها إلا المزادة ولكثرة الاستعمال فيها. وأما على غير هذين الوجهين، فلم يعلم وقوعها. ثم الدليل على أن هذه الألفاظ حقائق في هذه المعاني، وجود أمارات الحقائق فيها، نحو التبادر إلى الفهم، عند إطلاقها وعدم صحة نفيها عنها بالنسبة إلى العرف العام "وظاهر أنها ليست حقائق لغوية وشرعية

المسألة الرابعة في الحقيقة الشرعية

فهي عرفية وليست خاصة، لأنها غير مختصة بفهم قوم دون قوم فهي عرفية عامة. المسألة الرابعة في الحقيقة الشرعية الحقيقة الشرعية: هي اللفظة التي استفيد وضعها للمعنى من جهة الشرع. وأقسامها الممكنة بحسب القسمة العقلية أربعة:- أحدها: أن يكون اللفظ والمعنى معلومين لأهل اللغة، لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى. "وثانيها: أن يكونا غير معلومين لهم". وثالثها: أن يكون اللفظ معلوما لهم، والمعنى غير معلوم لهم. ورابعها: عكسه. والمنقولة الشرعية من هذه الأقسام إنما هي الأول، والثالث: فالمنقولة الشرعية أخص من الحقيقة الشرعية، ثم من "هذه الأقسام" المنقولة ما

نقل إلى الدين وأصوله كالإيمان، والإسلام، والكفر، والفسق. ويخص بالدينية فهي إذا أخص من المنقولة الشرعية. فإن قلت: فهذه الأقسام الممكنة، هل هي واقعة كلها تفريعا على القول بالحقيقة الشرعية أم لا؟ قلت: الأشبه وقوعها. أما القسم الأول فهو كلفظ الرحمن لله تعالى، فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم، وكذا صانع العالم، كان معلوما لهم، من حيث إنه صانع وخالق لهم، بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} لكن لم يضعوه لله تعالى، ولذلك قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، حيث نزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} الآية.

وأما الثاني: فهو كأوائل السور عند من يجعلها أسماء لها أو للقرآن، فإنها ما كانت معلومة لهم، على هذا الترتيب ولا القرآن ولا السور. وأما القسم الثالث: فهو كلفظ "الصلاة"، و "الصوم"، و "الزكاة"، وأمثالها فإن هذه الألفاظ كانت معلومة لهم، ومستعملة: عندهم في معانيها المعلومة، ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم. وأما الرابع: فهو كلفظ "الأب" فإنه قيل هذه الكلمة لم يعرفها العرب، ولذلك قال عمر رضي الله عنه "لما نزل قوله تعالى": {فاكهة وأبا متاعا لكم}. هذه الفاكهة، فما الأب؟. ومعناها كان معلوماً لهم.

بدليل أن له أسماء أخر عندهم نحو "العشب"، وكلفظ "المشكاة"، و "السجيل" على رأي من لم يجعلها عربيتين من قبيل توافق اللغتين

وكونهما معربين لا يخرجهما عن هذا القسم الذي نحن فيه، لأن اللفظ الذي لا يكون معلوما لهم أعم من أن يكون مخترع الشرع أو منقولة من لغة أخرى غير معلومة لهم. وهذا المثال إنما يستقيم إذا ثبت أن تعريبهما بالشرع، أما إذا لم يثبت ذلك بل جوزنا أن يكون ذلك حاصلا قبله فلا، فيطلب له مثال آخر. إذا عرفت الحقيقة الشرعية فنقول:/ (41/أ) اختلف الناس في وقوعها: لا في إمكانها، فإن ذلك "مما" لا نزاع لأحد فيه. فذهب طائفة من الفقهاء، والمعتزلة، والخوارج،

إليه مطلقا. وأنكره القاضي أبو بكر مطلقا. وزعم أن لفظ الصلاة، والصوم، في الشرع مستعمل في المعنى اللغوي، وهو الدعاء والإمساك، لكن الشارع شرط في الاعتداد بهما أمورا أخر، نحو الركوع، والسجود، والكف عن الجماع، فهو متصرف بوضع الشرط لا بتغير الوضع. ومنهم من فصل: كإمام الحرمين، والغزالي، والإمام رحمهم الله

فأثبت من المنقولات الشرعية ما كان مجازا لغويا. كما في الحقائق العرفية، دون ما ليس كذلك بأن كان منقولا عنها بالكلية. احتج القاضي على فساد مذهب الخصم بمسلكين:- أحدهما: أن القرآن مشتمل على لفظ الصلاة، والصوم، والكافر، والمؤمن. فلو كانت دلالتها على هذه المعاني المفهومة منها الآن بحسب الوضع الشرعي "لما كان كل القرآن عربيا لكن كل القرآن عربي ولا تكون دلالتها بالوضع الشرعي". بيان الملازمة: أن كون اللفظ عربيا وصف حاصل له لإفادة المعنى بحسب وضعهم، لأنه ليس ذلك الوصف له لذاته وصورته وإلا لكان قبل وضعه للمعنى عربيا. وهو باطل، لأن اللفظ المهمل لا يوصف بكونه عربيا أو فارسيا، ولأن توافق اللغتين جائز، فلو كان كونه عربيا أو أعجميا وصفا حاصلا له لذاته وصورته لزم أن تكون الذات الواحدة مقتضية للضدين ومتصفا بهما معا. وهو محال. ولا لكونه متلفظا لهم، ومستعملا عندهم في معنى "وإلا لو قال: رأيت العلماء، وأراد به الفقراء لكان متكلما

بكلامهم ضرورة كون هذا اللفظ متلفظا لهم ومستعملا عندهم [في معنى] فهو إذن لما ذكرنا" ويلزم من هذا أن دلالة تلك الألفاظ على تلك المعاني لو كانت بالوضع الشرعي لما كانت تلك الألفاظ عربية، وإذا لم تكن عربية، لم يكن كل القرآن عربيا، ضرورة اشتمال القرآن عليها لكن كله عربي لقوله تعالى: {قرآنا عربيا}، ولقوله: {بلسان عربي مبين}، {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}. والقرآن اسم للكل. بدليل إجماع الأمة، على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا، ولو كان القرآن اسما للبعض لما صح ذلك، ولما صح أيضل أن يقال في السورة الواحدة، أو الآية الواحدة إنها بعض القرآن، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه. فإن قيل: ما المعنى من قولك: "لو كانت دلالة تلك الألفاظ على تلك المعاني بالوضع الشرعي/ (41/ب) لما كان القرآن عربيا" تعني به الوضع مطلقا، كيف كان، سواء كان مجازيا لغويا أو لم يكن. أم تعني به الوضع الذي لا يكون مجازا لغويا. فإن عنيت به الأول فممنوع، وهذا لأن بتقدير

أن يكون ذلك الوضع مجازا لغويا لا يخرج ذلك اللفظ بسببه عن أن يكون عربيا، وإن عنيت به الثاني: فمسلم، لكنه لا يفيد المطلوب، لأن إفادة تلك الألفاظ لتلك المعاني، وإن كانت بالوضع الشرعي عندنا لكن بطريق التجوز من اللغة. وأما قوله: في الدلالة عليه، وإن كون اللفظ عربيا وصف حاصل له لإفادته المعنى بحسب وضعهم. قلنا: لا نسلم، وهذا لأن اللفظ المقيد للمعنى المجازي عربي مع أن إفادته إياه ليس بوضعهم على رأي. سلمنا: ذلك، لكن تعني به الوضع الذي يعم الحقيقة والمجاز، أو المختص بالحقيقة، فإن عنيت الأول: فمسلم، لكن لا نسلم أنه غير حاصل فيما نحن فيه، وإن عنيت الثاني: فممنوع، وما ذكرته من الدلالة لا يدل عليه إذ لا يلزم من نفي القسمين المذكورين، ثبوت هذا القسم لجواز أن يكون ذلك الوصف حاصلا له بالوضع الذي يعم الحقيقة والمجاز. فإن قلت: الدليل على أنه غير حاصل، هو أن وضع اللفظ للمعنى سواء كان بطريق الحقيقة أو التجوز متوقف على تعقل ذلك المعنى، ولما لم تكن تلك المعاني معقولة لهم استحال منهم الوضع لها. قلت: لا نزاع أن وضع اللفظ لمعنى يستدعي تعقله، لكن إن كان ذلك الوضع لخصوصية تستدعي تعقله بخصوصيته، وإن كان ذلك الوضع له باعتبار ما يستدعي تعقله بذلك الاعتبار لا غير، وإذا كان كذلك فالوضع لتلك المعاني بطريق التجوز على وجه الإجمال متصور منهم، بل هو حاصل، فإنه لما علم منهم، أنهم وضعوا الصلاة مثلا للدعاء، وعلم منهم جواز تسمية الشيء باسم جزئه على وجه التجوز إما نصا أو استقراء، وعلم أيضاً أن

الدعاء، جزء هذه الماهية المخصوصية. علم منهم بواسطة هذه المقدمات، جواز تسمية هذه الماهية بالصلاة تجوزا. فإن قلت: أتدعي العلم بجواز تسمية كل شي باسم كل جزء منه، أو بجواز تسميته باسم بعض أجزائه، أو بجواز تسمية بعض الأشياء باسم كل جزء منه، أو بجواز تسميته باسم بعض أجزائه. فإن ادعيت العلم بالثلاثة الأول: فهو ممنوع، وهذا لأنه لا يجوز أن يسمى العشرة باسم الخمسة، ولا بالستة، وكذا ببقية أجزائها، ولا يجوز أن/ (42/أ) يسمى الكل جزء ولا الجدار باللبنة ولا الدار بالجدار، ونظائرها كثيرة لا تعد ولا تحصى. وإن ادعيت الرابع: فمسلم، لكن لا يفيد المطلوب، لأنه ليس جعل ما نحن فيه من قبيل الجائز، أولى من جعله من قبيل ما لا يجوز، وعليكم الترجيح. ثم إنه معنا: إما أولا: فلأن الإلحاق بالأكثر أولى، وإما ثانيا: فلأن الأصل عدم التجوز. قلت: تدعي العلم بجواز تسمية كل شيء ببعض أجزائه، إلا أن يمنع منه مانع من عرف أو غيره، وهو إما الجزء الغالب كما في تسميتهم الزنجي بالأسود، والرومي بالأبيض، والقرآن "بحم" في قول الشاعر: تناشدني "حم" والرمح شاجر .... فهلا تلا "حم" قبل التقدم.

فإن كثيراً من سوره تسمى به و "الم" وإن كان يساويه في ذلك لكنا نجوز تسمية القرآن به أيضا، وأما الجزء الأشرف المقصود منه كتسميتهم الإنسان بالناطق، في قولهم: ذلك الناطق، الصامت، أي العبيد والإماء. ولو قيل: المراد من الناطق الحيوان على ما فسره بعضهم، فهو آيل إلى ما ذكرناه أيضا، لأنه حينئذ سمي باسم أشرف أنواعه، وسمي النوع باسم أشرف أجزائه، وكتسميتهم الشخص بالرأس، في قولهم: ذبح كذا رأس من الغنم، والبقر، وملك كذا رأس من الخيل، والدعاء الجزء والمقصود من الماهية المسماة بالصلاة، قال الله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} فجاز أن يسمى باسمه. سلمنا: أن إفادتها لتلك المعاني لو كانت بالوضع الشرعي لما كانت تلك

الألفاظ عربية، لكن لم قلت؟: إنه يلزم منه أن لا يكون كل القرآن عربيا، قوله: ضرورة كون القرآن مشتملا عليها. قلنا: وإن كان مشتملا عليها: لكنها في غاية القلة والندرة بالنسبة إلى الألفاظ المذكورة في القرآن، والنادر كالمعدوم فلا يقدح وجودها فيه في كونه عربيا، ألا ترى أن الزنجي يوصف بكونه أسود مع بياض عينيه، وأسنانه، ولا يقدح ذلك في إطلاق الأسود عليه، فكذا هنا، وكذا الثور الأسود يسمى به، وإن كان فيه شعرات بيض، ويقال للشعر الفارسي: فارسي، وإن كانت فيه كلمات يسيرة من العربية. فإن قلت: الدليل عليه أن بعض القرآن حينئذ لا يكون عربيا، وما بعضه ليس بعربي يستحيل أن يكون كله عربيا على سبيل الحقيقة، وأما الإطلاقات المذكورة، فهي على سبيل التجوز بدليل صحة النفي، إذ يصح أن يقال: ما رأيت ثورا كله أسود، وما قرأت شعرا كله فارسي، وما في الوجود زنجي كله أجزائه أسود/ (42/ب). قلت: فحينئذ لا نسلم أن كل القرآن عربي على سبيل الحقيقة، ولم لا يجوز أن يكون كله عربيا على سبيل التجوز بناء على أن أكثر أجزاه كذلك؟. فإن قلت: الأصل في الكلام الحقيقة، والنص إنما يكون محمولا على حقيقته إن لو كان القرآن بجميع أجزائه عربيا لما ثبت أن القرآن اسم للكل. قلت: تعذر حمل النص على حقيقته لاشتمال القرآن على ما ليس بعربي، كالحروف المعجمة في أوائل السور، فإنها ليست من لغتهم في شيء و "كالمشكاة" و "القسطاس".

"السجيل" و "الإستبرق"، فإنها ليست بعربية، إذ الأول حبشية، والثاني رومية، والباقيتان فارسيتان، وإذا كان كذلك، لا يكون كل القرآن عربيا على سبيل الحقيقة. فإن قلت: لا نسلم اشتمال القرآن على ما ليس بعربي، أما أوائل السور فإنها أسماؤها عندنا، وأما البواقي فلا نسلم أنها ليست بعربية، وكونها من لغة أخرى لا تنافي كونها أيضا عربية، لأن توافق اللغتين غير ممتنع. سلمنا: اشتماله على ما ليس بعربي، لكن النص دل على أنه بجميع أجزائه عربي، ترك بمقتضى دلالته بالنسبة إلى بعض أجزائه المنفصل يوجب أن يبقي مقتضى دلالته بالنسبة إلى بقية أجزائه دفعا لكثرة المخالفة. قلت: الجواب عن الأول: أنها إذا كانت أسماء السور فدلالتها عليها ليست لغوية لأنها غير مستفادة من وضعهم لا حقيقة، ولا مجازا ولا بطريق العلمية وحينئذ يلزم اشتمال القرآن على ما ليس بعربي. وعن الثاني: أن التوافق وإن كان ليس بممتنع، لكنه نادر، والغالب هو

الاختلاف، وإلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى من إلا لحاقه بالنادر. وعن الثالث: منع كون العام بعد التخصيص حجة، ولئن سلم ذلك، [لكن] المقتضى للترك قائم هاهنا أيضا، وهو ما يذكر الخصم من الدلائل على أن إفادتها لمعانيها الشرعية ليست لغوية. سلمنا الملازمة لكن لم قلت: إن كله عربي؟ قوله: لأن القرآن عربي والقرآن اسم للكل فكله عربي. قلنا: ما المراد من قولك القرآن اسم للكل؟ أنه اسم له فقط، أو أنه اسم له في الجملة، وإن كان اسما لبعضه أيضا. إما بالاشتراك اللفظي، أو المعنوي، والأول: ممنوع، وما ذكرته من الدلالة لا يدل عليه. أما قوله أولا: الأمة مجمعة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا، ولو كان القرآن اسما للبعض لزم أن يكون متعددا فلم يصح هذا. قلنا: لا نسلم أنه لا يصح على الإطلاق، بل إنما لا يصح لو كان اسما للبعض فقط، أو إن كان اسما للكل أيضا لكن المراد منه هنا البعض/ (43/أ) إما بتقدير أن يكون المراد منه الكل فلا نسلم ذلك ويكون معناه على هذا التقدير أن الله لم ينزل غير هذه الجملة المسماة بالقرآن. وكيف لا يصح؟ وقرينة قولهم: إلا واحدا دالة على إرادة الكل، وهو الجواب أيضا عما ذكره ثانيا، فإن قرينة الإضافة دالة على أن المراد من القرآن في قولهم في السورة الواحدة بعض القرآن الكل فلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه. والثاني: مسلم لكن لا يلزم من عربية القرآن حينئذ عربية كل القرآن

لجواز أن يكون المراد من القرآن في قوله: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} البعض، اللهم إلا أن يدل دليل منفصل على امتناع إرادة البعض، فحينئذ يلزم أن يكون كله كذلك لكن ما بينتم ذلك. سلمنا: أن ما ذكرتم يدل على أن القرآن اسم للكل فقط، لكن عندنا ما يدل على أنه ليس كذلك، بل هو اسم للكل والجزء. وبيانه من وجوه:- أحدها: أن القرآن مشتق إما من "القراءة"، وإما من"القرء"، وهو الجمع. ومنه يقال: قرأت الناقة لبنها، في ضرعها أي جمعته، وقرأت الماء في الحوض أي جمعته، ومنه يقال: للقرء وللطهر لاجتماع الدم فيه وللحيض أيضا لأنه دم مجتمع، وعلى التقديرين يجب أن تكون السورة الواحدة، والآية الواحدة قرآنا لوجود المعنيين فيهما، خالفنا مقتضى هذا الدليل

في غير الكتاب العزيز للإجماع، فوجب الحكم بمقتضاه في كله وبعضه دفعا لكثرة المخالفة. وثانيها: أن القرآن لو كان اسما للكل فقط، لكان قولنا: كل القرآن تكرارا وبعضه نقضا، بخلاف ما إذا كان اسما لهما، فإن الكل والبعض حينئذ يكونان قرينتين معينتين للمراد. وثالثها: لو حلف أن لا يقرأ، فإنه يحنث في يمينه بقراءة السورة الواحدة "والآية الواحدة"، ولو كان القرآن اسما للكل لما حنث إلا بقراءة الكل. ورابعها: أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للجنب قراءة القرآن، وليس المراد منه الكل فقط وفاقا، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيكون حقيقة في الكل وفي البعض. فثبت بهذه الوجوه أن القرآن اسم للبعض أيضا، وحينئذ لا يلزم من عربية القرآن كل القرآن لما تقدم.

المسلك الثاني: أن الشارع لو نقل الاسم اللغوي عن معنى ووضعه لغيره، لزمه تعريف الأمة ذلك النقل والوضع بالتوقيف، فإنه لو خاطبهم به قبل التعريف لم يفهموا منه إلا مسماه الأول، وحينئذ لا يحصل غرضه من النقل. والتوقيف الوارد فيه. إما منقول بالآحاد، أو بالتواتر. والأول: غير جائز لعدم/ (43/ب) قيام الحجة بها في أمثاله، والثاني غير موجود، وإلا لعرفه الموافق والمخالف، وهو ضعيفا أيضا لاحتمال أن

يقال: إنه يكفي في ذلك التعريف الاستعمال مع القرائن، والتكرر مرة بعد أخرى كما في ابتداء اللغات، وكما في تعريف الأخرس. وهذا الاحتمال على القاضي ألزم من غيره، فإنه عول عليه في جواز كون اللغات اصطلاحية، حيث اختار التوقف، وبه أجاب عن دليل القائلين بالتوقف وأحتج القائلون بالحقيقة الشرعية بوجوه:- أحدها: وهو وجه العام في جميع الألفاظ التي هي مثل: الصلاة، والصوم، والزكاة، وهو أن هذه الألفاظ مستعملة في الشرع في معان مخصوصة وهي متبادرة إلى الأفهام بخصوصياتها عند إطلاقها، فوجب أن تكون حقائق فيها، لأن التبادر إلى الفهم من غير قرينة دليل الحقيقة، على ما سيأتي، ثم هي ليست فيها حقائق لغوية، وعرفية، وفاقا فهي إذن شرعية. وجوابه: أنا نقول: بمقتضى هذا الدليل، فإن تلك الألفاظ في تلك المعاني حقائق شرعية عندنا، أيضا لكنها مجازات لغوية، فإن كان هذا مدعاكم فنحن نساعدكم عليه، وإن كان أعم من هذا، وهو إثبات الحقائق الشرعية سواء كانت مجازات لغوية، أو لم تكن فلا نسلم ذلك، وما ذكرتم من الدليل لا يدل عليه، فإن ما ذكرتم من الدليل على أن الألفاظ المذكورة حقائق شرعية في تلك المعاني وهي تصلح أن تكون مجازات فيها، فوجب إثبات هذا النوع من الحقيقة الشرعية، فأما إثبات ما يكون منقولا بالكلية عن اللغة فلا.

وثانيها: أن الصلاة في الشرع مستعملة في الأفعال المخصوصة، والأركان المعلومة، ولا شك أنها ليست مسماها اللغوي، ولا يجوز أن تجعل فيها مجازا عن المسمى اللغوي- أيضا- إذ ليس فيها ما يظن أنه من جهات التجوز إلا أنها مشتملة على المسمى اللغوي لكن ليس الأمر كذلك. وبيانه: أن تركيب لفظ الصلاة في اللغة عبارة: إما عن الدعاء، يقال: صلى أي: دعاء، وسميت الأفعال المخصوصة بالصلاة، لكونها مشتملة على الدعاء. أو عن المتابعة، ومنه يقال للفرس الذي يتلو السابق: مصلي، والأفعال المخصوصة إنما سميت بها لكون المأموم يتبع الإمام. أو عن عظم الورك، وهي إنما سميت بها، لأن رأس المأموم عند صلاة الإمام عند الاصطفاف. أو عن النار، فإن الصلا هو النار، ومنه التصلية، قال بعضهم الصلاة: الشرعية إنما سميت بها مشابهة لها بالنار، فإنها تقيم المصلي وتنهاه عما يوجب الاعوجاج والانحراف/ (44/أ) عن الدين والطريق المستقيم، قال الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} كما يقيم النار

اعوجاج الخشب، لكن الصلاة قد توجد، وإن لم تكن مشتملة على هذه المعاني. أما الثلاثة الأول: فكصلاة الأخرس المنفرد، والأمي المنفرد إذ لا دعاء فيها ولا متابعة، ولا كون رأسه عند صلا الآخر. وأما الرابع: فهو وإن كان بعيدا وغريبا لكن توجد الصلاة بدونه، فإن من يأتي بتلك الأفعال المخصوصة بشرائطها ولا ينتهي عن الفحشاء والمنكر، يقال له: صلى. نعم ذلك شأن الصلاة الكاملة، فإن الله تعالى قد وصف الصلاة بهذه الصفة، ونحن لا نجد ذلك في كل صلاة، فوجب صرفه إلى الكاملة لئلا يلزم الكذب، ولا يلزم من نفي الكمال عن الصلاة نفي الصلاة. فعلم أن الصلاة الشرعية "له" قد توجد حيث لم يوجد شيء من هذه المسميات، فلا يجوز جعلها مجازا فيها عن المسمى اللغوي لانتفاء جهته، وهو الاشتمال فيكون حقيقة شرعية. وجوابه: أنه ليس المعتبر في حسن التجوز تحقيق الملازمة بين الحقيقة

والمجاز، في كل الصور بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر في صورة ما بل المعتبر فيه تحقيق الملازمة بينهما، إما في الأكثر، والأغلب، أو في الكل، يدل عليه أن إطلاق اسم الجزء على الكل جائز مطلقا، مع عدم الملازمة بينهما من جانب الجز في كل الصور، وإذا كان كذلك لم يكن الانفكاك فيما ذكرتم من الصور النادرة قادحا في حسن التجوز. وثالثها: إن الزكاة في اللغة: عبارة عن النماء والزيادة. وفي الشرع: تبعيض مخصوص. والأصل في الاستعمال الحقيقة لاسيما مع التبادر. وجوابه: أنه لو جعلت حقيقة فيه، لزم النقل ولو لم يقل به لزم التجوز وستعرف إن شاء الله تعالى أن المجاز خير من النقل، وقد أمكن جعل اللفظ مجازا فيه، إما من قبيل إطلاق اسم الضد على الضد، فإن النقصان ضد الزيادة [وأما من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب، فإن النماء أو مظنته سبب لذلك التبعيض المخصوص]، وأما من قبيل إطلاق المسبب فإن ذلك التبعيض سبب للزيادة والبركة والنماء المعنوي لقوله عليه السلام "ما نقص مال من صدقة بل يزيد" فالنماء على هذا مسبب

التبعيض فأطلق اسم مسببه عليه. سلمنا: أنها حقيقة فيه لكن بطريق التجوز من اللغة، ولا يلزم منه النقل بالكلية عنه، وعلى هذا النحو من الحجاج في لفظ الصوم والحج والجواب

عنهما. ورابعها: الإيمان: في اللغة عبارة عن التصديق، قال الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق. وفي الشرع: عبارة عن فعل الواجبات. ويدل عليه وجوه: - أحدها: أن فعل/ (44/ب) الواجبات هو الدين لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} إلى قوله: {وذلك دين القيمة}. "فقوله تعالى {ذلك} يرجع إلى كل ما تقدم ذكره فتكون تلك المأمورات هي دين القيمة" والدين هو الإسلام، لقوله تعالى: {إن الدين عند الله

الإسلام}، [والإسلام] هو الإيمان، لأنه لو كان غيره لما كان مقبولا من مبتغيه، لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}. ولأن صحة استثناء المسلمين عن المؤمنين في قوله تعالى {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} يدل على أن أحدهما عين الآخر، وإلا لكان الاستثناء منقطعا، وهو خلاف الأصل، فثبت أن الإيمان في الشرع عبارة عن فعل الواجبات. الاعتراض عليه: أنا لا نسلم، أن قوله: وذلك يرجع إلى كل ما تقدم ذكره. وهذا لأنها أمور كثيرة، وذلك للوجدان، والذكران، فلا يجوز صرفه إليها. فإن قلت: يرجع إليها إما باعتبار كل واحد منها، أو باعتبار الكل، أي كل ما أمرتم به، ومدلوله، وإن كان أمورا كثيرة لكن اللفظ واحد، فجاز أن يرجع إليه باعتبار اللفظ. قلت: أما الأول: فباطل، لأنه يقتضي أن يكون كل واحد منها دين

القيمة، وهو خلاف الإجماع. ولا يدفع ذلك بما قيل: إن ذلك للذكران فلا يجوز صرفه إلى إقامة الصلاة، وهي من جملة المذكورات، لأن المذكور في ضمن الفعل هو المصدر، وهو غير لازم أن تكون تلك اللفظة لجواز أن يكون بلفظ إقامة الصلاة. وأما الثاني: فلأن ذلك "إنما يكون" بطريق الإضمار، لأنه غير مذكور، وأنه خلاف الأصل. ولئن سلم جواز إضماره لكن ليس إضماركم هذا أولى من إضمارنا الإخلاص، ويكون لمعنى على هذا التقدير، وذلك الإخلاص دين القيمة، وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون. ثم هو معنا لوجهين: أحدهما: أن الإخلاص مذكور بالتضمن، فإن قوله تعالى: {مخلصين} دل عليه كذلك، بخلاف إضماركم وهو كل ما أمرتم به. وثانيهما: أن إضمارنا لا يؤدي إلى تغيير اللغة، وإضماركم يؤدي إليه، فكان إضمارنا أولى، إذ التغير، والنقل، خلاف الأصل. فإن قلت: ما ذكرتم وإن دل على أن إضماركم أولى، لكن عندنا ما يدل على أن إضمارنا أولى. وهو من وجوه:- أحدها: أن المقصود من الآية، بيان أن ما أمروا به هو دين القيمة، فلو كان الإخلاص وحده دين القيمة، لما كان في ذكر ما عداه في هذه الآية فائدة، بل ربما يكون مخلا بالمقصود، لأنه لا/ (45/أ) أقل من أن يوهم أن المجموع دين القيمة.

وثانيها: أن الحكم إذا رتب على إفراد يفيد، ما علية كل واحد منها، أو علية المجموع. وأما أنه يفيد علية كل واحد منها فذلك ما لا إشعار له به ألبته، ولما لم يفد هنا عليه كل واحد منها، وجب أن يفيد علية المجوع كيلا يتعطل عن الإفادة. وثالثها: أن اسم الإشارة في رجوعه إلى المشار إليه المتقدم ذكره يجري مجرى الضمير في رجوعه إلى ما تقدم ذكره، فكما أن الأصل فيه أن يختص بأقرب المكور إليه، وعند تعذره يعود إلى كل المذكور، فكذا اسم الإشارة يجب عوده إلى الكل، عند تعذر عوده إلى الأقرب. قلت: الجواب الأول: لا نسلم أن المقصود من الآية ما ذكرتم ولم لا يجوز أن يقال المقصود منهما الاختبار فقط؟ بأنهم أمروا هذه الأشياء وأن الإخلاص منها دين القيمة. وعن الثاني: أنه إنما يمكنكم الاستدلال بما ذكرتم من القاعدة، أن لو أثبتم أن ذلك يرجع إلى كل ما تقدم ذكره، فإن بتقدير أن يكون راجعا إلى الإخلاص، لم يكن الحكم مرتبا على الأفراد بل على فرد واحد، وهو الإخلاص، والحكم بدين القيمة إنما هو على ذلك، وإذا كان كذلك فالاستدلال بتلك القاعدة، مشروط بكون ذلك يرجع إلى كل ما تقدم، فلو أثبتنا ذلك بتلك القاعدة لزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال. وعن الثالث: أنا لا نسلم، أن الأصل عود الضمير إلى الكل عند تعذر عوده إلى الأخير، وكيف يقال ذلك وعود ضمير المفرد إلى المجموع إنما يكون بطريق الإضمار؟ وهو خلاف الأصل بل يبقى مجملا بالنسبة إلى غير الأخير

أو عوده إلى ما يلي الأخير لكونه أقرب إليه. سلمنا ذلك: لكن التخصيص أهون من النقل. سلمنا: أن فعل الواجبات هو الدين، والدين هو الإسلام، لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وما ذكرتم من الدلالة عليه. فالوجه الأول معارض: بقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل "لم" تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} ولو اتحد المعنى لما صح ذلك، وإذا تعارض تساقطا وعليكم الترجيح، ثم إنه معنى، إذ الأصل تعدد المسميات عند تعدد الأسماء، وإن الأصل عدم التغيير. وأما الوجه الثاني: فضعيف، إذ لا يلزم، وعدم الاتحاد أن يكون الاستثناء منقطعا لجواز أن يكون المستثنى أخص من المستثنى منه. سلمنا: أن الإيمان في الشرع عبارة عن فعل الواجبات، لكن من جملة تلك الواجبات "التصديق" وفاقا فيكون إطلاق/ (45/ب) الإيمان على تلك الأفعال إطلاق اسم الجزء على الكل وهو مجاز لغوي، وعلى هذا لا يلزم منه

النقل بالكلية. وثانيها: أن قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم نحو بيت المقدس. وجوابه: منعه ولم لا يجوز أن يكون المراد منه التصديق بوجوب تلك الصلوات؟ وهذا وإن كان يلزم منه الاضمار لكنه خير من النقل على ما

ستعرف ذلك، ولأنه يقتضي أن يكون فعل بعض الواجبات إيمانا وهو خلاف الإجماع. وثالثها: قاطع الطريق يخزى يوم القيامة، لأنه يدخل النار يوم القيامة، لقوله تعالى فيه: {ولهم في الآخرة عذاب النار} وكل من يدخل النار يوم القيامة فهو مخزي، لقوله تعالى حكاية عن الذين يذكرون الله قياما وقعودا في معرض المدح {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار}. ولو كانوا كاذبين فيه، لما حسن ذكره في معرض المدح، والمؤمن لا يخزى يوم القيامة، لقوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه}. وجوابه: منع عموم قوله: {والذي آمنوا} بل المراد منه الصحابة لقرينة قوله {آمنوا معه} إما لأنه لم يصدر منهم ما يوجب ذلك، أو إن صدر، لكن الله تعالى تجاوز عنهم كرامة لهم، وحينئذ لا يلزم أن المؤمن لا

يخزى، إذ لا يلزم من نفي الحكم عن الخاص نفيه عن العام. ولئن سلمنا: عمومه لكن لم لا يجوز أن يكون نفي الخزي مختصا بالنبي عليه السلام؟. وقوله: {والذين آمنوا معه} مستأنف. فإن قلت: الدليل عليه أن الضمير في قوله تعالى {يسعى نورهم} و (يقولون) راجع إلى النبي، والمؤمنين، وإلا لزم أن لا تكون هذه الكرامة حاصلة للنبي، وحاصلة للمؤمنين، وهو باطل. وحينئذ يلزم أن لا يكون قوله: {والذين آمنوا} مستأنفا. قلت: لا نسلم أنه حينئذ يلزم ما ذكرتم فلم لا يجوز أن يكون بتقدير الاستئناف يرجع الضمير إلى الكل؟. وهذا لأن استئنافه لا يقتضي إلا أن يكون قوله: {يسعى نورهم بين أيديهم} خبرا عنه وعنهم، وذلك لا ينافي أن يكون مع ذلك خبرا عن غيره، وغيرهم أيضا. سلمنا: المنافاة، لكن لا يلزم منه أن لا يكون هذه الكرامة حاصلة للنبي عليه السلام، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يقتضي نفي الحكم عما عداه، بل غايته أن حصول هذه الكرامة للنبي عليه السلام غير مستفاد من هذا النص وليس ذلك بممتنع. ورابعها: قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}

أثبت الإيمان مع الشرك، والتصديق بوحدانية الله لا يجامع/ (46/أ) الشرك، فالإيمان غير التصديق. وجوابه: انه لا يلزم عليكم أيضا من وجهين:- أحدهما: أنكم تساعدوننا، بل الأمة كلها على أن الإيمان لا يحصل بدون التصديق بوجود الله تعالى ووحدانيته، لكن منهم من فسره بالتصديق المخصوص، وهو تصديق الرسول لكل ما علم مجيئه به بالضرورة. ومنهم من فسره بشيء لا يتحقق بدون التصديق سواء كان التصديق شطرا له [أو شرطا له] وعلى المذهبين الإيمان بالله ينافي الشرك به. فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا. وثانيهما: أنا وإن سلمنا أنه يمكن أن يتحقق الإيمان الشرعي بدون التصديق، لكنه لا يجامع وفاقا لكونهما متضادين، والشرك في عرف الشرع عبارة عن الكفر على ما عرف ذلك في موضعه، فالإيمان لا يجامع الشرك كما لا يجامع الكفر إذا كان كذلك كان الإشكال لازما عليكم أيضا، والجواب

واحد. والجواب الحقيقي: هو أن معنى الآية- إن شاء الله تعالى- وما يؤمن أكثرهم باللسان إلا وهم مشركون بالقلب، ومعلوم أنه لا يلزم منه حينئذ، أن يكون الإيمان غير التصديق. وخامسها: لو كان الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق- أيضا- لكان المصدق بالله وبوحدانيته الساجد للصنم أو الشمس مؤمنا، ولكان من ألقى المصحف في القاذورات، وشد الزنار في وسطه مؤمنا، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. وجوابه: أنه ليس في الشرع عبارة عن نفس التصديق حتى يلزم ما ذكرتم، بل هو عبارة عن تصديق خاص، وهو ما تقدم ذكره. وعلى هذا لا يلزم نقله عن المسمى اللغوي بالكلية، بل غايته أنه يلزم منه تخصيصه ببعض التصديقات، وهو مجاز لغوي. سلمنا: أن ما ذكرتم من الدليل يدل على أن الإيمان في الشرع: عبارة عن فعل الواجبات. لكنه معارض بالآيات الدالة على أن محل الإيمان هو القلب، كقوله تعالى: {أولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان}.

{وقلبه مطمئن بالإيمان}، {أفمن شرح الله صدره للإسلام} وبالآيات الدالة على مجامعة الإيمان، مع الفسق، والمعاصي، كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}. وقوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}. وبالآيات الدالة على أن الأعمال الصالحة أمور مضافة إلى الإيمان، كقوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا}، "ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات} / (46/ب). وسادسها: وهو الوجه المعقول، أن هذه المعاني الشرعية لم تكن متعلقة قبل الشرع، بل حدث تعلقها بعده، فوجب أن يوضع لها سم، لأنها من جملة المعاني التي تمس الحاجة إلى التعبير عنها، وقد ثبت فيما سلف أنه يجب أن يكون لمثل هذه المعاني اسم، وليس لها اسم من وضعهم لاستحالة الوضع قبل

الشرع، فأسماؤها بوضع الشرع فهي حقائق شرعية. وجوابه: ما سبق. وإذا ظهر ضعف مأخذ المذهبين ظهر أن الحق هو المذهب الثالث.

فروع: الفرع الأول [النقل] خلاف الأصل، ويدل عليه وجوه:- أحدها: أن المجاز خلاف الأصل- وستعرف أنه خير من النقل- فالنقل خلاف الأصل، لأن ما يكون خلاف الأصل خير منه أولى أن يكون على خلاف الأصل. وثانيها: أنه مختلف فيه، والحقيقة اللغوية متفق عليها، فيكون الأخذ بها أولى ولا نعني بكونه "على" خلاف الأصل إلا هذا. وثالثها: أن الأصل في كل شيء بقاؤه على ما كان عليه، والوضع الأول كان موجودا والجديد كان معدوما، فالأصل استمرار وجود الوضع الأول، وعدم الوضع الجديد، ولا نعني بكونه خلاف "الأصل" سوى أن وجوده مرجوح. ورابعها: أنه يتوقف بعد الوضع الأول على وضع جديد ونسخه، وذلك باشتهار الاستعمال فيه بحيث لا يفهم منه المعنى الأول، وذلك بإطباق الخلق عليه، وهو إما متعزر أو متعسر، وما يتوقف على أكثر المقدمات يكون مرجوحا بالنسبة إلى ما ليس كلك، لاسيما إذا انضم إلى الكثرة الندرة.

الفرع الثاني قد عرفت فيما سبق أن الحقائق اللغوية، تنقسم إلى المتباينة، والمتواطئة، والمترادفة، والمشتركة، والمشككة. فهل هذه الأقسام حاصلة في المنقولات الشرعية أم لا؟ فنقول: أما المتباينة فلا شك فيها، وهي كالصلاة، والصوم، والزكاة، وكذلك المتواطئة، كالصلاة بالنسبة إلى المفروضة، والنافلة، وصلاة القائم، والقاعد، والصوم بالنسبة إلى صوم الفرض والنفل. وأما الصلاة بالنسبة إلى الصلاة المذكورة، وبالنسبة إلى صلاة الأخرس، وصلاة الجنازة، وصلاة المومئ بالطرف، وصلاة من يجري أفعال الصلاة على قلبه على مذهبنا فمشتركة، بالاشتراك اللفظي، على رأي الإمام، لما زعم أنه ليس بينها أمر مشترك يمكن جعله مدلول اللفظ. وهو ضعيف فإن كون الفعل واقعا بالتحرم والتحلل قدر مشترك بين تلك الصلوات، فلم لا يجوز / (47/أ) أن يكون مدلولها؟ والأقرب أنها متواطئة بالنسبة إلى

الكل، إذ التواطؤ خير من الاشتراك وأما المشتركة فالأشبه وقوعها- أيضا- فإن إطلاق الطهور على الماء والتراب وعلى ما يدبغ به ليس باشتراك معنوي، إذ ليس بينها معنى مشترك يصلح أن يكون مدلول اللفظ. وأما المشككة فالأظهر أنها واقعة- أيضا- وهي كالفاسق بالنسبة إلى من فعل الكبيرة الواحدة، وبالنسبة إلى من فعل الكبائر العديدة، فإن تناوله للثاني بطريق الأولى. وأما الترادف: فالأغلب وقوعه- أيضا- "كالفرض" و "الواجب"، على رأي الشافعي- رضي الله عنه-، و "التزويج"، و "الإنكاح"، و "الزوجة"، و "المنكوحة"، و "المستحب" و "المندوب".

الفرع الثالث إن صيغ العقود، كقولك: "بعت" و "اشتريت" و "أجرت" لا شك أنها في أصل اللغة للأخبار. وأما في الشرع فقد يستعمل فيه، وفي استحداث الأحكام. لكن اختلفوا في طريقه في الثاني، فمنهم من زعم أنه بطريق الأخبار- أيضا- محتجا أنه يمكن استعمالها فيه بحيث لا يلزم منه النقل فكان أولى. بيانه: أن الأصل في العقود، هو التراضي قال الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض} لكن الرضا أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه، فاعتبرت الصيغة لتكون دالة عليه، ولذلك قلنا: لو توفرت القرائن بحيث يفيد العلم بحصول الرضا بالبيع انعقد من

غير صيغة فالصيغة إخبار عن تقدم العقد الذي هو بالرضا. وإنما لا ينعقد بالمعاطاة عند الشافعي رضي الله عنه، لضعف دلالتها على رضا الباطن فإن الأفعال غير موضوعة للدلالة. ومنهم من زعم- وهم الأكثرون- أنه بطريق الإنشاء، فعلى هذا يكون منقولا عن الخبرية إلى الإنشائية. واحتج هؤلاء بوجوه:- أحدها: أنها لو كانت أخبارات حيث تستعمل لاستحداث الأحكام، ليتطرق إليه التصديق والتكذيب، لأنه لازم من لوازم الخبر، لكن اللازم باطل وفاقا، فالملزوم مثله. وثانيها: أنها لو كانت أخبارات، فإما أن تكون أخبارات عن الماضي، أو الحال، أو الاستقبال، والأولان باطلان. أما أولا: فلأنه يلزم حينئذ أن لا يصح تعليقها، لأن التعليق عبارة عن توقيف وجود الشيء على وجود غيره فيما كان موجودا يستحيل توقيف وجوده على وجود غيره، فكان يجب أن لا يصح. قوله: "أنت طالق إن دخلت / (47/ب) الدار" وهو خلاف الإجماع. "وأما ثانيا: فلأنه يلزم أن لا يقع الطلاق على الرجعية" لو قال لها: "أنت طالق" لصدقه بدون الوقوع.

والثالث أيضا باطل، لأنه حينئذ يلزم أن لا يقع الطلاق في الحال كما لو قال لها: ستصرين طالقا لكونه بمعناه، وهو باطل وفاقا. وثالثها: لو كانت أخبارات لكانت، إما كاذبة أو صادقة. والأول: باطل، لأن الكذب حرام، والعقود متوقفة عليها، وما يتوقف على الحرام فهو حرام، فيلزم أن تكون العقود حراما، وهو خلاف الإجماع. والثاني: أيضا باطل، لأن كونها صادقة تتوقف لا محالة على حصول تلك العقود، لأن الخبر لا يصدق بدون حصول المخبر عنه وحصولها متوقف على صيغتها فيلزم الدور وهو ممتنع.

"الفصل الثالث عشر" في المجاز

"الفصل الثالث عشر" في المجاز

"الفصل الثالث عشر" في المجاز وفيه مسائل: المسألة الأولى في بيانه ومعناه بحسب اللغة أما بناؤه فهو أنه "مفعل" من الجواز، وهو في اللغة عبارة عن التعدي والعبور. يقال: جزت مكان كذا، أي: عبرته. والجواز بمعنى الإمكان مجاز من هذا المعنى، لأن الممكن لما شابه المنتقل من مكان إلى مكان في كونه منتقلا من حال إلى حال سمي جائزا وسمي الإمكان جوازا. فاللفظ المستعمل في غير ما وضع له إنما يسمى مجازا، لكونه مشابها للمتعدي عن المكان في كونه منتقلا عن موضعه الأصلي، وإلا فحقيقة التعدي والعبور غير متصورة في الألفاظ، ولا في جميع الأعراض هذا إذا كان المجاز مأخوذا من "الجواز" الذي [هو] بمعنى العبور. أما إذا كان مأخوذا من "الجواز" الذي بمعنى الإمكان، فاللفظ حقيقة فيه، نظرا إلى حصول هذا المعنى فيه، لأن الإمكان غير مختص بالأجسام، بل هو حاصل فيها وفي الأعراض، لكنه مجاز من حيث إنه مأخوذ من المجاز، فإن المأخوذ من المجاز مجاز، لكن على التقدير الأول يكون مجازا بالذات، وعلى الثاني

المسألة الثانية في حده بحسب الاصطلاح

مجازاً بالعرض. المسألة الثانية في حده بحسب الاصطلاح المجاز: هو اللفظ [المستعمل] في إفادة معنى غير ما وضع اللفظ له أولا، بالنسبة إلى الاصطلاح الذي وقع التخاطب به، لملاحظة بينه وبين ما وضع له اللفظ أولا.

المسألة الثالثة في أن لفظ المجاز بالنسبة إلى هذا المفهوم الاصطلاحي حقيقة عرفية ومجاز لغوي

وهذا على رأي من لم يعتبر الوضع في المجاز. وأما على رأي من اعتبره فيه، فيجب أن يزاد في الحد. ويقال: هو "اللفظ المستعمل في إفادة معنى متواضع عليه / (48/أ) " إلى آخره ولا يخفى عليك ما فيه من الاحترازات، وهو مطرد ومنعكس. المسألة الثالثة في أن لفظ المجاز بالنسبة إلى هذا المفهوم الاصطلاحي حقيقة عرفية ومجاز لغوي أما الأول: فلتبادر الذهن إليه عند سماعه مجردا عن القرائن، التبادر دليل الحقيقة. وأما الثاني فلوجهين:- أحدهما: ما ذكرناه. وثانيهما: أن بناء "المفعل" حقيقة إما في الموضع أو في المصدر، وليس حقيقة في "الفاعل"، فإطلاقه عليه يكون مجازا، فكيف على المشابه له؟

المسألة الرابعة [في وقوع المجاز في اللغة العربية]

المسألة الرابعة [في وقوع المجاز في اللغة العربية] المجاز واقع في اللغة العربية. والدليل عليه إطلاقهم "الأسد" و "والحمار" [على] الشجاع والبليد، مع أنهما غير موضوعين لهما في أول الأمر وفاقا. وكذلك إطلاقهم الكبد على الوسط في قولهم: تكبدت الشمس إذا استوت على كبد السماء، أي على وسطها مع اعترافهم بأن الكبد موضع للعضو المخصوص في "الإنسان". وهذا استعارة عنه. وكذلك قوله: قامت الحرب على ساق، ودارت رحاها، وليس للحرب ساق ولا رحى، وإنما هو استعارة عن أهلاكها الرجال، لأن الرحى تفني وتعدم كل ما يقذف فيها.

ومثله قول امرئ القيس وليل كموج البحر أرخى سدوله .... على بأنواع الهموم ليبتلى وليس لليل "أرخى"، ولا له "سدول"، وإنما هو كناية عن الستر والتغطية، وبالجملة الاستقراء يفيد العلم الضروري بوقوع المجاز في اللغة. وأنكر الأستاذ أبو اسحاق وقوعه في اللغة. محتجاً بوجهين:

أحدهما: أن اللفظ المجازي لو أفاد معنى، فإما أن يفيده بدون القرينة، أو معها. والأول باطل. أما أولا: فبالإجماع. وأما ثانيا: فلأنه حينئذ يلزم أن يكون حقيقة فيه، إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة من غير احتياج إلى القرينة. والثاني: أيضا باطل، لأنه مع تلك القرينة لا يفيد إلا ذلك المعنى ولا يحتمل غيره، والذهن عند سماعه مع تلك القرينة لا يتبادر إلا إلى فهم ذلك

المعنى فيكون المجموع حقيقة فيه. وثانيهما: أن المعنى المعبر عنه باللفظ المجازي، يمكن التعبير عنه باللفظ الحقيقي، وتكون إفادته إياه من غير قرينة، بخلاف المجاز، فإنه لا يفيد إلا مع القرينة فيكون ذلك تطويلا من غير فائدة، وهو ممتنع الصدور من العرب الذين هم أهل الحكمة والبلاغة. والجواب عن الأول: أن القرينة غير منحصرة في اللفظ حتى يلزم ما ذكرتم، ثم "بل" قد تكون عقلية / (48/ب) وخالية، وحينئذ لا يمكن أن يقال: اللفظ مع تلك القرينة العقلية والخالية حقيقة في ذلك المعنى، لأن الحقيقية والمجازية من عوارض الألفاظ، فإن عني الخصم بالحقيقة ما يفيد معنى ولا يحتمل غيره، سواء كان ذلك المفيد لفظا صرفا أو لا يكون كذلك، لكن يشترط أن يكون بعضه لفظا، إذ الدلالة العقلية الصرفة لا توصف بكونها حقائق، فهو نزاع لفظي فإنا لا نعني بالحقيقة إلا اللفظ الذي يكون مستقلا بالإفادة بدلالة وضعية، فإن كان الخصم يريد بها غيره فله ذلك، إذ لا مشاحة في الألفاظ. وعن الثاني: يمنع عدم الفائدة، فإنا سنذكر فوائد المجاز إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة [في أقوال العلماء في وقوع المجاز في كلام الله تعالى]

المسألة الخامسة [في أقوال العلماء في وقوع المجاز في كلام الله تعالى] قد ثبت بما ذكرنا اشتمال اللغة العربية على المجاز. فهل هو واقع في كلام الله تعالى أم لا؟ ذهب الأكثرون إلى أنه واقع. وقالت: الروافضة. والظاهرية، كأبي بكر الأصفهاني.

إنه غير واقع احتج الأكثرون على وقوعه بآيات، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} فإن حقيقته غير مرادة، لأن حقيقته نفي مثل مثله، وهو كفر، لأنه يقتضي نفيه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل المراد منه نفي المثل، وهو مجاز فيه بالزيادة، إذ لو حذف الكاف استقام الكلام.

وكقوله تعالى: {جدارا يريد إن ينقض}، وقوله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها}. والعير إما الإبل التي تحمل الميرة أو القافلة المجتمعة من الناس والجمال والبهائم، وعلى التقديرين السؤال عنها ممتنع، بل المراد على التقدير الأول، أهل العير فيكون مجازا من باب الإضمار كما في قوله تعالى: {واسأل القرية}، وعلى التقدير الثاني بعض العير، وهو الناس، فيكون مجازا، من باب إطلاق اسم الكل على الجزء. وفي هذه الاستدلالات نظر.

أما الاستدلال بالآية الأولى فإن لقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله {ليس كمثله شيء} المراد منه نفي المثل، بل هو محمول على حقيقته، وهو نفي مثل مثله، ولا يلزم منه نفيه تعالى بل نفي مثله. وبيانه: أن نقول لو كان لله تعالى مثل، لكان هو مثلا له ضرورة أن المماثلة لا تتحقق إلا من الجانبين، لكن ليس كمثله مثل فلا يكون له مثل وإذا أمكن حمل اللفظ على حقيقته، بحيث يحصل منه المقصود من غير محذور، كان الحمل على المجاز غير جائز لاسيما على المجاز بالزيادة، فإنه أشد محذورا من المجاز بالنقصان، إذ هو من باب الفصاحة والبلاغة، ومن المجاز / (49/أ) للمشابهة فإنه من باب الاستعارة. لا يقال: فعلى هذا لا يكون النص مفيدا لنفي المثل ما لم يضم إليه ما ذكرتم من المقدمة فلا يكون مستقلا بالإفادة لكن الأمة عقلت منه [نفي المثل من غير اعتبار تلك المقدمة]، وذلك يدل على أنه "غير" محمول على ما ذكرتم. لأنا نقول: لا نسلم أن الأمة بأسرها عقلت منه نفي المثل من غير اعتبار تلك المقدمة. وكيف يقال ذلك وفي الأمة من ينكر أن يكون في كلام الله

مجاز؟ ومنهم من ينكر أن يكون فيه زيادة لا معنى لها، ولا يمكن حمل الآية على نفي المثل إلا بعد الاعتراف بهذين الأصلين "على القائلين بهذين الأصلين" جاز أن يفهموا منه نفي المثل على سبيل الاستقلال، وجاز أن يفهموا ذلك منه بواسطة ما ذكرنا من المقدمة وإن لم يصرحوا بها، لما أنها ضرورية على تقدير ثبوت المثل له. وأما قوله {جدارا يريد أن ينقض} فيمكن حمله على حقيقته- أيضا- إذ لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيه الحياة والإرادة، إذ ليس البنية شرط الحياة، وزمن النبوة زمن خرق العادة. وكذلك القول في العير والقرية، إن سلم أن القرية اسم مختص بالبيوت والبنيان المجتمعة، وأما إن لم يقل بذلك بل يقول بأنها مشترك بينها وبين الناس المجتمعين، إما باشتراك لفظي، أو معنوي، فالاستدلال ساقط بالكلية، لأنه يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، فلا حاجة إلى الإضمار، ثم الذي يدل على أن القرية حقيقة في الناس المجتمعين أيضا الاستعمال والاشتقاق أما الاستعمال فكقوله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة}، وقوله تعالى {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة}، وقوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها}. وأمثالها كثيرة، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

وأما الاشتقاق فلأن القرية مشتقة من القرء وهو الجمع، ومنه يقال: قرأت الماء في الحوض أي جمعت، [ومنه المقراة للحوض]، ومنه القراء، وهو الضيافة لاجتماع الناس لها، وقرأت الناقة لبنها في الضرع أي جمعته، ومنه القرآن لاجتماع السور والآيات فيه، ومنه القرء للطهر والحيض. أما الأول فلأنه زمن اجتماع الدم، وأما الثاني فلأنه دم مجتمع، والناس المجتمعون فيه معنى الاجتماع فوجب أن يسمى قرية، مقتضى هذا الدليل أن يسمى كل مجتمع بالقرية، لكن ترك العمل به في عدا البنيان المجتمعة والناس المجتمعين فوجب أن يبقى معمولا به فيهما، وإذا كان الاستدلال بهذه الآيات هذه الإشكالات / (49/ب) فالأولى أن يعدل عنه إلى ما هو أوضح منه، نحو الاستدلال بقوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} وليس للذل جناح. وقوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار}، والأنهار لا تجري وإنما يجري ماؤها، وقوله: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} وليس

للباطل دماغ حتى يدمغ، وقوله: {واشتعل الرأس شيبا} والرأس لا يشتعل بالشيب، وقوله: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} والسلخ إنما هو حقيقة في نزع الجلد، وقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلاوات} والصلاوات لا تهدم، وقوله: {ولكم في القصاص حياة} وليس في نفسه الحياة بل الموت وإنما الحياة في شرعيته، وقوله: {أحاط بهم سرادقها} و {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}. وأمثالها متجاوزة حد الإحصاء. واحتج المخالف بوجوه:- أحدها: ما ذكر في المسألة السابقة وقد عرف جوابه ثمه أيضا. وثانيها: أن المجاز ركيك من الكلام لا يصار إليه إلا عند العجز عن الحقيقة، والعجز على الله محال. ثالثها: لو كان في كلامه مجاز واستعارة لوصف بكونه متجوزا ومستعيرا، وهو باطل وفاقا. ورابعها: كلام الله حق فله حقيقة فلا يكون مجازا، لأن ما له حقيقة لا يكون مجازا.

وخامسها: المجاز لا يستقل بالإفادة بدون القرينة، والقرينة قد تخفى فيضيع المكلف في الجهل ولم يحصل مقصود الكلام، والحكيم لا يسلك مسلكا قد يفضي إلى نقيض مقصوده مع اقتداره على سلوك ما لا يفضي إليه أصلا. وسادسها: لو جاوزنا أن يكون في كلام الله تعالى مجاز، لم يمكننا القطع بإرادة شيء من مدلولات كلامه تعالى لاحتمال أن يقال لعل المراد منه مجازات ما فهمناه من حقائقه، وإن لم نجد قرينة صارفة عن الحقيقة، لأن عدم وجدناها لا يدل على عدم الوجود، وهذا القدر من الاحتمالات كاف في نفي الجزم الجواب عن الثاني: بمنع ركاكة المجاز، بل قد يكون أفصح وأبلغ من الحقيقة في إفهام المقصود، ألا ترى أن قوله تعالى: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} أفصح من قول القائل: الأرض شربت ماؤها والسماء وقفت عن الصب، وقولنا: "زيد أسد"، أو "كالأسد" أبلغ في إفهام الشجاعة من قولنا: "زيد شجاع"، لا نسلم أنه لا يصار إليه إلا عند العجز، بل يصار إليه لأسباب أخر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وعن الثالث: بمنع الملازمة، فغن أسامي الله توقيفية / (50/أ) عندنا ولئن سلمنا: إنها قياسية، لكن [إنما] يجوز إطلاق ما لا يوهم الباطل، وما نحن فيه ليس كذلك، لأنه يوهم كونه تعالى متسامحاً في أقواله

وهو باطل، لأنه إنما يقال هذا فيمن لا يؤمن بقوله، ويعلم من حاله أنه لا يحتاط فيه. وعن الرابع: إن كلام الله حق بمعنى أنه صدق لا بمعنى أنه مستعمل في موضوعه. وعن الخامس: أنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، وهي باطلة عندنا. ولئن سلمنا: صحتها فالظاهر زوال الالتباس مع القرينة وخفاء القرينة الذي ينشأ من الجهل احتمال مرجوح، وهو غير كاف في تقبيح الشيء وإلا لقبح إبدال المتشابهين. وعن السادس: أنا لا نقطع بشيء من مدلول كلامه تعالى، بناء على عدم وجدان قرينة صارفة عن ظاهره، بل لا يثبت بهذا الطريق إلا الظن، وأما القطع فبالقرائن المعينة للحقيقة، أو بقيام دلالة قاطعة مانعة من حمله على غير ظاهره، ومعلوم أن كون القرآن مشتملا على المجاز لا يقدح في القطع بهذا الطريق.

المسألة السادسة [في اشتمال العربية والقرآن على كلمة غير عربية]

المسألة السادسة [في اشتمال العربية والقرآن على كلمة غير عربية] هل في اللغة العربية، وكلام الله تعالى كلمة غير عربية، سواء كانت معربة أم لا؟ فنقول: أما أن اللغة العربية مشتملة عليها فلا نعرف في ذلك خلافا، وإنما الخلاف في أن القرآن، هل هو مشتمل عليها أم لا؟ فأثبته ابن عباس، وعكرمة، ومن تابعهما. ونفاه الباقون.

قيل. الشافعي منهم، ثم اعلم أن الخلاف يجب أن يكون في غير الأعلام كأسماء الأجناس مثل "اللجام" و "المشكاة"، أما في الأعلام مثل "إبراهيم" و "إسماعيل" فلا يتجه الخلاف فيه، وكيف يتجه وقد اتفق النحويون على أن إبراهيم وإسماعيل وأمثالها غير منصرف لعلة العلمية والعجمة، ولو كان من قبيل توافق اللغتين لكان منصرفا، نظرا إلى الوضع العربي. احتج المثبتون: بان القرآن مشتمل على "السجيل" و "الإستبرق" وعلى "المشكاة"، وعلى "القسطاس" والأوليان فارسيان، والمشكاة حبشية. وقيل: هندية، والقسطاس رومي. ولأنه لو لم يجز أن يكون القرآن مشتملا على غير العربي، فإنما لا يجوز لأنه غير مفهم لهم، وهو غير منكر من القول، فإن الحروف في أوائل السور غير مفهمة، وكذلك "الزقوم"

و "الأب"، ولذلك قال بعض فصحاء العرب حين سمع قوله تعالى: {لآكلون من شجر من زقوم} ما نعرف الزقوم، إلا الزبد والعسل. وقال عمر رضي الله عنه: لما تلا قوله تعالى: {وفاكهة وأبا} أما الفاكهة فمعلومة، فما / (50/ب)؟. وكذلك المتشابهات، فإنها لا تفهم إذ الأصح الوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}.

وأيضاً: إن الله تعالى أنزل القرآن على لسان العرب والمعرب من جملة كلامهم، ولذلك اعتورت عليه أحكام كلامهم من دخول الألف واللام والتنوين والجمع والتثنية وغير ذلك من الأحكام، فجاز أن يكون فيه المعرب كغيره. أجاب المنكرون: عن الأول: بأنا لا نسلم أن تلك الكلمات ليست بعربية، ووجودها في غير اللغة العربية لا يدل على أنها ليست بعربية، فإن توافق اللغتين غير ممتنع كما في التنور، والصابون، وغيرهما من الألفاظ. وعن الثاني: بمنع أن يكون في القرآن غير المفهم، أما أوائل السور فقد مر الجواب عنها. وأما "الزقوم" و "الأب" فلا يلزم من كونهما غير معلومين لواحد، أو اثنين أن لا يكونا عربيين، ولا نسلم أن المتشابهات غير معلومة، ولا نسلم أن الأصح الوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} بل على (الراسخين) غاية ما يلزم على هذا التقدير التخصيصي،

وهو أهون من التكلم بما لا يفهم. واحتج المنكرون: بقوله تعالى: {بلسان عربي مبين}، وقوله: {قرآنا عربيا} وهو اسم لجملة الكتاب على ما تقدم بيانه. وقوله: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي}، وقوله: {أأعجمي وعربي} استفهام عن كونه متنوعا بمعنى الإنكار، وهو إنما يستقيم إذ لم يكن في نفسه متنوعا، ولو كان فيه شيء من غير العربية لكان متنوعا، وحينئذ لم يكن الإنكار مستقيما. أجاب: المثبتون عن الآيتين الأولتين بما سبق في الحقيقة الشرعية. وعن الثالث: لا نسلم أنه استفهام إنكار عن التنويع بل معناه إن شاء الله تعالى- الكلام أعجمي ومخاطب عربي، فهو إنكار هذا المعنى لا عن التنويع. سلمنا ذلك: لكنه إنكار مطلق التنويع أو تنويع مخصوص، وهو الذي لا يفهم منه شيء. والأول ممنوع. والثاني مسلم، ونحن لا نقول به، ولا يلزم منه نفي مطلق التنويع، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام.

المسألة السابعة في تقسيم المجاز

المسألة السابعة في تقسيم المجاز المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط، أو في تركيبها فقط، أو فيهما جميعا. والأول: كاطلاق الأسد على الشجاع، وقد عرفت حقيقته بما سبق. من التحديد ووقوعه بما سبق من الدليل ويسمى أيضا بالمجاز المثبت. والثاني: كقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} / (51/أ) {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} {وأخرجت الأرض أثقالها}. ويسمى هذا النوع بالمجاز المركب، والجملي، والإثباتي، والحكمي، والإسنادي، والعقلي، لأن مفردات هذا النوع من المجاز

كلها مستعملة في موضوعاتها، وإنما التجوز في إسناد بعضها إلى بعض، وذلك حكمي، عقلي، ألا ترى أن "أشاب الصغير" في قول الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبير .... كر الغداة ومر العشي مستعملان في موضوعيهما، وكذلك: أفنى والكبير، لكن إسناد "أشاب وأفنى" إلى "كر الغداة ومر العشي"، هو الذي وقع فيه التجوز لكونهما، مستندين إلى الله في نفس الأمر. ومثله: "أنبت الربيع البقل". و "فعل النور" والضابط فيه إنك متى نسبت الشيء إلى غير ما هو منسوب إليه لذاته لضرب من الملاحظ بين الإسنادين كان ذلك مجازا في التركيب. وبهذا القيد الأخير خرج، قول الدهري: "أنبت الربيع البقل"، و

"أسعد الفلك"، عن أن يكون مجازا، لأن ذلك الإسناد عنده ليس لضرب من الملابسة، بل هو أصلي عنده منتسب إلى ما ينبغي انتسابه إليه، وبه ينفصل الكذب عنه أيضا. لأن الكاذب لم يسند الأثر إلى ما أسنده لمشابهة ذلك الإسناد إسنادا آخر الذي هو أصلي، بل إما لأنه أصلي عنده، أو وإن لم يكن كذلك لكنه لم يلاحظ الملاحظة. والملاحظة قد تكون بأن يختص الشيء بأثر بأن يوجد الأثر عند وجوده، وينعدم عند عدمه، وهو غير صادر عنه، لكن أجرى الله [تعالى] سنته بأن يوجده عند وجوده، ويعدمه عند عدمه، كالهلاك مع أكل السم في قوله: قتله السم: أو بأن يكون الأثر صادرا عنه حسا كما في قوله تعالى {وأخرجت الأرض أثقالها} و {تؤتي أكلها كل حين} وبأن يكون الشيء سبب كقولهم: "أعطى الأمير الفقير"، و "كسا الخليفة الكعبة"، وما أشبه ذلك. وذهب بعض الشاذين إلى إنكار المجاز العقلي. إما لزعمهم: أن صيغ

الأفعال موضوعة في اللغة بإزاء صدور مدلولاتها عن القادر المختار، فإذا أسندت إلى غيره كانت مجازات لغوية. وربما استدلوا عليه: بأن من علامة المجاز اللغوي صحة النفي كما سيأتي- وهي موجودة فيما نحن فيه كما في المفرد، إذ يصح أن يقال: ما أخرجت الأرض الأثقال، وإنما أخرجها الله تعالى منها / (51/ب)، وما أتت النخلة أكلها، ولكن أتى الله منها الأكل، وما قعد فلان ولكن اقعد فيمن هو كذلك، قال الله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} وهذا على رأينا ظاهر. وإما لزعمهم: بأن صيغ الأفعال لا تدل إلا على صدور مدلولاتها ممن أسندت إليه، سواء كان موجبا أو مختارا، وخصوصية أحدهما غير مستفاد منها- كما سيأتي- فإذا أسند فعل إلى فاعل سواء كان موجبا أو مختارا، وجب أن تكون حقيقة فيه، إذ لو كان مجازا في الموجب لكان له جهة حقيقة، كما في المفرد، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنه ليس بمجاز. أجاب الأكثرون عن الأول: بأن صيغ الأفعال لا دلالة لها على صدور

مدلولاتها من الفاعل المختار ويدل عليه وجوه:- أحدها: لو كانت صيغة الفعل دالة على صدور الفعل من المختار لكان قولنا: "أخرج" و "أنبت" خبرا تاما، لأنه حينئذ يجري مجرى قولنا: "أخرج القادر"، و "أنبت القادر" وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. وفيه نظر، لأن لقائل أن يقول: هب أنه لا يدل على خصوصية القادر المختار، لكن لا نزاع في أنه يدل على صدوره عن شيء. فقولنا: أخرج حينئذ يجري مجرى، قولنا: أخرج شيئا فكان يجب أن يكون خبرا تاما، فما هو جوابكم فيه؟ فهو جوابنا فيما أوردتموه علينا. وثانيها: أن إسناد الفعل إلى الفاعل، تارة يفيد صدوره منه فقط كقولك: "ضرب زيد"، وتارة يفيد اتصافه به فقط كما في قولك: "مرض زيد"، و "مات عمر"، وتارة يفيد المعنيين جميعا كقولك: "قام زيد"، فلو كان الفعل دالا على صدوره من القادر المختار بطريق التضمن لم يكن إسناد الفعل إلى الفاعل في هذه الصور الثلاثة على سبيل الحقيقة، لكن لم يقل أحد من أئمة اللغة، إن مرض زيد ومات عمر، مجاز لغوي. وثالثها: أن من الاستعمال الشائع من غير نكير من أهل اللسان قول القائل: "السواد يضاد البياض وينافيه"، و "إن الجسم الجمادي يقبل العرض"، ويشغل الحيز، وينتقل عن مكانه غير الطبيعي. والأصل في الكلام الحقيقة الواحدة، وحينئذ يلزم أن لا يكون حقيقة في خصوصية القادر المختار، وهو المطلوب. ورابعها: أن الفعل لو كان له دلالة على القادر من حيث الوضع لكان

قولنا: "أخرج القادر"، تكرارا وغيره نقصا نظرا إلى الوضع ومعلوم أنه ليس كذلك. وخامسها: هب أن الأفعال دالة على القادر المختار بطريق التضمن / (52/أ) لكن لا دلالة لها على القادر المعين، وإلا لزم الاشتراك بحسب القادرين وأنه خلاف الأصل. إذا ثبت هذا فنقول: إذا أسند الفعل إلى غير ذلك القادر الذي صدر الفعل عنه لم يكن ذلك مجازا لغويا، لأن التغيير غير واقع في المفهوم اللغوي، فيكون مجازا عقليا لدخوله تحت ما ذكرنا من الضابط وأما الجواب: عما استدلوا به أولا: فهو أنا نسلم أن صحة النفي من علامات المجاز، لكن لا نسلم أنها من خواص المجاز اللغوي أو العقلي على التعيين، وحينئذ يستدل بصحة النفي على المجاز اللغوي فإنما هو بواسطة أن المجاز العقلي فيه غير متصور، أما بمجرد النفي فلا. وعن الثاني: إن نسلم أنه لا دلالة للأفعال من حيث الوضع على خصوصية الفاعل كما بينا، لكن ما الذي تريد من قولك؟ أنه لو كان مجازا في الموجب لكان له جهة حقيقة. إن أردت به أنه يكون له جهة حقيقة بحسب اللغة فهو ممنوع، إذ المجاز لو استدعى الحقيقة فإنما يستدعي حقيقة تقابله والحقيقة اللغوية ليست في مقابلة المجاز العقلي، إذا ليس معنى المجاز العقلي أن يكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له حتى يستدعيها، وإن عنيت به أن يكون له جهة حقيقة بحسب العقل فمسلم، لكن لا نسلم أن ليس له جهة حقيقة، بل له ذلك، وهو إسناده إلى ما هو مستند إليه لذاته. وأما الثالث: وهو الذي وقع التجوز في مفردات ألفاظه وفي تركيبه معا، فهو كقول الشاعر:

أحياني اكتحال بطلعتك فإن "الإحياء" مستعمل في السرور، وهو غير موضوعه الأصلي، و "الاكتحال" في الرؤية، وهو مجاز فيها، فهذا مجاز في مفرداته ثم نسب "الإحياء" إلى "الاكتحال" وهو مجاز عقلي، لأنه غير منتسب إليه في نفس الأمر "وإنما نسب إليه" لضرب من الملاحظة بينه وبين الإسناد الأصلي.

المسألة الثامنة في بيان جهات التجوز في المفرد

المسألة الثامنة في بيان جهات التجوز في المفرد قد عرفت مما سبق في حد المجاز أن العلاقة لابد منها فيه. فنقول: العلاقة التي هي شرط المجاز، ليست هي عبارة عن مجرد الاشتراك في أمر من الأمور التي هي موجودة في الحقيقة، وإلا لجاز إطلاق اسم كل شيء على كل ما عداه لأنه ما من شيء إلا ويشارك كل ما عداه في أمر من الأمور، بل لابد من المناسبة والمشاركة في أمر خاص ظاهر. إذا عرفت هذا، فلنذكر ما يحضرنا منها، وقبل الخوض في التعداد لابد من التنبيه على شيء. وهو: إنا إذا / (52/ب) أوردنا مثالا بجهة من جهات التجوز لا يشترط فيه أن لا يكون مشتملا على جهة أخرى، بل يجوز أن يكون فيه جهتان وثلاثة، فلا يفهم من قولنا: مثال الجهة الفلانية كذا الاختصاص بتلك الجهة، بل شرطه أن يكون مشتملا على تلك الجهة، مع قطع النظر عن غيرها من الجهات، فإن كان فيه جهة أخرى فإنما لم ينبه عليها لأنا نذكر لها مثالا آخر. الجهة الأولى: من جهات التجوز، إطلاق اسم العلة على المعلول سواء كانت العلة "فاعلية" أو "قابلية" أو "صورية" أو

"غائبة". مثال الأول: إذا كانت حقيقية إطلاق اسم الفاعل وإرادة المفعول كقوله تعالى: {عيشة راضية} أي: مرضية، ومثاله إذا كانت ظنية كتسميتهم "المطر بالسماء". مثال الثاني: كقولهم: "سال الوادي"، و "جرى الميزاب" و "النهر" مثال الثالث: كتسميتهم القدرة باليد، والعقل، والفهم، بالقلب. مثال الرابع: كتسميتهم العنب بالخمر، والعقد بالنكاح. وثانيها: إطلاق اسم المعلول على العلة، كتسميتهم المرض الشديد، والمحنة العظيمة بالموت، ومنه قوله تعالى: {حجابا مستورا} أي ساترا. تنبيهان:- الأول: إذا وقع التعارض بين هذين المجازين، كان الأول أولى. وهذا ظاهر، على رأي من يجوز تعليل المعلولين المتماثلين بعلتين مختلفتين

لأن العلم بالمعلول المعين حينئذ لا يستلزمه العلم بالعلة المعينة. وأما العلم بالعلة المعينة، فإنه يستلزمه العلم بالمعلول المعين. وأما على رأي من لم يجوز ذلك فكذلك، لأن العلم بالعلة المعينة كما تفيد العلم بوجود المعلول المعين، فكذا يفيد كمية وجوده. وأما العلم المعلول، وإن أفاد العلم بوجود العلة المعينة حينئذ لكن لا يفيد كمية وجوده، فكان الأول أولى. الثاني: إذا وقع التعارض بين هذه العلل الأربع، كانت العلة الغائبة أولى، لا لما قيل: بأن فيها جهتي العلية والمعلومية بالنسبة إلى العلل الثلاثة الباقية؛ فإنها علة لها في الذهن ومعلول لها في الخارج، فإن هاتين الجهتين حاصلتان أيضا للعلل الثلاثة بالنسبة إليها ضرورة أن العلية والمعلولية من الأمور الإضافية المتلازمة، بل لأن عليتها في الذهن ومعلوليتها في الخارج وسائر العلل بالعكس من هذا. وقد عرفت أن دلالة الألفاظ على ما في الأذهان بالذات، وعلى ما في الخارج بالعرض فتكون جهة الرجحان التي هي العلية حاصلة / (53/أ) للعلة الغائبة في الدلالة الذاتية ولغيرها في الدلالة العرضية، فتكون العلة الغائبة أولى من غيرها. وثالثها: إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كإطلاق المس على الجماع في

قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أي قبل الوطء" وخصه قوم بالكناية إذ قالوا: أن قولهم: "كثير الرماد" للمضياف، و "طويل النجاد" لطويل القامة من باب الكنية، وهو إطلاق "اسم" اللازم على الملزوم. ورابعها: عكسه كقوله تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} أي يدل، والدلالة لازمة من لوازم الكلام. وخصه قوم بالاستعارة، والصحيح: أن الاستعارة غيره "وستأتي" ثم من الظاهر تغايرها من الجهتين أعني العلية والمعلولية، واللازمية والملزومية، فإن الاعتبار الثاني يصدق حيث لا يصدق الاعتبار الأول، كما في الخاص والعام، فإن الإنسان ملزوم للحيوان، وهو لازم له، لا علية ولا معلولية بينهما ولا بينهما نسبة العموم والخصوص- أيضا- إن استدعاء الوجود من الجانبين شرط في الجهة الأولى دون الثانية، وإذا وقع التعارض [بين] هاتين الجهتين كانت الجهة الأولى أولى، وإذا وقع التعارض بين إطلاق اسم اللازم على الملزوم وبين إطلاق اسم الملزوم على اللازم، كان الثاني أولى لاستلزامه إياه من غير عكس.

وخامسها: تسمية الشيء باسم ما يشابهه، وإما في الصورة كإطلاق اسم "الفرس" على المصور بصورته، وإما في صفة ظاهرة خاصة بمحل الحقيقة كإطلاق اسم "الاسد" على الشجاع، و "الحمار" على البليد، وهذا النوع هو المستعار، وهذا لأنه هو الذي استعير فيه المعنى فاستعير اللفظ فيه تبعا لاستعارة المعنى. وإذا وقع التعارض بين هذا، وبين واحد من الأربعة، الأول أعني إطلاق اسم العلة على المعلول، وعكسه، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم، وعكسه، فالثلاثة، الأول منها أولى قطعا للملازمة وعدم الانفكاك. وأما الرابع: فيحتمل أن يقال المستعار أولى، لأنه أكثر ولأنه من أصناف البديع، ولأن تلك الجهة حاصلة للمستعار- أيضا- مع زيادة ما ذكرنا من المرجحات، لأن بين الأسد والشجاعة ملازمة، فإطلاق اسم الأسد على الشجاعة إطلاق إسم الملزوم على اللازم، ثم إطلاقه على الشجاع- أيضا- كذلك، لأن بين الشجاعة والشجاع ملازمة أيضا. وسادسها: إطلاق اسم الكل على الجزء، كما في قولهم: الزنجي (53/ب) سود، والرومي أبيض، وكإطلاق اليد على العضو المخصوص إلى الكوع، أو إلى المرفق عند من يجعلها حقيقة فيه إلى المنكب. وسابعها: عكسه، كإطلاق الرأس على الشخص في قولهم: يملك فلان

كذا رأسا من الرقيق، وذبح كذا رأسا من البقر. وإذا وقع التعارض بينهما كان الأول [أولى] لاستلزام الكل الجزء من غير عكس، وهذا إنما يستقيم في إطلاق اسم الجزء الأعم على الكل، أما في إطلاق اسم الجزء الخاص بالشيء كالناطق مثلا النسبة إلى الإنسان فلا، لأنه مستلزم له فيحتاج في تعليل أولوية الأول بالنسبة إلى هذا الجزء، وإلى وجه آخر وهو أن الكل مستلزم للجزء من حيث إنه كل، وأما الجزء الذي يستلزم الكل فإنه لا يستلزمه من حيث إنه جزء بل باعتبار آخر، وما بالذات يكون أولى وأقدم مما بالغير. وأيضا: الكل يستلزم الجزء بالدلالة التضمنية، والجزء الخاص يستلزم الكل بالدلالة الالتزامية، ولا شك أن الدلالة التضمنية أولى من الدلالة الالتزامية. ويدخل في هذا القسم إطلاق اسم المقيد على المطلق وعكسه، لأن المطلق جزء المقيد. وإذا وقع التعارض بين إطلاق اسم الكل على الجزء وبين إطلاق إسم العلة على المعلول أو عكسه، كان الثاني أولى لحصول الاستلزام مع زيادة التأثير والتأثر.

وأما إذا وقع التعارض بينه وبين إطلاق اسم الملزوم على اللازم كان الأول أولى، لأن الاستلزام مشترك ويخص بكونه داخلا في مسمى اللفظ بخلاف اللازم، فإنه غير داخل في مسمى اللفظ، ويعرف منه كونه أولى من عكسه ومن المستعار. وأما إذا وقع التعارض بين إطلاق اسم الجزء على الكل، وبين ما تقدم من الأقسام، فكل ما تقدم من الأقسام أولى منه إلا إطلاق اسم اللازم على الملزوم فإنهما سواءان، لأنه كما لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم فكذا لا يلزم من وجود الجزء وجود الكل. وثامنها: إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر، كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم}. سمي جزاء السيئة سيئة واعتداء وهو عدل لكونه ضدها. وإذا وقع التعارض بين هذا وبين كل ما تقدم من الأقسام، كان كل ما تقدم أولى منه إلا إطلاق اسم اللازم على الملزوم وما في معناه. فإن فيه نظرا. وتاسعها: تسمية ما يألفوه باسم ما بالفعل سواء كان بالقوة القريبة بالفعل كتسمية الخمر في الدن مسكرا، وكتسمية العال بصنعة الكتابة بالكاتب في غير حالة المباشرة، أو بالقوة البعيدة (عنه)، كتسمية الصبي بالكاتب والعالم.

وإذا وقع التعارض بين هذا وبين إطلاق (اسم) أحد الضدين على الآخر فيحتمل أن يقال: الأول أولى، لأنه أكثر. ويحتمل أن يقال: الثاني أولى لأن انتقال الذهن عند سماع أحد الضدين إلى الضد الآخر، أكثر من انتقاله ثمة. ويعرف من هذا نسبته إلى الأقسام المتقدمة فلا نطول بذكرها. وعاشرها: تسمية الشيء باسم ما يجاوره، كتسمية المزادة بالرواية، الشراب بالكأس عند من يجل الكأس اسم الوعاء، ولا يشترط أن يكون فيه الشراب. وأما من يقول: لا يقال: للوعاء كأس إلا إذا كان فيه الشراب فلا. وإذا وقع التعارض بين هذا وبين تسمية ما يألفوه بالعقل كان الثاني أولى، لأن تقدير الحصول يصير حقيقة فيه بخلاف اسم أحد المجاورين في الآخر، فإنه لا يصير حقيقة بحال إلا بوضع جديد، وهو مشترك، ولأنه أكثر فكان أولى. حادي عشرها: إطلاق الاسم على الشيء باعتبار ما كان عليه أولا، ثم زال عنه، كالعبد على المعتق، والضارب على من صدر منه الضرب في الماضي. وإذا وقع التعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأقسام كان هذا أولى، لأنه حقيقة عند البعض في الحال، وبتقدير أن لا يكون حقيقة فيه في الحال إلا أنه

كان حقيقة فيه بخلاف ما تقدمه من الأقسام. وثاني عشرها: المجاز بالزيادة، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} عد من يجعل الكاف زائدة. وإذا وقع التعارض بين هذا وبين كل ما تقدم، كان كل ما تقدم أولى، لأن فيه زيادة لا معنى لها، وهو غير مرضي عند الفصحاء. وثالث عشرها: عكسه كقوله تعالى: {وأسأل القرية} وستعرف أنه إذا وقع التعارض بين الإضمار والمجاز أيهما أولى.

ورابع عشرها: إطلاق اسم المتعلق على المتعلق كتسمية المعلوم علما والمقدور قدرة، في قولهم هذا قدرة الله، وعلم الله أي مقدوره ومعلومه. وإذا وقع التعارض بين هذا وبين الإضمار فأيهما أولى فستعرف ذلك- فيما يأتي إن شاء الله تعالى- ولا يخفى عليك نسبته إلى كل ما تقدم أيضا مما تقدم. وخامس عشرها: تسمية الحال باسم المحل، كتسمية الخارج المستقذر بالغائط. فإنه في الأصل اسم المكان المطمئن من الأرض فسمي نفس الخارج به لكونه يقضي به في الغالب، ومنه قولهم: "لا فض فوك" أي أسنانك. وسادس عشرها: عكسه، كقوله تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي في الجنة سماها رحمة لأنها محل رحمته.

ومنه يقال: في العرف في سخط الله، أي في النار، لأنها محل سخطه. إذا وقع التعارض بينهما كان الثاني أولى، لأن الحال يستلزم المحل من غير عكس. فهو كالملزوم بالنسبة إلى اللازم. لا يقال: إن الأول أولى، لأن المحل مفتقر (إليه) فهو كالمعلول من هذا الوجه [والحال مفتقر فهو كالمعلول من هذا الوجه]، وقد عرفت أن إطلاق اسم العلة على المعلول أولى من عكسه، فيكون ما يشبه أولى. لأنا نقول: لا نسلك أن أولوية إطلاق اسم العلة على المعلول إنما هو باعتبار الاعتبار الافتقار إليها حتى يلزم ما ذكرتموه، بل لما سبق من أن العلم بالعلة المعينة يستلزم العلم بالمعلول المعين من غير عكس. ولئن سلم ذلك لكن يجوز أن يكون الشيء مرجحا مع غيره، ولا يصلح أن يكون مرجحا وحده، فلا يلزم من كون الافتقار مرجحا مع الاستلزام كونه كذلك بدونه. سابع عشرها: تسمية البدل باسم مبدله، كتسميتهم الدية "بالدم" في قولهم: أكل فلان دم فلان، أي: ديته. ومنه قول الشاعر: يأكلن كل ليلة أكافا.

أي ثمن الاكاف. وثامن عشرها: عكسه كتسمية الأداء "بالقضاء" في قوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة} أي أديتم. وإذا وقع التعارض بينهما كان الأول أولى وإن سلم كون كل واحد منهما مستلزما للآخر، لأنه أكثر، ولأن المبدل أصل، والبدل فرع وتسمية الفرع بالأصل أولى من العكس. وتاسع عشرها: إطلاق المنكر وإرادة واحد بعينه، كقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} عند من يزعم أن المأمور به كانت بقرة معينة. العشرون: إطلاق المعرف وإرادة المنكر، كما في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا} عند من يزعم أن المأمور به دخول باب من الأبواب لا بابا بعينه، ولا يظن أن هذا تكرار فإنه سبق ذكر إطلاق المطلق، وإرادة المقيد وعكسه، لأنهما قد يكونان معرفتين وقد يكونان نكرتين، وما نحن فيه ليس

كذلك بل لابد وأن يكون أحدهما معرفة والآخر نكرة. وإذا وقع التعارض بينهما كان الثاني أولى، وهو ظاهر لكون المعرف كالكل، والمنكر كالجزء [وقد عرفت أن] إطلاق اسم الكل على الجزء أولى من العكس. ويمكن أن يعارض هذا بما أن فيه تعطيل الكلمة عن الفائدة، وهي الألف ولام التعريف بخلاف عكسه، فإنه لا يتعطل فيه شيء من الكلمة، وإن كان فيه تعطيل التنكير عن الفائدة أيضا. الحادي والعشرون: إطلاق النكرة، وإرادة الجنس، كما في قوله تعالى: {علمت نفس ما قدمت وأخرت}، وكقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} عند من لم يجعله اسم جنس كالصف والخصم. الثاني والعشرون / (55/أ): إطلاق المعرف باللام وإرادة الجنس، كقولهم: "الرجل خير من المرأة"، و "الدينار خير من الدرهم"، فإنه ليس

المسألة التاسعة في أن استعمال اللفظ في كل واحد من صور المجاز، هل يفتقر إلى كونه مستعملا فيه من جهتهم أو لا يفتقر إلى ذلك؟

المراد منه أن كل واحد من الرجال خير من المرأة، إذ قد تكون المرأة خيرا من الرجل، الدرهم قد يكون خيرا من الدينار، بل المراد منه الجنس. واعلم أنا إنما لم نذكر أحوال تعارض هذه الجهات المتأخرة مع ما قبلها من الجهات، لأنه يمكنك معرفتها مما تقدم فلا يطول الكتاب بذكرها. المسألة التاسعة في أن استعمال اللفظ في كل واحد من صور المجاز، هل يفتقر إلى كونه مستعملا فيه من جهتهم أو لا يفتقر إلى ذلك؟ يل يكفي فيه وجود العلاقة المعتبرة في التجوز المستفادة من كلامهم، إما صريحا بأن كان منصوصا عليها نصا كليا أو ضمنيا، بأن كانت معلومة من استقراء كلامهم المجاز كما سبق في بيان جهات التجوز. اختلفوا فيه: فمنهم من ذهب إلى اشتراطه. ومنهم من لم يشترطه، بل يشترط وجود العلاقة المعتبرة فقط. ويعرف من هذا أن مجرد العلاقة

والمناسبة من غير أن يشهد باعتبارها كلامهم بالتفسير المذكور غير كافية إجماعا، وإن كان كلام بعضهم ليشعر بخلافه. احتج الشارطون بأنه يجوز أن يستعار الأسد للرجل الشجاع لمشابهته إياه في الشجاعة، ولا يجوز أن يستعار للأبخر مع مشابهته إياه في البخر. وكذلك يجوز اطلاق "النخلة" على الإنسان الطويل لمشاركته إياها، ولا يجوز ذلك في غيره من الأشياء الطويلة، وتخلف الحكم عن المقتضي خلاف الأصل، فهو إذن لفقده، ولأنه لو لم يشترط الاستعمال في كل واحد من الصور بل يكفي فيه حصول جهة من جهات التجوز، لجاز تسمية العشرة بالخمسة وبسائر الأجزاء، ولأنهم استعملوا اسم الجزء في الكل في غير موضع واحد، وكذا تسمية البيت بالحائط والسقف، وكذا تسمية الصيد بالشبكة، وبالعكس، والثمرة بالشجرة وبالعكس، والابن بالأب وبالعكس، لأن علاقة السببية والمسببية موجودة بينهما، وكذا تسمية ظل كل شيء باسمه لمشابهته إياه في الصورة، وهي إحدى جهات التجوز، ولما لم يجز كل ذلك علمنا أنه لابد من الاستعمال منهم أو النقل الصريح بتجويز

الاستعمال فإن قيل: لا نسلم أن ما ذكرتم يدل على مقصودكم، أما الصورتان الأوليان فإنما لم يجز الاستعارة فيهما لعدم حصول العلاقة المعتبرة في التجوز، وذلك لأن العلاقة المعتبرة في الاستعارة هي المشابهة في أشهر الصفات / (55/ب) وأخصها، و "البخر" ليس من الصفات المشهورة للأسد، والطول وحده ليس من أخص الصفات للنخلة، وإنما أطلقت على الإنسان الطويل لا لمشاركته إياها في الطول فقط، بل لمشاركته إياها في الطول وفي أمور أخر يصير المجموع أخص صفاتها، فمن تلك الأمور أنها منتصبة القامة، وأن منها ذكرا وأنثى، وأنها لا تثمر إلا بالتلقيح، وأنها لا تعيش إذا قطعت رأسها، وأن الأنثى منها يتماثل إلى الذكر على ما قيل، وبعض هذه الصفات وإن كانت قد توجد في الحيوانات التي غير الإنسان، وبعضها في الجمادات كانتصاب القامة، لكن مجموع هذه الصفات لا توجد إلا في الإنسان، ولذلك قال عليه السلام: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من بقية طينة آدم عليه السلام". وإذا كان كذلك فلم يدل عدم جواز الاستعارة فيهما على جواز النقل والإشارة منهم.

وأما الملازمة الثانية فهي ممنوعة أيضا لجواز أن يكون عدم جواز وإطلاق اسم أحدهما على الآخر لمانع، لا لتوقفه على الاستعمال فيه، ألا ترى أن

الحقيقة قد لا تطرد لمانع وذلك لا يقدح في كونها مقتضيه له، وإذا كان كذلك فالمجاز أولى بأن لا يطرد لمانع، وذلك لا يقدح في العلاقة المسوغة له. ويمكن أن يجاب عن الأول: إن الاشتهار إن اعتبر بالنسبة إلى كل أهل اللسان فهو متعذر أو متعسر، وإن اعتبر بالنسبة إلى أهل العلم والخبرة منهم فهو حاصل في البخر وأمثاله، مما لا يجوز الاستعارة بسبب الاشتراك فيه وغيرهما غير مضبوط فلا يجوز تعليق الحكم به. وأما قوله: لعل المعتبر الاشتراك "في أخص الصفات". قلنا: هذا الاحتمال مدفوع بما أنهم يطلقون اسم أحد السببين على الآخر بأدنى ملابسة بينهما، كإطلاقهم اسم الحال على المحل، وأحد المجاوزين على الآخر، واسم أحد الضدين على الآخر، مع أن الحالية والمحلية والمجاورة والضدية ليست من أخص صفاتها. وعن الثاني: أن الأصل عدم المانع- وأيضا- بأن إحالة عدم الحكم إلى عدم المقتضى أولى من إحالته إلى وجود المانع لئلا يلزم التعارض، واحتج من نفي الاشتراط بوجوه:- أحدها: أن إطلاق الاسم على معناه المجازي وتمييز بعض أنواعه عن البعض يحتاج إلى بحث عميق ونظر دقيق، وما يكون نقليا لا يكون كذلك. وثانيها: أنك إذا أطلقت الاسم على غير موضوعه الأصلي / (56/أ) على وجه الاستعمال، إما لتعظيم، أو لتحقير، فالمقصود غير حاصل بمجرد إطلاق الاسم "بل" بإعارة ذلك المعنى الذي لأجله استعير اللفظ له، فاستعارة اللفظ تابعة لاستعارة المعنى، وهي ليست من الأمور النقلية بل هي

حاصلة بمجرد القصد وتوهم وجوده للمبالغة في المدح أو الذم، فكذلك استعارة اللفظ بحيث إن لا تكون متوقفة على النقل وإلا لزم أن لا تكون تابعة لها، بل هي مستقلة بنفسها. وثالثها: لو كان إطلاق الاسم عل معناه المجازي نقليا، لما افتقر إلى العلاقة والمناسبة التي تكون بين محل الحقيقة والمجاز، بل كان النقل كافيا فيه كالوضع الأول، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنه غير مفتقر إليه. وأجيب عن الأول: أنا لا نسلم أن إطلاق الاسم على معناه المجازي يفتقر إلى النظر الدقيق، بل المحتاج إليه هي العلاقة المصححة للتجوز لا نفس الإطلاق. وأجاب الإمام عن الثاني: بأن إعارة المعنى أمر تقديري لا تحقيقي، فجاز أن يمنع [منه] الواضع في بعض الصور. هو غير سديد. أما الأول: فلأن احتمال المنع غير المنع، وهو غير مانع إذ لو كان مانعا لتحقق المنع في كل موضع، يكون المانع غير ممتنع. وأما ثانيا: فلأن حاصله يرجع إلى أن عدم جواز استعمال اللفظ في معناه المجازي، يمنع الواضع منه، أو لاحتمال المنع بتقدير كونه مانعا أيضا لا لتوقفه على النقل. والنزاع إنما هو في الثاني دون الأول، فإن من يقول: العلاقة كافية في التجوز، إذا منع مانع منه من عرف أو غيره لا يجوز الاستعمال فيه مع وجود العلاقة المصححة له. بل الجواب عنه بمنع أن

المسألة العاشرة في السبب الموجب للتكلم بالمجاز

إعارة اللفظ تابعة الإعارة، إذ لا يلزم من عدم حصول المقصود من إعارة اللفظ بدون إعارة المعنى، أن تكون تابعة لها لجواز أن يكون إعارة اللفظ مشروطة بإعارة المعنى والمشروط غير تابع للشرط. وعن الثالث: أن المجاز إنما يفتقر إلى العلاقة لضرورة كونه مجازا، فإنه لولا العلاقة لم يكن اللفظ مجازا، بل كان حقيقة فيه أيضا، ولا يتيمز باشتراط القرينة فإنه حاصل في المشترك، فلولا العلاقة لم يكن المجاز متميزا عن المشترك، بخلاف الوضع الأول. وإذا قد عرفت ما في الجانبين من الضعف، وجب التوقف. المسألة العاشرة في السبب الموجب للتكلم بالمجاز وهو وجوه:- أحدها: أنه لا يكون للمعنى الذي عبر عنه بالمجاز / (56/ب) لفظ حقيقي، فيتعين تعبيره بالمجاز. وثانيها: أنه وإن كان له لفظ حقيقي، لكن المتكلم أو المخاطب لم يعرفه. وثالثها: أنه وإن كان معلوما لهما، لكنه معلوم كغيرهما أيضا والمجاز قد لا يكون معلوما لغيره، فيعبر به لئلا يطلع على ذلك المعنى غيرهما. ورابعها: أن الإخفاء، وإن كان غير مطلوب له، لكن قد يكون لفظ الحقيقة ثقيلا على اللسان، سواء كان ذلك لمفردات حروفه أو لتنافر تركيبه أو

لثقل وزنه. وخامسها: أنه وإن لم يكن كذلك، لكنه يكون غير صال للسجع أو للتجنيس، وسائر أصناف البديع، أو لإقامة الوزن والقافية، والمجاز صالح لذلك. وسادسها: أنه وإن لم يكن كذلك، لكن لما كان التعبير بالمجاز ألذ، عدل عنه إليه، أما بيان أنه ألذ فلأن التعبير عن الشيء باسم لازمه، لا يوقف على تمام المقصود بل على بعضه، فيكون المقصود معلوما من وجه، ومجهولا من وجه، والوجه المعلوم يسوقه إلى تحصيل ذلك الوجه المجهول، فيحصل هناك ألم ولذة باعتباري الجهل والعلم، ثم إذا حصل العلم بكماله بعد الشوق إليه حصل هناك لذة عظيمة، لأن اللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى وأتم بما إذا حصلت بغتة من أن يكون مسبوقا بألم، بخلاف الحقيقة، فإنها

توقف على المقصود لكماله فلا تعظم اللذة. وسابعها: أن التعبير بالمجاز قد يكون أدخل في التعظيم. وثامنها: أن يكون أدخل في التحقير. وتاسعها: أن يكون التعبير به أبلغ في الإنباء عن المقصود، فإن قولك: "رأيت أسدا" أبلغ في الإعلام عن المقصود من قولك: "رأيت شجاعا" أو إنسانا "يشبه الأسد في الشجاعة". وعاشرها: أن يكون المجاز أعرف من الحقيقة. فهذا ما حضرنا من الأسباب الداعية للتكلم بالمجاز.

المسألة الحادية عشرة في أن الغالب في الاستعمال الحقيقة أو المجاز

المسألة الحادية عشرة في أن الغالب في الاستعمال الحقيقة أو المجاز قيل: الحق هو الثاني، للاستقراء. أما بالنسبة إلى كلام الفصحاء في نظمهم ونثرهم فظاهر، لأن أكثرها تشبيهات واستعارات للمدح والذم، وكنايات وإسنادات قول وفعل إلى من لا يصلح أن يكون فاعلا لذلك، كالحيوانات والدهر والأطلال والدمن، ولا شك أن كل ذلك يجوز. أما بالنسبة إلى الاستعمال العام فكذلك، فإن الرجل يقول: "سافرت البلاد" و "رأيت العباد"، و "لبست الثياب"، و "ملكت العبيد"، مع أنه ما سافر في كلها، ولا رأى كلهم، وما لبس كل الثياب، ولا ملك كل العبيد. وكذلك يقول: ضربت زيدا، مع أنه ما ضرب إلا جزءاً منه.

وكذا إذا عين جزء منه مثل أن يقول: ضربت رأسه. مع أنه ما ضرب إلا جزءا منه / (57/أ). وكذلك قولهم: "طاب الهواء"، و "برد الماء"، و "مات زيد"، و "مرض عمر"، بل إسناد الأفعال الاختيارية كلها إلى الحيوانات، على مذهب أهل السنة مجاز، لأن فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى، فإسنادها إلى غيره مجاز عقلي. وأما قول ابن جني: إن قولنا: "قام زيد"، و "قعد عمرو"، مجاز لزعمه أنه يفيد صدور المصدر، والمصدر يفيد الجنس، وهو يتناول

المسألة الثانية عشرة في أن المجاز المفرد خلاف الأصل

جميع الأفراد وهو غير صادر منه. فهو باطل، لأن المصدر يصدق على القليل والكثير ولا دلالة له إلا على نفس الماهية، وما كان كذلك لا يكون متناولا لجميع الأفراد، بل له صلاحية التناول، وصلاحية التناول غير التناول، ثم ليلعم أن الغلبة لو ثبتت للمجاز، فإنما تثبت لمجموع المجازين أعني الإفرادي والتركيبي. وأما بالنسبة إلى الإفرادي وحده فلا. وأما بالنسبة إلى التركيبي وحده ففيه نظر. على رأي من لم يثبت فاعلا وخالقا غير الله تعالى. المسألة الثانية عشرة في أن المجاز المفرد خلاف الأصل إما بمعنى خلاف الغالب، أو بمنى أنه على خلاف الدليل، ويدل عليه وجوه:-

أحدها: أن اللفظ إذا تجرد عن القرينة، فإن وجب حمله على حقيقته فهو المطلوب، لأن الدليل حينئذ يكون دالا عليه، والحمل على المجاز حينئذ يكون مخالفة لذلك الدليل فيكون خلاف الأصل، إذ الأصل في الدليل الأعمال لا الإهمال، وإن وجب حمله على مجازه فهو باطل أيضا، لأنه يلزم وجود المشروط بدون الشرط، لأن شرط حمل اللفظ على مجازه أن يكون معه قرينة صارفة عن الحقيقة وفاقا، ولأنه إذا لم يجز حمل المشترك على أحد مفهوميه إلا بقرينة تساويهما، فلأن لا يجوز حمله على المجاز مع أنه فرع الحقيقة كان أولى، وإن وجب حمله عليهما فهو باطل أيضا لما بينا أنه لا يجوز حمل اللفظ على مفهومين مختلفين، ولأنه يلزم أن يكون اللفظ حقيقة فيهما، لأنه لا معنى لكون اللفظ حقيقة في شيء إلا أنه يجب حمل اللفظ عليه عن تجرده عن القرينة. وإما أن لا يحمل على شيء منهما فهو أيضا باطل. أما أولا: فبالاتفاق. وأما ثانيا: فلأن اللفظ حينئذ يكون من المهملات لا من المستعملات. وثانيها: أنا قد ذكرنا أن الألفاظ وضعت معرفات لما في الضمائر، فكان الواضع قال: إذا سمعتم مني أني تكلمت بهذه اللفظة، فاعلموا: أني أردت به المعنى الفلاني، فمن تكلم بكلامه وجب أن يعني ذلك المعنى، وإلا كان متكلما بكلام آخر، وحينئذ يجب حمله عليه / (57/ب). وثالثها: استدل الكل بالاستعمال على الحقيقة، فلولا أنه تقرر عندهم أن

الأصل في الكلام هو الحقيقة، وإلا لما صح ذلك، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر فقال أحدهما: فطرها أبي أي اخترعها". وقال الأصمعي أنه قال: ما كنت أعرف معنى "الدهاق" حتى سمعت جاري بدوية تقول: "اسقني دهاقا" أي ملآن.

المسألة الثالثة عشرة [حمل اللفظ على المعنى اللغوي إن لم يكن له معنى سواه]

وبالجملة فكتب اللغة بأسرها شاهدة على ذلك. لأنهم إذا بينوا معنى لفظ فيها فقل ما يسندوا ذلك إلى النقل، بل استدلوا عليه بالاستعمال، إما في شعر أو في مثل، وذلك يدل على اتفاقهم أن الأصل في الكلام هو الحقيقة. ورابعها: المجاز يتوقف على وضع اللفظ لمعنى، وعلى نقله إلى غيره، واستعماله فيه عند من يعتبر الوضع فيه، وعلى شرط ذلك النقل، وهو المناسبة، وعلى قرينة تصرفه عن الحقيقة، وتدل على المجاز، والحقيقة لا تتوقف إلا على الوضع، والاستعمال، وما يتوقف على أكثر المقدمات يكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يتوقف على أقلها. المسألة الثالثة عشرة [حمل اللفظ على المعنى اللغوي إن لم يكن له معنى سواه] اللفظ إن لم يكن له معنى سوى اللغوي وجب حمله عليه.

وإن كان له بحسب العرف أو الشرع معنى آخر، فإن كانت دلالته عليه مساوية لدلالته على المعنى اللغوي، أو كانت راجحة عليها، لكن لم ينتبه الرجحان إلى أن يصير المعنى اللغوي مهجورا بالكلية، فإن اللفظ يكون كالمشترك بينهما، ورجحانه كرجحان بعض مفهومات المشترك على البعض، وإن صار مهجورا بالكلية، فاللفظ يجب حمله على المفهوم العرفي، أو الشرعي وعند الاجتماع يجب تقديم المعنى الشرعي، ثم العرفي ثم اللغوي ثم المجاز إن صدر اللفظ من الشارع، أما إن صدر من أهل العرف أو اللغة، فإنه يجب تقديم المعنى العرفي، أو اللغوي، لأن الظاهر من حال المتكلم أن يتكلم بكلامه. وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: يكون اللفظ مجملا بين الحقيقة الشرعية واللغوية، لأن الشارع كان يناطقهم بكلامهم، كما كان يناطقهم بكلامه، فلا يرجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح. وهذا تفريع منه على القول بالحقيقة الشرعية، وإلا فهو منكر لها. وهو ضعيف لما سبق. ولأن الغالب على كلامه استعمال الألفاظ في مفهوماتها الشرعية، فيجب تقديمه إلحاقا للفرد بالأعم والأغلب، ولأنه عليه السلام مبعوث لبيان المعاني الشرعية وأحكامها، وقد صلح اللفظ أن يكون بيانا لها فيضاف إليه.

ثم ليعلم أن الحقيقة اللغوية، إنما تقدم على المجاز اللغوي الذي / (58/أ) ليس هو براجح، أما إذا كان راجحا ولم ينته إلى أن يكون حقيقة فيه. فقد اختلفوا فيه: فذهب أبو حنيفة رضي الله عنه ومن تابعه إلى ترجيح الحقيقة المرجوحة. وذهب أبو يوسف إلى ترجيح المجاز الراجح. وتوقف فيه بعضهم

المسألة الرابعة عشرة في كيفية حمل اللفظ على معناه المجازي

وعزي ذلك إلى الشافعي رحمه الله، لأن الحقيقة، وإن كانت مرجوحة من حيث الاستعمال، لكنها راجحة من حيث إنها حقيقة، والمجاز وإن كان مرجوحا من حيث إنه مجاز، لكنه راجح من حيث الاستعمال، وإذا تقاومت الجهتان وجب التوقف. المسألة الرابعة عشرة في كيفية حمل اللفظ على معناه المجازي قد عرفت أنه إذا تعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي، وجب الحمل على المعنى المجازي، ثم المجاز إما أن يكون من نوع واحد، أو من أنواع مختلفة. وعلى التقديرين، إما أن يكون لحقيقة واحدة، أو لحقيقتين، أو للحقائق فإن كان الثاني: فالأمر في ترجيح بعض المجازات على البعض كما سبق في المشترك فلا حاجة إلى الإعادة

وإن كان الأول: وهو أن يكون المجاز لنوع واحد من الحقيقة، فإن كانت تلك المجازات مختلفة الأنواع، حمل اللفظ على الراجح منها. وقد عرفت فيما سلف، ما هو الراجح منها عند التعارض. وإن كان من نوع واحد فذلك النوع، إما أن يكون بعض مدلولات اللفظ بطريق الحقيقة، أو لا يكون كذلك بل هو خارج عنها. فإن كان الأول تعين الحمل عليه على رأي من يرى أن العام المخصوص حجة في الباقي. وإن كان الثاني: فأما إن كان نوعه في فرد واحد، أو أفراد كثيرة فإن كان الأول: تعين الحمل عليه]، وإن كان الثاني: فإما أن يكون بعض تلك الأفراد أولى من البعض أو لا يكون كذلك. فإن كان الأول: حمل اللفظ عليه رعاية لتلك الأولوية. وإن كان الثاني: فإما أن يمكن حصر تلك الأفراد عادة، أو لا يمكن، وعلى التقديرين، فإما أن يكون مع اللفظ قرينة تدل على اعتبار البعض أو إلغاء البعض، أو لا يكون معه قرينة فهذه أقسام ستة: أحدها: أن تكون محصورة ومع اللفظ قرينة تدل على اعتبار البعض، فإن كان ذلك البعض سواء كان واحدا، أو كثيرا حمل اللفظ عليه على المذهبين، وإن لم يكن معينا بل ليس فيها دلالة إلا على البعض، من حيث إنه بعض من غير تعيين كان القول فيه كما إذا لم يوجد قرينة. وثانيها: أن تكون محصورة، ومعه قرينة تدل على إلغاء البعض، فإن كان الباقي بعد الإلغاء واحدا تعين الحمل عليه، وإن كان أكثر من ذلك كان القول فيه كما إذا لم توجد القرينة.

وثالثها: أن يكون محصوره، وليس معه قرينة تدل على اعتبار البعض، ولا على الغائبة / (58/ب)، فاللفظ إما أن يكون عاما أو خاصا. فإن كان الأول فمن جوز منهم استعمال اللفظ في مفهومين مختلفين، قال: يحمل اللفظ على جميع تلك الأفراد كلها، ومن لم يجوز ذلك، فحكمه عنده كحكم الخاص وسيأتي. وإن كان الثاني: وهو أن يكون اللفظ خاصا، فالمجوزون لحمل اللفظ على المفهومين المختلفين، قالوا: بحمل اللفظ على تلك الأفراد بأسرها على البدل، إذ اللفظ ليس بعام حتى يحمل على الجمع، وليس البعض أولى من البعض، والتعليل بالكلية باطل بالاتفاق، فيتعين الحمل على البدل. هذا [ما] نقله الإمام. وفيه نظر. وهذا لأن قياس مذهبهم، يقتضي حمله على الكل بطريق الشمول، إذ ليس عندهم من شرط حمل اللفظ على المفهومين المختلفين أن يكون اللفظ عاما، وإلا لم يجز حمل المشترك على كلا مفهوميه حالة الإفراد من غير لام التعريف، ومن غير ما يقوم مقامه، كالإضافة لكنه جائز عندهم، وكيف لا، والقوم جوزوا ذلك في الأفعال كما في قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}، وقوله:

{أو لامستم النساء}. ومعلوم أن الفعل لا عموم له، وكلام القاضي في "العمدة" يدل أيضا على ما ذكرناه، وأما من لم يجوز، فاللفظ يبقى عنده مجملا بين تلك الأفراد، وحينئذ لابد من البيان. ورابعها وخامسها: أن تكون الأفراد غير محصورة ومع اللفظ قرينة تدل على اعتبار البعض، أو الغائبة، والحكم فيها كما في نظيرتهما من المحصورة من غير فرق. وسادسها: أن يكون الأفراد غير محصورة، وليس معه قرينة تدل على الاعتبار، ولا على الإلغاء، فاللفظ، إما أن يكون عاما أو خاصا [فإن كان خاصا] قال القاضي عبد الجبار: لابد من دلالة معينة لتعذر الحمل على الكل، مع أنه متعذر الحصر. قال أبو الحسين البصري: هذا غير مستقيم على رأيه، فإنه يجوز استعمال

اللفظ في مفهومين مختلفين، فيمكن حمله على الكل بطريق البدل. نعم يليق ذلك بمذهب من لم يجوز ذلك، لأن اللفظ لم يوضع للتحسين حتى يمكن الحمل على الكل بطريق البدل.

"الفصل الرابع عشر" في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز

الفصل الرابع عشر في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز

الفصل الرابع عشر في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز وفي مسائل: المسألة الأولى في الفرق بين الحقيقة والمجاز اعلم أن الفصل بين الحقيقة والمجاز، تارة يقع بالتنصيص، وتارة بالعلامات. أما الأول: فهو أن يقول الواضع: هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى مجاز في هذا المعنى "أو يقول ذلك أئمة اللغة إذ الظاهر أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن ثقة / (59/أ) أو يقول الواضع هذا حقيقة أو مجاز". فيثبت بهذا أحدها وهو ما نص عليه. فإن أردت أن تثبت بواسطة هذا أن يكون ذلك اللفظ مجازا في غيره في الأول، وحقيقة في غيره في الثاني، وجب أن نضم إليه مقدمة أخرى.

فنقول: في الأول: إذا ثبت أنه حقيقة في هذا، وجب أن يكون مجازا في غيره وإلا لزم الاشتراك، وأنه خلاف الأصل. ونقول في الثاني: وإذا كان مجازا في هذا، وجب أن يكون حقيقة في غيره، وإلا لزم تكثير المجاز، وأنه خلاف الأصل، لكن لم يكونا على هذا النمط من طرق التنصيص، بل من المركب منه، ومن الاستدلال. وأما العلامات فهي أمور: أحدها: أن يتبادر المعنى إلى فهم جماعة من أهل اللسان، عند سماع اللفظ من غير قرينة، والمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة، وما لا يتبادر إليه فهو المجاز. لا يقال: ما ذكرتم منقوص طردا وعكسا. أما الطرد: فلأن المجاز المنقول، والمجاز الراجح، مما يتبادر معناهما المجازيين إلى الفهم عند اطلاقهما من غير قرينة دون حقيقتهما. وأما العكس: فلأن المشترك حقيقة في مدلولاته مع أنه لا يتبادر شيء

منهما إلى الفهم بدون القرينة. لأنا نقول: أما المنقول: فغير وارد، لأن المنقول إليه إنما يتبادر إلى الفهم عند سماع المنقول، لأنه حقيقة فيه، وكونه مجازا فيه أيضا لا ينافي كونه حقيقة فيه كما ستعرف أن اللفظ الواحد في المعنى الواحد يجوز أن يكون حقيقة ومجازا باعتبار وضعين. وأما عدم تبادر الحقيقة الأصلية، فالأصل أنها صارت الآن مجازا عرفيا. وأما المجاز الراجح: فإنه وإن تبادر معناه المجازي بدون القرينة لكنه نادر، والتبادر في الأغلب لا يوجد إلا في الحقيقة، وتخلف المدلول عن الدليل الظني لا يقدح فيه، ألا ترى أن الغيم الرطب في الشتاء دليل وجود المطر منه، وتخلف عنه في بعض الأوقات لا يقدح في كونه دليلا عليه لاسيما في المباحث اللغوية، والأمارات الإعرابية، وأما اللفظ المشترك: فإنه حقيقة في إفادة أحد المعنيين لا بعينه، وهذا المعنى يتبادر إلى الفهم عند إطلاقه وسماعه بدون القرينة. والذي لا يتبادر إلى الفهم هو أحدهما عينا، وهو ليس بحقيقة "وقد عرفت ما في هذا الجواب من الإشكالات من قبل. ويمكن أن يقال عليه لو كان المشترك حقيقة" في إفادة أحد المعنيين

لكان متواطئا، لأن هذا المفهوم مشترك بين ذينك المعنيين على السوية وهو خلف. وثانيها: أن أهل اللغة / (59/ب) إذا حاولوا تعريف الشيء لغيرهم عبروا عنه بلفظ مخصوص، وإذا حاولوا أن يعبروا عن شيء آخر بذلك اللفظ لم يقتصروا عليه بل ضموا إليه ما به يتبين المراد. فنعلم أن اللفظ حقيقة في الأول، ومجاز في الثاني، ومنه: "جناح الذل"، و "نار الحرب"، و "رحى الحرب". وثالثها: أن يصح نفي اللفظ عن معناه المجازي، في نفس الأمر دون معناه الحقيقي. ولهذا لما كان الحمار مجازا في "البليد" "إذ" يصح أن يقال: إنه ليس بحمار بل هو إنسان، ولا يصح أن يقال أنه ليس بإنسان. وإنما قيدنا بصحة النفي في نفس الأمر، احترازا عن قول: من قال: في إنسان ظنه جرثومة أو حيوانا آخر أنه ليس بإنسان، فإن هذا النفي

لما لم يكن في نفس الأمر، لم يدل على كونه مجازا فيه. لا يقال: إنما يصح نفي اللفظ عن معنى إذا عرف كونه مجازا فيه، لأن المعنى من قولك: البليد: ليس بحمار، أي أن الحمار ليس موضوعا بإزاء البليد، فلو عرف كونه مجازا فيه بصحة النفي لزم الدور وأيضا: فإنا لا نسلم: أن الحقيقة لا يصح نفيها، إذ يصح أن يقال: في عرف الاستعمال لمن لا مروءة له ولا عقل يسدده أنه ليس بإنسان، ولا هو ابن آدم. لأنا نقول: لا نسلم أن معنى قولنا: البليد ليس بحمار هو ما ذكرتم، بل معناه البليد ليس بحيوان ناهق، وقد ثبت أن الحمار حيوان حقيقة فيه، فنفي الحيوان الناهق عن البليد يستلزم نفي لفظ الحمار عنه، وإلا لزم الاشتراك، وهو خلاف الأصل، فصحة النفي لا يدل على التجوز إلا مع هذا الأصل. ولئن سلمنا: أن معنى قولنا: البليد ليس بحمار، هو ما ذكرتم، لكن لا نسلم أن صحة النفي يتوقف على معرفته حتى يلزم توقف صحة النفي على معرفة كونه مجازا فيه، بل العارف باللغة وبمواقعها، قد يحكم بفطرته السليمة بصحة سلب اللفظ عن معنى، وإن لم يكن قد عرف قبله أنه غير موضوع بإزائه بطريق آخر، بل ربما استدل عليه بما يجده في نفسه من صحة السلب. وعن الثاني: أن ذلك لظنهم أن الإنسان إنما هو حقيقة فيمن اتصف من بني

آدم بالصفات المرضية والخصائل الحميدة لا لمطلق بني آدم، ولهذا يقولون. الإنسان في الحقيقة، من اتصف بكيت وكيت من الصفات الحميدة التي يتميز الإنسان بها عن سائر الحيوانات. ورابعها: أن نعلق الكلمة بما يستحيل تعليقها به، فيعلم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له فيكون مجازا فيه كقوله تعالى {واسأل القرية}. هذا ما ذكره الإمام وغيره. وفيه نظر، لأن المجاز العقلي نحو "أخرجت الأرض / (60/أ) أثقالها" و "مما تنبت الأرض" كذلك مع أنه ليس مجازا لغويا، اللهم إلا أن يرد بقوله: بما يستحيل تعليقها به، نظرا إلى الوضع اللغوي لكنه باطل، لأنه قد اعترف أن أمثلة الأفعال لا دلالة لها على خصوصية الفاعلين، ومعلوم أيضا أنه لا دلالة لها على خصوصية المفعولين، فلم يكن التعليق بالمستحيل علامة المجاز اللغوي. وخامسها: وهو مما ذكره الغزالي- رحمه الله- وهو أن الحقيقة جارية على الاطراد، والمجاز عكسه. وهذا يجب تقييده بأمرين: أحدهما: بالوجوب أي يجب أن تكون جارية على الاطراد لئلا يرد المجاز المطرد نقضا على طرده، فإنه وإن كان مطردا لكنه لا يجب طرده

بدليل عدم اطراد مثله من المجاز. وثانيهما: بشرط عدم المانع، أي يجب أن تكون مطردة إن لم يمنع منه مانع شرعي، أو عقلي، أو لغوي، لئلا يرد مثل "السخي" و "الفاضل" بالنسبة إلى الله تعالى نقضا على عكسه. اعترض الإمام عليه: بأنه إن أراد بجريان الحقيقة على العموم جريانها في موارد نص الواضع فالمجاز كذلك، وإن أراد به إلحاق المسكوت بالمنطوق به في جواز استعمال اللفظ فيه لجامع مشترك بينهما، فهذا قياس في اللغة، وهو لا يقول به. وجوابه: لعله ذكر هذه العلامة تفريعا على جواز القياس في اللغة. ولئن سلم: أنه ليس كذلك، لكن لا يلزم من نفي القسم الأول، القسم الثاني، أو إن لزم، لكن لا يلزم منه صحة القياس في اللغة، لجواز أن يكون اطرادها كاطراد أسماء الفاعلين، والمفعولين، وأسماء الصفات، كالعالم فإنه لما استعمله، والواضع في ذي علم واحد بطريق الحقيقة، علمنا صدقه على كل ذي علم بطريق الحقيقة. وقد عرفت أن هذا الباب ليس من القياس في شيء، بل هو معلوم بالضرورة من قواعد كلامهم، وليس أنه إذا استعمل الواضع اللفظ بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجب أن يصدق مثله، في كل موضع حتى يجوز أن يقال: "واسأل البساط"، و "الكون" بمعنى أهل

البساط، وأهل الكون. وسادسها: أن يكون الاسم له معنيان، وقد اتفق على أنه حقيقة في أحدهما، وجمعه بذلك المعنى الحقيقي المتفق عليه، مخالف لجمعه بالمعنى الآخر، فيعلم أنه مجاز في هذا الآخر وإلا لزم الاشتراك، وأنه خلاف الأصل. فاختلاف الجمع لا يدل على التجوز إلا مع هذا الأصل، وإلا فليس له إشعار بكون اللفظ حقيقة في معناه أو مجازا، ولأنه يجوز أن يكون للاسم بحسب معنى حقيقي جمع، وبحسب معنى حقيقي آخر جمع آخر مخالف / (60/ب) له ليكون دليلا على تعيين أحد المسميين حالة الجمع، فعلى هذا لا يكون اختلاف الجمع دليلا على التجوز، ولا يخفى عليك أن ما قيل إن الجمع إنما هو للاسم لا للمسمى، فاختلافه لا يكون مؤثرا في اختلاف الجمع، لا يصلح جوابا عنه، وبتقدير صحته، فهو وارد عليه أيضا على تقدير التجوز لأن الاسم في المعنى الحقيقي والمجازي "واحد فاختلاف مسماه الحقيقي والمجازي" وجب أن لا يكون مؤثرا في اختلاف جمعه لما ذكره

وسابعها: أن يكون اللفظ له معنى حقيقي متفق عليه، وله تعلق بالغير، فإذا استعمل فيما لا تعلق له بذلك الغير كان مجازا. مثاله: القدرة. فإنها حقيقة في الصفة المؤثرة في الإيجاد، ولها تعلق بالقادر، والمقدور، وإذا استعملت في نفس المقدور، كما في قولهم: هذا قدرة الله في النبات الحسن، لم يكن له ذلك التعلق. فيعلم أنه مجاز فيه، وهذا إنما يتم بما ذكرنا من أن الأصل عدم الاشتراك، وإلا فيجوز أن يكون له بحسب إحدى الحقيقتين متعلق دون الأخرى. ولقائل أن يقول: هذا وما قبله إذا كان لا يتم إلا بأن الأصل عدم الاشتراك وهو وحده دليل تام على التجوز مهما استعمل اللفظ في معنيين، وثبت أنه حقيقة في أحدهما، فالتعرض لاختلاف الجمع وكون مسماه متعلقا بالغير وصحة النفي يكون ضائعا. وثامنها: أن يكون اللفظ مستعملا في معنيين، ولم يعلم أنه حقيقة في أيهما أو فيهما، لكن استعماله في أحدهما يتوقف على استعماله في الآخر، فيعلم أنه مجاز في المتوقف فيه، لأن توقف استعماله فيه على استعماله في غيره يصير كالقرينة، وأنها آية التجوز، ولكن لا يعلم من هذا أنه حقيقة في غير المتوقف، فإذا ضم إليه دليل آخر نحو تبادر الفهم إليه، أو دل دليل مثل الإجماع وغيره على أنه ليس بحقيقة في غيرهما، فيعلم أنه حقيقة فيه مثاله: المكر [فإن استعماله في الله تعالى بمعنى إجراء المكر يتوقف على] استعماله

في العباد بمعنى الخداع من غير عكس، فيعلم أنه مجاز. وتاسعها: أن يكون اللفظ مستعملا في معنيين، ويشتق منه بحسب أحد المعنيين ما يمكن الاشتقاق منه، من اسم الفاعل والمفعول وغيرهما، ولا يشتق منه ذلك بحسب المعنى الآخر، مع عدم المانع منه فيعلم أنه مجاز فيه، وحقيقة في الأول، مثاله: لفظ "الأمر" فإنه مستعمل في القول المخصوص والفعل- كما سيأتي إن شاء الله تعالى- لكنه لما كان حقيقة في القول المخصوص "لا جرم اشتق منه / (61/أ) الأمر المأمور به، ولما لم يكن حقيقة في الفعل" لم يشتق منه شيء من ذلك، وإنما قيدنا بعدم المانع منه، احترازا عن مثل "القارورة" فإنها مشتقة من قرار المائع، وهو موجود في الخوابي والجرار مع أنه لا يقال لها بقارورة لوجود المانع منه، إما عن أهل اللغة أو العرف. ولا يرد على طرد هذه العلامة "الرائحة"، فإنها وإن كانت حقيقة في معناها لكن إنما لا يشتق منها، لأنه لا يمكن الاشتقاق منها إذ ليس فيها معنى الحدث، ألا ترى أن التزوج لما أمكن الاشتقاق منه اشتق منه المتزوج. فإن قلت: ولئن سلم: أن الاشتقاق دليل الحقيقة، لكن لا نسلم أن عدمه دليل التجوز، لجواز أن يكون الاسم بحسب إحدى الحقيقتين اشتقاق دون

المسألة الثانية في بيان أن اللفظ الدال على معنى قد لا يكون حقيقة ولا مجازا لغويا

الأخرى. قلت الجواب عنه من وجهين: أحدهما: ما سبق من أن الأصل عدم الاشتراك. وثانيهما: أنا لما وجدنا عدم الاشتقاق مرتبا على المجاز المناسب له لئلا يلزم تكثير المخالفة فيما ذكرنا من الصور، غلب على ظننا أن علته هي كونه مجازا، ولا تثبت مجازية ما ذكرنا من الصورة بهذه العلامة لئلا يلزم الدور بل بغيرها من العلامات، فحينئذ يكون عدم الاشتقاق معلول كونه مجازا فيستدل به على التجوز استدلالا بالمعلول على علته. فإن قلت: الاستدلال بالمعلول المعين على العلة المعينة مشروط ببيان انحصار الغلبة في تلك العلة المعينة، لجواز أن يكون الحكم الواحد معللا بعلتين مختلفتين بالنوع، وأنتم ما فعلتم ذلك. قلت: إنا وإن جوزنا تعليل الحكم الواحد النوعي بعلتين مختلفتين بالماهية النوعية، لكن الأصل في ذلك الاتحاد فيكفينا أن نتمسك بهذا الأصل، لأن المثبت به الظن لا القطع. المسألة الثانية في بيان أن اللفظ الدال على معنى قد لا يكون حقيقة ولا مجازا لغويا فمن ذلك: الأعلام المنقولة: فإنها ليست بحقيقة، ولا مجاز.

أما الأول: فظاهر، إذ الواضع لم يضعها لتلك المسميات. وأما الثاني: فلأن النقل ليس لمناسبة بين المعنى الأول، وبين المعنى الثاني. ومنه الأسماء المخترعة: ممن ليس له الوضع، سواء كانت أعلاما أو أجناسا، أما أنها ليست بحقيقة، فلأن واضع اللغة لم يضعها لشيء أصلا، ولا أهل اللسان يعرفها حتى تجعل عرفية عامة أو خاصة. وأما أنها ليست مجازا فلأن المجاز يستدعي وضعا سابقا عليه / (61/ب) على ما عرفت ذلك في تحديده، وهو غير حاصل فيها. ومنه اللفظ في أول الوضع قبل استعماله فيما وضع له: فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز فيه. أما الأول: فلعدم الاستعمال فيه. وأما الثاني: فلعدم النقل. وأما في غيره فيمكن أن يكون مجازا فيه، إذ الاستعمال فيه لمناسبة بينه وبين الموضوع الأول قبل الاستعمال فيه ممكن. ومن هذا تعرف أن المجاز لا يستدعي سبق الحقيقة، بل سبق الوضع فقط. ولا يلتفت إلى قول من يقول: إنه لو لم يستدع الحقيقة لعرى الوضع عن الفائدة، لأن الفائدة غير منحصرة في استعمال اللفظ فيما وضع له، نعم

المسألة الثالثة في أن اللفظ الواحد قد يكون حقيقة أو مجازا

المقصود الأصلي [من الوضع، ذلك لكنه قد يحصل بعد استعماله في غير ما وضع له، وحينئذ لا يلزم خلوه عن المقصود الأصلي] أيضا، وأما غير هذه الألفاظ من الألفاظ الدالة على المعاني فإنها لا تخلو عن كونها حقيقة أو مجازا. المسألة الثالثة في أن اللفظ الواحد قد يكون حقيقة أو مجازا "أما بالنسبة إلى معنيين فظاهر، وأما بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار الوضعين فقد يكون أيضا حقيقة ومجازا"، لأن اللفظ الموضوع للمعنى العام، إذا خصه العرف العام، أو الشرع ببعض أنواعه، كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى ذلك المعنى العام حقيقة لغوية [ومجازا عرفيا، وبالنسبة إلى ذلك النوع بالعكس. ومن هذا تعرف أن الحقيقة قد تصير] مجازا، وأن المجاز قد يصير حقيقة. وأما أنه يكون كذلك بالنسبة إلى معنى واحد باعتبار واحد، فذلك غير ممكن لاستحالة اجتماع النفي والإثبات.

{الفصل الخامس عشر} في الحروف

الفصل الخامس عشر في الحروف

الفصل الخامس عشر في الحروف إنها لما كانت من جملة كلام العرب، وجب على الباحث عنه أن يبحث عنها وكيف لا؟ والأحكام الفقهية قد تختلف بسبب اختلاف معانيها، لكن فيها كثرة يطول ذكر جميعها، فلنذكر منها ما تمس الحاجة إليه. المسألة الأولى في الحروف العاطفة [الواو] ولنبدأ بالواو منها، فإنها أصل الباب. فنقول: اتفق الأكثرون من الأدباء والفقهاء على أنها لمطلق الجمع، من غير أشعار بالترتيب والمعية. ونص سيبويه عليه في مواضع من كتابه. وقال بعضهم إنها للترتيب، ونسب الحنفية ذلك إلى الشافعي- رضي

الله عنه- من غير ثبت بل ظنا منهم، أنه إنما أوجب الترتيب في الوضوء، لكون الواو العاطفة مقتضيا له. ونسب ذلك إلى الفراء.

أيضا. [ونقل عنه أيضا]، أنها للترتيب حيث يتعذر الجمع. وقيل: أنها للجمع بصفة المعية: ونسب ذلك إلى أبي يوسف ومحمد. رحمهما الله. واستدل عليه بما قال: إنه لو قال الرجل لامرأته قبل الدخول بها: إن

دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق، فدخلت بانت بالثلاث، كما لو قال لها: أنت طالق/ (62/أ) ثلاثا، أن دخلت الدار. ومما قال: إن زوج الأختين في عقد واحد من غير إذن الزوج فبلغه الخبر، فإن أجاز نكاحهما معا بطل نكاحهما، وإن أجاز نكاح أحديهما قبل الأخرى بطل نكاح الثانية، وإن قال: أجزت نكاح فلانة، وفلانة، فهو كما لو قال: أجزت نكاحهما معا. ولا يخفى عليك ما في هذا الاستدلال من الضعف هذا كله في "الواو" العاطفة.

[واو المعية] أما "الواو" بمعنى مع في المنقول معه، فلا خلاف أنها تقتضى الجمع صفة المعية كما في قولهم: جاء البرد والطيالسة. احتج الأكثرون بوجوه: أحدها: أن "الواو" لو كانت للترتيب لما جاز دخلوها فيما لا يتصور فيه الترتيب"، كقولهم "تقاتل زيد وعمرو"، إذ المفاعلة حقيقة في صدور الفعل من الجانبين معا كما لا يجوز دخول "الفاء وثم" فيه لكنه يجوز، فوجب أن لا يكون للترتيب. فإن قلت: ماذا تعنى بقولك: لو كانت الواو للترتيب لما جاز دخولها فيما لا يتصور فيه الترتيب، تعنى به مطلقا، أما بطريق الحقيقة؟ فإن عنيت به الأول فممنوع، وأما القياس على "الفاء" و "ثم" فغير مفيد. أما أولا: فلأنه قياس في اللغة، وهو ممتنع على ما تقدم. ولئن سلمنا: صحته في الجملة، ولكن لا نسلم صحة هذا القياس، إذ الفرق قائم وهو "بيان" أنهما يقتضيان الترتيب بصفة التعقيب والتراخي والواو ليست كذلك، بل هي لمطلق الترتيب، ومع قيام الفرق لا يصح القياس.

وأما ثانيا: فلأن المجاز غير لازم الاطراد لاسيما مع اختلاف اللفظ. وإن عنيت به الثاني: فنقول: ما المراد من قولك: "لو كانت حقيقة في الترتيب لما جاز دخلوها فيه"؟ تريد به أنها لو كانت للترتيب بطريق الانفراد، أم بطريق الاشتراك. فإن أردت به الأول: فهو مسلم لكن القياس على "الفاء" و "ثم" حينئذ يكون مستدركا، لأنا نعلم بالضرورة أنها لو كانت للترتيب بطريق الانفراد لما جاز دخولها بطريق الحقيقة على غير الترتيب. وإن أردت به الثاني فممنوع، لجواز أن يكون حقيقة في الترتيب وفي الجمع المطلق، بالاشتراك اللفظي، فلا يمتنع دخولها حينئذ فيما لا يتصور فيه الترتيب بطريق الحقيقة، بمعنى مطلق الجمع. سلمنا: صحة دليلكم، لكنه يقتضى أن لا تكون الواو للترتيب فقط ولا يقتضى أن لا تكون حقيقة فيه بطريق الاشتراك. قلت: نعني به عدم جواز الدخول مطلقا والدليل عليه وجهان:- أحدهما: هو ما ذكرناه. قوله: أنه قياس في اللغة. قلنا: لا نسلم/ (62/ب) بل هو استدلال لعدم جواز استعمال اللفظ في معنى "على" عدم جواز استعمال ما هو مثله فيه، وليس ذلك من القياس في شيء، بس هو معلوم بالضرورة، كاطراد أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات، ووجوب قيام كل واحد من المترادفين مقام الآخر، إذا كان من لغة واحدة. [فإن] قلت: "الواو" بتقدير أن تكون للترتيب فهي ليست بمعنى

"الفاء" و "ثم" فلم يكن الاستدلال من قبيل ما ذكرتم من الدلالة. قلت: الأمر وان كان على ما ذكرتم، لكن من المعلوم بالضرورة أنه إنما امتنع عن استعمال "الفاء" و "ثم" فيما لا يتصور فيه الترتيب لكونهما دالين على الترتيب المنافي للمعية، لا بخصوصية التعقيب والتراخي، و "الواو" بتقدير أن تكون للترتيب يشاركها في كونها دالة عليه فتكون "الواو" وكـ "الفاء" و "ثم" في هذا الأمر. سلمنا: أنه قياس في اللغة، لكن قد ذكرنا ما يدل على صحته، وأما الفرق فيد تقدم جوابه. قوله: ثانيا المجاز غير لازم الاطراد، قلنا: ليس هذا الباب منه في شيء. وثانيهما: أنها لو دخلت على ذلك التقدير فيما لا يتصور فيه الترتيب، فإما أن يكون بطريق الحقيقة، وحينئذ يلزم الاشتراك، وهو على خلاف الأصل، وبطريق التجوز، وهو أيضا خلاف الأصل، فلا يجوز دخولها مطلقا. وثانيها: لو كانت "الواو" للترتيب، لكان قوله تعالى في البقرة: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} مناقضا لقوله تعالى في الأعراف: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} لاتحاد القصة، واللازم باطل فالملزوم مثله.

وثالثها: لو كانت "الواو" للترتيب، لكان قولنا: "جاء زيد وعمرو بعده" تكريرا و "قبله" نقضا، ولكان قولنا "جاز زيد وعمرو" كذبا عند مجيئهما معا. ورابعها: لأنها لا تفيد الترتيب في قوله تعالى: {واسجدي واركعي} لتقديم الركوع على السجود، وفي قوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة} {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وفي قوله تعالى {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} والأصل هو الحقيقة الواحدة فوجب أن لا تكون للترتيب. وخامسها: السيد إذا قال لعبده: اشتر اللحم والخبز لم يذم العبد لو اشترى الخبز أولا ثم اشترى اللحم، ولو كانت "الواو" للترتيب لذم لمخالفته السيد، كما إذا قال: اشتر اللحم أولا ثم اشتر الخبز. وسادسها: لو كانت للترتيب لما حسن الاستفسار في قول القائل: جاء زيد

وعمرو عن تقدم أحدهما/ (63/أ) وتأخر الآخر. وسابعها: قوله عليه السلام:"أبدأوا بما بدأ الله" حين سئل عما

يبدأ في السعي، أبالصفا والمروة؟ ولو كانت للترتيب لما سئل عنه لوجود ما يدل عليه، ولا يعارض هذا بمثله، وهو أنها لو كانت لمطلق الجمع لما احتاجوا إلى السؤال أيضا، لأن السؤال حينئذ يكون واقعا عما لا يتعرض له اللفظ "نفيا وإثباتا، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك من الأنواع لا دلالة له على تلك الأنواع" لا نفيا ولا إثباتا، فلا يكون السؤال واقعا حينئذ عن شيء مع وجود دليله، بل غايته أنه لا حاجة إلى السؤال، لأنه يخرج عن عهدة التكليف بأيهما يبدأ نظرا إلى البراءة الأصلية، لكنه يجوز أن يسأل للاحتياط ودفعا للمجاز القريب، وهو إطلاق العام وإرادة الخاص، وأما على التقدير الأول يكون السؤال واقعا عما وجد دليله والسؤال

عن مثله عيب. وثامنها: أن أهل اللغة قالوا: "واو العطف" في الأسماء المختلفة "كواو الجمع" في الأسماء المتفقة و "واو الجمع" لا تفيد الترتيب وفاقا، فكذا "واو العطف" وإلا لم تكن كهي. فإن قلت: تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضى الاشتراك في كل الأمور، بل يكفى فيه اشتراكهما في أمر من الأمور و "واو الجمع" و "العطف" يشتركان في إفادة الاشتراك في الحكم فيكفى ذلك في صدق قولهم: وحينئذ لا يلزم أن لا يكون "واو للعطف" للترتيب. قلت: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنهم نصوا على أن فائدة أحدهما عين فائدة الأخرى، وذلك يقتضى ألا يقع الاكتفاء بالاشتراك في أمر من الأمور. وثانيهما: أن نسلم أن الاشتراك في أمر من الأمور كاف في التشبيه، لكن نقول: لا يطلق التشبيه في الأغلب إلا إذا كان الاشتراك واقعا في كل الأمور وفي الأكثر، وإلا فيقيد بذلك النوع المخصوص، فإطلاقهم التشبيه يدل ظاهرا على أنها ليست للترتيب، والمباحث اللغوية لا تنتهي إلى

القطع فيكتفى به. وتاسعها: أن الجمع المطلق معنى معقول تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فالظاهر أن الواضع وضع له لفظا، وليس ذلك غير "الواو" بالإجماع فهو "هي". ويلزم من هذا أن لا تكون للترتيب دفعا للاشتراك. ولو عورض هذا بمثله، وقيل "أن" الترتيب المطلق أيضا معنى معقول تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فالظاهر أن الواضع وضع له لفظا مفردا وليس ذلك غير "الواو" وفاقا فتعين أن يكون هو "الواو" ويلزم من/ (63/ب) هذا أن لا يكون لمطلق الجمع دفعا للاشتراك. فنحن نرجع الأول: بأنه أعم فتكون الحاجة إليه أكثر. وعاشرها: لو أفادت "الواو" الترتيب لصح دخولها في جواب الشرط، لكن لا يصح، فوجب أن لا يفيده، وأما انتفاء اللازم فبين. وأما الملازمة فلأن الشرط لا يقتضى إلا كونه مرتبا عليه "والواو" تفيد [هذا] القدر فوجب القول بصحة الدخول قياسا على صحة دخول سائر الألفاظ الملائمة معناها لمعنى الترتيب. واحتج من قال أنها للترتيب بوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {واركعوا واسجدوا}. وثانيها: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لمن قام خطيبا بين يديه وقال: من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى: "بئس خطيب القوم أنت، قل من عصى الله ورسوله فقد غوى" ولو لم تكن الواو للترتيب

لم يكن بين العبارتين فرق.

وثالثها: قوله عليه السلام للصحابة: "أبدأوا بما بدأ الله" حين سئل عماذا نبدأ في السعي، فإنه يدل على فهمه عليه السلام الترتيب من الآية. ورابعها: إنكار الصحابة على ابن عباس- رضي الله عنهما- في أمره إياهم بالعمرة قبل الحج، واحتجاجهم عليه في ذلك، بقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}، فولا أنهم فهموا من الآية الترتيب لما أنكروا ذلك عليه، ولما صح احتجاجهم بها عليه، وفهمهم حجة، لأنهم من أهل

اللسان. وخامسها: ما روى عن عمر رضي الله عنه "أنه قال" لما أنشد: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ...

لو قدمت الإسلام لأجزتك، وذلك يدل على فهمه رضي الله عنه منها الترتيب. وسادسها: ما تقدم من أن الترتيب أمر معقول تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فلابد له من لفظ دال عليه، وترجيحكم مطلق الجمع بكونه اعم، معارض بما إنا لو جعلناها حقيقة في الترتيب أمكن جعلها مجازا عن مطلق الجمع لكونه لازما [له] ولو جعلناها حقيقة في مطلق الجمع لم يمكن جعلها مجازا في الترتيب لكونه غير لازم له، وهذا على رأى من يشترط

اللزوم في التجوز ظاهرا، وأما على رأى من سلم يشترط ذلك بل يكفى فيه بالمناسبة، المعتبرة فإنه وإن أمكن جعلها مجازا فيه لكنه حينئذ يكون من قبيل إطلاق اسم اللازم على الملزوم، أو الجزء على الكل، وعلى التقدير الأول يكون عكسه، وقد عرفت أنه عند التعارض أولى. وسابعها: أن الترتيب في الذكر، لابد وأن يكون له سبب، والترتيب [في] الوجود يصلح أن يكون سببا له فيضاف إليه. لا يقال/ (64/أ): هذا الدليل يقتضى أن يكون ما ليس بمتقدم متقدما، وما ليس بمتأخر متأخرا، لأنه إذا علم حصول المعطوف والمعطوف عليه. أو بالترتيب لكن قدم في اللفظ ما هو المتأخر في الوجود أمكن سرد هذا الدليل فيه فيلزم المحذور المذكور. لأنا نقول: ترك مقتضى الدليل لمعارض لا يقدح فيه. وثامنها: لو قال الزوج لغير المدخول بها: "أنت طالق، وطالق، وطالق" طلقت واحدة، ولو كانت للمجمع لوقع الثلاثة، كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثا. والجواب عن الأول: أن لا نسلم تقدم الركوع على السجود مستفاد من الآية، بل من فعله عليه السلام، وقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

وغيره من الأدلة الدالة على وجوب التأسي به. وعن الثاني: بمنع الملازمة، وهذا فإن "الواو" وإن كان لمطلق الجمع كان بين العبارتين فرق، وهو أن الإفراد في الذكر أدخل في التعظيم، ثم الذي

يدل على أن الأمر يتغير كان كذلك هو أن الترتيب غير متصور بين معصية الله ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم لكونهما متلازمتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى والأمر لا يرد بتحصيل مثله فيتعين أن يكون الأمر بما ذكرنا، إما لعدم احتمال معنى آخر أو وإن كان محتملا لكن الأصل عدمه. وعن الثالث: منع أنه عليه السلام فهم الترتيب من الآية. وهذا لأنه لو كان كذلك لعلل بالـ "الواو" لا بالابتداء. وعن الرابع: بمنع الملازمة فإنه وإن جعل "الواو" لمطلق الجمع كان الإنكار مستقيما أيضا، والاحتجاج بالآية على نفي وجوب تقديم العمرة على الحج صحيح، نعم لو احتجوا بالآية على قد ما كان يأمرهم به، وهو تقديم الحج على العمرة لا على نفي ما كان يأمرهم به، لم يكن ذلك دليلا أيضا على أنهم فهموا الترتيب من "الواو" حتى تكون "الواو" للترتيب لجواز أن يكون ذلك سبب الابتداء بالذكر كما فهمه عليه السلام من آية السعي. ولئن سلم: صحة الملازمة لكن فهمهم الترتيب منها معارض بعدم فهمه- رضي الله عنه- إذ لو فهم الترتيب منها، فأمره بتقديم العمرة على الحج لابد وأن يكون لدليل آخر غير الآية، وإلا لكان ذلك مخالفة للدليل من غير دليل، وهو باطل.

وحينئذ يلزم التعارض وهو خلاف الأصل، ولما كان اللازم باطلا فالملزوم مثله، ولا يجاب عنه بأن فهم الترتيب، معارض بأمر ابن عباس- رضي الله عنه- إياهم بتقديم العمرة على الحج، كما أجاب به الإمام وغيره/ (64/ب). لأن ذلك غير مستفاد من الآية، سواء كانت "الواو" للجمع أو للترتيب فلا يكون معارضا له. وعن الخامس: لأن ذلك بناء على أن الأدب، تقديم الأفضل بالذكر، لأن ما يستحق الترتيب طبعا يستحق التقديم وضعا. وعن السادس: المعارضة بكثرة الاستعمال، فإن كثرة استعمالها في الجمع يدل على أنها حقيقة فيه، وإلا لزم تكثير المجاز وهو خلاف الأصل. وعن السابع: أنه دليل مستقل على أن الابتداء بالذكر يفيد الترتيب، لا أن "الواو" تفيده. ولئن سلمنا: ذلك لكنه لا يفيد كون "الواو" للترتيب من جهة الوضع بل من جهة أخرى، والنزاع إنما وقع في كونها هل تفيد الترتيب من جهة الوضع أم لا؟ وما ذكرتموه لا يفيده.

وعن الثامن: بمنع الحكم. فإن عند البعض، كمالك، وأحمد وأبي حنيفة- رضي الله عنهم- يقع الثلاث. ولئن سلمنا: لكن إنما لا يقع الثلاث، لأن الكلام الثاني والثالث ليسا مفسرين للأول حتى يتم به، والمرأة قد بانت بالطلقة الأولى، فلم تلحقها الثانية والثالثة، بخلاف قوله: "أنت طالق طلقتين" أو "ثلاثا"، فإن الثاني تفسير للأول، والكلام إنما يتم بآخره.

المسألة الثانية في بقية الحروف العاطفة

المسألة الثانية في بقية الحروف العاطفة [الفاء] فمنها "الفاء": وهي التعقيب بحسب ما يمكن. والدليل عليه إجماع أهل اللغة. واستدل عليه أيضا بأنها لو لم تكن للتعقيب، لما وجب دخلوها على الجزاء، إذا لم تكن جملة فعلية، لأنها حينئذ لم تكن ملائمة للدخول على الجزاء، إذ الجزاء يجب أن يوجد عقيب الشرط، وهي غير مفيدة لهذا المعنى فلا تكون ملائمة، وإذا لم تكن ملائمة لم يجب دخولها عليه كسائر الحروف، بل كان يجب أن لا يجوز دخولها عليه، كما لا يجوز دخول سائر الحروف الغير المفيدة للتعقيب، فإنه لا يجوز أن يقال: "من زارني وله درهم"، أو "ثم له درهم" أو "حتى له درهم" لكن دخولها واجب فهي للتعقيب. لا يقال: لا نسلم أن دخولها واجب، وسنده قول الشاعر:

من يفعل الحسنات الله يشكرها لأنا نجيب عنه من وجهين: أحدهما: أنه شاذ معدول عن القياس لا تنخرم به القاعدة. وثانيهما: أن بعضهم أنكره وزعم أن الرواية الصحيحة:

من يفعل الخير فالرحمن يشكره .. وإذا ثبت أن الفاء للتعقيب فحيث ورد ولم تفده، كما في قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناهم فجاءها بأسنا} والبأس لا يتأخر عن الإهلاك، وفي قوله تعالى: {لا تفتروا على الله كذبا فسيتحكم بعذاب}، والإسحات قد يتأخر عن القرية، وقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} والرهن قد لا يحصل عقيب المداينة، وفي قوله امرئ القيس: بسقط/ (65/أ) اللوى بين الدخول فحومل.

يجب حمله على التجوز جمعا بين النقل والاستعمال.

[ثم] ومنها: "ثم" وهي للتراخي، بالنقل والاستعمال. أما النقل فظاهر، وأما الاستعمال كما في قوله تعالى: {ثم انشأناه خلقا آخر}، وقوله تعالى: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين}، {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم} وغيرها من الآيات. وحيث ورد للتراخي كما في قوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب}، وقوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن ومن عمل صالحا ثم اهتدى} و {ثم كان من الذين آمنوا}، {ثم الله شهيد}

يجب حمله على التجوز، إما بمعنى التراخي في الحكم، أو بمعنى "الواو" لما سبق. [حتى] ومنها: "حتى": وهى بمعنى "ثم". إلا أنه يشترط في المعطوف بها أن يكون جزءا من المعطوف عليه، لأن العطف بها يقتضى أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها ومخالف له في القوة والضعف، وذلك إنما يحصل إذا كان المعطوف داخلا في المعطوف عليه مثاله في القوة: "مات الناس حتى الأنبياء"، وفي الضعف "قدم الحجاج حتى المشاة".

[أو وأما وأم] ومنها: "أو" و"أما" و "أم". وهذه الثلاثة مشتركة في أنها تقتضى إثبات الحكم فيهما لأحد المذكورين وتفترق فيما عداه. "فأو"، و "أما" يفارقان "أم" في أنهما يدخلان في الأمر، والخبر، والاستفهام. و"أم"، لا يدخل إلا في الاستفهام: تقول في الأمر: "إفعل هذا أو هذا" ومثله "بأما" فيهما، وتقول في الخبر: "جاء زيد أو عمر" وكذا "بأما فيهما، في الاستفهام، "أخوك زيد أو عمرو"؟ وكذا "بأما" فيهما.

ثم إنهما في الأمر يقتضيان التخيير تارة، كقولك: "خذ هذا أو ذاك"، و "خذ إما هذا وإما هذا". والإباحة أخرى، كقولك: "جالس الحسن أو ابن سيرين، وإذا وقعتا في الاستفهام فالفرق بينهما وبين "أم" أن السائل فيهما غير عالم بثبوت الحكم في أحدهما فهو طالب له بهما، وأما السائل "بأو" فهو عالم بثبوت الحكم في أحدهما على سبيل الإيهام، وإنما يسأل عن التعيين، وكذلك كان الجواب المطابق في الأول: "بنعم"، أو "لا"، وفي الثاني: بالتعيين هذا كله في "أم" المتصلة. وأما: "أم" المنقطعة فهي بمعنى "بل والهمزة" وستعرفها. وأما الفرق بينهما فهو "إن" أما [ا] لملازمة للمعطوف وللمعطوف عليه إذا عطف بهما، وتدخل الواو عليه بخلاف "أو" فإنه

لا يلزمها أما ولا، أو في المعطوف عليه إذا عطف بها، وإن كان يجوز دخول "أما" عليه فهما يفترقان في اللزوم ويشتركان في الجواز. [لا، بل، لكن] ومنها: "لا" و "بل" و "لكن". وهذه الثلاثة / (65/ب) تشترك في أن حكم أحدهما مخالف لحكم الآخر. والفرق بين "بل ولكن" أن "بل" للإضراب عن الأول: موجبا كان الكلام أو نفيا، و "لكن" للاستدراك بعد النفي خاصة.

المسألة الثالثة في الحروف الجارة

المسألة الثالثة في الحروف الجارة [من] منها: "من". وهي تكون لابتداء الغاية تارة، كقولك: "سرت من الدار إلى السوق"، وتعرف في الأغلب بصلاحية ذكر الانتهاء في مقابلته. ولتبيين الجنس، كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}. وتعرف بصلاحية [إقامة اسم الموصول مقامه]، وللتبعيض كقولك: أخذت من الدراهم، وتعرف بصلاحية إقامة البعض مقامه. وقد تكون صلة، كقولك: "ما جاءني من أحد". وتعرف، بأن حذفها لا يغير المعنى هذا في النفي.

وأما في الإثبات فلم يجز مجيئها صلة عند قوم وجوزه الكوفيون. قال الإمام: والحق عندي أنها لتبيين، لوجوده في جميع موارد استعمالها، وهو منقدح، لكن حيث جاءت لمعنى، فإن كونها للتبيين أو لغيره فرع لكونها لمعنى وإلا فليس في قولك: "ما جاءني من أحد" بيان بالنسبة إلى قولك: "ما جاءني أحد" وإن كان كلامه يشعر بخلافه. واعلم أن من زعم منهم كونها مشتركة بين المعاني المذكورة بالاشتراك اللفظي فإنما زعم ذلك لكون الأغلب في الحروف الاشتراك.

[إلى] ومنها: "إلى". وهي لانتهاء الغاية، ولا يدخل ما بعدها فيما قبلها بطريق الحقيقة. ثم منهم من ذكر ضابطا في الدخول، [وعدم] الدخول: وهو أن ما بعدها إذا لم يتميز عما قبلها بمفصل حسي كـ "المرفق" دخل، لأنه ليس بعض المقادير أولى من البعض فوجب دخول الكل. وأما إذا تميز عنه بمفصل حسي كـ "الليل" عن "النهار" فلا يدخل. ومنهم من لم يعتبر الضابط المذكور واعتبر في الدخول حيث دخل دليلا منفصلا يدل على الدخول.

و "المرفق"، إنما دخل عنده بفعله مع قوله: "لا يتقبل الله صلاة امرئ إلا به" لا لما ذكر من الضابط وقيل: بعكسه، وحيث لم يدخل يكون بطريق التجوز. وقيل: هي مشتركة بينهما لاستعمالها فيهما. وقيل: هي لانتهاء الغاية، إن كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، وإن كان من جنس ما قبلها فلا.

[حتى] ومنها: "حتى": وهي بمعنى "إلى"، إلا أنها تدخل ما بعدها فيما قبلها، قولهم: "أكلت السمكة حتى رأسها" والرأس مأكول، ومنه "نمت البارحة حتى الصباح". لكنها/ (66/أ) تفارق "إلى" في اختصاصها بالظاهر فلا يقال: "حتاه" بخلاف "إلى" فإنها تدخل على الظاهر والمضمر تقول: "إلى زيد وإليه".

[في] ومنها: "في". وهي للظرفية، إما تحقيقا، كقولهم: "العسل في النحل"، وإما تقديرا كقوله: {لأصلبنكم في جذوع النخل} لتمكن المصلوب على الجذع تمكن الشيء في المكان، ومنه فلان في حال كذا. وقيل: إنها لسببية في قوله عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة من

الإبل، أي بسبب النفس المؤمنة والحق أنها على يابها إذ يمكن حملها على الظرف التقديري، فلا حاجة إلى جعلها للسببية.

[الباء] ومنها: "الباء", وهي للإلصاق، كقولك: "مررت بزيد" أي التصق مروري بالمكان الذي يلابسه. وللاستعانة، كقولك: "كتبت بالقلم" و "ضربته بالسوط". وقد يقال لها: "ياء" الآلة. وللتعدية كقولك: "ذهب يزيد". وبمعنى "على" كقوله تعالى: {من إن تأمنه بدينار} أي: على دينار. وبمعنى "في" كقولك: "جلست بالمسجد" أي فيه. وللثمنية كقولك: "بعت هذا بهذا". وللمصاحبة كقولك: "اشتري الفرس بسرجه ولجامه". وللتعليل كقولك: "قتل به" و "قطع بالسرقة" ومنه قوله تعالى {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله}. وزائدة في النفي، والاستفهام، كقولك: "ما زيد بقائم" وهل زيد

بقائم"؟. وقيل: هي للتبعيض في فعل متعد بنفسه كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} ونسب ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه. وقيل: هي مجملة بين مسح بعض الرأس وبين مسح كله وهو مذهب الحنفية. وقالوا: نحن ما أجوبنا مسح بعض الرأس بناء على أن الآية تفيد وجوب بعض الرأس، ثم أن ذلك البعض لم يكن مبين المقدار، فبينه النبي عليه السلام بفعله، بل لأن الآية كانت مجملة بين الكل والبعض، فبينها النبي عليه

السلام بفعله. والفرق بين هاتين الطرقتين، وهو أن مطلق التبعيض مستفاد من الآية على الطريقة الأولى، وتعيينه مستفاد من فعله عليه السلام. وعلى الطريقة الثانية التبعيض وتعيينه كلاهما مستفادان من فعله عليه السلام. واستدل الشافعي رضي الله عنه: بأنا ندرك التفرقة بالضرورة بين قول القائل: "مسحت يدي بالمنديل" وبين "مسحت المنديل"، في أن الأول يفيد التبعيض والثاني الشمول. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنا ندرك التفرقة بينهما بما ذكرتم، بل الذي ندركه هو أن الأول: لا يفيد الشمول الذي هو/ (66/ب) التبعيض، بل لا دلالة له إلا على إلصاق اليد بالمنديل بطريق المسح، وهو أعم من أن يكون بكل المنديل أو ببعضه. والثاني: يفيده. ثم الذي يؤكده أنه يصح أن يقال "مسحت يدي بالمنديل كله، أو ببعضه". قول كان قولنا: "مسحت يدي بالمنديل" يفيد التبعيض، لكان الأول: نقضا والثاني: تأكيدا، ومعلوم أنه ليس كذلك.

فإن قلت: القول بأن الفعل المتعدى، إذا دخلت "الباء" على متعلقه لم يفد التبعيض ولا تعميم، ولا هو مجمل بينهما، بل يفيد القدر المشترك بينهما، قول لم يقل به أحد، وهذا لأن الحنفية قالوا: بإجماله، والمالكية قالوا: بتعميمه، كما قبل الدخول، والشافعية بتبعيضه، ولم يقل أحد منهم أنه يفيد القدر المشترك بين الكل والبعض، فكان باطلا، لأن "الباء" إن كان للتبعيض كان الفعل مفيدا له بعد دخولها، وإن لم تكن للتبعيض بل لا تفيد إلا الإلصاق كان الفعل بعد دخلوها، كهو قبل دخولها إلا في الإلصاق وقبل الدخول كان يفيد التعميم فكذا بعده. قلت: الجواب عن الأول: إنا لا نسلم أنه قول لم يقل به أحد بل هو قول الشافعي رضي الله عنه، وأختاره أبو الحسين البصري، لكن لما كان اللازم من هذا القول الاكتفاء بأدنى ما ينطلق عليه الاسم على مالا يخفى تقريره، ظن أنه إنما قال بذلك لكون "الباء" تفيد التبعيض. وأما عن الثاني: فإنا نسلم أن الفعل قبل دخول "الباء" يفيد التعميم، وكذا بعده، نظرا إلى الموضع الأصلي، وهذا لأن الرأس حقيقة في مجموع العضو المخصوص لا في بعضه، و "الباء" لا تفيد إلا الإلصاق، فكان مقتضاه بعد

دخولها عليه إلصاق جميع الرأس بما يمسح به، كما هو مذهب مالك رضي الله عنه، واختاره بعض الأصوليين أيضا. لكن عرف استعمال أهل اللسان الطارئ على الوضع غيره عن مقتضاه، إذ لا يتبادر التعميم إلى الفهم منه الآن، كما يتبادر ذلك من قولك: "مسحت المنديل". ولهذا فإن السيد لو أمر عبده، وقال له: امسح يدك بالمنديل، أو بالحائط فمسح يده ببعض المنديل، أو ببعض الحائط، فإنه لا يستحق التوبيخ واللوم على ذلك، كما يستحقه إذا قال: امسح المنديل أو الحائط فمسح بعض المنديل أو بعض الحائط. وبالجملة فقول الشافعي رضي الله عنه: بجواز المسح بأقل ما ينطلق عليه الاسم لا يدل على أن "الباء" للتبعيض لجواز أن يكون ذلك/ (67/أ) بالطريقة التي سبقت الإشارة إليها، وحمل كلامه على هذا أولى، لأن كون "الباء" للتبعيض مما لم يعرفه أحد من أهل اللغة. لا يقال: دليلكم منقوض فإنه يقتضى أن لا يجب استيعاب مسح جميع الوجه بالصعيد، لأن قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم} لا يدل على الاستيعاب حينئذ، والأصل براءة الذمة عن أقل ما ينطلق عليه الاسم، فوجب. الاكتفاء به، لكنه واجب بالإجماع فيكون منقوضاً.

لأنا نقول: ترك مقتضى الدليل في بعض الصور لدليل أقوى منه لا يقدح فيه، وهذا وإن كان يلزم منه التعارض وهو خلاف الأصل، لكنه قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه. ولقائل أن يقول: أنا نسلم أن قولنا: "مسحت يدي بالمنديل" لا يفيد التعميم في عرف الاستعمال، لكنه لقيام قرينه هي مقصودة "في" قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وهي أن المقصود من الكلام مسح اليد بالمنديل فقط، إذ ليس الغرض متعلقا بكون المسح بكله أو ببعضه، وإذا حصل ذلك سواء كان ذلك بكل المنديل أو ببعضه فقد حصل تمام المقصود من الكلام، بخلاف قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} فإن من المعلوم أن الرأس ليس آلة المسح بل هو الممسوح و "الباء" التي كان يجب دخولها على الآلة، لما حذف ذكرها دخلت على الممسوح تنبيها على المحذوف، وتقدير الكلام والله أعلم، و "امسحوا بأيديكم رؤوسكم". وعلى هذا التقدير يقول: لا يلزم من عدم إفادة القول بالتعميم فيما إذا دخلت "الباء" على الآلة مع كونها غير مقصودة بالمسح عدم إفادته التعميم فيما إذا دخلت على الممسوح مع كونه مقصودا منه.

[اللام] ومنها: "اللام". وهي تارة تكون للاختصاص كقولهم: "الجل للفرس". وللملك كقولهم: "الدار لزيد". وللتعليل [كقولهم]: "زرتك لإكرامك الزائر", وبمعنى "عن" على الندور كقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا

لو كان خيرا ما سبقونا إليه}، أي: عن أحوالهم. ولا يخفى عليك ما فيه. وتكون زائدة، كقوله تعالى: {ردف لكم}.

[على] ومنها: "على". وهي للاستعلاء تقول: "جلست على السطح". وللوجوب كقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} ...

[عن] ومنها: "عن". وهي للمجاوزة كقولك: "رمي عن القوس". [كاف التشبيه] ومنها: "كاف التشبيه". وهي تارة تكون للتشبيه بحسب الصورة كقوله تعالى: {يوم نطوى الماء كطي السجل للكتب}. وتارة للتشبيه بحسب المعنى، كقوله تعالى: {كأنهم حمر مستنفرة}، وقوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل}. وقد تأتى زائدة كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وقد عرفت ما فيها.

المسألة الرابعة في الحروف النافية

[مذ ومنذ] ومنها: "مذ ومنذ". وهما/ (67/ب) إذا كان حرفين فلابتداء الغاية في الزمان الماضي كمن في المكان، نقول: "ما رأيته مذ يوم الجمعة"، و "منذ يوم الجمعة" أي: ابتداء عدم الرؤية كان من يوم الجمعة. المسألة الرابعة في الحروف النافية [لا] منها: "لا". وهي لنفي الفعل المستقبل، تقول: "لا تفعل" في نفي قول من يقول: "هو يفعل" بمعنى الاستقبال، وقد ينفى بها الماضي [أيضا] كقوله تعالى {فلا صدق ولا صلى} ,

ولنفي اسم الجنس كقولك: "لا رجل في الدار". وللنهي نحو: "لا تفعل". وللدعاء نحو: "لا رعاك الله". وتكون مزيدة لتأكيد النفي، نحو قوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} في الاستفهام، وفي غيره مثل قوله تعالى: {لئلا يعلم}.

[ما] ومنها: "ما". وهي لنفي الحال، تقول: "ما يفعل في الرد على من يقول: "هو يفعل "بمعنى الحال. وينفى بها الاسم أيضا نحو: "ما زيد منطلقا". والماضي المعرب من الحال نحو قولك: "ما فعل"، في نفي قول من يقول: لقد فعل. [لم، لما] ومنها: "لم" و "لما": وهما لقلب معنى المضارع إلى الماضي، تقول: "لم يفعل"، و "لما يفعل بالأمس"، لكن "لما" آكد في النفي من "لم"، لأنها هي أضيفت إليهما ما النافية لتأكيد النفي.

[لن] ومنها: [لن]. وهي لتأكيد نفي المستقبل، كقولك: "لن أبرح اليوم مكاني"، وهو آكد من قولك: "لا أبرح اليوم مكاني". وقيل: إن "لن" لنفي ما قرب من الحال ولا يمتد النفي فيها في المشهور. ولذلك قيل: في جواب سؤال الرؤية في الدنيا: {لن تراني} لكونها منفية في الدنيا فقط. وقيل: في الإدراك {لا تدركه الأبصار}، لكون الإدراك منفيا في الدنيا والآخرة، إذ هو عبارة عن الإحاطة بالمدرك من جميع جوانبه، وهي غير متصورة في حقه تعالى.

المسألة الخامسة

[إن] ومنها: "إن". وهي كـ "ما" في نفي الحال، وفي دخولها على الجملتين الاسمية والفعلية، قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله}، وقال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن}. المسألة الخامسة [إنما] كلمة إنما: للحصر. والدليل عليه النقل، والاستعمال، والمعنى.

أما النقل: فقد حكى الشيخ أبو علي الفارسي عن النحاة "أنها للحصر". وأما الاستعمال فقوله تعالى: {إنما الله إله واحد}. وقال الفرزدق:

أنا الرائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وقال الأعشى:

ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنا العزة للكاثر ولو لم يجعل كلمة "إنما" للحصر، لما حصل مقصود الشاعر في الأول: من المدح التام لنفسه ولأمثاله، لأن مالا اختصاص له لا يمدح به. ولا في الثاني: من نفي العزة عن نفسه.

وأما المعنى فلأن كلمة "أن" للإثبات و "ما" للنفي، والأصل عدم التغيير عند التركيب. فأما أن يقال: إنهما عند التركيب يقتضيان إثبات غير المذكور ونفي/ (68/أ) المذكور أو عكسه، والأول باطل وفاقا. وهذا لأن منهم: من يقول: إنها للحصر. ومنهم: من لم يقل به بل قال: إنه لم يفد سوى إثبات الحكم في المذكور، ولا تعرض له لغير المذكور قول: لم يقل به أحد، وإذا بطل هذا تعين الثاني وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: هذا إنما يستقيم لو كانت "ما" الداخلة على "أن" هي "ما" النافية، وهو ممنوع، بل هي "ما" الكافة، ولم لا يجوز أن تكون مغايرة "لما" النافية؟. ثم الذي يدل على أنها مغايرة لها تقسيمهم إياها إلى الكافة، والنافية، وغيرهما من أنواعها، فلو كانت الكافة هي النافية، لزم أن يكون الشيء قسيما لنفسه، وهو محال. فإن قلت: لو كانت مفيدة للحصر مرادفة "لما" و "إلا" إذ هما يفيدانه- أيضا- ولو كان كذلك لوجب قيام كل واحد منهما مقام الآخر لما تقدم، من وجوب قيام كل واحد من المترادفين مقام الآخر، لكنه ليس كذلك، إذ يصح أن يقال: ما أحد إلا ويقول ذاك. ولو قلت: مكانه "إنما أحد ويقول ذاك لم يصح" ولو صح لم يوجد ذلك المعنى.

وكذلك يصح أن يقال: إنما هذا درهم لا دينار. ولو قلت: [ما] إلا هذا درهم لا دينار لم يصح. قلت: لا نسلم لو كانت مفيدة للحصر لكانت مرادفة "لما" و "إلا". قوله: "لأنهما يفيدان إنه أيضا". قلنا: مسلم لكن لاشتراك اللفظين في الدلالة على أمر واحد، لا يوجب ترادفها على أن المثال الثاني إنما لا يصح لكون الحرف فيه دخل على الحرف، لا لأنه لا يقوم مقامه ألا ترى أنك لو قلت: "ما هذا إلا درهم لا دينار" صح. احتج المخالف: بأنه لم يفد الحصر في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} لأن الإجماع منعقد على أن من لم يكن كذلك يكن مؤمنا أيضا. ولا في قوله تعالى: {إنما كان قول

المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله} الآية. إذ ليس قولهم منحصرا في ذلك، ولا في قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} الآية، لأن الله تعالى حرم ماعدا المذكور في الآية "حرم" أشياء أخر، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين صور الاستعمال كلها، وهو ثبوت الحكم في المذكور فقط مع قطع النظر عن دلالته على الحكم عما عداه نفيا وإثباتا. الجواب عنه: "هو" أنا نمنع أن واحدة منها لا تفيد الحصر، وسنده لا يخفى على الفطن اللبيب. لكن الاستدلال لا يعارض النقل الصريح. ولئن سلم ذلك: فالترجيح معنا، لأنا لو جعلناها للحصر أمكن استعماله في ثبوت الحكم في المذكور فقط على وجه التجوز لكونه لازما له، ولو جعلناها حقيقة فيما ذكرتم لم يمكن استعماله في الحصر على وجه التجوز لكونه غير لازم له، ولئن أمكن لكان الأول أولى لما تقدم.

الفصل السادس عشر في التعارض الحاصل بين أحوال اللفظ

الفصل السادس عشر في التعارض الحاصل بين أحوال اللفظ

الفصل السادس عشر في التعارض الحاصل بين أحوال اللفظ وأعلم أن الخلل في فهم مراد المتكلم، إنما يقع/ (68/ب) بناء على خمس احتمالات: وهي: الاشتراك، والنقل، والإضمار، والمجاز، والتخصيص. والدليل عليه: أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك، والنقل، كان اللفظ حقيقة في معنى واحد، وإذا انتفى احتمال الإضمار، كان المراد مدلول اللفظ، وإذا انتفى احتمال المجاز، كان المراد منه مدلوله الحقيقي، وإذا انتفى احتمال التخصيص، كان المراد منه جميع ما وضع له بطريق الحقيقة، وحينئذ لم يبق خلل في الفهم ألبتة. فإن قلت: ترك احتمال الاقتضاء، ومنه ينشأ الخلل في فهم مراد المتكلم أيضا، فإن قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، لما علم أن واحد منها غير مرفوع، لوقوعه من

الأمة، فلابد، وان يكون مراده عليه السلام شيئا آخر لئلا يلزم كذبه، وهو غير معلوم من ظاهر الكلام، فقد نشأ الخلل في فهم مراد

المتكلم من غير الاحتمالات الخمسة. قلت: أما من قال من الأصوليين، كالشيخ أبي زيد الدبوسي ومن.

تابعه: أن الاقتضاء ليس مغايرا للإضمار، لأن كل واحد منهما عبارة عن إسقاط شيء من الكلام، لا يتم الكلام بدونه، نظرا إلى العقل أو الشرع أو إليهما، لا نظرا إلى اللفظ، إذ اللفظ صحيح فيهما، فهذا السؤال ساقط عنه. وأما من زعم أنه مغاير للإضمار فالسؤال متوجه إليه. لكن الجواب عنه يستدعى تقديم بيان وجه التغاير فيهما وقد ذكروا فيه وجوها: أحدها: ما أشعر به كلام الإمام، أن الاقتضاء إثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ، كقول القائل: اصعد السطح فإنه يقتضى نصب السلم، وهو أمر يتوقف عليه وجود الصعود، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ، بخلاف الإضمار، فإنه إثبات أمر يتوقف عليه صحة اللفظ. وهو ضعيف، إذ إضمار الأهل، في قوله تعالى: {واسأل القرية} ليس مما يتوقف عليه صحة اللفظ أيضا، ألا ترى أن العقل لو لم يدل على امتناع صدور الجواب من القرية نظرا إلى العادة، لما احتجنا إلى هذا الإضمار، ولهذا قالت الظاهرية المنكرون للمجاز في القرآن: لا حاجة إلى هذا الإضمار، لأن الله تعالى قادر على إنطاق القرية بالجواب، والزمن زمن

خرق العادة، لأنه زمن النبوة، ولو كان ذلك مما يتوقف عليه صحة اللفظ لما كان كذلك. فإن قلت: لما لا يجوز أن يكون السؤال في اللغة موضوعا بإزاء استدعاء الجواب من القادر؟ فعلى هذا يكون إضمار الأهل, وما يجرى مجراه في كونه قادرا على الجواب، مما يتوقف عليه/ (69/أ) صحة اللفظ. قلت: هذا باطل. أما أولا: فلأن الإمام، والدليل يساعدان على أن أمثلة الأفعال لا دلالة لها على خصوصية المؤثر، ولو كان السؤال موضوعا لما ذكرتم، لكان للأفعال المشتقة منه دلالة عليه أيضا. ولئن سلم ذلك فغاية ما يلزم من هذا أن إضمار الأهل، وما يجرى مجراه من مقتضيات اللفظ، نظرا إلى الوضع الحقيقي وليس اللفظ إذا استعمل في غير ما وضع له لا يكون صحيحا، فإن المجاز صحيح من الكلام. أما ثانيا: فلأن قوله تعالى {واسأل القرية} يكون مجازا بسبب النقل حينئذ لا بسبب النقصان. وثانيها: ما أشعر به كلام بعضهم: وهو أن في صورة الإضمار يتغير إسناد اللفظ عند التصريح بالمضمر، وفي صورة الاقتضاء ليس كذلك بل يبقى الإسناد على حاله ألا ترى أن السؤال في قوله تعالى {واسأل القرية} مسند إلى القرية في الدلالة الذكر وعند التصريح بالأهل يتغير ذلك الإسناد، ويصير السؤال مسندا إلى الأهل، بخلاف قولك: "اصعد السطح"

فإن عند التصريح بنصب السلم، الذي هو مقتضاه، لا يتغير الإسناد، بل هو مسند إليه، كما هو عند عدمه. وهو أيضا ضعيف، لأنه منقوض بقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" الحديث، لأن الرفع في الذكر مسند إلى الخطأ فإذا أضمر الإثم أو الحكم يتغير ذلك الإسناد. وقد اتفق الأصوليون على أنه من باب الاقتضاء. وثالثها: هو ما ذكره بعض الحنفية أن المضمر كالمذكور لفظا، ولهذا له عموم، ألا ترى أن الرجل لو قال لامرأته: طلقي نفسك ونوى ثلاثا صحة نيته إذ المصدر مضمر فيه فكأنه قال: طلقي نفسك طلاقا، وأما المقتضى فليس هو كالمذكور لفظا، ولهذا ليس عموم ألا ترى أن الرجل لو قال: "إن أكلت فأنت طالق" ونوى مأكولا معينا لم تصح نيته، لأن تقدير المأكول على وجه الاقتضاء والمقتضى لا عموم له، وكذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" الحديث، فإن ظاهره يقتضى رفع الخطأ عنهم، وهو غير مرفوع لوقوعه منهم، فلابد من تقدير شيء آخر، من الإثم أو الأحكام الدنياوية، أو الأخراوية، صونا للكلام عن الكذب، لكن لا يقدر الكلم، لأن ذلك على وجه الاقتضاء، والمقتضى لا عموم له. وهو أيضا غير سديد. أما أولا: فلأنا، لا نسلم أن المصدر مضمر في تلك المسألة، وهذا لأن الإضمار على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة إلى

/ (69/ب) إضمار المصدر فيها، إذ الكلام تام بدونه، كما هو في قوله: "أنت طالق". ولهذا لو نوى الثلاث فيه، لم يصح عنده. ولئن سلمنا: كون المصدر مضمرا فيه، لكن لا نسلم أن صحة نية الثلاث في تلك المسألة، إنما كانت بناء عليه، وهذا لأنه يصح بنيته أيضا عندنا في قوله: "أنت طالق" مع عدم إضمار المصدر فيه. سلمنا ذلك: لكن لا نسلم أن ذلك يدل على أن للمضمر عموما، وهذا لأن النية كما تؤثر في تخصيص العام، فكذا تؤثر في تقييد المطلق، وإذا كان كذلك، فجاز أن يكون صحة نية الثلاث، إنما كانت بناء على أنه من باب تقييد المطلق، لا أنه من باب تخصيص العام، بل هذا أولى، لأن المصدر لو كان مذكورا بصراحته لم يكن له عموم، على ما عرف أن المصدر لا عموم له، فكيف يكون للمضمر منه عموم؟. سلمنا ذلك: لكنه مثال واحد، فلا تثبت به القاعدة الكلية. سلمنا ذلك: لكنه منقوض بقوله تعالى: {واسأل القرية} فإن مضمره وهو الأهل، ليس له عموم، ولهذا لم يكن السؤال واجبا عن جميع أهل القرية لورود الأمر به عن الشارع، لا يعلم أن المقصود حاصل بسؤال واحد منهم؟ سلمنا: سلامته "عن" النقض، لكن لا نسلم أن المقتضى لا عموم له حينئذ، وهذا لأنا إنما لا نقول بعموم المقتضى، لأن ما يثبت بالضرورة، فإنه يتقدر بقدرها، والضرورة تندفع بتقدير أي واحد منه، فلا يجوز إضمار الكل وهذا المعنى بعينه موجود في الإضمار، فإذا جاز معه إضمار الكل،

فلا نسلم أنه لا يجوز حينئذ مثله في صورة الاقتضاء، وهذا لأن العلة حينئذ تكون منقوضة فلا عبرة بها. سلمنا ذلك: لكنه فرق إجمالي تتوقف معرفته على معرفة وجه المحذوف، أعنى كونه محذوفا "على وجه الإضمار"، أو على وجه الاقتضاء. فمعرفة وجه المحذوف دور. وإذا عرف ما في هذه الفروق من الضعف. فلنذكر ما هو الصحيح من الفرق، فنقول: إن بينهما فرقا من حيث المعنى، ومن حيث اللفظ. أما من حيث المعنى: فهو أن المقتضى أعم من المضمر، وذلك لأن المقتضى قد يكون مشعورا به للمتكلم، وقد لا يكون كذلك، وأما المضمر فلا يكون إلا مشعورا به له، وهذا لأن المضمر اسم المفعول من أضمره المتكلم، إذ من المعلوم أن الكلام لا يضمر فيستحيل أن لا يكون مشعورا به له. وأما المقتضى فهو اسم المفعول من اقتضاء الكلام، ولا غرو في أن يكون الكلام مقتضيا لشيء ولا يكون مشعورا به للمتكلم، فعلى هذا كل مضمر مقتض من غير عكس. وأما من حيث/ (70/أ) اللفظ فمن وجهين: احدهما: أن الإضمار إنما يستعمل حيث بمعرفته كل واحد من أهل اللسان من غير رؤية وفكر، كما في قوله تعالى: {واسأل القرية}، وهذا لان الإضمار عبارة عن إسقاط شيء من الكلام يدل عليه الباقي، وإن كانت تلك الدلالة بواسطة العقل لا من حيث صحة اللفظ،

كما سبق، لكنه في بادئ النظر حتى لو لم يكن في الكلام الباقي بعد الإسقاط ما يدل عليه لم يصح الإضمار، ولهذا لا يصح أن يقول: "واسأل زيدا" يريد غلامه، أو أباه، بطريق الإضمار، بخلاف الاقتضاء، فإنه قد يحتاج فيه إلى إمعان النظر والاستعانة فيه بعلوم أخر، غير معرفة اللغة، ولهذا لا يعرف كل واحد من أهل اللسان إن في قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" اقتضاء، ما لم يعرف عصمته عليه السلام عن الكذب سهوا وعما، وذلك يحتاج فيه إلى نظر وفكر. وثانيهما: أن في صورة الإضمار يتغير إسناد اللفظ لا محالة عند تصريح المضمر، وصورة الاقتضاء قد تكون ذلك، كما سبق في الحديث، وقد لا تكون كذلك، كما في "اصعد السطح"، فإن عند تصريح نصب السلم لا يتغير إسناد الصعود، وكذلك في "اعتق عبدك عني بألف"، فإنه يقتضى إثبات الملك له أولا، وعند التصريح به لا يتغير إسناد العتق إليه، بل هو على حاله. وإذا اتضح ما ذكرنا من وجه المغايرة. فنقول: قد حصل لك منه أن المقتضى، إنما يمتاز عن المضمر بأمر عارض معنوي، ولفظي وهو أنه يجوز أن يكون مغفولا عنه، وأن لا يكون مغيرا للإسناد لا بالذات والماهية، فإنهما متحدان في أن مقصود الكلام لا يتم بدونهما، والخلل في فهم مراد المتكلم، إنما ينشأ من هذا الوجه، لا من الوجه العارضي، وإذا كان كذلك، كان الخلل الناشئ من احتمال الاقتضاء [مثل الخلل الناشئ من احتمال الإضمار، وكان ذكره مغنياً عن ذكره،

المسألة الأولى [في التعارض بين الاشتراك والنقل]

فلا حاجة إلى ذكر احتمال الاقتضاء] على الانفراد. فهذا ما حضرني أن أقول في وجه المغايرة، والجواب عن السؤال الذكور والله الموفق لأسد منه. ثم اعلم: أن التعارض بين هذه الاحتمالات الخمسة، يقع من عشرة أوجه، وهذا لأن التعارض لا يحصل إلا بين الشيئين، إذ الشيء لا يعارض نفسه، وكل واحد من هذه الاحتمالات الخمسة إنما تعارض الأربعة الأخر منها، فتضرب الخمسة في الأربعة بتحصل عشرون وجها من التعارض، لكن العشرة مكررة فيجب حذفها عن درجة الاعتبار، فتبقى عشرة. ونقرره بعبارة أخرى، وهي أنه قد يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية/ (70/ب) وبين النقل والثلاثة الباقية فتكون سبعة وبين الإضمار والوجهين الباقيين فتكون تسعة، وبين المجاز والتخصيص فيكون المجموع عشرة. المسألة الأولى [في التعارض بين الاشتراك والنقل] إذا وقع التعارض بين الاشتراك وبين النقل، فالنقل أولى. لأنه لا يخل بالفهم، إذ الحقيقة مفردة أبدا، أما قبل النقل فبالنسبة إلى المنقول إليه، بخلاف الاشتراك، فإنه يخل بالفهم لتردده بين مفهوماته، إذ

لا يجوز حمله "على" جميعها، إذ الكلام على هذا التقدير فكان الأول أولى، ولأن المنقول حديث العهد بالوضع، والمشترك قديم العهد بالوضع، وما تقادم عهده كان تطرق الغفلة والنسيان إليه أكثر مما ليس كذلك، فكان اختلال الفهم في المشترك أكتر، فيكون الأول أولى، ولأن المشترك من حيث أنه مألوف ومعهود مسؤوم عنه ولذلك، قيل: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبالك يسأم والسآمة من موجبات الإعراض والهجران، فكان تطريق النسيان إليه أكثر، فكان اختلال الفهم منه أكثر.

لا يقال: الاشتراك أولى لوجهين: أحدهما: أنه إن وحد معه القرينة، عرف المخاطب ما هو المراد به، وإن لم يوجد توقف في العمل به، وعلى التقديرين لا يخطئ في العمل، وأما في النقل فربما لا يعرفه المخاطب، فيحمله على المنقول عنه فيقع في الغلط. وثانيهما: أن المخاطب قد يظن المنقول مشتركا لاستعماله في المعنيين، فتحصل مفاسد الاشتراك مع مفاسد النقل والجهل به. لأنا نقول: النقل إذا وجد يجب اشتهاره، وحينئذ يزول ما ذكرتم من المفاسد. فإن قلت: هب أنه كذلك، لكن الاشتهار لا يحصل دفعة واحدة بل يحصل متدرجا، والمفاسد قائمة في حالة تدرجه، بخلاف الاشتراك، فإن المفاسد المذكورة غير حاصلة فيه في حالة من الأحوال فكان أولى. سلمنا ذلك: لكنه معارض بوجوه أخر: أحدها: أن المشترك أكثر فائدة من المنقول، لأنه "يمكن استعماله في معنيين آخرين بطريق التجوز لمشابهتهما المدلولية الحقيقتين بخلاف المنقول فإنه" لا يستفاد منه إلا مجاز واحد، إما بالنسبة إلى المنقول عنه، وأما

بالنسبة إلى المنقول إليه فكان المشترك أولى. وثانيها: أن الاشتراك لا يقتضى النسخ، بخلاف النقل فإنه يقتضيه، وستعرف- إن شاء الله تعالى- أن الاشتراك أولى من النسخ، فوجب أن (71/أ) يكون أولى مما يستلزمه. وثالثها: الاشتراك لا يتوقف إلا على وضع اللفظ لمعنيين، وأما النقل فيتوقف على الوضع الأول، وعلى نسخه وعلى وضع جديد واستعماله فيه، واتفاق أرباب اللسان عليه، والموقوف على أقل المقدمات يكون أولى من الموقوف على اكثرها. ورابعها: أن الاشتراك ما أنكره أحد من المحققين، بخلاف النقل فإنه قد أنكره بعضهم. وخامسها: أن المشترك أكثر وجودا منه، يدل عليه الاستقراء، فكان أولى، لأن كثرة وجوده، يدل على قلة مفسدته، ولأن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى من إلحاقه بالأخص الأقل، فكان ألحاقه بالمشترك أولى. الجواب: لما تعارضت الدلائل كان الترجيح معنا، لأن مفاسد النقل وإن كانت أكثر من مفاسد الاشتراك على ما بينتم، لكنها خارجية غير مخلة بمقاصد الوضع، وهو تعريف ما في الضمير، أو وإن أخلت به، لكنها في زمن يسير

المسألة الثانية [في التعارض بين الاشتراك والإضمار]

وهو زمن التدرج، بخلاف الاشتراك، فإن مفاسده أبدا مخلة بالمقصود الأصلي من الوضع، والتعريف الإجمالي وإن كان مقصودا أيضا، لكنه نادر فالمقصود في الأكثر إنما هو التعريف التفصيلي فكان النقل أولى. المسألة الثانية [في التعارض بين الاشتراك والإضمار] إذا وقع التعارض بين الاشتراك والإضمار، فالإضمار أولى والدليل عليه: إن إخلال الفهم الحاصل بسبب الإضمار، يختص ببعض الصور، وهو حيث لا يمكن إجراء الكلام على ظاهره، وأما الإخلال الحاصل بسبب الاشتراك، فإنه عام في جميع موارد استعمال اللفظ، حيث لا قرينة تعين أحد مدلوليه، فكان الإضمار أولى، ولأن الإضمار من باب الإيجاز والاختصار، وهو من محاسن الكلام، ولذلك قال عليه السلام: "أوتيت جوامع الكل واختصر لي الكلام اختصارا" والمشترك ليس كذلك.

لا يقال: الإضمار يحتاج إلى قرائن ثلاث. قرينة تدل على أصله. وقرينة تدل على موضوعه، فإن الإضمار قد يحسن تارة في أول الكلام، وتارة في آخره، فإن استهجن تقديم الإضمار في بعض الصور وتأخيره في

بعضها فالمنفصل ألا ترى أنه يحسن إضمار المقدار في قوله عليه السلام "في كل خمس من الإبل شاه" في أوله وآخره. إذا قلنا بالإضمار فيه، ويصير تقدير الكلام على الأول في كل مقدار خمس من الإبل شاه، وعلى الثاني في كل خمس من الإبل مقدار شاه، وكذلك "الأهل" في قوله تعالى/ (71/ب): {واسأل القرية} ويصير تقدير الكلام على الأول: واسأل أهل القرية، وعلى الثاني: واسأل القرية أهلها، على أن يكون الأهل بدل القرية، بدل الاشتمال. وقرينه تدل على عين المضمر، فإنه يجوز أن يضمر في الآية مثلا الأهل، والساكن، والمالك وغيرها مما له صلاحية أن يضمر، ولا يتعين لذلك، والمشترك لا يحتاج إلا إلى قرينة واحدة، فكان الإضمار مرجوحا، إما لأنه أكثر إخلالا بالفهم منه حينئذ، وإما لتوقفه على أكثر المقدمات.

ولا يجاب عنه: بمنع إحتياج الإضمار إلى ثلاث قرائن، وهذا لأنه لا يحتاج إلى قرينة تعيين موضع الإضمار، لأنه إن حسن كل واحد من التقديم والتأخير، بحيث لا يختلف به الغرض فلا حاجة إلى التعيين، بل للسامع أن يضمر في أي موضع شيئا إذ لا يختلف به الغرض، كما إذا أمر بإعتاق رقبة، فإنه لا يحتاج إلى تعيين الرقبة، بل يخرج عن عهدة التكليف بإعتاق أي رقبة شاء، وإن لم يحسن بالتفسير المذكور تعين الآخر ولا يحتاج إلى القرينة أيضا. وكذلك الكلام في قرينة تعيين المضمر، فإنه إن حسن إضمار كل واحد من تلك الأشياء، فلا حاجة إلى التعيين، بل الأمر فيه موكولا إلى المخاطب، وإن لم يحسن البعض، فإن كان الباقي وحده واحدا تعين، وإن كان أكثر كان الكلام فيه كالكلام في الأول. لأنه يقال: الأمر وإن كان كما ذكرتم، لكن عدم صلاحية أول الكلام أو آخره لذلك، وعدم صلاحية إضمار البعض دون البعض لابد وأن يكون لدليل منفصل، إذ الإضمار من حيث إنه إضمار لا يدل عليه، وحينئذ يتوقف صحة الإضمار على وجه التخيير بين التقديم والتأخير وبين المضمرات، أو على وجه التعيين في موضع مخصوص ومضمر مخصوص على معرفة وجود ذلك الدليل وعدمه، ضرورة أن العلم بالمشروط متوقف على العلم بالشرط، وحينئذ يعود الاحتياج المذكور في صور التعيين وفي صور التخيير، وإن كان لا يحتاج إلى وجود تينيك القرينتين، لكن يحتاج إلى معرفة عدمهما، وإنما يعرف ذلك بعد الطلب الشديد والبحث البليغ، وهو أمر شاق قل ما يوجد لا يتوقف عليه وعلى مثله المشترك، فكان أولى، ولو اكتفى في ذلك بالأصل مع أن

المسألة الثالثة [في التعارض بين الاشتراك والمجاز]

فيه كلاما، فالمقصود أيضا حاصل، لأن التمسك بالأصل دليل زائد على ما يتوقف/ (72/أ) عليه المشترك، فكان الإضمار يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه المشترك، فكان أولى. لأنا نقول: هب أن الأمر كما ذكرتم، لكنه في بعض صور استعمال اللفظ وهو حيث استعمل اللفظ على وجه الإضمار، وأما على تقدير كون اللفظ مشتركا فإنه وإن احتاج إلى قرينة واحدة لكنه في جميع صور استعمال اللفظ فيقع بعضها في مقابلة التي في صور الإضمار، ويبقى الباقي سليما عن المعارض. المسألة الثالثة [في التعارض بين الاشتراك والمجاز] إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى. ويدل عليه وجوه. أحدها: أن إخلال الفهم في صورة المجاز أقل، لأنه إن وجد مع اللفظ قرينة معينة للمجاز حمل عليه. وإن لم يوجد، فإن كان ذلك بانتفاء التعيين دون الأصل فهاهنا، وإن كان الخلل حاصلا في الفهم عندنا يفرض المجاز أكثر من الواحد، وإن البعض ليس أولى من البعض وأنه لا يجوز حمله عليهما، إما معا أو على البدلية لكنه مشترك بينه وبين المشترك، وإن كان ذلك بانتفاء أصل القرينة، حمل اللفظ على معناه الحقيقي، وحينئذ لا يعرى إفادة المراد، بخلاف المشترك، فإنه

لا يفيد المراد عند عراية القرينة فكان المجاز أقل إخلالا بالفهم. وثانيها: أن اللفظ بتقدير أن يكون مجازا، كان احتمال تردده بين المعاني أقل من أن يكون مشتركا، لأنه يمكن أن يكون له بالنسبة إلى كل حقيقة من تينيك الحقيقتين مجازا آخر، فكان اختلال الفهم فيه أكثر فكان المجاز أولى. وثالثها: أن المجاز أكثر من المشترك للاستقراء، والكثرة أمارة الرجحان في محل الشك على ما تقدم تقريره. ورابعها: إن في صورة المجاز، إذا خرجت الحقيقة عن الإرادة، فإن كان المجاز واحدا حمل اللفظ عليه، وإن كان أكثر من ذلك ولم يكن مع اللفظ قرينة معينة لأحدهما، فإنه يمكن حمل اللفظ على واحد من تلك المجازات بكثرة المشابهة والمناسبة الصورية والمعنوية، وأما في صورة الاشتراك إذا خرجت حقيقة واحدة عن الإرادة، وكانت البواقي أكثر من الواحدة، فإنه لا يمكن حمل اللفظ على شيء من تلك الحقائق الباقية بهذه الطريقة، فكان احتمال إعمال اللفظ في الأول أكثر فكان أولى. وخامسها: أن فهم الحقيقة تعين على فهم المجاز- إذا لم يعلم عيناً-

لما بينهما من المناسبة، فإذا لم تكن الحقيقة مرادة ولم يكن مع اللفظ قرينة، أمكن إصابة المجاز بسبب فهم الحقيقة، وأما فهم/ (72/ب) إحدى الحقيقتين، فإنه لا يعين على فهم الأخرى، فلا يمكن إصابة إحداهما عند عدم إرادة الأخرى إلا بالقرينة. فإن قلت: الاشتراك [أولى] لوجوه. أحدها: أنه أكثر فائدة، لأنه يصح أن يجعل عن كل حقيقة من حقيقتي المشترك مجاز، ويصح منه الاشتقاق، لكونه حقيقة، بخلاف المجاز، فإنه لا يصح منه ذلك. وثانيها: أنه مطرد في جميع مسمياته على البدل، بخلاف المجاز فإنه غير لازم الاطراد، كما سبق، والمطرد أولى من غيره لقلة اضطرابه. وثالثها: أن سامع المشترك إن علم القرينة عمل به، وإلا توقف في العلم والعمل، وهذا وإن كان يلزم منه أن لا يحصل له العلم بالمراد وأن لا يحصل المراد، لكن لا يلزم منه العلم بكون غير المراد مرادا، ولا حصول ما هو غير المراد. وأما سامع المجاز إن لم يعلم القرينة حمل اللفظ على الحقيقة، وحينئذ يلزم المحذوران المنفيان عن الأول، فكان الاشتراك أولى القلة المحذور.

ورابعها: أن الاشتراك يحصل بوضع واحد، إن كان واضعه واحد، أو بوضعين، إن كان وضعه قبيلتين. وأما المجاز فإنه يتوقف على أن يكون اللفظ موضوعا أولا بمعنى، وعلى الوضع المجازي عند من يعتبر الوضع فيه، وعلى العلاقة المعتبرة في التجوز، وعلى تعدد العمل بالحقيقة. والمتوقف على أقل المقدمات أولى من الموقوف على أكثرها. وخامسها: أن العدول عن إحدى الحقيقتين إلى الأخرى يحصل بأدنى قرينة لتساوي الحقيقتين. وأما العدول عن الحقيقة إلى المجاز، فلا يحصل إلا بقرينة قوية تعادل أصالة الحقيقة لم يترجح عليها، فكان تمكن الخلل في الفهم في صورة المجاز أكثر فكان الاشتراك أولى. وسادسها: أن المخاطب في صورة الاشتراك، يبحث عن القرينة بحثا شديدا لتعذر العمل عليه بدونها، بخلاف صورة المجاز لإمكان العمل به بدونها، فكان احتمال الخطأ في الاشتراك أبعد فكان أولى. وسابعها: أن فهم المعنى المجازي، يتوقف على فهم المعنى الحقيقي، لأنه لا يمكن فهمه بدون العلاقة، وفهمها يستدعى فهم الحقيقة، وفهم أحد مفهومي المشترك لا يتوقف على فهم الآخر، وغير المتوقف أولى من المتوقف لاستغنائه، فكان المشترك أولى وفيه نظر لا يخفى عليك. وثامنها: أن إفادة المشترك لأحد مفهوميه من غير تعيين حقيقة على ما تقدم

المسألة الرابعة [في التعارض بين الاشتراك والتخصيص]

بيانه، والحقيقة راجحة على المجاز على ما تقدم تقريره/ (73/أ) أيضا، فكان الاشتراك راجحا على المجاز. وتاسعها: أن الاشتراك لا يقتضى النسخ، بخلاف المجاز فإنه يقتضيه، لأنه يقتضى إزالة اللفظ ونقله عن الوضع الأول، ولا معنى للنسخ إلا ذلك، ولا شك أن ما يقتضى النسخ مرجوحا بالنسبة إلى مالا يقتضيه. وعاشرها: أن حمل اللفظ على أحد مفهوميه لا يقتضى التعارض. وأما حمله على المعنى المجازي يقتضى التعارض بين القرينة المعينة له وبين الدليل الدال على أصالة الحقيقة فكان مرجوحا. قلت: تعارض ما ذكرتم من الوجوه، بما تقدم من فوائد المجاز من التعظيم والتحقير، والمبالغة في التعبير عن المقصود، وبكونه سببا للذة وبكونه أوجز وأوفق لأصناف البديع، من السجع، والمجانسة، والمطابقة، والمقابلة، ولإقامة الوزن، والقوافي، وغيرها من الفوائد، وحينئذ يبقى ما ذكرناه سليما عن المعارض. المسألة الرابعة [في التعارض بين الاشتراك والتخصيص] إذا وقع التعارض بين الاشتراك والتخصيص، فالتخصيص أولى. والدليل عليه: أن التخصيص خير من المجاز- على ما سيأتي بيانه إن

المسألة الخامسة [في التعارض بين النقل والإضمار]

شاء الله تعالى- والمجاز خير من الاشتراك- على ما تقدم تقريره- والخير من الخير خير، فكان التخصيص خير من الاشتراك. المسألة الخامسة [في التعارض بين النقل والإضمار] إذا وقع تعارض بين النقل والإضمار، فالإضمار أولى. والدليل عليه وجوه: أحدها: إن الإضمار من باب الفصاحة والبلاغة- على ما تقدم تقريره- والنقل ليس كذلك فكان أولى. وثانيها: أن النقل يستدعى اتفاق أرباب اللسان على تغيير الوضع، وذلك متعذر أو متعسر. والإضمار ليس كذلك فكان أولى. وثالثها: النقل يقتضى النسخ، والإضمار ليس كذلك. ورابعها: أن النقل أقل من الإضمار للاستقراء، بل أنكره بعض المحققين، والإضمار ليس كذلك فكان أولى.

المسألة السادسة [في التعارض بين النقل والمجاز]

وخامسها: أن في صورة النقل قد يحمل اللفظ على المنقول عنه، وهو حيث يكون المخاطب غير عارف به، هذا لأنه وان اعتبر فيه الاشتهار، لكن ليس من شرطه أن يعرفه كل واحد واحد من أهل اللسان حتى لو شذ واحد أو اثنان من معرفته كان ذلك قادحا فيه، بل من شرطه أن يعرفه المعظم، وحينئذ يصير منشأ للجهل، وأن لا يحصل المراد ويحصل غيره، والإضمار ليس كذلك فكان أولى. المسألة السادسة [في التعارض بين النقل والمجاز] إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز، فالمجاز أولى. والدليل عليه: أنا بينا أن الإضمار خير من النقل، وسنبين- إن/ (73/ب) شاء الله تعالى- أن المجاز خير من الإضمار، فكان خيرا من النقل. المسألة السابعة [في التعارض بين النقل والتخصيص] إذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص، فالتخصيص أولى.

المسألة الثامنة [في التعارض بين الإضمار والمجاز]

لأن التخصيص خير من المجاز- لما سيأتي- والمجاز خير من النقل- لما تقدم- فكان التخصيص خيرا من النقل. المسألة الثامنة [في التعارض بين الإضمار والمجاز] إذا وقع التعارض بين الإضمار والمجاز، فالمجاز أولى. وقيل: بعكسه. وقيل: هما سيان.

والدليل على أنه أولى: هو أنه أكثر للاستقراء، والكثرة تدل على قلة المفسدة. ولأن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب، أولى من إلحاقه بالنادر. واحتج من قال: أن الإضمار أولى، بأن القرينة التي تلغى الحقيقة وتعين المجاز، قد تكون منفصلة عن اللفظ، وحينئذ أمكن أن لا تصل إلى السامع فيقع في الجهل باعتقاد ما ليس بمراد مرادا وفي كلفة العمل بما لا يجديه نفعا، بل قد يكون سببا للمضرة وهو العمل بمقتضى الحقيقة. وأما قرينة الإضمار فمتصلة باللفظ، إذ هو عبارة عن إسقاط شيء من الكلام يدل عليه الباقي فيمتنع أن لا يصل إليه، وحينئذ يأمن من الغلط فيه فكان أولى. واحتج من يزعم أنهما متساويان: بأن الإضمار كما يحتاج إلى ثلاث قرائن، فكذا المجاز يحتاج إلى العلاقة المصصحة له، ويحتاج إلى قرينة تلغى الحقيقة، وقرينة تعين المجاز. وكما أن فهم الحقيقة يعين على فهم المجاز، فكذا فهمه يعين [على] فهم الإضمار فيستويان.

المسألة التاسعة [في التعارض بين الإضمار والتخصيص]

وجوابهما: المعارضة بفوائد المجاز، ويخص الثاني بمنع كون الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن على الإطلاق. المسألة التاسعة [في التعارض بين الإضمار والتخصيص] إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص فالتخصيص أولى. والدليل عليه أنا قد بينا أن المجاز خير من الإضمار- وسنبين إن شاء الله تعالى- أن التخصيص خير من المجاز، فيكون التخصيص خير من الإضمار. وهذا إذا قلنا: بأن المجاز خير من الإضمار. أما إذا قلنا: بأنهما متساويان فكذلك، لأن الخير من مساوي الشيء خير من الشيء. وأما على القول الآخر فيحتاج فيه إلى دليل آخر لتعذر جريان الأول فيه وستعرفه من بعض ما يأتى. المسألة العاشرة [في التعارض بين المجاز والتخصيص] إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص، فالتخصيص أولى.

والدليل عليه وجوه: أحدها: أن في صورة التخصيص إذا لم يعرف المخاطب القرينة يجرى اللفظ/ (74/أ) على عمومه، فيحصل المراد وغيره. وفي صورة المجاز إذا لم يقف على القرينة يحمله على الحقيقة، فلا يحصل المراد ويحصل غيره، ولا شك أن محذور الأول أقل، فكان أولى. وثانيها: أن دلالة العام بعد التخصيص على بقية الأفراد، يحتمل أن يكون حقيقة، إذ المسألة اجتهادية. ودلالة المجاز على معناه المجازي لا يحتمل ذلك، لكونه خلاف الإجماع، والحقيقة راجحة على المجازية، والمحتمل الراجح راجح فيكون التخصيص راجحا. وثالثها: أن العام انعقد دليلا على جميع الأفراد، فإذا خرج البعض عن الإرادة بدليل يخصه، بقى في الباقي دليلا فلا يحتاج في حمله عليه إلى تأمل واستدلال وقرينة معينة خالية أو غيرها.

وأما في صورة المجاز إذا خرجت الحقيقة عن الإرادة، يحتاج في صرف اللفظ إلى المجاز، إلى تأمل واستدلال وقرينة معينة لنوعه وفرده، وربما يقع التعارض بين ذلك النوع وبين نوع آخر، وبين ذلك الفرد وفرد آخر، من ذلك النوع، أو من غيره، فيتوقف فيه فيتعطل المقصود، وهذه الكلفة والمفسدة غير حاصلة في التخصيص فكان أولى. ورابعها: أنا وإن قلنا: أن العام المخصوص مجاز، لكن العمل به عمل بالحقيقة من وجه، وبالمجاز من وجه، والمجاز ترك لحقيقة اللفظ بالكلية فكان التخصيص أولى. وخامسها: التخصيص فيما يتصور فيه أكثر من المجاز فيما يتصور فيه التجوز، إذ ما من عام إلا وقد خص عنه البعض، إلا قوله تعالى: {والله بكل شيء عليم} {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} وليس كل لفظ يتصور فيه التجوز فهو مجاز، والكثرة تدل على قلة المفسدة فيه. فإن قلت: هذه القاعدة التي ذكرتموها مرارا، وهي أن الكثرة تدل على رجحان المصلحة، أو على قلة المفسدة، منقوضة بما ذكرتم أن المجاز أكثر من الحقيقة، لأنه حينئذ يلزم أن يكون المجاز راجحا في المصلحة على الحقيقة، أو أقل مفسدة منها، وعلى التقديرين يلزم ألا يكون المجاز خلاف الأصل، لكن قد ذكرتم أنه خلاف الأصل، وهو تناقض. قلت: الذي ذكرنا أن المجاز أكثر من الحقيقة ليس هو المجاز اللغوي فقط بل

مجموع المجازين، أعني اللغوي والعقلي وقد قدحنا بذلك ثمة، وما ذكرنا من المجاز خلاف الأصل ليس المراد منه هو المجموع بل المجاز اللغوي فقط ولا يلزم من هذا أن يكون المجموع خلاف الأصل، وكيف يمكن أن يقال/ (74/ب) ذلك إذا فسر خلاف الأصل بخلاف الغالب فلا يلزمه النقض ولا التناقض.

خاتمة الفصل بفروع أحدها: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنسخ فالاشتراك أولى. مثاله من جانبنا أن نقول: النهي في قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} يجب حمله على كراهة التنزيه بطريق الحقيقة، ويدل عليه بدليل، أو وإن لم يدل عليه لكنه يعتقد ذلك، والخصم يكفيه الإلزام لا على التحريم، وإن كان حقيقة فيه أيضا لئلا يلزم نسخ ما ورد من الأحاديث الدالة على أن متروك التسمية يباح أكله مثل قوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم تؤكل سمي أو لم يسم" إن كان القرآن متأخرا، أو نسخه إن كان متقدما، إذ لا سبيل إلى التخصيص، لأنه ليس أحدهما أخص من الآخر حتى

............................................................................

يصار إليه. فإنه لا فرق في ذلك بين المسلم وغيره ممكن تحل ذبيحته من أهل الكتاب بالإجماع، ولا يمكن تنزيل الحديث على حالة النسيان ليكون القرآن منه منزلا على حالة العمد، إذ التسمية في حالة النسيان غير ممكن فيتعين نسخ أحد النصبين. فيقول الخصم: ما ذكرت من الدليل، وإن دل على أنه يجب حمل النهي على كراهية التنزيه، لكن عندنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله عليها، وذلك لانا أجمعنا على أن النهي حقيقة في التحريم، فلو كان حقيقة فيها أيضا لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل فلا يجوز حمله عليها.

فنقول: إذا آل الأمر "إلى" التزام أحد المحذورين، فالتزام الاشتراك أولى. وإن شئت له مثالا آخر من جانبهم فقل: لا يجوز أن يكون المراد من "القرء" في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} "الطهر" لأنه يستلزم نسخ احد النصين وهو إما الآية المذكورة، أو قوله عليه السلام: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان"، لأنه لا فرق بين الحرة وبين الأمة في أن العدة بالطهر وبالحيض فيهما بالإجماع، وإذا لم يكن الطهر مرادا، لم يجز حمله عليه فيتعين حمله على الحيض بالإجماع.

فيقول الخصم: ما ذكرتم من الدليل وإن دل على أنه لا يجوز حمله على الطهر، لكن عندنا ما يدل على انه لا يجوز حمله على الحيض، وهو أن القرء

حقيقة في الطهر ويتمسك في ذلك، إما بمساعدة الخصم عليه، أو بالدلائل التي تدل عليه، مثل الاستعمال أو الاشتقاق وغيرهما، مما يمكن أن يستدل به على أنه حقيقة فيه، فلو كان القرء محمولا على الحيض بطريق/ (75/أ) الحقيقة لزم الاشتراك، وأنه خلاف الأصل. فيقول المستدل: الاشتراك خير من النسخ، فالتزامه أولى. ثم الذي يدل عليه وجوه:- أحدها: أن في صورة النسخ يصير الخطاب، كالباطل في كونه غير معمولا به. وأما في صورة الاشتراك فغنه يكون معمولا به "إذا فهم معناه فكان أولى. وثانيها: أن المكلف إذا سمع الخطاب المنسوخ، ولم يسمع الناس يجب عليه اعتقاد حقيته والعمل بمقتضاه، والأول: جهل. والثاني: مشقة وضرر. وأما في صورة الاشتراك" إذا سمع المكلف الخطاب، ولم يسمع القرينة لا يجب عليه شيء من ذلك، فكان أولى. وثالثها: الاشتراك أكثر من النسخ، للاستقراء، فكان أولى لما تقدم. ورابعها: النسخ يفتقر إلى الخطابين، أو ما يقوم مقامها، وإلى تخلل زمان بينهما، بل إلى مضى مدة الامتثال على رأي.

والاشتراك لا يفتقر إلا إلى الوضع الواحد فكان أولى. وخامسها: الاشتراك قد يحصل بالذات وبالعرض، كما في وضع القبليتين. والنسخ لا يحصل إلا بالذات، فكان الأول: أقصى حصولا، فكان أولى. وإذا ثبت أن الاشتراك أولى من النسخ كان الاحتمالات الباقية أولى منه بالطريق الأولى وثانيها: إذا وقع التعارض بين الاشتراك اللفظي، والاشتراك المعنوي، فالاشتراك المعنوي أولى. ويدل عليه وجوه:- أحدها: أن الإبهام الذي يتطرق إلى الاشتراك المعنوي بسبب اختلاف الأفراد، يتطرق إلى الاشتراك اللفظي مع زيادة الإبهام الناشئ من اختلاف حقائق مسمياته، فكان الاشتراك المعنوي أولى. وثانيها: أن في صورة الاشتراك المعنوي لا يتعطل النص بحال ألبتة، لأنه إن وجد اللفظ معرفا مجموعا كان أو مفردا، حمل على المعهود، أو على جميع الأفراد، أو على الماهية، وإن وجد منكرا بلا قرينة تعين فردا من أفراده تخير المكلف في العمل به بأي فرد شاء من أفراده بخلاف الاشتراك اللفظي، فإن الخطاب عند عدم القرينة يتعطل لعدم إمكان العمل به فكان الأول أولى.

وثالثها: أن الاشتراك المعنوي أكثر، فكان أولى. ورابعها: أن الحاجة إلى المتواطئ ماسة "لمسيس الحاجة إلى التعبير عن الماهيات الكلية والمعاني العامة بخلاف المشترك، فإن الحاجة إليه غير ماسة"، لأن الإبهام المقصود منه حصل بالترديد- كما تقدم ذكره- فكان أولى. وخامسها: إن الاشتراك قد اختلف/ (75/ب) في وجوده، [و] المتواطئ لم ينكره أحد فكان أولى. ومن هذا تعلم أن اللفظ إذا تناول الشيء بجهة المتواطئ، وبجهة الاشتراك، كان اعتقاد أنه يتناوله بجهة التواطئ أولى. لأن اعتقاد الراجح أرجح من اعتقاد المرجوح، وكما أن المتواطئ راجح على المشترك، فكذا هو راجح على الاحتمالات الأخر، ويعرف ذلك مما سبق فلا يفرد بالذكر. وثالثها: إذا وقع التعارض بين أن يكون اللفظ مشتركا بين علمين، أو بين علم ومعنى، [أو بين معنيين كان جعله مشتركا بين علمين، أو بين علم ومعنى أولى]. أما إذا وقع التعارض بين الأولين كان جعله مشتركا بين علمين أولى، وهذا لأن اختلال الفهم في صورة العلمين أقل فكان أولى.

ورابعها: إذا وقع التعارض بين المشترك والمشكك فالمشكك أولى. أما أولا: فلأن المشكك يشبه المتواطئ من وجه، والمتواطئ راجح على المشترك على تقدم، والمشابه للراجح راجح. وأما ثانيا: فلأن اختلال الفهم فيه أقل، فكان أولى. وخامسها: إذا وقع التعارض بين المتواطئ وبين المشكك المتواطئ أولى- ويعرف ذلك مما سبق فلا يفرد بذكر- وهذا آخر الكلام في اللغات.

"النوع الثاني" الكلام في تقسيم الأحكام الشرعية وما يتعلق بها من المسائل

النوع الثاني: الكلام في تقسيم الأحكام الشرعية وما يتعلق بها من المسائل

النوع الثاني الكلام في تقسيم الأحكام الشرعية وما يتعلق بها من المسائل وهو من وجوه: التقسيم الأول: قد عرفت مما سبق في تعريف الحكم اشرعي، أن حاصله يرجع إلى الخطاب. فنقول: خطاب الشارع إن اقتضى طلب الفعل من المكلف مع المنع من تركه فهو "الوجوب" وإن كان بدونه فهو "الندب" وإن اقتضى طلب الترك منه مع المنع من فعله فهو "الحرمة" وإن كان بدونه فهو "الكراهة"، وإن لم يقتض احد الطلبين بل خير المكلف في الفعل والترك فهو "الإباحة". فهذه أحكام خمسة.

ولنعقد أن يسمى في كل واحد منها وما يتعلق من المسائل فصلا.

"الفصل الأول" في الوجوب

"الفصل الأول" في الوجوب

"الفصل الأول" في الوجوب وفيه مسائل: المسألة الأولى في حد الواجب قد عرفت من التقسيم السابق ماهية الوجوب وحقيقته، لأنك عرفت منه كمال المشترك بينه وبين غيره من الأحكام وهو الجنس، وكمال المميز وهو الفصل، والماهية لا تتركب إلا عنهما، وعند ذلك يسهل عليك تحديد الواجب، لكن مع ذلك نذكر ما قيل فيه من الحدود ليعرف الصحيح منها والفاسد، ووجه الفساد في الفاسد. فالأول: هو ما قيل: الواجب ما يعاقب تاركه. واعترض عليه بوجهين: أحدهما: بأنه غير مانع، لأنه يتناول "المندوب" و "المباح"، إذ يعاقب تاركه/ (76/أ) إذا فعل ما يوجبه، فحينئذ يدخل فيه ما ليس

منه، ولو زيد فيه: على تركه. اندفع هذا. لا يقال: لا حاجة إلى هذه الزيادة، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فيفيدنا ذلك أنه إنما يعاقب على تركه لا على شيء آخر. لأنا نقول: هب أن الأمر كما ذكرتم، لكن ذلك مستفاد بطريق القياس لا من اللفظ، وإنما اللفظ يومئ إلى علية الوصف لا إلى ثبوت الحكم، وبتقدير أن يكون كذلك لكن ذلك بطريق الالتزام. ويحترز في التعريفات: عن دلالة الالتزام. الثاني: أنه يقتضي ألا يكون الفعل واجبا عندما لا يتحقق العقاب على تركه لوجوب انعكاس الحد، لكنه باطل إجماعا. أما عندنا فلجواز العفو وسقوطه بالتوبة. وأما عند المعتزلة فلسقوطه بالتوبة الخاصة. فقيل: فرارا عن هذا الإشكال هو: ما يتوعد بالعقاب على تركه. "لأنه وإن لم يتحقق العقاب على تركه" لسقوطه، إما بالعفو، أو

بالتوبة، لكنه قد توعد عليه. وهو باطل أيضا، لأن التوعد بالعقاب يستدعي تحققه، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى وهو محال، وحينئذ يلزم أن لا يجوز العفو من الله تعالى. لا يقال: لا نزاع في ورود التوعد بالعقاب على الفعل والترك في القرآن والأحاديث، مثل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} مع أنكم تجوزون العفو فيه، فما يكون جوابكم ثمة فهو جوابنا هنا.

لأنا نقول: يجوز أن يذكر الألفاظ العامة والمطلقة في الإخبارات والإنشاءات، ويراد منها المخصوص والمقيد، وإن لم يذكر معها ما يخصها ويقيدها بل بعدها، ولا يجوز مثله في التعريفات. نعم لو زيد في الأول: وقيل هو: ما يعاقب تاركه على تركه إن لم يوجد العفو والتوبة وسائر المكفرات. اندفع الاعتراضان المذكوران، لأن هذه الحيثية باقية، وإن لم يوجد العقاب للعفو أو للتوبة، لكنه تطويل من غير فائدة أو غيره أوجز منه. وأسد مما قيل: فرارا عن هذا الإشكال، هو: ما يخاف العقاب على تركه. وهو غير مانع، لأن الذي يشك في وجوبه يخاف على تركه، مع أنه غير واجب، وحينئذ يدخل فيه ما ليس منه. وقيل هو: "ما يستحق تاركه العقاب على تركه".

وهو باطل أيضا، إذ الاستحقاق يستدعي مستحقا عليه، وليس هو الله تعالى على ما ثبت في علم الكلام، أنه لا يستحق "عليه"/ (76/ب) شيء ولا أحد من المخلوقين بالإجماع. نعم لو أريد بالاستحقاق، أنه لو عوقب على ذلك لحسن ذلك، بالنسبة إلى مقاصد الشرع، فهذا سائغ لكنه خلاف ظاهر اللفظ. وقال القاضي أبو بكر: وارتضاه جمهور الأصحاب، الواجب: ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه.

أما الذم: فهو قول، أو فعل، أو ترك قول، أو ترك فعل، ينبئ عن اتضاع حال الغير، وتارك الوجب وإن عفا عنه فالذم والتوبيخ من الشارع غير منفك عنه، إذ أقله أن يسميه عاصبا وهو اسم ذم وفاقا، ولأنا نعلم منه أنه لم يكرمه مثل إكرام الآتي به، وإن عفا عنه إذ سلب عنه منصب العدالة، وهي شرط قبول الشهادة، ولا شك أن عدم قبول الشهادة، وما يجري مجراها ذم منه. وبهذا يعرف اندفاع ما اعترض به على هذا، وهو أنه لابد وأن يكون لهذا الذم فاعل، لكن ذلك غير معقول، إذ لا يجوز أن يكون فاعله هو الشرع، لأنه ليس حيا ناطقا، ولا أهله لاستحالة الدور، ولا الشارع، لأنه لم ينص على لوم كل تارك للواجب، ولا على ترك كل صنف من أصناف الواجبات. وقولنا: شرعا. يحترز به عما يذم تاركه عقلا، أما على مذهبنا: فعلى الإطلاق، وأما على رأي المعتزلة لو قالوا به: فعبن ما يذم تاركه عقلا، لا بالنسبة إلى أنه مطلوب الشرع، بل إما لفوات مصلحة، أو جلب مضرة دنياوية.

وقولنا: "على بعض الوجوه" إنما ذكرناه. ليدخل فيه "الواجب الموسع" و "المخير" و "الفرض على الكفاية". لأنه وإن كان لا يذم تارك الصلاة في أول الوقت مع اتصافها بالوجوب فيه، لكن لو تركها في جميع الوقت، أو في أوله ولم يعزم على فعله فيما بعده لا يستحق الذم، على رأي من يجعل العزم بدلا عنه. وكذا القول في "الواجب المخير"، فإنه لو ترك كل الخصال استحق الذم، وإن كان لا يستحق ذلك على ترك بعضها إذا فعل البعض الآخر. وكذا القول في الفرض الكفاية، فإنه لو تركه البعض، وقام به البعض لا يذم تاركه، أما لو تركه الجميع حرجوا جميعا. لا يقال: الحد غير مانع فإن السنة تدخل فيه، لأن تارك السنة قد يذم ألا ترى أنه لو اتفق أهل بلدة على ترك الأذان- مثلا- لقوتلوا.

المسألة الثانية في أسماء الواجب

لأنا نقول: لا نسلم أن ذلك على القول بأنه سنة، بل ذلك بناء على أنه فرض كفاية. ولئن/ (77/أ) سلمنا أن ذلك على الإطلاق، لكن إنما قوتلوا، لأن تركهم إياه دائما من غير عذر يدل على استهانتهم بالطاعة، وزهدهم فيها، وذلك يدل على انحلال العقيدة، وليس محافظة العقيدة من السنة، بل من الواجبات، فالمقاتلة حينئذ تكون على ترك الواجب. المسألة الثانية في أسماء الواجب أعلم أن من أسمائه: المكتوب، والمحتوم، والفرض، ولا فرق عندنا بين الواجب، والفرض، في اصطلاح الشرع. وإن كانا مختلفين في اللغة. إذ الفرض في اللغة: التقدير، قال الله تعالى: {فنصف ما فرضتم} أي قدرتم، ومنه فرض الحاكم النفقة، وفرضه النهر والبحر، وهي موضع اجتماع السفن كأنه مقدر لذلك.

وأما ما جاء منه بمعنى "الإنزال" في قوله تعالى: {إن الذي فرض غليك القرآن لرادك إلى معاد} أي أنزل. وبمعنى "الحل" في قوله تعالى: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} أي: أحل له، فهو راجع أيضا إلى ما ذكرنا، إذ الإنزال والحل مقدران له، وإلا يلزم الاشتراك أو

المجاز، وقد عرفت أن التواطوء أولى منهما. وأما الوجوب. فهو في اللغة: عبارة عن "السقوط"، قال الله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت، ومنه قوله عليه السلام: "إذا وجب المريض فلا تبكين باكية" أي سقط ومات، لأن قبل الموت لم تسقط أعضاؤه على الأرض بالكلية لما فيه من الاضطرابات والتقلب من جنب إلى جنب.

والحنفية خصوا اسم الفرض، بما ثبت وجوبه بدليل لا شبهة فيه، كالكتاب والسنة المتواترة، تشوقا منهم إلى رعاية المعنى اللغوي. لأن ذلك هو الذي يعلم من حالة أن الله قدره علينا وكتبه، ولذلك سمي مكتوبا. والواجب بما عرف وجوبه بدليل مظنون، وهو الذي يوجب العمل دون العلم كخبر الواحد، ولهذا لم يكفروا جاحده ولا يضللوه، بخلاف الفرض. وإنما خصصوا ما عرف وجوبه بدليل مظنون بالواجب لسقوطه على المكلف حتى لزمه العمل به، وهذا المعنى وإن كان موجودا في الفرض، لكنه يخصه كونه معلوم التقدير تسمى باسم ما يخصه تميزا له عما يشاركه في المعنى العام. واعترض عليه الإمام: بأن الفرض: هو المقدر سواء علم تقديره أو ظن

و "الواجب" هو الساقط سواء علم بسقوطه أو ظن، وهذا المعنيان يشملهما على السواء، فتخصيص أحد اللفظين/ (77/ب) بأحد القسمين دون الآخر تحكم محض. وفيه نظر فإن لقائل أن يقول: لا نسلم أنه تحكم محض، بل التخصيص لزيادة ملائمة للمعنى اللغوي، وهذا لأن ما علم تقديره، قد قطع بوجود مسمى الفرض فيه، وهو مخصوص به لا يوجد في الواجب، إذ هو غير معلوم التقدير فخض باسم ما قطع بوجود مسماه فيه تمييزا له عما يشاركه في مطلق التقدير، وفي مطلق وجوب العمل به، وأما الواجب فلم يتحقق فيه إلا وجوب العمل به، فخض باسم ما تحقق مسماه فيه وهو السقوط، إذ لم يعلم منه إلا كونه واجب العمل. ومنهم من استدل على ضعف ما ذكروه من طريق التخصيص بوجه آخر: وهو أن اختلاف طرق إثبات الحكم في كونه معلوما أو مظنوا غير موجب لاختلاف ما ثبت [به]، ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والقوة والضعف بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض، لا يوجب اختلاف الواجب في نفسه، من حيث إنه واجب. ثم قال: وكذا اختلاف طرق النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها، وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافه في نفسه، من حيث إنه حرام. وهو ضعيف. لأنه إن عني بقوله: غير موجب لاختلاف ما ثبت به الاختلاف في الماهية

والحقيقة، من حيث إنه حكم شرعي، أو من حيث أنه يذم تاركه على ما ذكرنا من القيود، وما يجري مجراه من الأمور المشتركة بينهما وهو الظاهر من كلامه، فهذا مسلم ولا نزاع فيه، فإن الواجب والفرض لا اختلاف بينهما من حيث إنهما حكمان شرعيان واجبا العمل مقدران يذم تاركهما. وإن أرادا به غير هذا فهو ممنوع. وهذا لأن المعلوم من حيث إنه معلوم مخالف في الماهية، للمظنون من حيث إنه كذلك، بخلاف الواجبات المختلفة في الظهور والخفاء، فإنه لا اختلاف فيهما من حيث إنه مظنون، وإن كان بينهما أيضا اختلاف من حيث الظهور والخفاء. سلمنا: أن اختلاف طرق إثبات الحكم، غير موجب لاختلاف ما ثبت به في الحد والحقيقة على الإطلاق لكن ليس ذلك مما وقع النزاع فيه، وإنما النزاع في تخصيص أحد القسمين بأحد الاسمين دون الآخر، وما ذكره لا ينفيه. نعم لو قيل: هكذا: إن اختلاف طرق إثبات الحكم في كونه معلوما/ (78/أ) أو مظنونا، لا يوجب اختلاف الأسماء، كما أن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء، والقوة والضعف، بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض، لا يوجب اختلاف أسمائها المفردة، لكان أقرب إلى المقصود، لو ثبت أن في الواجبات ما يقتل المكلف بتركه، مع أن ذلك غير لازم أيضا، إذ الحاجة إلى اختلاف الأسماء عند اختلاف النوع، أمس منها إليه عند اتحاد النوع، واختلاف الصفة، ولهذا لا يكاد يوجد نوع من الأنواع وليس له اسم مفرد، ويوجد كثير من أصناف النوع الواحد، وليس له أسماء مفردة.

المسألة الثالثة [في حكم الواجب الذي لم يترجح فعله على تركه]

وبالجملة أن المسألة لفظية محضة، فإنا لا ننكر انقسام "الفرض" إلى مقطوع، وإلى مظنون، وقد عرف أن لا مشاحة في الألفاظ بعد أن حصل الاتفاق على المعاني. المسألة الثالثة [في حكم الواجب الذي لم يترجح فعله على تركه] قد عرفت مما سبق من التقسيم والتحديد أن ماهية الوجوب لا تتحقق ما لم يترجح الفعل على الترك ترجحا خاصا، بحيث يترتب الذم أو العقاب على تركه، فلو أوجب الله تعالى علينا شيئا، ولم يترجح فعله على تركه بالنسبة إلى غرضنا نحو نفي العقاب أو الذم بفعله عنا لم يكن واجباً

وقال القاضي أبو بكر- رحمه الله تعالى-: إذا أوجب الله تعالى علينا شيئا، ولم يتوعد عليه بعقاب يكون واجبا، إذ الوجوب بإيجابه تعالى لا بالعقاب. وهو إن أراد بهذا أن "الوجوب" يتحقق بدون العقاب، وبدون توعده، بناء على أن الرجحان ليس منحصرا فيهما، بل قد يكون بأن يكون تركه سببا للذم، وفعله سببا للثواب المخصوص، فهذا حق. وإن أراد به أن الواجب قد يتحقق بمجرد الإيجاب، وإن لم يترجح الفعل على الترك بالنسبة إلينا، ويكون مقصوده من نفي التوعد نفي المرجح لا نفي خصوصيته، إذ قوله: إذ الوجوب بإيجابه مشعر بهذا. أو أراد أن مجرد إيجاب الله تعالى لا ينفك عن استلزام ذم أو عقاب على تقدير الترك، بناء على أن العقل يستقبح ترك ما أوجبه الله تعالى بمعنى ترتب الذم عاجلا والعقاب آجلا، فهو باطل. أما الأول: فلما مر من تعريف الواجب. وأما الثاني: فلبطلان التحسين والتقبيح العقلي. وأما نقل الإمام خلاف الغزالي، في مسألة أنه ليس من شرط الوجوب

المسألة الرابعة [في الواجب المخير]

تحقق العقاب على الترك، فهو سهوا منه، لأن الشيخ الغزالي- رحمه الله- نفى الوجوب عند نفي/ (78/ب) الترجيح مطلقا، لا عند نفي العقاب، فليس في تزييفه لما قيل في حد "الواجب" أنه الذي يعاقب على تركه، أو الذي يتوعد على تركه، وبين نفيه الوجوب عند نفي مطلق الترجيح تناقض. المسألة الرابعة [في الواجب المخير] قال جمهور الفقهاء والمتكلمين منا: وجوب شيء من أشياء محصورة كما في خصال الكفارة، أو غير محصورة كإعتاق رقبة من الرقاب لا يقتضي وجوب جميعها، بمعنى أنه يجب الإتيان بكل واحد من تلك الأشياء، بل يقتضي وجوب شيء واحد لا بعينه. ونقل عن أبي هاشم وابنه القول: بوجوب الكل، ثم إن بعضهم اقتصر

عليه. وبعضهم زاد ونقل القول: بوجوب الكل على التخيير والبدل. قال المحققون منا كإمام الحرمين وغيره، ومنهم كأبي الحسن البصري: أنه لا خلاف بين الفريقين في المعني على النقلين جميعا، بل في اللفظ، فإنهما قد اتفقا على أن المراد من قوليهما جميعا: أنه لا يجب على المكلف الإتيان بكل واجد منهما، ولا يجوز له ترك كل واحد منهما، وعليه أن يأتي بواحد منها أي واحد أراد. نعم لو فسر الوجوب التخييري بما أن الواجب هو ما اختاره المكلف، بمعنى أنه باختياره يصير واجبا "لا" بمعنى أنه باختياره يصير متعينا

للوجوب لتحقق الخلاف في المعنى. وكذلك لو عنى بقولهم: الواجب واحد لا بعينه، عدم التعيين بالنسبة إلينا، أما بالنسبة إلى الله تعالى فلا، بل هو متعين عنده تعالى، وعلم أن المكلف لا يختار إلا ذلك المتعين. لكن الفريقين اتفقوا على فساد هذين المذهبين- على ما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى-، ولعل القوم، إنما اختاروا هذه العبارة وهي: أن الكل واجب على التخيير على عبارتنا. وهي: أن الواجب واحد بعينه، مع مساعدتهم إيانا على المعنى، لأنه يشعر بعدم إيجاب ما عداه الواحد، والوجوب عندهم يتبع الحسن الخاص، فيجب عند التخيير بين الأشياء استواؤهما في ذلك الحسن الخاص المقتضي للوجوب، وإلا وقع التخيير بين الحسن المخصوص، وبين غيره، وهو غير جائز. فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن يكون الكل واجبا بمعنى أنه يجب الإتيان بكل واحد منهما لاستوائهما في المعنى الذي يوجب الإتيان بواحد منها.

قلت: جاز أن يكون حصول ذلك المعنى مطلوبا للشارع فقط، لا تكرر حصوله، فإذا حصل يجب ضمن واحد منها لا جرم لم يجب الباقي، كما في فرض الكفاية، وعند هذا التلخيص تميز محل النزاع عن محل الوفاق، وعرف أيضا أنه لا منازعة بين/ (79/أ) الفريقين في المعنى. فلنشرع الآن في الحجاج جريا على عادة المتقدمين، فإن بعض تلك الأدلة تشعر بالخلاف بينهما في المعنى. احتجت الأشاعرة والفقهاء: على أن القول بوجوب واحد لا بعينه جائز عقلا وواقع شرعا. أما الأول: فلأنه لا امتناع في العقل من أن يقول الشارع للمكلف أو السيد لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا الثوب، أو بناء هذا البيت، أيهما فعلت أثبتك عليه، بثواب ما أوجبت عليك، وهو ثواب واجب واحد، وإن تركت

الجميع عاقبتك عقاب ترك واجب واحد، ولست أوجب الجميع، ولا أجور ترك الجميع، وإنما أوجب واحدا لا بعينه، أي واحد أردت، فهذا كلام معقول ليس في العقل ما يحيله. وأما وقوعه شرعا: فيدل عليه قوله تعالى في كفارة اليمين: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} فإنه لا يخلو إما أن يقال: إنه تعالى أوجب جميع هذه الخصال، أو ما أوجب شيئا منها، أو أوجب منها ما يختاره المكلف، أو أوجب واحدا بعينه، أو واحدا لا بعينه، والأقسام الأربعة الأول باطلة. فيتعين القسم الأخير، وهو المطلوب. أما الأول: فيدل على بطلانه وجوه:- أحدها: الإجماع، إذ ليس في الأمة من يقول: بوجوب جميع تلك الخصال الثلاثة، بمعنى أنه يجب الإتيان بكل واحد منها. وثانيها: أن ذلك يقتضي أن لا تكون "أو" مستعملة في حقيقتها، وهو خلاف الأصل. وثالثها: أنه لو أتى الجميع، أو ترك الجميع فإنه لا يثاب على الجميع ثواب الواجب، ولا يعاقب على ترك الجميع، باتفاق الخصوم.

ورابعها: أنه يقتضي أن يكون عتق جميع العبيد واجبا، لأن عتق عبد من العبيد واجب، كما أن خصلة من الخصال الثلاثة واجبة. وأما إن أريد بوجوب الجميع الوجوب على وجه التخيير، بمعنى أنه يجب إتيان واحد منها أي واحد أراده المكلف، فهو الذي نعنيه أيضا من قولنا: "الواجب واحد لا بعينه" وحينئذ يؤول النزاع إلى اللفظ. وأما إن أريد منه "أن" ما يختاره المكلف فهو باختياره يصير واجبا. فهو باطل- أيضا لما سيأتي-. وأما القسم الثاني: فهو باطل أيضا بالإجماع، ولأنه خلاف التقدير إذ الكلام مفروض، فيما إذا أوجب شيء من الأشياء. وكذلك القسم الثالث: أما أولا: فبإجماع الأمة، قبل ظهور المخالف أن قال به أحد على أن شيئا منها واجب قبل اختيار المكلف. وأما ثانيا: فلأنه على خلاف ظاهر الآية. وكذلك القسم/ (79/ب) الرابع: لأن الوجوب على التعيين، معناه: أنه لا يجوز تركه بعينه، والوجوب على وجه التخيير، معناه: أنه يجوز للمكلف

ترك كل واحد منها، يشترط الإتيان بالآخر، فلو كانت خصلة منها واجبة على التعيين، سواء كان ذلك بالنسبة إلى الله تعالى، أو بالنسبة إلينا لزم أن لا يجوز تركها بعينها، لكن الإجماع منعقد على أنه لا يأثم بترك خصلة منها إذا فعل الأخرى أي خصلة كانت، وحينئذ يلزم أن يجوز تركها وأن لا يجوز، وذلك متناقض، وإذا بطلت هذه الأقسام تعين القسم الأخير وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتم من الآية، إنما تكون دالة على إيجاب واحد لا بعينه، لو كانت تقتضي إيجاب الخصال الثلاثة به بالنسبة إلى كل واحد من الأمة، هو ممنوع. ولم لا يجوز أن المراد منها إيجاب الخصال الثلاثة بالنسبة إلى مجموع الأمة؟ وحينئذ لا يلزم منها أن يكون الواجب واحدا لا بعينه، بل تكون مقتضاها حينئذ إيجاب الطعام بعينه بالنسبة إلى بعض الحانثين، والكسوة إلى بعض آخر والإعتقاق إلى بعض آخر. سلمنا: أنها تقتضي إيجاب الكل، بالنسبة إلى كل واحد من الأمة، لكن لا نسلم على وجه التخيير. ولم لا يجوز أن يكون المجموع واجبا على التعيين؟ وإنما لا يجب الإتيان بكل واحد منها عند الإتيان بالبعض، لأن إتيان البعض سبب لسقوط الباقي، كما في الفرض الكفاية. سلمنا: أن الكل غير واجب على التعيين فلم لا يجوز أن يكون الواجب

واحدا بعينه؟ وهو ما علم الله تعالى أن المكلف يختاره ويكفر به. سلمنا: فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون الواجب هو ما يختاره المكلف؟ بمعنى أن لاختياره مدخلا في الوجوب ودعوى الإجماع على فساد هذا القسم ممنوع. قوله: ثانيا: أنه خلاف الظاهر. قلنا: قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، وقد قام الدليل عليه، وهذا لأن القول بوجوب واحد لا بعينه باطل. أما أولا: فلأن الحكم عبارة عن تعلق خطاب الشرع بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير على ما تقدم تعريفه، والخصم مساعد عليه أيضا، فالواجب ما تعلق به الخطاب باقتضاء الفعل المانع من النقيض، والخطاب يمتنع تعلقه باقتضاء فعل أحد الأمرين المبهمين، كما يمتنع تعلقه بالإيجاب على أحد الشخصين الغير المعينين. وأما ثانيا: فلأن اقتضاء الطلب يستدعي مطلوبا معينا، لأن المطلوب لابد وأن يتميز عن غيره، وإلا لم/ (80/أ) يكن أولى بالمطلوبية من غيره، فما ليس بمعين ليس مطلوبا فلا يكون واجبا، وإذا امتنع أن يكون الواحد لا بعينه واجبا. وقد تبين فساد الأقسام الثلاثة الأخر لما ذكرتم من الدليل، تعين أن يكون الواجب هو ما اختاره المكلف. والجواب عن الأول من وجوه:

أحدها: أنه خلاف إجماع من سبق من السلف، فإنه لم يفهم أحد منهم من الآية ما ذكرتم من الاحتمال، بل أطبقوا بأسرهم على أن مقتضاها التخيير، بالنسبة إلى كل واحد من المكلفين. وثانيها: أنه يقتضي أن تكون "أو" بمعنى "الواو" وأنه خلاف في الأصل. وثالثها: أنه يقتضي إضمارات كثيرة، لأنه يصير معنى الآية حينئذ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من بعض الحانثين وكسوتهم من بعضهم وتحرير رقية من بعضهم، وقد عرفت أن الإضمار خلاف الأصل فكيف تكثيره؟. وعن الثاني من وجهين: أحدهما: أنه لو كان الأمر كما ذكرتم، لوجب أن يثاب على الكل ثواب الواجب إذا فعله، ويعاقب ترك الكل عقاب ترك الواجب، وبالإجماع ليس كذلك. ولهذا فارق فرض الكفاية، فإن الكل إذا فعلوه أثيبوا ثواب الواجب

وكذلك يعاقبون بأسرهم بتركه عقاب ترك الواجب. وثانيها: أنه لو كان الأمر كما ذكرتم، لكان المكلف إذا فعل الكل لوجب عليه أن ينوي في الكل أداء الواجب، كما في فرض الكفاية، فإن الكل إذا فعلوه، فإنه يجب على كل واحد منهم أن ينوي أداء ذلك الواجب، إن كان ذلك مما يحتاج إلي النية، وكما في سائر الواجبات المحتاجة إلى النية، وبالإجماع ليس كذلك. وعن الثالث: أنه متناقض لما يقتضيه ظاهر الآية، فإن ظاهرها يقتضي التخيير على ما تقدم بيانه، وذلك يقتضي جواز ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر، وكونه واجبا على التعيين يقتضي عدم جواز تركه على كل التقادير، فيكون مناقضا لظاهر لآية فيكون باطلا. وعن الرابع: أنه يقتضي أن لا وجود قبل الاختيار، وهو خلاف الإجماع، ومنعه مكابرة غير مستحق للجواب، ولأنه يقضي ألا يأثم بتركه قبل الاختيار، إذ لا وجوب قبله، ولو التزام بأنه لا يأثم بتركه قبل الاختيار وإنما يأثم بترك الاختيار وهو مقدوره، فلا يخفى عليك ضعفه ومخالفته لظاهر الآية. وأما قوله ثانيا: أنه وإن كان خلاف الظاهر، لكنه قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، وقد دل الدليل عليه، فوجب المصير إليه. فجوابه من وجهين:

أحدهما: وهو/ (80/ب) إجمالي أنه يقتضي التعارض، وهو خلاف الأصل، فالمستلزم له أيضا كذلك. وثانيهما: وهو أنا نمنع قيام الدلالة على ماذكروه من الاحتمال. قوله: في الوجه الأول: يمتنع تعلق الخطاب باقتضاء أحد الأمرين المبهمين، كما يمتنع تعلقه بالإيجاب على أحد الشخصين المبهمين. قلنا: لا نسلم أنه يمتنع تعلق الخطاب باقتضاء أحد الأمرين المبهمين، وجوازه بين، إذ لا يمتنع أن يقول السيد لعبده: آمرك بأحد هذين الفعلين من غير تعيين، أيهما أتيت به فقد امتثلت أمري. وأما القياس على الإيجاب على أحد الشخصين من غير تعيين، فغير صحيح. لأن الفرق قائم بينهما، ومعه لا يصح القياس. والفرق: وهو أن الإيجاب على الشخص يستدعي ذمه على تقدير تركه، وإثابته على تقدير فعله وذم شخص لا بعينه وإثباته غير ممكن، فلا يمكن الإيجاب على أحد الشخصين المبهمين، بخلاف إيجاب أحد الأمرين المبهمين، لأن حاصل الحكم الشرعي عندنا يرجع إلى تعلق الخطاب بأفعال المكلفين على الوجه الذي- تقدم ذكره- وتعلق النطق بواحد لا بعينه من جملة الأشياء ممكن وإلا لما أمكن التعبير عنه. قوله ثانيا: المطلوب لابد وأن يكون متميزا عن غيره. قلتا: نعم لكن لا يشترط أن يكون ذلك بكل الاعتبارات، بل ببعضها وهو حاصل فيما نحن فيه، فإنه يميز بأن ماعدا ما أبهم فيه غير مطلوب ولا المكلف معاقب على تركه. واحتج من زعم أن الكل واجب بوجوه:

أحدها: أن الخصال المذكورة، إن كانت متساوية في المصلحة التي تقتضي الوجوب، فيلزم أن يكون الكل واجبا وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، وتخلف المعلول عن العلة، وإن لم تكن متساوية، بل بعضها مختص بما لأجله اختص بالوجوب، لم يجز التخيير بينه وبين غيره، لأن التخيير بين الواجب وبين غيره غير جائز، لما فيه من رفع معنى الوجوب فكان هو متعينا للوجوب ولما لم يكن كذلك وفاقا، دل ذلك على أن الكل واجب غاية ما يقال عليه، أن الإتيان بالكل غير واجب أيضا بالإجماع. لكن يمكن أن يقال: في دفعه إنه يجوز أن يكون إتيان البعض سببا لسقوط الباقي، كما في فرض الكفاية، أو يقال عند إتيان البعض يجوز أن يسقط التكليف بالباقي، كما في إتيان غير الواجب، فإنه قد يسقط عنده التكليف بالواجب عندكم، بل ما نحن فيه أولى لاستواء الكل في الوجوب. وثانيها: لو لم يكن الكل واجبا، فإما أن لا يجب شيء منها وهو باطل وفاقا، أو يجب شيئا منها، وهو إما معين/ (81/أ)، أو غير معين، وكلاهما باطلان. أما الأول: فلوجهين:- أحدهما: ما سبق وهو أنه لم يجز التخيير بينه وبين غيره حينئذ. وثانيهما: أن لو كان كذلك لوجب أن ينصب الله تعالى عليه دليلا معينا غير اختيار المكلف وتسميته، كما في سائر الواجبات لئلا يلزم منه تكليف

ما لا يطاق، وحيث لم ينصب الدليل دل ذلك على بطلانه. وأما الثاني: فلأن ذلك الغير المعين، إما أن يكون لتعيينه طريق أو لا يكون، وهذا الثاني باطل وفاقا. وبيانه: أن منهم من أحال القول بوجوب واحد لا بعينه، ومنهم من اعترف به وكل من اعترف به، قال: يتعين لوجوب ما يختاره المكلف ويفعله، فالقول بوجوب واحد لا بعينه وليس لتعيينه طريق قول لم يقل به أحد. وأما الأول: فذلك الطريق، إما باختيار المكلف، أو غيره. الثاني: باطل لما سبق، والأول كذلك أيضا لوجهين: أحدهما: ما سبق وهو القياس على سائر الواجبات. وثانيهما: أن نظر العبد وعقله قاصر عن معرفة المصالح المقتضية للوجوب النافعة له معادا ومعاشا، فلا يجوز أن يفوض إلى رأيه القاصر تعيين الواجب، كما لا يجوز أن يفوض إليه أصله، حتى يجوز أن يقال له: أفعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا ما هو الواجب وليس هذا مما اختلف فيه، فإن ذاك إنما هو بالنسبة إلى النبي، أو بالنسبة إلى من علم الله عصمته، أما جوازه بالنسبة إلى كل واحد من المكلفين فذاك مما لم يقل به أحد. وثالثها: لو كان الواجب واحدا لا بعينه، لكان ما عدا ذلك الواحد غير واجب، فلو كفر ثالثة من المكلفين، كل واحد منهم بكل واحدة من تلك الخصال الثلاثة غير ما كفر به الآخر، لكان الواحد منهم لا بعينه هو المكفر بالواجب دون الآخرين، لكن الإجماع منعقد على أن كل واحد منهم مكفر بالواجب وذلك يدل على أنه ليس الواجب واحد لا بعينه، بل الكل واجب. واحتج: من زعم أن الواجب واحد بعينه، وهو ما علم الله تعالى أن المكلف

يكفر به، بأن الواجب واحدة من الخصال الثلاث، بدليل انه لو اقتصر المكلف على واحد منها لاجزأه بالإجماع. وما يقال من الاحتمال في قدحه: وهو أنه يجوز أن يكون الإتيان بالبعض سببا لسقوط الباقي، فإن مع هذا الاحتمال لا يكون ما ذكر من الحكم دالا على أن الواجب واحد فذلك، وإن كان ممكنا، لكنه خلاف الأصل لا يصار إليه إلا عند (81/ب) قيام الدلالة عليه، إذ الأصل أن لا يقوم الشيء مقام الشيء الآخر، ثم الله تعالى علم ما يكفر به المكلف، فكان ذلك هو الواجب في علمه تعالى، فيكون الواجب واحدا معينا. واحتج المخالفون على فساد مذهبنا بوجوه. أحدها: أن المكلف إذا أتى بالكل دفعة واحدة، إما بالوكالة، أو بعضها بالوكالة، وبعضها بالمباشرة، فلاشك أنه يستحق على ذلك ثواب الواجب، فإما أن يكون ثواب واجب واحد، أو ثواب واجبات كثيرة. فإن كان الثاني: كان الكل واجبا لا واحدا لا بعينه. وإن كان الأول: فإما أن يكون ذلك الاستحقاق معللا بكل واحد منها، أو بواحد منها، إما معين أو غير معين.

والأول باطل، لأنه يلزم منه اجتماع مؤثرات كثيرة، على آثر واحد، وهو محال، لاستلزامه احتياج الأثر واستغنائه معا بالنسبة إلى كل واحد من المؤثرات، وبتقدير صحته يلزم أن يكون كل واحد منها واجبا، لا واحدا لا بعينه. وإن كان الثاني: كان الواجب واحدا معينا. وإن كان الثالث: فهو باطل، لأن استحقاق الثواب حكم "معين"، فيجب أن يكون موجبه معينا لاستحالة إسناد المعين إلى المبهم، الذي لا وجود له في الخارج. وثانيها: أنه إذا أتى بالكل، فلابد وان يسقط عنه الفرض، فإن سقط عنه فروض كثيرة، كان الواجب أمورا كثيرة، لا واحدا بعينه، وإن سقط عنه فرض واحد، فإن كان معللا بكل واحد منهما، كان المحال المذكور لازما، وبتقدير تسليمه كان المطلوب حاصلا، وإن كان معللا بواحد معين فكذلك وإن كان بواحد غير معين فهو باطل، لأن الإتيان بالمبهم غير ممكن، لأن كل ما يؤتى به في الخارج فهو متعين، وإذا لم يمكن الإتيان به لم يكن سقوط الفرض معللا به، لأنه معلل بالماتي به. وثالثها: مثله في جانب الترك، بالنسبة إلى استحقاق العقاب. ورابعها: أنه إذا أتى بالكل فالمحكوم عليه بالوجوب، إن كان هو الكل من حيث إنه كل لم يكن شيء منها واجبا على الاستقلال، وهو خلاف الإجماع، وبتقدير تسليمه فالمطلوب حاصل، وهو أن لا يكون الواحد لا بعينه واجبا، وإن كان كل واحد منها كان كل واحد منها واجبا لا واحداً لا بعينه

وإن كان واحدا معينا، كان الأمر كما تقدم، وإن كان واحدا لا بعينه فهو باطل، لأن المبهم يمتنع وجوده في الخارج فيستحيل أن يكون موصوفا/ (82/أ) بالوجود الخارجي. وخامسها: أنه إذا أتى بالكل، فلاشك أنه يجب عليه أن ينوي أداء الواجب فإن وجب عليه ذلك بالنسبة إلى كل واحد من تلك الخصال، كان الكل واجبا لا واحدا لا بعينه، وإن وجب عليه ذلك بالنسبة إلى الكل من حيث أنه كل أو بالنسبة إلى واحد معين كان المطلوب حاصلا أيضا، وإن وجب عليه ذلك بالنسبة إلى واحد غير معين فهو باطل، لأن أداء المبهم غير ممكن، فلا يمكن إيجابه فلا تجب نية أدائه. والجواب عن الأول: أنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح وهي غير مسلمة عندنا، بل هي باطلة. على ما ستعرفه- إن شاء الله تعالى-. ولئن سلمناها: لكن ما ذكرتم منقوص بما إذا وجد رجلان صالحان للإمامة، فإن الأمة مخيرة في عقد الإمامة لاحدهما لا بعينه، ولا يمكن أن يقال أن عقد الإمامة لها واجب، فإن ما يحرم كيف يكون واجبا؟. وكذلك الولي مخير من تزويج موليته من أحد الكفؤين الخاطبين الصالحين لذلك، إذ الواحد منهما غير متعين لذلك وفاقا والجمع حرام، فكيف [يكون] واجبا؟: فلم يبق إلا أن يكون الواجب واحدا لا بعينه.

وعن الثاني: أن في سائر الواجبات المعينة، إنما لم يجعل اختيار العبد وفعله طريقا إلى تعينه، لأنه ربما يعقل ويختار ما ليس بواجب، بخلاف الواجب المخير، فإنه أي واحد فعل منه فإنه هو الواجب. وأما قوله: في الوجه الثاني: أن نظر العبد قاصر عن معرفة المصالح المقتضية للوجوب إلى أخره. فجوابه: أنه مبني أيضا على قاعدة التحسين والتقبيح وهي ممنوعة، وإنما لم يجز أن يفوض تعين أصل الوجوب إلى اختيار العبد وفعله لما سبق لا بما ذكرتم من عدم اهتدائه إلى المصالح المقتضية له. وعن الثالث: أنا لا نقول: إن الواجب واحد لا تعينه بالنسبة إلى عامة المكلفين حتى يلزم ما ذكرتم، بل ذلك بالنسبة إلى كل واحد منهم مكفر بالواجب فيما ذكرتم من الصور. وعن الرابع: أن علمه تعالى بما يكفر من المكلف، لا يقتضي أن يكون ذلك واجبا متعينا، بل لا يلزم منه إلا أنه متعين في علمه تعالى للفعل، ولا يلزم منه أنه متعين للوجوب في علمه تعالى ولا في غير علمه، وهذا كما لو علم الله تعالى من زيد أنه يصرف الزكاة إلى الفقير الفلاني، فإنه لا محالة يقع ذلك ولا يمكن أن يقال إن صرف الزكاة إلى ذلك الفقير واجب في علم الله تعالى، فإن ذلك جهل، تعالى عن/ (82/ب) ذلك علوا كبيرا، لأنه غير مطابق لما هو في نفس الأمر، إذ صرف الزكاة إلى ذلك الفقير المعين غير واجب، في نفس الأمر إجماعا، فلا يجوز أن يكون واجبا في علمه تعالى، والتحقيق فيه [أنه] إنما يصير متعينا للوجوب إذا فعله المكلف، فلو علم

الله تعالى أنه متعين للوجوب قبل الفعل، لكن ذلك جهلا وهو على الله تعالى. وعن الخامس: أنه معلل لكل واحد منها بطريق البدلية لا بطريق المعية، حتى يلزم أن يكون كل واحد منها واجبا. قوله: يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات كثيرة. قلنا: ممنوع على هذا التقدير. سلمناه: لكن هذه الأسباب معرفات لا موجبات، واجتماع المعرفات الكثيرة على معرف واحد غير مستحيل. سلمنا: فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يستحق الثواب على واحد معين؟ وهو أكثرها ثوابا، ولا يلزم من هذا أن يكون الواجب واحدا معينا قبل الفعل، لأن استحقاق الثواب بعد الفعل، وحينئذ يصير متعينا للوجوب والنزاع قبله، وبه خرج الجواب عن السادس أيضا: ونخصه أن نسلم أن ما يكون مبهما عند الإتيان، فالإتيان به غير ممكن، ولكن لا نسلم أنه لا يمكن الإتيان بما يكون مبهما، قبل الإتيان به يسير متعينا عنده. وعن السابع: ما تقدم أيضا. ويخصه أنه إنما يصير موصوفا بالوجوب في الوجود الخارجي عند اتصاله بالعقل، وحينئذ لم يبق منهما، وأما قبله فليس هو متصفا بالوجوب في الوجود الخارجي بل في الذهن. وعن الثامن: أنه ينوي أداء الواجب المخير، وما سبق في السادس.

فرع: إذا عقد الإنسان على قفيز من صبرة، فالمعقود عليه كل واحد من القفيزين، على سبيل البدل. وهو المعنى من قولنا: المعقود عليه واحد لا بعينه. وكذلك إذا طلق زوجة من زوجاته، أو أعتق عبدا من عبيده، ولا يمكن أن يقال: إن التي يعنيها للطلاق فهي المطلقة في علم الله تعالى لما تقدم. ولا يمكن أن يقال: إن كل واحدة منها مطلقة، وإنما تخرج سوى المعينة

المسألة الخامسة [في أن وجوب الأشياء قد يكون على الترتيب أو على البدل]

للطلاق عن كونها مطلقة بالتعيين، لأن اللفظ صريح في تطليق واحدة منهن غير محتمل لتطليق كل واحدة منهن. ولأنا نفرض الكلام فيما إذا قال: إحداكن طالق فقط، فإن هاهنا نفي ماعدا الواحدة مصرح به، ولأنه لا يعهد مثله في قواعد الشرع، كما عهد سقوط الواجب بأسباب أخر غير آدابه. المسألة الخامسة [في أن وجوب الأشياء قد يكون على الترتيب أو على البدل] أعلم أن وجوب الأشياء على المكلف قد يكون على البدل، وقد يكون على الترتيب. أما الأول: فقد يكون الجمع بين تلك الأشياء حراما، وقد يكون مباحا، وقد يكون ندبا. والأول: مثل ما يجب على الولي تزويج موليته الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الصالحين، فإن الجمع حرام. والثاني: مثل ما يجب على المصلي ستر عورته، إذا وجد ثوبين، فإن الجمع بينهما مباح. والثالث: مثل خصال الكفارة. وأما الثاني: فهو أيضا على هذه الأقسام الثلاثة، مثال المحرم جمعه، أكل المباح والميتة في حال المخمصة.

المسألة السادسة في وجوب الموسع

مثال المباح الوضوء والتيمم. مثال المندوب الجمع بين خصال الكفارات المرتبة. المسألة السادسة في وجوب الموسع أعلم أن الشيء إذا وجب فعله، فلابد وأن يجب في وقته، فذلك الوقت، أما انقص منه فهذا لا يجوز التكليف به، إلا إذا جوز تكليف مالا يطاق أو كان المقصود من إيجابه فيه إيجاب قضاء كله أو بعضه، وهذا كما إذا طهرت الحائض، أو بلغ الغلام، أو أسلم الكافر، وقد بقي من الوقت مقدار ركعة أو تكبيرة. إن قلنا: بالوجوب به، وأما قول بعض الفقهاء في هذه الصلاة: إن كلها

أداء، فهو على جهة التغليب لا على جهة التحقيق، كقول: بعضهم إن كلها قضاء. وأما أن يكون مساويا له، نحو وجوب الصوم في بياض النهار، وهذا القسم تسميه الحنفية بالمعيار وهو مما لا نزاع فيه، وإما أن يكون زائدا عليه وهذا هو المسمى بالواجب الموسع. وقد اختلف فيه: فمنهم من أنكره.

ومنهم من اعترف به وهم جمهور الفقهاء، من الشافعية، والحنفية، والأصوليين، من الأشاعرة والمعتزلة. ثم منهم من قال: الوجوب وإن كان متعلقا بكل واحد من أجزاء الوقت، بمعنى أنه يوصف الفعل بالوجوب فيه على وجه لا يتعين بفعله، وأنه لو أداه فيه لوقع أداء، لكن لا يجوز له التأخير عن بعض أجزاء الوقت إلى بعض آخر إلا ببدل، وهو العزم على إتيان الفعل فيه، وهم أكثر القائلين به. ومنهم من لم يوجب البدل، بل جوز للمكلف التأخير مطلقا إلى أن يتضيق الوقت، بحيث إنه لو لم يشتغل به لخرج بعضه عن الوقت، فإنه لا يجوز له التأخير إذ ذاك، أو يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل به في هذا الجزء

لفاته في الجزء الثاني. وأما المنكرون له فهم أربعة فرق: أحدها: الذين قالوا: الوجوب مختص بأول الوقت/ (83/ب) وما يؤتى بعده يكون قضاء. وثانيها: الذين قالوا: الوجوب مختص بآخر الوقت، وما يؤتى قبله يكون نفلا مانعاً للوجوب.

ونقل بعضهم أنه يسقط الفرص عنده وهو أوفق. وثالثها: الذين قالوا إن المكلف إذا أتى بالصلاة في أول الوقت فهي موقوفة، فإن بقي إلى آخر الوقت تبعت المكلفين كان ما فعله واجبا وإلا فنفل، وهذا قول الكرخي. وقد حكي عنه أيضا أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان. ورابعها: الذين قالوا: الواجب مختص بالجزء الذي يتصل الأداء به وإلا فأخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفصل عنه، وهو القول المشهور من الحنفية. وهذا لأن "سبب" الوجوب عندهم كل واحد من أجزاء الوقت، بطريق البدلية إن اتصل به الأداء، وإلا فأخره، إذ يستحيل أن يكون أوله سببا أو آخره، لاستحالة تأخر المسبب عن السبب، وتقدمه عليه، إذ يجوز الأداء في آخر

الوقت ولا يأثم به، ويجوز الأداء أيضا في أوله، فلم يبق السبب إلا الجزء الذي اتصل الأداء به أو آخره على التفسير المتقدم. وإنما عدت هذه الفرقة من المنكرين للواجب الموسع مع إنهم يقولون إن الصلاة مهما أديت في الوقت في أي جزء كان [كانت] واجبة الأداء، لأنهم لم يجوزوا أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل، بخلاف القائلين به فإنهم يجوزون ذلك. حجة القائلين به: هي أن الأمر يتناول جميع أجزاء الوقت من غير إشعار بالتخصيص ببعض أجزائه، قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}. ولو فرض أن للأمر إشعارا بالتخصيص ببعض أجزاء الوقت لم تكن تلك مسألتنا وإذا لم يكن له اختصاص ببعض أجزاء الوقت وليس في العقل ما يوجب التخصيص- أيضا- وكل الوقت قابل لذلك الفعل المأمور به، فلو خصصناه ببعض أجزاء الوقت، لكان ذلك تخصيصا للعام، أو تقييداً للمطلق

من غير دليل، وهو غير جائز، وإذا بطل التخصيص كان مقتضاه إيقاع الفعل المأمور به، في أي وقت أراده المكلف، إذ استغراق الوقت بالفعل غير واجب إجماعا. فإن قيل: سلمنا أنه ليس في الأمر ما يشعر بالتخصيص، ولكن لا نسلم أنه ليس في العقل ما يدل عليه. وهذا لأن الواجب لا يجوز تركه، على ما عرف ذلك في حده، والصلاة يجوز تركها في أول الوقت [و] وسطه، فلا يجوز أن تكون واجبة فيه/ (84/أ)، وإذا لم تكن واجبة في أول الوقت وفي وسطه تعين أن تكون واجبة في آخره، وإلا لكان لها وقت آخر غير وقت المغروب لها. ولأن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز تأخيرها عن آخر الوقت من غير عذر، وذلك يدل على أنها واجبة فيه لا في أول الوقت. وحينئذ يحتمل أن يكون فعلها فيه ندبا يسقط الفرض عنده، أو هي كالزكاة المعجلة. أو يقول: الأمر وإن دل على جواز أدائها في أي جزء كان من الوقت، لكن النص والمعقول يدلان على تخصيصه بأول الوقت. أما النص: فآتيا الاستباق، والمسارعة.

وأما المعقول: فهو أنه لو جاز التأخير عن أول الوقت، لجاز إما إلى بدل، أو لا إلى بدل، والقسمان باطلان فوجب أن لا يجوز التأخير. وإنما قلنا: إنه لا يجوز التأخير إلى بدل لوجوه: أحدها: أن ذلك البدل إن كان مساويا للمبدل في جميع الأمور المطلوبة منه، وجب أن يكون الإتيان به سببا لسقوط المبدل لحصول تلك الأمور المطلوبة منه، وإن لم يكن مساويا له لم يجز جعله بدلا عنه مطلقا حينئذ، لأن البدل المطلق، يجب أن يكون قائما مقام المبدل في جميع الأمور المطلوبة منه. وثانيها: أن ذلك البدل، إما العزم على الفعل في الجزء الثاني، أو الثالث من الوقت، أو غيره، والثاني: باطل بالإجماع، والأول: لا يخلو أما أن يتكرر وجوبه بحسب تكرير آخر الوقت، أو لا يتكرر، والأول: باطل، لأن بدل الشيء لا يزيد عليه، فلما لم يكن المبدل متكررا، لم يكن البدل متكررا أيضا. والثاني: أيضا باطل، لأنه يقتضي أن يجوز تأخير الصلاة عن الجزء الثاني والثالث من الوقت من غير بدل، وهذا غير القسم الذي نحن فيه، بل هو من القسم الثاني- وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى-. وثالثها: أنه لو كان جواز التأخير، مشروطا بالبدل لزم أن لا يجوز الإتيان

به إلا عند العجز بالمبدل، كما في سائر الإبدال، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجوز أن يكون له بدل. ورابعها: أن إثبات الدليل "زيادة على مقتضى الأمر الوارد بالصلاة ولا إشعار له به فوجب أن يكون باطلا أما لأنه" زيادة على النص وهي نسخ، وإن لأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. وخامسها: لو كان جواز التأخير مشروطا بالعزم بالإتيان به في غير ذلك الجزء، لكان من أخرها عن أول الوقت مع الذهول عن العزم يكون عاصيا، ولم لم يكن كذلك وفاقا، علم أنه غير مشروط به. وإنما قلنا: إنه لا يجوز التأخير لا إلى بدل، / (84/ب) لأن ذلك يقتضي أن لا تكون الصلاة واجبة في، إذ لا معنى لغير الواجب إلا أنه يجوز تأخيره لا

إلى بدل. سلمنا: أنه لا يتعين لها أول الوقت ولا آخره فلم لا يجوز أن يكون وقته معين الجزء الذي اتصل الأداء به؟ إن اتفق الأداء في الوقت، وإلا فأخر الوقت، وهذا لأن سبب وجوب الصلاة هو الوقت- على ما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى-. فأما أن يقال مجموع الوقت سبب وهو غير جائز وإلا لزم أن لا تجب الصلاة إلا بعد مضي جميع الوقت، وهو على خلاف الإجماع، أو أوله وهو أيضا باطل، وإلا لزم أن يتحقق الوجوب عقيبه، لأن تراخي المسبب عن السبب غير جائز، وإن لم يثبت عدم الجواز فلا أقل من أن يكون ذلك خلاف الأصل، وحينئذ يلزم أن لا يجوز تأخير الصلاة عن الجزء الثاني: وهو باطل وفاقا. فإذا بطل هذان الاحتمالان لم يبق إلا ما ذكرنا من الاحتمال. سلمنا: فساده أيضا فلم يجوز أن تكون الصلاة المؤداه في أول الوقت موقوفة؟. الجواب عن الأول: أن نقول: ماذا تعني بقولك: الواجب لا يجوز تركه. تعني به أنه لا يجوز تركه بوجه من الوجوه، أو أنه لا يجوز تركه ولو كان ذلك على بعض الوجوه. والأول: ممنوع لما عرفت من حد الواجب. وكيف يقال ذلك؟ والواجب المخير والفرض على الكفاية يجوز تركه على بعض الوجوه عندنا،

وكذلك الواجب الموسع. وإن عنيت به الثاني: فمسلم وهنا كذلك، فإنه لو ترك الصلاة في أول الوقت ولا يعزم على فعلها في آخر الوقت، أو وإن عزم لكنه لم يفعلها من غير عذر فإنه يعصى عند من يجعل العزم بدلا عنها في أول الوقت "من غير عذر". [وأما من لا يقول به فإنه لا يعصى عنده إلا بالترك في جميع الوقت من غير عذر]. قوله ثانيا: الإجماع منعقد على أنه لا يجوز تأخيرها عن آخر الوقت إلى أخره. قلنا: ذلك إنما يدل على أنه وقتها المضيق، لا على أنها غير واجبة في غيره بصفات التوسع، لأن كون الشيء واجبا بصفة التضيق في وقتا، لا يدل على أنه غير واجب في غيره على وجه التوسع. أما قوله: يحتمل أن يكون فعله ندبا في أول الوقت يسقط الفرض عنده فباطل. أما أولا: فلأنه لو أداه بنية الندب لم يقع الموقع إجماعا، وإن كان ندبا لم يكن بنيته مضرة. وأما ثانيا: فلأن سقوط الفرض عند أداء الندب بعينه لم يعهد مثله في الشرع. وقوله: أو هي كالزكاة. قلنا: هذا باطل أيضا لأنه إذا أداها بنية التعجيل يوجب أن تنعقد صلاته بها

كالزكاة المعجلة. وبالإجماع/ (85/أ) ليس كذلك. وعن الثاني من وجهين: أحدهما: الوجه الإجمالي: وهو أنه يلزم منه التعارض، بين ما ذكرتم من الدليل المخصوص أو المقيد، وبين العام أو المطلق الدال على جواز الصلاة في أي جزء كان من الوقت والتعارض على خلاف الأصل في المستلزم له أيضا كذلك. فإن قلت: هذا المحذور واقع على ما ذكرتم أيضا. وبيانه: إنكم وإن أجريتم العام أو المطلق الدال على جواز الصلاة في جميع أجزاء الوقت على ظاهره، لكن خصصتم ما ذكرنا من الآيتين بتلك الدليل فإنهما يقتضيان وجوه المسارعة والاستباق في كل ما هو من الخيرات، أو من أسباب المغفرة، ولا شك أن الصلاة كذلك، وذلك قال عليه السلام (الصلاة خير موضع) وإذا كان كذلك، فلم كان تخصيصكم الآيتين أولى من تخصيصنا أو تقييدنا ذلك الدليل على جواز الصلاة في كل الأوقات؟ قلت: تخصيصنا الآيتين أولى.

أما أولا: فلأنهما مخصوصتان بصور كثيرة، غير ما نحن فيه من الصور، بخلاف ذلك الدليل، فإنه ليس مخصوص أو مقيد بشيء، ولا شك أن تخصيص المخصوص أولى من تخصيص أو تقييد ما ليس بمخصوص أو بمقيد. وأما ثانيا: فلأن كل واحد من الآيتين وذلك الدليل، وإن كان أعم من وجه وأخص من وجه، لكن عموم ما ذكرتم من الآيتين فيما هما عامتان فيه أكثر من عموم ما ذلك الدليل عام فيه، وكان تخصيصهما به أولى من تخصيصه بهما. وأما ثالثا: فلأنه ورد فيه من النصوص ما لا يمكن تخصيصه بهما، كحديث جبريل عليه السلام، فإنه يدل على جواز الصلاة في أول الوقت ووسطه وآخره بصراحته. -

- - - - - - - - - -

فلو قلنا: باختصاصها في أول الوقت لزم تعطيل مقتضاه. وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي، أما آية المسارعة، فلا دلالة فيها على المطلوب، وهذا لأن دلالتها على المسارعة إلى أسباب المغفرة على طريق الاقتضاء والمقتضي لا عموم له. ولئن سلمنا: أن له عموما لكن لا نسلم إن مطلق الأمر للوجوب حتى يدل على وجوب الإتيان بأول الوقت، فيكون مختصا به لا يجوز التأخير عنه. ولئن سلمنا: ذلك لكن لا نسلم إن هذا الأمر للوجوب، بل هو للندب،

إما بالإجماع، وإما لأنه لو كان للوجوب لزم تخصيصات لا حصر لها، وهو خلاف الأصل، وإذا كان كذلك لم تكن الآية دالة على اختصاصها بأول الوقت، بحيث لا يجوز التأخير/ (85/ب) عنه، بل على وجه البدل، ونحن نقول به وهو الجواب بعينه عن آية الاستباق. وعن الوجه المعقول: أن نقول: لم لا يجوز أن يكون جواز التأخير مشروطا بالبدل؟ قوله: أولا البدل، إما أن يكون مساويا للمبدل، أو لا يكون إلى آخره. قلنا: لم لا يجوز أن يكون مساويا له في ذلك الوقت المعين لا مطلقا؟ وحينئذ لا يكون الإتيان به سببا لسقوط تكليف الأصل بالكلية. وما قيل: في تضعيفه بأن الأمر لم يقتض وجوب الفعل إلا مرة واحدة، فإذا قام هذا البدل مقامه في هذا الوقت في جميع الأمور المطلوبة منه فقد قام مقامه مرة واحدة، فوجب أن يسقط التكليف عن الفعل بالكلية وذلك غير مستقيم. لأن المعنى من قولنا: أنه قائم مقامه في الوقت المعين، أنه بدل عن تقديميه لا عن أصله، فلا جرم لا يلزم منه سقوط التكليف عن الأصل بالكلية، إذ لا يلزم من قيام الشيء مقام تقديم الشيء في الأمور المطلوبة من التقديم أن يكون قائما مقامه مطلقا. سلمنا: فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون مساويا له؟ وهذا لأنه لا يساويه عندنا إلا في رفع الإثم. قوله: لأن البدل المطلق يجب أن يكون قائما مقامه في كل الأمور.

قلنا: نعم لكن من قال إنه بدل عنه مطلقا ونحن لا نجعله بدلا إلا عن التقديم، كما تقدم ذكره، وبهذا أيضا خرج الجواب عن الوجه الثاني. وأما الجواب عن الثالث: فهو أنا لا نجعله من الإبدال المترتبة حتى يلزم ما ذكرتم، بل هو من الإبدال المخيرة. وعن الرابع: فهو لا يلزم من عدم دلالة الأمر على وجوبه، عدم الدلالة مطلقا. وعن الخامس: فهو أنه إنما لم يعص، لأن الغافل عن الشيء غير مكلف به. سلمنا: فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون جواز التأخير غير مشروط بالبدل؟. قوله: هذا لا يقتضي أن تكون الصلاة واجبة في الوقت الذي يجوز تأخيرها عنه من غير بدل، إذ لا معنى لغير الواجب إلا ذلك. قلنا: لا نسلم أنه لا معنى لغير الواجب إلا ذلك، بل معنى غير الواجب أن يجوز تركه أبدا من غير بدل، وما نحن فيه ليس كذلك، إذ لا يجوز تركه إذا تضيق الوقت، وتحقيقه أن نسبة الفعل إلى جواز الترك وعدم جوازه، بحسب انقسام العقلي على ثلاثة أقسام:- [قسم يجوز تركه مطلقا، ولا ينتهي إلى وقت لا يجوز له فيه ألبته، وهذا القسم هو المسمى بالندب عندنا. وقسم لا يجوز تركه مطلقا، بالنسبة إلى وقته، وهذا القسم هو الواجب المضيق]. وقسم يجوز تركه بالنسبة إلى بعض أجزاء الوقت، ولا يجوز تركه بالنسبة

إلى مجموع الوقت، وهذا هو الواجب الموسع عندنا. فإن جعل الخصم هذا القسم داخلا في القسمين الأولين بأن يجعله ندبا بالنسبة إلى الوقت الذي يجوز تركه فيه، وواجبا بالنسبة/ (86/أ) إلى الوقت الذي لا يجوز تركه فيه، فهو نزاع لفظي، وما ذكرنا أولى بدليل عدم انعقاد صلاة الظهر أو العصر مثلا بنية النفل في أول الوقت وانعقادها بنية الفرض فيه بإجماع السلف أو الخلف. وأما الجواب عن الاحتمال الثالث: فهو أنه إن أراد بقوله: إن وقت المعين هو ما اتصل به الأداء إن ذلك وقته بطريق البدلية، بمعنى أن الأمر يقتضي إيقاع الفعل في أحد أجزاء الوقت لا بعينه، فإذا اتصل الفعل بأحد أجزائه تبينا سقوط الفرض به، كما في خصال الكفارة، فهذا مما نقول به. فإن حاصل الواجب الموسع عندنا يرجع إلى الواجب المخير وكأن الشارع قال له: أوجبت عليك إيقاع الفعل في أحد أجزاء الوقت لا بعينه ولك الخيرة في تعيينه، وإذا لم يبق من الوقت ما لا يفضل عن الفعل فأوقعه لا محالة ولا تؤخره عنه. وإن أراد به أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته، وأن ما سوى ذلك لم يكن وقته له فهذا باطل لما تقدم "وإن أراد به غير ذلك، فلابد من إفادة تصوره حتى يمكن التصديق". وأما قوله: أول الوقت لا يجوز أن يكون سببا للوجوب وإلا لزم تراخي المسبب عن السبب.

فجوابه: إنا لا نسلم ذلك، وهذا فإن أول الوقت سبب للوجوب على وجه التوسع وقد تحقق ذلك معه فلا يلزم تراخي المسبب عن السبب والاستدلال بجواز التأخير على عدم الوجوب باطل لما عرفت من قبل، ولو فرض ذلك بالنسبة إلى وجوب الأداء. فجوابه: بعينه ما تقدم، لأن وجوب الأداء قد يكون على وجه التضييق وقد يكون على وجه التوسع. وأما عن الاحتمال الرابع: فهو أنه على خلاف إجماع السلف إذا أجمعوا على أن من صلى في أول الوقت، ومات قبل آخره مؤديا لفرض الله تعالى، كما نواه فإنه نوى أداء فرض الله تعالى.

فروع ثلاثة: الأول: اعلم أن الواجب الموسع ينقسم إلى ماله غاية معينة معلومة للمكلف لا يجوز له تأخيره عنها، كصلاة الظهر والعصر. وإلى ما ليس له غاية معينة معلومة له، وإن كانت له غاية في نفس

الأمر وفي علم الله، كالحج والنذر والكفارات وقضاء العبادات التي فاتت من غير تقصير من المكلف، فإن جميع هذه العبادات تجب في جميع العمر وليس نهايته معلومة للمكلف. إذا عرفت هذا فاعلم أن الأول: يتضيق بطريقتين: إحداهما: بالانتهاء إلى آخر الوقت بحيث لا يفضل زمانه عنه. وثانيهما: بغلبة الظن بعدم البقاء إلى آخر الوقت، فإنه/ (86/ب) مهما علب ذلك على ظنه يجب عليه الفعل قبله. وأما الثاني: فإنما يتضيق بالطريق الثاني فقط. إذ لو لم يقل به فإما أن يقال: إنه يجوز للمكلف التأخير أبدا، وهو باطل، لأنه يقتضي أن لا يكون واجبا، أو يقال: إنه يجوز له التأخير إلى زمان معين ولا يجوز التأخير عنه من غير أن يعين ذلك الزمان بعلامة وأمارة، أو تعيين لخصوصيته وهو أيضا باطل، لأنه تكليف ما لا يطاق، وذلك مثل أن يقال: إن كان في علم الله تعالى إنك تموت بعد هذا الزمان قبل الفعل ولا تتفرغ له فأنت عاص بالتأخير عن هذا الوقت، وإن كان في علمه إنك لا تموت قبل الفعل وتتفرغ له بعد هذا الزمان فلك التأخير، فإن للمكلف أن

يقول: ما يدريني ماذا في علم الله تعالى؟. وما حكم الله في حق الجاهل بما في علمه؟ فلابد من الجزم بالجواز وعدمه، وإذا بطل هذان الاحتمالان لم يبق إلا ما ذكرنا من الاحتمال. فعلى هذا لو أخر المكلف الصحيح السليم الصلاة عن أول الوقت إلى آخره مع العزم على فعلها لو اعتبر العزم بدلا أو بدونه إن لم يعتبر ومات في وسطه، فإنه لم يلق الله تعالى عاصيا، لأنا جوزنا له التأخير ومعه يستحيل أن يحكم بأنه يعصي. ولا يمكن أن يقال: إن جواز التأخير مشروط بشرط سلامة العاقبة، كعدم وجوب الضمان في التعازير، فإنه مشروط بها. لأنه على خلاف إجماع السلف إذ يعلم من عادتهم بالضرورة أنهم ما كانوا يؤثمون من مات فجأة في أثناء الوقت، إذا كان عازما مصمما على الامتثال، ولأن العاقبة مستورة عنه غير معلومة له فلا يجوز أن يناط به التكليف لما تقدم "ذلك". ولذلك المعزر إذا غلب على ظنه السلامة ولم يسلم، فإنه لم يعص، وإن

وجب عليه الضمان، لأن جواز فعل الشيء ينافي المنع منه ومدار العصمة عليه، ولا منافاة بين جواز الفعل وبين وجوب الضمان بسببه، بل قد يجتمع مع وجوب الفعل كما في أكل طعام الغير في حالة المخمصة، ولذلك إذا غلب على ظنه فوات الواجب الموسع بمرض أو هرم بتقدير التأخير فأخره، فإنه يعصى وإن لم ينته الفعل بعده. الفرع الثاني: اعلم أن الواجب: إن أدى في وقته سمي "أداء"، سواء كان مسبوقا بنوع من الخلل، أو لم يكن. أما إذا فعل في الوقت، مع نوع من الخلل، ثم فعل ثانيا فيه سمي "إعادة"، فعلى هذا كل إعادة أداء من غير عكس. وفي بعض المؤلفات ما يدل على عدم اعتبار الوقت في "الإعادة"/ (87/أ) فعلى هذا بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه. أما إن أدى خارج وقته المضيق، أو الموسع المقدر بالتعيين سمي "قضاء" سواء كان التأخير بعذر أو بغيره، وسواء كان مسبوقاً بنوع من

الخلل أو لم يكن. واحترزنا بقولنا: "المقدر بالتعيين". عما إذا كان الوقت مقدرا لا بالتعيين، بل بضرب من الاجتهاد. مثاله: من الموسع "الحج" إذا صار وقته متعينا بسبب غلبة الظن بعدم البقاء لمرض، أو لكبر، فإنه إن بقي بعد ذلك وأداه خارج ذلك الوقت، فإنه لا يكون قضاء، وهو اختيار الغزالي. خلافا للقاضي أبي بكر رحمه الله وسيأتي حجاجهما. ومن المضيق كا "الزكاة" الواجبة على الفور [على رأينا، فإنه لو أخر ولو مع القدرة على "الأداء " لا يكون قضاء.

وكالواجب بمطلق الأمر على الفور] عند من يقول به، فإنه لو أخره المكلف إلى الزمن الثاني أو الثالث، فإنه لا يكون "قضاء" عند البعض منهم: إذ قالوا الفعل واجب في الزمان الثاني إن فات عن الأول، وفي الثالث: إن فات عن الثاني، والقضاء عندهم لا يجب إلا بأمر جديد. وذهب البعض منهم: إلى أنه قضاءكما في المقدر بالتعيين إذ قالوا: يحتاج في وجوب الفعل في الزمان الثاني إن فات عن الأول إلى أمر جديد. احتج القاضي: بأن الوقت صار مقدرا مضيقا بسبب غلبة الظن بعدم البقاء، ولهذا يعصى بالتأخير عنه إجماعا فصار كما لو أخر الواجب عن وقته المقدر المعين بالتعيين. واحتج: من زعم أن يكون أداء: بأنه لما انكشف الأمر على خلاف ما ظنه زال حكمه [فصار] قضاء، كما لو ظن أنه يعيش، ويؤيده إن الظن إنما يعتبر حكمه، إذا لم ينكشف الأمر على خلافه، فأما إذا ظهر الأمر على خلافه فلا، كما لو صلى بالاجتهاد إلى غير جهة القبلة، أو يتطهر بما ظنه طهورا ثم تبين الأمر على خلاف ما ظنه، فإنه يجب عليه إعادة الصلاة،

واستئناف الطهارة، وغسل ما أصابه الماء الأول، وإن كان لا يجب ذلك عند عدم اكتشاف الأمر، ونظائره كثيرة. وأما كونه يعصي بالتأخير لا يصح به الاستدلال على كون ذلك الفعل بعده قضاء، فإن المكلف لو أخر الفعل عن أول الوقت من غير نية الاستبدال على فعله فيما بعده، فإنه يعصي، والقاضي مساعد عليه مع أن ذلك الفعل بعد أول الوقت ليس بقضاء وفاقا. وقريب من هذا النمط الحجاج في صورة الفور والزكاة. فالحاصل إن القضاء عند هؤلاء اسم مخصوص لعبادة فاتت عن وقتها المقدر بالتعيين. وعند القاضي عبارة عن عبادة فاتت عن/ (87/ب) وقتها الذي يعصي بالتأخير عنه مطلقا. الفرع الثالث: قد علمت مما سلف إن الواجب إن أدي خارج الوقت سمي "قضاء"، فتسميته به: إما لأنه وجب فيه وترك، أو لأنه وجد سبب وجوبه وأن لم يجب وترك.

فمنهم من مال إلى الأول زاعما أن القضاء إنما شرع استدراكا لما فات من مصلحة الواجب، ولهذا لا يسمى ما يأتي به الصبي والجنون بعد البلوغ والإفاقة من الصلاة والصيام الفائتة في خالة الصبي والجنون قضاء إجماعا، لما أنه لم يجب عليهما وستدراك مصلحة الواجب حيث لا وجوب غير متصور، فعلى هذا إطلاق القضاء عند هؤلاء على شيء وجد سبب الوجوب ولم يجب إما لفوات شرط أو لوجود مانع سواء كان ذلك المانع يمنع الأداء أيضا، إما عقلا كالنوم أو الإغماء. إذا قلنا: إن الإغماء ليس ملحقا بالجنون. وأما شرعا كالحيض أو لا يمنعه وهو إما من جهة المكلف كالسفر أو ليس من جهته كالمرض الذي لا يخاف الهلاك منه بالصوم، وإنما قيدنا به، لأن المرض الذي يخاف منه الهلاك بالإمساك يمنع الأداء أيضا، على رأي كالحيض إن كان بطريق التجوز يلزم منه المجاز، وإن كان بطريق الحقيقة يلزم منه الاشتراك، وقد عرفت أنهما على خلاف الأصل, ومنهم من مال إلى الثاني- وهو الحق-: محتجا بأن اسم القضاء استعمل حيث تحقق الوجوب وحيث وجد سبب الوجوب ولم يجب، كما في الصور المذكورة فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو بإزاء ما وجد سبب وجوبه وجب، أو لم يجب دفعا للاشتراك والمجاز، وأما ما يأتي به

المسألة السابعة في الفرض على الكفاية

الصبي والمجنون بعد زوال الصبى والجنون من الصلاوات الفائتة في حالة الصبى والجنون، فإنما لا يسمى قضاء، لأنه لم ينعقد سبب الوجوب بالنسبة إليهما، لا لأنه لم يجب وإلا لا ينقضي بالصور المذكورة. فإنا سنبين- إن شاء الله تعالى- أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا، ولا نسلم أن القضاء إنما شرع استدراكا لما فات من مصلحة الواجب، بل لما فات من مصلحة ما انعقد بسبب وجوبه وجب أو لم يجب. المسألة السابعة في الفرض على الكفاية اعلم أن الواجب: كما ينقسم إلى المخير والمعين بحسب نفسه، والمضيق والموسع بحسب وقته. فكذا ينقسم إلى الواجب على الكفاية، وإلى الواجب على العين بحسب من يجب عليه. فالواجب على الكفاية: هو ما لو أتى به/ (88/أ) البعض سقط الفرض

عن الباقين والواجب على العين بخلافه والضابط فيه: أن كل ما يكون المقصود منه حاصلا ولو بفعل البعض فإذا أوجبه الشارع كان ذلك واجبا على الكفاية، كدفن الميت، فإن المقصود منه ستره بالتراب، وهو حاصل بفعل البعض، "وكذا الجهاد، فإن المقصود منه" إذلال العدو وقهره، وهو أيضا قد يحصل بفعل البعض، فلا جرم كان وجوبهما على الكفاية.

وأما ما لا يكون كذلك، فإنه يكون واجبا على العين. واعلم أن التكليف في الواجب على الكفاية منوط بغلبة الظن، فإن غلب على ظن المكلف أن غيره لم يقم به وجب عليه أن يفعله، وإن غلب على ظنه قيام غيره بذلك الفعل سقط عنه التكليف. وهذا وإن كان قد يفضي إلى أن لا يقوم بذلك الفعل أحد ويجب على كل واحد منهم القيام به لجواز حصول غلبة الظن لكل واحد منهم بقيام الآخر به لكن لما كان ذلك هو الممكن دون تحصيل العلم بقيام الغير به أو عدمه لا جرم بنظرية التكليف. تنبيه: لا فرق عند الأكثرين بين الواجب على الكفاية، وبين واجب العين في حقيقة الوجوب. فعلى هذا إطلاق الواجب عليهما بالاشتراك المعنوي.

ومنهم: من زعم أن حقيقة الواجب على الكفاية، مخالفة لحقيقة الواجب على العين، لأن الأول غير متحتم الإتيان، لأنه يجوز أن لا يقوم به أحد ولا يأثم به لما عرفت من قبل، وبتقدير أن يقوم به البعض، فإن إتيانه سبب لسقوطه عن الباقين بخلاف واجب العين، فعلى هذا إطلاق الواجب عليهما بالاشتراك اللفظي. والحق هو ما أختاره الجمهور، لأن حد الواجب يشملهما على السواء، والاختلاف في طريق الإسقاط اختلاف في العوارض، وذلك لا يوجب اختلاف الماهية، فيكون اللفظ متواطئا.

المسألة الثامنة [فيما لا يتم الواجب إلا به]

المسألة الثامنة [فيما لا يتم الواجب إلا به] ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، سواء كان سببا، أو شرطا لكن بشرطين:- أحدهما: أن يكون الإيجاب مطلقا غير مقيد بحالة حصول المتوقف عليه، كقوله: "صل إن كنت متطهرا" فإن إيجاب الصلاة هنا لا يقتضي إيجاب الطهارة وفاقا. وثانيهما: أن يكون ذلك المتوقف عليه مقدورا للمكلف. وهذا الشرط يعتبره من لم يجوز تكليف ما لا يطاق دون من يجوزه. وقال بعض / (88/ب) الأصوليين: إيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب غيره مطلقا، بل هو مقيد بحالة حصوله.

وفصلت الواقفية بين السبب والشرط، فقالوا: إن كان ما يتوقف عليه الواجب سببا، كان إيجابه إيجابا لسببه، لأنه لو لم يكن كذلك لما كان متقيدا بحال حصول السبب، وحينئذ يكون المسبب حاصلا فلا يجوز إيجابه لكونه تحصيلا للحاصل، كما إذا أوجب الشارع إيلام زيد مثلا، فإنه يقتضي إيجاب أحد أسبابه من الضرب أو الشتم وغيرهما، وإن لم يكن سببا له، بل شرطا لا يكون إيجابه إيجابا للشرط، لا مكان إيجابه حال حصول شرطه، كما في المقيد به فلا يلزم تعطيل الإيجاب، بخلاف ما إذا كان سببا فإنه لا يمكن تقييد بحال حصوله لما تقدم، ولا بحال عدمه لكونه تكليف ما لا يطاق فيفضي إلى تعطيل الإيجاب. وفصل بعضهم: كإمام الحرمين، بين الشرط الشرعي وبين الشرط الوجودي، كغسل جزء من الرأس في غسل الوجه، وصوم جزء من الليلتين في الصوم، فأوجب الأول دون الثاني، وعلله بأنه قد لا يخطر بالبال، ولأنه لا يجب عليه أن ينوي ذلك. واحتج أبو الحسن لمذهب الجمهور: بأن الإيجاب مطلقا يقتضي وجوب الفعل على كل حال، لأنه لا فرق بين قوله: أوجبت عليك الصلاة اليوم، وبين قوله: أوجبت عليك الصلاة اليوم ولك أن توقعها في أي جزء منه شئت لكن لا ينبغي أن يخرج اليوم إلا وقد أتيت بالصلاة في كون كل واحد

منهما غير مخصص للإيجاب في وقت معين أو في حال مخصوص، وإذا كان كذلك فلو لم يكن إيجاب الشيء على كل حال مقتضيا لإيجاب ما يتوقف عليه، بل كان تركه جائزا لكان الموجب أوجب حال عدم الشرط أو السبب، لأن حاصله يرجع إلى أن الموجب كأنه قال للمكلف: أوجبت عليك الفعل ويجوز لك أن لا تأتي شرطه، فيكون قد أوجب الفعل مع عدم الإتيان بشرطه، وهو تكليف بالمشروط حال عدم الشرط، وهو تكليف ما لا يطاق. واعترض عليه: بأنا لا نسلم أنه تكليف بالمشروط حال عدم الشرط، بل هو تكليف بالمشروط حال عدم وجود الشرط، وبينهما فرق، [و] تكليف ما لا يطاق إن كان منهما شيء فإنما هو الأول دون الثاني. سلمنا: أنه تكليف بالمشروط حال عدم الشرط، لكن لا نسلم أنه محال، وهذا لأنه لو كان كذلك لكان التكليف بالمشروط مشروطا بحال وجود الشرط/ (89/أ) ضرورة إن ما يكون عدمه منافيا للشيء كان وجوده شرطا له، وكل ما كان التكليف به مشروطا بشيء كان ذلك الشيء غير واجب التحصيل، كما في قوله: "صل إن كنت متطهرا". سلمنا: أن التكليف بالمشروط حال عدم الشرط تكليف ما لا يطاق، لكنه لازم على الخصم أيضا، لأن الإيجاب لما كان على كل حال، ومن جملة الأحوال حال عدم الشرط كان المحال المذكور لازما عليه أيضا. والأولى في ذلك أن يقال: الإيجاب المطلق يقتضي الإيجاب على كل حال، فلو خصصناه بحال وجود ما يتوقف عليه الواجب "لزم

التخصيص وأنه خلاف الظاهر، وإذا لم يختص بذلك الحال وجب أن يقتضي وجوب ما يتوقف عليه الواجب" إجماعا، ضرورة أنه لا قائل بالفصل. فإن قلت: تخصيص الإيجاب بحال وجوب ما يتوقف عليه الواجب، وإن كان خلاف الظاهر، لكن إيجاب ما يتوقف عليه الواجب مع أن ظاهر النص لا يقتضي وجوبه، خلاف الظاهر أيضا فلم كان مخالفة هذا الظاهر، أولى من مخالفة ظاهركم؟. قلت: لا نسلم أن ما ذكرتم مخالف للظاهر، وهذا لأن مخالفة الظاهر عبارة عن إتيان ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته، وما ذكرتم ليس كذلك، بل هو إثبات ما لا يتعرض له اللفظ نفيا ولا إثباتا، وذلك ليس من مخالفة الظاهر في شيء. فإن قلت: هب انه لا يلزم مخالفة الظاهر، لكن لا شك أنه يلزم منه مخالفة الأصل، إذ الأصل عدم الوجوب، فلم قلتم أن مخالفة الأصل أولى من مخالفة الظاهر؟. قلت: الأصل يترك بالظهر وإلا لما قدمت الدلائل الظنية "على الأصل" وذلك يدل على أن مخالفة الأصل أولى من مخالفة الظاهر. ووجه آخر في المسألة، وهو أن إيجاب الشيء في العرف يفيد إيجاب ما يتوقف عليه، بدليل أن السيد لو أمر عبده بأن يسقيه الماء، وكان الماء على

مسافة، فإنه يفهم منه الإيجاب على كل حال، ولهذا يستحق [العبد] لذم على ترك قطع المسافة، ولو لم يكن الأمر مقتضيا للإيجاب على كل حال بل كان مخصوصا بحال قطع المسافة، لما استحق الذم عليه، كما لو قال له: إذا كنت على الماء فاسقني فإنه لا يذم هنا على ترك قطع المسافة، فإذا أفاد ذلك في العرف أفاده في الشرع أيضا لقوله عليه السلام "ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن" / (89/ب). . . . . . الحديث، ولأن الأصل

عدم التغيير. ومنهم من استدل عليه بأن الأمة مجمعة على إطلاق القول بوجوب تحصيل ما أوجبه الشارع، وتحصيله إنما هو بتعاطي الأمور الممكنة من الإتيان به، فإذا قيل: وجب التحصيل بما لا يكون واجبا كان متناقضاً.

وهو ضعف، لأنه إن أراد به أنهم لو أجمعوا على وجوب تحصيله مطلقا فهو ممنوع، وإن أراد به أنهم أجمعوا على ذلك عند حصول ما يتوقف عليه أو في الجملة فهو مسلم لكنه لا يفيده. واحتج: من زعم أن إيجاب الشيء لا يفيد إيجاب ما يتوقف عليه بوجوه: أحدها: أن إيجابه زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، فلا يجوز إثباته بما لا يثبت به النسخ فلا يجوز إثباته بدليل العقل. وثانيها: أنه لو كان واجبا، لوجب أن يثاب على فعله ويعاقب على تركه كما قي سائر الواجبات، لكن لا ثواب على صوم جزء من الليل ولا عقاب على تركه، ولهذا لو قدر أن يصوم النهار كله من غير أن يصوم شيئا من الليل فإنه لا يعاقب عليه. وثالثها: لو كان واجبا لكان مقدرا قياسا على سائر الواجبات أو دفعا للمشقة الناشئة من الإبهام، لكنه غير مقدر، إما بالكل بمعنى أنه يجب الإتيان به فبالإجماع، وإما بالبعض فلأنه ليس البعض أولى من البعض. والجواب عن الأول: بمنع أن الزيادة عن النص نسخ على الإطلاق، بل إنما يكون نسخا لو كانت رافعة لشيء من مقتضيات النص، وما نحن فيه ليس

المسألة التاسعة [في أقسام ما لا يتم الواجب إلا به]

كذلك لما عرفت من قبل. وعن الثاني: بمنع انتفاء اللازم، وكيف يقال: ذلك مع أنا نعلم الضرورة من قواعد الشرع أن من قصد الحج من مكان شاسعة، فإنه يثاب أكثر من الذي يحج من نفس مكة. وأما قوله: لا يعاقب على تركه لو أمكنه الإتيان به بدونه. فهو لا يدل عليه لأنا لا ندعي وجوبه بالنسبة إلى كل واحد واحد من المكلفين، بل بالنسبة إلى العاجز وعن الثالث: بمنع أن ليس البعض أولى من البعض، فإن أولى ما ينطلق عليه الاسم أولى من غيره لما ستعرف. المسألة التاسعة [في أقسام ما لا يتم الواجب إلا به] اعلم أن ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى: ما يسبقه ويتقدم عليه بطريق الوجوب، أي: لابد وأن يقع كذلك، وإلى: ما لا يكون كذلك. والأول نوعان: أحدهما: أن يكون حصوله مستلزما لحصوله، وهو المسمى "بالسبب"

كما تقدم. وثانيهما: ألا يكون حصوله مستلزما لحصوله، وهو/ (90/أ) المسمى "بالشرط"، وهو نوعان أيضا. أحدهما: ما يكون وجوبه لقرب مجاورة الواجب به، بحيث لا يمكن الشروع فيه إلا به، وهو كصوم جزء من الليلة المتقدمة، وهذا القسم يسمى بالشرط الوجودي. وثانيهما: ما لا يكون كذلك، وهو منقسم إلى قسمين [أيضا:]. أحدهما: مما يمكن تحصيله من المكلف. وثانيهما: ما لا يمكن تحصيله منه، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يستقل العقل بمعرفة شرطيته، وإلى ما لا يستقل، بل لا تعرف شرطيته إلا من جهة الشرع. فهذه أقسام أربعة:- أحدها: ما يمكن تحصيله من المكلف، ويستقل العقل بمعرفة شرطيته، وهو كقطع المسافة لأداء الحج والجمعة.

وثانيها: ما يمكن تحصيله منه وعرف اشتراطه بالشرع، وهو كالطهارة وستر العورة لأداء الصلاة. وثالثها: ما لا يمكن تحصيله منه، وعرف اشتراطه من جهة العقل، كالقدرة على أداء الفعل المأمور به. ورابعها: ما لا يمكن تحصيله منه وعرفت شرطيته من جهة الشرع، وهو منقسم إلى قسمين:- أحدهما: ما لا يمكن تحصيله من كل واحد واحد منهم، وهو كتحصيل آلة الطهارة مثل الماء والتراب، وآلة الستر مثل: الثوب وما يجري مجراه والمعنى من تحصيله إدخاله في الوجود. وثانيهما: ما لا يمكن تحصيله من بعضهم، ويمكن من بعضهم، وهو كتحصيل عدد الجمعة، فإنه لا يمكن تحصيله من آحاد المكلفين، وإن أمكن ذلك من الإمام. وأما الذي لا يكون كذلك فهو أيضا ضربان:- أحدهما: ما يكون وجوبه لقرب مجاورة الواجب به، بحيث لا يمكن إتيانه بدونه وهو على نوعين: أحدهما: ما يكون متأخرا عنه كصوم جزء من الليلة الأخيرة. وثانيهما: ما لا يكون تأخيره واجبا، بل جاز أن يقع متقدما وجاز أن يقع متأخرا، كغسل جزء من العضد، وغسل جزء من الرأس، فإنه لا يمكن استيفاء غسل جميع المرفق، والوجه إلا بغسل جزء من العضد والرأس، لكنه قد يقع متقدما إن ابتدئ من جهته وقد يقع متأخرا إن ابتدئ من جهة

الأصابع. وثانيهما: ما يكون وجوبه لاشتباه الواجب به، وهو كوجوب الصلاوات الخمس على من نسي واحدة منها، هذا كله في جانب الفعل. وأما في جانب الترك: فهو أن يجب على المكلف ترك شيء لكن يتعذر عليه تركه إلا عند ترك غيره، فيجب عليه ترك ذلك الغير لما سبق وهو على أضرب:- أحدها: أن ما هو واجب الترك قد اختلط بغيره اختلاطا موجبا لتغييره كاختلاط النجاسة مع الماء، فإنه يجب ترك استعماله.

وثانيها: أن يختلط بغيره، لكن لم يتغير ذلك الغير/ (90/ب) به، فهذا هل يجب تركه أم لا؟. فللفقهاء فيه اختلافات كثيرة عرفت في موضعها. وثالثها: أن يشتبه ما هو واجب الترك بغيره، كاشتباه الماء الطاهر بالنجس والثوب الطاهر بالنجس. والفقهاء اختلفوا فيه أيضا. فجوز بعضهم استعمال أحدهما مطلقا. ومنعه الآخرون مطلقاً.

وفصل بعضهم فجوزه بالتحري والاجتهاد، ومنعه بدونه. وهو الحق من مذهب الشافعي رحمه الله. ورابعها: أن يختلط من يحرم على المكلف نكاحها، "كأمة" و "أخته"، بأجنبيات، فإن كن عددا يمكن حصرهن في العادة حرم عليه نكاح الكل [وإلا فلا]. ومنعه الآخرون مطلقا. وخامسها: أن تختلط منكوحته بأجنبية وجب الكف عنهما، أما عن الأجنبية فلعلة كونها أجنبية، وأما عن المنكوحة فلعلة اشتباهها بها. وقال قوم: الحرام هي الأجنبية دون المنكوحة، فإنها حلال. فإن أراد به أن الأجنبية هي الحرام بالذات دون المنكوحة، فإنها حلال بالذات حرام بالعرض. فهو حق وهو عين ما قلناه. وإن أراد به أن المنكوحة غير محرمة أصلا وأنها حلال مطلقا فهو باطل قطعا لأن رفع الحرج جزء ماهية الحلال، فكيف تعقل ماهية بدونه؟.

وسادسها: أن يوقع الطلاق على إحدى نسائه بعينها ثم نسيها، فهاهنا أيضا يحرم الكل تغليبا للحرمة على الحل. أما إذا وقع على إحدى نسائه من غير تعيين بأن قال: احداكن طالق، فهاهنا يحتمل أن يقال يحل وله وطء الكل، لأن الطلاق شيء متعين فيستدعي محلا متعينا كالبيع والنكاح، فقيل التعيين ليس طلاقا، بل أمرا له صلاحية الطلاق عند اتصاله بالبيان، وإذا كان كذلك فيحل له وطؤها استصحابا للحل ويحتمل أن يقال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا للحرمة، كما في المسألة المتقدمة وعليه أكثر الفقهاء. فإن قلت: إن الله تعالى يعلم ما سيعينه للطلاق فتكون هي المطلقة. والأخرى إنما حرمت عليه للاشتباه بها. قلت: قد مر جوابه فيما سبق فلا نعيده.

المسألة العاشرة [في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين]

المسألة العاشرة [في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين] الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين، كاللبث في القيام، والطمأنينة في الركوع والسجود، ومسح الرأس عند من لا يقدر بالكل، أو بالربع إذا زاد على أقل ما ينطلق عليه الاسم، هل توصف الزيادة بالوجوب أم لا؟. اختلفوا فيه: فالأكثرون على أن القدر الذي يذم على تركه هو الواجب والباقي ندب، لأنه داخل تحت حد الندب دون حد الواجب، إذ لا يذم على تركه ويثاب على فعله. ومنهم من زعم: أن الكل يوصف بالوجوب/ (91/أ)، لأن نسبة الكل إلى الأمر الدال على وجوبه واحد، والأمر واحد مقتض للوجوب، وليس البعض أولى من البعض، فأما أن لا يوصف شيء منه بالوجوب وهو باطل وفاقا، أو يوصف الكل به وهو المطلوب.

المسألة الحادية عشرة [في حكم الباقي بعد نسخ الوجوب]

وجوابه: لا نسلم أن ليس البعض أولى من البعض، فإن أقل ما ينطلق عليه الاسم أولى من غيره، لكونه يذم على تركه دون غيره وهذا فيما يوجد متعاقبا، كاللبث في القيام والطمأنينة في الركوع والسجود ظاهر، وأما ما يوجد دفعة واحدة، كالمسح إذا حصل كذلك فكذلك، فإنه وإن لم يتميز البعض عن البعض في هذه الصورة بالإشارة الحسية والتعيين، لكن يتميز لما ذكرنا من الصفة فيكون البعض متميزا عن البعض نظرا إلى الإشارة العقلية وهي كافية في ذلك. المسألة الحادية عشرة [في حكم الباقي بعد نسخ الوجوب] الوجوب إذا نسخ بقى الجواز، بمعنى أنه لا حرج في فعله ولا في تركه عند قوم، وهو اختيار الإمام. وقال قوم: لا يلزم أن ننفى ذلك، بل يرجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من ندب أو إباحة أو تحريم، وهو اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله.

ومأخذ الخلاف إن الجواز، هل هو داخل في حقيقة الواجب أم لا؟. فمن قال: إنه داخل فيها قال بنفي الجواز إذا نسخ الوجوب، وهذا القائل يفسر الجواز برفع الحرج عن الفعل فقط ولاشك أنه داخل في ماهية الواجب. ومن قال: إنه غير داخل فيها بل هو ينافيها، قال: لا ينفى الجواز، وهذا القائل: يفسر الجواز برفع الحرج عن الفعل والترك، ولا شك أنه غير داخل فيها بل هو ينافيها. حجة الأولين: أن الجواز عبارة عن رفع الحرج عن الفعل، والوجوب عبارة عن رفع الحرج عن الفعل، مع إثبات الحرج في الترك، ومعلوم أن المفهوم الأول جزء من المفهوم الثاني، وإذا ثبت أنه جزؤه، فالمقتضي للوجوب مقتض له لاستحالة تحقق المركب بدون مفرداته، ورفع الماهية المركبة لا تقتضي رفع أجزائها أجمع، وإذا كان كذلك كان المقتضي للجواز قائما، وهو الدليل الدال على الوجوب والعارض الموجود وهو النسخ لا يصلح أن يكون معارضا له، وذلك لأن رفع ماهية الوجوب، إما برفع جواز الفعل، أو برفع الحرج عن الترك، أو بهما، وعلى كل التقادير يكون الحرج عن الترك مرفوعا قطعا، وأما رفع جواز الفعل فغير معلوم ولا مظنون وكان المقتضي له ثابتا فوجب القول ببقائه، فإذا انضم رفع الحرج عن الترك إلى جواز الفعل كان المجموع الحاصل منهما هو الجواز، بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك،/ (91/ب) وهذا المفهوم قدر مشترك بين المباح والمندوب، لكن لما كان أقل مراتبه أن يكون مباحا لا حراما قطعنا به دون المندوب، إذ يحتاج فيه إلى زيادة.

أجاب الباقون عنه: بأن دليلكم منقوض، لأنه بعينه يقتضي أنه إذا نسخ الوجوب بقى الندب، لأن رجحان الفعل على الترك جزء ماهية الوجوب، وأن نسخ الوجوب لا يتقضى نسخه، فإذا انضم رفع الحرج عن الترك إلى ذلك الجزء كان المجموع الحاصل منه هو الندب، وهو قول لم يقل به أحد. سلمنا: سلامته عن النقض، لكنه معارض بوجهين:- أحدهما: أن نسخ الوجوب يقتضي رفع الحرج عن الترك، لكن رفعه قد يكون بأن يصير الترك واجبا "وحينئذ يكون رفعه متضمنا لرفع جواز الفعل وقد يكون بأن يصير تركه جائزا"، وحينئذ لا يكون رافعا لجواز الفعل والاحتمالان سواءان، فلا يحكم بأحدهما لاستحالة ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح فيستصحب حكم ما قبل الوجوب. وثانيهما: أن حصة كل نوع من الجنس مغاير لحصة "النوع" الآخر منه، لما ثبت في غير هذا الفن أن الفصل علة لحصة النوع من الجنس، فلو كانت حصة كل نوع هي بعينها حصة النوع الآخر لزم اجتماع العلتين المختلفين على معلول واحد وأنه باطل، وإذا كان كذلك فجواز الفعل الذي يوجد في ضمن الواجب غير الذي يوجد في ضمن المباح والندب وكل واحد منها يفنى عند فناء علته لاستحالة بقاء المعلول عند فناء العلة، فلا يبقى جواز الفعل عند ارتفاع الوجوب.

المسألة الثانية عشرة [في صوم المريض والمسافر والحائض]

المسألة الثانية عشرة [في صوم المريض والمسافر والحائض] قد عرفت مما سبق في حد الواجب، أن عدم جواز الترك جزء ماهية الوجوب، فيما يجوز تركه، يستحيل أن يكون واجبا لاستحالة أن يبقى الكل بدون الجزء. وخالف فيه كثير من الفقهاء، إذ زعموا أن الصوم واجب على المريض والحائض والمسافر، مع أنه يجوز لهم تركه. ومنهم: من فصل بين ما يكون العذر من الله تعالى، وبين ما يكون من العبد، كالسفر فنفى الوجوب في الأول، دون الثاني.

واحتجوا على ذلك بوجوه:- أحدها: قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، والحائض والمريض، والمسافر قد شهدوا الشهر فيجب عليهم الصوم. وثاينها: أنه ينوي فيما يأتي بعد زوال العذر قضاء رمضان، وأنه يدل على أنه كان واجبا، لأن القضاء يعتمد على الوجوب كما سبق. وثالثها: أن القضاء لا يزيد على الأصل ولا ينقص عنه، وذلك يدل على/ (92/أ) أنه بدل عنه. أجاب الأولون بوجهين: أحدهما: وهو الوجه الإجمالي: أن ما ذكرتم استدلال في مقابلة الضرورة إذ من المعلوم بالضرورة أن الكل لا يبقى بدون الجزء فلا يكون مسموعاً

اللهم إلا أن نفسر الواجب بغير ما تقدم، فحينئذ يكون النزاع في تفسير الواجب. وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي: أما عن الأول: فلأن غاية ما يلزم منه على تقدير عدم الوجوب على هؤلاء، أما التخصيص أو التجوز، وهما غير ممتنعين عند قيام الدلالة عليهما. وعن الثاني: ما سبق من [أن] القضاء لا يعتمد على الوجوب، بل يعتمد على سبب الوجوب. وعن الثالث: أنا نساعدكم أن ما يأتي [به] هؤلاء بدل عما سبق، لكن ذلك لا يدل على الوجوب لجواز أن يكون بدلا عما وجد سبب وجوبه ولم يجب. واعلم أن الفقهاء يمنعون أن يكون جواز الترك مطلقا ينافي جزء ماهية الوجوب، وهذا لأن عدم الشيء قد يكون لعدم المقتضي لوجوده، وقد يكون لوجود المانع من وجوده مع قيام المقتضي له. إذا ثبت هذا: فنقول: انتفاء عدم جواز الترك فيما نحن فيه إنما هو لوجود المانع، وهو غير مناف لعدم جواز الترك الذي هو بحسب دلالة المقتضي له الذي هو جزء ماهية الوجوب لإمكان اجتماعهما، فإن يصح أن يقال: عدم جواز الترك ثابت هنا نظرا إلى المقتضي وهو غير ثابت نظرا إلى المانع فلا يكون جواز الترك مطلقا منافيا لجزء ماهية الوجوب.

"الفصل الثاني" في المحظور وما يتعلق به من المسائل

الفصل الثاني" في المحظور وما يتعلق به من المسائل

"الفصل الثاني" في المحظور وما يتعلق به من المسائل المسالة الأولى في حقيقته لغة وشرعا أما في اللغة: فهو الممنوع والمقطوع، يقال: حظرت عليه كذا أي: منعته منه، ومنه الحظيرة للبقعة التي تأتي إليها المواشي. وأما حده شرعا: فهو على ضد ما قلنا: في الواجب مع زيادة قيد، وهو: ما يذم فاعله شرعا على بعض الوجوه من حيث هو فعل. وقولنا: على بعض الوجوه. ليدخل فيه المحرم المخير، إذ يجوز عندنا أن يحرم الشارع أحد الأمرين لا بعينه، كما في الإيجاب على مما نذكره.- إن شاء الله تعالى- واحترزنا بالقيد الأخير، عن المباح الذي يستلزم فعله ترك الواجب، فإنه يذم فاعله لكن لا من حيث إنه فعل، بل من حيث إنه يستلزم ترك الواجب. ومن أسمائه: المعصية، والمحرم، والذنب، والمزجور عنه، والمتوعد

المسالة الثانية [في الجمع بين الطاعة والمعصية في الشيء الواحد]

عليه والمنهي عنه، عند من يجعل مطلق النهي للتحريم. ثم القول إنما يكون معصية ومحرما: باعتبار أنه نهى الله/ (92/ب) عنه. وقالت المعتزلة: إنما يكون ذاك باعتبار أن الله تعالى كرهه، وهذا بناء على أن الأمر عندهم عين الإدارة، والنهي عين الكراهية، وهو مبني على خلق الأعمال وإدارة الكائنات. المسالة الثانية [في الجمع بين الطاعة والمعصية في الشيء الواحد] اعلم أن العقلاء قد اتفقوا على أن الشيء الواحد بالشخص باعتبار واحد، لا يجوز أن يكون حراما وواجبا، وطاعة ومعصية لاستحالة اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد بالاعتبار الواحد، إلا من جوز التكليف بالمحال، ولو كان محالا لذاته. وغنما الخلاف في الشيء الواحد بالنوع "كالسجود" مثلا، هل يكون حراما وواجبا معا أم لا؟. وفي الشيء الواحد بالشخص، هل يجوز أن يكون كذلك باعتبارين أم لا؟ كالصلاة في الدار المغصوبة، فإن باعتبار

الصلاة هل يجوز أن يتعلق الأمر بها؟ وباعتبار كونها في الدار المغصوبة، هل يجوز أن يتعلق النهي بها أم لا؟. فلنفرد كل واحد منهما بالكلام ليكون أقرب إلى التحقيق. فنقول: أما الأول: فذهب أكثر العقلاء إلى تجويزه. والدليل عليه وجهان: أحدهما: أن محل الإثبات إذا كان مغايرا لمحل النفي، إما بالصفة الحقيقية كما في الأصناف، أو بالإضافية كما في المختلف بالإضافة، أو بالشخصية كما في المشخصات مع اتحاد النوعية، فإنه لا يلزم منه اجتماع النفي والإثبات، فلا يلزم من كون النوع الواحد واجبا وحراما، بمعنى أن بعض أفراده واجب، وبعض أفراده حرام، اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد فلا يلزم من كون السجود واجبا لله تعالى أن لا يكون السجود للصنم حراما. وثانيهما: وقوعه في الشرع، فإنه دليل الجواز وزيادة بيان الوقوع أن السجود نوع واحد من الأفعال، ومنه واجب وهو السجود لله تعالى، ومنه محرم وهو السجود للصنم والشمس والقمر، لذلك قال تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله} الآية، ولو استحال أن يكون بعض أفراد النوع الواحد واجبا وبعض أفراده محرما مع التغاير الحاصل بين تلك الأفراد بالإضافة، لما حسن هذا الأمر والنهي.

وذهب أبو هاشم ومن تابعه من أصحابه: إلى أن النوع الواحد يستحيل أن يكون منقسما إلى واجب ومحرم، وهو سديد على أصله، وهو أن النوع الواحد لا تختلف صفته في الحسن والقبح، فإذا كان بعض أفراده حسنا وجب أن يكون كله كذلك، [وإذا كان قبيحا وجب أن يكون كله كذلك]، فالسجود لله تعالى لما كان واجبا استحال أن يكون السجود للصنم من حيث / (93/أ) إنه سجود محرم وإلا لزم اجتماع النفي والإثبات في شيء واحد بل المحرم قصد التعظيم للصنم. وهو ظاهر الضعف، لأن السجود الواجب لله تعالى سجود مقيد بقصد تعظيم الرب ووجوبه، وإن كان يتضمن وجوب مطلق السجود ضرورة أن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، لكن المحرم ليس مطلق السجود، بل السجود المقيد بقصد تعظيم الصنم، وتحريمه لا يستلزمه تحريم مطلق السجود حتى يلزم اجتماع النفي والإثبات في محل واحد، فلا يكون تحريم سجود الصنم منافيا لوجوب سجود الرب، ولا وجوبه منافيا لتحريمه فيصح اجتماعهما في النوع الواحد.

المسألة الثالثة في أن الواحد بالشخص، هل يجوز أن يكون واجبا ومحرما معا باعتبارين مختلفين أم لا؟

واحتج إمام الحرمين على فساد مذهبه بوجه آخر: وهو أنه يقتضي خروج الأفعال عن أن تكون قربا، وهو خلاف الإجماع. وفيه نظر. المسألة الثالثة في أن الواحد بالشخص، هل يجوز أن يكون واجبا ومحرما معا باعتبارين مختلفين أم لا؟ كما سبق مثاله. فذهب أكثر الأصوليين والفقهاء إلى تجويزه. وذهب الجبائيان، والقاضي منا، والإمام أحمد بن حنبل، وأهل الظاهر، والزيدية إلى عدم تجويزه.

وقيل: هو رواية عن مالك أيضا رحمه الله، واتفق هؤلاء على أنه لا يسقط الفرض بها. لكن اختلفوا: في أنه هل يسقط الفرض عندها أم لا؟ فقال القاضي أبو بكر ومن تابعه: يسقط عندها لا بها. وقال الباقون: لا يسقط الفرض بها ولا عندها، بل يجب عليه القضاء هكذا نقل بعضهم.

والصحيح أن القاضي إنما يقول بذلك: لو ثبت القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء، فأما إذا لم يثبت ذلك، فلا يقول بسقوط القضاء لا بها ولا عندها. احتج الجمهور على صحة ما ذهبوا إليه بوجوه: أحدها: أنه لا نزاع في أنه يعتبر في استحالة اجتماع النفي والإثبات في القصة الواحدة اتحاد المحكوم عليه والمحكوم به، وهو غير متحقق فيما نحن فيه، لأن المحكوم عليه في قولنا: "الصلاة المؤداة في الدار المغصوبة واجبة وطاعة"، هو نفس الصلاة باعتبار كونها صلاة فقط، والمحكوم عليه في قولنا: "الصلاة في الدار المغصوبة محرمة ومعصية" ليس هو نفس الصلاة من حيث إنها صلاة، بل هو الصلاة باعتبار كونها مؤداة في الدار المغصوبة، فالمحكوم "عليه" في قضية الحرمة مجموع الأمرين من الفعل وصفته، والمحكوم عليه في قضية الوجوب هو نفس الفعل الذي هو الصلاة، ومعلوم أن المجموع الحاصل من الذات والصفة / (92/ب) مغاير لكل واحد منهما، وإذا حصل التغاير في المحكوم عليه فلا استحالة في الحكم بالوجوب والحظر معا. وثانيها: لا شك في أنه يحسن من السيد أن يقول لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا الثوب، وحرمت عليك دخول هذه الدار واللبث فيها، فإن فعلت ما أوجبت عليك أثبتك، وإن فعلت ما حرمت عليك عاقبتك، وإن جمعت بينهما جمعت بين الثواب والعقاب، فإن جمع العبد بينهما يحسن للسيد أن

يثيبه على ما امتثل ويعاقبه على ما خالف معا، ولا يقضي عاقل بالتهافت والتناقض لا في قوله ولا فعله، فكذا ما نحن فيه حذو القذة بالقذة. وثالثها: التمسك بالإجماع، فإن السلف أجمعوا على صحة الصلاة المؤداة في الدار المغصوبة، إذ كانوا لا يأمرون الظلمة بقضاء الصلوات المؤداة في الدار المغصوبة مع كثرة وقوعها منهم، وذلك يدل على إجماعهم على أن تلك الصلوات كانت واجبة وطاعة، إذ الواجب لا يسقط بفعل ما ليس بواجب. ولا ولا يدفع هذا الإجماع بمخالفة الإمام أحمد بن حنبل، وبما روي عن مالك في [رواية] رحمهما الله تعالى، فإنهما محجوجان أيضا بإجماع الصحابة والتابعين. ولهذا الإشكال [فر] القاضي عن القول بوجوب القضاء. فقال: يسقط الفرض عندها لا بها جمعا بين الإجماع، وبين ما يزعمه دليلا على عدم صحتها.

ورابعها: التمسك بالعمومات، نحو قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، ونحو قوله تعالى: {أقيموا الصلاة}

فإنها تتناول الصلاوات المؤداة في الدور المغصوبة، لأنها تسمى صلاة فيكون مأمورا بها "من حيث إنها" صلاة، وإن كانت منهية عنها من حيث إنها مؤداة في الدار المغصوبة فظهر بما ذكرنا أن الشيء الواحد يجوز أن يكون مأمورا به ومنهيا عنه باعتبارين مختلفين. واحتج المخالف: على فساد الصلاة في الدار المغصوبة بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه".

ولا شك أن الصلاة في الدار المغصوبة ليس [من] الدين فتكون ردا عليه. وثانيها: وهو الوجه الإجمالي: وهو أن متعلق الوجوب والأمر من هذه الصلاة إما أن يكون عين متعلق الحظر، أو غيره، والأول: باطل. أما أولا: فلأنه يقتضي أن يكون الشيء الواحد باعتبار واحد / (94/أ) واجبا ومحظورا معا وهو باطل بالضرورة لا يجوز ورود التكليف به، لأنه حينئذ يكون مأمورا بالفعل والترك معا باعتبار واحد وهو تكليف ما لا يطاق، وليس هذا تفريعا عليه، إذ قال بصحة هذه الصلاة من لم يقل به كبعض الأصوليين والفقهاء. وأما ثانيا: فلمساعدة الخصم على الشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يجوز أن يكون واجبا ومحظورا معا. وإن كان الثاني، فإما أن يكون بين ذينك المتعلقين تلازم، أو لا يكون. فإن كان الأول: كان الإتيان بمتعلق الحظر من لوازم الإتيان بمتعلق الوجوب وقد ثبت أن وجوب الشيء يستدعي وجوب ما هو من ضروراته، فيكون متعلق الحظر بعينه واجبا فيرجع هذا القسم إلى القسم الأول: وهو أن يكون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد يكون واجبا ومحظورا معا، وقد أبطلناه. وإن كان الثاني: كان متعلق الوجوب والحظر أمرين متغايرين لا يلازم أحدهما الآخر، فهذا التقدير لو كان هو الواقع في هذه الصلاة فنحن لا ننازعكم في صحتها، لكنه باطل، لأن جهة الغصب على الإطلاق.

وإن كانت متغايرة لجهة الصلاة ومنفكة عن مطلق الصلاة، لكنه يستحيل انفكاك هذه الصلاة عن جهة الغصب، إذ الصلاة في الدار المغصوبة يستحيل أن تكون منفكة عن جهة الغصب، وحينئذ يعود ما ذكرنا من المحذور، وهو أن المحذور بعينه يكون واجبا في هذه الصور الخاصة، لأنه من ضروريات الواجب. وثالثها: وهو الوجه التفصيلي: وهو أن الصلاة ماهية مركبة من الأذكار المخصوصة، والأفعال المعلومة، نحو القيام والركوع والسجود والقعود، وكل واحد من هذه الأفعال مركب من الحركة والسكون. والحركة: عبارة عن حصول الجوهر أو الجسم في حيز بعد أن كان في حيز آخر. وهي عبارة عن الحصول الأول في الحيز سواء كان في الحيز الأول أو في الثاني. والسكون على الضد منه. فعلى الأول السكون: عبارة عن حصوله في حيز بعد أن كان فيه قبله. وعلى الثاني: أنه عبارة عن الحصول الثاني سواء كان في الحيز الأول، أو في الحيز الثاني، لكن يعتبر أن يكون ثابتا بالنسبة إلى حيز واحد. وعلى التقديرين فهما يشتركان في نفس الحصول في الحيز وهو محرم فيما نحن فيه فيكون الكون في الصلاة في الدار المغصوبة محرما، وهو جزء الحركة والسكون اللذين هما جزء أفعال الصلاة، وجزء الجزء جزء فجزء الصلاة محرم / (94/ب) والصلاة الواجبة واجبة بجميع أجزائها، وإلا لزم أن يقال

الواجب بعض أجزاء الصلاة لا الصلاة، إذ الصلاة: اسم مجموع تلك الأجزاء مع الهيئة الاجتماعية، ولأن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب على ما تقدم، والكل متوقف على الجزء فيكون جزء الكل الواجب واجبا، وحينئذ يلزم أن يكون ذلك الجزء المحرم واجبا، فيكون الشيء الواحد واجبا ومحرم معا، وهو تكليف ما لا يطاق. لا يقال: مطلق شغل الحيز جزء الصلاة لا شغل هذا الحيز المعين، ومطلق شغل الحيز ليس بحرام حتى يلزم أن يكون جزء الصلاة محرما. لأنا نقول: مطلق شغل الحيز جزء مطلق الصلاة وشغل هذا الحيز جزء هذه الصلاة، فلو كانت هذه الصلاة واجبة وطاعة، لكان هذا الجزء المحرم واجبا وطاعة، وحينئذ يلزم المحذور المذكور. الجواب عن الأول: أن الصلاة في الدار المغصوبة من حيث إنها في الدار المغصوبة ليست من الدين وهي من هذا الوجه مردودة. فلم قلتم: إنها من حيث إنها صلاة ليست من الدين حتى تكون مردودة عليه، فإن تلك الجهة عندنا من الدين، فلا تكون مردودة بهذا الاعتبار؟ فإن قلت: التقييد خلاف الأصل، فيجب أن يكون مردود بجميع الاعتبارات إعمالا لا طلاق الرد. قلت: يجب المصير إليه لما ذكرنا من الدليل. وعن الثاني: أنه منقوض بما إذا قال السيد لعبده: خط هذا الثوب، ولا تدخل هذه الدار، فخاط الثوب ودخل الدار، فإنه يحسن من السيد أن يثيبه على

الامتثال، ويذمه على العصيان، والخصم يساعدنا عليه، مع أن جميع ما ذكره في صورة النزاع آت فيه، وذلك لأن الخياطة ودخول الدار وإن أمكن انفكاك كل واحد منهما عن الآخر، لكن يستحيل أن تنفك هذه الخياطة عن هذا الدخول، فلو كانت هذه الخياطة مأمورا بها لزم أن يكون هذا الدخول كذلك ضرورة إن ما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورا به أيضا، وليس للخصم عنه جواب. إلا أن يقول الملازمة التي بين الخياطة المأمور بها وبين الدخول المنهي عنه، ليس لماهيتهما ولا للازم ماهيتهما، بل لأمر عارض وهو مفارقتهما في الوقوع الحاصلة بفعل المكلف التابعة لهما ضرورة أن النسبة بين الشيئين متأخرة عنهما بالرتبة، وإذا كان كذلك فلا يلزم من وجوب الخياطة وجوب الدخول المنهي عنه، لأن ما لا ينفك عنه الواجب إنما يكون / (95/أ) واجبا إذا كان بحيث لا يمكن الإتيان بالواجب إلا به سواء كان كالوصلة والطريق المتقدم عليه أو لا يكون كذلك، وأما ما لا ينفك عنه الواجب لأنه لا يتوقف الإتيان به عليه، بل لأنه اتفق حصوله معه، فلا نسلم أنه يكون واجبا، ثم الذي يدل عليه، هو أن الواجب إذا أدى مع السنن والهيئات، فإنه لا يمكن إنفكاكه عنها، ولا يمكن أن يقال: إن تلك السنن والهيئات واجبة لاستحالة إنفكاكه الواجب عنها، فكذا فيما نحن فيه من المثال، وإذا كان هذا جوابه عن النقض، فهو بعينه جوابنا عما ذكره من الدليل من غير تفاوت أصلا. سلمنا: سلامته عن هذا النقض، لكن دليلكم إما لا يفيد المطلوب أو هو منقوض بسائر الأفعال المنهية.

وبيانه: أنكم إما أن تجوزوا الأمر الماهية الكلية والنهي عن بعض أفراده بخصوصية بناء على أن الأمر بالماهية الكلية لا يوجب الأمر بالشيء من جزئياتها فجاز أن ينهى عن بعض جزئياتها، أو لا تجوزوا ذلك، فإن جوزتم يلزمكم تجويز كون الصلاة في الدار المغصوبة مأمورا بها باعتبار ماهيتها ومنهيا عنها باعتبار خصوصيتها، وإلا لزم التعارض وأنه خلاف الأصل، وحينئذ لا يكون الدليل مفيدا للمطلوب، وإن لم تجوزوا ذلك لزم الأمر الثاني، وذلك لأن مطلق الفعل مأمور به ضرورة أنه جزء من الفعل المخصوص المأمور به والأمر بالكل أمر بالجزء، وحينئذ يلزم أن لا يجوز النهي عن شيء من الأفعال لكونه فردا من أفراد الفعل المأمور به. فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن صورة النزاع، وبهما خرج الجواب أيضا عن الوجه الثالث: فإن الدخول المنهي عنه وإن لم يكن جزء الخياطة المأمور بها يستلزم وجوبهما، وحينئذ يلزم أن يكون المنهي عنه بعينه مأموراً به.

تنبيهان: الأول: القائلون: بأن الصلاة في الدار المغصوبة غير صحيحة، سواء قالوا: بوجوب القضاء أو بسقوطه، لكن عندها لا بها. اختلفوا: في الصلاة في الثوب المغصوب، والحرير والتوضؤ بالماء المغصوب، والحج على الجمل المغصوب، وما يجري مجراه. فمنهم: من عمم المنع في الكل. ومنهم: من خصص المنع بما إذا كان المنهي عنه جزءا، أو لازما للماهية دون غيره.

ولا / (95/ب) يخفى عليك أن ما ذكروه من الوجه الإجمالي آت في الكل. الثاني: الذين قالوا: بجواز أن يكون الشيء الواحد واجبا ومحرما باعتبارين، قالوا: إنما يجوز ذلك إذا أمكن للمكلف أن يفعل المأمور به بدون المحرم، كما هو في الصلاة في الدار المغصوبة، أما إذا لم يمكن أن يفعل الواجب بدون المحرم، فإنه لا يجوز اجتماعهما فيه ولو كانا باعتبارين، إلا على قول من يجوز تكليف ما لا يطاق. فعلى هذا: من توسط أرضا مغصوبة ثم تاب، وتوجه للخروج، فإن خروجه واجب محض، ولا تحريم فيه أصلا، ولا يمكن أن يقال: إنه من حيث إنه شبب لتفريغ ملك الغير يكون واجبا، ومن حيث إنه شغل ملك الغير بغير إذنه يكون محرما، لأنه لا يمكن الإتيان بالاعتبار الواجب، وهو تفريغ ملك الغير بدون الاعتبار المحرم وهو شغل ملك الغير. وقال أبو هاشم: هو عاص في خروجه، وخروجه حرام بناء على أصله: وهو أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح لذاته، وهو نوع واحد فلا يختلف في الحسن والقبح، لكنه مناقض لأصل آخر له: وهو عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وتحريم الخروج واللبث معا مع توجه الأمر بالكف عن المحرم تكليف ما لا يطاق.

المسألة الرابعة [في أنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد باعتبار واحد واجبا ومكروها]

المسألة الرابعة [في أنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد باعتبار واحد واجبا ومكروها] كما عرفت مما سبق أن الشيء الواحد باعتبارين مختلفين يجوز أن يكون واجبا ومحرما معا، أما باعتبار واحد فلا. فعرف مثله أنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد واجبا ومكروها معا، ولا واجبا ومباحا، ولا واجبا ومندوبا، إذ لا فرق في استحالة اجتماع الشيء مع ما ينافي بعض أجزائه، أو كل أجزائه، فالصلاة في

المسألة الخامسة [في المحرم المخير]

الحمام وأعطان الإبل وقارعة الطريق ليست مكروهة باعتبار كونها صلاة، ولا لصفة لازمة للصلاة، وإلا لكان كل صلاة كذلك، بل لأمر آخر خارجي يمكن أن تنفك الصلاة منه، وهو مثل التعرض للنجاسة، وشغل القلب بسبب خوف النفار، وكثرة طروق الطارقين، وغير ذلك من أسباب الكراهة، فلو لم يعرف للكراهة متعلق غير الماهية أو جزء منها أو لازم لها لم يمكن القول الوجوب معه. المسألة الخامسة [في المحرم المخير] تحريم شيء من الأشياء: لا يقتضي تحريم الكل عندنا، بل المحرم واحد لا بعينه، ويتعين ذلك بكفه عنه إذا فعل غيره، كما في الوجوب. وقالت المعتزلة: يقتضي تحريم الكل.

والنزاع هاهنا في المعنى، وإن لم يكن في الوجوب فيه، فإن عندهم يجب الكف عن الجميع هنا / (96/أ) وإن لم يجب فعد الجميع في الوجوب. وعندنا لا يجب ذلك هكذا نقل بعضهم. والقياس التسوية بين الوجوب والتحريم، لأن الوجوب كما يتبع الحسن الخاص عندهم، فكذا التحريم يتبع القبح الخاص، فإن وجب الكف عن الجميع بناء على استوائها في المعنى الذي يقتضي الإيجاب. لنا: أنه خير بين محرمين، فلا يجب الجمع بينهما في الكف. أما الأول: فلأنا نفرض الكلام فيما إذا صرح به، بأن يقول: حرمت عليك هذا أو هذا ولست أحرم الجميع ولا واحدا بعينه. وأما الثاني: فبالقياس على الوجوب، فإن الخصم يساعدنا فيه، على أنه لا يجب فعل الكل، وإن كان يقول: الكل واجب على التخيير، والجامع رفع الضرر الناشئ من إيجاب الكل. واحتجوا بقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} وهو يقتضي تحريم طاعة كل واحد منهما وفاقا.

وجوابه: منع اقتضائه تحريم طاعة كل واحد منهما، بل الآية لا تقتضي إلا تحريم طاعة واحد منهما لا بعينه، وإنما ثبت التحريم في كل واحد منهما بدليل منفصل. سلمناه: لكن ذلك لأن "أو" بمعنى "الواو". فلم قلت: أنه إذا لم يكن بمعناه أو حيث صرح بالتخيير كان مقتضاه ما ذكرتم.

"الفصل الثالث" في المباح وما يتعلق به من المسائل

"الفصل الثالث" في المباح وما يتعلق به من المسائل

"الفصل الثالث" في المباح وما يتعلق به من المسائل المسألة الأولى في معناه وهو في اللغة: مأخوذ من الإباحة. وهو بمعنى: الإظهار والإعلان من قولهم: باح بالسر إذا أظهره. ومنه يقال: باحة الدار لساحتها سميت بذلك لظهورها. وأما قولهم: أبحت له كذا، فهو بمعنى: أذنت له فيه وأطلقته. وأما في الشرع: فقيل: هو ما خير المرء فيه بين فعله وتركه شرعا. وأورد عليه: بأنه غير مانع، فإن المرء مخير بن فعل كل واحد من خصال الكفارة، وبين تركه شرعا مع أنه إذا فعله لا يكون مباحا بل واجباً، وكذلك

الصلاة في أول وقتها. ولو زيد في الحد "من غير بدل" اندفعا. وقيل: هو ما استوى جانباه في عدم الثواب والعقاب. وأورد عليه: بأنه غير مانع أيضا، فإن أفعال الله تعالى كذلك مع أنها ليست مباحة، وكذا أفعال الصبي والمجنون والبهائم. ولو زيد في الحد. وقيل: "هو ما يستوي جانباه من أفعال المكلفين في عدم الثواب والعقاب"، اندفع الاعتراضان. لكن يعترض عليه: بأنه / (96/ب) غير جامع، فإن المباح: المنوي لوسيلة عبادة، أو معصية لا يستوي جانباه في الثواب والعقاب، أو يثاب فاعله، أو يعاقب مع أنه مباح ولذلك يقال: يثاب على فعل المباح بالنية، والأصل في الإطلاق الحقيقة. ويندفع هذا أيضا، لو زيد في آخر الحد "نظرا إلى نفسه". وقيل: "صوابه" ما أعلم فاعله، أو دل "عليه" أنه لا ضرر عليه في فعله، ولا في تركه، ولا نفع له في الآخرة.

وقودح: بأنه غير جامع، إذ يخرج عنه الفعل الذي خير الشارع فيه بن الفعل والترك، مع إعلامه فاعله، أو دلالة الدليل السمعي على استواء فعله في المصلحة والمفسدة دنيا وآخرة، فإنه مباح، وإن اشتمل فعله وتركه على الضرر. وهو غير سديد، لأنه لابد وأن يريد بقوله: وإن اشتمل فعله وتركه على الضرر، الضرر في الآخرة، وهو المعنى من قوله "في الحد": لا ضرر عليه في فعله ولا في تركه ولا نفع له في الآخرة. وحينئذ لا نسلم أن ما يكون كذلك يكون في فعله وتركه ضرر، وهذا لأن المفسدة لما صارت معارضة بالمصلحة، وبالعكس صار وجود كل واحد منهما كعدمه، وحينئذ لا يكون في فعله وتركه ضرر في الآخرة. فإن استدل عليه بأن الثواب والعقاب على الفعل عندنا غير معلل بالمصالح والمفاسد، وغير مشروط بهما، فجاز أن يكون في الفعل ضرر في الآخرة، وإن لم يكن مشتملا على المفسدة، فحينئذ نمنع جواز تحقق حقيقة التخيير فيه، وإن أجازوا ورود صيغة التخيير فيه، كما في قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وهذا لأنه حينئذ يكون محرما لاشتماله على ضرر الآخرة، فلا يتصور فيه حقيقة التخيير. سلمناه: لكن لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون مباحا، والمعترض ما زاد على مجرد الدعوى شيئا، ولم يذكر عليهما دليلا. واعلم أن من أسماء المباح: الحلال، والطلق، وقد يوصف الفعل بالإباحة، إذا كان الإقدام عليه جائزا، وإن كان تركه محظورا، كما يقال:

المسألة الثانية [في المباح هل هو من الشرع أو لا]

دم المرتد مباح مع أن تركه غير جائز. المسألة الثانية [في المباح هل هو من الشرع أو لا] اختلفوا: في المباح هل هو من الشرع أو لا؟ فالأكثرون: على أنه من أحكام الشرع. وخالف فيه بعض المعتزلة: زاعما بأنه لا معنى له إلا انتفاء الحرج عن فعله وتركه، وهذا الحكم ثابت قبل الشرع، وهو مستمر بعده، فلا يكون حكما شرعيا. قال الأكثرون: نحن لا ننازعكم على أن المباح بهذا المعنى ليس حكما

المسألة الثالثة في أن المباح هل هو من التكليف أم لا؟

/ (97/أ) شرعيا، لكن ليس معنى المباح عندنا ما ذكرتم، بل معناه: ما أعلم فاعله أو دل بطريق شرعي على أنه لا حرج في فعله ولا في تركه. ومعلوم أن هذا الحكم غير ثابت قبل الشرع فلا يكون المباح حكما عقليا بهذا المعنى. والحاصل أن النزاع في المسألة لفظي: فإنه إن عني بالمباح، ما لا حرج في فعله ولا في تركه لا غير. أو عني الحكم الشرعي: الحكم الذي يخالف حكم العقل الذي كان ثابتا قبله، فالمباح ليس حكما شرعيا. وإن عني بالمباح ما ذكرناه، أو عني بالحكم الشرعي ما ذكرناه، في صدر الكتاب، فالمباح حكم شرعي، لأن الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير أعم من أن يكون ذلك على وجه التقرير أو على وجه التغير. المسألة الثالثة في أن المباح هل هو من التكليف أم لا؟ فالأكثرون: على أنه ليس من التكليف، لأن التكليف تفعيل من الكلفة: وهي المشقة، فمعناه أن يحمل الشخص على ما فيه "من" الكلفة، وليس في المباح طلب واستدعاء فلا يكون تكليفاً.

المسألة الرابعة في أن المباح هل هو حسن أم لا؟

والأستاذ أبو إسحاق- رحمه الله- جعله من التكليف، باعتبار أنه طلب من المكلف اعتقاد إباحته، لا أنه طلب منه فعله. فعلى هذا يكون الأستاذ متجوزا في إطلاق التكليف على المباح، لأنه اطلق على المضاف إليه ما كان مطلقا على المضاف، لأن المكلف به حينئذ هو اعتقاد المباح لا المباح نفسه. والجماهير لا يخالفونه في كون المباح من التكليف بهذا الاعتبار، وهو لا يخالفهم في أنه ليس منه باعتبار الفعل والترك فالنزاع لفظي. المسألة الرابعة في أن المباح هل هو حسن أم لا؟ إن عني بالحسن ما لا حرج في فعله، سواء كان بحيث يثاب على فعله أو لا يثاب، فلا شك أن كل مباح حسن. وإن عني به ما يكون ملائما لغرض فاعله فبعض المباح حسن، وهو الذي يكون ملائما لفاعله دون الذي لا يكون كذلك. وإن عني به ما يثاب فاعله ويستحق الثناء بفعله، فليس شيء من المباح حسناً.

المسألة الخامسة في أن المباح هل هو مأمور به أم ل

المسألة الخامسة في أن المباح هل هو مأمور به أم لا فمن قال: أن الأمر حقيقة في رفع الحرج عن الفعل، أو في الإباحة، فلا شك أن المباح مأمور به عنده. وأما من قال: أنه حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو في القدر المشترك بينهما، أو هو أمر مشترك بينهما، فالمباح عندهم ليس بمأمور به. المسألة السادسة (97/ب) أنكر الكعبي وأتباعه المباح: وخالف فيه عصا المسلمين، إذ الأمة

مجمعة على أن أحكام الشرع منقسمة إلى الأحكام الخمسة المذكورة في التقسيم السابق، وكيف لا؟. والمباح أكثرها وأظهرها، إذ حكموا بالإباحة بالاستصحاب دون الأحكام الأربعة الباقية، فكل ما هو طريق إلى إثبات الأحكام الأربعة طريق إليه من غير عكس.

وقبل الخوض في تحرير دلالة الخصم، لابد من تلخيص محل النزاع ليقع الكلام على مجرى واحد. واعلم أن إنكاره المباح يحتمل وجهين:- أحدهما: وهو الذي أشعر به ظاهر ما نقل عنه، وهو أنه ليس فعل من أفعال المكلفين بمباح أصلا، سواء كان ذلك باعتبار الفعل أو غيره. وهذا ظاهر الفساد غني عن الإفساد. وثانيهما: وهو الذي أشعر به دليله، وهو أن كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته، فإنه واجب باعتبار أنه يترك به الحرام. واستدل عليه بأنه ترك الحرام واجب، ولا يمكن تركه إلا بالتلبس بضد من أضداده، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالتلبس بضد من أضداده واجب، غير أن ذلك الضد غير متعين للوجوب قبل التلبس به، لكنه يصير متعينا لذلك بعد التلبس به، كما في الواجب المخير، ثم إذا فارق المكلف ذلك الضد، وتلبس بضد آخر، تعين ذلك للوجوب أيضا، لأن الانتهاء عن المحرم واجب دائما، فالتلبس بضد من أضداده واجب دائما، فبأي ضد تلبس به تعين ذلك الوجوب. ولا يخفى عليك أن هذا الدليل يقتضي أن يكون الواجب واجبا باعتبارين: أحدهما: باعتبار الذات. وثانيهما: باعتبار الحرام. وأن يكون كل واحد من المندوب والمكروه واجبا، بل يقتضي أن يكون

الحرام واجبا أيضا، إذ يترك به حراما آخر، وقد يلتزمه الرجل، ويعتذر عنه بأنه لا يعد في الحكم على الشيء الواحد بحكمين مختلفين باعتبارين، كما في الصلاة في الدار المغصوبة، وعند هذا ظهر أنه لا معنى لإنكاره المباح، بل الفعل باق على الإباحة، نظرا إلى ذاته، وإنما يصير واجبا باعتبار أمر عارض، هذا بالنسبة إلى مباح واحد، إذا فرض تلبس المكلف به دون ما عداه من المباحات فإنها باقية على الإباحة، هذا إذا فرض تلبس المكلف به، أما إذا تلبس بالواجب أو بالمندوب فعند هذا تبقى جميع المباحات على الإباحة ولم يصر شيء منه واجبا / (98/أ) نظرا إلى الأمر العارض أيضا.

"الفصل الرابع" في المندوب وما يتعلق به من المسائل

"الفصل الرابع" في المندوب وما يتعلق به من المسائل

"الفصل الرابع" في المندوب وما يتعلق به من المسائل المسألة الأولى في معناه لغة وشرعا أعلم أن المندوب مشتق من الندب. وهو في اللغة: عبارة عن الدعاء إلى أمر، يقال: ندبه إلى الآخر فانتدب، أي دعاه فأجاب. وهو في الشرع: عبارة عما يكون فعله راجحا على تركه في نظر الشرع، ويكون تركه جائزا مطلقا. فبالقيد الأول: خرج المحظور والمكروه والمباح. وبالثاني: الأكل قبل ورود الشرع وما يجري مجراه مما يتعلق به لذة، أو غرض غير شرعي، فإنه وإن كان ترجح فعله على تركه، لكن لما لم يكن ذلك الترجيح مستفادا من الشرع لا جرم لا يسمى مندوبا.

وبالثالث: الواجب المخير والموسع، فإنه وإن ترجح فعل كل واحد من تلك الخصال على تركه، وكذا ترجح فعل الواجب الموسع في أول الوقت على فعله في آخره بالنسبة إلى مقاصد الشرع، لكن لما لم يكن ذلك الترك جائزا مطلقا، بل إما بشرط الإتيان بالبدل، أو إلى غاية معينة، لا جرم لا يسمى كل واحد من تلك الخصال مندوبا، وكذلك لا يسمى الواجب الموسع في أول الوقت مندوبا. ثم اعلم أن هذا المعنى الشرعي إنما سمي به: لأنه دعا الشرع إلى فعله، والواجب وإن كان كذلك، لكن المندوب لما وقع في أول مرتبة من مراتب ما دعى الشرع إلى فعله اختص به، ثم اختص ما بعده من السنة والواجب على العين، والواجب على الكفاية، باسم خاص، حذرا عن الالتباس. ومن أسمائه: النفل: أي الطاعة الزائدة على الواجبة. والتطوع: لما أن المكلف أطاع الله فيه من غر إلزام وإيجاب. والمرغب فيه، والمستحب، والإحسان لبعض أنواعه: وهو أن يكون نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى إيقاعه، إذ لا يقال لمن يصلي ويصوم أنه محسن على الإطلاق. وإن قيل ذلك مقيدا، إذ قال: إنه محسن لنفسه والاستعمال بشرط التقييد

أنه المجاز، وكذلك لا يقال: لمن لا قصد له إلى الإيقاع، وإن وجد منه الإيقاع أنه محسن، كمن رمى إلى صيد أو جرثومة فقتل ظالما أو سبعا. وأما السنة: فقيل أيضا هي من جملة أسمائه، لأنها تذكر في مقابلة الواجب فيقال: هذا الفعل إما واجب أو سنة. والصحيح غيره وهو أحد القولين:- أحدهما: أن لفظ السنة غير مختصة بالمندوب، بل / (98/ب) يتناول كل ما علم أو ظن ندبيته أو وجوبه بقوله أو فعله عليه السلام، وكذلك يقال: (الختان من السنة) ولا يراد به أنه غير واجب، وكذلك يقال: النكاح من السنة صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام: "النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي

فليس مني". وليس المراد منه النكاح المندوب فقط، بل المراد منه، إما النكاح الواجب أو المطلق هو قدر مشترك بين الواجب والمندوب، أو العموم ليتناول جميع أفراده، لأنا وإن جوزنا تعلق مثل هذا الوعيد بالمندوب على وجه المبالة لكن تخصيصه به مع عدم ما يشعر به خلاف الأصل، كيف وتعلقه بالواجب أولى من تعلقه بالمندوب. وثانيهما: أن لفظ السنة وإن سلم أنه غير متناول للواجب، لكن ليس مرادفا للنفل والمندوب، بل هو أخص منه وهو كلما داوم عليه السلام على فعله من المندوبات، أو حرص على فعله غير مرة، لأنها مأخوذة من السنن وهو الطريقة، ولا يقال للفعل المفعول مرة أنه طريقة فاعله، وإنما يقال ذلك إذ تكرر منه.

المسألة الثانية في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا؟

المسألة الثانية في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا؟ ذهب القاضي وأبو هاشم وأتباعهما إلى أنه مأمور به، وهو اختيار الشيخ الغزالي رحمهم الله تعالى-.

وذهب كثير من الأصوليين والفقهاء منا، من الحنفية كالكرخي، وأبي بكر الرازي: إلى أنه ليس بمأمور به. والحق: إن هذه المسألة، فرع مسألة إن الأمر حقيقة في ماذا:؟ فمن قال: إن الأمر حقيقة في الوجوب فقط، فالمندوب يجب أن لا يكون مأمورا به عنده.

ومن قال: إنه حقيقة في الندب أو في القدر المشترك بينه وبين الواجب والمباح أو بينه وبين الواجب، أو هو مشترك بينهما، فالمندوب عندهم مأمور به. والعجب أن الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى من جملة الواقفية في مقتضى الأمر. فكيف اختار مع ذلك بأن المندوب مأمور به؟ وكان من حقه أن يكون متوقفا فيه.

المسألة الثالثة [في حسن المندوب]

فإن قلت: هو جازم بأن الأمر للاقتضاء والطلب، وأنه موجود في الندب، كما هو في الوجوب، ولكنه توقف في أنه لأحدهما أو هو مشترك بينهما. قلت: فبتقدير أن يكون للاقتضاء الجازم، كيف يكون المندوب مأمور به؟ نعم: جزمه بأنه للاقتضاء والطلب، مع توقفه بأنه للوجوب أو للندب، أو مشترك بينهما، إنا يفيد خروج المباح والمهدد به عن أن يكون مأمورا به، لا أن المندوب مأمورا به. وقد أشعر كلام بعضهم: إن بعض من قال الأمر للوجوب فقط: قال المندوب: مأمور به. وهذا لا وجه له. المسألة الثالثة [في حسن المندوب] المندوب حسن: إن أريد به: ما لا / (99 أ) حرج في فعله، أو ما يثاب فاعله ويستحق الثناء، وإن أريد به الواجب، وإن لم يقل به أحد فالمندوب ليس بحسن.

المسألة الرابعة في أن المندوب هل هو من التكليف أم لا؟

المسألة الرابعة في أن المندوب هل هو من التكليف أم لا؟ فمن قال: بأن المباح منه، قال: المندوب منه بطريق الأولى. وأما الذين لم يقولوا: بأن المباح من التكلف. اختلفوا في: فقال الجماهير والقاضي: هو منه. وقال إمام الحرمين: إنه ليس من التكليف.

والصحيح ما ذهب إليه الجماهير، لأنه ليس معنى التكليف طلب ما فيه الكلفة والمشقة بطريق الجزم حتى لا يكون المندوب منه، بل معناه: طلب ما فيه الكلفة سواء كان مع المنع من النقيض، أو لا يكون مع المنع منه. والمطلوب على وجه الندبية قد يكون أشق من الواجب، فوجب القطع بأنه من التكليف، بخلاف المباح، فإنه ليس فيه طلب أصلا، فلا يكون معنى التكليف فيه، ولأن المندوب لو لم يكن من التكليف لكان المكروه أيضا كذلك، أما لأنه لا قائل: بالفصل، وأما لأنه ليس فيه الطلب الجازم أيضا لكنه باطل، إذ فيه خروج أكثر الأحكام عن التكليف، ولأن المكلف في المندوب دائر بين كلفتين ومشقتين، لأنه إن رغب في الثواب الموعود عليه وقع في كلفة العمل به، وإن تركه لأجل ما فيه الكلفة شق عليه حرمان الثواب، وربما يكون هذا أشق عليه من كلفة العمل به فيدعوه إلى العمل به فيقع المكلف في المشقة فكان من التكليف. لا يقال: هذا الذي ذكرتم بعينه، يقتضي أن يكون حكم الشارع بكون الفعل المعين سببا للثواب العظيم حكما تكليفا، وهو خلاف الإجماع. لأنا نقول: لا نسلم أنه خلاف الإجماع، لأن الحكم بالسببية والشرطية والمانعية راجع إلى الأحكام الخمسة المذكورة".

ولهذا لم يعتبر بعضهم: تعلق الخطاب بالوضع في تعريف الحكم الشرعي، بل اقتصر على قوله: والخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، لأن الحكم بالسببية، والشرطية، راجع إلى الأحكام الخمسة، فعلى هذا ما يكون سببا للحكم التكليفي يكون حكما تكليفا، وما لا فلا. فإن قلت: سلمتم أن المباح ليس من التكليف إلا باعتبار الاعتقاد، والمندوب ساواه في التخيير بين الفعل والترك من غير حرج فيهما، وإنما يمتاز عنه باستحقاق الثواب بفعله، وهو ليس سبب الكلفة والمشقة، بل هو سبب اليسر والسهولة، إذ الفعل الذي له عوض أيسر على الإنسان من الذي لا / (99/ب) عوض له، فإذا لم يكن المباح من التكليف، مع كونه متفقا من حيث إنه لا عوض فيه، فالمندوب مع يسره أولى أن لا يكون منه. قلت: المندوب وإن ساوى المباح في مسمى التخيير، لكن يمتاز عنه بكون التخير فيه بصفة الترجيح، والتخيير في المباح بصفة التساوي، ومع ظهور الفارق المناسب لا يصح لقياس. قوله: إنما يمتاز عنه باستحقاق الثواب بفعله وهو من جهة أسباب اليسر لا العسر والكلفة. قلنا: المعتبر في كون الفعل من التكليف، أن يكون منشأ الكلفة فعله أو تركه مع كونه مطلوب الفعل أو الترك، وأما اليسر الناشئ من جزالة العوض فغير قادح فيه، وإلا لزم أن يكون الواجب الذي لا كلفة فيه مع ما فيه من

المسألة الخامسة [أقوال العلماء في متى يلزم المندوب]

الثواب العظيم، كرد السلام، والتلفظ بكلمتي الشهادة، أن لا يكون من التكليف، بل يلزم أن لا يكون جميع الواجبات والمحرمات من التكليف، لما فيها من الأجر الجزيل الذي لو قيست مشاقها به لعدت كالعدم بالنسبة إليه. المسألة الخامسة [أقوال العلماء في متى يلزم المندوب] المندوب لا يلزم بالشروع إلا في الحج، وخلاف الحنفية فيه مشهور. لنا: قوله عليه السلام: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر".

ولأنه لو نوى صوما يجوز له الخروج عنه وجب أن يقع كذلك، لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، لقوله عليه السلام:

"الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى". وللخصم: أن يمنع صحة الشروع في الصوم، بمثل هذه النية بناء على أنها ليست على وفق المنوي بل على ضده، فإن من شأن الصوم المشروع فيه أن لا يجوز الخروج عنه من غير عذر، فإذا نوى ما يضاده لم ينعقد للتهافت، ولأن اشتراط جواز الخروج يمنع من جزم النية فصار كما لو قال: "أنا

صائم غدا إن كان من رمضان وإلا فأنا مفطر". فإنه لا يصير به شارعا في الصوم، وإن كان ظهر أنه من رمضان، وقياسهم الصلاة والصوم على الحج لا يفيد، لقيام الفارق أن سلم أن الحكم ثمة ليس بتعبدي وإلا فالقياس عليه غير متصور فيه لفقد العلة.

"الفصل الخامس" في المكروه وما يتعلق به من المسائل

الفصل الخامس في المكروه وما يتعلق به من المسائل

الفصل الخامس في المكروه وما يتعلق به من المسائل المسألة الأولى في معناه وهو مأخوذ من الكراهة، والكراهية وهي في اللغة: ضد الإرادة. وإطلاقه على المعاني الشرعية- على ما سيأتيك بيانه- إن شاء الله تعالى- أيضا بهذا الاعتبار، إذ الشارع لم يرد من المكلف تلبسه بتلك المعاني بل كره. وأما في الشرع: فيطلق بالاشتراك على ما يقابل المندوب، وهو: الذي يكون تركه راجحا على فعله، لنهي ورد في فعله، وإن / (100/أ) كان فعله جائزا، فيكون النهي نهي تنزيه لا تحريم

فعلى هذا حده: على ضد ما قلنا في المندوب. وعلى ما نهى عنه نهي تحريم، وحده على هذا: حد المحظور. وعلى ترك ما فعله أولى، وإن لم يرد النهي في تركه. وحده على هذا: ترك الأولى. وإطلاق المكروه على هذا المعنى قليل، وربما يستنكر [استعماله فيه، أو يستنكر] أن يقال: لمن لم يستوعب الأوقات بالعبادات مع اشتغاله بالمباح فيها أنه متلبس بالمكروه.

وعلى ما في القلب من حزازة وتردد، إن كان الأغلب على الظن حله وجوازه، كما في جواز نكاح البنت المخلوقة من ماء الزنا للزاني، وكما في متروك التسمية عمدا. وحده على هذا: بأنه الذي فيه شبهة وتردد. وضعف، بأن حاصله يرجع إلى أن المكروه هو ما اختلف في حظره، وهو قد لا يكون مكروها، بل إما أن يكون محظورا، أو يكون واجبا، كإتمام الصلاة المفروضة التي شرع المكلف فيها في آخر الوقت، وتكلم فيها ناسيا، فإنه عند البعض واجب، وعند البعض محظور، وليس هو بمكروه عند أحد، وأيضا فإن الكراهة قد ثبتت اتفاقا، ولم يختلف في جوازه، كالصلاة في الحمام وقارعة الطريق.

المسألة الثانية في أن المكروه الذي هو ضد المندوب، هل هو منهي عنه أم [لا]؟

المسألة الثانية في أن المكروه الذي هو ضد المندوب، هل هو منهي عنه أم [لا]؟ فمن قال: النهي للتحريم، فليس هو بمنهي عنه عنده. ومن قال: إنه للتنزيه، أو للقدر المشترك بينه وبين التحريم، أو هو مشترك بينهما، فهو منهي عنه عنده. المسألة الثالثة في المكروه، هل هو من التكليف أم لا؟ والاختلاف كما في المندوب والحجاج عليه من الجانبين كما سبق.

المسألة الرابعة في أن المكروه، هل هو قبيح أم لا؟

المسألة الرابعة في أن المكروه، هل هو قبيح أم لا؟ الكلام فيه، كما في النهي. إن قلنا: بأن القبيح مرادف للمنهي عنه، أو يفسر بما يؤول إليه، وإلا فإن فسر بما يتفرع عنه الطبع، أو بصفة النقص، فلا يخفى عليك أن ذلك يختلف باختلاف الطباع، والأفعال، فلا يلزم أن يكون كل مكروه قبيحا. التقسيم الثاني: الحكم قد يوصف بالصحة والإجزاء، والبطلان والفساد، وكل واحد منها، يطلق تارة في العبادات، وأخرى في المعاملات. أما العبادات: فالمتكلمون: يريدون بكون العبادة مجزئة أو صحيحة: إنها موافقة لأمر الشرع، وجب القضاء أو لم يجب.

والفقهاء: يريدون بهما، كون تلك العبادة، بحيث تسقط القضاء. وليس المعنى منه أنه وجب القضاء، ثم سقط بتلك العبادة، فإن ذلك باطل وفاقا. أما على رأي من يرى أن القضاء، إنما يجب بأمر جديد فظاهر. وأما على رأي من يرى وجه / (100/ب) بالأمر السابق فكذلك، لأنه إنما يقول: بوجوب القضاء عند فوات الفعل عن وقته، أما قبل الفوات فليس القضاء واجبا عند أحد حتى تكون العبادة المؤداة في الوقت مسقطة للقضاء، بل معناه: أنه يسقط قضاء ما انعقد سبب وجوبه، وهو وجوب أصل الفعل. وإن قلنا: إن القضاء بأمر جديد، إذ يعلل وجوبه باستدراك مصلحة الفائت، وأنه آية السببية، ولهذا لو ورد الأمر بتلك العبادة ابتداء لا يسمى قضاء. والبطلان والفساد.

يقابلانهما على التفسيرين، فعلى هذا صلاة من ظن أنه متطهر، ثم "تبين" أنه ليس كذلك صحيحة عند المتكلمين، لأنها موافقة لأمر الشرع. باطلة عند الفقهاء، لأنها لا يسقط القضاء بها. ثم الإجزاء يفارق الصحة، في إنه إنما يوصف الفعل به إذا أمكن وقوعه مرة، بحيث يترتب عليه حكمه، [وتارة بحيث لا يترتب عليه حكمه] كالصوم والصلاة، وأما "الذي" لا يقع إلا على جهة واحدة كمعرفة الله، ورد الوديعة فلا يوصف به.

واستدل المتكلمون على فساد قول الفقهاء بوجوه: احدها: أن القضاء إنما يجب بأمر جديد، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وذلك يدل على بطلان تفسير الإجزاء: بسقوط القضاء. وبيانه: أن المكلف إذا أتى الفعل مع نوع [من] الخلل مع العلم به، ولم يعده حتى خرج الوقت، ولم يرد أمر جديد فهاهنا حينئذ يسقط القضاء عنه بالمعنى المذكور مع أن الفعل ما كان مجزئا وفاقا. وثانيهما: أن المكلف إذا فعل الفعل كذلك، ثم مات عقبيه، فهاهنا أيضا يسقط القضاء، مع أن الفعل ما كان مجزئا. وثالثها: أنا نعلل وجوب القضاء بعدم الإجزاء، والعلة غير المعلول فوجب القضاء عند عدم الإجزاء، وذلك يدل على أن سقوط القضاء غير الإجزاء، لأن التغاير بين العدمين يوجب التغاير بين الوجودين. وهذه الوجوه بأسرها ضعيفة، غير واردة على ما فسرنا الإجزاء بالفعل الذي يسقط القضاء. أما الأول: فلأن سقوط القضاء بالمعنى المذكور فيما إذا لم يرد أحد أمر جديد ليس بذلك الفعل المأتي به بنوع من أنواع الخلل، بل بعدم ورود الأمر بالقضاء

والشيء قد ينتفي بانتفاء شرطه، كما ينتفي بانتفاء مقتضيه. وكذا القول في الصورة الثانية: فإن سقوط القضاء / (101/أ) بالموت لا بالفعل، وأما الثالث: فعنه جوابان: أحدهما: أنا لا نسلم أن وجوب القضاء معلل بعدم الإجزاء، بل باستدراك مصلحة ما فات عن وقته من العبادة الواجبة، أما ما انعقد سبب وجوبها، ولم يجب بفقد شرط من شرائطه أو لوجود مانع منه. وثانيهما: أنا وإن سلمنا صحة تعليل وجوب القضاء بعدم الأجر لكن المغايرة بين الإجزاء وبين سقوط القضاء حاصلة، ونحن لا نقول الإجزاء: عبارة عن "سقوط القضاء حتى يكون ذلك واردا علينا بل نقول الإجزاء عبارة". عن الفعل الذي يسقط القضاء ولا خفاء أن الفعل الذي يسقط القضاء غير سقوط القضاء. واعلم: أن هذه الأدلة الثلاثة، إنما تدل على فساد تفسير من فسر الإجزاء بنفس سقوط القضاء، وهذه العبارة وإن وقعت في كلام بعضهم، لكن ليس المراد منها ظاهرها، بل ما ذكرناه- وحينئذ- لا يكون لها دلالة على فساده.

وأما في المعاملات: فالمراد من كون العقد صحيحا: أن يترتب عليه ثمراته المطلوبة منه، والمراد من كونه باطلا: أن لا يترتب عليه ذلك والفاسد مرادف للباطل عندنا. والحنفية خصصوا الباطل: بما لا ينعقد بأصله لخلل في ماهية المعقود عليه كبيع الحر والميتة والدم. والفاسد بما ينعقد بأصله دون وصفه، كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه مبادلة مال بمال، وممنوع من حيث إنه مشتمل على الزيادة. والبيع الفاسد عندهم يشارك الصحيح في إفادة الملك إذا اتصل بالقبض

ونحن ننازعهم في تخصيص الفاسد بهذا القسم لو ثبت، وإنما ننازعهم في ثبوته، وهذا لأن كل ممنوع بوصفه بأصله عندنا على ما نبينه في النواهي- إن شاء الله تعالى. ولقائل أن يقول: ما المراد من قولهم: "أن يترتب" عليه ثمراته المطلوبة منه، أكل ثمراته أم بعضها؟. فإن كان الأول: فالحد غير جامع، لأن العقد صحيح في مواضع عديدة مع أنه لا يترتب عليه كل ثمراته، كما إذا اشترى ولم يقبض، فإن العقد صحيح، ولم يترتب عليه كل ثمراته. وكذلك البيع في زمن الخيار صحيح، مع أنه لا يترتب عليه كل ثمراته المطلوبة معه. وكذا إذا باع الدار المكراة.

والعبد الجاني، إن قلنا: إن بيعها صحيح. وإن كان الثاني: فإما أن يكون ذلك البعض معينا، أو غير معين، أي: بعض كان. والأول: باطل. أما أولا: فبالاتفاق. وأما ثانيا: فلأنه ليس في اللفظ ما يشعر به ولا في العقل ما يدل عليه، فالتعريف به تعريف / (101/ب) بالمجهول وهو باطل. وإن كان الثاني: فالحد غير مانع، لأن العقد الفاسد قد يترتب عليه بعض ثمراته المطلوبة منه، كالقراض الفاسد، والوكالة الفاسدة، فإن العامل، والوكيل يستفيدان به التصرف في المال، وما وكل فيه، وهو بعض

ثمراتهما. ويمكن أن يجاب عنه فيقال: المراد منه، أن يترتب "عليه" كل ثمراته إلا ما يتوقف على حصول شرط وزوال مانع، بحيث إنه لو حصل الشرط أو زال المانع حصل ذلك الحكم، وما ذكرتم من الصور إنما لم يترتب عليه كل ثمراته لوجود المانع منه، ولهذا إذا زالت موانع تلك الأحكام الغير المترتبة ترتبت أيضا. ولا يرد عليه العقود الفاسدة بانضمام الشرائط الفاسدة، فإنها وإن كانت بحيث يترتب عليها ثمراتها لولا تلك الشرائط الفاسدة لكنها ليست بهذه المثابة بعد وجودها، فإن زوالها عنها غير ممكن، ولهذا لم ينقلب صحيحا بالحذف. ومنهم من قال: المراد منه كون العقد صحيحا أن يكون مستجمعا لجميع أركانه وشرائطه. والمراد من كونه فاسدا: أن لا يكون كذلك. وزعم: أنه أولى من الأول: لكونه مناسبا للمعنى اللغوي. وبيانه: أن الصحة في اللغة: ضد السقم، والصحيح من الحيوان ما

هو على الحالة الطبيعية، التي هي أكمل الأحوال له. والفساد في اللغة: هو الخروج عن الحالة الطبيعية، يقال: فسد الطعام والهواء، والمزاج، إذا خرج كل واحد منها عن الحالة الطبيعية التي هي له، فالعقود المستجمعة لأركانها وشرائطها، إنما سميت صحيحة بما أنها على أكمل أحوالها، وأنها على الحالة الطبيعية التي اعتبرها الشارع لها، والتي لا تكون كذلك إنما سميت فاسدة. بما أنها خارجة عن أكمل الأحوال، وأنها ليست على الحالة الطبيعية التي اعتبرها الشارع بها، وهذا أيضا سديد. فلو قيل: العبادة صحيحة بهذا المعنى كان أولى مما تقدم، لتناوله لها وللمعاملات باعتبار واحد. لكن الصحة: بهذا التفسير أخص منها فيها بتفسير الفقهاء على رأينا ورأي الجماهير، وهو أن الاتيان بالمأمور به، يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء. لأن العبادة: إذا رأيت بأركانها وشرائطها سقط قضاؤها قطعا، إذ هو لاستدراك مصلحة العبادة الفائتة، فحيث لم تكن العبادة الفائتة لم يكن القضاء مشروعا، وليس أنه إذا سقط القضاء بالفعل وجب أن يكون ذلك الفعل مفعولا بأركانه وشرائطه. ألا ترى أن من صلى إلى غير جهة / (102/أ) القبلة بالاجتهاد، ثم تبين

له جهة القبلة، فإنه يسقط القضاء عنه بتلك الصلاة، على رأي مع أنها ما كانت مشتملة على شرائطها في نفس الأمر. وكذلك من صلى عاريا بالركوع والسجود، فإنه يسقط عنه القضاء على الرأي الأظهر، مع عدم اشتمالها على شرائطها. [سقط قضاؤها قطعا، إذ هو لاستدراك مصلحة العبادة الفائتة، فحيث لم تكن العبادة فائتة لم يكن القضاء مشروعا، وليس أنه إذا سقط القضاء بالفعل وجب أن يكون ذلك الفعل مفعولا بأركانه وشرائطه].

وكذا الأسير إذا اجتهد وصام شهرا قبل رمضان، فإنه يسقط القضاء عنه أيضا على رأي، وإن لم يكن مشتملا على شرائطه إذ شرط العبادة أن تكون مؤداة في الوقت، أو بعده. وأما على رأي من يرى أن الإتيان بالمأمور به، لا يقتضي الإجزاء: بمعنى سقوط القضاء فبين التفسيرين عموم وخصوص من وجه دون وجه. ومنهم: من فسر صحة الفعل، بإذن الشارع في الانتفاع بالمعقود عليه. وزيف: بأن البيع في زمن الخيار صحيح بالإجماع، مع أنه لم يتحقق إذن الشارع بالانتفاع بالمعقود عليه، بتقدير الفسخ قبل انقضاء مدة الخيار، لاسيما إذا كان الخيار للبائع وحده، وفي هذا التعريف نظر لا يخفى على المتأمل. التقسيم الثالث: قد عرفت أن الخطاب، كما يرد بالاقتضاء، والتخيير، فكذا يرد بالحكم

الوضعي: ككون الشيء سببا، وشرطا، ومانعا، فعلى هذا- فلله تعالى- في كل واقعة: رتب الحكم فيها على وصف، أو حكمة، إن جوزنا التعليل بها: حكمان: أحدهما: نفس الحكم المرتب على الوصف. وثانيهما: سببية ذلك الوصف. والمغايرة بينهما ظاهرة، إذ صحة القياس في الأول: متفق عليها بين القائسين، وفي الثاني: مختلف فيها ، والمتفق عليه غير المختلف فيه، وأيضا فإن نفس الحكم: قد يثبت بدون السببية. والمسببة: قد ثبتت بدون الحكم كما في صورة المانع. واحترزنا بقولنا: رتب الحكم فيها على وصف أو حكمة. عن الأحكام المرسلة الغير المضافة إلى الأوصاف، وعن الأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها. ثم ليس المراد من كون السبب موجبا [للحكم]، كونه كذلك لذات أو

لصفة ذاتية، بل المراد منه: إما المعروف وعليه الأكثرون، أو الموجب لا لذاته ولا لصفة ذاتية، ولكن يجعل الشارع إياه موجبا. وهو اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله. والمغايرة بين المعنيين واضحة، إذ لا داعي لوجوب تعليل أفعاله تعالى وقد حاول الإمام: تزييف ما اختاره الغزالي رحمه الله بوجوه: أحدها: أن حكم الله عندنا كلامه، وكلامه قديم، وسائر ما يذكر من الأسباب، كالبيع للملك، والنكاح لحل الوطء محدثة والقديم لا يعلل بالمحدث. وهو / (102/ب) ضعيف من وجهين: أحدهما: أن المعنى من جعل الشارع إياه موجبا هو قوله في الأزل: إني جعلت البيع المستجمع لشرائطه حين وجوده سببا للملك، وهذا لأن المسببية

حكم شرعي، وهو قديم فيكون آيلا إلى الخطاب، وهذا المفهوم قديم، ولا يلزم من حدوث البيع أن يكون موجبيته التي هي صفة بالمعنى المذكور حادثة، كما لا يلزم من حدوث أفعال المكلفين، أن يكون الحل والحرمة والكراهة حادثة، مع أنها في [الظاهر] من صفات أفعالهم، فلا يلزم من تعليل الأحكام بالأسباب تعليل القديم بالمحدث، بلى يلزم منه تعليل القديم بالقدم، لكن ذلك جائز بالاتفاق، "كما هو في الظاهر صفاته سبحانه وتعالى، كما هو مذهب مثبتي الأحوال، أو بذاته سبحانه وتعالى، كما هو مذهب نفاة الصفات. وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن السبب حادث، لكن المراد من تعليل الحكم بالسبب كونه متعلقا به، وهذا التعليق حادث، إذ هو مفتقر إلى حصول

السبب الحادث، والمفتقر إلى الحادث حادث، فيكون هذا التعلق حادثا، فلا يلزم من تعليله بالسبب، تعليل القديم بالحادث. وثانيها: الشارع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب الحد مثلا إن تعينت حقيقته، كما كانت قبله لم يكن مؤثرا فيه كما قبله، وإن لم يبق حقيقة كان ذلك إعداما لتلك الحقيقة، والشيء بعد عدمه لا يؤثر. وهو أيضا ضعيف. أما قوله في القسم الأول: إن بقيت حقيقته كما كانت لم يكن مؤثرا فيه كما قبله [وإن لم تبق حقيقته كان ذلك إعداما لتلك الحقيقة، كما كانت لم تكن مؤثرا فيه، كما قبله] فغير لازم لجواز طريان وصف المؤثرية علة مع بقاء الحقيقة وليست مؤثرية المؤثر داخلة في الماهية حتى يقال: إنه يلزم حينئذ خلاف المفروض لما عرف فساده في علم آخر. وأما قوله في القسم الثاني: إن لم تبق حقيقته كان ذلك إعداما لتلك الحقيقة والمعدوم لا يؤثر. قلنا: نسلم ذلك، لكن نحن لا نقول: إن تلك الماهية بعدم العدم تؤثر حتى أن ما ذكرتموه يكون واردا علينا. بل نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن تلك الماهية بعد الجعل انعدمت لا بالكلية، بل بمعنى أنه نطلب خصوصيتها، وحصلت هناك خصوصية أخرى مسمى أيضا بالزنا يؤثر في وجوب الحد. فهذا احتمال لابد من

إبطاله. ثم الذي يصحح هذا الاحتمال، أن الأسامي الدالة على الأسباب الشرعية كالبيع والنكاح والهبة وأمثالها، إما حقائق شرعية أو مجازات لغوية على اختلاف فيها، وعلى التقديرين يجب أن يكون مدلولات هذه الألفاظ بحسب الشرع / (103/أ) مخالفو في الماهية لمدلولاتها بحسب اللغة، وهذا لأنه اعتبر من الأركان والشرائط في مدلولاتها بحسب الشرع ما ليس في مدلولاتها بحسب اللغة، وذلك يقتضي تغاير الخصوصيتين. وثالثها: الشرع إذا جعل الزنا مثلا مؤثرا في وجوب الحد، فعند الجعل إن لم يصدر عنه أمر ألبتة استحال أن يقال: إنه جعله علة للحكم، لأنه حينئذ يكون كذبا، وإن صدر عنه أمر فذلك إن كان هو الحكم نفسه كان المؤثر فيه هو الشرع لا السبب، وإن كان ما يوجبه كان المؤثر فيه وصفا حقيقيا، وهو قول المعتزلة، وسنبطله، وإن كان غيرهما كان أمرا أجنبيا لا تعلق له بالحكم. وهو أيضا ضعيف. لأنا نمنع أن يكون المؤثر وصفا حقيقيا، بتقدير أن يكون الصادر من الشارع ما يوجب الحكم، وهذا لأنه يجوز أن يكون وصفا اعتباريا وهو بحسبه يؤثر في الحكم. سلمنا: أنه وصف حقيقي، لكن لم ظننتم أنه قول المعتزلة: الذي سيظهر

بطلانه في التحسين والتقبيح، بل هو غيره، وهذا لأن الذي يقوله المعتزلة: هو أن الشيء إنما يحسن أو يقبح لاشتماله على وصف حقيقي، قبل ورود الشرع يوجب كونه كذلك، ولولاه لما ورد الشرع بحسن شيء وقبحه وإلا لكان ذلك ترجيحا من غير مرجح. فالحاصل أن الذي يقوله المعتزلة: إن الوصف الحقيقي الموجب للحكم حاصل قبل الشرع في محل الحكم وإنه لذاته يوجب الحكم لا بجعل الشارع، لكن العقل قد يستقل بمعرفته تارة فيجب العمل بمقتضاه، وإن لم يرد الشرع به، وتارة لا يستقل بمعرفته فيتوقف وجوب العمل بمقتضاه على ورود الشرع به، وهو بعرفنا اشتماله على ذلك الوصف. والشيخ الغزالي لا يقول: بشيء من ذلك، بل لو قال بأن الوصف الحقيقي مؤثر في الحكم. فإنما يقول: إنه إنما يؤثر بجعل الشارع لا لذاته، وأنه ما كان مقتضيا للحكم قبله، وأنه لا يمكن أن يستقل العقل بمعرفته اقتضائه الحكم، فلا يلزم من بطلان ما قالوه: بطلان ما قاله. سلمنا: أن القول بكون الوصف الحقيقي موجب للحكم باطل على الإطلاق، لكن لا نسلم أن الصادر من الشارع عند الجعل إذا كان غير الحكم وغير الوصف الحقيقي الذي يوجبه كان الصادر منه أمرا أجنبيا لا تعلق له بالحكم، ولم لا يجوز أن يكون الصادر منه المؤثرية؟ وهي ليست نفس الحكم ونفس الوصف الحقيقي ولها تعلق بالحكم.

ثم اعلم: أن السبب في اللغة: عبارة عام يحصل المقصود عنده لا به، لأنه يطلق في اللغة: على الطريق، والحبل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك / (103/ب) بينهما دفعا للاشتراك والمجاز. وهو ما ذكرناه، لأن الوصول بالسير لا بالطريق لكن يحصل عنده، وكذا نزع الماء بالاستقاء لا بالحبل لكن يحصل عنده. والمسبب الشرعي: إنما سمي بذلك، لأنه يحصل الحكم عنده لا به. وهذا ظاهر عند من يفسره بالمعرف، إذ لا يجوز أن يكون في الواقعة حكم مكلف به ولا ينصب عليه علامة لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق، فهو إذن مشروع عند المعرف.

وأما من يفسره بالموجب لكن يجعل الشارع إياه كذلك، فكذلك لأن الموجب للحكم بالحقيقة هو الشارع وإنما نصب السبب للحكم ليستدل به على الحكم حيث يعسر الوقوف على خطاب الله تعالى لاسيما بعد انقطاع الوحي كالعلامة فشابه ما يحصل الحكم عنده لا به فسمي باسمه. ثم السبب: ينقسم إلى ما يتكرر الحكم بتكرره: كالدلوك للصلاة، ورؤية هلال رمضان، لوجوب صومه، وكالنصاب للزكاة، بدليل الإضافة إليه، وتضاعفها عند تضاعف النصب في حول واحد، وإنما

جعل النصاب سبباً دون الحول، مع أنها تتكرر بتكرره عند اتحاد النصاب، لأن اعتباره صفة المال التي باعتبارها يصير المال نصابا، وهي النماء، إذ الحول في الغالب مظنة حصول النماء فأقيم مقامه يكون المال المخصوص معدا للنماء بأحد الاعدادين، وهو السبب للزكاة وهو المسمى بالنصاب، وهذا المعنى متكرر بتكرر الحول، لأن ما أعد للنماء لما مضى من الحول، غير ما أعد لما يأتي منه. وإلى ما لا يتكرر بتكرره: كوجوب معرفة الله تعالى عند تكرر الأدلة الدالة على وجوده وتوحيده، وكوجوب الحج عند تكرر الاستطاعة عند من يجعلها سببا، أما من يجعل البيت سببا بدليل الإضافة إليه في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} الآية. وفي غيره من الاستعمالات فنقول: إنما لا يتكرر الوجوب، لأن السبب لا يتصور فيه التكرر. تنبيه: اعلم أنا إذا حكمنا على الوصف أو الحكمة بكونه سببا، فليس المراد منه:

أنه كذلك في مورد النص سواء فسرناه "بالموجب" أو "بالمعرف، لأن سببيته مستفادة من الحكم فيه، فلو كان الحكم فيه مستفاد من السببيىة لزم الدور، بل المراد منه: أنه سبب في غيره، ومن هذا تعرف أن سببية المسبب، وإن كانت حكما شرعيا فليست مستفادة من سبب آخر، لأنه حينئذ يلزم إما الدور، وإما التسلسل، وهما ممتنعان، بل هي مستفادة من النص أو من المناسبة مع الاقتران. وأما المانع:

فهو منقسم إلى مانع / (104/أ) الحكم- ويأتي ذكره إن شاء الله تعالى في القياس- وإلى مانع السبب: وهو كل وصف وجودي مخل وجوده بحكمة السبب التي لأجلها يقتضي السبب المسبب. كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب. إذا قلنا: بأنه يمنع الوجوب. وكحيلولة النصاب بالغصب والإباق، فإنها تمنع من انعقاد النصاب سببا للوجوب على الأظهر.

وأما الشرط، فهو ما يقتضي عدمه عدم ما هو شرط له ولا يقتضي وجوده. وهو منقسم إلى ما هو شرط السبب: وهو كل معنى يكون عدمه مخلا لمعنى السببية، كشرائط المبيع من كونه منتفعا به ومقدورا على تسليمه وغير ذلك، فإن تلك الشرائط شرائط كون البيع سببا للملك. وإلى ما هو شرط الحكم: وهو كل معنى يكون عدمه مخلا بمقصود الحكم

مع بقاء معنى السببية، كالقبض في البيع للملك التام. التقسيم الرابع: الحكم قد يوصف بالعزيمة والرخصة.

أما العزيمة: فهي في اللغة: عبارة عن النية المؤكدة، ومنه قوله تعالى {فنسى ولم نجد له عزما} أي قصدا مؤكدا، ومنه يقال: أولوا العزم لبعض الرسل الذين تأكدت قصودهم في إظهار الحق، وأداء الرسالة. وفي الشرع: عبارة عن الحكم الأصلي الذي شرعه الشارع ولم يتغير عن ذلك الوضع بعارض. كالصلاوات الخمس من العبادات ومشروعية البيع من المعاملات. وهذا أولى من قول من قال: إنها عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى.

إذ لا اختصاص للعزيمة بالواجبات، لأنها تذكر في مقابلة الرخصة، ولا اختصاص لها بالواجبات، إذ يقال: عقد السلم رخصة "شرع على خلاف الأصل"، فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه، وكذلك العرايا رخصة، إذ يقال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا لمحاويج الأنصار" فلا يكون للعزيمة اختصاص بها أيضا. وأما الرخصة: بتسكين الخاء فهي في اللغة: عبارة عن اليسر والسهولة، ومنه يقال: رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء.

وأما بفتح الخاء فهو عبارة عن الأخذ بالرخصة. وأما في الشرع: فقيل: الذي أبيح مع كونه حراما. وقيل: فرارا عما فيه من التناقض: بأنه الذي رخص فيه مع كونه حراما. وهو مثل الأول فيه، لأن الترخيص يقتضي جواز الفعل. وقيل: هي عبارة عما تغير عن الأمر الأصلي في حق المعذور- لعارض- إلى سهولة ويسر. وهذا التعريف مع ما فيه من إطلاق العام الذي هو الأمر، (104/ب) وإرادة الخاص الذي هو الحكم، غير مانع، لأنه يقتضي أن يكون الحكم

الأخف الناسخ للحكم الأثقل لعذر رخصة، كقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} الآية. والصحيح أن يقال: إنها عبارة عما تغير من الحكم الشرعي لعذر إلى سهولة ويسر مع قيام السبب للحكم الأصلي "فبالقيد الأول: يندفع الإشكال الأول، وبالقيد الثاني: الإشكال الثاني، لأن السبب للحكم الأصلي" يزول في صورة النسخ، إما يرفع أو بالانتهاء على اختلاف فيه، وأن شئت بعبارة أخرى فقل إنها: عبارة عما يجوز فعله أو تركه لعذر مع قيام السبب المحرم. وشكك بعض الناس في تحقق الرخصة بأن قال: العذر المرخص، إن كان راجحا على السبب المحرم، كان موجبة عزيمة لا رخصة، وإلا لكان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة، وهو خلاف الإجماع.

وإن كان مساويا. فإن قلنا: بتساقط الدليلين المتعارضين من كل وجه، والرجوع إلى حكم الأصل فلا يكون ذلك رخصة، وإلا لكان كل حكم ثابت على النفي الأصلي، قبل ورود الشرع رخصة. وهو ممتنع. وإن لم يقل بالتساقط: فبعضهم قال: بالوقف عن الحكم إلى ظهور الترجيح، وذلك عزيمة لا رخصة. وبعضهم قال: بالتخيير بين حكميهما فيلزم أن لا يكون أكل الميتة حالة الاضطرار رخصة، ضرورة عدم التخيير بين جواز الأكل وتحريمه. وقد وقيل: بكونه رخصة. وإن كان العذر المرخص مرجوحا: فحينئذ يلزم العمل بالمرجوح ومخالفة الراجح، وهو في غاية الإشكال. ثم قال: وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيه من اليسر والتسهيل بالعمل المرجوح ومخالفة الراجح. وهو ساقط. أما قوله: في القسم الأول: إن كان العذر المرخص راجحا كان موجبه عزيمة لا رخصة. فممنوع، على الإطلاق، بل ما يثبت بالراجح،

ينقسم عندنا إلى عزيمة: بأن يكون الحكم ثابتا على الوجه الذي اعتبر فيه تعريف العزيمة. وإلى رخصة: بأن يكون ثابتا على الوجه الذي اعتبر فيه تعريف الرخصة. قوله: في الدلالة عليه: وإلا لكان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة. في غاية السقوط، لأنه لا يلزم من كون دليل الرخصة راجحا، أن يكون كل حكم يثبت بدليل راجح رخصة، إذ العام لا يستلزم الخاص، ثم الذي يدل على أن / (105/أ) دليل الرخصة راجحا على ما يعارضه، أما بالنسبة إلى النص فظاهر، فإن نص الرخصة خاص، ونص العزيمة عام والخاص راجح على العام. أما بيان الأول: فباستقراء النصوص: ألا ترى أن قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} خاص بالنسبة إلى قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} الآية. وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} عام بالنسبة إلى قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}. وكذا قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} خاص بالنسبة إلى النصوص الدالة على تحريم إجراء كلمة الكفر على اللسان.

وكذا قوله عليه السلام: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها والمقيم يوما وليلة". خاص بالنسبة إلى قوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين}. وكذا ما روي عنه عليه السلام: "أنه رخص في العرايا لمحاويج الأنصار فيما دون خمسة أوسق" خاص بالنسبة إلى قوله عليه السلام: "نهى عن

بيع الرطب بالتمر". وأمثاله كثيرة غير عديدة. وأما بيان الثاني- فسيأتي إن شاء الله تعالى-.

وأما بالنسبة إلى العلة والعذر المرخص، فكذلك لأن عليته مستفادة من النص الخاص، وعليه السبب المحرم بنص عام وما تثبت عليته بنص خاص راجح على ما تثبت عليته بنص عام، على ما يأتي بيان ذلك في التراجيح إن شاء الله تعالى. وأما قوله في القسم الثالث: وإن كان العذر المرخص مرجوحا فيلزم جواز العمل بالمرجوح ومخالفة الراجح وهو في غاية الإشكال. قلنا: متى لا يجوز العمل بالمرجوح إذا لم يتعلق به غرض الشارع أو على الإطلاق. والأول: مسلم. والثاني: ممنوع، وهذا لأنه حكم بالاحتمال المرجوح مع وجود الراجح فيما له [فيه] تشوق، نحو الإسلام، والعتق، فإنه حكم بإسلام لقيط في مدينة الكفار، ولو كان الساكن بها مسلم واحد، وحكم بحرية

لقيط وجد في بقعة يسكنها العبيد وحر واحد، مع احتمال كونه من المسلم ومن المسلم مرجوحا ولا شك إن التيسير والتسهيل، مما إليه يتشوق فجاز أن يحكم بالرخصة، وإن كان عذرها مرجوحا وأيضا. قوله: إن كان القدر المرخص مرجوحا، لابد وأن يعني به بعد اعتبار الشرع بكونه مرخصا وإلا فقيل: الاعتبار ما كان دليلا فلا يكون راجحا ولا مرجوحا، ولأنه ذكره قسيما لكونه راجحا، وهو إنما يكون كذلك بعد اعتبار الشرع، فكذا كونه مرجوحا، وحينئذ يلزم أن لا يكون مرجوحا، بل يكون راجحا، لأنه لا معنى للدليل الراجح إلا ما ثبت مقتضاه عند التعارض، فإذا ثبت مقتضى العذر المرخص / (105/ب)، وهو الترخص مع قيام السبب المحرم ولم يثبت مقتضاه كان هو راجحا عليه لا مرجوحا. ثم قوله: وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيه من التيسير والتسهيل بالعمل المرجوح ومخالفة الراجح. ليس بسديد، لأن التيسير والتسهيل لم يحصل من العمل بالمرجوح من حيث إنه مرجوح، إذ قد يكون مقتضاه أشق وأصعب، بل من العمل

بمقتضى العذر رخصة، وإن كان مرجوحا لما فيه من التيسير والتسهيل، لأن العمل بالمرجوح هو الرخصة فإنه ليس في مطلق العمل بالمرجوح التيسير والتسهيل، [أو] أيضا فإنه يقتضي انحصار الرخصة فيما ذكروه وهو باطل. فإنا نعلم بالضرورة أن مصلحة بقاء مهجة الإنسان، راجحة على مصلحة اجتناب ما في أكل الميتة من الخبث المحرم في نظر الشارع، فلا يكون العمل بالمرجوح هو الأشبه بالرخصة. ثم اعلم: أن الذي يجو فعله مع قيام السبب المحرم، قد يكون واجبا كأكل الميتة عند [خوف] الهلاك من الجوع والإفطار من الصوم للمرض أو للسفر عنده وقد يكون مندوبا كالقصر في السفر على الرأي الأظهر. وقد يتساوى فعله وتركه: كرخص المعاملات وكعقد السلم، والعرايا. وقد يكون تركه أولى، كإفطار في السفر عند عدم التأذي بالصوم، وكترك

الاقتصار على الحجر في الاستنجاء. تنبيه: اعلم أن الرخصة تستعمل تارة بطريق الحقيقة: وهو فيما ذكرنا من الصور وأمثالها. وتارة بطريق التجوز: وهو فيما حط عنا من الإصر والأغلال التي كانت على غيرنا من الأمم السابقة. وإنما لم تكن حقيقة في هذا، لأن السبب المحرم لتركه أو فعله غير قائم في حقنا إذ صارت تلك الشرائع منسوخة، فلم يكن التضييق حاصلا في حقنا

بسبب شرعية تلك الأحكام فلم تكن إزالتها رخصة في حقنا، إذ الرخصة تنبئ عن فسحة في مقابلة التضييق. وأما ما أباحه الله تعالى في الأصل، ومن الأكل والشراب لنا ولمن قبلنا

لا يسمى رخصة لا حقيقة ولا مجازا. وكذلك ما شرع في البدل عند فقد الأصل تيسيرا للمكلف، كالتيمم عند فقد الماء- لا كالتيمم للجراحة أو لبعد الماء أو لشرائه بأكثر من [ثمن] المثل، فإن كل ذلك رخصة وأمثالها- والإطعام عند فقد الرقبة في الكفارة المرتبة لا تسمى رخصة لا حقيقة ولا مجازا.

التقسيم الخامس

التقسيم الخامس: اعلم أن الحكم: ينقسم أيضا إلى كونه حسنا وإلى كونه قبيحا. فالقبيح عندنا: ما يكون منهيا / (106/أ) عنه. ونعني به ما يكون تركه أولى، وهو القدر المشترك: بين المحرم، والمكروه، فإن جعل النهي حقيقة فيه فلا كلام وإلا فاستعماله فيه بطريق التجوز فيدخل تحته المحرم والمكروه. والحسن: ما لا يكون كذلك. فيدخل تحته أفعال الله تعالى، والأحكام الثلاثة: من أفعال المكلفين، وأفعال غيرهم، كالصبي، والمجنون، والساهي، والنائم، والبهائم. وهذا أولى من قول من قال: الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا. لأنه يلزم أن لا يكون فعله تعالى حسنا. وهو باطل قطعا إذ الأمة مجمعة على إطلاق الحسن على أفعاله تعالى وإنما النزاع بينهم في المأخذ. وقيل: الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله.

فيدخل تحته أفعال الله تعالى، والواجب، والمندوب، من أفعال المكلفين، دون الثلاثة الباقية، وأفعال غيرهم نحو الصبيان والمجانين والبهائم. والقبيح: ما ورد الشرع بذم فاعله. فيدخل تحته الحرام فقط، فعلى هذا المباح والمكروه وأفعال غبر المكلفين ليست بحسنة ولا بقبيحة. ولو قيل: القبيح ما لا يرد الشرع بالثناء على فاعله. دخل كل هذه المستثنيات تحته لكن يكون ضعيفا. إذ لا يقال للمباح وفعل البهيمة قبيح. وقيل الحسن: هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه شرعا. ويدخل تحته أفعال الله، لأن وجوب العلم لا ينافي صحته، والأحكام الأربعة من أفعال المكلفين دون المحرم، وأفعال الساهي، والنائم، والمجنون، والصبي، الذي لا يميز، والبهائم، والقبيح وما يقابله. وأما القبيح عند المعتزلة: فقد قال أبو الحسين البصري في تعريفه: إنه الذي ليس للمتمكن منه، ومن العلم بحاله: إن يفعله يتبعه أنه يستحق الذم

فاعله. ثم قال: معنى قولنا: ليس له أن يفعله، معقول لا يحتاج إلى التفسير. وأما الحسن: فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله أن يفعله. أقول: قوله "ليس له أن يفعله لا يريد به أنه لعجزه عنه لا يفعله، أو لكونه ممنوعًا عنه حسًا، أو شرعًا، ولا لأن به نفرة طبيعية عن فعله وإن كانت هذه العبارة مستعملة في هذه الأسئلة الأربعة. أما أن المعنيين الأولين غير مرادين فظاهر. وأما أن المعني الثالث: غير مراد فلكونه يقتضي أن يكون القبح مفسرًا بالمنع الشرعي، وهو خلاف مذهبه. وكذا المعني الرابع: غير مراد، إذ لو كان مرادًا لوجب أن لا يكون الفعل حسنًا، حيث تكون النفرة الطبيعية حاصلة لكونه قبيحًا حينئذ. لكنه باطل وفاقًا.

بل يريد به: أنه ليس له أن يفعله لكونه ممنوعًا عنه من جهة العقل لقيام المانع العقلي، إذ المانع من فعل القبيح عنده عقلي وهو ما قام / (106/ب) به من الصفات الحقيقية الموجبة للقبح، وهذا كما يقال ليس للإنسان أن يسلك الطريق المخوف مع وجود الطريق الآمن، فإن: المانع العقلي، في هذا المثال خارج عما تقدم من الموانع الأربعة. وأما الذم: فقد تقدم تفسيره في أول الكتاب: بأنه عبارة عن قول أو فعل أو ترك قول أو ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير. بقي أن يقال: فما المعني من الاتضاع؟ قلنا: هو عبارة عن الإهانة والتحقير، وهو أمر معقول بدون النفرة الطبيعية، نعم: في الأكثر هي لازمة لهما حيث تحقق الطبيعة. وأما قوله في آخر الحد: ومتبعه أنه يستحق الذم فاعله، فليس يريد بقوله: يستحق أنه يحسن: لأنه حينئذ يلزم الدور لتفسيره الحسن به، ولا هو بمعني ما يقال: الأثر يستحق المؤثر، فإن ذلك ظاهر الفساد.

بل هو بمعنى ما يقال: المؤثر يستحق الأثر. وهذا لأن تلك الصفات الحقيقية التي اشتمل عليها القبيح تؤثر لذاتها في استحقاق الذم. وعند هذا ظهر سقوط كلام الإمام على هذا التعريف. وحد القبيح أيضًا: بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم. والحسن: ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم. والتعريفان يشتركان في أن الأحكام الأربعة داخلة تحت الحسن، والمحظور داخل تحت القبيح، وفي أن أفعال غير المكلف كالنائم، والساهي، والمجنون، والصبي، والبهائم، غير داخلة تحتها، إذ لا يتوجه إلى هؤلاء مدح ولا ذم، بسبب أفعالهم، وإن كان يجب بسببها، ضمان وارش

في مالهم، وفي مال مالك البهائم في صورة جنايتها ويجب إخراج ذلك على أوليائهم، وأما ما به ينفصل أحدهما عن الآخر فظاهر. وإذ قد تكلمنا في تعريفهما فلنتكلم فيما يتعلق بهما من المسائل: المسألة الأولي في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت بالعقل ذهب أصحابنا وأهل الحق من كل ملة، إلى أن العقل لا يحكم بحسن فعل ولا بقبحه، لا بمعني ملائمة الطبع، ومنافرته الذي يختلف باختلاف الأشخاص، ولا بمعني صفة الكمال وصفة النقص. بل بمعني كونه متعلق الثناء والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً، وأن حسن الشيء وقبحه ليس لكونه مشتملاً على صفة ذاتية تقتضي حسنه أو

قبحه، بل إنما يثبت الحسن والقبح بالمعني المذكور بالشرع لا غير. وذهبت: الثنوية، والتناسخية، والبراهمة، والخوارج،

والكرامية، والمعتزلة، وبعض الفقهاء من الحنفية: إلى أن العقل قد

يحكم استقلالاً بحسن بعض الأفعال وقبحه تارة ضرورة، كحسن الصدق النافع، والإيمان، وقبح الكذب/ (107/أ) الضار، والكفران، وإن المقتضي لذلك هو كونه صدقًا نافعًا، وكذبًا ضارًا بالدوران، وتارة نظرا كحسن الصدق الضار، أو قبحه وقبح الكذب النافع، أو حسنه، على قدر اختلاف المضرة والنفع، وقد لا يستقل بذلك، بل يحكم به بواسطة ورود الشرع بحسن الشيء أو قبحه، كحكمه بحسن الصلاة وقت الظهر، وقبحها في وقت الاستواء، وكحكمه بحسن الصوم في اليوم الأخير من رمضان، وقبحه في اليوم الأول من شوال، ويحكم بواسطة ورود الشرع بذلك على اشتماله على صفة حقيقية توجب قبحه وحسنه لولاها لما ورد الشرع بذلك. احتج الأصحاب على صحة مذهبهم بوجوه: أحدها: أن العبد غير مختار في فعله وحينئذ يكون فعله، إما اضطراريًا أو اتفاقيًا، وهما لا يقبحان عقلاً اتفاقًا. أما عندنا فظاهر. وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز أن تكون الأفعال الغير الاختيارية مكلفًا بها شرعًا، فضلاً عن أن يكون ذلك معلومًا بضرورة العقل أو بنظره. بيان الأول: أن فعل العبد إن كان مخلوقًا لله تعالى، أو كان مخلوقًا له لكن يتوقف فاعليته "له" على مرجح مخلوق لله تعالى، بحيث

لا يتمكن العبد من تركه عند وجوده فقد لزم الاضطرار، وإن لم يتوقف على ذلك فقد لزم الاتفاق، وذلك لأن انتفاء هذا المجموع، إما بأن لا يتوقف فاعليته له على مرجح أصلاً، أو وإن توقف لكن ذلك المرجح ليس من الله - تعالى - بل منه، أو وإن كان من الله - تعالى - لكن لا يجب الفعل عنده. لكن القسم الثاني: باطل وهو أن يكون المرجح منه، لأن الكلام في فاعليته له كالكلام في الأول، إما الدور أو التسلسل، أو الانتهاء إلى مرجح مخلوق لله تعالى شأنه ما ذكرناه، لكن الدور والتسلسل باطلان. فيتعين الثالث: وهو الانتهاء إلى مرجح مخلوق لله تعالى، شأنه ما ذكرناه، وحينئذ يلزم الإضرار، كما في القسمين الأولين. وإذا بطل القسم الثاني: تعين القسمان الباقيان، وحينئذ يلزم الاتفاق. أما لزومه على تقدير القسم الأول: فظاهر، وأما على تقدير القسم الثالث: فلأنه إذا لم يجب الفعل عنده فيمكن وجوده تارة وعدمه أخرى، إذ لو لم يكن كذلك لكان ممتنعًا وهو ممتنع قطعًا، لأن الفعل يستحيل أن يكون ممتنع الوجود عند وجود مرجحه، فيكون ممكنًا فاختصاصه بالوجود أو بالعدم في وقت دون وقت، مع أن نسبة ذلك المرجح مع كل الأوقات على السوية [يكون اتفاقًا محضًا. فثبت أن فعل العبد، إما أن] يكون اتفاقيًا، أو اضطراريًا، وثبت أنهما لا يقبحان عقلاً، فوجب [أن لا يكون تحسين فعل العبد وتقبيحه عقليًا. وحينئذ يلزم] أن لا / (107/ب) يكون التحسين والتقبيح عقليًا مطلقًا سواء كان في الشاهد أو في الغائب، إما بالإجماع لأن لا قائل بالفصل.

وأما لأن التكليف بهذا الفعل ممتنع عند الخصم، والتكليف بالممتنع قبيح ولا شك في ورود التكليف بأفعال العباد، فيكون فعل الله قبيحًا وهو باطل بالإجماع، وإن اختلف طريقه. واعترض عليه: بأنه منقوص بأفعاله تعالى، وهذا لأن ما ذكروه من الدليل آت فيها. وأجيب: بالفرق، وهو أن فاعلية الله تتوقف على مرجح من قبله تعالى، وهو قديم وهو إرادته القديمة المتعلقة بالإيجاد في وقت مخصوص، وما ذكرنا من التقسيم غير آت فيه حتى يلزم التسلسل أو الاضطرار أو الاتفاق ولا قدم مخلوقاته تعالى، لأن المرجح ليس نفس الإرادة القديمة حتى يقال:

يلزم من قدم القادر "وقدم المرجح" قدم المقدور، وإلا لزم التخلف عن المرجح التام، وهو باطل. وبتقدير تسليمه يكون الفعل اتفاقيًا كما سبق، بل المرجح هو إرادته المتعلقة بالإيجاد في وقت مخصوص، ولا يأتي الدليل المذكور في تعلق الإرادة بذلك الوقت دون غيره، لما أن ذلك من مقتضى الإرادة، بخلاف مرجح فاعلية العبد، فإنه إن كان منه فلابد وأن يكون حادثًا ضرورة، إن فعل المحدث محدث [و] حينئذ يفتقر إلى محدث، والكلام فيه كما سبق، وإن كان من الله تعالى، فإنه حينئذ يلزم إما الاضطرار، أو الاتفاق كما سبق. واعترض عليه أيضًا: بأنه يقتضي امتناع الحكم بالحسن والقبح على أفعال المكلفين شرعًا لوجود الدليل المذكور بعينه فيهان لكنه باطل وفاقا. وهو في غاية السقوط، لأن الدليل على المقدمة الثانية: في البرهان المذكور إنما هو الإجماع على أن الاضطراري والاتفاقي لا يقبحان عقلاً، وهو غير حاصل في الحسن والقبح الشرعيين، لأن الجمهور ممن قال: بأنهما شرعيان. قالوا: يجوز تكليف مالا يطاق، كالشيخ أبي الحسن وأتباعه،

والمجبرة القائلين: بنفي الكسب بأسرهم، فلا يمكن أن يقال: الاتفاقي والاضطراري لا يقبحان شرعًا وفاقا. والدليل المذكور لا يتم بدونه. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن فاعلية العبد للفعل، إذا لم يتوقف على مرجح يجب الفعل عنده فقد لزم الاتفاق. وهذا لأن من الظاهر أن المعني منه هنا هو أن يوجد الشيء بلا سبب، لأن بهذا المعني لا يجوز الخصم ورود التكليف بالاتفاقي، فأما بغير هذا المعني نحو: كون السبب خفيًا أو كونه/ (108/أ) واقعًا بالقدر الذي نسبته إلى فعله وتركه على السوية أو غيره، فلا نسلم أنه لا يجوز ورود التكليف به، وإذا كان كذلك فنحن نمنع قول الفعل اتفاقيًا بهذا "المنع على هذا" المعني على هذا التقدير، وهذا لأن سببته القادر المختار وهو العبد، فإنه عند الخصم كذلك فله أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجح، كما جوزتم ذلك بالنسبة إلى الله تعالى.

واستدللتم على جوازه بأن الهارب إذا عن له طريقان متساويان فإنه لابد أن يختار أحدهما للسلوك، وكذلك العطشان إذا قدم إليه قدحان متساويان فإنه لابد وأن يختار أحدهما للشرب، وبه أجبتم عن الشبهة المشهورة للفلاسفة في قدم العالم، فلا يكون الاتفاقي بهذا المعني لا يقبح عقلاً بالاتفاق. وثانيها: لو كان الحسن والقبح ذاتيين للصدق والكذب، لوجب أن أن لا ينفكا عنها لكنهما قد ينفكان، فلم يكونا ذاتيين لهما. أما الملازمة: فظاهرة إذ الذاتي للشيء، لو جاز أن ينفك مع بقاء الذات لم يكن ذاتيًا له بل كان مفارقًا، ولأنه لو جاز أن ينفك عنه مع بقائه للزم جواز انفكاك المعلول عن العلة، إذ الصفات الذاتية معلولات الذات على ما عرف ذلك في موضعه، وانفكاك المعلول عن العلة العقلية غير جائز، سواء كان لمانع أو لغير مانع وإلا لكان عدم المانع جزء علة الوجود أو شرطها وهما غير جائزين.

أما ما يخص الأول: فبالاتفاق، ولأن المركب من العدمي عدمي ضرورة أن وجود الشيء يستدعي وجود أجزائه أجمع، وعدم الشيء لا يستدعي عدم جميع أجزائه، فلو جاز استناد الأمر الوجودي إلى الأمر العدمي لا يفسد علينا باب إثبات كون الصانع موجودًا. وأما ما يعمها: فلأن العلية حينئذ تدور معه وجودًا وعدمًا، إذ عند وجوده تصير الذات مؤثرة في المعلول، وعند عدمه لم تكن مؤثرة فيه، والعلية أمر وجودي لكونها نقيض اللاعلية المتصفة بها المعدومات ونقيض العدمي وجودي، فتكون العلية وجودية ولا سبب لها سوى ذلك العدم الذي هو جزء أو شرط فوجب تعليله به فيعود المحذور المذكور، وهو تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي. فإن قلت: ما ذكرتموه باطل، بما أنا نرى تخلف الأثر عن العلل العقلية الموجبة لموانع، كما في نزول التقبل وإحراق النار "في" الأغذية والأدوية وغيرها من الصور. قلت: لا نسلم أنها علل موجبة لتلك الآثار، بل تلك الآثار عندنا يخلقها الله تعالى / (108/ب) عند وجود تلك الأسباب مع شرائطها فلا يرد نقصًا علينا وإنما يرد ذلك على من يقول: إنها علل موجبة. وأما بيان نفي اللازم فبصورتين: إحداهما: إذا كان الكذب يتضمن عصمة دم نبي عن كافر يقصده، فإنه

يصير حسنًا، والصدق المفضي إلى هلاكه يصير قبيحًا. وثانيهما: إذا استلزم الصدق الكذب، كما إذا قال: إني أكذب غدًا إن عشت فإن صدق الخبر يتضمن الكذب، وهو قبيح ومستلزم القبيح قبيح، فالصدق قبيح، فكذا إذا تضمن الصدق ظلم الغير، كما في المتوعد للغير بالظلم، فإن الصدق هاهنا أيضًا قبيح، لاستلزامه القبح وهو الظلم والكذب يصير حسنًا إذا لو كان قبيحًا أيضًا للزم تكليف ما لا يطاق، ضرورة أنه ألا خروج عن النقيضين، ولأنه لو كان كذلك لكان ترك الظلم قبيحًا لكونه مستلزمًا له، ولكون مستلزم القبيح قبيحًا، وهو باطل وفاقا. فإن قلت: لا نسلم أن في الصورة الأولى يصير الكذب حسنًا والصدق قبيحًا، بل إنما يحسن فيه التعريض عندنا دون الكذب وفيه استغناء عنه. كما قيل: "أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".

سلمنا: حسن الكذب، لكن لم لا يجوز أن يحكم عليه بالحسن من جهة كونه متضمنًا دم النبي، وبالقبح لكونه كذبًا وهما جهتان متغايرتان غير متلازمتين. وهذا كما قلتم: في الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها من حيث إنها صلاة مأمور بها، ومن حيث أنها في الدار المغصوبة منهي عنها. وكذا القول: في الصدق، فإن كونه صدقًا يقتضي حسنه، وكونه مفضيًا إلى قتل النبي يقتضي قبحه. ولا يدفع هذا بأنه قول ثالث لم يقل به أحد، فكان على خلاف الإجماع، لأنه قال به بعض أصحابنا. قلنا: أن يمنعه لنا علة، وهو الاعتراض بعينه على الصورة الثانية: قلت: الجواب عن الأول: من وجهين: أحدهما: أنا نفرض الكلام فيما إذا دهش عنه ولم يقدر على الإتيان بالتعريض، أو وإن لم يدهش عنه وقدر على إتيانه، لكن عين في السؤال المكان والزمان والمسئول عنه باسمه ووصفه بحيث لا يمكنه التعريض عنه.

بأن يقول: هل رأيت الآن دخل في هذه الدار رجل اسمه كذا، ووصفه كيت وكيت؟. فيقول: لا. فيقول له: تعني بقولك: لا نفي ما سألت عنه أم غيره؟ فهاهنا يتعين الكذب عليه ويصير إذا ذاك حسنًا، إذ لا سبيل إلى الصدق ولا إلى التعريض. وثانيهما: إنا نسلم أنه إنما يحصل التعريض لا غير، لكن / (109/أ) [الخبر]. إنما يصير من باب المعاريض بإضمار أمور لا يتنبه لها السامع ليصير مدلوله غير ما دل عليه ظاهره، وإلا لم يحصل المقصود، وهو إما بزيادة، أو بنقصان، أو تقييد مطلق أو تخصيص عام، كما إذا سئل عنه؟ هل رأيت في هذه الساعة رجلاً دخل في هذه الدار؟ فيقول: لا. وينوي بذلك رجلاً متبحرًا في فنون العلوم، أو في غير تلك الساعة وأمثاله، وحينئذ يتعذر عليكم الاستدلال بقاعدة التحسين والتقبيح على كثير من فروعها، بل تبطل فائدتها بالكلية. وهذا لأن من جملة فروعها: أنه يجب إجراء خطاب الله على ظاهره والقطع بأنه مراده، إذ لا يجوز أن يريد به غير ظاهره ولا يدل عليه. وأنه لا يجوز تأخير بيان التخصيص والنسخ على رأي أبي الحسين منهم، وتأخير بيان النكرة إذا أريد بها شيء معين وتأخير بيان الأسماء الشرعية. لأن تأخير بيانها عن وقت الخطاب إغراء بالجهل، وهو قبيح، لأنكم إذا جوزتم

التعريض لمصلحة لم يمكنكم الجزم بالوجوب والامتناع في هذه الصور ما لم يثبت أنه لا مصلحة هناك توجب ذلك ولا سبيل إليه ألبتة، بل غاية ما يقال فيه: هو إنا لا نجد هناك مصلحة بعد البحث التام والتفتيش الشديد، لكن ذلك لا يدل على عدم الوجود، وذلك لا يمكنكم الاستدلال بقبح شيء من الأفعال على امتناع صدوره من الله تعالى ما لم يثبتوا أنه ليس في صدوره مصلحة مسوغة لذلك، لكنه ممتنع، فإذا القول: بجواز التعريض للمصلحة يبطل فائدة التحسين والتقبيح بالكلية. فالحاصل أن القول بجواز الكذب للمصلحة يبطل القول بالتحسين والتقبيح العقلي. والقول: بجواز التعريض دونه يبطل فائدته، وما أفضى ثبوته إلى نفى فائدته يكون باطلاً. فالقول: بالتحسين والتقبيح باطل، ولا يخفى عليك أن هذا الدليل مبني على أن الدوران يفيد العلم بالعلية، لكنه ضعيف. فإن بتقدير أن يفيد ظن العلية لا يجوز التمسك به في المسألة العلمية. وعن الثاني: أنه احتمال قادح، لم يظهر لي عنه جواب على تقدير جواز أن يكون الشيء الواحد مأمورًا به ومنهيًا عنه باعتبارين مختلفين غير متلازمين، من حيث مفهوميهما، وإن حصل التلازم بينهما بسبب من خارج، لكنه لم يقل به أحد منهم غير الجبائي وأتباعه. وثالثها: لو كان القبح ذاتيًا للخبر الكاذب، فالمتقضي لذلك، أما نفس

اللفظ من حيث إنه لفظ. وهو باطل، وإلا لزم أن يكون كذلك عندما يكون صادقًا لوجود المقتضي له حينئذ وهو نفس اللفظ ولا يجوز جعل الصدق مانعًا عنه لما تقدم ذكره، وإما عدم / (109/ب) المخبر عنه، وإما مجموعهما. وهما باطلان، لما أن العدم لا يكون علة للأمر الثبوتي، أو أمر خارج عنهما، وهو إن كان مفارقًا لم يكن القبح حينئذ ذاتيًا له، وقد فرض أنه ذاتي له هذا خلف. وإن كان لازمًا فالمقتضي له: إما نفس اللفظ أو عدم المخبر عنه، أو مجموعهما. والكل باطل لما تقدم، أو أمر خارج والكلام فيه كالكلام في الأول فيقضي على التسلسل وهو ممتنع. واعترض عليه: بأن القبح على تفسير أبي الحسين: عدمي، فلا يتعدى تعليله بالأمر العدمى. ويمكن أن يجاب عنه بأن العلية أمر معنوي على ما تقدم تقريره، فلا يجوز قيامها بالعدم سواء أكان العدم علة للوجودي أو للعدمي. ورابعها: لو كان القبح وصفًا ذاتيًا للكذب، فالمؤثر: إما الخبر الكاذب أو غيره، وهذا الثاني: باطل، لأن الوصف الذاتي للشيء لا يقوم بغيره، وإلا لم يكن ذاتيًا فيتعين الأول: وهو أيضًا باطل، لأن المؤثر فيه إما مجموع الحروف، أو بعضها.

والأول: باطل، لأنه لا وجود لمجموع الحروف في الخارج، فيستحيل قيام المؤثر به التي هي أمر وجودي بها. والثاني: باطل أيضًا لاقتضائه أن يكون بعض حروف الكاذب قبيحًا وهو باطل. إما أولاً: فبالاتفاق. وإما ثانيًا: فلأنه يلزم منه أن يكون الخبر الصادق قبيحًا إذا وجد فيه ذلك الحرف. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه بعض تلك الحروف بشرط وجود الباقي، والحرف الأخير، بشرط مسبوقيته بالباقي، وأيضًا فإنه يقتضي امتناع اتصاف الخبر بالصدق أو الكذب؟ وهو باطل إجماعًا. وخامسها: لو كان القبح وصفًا حقيقيًا ذاتيًا له، لما أمكن أن يختلف بحسب الأوضاع والعبارات، لكنه يمكن أن يختلف بأن يوضع صيغة الأمر والنهي له، وصيغة لهما أو أحدهما. واعترض له: بأن القبح صفة للمعني المدلول عليه باللفظ بالذات، واللفظ الدال عليه بالعرض، والمعني غير مختلف بحسب الأوضاع والعبارات. سلمنا: أنه صفة للفظ فلم لا يجوز أن يكون مشروطًا بالوضع لذلك المعنى؟ وهذا كما أن الكذبية صفة له بشرط الوضع له. وسادسها: لو كان قبح الخبر الكذب لكونه كذبًا، لزم أن يكون المعلول متقدمًا على العلة، لأن علة القبح حينئذ هي كونه كذبًا لكن القبح متقدمًا عليه.

ولذلك يقال: إنه يمنع من فعله فهو متقدم عليه وإلا لم يكن مانعًا له وهذا أيضًا ضعيف. فإن لقائل أن يقول: ما ذكرتم يقتضي أن لا تكون الكذبية صفة له، لأن كونه كذبًا يمنع من الإقدام عليه وفاقا، وإن كان مأخذه مخلفًا، ولذلك / (110/أ) يقال كونه كذبًا يمنع من فعله وعلة المنع من الفعل متقدم على المنع منه فيكون متقدمًا على الفعل فيلزم كونه كذبًا متقدمًا على الخبر الكاذب. وهو محال لاستحالة تقدم الصفة على الموصوف وأيضًا فإنا لا نسلم تقدم قبح الخبر الكذب عليه، وكيف يكون متقدمًا عليه وهو صفته؟ بل المتقدم هو الحكم بالقبح على ما يوجد من الخبر الكاذب، وذلك الحكم هو المانع منه لا القبح. وسابعها: أن الأفعال بأسرها متساوية بالنسبة إلى الله تعالى، فالحكم على بعضها بأنه حسن: يوجب الثواب، أو قبيح: يوجب العقاب، ترجيح للبعض على البعض من غير مرجح. وهو باطل. بيان الأول: إنها لو لم تكن كذلك، بل يكون البعض راجحًا على البعض في إيجاب الثواب أو العقاب، وذلك وإن كان لقيام صفة حقيقية قائمة به عند الخصم، لكنها إنما تقتضي الحسن والقبح لتضمنها المصلحة أو المفسدة، ألا ترى أن القتل ابتداء من غير تقدم جناية توجيه قبيح عند الخصم لاشتماله على المفسدة، ثم إنه يصير حسنًا بعدها لاشتماله على المصلحة، مع أن الصفة الحقيقية الذاتية للقتل لم تختلف، وإذا كان كذلك فذلك الرجحان، إما لمصلحة تعود إلى الله، أو إلى العبد. والأول: باطل وفاقًا، لتنزهه عن الأغراض العائدة إليه.

والثاني: أيضًا باطل، لأن حصول تلك المصلحة له، إما أن يكون أولى بالنسبة إلى الله تعالى، أو لا يكون بل يتساويان. فإن كان الأول: فإما أن تكون تلك الأولوية لحصول مصلحة أخرى للعبد، أو لغرض عائد إلى الله تعالى. والأول: باطل لإفضائه إلى التسلسل. والثاني: أيضًا كذلك لما مر. وإن كان الثاني: فيلزم حينئذ أن تكون الأفعال متساوية عند الله تعالى، وهذا وإن كان على خلاف التقدير، لأن علة رجحان تلك الأفعال هي حصول تلك المصلحة، فإذا كان حصولها ولا حصولها على السوية بالنسبة إلى الله تعالى [أو لا تكون، بل يتساويان. فإن كان الأول]: لزم أن تكون تلك الأفعال متساوية أيضًا عنده تعالى، وإلا لزم أن تكون الوسيلة راجحة على المقصود. وهو باطل، فيكون خلفًا، لكن يلزم منه المدعى: وهو ترجيح البعض على البعض من غير مرجح. وثامنها: لو كان شيء من الأفعال حسنًا أو قبيحًا لذاته، لزم قيام العرض بالعرض التالي باطل فالمقدم مثله. بيان الملازمة: أن المفهوم من كون الفعل حسنًا أو قبيحًا لابد وأن يكون زائدًا على مفعول نفس الفعل، وإلا لكان كل من علم فعلاً ما علم حسنه أو قبحه. وهو باطل، لمساعدة الخصم عليه وبالبرهان، ثم إنهما صفتان وجوديتان / (110/ب) لكونهما تقتضي اللا حسن واللا قبح المحمولين

على العدم ولكون المحمول على العدم عدمي، ونقيض العدمي وجودي فيكون الحسن والقبح وجوديين أيضًا، فإنهما عند الخصم معلولا الصفة الحقيقية القائمة بذلك الشيء الحسن أو القبيح، فلو كان شيء من الأفعال موصوفًا بهما لزم قيامهما وقيام ما يوجبهما من الصفة الحقيقية به وهو قيام العرض بالعرض ضرورة كون الفعل عرضًا. وأما بطلان الثاني: فلأنه لا معني لقيام العرض بالجوهر إلا كونه حاصلاً في الحيز تبعًا لحصول الجوهر فيه، فلو كان العرض قائمًا بالعرض لزم حصوله في حيز العرض الذي هو محله تبعًا لحصوله فيه وحيزه هو حيز الجوهر فهما حاصلان في حيز الجوهر تبعًا لحصوله فيه فهما قائمان به، وإن فرض كون أحدهما بحيث يستحيل وجوده فيه بدون الآخر لجواز أن يكون حصوله فيه مشروطًا بحصول الآخر فيه، كما في الأعراض المشروطة بالحياة. لا يقال: ما ذكرتموه ينفي كون الفعل حسنًا أو قبيحًا شرعًا أيضًا، وهو خلاف الإجماع. فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا عن الحسن والقبح العقليين. وأيضًا فدليلكم منقوض بما أن الفعل يوصف بعدة من الصفات لكونه ممكنًا ومعلومًا ومقدورًا، أو مخيرًا عنه ومذكورًا. لأنا نقول: إن كون الفعل حسنًا أو قبيحًا شرعًا أمر اعتباري لا وجود له في الخارج، ولذلك يختلف باختلاف الشرائع فلا يلازم حسن ولا قبح لفعل بحيث لا يجوز ورود الشرع على خلافه عندنا، بل الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه ولا امتناع في اتصاف الفعل بالأمور الاعتبارية، إذ لا يلزم منه قيام العرض بالعرض، وهو الجواب بعينه عن الثاني: لأن ما ذكروه من الصفات كلها أمور اعتبارية، والخصم لا يمكنه أن يجيب بهذا لأنهما عنده من الصفات الثبوتية للذات المعللين به أو لصفة حقيقية قائمة به على اختلاف لهم فيه، وفيه نظر.

أما أولاً: فلأنا لا نسلم امتناع قيام العرض بالعرض وما ذكروه من تغير الحلول والقيام فغير مسلم. ولم لا يجوز أن يعني به أن السببين إذا اختص أحدهما بالآخر بحيث يصير أحدهما نعتًا والآخر منعوتًا يكون النعت قائمًا به وحالاً فيه والمنعوت محلاً؟ وإن كنا لا نعلم حقيقة ذلك الاختصاص، وإنما يعلم منه هذا اللازم لا غير وليس يجب نفي الشيء إذا لم يعرف حقيقته، وإلا لزم نفي أكثر الأجناس الغالبة فإنا لا نعرف منها إلا اللازم ومعلوم أن ما ذكرتموه / (111/أ) من الدلالة لا يدل على امتناع قيام العرض بالعرض بهذا المعني وأيضًا. فدليلكم منقوض بما أن البطء صفة للحركة، دون الجسم المتحرك، إذ يمتنع أن يقال: الجسم بطئ في جسميته، وإنما يقال: إنه بطئ في حركته وهي صفة وجودية، لأنه نقض اللابطء المحمول على العدم، فيكون وجوديًا، والحركة عرض بالاتفاق فيلزم قيام العرض بالعرض، وأيضًا - فإنه منقوض بما أن كل واحد من الأعراض موجود، والوجود وصف عرضي، وهو: قائم بتلك الأعراض الموجودة فيلزم قيام العرض بالعرض. ويمكن أن يجاب عن بعض هذه الأسئلة فليتأمل فيه. وأما الخصوم: فبعضهم ادعى العلم الضروري به، وقال: إن العلم يقبح الكذب الضار والجهل والظلم، وجنس الصدق النافع [والعلم] والعدل ضروري غير مستفاد من الشرائع، بدليل أنه حاصل لجميع الأمم من أهل الأديان والأهواء المنكرين للشرائع بأسرها كالبراهمة والزنادقة، ولو كان

مستفادًا منه لما كان حاصلاً لهم. ولا يقال: لو كان كذلك لما كان مختلفًا فيه لاسيما بين الجمهور الكبير والجم الغفير، لأن حسن ما ذكرنا من الأفعال وقبحها غير مختلف فيه، وإنما الخلاف في المأخذ والخصوم وإن نازعونا فيه، إما عنادًا، وإما لأنه التبس عليهم ما هو الحق من المدرك، لكن وافقونا في العلم بهما ولا بعد في التباس المأخذ. وهذا كما زعمتم أن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري، وأن خلاف السمينة في إفادته أصل العلم. وخلاف الكعبي وجماعة من

المحققين في وصف كونه ضروريًا لا يقدح فيه، فكذا هنا بل هنا أولى، إذا الاختلاف فيما نحن فيه في أصل الحكم، بل في مدركه. ثم زعم هؤلاء أن المقتضى لقبح الكذب الضار مثلاً، هو كونه كذلك لأنا عند العلم بذلك نعلم قبحه وإن جهلنا سائر أوصافه، وعند الجهل به لا يعلم قبحه وإن علمنا سائر أوصافه، والدوران دليل العلية.

وبعضهم حاول الاستدلال، وذكر وجوهًا فيه: أحدها: لو لم يكن التحسين والتقبيح عقليين، لزم ترجح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، واللازم باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: إن الفعل الذي اختص بالوجوب مثلاً، لو لم يكن مشتملاً على ما لأجله اختص به لكان اختصاصه بذلك دون سائر الأفعال، أو دون سائر الأحكام ترجيحًا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح. وثانيها: إنا نعلم بالضرورة، أن العاقل يختار الصدق على الكذب عندما يتساويان في تحصيل جميع المقاصد والأغراض المتعلقة / (111/ب) بهما غير كونه صدقًا وكذبًا، مع قطع النظر عن عرف أو شريعة أو غيرهما وليس ذلك إلا لحسنه. وثالثها: لو لم يكن التحسين والتقبيح عقليين لحسن من الله كل شيء، ولو حسن منه كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولو حسن ذلك منه لجاز أن يقع منه، وحينئذ يقع التباس النبي بالمتنبي فلا يمكن التمييز [بينهما، إذ التمييز] ليس إلا بالمعجزة، ولحسن منه الكذب أيضًا وحينئذ لم يبق الوثوق على شيء من أخباره نحو الوعد والوعيد وغيرها، ولحسن منه الأمر بالكفران والطغيان، والنهي عن الإيمان والإحسان، ولكان الوجوب متوقفًا على السمع وحينئذ يلزم إفحام الأنبياء - على ما ستعرف ذلك في المسألة الآتية - واللوازم كلها ممتنعة،

فالملزوم أيضًا كذلك. ورابعها: أن الإنسان قد يعرض نفسه للتعب والعطب في إنقاذ غريق أو حريق أو في حفظ سر ومراعاة عهد، ويستحسن الصبر على السيف إذا أكره على فاحشة، ويؤثر المحتاج على نفسه في ضائقة، وإن لم يعتقد دينًا من الأديان، ولا حشرًا ولا نشرًا لا روحانيًا ولا جسمانيًا، ليقال: إنما فعل ما فعل رجاء للثواب ودفعًا للعقاب، وإن كان لا يرجو أحسن الثناء والمجازاة والشكر على ذلك، ليقال: إنما فعل ذلك ابتغاء لحسن الثناء والمجازاة والشكر، أو قد يفرض ذلك في الخلوة، حيث لا يعرفه أحد ولا المنعم عليه بأن كان أعمي فليس ذلك إلا لحسنه. الجواب عن الأول: إن دعوى الضرورة في الحسن والقبح، بالمعني المتنازع فيه ممنوعة. كيف يمكن ادعاؤها؟ ومن العقلاء من لا يعتقد قبح ما ذكروه من الأشياء ولا حسن نقائضها كالملاحدة. ولئن سلم: اتفاق العقلاء في العلم به، فلا يستلزم أن يكون ضروريًا لجواز أن يكون اتفاقهم عليه لدليل أو لشبهه. قوله: الخصوم مساعدون في الحكم دون المأخذ ممنوع.

وهذا فإنا لا نقبح من الله تعالى إيلام البهائم، وإن كان من غير جريمة وعوض، بل يحسن ذلك، وذلك يدل على عدم المساعدة في أصل العلم، إذ هو من صور النزاع. وأما دعوى العناد والالتباس فمعارض بالمثل. سلمنا: إن العلم بهما ضروري، فلم قلتم: إن المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذلك؟، أما الدوران الدال على العلية فمعارض بالتخلف فيما ذكرنا من الصور الدال على عدم العلية. ولئن سلمنا: سلامته عن المعارض، لكن لا يفيد إلا ظن العلية على ما يأتي تقريره في القياس إن شاء الله تعالى، والمسألة علمية فلا يجوز التمسك [به]. وعن الثاني: بمنع الملازمة إذ ليس جهة (112/أ) الرجحان منحصرة في الوصف الذاتي، ولم لا يجوز أن يكون الرجحان خارجيًا؟ نحو إرادة الشارع وغيرها من المصالح الدنيوية أو الأخروية. سلمنا: الملازمة لكن لا نسلم نفي اللازم، وهذا لأنه تعالى: فاعل مختار

وللفاعل المختار أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح عندنا، كما نقول: في تخصيص اتحاد العالم بوقت معين دون سائر الأوقات مع صلاحية الإيجاد فيها. سلمنا: ذلك لكن نقول: ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، إن كان جائزًا فقد سقط الدليل بالكلية، وإن لم يجز فقد لزم الحيز حينئذ، لأن رجحان فاعلية العبد، على تاركيته، يتوقف على مرجح يجب الفعل عنده على ما تقدم تقريره، وحينئذ يلزم بطلان التحسين والتقبيح العقليين على ما ذكرناه. وعن الثالث: فقد أجاب عنه بعضهم: بأن التفاوت بين الصدق والكذب إن كان حاصلاً ولو بوجه، فقد بطل الاستدلال وإلا فيمتنع الإتيان بأحدهما دون الآخر. وهذا ضعيف، لأنه إن أراد بحصول التفاوت بينهما التفاوت في غير الصدق والكذب لم يلزم من عدم حصوله امتناع الإتيان بأخدهما دون الآخر، وإن أراد به حصول التفاوت بينهما أعم من كونه تفاوتًا في الصدق والكذب، أو في غيرهما لم يلزم من حصوله بطلان الاستدلال. فإن الخصم: إنما فرض التساوي فيما وراء كونه صدقًا أو كذبًا، فإن كونه صدقًا جهة الرجحان وفاقا، أما عندنا فللإلف العام، وأما عند الخصم فلذاته بل جوابه: أن العاقل إنما يختار الصدق على الكذب للإلف العام، وسببه أن نظام العالم لا يحصل إلا بالصدق، إذ لولاه لم يبق الوثوق على شيء من

شيء من الاختيارات، وحينئذ ينسد أبواب المعاملات وسائر أسباب المعائش، فيكون اختياره لحسنه لكن بمعني ملائمة الطبع لا بالمعني المتنازع فيه. فإن قلت: أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة، ثم أعرض عليها الصدق والكذب المتساويين من جميع الوجوه إلا في كونه صدقًا أو كذبًا أحدهما جازمة بترجيح الصدق على الكذب وهو ينفي ما ذكرتم من الاحتمال. قلت: هب أنك فرضت كذلك، لكن فرض الخلو لا يوجب حصول الخلو، فلعل الإلف والعادة حاصل في النفس مع فرض الخلو، فحينئذ الحكم بترجيح الصدق على الكذب يكون بناء عليه. نعم: لو خلقنا خالين عن هذه العوارض، ففي ذلك لا ندري أكنا نحكم بذلك أم لا؟. سلمنا: أن العاقل يختار الصدق على الكذب لحسنه بالمعني المتنازع فيه، فلم يثبت الحسن والقبح بالنسبة إلى الله تعالى / (112/ب)، [فإن] أثبتم بقياس الغائب على الشاهد فهو باطل، لأنه لو أفاد لما أفاد إلا الظن، على ما عرف ذلك في موضعه، فلا يجوز التمسك به في المسالة العلمية. سلمنا: إفادته اليقين، لكن الفرق بين الغائب والشاهد قائم ومعه لا يصح [القياس. وبيانه: من حيث الإجمال أنه قد لا يصح] منه تعالى [شيء ويقبح مثله منا، إذا لا يقبح منه تعالى] أن يترك عبيده، وإماءه يموجون في المعاصي والقبائح، مع علمه بذلك وقدرته على منعهم منها، وبقبح ذلك منا.

فإن قلت: لا نسلم أنه تعالى قادر على منعهم، وهذا لأن مقدور العبد غير مقدور الله تعالى عندنا، والكف عنها مقدور له فلا يكون مقدورا لله تعالى وأنه تعالى علم وقوعها منه ومنعهم منها يقتضي عدم وقوعها وذلك يفضي إلى انقلاب علم لله تعالى جهلا. وهو محال، وما أفضى إلى المحال فهو محال فمنعهم عنها محال، والمحال غير مقدور له. سلمنا: القدرة على المنع لكن إنما لم يمنعهم قهرا ليحترزوا باختيارهم فيستحقوا الثواب. قلت: الدليل على أنه تعالى قادر على منعهم عنها هو أنه تعالى قادر على إيجاد كل الموجودات، فيكون قادرا على تركه، لأن القادر على الشيء لابد وأن يكون قادرا على ضده، ويلزم من هذا أن لا يكون العبد قادرا على شيء منها، ولا يلزم حصول مقدوريين قادرين. وهو باطل وفاقا. بيننا وبين المعترض: أما عندنا فلا انتفاء القادر من المؤثرين في الإيجاد وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز ذلك. بيان الأول: أنه لا نزاع في أنه تعالى قادر على إيجاد الجواهر والأجسام وبعض الأعراض التي هي غير مقدور للعبد، ويلزم منه أن يكون قادرا على الكل، لأن الواقع بقدرته في تلك الصور عند الخصم ليس هو الماهية الثابتة في العدم ولا الصفات اللازمة لها، كالمشيئة والمعية، ولا الصفات التابعة للحدوث، كالقيام بالنفس والتحيز والحجمية، فإنها ليست من آثار القدرة عنده، بل إما الوجود أو اتصاف الماهية به وكل واحد منهما معنى واحد غير مختلف في الموجودات ولذلك لا يختلف بعقله عند تعقل الموجودات المختلفة، ومن الظاهر أن جهة الصلاحية في القدرة الواحدة بالنسبة إلى المقدور الواجد غير مختلف أيضا، والإمكان المصحح للمقدورية، إما بمعنى السببية أو

الشرطية حاصل في الكل ويلزم من هذا كون الله تعالى قادرا على كل الموجودات، ولهذا خرج الجواب أيضا عما ذكره في سند منعه. وعن الثاني: أن ذلك موجود في الشاهد، فوجوب أن لا يكون للسيد قدرة على المنع، فوجب أن لا يقبح منه ترك المنع بكونه محالا وأيضا، فإنه يقتضي نفي قدرة الله تعالى عن كل الممكنات فعلا وتركا، أما في / (113/أ) الإيجاد ما علم أنه لا يقع أو في تركه فيما علم أنه يقع فيتعين ما ذكرتم، وأن في ضديهما فلما ثبت في علم آخر أن القدرة على المشيء قدرة على ضده. وأما قوله: إنما لم يمنعهم قهرا لكي ينزجروا باختيارهم فيثابوا. فضعيف، لأنه إذا علم أنهم لا ينزجرون بأنفسهم لا يكون ذلك مقصودا ومرادا، لأنه محال فليمنعهم قهرا، فإن ذلك أصلح من أن يتركهم على فعل المعصية، لأن بتقدير المنع قهرا وإن لم يستحقوا الثواب، لكن لا يستحقون العقاب أيضا، وأما على تقدير فعل المعصية فإنه يحصل الأمران جميعا. وعن الرابع: أما عن الملازمة أولى: فقد أجاب الإمام عنها: بأن خلق المعجزة إن وجد تعليله لغرض التصديق، فقد لزم الجبر، لأنه لا يجوز رجحان الفاعلية على التاركية إلا لمرجح، وحينئذ يبطل القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وإن لم يجد تعليله به فجاز أن يخلقهما لا لغرض أو لغرض غير التصديق، وعلى التقديرين جاز أن يخلقها على يد الكاذب، لأن القبيح هو خلقها على يد الكاذب، لغرض التصديق لا خلقها لغيره، وحينئذ يلزم ما ذكرتم من الالتباس.

وهذا الجواب ضعيف، لأنه إن لزم الجبر على تقدير وجوب تعليل خلق المعجزة لغرض التصديق، فإنما يلزم في أفعاله تعالى ضرورة كون المعجزة من خلقه تعالى، وهو قد اعترف في الكتب الكلامية أنه وإن توقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح لكن لا يلزم منه الجبر في أفعاله تعالى لما أن مرجح فاعليته تعالى منه كما ذكرنا وعلى هذا التقدير لا يلزم بطلان التحسين والتقبيح. بل جوابها: أنا لا نسلم أنه يلزم منه الالتباس المذكور، وهذا لأن الالتباس إنما يلزم بتقدير الوقوع، وليس حسن الشيء يوجب وقوعه بل قد يرحم بانتفائه، كما في العلوم العادية. وعن الملازمة الثانية: فمن وجهين: أحدهما: أنه وارد عليكم أيضا، لأن الكذب قد يصير حسنا عندكم باشتماله على المصلحة - فما تقدم ذكره - وحينئذ لا يمكن الاستدلال بقبح الكذب على امتناع صدوره من الله تعالى، إلا إذا علم أنه لا مصلحة هناك تسوغه لكن ذلك متعذر كما تقدم. وثانيهما: أنه إنما يلزم ما ذكرتم إن لو لم يكن لامتناع صدور الكذب منه تعالى مدرك آخر سوى القبح العقلي، وذلك ممنوع [ثم] أنا نتبرع ببيانه: وهو أن الكذب صفة نقص، وهي على الله محال وفاقا. وعن الثالث: بتسليمها ومنع امتناع اللازم، وهذا لأنه لا معنى للطاعة

عندنا إلا ما ورد الأمر به ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنها، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يصير المأمور به منهيا عنه وبالعكس / (113/ب). وعن الرابعة: ما سيأتي إن شاء الله تعالى "في المسألة الآتية". وعن الخامس: بمنع ما ذكروه عند فرض تلك الحالة. سلمناه: لكن ذاك لرقة البشرية، وشفقة الطبع إلى الجنس ولصفة الكمال وعزة النفس. سلمناه: لكن للإلف العام، فإن الطباع قد ألفت ذلك لحصول تلك الأغراض المنفية في ذلك الفعل [في] الأكثر "شأن الفعل منا" فبقيت راسخة في النفس، فتكون حاملة على الفعل ولو لم توجد تلك الأغراض في بعض الصور. واعلم أنه إذا بطل الحسن والقبح العقلي بطل ما هو من تفاريعه، وجوب شكر المنعم، وثبوت الحكم الشرعي لشيء من الأفعال قبل الشرع، إلا أن عادة الأصحاب قد جرت في أن يتكلموا في هاتين المسالتين بعد إبطال قاعدة التحسين والتقبيح إظهارًا ضعف مأخذ الخصم فيهما بناء على مذهبه على طريق الالتزام.

المسألة الثانية [في حكم شكر النعم] شكر المنعم غير واجب عقلاً عندنا خلافًا للمعتزلة، وبعض الحنفية.

وأما وجوبه شرعًا فمتفق عليه. والمراد يكون الشكر واجبًا عقلاً: هو أنه يجب على المكلف تجنب المستقبحات العقلية، وفعل المستحسنات العقلية، هذا ما ذكره بعض أصحابنا نقلاً عنهم، ولا يبعد أن يراد به ما نريد نحن به في الشرع. وهو: إن الشكر يكون بالاعتقاد: وهو بأن يعتقد أن ما به من النعم الظاهرة والباطنة كله من الله تعالى، وأنه المتفضل بذلك عليه فإن نعمة الخلق والحياة والصحة غير مستحق عليه وفاقًا. ويكون بالفعل: وهو بأن يمتثل أوامره وينتهي عن مناهيه. ويكون بالقول: وهو أن يتحدث بما به من النعم وأنه تعالى هو المسدي بذلك إليه.

كما قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث}، وكما قال عليه السلام: "التحدث بالنعم شكر".

احتج الأصحاب بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وجه الاستدلال به ظاهر.

لا يقال: الآية تقتضي نفى التعذيب بالفعل، وهذا لأن النفي يرفع مقتضى الإثبات، ومقتضى الإثبات حصول التعذيب بالفعل، لأن صدق المشتق بصدق المشتق منه، وإذا كان كذلك فلا يلزم من نفس التعذيب بالفعل نفي الوجوب، لأن وجوب الشيء لا يقتضي تحقق العقاب على تركه لما ذكرتم أنه ليس شرط الوجوب تحقق العقاب، ولا يدفع هذا بما إن المراد منه نفي استحقاق التعذيب، لأن الأصل عدم الإضمار. وأيضًا فلم لا يجوز أن يكون المراد منه نفي التعذيب بالفعل الذي لا يستقل العقل بمعرفته؟ لأنا نقول: أما الأول: فمدفوع، لأنا إنما / (114/أ) لا نشترط تحقق العقاب في ترك الواجب لجواز العفو، والخصم لا يقول به: فيستدل عليه بطريق الإلزام. فإن قلت: نحن أيضًا لا نشترطه، لأنا نجوز سقوطه بالتوبة. قلت: نفرض الكلام فيمن ترك الشكر قبل الشرع، ومات من غير توبة، فإنه يعاقب عندكم لا محالة لعدم المسقط، وهذا خلاف مقتضي النص فيكون بلاطلاً. وأما الثاني: فكذلك لأن النفي عام، إذ النكرة في سياق النفي تعم

والتخصيص خلاف الأصل. وثانيها: قوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فهذه الآية تدل بطريق المفهوم أن قبل بعثة الرسل يكون للناس على الله حجة، فلو كانت الحجة تقوم بالعقل وحده، ويحسن المؤاخذة على الشيء قبل الشرع لما حسن هذا التعليل. وثالثها: لو وجب الشكر، لوجب: إما لفائدة، أو لا فائدة، والقسمان باطلان، فيكون القول بوجوب الشكر باطلاً. أما بطلان القسم الثاني فظاهر، لأنه حينئذ يكون عبثا والعقل لا يوجب العبث، ولأن المعقول من الوجوب ترتب الثواب على الفعل وترتب الذم أو العقاب على الترك، فإذا لم يتحقق ذلك لم يتحقق الوجوب. وأما بطلان القسم الأول: فلأن تلك الفائدة، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى، أو إلى العبد. والأول: باطل لتنزهه عن الفوائد والأغراض. والثاني: أيضًا كذلك، لأن تلك الفائدة، إما أخروية أو دنيوية، وكل واحد منهما: إما جلب نفع، أو دفع مضرة.

أما الأولى: أعني الفائدة الأخروية: سواء كانت جلب نفع أو دفع مضرة. فقد استدل بعضهم: على نفيها بأن العقل لا يستقل بمعرفة الفوائد الأخروية دون إخبار الشارع، ولا إخبار قبل الشرع فلا يجب قبل الشرع لأجلها. وهو ضعيف: لأنه إن عنى بقوله: أن العقل لا يستقل بمعرفة الفوائد الأخروية دون إخبار الشارع الفوائد التفصيلية فهذا مسلم، لكن ليس من شرط الوجوب العلم بالفوائد التفصيلية، المترتبة عليه حتى يلزم من نفيه نفي الوجوب. وإن عني به الفوائد الإجمالية، فممنوع أن العقل لا يستقل بمعرفتها، وهذا لأن الخصم بناء على قاعدة التحسين والتقبيح يقطع في الجملة بإيصال الثواب على الله تعالى بفعل الواجبات العقلية، وبإيصال العقاب بتركها عند عدم المسقط نحو التوبة، فكيف يدعى عليه ذلك؟ نعم لو قيل: ذلك بناء على أن الثواب والجزاء تفضل من الله تعالى كان له وجه، لكن الخصم لا يساعد عليه فلا يمكن أن يستدل به إلا بعد إقامة الدلالة عليه وإثباته. واستدل / (114/ب) البعض الآخر: على أنه لا يجوز أن يجب لجلب نفع أخروية كانت أو دنيوية، لأن جلب النفع غير واجب عقلاً فما يكون وسيلة إليه أولى أن يجب. ولأن الله تعالى قادر على إيصال تلك المنفعة من غير توسط الشكر فتوسط الشكر عيب.

لا يقال: لا نسلم أن جلب النفع غير واجب عقلاً، إذ المنافع مختلفة فيه، ولا نسلم إن الله تعالى قادر على إيصال تلك المنفعة بدون توسط الشكر، وهذا لأنه يجوز أن تكون تلك المنفعة هي نفس كونه شكرًا، لأن وجوب الشيء لا يستدعي أن يكون لشيء آخر، وإلا لزم التسلسل. وهو محال فلابد من الانتهاء إلى ما يكون واجبًا لذاته، كما في دفع المضار عن النفس، وإذا كان كذلك فيستحيل حصول تلك المنفعة بدون الشكر فلا يكون مقدورًا لله تعالى، لأن المحال غير مقدور عليه وفاقًا. لأنا نقول: الدليل على أن جلب النفع غير واجب عقلاً، هو: أن العاقل لو تركه، فإنه لا يفضي العقل باستحقاق العقاب أو الذم على تركه، وما يكون كذلك لا يكون واجبًا. نعم: قد يذم على ترك ما لابد له منه في معيشته، لكن على هذا التقدير يرجع حاصله إلى القسم الثاني، وهو دفع المضرة عن النفس وهو غير ما نحن فيه. ولئن سلمنا: أنه يذم على ترك جلب النفع مطلقًا، لكن فيما لا يلحقه في اكتسابه مشقة، أم مطلقًا سواء كان في اكتسابه مشقة أو لا يكون. والأول: مسلم. والثاني: ممنوع ما نحن فيه ليس من قبيل القسم الأول: بل هو من قبيل القسم الثاني، لأن من الظاهر أن حمل النفس على تجنب المستقبحات العقلية التي تميل النفس إليها، وحملها على فعل المستحسنات العقلية التي تميل النفس إلى تركها مشقة وكلفة. وأما الجواب الثاني: فهو أن تقول: لا يجوز أن يجب الشكر لنفس كونه شكر، لأن العلة الغائبة لوجوب الفعل، هي: الحكمة التي تحصل بفعله لا

نفس الفعل، إذ لو جاز ذلك في فعل لجاز مثله في كل فعل، لأن حكم الشيء حكم في مثله، ولأنه لو لم يجز لكان ذلك ترجيحًا من غير مرجح. وهو ممتنع، وحينئذ يلزم أن لا يكون القياس متعديًا به، لأن خصوصيات الأفعال غير مشتركة بينها، فلا يمكن تعدية الحكم من فعل إلى فعل. وهو باطل وفاقا، وبهذا أيضًا خرج الجواب: عما ذكره في سند المنع، لأن دفع المضرة حكمة وليس تحصيل الحكمة لحكمه وإلا لزم التسلسل، بخلاف الأفعال فإنها تنتهي إلى الحكم. وأما أنه لا يجوز أن يجب لدفع مضرة عاجلة [فلأن الشكر مضرة عاجلة]. فكيف يدفع مضرة / (115/أ) عاجلة؟ لاسيما المضرة المدفوعة غير مقطوعة الوقوع. فإن قلت: الشكر وإن كانت مضرة عاجلة، لكنه يرفع ضرر خوف العقاب على تركه في الآخرة، وهو مضرة عاجلة مقطوعة الوقوع على تقدير ترك الشكر، ولا بعد في [تقدير] أن يجب الشيء، وإن كان فيه مضرة عاجلة، لرفع مضرة عاجلة أخرى فوقها، كما في الفصد والحجامة قلت: لا نسلم أن خوف العقاب على "تقدير" ترك الشكر مضرة

عاجلة مظنونة الوقوع فضلاً عن أن تكون مقطوعة الوقوع، وهذا لما سيأتي وبتقدير حصوله، فلا نسلم أن ضرره راجح على ضرر فعله، وهذا لأنه يحتمل سقوطه بالعفو والتوبة عندنا، وعندكم يجب ذلك بالتوبة وضرر التوبة أقل من ضرر فعل الشكر، فيحتمل أن لا يترتب العقاب على تقدير الترك، وأما الضرر الناشئ من القول على تقدير الفعل فيستحيل أن لا يترتب العقاب عليه، وأما أنه لا يجوز أن يجب لدفع مضرة آجلة، فلأن القطع لحصول المضرة الآجلة عند ترك الشكر، إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوؤه الكفران، والله تعالى منزه عن ذلك، فلا يمكن القطع بالعقاب منه فلا يجب لدفعه. فإن قلت: هب أنه لا يمكن القطع بالعقاب من الله تعالى عند ترك الشكر، لكن حصوله عنده أغلب على الظن من لا حصوله أو وإن لم يكن كذلك لكن لا شك في احتماله، وهذا لأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه، فإذا لم يأت به كان مستوجبًا للذم والعقاب والشيء قد يجب لدفع ضرر مظنون أو محتمل، كما في وجوب العمل بالقياس وطريقة الاحتياط. قلت: أما ظن حصول العقاب فممنوع أيضًا، وأما الاحتمال فقائم. ولكنه معارض بما أنه يحتمل العقاب على فعل الشكر أيضاً ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الشاكر ملك الله، فتصرفه في نفسه بالشكر قبل ورود الشرع تصرف في ملك الغير من غير ضرورة بغير إذنه، فوجب أن يقبح كما في

الشاهد، وهذا على أبي هاشم وأتباعه ألزم، لأن التصرف في ملك الغير بغير الإذن قبيح لعينه عنده، وإن إفراد النوع الواحد لا يختلف في الحسن والقبح عنده. وثانيها: أن الشكر من الشاكر نوع من المجازات، وقد يقبح في الشاهد مجازاة العبد سيده على نعمة لاسيما إذا كانت النعم في غاية الكثرة والجلالة، والجزاء في نهاية الحقارة والخساسة وإذا قبح هذا في الشاهد فلأن يقبح في الغائب بطريق الأولى، لأن المناسبة بين شكر العبد ومجازاته وبين نعم سيده أتم مما بين شكرنا وما بين نعم الله تعالى. وثالثها: أن النعم إذا كانت حقيرة / (115/ب) قبح الشكر عليها لاسيما إذا كان المنعم في غاية النعمة ونهاية القدرة على الإنعام والإحسان، ألا ترى أن الملك العظيم، إذا أنعم على الفقير بتمرة أو لقمة، ثم أخذ الفقير يشكره على ذلك في محافل الكبراء، ومجامع العظماء، فإنه يعد مستهزئًا بذلك الملك لا محالة، ويستحق التأديب على ذلك، وكل ما أنعم الله تعالى به على المكلف، من النعم الدنيوية فهو بالقياس إلى خزائن الله تعالى أقل من تلك التمرة واللقمة بالنسبة إلى خزائن ذلك الملك، لن نسبة المتناهي إلى غير المتناهي أقل من نسبة المتناهي إلى المتناهي، مقتضي هذا الدليل والذي قبله أن يقبح الشكر بعد ورود الشرع أيضًا، لكن لما ورد الإذن بذلك اندفع ما ذكرتم من الاحتمالين. ورابعها: أن العبد ربما لا يأتي بالشكر اللائق فيستحق التأديب على ذلك وهو غير آت بعد ورود الشرع، لأن الشارع بين ما هو اللائق من الشكر.

فإن قلت: لما فسر الشكر بتكليف النفس على اجتناب المستقبحات العقلية، وإلزامها بإتيان المستحسنات العقلية، اندفع أيضًا ما ذكرتم من المحذور المذكور، لأن الشكر اللائق حينئذ يكون معلومًا، كما هو بعد ورود الشرع. قلت: هب الأمر كما ذكرتم، لكن الإتيان بما ذكرتم من الشكر يتوقف على استقباح العقل وتحسينه، فربما يستقبح ما ليس بقبيح ويستحسن ما ليس بحسن، إذ العقول غير معصومة عن الخطأ فحينئذ يقع في [المحذور] المذكور. لا يقال: إن احتمال العقاب على الترك راجح على احتمال العقاب على الفعل، لأن المشتغل بالعبودية والمواظب على الشكر أحسن حالاً من المعرض عنهما لتطابق العرف والعقل، وإذا كان كذلك فلا يحصل التعارض، وبهذا خرج الجواب عن منع حصول ظن العقاب على الترك. لأنا نقول: ما ذكرتم مسلم لكن بالنسبة إلى من يسره الشكر والخدمة ويسوؤه الكفران والإعراض، فأما النسبة إلى الله تعالى الذي لا يسوؤه الكفران ولا يسره الشكر فممنوع، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل القول بوجوب شكر المنعم عقلاً. فإن قلت: ما ذكرتم بعينه يقتضي نفي الوجوب الشرعي، وهذا لأنه غير آت فيه بعينه. أما أولاً: فلأن القسم الأول من التقسيم: وهو أن يجب لا لفائدة، لا

يمكن نفيه بما ذكرتم من الطريق، وهو أ، هـ عيب وهو على الله تعالى محال، لأنا لا نوجب تعليل أفعاله تعالى، وإن كان يمكن نفيه بطريق آخر. وأما ثانيًا: فلأنه لا يمكن أن يقال: أيضا أنه لا يجوز أن يجب لدفع المضرة عاجلة كانت / (116/أ) أو آجلة بما ذكرنا من الدليل، لأن الشارع لما أوجب وأخبر بحصول العقاب على تقدير الترك، كان خوف العقاب على الترك حاصلاً بطريق غلبة الظن، إذ الأصل عدم العفو، ولأنه لو أخبر بعدم العفو، فعنده يمكن أن يتحقق مقتضى الوجوب لدفع مضرة عاجلة، وهذا الاحتمال غير متصور قبل الشرع. سلمنا: أنه لا يجوز أن يجب لدفع مضرة عاجلة بما ذكره من الطريق، فلم لا يجوز أن يجب دفع مضرة آجلة؟ ولا يمكن نفيه بما ذكر من الطريق، لأن احتمال العقاب على الفعل غير متصور لورود الإذن به من الشارع، فليس فيه احتمال أن تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وليس فيه احتمال المجازاة والمكافأة لأنه امتثال أمره وإظهار عبوديته، والاحتمال أنه قد لا يأتي بالشكر اللائق، لأنه مبين من الشارع. ولئن سلمنا: احتمال العقاب على تقدير الفعل، لكنا نعلم أن الشاكر والمشتغل بالعبودية، أحسن حالاً من المعرض ولا يمكن أن يدفع هذا بما تقدم، لأنه أخبر الشرع بالثواب على تقدير الفعل، وبالعقاب على تقدير الترك، وأما احتمال العفو فقد سبق جوابه. سلمنا: أنه يقتضي نفي الوجوب الشرعي، لكن إنما يقتضيه بناء على أصلكم، وحينئذ لا نسلم أن القول: بنفيه باطل، بل نقول: لو ثبت هذا

الأصل لوجب نفي وجوبه عقلاً وشرعًا، وقد ثبت ذلك بما ذكرنا، وما ذكرتم من إتيانه بعد ورود الشرع، ولا يلزمنا الجواب عنه، لأن ذلك الأصل باطل عندنا، والإشكال إنما هو لازم على تقدير صحة الأصل [بل] هو لازم عليك لا غير. الدليل الرابع: في المسألة: إن الإنسان ضعيف حقير قليل المقدار لا يعلم كنه عظمة الله تعالى وكبريائه، كما قال الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} ولا يعلم نعمه التي أنعم بها عليه، كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. ومن كان كذلك قبح منه الشكر لخسة قدره، ولعدم إتيانه بالشكر اللائق، ولمحاولته المجازاة لمنعمه الذي نعمه عليه لا تجازى ولا تكافأ لكثرتها وتجاوزها عن حد الإحصاء، ألا ترى أن أحدًا من الأخساء "إذا تصدى" لشكر نعم الملك العظيم الذي عم نواله سائر البرية وإحسانه جميع البشرية، فإنه يعد ذلك نقصًا في حقه ويحسن أن يقال له: من أنت حتى تشكر نعمه، وإنما يصلح لذلك الكبراء والعظماء، الذين يعرفون قدر النعم ومقدار المنعم، ويقدرون على إتيان الشكر اللائق، أما أنت الضعيف الحقير الغير العارف لقدر النعم فلا. فإن قيل: ما ذكرتم من الدليل على نفي وجوب الشكر في مقابلة ما تكرر في بداية العقول من وجوبه فلا يكون مقبولاً، وهذا لأن النظريات فرع البديهيات، والقدح في الأصل يوجب القدح في الفرع، فلو كانت النظريات مقبولة / (116/ب) في مقابلة البديهيات لكانت مردودة أيضًا لكونها مقدوحة

بسبب قدح الأصل. الجواب: أنا لا نسلم تقرر ما ذكرتم من الوجوب في البداية. ولئن قال فيه ما قال: في التحسين والتقبيح. فجوابه: ما سبق أيضًا. سلمنا بداهة وجوب شكر المنعم لكن بالنسبة إلى من يسره الشكر ويسوؤه الكفران لا بالنسبة إلى كل المنعمين. فإن قلت: ما ذكرتم من الدليل الدال على عدم وجوب الشكر معارض بوجهين: أحدهما: أن الشكر طريق آمن وتركه مخوف، إذ الشاكر أحسن حالاً من التارك للشكر، والعقل يقتضي وجوب سلوك الطريق الآمن. ألا ترى أن العاقل إذا قدم إليه طعامان توهم في أحدهما السم دون الآخر، فإنه لابد وأن يختار الطعام الذي يتوهم فيه ذلك من حيث اقتضاء العقل. وثانيهما: لو لم يجب شكر المنعم عقلاً لم يثبت وجوب شيء من الأشياء للإجماع، على عدم التفرقة، ولو لم يثبت الوجوب إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء، وذلك لأن حجتهم إنما تقوم بمعجزتهم الدالة على صدقهم وإنما تتميز المعجزة عن السحر والظلم وسائر الخوارق بالنظر فيها، وإذا كان كذلك

فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك ما لم يجب النظر على، ولا يجب ذلك على إلا بالشرع ولا يثبت الشرع ولا يستقر إلا بالنظر في معجزتك، فإذا أنا لا أنظر حتى لا يجب على النظر، وحينئذ لا يثبت صدقك فلا يلزمني إتباعك وفيه إفحام الأنبياء. الجواب: عن المعارضة الأولي: إنا لا نسلم أن الشكر طريق آمن، وهذا لأنا بينا أنه كما يحتمل العقاب على الترك فكذا يحتمل على الفعل، فعلى هذا التقدير لا يكون الشكر طريقًا آمنا. سلمناه: لكن لا نسلم أن العقل يقتضي وجوب سلوك الطريق الآمن بالمعني المتنازع فيه، وهذا لأن العقل لما لم يوجب عندنا شيئًا لم يكن ما ذكروه من القضية مسلمًا، فدعواه دعوى محل النزاع من غير زيادة. وعن الثانية: من وجهين: أحدهما: أن ذلك لازم عليكم أيضًا، لأن وجوب النظر ليس ضروريًا عندكم، بل هو نظري فقبل أن ينظر العاقل فيه لا يعرف وجوبه فله أن يقول: حين يدعوه النبي إلى تصديقه إني لا أنظر في معجزتك ما لم يجب على النظر ولا يجب على ما لم أنظر، فأنا لا أنظر كيلا يجب على النظر، وحينئذ يلزم ما ذكرتم من المحذور.

والجواب مشترك وليس لأحد أن يقول: أن وجوبه ضروري ويلتزم ذلك لدفع المحذور المذكور، لأنه ظاهر الفساد، لأن وجوبه يتوقف على كون النظر يفيد العلم وخلاف منكريه فيه مشهور، وبتقدير كونه يفيده في الجملة فهو غير كاف بل لابد وأن يفيده في الأمور الإلهية، وخلاف جمهور الحكماء / (117/أ) فيه أيضًا مشهور. وإنما قلنا: ذلك، لأن بتقدير أن لا يفيده فيها لا يكون واجبًا لعدم حصول المطلوب منه، وهذا لأن وجوبه ليس بعينه بل لتحصيل المعارف الإلهية والظن غير كاف فيها، بل العلم، فإذا لم يفده لم يجب وبتقدير كونه يفيده فيها أيضًا فإنما يجب على التعيين إن لو كان متعينًا لذلك وهو ممنوع، وهذا لأن له طريقًا آخر عندنا كتصفية الباطن والإلهام، فعلى هذا التقدير لا يكون واجبًا على التعيين، فإذا كان العلم بوجوب النظر يتوقف على هذه المقدمات التي لا تكاد تثبت إلا بالنظر الدقيق كان العلم بوجوبه نظريًا، لأن الموقوف على النظري أولى أن يكون نظريًا. فظهر بما ذكرنا أن القول بأن وجوبه ضروري ظاهر الفساد. فإن قلت: إنا نسلم أن وجوبه نظري، لكن الإفحام المذكور غير لازم علينا على هذا التقدير أيضًا، وهذا لأن المكلف الذي لا يأتي بالنظر إلا بعد وجوبه عليه ربما أتي بالنظر قبل الشرع فيكون قد عرف وجوبه قبله، فليس له أن يقول: بعد الدعوة لا أنظر ما لم يثبت وجوبه على، إذ قد يثبت وجوبه عليه، بخلاف ما إذا كان وجوبه شرعيًا، فإنه لا طريق إلى معرفة وجوبه إلا بالشرع فيكون الإفحام لازمًا لا محالة. قلت: هب أنه لا يلزم الإفحام المذكور فيما ذكرتم من الصور، لكن لا شك في لزومه فيما إذا لم يأت المكلف به قبل الشرع فلا تقوم حجتهم عليه

لكنه باطل لإجماع المسلمين على أن حجتهم قائمة على كل عاقل بالغ بلغته الدعوة، فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في الكل. فإن المحذور متى لزم يجب دفعه سواء كان لزومه على جهة العموم أو الخصوص. وثانيهما: أنا لا نسلم أنه لا يثبت الشرع ولا يستقر إلا بالنظر في المعجزة، بل ثبوته واستقراره موقوف على ظهور المعجزة الدالة على صدق مدعى النبوة عند التحدي سواء نظر الناظر فيها أو لم ينظر، وهذا لأنه لا يعتبر في كون الدليل يوجب المدلول أن ينظر فيه الناظر فيفيده وجود المدلول، بل المعتبر فيه أن يكون بحيث لو نظر فيه ناظر بشروطه لإفادة العلم بوجود المدلول، وإذا كان كذلك فعندما ظهرت المعجزة التي شأنها ما ذكرناه ثبت الشرع واستقر سواء نظر المدعو فيها أو لم ينظر، وعلى هذا التقدير يكون النظر واجبًا عليه، لكنه غير عارف لوجوبه عليه لجهله بشرط الوجوب لكن ذلك لا يقدح في وجوبه عليه، لأنه لا يشترط في وجوب الشيء العلم بوجوبه وإلا لم يكن ما جهل وجوبه واجبًا، بل التمكن من معرفة وجوبه والمدعو هاهنا متمكن من معرفته / (117/ب) وإنما لا يعرف لتقصيره في معرفته، وذلك لا ينافي نفى الوجوب عليه، كما في فروع الشرائع. ثم قال بعضهم: إن هذه المسألة ظنية لا قطعية: فيكون الخطأ فيها ظني وهو: خطأ، لأنه إن زعم ذلك بناء على أن أصل هذه المسألة وهو مسألة التحسين والتقبيح ظني فهو باطل، لأنها من المسائل الكلامية التي يقطع بخطأ المخالف فيها، وكيف لا ومعظم مسائل الكلام كخلق الأعمال، وإرادة الكائنات، وعدم جواز العفو عن أصحاب الكبائر، ووجوبه الإثابة والعوض

على فعل الخيرات وغيرها من المسائل كلها مبني عليها، ولا شك أن الخطأ في تلك المسائل ليس بظنى بل هو قطعي، فلأن يكون الخطأ فيها قطعي بطريق الأولي. وإن لم يكن زعمه بناء على ذلك بل نسلم أنها من المسائل القطعية التي يقطع بخطأ المخالف فيها. وإنما قال ما قال: بناء على "ما" يخص هذه المسألة فهو أيضًا باطل، لأن القطع بفساد الأصل يوجب القطع ما هو من تفاريعه. المسألة الثالثة في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، ويعرف منه حكم ما بعده، فيما لا يعرف فيه حكم من أدلته لو أمكن ذلك. ذهب أهل السنة والجماعة أنه لا حكم فيها سواء كان الانتفاع بها

ضروريًا أو لا يكون، سواء كان محض المضرة، أو محض النفع، أو مشتملاً عليهما، وهذا لأن الحكم عندهم عبارة عن الخطاب على ما تقدم تفسيره فحيث لا خطاب لا حكم. وكلام الإمام يشعر بخلافه، لكن الحق ما ذكرناه نقلاً ودلالة. وأما المعتزلة: فإنهم قسموا الأفعال الاختيارية إلى: ما يقضي العقل فيها بالحسن: إما ضرورة أو نظرًا، وهو يتناول الأحكام الثلاثة، أو الأربعة، على حسب اختلاف تفسير الحسن، وإلى ما يقضي فيه بالقبح كذلك، وهو يتناول الحكمين أو الواحد، على حسب تفسيره، وإلى ما لا يقضي العقل فيه بواحد منهما على سبيل الخصوصية. واختلفوا فيه: فعند معتزلة البصرة: أنه على الإباحة: بالمعنى الذي

تقدم ذكره، لا بمعني نفي الحرج عن الفعل، فإن ذلك متفق عليه بيننا وبينهم. وعند معتزلة بغداد، وطائفة من الأمامية: أنه على الحظر، وإليه

مال أبو علي بن أبي هريرة من فقهائنا. ومنهم من توقف فيه: بمعني أنا لا ندري هل لله فيه حكم أم لا؟. وبتقدير أن يكون فيه حكم، لكن لا ندري هل الإباحة أو الحظر؟. ومن الناس من قال بذلك لكن قبل ورود الشرع، فأما بعد وروده، قال

بينا أنه كان على الإباحة قبل الورود.

لنا: من المنقول الآيتان المذكورتان في المسألة السابقة. فإن قلت: الاعتراض على الأولي منهما ما سبق. والذي نزيده هنا أنها لا تدل على / (118/أ) بطلان مذهب الإباحة والوقف إذ لا عذاب على فعل المباح ولا على تركه. وإذا كان كذلك فيتعذر بها الاستدلال، لأن الدليل حينئذ يكون خاصًا والدعوى عامة. قلت: أما الجواب عن الاعتراضات المتقدمة، فما سبق، وأما عن الأخير فمن وجوه: أحدها: أنه مهما ثبت بالآية نفي الوجوب والحرمة قبل الشرع لدلالتها على نفي لازمهما، وهو عدم الأمن من العذاب يلزم منه نفي الإباحة على العموم، لعدم القائل: بالفصل، وهذا لأن القائل: بالإباحة في القسم الثالث، وإن قال: بنفي الوجوب والحرمة فيه لكن قال: بالوجوب في بعض الأشياء، كوجوب معرفة الله وشكره، وبالحرمة في بعضها، كحرمة الظلم والكذب الضار، فإذا ثبت ذلك لدلالة الآية على نفيه وجب أن لا يثبت

شيء من الأحكام كيلا يلزم خرق الإجماع. وثانيها: أن المباح وإن كان لا عذاب فيه من جهة الفعل والترك، لكن فيه العذاب بالنسبة إلى الاعتقاد، فإن من لا يعتقد المباح مباحًا فإنه ربما يضلل ويفسق، ولهذا يضلل من لا يرى المسح على الخفين، ويضلل من لا يرى عقد الإجارة، ولهذا الاعتبار جعلناه من التكليف، وإذا كان كذلك فمن لا يعتقد المباح مباحًا لا يأمن من العذاب، والآية تؤمن منه قبل الشرع مطلقًا، سواء كان بالنسبة إلى الفعل أو "إلى" الاعتقاد أو إليهما.

وثالثها: إنا لا نثبت [بالآية] إلا عدم الوجوب والحرمة قبل الشرع، فأما عدم ما سواهما فإنما يثبت بدليل آخر. وأما المعقول: فهو أن الحكم يستدعي حاكمًا ولا حاكم قبل الشرع لما تقدم أن العقل لا يحسن ولا يقبح، وقد انعقد الإجماع على أنه لا حاكم سواهما فحينئذ يلزم أن لا يكون هناك حكم. أما القائلون بالإباحة قد احتجوا بأمور: أحدها: أنه لا معني للمباح إلا ما أعلم فاعله، أو دل على أنه لا حرج عليه في فعله ولا في تركه، وما نحن فيه دل العقل على أنه كذلك، فوجب أن يكون مباحًا. أما الأول: فظاهر لمساعدة الخصم عليه. وأما الثاني: فلأن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها، فإما أن يكون له فيه غرض أو لا يكون. والثاني: باطل، لأنه عبث وهو على الحكيم محال. فيتعين الأول، وذلك الغرض يستحيل أن يكون عائدًا إلى الله لتنزهه عن ذلك فهو إذًا عائد إلى الغير. وهو إما إضراره أو إيقاعه، أو لا إضراره، ولا إيقاعه، والأول: باطل وفاقا.

أما عندنا: فلاستحالة أن يكون له غرض في فعل ما. وأما عند الخصم: فلاستحالة أن يكون الإضرار غرضًا. وكذا القسم الثالث: فيتعين أن يكون هو الإيقاع، وهو / (118/ب) يتناولها، وذلك لأن ذلك الإيقاع المقصود منها هو أن المكلف بليد يتناولها ويتقوى باعتدائها وأنه يستحق الثواب باجتنابها، وأنه يستدل بها على وجود الصانع، وكمال قدرته وحكمته و [في] كل ذلك إباحة تناولها. أما في الأول: فظاهر. وأما في الثاني: فلأنه إنما يستحق الثواب باجتنابها، إذا مالت النفس إليها والميلان يتوقف على الإدراك وهو بالتناول فإذا كان الإيقاع بجهة استحقاق الثواب مطلوبًا، وهو موقوف على الإدراك الموقوف على التناول كان التناول مطلوبًا، لأن لازم المطلوب مطلوب. وأما في الثالث: فكذلك، لأن الاستدلال بهما يتوقف على معرفتها الموقوفة على تناولها، إذ لا طريق لنا إلى معرفة الطعوم إلا بحاسة الذوق، فإذا كان الاستدلال بها مقصودًا كان تناولها أيضًا مقصودًا، لما سبق وإذا ثبت بما ذكرنا الإذن في التناول وجب أن يثبت ذلك في الترك أيضًا، إذ لم يقل أحد من الأمة بوجوب التناول.

فإن قلت: لا يلزم من نفي الوجوب الإذن في الترك، بل يلزم منه نفي الحرج عن الترك، وهو لا يستلزم الإذن فيه، إذ هو حاصل عندنا في أفعال العقلاء وتروكهم قبل الشرع مع عدم الإباحة. قلت: لما ثبت بما ذكرنا الإذن في الانتفاع، وجب أن يثبت ذلك في جانب الترك لعدم القائل بالفصل. وثانيها: أن الانتفاع بما لا يقضي العقل فيه بالقبح، لعدم أمارة موجبة له انتفاع خال عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك "فوجب أن يكون مباحًا إما أنه انتفاع خال عن أمارات المفسدة فظاهر، إذ الكلام مفروض فيه وإما أنه لا مضرة فيه على المالك"، [فلأن] المالك هو الله تعالى والضرر عليه محال، وإما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون مباحًا، فبالقياس على الاستظلال بحائط الغير، والنظر في مرآته، والاستضاءة بضوء سراجه، والتقاط ما تناثر من حبات زرعه، وفتات خبزه، والجامع هو ما ذكرنا من الوصف المناسب. فإن قلت: لا نسلم أنه خالٍ عن أمارات المفسدة قوله: إن الكلام مفروض فيه. قلنا: هو فرض محال، وهذا لأنه لا سبيل إلى العلم بعدم الأمارة حتى يمكن الجزم بأنه خال عنها، بل غايته عدم العلم بها، لكن قد عرفت أنه لا يدل على العدم.

"نعم قد يحصل العلم بها لكن قد عرفت أنه لا يدل على العدم". نعم قد يحصل العلم بعدم الأمارة الظاهرة، لكنه غير العلم بعدمها مطلقًا، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقبح الشيء لاحتمال قيام أمارة خفية به؟. سلمنا ذلك. فلم لا يجوز أن يكفي في قبح الشيء احتمال مفسدة فيه؟ وإن كان خاليًا عن جميع / (119/أ) الأمارات. قلت: الدليل على أنه خال عن أمارات المفسدة، هو ما ذكرنا. قوله: إنه فرض محال. قلنا: لا نسلم لأنا نعني بقولنا: إنه خال عن أمارات المفسدة إلا خلوه عن الأمارات الظاهرة التي بسببها يحكم على الشيء بالقبح، دون الأمارات الخفية أو مجرد احتمال المفسدة فيه الخالية عن الأمارة، إذ لا عبرة بهما في القبح ألا ترى أن العقلاء لا يلومون على اشتراء سلعة بربح ظاهر مع أنها ربما تكون مشتملة على أمارة خفية للخسارة أو بمجرد احتمال الخسارة، وكذلك لا يلزمون على أكل طعام شهي مع احتمال كونه مسمومًا أو مشتملاً على إفادة خفية لكونه كذلك، ولأنه لو اعتبر في الحكم بكون الشيء حسنًا أن يكون خاليًا عن جميع] الأمارات المفسدة خفية كانت أو ظاهرة، أو كونه خاليًا عن احتمال المفسدة لوجب أن لا يقطع بحسن شيء أصلاً لما تقدم غير مرة وهو باطل وفاقًا، ولأنه لو قبح الإقدام على الشيء بمجرد احتمال كونه مفسدة، لصح الإحجام عنه بمجرد احتمال كونه مفسدة، ويلزم منه عدم جواز الانفكاك عن الإقدام والإحجام معًا، وهو تكليف ما لا يطاق.

فثبت بما ذكرنا أنه لا عبرة في الحكم بالقبح للأمارة الخفية ولا بمجرد احتمال المفسدة، بل المعتبر فيها، هو الأمارة الظاهرة وقد سلمتم أن العلم بخلو الشيء عنها ممكن فلا يكون ما فرضناه من أنه انتفاع خال عن أمارات المفسدة فرض محال، إذ المراد منها الأمارات الظاهرة. وثالثها: أن الإباحة فيما نحن فيه تجري مجرى التمكين واللطف، وهو واجب فالإباحة واجبة. بيانه: أن خلق الله في الفواكه والأطعمة الألوان البهية المرعية، والطعوم الشهية المشوقة، مع اقتدار المكلف على تناوله وخلق الداعية فيه له مع علمه بأنه تعال: لا يتضرر بذلك ولا يبخل بها عنه لتنزهه عن التضرر، والبخل يجري مجرى تقديم الطعام الشهي ممن هو مستغن عنه إلى الضعيف الفقير المحتاج إليه وتمكين هذا الضعيف من تناوله واجب عرفا بدليل أنه يقبح منه المنع عن تناوله عرفا وكذا يقبح منه سائر أسباب ما يمنعه من تناوله، وإذا قبح ذلك عرفًا وجب أن يقبح عنده. يقال أيضًا لقوله عليه الصلاة: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح". وبقياس الغائب على الشاهد، وإذا كان عنده قبيح وجب أن لا يفعله لأنه تعال: ليس بفاعل القبيح وفاقا، وإذا قبح المنع لزم الإذن ضرورة أنه لا

خروج عن النقيضين. وأما القائلون بالحظر: فقد احتجوا: بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن يقبح، كما في الشاهد. واعترض عليه: بأنه إنما لا يجوز ذلك لكون العبد يتضرر بذلك، والله تعالى منزه عنه. وأجيب عنه: بأنه لو كان عدم جواز التصرف في ملك العبد لتضرر، لوجب أن لا يجوز وإن أذن، إذا كان متضررًا لوجود العلة. وهو ضعيف لاحتمال أن يقال: عدم الإذن شرط لكون التضرر علة القبح التصرف، وهذا التضعيف إنما يتأتي إذ جوزنا تخصيص العلة. وأجيب: عنه أيضًا بأن قبح التصرف في ملك الغير لو كان لما ذكرتم، لوجب أن يجوز من التصرفات في ملك الغير ما لا ضرر فيه عليه، كدخول داره بحضوره للتفرج، لكنه باطل وفاقا. وهو أيضًا ضعيف، لاحتمال أن يقال: إن الحكم مرتب على مظنة الضرر لا على نفسه، ثم أن هذه المظنة منفية بالنسبة / (119/ب) إلى الله تعالى.

واحتج الفريقان على فساد قولنا: وهو أنه لا حكم "بأنه حكم" بعدم الحكم، وأنه حكم مخصوص والجمع بين إثبات حكم مخصوص ونفيه مطلقًا متناقض. واحتجوا أيضًا: على فساد قول: من قال: بالوقف بمعني: لا ندري بأن التصرف إن كان ممنوعًا عنه فهو: الحظر، وإلا فهو: الإباحة، ولا وسطه بين النفي والإثبات، فكان أحدهما معلومًا لا بعينه فالقول: بأنا لا نعلم. هل هناك حكم أم لا؟. وبتقدير أن يكون فإنا لا نعلم أنه أي حكم هو باطل. واحتج من قال بالإباحة بعد ورود الشرع، ولكن بطريق التبيين: بقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} واللام للاختصاص بجهة الانتفاع.

وبقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}. أنكر تحريم الزينة والطيبات من الرزق، فوجب أن لا يثبت ويلزم من انتفاعه الإباحة، ولأن الله تعالى خلقنا للعبادة، لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، ولا يمكن الإتيان بها إلا ببدن صحيح قوى، لكن بقاءه على الصحة والقوة مفتقر إلى الانتفاع بالملابس والمطاعم، والمشارب بما هو أزيد من القدر الضروري، إذ الاقتصار عليه دائمًا يؤدي إلى اختلال أحوال البدن، وحينئذ يختل أمر العبادة ولازم المطلوب مطلوب فالبقاء على وجه الصحة والقوة مطلوب، فيكون الانتفاع مطلوبًا فيكون مباحًا. ولا يخفى عليك أن هذا الدليل غير آت في الاستدلال على الإباحة قبل الشرع. الجواب عن الأول: إنا لا نسلم أنه خلق الطعوم فيها مع إمكان أن لا يخلقها وهذا فإن كثيرًا من الأشاعرة، والمعتزلة قالوا: باستحالة خلوها عن الأعراض التي هي قابلة لها.

سلمنا: إمكان خلوها عنها فلم قلتم: إنه لابد أن يكون الخلق لغرض؟ قوله: لو لم يكن لغرض لكان عيبًا ممنوعًا، وهذا لأن العيب عندنا عبارة عن فعل يفضي إلى ضد ما يفعل ذلك الفعل لأجله، ومعلوم أنه غير لازم بما ذكرتم. سلمنا: أن العيب عبارة عن الفعل الخالي عن الغرض. فلم قلتم: إن العيب بهذا المعني على الله محال؟ وهذا لأن أفعال الله تعالى عندنا غير معللة بالحكم والمصالح. ولا يمكن الاستدلال: بالتحسين والتقبيح على بطلانه، لأنه مضى إبطاله. وهب أنا إنما نتكلم في هاتين المسألتين بناء على أنه ما بطل، فيمكننا أن نستدل به على الخصم بطريق الإلزام لكن نحن لا نقول به: حتى يستدل به علينا ولا بأنه لو كان فعله لغير غرض لصدق عليه بأنه غائب، وأنه باطل بإجماع الأمة، لأن أسامي الله تعالى / (120/أ) عندنا توقيفيه، وبتقدير كونها قياسية فإنما يجوز إطلاق ما لا يوهم الباطل والنقص، واسم الغائب ليس كذلك. سلمنا: فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون الغرض غير ما ذكرتم؟ وأما الدليل على انحصار الغرض فيما ذكرتم من الأقسام لابد لهذا من دليل سلمنا: الحصر لكن لا يحصل منه المطلوب، وهو إباحة التناول قبل الشرع وبيانه لوجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون الغرض أحد ما ذكرتم من الأقسام، لكن بعد ورود الشرع، فعلى هذا التقدير لا يلزم منه إباحة التناول قبل الشرع. وثانيهما: أن الغرض إذا كان هو الاستدلال أو استحقاق الثواب بسبب

الاجتناب فقد يحصل ذلك بمعرفة تلك الطعوم في حالة غير التكليف، فلا تكون الإباحة لازمة لهما لأنه لا يسمى فعل غير المكلف مباحًا على ما عرفته من قبل. سلمنا: صحة دليلكم لكنه معارض بما يدل على عدم الإباحة، وهو أنه ما من فعل من هذا القسم الذي نحن فيه غلا ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه، وذلك يدل على عدم إباحته، إذ لا يجوز أن يرد الشرع على خلاف ما يقتضيه العقل، كما لا يجوز أن يرد الشرع بتحريم الإحسان والإنصاف وإباحة الكذب والظلم. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن الحكم في الأصل عقلي، بل هو شرعي فالعلة المستنبطة منه شرعية، فإثبات الحكم بها إثبات بطريق شرعي فلا يمكن إثباته قبله بل بعده ولا نزاع فيه. سلمنا: أن الحكم عقلي، لكن لا نسلم أن العلة هي ما ذكرتم من الأوصاف ولا يمكن إثبات عليتها بالدوران وبالمناسبة أو غيرهما من الطرق الدالة على كون الوصف علة، لأن تلك الطرق لا تفيد إلا الظن فلا يجوز الاستدلال بها في المسألة العلمية وأيضًا فإنا إنما نجوز التمسك بتك الطرق المفيدة للظن بعد ورود الأمر بالتعبد بالقياس، وقبل ورود الشرع لا يعلم هل نحن

متعبدون بالقياس المظنون أم لا؟ فبتقدير أن لا نكون متعبدين به لا يجوز التمسك بها والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. سلمنا: عليتها في الشاهد فلم يكن علة في الغائب، فإن أثبت ذلك بطريق قياس الغائب على الشاهد فقد عرفت ضعفه. سلمنا: صحته لكن الفرق بين الأصل والفرع قائم، وبيانه من حيث الإجمال وهو أنه يقبح من العبد المنع من الاستظلال بحائطه والنظر في مرآته، والاستضاءة بضوء سراجه، ولو منع لا يثبت به التحريم أيضًا، بخلاف الغائب فإنه لا يقبح من الله تعالى ذلك ولو منع لثبتت الحرمة به وفاقا. والافتراق في الحكم دليل على الافتراق في العلة / (120/ب) والمناط، وبهذين الوجهين الأخيرين خرج الجواب عن الثالث أيضًا. وأيضًا قوله: إذا قبح المنع ثبت الإذن. ممنوع، وهذا لأن الإذن ليس نقيضه بل ضده، بل اللازم عند ارتفاعه رفع الحرج عن الفعل، وهو ليس بإذن في الفعل على ما تقدم ذكره، والحديث الذي تمسك به فلا نسلم أن معناه أن المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح بالنسبة إليه، حتى يقال: إنه تعالى ليس بفاعل القبيح باعتبار العدول، فإن صدق هذه القضية عندنا باعتبار السلب لا باعتبار العدول، بل معناه أنه قبيح عنده بالنسبة إليهم وحينئذ لا يحسن الاستدلال به في إثبات القبح بالنسبة إليه. لا يقال: الدليل عليه هو أن الحديث دل على أن ذلك الشيء قبيح عنده، وهو أعم من أن يكون كذلك بالنسبة إليه أو بالنسبة إليهم، فهو كالعام بالنسبة إليهما فيتناولهما وإلا لزم التخصيص أو التقييد، وأنه خلاف الأصل.

لأنا نقول: الدليل الدال على أن التحسين والتقبيح لا يتطرقان إلى أفعاله تعالى يخصصه أو يقيده، وأيضًا فإن الإطلاق والعموم دليل ضعيف، بدليل أنه يترك مقتضاهما بأدنى قرينة فلا يجوز إثبات التحسين والتقبيح به. وعن حجة أصحاب الحظر: إنا لا نسلم أن الإذن غير معلوم ولم لا يجوز أن يكون معلومًا؟ بدليل العقل، كما ذكره أصحاب الإباحة ولا يمكنه أن يجيب عنه بما أجبنا، لأنه يقول: بالتحسين والتقبيح. "سلمنا عدم الإذن" لكنه إثبات بطريق إلحاق الغائب بالشاهد وقد مر أنه ضعيف. وعن حجة الفريقين: على فساد قولنا: إنه لا تناقض بين نفي الأحكام الخمسة وإثبات حكم آخر وراءهما، فإنا نعني بقولنا: لا حكم نفي الأحكام الخمسة الشرعية: لا نفي مطلق الحكم. وأما مذهب الوقف: بمعني عدم العلم بالأحكام أو بعدمها "لا بمعني العلم بعدمها" فهو أيضًا باطل لا بما قالوه: فإنه لا يلزم من نفي الحرج

عن الفعل إباحته على ما عرفت ذلك من قبل، بل بما تقدم من أن الحكم إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب قبل الشرع، فيجب الجزم بعدم الحكم. وبهذا أيضًا نعرف فساد مذهب من قال بالإباحة على طريق التبيين. وأما ما تمسكوا به من النصوص فهي وإن دلت على أن الله تعالى خلق ما في الأرض جميعًا، لكن لا يلزم منه الإذن في الانتفاع بمجرده، فإن الخلق للمكلف ليس عين الإذن له بجهة الانتفاع ولا لازم له، بدليل أن من بني دارًا لغيره وهيأها له ويقول له ذلك، فإنه لا يملك بمجرد الانتفاع بها، بل يتوقف بعده الإذن ولو كان الإذن لازمًا لما / (121/أ) احتيج إليه بعد ذلك القول، ولأنه يصح أن يقول: بنيت لك هذه الدار وهيأتها لك، لكن لا تنتفع بها حتى آذن لك، ولو كان الإذن لازمًا له لما صح هذا. سلمنا: دلالته على الإذن، لكن من حين القول: أو من حين الخلق بطريق التبين. والأول: مسلم. والثاني: ممنوع. وهذا فإن مجرد القصد غير منح، لأنه لا يحصل [به] الإعلام فلا يكون مباحًا من حين الخلق. وبه خرج الجواب عن الوجه المعقول أيضًا، إذ لا يلزم من خلقنا للعبادة

وجوب العبادة علينا وطلبها منا بل يتوقف بعده على الطلب والإيجاب، وعلى هذا التقدير لا نعلم أن قبل الإيجاب هل بقاؤنا مطلوب للشارع أم لا؟. فلا يكون مجرد خلقنا للعبادة دالاً على الانتفاع بما هو من أسباب البقاء ما لم يوجب للعبادة، فإذا أوجب ذلك فربما دل عليه لو لم يجز تكليف ما لا يطاق. [حكم تعلم أصول الفقه] ولنختم هذا النوع: ببيان أن تعلم أصول الفقه من فروض الكفايات، فإنه من مبادئ هذا العلم فيناسب ختمه به. فنقول: الدليل عليه أن الحادثة إذا نزلت بالمكلف، فإما أن يكون مأمورًا عنده [بشيء أو لا يكون، بل حاله عنده] كحاله قبله. وهذا الثاني: باطل بإجماع الأمة لاقتضائه عدم التكليف، فيتعين الأول: وهو إما معرفة حكم الله فيها وما يتعلق به من العمل "أو غيره" الثاني باطل وفاقا، فيتعين الأول: وهو إما معرفة ذلك الحكم بالبناء على طريق أولا بالبناء عليه، بل بمجرد التشهي والاختيار، وهذا الثاني: باطل بإجماع الأمة. على أن المكلف غير مخير بين النفي والإثبات في الوقائع النازلة به، بل هو مأمور بأن يبني حكم الحادثة على الاجتهاد إن كان عالمًا، أو على الاستفتاء إن كان عاميًا، والطرق الموصلة إلى معرفة الأحكام هي أصول الفقه، وقد ثبت أن معرفتها بناء على طريق واجبه، وقد ثبت توقف معرفتها على معرفة أصول الفقه، فيجب معرفة أصول الفقه لما ثبت أن ما يتوقف عليه الواجب المطلق وكان مقدورًا للمكلف فهو واجب، ثم أنه غير واجب على العين لإجماع الأمة على جواز الاستفتاء للعامي فهو إذن على الكفاية.

النوع الثالث: الكلام في الأوامر

الفصل الأول في الأمر ومقتضاه وفيه مسائل: المسألة الأولي اعلم أن أصحابنا: اتفقوا على أن لفظ الأمر مشترك بين الاستدعاء النفساني: الذي هو مدلول الصيغة / (121/أ)، وبين الصيغة: التي هي "افعل" وما يجري مجراه. إلا الذين قالوا: الكلام: حقيقة في المعني القائم بالنفس مجاز في العبارة، تسمية الدال باسم المدلول، كإمام الحرمين وغيره ممن وافقه فإنه لا يشك في هؤلاء أن يقولوا: بمثله في أنواعه.

واختلفوا في أنه هل هو حقيقة في غيرهما أم لا؟ فذهب المحققون منا: إلى أنه ليس بحقيقة في غيرهما. وقال بعض الفقهاء: إنه حقيقة في الفعل أيضًا لحصول كونه فعلاً. وأما المعتزلة: فقد اتفقوا على أنه حقيقة في القول المخصوص فقط إلا أبا الحسين البصري منهم: فإنه زعم أنه مشترك بينه وبين الشيء والصفة، والشأن، والطريق، وأنه ليس حقيقة في الفعل بخصوص كونه فعلاً

بل لعموم كونه شأنًا. واحتج المحققون بوجوه: أحدها: أنا أجمعنا على أنه حقيقة في غير الفعل، والشيء، والشأن، والصفة، والطريق، بخصوصيته وبعينه. وهو، إما القول المخصوص، أو مدلوله، أو هما جميعًا. فوجب أن لا يكون حقيقة فيما عداه، دفعًا للاشتراك، أو تقليلاً له. وإنما قلنا: لخصوصيته ولعينه، ليسقط المنع المتوجه على هذه الحجة. وهو أنه لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في غير الفعل أو الشأن أو في غيرهما، مع كونه حقيقة فيه الاشتراك اللفظي، لجواز أن يكون حقيقة فيهما باعتبار أمر مشترك بينهما، فعلى هذا لا يلزم إلا الاشتراك المعنوي. فإن قلت: فحينئذ نمنع المقدمة الأولي: وهي أنه حقيقة في القول المخصوص لخصوص كونه ذلك القول ولم لا يجوز أن يكون حقيقة فيه لعموم كونه شأنًا أو صفة ولا نسلم انعقاد الإجماع عليه. قلت: نحن لا ندعى امتناع هذا الاحتمال، كيف وهو راجح على احتمال الاشتراك والمجاز إذا التواطؤ خير منهما، وإنما ندعى على أن الخصوم وافقونا على أنه حقيقة في القول المخصوص لخصوص كونه ذلك القول، بل الأمة أجمعت على أنه في غير الفعل والشأن لخصوص ذلك الغير،

وهو إما القول أو مدلوله، وذلك يكاد أن يكون معلومًا بالضرورة بعد تتبع كلامهم عن مؤلفاتهم إذ نقل ذلك بعضهم بصراحته، ويعرف من كلام الآخرين بسياقه، فمنعه معاندة محضة ولا اعتبار بما ذهب إليه بعض المؤتمرين فإنه مسبوق بالإجماع. وثانيها: أنه لو كان حقيقة في الفعل لا طرد في كل فعل إذ هو لازم الحقيقة عند عدم المانع على ما تقدم تقريره، لكنه غير مطرد إذ لا يقال: للأكل والشرب أمر فوجب أن لا يكون حقيقة فيه. "واعترض عليه بمنع نفي اللازم غايته أنه لم يستعمل فيه / (122/أ) كاستعماله في غيره من الفعل وذلك لا يدل على أنه ليس بحقيقة فيه". واعترض عليه بعضهم بنوع آخر: وهو أن عدم اطراده [في كل فعل لو كان مما يمنع حقيقة في بعضه، فعدم اطراده في كل قول مما يمنع كونه حقيقة في بعضه، ولا يخفى عدم اطراده] في كل قول. وهو ضعيف جدًا، لأن عدم اطراده في كل فعل إنما يدل على أنه ليس بحقيقة [في الفعل، لأنه ليس بحقيقة] في فعل دون فعل عند القائلين به، وإلا كان من حقهم أن يعينوا ذلك الفعل بالتعيين أو يضبطوه بالوصف ليمتاز عن غيره، إذ لا يحسن أن يقال: الإنسان حقيقة في الحيوان، لكونه حقيقة في الحيوان المخصوص، ولما لم يفعلوا ذلك بل أطلقوا القول بكونه حقيقة

في الفعل، [دل] ذلك على أنه حقيقة في مطلقه لا في مخصوصة، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى القول، إذ لم يقل أحد منهم أنه حقيقة [في القول حتى يفهم منه أنه حقيقة في مطلق القول، بل قالوا: إنه حقيقة] في القول المخصوص فلا يلزم من دلالة عدم اطراده في كل فعل على أنه ليس بحقيقة في الفعل، دلالة عدم اطراده في كل فعل على أنه ليس بحقيقة في القول المخصوص. وثالثها: أنه يصح نفي الأمر عن الفعل، إذ يصح أن يقال: إنه ما أمر به ولكن فعله وصحة النفي تدل على المجاز على ما تقدم. واعترض عليه: بمنع صحته مطلقًا، بل لو صح فإنما يصح بمعني القول وعلى هذا التقدير لا يدل صحة النفي على أنه ليس بحقيقة فيه، فإن ذلك جار في الحقيقة المشتركة، إذ يصح أن يقال: اعتدت بقرء لا بطهر، بمعني اعتدت بحيض لا بطهر، ويكون نفي الطهر قرينة دالة على إرادة الحيض من القرء. ولو أجيب عنه بما سبق في اللغات لرجع حاصله إلى الدليل الأول. ورابعها: أن الأمر له لوازم: نحو كونه ممتثلاً به، أو غير ممتثل به،

وأن ضده النهي، وأنه يمنع منه الخرس والسكوت، وأنه من أقسام الكلام، وشيء من هذه اللوازم لا يوجد في الفعل لا يكون أمرًا، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. واعترض عليه بمنع كون هذه الأمور من لوازم الأمر مطلقًا، بل هو عندنا من لوازمه بمعني القول، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ لابد لهذا من دليل. وخامسها: أن الأمر بمعني القول يشتق منه الآمر والمأمور بالمأمور به، وبمعني الفعل لا يشتق منه ذلك، إذ لا يقال: للفاعل آمر، وللمفعول مأمور ولا للمفعول به مأمور به. والاشتقاق دليل الحقيقة وعدمه دليل المجاز على ما تقدم بيانه في اللغات. واحتج الفقهاء بوجوه: أحدها: أنه أطلق الأمر على الفعل واستعمل فيه، وذلك يدل على أنه حقيقة فيه، إما بالاشتراك المعنوي، أو اللفظي، وعلى التقديرين يحصل [المقصود].

أما الأول: فيدل عليه قوله تعالى: {أتعجبين من أمر الله} وليس المراد منه القول، لأن إحبالها / (122/ب) وخلق الولد فيها لا يحصل منه. وأما قوله تعالى: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} ليس المراد منه ظاهره، على ما ذهب إليه الظاهرية، فإنه خطاب المعدوم باطل من جهة العقل ومجرد القول من غير قصد الخطاب منه ليس له تأثير في الإيجاب، بل هو إخبار عن سرعة التكوين، وإذا كان كذلك تعين أن يكون المراد منه: الفعل. وكذلك يدل عليه قوله تعالى، {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وهو ظاهر، فإن أمره بمعني القول، مختلف بحسب الصنع، وبحسب مدلولاتها فإن مدلول الأمر بالصلاة، غير مدلول الأمر بالزكاة ومخالف له، وإذا تعذر الحمل على القول ومدلوله وجب الحمل على الفعل، ضرورة انتفاء القول الثالث. وكذلك يدل عليه قوله تعالى: {وما أمر فرعون برشيد} أي فعله. وكذلك يدل عليه قول العرب في الزباء. لأمر ما جدع قصير

أنفه أي لحيلة يفعلها. وكذلك يدل عليه قول الشاعر: لأمر ما سود من سود

وأما الثاني: فلما تقدم من أن الأصل في الاستعمال الحقيقة. الاعتراض عليه: هو أنا وإن سلمنا أن الأمر في الآيات المتلوة والكلمات المذكورة مستعمل في الفعل، لكنا لا نسلم أنه مستعمل فيه لخصوص كونه فعلاً، "ولم لا يجوز أن يكون مستعملاً فيه لعموم كونه شأنًا وصفة، وحينئذ لا يحصل مقصودكم. وهو أنه حقيقة في الفعل بخصوص كونه فعلاً، فإن" ذلك هو مذهبكم. فإن قلت: هب أنه لا يثبت به مذهبنا، لكن ثبت به إبطال مذهبكم، وهو أنه حقيقة في القول المخصوص، أو في مدلوله، أو فيهما فقط، وهو مقصودنا أيضًا. قلت: لا نسلم أنه يحصل ذلك المقصود أيضًا، وهذا لأن المقدمة الثانية ممنوعة على التقديرين، سواء كان المطلوب منه إثبات مذهبكم أو إبطال مذهب الخصم، وهذا فإن الإطلاق والاستعمال دليل الحقيقة عندنا إذا "لم" يلزم منه الاشتراك أو تكثيره، أما إذا لزم ذلك منه فلا نسلم أنه دليل الحقيقة، وعلى هذا التقدير وإن كان التجوز لازمًا وهو خلاف الأصل، لكنه خير من الاشتراك فكان التزامه أولى، والاستعمال فيما نحن فيه لو كان بطريق الحقيقة

يلزم منه الاشتراك أو تكثيره، فلا نسلم أنه يكون دليل الحقيقة. فإن قلت: هذا إنما يلزم لو كان الأمر حقيقة في الفعل إما لخصوص كونه فعلاً أو لعموم كونه شأنًا أو صفة، مع كونه حقيقة في القول المخصوص/ (123/أ) باعتبار خصوصيته، أما إذا كان حقيقة فيه وفي الفعل باعتبار عام يوجد فيهما نحو الشأن أو غيره، لم يلزم منه الاشتراك ولا التجوز اللازم من مذهبكم، بل هو على [هذا] التقدير يكون متواطئًا فيهما وقد عرف أنه خير من الاشتراك والمجاز، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ قلت: الدليل على أنه لا يجوز أن يكون كذلك وجهان: أحدهما: ما سبق من الإجماع من أنه حقيقة في غير الفعل والشأن لخصوصيته. وثانيهما: أنه لو كان حقيقة فيهما باعتبار أمر مشترك بينهما لوجب أن يكون حقيقة في غير القول المخصوص، نحو الخبر والنهي والاستفهام، لأن كل ما يمكن أن يجعل مدلوله من الأمور المشتركة بينهما نحو الوجوب والسنية والشأن والصفة، فهو مشترك بين ذلك القول المخصوص وبين غيره من الأقوال، لكنه باطل لمساعدة الخصم عليه. أعني القائلين بأنه حقيقة في الفعل إذا اتفقوا على أنه مجاز في غير القول والفعل ولو كان حقيقة فيهما: باعتبار الشأن والصفو ولما كان مجازًا في غيرهما. وهذا الدليل الثاني: الدال على بطلان كون الأمر متواطئًا في القول المخصوص وفي الفعل إنما يستقيم على الفقهاء. دون أبي الحسين البصري

لأن عنده يجب أن يكون الأمر حقيقة في كل قول باعتبار الشأن، كما هو في الفعل عنده فيستدل عليه بالوجه الأول فقط، فإن كلامه صريح في أنه حقيقة في القول المخصوص لخصوصيته. وثانيها: أنه لو كان مجازًا في الفعل لتحقق جهة من جهات التجوز فيه لكنها غير متحققة، لأن جهات التجوز منحصرة في الجهات التي ذكرناها في اللغات للاستقراء، وهو وإن كان لا يفيد القطع لكن ليس هو المقصود في المباحث اللغوية، بل المقصد الأقصى فيها الظن على ما عرفت ذلك من قبل وهو يفيده، وإذا لم يكن جهة من جهات التجوز متحققة فيه لم يكن مجازًا فيه لانتفاء شرطه، وإذا لم يكن مجازًا فيه كان حقيقة ضرورة انتفاء القول الثالث. وجوابه: أنا لا نسلم أن جهة من جهات التجوز [غير متحققة فيه، وهذا لأن من جملة جهات التجوز،] إطلاق اسم الدليل على المدلول والقول المخصوص يدل على الفعل، فإطلاق اسمه على الفعل إطلاق اسم الدليل على المدلول. فإن قلت: فعلى هذا يجب أن يكون مجازًا في الفعل المخصوص وهو مدلول الصيغة دون غيره من الأفعال التي ليست هي باستدعاء نحو الماضي والحال، كما هو حقيقة في القول المخصوص دون غيره من الأقوال.

قلت: لا نسلم أنه يكون مجازًا في شيء منها لخصوصيته، بل لو استعمل في شيء منها نحو الماضي / (123/ب) والحال مثلاً، فإنما يستعمل فيه باعتبار الفعل فقط، وهو لما دل على الفعل المخصوص بطريق المطابقة دل على مطلق الفعل بطريق التضمن، فيكون مندرجًا تحت إطلاق اسم الدليل على المدلول، فإن الدليل أعم من أن يكون دليلاً بطريق المطابقة أو غيرها، وهذه الجهة من التجوز وإن كان حاصلاً في سائر الأقوال غير القول المخصوص مع أنا لو سلمنا: أنه لم يجز جعله مجازًا فيها فإنما ذلك، لأن المجاز غير لازم الاطراد. وثالثها: أن الأمر بمعني "الفعل" يجمع على أمور، والاشتقاق علامة الحقيقة. وجوابه: أنا لا نسلم مثل هذا الاشتقاق علامة الحقيقة، وهذا لأنه لو كان كذلك لزم النقض بقولهم: للبلد حمر مع أن الحمار في البليد مجاز، قال الله تعالى: {كأنهم حمر مستنفرة} وأنه خلاف الأصل. وأجيب: أيضًا بمنع كون الأمور جمع الأمر بمعني الفعل، بل هما لفظان يستعمل كل واحد منهما في مكان الآخر، ولهذا يفهم من قولنا: أمر فلان

مستقيم ما يفهم من قولنا: أمور فلان مستقيمة. وفيه نظر لا يخفى على الفطن. واحتج أبو الحسين على ما ذهب إليه بأن القائل: إذا قال: هذا أمر لم يتبادر إلى فهم السامع شيء من مفهوماته إلا إذا ضم إليه شيئًا آخر، مثل أن يقول: "هذا أمر نحب أن نتأسي به" فيفهم منه الفعل، لقرينة التأسي، أو أمر الغائب، أو المخاطب، فيفهم منه القول بقرينة التقسيم إلى الغائب، والحاضر أو أمره مستقيم، فيفهم منه الشأن لقرينة الاستقامة، أو لأمر محرك، فيفهم منه الغرض لقرينة لام التعليل، أو أمر ينبغي أن يتخلق به فيفهم منه الصفة لقرينة التخلق، فعند انضمام تلك القرائن نفهم تلك المعاني ولا شك أنه دليل الاشتراك. وجوابه منع توقف الذهن عن الفهم عند السماع بدون القرينة، بل يفهم منه القول المخصوص، وذلك يجده العارف بلغة العرب المنصف من نفسه، ولو أحيل فهمه بدون القرينة إلى اعتقاد السامع بكونه موضوعًا له، لتعذر الاستدلال بسبق المعني إلى الفهم عند سماع اللفظ على كونه حقيقة فيه لاحتمال أن يقال: إنما سبق إليه لاعتقاده أنه وضع له.

المسألة الثانية في حد الأمر بمعني القول

المسألة الثانية في حد الأمر بمعني القول اعلم أن أصحابنا ذكروا له حدودًا، والمعتزلة ذكروا له حدودًا، ونحن نذكر بعض ما ذكره الفريقان، ثم نبين ما هو المختار. فالأول: ما ذكره القاضي أبو بكر رحمه الله: الأمر هو: القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به. وزيف بوجهين: أحدهما: أن المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر، فيتوقف / (124/أ) معرفتهما على معرفة الأمر، لاستحالة معرفة المشتق من حيث إنه مشتق بدون المشتق منه، فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأنه ممتنع.

وثانيهما: أن الطاعة يتوقف معرفتها على معرفة الأمر، لكونها عبارة عن موافقة الأمر عند أصحابنا فتعريف الأمر بها دور. اعلم أن الإشكال الأول: لازم لا محيص عنه، اللهم إلا أن يكون مراده تعريف الأمر الاصطلاحي، دون الأمر اللغوي، ويريد بالمأمور والمأمور به: ما هو معناهما في اللغة. فعلى هذا التقدير لا يلزم الدور، لأنه حينئذ لا يتوقف معرفتها إلا على معرفة الأمر اللغوي لا على معرفة الأمر الاصطلاحي لكنه باطل، إذ ليس للأمر بحسب الاصطلاح معني وبحسب اللغة معني آخر. أو يكون مراده منه أن يعرف أن الأمر وإن كان عنده عبارة عن المعني القائم بالنفس لكونه قسمًا من أقسام الكلام الذي هو عبارة عن المعني القائم بالنفس عنده، لكنه في أصول الفقه عبارة عن القول المخصوص عنده أيضًا، كما هو عبارة عنه عند الخصم. فعلى هذا لا يكون الغرض من التحديد تعريف ماهية الأمر بل تمييز الأمر بمعني اللفظ عن الأمر بمعني الاستدعاء النفساني وتمييزه عما قاله الخصم بأنه عبارة عن الإرادة، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقريره. وأما الثاني: ففيه نظر: فإن الطاعة اللغوية التي هي بمعني الانقياد لا

يتوقف معرفتها على معرفة الأمر، فلا يكون تعريف الأمر بها دورًا نعم لو فسر بالطاعة الاصطلاحية لزم ما ذكر من الدور. ثم الذي يدل على أن الطاعة بمعني موافقة الأمر، إنما هو بحسب الاصطلاح لا بحسب اللغة، وجهان: أحدهما: أنه مختلف فيه بين المتكلمين حسب اختلافهم في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات دون أئمة اللغة فإنها عندنا: عبارة عما ذكرنا. وعند المعتزلة: عبارة عن موافقة الإرادة، ولو كان ذلك معناها اللغوي لم يكن اختلافه مبنيًا على مسألة كلامية ولكان الاختلاف فيه أجدر بأئمة اللغة وثانيهما: أن الطاعة استعملت حيث لا أمر، كما في قوله عليه السلام "إن أطعت الله أطاعك" ولا أمر للعبد بالنسبة إليه تعالى، ويقال أيضًا في العرف العام: فلان مطيع لفلان ومسخر له، وإن كان أعلى رتبة منه ولم يكن من جهة المطاع صيغة أمر فضلاً عن أن يكون أمره على جهة الاستعلاء، والأصل في الكلام الحقيقة ومعلوم أن ذلك ليس بحسب الاصطلاح فيتعين / (124/ب) أن يكون بحسب اللغة. وقال بعضهم: الأمر طلب الفعل على وجه يعد فاعله مطيعًا.

وهو باطل أيضًا، لأن المطيع المذكور في التعريف، إن كان مأخوذًا من الطاعة الاصطلاحية لزم الدور، كما سبق ذكره، وإن كان مأخوذًا من الطاعة اللغوية، لزم أن لا يكون مانعًا. وهذا لأن القائل: إذا قال لغيره: أطلب منك الفعل الفلاني، فإنه يعد فاعله مطيعًا بالمعنى اللغوي مع أنه ليس بأمر، ولو أورد ما أورد على الحد الأول: على هذا النمط كان أوجه منه. وأيضًا: فإنه يقتضي دخول الإشارة الدالة على طلب الفعل تحته، كما لو أشار إلى السقي مثلاً فإنه يعد فاعله مطيعًا. وقال الآخر: الأمر طلب الفعل على وجه الاستعلاء. وهو أيضًا غير مانع، لأنه يندرج تحته ما ذكرنا من الإشارة، إذا كانت الإشارة على جهة الاستعلاء وهو غير مستقيم أيضًا على القول بالكلام النفساني لأن الإشارة وما يجري مجراها نحو الإيماء ليست بكلام على المذهبين وهو يتناولها. وأما المعتزلة فقد قال كثير منهم: هو قول القائل لمن دونه افعل، أو ما يقوم مقامه، أي في الدلالة على طلب الفعل لا في "كل" الأمور.

وقالوا: إنما قلنا: لمن دونه ليخرج عنه المساوي والأعلى رتبة منه، فإنه لا يسمي أمرًا بل التماسًا ودعاء. وإنما قلنا: أو ما يقوم مقامه، ليتناول الأمر بكل لغة، فإن الأمر غير مختص بلغة العرب إذ الفارسي إذا أمر بلسانه فإن العربي يسميه أمرًا. واعترض عليه بوجوه: أحدها: أن هذه الصيغة قد ترد للتهديد والإباحة والتأديب [مع] غيرها من المحامل، مع أنه ليس بأمر في كلها بالاتفاق، وهو غير وارد على ما ذكرناه، فإن ما ذكرناه صريح في أن مرادهم من افعل، افعل الذي هو لطلب الفعل. ولا يرد عليه: التهديد والإباحة، وما ليس فيه طلب. نعم: يرد عليه الذي هو الندب، لكنهم قد يلتزمون أن ذلك أمر [وإنما هو] وارد على من أورده مطلقًا، ولم يقيد قوله: أو ما يقوم مقامه. بالدلالة على طلب الفعل، بل بالدلالة على إفادة معناه، سواء كان للطلب أو لغيره، فحينئذ يكون واردًا عليه. أجاب البلخي منهم عنه: بأن قال: لا نسلم أن تلك الصيغة [بعينها واردة في التهديد والإباحة وغيرهما من المحامل التي ليست حقيقة فيها، بل الصيغة

الواردة فيها غير الواردة في الأمر، فإن الصيغة] الواردة في الأمر لا يتصور أن تكون لغير الأمر، لأنها لذاتها أمر. ولا يخفى على ذي لب أن هذا مكابرة محضة. وثانيها: أن هذه الصيغة أو ما يقوم مقامها، لو صدرت عن نائم أو ساهٍ أو على سبيل انطلاق اللسان، أو قصد به التعبير عن الخبر على وجه التجوز وعنده من هو دونه، لوجب أن يكون أمرًا لوجوب / (125/أ) طرد الحد، لكنها ليست أمرًا بالاتفاق، فهو إذًا غير مانع. وأجيب عنه: بأنا نمنع أن قول القائل: لمن دونه، إذ المعني منه أن يكون مختصًا بالخطاب إذ اللام تشعر بالاختصاص وهو إنما يكون بالقصد. نعم: لا يصلح هذا المنع جوابًا عن صورة التجوز، فإن القصد موجود فيها. فالجواب عنه إنما يخرج بما ذكرناه من القيد، وإن لم يعتبر ذلك فلا إشكال لازم. وثالثها: أن الحاكي لأمر الغير لمن هو دونه، يجب أن يكون أمرًا لصدور الأمر منه، ولا معنى للآمر إلا من صدر منه الأمر، لكنه باطل، فإن الرسول المبلغ لأمر الغير ليس بآمر إجماعًا. ورابعها: أنه غير جامع ولا مانع فيكون باطلاً. أما الأول: فلأن الشخص إذا قال لغيره: وهو يساويه في الرتبة، أو هو

أعلى رتبة منه افعل على جهة الاستعلاء، فإنه يقال له: آمر ويسمى قوله: أمرًا، بدليل أنه يوصف بالجهل والحمق بأمره لمن هو أعلى رتبة منه، فلولا أنه آمر وإلا لما صح ذلك. وإذا ثبت أن هذا الأمر - ومعلوم أن حده غير متناول له - ثبت أنه غير جامع. وأما الثاني: فلأن قول: الأعلى للأدنى: افعل على وجه الشفاعة أو السؤال ليس بأمر، بدليل أنه يصح أن يقال: إنه ما أمر، ولكنه سأل وشفع ولهذا، قال عليه السلام لبريرة لما قالت له: أتأمرني بذلك؟ قال: "لا وإنما أنا شافع" لما أن ذلك القول: لم يكن على جهة الاستعلاء، فثبت

بهذا أنه ليس بأمر، ولا شك أن الحد متناول له، فيكون غير مانع. وقال بعضهم: فرارا عن بعض هذه الاعتراضات. الأمر: هو صيغة "افعل" على تجردها من القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى التهديد وغيره من المحامل. وهذا وإن كان يسقط عنه بعض ما تقدم من الاعتراضات المتوجهة على الأول: لكن يخصه أنه تعريف للشيء بنفسه، وهذا لأنه لا يعرف تجردها عن القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلا بعد معرفة الأمر فتعريف الأمر به تعريف للشيء نفسه وهو محال. وأيضًا ليس جعلها للأمر عند عدم القرائن الصارفة لها عن جهته أولى من جعلها للتهديد أو لغيره من المحامل، عند عدم القرائن الصارفة لها عنه. ولو اقتصر على قوله: هو صيغة "افعل" المجرد عن القرائن لا غير، زعمًا منه أنها فيما ليس بأمر ليست مجردة عن القرائن، لزم أن لا تكون

الصيغة أمرًا عندما يقترن بها قرائن الوجوب ضرورة عدم تجردها من القرائن لكنه باطل، لأنه ليس من شرط الحقيقة اشتراط عدم القرينة معها، بل من شرطها عدم اشتراط كون القرينة معها. وقال الآخرون منهم: الأمر صيغة "افعل" بشرط / (125/ب) إرادات ثلاثة: أحدها: إرادة أحداث الصيغة، احترازًا عن النائم وعن الذي انطلق لسانه به. وثانيها: إرادة الدلالة بها على الأمر، احترازًا عن التهديد والتسخير وغيرهما من المحامل. وثالثها: إرادة الامتثال، احترازًا عن الرسول الحاكي لأمر الغير، فإنه وإن أراد إحداث الصيغة والدلالة بها على الأمر. لكن قد لا يريد بها الامتثال، وهو أيضًا باطل: أما أولاً: فلأن قوله: وإرادة الدلالة بها على الأمر تتوقف معرفته على معرفة الأمر فتعريف الأمر به تعريف للشيء بنفسه. وأما ثانيًا: فلأن قوله: وإرادة الدلالة بها على الأمر يقتضي أن يكون الأمر مدلول الصيغة، وحينئذ يمنع أن يكون الأمر هو الصيغة، وقد قال: الأمر هو الصيغة فهو متناقض.

وإذ قد عرفت ضعف ما ذكره من الحدود فلنذكر ما هو الصحيح منها. فنقول: الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل بالوضع على وجه الاستعلاء. فاللفظ: كالجنس. واحترزنا بقولنا: الدال على طلب الفعل، عن المهمل والخبر وما يشبهه مما ليس فيه طلب، وعن النهي والاستفهام وما يشبههما مما فيه طلب الفعل. "واحترزنا بقولنا بالوضع: عن قول القائل: أطلب منك الفعل، إذا قاله على وجه الاستعلاء، فإنه وإن دل على طلب الفعل على وجه الاستعلاء لكنه ليس بأمر لأن دلالته على الطلب ليست بالوضع بل بالالتزام فإنه بواسطة أنه خبر عن طلب الفعل يدل على طلب الفعل". وقولنا بالوضع: لإخراج القول المذكور، خير من قولنا بطريق الإنشاء، فإنه وإن أخرج القول المذكور عن حد الأمر ضرورة أنه يدل على طلب الفعل بواسطة كونه خبرًا لكن لو استعمل بطريق الإنشاء كم في صيغ العقود يلزم أن يكون أمرًا لدخوله تحت الحد. وفيه نظر. واحترزنا بقولنا على وجه الاستعلاء: عن السؤال والالتماس. فإن قلت: قد فسرت جميع أجزاء الحد غير الطلب، فما المراد به؟ فإن أردت به إرادة الفعل المأمور به من المأمور، أو إرادة عقابه على تقدير الترك، فهذا معلوم لكنه غير مستقيم على رأيكم، وإن أردتم به غيره فسره

حتى لا يقع التعريف بالمجهول. قلت: تصور ماهية الطلب، حاصل لكل العقلاء بل للصبيان والمجانين لأنه من الأمور الوجدانية كالجوع والشبع، فإن كل واحد منهم يجد من نفسه حالة مخصوصة عند استدعاء الفعل وتلك الحالة هي المسمي بالطلب. فإن قلت: لا نزاع في وجدان تلك الحالة، لكن نقول: لم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي إرادة الفعل / (126/أ) المأمور به؟. فعلى هذا يكون الأمر عين الإرادة، كما هو مذهب المعتزلة. قلت: هذا باطل ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الأمر بطلب الفعل قد يجتمع مع كراهته، وإرادته تستحيل أن تجتمع معه كراهته. فالأمر غير الإرادة وغير مشروط بها أيضًا.

بيان الأولى: أن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده، إذا اعتذر إليه عنه بتمرد العبد عن امتثال أوامره، وكذبه السلطان في ذلك فأراد إظهار صدقه بالتجربة، فإنه إذا أمره بشيء عند السلطان، فإنه لا يريد ذلك الفعل قطعًا، لاستحالة أن لا يريد تمهيد عذره حالة كونه مريدًا له، فإنه ما أمره إلا لتمهيد عذره، وفي إرادة فعله عدم إرادة فعله عدم إرادة تمهيد عذره فيستحيل إرادته، ولأن العاقل يستحيل أن يريد ما فيه مضرته من غير ضرورة تلجئه إليه. وأما بيان المقدمة الثانية: فظاهر لكون الكراهة والإرادة ضدين فستحيل اجتماعهما في شيء واحد. وأما لزوم النتيجة عنهما فظاهر غني عن البيان. اعترض على وجهين: أحدهما: إنا لا نسلم أنه وجد الأمر فيما ذكرتم من الصور، وإن كانت صورته صورة الأمر، وهي لا توجب أن يكون أمرًا حقيقيًا، كما في التهديد والإنذار. وأجيب عنه: بأن تمهيد العذر إنما يحصل بالأمر لا بغيره فدل على أنه أمر. وثانيهما: أنه لازم على المستدل أيضًا. فإنه وإن أنكر كون الأمر عبارة عن

إرادة الفعل المأمور به "وإرادة" أعقاب المأمور عند تركه، لكنه اعترف بأنه عبارة عن الطلب على ما ذكر ذلك في تعريفه فيقال له: إنه وجد الأمر فيما ذكرت من الصورة مع استحالة الطلب لاستحالة أن يطلب العاقل ما فيه مضرته من غير ضرورة تلجئه إليه. وهو ضعيف، لأنا لا نسلم أنه يستحيل من العاقل أن يطلب ما فيه مضرته، إذا لم يكن مريدًا له، وهذا لأن طلب المضرة لا تنافي غرضه بل قد توافقه، كما ذكرنا من الصورة، وإنما المنافي لغرضه هو وقوع المضرة وهو لا يوجبه. فالحاصل أن طلب المضرة من حيث إنه طلب لا ينافي غرض العاقل لا بالذات ولا بالعرض، بخلاف الإرادة فإنها وإن لم تنافيه بالذات، لكن تنافيه بالغرض لكونها توجب وقوع المضرة، ضرورة أن الإرادة صفة تقتضي وقوع المراد، نعم: الطلب والإرادة في الأكثر يتلازمان فنظن أنه يستحيل أن يجتمع مع الكراهة، كما يستحيل أن تجتمع الإرادة معها. وثانيها: أن الرجل قد يقول لغيره / (126/ب): إني أريد منك الفعل الفلاني ولا آمرك به لمصلحة ولا أريده منك، ولو كان الأمر عبارة عن الإرادة، أو كان مشروطًا بها لما صح ذلك.

وثالثها: أن الأمة أجمعت بأسرها من غير مخالفة من الخصوم على أن الله تعالى أمر الكافر الذي علم أنه يموت على الكفر بالإيمان كأبي جهل، وأبي لهب، وصدور الإيمان من هذا الكافر غير مراد لله تعالى. أما أولاً: فلأنه محال والمحال غير مراد بالاتفاق، أما أنه محال فلأنه لو لم يكن محالاً لكان إما ممكنًا أو واجبًا، ومعلوم أنه ليس بواجب فيكون ممكنًا والممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال فلنفرض واقعًا فعند ذلك يلزم أن ينقلب علم الله تعالى جهلاً، وهو محال لوجهين: أحدهما: أن انقلاب ماهية إلى ماهية أخرى محال.

وثانيهما: أن الجهل على الله تعالى محال، ومستلزم المحال محال، فيكون الممكن محالاً، هذا خلف فلا يكون ممكنًا فيكون محالاً. وأما ثانيًا: فلأنه لو كان مرادًا لكان معناه أنه مخصص حدوثه بوقت دون وقت، وبوجه دون وجه، إذ لا معنى للمراد إلا أنه تعلق به الإرادة ولا معنى لتعلق الإرادة بالشيء إلا ذلك، لكن فيما لا يوجد غير متصور فلا يكون الإيمان منه مرادًا وقد ثبت وجود الأمر به فلا يكون "الأمر عبارة عن الإرادة ولا مشروطًا بها. فإن قلت: ما المراد من قولك: أجمعت الأمة على أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان، إن أردت أنه أنزل آية دالة على أنه تعالى مريد العقاب في الآخرة لو لم يؤمن فهذا مسلم وهو غير ما ذهبنا إليه فإن ذكرنا أن" الأمر عبارة عن إرادة فعل المأمور به أو عن إرادة عقاب المأمور بتقدير الترك، وإن أردت به غيره فبينه لننظر هل انعقد الإجماع عليه أم لا؟ فإن التصديق نوع التصور. سلمنا: أنه أمر الكافر بالإيمان بغير هذا المعني، لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان منه. قوله في الوجه الأول: صدور الإيمان منه محال. قلنا: لا نسلم أنه محال. لقوله: [لو] لم يكن محالاً لكان ممكنًا والممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال. قلنا: نعم لكن نظرًا إلى الذات لا مطلقًا وها هنا كذلك، فإنا لو قطعنا النظر عن تعلق العلم به لم يلزم من فرض وقوعه محال، إن ادعيتم ذلك مطلقًا فهو ممنوع، وهذا وإن فرض وقوع الممكن لا عن مؤثر أو بدون

شرطه محال لكن لما كانت محالته وامتناعه من خارج لم يقدح ذلك في إمكانه في نفسه وأيضًا لما / (127/أ) كان ممتنعًا بالغير يجب أن يكون ممكنًا في نفسه، لأن الممتنع بالغير ممكن في نفسه كالواجب بالغير وإلا لكان ممتنعًا لذاته هذا خلف، وإذا كان ممكنًا في نفسه لم يلزم من فرض وقوعه محال نظرًا إلى نفسه فلا يكون محالاً في نفسه. سلمنا: أن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال مطلقًا، لكن لا نسلم أنه يلزم من فرض وقوعه محال. قوله: لأنه يلزم أن ينقلب علم الله تعالى جهلاً. قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا لأن العلم والمعلوم متلازمان، فإذا فرض الإيمان حاصلاً بدلاً عن الكفر علمنا أن الحاصل في الأول هو العلم بالإيمان دون الكفر، فإذا فرض حصول الكفر علمنا أن الحاصل في الأول هو العلم بالكفر دون الإيمان، وإذا كان كذلك لم يلزم ما ذكرتم من الاقلاب. سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن المحال غير مراد، وهذا لأن الطلب عندنا من جنس الإرادة، فإذا جوزتم طلب المحال مع العلم به، فلم لا يجوز إرادة المحال مع العلم به؟ سلمنا: أن المحال غير مراد، لكن مطلقًا أم المحال لذاته. الأول: ممنوع. والثاني: مسلم. فلم قلت: إن المحال لغيره لا يجوز أن يكون مرادًا؟

قلت: الجواب عن الأول: أنه لا يجوز أن يكون المراد من كون الله تعالى أمر الكافر بالإيمان أنه أخبر بأنه مريد لعقابه عندما لا يؤمن. لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان الأمر قسمًا من أقسام الخبر لا قسمًا له، وهو خلاف إجماعهم، فإنهم بأسرهم قسموا الكلام إلى الأمر والخبر وغيرهما من الأقسام، ولو كان الأمر قسمًا من الخبر لما صح هذا التقسيم، إذ قسم الشيء لا يجوز أن يكون قسيمًا له. وثانيهما: أنه لو كان كذلك لتطرق إليه التصديق والتكذيب ضرورة أنه من لوازم الخبر لكنه باطل وفاقًا، فلا يكون خبرًا عن إرادة العقاب. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: تطرق التصديق والتكذيب إلى الخبر مشروطًا ببقاء صيغة الخبر والشيء قد ينتفي بانتفاء شرطه؟ قلت: هذا باطل بما أعلم بالضرورة أنه لو وضعوا صيغة الأمر أو النهي ابتداء للخبر لتطرق إليه التصديق والتكذيب، وكذلك لو نقلوها إلى صيغة أخرى أو إليها مع بقائها، ولأن تطرق التصديق والتكذيب إلى الخبر غير مختص باللغة العربية حتى يقال: إن بقاء صيغته شرط لذلك. وقد أجيب عنه: بجواب آخر، وهو أنه لو كان إخبارًا عن إرادة عقاب تاركه لامتنع سقوطه لكنه غير ممتنع إجماعًا، أما عندنا فبالعفو والتوبة، وأما / (127/ب) عندهم فبالتوبة خاصة في الكبائر. وهو ضعيف، لجواز أن يكون إخبارًا مقيدًا بانتفاء المسقط، كما هو في عمومات الوعيد، وإذا بطل أن يكون المراد من كون الله تعالى أمر الكافر

بالإيمان أنه أراد عقابه على تقدير الترك، تعين أن يكون المراد منه أنه طلب منه الإيمان لا بمعني أنه أراد أو بشرطها لما تقدم أنه غير مراد لئلا يلزم قول آخر خلاف الإجماع. وعن الثاني: أن الممكن المطلق هو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال بوجه من الوجوه، فأما الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرًا إلى نفسه دون الأمر الخارجي فليس ذلك بممكن على الإطلاق، وهذا لأن الإمكان والامتناع أمران متنافيان فلابد في اعتبار تنافيهما اتحاد الجهة، فإذا كان الشيء محالاً باعتبار يستحيل أن يكون ممكنًا بذلك الاعتبار، والممكن المطلق هو الذي يكون كذلك بجميع الاعتبارات، ونحن لا ندعى أن الإيمان من الكافر الذي شأنه ما ذكرناه محال في نفسه حتى يكون ممكنًا في نفسه منافيًا لما ذكرنا، بل ما ادعينا إلا أنه محال وهو أعم من كونه كذلك في نفسه أو بغيره، وقد ثبت ذلك بما ذكرناه وما ذكرتموه يدل على أنه ممكن في نفسه فلا يكون منافيًا لما ذكرناه. وعن الثالث: أنا نسلم أن العلم والمعلوم متلازمان، وأن الحال غير مكشوف لنا في أن العلم الأزلي بماذا تعلق من الأمرين في الأزل وأنه متى وجد الإيمان علمنا أن الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان دون الكفر، وكذلك بالعكس، لكن لما مات الكافر على كفره علمنا قطعًا أن العلم الأزلي كان متعلقًا بكفره إلى زمن موته، وإلا لزم ألا يكون الله تعالى عالمًا بما سيقع منه أو يكون عالمًا بحصول الإيمان منه، وهما على الله تعالى محال، فتعين أنه تعالى كان عالمًا بكفره فلو حصل الإيمان من هذا الكافر، لزم أن ينقلب علم الله تعالى جهلاً وهو محال.

وعن الرابع: أن إرادة المحال ممتنعة بالإجماع، [لكن] من جعل الطلب من جنس الإرادة، قال: إن طلب المحال وإرادته كلاهما محالان، ومن جعل الطلب جنسًا مغايرًا للإرادة جوز طلب المحال دون إرادته باستحالة إرادة المحال متفق عليه. وعن الخامس: أنه لم يفرق أحد من الأمة بينهما في ذلك وأيضًا فإنه لا معني لكون الشيء مراد الوجود إلا أنه مخصص / (128/أ) بالوجود دون العدم، وبالحدوث بوقت دون وقت وبوجه دون وجه، لأن الإرادة صفة شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر فإذا تعلقت بجانب الوجود كان معناه ما ذكرناه، وهو في المحال محال سواء كان لذاته أو لغيره. واستدل على المسألة بوجه آخر، وهو أنه سيظهر جواز نسخ الشيء قبل حصول وقت العمل به في بابه إن شاء الله تعالى، وهو يدل على أن الأمر غير الإرادة، وذلك لأنه لو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة لزم أن يكون الله تعالى مريدًا وكارهًا للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد، وهو باطل بالاتفاق. وهو ضعيف، لأنا نمنع تعلقهما بالفعل من الوجه الواحد، وهذا لأنه سيظهر في باب النسخ إن شاء الله تعالى إنا إنما نجوز ذلك لجواز كون الأمر بالفعل منشأ للمصلحة، والفعل نفسه منشأ للمفسدة وإذا كان كذلك فلم يكن تعلقهما بالفعل بوجه واحد، بل الأمر إنما تعلق به اعتبار المصلحة الناشئة من

تعلقه به، والنهي إنما تعلق به باعتبار كونه مفسدة فلم يكن جهة تعلقهما واحد. واحتج المخالف بوجوه: أحدها: أنه قد ثبت في باب اللغات، أن اللفظ المشهور المتداول لا يجوز أن يكون موضوعًا للمعني الخفي الذي لا يعرفه إلا الخواص، ولفظ الأمر لفظ مشهور متداول بين العوام والخواص، والطلب الذي يثبتونه معايرًا للإرادة لو ثبت القول به لا يعرفه إلا الخواص، ولهذا انفردتم بإثباته أنتم يا جماهير الأشاعرة فلا يجوز أن يكون الأمر موضوعًا له. وثانيها: أنه لو كان الطلب الذي هو مدلول الأمر مغايرًا للإرادة لجاز الأمر بالمحال ضرورة أنه حينئذ يكون قدرًا مشتركًا بين المطلوب الذي هو مراد وبين المطلوب الذي هو غير مراد، لكنه غير جائز لما سيأتي. وثالثها: أن إرادة المأمور به لو لم تكن معتبرة في الأمر، لصح الأمر

بالماضي قياسًا على الخبر، والجامع عدم اعتبار الإرادة فيهما. الجواب عن الأول: إنا لا نسلم أن الطلب الذي هو مغاير للإرادة لا يعرفه إلا الخواص، فإن الذي لم يمارس العلوم والبراهين قد يأمر بما لا يريد كما تقدم من أمر السيد عبده عند السلطان لتمهيد عذره. وعن الثاني: أنه جائز لما سيأتي. وعن الثالث: منع كون الجامع علة لعدم مناسبته وبتقدير تحققها نمنع انتفاء اللازم بناء على جواز تكليف ما لا يطاق. تنبيه: اعلم أنه لا اختصاص للأمر باللفظ العربي، بدليل أنه لو حلف / (128/ب) أن لا يأمر بأمر غير العربي، فإنه يحنث في يمينه ولذلك لم يقيد اللفظ في التحديد بكونه عربيًا، بل أطلقنا ليتناول العربي وغيره.

المسألة الثالثة [هل للأمر صيغة في اللغة أو لا]

المسألة الثالثة [هل للأمر صيغة في اللغة أو لا] اختلف أصحابنا القائلون بكلام النفس: في أن هل للأمر صيغة مختصة في اللغة العربية أم لا؟. فأثبته الأستاذ وجماهير الأصحاب من الفقهاء والمتكلمين. ونقل عن الشيخ أبي الحسن والقاضي التوقف عليه.

ونقل بعضهم عنهما: إنكاره. والأول أثبت. واستبعد إمام الحرمين والغزالي رحمهم الله تعالى هذا النقل بإطلاقه عنهم، لأن قول القائل: أمرتك وأنت مأمور، صيغة مختصة بالأمر بالاتفاق. ثم قالا: لعلهما قالا ذلك في صيغة "افعل" العرية عن القرينة لكونها مترددة بين محامل كثيرة - كما سيأتي - دون التي اختصت بها قرائن

الوجوب والندب. واستبعد هذا الاستبعاد. وقيل لا وجه له بما ذكراه، فإن ذلك ليس صيغة الأمر، بل هو إخبار عن الأمر وعن كونه مأمورًا فصيغة الأمر تكون غيره قطعًا لوجوب مغايرة الخبر المخبر عنه، والكلام إنما هو في صيغة الأمر لا في صيغة الخبر عنه. واعلم: أن في استبعاد الاستبعاد، استبعادًا، وهذا لأن قول القائل: "أمرتك" كما يستعمل في الخبر فكذا يجوز أن يستعمل في الإنشاء، فعلى هذا يكون [هو] صيغة مختصة بالأمر، فيكون نقل التوقف في أن هل للأمر صيغة مختصة أو إنكاره على الإطلاق مستبعدًا؟ نعم: حصرهم الخلاف في صيغة "افعل" العرية عن القرينة غير سديد فإن التي معها القرائن لا يبعد أن يكون الخلاف فيها أيضًا، لأن القرينة إنما تنبئ عن مراد المتكلم لا عن الوضع، والخلاف إنما هو في الوضع لا في مراد المتكلم.

المسألة الرابعة [هل تكفي الصيغة عن الإرادة أو لا]

المسألة الرابعة [هل تكفي الصيغة عن الإرادة أو لا] دلالة الصيغة المخصوصة بالأمر على الطلب الذي هو غير الإرادة أو عينها - على الاختلاف الذي عرفته - يكفي في تحققها الوضع، من غير حاجة إلى الإرادة أصلاً، أو إلى إرادة أخرى غير ذلك الطلب، الذي هو عين إرادة المأمور به عندنا، وعند كثير من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والكعبي. وقال أبو علي وأبو هاشم: لابد من إرادة أخرى غيرها، وهي إرادة الدلالة بها على الأمر. احتج الجماهير: بأن هذه الصيغة لفظة وضعت بمعني، فلا يفتقر في إفادتها إياه إلى الإرادة، كسائر الألفاظ الدالة على معانيها، ولأن الألفاظ إنما وضعت لمعانيها لتعريفها بها، فلو كانت دلالة الصيغة المخصوصة على معناها مشروطة بإرادة الدلالة عليه لاختلت فائدة الوضع، ضرورة أن تلك الإرادة

أمر باطن لا يمكن الاطلاع / (129/أ) عليه بدون التعريف، كمعاني الألفاظ الدالة عليها. احتجا: بأن الصيغة المخصوصة، قد ترد للأمر، وقد ترد للتهديد، والإنذار، والتعجيز، والتسخير، وغيرها من المحامل، ولا مميزًا إلا الإرادة، فتكون مشروطة بها، كدلالة المشترك على أحد مفهوماته على التعيين مشروطة بوجود قرينة دالة عليه. وجوابه: أنها حقيقة في الأمر فقط، مجاز فيما ذكرتم من المحامل، كما سيأتي، ودلالة اللفظ على معناه الحقيقي غير مشروط بالقرينة.

المسألة الخامسة [أن الأمر به نفس الصيغة خلافا لأبي علي وأبي هاشم]

المسألة الخامسة [أن الأمر به نفس الصيغة خلافًا لأبي علي وأبي هاشم] ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن الأمر به صفة زائدة على نفس الصيغة، حاصلة لها بسبب إرادة المأمور به، وإرادة الدلالة بها على الأمر. وذهب أصحابنا القائلون: بأن للأمر صيغة مخصوصة، والباقون منهم إلى أنها نفس الصيغة. واستدلوا على فساد قولهما بوجهين: أحدهما: أن الأمر لو كانت [به] صفة زائدة حاصلة للصيغة، فإما أن تكون حاصلة لمجموع الحروف، أو لآحادها، والقسمان: باطلان فالقول بكونها صفة زائدة باطل. أما الأول: فلأنه لا وجود لمجموع الحروف في الخارج فيستحيل حصول الصفة في الخارج له، ضرورة أن حصول الصفة متوقف على حصول الموصوف. وأما الثاني: فلأنه يقتضي أن يكون كل واحد من آحاد حروف الصيغة أمرًا على الاستقلال، وهو باطل بالاتفاق.

المسألة السادسة [خلاف العلماء في اعتبار علو رتبة الآمر والاستعلاء]

ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون الأمر به صفة حاصلة للحرف الأخير بشرط أن يكون مسبوقًا بالباقي أو للأول بشرط أن يكون ملحوقًا بالباقي لابد من إبطال هذين القسمين حتى تتم الدلالة. وثانيهما: أن إرادة المأمور به نفس مدلول الصيغة، فوجب أن لا تكون علة ولا جزء علة لإفادة صفة للصيغة الدالة عليه، قياسًا على سائر المسميات والأسماء. واعلم أن هذه الدلالة إنما تتم، لو سلمنا: أن إرادة المأمور به نفس مدلول الصيغة، أما إذا لم يقولا به، بل يقولا أن مدلول الصيغة هو الطلب بشرط إرادة المطلوب على ما هو مذهب بعضهم فلا. المسألة السادسة [خلاف العلماء في اعتبار علو رتبة الآمر والاستعلاء] قال الشيخ: وأكثر الأصحاب لا يعتبر في الأمر علو رتبة الآمر ولا الاستعلاء. وقال أكثر المعتزلة: يعتبر العلو.

وقال أبو الحسين البصري، وبعض أصحابنا يعتبر الاستعلاء دون العلو. احتج الجماهير: على عدم اعتبار العلو بقوله تعالى حكاية عن فرعون: أنه قال لقومه: {ماذا تأمرون} مع أنه كان أعلى رتبة منهم،

وبقول عمرو بن العاص: إنه قال لمعاوية: أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني وكان من التوفيق / (129/ب) قتل ابن هاشم

والأصل في الإطلاق الحقيقة. واحتجوا: على عدم اعتبار الاستعلاء بما يقال: إن فلانًا يأمر على وجه الرفق واللين، ولو كان الاستعلاء معتبرًا لما حسن ذلك. واحتجوا: على اعتباره بأن الناس يفرقون بين ما إذا كانت الصيغة صادرة من الأعلى، وبين ما إذا كانت صادرة من الأدنى والمساوي.

فيقولون: في الصورة الأولى: أمر. وفي الثاني: دعاء وسؤال. وفي الثالث: التماس. والأصل عدم التغيير. واحتج بعض الأصحاب وأبو الحسين: على اعتبار الاستعلاء دون العلو بأن الرجل العظيم إذا قال لغيره افعل لا على سبيل الاستعلاء، بل على سبيل التضرع واللين، لا يقال: إنه أمر، ولذلك قال عليه السلام: "لبريرة إنما أنا شافع لما قالت له: أتأمرني بذلك. لما لم يكن ذلك القول على سبيل الاستعلاء: وإذا قال من هو أدنى رتبة لمن هو أعلى رتبة منه: "أفعل" على وجه الاستعلاء يقال: إنه أمره، ولذلك يوصف بالجهل والحمق بسبب أمره لمن هو أعلى رتبة [منه].

المسألة السابعة في تعديد موارد استعمال صيغة افعل

المسألة السابعة في تعديد موارد استعمال صيغة افعل وهي ثمانية عشر موردًا. الأول: الإيجاب كقوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} الثاني: الندب كقوله تعالى: {فكاتبوهم} {وأحسنوا}. الثالث: التأديب كقوله عليه السلام لابن عباس رضي الله عنهما: "كل مما يليك"، والفرق بين بينه وبين الندب، فرق ما بين العام والخاص.

فإن كل تأديب مندوب إليه، وليس كل ندب تأديب، فيحسن أن يعد قسمًا مغايرًا له، لأن الخاص مغاير للعام بمعني أن المفهوم منه مغاير للمفهوم من العام. الرابع: الإرشاد كقوله تعالى: {واستشهدوا}. والفرق بينه وبين الندب، أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا، إذ لا ينتقض بسبب ترك الاستشهاد في المداينات الثواب ولا يزيد بسبب فعله وأيضا المندوب قد يكون مشتملاً على منافع الدنيا، كبعض التأديبات، بخلاف الإرشاد، فإنه غير مشتمل على ثواب الآخرة. وهو الفرق بعينه بينه وبين التأديب،

لأن المفهوم العام موجود في الخاص. الخامس: الإباحة كقوله تعالى: {فاصطادوا}. السادس: الامتنان كقوله تعالى: {كلوا مما رزقكم الله}. السابع: الإكرام كقوله تعالى: {ادخلوها}. الثامن: التهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم}. التاسع: الإنذار كقوله تعالى: {قل تمتعوا}. والفرق بينه وبين التهديد، أن الإنذار يجب أن يكون مقرونًا بالوعيد، كما في الآية المذكورة والتهديد لا يجب فيه ذلك، بل قد يكون مقرونًا به وقد لا يكون، وأيضًا الفعل المهدد عليه يكون / (130/أ) ظاهر التحريم والبطلان، وفي الإنذار قد

يكون كذلك والعاشر: التسخير كقوله تعالى {كونوا قردة خاسئين}. الحادي عشر: التعجيز كقوله تعالى {فأتوا بسورة من مثله}. الثاني عشر: التعجب كقوله تعالى: {قل كونوا حجارة}. الثالث عشر: الإهانة كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز

الكريم}. الرابع عشر: التسوية كقوله تعالى: {اصبروا أولا لا تصبروا}. الخامس عشر: التكوين كقوله تعالى: {كن فيكون}. السادس عشر: الدعاء كقوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا}. السابع عشر: التمني كقول الشاعر:

*** ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلى ... الثامن عشر: الاحتقار كقوله تعالى: {ألقوا ما أنتم ملقون}. والفرق بينه وبين الإهانة: أن الإهانة إنما تكون بالقول، أو بالفعل، أو بترك القول، أو الفعل دون مجرد الاعتقاد. والاحتقار إما مختص به، وإن

لم يكن كذلك، لكنه لا محالة يحصل بمجرد الاعتقاد، بدليل أن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه، يقال: إنه احتقره، ولا يقال: إنه أهانه، ما لم يصدر منه قول أو فعل ينبئ عنه. وقد اتفق الأصوليون على أن الصبغة ليست حقيقة في كلها، بل في بعضها. واختلفوا فيه. فقيل: إنها حقيقة في الوجوب فقط. وقيل: إنها حقيقة في الندب فقط. وقيل: هي للمشترك بينهما، وهو الطلب. وقيل: للإباحة. وقيل: للمشترك بين الثلاثة، وهو جواز الفعل. وقيل: هي مشتركة بين الثلاثة المذكورة، وبين التهديد، المستدعى لترك الفعل بالاشتراك اللفظي. واستدل إمام الحرمين، والغزالي، والإمام على فساد كون الصيغة مشتركة بين تلك الأمور المذكورة: بأنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قولهم: "افعل"، وبين قولهم: "لا تفعل"، وبين قولهم: "إن شئت

"افعل" و "إن شئت لا تفعل" حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها، وقدرنا هذه الصيغة منقولة على سبيل الحكاية عن ميت أو عن غائب لا في فعل معين حتى يتوهم فيه قرينة دالة، بل في الفعل مطلقًا، سبق إلى فهمنا، اختلاف معاني هذه الصيغ، وعلمنا قطعًا أنها ليست ألفاظًا مترادفة على معني واحد. كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم: "قام زيد" و "يقوم عمر" وفي أن الأول: للماضي. والثاني: للمستقبل "وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل"، وبالعكس، لقرائن تدل عليه، فكذا ميزوا الأمر عن النهي. فقالوا: الأمر أن تقول: "افعل"، والنهي أن تقول: "لا تفعل"، فهذا أمر معلوم بالضرورة عن اللغات لا يشكنا في ذلك إطلاقها مع قرينة تدل على الإباحة أو التهديد. وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من / (130/ب) حصول التفرقة بين تلك الصيغ، وبين كونها ليست ألفاظًا مترادفة أن لا تكون صيغة "افعل" مشتركة بين "تلك" المعاني لجواز كونها مشتركة وكل واحد من صيغة "لا تفعل"، و"إن شئت افعل" و "إن شئت لا تفعل" خاصة لمدلوله، نعم: لو ادعوا حصول التفرقة بين تلك الصيغ في اختلاف معانيها بحيث إن كل واحد منها لا يدل على ما يدل عليه الآخر لا بطريق الاشتراك ولا بطريق الإفراد لحصل مطلوبهم، لكنه مصادرة على المطلوب.

المسألة الثامنة [في أن مدلول الصيغة الطلب والاستدعاء، أو ما فيه الطلب والاستدعاء]

والأولى في ذلك أن يقال: إنا نجد أفهامنا متبادرة إلى معني الطلب والاستدعاء عند سماع هذه الصيغة مجردة عن القرينة، ولو كانت الصيغة مشتركة بين الطلب والإباحة، والتهديد، لما كان ذلك، وإحالته إلى العرف الطارئ خلاف الأصل. وبهذا يعرف أيضًا إنها ليست بحقيقية في القدر المشترك بين الثلاثة، لأن الجواز أعم من الطلب، والمعني الخاص لا يتبادر إلى الفهم عند سماع اللفظ الدال على المعني العام، ولأنا أجمعنا على أنها حقيقة في غير الإباحة والتهديد، فوجب أن لا تكون حقيقة فيهما ولا في أحدهما دفعًا للاشتراك. المسألة الثامنة [في أن مدلول الصيغة الطلب والاستدعاء، أو ما فيه الطلب والاستدعاء] إذا عرفت أنها ليست بحقيقة في الإباحة، والتهديد، لم يبق من تلك الأمور ما يصلح أن يكون مدلول الصيغة إلا الطلب والاستدعاء. أو ما فيه الطلب والاستدعاء المستدعي لترجيح الفعل على الترك، والاحتمالات الممكنة الناشئة منه خمسة: أحدها: أن تكون الصيغة حقيقة في الوجوب فقط، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين. وثانيها: أن يكون حقيقة في الندب فقط، وهو مذهب

أبي هاشم وكثير من أصحابه، وجماعة من الفقهاء، ونسب إلى الشافعي رضي الله عنه أيضًا. وثالثها: أن يكون حقيقة فيهما بالاشتراك اللفظي، وهو مذهب المرتضي وأصحابه من الشيعة.

ورابعها: أن تكون حقيقة فيهما بالاشتراك المعنوي، وهو كون الفعل مطلوبًا راجحًا على الترك، وهو مذهب جماعة من العلماء منهم الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى. وخامسها: التوقف في هذه الأقسام الأربعة، وهو مذهب الشيخ أبي

الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر واختاره إمام الحرمين والغزالي وطائفة من فقهائنا. احتج القائلون بالوجوب بوجوه: أحدها: قوله تعالى لإبليس: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}. ووجه الاستدلال به: وهو أن الصيغة وإن كانت صيغة استفهام، لكن ليس المراد منه الاستفهام لاستحالته على من يستحيل عليه الجهل، بل المراد منه التوبيخ، وأنه لا / (131/أ) عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما حسن الذم والتوبيخ. فإن قيل: ليس في النص ما يدل على أنه تعالى أمر إبليس باللغة العربية

فلعله أمره بلغة أخرى، ولعل الأمر في تلك اللغة يفيد الوجوب. فلم قلت: إنه في اللغة العربية يفيده؟. سلمنا: أنه أمره باللغة العربية، لكن لعله احتف به من القرائن ما أفاده ونحن لا ننكر إفادة الأمر للوجوب بقرينة. سلمنا: تجرده عن القرينة، لكنه إنما يدل على أن الأمر للوجوب لا صيغة "افعل" ونحن نقول: إن قول القائل: "أمرتك بكذا" يفيد الوجوب. فلم قلت: إن صيغة "افعل" تفيده والنزاع إنما هو فيه؟. سلمنا: ذلك لكنه يدل على أن أمر الله تعالى يفيد الوجوب. فلم قلت: إن أمر غيره تعالى يفيده؟. سلمنا: ذلك لكنه يدل دلالة ظنية أو قطعية. والأول: مسلم لكنه غير مفيد، لأن المسألة علمية، فلا يصح الاستدلال بها عليها. والثاني: ممنوع وسنده ظاهر غير خفي. فلم قلت: إن دلالته قطعية؟ سلمنا: ذلك لكنه يدل على أن تارك المندوب يستحق الذم والتوبيخ. وهو باطل وفاقًا: لأن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب، وإلى أمر استحباب إجماعًا، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا بين القسمين. أجاب القائلون بالوجوب عن الأول: بأن الظاهر ترتب الذم والتوبيخ على مجرد مخالفة الأمر لما سيظهر أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر

بالعلية، فإحالته إلى أمر آخر غيره خلاف الظاهر، وبه خرج الجواب عن قوله: لعلة إفادة القرينة. وعن الثالث: أن صيغة "افعل" عندما تكون للطلب يسمى أمرًا بالإجماع فمخالفتها يكون مخالفًا للأمر. وعن الرابع: أنه لا قائل بالفصل. وعن الخامس: أن من قال منهم بأن المسألة ظنية كأبي الحسين البصري وغيره: فأجاب بمنع كون المسألة قطعية. وأما من قال: بأنها علمية قطعية: فأجاب بأن كل واحد مما يذكر من الأدلة وإن كان لا يفيد القطع لكن المجموع يفيده فيصح الاستدلال به وإن كان وحده لا يفيد القطع. وعن السادس: منع كون المندوب مأمورًا به على سبيل الحقيقة ولا يمكن دعوى الإجماع فيه، فإن كثيرًا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به. وسيأتي تمامه. وثانيها: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}. ووجه الاستدلال به أن هذا الأمر للوجوب لوجهين: أحدهما: بالإجماع.

وثانيهما: أنه هدد على مخالفته لقوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم}. والتهديد على / (131/ب) المخالفة دليل الوجوب وفاقًا. والطاعة: عبارة عن موافقة الأمر. فتكون موافقة الأمر واجبة ولا معني لكون الأمر للوجوب سوى أن موافقته واجبة، ويعرف منه اندفاع ما يعترض عليه: من أنه أمر، والخلاف في اقتضائه الوجوب، كالخلاف في اقتضائه مطلق الأمر له، فالاستدلال به على أن الأمر للوجوب استدلال بالشيء على نفسه. فإن قيل: لا نزاع في أنه لو ثبت أن هذا الأمر للوجوب لا يدفع ذلك الاعتراض، لكنا لا نسلم ذلك. أما الوجه الأول: وهو الإجماع فممنوع، وهذا لأن من يزعم أن الأمر حقيقة في المندوب أو في القدر المشترك بينه وبين الواجب فإنه وإن فسر الطاعة بموافقة الأمر، فإنه يقول: ليس في الآية دلالة إلا على ندبية الموافقة أو على أولويته من غير إشعار بجواز ترك الموافقة أو عدم جوازه، فإذا كان كذلك لم يكن الإجماع منعقدًا على أن هذا الأمر للوجوب. وأما الوجه الثاني: فلا نسلم أن في قوله تعالى: {فإن توليتم فإنما عليه ما

حمل وعليكم ما حملتم} تهديدًا، بل ليس فيه إلا الإخبار بأن الرسول صلي الله عليه وسلم ليس عليه إلا ما حمل من التبليغ، وبأن الأمة ما عليها إلا ما حملوا من القبول، وحينئذ لا يكون التولي مهددًا عليه، فلم تكن الآية دالة على الأمر للوجوب. الجواب عن الأول: إن الأمة مجمعة على الاستدلال بهذه الآية وأمثالها نحو قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} على أن امتثال أوامر الله ورسوله صلي الله عليه وسلم وأولى الأمر واجب، فلو لم يكن هذا الأمر للوجوب لكان إطباقهم على الاستدلال بها "على الوجوب" خطأ، وهو باطل. وعن الثاني: أن حمل كلام الله تعالى على ما هو أكثر فائدة أولى وليس في الحمل على الخبر فائدة زائدة، فإن من المعلوم أن ليس على الرسول إلا ما حمل من التبليغ دون القبول، وليس على الأمة إلا ما حملوا من القبول دون التبليغ، أما لو حملناه على التهديد لكانت فيه فائدة زائدة مناسبة لصدر الآية فكان الحمل عليه أولى. وثالثها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. ووجه الاستدلال به: أن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر، وهذا لأن مخالفة الأمر ضد موافقته، وموافقته: عبارة عن امتثاله

فتكون مخالفته عبارة عن عدم امتثاله، ولأنه يصح أن يقال: أمرتك فخالفتني / (132/أ) عند ما لم يمتثل أمره والأصل في الإطلاق هو الحقيقة ومخالف الأمر مستحق للعذاب، لأنه مأمور بالحذر عن العذاب والأمر بالحذر عنه إنما يحسن بعد وجود المقتضي له، دون احتمال وقوعه حتى يقال: إن كون الأمر مقتضيًا للوجوب محتمل، فأمر بالحذر لئلا يلزم مخالفة الواجب بدليل أنه يقبح الأمر بالحذر عن الشيء بدون وجود المقتضي له، ألا ترى أنه يقبح أن يقال: لمن جلس تحت سقف جديد غير مائل، احذر عن أن يقع عليك السقف، ولا يقبح أن يقال ذلك لمن جلس تحت سقف مائل معرض للوقوع، لما أن المقتضى للوقوع قائم فيه فلو لم يكن ترك المأمور به مقتضيًا لوقوع العذاب لما حسن الأمر بالحذر عن العقاب، ولا معني لقولنا: إن مخالف الأمر مستحق للعقاب إلا أنه وجد المقتضي لعقابه ولا معنى لكون الأمر. للوجوب إلا أن تاركه مستحق للعقاب. على ما تقدم تقريره في حد الواجب. فإن قيل: سلمنا أن المخالفة ضد الموافقة، لكن لا نسلم أن الموافقة عبارة عن مجرد امتثال الأمر. ولم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن امتثاله على وجه يقتضيه الأمر من الندب أو الوجوب أو غيرهما؟. فعلى هذا مخالفة الأمر ليست عبارة عن مجرد عدم امتثاله، بل لو امتثل على وجه الوجوب وهو يقتضي الندب أو بالعكس كان ذلك مخالفة أيضًا. لا يقال: ما ذكرتم لا ينافي ما ذكرنا وغير قادح فيه، وهو أن ترك المأمور

به مخالفة للأمر أيضًا، بل يقتضيه، لأن المجموع المركب من أمرين ينتفي بطرق ثلاثة، لكن غايته أنه يقتضي أن الفعل لا على وجه يقتضيه الأمر مخالفة للأمر وثبت أن مخالف الأمر مستحق للعقاب ثبت أن الأمر للوجوب على ما تقدم تقريره، فيعد ذلك أن الفعل قد يكون مخالفة أيضًا شيء غير مناف لما ذكرنا وغير قادح في غرضنا. لأنا نقول: لا نسلم أنه غير مناف بل هو مناف وقادح في الغرض. أما الأول: فلأن المخالفة غير منحصرة في ترك الفعل على ما ذكرنا من التفسير، لأنه لو فعله لا على وجه يقتضيه الأمر كان ذلك مخالفة أيضًا، وأما على ما ذكرتم من التفسير فإن المخالفة منحصرة في الترك والمنافاة بين المعنيين ظاهرة. وأما الثاني: فلأنه لا يلزم من كون المخالفة على ما ذكرنا من التفسير سببًا لاستحقاق العقاب أن يكون الأمر / (132/ب) للوجوب، لجواز، أن يكون للندب وتكون مخالفته سببًا لاستحقاق العقاب، فإن بنيت هذا على أن المندوب لا يكون مأمورًا به، فلا تكون مخالفته سببًا لاستحقاق العقاب، فهو أول المسألة، فلا حاجة إلى الاستدلال بكون المخالفة سببًا لاستحقاق العقاب على أن الأمر للوجوب، فإنه مهما ثبت أن المندوب لا يكون مأمورًا به ثبت أن الأمر للوجوب. أو نقول: لم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكونه حقًا واجب القبول؟.

فعلى هذا مخالفته عبارة عن إنكار كونه حقًا واجب القبول. ونحن نقول: إن مخالفة الأمر على هذا التفسير سبب لاستحقاق العقاب ومعلوم أنه لا يقتضي أن يكون الأمر للوجوب، ثم ما ذكرتم منقوض بالمندوب فإن تاركه "لا يستحق" العقاب وفاقًا. ولو كانت مخالفة الأمر عبارة عما ذكرتم، لوجب أن يستحق تاركه العقاب ضرورة انقسام الأمر: إلى أمر الوجوب، وإلى أمر الندب. سلمنا: أن المخالفة عبارة عما ذكرتم، لكن لا نسلم "أن مخالف الأمر يستحق العقاب أما قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (فلا نسلم) أنه يدل عليه، وهذا لأنه أمر بالحذر عن المخالف، لا أنه أمر المخالف بالحذر. فإن قلت: هذا مدفوع، لأنه لا فائدة في الأمر بالحذر عن المخالف، لأن مخالفته ليست سببًا لمؤاخذة غيره حتى يؤمر بالحذر عن العذاب، بدليل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. قلت: لا نسلم أنه لا فائدة فيه فإن معصية الشخص قد تكون سببًا لمؤاخذة الغير، إذا كان مخالطًا له، بدليل قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}. وأما قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فهي عامة بالنسبة

إلى ما تلونا مكان ما تلونا مقدمًا. سلمنا: أنه أمر للمخالف، لكن للمخالف عن الأمر أو لمخالف الأمر. الأول: مسلم. والثاني: ممنوع، وهذا لأن المخالف عن الأمر ليس بمعني مخالف الأمر، حتى يلزم من كون المخالف عن الأمر مأمورًا بالحذر عن العقاب، كون مخالف الأمر مأمورًا بذلك، وإلا لزم أن يكون كلمة "عن" زائدة لا فائدة فيها وكلام الله تعالى يصان عن ذلك. سلمنا: ذلك لكن الآية تدل على أن مخالف أمر واحد مأمور بالحذر عن العذاب أم مخالف كل أمر. والأول: مسلم. والثاني: ممنوع. وهذا لأن المفرد والمعرف لا يفيد العموم، ونحن نقول: بأن أمرًا واحدًا يفيد / (133/أ) الوجوب ولا يلزم منه أن يكون كل أمر مفيد له. سلمنا: إفادته عموم الأمر، لكن عموم أمر الله أو عموم أمر الرسول، لأن ضمير المفرد لا يرجع إلى المثني. فلم قلت: إن أمر الآخر وأمر كل آمر للوجوب؟. الجواب: قوله: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن مجرد امتثاله. قلنا: الدليل عليه: أن العبد إذا فعل ما أمره به سيده حسن أن يقال: إنه وافق أمر سيده وإن لم يعلم اعتقاده في أنه فعله على ذلك الوجه، وذلك يدل

على أنها عبارة عن مجرد الامتثال، إذ لو كان ما ذكروه من القيد معتبرًا فيها، لما حسن أن يقال: ذلك ما لم يعلم أنه هل فعله على ذلك الوجه أم لا. وبه خرج الجواب عن قوله: لم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن امتثاله على وجه يقتضيه من الندب أو الوجوب؟. وأما قوله: لم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون الأمر حقًا واجب القبول؟. فجوابه: إن ذلك ليس موافقة للأمر، بل هو موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حقًا واجب القول، لأن موافقة الشيء يقتضي تقرر مقتضاه، وكون الأمر حقًا واجب القبول ليس من مقتضي الأمر فلا يكون الاعتراف به موافقة للأمر. وأما الجواب: عن البعض فقد تقدم. وهو أنا لا نسلم إن المندوب مأمور به على الحقيقة. أما قوله: إن النص أمر بالحذر عن المخالف لا أمر للمخالف بالحذر. فجوابه من وجوه: أحدها: أن أحدًا من الأمة لم يفهم هذا المعني منه، بل كلهم فهموا منه

أن مخالف أمر الله ورسوله مأمور "منه" بالحذر عن أن تصيبه [فتنة أو يصيبه] عذاب، فلو كان ما ذكرتم من المعني مراد منه لكانت الأمة ذاهلين عن الحق مطبقين على غير المراد. وهو باطل، إذ في ذلك إجماعهم على الخطأ. وثانيها: أنه يلزم الإجمال على ما ذكرتم، لأن المأمور بالحذر عن المخالف غير متعين على ذلك التقدير، لأنه ليس في الآية ولا ما قبلها سوى ذكر المتسللين، وهم لا يصلحون أن يكونوا مأمورين بالحذر "عن المخالف لأنهم هم المخالفون فلو كانوا مأمورين بالحذر عن المخالف لكانوا مأمورين بالحذر" عن أنفسهم. وهو باطل لاستحالة أن يكون الإنسان مأمورًا بالحذر عن نفسه. وأما على تقدير أن يكون أمرًا للمخالف بالحذر لا يلزم هذا الإجمال، فكان حمل الآية عليه أولى دفعًا للإجمال. فإن قلت: لا نسلم أنه يلزم الإجمال، وهذا لأن المأمور وإن كان غير متعين بحسب دلالة / (133/ب) [اللفظ لا نسلم أنه يلزم الإجمال، وهذا لأن المأمور وإن كان غير متعين بحسب دلالة اللفظ، لكنه متعين بحسب دلالة] العقل وهو جميع المكلفين من المؤمنين، على رأي من لم ير أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، أو جميع المكلفين على رأي من يرى

ذلك. كما هو في التكاليف المطلقة. قلت: هب أنه كذلك، لكنه بطريق الاقتضاء والإضمار، وأنه خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لضرورة. وثالثها: أن الفعل على ما ذكرتم من المعني يكون مسندًا إلى المفعول في اللفظ، وإن كان مسندًا إلى الفاعل في المعني، وعلى ما ذكرنا يكون مسندًا إلى الفاعل في اللفظ والمعني، فكان أولى لاتفاقهم على أن ذكر الفاعل أولى من ذكر المفعول. ورابعها: أن الفاعل والمفعول كليهما مذكوران على تقدير أن تكون الآية أمرًا للمخالف بالحذر، أما على تقدير أن تكون أمرًا بالحذر عن المخالف يكون المفعول مذكورًا دون الفاعل وكان الأول أولى. قوله: الآية أمر للمخالف عن الأمر لا لمخالف الأمر، وهما ليسا بمعني واحد، وإلا لزم أن تكون كلمة "عن" زائدة لا فائدة فيها. قلنا: لا نسلم أنهما ليسا بمعني واحد، بل هما بمعني واحد لكن البعد والمجاورة في قوله: {يخالفون عن أمره} مدلول عليه بطريق المطابقة وهو في قولنا: يخالفون أمره. بطريق الالتزام، لأن مخالفة الأمر يستلزم بعدًا

عن الأمر فلا يلزم من دلالتهما على معني واحد، أن تكون كلمة "عن" زائدة لا فائدة فيها، لأن كون المعني معبرًا عنه بطريق المطابقة فائدة زائدة لكن في اعتبار الدلالة لا في مدلوله. قوله: الآية تدل على أن لمخالف أمر واحد يستحق العذاب لا مخالفة كل أمر. فلم قلت: إن مخالف كل أمر يستحقه؟. قلت: لأنها تدل على أن مخالف كل أمر مأمور بالحذر عن العذاب، بدليل صحة استثناء كل واحد من أنواع المخالفات عنها. والاستثناء من الكلام: ما لولاه لدخل فيه، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيعم الحكم لعموم علته ونحن لا نسلم أن المفرد المعرف سواء كان باللام أو بالإضافة لا يفيد العموم. سلمنا: أنها لا تفيد العموم، لكن لما سلمتم أنها تفيد أن مخالف أمر واحد يستحق العذاب فقد حصل الغرض، لأنه يلزم منه أن مخالف كل أمر يستحقه إذ لا قائل بالفصل، وبه خرج الجواب عن السؤال الأخير أيضًا. ورابعها: التمسك بقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون}. ووجه التمسك به: هو أنه تعالى ذم أقوامًا على ترك ما قيل لهم: افعلوا، إذ الآية لسياقها تدل على الذم فلو لم يكن الأمر للوجوب لما حسن ذلك، كما في تركه المندوب / (134/أ) واستحقاق الويل بسبب التكذيب، لو سلم

أن المكذبين هم الذين تركوا الركوع لا ينافي استحقاق الذم بسبب ترك الركوع، إذ الكفار عندنا مخاطبون بفروع الإسلام، كما هم مخاطبون به وإحالة الوجوب إلى قرينة الركوع أو غيرها خلاف الأصل، لأنه يوجب التعارض أو التجوز وهما على خلاف الأصل. وخامسها: قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم}. وقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا}. ووجه الاستدلال به: هو [أن] تارك المأمور به يسمي عاصيًا بالنقل والاشتقاق والاستعمال. أما النقل: فظاهر. وأما الاشتقاق: فلأن بناء لفظة العصيان تدل على الامتناع قال عليه السلام: "لولا أنا نعصي الله لما عصانا" أي لم يمتنع من إجابتنا، والعصا إنما سمى عصا، لأنه يمتنع بها والجماعة إنما تسمى بالعصا، يقال: شققت

عصا المسلمين أي جماعتهم، لأنها تمتنع لكثرتها ويقال: هذا الخطب مستعصى على الكسر أي ممتنع، وكذا يقال: هذا الشعر والكلام مستعصى على الحفظ أي ممتنع وتارك المأمور "به" ممتنع عن فعله فيكون عاصيًا نظرًا إلى الاشتقاق. وأما الاستعمال فيدل عليه القرآن والشعر والعرف. أما القرآن، فكقوله تعالى: {أفعصيت أمري} {لا يعصون الله ما أمرهم} {لا أعصى لك أمرًا}. وأما الشعر فقول ابن المنذر:

أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ...... فأصبحت مسلوب الإمارة نادمًا وأما العرف: فلأن أهل اللسان يقولون: شائعًا ذائعًا لمن لم يمتثل الأمر، أمرتك فعصيتني، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فثبت أن تارك المأمور به يسمى عاصيًا، وأن العاصي يستحق النار، وأنه ضال بما ذكرنا من النصين، فيلزم أن يكون الأمر للوجوب، لأنه لا يجوز أن يوصف تارك ما جاز تركه بالضلالة، ولا هو مستحق النار وفاقًا. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: إن وصف تارك المأمور به بكونه عاصيًا حيث وصف به قرينة دالة على أن ذلك الأمر للوجوب؟ وهذا لأن العاصي اسم ذم بالاتفاق فلا يجوز أن يوصف تارك مطلق الأمر به، لأن مطلق الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب، وإلى أمر ندب. أما للإجماع، وأما لأنه لو لم يكن كذلك لزم التجوز وأنه خلاف الأصل وتارك المندوب لا يوصف باسم الذم اتفاقًا. سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن العاصي مطلقًا يستحق النار، وما ذكرتم من النصين فمختصان بالكفار (134/ب).

أما الأول: فلقرينة الخلود. وأما الثاني: فلقرينة الضلالة، فإن الضلالة عبارة عن الكفر، قال الله تعالى {إنهم ألفوا آبائهم ضالين} أي كافرين، وقال عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" أي على كفر.

....................................................................................

وإن سلمنا: أنها ليست عبارة عن الكفر لكنها ليست عبارة عن ترك واجب عملي، فإن تاركه لا يوصف بها، بل هي عبارة عن عدم الاهتداء إلى ما لابد من معرفته في الدين. قال الله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} وقال تعالى في قصة موسي: {فعلتها إذًا وأنا من الضالين}. وإذا كان كذلك فيحتمل العصيان في آية الضلالة على ترك معرفة ما لابد من معرفته في الدين أو على عدم اعتقاد حقيقة الأمر وعدم قبوله وحينئذ لا تكون الآية عامة في تارك المأمور به أيضًا.

قلت: الجواب عن الأول: فقد تقدم في الدليل الرابع: ونحن لا نسلم أن مطلق الأمر: ينقسم إلى أمر إيجاب وندب. وأما الإجماع: فممنوع كما تقدم. وأما لزوم التجوز فمشترك كما سنذكر. لا يقال: كما يلزم التجوز على تقدير أن يكون الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والمندوب واستعماله في الواجب لقرينه، فكذا يلزم التجوز على تقدير أن يكون الأمر للوجوب، لأنه استعمل في المندوب فلم كان هذا أولى من ذاك؟، لأنا نقول: هذا أولى من ذاك لوجوه: أحدها: أن على هذا التقدير لا يلزم إلا التجوز، وأما على ذلك التقدير يلزم التجوز والتخصيص، فإن قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} لا يبقي على عمومه ومعلوم أن المجاز وحده خير من المجاز والتخصيص. وثانيها: أنا لو جعلناه حقيقة في الواجب فقط، كان مجازًا في المندوب وفي القدر المشترك بينهما ويكون إطلاقه على القدر المشترك من باب إطلاق اسم الكل على الجزء. وأما لو جعلناه حقيقة في القدر المشترك لم يكن إطلاقه لا على الواجب ولا على المندوب من هذا أحيل بل يكون من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وقد سبق أن الأول أولى.

وثالثها: الاحتياط يقتضي جعله حقيقة في الواجب، ومجازًا في غيره من غير عكس فكان أولى. وعن الثاني: أن الخلود هو المكث الطويل لا الدائم، فلا يكون قرينة دالة على اختصاص الوعيد بالكفار، ولا نسلم أن تارك واجب عملي لا يوصف بالضلالة، وكيف يقال: ذلك؟. وقد ورد: "من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر".

سلمنا: ذلك لكن الآية دالة على ترتيب الضلالة على ترك المأمور به عملي، وإنما يكون / (135/أ) تركه ضلالة إن لو كان واجبًا، فإن تارك المندوب سواء كان عمليًا أو علميًا لا يوصف به وفاقًا، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الأمر للوجوب مطلقًا وإلا لزم الفصل بين المأمور به العلمي والعملي في الوجوب وعدمه، وهو خلاف الإجماع. وسادسها: التمسك بقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة}. ووجه الاستدلال به من وجهين: أحدها: أنها نزلت في قوم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يزوجوا من أسامة بن زيد، فلم يفعلوا [و] ذلك يدل على انتفاء الخبرة عن أمره عليه السلام، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما انتفت الخيرة عنهم عن أمر.

ونحن وإن قلنا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن لا خلاف أن دلالته على السبب أقوى من دلالته على غيره. وثانيها: أن يستدل [به] باعتبار اللفظ. فنقول: إن القضاء هو الحكم بالنقل والاستعمال. أما النقل: فظاهر، فإن الجوهري ذكر ذلك في صحاحه وغيره. وأما الاستعمال فقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} أي حكم. ويقال: قضى القاضي بكذا أي حكم. والأمر: هو القول المخصوص، لأنه حقيقة فيه على ما تقدم تقريره، فيجب حمله عليه، إذ لا ضرورة في صرفه عنه فمعني قوله تعالى: {إذا قضى الله ورسوله أمرًا} أي إذا حكم الله ورسوله أمرًا، وحكم الأمر هو تعيينه وتوجيهه وإصداره نحو المكلف شاء أو أبي، إذ لا يعقل لحكم الأمر معنى سوى هذا.

ثم ليس هذا المعنى مغنيًا عن الحكم بطريق التجوز ليقال: ليس حمل الحكم على هذا المعني بطريق التجوز أولى من حمل الأمر على الشيء بطريق التجوز، لأن الحكم إذا أضيف إلى القول الصادر من الحاكم كان معناه ما ذكرنا، وإذا أضيف إلى القول الصادر من المحكوم عليه، كان معناه أنه وجه نحوه وألزم به إصداره عنه، كما إذا أضيف إلى الفعل من الجانبين، وحينئذ يصير معنى الآية إذا وجه الله ورسوله أمرًا إلى المكلفين، فإنه لا خيرة لهم في ذلك الأمر، وإنما أضاف الأمر إليهم، لأنه تخصيص لهم، والمصدر كما يضاف إلى الفاعل، يضاف إلى المفعول أيضًا، ولا حاجة إلى صرف الأمر الثاني إلى المأمور به لما قيل: بأنه لو حمل على حقيقته، وهو القول المخصوص لصار معنى الآية أنه لا خيرة للمأمورين في صفة الله تعالى، وذلك كلام غير مفيد. ولما قيل: بأن الخيرة إنما تتعلق بالفعل لا بالخطاب المكلف، لأنا لا نسلم أن انتفاء / (135/ب) الخيرة عن الأمر معناه ما ذكر، ولا نسلم بأن الخيرة إنما تتعلق "بالفعل لا بالخطاب"، وهذا لأن انتفاء الخيرة عن الأمر، معناه أنه لابد من امتثاله، وليس هو مخير بين امتثاله وعدم امتثاله، وهذا المعني معقول في نفس الأمر فلا حاجة إلى صرفه إلى المأمور به، وأيضًا فإنه يرد على ذلك التقدير أن يقال: إن الذهن يتبادر إلى اتحاد معني الأمرين، فإذا كان المراد من الأمر الثاني: هو المأمور به، وجب أن يكون هو المراد بعينه من الأمر الأول، وإن كان مجازًا فيه، وإذا انتفت الخيرة عن الأمر بالمعني المتقدم ذكره تعين أن يكون للوجوب وهو المطلوب، وبما ذكرنا من تفسير القضاء والحكم، يعرف سقوط الاعتراض الذي نذكر في هذا المقام. وهو أنا نسلم أن الله تعالى ورسوله إذا قضى أمرًا يكون الأمر ملزمًا. فلم قلت: إن مجرد الأمر يكون ملزمًا؟. والنزاع إنما هو فيه بل ظاهر

مفهومه أن لا يكون بمجرده ملزمًا. وسابعها: التمسك بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت} أي: أمرت هكذا نقل عن أئمة التفسير، ويشهده القضية التي نزلت الآية فيها، فإنه لم يوجد في تلك الصور سوى الأمر، ولو كان الأمر بغير الوجوب لما كان كذلك. ولقائل أن يقول: ولو كان الأمر للوجوب لما كان أيضًا كذلك، لأن بترك الواجب لا يتحقق عدم الإيمان، وليس من شرط المأمور به الواجب أن لا يجد المكلف فيه من نفسه حرجًا، وإذا لم يستقم معناه على تقدير أن يكون الأمر للوجوب أيضًا، فيجب صرفه إلى عدم اعتقاد حقيقة الأمر واعتقاد عدم توجهه إلى المكلف، هذا لو سلم أن القضاء بمعني الأمر، وإلا فالاستدلال به ساقط بالكلية. وهو الحق في أن الأمر كان في معرض الحكم بدليل التنازع والترافع إليه عليه السلام.

وثامنها: التمسك بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم}. ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم منه الوجوب، وكذا الصحابة رضوان الله عليهم إذ روى أنه عليه السلام دعا أبا سعيد فلم يجبه، لأنه كان في الصلاة فقال له عليه السلام: "ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قول الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} ".

فقوله: ما منعك. ليس استفهامًا عن العذر إذ الصلاة عذر في ترك كلام غير واجب دون الكلام الواجب. ألا ترى أن / (136/أ) المصلي لو رأي أعمي مشرفًا على الهلاك بسبب وقوعه في حفرة، فإنه يجب على المصلى أن ينبهه "عليه" [بكل] كلام، إذا لم يمكنه صرفه عنها بفعل لبعده عنه ولا يفسد به صلاته على الأظهر. فيتعين أن يكون ذمًا وتوبيخًا، ثم لم يعتذر أبو سعيد رضي الله

عنه بأني أعلم أن الله تعالى أمرني بالاستجابة، لكن لم أعلم بأنه أوجب على حتى أعلم أن الصلاة ليست عذرًا بالنسبة إلى استجابة الله تعالى والرسول، وكذا غيره من الصحابة سلموا ذم النبي عليه السلام وتوبيخه إياه، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه استفهم عنه عليه السلام عن سببه مع جريان عادتهم وعادات غيرهم الاستفهام عن الأسباب الخفية الأحكام، فثبت بما ذكرنا أنه عليه السلام فهم منه الوجوب وليس له في الآية سبب ظاهر سوى الأمر فوجب أن يكون هو السبب فيكون الأمر للوجوب. فإن قلت: لا نسلم أنه ليس للوجوب سبب ظاهر سوى الأمر، فإن كون الإجابة تعظيمًا لله وللرسول، والإعراض عنها تحقيرًا وإهانة لله وللرسول قرينة ظاهرة تقتضي حمل الأمر على الوجوب، وكذا قوله: {إذا دعاكم لما يحييكم} قرينة مقتضية له. قلت: الجواب عن الأول: أن ما ذكرتم من القرينة حاصلة في كل أمر لله والرسول فيجب أن يكون كل أمرًا لله والرسول للوجوب، وإذا ثبت أن "كل" أمرهما كذلك، وجب أن يكون أمر غيرهما أيضًا للوجوب، إذ لا يقال بالفصل.

وعن الثاني: أن أبا سعيد لم يستفهم أن دعاه عليه السلام لماذا كان ألما يحيي أم لا؟ فإن جميع أوامر النبي [عليه السلام] لما يحيي وبتقدير أن يكون كذلك، كان الجواب لازمًا له، فيكون المقصود حاصلاً لما تقدم وكذا النبي عليه السلام لم يبين له ذلك، ولو كان الواجب مستفادًا من قرينة لما يحيي لما استحق الذم إلا بعد العلم لما لأجله الدعاء. وتاسعها: ما روى عنه عليه السلام أنه قال لبريرة: لما اختارت فراق زوجها حين عتقت في نكاحه: "لو راجعتيه فإنه أبو أولادك"، فقالت: أتأمرني بذلك يا رسول الله، فقال: "لا إنما أنا شافع". فقالت: لا حاجة لي. ووجه الاستدلال به: أنه عليه السلام نفي الأمر مطلقًا وأثبت الشفاعة الدالة على الندبية، فلو لم يكن الأمر للوجوب فقط لما صح هذا. فإن قلت: لا نسلم أنه لو لم يكن الأمر للوجوب لما صح نفي الأمر وإثبات الشفاعة، وهذا لأنه يجوز أن يكون سؤالها عن الأمر طلبًا للثواب لطاعته وهو يحصل بفعل / (136/ب) المندوب، كما يحصل بفعل الواجب، لكن لما لم يكن في هذا الفعل ثواب لا جرم نفي الأمر عليه السلام، ويجوز أنه عليه السلام إنما شفع فيه لمصلحة دنياوية، ويؤيده قوله عليه السلام: "فإنه أبو أولادك" وحينئذ لم يكن ذلك دالاً على أن الأمر للوجوب.

سلمنا: أن شفاعته تدل على ندبيته، لكن لم لا يجوز أن يقال: إن قرينة الاستفهام دالة على أنها أرادت بقولها: (أتأمرني بذلك) أمر الوجوب؟، لأن على تقدير أن يكون المندوب مأمورًا به والشفاعة مندوبة، يكون هذا الاستفهام قرينة دالة على أنها أرادت به أمر الوجوب. فإن بنوا هذا على أن المندوب غير مأمور به، فهو أول المسألة. قلت: الجواب عن الأول: أن إجابة شفاعة النبي عليه السلام، وإن كانت لمصلحة دنياوية مندوبة، لما فيه من تعظيمه عليه السلام، وتفريح قلبه، فلا يجوز أن يكون سؤالها عن الأمر طلبًا للثواب، ولو قدر أنه التبس عليها هذا القدر لكن لا يجوز لبسه على الرسول عليه السلام، فنفيه الأمر مطلقًا، يدل على أنه عليه السلام علم أن الأمر للوجوب، وإلا كان من حقه أن يسأل أتسألني عن أمر الندب أو أمر الوجوب ثم ينفيه لو قالت: أمر الوجوب. وعن الثاني: أن استفادة المعاني من القرائن خلاف الأصل. وعاشرها: قوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

وكلمة لولا تقتضي انتفاء الشيء لوجود غيره، فالحديث يقتضي انتفاء الأمر بالسواك عند كل صلاة لوجود المشقة، لكنه مندوب بالإجماع عند كل صلاة مع وجود المشقة، فالمندوب غير مأمور به. فإن قلت: ليس كل مندوب مأمورًا به، وهذا لأن المأمور به هو الذي ورد فيه صيغة الأمر، وندبية الشيء قد تثبت بغير صيغة الأمر. مثل أن يقال: "الأولي لك أن تفعل"، وهذا الفعل مندوب إليه، وقد ندبتك إليه، وقد ثبت بقاعدة القياس، وحينئذ لا يلزم من ندبيته وعدم كونه مأمورًا به أن يكون كل مندوب غير مأمور به، بل غايته أنه يقتضي أن لا يكون بعض المندوب مأمورًا به، ونحن نقول به "فإن ما ثبت ندبيته بغير صيغة الأمر، فإنه غير مأمور به عندنا أيضًا.

سلمنا: أنه يقتضي أن كل مندوب غير مأمور به، لكن لقرينة المشقة فإنها دالة على أنه عليه السلام أراد بالأمر أمر الوجوب، لأن المشقة لا تكون إلا في الواجب ضرورة أن المندوب لا مشقة فيه، لأنه مفوض إلى خيرة المكلف ولا يبعد حمل الأمر على / (137/أ) الوجوب لقرينة. قلت: الجواب عن الأول: أنه ليس المراد من قوله عليه السلام: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أي: أصدرت فيه صيغة الأمر سواء كان للوجوب أو ليس له، لأن على تقدير إن لم يكن الأمر للوجوب فإنه لا تتحقق المشقة بمجرد ورود صيغة الأمر وكلمة "لولا" في الحديث تقتضي انتفاء الأمر لوجود المشقة، وهو إنما يكون لو كان الأمر سببًا للمشقة فالمراد منه: نفي الأمر الموجب للمشقة وهو أمر الوجوب. وعن الثاني من وجهين: أحدهما: ما سبق. وثانيهما: أن كلمة "لولا" دخلت على مطلق الأمر، فيجب انتفاؤه مطلقًا، فلو كان المندوب مأمورًا به لزم التقييد وأنه خلاف الأصل. وحادي عشرها: أن الصحابة أجمعوا على أن الأمر للوجوب، بل الأمة بأسرها في كل عصر توجب أن يكون للوجوب وإلا لزم أن يكون إجماعهم خطأ وهو ممتنع. بيان الأول: أن بعضهم تمسك بالأمر على الوجوب، ولم ينكر عليه الباقون فكان إجماعًا لما سيأتي في الإجماع، إن الإجماع السكوتي حجة.

وإنما قلنا: إن بعضهم تمسك بالأمر على الوجوب. روى أن أبا بكر رضي الله عنه تمسك في قتال مانعي الزكاة بقوله تعالى: {وآتوا الزكاة}. وروى عن عمر رضي الله عنه أنه تمسك في وجوب أخذ الجزية عن

المجوس بقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".

وروي عن جماعة منهم أنهم أوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا للحديث المشهور.

وكذا عرف من مذهب جميعهم أو أكثرهم: أنهم أوجبوا قضاء الصلاة عند ذكرها بقوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها".

وكذا أوجبوا البداية بالصفا بقوله: "ابدأوا بما بدأ الله تعالى". وكذا رجعوا في وجوب الإمساك إلى قوله عليه السلام: "إلا من أكل فليمسك بقية نهاره ومن لم يأكل فليصم". وكذا الأمة في كل عصر تفزع في وجوب الأشياء، إلى أوامر الله تعالى وأوامر رسوله. إذ قل ما ثبت وجوب الأشياء من العبادات وغيره بصريح قوله: أوجبت، وحتمت، وفرضت، بل أكثرها بصيغ الأوامر، وإحالته إلى القرائن على خلاف الأصل على ما عرفت من قبل. وأما بيان أنه لم ينكر عليه الباقون: فلأنه لو أنكر عليه لظهر واشتهر على ما ستعرف تقرير هذه القاعدة في الإجماع والأخبار.

وأما بيان الثاني: فظاهر. وأما الثالث: فسيأتي إن شاء الله تعالى أن الإجماع حجة. فإن قلت: كما اعتقدوا الوجوب عندما ذكرتم ما / (137/ب) ذكرتم من الأوامر، فكذا لم يعتقدوا في غيرها من الأوامر، نحو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. ونحو قوله تعالى: {واشهدوا إذا تبايعتم}. وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم} وقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا}. وقوله: {وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [وقوله]: {وأحسنوا}. وقوله: {فانتشروا في الأرض}. وأمثالها من الكتاب والسنة ما لا يعد ولا يحصى، وإذا كان كذلك، فليس القول: بأنهم لم يعتقدوا الوجوب في هذه الأوامر لقرائن تدل على

الندب، أولى من القول: بأنهم اعتقدوا الوجوب في تلك الأوامر لقرائن تدل على الوجوب، وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون، ثم إنه معنا لأنا لو أثبتنا الوجوب في تلك الأوامر لقرائن تدل عليه لكنا أثبتنا حكمًا زائدًا على مدلول اللفظ بدليل زائد لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا إثبات، ولو أثبتناه بتلك الأوامر لزم التعارض فيما ذكرنا من الأوامر المحمولة على الندب بين تلك الأوامر وبين القرائن الدالة على الندب، وإنه خلاف الأصل. قلت: القول: بأنهم اعتقدوا الندب فيما ذكرتم من الأوامر لقرائن تدل عليه، أولى من العكس. ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الوجوب لو لم يكن مستفادًا من تلك الأوامر، لكان دليل وجوب أخذ الجزية من المجوس مثلاً شيئًا غير خبر عبد الرحمن رضي الله عنه، ولو كان كذلك لوجب اشتهاره، إذ العادة تحيل إخفاء مثل هذا لاسيما في هذه الصورة، إذ روى أن عمر رضي الله عنه كان شديد الاهتمام في حقهم، وكان يشاور الصحابة في أمرهم فلم يجد من أحد منهم في حقهم شيئًا، وكان يقول: ما أدرى ما أفعل بهم حتى روى لهم عبد الرحمن الخبر، فحينئذ ضرب عليهم الجزية فهذا يفيد قطعًا بأنه لم يكن له مستند سوى ذلك الخبر، فإن القول: بأنه أثبت ذلك الحكم لا عن دليل باطل قطعًا.

وثانيها: أنا لو جعلنا الوجوب "مستفادًا" من الأمر لكان الأمر حقيقة فيه، وحينئذ يكون استعماله في القدر المشترك استعمال لفظ الكل في الجزء، ولو جعلنا الوجوب مستفادًا من القرائن، وجعلناه حقيقة في القدر المشترك لكان ذلك استعمالاً للفظ الجزء في الكل وقد تقدم أن الأول أولى. وثالثها: طريقة الاحتياط. وثاني عشرها: أن الوجوب معني من المعاني تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فوجب أن يكون [له] لفظ لما سبق في اللغات، ثم ذلك اللفظ يجب أن يكون مفردًا، لأنه أخف على اللسان من المركب، والواضح حكيم والحكيم إذا كان لحصول مقصوده طريقان اختار أيسرهما، فيغلب على الظن أنه وضع له لفظًا مفردًا، كما في سائر المعاني التي تشتد الحاجة إلى التعبير عنها، وليس هو غير "افعل" إجماعًا، فهو هو إذًا. ولو عورض هذا بمثله بالنسبة إلى الندب، وبالنسبة إلى القدر المشترك بينه وبين الواجب، وبالنسبة إلى كونه مشتركًا بين الواجب والندب، لأن تعبير أحدهما على سبيل الإبهام مما تمس الحاجة إليه أيضًا، فنحن نرجح جانب الوجوب. أما بالنسبة إلى الندب فلأن الندب يجوز الإخلال به، والواجب لا يجوز الإخلال به، والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما

لا يجوز الإخلال به، لكون الحاجة إليه أكثر. وأما بالنسبة على القدر المشترك، فهذا لأن البراءة الأصلية مجوزة للترك، وإن لم يكن للفظ به إشعار لما سبق غير مرة. وأما بالنسبة إلى كونه مشتركًا بين الواجب وبين الندب، فلأن الاشتراك على خلاف الأصل. فإن قلت: ما ذكرتم من الدليل منقوض، بأصناف الروائح وأنواع الاعتمادات وبالساعات وبالحال والاستقبال، فإن هذه المعاني مما تمس الحاجة إلى التعبير عنها مع أنه لم يوضع لكل واحد منها لفظ مفرد. ومعارض أيضًا: بما أنه لو كان لفظ "افعل" موضوعًا للوجوب لوجب أن يشتهر بحيث يعرفه كل أحد، كسائر الألفاظ الموضوعة للمعاني التي تشتد الحاجة إلى التعبير عنها، ولو كان كذلك لزال الخلاف عنه، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير موضوع له. قلت: الجواب عن النقوض: أن الحاجة إلى الوجوب أكثر من الحاجة إلى ما ذكرتم من المعاني، لأنه لا غني للإنسان عنه في حياته لاحتياجه إلى ما لا يجوز الإخلال به على سبيل التكرار، بخلاف ما ذكرتم من المعاني، فإن الحاجة غليه [غير] ضرورية ألبتة، فضلاً عن أن يكون على سبيل التكرار. وعن المعارضة: "له" أن الاشتهار إنما يجب لو سلم عن المعارض

الشديد الالتباس به، أما إذا كان له معارض بحيث لا يظهر الفرق بينه وبين معارضة الأعلى وجه غامض فلا. وثالث عشرها: أن السيد إذا عاقب عبده على ترك ما أمره به سيده، فإن العقلاء من أهل اللسان لا يلومونه على ذلك، بل يستحسنون ذلك منه ويذمون العبد ويوبخونه على الترك، فلو لم يكن الأمر للوجوب لما كان كذلك. فإن قلت: لا نسلم أنهم يذمونه مطلقًا، ويستحسنون فعله كذلك بل حيث عرفوا قرينة دالة على / (138/ب) أن الأمر للوجوب، ولهذا يحسن من العبد أن يقول له: عقيب أمره له، أتريد هذا حتمًا أو تجوز لي تركه؟. ولو كان الأمر للوجوب فقط لما حسن هذا الاستفهام. سلمنا: ذلك لكن إنما كان كذلك، لأن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد للسيد، ولهذا لو كان المأمور به معصية لا يذمونه على تركها، لأن الشريعة ما جاءت بوجوب امتثال أمره فيها. سلمنا: صحة دليلكم لكنه معارض بما أنه لو كان مجرد ترك المأمور به سببًا للذم، لوجب الذم بترك المندوب المأمور به ضرورة أنه ترك للمأمور به. قلت: الجواب عن الأول: أنهم يذمونه مطلقًا ويستحسنون فعله كذلك والدليل عليه أنهم لو سئلوا عن ذلك، فإنهم يعللونه بعدم

امتثال أمر سيده ولم يزيدوا عليه شيئًا، فلو كان الوجوب مستفادًا من القرائن لما استحق هذا التعليل، بل كان ينبغي أن يقولوا: إنه أمره بقرينة دالة على الوجوب فلم يمتثل أمره، ولما لم يفعلوا هذا بل يعللون بمطلق ترك المأمور به علمنا أنه هو المنشأ لحسن ذمة ولتحسين عقابه. وأما قوله: يحسن من العبد أن يستفهم من السيد أنه أمر وجوب أوامر ندب، ولو كان للوجوب فقط لما صح هذا. قلنا: لا نسلم أنه لا يصح هذا الاستفهام على تقدير أنه للوجوب فقط، وهذا لأنه قد يستفهم عن مدلول اللفظ دفعًا للمجاز عنه لاسيما إذا كان كثير الاستعمال في المجاز، وستعرف ذلك في باب العموم إن شاء الله تعالى. وعن الثاني: أن الشريعة إنما جاءت بوجوب طاعته لسيده فيما أوجب عليه سيده لا فيما ندبه إليه، ألا ترى أنه لو قال له: ندبتك إلى هذا لأمر، أو أولى لك أن تفعله؟ ويجوز لك أن تتركه، فإنه لا يجب عليه امتثاله، وأما أنه لا يجب عليه الامتثال إذا كان المأمور به معصية فذلك لا يدل على أنه إنما يذم، لأن الشريعة جاءت بوجوب طاعته مطلقًا. وعن الثالث: بمنع الملازمة، وهذا لأن المندوب غير مأمور به على طريق الحقيقة عندنا. ورابع عشرها: لو لم يكن الأمر للوجوب فقط لكان، إما أن يكون حقيقة فيه وفي غيره، أو يكون حقيقة في غيره فقط، أو لا يكون حقيقة فيه ولا في غيره، واللوازم بأسرها باطلة فالملزوم أيضًا كذلك.

أما الأول: فلاقتضائه كون الأمر مشتركًا وقد عرفت أنه خلاف الأصل. وأما الثاني: فيقول ذلك الغير: إما الندب أو القدر المشترك بينه وبين الواجب، إذ الكلام فيه بعد إبطال كونه حقيقة في الإباحة والتهديد وغيرهما لكنهما باطلان / (139/أ). أما الأول: فلأنه لو كان حقيقة في الندب لما كان الواجب مأمورًا به لما أن جواز الترك معتبر في الندب، وهو غير معتبر في الواجب، بل هو مناف له فالجمع بينهما ممتنع لكنه مأمور به بالإجماع، فيمتنع أن يكون حقيقة في الندب ولا يعارض هذا بمثله، لأنه لا يمكن نفي اللازم بالإجماع، لأن كثيرًا ممن قالوا: الأمر للوجوب فقط صرحوا بأن المندوب غير مأمور به، ولم يقل أحد من الأمة: إن الواجب غير مأمور به. فإن قلت: قولك: بأن كثيرًا ممن قالوا: الأمر للوجوب فقط صرحوا بأن المندوب غير مأمور به، مؤذن بأن بعضهم قالوا: إنه مأمور به أيضًا. فما وجه قولهم؟ فإن الدليل المذكور في الملازمة يقتضي ما قاله الكثيرون. قلت: نعم بعض من قال: الأمر للوجوب فقط. قال: إن المندوب مأمور به أيضًا وكان الأمر عندهم للوجوب فقط، لكن شرط عريانه عن قرينة صارفة عنه، أما إذا كان معه قرينة صارفة عنه فليس هو له، بل هو لما تدل عليه القرينة، وهو قريب من الخلاف في أن المجاز له وجوب أم لا، وفي أن العام المخصوص هل هو حقيقة في الباقي أم لا؟. وأما الثاني: وهو أن يكون حقيقة في الغير وذلك الغير هو القدر المشترك

بين الواجب والمندوب، فهو أيضًا باطل، لأنا لو جعلناه حقيقة فيه لم يكن استعماله في الوجوب بطريق التجوز لكونه غير لازم له، وبتقدير إمكانه فإن عكسه أولى، لأن على هذا التقدير يكون مجازًا من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، وعلى ذلك التقدير يكون مجازًا من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وقد عرفت أن الأول ومع وجود الاحتمال الراجح لا يجوز العمل بالمرجوح، ولا نعني بكونه باطلاً سوى هذين. وأما الاحتمال الثالث: من الاحتمالات الثلاثة الأول: فهو أيضًا باطل، وذلك بالإجماع فيتعين أن يكون الأمر للوجوب. وخامس عشرها: الأمر بالفعل يفيد رجحان مصلحته على مصلحة الترك، فوجب أن يكون مانعًا منه. وإنما قلنا: إنه يفيد رجحان مصلحة الفعل على مصلحة الترك، لأن مصلحة الفعل لو لم تكن راجحة على مصلحة الترك لكانت إما أن تكون مساوية أو مرجوحة، أو يكون الفعل خاليًا عن المصلحة بالكلية، والأقسام الثلاثة باطلة. أما الأول: فلما أن الأمر به حينئذ ليس أولى من النهي عنه فيكون الأمر به عيبًا وهو على الحكيم محال. وأما الثاني: فلما أن الأمر به حينئذ يكون أمرًا فيه بالمفسدة الراجحة وأمرًا بما يتضمن الإخلال بالمصلحة الراجحة، وهو قبيح عرفًا. وأما الثالث: فظاهر قبحه. وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أن الأمر بالفعل يفيد / (139/ب) رجحان مصلحته على مصلحة الترك، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعًا

منه وإلا لزم الإذن في تفويت المصلحة الراجحة وأنه قبيح عرفًا يوجب أن يكون قبيحًا شرعًا، لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح". مقتضي هذه الدلالة أن لا يوجد شيء من المندوبات، لكن ترك العمل به في المندوبات المتفق عليها للإجماع فوجب أن يبقي معمولاً به فيما عداها بالأصل، إذ الأصل إعمال الدليل بقدر الإمكان لا إهماله. واعلم أن هذا الدليل مبني على وجوب تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح فلا يستقيم على رأي أصحابنا، فلا يكون حجة على من أنكر منهم كون الأمر للوجوب، وإنما هو حجة على المعتزلة المنكرين كون الأمر للوجوب. وسادس عشرها: لا نزاع بيننا وبين الخصوم أن الأمر يدل على رجحان جانب الوجود على العدم، إذ الكلام فيه بعد إبطال كونه حقيقة في الإباحة والتهديد على ما تقدم بيانه. فنقول: رجحان جانب الوجود على العدم لا ينفك عن قيدين وهو: إما المنع من الترك. [أو الإذن فيه، ولا شك أن في الترك أفضى إلى الترك من إفضائه إلى الوجود، والمنع من الترك] أفضى إلى الوجود من إفضائه إلى العدم. وقد ثبت أن جانب الوجود راجح على جانب العدم، ولا شك أن ما يكون أفضى إلى الراجح فهو راجح في الظن على ما يكون أفضى إلى المرجوح، فإذا شرعية المنع من الترك راجح في الظن على شرعية الإذن فيه،

والراجح في الظن واجب العمل به، لقوله عليه السلام: "اقضي بالظاهر" وقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولي السرائر". فإن هذا بيان ما يجب أن يحكم به، ولأن العمل بالراجح واجب في عدة من الصور كالفتوى، والشهادات، وقيم المتلفات وتعيين جهة القبلة، فوجب أن يجب ها هنا أيضًا. والجامع بينهما هو أنه ترجيح للراجح، ولأن تجويز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح تجويز لوجود المرجوح من غير مرجح وأنه باطل بالضرورة. واعلم أن هذا الدليل يقتضي أن العمل بالأمر واجب، ولا يقتضي كونه للوجوب علمًا واعتقادًا، وبعض الخصوم ربما يقول به، فإنه روى عن الإمام الزاهد أبي منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى -، أن حكم الأمر عنده إنما هو وجوب العمل به ظاهرًا لا قطعًا، والاعتقاد على سبيل الإبهام أن ما أراد الله تعالى به من واجب أو ندب فهو حق. وقال: لأن الأمر للطلب المطلق الذي هو قدر مشترك بين الواجب والندب، وأنه بإطلاقه يحتمل الوجوب والندب، ومع الاحتمال كيف يمكن القطع بأنه للوجوب، ولكن نحكم بالوجوب ظاهرًا في حق العمل احتياطيًا دون الاعتقاد. وسابع عشرها: طريقة الاحتياط. وتقريرها أن حمله على الوجوب / (140/أ) يوجب القطع لعدم مخالفة الأمر، لأنه إن أراد به الوجوب فظاهر، وإن أراد به الندب فحمله على الوجوب سعى في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه، ومعلوم أن ذلك يفيد القطع بعدم مخالفته فيما يتعلق بفعله، وأما حمله على الندب لا يوجب هذا القطع، لأنه إن أراد به

الواجب وأنت تحمله على الندب فحينئذ جوزت تركه فجاز أن يترك فحينئذ تتحقق المخالفة. فثبت بهذا أن حمله على الوجوب يفيد القطع لعدم مخالفة الأمر، وحمله على الندب لا يوجب ذلك، وإذا كان كذلك وجب حمله على الوجوب لقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ولأن [ترجيح] سلوك طريق الأمن على المخوف من مقتضيات العقول. وأما المحذور الناشئ من الاعتقاد الغير المطابق عندما يحمل على الوجوب، بتقدير أن يكون المراد منه الندب فمشترك فلا يكون ذلك مانعًا من حمله على الوجوب. لا يقال: لا نسلم أن حمله على الندب لا يفيد القطع لعدم مخالفة الأمر بل يفيده، وهذا لأنا لما علمنا أن الأمر للندب، وعلمنا أن المتكلم به لا يجوز أن يريد به الوجوب عندما يكون مجردًا عن القرينة، فحمله على الندب عند ذلك يوجب القطع لعدم مخالفة الأمر أيضًا. لأنا نقول: لا نزاع فيما ذكرتم لكنا نقول: قبل العلم يكون الأمر للندب فقط، أو للوجوب فقط، أو لهما معًا، إما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي، لو حمل على الوجوب أفاد القطع لعدم مخالفة الأمر، ولو حمل على الندب لم يفد ذلك، فكان الحمل على الوجوب واجبًا لما ذكرنا من النص. والمعقول.

وأما دعوى كونه للندب فهي معارضة: بمثلها من الدعوى، ولو أقام عليه الدلالة فهو إشارة إلى المعارضة، وهذا الدليل إنما يفيد كونه للوجوب عملاً لا علمًا واعتقادًا. وثامن عشرها: أن الأمر دال على طلب الفعل، فوجب أن يكون مانعًا من نقيضه كالخبر، والجامع بينهما تكميل الغرض ويقويه حصوله، وهذا لأن بتقدير أن يكون مانعًا من النقيض حصل الغرض بكماله وتمامه ولا كذلك إذا لم يكن مانعًا. فإن قلت: إنه قياس في اللغة وأنه ممنوع، سلمنا صحته لكنه منقوض بأمر الندب، فإنه للطلب مع أنه غير مانع من النقيض. قلت: نعم لكن قد دللنا على صحته. وعن الثاني: أنه لا يلزم من مخالفة الدليل لدليل مخالفته من غير دليل. أجاب بعضهم: عن هذا. يجب أن يعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه مخالفته في المندوب. وهو ضعيف جدًا، لأنه يقتضي أن لا يكون شيء من الدليل دليلاً إذا خولف الدليل. وتاسع عشرها: أن الأمر / (140/ب) ضد النهي، والنهي يقتضي ترك الفعل جزمًا فالأمر يجب أن يكون مقتضيًا للفعل جزمًا. وهو ضعيف. أما أولاً: فلأنه قياس خال عن الجامع.

وأما ثانيًا: فلأن الخلاف في كون النهي يقتضي التحريم أم لا؟ كالخلاف في كون الأمر يقتضي الوجوب أم لا؟ فلا يقاس عليه، إذ الحكم فيه حينئذ غير مسلم. الوجه العشرون: الأمر بالشيء نهي عن تركه قطعًا، فيكون الترك منهيًا عنه، فيكون محرمًا بناء على أن النهي يقتضي التحريم، وإذا كان الترك محرمًا يكون الفعل واجبًا قطعًا. وهو أيضًا ضعيف. أما أولاً: فلما سبق، وأما ثانيًا: فلأنا وإن سلمنا أن مقتضي النهي التحريم، لكن الأمر بالشيء إنما يقتضي نهي تركه على حسب ما يقتضيه الأمر، فإن كان الأمر يقتضي الوجوب اقتضى نهي تركه بمعني نهي التحريم "وإن كان يقتضي الندب اقتضى نهي تركه بمعني نهي التنزيه، فعلى هذا كون الأمر بالشيء يقتضي نهي تركه بمعني "نهي" التحريم" يتوقف على كون الأمر للوجوب، فلو توقف كون الأمر للوجوب على كون تركه محرمًا لزم الدور وأنه باطل. واحتج القائلون بالندب بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا".

وجه الأمر في صورة الأمر من غير حتم، بل فوضه إلى الاستطاعة فدل على أنه للندب، إذا لو كان للوجوب لجزم الأمر كما جزم الانتهاء. وجوابه: منع كون التفويض إلى الاستطاعة دليل عدم الوجوب، وهذا فإن كل واجب مقصود بالفعل كذلك. ثم نقول: دلالة ما ذكرتم من الحديث على الوجوب أظهر من دلالته على الندبية.

وتقريره أن نقول: لا يجوز أن يكون المراد من قوله عليه السلام: "فأتوا منهم ما استطعتم" الإتيان على وجه الأولوية مع جواز الترك، لأن الأمر الأول دل عليه بما عرفت غير مرة، فلو كان هذا أيضًا دالاً عليه لزم التكرار، وأنه لا يصار إليه مهما أمكن حمل اللفظ على فائدة تأسيسه، فوجب أن يكون المراد منه الإتيان بحيث لا يجوز الترك دفعًا للتكرار، اللهم إلا أن يذكر الخصم فائدة أخرى يصلح حمل اللفظ عليها لكنه يكون إشارة إلى المعارضة. ثم الذي يؤكد ما ذكرنا أن قوله عليه السلام: "فأتوا منه ما استطعتم" يفيد المبالغة التامة في طلب الفعل المأمور به وذلك لا يناسب جواز الترك. وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين الأمر والسؤال إلا أنه يعتبر في الأمر / (141/أ) العلو أو الاستعلاء دون السؤال، وذلك يفيد اشتراكهما في جميع الصفات سوى ما ذكر، فكما أن السؤال لا يدل إلا على الندبية فكذا الأمر. وأجاب الإمام عنه: بأنا لا نسلم أن السؤال لا يفيد إلا الندبية، وهذا لأن السؤال يفيد "الإيجاب" عندنا، وإن كان لا يلزم منه "الوجوب" فإن السائل قد يقول للمسئول عنه: لا تخل بمقصودي، ولا تتركه ألبتة، ولا تخيب رجائي، فهذه الألفاظ صريحة في "الإيجاب"، وإن كان لا يلزم

منه "الوجوب". واعلم أنه إن ذكر قوله - فإن السائل قد يقول: إلى آخره - دليلاً على أنه لا يلزم من الإيجاب الوجوب فقط فهو حسن، لكنه لم يسند قوله، فإن السؤال عندنا يدل على الإيجاب إلى شيء. وإن ذكر ذلك دليلاً على مجموع الأمرين، وهو أن السؤال يدل على الإيجاب، وأنه لا يلزم من الإيجاب الوجوب فمعلوم أنه لا يفيد، لأنه لا يلزم من الإيجاب تصريح السائل به الإيجاب بمطلق سؤاله. وهذا كما أن أوجبت، وألزمت، وحتمت، يفيد الوجوب وفاقا، ولا يلزم منه أن يكون "افعل" على إطلاقه مفيدًا له. ويمكن أن يجاب عنه بوجه آخر: وهو أن يقال: لم لا يجوز أن يكون الوجوب من لوازم الاستعلاء أو العلو المعتبرين، وحينئذ الافتراق فيه يستلزم الافتراق في الوجوب وعدمه. وثالثها: أن المندوب داخل في الواجب بناء على أن المندوب، ما فعله خير من تركه، فحينئذ يكون كل واجب مندوبًا من غير عكس، فوجب جعل الأمر حقيقة في المندوب لكونه متيقنًا.

وجوابه: منع كون المندوب داخلاً في الواجب، وهذا لأن جواز الترك معتبر فيه وهو ينافي ماهية الواجب. فكيف يكون داخلاً فيه؟ سلمنا: ذلك لكنه يقتضي أن يكون جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل الذي هو قدر مشترك بين المباح والمندوب، والواجب أولى لكونه متيقنا، فإن كل مندوب هو مما رفع الحرج عن فعله، من غير عكس فهو باطل وفاقا. ورابعها: لا نزاع في أن صيغة الأمر قد وردت تارة في الوجوب، وتارة في الندب، فإما أن يجعل حقيقة فيهما بخصوصيتهما أو في أحدهما. وهما باطلان، إذ الاشتراك والمجاز على خلاف الأصل، فلم يبق إلا أن يجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، إذ القول: بأنه ليس حقيقة فيهما لا بالاشتراك اللفظي ولا المعنوي ولا في أحدهما باطل إجماعًا، فحينئذ لم تكن الصيغة دالة إلا على رجحان الفعل على الترك، وقد كان جواز الترك / (141/ب) ثابتًا بالبراءة الأصلية، فحينئذ يحصل من مجموعهما أن فعل المأمور به راجح على تركه وأن تركه جائز ولا معني للندب إلا ذلك. واعلم أن هذا الدليل لا يدل على أن صيغة الأمر موضوعة للندب، بل لا يدل إلا على أنها للقدر المشترك بينهما، والندبية إنما لزمت بسبب انضمام دليل آخر إليها. ومع هذا فوجوبه: بطريق المعارضة بما سبق غير مرة وأيضًا المجاز وإن كان خلاف الأصل، لكنه قد يصار إليه إذا دل الدليل، وقد ذكرنا أن الدليل دل على الوجوب.

وخامسها: أن الصيغة لو جعلت حقيقة في الوجوب كان استعمالها في الندب، وفي القدر المشترك بينهما تركًا لمدلولها، أما لو جعلت حقيقة في القدر المشترك بينهما، لم يكن استعمالها في الندب والواجب تركًا لمدلولها، بل إثباتًا لأمر زائد على مدلولها، ولا شك أن هذا أولى فكان جعل اللفظ حقيقة فيه أولى. ثم نقول: الصيغة إذا وردت مجردة عن القرينة لم يمكن حمله على الوجوب لعدم ما يدل على المنع من الترك، حينئذ يتعين حمله على الندب لقيام الدليل الدال على جواز الترك، وهو البراءة الأصلية ودفعًا للإجمال. الجواب: المعارضة ببيان فوائد كون الصيغة حقيقة في الوجوب، وهي غير خافية عليك مما سبق. وأما القائلون بأن الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الواجب والمندوب. فقد تمسكوا بالوجوه الثلاثة الأخيرة المذكورة في حجج القائلين: بالندب، ولكن نحذف البراءة عن الحجتين الأخيرتين. والجواب واحد. وأما القائلون بالاشتراك فقد احتجوا بوجهين:

أحدهما: أن الصيغة استعملت في الواجب والمندوب والأصل في الاستعمال الحقيقة. وثانيهما: أن توقف الذهن عن الجزم وتردده بين الواجب والمندوب، عند سماعها مجردة عن القرينة، دليل على أنها مشتركة بينهما. الجواب عن الأول: أن الأصل في الاستعمال هو الحقيقة، لكن إذا لم يستلزم الاشتراك، أما إذا استلزمه فلا نسلم ذلك، وهذا لأن الأصل عدم الاشتراك، أيضًا، وكيف لا والمجاوز خير منه؟ وعن الثاني: منع التوقف والتردد بل المتبادر إليه عند سماعها مجردة عن قرينة الوجوب، بدليل تمسك الصحابة بها على الوجوب. وأما القائلون بالتوقف: فقد احتجوا: بأن مدرك العلم تكون الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو في القدر المشترك بينهما، أو فيهما. إما يكون عقليًا محضًا، وهو باطل إذ لا مجال للعقل وحده / (142/أ) في اللغات، وأما أن يكون نقليًا محضًا، وهو إما تواتر، أو آحاد. والأول: باطل وإلا لعرفه كل واحد بالضرورة بأنه للوجوب أو للندب أو لغيرهما.

وأما الثاني: فبتقدير التسليم وسلامته عن المعارض لا يفيد لأن المسألة علمية وهو لا يفيد إلا الظن. وأما أن يكون مركبًا منهما، وهو إما قطعي، أو ظني، والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه، وإلا لقطع بتخطئة المخالف فيه، والظني لا يفيد لما سبق. وإذا لم يكن لإثبات أحد هذه المذاهب مدرك صالح وجب التوقف وهو غير لازم على القائلين بالتوقف، لأنهم غير مفتقرين فيه إلى مدلول حتى يتأتي فيه التقسيم المذكور. وأجيب: بمنع كون المسألة قطيعة، إما لأنها وسيلة إلى العمل فيجوز إثباتها بما يثبت به وجوب العمل، وإما لأنها من مباحث اللغة وقل ما يرجي فيها القطع لتعذر إثبات أكثر مطالبها.

وهذا الجواب لا يتأتى ممن سلم من الأصوليين أن المسألة علمية. واعلم أن المطلوب في هذه المسألة، إن كان هو القطع فالحق فيها هو التوقف، وإن كان أعم منه وهو الحكم، إما على سبيل القطع أو على سبيل الظن وهو الأشبه فالأغلب على الظن أن الحق فيها هو القول بالوجوب.

المسألة التاسعة [في حكم الأمر بعد الحظر]

المسألة التاسعة [في حكم الأمر بعد الحظر] اختلفوا فيا لأمر بعد الحظر. فالجمهور على أنه لا أثر لتقدم الحظر، وأن الأمر في اقتضاء مقتضاه، من الوجوب، أو الندب أو غيرهما بعده، كما هو قبله. ومنهم من قال: إن تقدم الحظر قرينة صارفة له عن مقتضاه إلى الإباحة، وإن كان قبله مقتضيًا للوجوب.

ومنهم من فصل وقال إن كان الحظر السابق عارضًا لعلة عرضت وعلقت الصيغة بزوال تلك العلة، كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا}. وقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت فالآن فادخروها".

فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع ذلك الحظر السابق فقط، فيرجع حكمه إلى ما كان قبل الحظر، من إباحة، أو ندب، أو إيجاب. وإن احتمل أن يكون مقتضيًا لمقتضاه، من إيجاب أو ندب نظرًا إلى الوضع. وإن لم يكن كذلك فالصيغة مبقاة على مقتضاها على ما كانت قبله، إن كانت للوجوب فللوجوب، وإن كانت للندب فللندب، وإن كان مترددًا بينهما فكذلك. لكن القائلين بالتوقف: كالغزالي - رحمه الله تعالى - زادوا ها هنا احتمال الإباحة، فإن الصيغة عندهم لم تكن محتملة لما قبله، وقالوا: قرينة سبق الحظر تزوح احتمال الإباحة وإن لم تعينه. احتج الجمهور / (142/ب): بأن المقتضي للوجوب أو للندب أو

غيرهما قائم، والمعارض الموجود لا يصلح معارضًا فوجب تحقق المقتضي أما الأول: فلمساعدة الخصم الدلائل المذكورة عليه، إذ القائل: بالإباحة ها هنا قائل: بأنها قبله للوجوب أو للندب. وأما الثاني: فلأنا نعلم بالضرورة، أنه كما يجوز الانتقال من الحظر إلى الإباحة، فكذا يجوز الانتقال منه إلى الوجوب، أو الندب. وإذا كان كذلك لم يكن تقدم الحظر مانعًا من حمل الصيغة على ما يقتضيها قبله، ولأنه لو صرح بإرادة الوجوب من الصيغة الواردة بعد الحظر لم يعد مناقضًا ولا تاركًا لمقتضي دليل، إذ الأصل عدم التعارض، ولو كان تقدم الحظر قرينة الإباحة، لعد كذلك ولجعل تاركًا لمقتضي الدليل. واحتج القائلون بالإباحة مطلقًا. بالآية، والعرف. أما الآية: فلقوله تعالى {فإذا طعمتم فانتشروا} {وإذا حللتم فاصطادوا} {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} والأصل في الاستعمال الحقيقة.

وأما العرف: فهو إن السيد أو الوالد إذا منع عبده أو ولده عن شيء، ثم قال له: "افعل" ذلك الشيء تبادر إلى الفهم منه الإباحة، وهو دليل الحقيقة، فيكون حقيقة فيه، وهو المطلوب. الجواب عن الأول: [أن] نمنع دلالة ما ذكرتم من الآيات على القول بالإباحة مطلقًا، بل إنها لو دلت فإنما تدل على ما ذهب إليه القائلون بالتفصيل لا على ما ذهبتم إليه. سلمنا ذلك: لكن الاستعمال دليل ضعيف، فجاز أن يترك لما ذكرنا من الدليل. سلمنا: أنه غير متروك، لكن ما ذكرتم من الآيات معارض بنصوص أخرى نحو قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} فإن هذا يفيد الوجوب، إذ الجهاد فرض على الكفاية. ونحو قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله}، وحلق الرأس ليس بمباح بل هو واجب عند انقضاء المدة، ونحو قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" والزيارة مندوبة.

وبهذا إنما يتمسك من يقول: الأمر حقيقة في الندب والأصل في الاستعمال الحقيقة، وإذا تعارضت النصوص باستعمالها في المعنيين ثبت ما قلناه: لسلامة ما ذكرنا من الدليل في الاستدلال. وعن الثاني: إنا لا نسلم أن الفهم يتبادر إلى الإباحة على الإطلاق، بل لو تبادر إليها فإنما يتبادر للقرينة، ألا ترى أنه لو كانت القرينة منفية لم يتبادر الفهم إلى الإباحة، كما لو كان السيد قد منع عبده عن الاكتساب لمصلحة، ثم أمره / (143/أ) فإنه لا يفيد الإباحة بل يفيد الوجوب، وكذلك لو قال الأب لأبنه: اخرج إلى المكتب بعد منعه منه لمصلحة، فإنه يتبادر منه إلى الفهم ما يتبادر منه قبل الحظر.

/

المسألة العاشرة [في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا؟]

المسألة العاشرة [في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا؟] الأمر المجرد عن القرينة، هل يقتضي التكرار أم لا؟ فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين أنه يقتضي التكرار المستوعب لزمان العمر، بحسب الإمكان. ولا يخفى عليك أنه ليس المراد من التكرار ها هنا معناه الحقيقي، وهو: إعادة الفعل الأول، فإن ذلك غير ممكن من المكلف، بل المراد منه: تحصيل مثل الفعل الأول. وذهب الجم الغفير إلى أنه مقتضى للمرة الواحدة لا محالة.

وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: يقتضيها لفظًا. ومنهم من نفى ذلك وزعم: أن اقتضاءه لها إنما هو بحسب الدلالة المعنوية، وهي أنه لا تفيد إلا الطلب تحصيل الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة، لكن لما لم يمكن تحصيلها بدون المرة الواحدة لا جرم. قلنا: دل الأمر عليها، لأن ما دل على الشيء دل على ما هو من ضروراته بخلاف الكثرة، فإنه لا يدل عليها لا بحسب اللفظ ولا بحسب المعنى. وهذا القول: اختاره أبو الحسين البصري - رحمه الله تعالى - والإمام وكثير من الأصوليين. ومنهم من قال: إن مقتضى الصيغة الامتثال والمرة الواحدة لابد منها لما سبق، وأما الزائد عليها فمتوقف فيه "وهو قول" اختاره إمام الحرمين

- رحمه الله تعالى - وإليه ميل الغزالي - رحمه الله تعالى - وذهب بعضهم: إلى أنه مشترك بين المرة الواحدة وبين التكرار، وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه: بين أن يكون للمرة الواحدة، أو للتكرار، أو لهما، أو للمشترك بينهما لتردده [بينهما، كتردده] بين الوجوب والندب. وقال بعضهم: نحو عيسي بن أبان. إن كان / (143/ب) فعلاً له

غاية يمكن إيقاعه في جميع المدة يلزمه في جميعها، وإلا فيلزمه الأول. احتج القائلون بالتكرار بوجوه: أحدها: أن أكثر أوامر الشرع، كالصلاة، والزكاة، والصوم، محمول على التكرار، فوجب أن يكون حقيقة فيه إعمالاً للأصل ودفعًا لتكثير المجاز. وثانيها: أن الصديق - رضي الله عنه - تمسك على أهل الردة في وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعًا. وثالثها: أن الأمر لا إشعار له بالتخصص بزمان دون زمان، وليس حمله على بعض الزمان أولى من البعض، فوجب التعميم وإلا لزم التعطيل. ورابعها: أن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الترك، فإذا كان النهي الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار، فكذا الآخر والجامع، أما الطردي فكونهما مشتركين في الاقتضاء "والطلب"، وأما المناسب فتكميل الغرض وتحصيل المصلحة الناشئة من التكرار. وخامسها: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن جميع

الأضداد يقتضي الامتناع عنها في جميع الأزمان، وذلك يستلزم فعل المأمور به في جميع الأزمان. وسادسها: أن الأمر لو لم يفد التكرار، لما جاز ورود النسخ عليه لاستلزامه البداء، وهو على الله تعالى محال، ولما جاز الاستثناء [منه لاستحالة الاستثناء] من المرة الواحدة. وسابعها: أنه لو لم يكن للتكرار كان للمرة الواحدة، وحينئذ يلزم أن يكون قوله: صل مرة واحدة تكرار، أو صل مرارًا تناقضًا ومعلوم أنه ليس كذلك. وثامنها: أن القول بالتكرار أحوط للمكلف، لأنه إن أراد الأمر فقد حصل غرضه، وإن لم يرده بل أراد مرة واحدة فقد حصل غرضه أيضًا ضرورة حصولها في ضمن التكرار، بخلاف ما إذا قيل إنه للمرة الواحدة وتاسعها: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" والتكرار بحسب ما يمكن مستطاع، فوجب أن يجب إذا قيل: ثبت أن الأمر للوجوب. وعاشرها: روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح، وقال: "أعمدًا فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم" ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من

قوله تعالى:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} لما كان للسؤال معنى. وحادي عشرها: روى أنه عليه السلام لما أتي بشارب الخمر قال: "اضربوه" فكرروا عليه الضرب ولو لم يكن الأمر للتكرار لما فعلوه، ولا أنكر عليهم عليه السلام، ولما لم ينكر عليهم دل على أنه للتكرار.

وثاني عشرها: أنه يفيد التكرار في استعمال أهل العرف، فإن الرجل إذا / (144/أ) قال لغيره: "أحسن عشرة فلان" و "خالط الناس بحسن السير" "وأجمل في الطلب" و "اتجر لمعاشك و "تزود لمعادك"، فإنه يفهم منها التكرار والأصل عدم التغيير. وثالث عشرها: أن الأمر اقتضى فعل المأمور به واقتضى اعتقاد وجوبه أيضًا ثم اعتقاد وجوبه على الدوام، فكذا فعله حملاً لأحد الاقتضائين على الآخر. وأجيبوا: عن الأول: بأنه لا يلزم من كون تلك الأوامر محمولة على التكرار، أن تكون مستعملة فيه حتى يلزم أن تكون تلك الأوامر حقائق فيه لما ذكرتم من الدليلين لجواز أن تكون مستعملة في القدر المشترك بين التكرار وغيره، وإنما حملت على التكرار لدليل من خارج لا لكونها ظاهرة فيه، ثم الذي يدل عليه هو: أن التكرار لو كان مستفادًا من ظواهرها لزم التناقض أو الترك بالظاهر في الأوامر المحمولة على المرة الواحدة نحو الحج وغيره، لأنه إن كان ظاهرًا فيها لزم الأول: وإلا لزم الثاني: وهما باطلان، ولا يعارض بمثله، لأنا لا ندعى الظهور في المرة الواحدة أيضًا، وإنما ندعى أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما فقط، والمرة الواحدة إنما وجبت لأنها من ضروراته.

وعن الثاني: أنا لا نسلم أنه تمسك بمجرد الأمر سنده ما تقدم، بل لأنه كان من المعلوم عندهم بالضرورة من دين محمد عليه السلام أن أمر الصلاة، والزكاة، والصوم للتكرار. وعن الثالث: أن القائلين بالفور: يمنعون عدم أولوية بعض الأزمنة من البعض، فإن الزمان الأول عندهم متعين لفعله فيكون أولى. وأما الذين لم يقولوا به: فإنهم يمنعون لزوم التعميم عند انتفاء الأولوية ويمنعون لزوم التعطيل عند انتفاء التعميم، وهذا لأنه يجوز أن يكون تعيين الزمان موكولاً إلى اختيار المكلف كالمكان، وكما فيما إذا أمر الشارع بإعتاق رقبة. وبتقدير تسليمه: فالدليل منقوض بالصورتين المذكورتين. وعن الرابع: بمنع كون النهي يفيد التكرار. ولئن سلم: فيمنع القياس في اللغات. ولئن سلم: فبالفرق، وهو من وجهين: أحدهما: أن الانتهاء عن الفعل أبدا متيسر وغير مفض إلى تعطيل الحوائج المهمة، وغير مانع من الإتيان بالمأمورات، وأما الاشتغال به، وإن كان بحسب الإمكان فمتعسر ومفض إلى تعطيل الحوائج ومانع من الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها.

وثانيهما: أن النهي مقتضاه عدم إدخال ماهية الفعل المنهي عنه في الوجود، لأن معني قولنا: "لا تضرب" مثلاً لا تدخل ماهية الضرب في الوجود / (144/ب)، وذلك إنما يحصل بالكف عنه دائمًا حتى لو انكف عنه المخاطب في بعض الأزمنة دون البعض لم يصدق عليه أنه لم يدخل الماهية في الوجود وأما الأمر فليس فيه دلالة على إدخال جميع أفراد الماهية في الوجود، لأن معني "اضرب" إدخال ماهية الضرب في الوجود فإذا ضرب مرة واحدة صدق عليه أنه أدخل الضرب في الوجود، فلا حاجة إلى المصير إلى التعميم، ولأنه لما ثبت أن النهي يفيد الدوام وجب أن لا يفيد الأمر ضرورة كونه مناقضًا له ونقيض السلب الكلي الإيجاب الجزئي. وعن الخامس: منع كون الأمر بالشيء منهيًا عن ضده، ولئن سلم فجوابه ما سبق في المسألة السالفة. وعن السادس: أنا لا نسلم أنه لو لم يكن للتكرار لما جاز نسخه، وهذا لأنه يجوز نسخ الشيء قبل "حضور" وقت العمل به عندنا. وأما الذين لم يجوزوا فهم يقولون: إن قرينة النسخ دالة على إرادة التكرار منه، ولا يبعد حمل الأمر على التكرار لقرينة. وأما الاستثناء فممنوع على رأي القائلين بالفور. وأما الذين لم يقولوا به: فهم يجوزون الاستثناء فيه، وفائدة المنع من الفعل في وقت يصح فعله فيه لولا الاستثناء، فإن كان الاستثناء حقيقة في

هذا المعنى فلا إشكال وإلا فهو مستعمل فيه بطريق التجوز. سلمنا: أنه مستعمل في حقيقته. فلم لا يجوز أن يقال: الاستثناء قرينة دالة على إرادة التكرار؟. وعن السابع: منع الملازمة، وقد عرفت سنده. سلمنا: الملازمة لكن لا نسلم أن قوله مرة واحدة تكرار، بل فائدته نفي احتمال التكرار وإن كان ذلك على وجه التجوز ولا نسلم، أن قوله: مرارًا، تناقض، بل غايته أنه يكون قرينة دالة على إرادة المجاز المعين من اللفظ. سلمنا: ذلك لكنه معارض بما أنه لو كان للتكرار، لكان قوله: "صل مرارًا تكرارًا و "صل مرة واحدة" تناقضًا، ومعلوم أنه ليس كذلك. وعن الثامن: أنه إذا علم أنه لا يجوز أن يراد من اللفظ غير حقيقته عند عرايته عن القرنية. واعلم أن اللفظ ليس بحقيقة في التكرار فقد أمنا إرادته وحينئذ يأمن عن العقاب على تركه. سلمنا: جواز إرادته عند عرايته عن القرينة، لكن لا نسلم: أن يكون أحوط، وهذا لأنه ربما يكون ترك التكرار أحوط، كما إذا قال: السيد لعبده: "اشتر اللحم والخبز أو "ادخل الدار" فإنه لو فعل ذلك على الدوام، وإن كان بحسب ما يمكن فإنه يلام. سلمنا: أنه أحوط، لكنه معارض بما أنه / (145/أ) يلزم من حمله

على التكرار من الإضرار اللازم من التكرار المشق بتقدير فعله والعقاب بتقدير تركه، وبما فيه من مخالفه البراءة اليقينية. وعن التاسع: أنه إنما يدل على المطلوب أن لو ثبت أن التكرار مأمور به حتى يقال: بأن التكرار بحسب ما يمكن مستطاع من المأمور به، فيجب لكنه أول المسألة. وإن شئت فقل بعبارة أخرى: وهي أن دلالته على المطلوب تتوقف على كون التكرار مأمورًا به، فلو أثبتنا كون التكرار مأمورًا به لزم الدور. وعن العاشر: أنا لا نسلم أنه رضي الله عنه سأل ذلك بناء على أنه فهم التكرار من النص المذكور وإلا لم يكن للسؤال معنى، وهذا لأنه يجوز أن يكون السؤال إنما كان لأجل إنه كان يرى النبي عليه السلام مداومًا على التوضؤ عند كل صلاة فظن أنه أريد التكرار عن النص المذكور، فإن الأمر عندنا وإن لم يكن للتكرار، لكنه يحتمله، فسأل النبي عليه السلام عن عمده ليعلم أنه فعله كذلك لم يكن التكرار مرادًا من الأمر فيه وإن كان سهوًا فقد أريد به التكرار لقرينة مداومته عليه السلام على التجديد عند كل صلاة. سلمنا: أنه إنما سأل ذلك بناء على أنه فهم التكرار [من] الآية، لكن إنما كان ذلك، لأنه [أمر] معلق بالصفة وهو يقتضي التكرار على رأي بعض من أنكر أن مطلقه للتكرار، فلم قلت: إن مطلقه يقتضيه؟. سلمنا: أنه ليس كذلك أو، وأن كان كذلك لكن الخلاف فيهما واحد، لكن فهمه رضي الله عنه معارض بفهمه عليه السلام، فإنه لم يفهم منه التكرار، وإلا لما فعل ذلك عمدًا، ثم لا يخفى أن الترجيح معنا. وعن الحادي عشر: أنا لا نسلم أنه حصل تكرير الضرب من كل

واحد منهم حتى يقال: إنهم فهموا التكرار، بل صدر ذلك من مجموعهم، وقوله: فكرروا عليه الضرب من مقابلة فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد. سلمنا: ذلك لكن التكرار مستفاد من قرينة الحد، وهذا لأنه شرع زاجر ومانع ومعلوم أن ذلك لا يحصل لضربه واحدة. وعن الثاني عشر: أن ذلك للقرينة، فإن من المعلوم بالضرورة أنه لا يكفي في حسن العشرة مع الناس ومخالطتهم بحسن السيرة حصول ذلك من الرجل مرة واحدة، بل المراد منه الدوام لتحصيل الأخلاق الفاضلة وجلب قلوب الناس، وكذلك الكلام في البواقي. وعن الثالث عشر: أنا لا نسلم أن اعتقاد وجوب المأمور به على سبيل الدوام من مقتضي الأمر سواء كان ذلك في مطلق الأمر عند من يقول: إنه للوجوب أو في المقترن بقرينة تدل على أنه للوجوب عند من لم يقل إن مطلقه للوجوب، بل هو من مقتضى الإيمان ولوازمه، ولهذا يكفر / (145/ب) جاحده في المقطوع ولا يكفر تارك فعله فيه. سلمنا: ذلك لكن الفرق قائم، وهو أنه لا ضرر في إيجاب الاعتقاد على سبيل الدوام بخلاف إيجاب الفعل على سبيل الدوام، فإن فيه ضررًا. سلمنا: أنه لا فرق، لكنه منقوض بالأمر المقيد بالمرة الواحدة. وأما الذين قالوا: إنه للمرة الواحدة لفظًا فقد احتجوا بوجوه: أحدها: أنه استعمل فيها، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

وثانيها: أن المتبادر إلى الفهم من قول القائل: "صام فلان" أو "صلى" هو المرة الواحدة، فوجب أن يكون حقيقة فيها، إذ التبادر دليل الحقيقة، وكذلك إذا استعمل صيغة الماضي في الإنشاء نحو بعت، وطلقت ولهذا لم تطلق إلا واحدة، وإذا كانت صيغة الماضي حقيقة في المرة الواحدة سواء كانت بمعني الإخبار أو الإنشاء، وجب أن يكون الأمر أيضًا كذلك ضرورة أن اقتضائهما للمصدر اقتضاء واحد. وثالثها: أنه لو لم يكن للمرة الواحدة، لكان للقدر المشترك بينها وبين التكرار لما ستعرف فساد غيره من المذاهب وحينئذ يجب أن يكون الأمر مجملاً بالنسبة إلى كل واحد منهما، عند عراية عن القرينة المعينة. وهو باطل خلاف الإجماع. ورابعها: أنه لو قال الرجل لغيره: "طلق زوجتي" لم يملك أكثر من تطليقة واحدة، فلو لم يكن الأمر حقيقة في المرة الواحدة لم يكن كذلك. الجواب عن الأول: أنا نفعل بمقتضاه فإنه حقيقة فيها عندنا أيضًا لكن باعتبار القدر المشترك بينها وبين التكرار، فإن ادعى أنه استعمل فيها بحسب خصوصيتها فيجب أن يكون حقيقة فيها بحسبها، فممنوع. وإن سلم: فنعارضه بمثله، ثم الترجيح معنا على ما عرفت ذلك غير مرة.

وعن الثاني: أن ذلك التبادر بناء على أنه لابد منها في تحقيق مدلوله، لا أنه مدلوله. ولئن سلم: ذلك فلا نسلم مثله في الأمر، وما ذكره فهو قياس في اللغة وهو ممنوع. وعن الثالث: أنا لا نسلم أنه خلاف الإجماع، بل نحن نقول: إنه مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما من حيث اللفظ، وإنما يوجب الإتيان بالمرة الواحدة، وإن لم يكن هناك قرينة معينة لها لما تقدم من الدلالة المعنوية، فهو نص في المرة الواحدة بحسب الدلالة المعنوية، ومجمل بحسب الدلالة اللفظية ولا غرو في أن يكون اللفظ نصًا ومجملاً في معنى واحد باعتبارين مختلفين. وعن الرابع: / (146/أ) بمنع الملازمة، وهذا لأنه يجوز أن لا يكون حقيقة في المرة الواحدة بحسب الخصوصية، ومع ذلك يملكها بما تقدم من الدلالة ولا يملك الثلاث لعدم دلالته عليه. واحتج إمام الحرمين - رحمه الله تعالى -: بأن الصيغة صادرة عن المصدر ومستدعية لإيقاعه، وهو يحتمل الكثير والقليل، وليس معها ما يعين أحد الاحتمالين، إذ الكلام في الأمر المطلق، وإنما أوجبنا مرة واحدة، لأنه لابد منها على التقديرين فيجب التوقف في الزائد عليها.

وجوابه: أن المأمور لم يعلم شغل ذمته بغير إيقاع المصدر، فإذا فعل مرة فقد أوقع المصدر، والأصل براءة ذمته عن الزائد، فيجب الحكم ببراءة ذمته عنه وإلا لزم تجويز تكليف ما لا يطاق، إذا التوقف مع انتفاء ما يدل على زائد تجويز تكليف ما لا يطاق. وأما القائلون بالاشتراك: فقد احتجوا أيضًا بوجوه: أحدها: ما روى عن سراقة بن مالك أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحجنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال عليه السلام: "للأبد ولو قلت: نعم لوجبت".

ووجه الاستدلال من وجهين: أحدهما: أنه لو كان الأمر للمرة الواحدة فقط أو للتكرار فقط لما حسن سؤاله عنه، فإنه كان من أهل اللسان فلا يخفى عليه ذلك، وأما بتقدير أن يكون مشتركًا، فإنه يحسن السؤال طلبًا لتعيين المراد. وثانيهما: أن قوله عليه السلام: "لو قلت: نعم: لوجبت" لا يجوز أن يكون ذلك بطريق ابتداء التكليف، فإن ذلك لا يتحقق إلا بتحقق النسخ، وأنه خلاف الأصل، بل بطريق البيان لقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، وذلك يدل على أن ذلك الإيجاب مشترك بين المرة الواحدة وبين التكرار والخلاف في الإيجاب والأمر واحد.

وثانيها: أنه استعمل فيهما فيكون حقيقة فيهما، إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة. وثالثها: أنه يحسن الاستفهام فيه من الأمر فيقال: أردت به المرة الواحدة أو التكرار وأنه دليل الاشتراك. ورابعها: أن صيغة "الماضي" من الأفعال مشتركة بين الدعاء والخبر، وصيغة "المضارع" مشتركة بين الحال والاستقبال، وذلك يقتضي أن تكون صيغة الأمر أيضًا مشتركة بين المرة الواحدة وبين التكرار، إلحاقًا للفرد بالأعم والأغلب. الجواب عن الوجه الأول: بمنع الملازمة، وهذا لأنه يجوز أن يسأل الإنسان عن كلام ينبئ عن المقصود / (146/ب) بنفسه مع علمه به للتأكيد أو لدفع احتمال التجوز. وعن الوجه الثاني: أنا نسلم أن ذلك بطريق البيان، لكن لا نسلم: أن ذلك يدل على أنه مشترك بينهما فإن الإجمال، كما يكون في المشترك يكون في المتواطئ أيضًا. وعن الثاني: أيضًا ما سبق في اللغات. وعن الثالث: منع كون الاستفهام دليل الاشتراك، وستعرف ذلك في العموم والخصوص - إن شاء الله تعالى -. وعن الرابع: ما تقدم في اللغات، سلمنا: اشتراكهما فهذا لو

اقتضى فإنما يقتضي كون الأمر أيضًا مشتركًا فلم يتعين أن يكون اشتراكه بين التكرار والمرة الواحدة دون غيرهما من المفهومات. وإذ قد ظهر ضعف هذه المذاهب فلنبين ما هو المختار. فنقول: المرة الواحدة لابد منها في الامتثال، وهو معلوم قطعًا لا بحسب دلالة اللفظ، بل بحسب الدلالة المعنوية، كما تقدم. وأما التكرار فمحتمل، فإن اقترن بالأمر ما يدل عليه وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كاف في سقوط التكليف به، والدليل عليه وجوه: أحدها: أنه لا شك في ورود الأمر بمعني التكرار وبالمرة الواحدة في أوامر الشارع وأوامر أهل اللسان، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو تحصيل ماهية المصدر، وحينئذ يجب أن لا يكون للفظ دلالة لا على المرة الواحدة ولا على التكرار، لأن الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة على ما يمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لكن يحتملهما، ولهذا لو فسره بأنه واحد منهما صح، لأن نسبة مدلوله إليهما على السوية، وإنما أوجبنا المرة الواحدة، وإن لم توجد قرينة معينة لها لما تقدم فإذا أتي بها حكمنا بسقوط التكليف عنه إذا لم يعلم، ولا يظن بعد ذلك شغل ذمته بشيء آخر إلا على وجه الاحتمال وهو غير موجب

للتوقف على ما عرف أن مناط التكليف هو العلم أو الظن لا الاحتمال. وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قول القائل: "تفعل" وبين قوله "افعل" إلا في الاقتضاء والطلب، فإن قولنا: "افعل" فيه الاقتضاء والطلب دون قولنا: "تفعل". ثم أجمعنا على أن قولنا: "تفعل" لا يستدعي تكرير المخبر عنه، بل يكفي في صدقه تحققه ولو مرة واحدة، فكذا الأمر وإلا لحصلت التفرقة بينهما بشيء آخر غير ما ذكروه، وذلك يقدح في قولهم. وثالثها: أنه يحسن تفسير مطلق الأمر لكل واحد من التكرار والمرة الواحدة من غير تناقض ومخالفة له / (147/أ) وتكرار، وذلك يدل على أن واحدًا منهما ليس مدلوله، بل هو محتمل لها، ثم المرة الواحدة متعينة لما سبق من الدلالة المعنوية. ورابعها: الأمر إما أن يكون حقيقة في التكرار فقط، أو في المرة الواحدة فقط، أو فيهما بالاشتراك اللفظي، أو يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، أو لا يكون حقيقة في شيء من هذه الأقسام الأربعة، وهذا القسم الأخير باطل بالإجماع. وكذا الثلاثة الأول فيتعين الرابع. أما الأول: فلأنه إذا أمرنا الله تعالى بعبادة [ثم أمرنا بعبادة أخرى] لا يمكن الجمع بينهما، وجب أن تكون الثانية ناسخة للأولى، وإن كانت شرطًا لها ضرورة أن الأول: قد استوعب جميع الأوقات التي يمكن فعلها فيها، وأن الثانية: لا تجب إلا فيها، لكنه باطل لأنا نعلم بالضرورة أن

المسألة الحادية عشرة [هل الأمر المعلق يقتضي التكرار؟]

إيجاب الصلاة، ليس نسخًا للزكاة، والحج، وإيجاب الوضوء، ليس نسخًا لإيجاب الصلاة المتقدمة. وأما الثاني: فكذلك، لأن جعله حقيقة في التكرار مجازًا في المرة الواحدة أولى من العكس، لما عرفت غير مرة. فكذا الثالث: لأنه خلاف الأصل، وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة، يتعين الرابع. ثم لتقريب ما سبق في الوجه الأول. المسألة الحادية عشرة [هل الأمر المعلق يقتضي التكرار؟] القائلون بأن مطلق الأمر ليس للتكرار: اختلفوا في أن الأمر المعلق بالشرط نحو: إن كان زانيًا فارجمه، أو الصفة نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، أو المضاف إلى الوقت نحو قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس}. هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارها أم لا؟. فمنهم من أثبته.

ومنهم من نفاه. ثم اعلم أن الخلاف فيما إذا لم يعلم كون المعلق عليه علة للمعلق، أما إذا علم ذلك إما من دليل منفصل، أو من نفس ترتيب الحكم على الوصف، فإنه يشعر بعلية الوصف على ما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى، فلا خلاف فيه بين القائسين، لكنه ما جاء من الأمر والتعليق بل من العلة، ووقع التعبد بالقياس، ولهذا لو عرفت العلية فيما لم يقع التعبد فيها بالقياس نحو أفعال العباد لم يفد التكرار أيضًا، كما إذا قال الرجل لوكيله: أعتق سالمًا إن كان أسود؟ وليست علة أمري بإعتاقه إلا السواد، فإنه ليس له أن يعتق غيره من عبيده، وإن كان أسود لما أنه لم يقع التعبد بالقياس في أفعالهم.

والمختار أنه لا يفيد التكرار. ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه لو اقتضى التكرار، فإما أن يقتضيه من حيث إنه أمر، وهو باطل لما سبق، أو من حيث إنه / (147/ب) تعليق، وهو أيضًا باطل، لأن التعليق يحسن حيث يكون المعلق عليه شرطًا، نحو: إن كنت متطهرًا فصل ولا تأثير للشرط في وجود المشروط، بحيث إنه يلزم من وجوده وجوده، بل تأثيره في انتفائه، بحيث إنه يلزم من انتفائه انتفاؤه، فلا يتكرر بتكرره، وحيث لزم وجود المشروط وجود الشرط في مثل، قوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق" وإنما كان ذلك لوجود الموجب هو قوله: "أنت طالق"، أو من حيث إنه مجموع مركب من الأمر والتعليق، وهذا أيضًا باطل، لأنه لا يفيد التكرار وفاقا في مثل قول الرجل لعبده: "إن دخلت السوق فاشتر اللحم"، فإما أن يكون ذلك لعدم المقتضي، وهو باطل، لأنه خلاف المقدر، إذ المقدر أنه يقتضيه من حيث إنه أمر وتعليق، وهذا المجموع حاصل في المثال المذكور، وبتقدير صحته فالمحصول حاصل، وهو أن لا يكون المجموع مقتضيًا، أو لوجود المعارض، وهو أيضًا باطل، لما فيه من التعارض، وهو خلاف الأصل، أو لا، لوجود المعارض وهو أيضًا باطل، لأن ذلك يقدح في كون المقتضي مقتضيًا. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التخلف فيما ذكرتم من المثال وأمثاله لفقد شرط لم يحصل في غيره؟ قلت: توفيق اقتضاء المقتضي على شرط منفصل، خلاف الأصل، إذ الأصل عدم التوفيق.

سلمنا: أنه ليس على خلاف الأصل، لكن لو جاز لكم إحالة التخلف فيما ذكرناه من المثال إلى عدم شرط المقتضي مع أنكم لم تبينوه خاليًا مثله في كل مثال من أمثلة الأمر المعلق بشرط، وحينئذ لا يمكن الاستدلال به على التكرار. وثانيها: لو قال الرجل لزوجته: "إن دخلت الدار فأنت طالق"، لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول وفاقًا، وكذلك إذا قال لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار. لم يكن له تكرير التطليق عند تكرير دخولها. وكذا لو قال الشارع: "إن كان زانيًا فارجمه"، لأن دلالة اللفظ لا تختلف بحسب اختلاف المستعملين. وثالثها: أنه لو دل عليه فإما أن يدل عليه بلفظه، أو بمعناه. والقسمان باطلان. فالقول بأنه يدل عليه باطل. أما أنه لا يدل عليه بلفظه: فلأن اللفظ ما دل إلا على تعليق شيء بشيء، وهو أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة، بدليل صحة تقسيمه إليهما ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد من ذينك القسمين / (148/أ) فإذا لا دلالة له لا على التكرار، ولا على المرة الواحدة. [فإن] قلت: لا نزاع في أنه لو ثبت أن اللفظ ما دل إلا على تعليق

شيء بشيء كان اللازم ما ذكرتم، وهو أنه لا يكون له إشعار بأحد ذينك القسمين ألبتة، لكن لا نسلم: ذلك، وهذا لأنه عندنا دال على تعليقه بالمعلق عليه، بحيث كلما وجد المعلق عليه وجد المعلق فلم قلت: أنه ليس كذلك؟ قلت: الدليل على أنه ليس كذلك، هو أن كل واحد من أهل اللسان يجد التفرقة الضرورية بين قول القائل: إن قال فلان: "ح"، فقل: "ب"، وبين قوله: كلما قال فلان: "ح" فقل: "ب"، في أن الثاني يفيد التعميم والتكرير دون الأول، ولا يمكن إحالة ذلك إلى القرينة، فإن القرينة منتفية فيما ذكرنا من المثال، فلو كان الأول، بمعنى الثاني لم تكن التفرقة حاصلة بالضرورة. وأما أنه لا يدل عليه بمعناه: فلأن المعني من الدلالة المعنوية هنا هي أن يستلزم مسمي اللفظ معنى آخر استلزامًا قطعيًا أو ظنيًا، واللفظ مستعمل في مسماه لكن تحققه يكون دالاً على تحقق ذلك المعني، لا أن بين معنى اللفظ وبين معنى آخر مناسبة معتبرة في التجوز فيستعمل اللفظ فيه، فإن ذلك مجاز خلاف الأصل لا حاجة لنا إلى نفيه، فإن النزاع ما وقع في أن اللفظ دال على التكرار على وجه التجوز إذا عرفت هذا. فنقول: قد عرفت أن مسمي اللفظ، هو تعلق شيء بشيء، وهو أعم من تعليقه به في كل الصور أو في صورة واحدة، ومعلوم أن المفهوم العام لا يستلزم الخاص لا بطريق القطع ولا بطريق الظهور، فثبت أنه لا يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه فلم يدل عليه أصلاً. ورابعها: أن الخبر المعلق بالشرط، أو الصفة، كقوله: زيد سيدخل الدار

لو دخلها عمرو، وزيد القائم بضرب، لا يفيد التكرار وفاقا. فكذا "الأمر" والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرر، هذا إن ألحقناه بطريق القياس. أما إذا ألحقناه بطريق الاستقراء والتصفيح فلا حاجة إلى ذكر الجامع، وهو الأولي: فإن الإلحاق بطريق الاستقراء والتصفح، غير مختلف فيه. واحتجوا بوجوه: أحدها: أنه ورد في كتاب الله، وسنة رسوله، أوامر متعلقة بشروط، وصفات، ومضافة إلى أوقات، وهي متكررة بتكررها، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية، وقوله: {والسارق / (48/ب) والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وقوله:} أقم الصلاة لدلوك

الشمس {ولو لم يكن مقتضيًا للتكرار لما كان متكررًا. وجوابه: منع الملازمة لجواز أن يكون متكررًا لدليل منفصل. نعم لو قيل: لما كان متكررًا به لم يمكن منع الملازمة لكنا حينئذ نمنع انتفاء اللازم، فإنه عندنا غير متكرر به بل بمنفصل نحو أن يعرف أن المعلق عليه علة الحكم أو غيره. فإن قلت: الأصل عدم ذلك الدليل. قلت: يجب اعتقاد ذلك لئلا يلزم تخلف المدلول عن الدليل في مثل قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وفي قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} بالنسبة إلى غير المحدث وفي قوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} بالنسبة إلى الذي لا يريد الصلاة، فإن الإتيان بمنفصل أولى من التخلف بمنفصل. وثانيها: أن الحكم يتكرر بالعلة باتفاق القائسين، فالمعلق عليه إن كان علة يجب أن يتكرر الحكم بتكرره، وإن كان شرطًا فكذلك. إما لأن علل الشرع علامات والشروط أيضًا علامات. وأما لأن الشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم عند انتفائه، بخلاف

/

الأول: لما عرفت ذلك من قبل. وثالثها / (149/أ): أن النهي المعلق بالشرط أو الصفة يقتضي التكرار، فكذا الأمر، إما بالقياس عليه، أو لن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا كان ضد المأمور به واجب الترك" بوصف التكرار" ففعل المأمور به واجب بذلك الوصف لا محالة. وجوابه: أنه قياس في اللغة وهو ممنوع. سلمنا: صحته، لكن لا نسلم أنه يتكرر بتكرر الشرط، وهذا لأن مقتضي النهي هو المنع من الفعل عند وجود الشرط ثابت سواء تكرر الشرط أو لم يتكرر، ألا ترى أن الرجل لو قال لوكيله: لو دخل زيد الدار فلا تعطه درهما. فإن المنع من الإعطاء ثابت أبدًا بعد الدخول سواء تكرر الدخول أو لم يتكرر. سلمنا: ذلك، لكن إنما اقتضاه، لأن مطلقه يقتضي دوام الانتهاء بخلاف الأمر. وعن الوجه الثاني: ما سبق في مسألة أن الأمر للوجوب. ورابعها: أن المعلق بالشرط لا اختصاص له بشرط دون شرط، بل نسبته إلى جميع أعداد الشرط نسبة واحدة فعند ذلك، إما أن يقال: إنه يلزم من عدم إيجاب الحكم مع وجود شرط عدم إيجابه مع جميع أعداد الشرط أو من إيجابه مع شرط إيجابه مع جميع أعداده ضرورة أنه لا يحصل التسوية

لغيرها بين الطريقين، لكن الأول باطل بالإجماع فيتعين الثاني. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا اختصاص له بشرط دون شرط، وهذا لأن عند القائل بالفور: يختص بالشرط الأول، وأما من لم يقل به فيختص عنده بالشرط الذي يغلب على ظن المكلف أنه لو لم يشتغل بالفعل عنده لفاته. سلمنا: أنه لا اختصاص له بشرط دون شرط، لكن لا نسلم أنه لا طريق إلى التسوية إلا ما ذكرتم، وهذا فإن القول بوجوب الفعل عند كل واحد من أعداد الشرط على طريق البدلية طريق أخرى، غير ما ذكرتم في التسوية وهي غير محصلة للمقصود. وخامسها: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم، موجب لدوام المأمور به بدوام، كما لو قال: إذا جاء العام الفلاني فصمه، فإن الصوم يكون دائمًا بدوام العام، والتعليق على الشرط المتكرر في معناه فكان دائمًا بتكرره. وجوابه: منع كونه في معناه، وهذا لأن الشرط "في" صوره المستشهد به واحد والمشروط به أيضًا واحد غير متكررة بتكريره، بخلاف ما نحن فيه، فإن الشرط والمشروط به كلاهما متكرران فلا يكون في معنى الأول.

المسألة الثانية عشرة [في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا؟]

المسألة الثانية عشرة [في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا؟] القائلون بأن مطلق الأمر ليس للتكرار. اختلفوا: في أنه يقتضي الفور أم لا؟ فذهب الحنفية، وأهل الظاهر نحو داود وغيره، والحنابلة / (149/أ) وبعض المعتزلة.

وبعض أصحابنا: نحو القاضي أبي حامد المروروذي، وأبي بكر الصيرفي إلى أن يقتضيه. وذهب آخرون، إلى أنه لا يقتضيه: وهؤلاء اختلفوا أيضًا: فذهب الأكثرون منهم نحو: الشافعي،

ومعظم أصحابه، كأبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي بن خيران، وأبي علي الطبري، وأبي بكر القفال، والغزالي،

والإمام، وجماعة من الأشاعرة، نحو القاضي أبي بكر، وجماعة من المعتزلة نحو الجبائي وابنه، وأبي الحسين البصري: إلى جواز التأخير عن أول وقت إمكان العمل به. فعلى هذا مهما فعل المكلف المأمور به مبادرًا أو مؤخرًا كان ممتثلاً، ولا دلالة للأمر المطلق عند هؤلاء على تعيين الزمان، ولا دليل آخر يدل على تعيين الزمان فيه عندهم. وذهب الأقلون منهم: إلى أنه يقتضي التراخي، فعلى هذا لا يكون المبادر ممتثلاً. وقد قيل: إنه خلاف الإجماع فنسبوا فيه إلى خرق الإجماع. وأما الواقفية: فمنهم من توقف فيه توقف الاشتراك. ومنهم من توقف فيه توقف اللا دراية.

وهؤلاء انقسموا إلى غلاة ومقتصدة. أما الغلاة: فهم الذين توقفوا في المبادر والمؤخر في أنه هل هو ممتثل أم لا؟. ونسبوا أيضًا إلى خرق إجماع السلف فإنهم كانوا قاطعين بأن المبادر مسارع في الامتثال ومبالغ في الطاعة. وأما المقتصدة: فهم الذين قطعوا بامتثال المبادر، وتوقفوا: في المؤخر في أنه هل هو ممتثل أم لا؟. ثم منهم: من قال: بتأثيمه. ومنهم: من لم يقل به. ثم منهم: من لم يؤثمه. ومنهم: من توقف فيه، مع القطع بأنه امتثل أصل المطلوب كإمام الحرمين - رحمه الله - ولا يستبعد "القول بالتأثيم مع التوقف في الامتثال" فإن القول: بالتأثيم قد يكون مع القطع بالامتثال، كما في الواجب الموسع عند من يجوز تأخيره بشرط البدل إذا أخره المكلف بدونه.

والمختار إنما هو مذهب الشافعي - رضي الله عنه -. ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير، لأن له دلالة على طلب الفعل إجماعًا، والأصل عدم دلالته على غيره، وهذا الأصل وإن كان متروكًا بالنسبة إلى أصل الزمان بحسب الدلالة الالتزامية لكونه من ضرورة وقوع الفعل فيجب أن يبقي معمولاً به بالنسبة إلى تعينه، فمهما فعل المكلف المأمور به سواء كان في الزمان الأول أو الثاني أو الثالث كان آتيًا بتمام مدلول الأمر، فوجب خروجه عن عهدة التكليف. وثانيها: أنه استعمل في الفور وفي التراخي، فوجب جعله / (150/أ) حقيقة في القدر المشترك دفعًا للاشتراك والمجاز، وما ذاك إلا لطلب الفعل، إما لما تقدم، وإما بالإجماع إلا لقائل [بالفصل].

وثالثها: لو دل الأمر على الفور أو على التراخي، فإما أن يدل عليه بعموم ما يتضمنه من المصدر، أو بخصوص صيغته، وكل واحد منهما، إما بحسب المطابقة، أو التضمن، أو الالتزام، والقسمان باطلان فبطل دلالته عليه. أما الأول: فلأنه لو كان كذلك لوجب أن يدل عليه جميع أمثلة الأفعال من الماضي والمضارع نحو تلك الدلالة، ضرورة تضمنه المصدر مثل تضمن الأمر لكنه باطل وفاقًا، فكذا ملزومة. وأما الثاني: فلأن صيغة الأمر إنما تتميز عن سائر أمثلة الأفعال بكونها دالة على طلب الفعل بطريق الإنشاء، إما مع الاستعلاء أو مع العلو على ما عرفت ذلك في تحديده، ويؤكده ما نقل عن أهل اللغة أنه لا فرق بين "افعل" وبين "يفعل" إلا في كون الأول أمرًا والثاني خبرًا، ومفهوم الأمر هو ما ذكرناه، ومعلوم أنه ليس فيه ما يدل على الفور أو على التراخي، ولا هو مستلزم لأحدهما فلم تدل الصفة على أحدهما بأحد وجوه الدلالة، فظهر بطلان القسمين فبطل دلالته عليه. ورابعها: أن صحة تقسيم الأمر المطلق، إلى الأمر بشيء على سبيل الفور، وإلى الأمر به على سبيل التراخي، معلوم من أهل اللغة، ولهذا لو قيل للغوي: ورد الأمر على وجه الفور، أو على وجه التراخي، لم تشمئز نفسه عن قبوله، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا، فلو كان الأمر للفور أو التراخي، لما صح هذا التقسيم كما لا يصح تقسيم أمر الفور أو التراخي إليهما. وخامسها: أنه يحسن من الآمر أن يقول للمأمور: افعل الفعل الفلاني في الحال أو في الغد، ولو كان الأمر للفور لكان الأول تكرارًا أو الثاني نقصًا.

وتحرير هذا بعبارة أخرى، وهي أن يقال: لو كان الأمر للفور لما حسن هذا كما لا يحسن تأقيت الأمر المقترن بالفور بالغد. وأما القائلون بالفور فقد احتجوا بوجوه: أحدها: قوله تعالى لإبليس: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} غاية على أنه لم يأت بالمأمور به في الحال، وهذا يدل على أنه واجب عليه الإتيان بالمأمور به في الحال. لا يقال: لا نسلم: أنه غاية على الترك في الحال، بل إنما غاية على أنه تركه، ولم يأت به. لأنا نقول: الترك لم يتحقق في الأمر المطلق ما دام المأمور باقيًا ولم يمض عليه "وقت يحصل له غلبة" الظن [بفواته] فيه، إما لمرض، أو لعلو السن وفاقًا، وهو / (150/ب) غير حاصل في حق إبليس، إما لأن الأصل عدمه، أو لأنه لو كان الذم والتوبيخ لذلك لوجب

ذكره دفعًا للتلبس، فإن ظاهره يدل على الذم بمجرد الترك لا على الترك بعد تضيق الوقت، وإذا كان كذلك لوجب أن لا يستحق الذم والتوبيخ إذ لم يتحقق الترك منه، ولأنه لو كان الذم والتوبيخ على الترك لكان لإبليس أن يقول: إنك أمرتني بالسجود وما أوجبته على في الحال، ولم يتحقق منى الترك فإني باق بعد ومتمكن من الإتيان به، فكيف استحق الذم عليه؟ وأجاب الإمام عنه: بأنه حكاية حال، فلعل ذلك الأمر كان مقرونًا بما يدل على أنه للفور. وهو ضعيف، لأن ظاهره يدل على ترتب الذم بمجرد ترك المأمور به، فتخصيصه بأمر آخر غيره خلاف الظاهر. وهذا وإن كان لازمًا على كل من يجيب بذلك الجواب عن الاستدلال المذكور، لكنه عليه ألزم، لأنه به أجاب عن هذا الجواب، لما اعترض به على استدلاله بهذا النص على أن الأمر للوجوب. وأجاب بعضهم: بأنا لا نسلم أنه عاتبه على تركه في الحال بل إنما عاتبه لتجبره على آدم عليه السلام يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}. ولإبائه واستكباره يدل عليه قوله تعالى: {إلا إبليس أبي واستكبر}. وهو أيضًا ضعيف.

أما أولاً: فلأنه احتمال قادح في كون الأمر للوجوب، والكلام في أن مطلق الأمر هل يقتضي إيجاب المأمور به أم لا؟. فرع كونه مقتضيًا إيجاب المأمور به فلا يسمع فيه ما يقدح في أصله. وأما ثانيًا: فلأن الذم مستفاد من قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} وهو لا يدل إلا على أن منشأ الذم ترك السجود لا الإباء والتجبر، فإنه غير مذكور فيه. والأولى أن يقال في جوابه: إن ذلك الأمر كان مقرونًا بما يدل على أنه للفور، بدليل قوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. فإنه جعل الأمر بالسجود جزاء لشرط التسوية، والنفخ والجزاء يحصل عقيب الشرط، فلا يلزم من إفادة الأمر الفور لقرينة إفادته إياه من غير قرينة. وثانيها: أنه لو قال السيد لعبده: اسقني الماء، فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى لو أخر العبد السقي، استحق الذم وقد عرفت فيما

سبق أن الإسناد إلى القرينة خلاف الأصل. وجوابه: أن التعجيل مستفاد من قرينة عرفية، بدليل أنه لو أمره بما لا يعلم ولا يظن حاجته إليه على الفور لا بما يعلم أو يظن عدم حاجته إليه على الفور حتى بحال عدم حسن الذم فيه إلى / (151/أ) القرينة، فإنه لا يحسن ذمه على التأخير، ولو ادعى حسن ذمه على التأخير في مطلق الأمر، بدليل أن السيد يعلل ذمه بأني أمرته بكذا فأخر، فإنا لا نسلم حسن ذلك. ولو سلمناه: فمعارض بحسن اعتذار العبد، فإنه يحسن منه أن يقول: إنك أمرتني بالفعل، وما أمرتني به على الفور، ولا علمت ولا ظننت حاجتك إليه على الفور، حتى كان يجب على فعله على الفور، ثم تلك القرينة هي ما تعلم أن الظاهر من حال الإنسان أن لا يطلب الماء إلا عند احتياجه إليه. وثالثها: أنه يجب على المأمور اعتقاد وجوب الفعل المأمور به على الفور بالإجماع، وهو إما موجبه أو من لوازم موجبه وعلى التقديرين يجب فعل المأمور به على الفور، أما على الأول فبالقياس عليه والجامع بينهما تحصيل المصلحة الناشئة من المسارعة، وأما على الثاني فبالطريق الأولي لكونه مقتضاه وهو من لوازم مقتضاه. وجوابه: منع كونه من موجباته أو من لوازم موجباته، وهذا لأن وجوب

الاعتقاد على الفور "غير" مستفاد من اللفظ بل من العقل، فإن من ركب الله فيه العقل فنظر علم أن امتثال أوامر الله تعالى واجب وإن لم يحصل شيء من أوامره. سلمناه: لكنه قياس في اللغة وهو ممنوع. سلمناه: لكنه منقوض بما لو صرح بجواز التأخير، كما لو قال: افعل في أي وقت شئت وبجميع الواجبات الموسعة نحو النذور والكفارات، وبالخبر الصادر من الشارع فإنه يجب اعتقاد صدقه على الفور [ولا] يجب حصول الفعل المخبر عنه على الفور. ورابعها: طريقة الاحتياط. وتقريرها: أنا أجمعنا على أن المبادر خارج عن عهدة التكليف، واختلفنا في المؤخر في أنه هل هو خارج أم لا؟ فالاحتياط يقتضي إيقاع الفعل عقيب الأمر ليحصل الخروج عن عهدة التكليف بيقين. أجاب الإمام "عنه" بأنه منقوض بما لو قال: افعل في أي وقت شئت

وهو غير سديد، لأن طريقة الاحتياط ليست آتية فيه، إذ لا خلاف في المؤخر فيه، ولا خوف على تأخيره عن أول الوقت لصريح الإذن فيه. وأجاب بعضهم: بأن الاحتياط في إتباع المكلف ظنه، فإن ظن الفور يجب [عليه] إتباعه، وإن ظن التراخي، وجب عليه إتباعه، وإلا فبتقدير ظن التراخي لو أوقعه على الفور على خلاف ظنه، كان ذلك حرامًا لا احتياطًا، فلم يكن التعجيل احتياطًا مطلقًا. وهو أيضًا ضعيف. أما أولاً: فلاقتضائه أن لا يكون طريقة الاحتياط / (151/ب) جارية باستقلالها في شيء من الصور، وهو خلاف الإجماع. وأما ثانيًا: فلأنه لا يتأتي فيما لم يحصل الظن فيه بأحدهما والخصم قد ينصبها دليلاً فيه. ولو أجيب عنه: بأن الاحتياط والحرام ليس من أمارات الوضع. كان ذلك حقًا لكن من المعلوم أن الخصم ليس يجعله دليلاً على أنه يفيد الفور بحسب الوضع، بل يجعله دليلاً شرعيًا على إفادته الفور. والأولى: أن يجاب عنها بالمعارضة بالضرر الناشئ من الإيجاب على

الفور، فإن الأدلة النافية للضرر والحرج نافية له. وخامسها: القياس على النهي، فإنه يقتضي الانتهاء على الفور بالاتفاق فكذا الأمر، والجامع ما سبق. وجوابه: بمنع القياس في اللغة. ولئن سلم: فبالفرق، وهو ما تقدم ونزيد هنا بأنه يفيد ذلك، لأنه يفيد التكرار، بخلاف الأمر فإنه لا يفيد التكرار على ما عرفت ذلك. وسادسها: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، ثم النهي عنها يوجب الانتهاء عنها على الفور، وذلك لا يمكن إلا بالإقدام على المأمور به على الفور، وقد عرفت جوابه غير مرة فلا نعيده. وسابعها: التمسك بقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات}، وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}. ووجه الاستدلال بهما أنه لا شك في أن المأمور به من الخيرات والاستباق والمسارعة إليه إنما هو بالتعجيل، فيكون تعجيل المأمور به واجبًا،

إذ الأمر للوجوب، وهو المطلوب. وجوابه: بعض ما تقدم في الواجب الموسع. وثامنها: لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أو لا إلى بدل، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل. وتمام تقريره وجوابه، ما قد تقدم أيضًا في مسألة إثبات الواجب الموسع. وتاسعها: لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة، أو لا إلى غاية معينة، بل يجوز له التأخير أبدًا، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل. وإنما قلنا: إنه لا يجوز التأخير إلى غاية معينة، لأن تلك الغاية إما أن تكون معلومة للمكلف أو لا تكون معلومة له. فإن كانت معلومة له، فإما أن يكون ذلك بتنصيص الشارع عليه بأن ينص على جواز التأخير إلى خمسة أيام مثلاً أو لضرب من النظر والقياس. والأول باطل، لأنه خلاف المفروض، إذ المفروض في اقتضاء مطلق الأمر.

وإن كان الثاني: فتلك الغاية هي الوقت الذي يعلم المكلف أو يظن أنه لو لم يشتغل بالمأمور به فيه لفاته، بدليل أن كل من قال: يجوز التأخير إلى غاية معلومة / (152/أ) بضرب من النظر والقياس، قال: إن تلك الغاية هي هذه، فالقول: بإثبات غاية أخرى معلومة للمكلف خلاف الإجماع، وأنه باطل فتتعين هي، لكن القول بأنها غاية يجوز التأخير إليها باطل أيضًا، لأن ذلك العلم أو الظن إن لم يكن لدليل أو لأمارة لم يكن معتبرًا. وإن كان الدلالة نحو المرض المهلك إذا احتفت به من العلامات ما يقطع الإنسان أنه لا يعيش به إلى وقت يمكنه أداؤه فيه، أو لأمارة نحو المرض الذي لا يكون كذلك، بل يغلب على الظن الهلاك أو علو السن فهو أيضًا باطل، لأن كثيرًا من الناس يموت فجأة، فلم يكن ذلك غاية بالنسبة إلى كل المكلفين، فلا يكون معولاً عليه في جواز التأخير لإفضائه إلى ترك الواجب في جميع العمر. وإن كانت الغاية مجهولة فهو أيضًا باطل، لأنه حينئذ يصير المكلف مكلفًا بأن لا يؤخر الفعل عن تلك الغاية المعينة مع أنه لا يعرفها، وهو تكليف ما لا يطاق. وإنما قلنا: إنه لا يجوز التأخير لا إلى غاية معينة، بل يجوز ذلك أبدا لأن ذلك المأمور به على هذا التقدير يكون ندبًا لا واجبًا، لأن تجويز الترك أبدًا ينافي ماهية الواجب. وجوابه: النقض بما لو صرح بجواز التأخير نحو: "قوله" افعل في أي وقت شئت، وبجميع الواجبات الموسعة نحو النذور والكفارات مع أن

جميع ما ذكروه من الأقسام آت فيه. وعاشرها: أن الأمر استدعاء فعل بقول يقتضي التعجيل كالإيجاب في البيع فإنه يقتضي تعجيل ما استدعاه من القبول. وجوابه: أنه قياس في اللغة وهو ممنوع. سلمناه: لكن الجامع وصف طردي وهو غير معتبر. سلمناه: لكن الفرق قائم فإن الأمر: استدعاء فعل بقول، والإيجاب في البيع: استدعاء قول بقول والفورية تشترط فيه لكي يعد جوابًا فإنه لو تأخر القبول لم يعد جوابًا، بخلاف الفعل فإنه لو تأخر عن وقت الاستدعاء لا يقدح ذلك في الامتثال. ولئن سلم: أنه لا فرق لكنه منقوض بما لو قال: افعل في أي وقت شئت. وأما القائلون بالتراخي:

فقد احتجوا: بأنه يجوز التراخي عن أول الوقت، إذ قد ظهر ضعف أدلة القائلين بالفور، فلا يكون واجبًا فيه، ولا يجوز التأخير عن آخره وذلك يدل على أنه واجب فيه. وجوابه: أنه خلاف الإجماع على ما تقدم فلا يكون مسموعًا. سلمنا: أنه ليس "خلاف" لكن جواز التأخير عن أول الوقت لا يدل على / (152/أ) أنه ليس "بواجب فيه مطلقًا، بل يدل على أنه ليس بواجب فيه على التضييق، وهو أخص من الأول: فنفيه لا يستلزم نفيه. سلمنا: لكنه قد يفضي لترك الواجب في جميع العمر، فيكون باطلاً. سلمنا: أنه ليس بمفض إليه، لكنه منقوض بقوله: افعل في أي وقت شئت. وأما الواقفية القائلون بالاشتراك: فقد احتجوا: بالاستعمال، وحسن الاستفهام، وتمام تقريرهما قد مضى في مسألة أن الأمر هل هو للتكرار أم لا؟. وقد عرفت جوابهما أيضًا ثمة. وأما الغلاة من الفريق الثاني من الواقفية فقد احتجوا بوجهين: أحدهما: أن العلم بكونه للفور، أو للتراخي، أو للقدر المشترك بينهما، إما بالعقل، أو بالنقل، إلى آخره، كما ذكر في مسألة أن الأمر للوجوب.

وجواب ذلك: الجواب: أيضًا. إلا أن المركب من العقل والنقل هنا غير ما ذكر ثمة، ولا يخفى عليك تقريره بعد أن تمسكت بالبراءة الأصلية، فإن المقدمة العقلية فيه هي، فلا نطول الكتاب بالإعادة. وثانيهما: أنه يحتمل أن يراد به فعل المأمور به على الفور، ويحتمل أن يراد به فعله على التراخي، وليس فيه ما يدل على أحدهما فصار كالمجمل بالنسبة إلى محتملاته، فيجب التوقف إلى أن يدل دليل على أحدهما. وجوابه: أنه إجمال في مدلوله وهو إيقاع المأمور به والاحتمالات المترددة في اللوازم غير مضرة كما في المكان وأحوال الفاعل. وأما المقتصدة منهم: فقد تمسكوا بأن المبادر ممتثل بالإجماع، إذ الأمة قبل ظهور المخالف كانوا قاطعين بذلك ولا قاطع في المتأخر فيجب التوقف، إذ المسألة علمية. وجوابه: جواب الشبهة الأولى للغلاة.

فرع: القائلون بأن مطلق الأمر للفور: اختلفوا في أن الفعل المأمور به إذا فات عن أول وقت إمكان العمل به، هل يجب فعله فيما بعده بالخطاب الأول، أم يحتاج فيه إلى دليل آخر؟. فذهب بعضهم: كأبي بكر الرازي رحمه الله إلى أنه يجب بالخطاب الأول، وليس هو نقضًا، لأن قول القائل: افعل معناه عنده افعل في أول زمان الإمكان، فإن لم يفعل فيه ففي الزمان الثاني، فإن لم يفعل فيه ففي الزمان الثالث، هكذا أبدًا ولو فرض أن الأمر كان هكذا كان الفعل واجبًا في الزمان الأول من أزمنة الإمكان، وفي الزمان الثاني والثالث من غير أن يكون قضاء فكذا هنا. ويشعر إيراد بعضهم / (153/أ): بأنه يكون قضاء عندهم، كما في المعين وقته بالتنصيص لكن الأظهر ما ذكرناه. وذهب الباقون: إلى أنه لا يجب بالخطاب الأول. بل لا بد من دليل

آخر يوجب قضاءه، كما في المعين وقته بالصراحة، وهؤلاء زعموا أن افعل معناه: افعل المأمور به في أول زمان إمكان من غير "بيان حال الزمان الثاني والثالث ولو صرح بهذا لم يجب الفعل في الزمان الثاني والثالث من غير" دليل آخر على ما سيأتي تقريره فكذا هاهنا. احتج الأولون: على صحة قولهم: بأن الأمر اقتضى وجوب المأمور به على الفور ووجوبه على الفور اقتضى وجوب كون المأمور فاعلاً له على الفور، فإذا فات وصف الفورية، وجب أن ينفي وجوب كونه فاعلاً لأصل الفعل لقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". واحتج النافون على صحة قولهم: بأن الدليل إنما دل على كون الأمر للفور فقط، ومعناه: وجوب الفعل في أول زمان إمكانه وكون الفعل يجب في الزمان الثاني والثالث بتقدير فواته عن أول زمان الإمكان فغير داخل في مفهوم الفورية، ولا هو مستلزم "له"، والأصل عدم دلالة دليل آخر عليه، فلا يلزم من كون الفعل مأمورًا به على الفور بكونه مأمورًا به في الزمان الثاني والثالث بتقدير الفوات عن الأول والثاني "المؤقته ..... بالأمر الجديد أم لا فذهب المحققون من الحنفية إلى أنه".

المسألة الثالثة عشرة في أن القضاء في العبادة المؤقتة بالتنصيص الفائتة عن وقتها هل هو بالأمر الأول أو بالأمر الجديد؟

المسألة الثالثة عشرة في أن القضاء في العبادة المؤقتة بالتنصيص الفائتة عن وقتها هل هو بالأمر الأول أو بالأمر الجديد؟ فذهب المحققون منا ومن الحنفية والمعتزلة إلى أنه بالأمر الجديد.

وذهب كثير من فقهاء الفريقين والحنابلة إلى أنه بالأمر الأول. ونقل عن صاحب التقويم أنه يجب بالقياس على العبادات الفائتة عن وقتها الواجبة قضاؤها في الشرع، فإنه الأكثر بجامع استدراك المصلحة الفائتة.

احتج الأولون بوجوه: أحدها: أن القضاء لو كان بالأمر الأول: بحيث لم يجب القضاء، كما في الجمعة لزم الترك بالدليل، وإن كان ذلك لدليل آخر لكنه خلاف الأصل، فوجب أن يقال: إن إيجاب العبادة في وقت لا إشعار له بوجوب القضاء ولا تقدمه كيلا يلزم الترك بالدليل. لا يقال: لو لم يجب القضاء بالأمر [الأول]: فحيث وجب كما في الصلوات والصيام لزم أيضًا خلاف الدليل إذ الأصل / (153/ب) عدم دليل آخر، وهو دليل شرعي. سلمنا: أنه لا يلزم خلافه، لكنه يلزم خلاف الظاهر، فإن ظاهر الخطاب الأول: حينئذ لا يوجب القضاء، فيكون إيجابه حينئذ خلاف الظاهر. لأنا نقول: الجواب عن الأول: إن المحذور فيما ذكرتم أكثر، لأنه يلزم منه الترك بالدليل اللفظي المعتبر، وأما على ما ذكرنا يلزم منه الترك بالدليل العقلي المقرر، فكان التزام ما ذكرنا أولى. سلمنا: أنه ليس بأكثر محذورًا منه، لكنه وجد كقوله عليه السلام: "من منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر}. فسواء قلنا: القضاء بالأمر الأول أو بالأمر الجديد كان ما ذكرتم من المحذور لازمًا، وهو ترك مقتضى الأصل.

أما لو قلنا: القضاء بالأمر الأول: لزم مع هذا المحذور ما ألزمناكم من المحذور وكان ما كرنا أولى. وعن الثاني: إنا لا نسلم أنه يلزم منه خلاف الظاهر، [وهذا فإنا نسلم أن ظاهر الخطاب الأول لا يوجب القضاء حينئذ، لكن لا نسلم أن إيجابه حينئذ يكون خلاف الظاهر]، لأن إيجاب ما لا يوجبه الظاهر خلاف الظاهر، ليس خلاف الظاهر وإلا لزم أن يكون إيجاب الفور غيره لدليل منفصل عند ورود الأمر بالصلاة خلاف الظاهر، لأن ظاهره لا يوجب الصوم بل خلاف الظاهر إنما يلزم أن لو أوجب ظاهر الخطاب الأول اللاقضاء فيكون إيجابه خلاف الظاهر، لكن فرق بين إيجاب اللاقضاء وبين لا إيجاب القضاء ومخالفة الظاهر إنما يلزم من الأول دون الثاني. وثانيها: لو دل الأمر على وجوب القضاء بعد الفوات، فإما أن يدل عليه بطريق المطابقة. وهو باطل، لأن قول القائل: "صم يوم الجمعة" ليس موضوعًا بإزاء صوم "يوم" آخر بعدها كالسبب مثلاً بتقدير فواته عنها. أو بطريق التضمن. وهو أيضًا باطل، لأن "من" المعلوم أن المفهوم الثاني ليس جزءًا من المفهوم الأول، أو بطريق الالتزام كما يقال إن قوله: "صم يوم الجمعة" دل على "وجوب" كونه صائمًا يوم الجمعة، ووجوب كونه صائمًا يوم

الجمعة، دل على وجوب كونه صائمًا مطلقًا ضرورة أنه جزء مفهومه، ثم فوات خصوصية يوم الجمعة لا يعارض تلك الدلالة لإمكان تعلقه معه، فوجب بقاء كونه مأمورًا بأن يكون صائمًا مطلقًا، ثم لما لم يمكن كونه صائمًا مطلقًا بعد فواته عن يوم الجمعة إلى أن يكون صائمًا في يوم آخر بعدها لا جرم دل ذلك الخطاب على وجوب الصوم في يوم آخر بعدها بطريق الالتزام. وهو أيضًا باطل. أما أولاً: فلأنا / (154/أ) لا نسلم أن فوات الخصوصية لا تعارض تلك الدلالة، وما ذكره من الدلالة عليه فإنما يدل على أنه ليس بمعارض قاطع له ولا يدل على أنه ليس بمعارض له أصلاً، فجاز أن يعارضه بطريق الظهور، أو بطريق التساوي، والأصل عدم الوجوب، فعليكم إفساده لأنكم المستدلون، ثم الذي يدل على أن فوات خصوصية الزمان يعارض تلك الدلالة أن تخصيص العبادة بزمان معين، إن كان لمعني فيه لا يوجد في غيره من الزمان وجب أن لا يكون القضاء مشروعًا بتقدير فواتها عنه، لأن القضاء شرع لاستدراك مصلحة الفائت، وهو غير حاصل حينئذ، وإن لم يكن كذلك سواء كان ذلك بأن يكون التخصيص لا لمعني فيه أو بمعني فيه، لكن يوجد مثله في غيره وعلى التقديرين وجب أن يتخير بينه وبين غيره وأن لا يكون للتخصيص فائدة. سلمنا: أنه لا يعارض تلك الدلالة. لكن دليلكم منقوض بالعبادات المختصة بالمكان كأفعال الحج، وبالشروط كاستقبال جهة معينة، والشخص كتخصيص صرف الزكاة بالمساكين. وكتخصيص الضرب والقتل بشخص معين، وببعض العبادات المختصة بالزمان كالجمعة والوقوف بعرفة في يوم عرفة والأضحية، ورمي الجمار.

وثالثها: لو كان وجوب القضاء بالأمر الأول، لكانت فائدة الأوامر الواردة بقضاء بعض العبادات، كقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، ونحو قوله عليه السلام: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فائدة تأكيدية، ولو لم يكن بالأمر الأول لكانت فائدتها فائدة تأسيسية، ولا شك أن الحمل على الفائدة التأسيسية أولى لكثرة فائدتها. ورابعها: القياس على الأوامر المختصة بالمكان والأشخاص وببعضها المختص بالزمان الذي لا قضاء فيه، والجامع بينهما، إما دفع الضرر الناشئ من وجوب القضاء، وإما لأن القضاء في غيرها غير محصل لمصلحة الفائت إذ التخصيص بتلك المعينات يدل على عدم حصول فائدتها من غيرها. وخامسها: أن تخصيص الفعل بوقت معين مانع من إيقاعه قبله، فكذا بعده بجامع وصف التخصيص، مقتضى هذا أن لا يشرع القضاء أصلا ترك العمل به فيما إذا ورد فيه الأمر الجديد بالقضاء فوجب أن يبقي معمولاً به في غيره. وسادسها: القياس على النهي، فإنه إذا كان مؤقتًا بوقت ولم يحصل / (154/ب) مقتضاه فيه، فإنه لا يجب قضاءه بعد فوات ذلك الوقت، فكذا في الأمر والجامع ما تقدم. وسابعها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه إن كانت معللة بالمصالح لم يلزم من وجوب عبادة في وقت وجوبها في وقت آخر، لجواز أن يكون ذلك لمصلحة لا توجد في غيره، وإن لم تكن معللة بالمصالح بل هي مبنية

على محض الإرادة لم يلزم أيضًا من وجوبها في وقت وجوبها في وقت آخر، لجواز أن يكون مراده فيها دون غيره. واحتجوا بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ومن فاته الفعل المأمور به في وقت معين فهو مستطيع له في غيره فوجب أن يجب عليه. وجوابه: أن النص إنما يفيد وجوب الإتيان به في غيره إن لو ثبت كونه مأمورًا [به] فيه فإثبات كونه مأمورًا به فيه به دور. وثانيها: أن العبادة حق الله تعالى على المكلفين، والوقت لها كالأجل للدين في حقوق العباد، وانقضاء الأجل لا يوجب سقوط الدين، فكذا فوات الوقت لا يوجب سقوطها ضرورة كونه مثلها له. وجوابه: منع كون الأجل مثلاً للوقت المفروض للعبادة، وهذا لأنه قد ثبت بالدليل أن الدين بمطلق وصفه مطلوب الحصول وليس للأجل الذي هو عبارة عن وقت مهلة تأخير المطالبة بالدين الواجب مدخل في مطلق نيته،

وإنما شرع ذلك ليسر الأداء لا ظرفًا له، ولهذا لا يجب أداؤه قبل انقضاء الأجل بخلاف وقت الصلاة مثلاً فإنه ظرف لها، ولهذا يجب أداؤها قبل انقضائه، فجاز أن يكون للوقت مدخل في مطلوبية العبادة، ويتأيد هذا الجواز بما أن بعض العبادات لا تقضي بعد فوات وقته، وليس شيء من الدين يسقط بانقضاء أجله، فلا يكون مثلاً له، فلا يلزم من عدم سقوط الدين بانقضاء الأجل عدم سقوط القضاء بفوات الوقت. وثالثها: لو لم يجب القضاء بالأمر الأول، بل بالأمر الجديد لكان ذلك أداء لا قضاء كالأمر الأول. وجوابه: أنا نقول بموجبه لو لم يكن ورود الأمر الثاني بمثل العبادة الفائتة "لاستدراك المصلحة الفائتة أما إذا كان وروده لذلك فلا، إذ لا معنى للقضاء إلا ما شرع من العبادة لاستدراك مصلحة [العبادة] الفائتة". ورابعها: أن الغالب في / (155/أ) العبادات الفائتة القضاء ولابد لذلك

من دليل. [و] الأصل عدم ما سوى الأمر الأول فيضاف إليه. وجوابه: منع كون القضاء غالبا في العبادات الفائتة، ولا يخفى عليك سنده مما سبق. سلمنا: ذلك لكن ما ذكرتم من الأصل متروك قطعًا لوجود الأوامر الدالة على القضاء في الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي شرع فيها القضاء. سلمنا: أنه غير متروك لكنه معارض بما أن الأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه. سلمنا: سلامته عن المعارض، لكن إنما يضاف إليه لو كان له دلالة عليه، لكن بينا أنه لا دلالة له عليه. سلمنا: ذلك لكن لأن التزام ترك الأصل أولى من التزام ترك الدليل الشرعي، ولا يخفى عليك لزومه على تقدير إضافة القضاء إلى الأمر الأول. وخامسها: الوقت من ضرورات الفعل المأمور به، إذ لا يمكن فعله إلا في وقت وليس هو مقتضي الأمر بل مقتضاه طلب الفعل فاختلاله لا يؤثر في سقوط مقتضي الأمر. وجوابه: أنا نسلم أن مطلق الوقت من ضرورات الفعل، وليس هو من مقتضي الأمر، لكن اختلاله غير متصور حتى يمكن أن يقال إن اختلاله لا

يؤثر في سقوط القضاء، وأما الوقت المعين فلا نسلم أنه من ضروراته، بل هو من مقتضي الأمر الذي عينه. وسادسها: أن تعيين الوقت فيما لا يمكن فعله إلا فيه كتعين الآلة فيما لا يمكن فعله إلا بها، وكما أن فوات الآلة المعينة لا توجب سقوط المأمور به، فكذا [فوات الوقت المعين، والجامع بعض ما تقدم]. مثاله: لو قال الشارع تصدق باليمني فشلت أو قطعت، فإنه لا يسقط عنه التصدق، بل يلزمه ذلك باليسرى. وجوابه: منع حكم الأصل فيما لم يعقل فيه التخصيص معنى أو عقل، لكن بمعني لا يوجد في غيرها، وإنما نسلم ذلك فيما إذا عقلنا أن المقصود من ذلك إيصال النفع إلى الغير لا غير، ولو فرض مثله في الوقت بأن يعقل أن المقصود بالإيجاب الفعل بمطلقه لا غير وتعيين الوقت لزيادة "ثواب الوقت المعين والجامع بعض ما تقدم كان الحكم فيه أيضًا" ثواب أو غيرها [كان الحكم فيه أيضًا] كذلك.

المسألة الرابعة عشرة [في الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أو لا؟]

المسألة الرابعة عشرة [في الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أو لا؟] الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء عند الأشاعرة والفقهاء وكثير من المعتزلة. ونقل عن أبي هاشم وابنه، والقاضي عبد الجبار أنه لا يقتضيه. وقبل الخوض في الحجاج، لابد من تلخيص محل النزاع، فإن كلام ناقلين الخلاف / (155/ب) فيها مختلف في محله. فنقول: قد عرفت فيما سلف أن الإجزاء: عبارة عن سقوط القضاء بالفعل عند الفقهاء. وعند المتكلمين: "عبارة عن سقوط التعبد به". فقولنا: الإتيان بالمأمور به، هل يقتضي الإجزاء أم لا. هو بالمعني الأول، أو بالمعني الثاني: ظاهر كلام إمام الحرمين،

والإمام، وبعض المصنفين، يدل على الثاني. وصريح كلام الشيخ الغزالي والقاضي عبد الجبار في عمدته، وبعض المتأخرين من أصحابنا: يدل على الأول. وهؤلاء صرحوا: بأنه لا خلاف في كونه مقتضيًا للإجزاء بالمعني الثاني، لكن ترجمة الخلاف على ما صدرناه، كما هو نقل بعضهم: على هذا لا يستقيم، لأن الإجزاء عند المتكلمين: ليس عبارة عن سقوط القضاء بالفعل فلا يلزم من كون الفعل مجزئًا سقوط القضاء بل ينبغي أن يترجم الخلاف على هذا كما نقله الغزالي رحمه الله في المستصفى، وهو أن الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بالمأمور به عند الفقهاء. وقال المتكلمون: لا يقتضي، فلا معني لتخصيص الخلاف، على هذا بعض المتكلمين كأبي هاشم والقاضي. فإن كل من قال: الإجزاء: ليس عبارة عن سقوط القضاء، على التفسير المتقدم، يلزمه أن يقول: لا يلزم من كون الفعل مجزئًا سقوط القضاء. ولعل الأقرب أن الخلاف إنما هو في سقوط القضاء لا في سقوط التعبد به،

وكونه امتثالاً وطاعة، لأن ذلك كالمتناقض فيبعد وقوع الخلاف فيه، ولأن أدلتهم تشعر بذلك أيضًا. وإذا تلخص محل النزاع فلنشرع في الحجاج. فنقول احتج الفقهاء: بأن المأمور أن فعل المأمور به على الوجه الذي أمر به من غير نقض ولا خلل، وجب أن يسقط القضاء، لأن إيجاب القضاء لاستدراك ما فات من مصلحة العبادة المؤقتة الفائتة عن وقتها وهو فيما فعل في وقته بجميع شرائطه محال. أما أولاً: فلاستحالة الفوات. وأما ثانيًا: فلاستحالة الاستدراك، لأن تحصيل الحاصل محال. نعم لا نزاع على هذا التقدير في أنه لا يمتنع ورود الأمر بمثل تلك العبادة في وقت آخر، لكن لا يسمى ذلك قضاء لما أنه ليس فيه استدراك مصلحة الفائتة، وإن لم يفعل على الوجه المذكور فلا نزاع أيضًا في أنه غير مسقط للقضاء. فإن قلت: ماذا تريد بقولك: إن المأمور أن فعل المأمور به على الوجه / (156/أ) الذي أمر به وجب أن يسقط القضاء؟. إن أردت به أن فعله كذلك باعتبار كونه مأمورًا به في نفس الأمر وفي

ظنه موجب لسقوط القضاء، فهذا مسلم لكن لا يفيد أن فعل المأمور به على الوجه الذي أمر به مطلقًا موجب لسقوط القضاء، لجواز أن يكون السقوط لخصوصية تلك الصورة. وإن أردت به أن فعله لذلك مطلقًا سواء كان مأمورًا به بذينك الاعتبارين أو بإحداهما أي واحد كان موجب لسقوط القضاء، فهو ممنوع وهذا فإن من ظن أنه متطهر، فإنه مأمور بالصلاة في وقتها من غير طهارة أخرى والصلاة مأمور بها باعتبار ظنه مع أن إثباتها ليس موجبًا لسقوط القضاء بالإجماع، وكذلك من صلى إلى جهة غير جهة اجتهاده، ثم ظهر أنها هي جهة القبلة فإنها ليست موجبة لسقوط القضاء على رأي، مع أنه أتى بالصلاة المأمور بها باعتبار الواقع. سلمنا: صحة ما ذكرتم، لكنه معارض بوجوه: أحدها: أن بعض العبادات مأمور به، مع أن إتيانه غير موجب لسقوط القضاء، وهو كإتمام الحج الفاسد وإتمام صوم رمضان الذي أفطر فيه عمدًا من غير عذر. وثانيها: أن النهي لا يدل على الفساد لمجرده، فكذا الأمر لا يدل على الإجزاء لمجرده. وثالثها: أن الأمر لا يدل إلا على طلب المأمور، ولا إشعار له بامتناع التكليف بمثل فعله بعد فعله فوجب أن لا يكون مقتضيًا له.

ورابعها: وهو العمدة لهم، أن من ظن أنه متطهر وهو غير متطهر، فإما أن يقال: إنه غير مأمور بالصلاة في تلك الحالة أو هو مأمور بها، والأول باطل وفاقا، ولأنه يأثم بتأخيرها عن وقتها حيث لم يقدر على التجديد لعذر الحبس أو غيره، ولو لم يكن مأمورًا بالصلاة بتلك الحالة لم يكن كذلك فيتعين الثاني. فعلى هذا لا يخلو، إما أن يقال: إنه مأمور بالصلاة بطهارة حقيقة ظاهرة في نفس الأمر، أو بطهارة ظنية سواء كانت مطابقة للواقع أو لم تكن. والأول باطل، لأنه يلزم حينئذ أن يكون عاصيًا بتلك الصلاة وآثمًا بها، ضرورة أنه غير متطهر بطهارة حقيقة حاصلة في نفس الأمر وبالإجماع ليس كذلك، فيتعين الثاني. وعند هذا نقول: إنه أتى بالصلاة على الوجه الذي أمر به مع أنها غير مسقطة للقضاء إجماعًا. الجواب عن الأول: أنا نقول: الإتيان بالمأمور به مطلقًا، سواء كان ذلك باعتبار / (156/ب) الظن أو باعتبار الواقع أو بهما موجب لسقوط القضاء بالنسبة إلى ذلك الأمر، والدليل عليه ما تقدم. وأما قوله: في سند المنع أولاً: إن من ظن أنه متطهر، فإنه مأمور بالصلاة مع أن إتيانها غير موجب لسقوط القضاء إجماعًا. قلنا: لا نسلم تحقق الإجماع على ذلك، وهذا لأن القضاء يسقط على قول لنا هكذا ذكره بعض المتأخرين من أصحابنا. وفيه نظر.

سلمنا: أنه لا يسقط القضاء، بل يجب لكن لا نسلم أن ذلك عما أمر به من الصلاة المطلوب طهارتها مطلقًا، أعني به كونها مطابقة للواقع أولاً بل هو عندنا قضاء عما أمر به أولاً من الصلاة على الطهارة اليقينية أو الطهارة المظنونة التي لم تظهر مخالفتها للواقع ومنه يعرف الجواب عما ذكره ثانيًا لو سلم الحكم فيه. سلمنا: أن ما ذكرنا لا يفيد أن الإتيان بالمأمور من حيث إنه مأمور به موجب لسقوط القضاء، لكنه يفيد أن الإتيان بالمأمور به حقيقة وظنًا، موجب لسقوط القضاء على ما سلمتم ذلك، ويلزم من هذا أن الإتيان بالمأمور به بأي اعتبار كان موجب لسقوط القضاء بذلك الاعتبار، ضرورة أنه لا قائل بالفصل، وهو الجواب بعينه عن الثاني والخامس. وعن الثالث: أنه غير وارد لأنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعني سقوط القضاء، بل امتثاله يدل عليه ما تقدم تقريره والفرق بين الأمرين ظاهر. سلمنا: وروده لكن حكم الأصل ممنوع. ولئن سلم: لكنه قياس في اللغة، وهو ممنوع. ولئن سلم: لكن الفرق قائم، وهو أنه لا تناقض في قول الرجل لغيره "لا تفعل" هذا الفعل ولو فعلته لجعلته سببًا للحكم الفلاني بخلاف قوله "افعل" الفعل بجميع شرائطه وأركانه ولو فعلته أوجبت عليك قضاء مثله لاستدراك ما فات من مصلحته، فإن فيه تناقضا ظاهرًا.

المسألة الخامسة عشرة [الأمر بالشيء نهي عن ضده]

وعن الرابع: أنا لا نقول: بامتناع التكليف بمثل فعله حتى يكون ما ذكرتم ورادًا علينا، بل نقول: إن المأمور إذا فعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء بعده والأمر مشعر به بواسطة الامتثال على الوجه الذي سبق تقريره. وإنما أوردنا هذه المسألة في هذا الفصل مع أن ظاهرها يقتضي إيرادها في فصل المأمور به، لأنها من مقتضى الأمر حقيقة إذ يقال: الأمر يقتضي الإجزاء / (157/أ) بالمأمور به. المسألة الخامسة عشرة [الأمر بالشيء نهي عن ضده] اعلم أنه لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن، نهي تحريم إن كان الأمر للوجوب، أو نهي تنزيه وكراهة، إن كان للندب. لكن اختلفوا في أنه هو نهي عن ضده [الوجودي أم لا؟. فذهب بعض المتكلمين منا والقاضي أبو بكر فيما يروى عنه أولاً: إلى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده]، لا بمعني أن صيغة تحرك مثلاً عين صيغة لا تسكن فإن ذلك معلوم الفساد بالضرورة، بل بمعني أن المعني المعبر عنه بتحرك عين المعني المعبر عنه "بلا تسكن". وقالوا: إن كونه أمرًا ونهيًا بالنسبة إلى الفعل وضده الوجودي ككون "الحركة" قربًا وبعدًا بالنسبة إلى الجهتين، وفساده قريب من فساد الأول،

لأن الطلب النفساني المتعلق بإيجاد الفعل الذي هو بمعتبر صيغة الأمر غير الطلب النفساني المتعلق بتركه الذي هو بمعتبر صيغة النهي قطعًا. وذهب كثير منا والقاضي فيما يروى عنه آخرًا، وبعض المعتزلة نحو الكعبي وأبي الحسين والقاضي عبد الجبار: إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بطريق الاستلزام. فعلى هذا وعلى ما سبق إن كان ذلك؛ الضد واحدًا كالسكون للحركة، يكون منهيًا عنه بعينه [وإلا] فجميع تلك الأضداد يكون منهيًا عنها.

وذهب الباقون منا كإمام الحرمين والغزالي، ومن المعتزلة: إلى أنه ليس عينه ولا يستلزمه. ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب، وبين أمر الندب، فقال: أمر الإيجاب يستلزم النهي عن ضده. وأما أمر الندب لا يستلزم النهي عن ضده لا نهي تحريم ولا تنزيه، لأن أضداد المندوب من الأفعال المباحة ليس بمنهي عنها لا نهي تحريم ولا تنزيه. ثم هذا النزاع غير متصور في كلام الله تعالى، على رأي من يرى أنه واحد، وهو مع ذلك أمر ونهي وخبر واستخبار، بل في كلام المخلوقين وفي كلامه تعالى على رأي من يرى تعدده. واحتج الأولون: بأن الأمر بالشيء لو لم يكن عين النهي عن ضده، لكان إما أن يكون ضدًا للنهي عن ضده، أو خلافًا للنهي عن ضده، أو مثلاً للنهي عن ضده، ضرورة انحصار التغاير في هذه الأقسام الثلاثة، لا جائز أن يكون ضدًا له وإلا لما اجتمع معه لكنه قد يجتمع معه بأن يصرح بنهيه معه،

ولا جائز أن يكون خلافًا له، وإلا لجاز وجود أحدهما بدون الآخر كالعلم مع القدرة، ولجاز وجود أحدهما مع ضد الآخر كالعلم مع العجز، والقدرة مع الجهل، وفي ذلك تجويز الأمر بالشيء / (157/ب) وضده وهو محال، ولا جائز أن يكون مثلاً له لتضاد المتماثلات على ما عرف ذلك في الكلام، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل القول بالتغاير فهو إذن عينه. وجوابه: أن من جوز الأمر بالمحال منع الأقسام الثلاثة، وأما من لم يجوز ذلك فإنما يمنع القسم الثاني فقط، وهذا لأن جواز انفكاك أحد المخالفين عن الآخر ليس بلازم، بل قد يمتنع ذلك، كما في المتضايفين وكل متلازمين من الجانبين ومنه يعرف امتناع اجتمع [أحدهما] ضد الآخر. احتج الفريق الثاني: بأنه ثبت أن الأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته إذا كان مقدورًا للمكلف، وترك ضد المأمور به من ضرورة فعله، ضرورة

أنه لا يتصور فعله بدون تركه، وهو من مقدوراته فيكون تركه مأمورًا به ولا نعني بكونه منهيًا عنه سوى هذا. نعم لو جوزنا التكليف بالمحال لم يكن الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، بل يجوز أن يكون مأمورًا به معه. واعلم أن النافين عند هذا تفرقوا فريقين وتحزبوا حزبين. فمنهم كبعض المعتزلة: لم يعترفوا بأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به، والكلام معهم في إثبات هذا الأصل نفيًا وإثباتًا قد تقدم. ومنهم: من سلم هذا الأصل كإمام الحرمين والغزالي رحمهما الله. لكن منهم: من منع عموم هذه القاعدة، وقال: إن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به، لكن بالنسبة إلى ما يكون وسيلة وطريقًا إلى فعل الواجب لئلا يعتقد المأمور أنه غير مأمور بالفعل حال عدم ما يتوقف عليه الفعل لاعتقاده أن الفعل ممتنع الوقوع عنده فيقتضي إلى أن لا يفعل الواجب أصلاً، فأما ما ليس كذلك بل يتبع وجوده وجود المأمور به كصوم أول جزء من الليل، فلا نسلم ذلك فيه، وترك ضد المأمور به كذلك، لأنه لا يقصد به فعل المأمور به وهو يحصل بفعله من غير قصد ولا شعور.

والكلام مع هؤلاء في تعميم القاعدة وتخصيصها. ومنهم من قال: إنا لا نقول: إن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به، ولا إن إيجاب الشيء إيجاب لما لا يتم إلا به، بدليل أنه لا يجب على الصائم نية إمساك جزء من الليل، ولا على غاسل الوجه نية غسل جزء من الرأس، لو قيل له: "صم النهار" و "اغسل الوجه" ولكن نقول: "إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، مقتضى هذا أن يكون ترك الضد واجبًا، ونحن نقول به: لكن لا بذلك الأمر بل بدليل آخر إحدى مقدمتيه ذلك الأمر عينه عين نهيه ولا عينه مستلزمة. وهو ضعيف، لأن من يقول: إنه نهي عن ضده بطريق الاستلزام لا يقول: إنه وحده يستلزم نهيه، بل لابد وأن يقول: إنه إنما يستلزم ذلك بواسطة مقدمة عقلية، وهي إما ما سق قبيل هذا، وإما استحالة تكليف ما لا يطاق، وإما لزوم تقييد المطلق أو تخصيص العام الذي هو خلاف الأصل ولا يعنون بكون الضد منهيًا عنه إلا أنه واجب الترك، فيكون الفرق حاصلاً بينهما. واحتج النافون بوجوه: أحدها: أن الآمر بالشيء قد يكون غافلاً عن ضده الوجودي، والغافل عن الشيء لا يكون ناهيًا عنه. وجوابه: أنا نمنع جواز كون الآمر بالشيء ذاهلاً عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من حيث الجملة، وإن كان يجوز أن يكون ذاهلاً عن

تفصيله، ونحن لا نجعل الأمر بالشيء نهيًا عن أضداده على سبيل التفصيل حتى يكون ما ذكرتموه واردًا علينا، بل نجعله نهيًا [عنها] من حيث الجملة. سلمنا: ذلك [لكن] لما جاز أن يكون الأمر بالشيء أمرًا بما يتوقف عليه وجوده مع كونه مغفولاً عنه، فلم لا يجوز أن يكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده وإن كان مغفولاً عنه؟ سلمنا: سلامته عن هذا النقض، لكن لما لا يجوز أن يقال: إنه نهي عنه بشرط الشعور به. ولا يلتفت إلى قول من يقول: إنه إذا شرط في ثبوته أمرًا زائدًا على الأمر، لم يكن عينه ولا يتضمنه ولا يلازمه لظهور فساده. وثانيها: أن الأمر بالشيء إن كان نهيًا عن ضده، فالنهي عن الشيء إن كان أيضًا أمرًا بضده لزم نفي المباح، على ما ذهب إليه الكعبي، وهو منكر من القول وزور، وإن لم يكن أمرًا به فهو تحكم محض لم يجد العارف إليه سبيلاً. وجوابه: أنه لا يقتضي نفي المباح باعتبار ذاته، بل غايته أنه يقتضي أن

ما عداه من المباحات وغيرها واجب على البدل، باعتبار أنه لا يمكن أن يترك المحرم إلا به ولا امتناع في كون الشيء مباحًا وواجبًا باعتبار، بل الامتناع في كون الشيء واجبًا ومحرمًا باعتبارين مختلفين كالواجبات المتضادة، فإن كل واحد منها عندنا واجب باعتبار ذاته، ومحرم باعتبار كونه مانعًا من فعل واجب آخر، وهذا كما قلتم: في الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها باعتبار كونها صلاة مأمور بها، وباعتبار كونها تتضمن شغل حيز الغير منهي عنها. وثالثها: أن الشيء إذا كان له أضداد كثيرة فالأمر به لو كان نهيًا عن ضده، فإما أن يكون نهيًا عن ضد واحد بعينه وهو ظاهر الفساد أو لا بعينه. وهو أيضًا باطل. أما أولاً: فلأن دليل كون الضد منهيًا عنه هو أن ما يتوقف عليه الواجب" فهو واجب"، وفعل المأمور به يتوقف على ترك كل واحد منهما لا على ترك واحد منها، بدليل أنه يمتنع حصوله إلا بترك الجميع. وأما ثانيًا فلأن معنى قولنا: كون الشيء الواحد من بين الأشياء منهيًا عنه لا بعينه، هو أنه يحرم الجمع بينها فلو ترك واحدًا منها وفعل الباقي لا يكون فاعلاً للمحرم، وكذلك لو ترك كل واحد منها فإنه يكون ممتثلاً للنهي أيضًا، وإنما يكون مرتكبًا للمنهي عنه إذا فعل كل واحد منها. فعلى هذا لو ترك ضدًا واحدًا وفعل الضد الآخر ولم يفعل المأمور به

وجب أن يقال: إنه منتهي عن المنهي عنه، وفي ذلك حصول التابع من حيث إنه تابع من غير متبوع. وإما أن يكون نهيًا عن كل واحد من أضداده وهو أيضًا باطل، لأنه يلزم ما تقدم من المحذور إذا فعل ضدًا واحدًا وترك البواقي، وأيضًا يلزم أن يقال: إنه ممتثل بعد ذلك الأضداد وهو محال. وجوابه: أنه نهي عن كل واحد من الأضداد، وما ذكرتم من المحذورين فغير لازم. أما أولاً: فلأن المنهي عنه التابع للأمر بالشيء هو جميع الأضداد وتركه غير حاصل عند ترك البعض، فلا يلزم حصول التابع من غير حصول المتبوع، وإنما يكون ذلك لو حصل ترك الجميع من غير حصول المأمور به، لكنه غير ممكن لما ثبت في الكلام من استحالة خلو القادر عن فعل الشيء وضده. وبه خرج الجواب عن الثاني، لأنه إنما يكون ممتثلاً للنهي لو ترك جميع أضداده إذ هي للمنهي عنها والتعدد فيه غير مقصود. فأما إذا ترك البعض وفعل البعض لم يحصل الانتهاء من المنهي عنه، وليس كل واحد منها منهيًا عنه على سبيل الاستقلال حتى يكون تاركًا البعض ممتثلاً للنهي بعدد ما ترك من الأضداد، بل المنهي عنه هو جميع تلك الأضداد، وترك جميعها غير متصور بدون ترك البعض، فلذلك صار كل واحد من تلك الأضداد منهيًا عنه بطريق التتبع فلا يكون ممتثلاً للنهي ما لم يترك الجميع فضلاً عن أن يقال: إنه ممتثل بعدد ما ترك من الأضداد.

المسألة السادسة عشرة في أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو / (159/أ) أمر بذلك الشيء أم لا؟

وعند هذا ظهر أن الحق هو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بطريق الاستلزام، لا أنه وحده يستلزم ذلك بل مع مقدمة أخرى كما تقدم تقريره لو قيل باستحالة تكليف ما لا يطاق. المسألة السادسة عشرة في أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو / (159/أ) أمر بذلك الشيء أم لا؟ الحق: لا. لوجهين. أحدهما: أنه لو كان أمرًا به لزم التخلف في قوله عليه السلام: "مروهم

بالصلاة وهم أبناء سبع"، فإن الصبي غير مأمور بالصلاة. أما أولاً: فلفقد شرط التكليف، وهو التمكين من فهم خطاب الشارع. وأما ثانيًا: فلأنه لو كان كذلك لوجب أن يستحق الذم على تركها، كما أن الولي يستحق ذلك بترك الأمر. فإن قلت: الملازمة ممنوعة، وهذا لأنه يجوز أن يكون مأمورًا بها على وجه الندبية. وإن كان الولي مأمورًا بالأمر على وجه الوجوب، ولا يلزم من نفي كونه مأمورًا على وجه الوجوب، نفي كونه مأمورًا مطلقًا. قلت: من يقول الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، فإنما يقول: إنه أمر الشيء على الوجه الذي هو أمر بالأمر، إذ الفرع لا يخالف الأصل، وإنما يتحقق على وجه تحققه، فلما كان الأمر بالشيء على وجه الوجوب، وجب أن يكون أمرًا بالشيء على ذلك الوجه، لئلا يلزم قول ثالث مخالف للإجماع. وثانيهما: أنه لا امتناع في قول السيد لأحد العبدين أمرتك بأن تأمر الآخر بكذا، وقوله للآخر: أمرتك بأن تعصيه عندما يأمرك بكذا، فلو كان الأمر بالأمر بالشيء أمرًا بذلك الشيء لعد ذلك مناقضًا، كما لو قال له: "أمرتك بكذا"، و "أمرتك بان تعصيني فيه". نعم لو ضم إلى ذلك الأمر قوله للمأمور بالشيء: كلما أمرك به فلان فقد أمرتك به، كان الأمر بالأمر بالشيء أمرًا بذلك الشيء، لكنه ما جاء من

الأمر بالأمر بالشيء فقط، بل منه ومن قوله كلما أمرك به فلان فقد أمرتك به. ومن هذا تعرف أن أمر الله تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم بأخذ المال من الأمة لا يكون أمرًا للأمة بالإعطاء له عليه السلام. مثاله: قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تظهرهم وتزكيهم بها}، فإن ذلك لا يكون أمرًا للأمة بإعطاء الصدقة إليه عليه السلام، لأنه لا مساغ في أن يقول السيد لأحد العبدين: "خذ من الآخر كذا"، ويقول للآخر جوزت لك: أن لا تمكنه منه، ولو كان الأمر بالأخذ أمرًا بالإعطاء لعد ذلك مناقضًا كما لو قال: أوجبت عليك الإعطاء، و "جوزت لك أن لا تعطي. فإن قلت: فقد ناقضت، إذ من مذهبك أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومعلوم أن الأخذ لا يتم إلا بالإعطاء فيكون مقتضاه أن يكون الإعطاء واجبًا، فالقول بعدم وجوبه مع إيجاب الأخذ مناقضة. قلت: إن كل المراد من الأخذ: "الطلب" فاندفاع التناقض ظاهر، إذ من المعلوم أن الطلب لا يتوقف على الإعطاء. وإن / (159/ب) كان المراد منه: "التسلم" فهو وإن كان متوقفًا على التسلم لكن لا يتوقف على التسليم الواجب، إذ يجوز أن يوجد ولو بالتسليم المحرم فيكون انتفاؤه منافيًا للتسليم لانتفاء علة وجوده. سلمنا: ذلك لكن ليس كلما يتوقف عليه الواجب فهو واجب مطلقًا، بل ذلك بشرط أن يكون مقدورًا للمكلف، وفعل الغير غير مقدور له،

المسألة السابعة عشر [هل الأمر بالماهية يقتضي الأمر بالجزئيات؟]

فلا يكون التسليم واجبًا بمقتضي الأمر بالأخذ، بل لو وجب ذلك فإنما يجب لتعظيم الرسول فإنه مطاع في أوامره ونواهيه، فإنه لو أمر بالتسليم وإن لم يوجب الله تعالى عليه الأخذ كان التسليم واجبًا، إذ لو جوزنا المخالفة كان ذلك غضًا من منصبه، وتحقيرًا له عليه السلام وهو مخل بمقصود البعثة المسألة السابعة عشر [هل الأمر بالماهية يقتضي الأمر بالجزئيات؟] إذا أمر الشارع بفعل من الأفعال من غير قيد من قيود جزئياته، لم يكن ذلك أمرًا بجميع جزئياته ولا ببعض جزئياته على التعيين، لأن الجزئيات الداخلة تحت مطلق الفعل المأمور به متشاركة في ماهية ذلك الفعل ومتمايزة بخصوصياتها، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له على التعيين، فالأمر الدال على طلب تلك الماهية الكلية غير دال على شيء من تلك الجزئيات المخصوصة عينًا، لا بطريق المطابقة ولا بطريق الاستلزام بل لا دلالة له إلا على تلك الماهية المشتركة بين تلك الجزئيات.

المسألة الثامنة عشرة [في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر أم لا؟]

فعلى هذا الأمر بالجنس لا يكون أمرًا بشيء من أنواعه ألبتة. نعم: لو دلت القرينة الحالية أو المقالية على تعيين بعض تلك الجزئيات حمل اللفظ عليه، وتعين فعله على المكلف ولا يخير في فعل تلك الجزئيات أيها أراد فعل، لأنه لابد من تكوين الماهية وهي لا تحصل في الخارج إلا في ضمن جزئي، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ففعل جزئي واجب وليس البعض أولى من البعض وإيجاب فعل الكل لو أمكن إيجاب من غير دليل فلم يبق إلا التخيير. مثال الأول: قول الموكل لوكيله: يعني مطلقًا من غير قيد فإنه يملك البيع بثمن المثل ولا يتخير بينه وبين البيع بالغبن الفاحش، ولأن القرينة العرفية دلت على الرضا به دون البيع [بالغبن] الفاحش. ومثال الثاني: إذا قال الشارع: أعتق رقبة فإنه يتخير في إعتاق الرقاب السليمة، إذ لا قرينة تعين بعض الرقاب. المسألة الثامنة عشرة [في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر أم لا؟] هذا الباب يشتمل على مسائل لابد من تفصيلها / (160/أ) حتى تتلخص صورة النزاع. فأولها: أنه لا نزاع في جواز أن يقول الإنسان لنفسه "افعل" مع أنه يريد ذلك الفعل من نفسه. وثانيها: أن من المعلوم أن ذلك لا يسمى أمرًا على رأي من شرط فيه

العلو والاستعلاء. وأما على رأي من لم يشترط ذلك، فيحتمل أن يقال: إنه لا يسميه أمرًا أيضًا، لأن العلو والاستعلاء وإن لم يكن معتبرًا عنده، لكن المغايرة بين الأمر والأمور معتبرة عنده، وهي مفقودة هاهنا، فوجب أن لا يسمي أمرًا، أما إن لم نعتبر هذا فيجب أن نسميه أمرًا لتحقق حده وحقيقته، لكنه بعيد. وثالثها: أنه هل يحسن ذلك أم لا؟. والحق لا، لأن فائدة الأمر إعلام الغير بأن الآمر طالب للفعل ولا فائدة في إعلام الرجل نفسه. ورابعها: أن يأمر الإنسان عبده بأمر خاص به بحيث لا يتناوله، فمن المعلوم أن الآمر غير داخل تحت الأمر سواء كان ذلك أمر نفسه كقوله: أأمركم بكذا، أو ينقل أمر غيره بعبارته كقوله: إن فلانًا يأمركم بكذا، أو بعبارته كقوله: إن الله يأمركم أيتها الأمة بكذا، إذ في العرف لا يتناول الأمة

النهي وخامسها: أن يأمر بأمر الغير بلفظ يتناوله، فالظاهر أنه لا نزاع في هذه الصورة في أنه يدخل تحت الأمر، سواء كان ذلك الأمر كلام الغير كما إذا تلي النبي عليه السلام على الأمة: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} أو نقل أمره بكلام نفسه كقوله: إن الله تعالى يأمركم بكذا. وسادسها: أن يأمر بأمر نفسه بلفظ يتناوله كقوله: أيها الناس، أو أيها المؤمنون افعلوا كذا فالأقرب أن هذا هو محل النزاع. فالأكثرون على أنه يدخل، نظرًا لعموم اللفظ، فإن كونه أمرًا لا يصلح معارضًا له. ولهذا دخل عليه السلام في كثير من أوامره نحو قوله عليه السلام: "إلا من لم يأكل فليصمه ومن أكل فليمسك بقية نهاره".

وقوله: "من قرن الحج إلى العمرة فليطف بهما طوافًا واحدًا" عند من

يقوله به. وقوله: "من استجمر فليوتر". وقوله: "من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر".

فإن قلت: قد اعترفت فيما تقدم أنه يشترط في الأمر العلو أو الاستعلاء، أو المغايرة، فلو كان مأمورًا بأمر نفسه لزم وجود المشروط بدون الشرط وهو محال.

قلت: لا نسلم لزوم ما ذكرتم من المحال، وهذا لأن المأمور بلفظه العام عليه السلام، هو مجموع تلك الأفراد باعتبار كل واحد منها، ومن المعلوم أنه مغاير للأمر / (160/ب)، وحينئذ يتحقق الاستعلاء والعلو أيضًا، ولو اعتبر ذلك بالنسبة لكل واحد من المأمورين وألزم ذلك فذلك غير مسلم، وهذا لأنه يجوز "أن يثبت للمسمى حكمًا ضمنًا ولا يثبت ذلك بطريق الاستقلال ونظائره كثيرة لا تخفى على العاقل وأيضًا فإنه يجوز" أن يدخل تحت خطابه الخبري كقوله تعالى: {والله بكل شيء عليم}، وكقوله عليه السلام: "لن ينجو أحد بعمله"، ولهذا قيل له عليه السلام: (ولا أنت يا رسول الله) وقرينة كونه مخاطبًا لا يخصصه فكذا هاهنا. ومنهم من قال: لا يدخل الآمر تحت أمره:

واحتج عليه: بأن شرط الأمر مفقود في حقه، وهو أحد ما ذكرنا من الأمور الثلاثة، فوجب أن لا يجوز أن يكون أمرًا لنفسه، كما لا يجوز أن يكون آمرًا لنفسه بأمر خاص. وجوابه: منع فقد الشرط وقد عرفت سنده والشيء قد يثبت ضمنًا ولا يثبت استقلالاً.

المسألة التاسعة عشرة [في الأمر الوارد عقيب الأمر]

المسألة التاسعة عشرة [في الأمر الوارد عقيب الأمر] الأمر الوارد عقيب الأمر، إن كان مدلوله مخالفًا لمدلول الأمر الأول، اقتضى لا محالة شيء آخر، سواء كان بحرف العطف أو لا يكون بحرف العطف، وسواء كان معرفًا أو منكرًا، إلا أنه لا يمكن حمله على تأكيد مدلول الأمر الأول، فلو لم يحمل على مدلوله أيضًا لزم التعليل وأنه باطل، ثم إن كانا بحيث يمكن الجمع بينهما كقوله: "صل، صم" فالخيرة للمكلف في فعلهما إن شاء فعلهما مجتمعين، وإن شاء فعلهما مفترقين، اللهم إلا أن يدل دليل من خارج على تعين أحدهما فيتعين، وإن لم يكونا كذلك تعين فعلهما مفترقين سواء كان المانع منه عقلاً كما لو قال: صل ركعتين في بيتك، وصل ركعتين في المسجد، أو سمعا كقوله: "صل" و "قاتل". وإن كان مدلوله مماثلاً بمدلول الأمر الأول:

فإما أن تصح الزيادة فيه أو لا تصح فإن صحت ولم يكن معطوفًا على الأول ولا معرفًا باللام ولمتن العادة مانعة من الزيادة غير ما حمل عليه الأول: عند الأكثيرين، وإليه ذهب القاضي عبد الجبار بن أحمد. مثاله: "صل ركعتين "صل ركعتين" ". فعلى هذا يلزمه أربع ركعات

لكن بتسليمة، أو بتسليمتين، أو هو مخير بينهما، فذلك غير مستفاد منهما، لأن من الظاهر أنه ليس المعني من قولهم: إنه تصح الزيادة فيه، أن تكون الزيادة مع المزيد عليه، بل المعني به أنه قابل للتكرار. وبهذا قسم بعضهم: وهو أعم من أن يكون مع المزيد عليه أو مستقلاً بنفسها، فلا يكون قولهم: إنه تصح الزيادة فيه مناقضًا لما ذكرناه / (161/أ) بل من دليل آخر نحو القياس على النوافل في كونه مخيرًا بينهما إن كان الأمران للنفل. وحكي عن بعض أصحابنا نحو أبي بكر الصيرفي: أنه ذهب إلى أن الأمر الثاني تأكيد للأمر الأول. وذهب أبو الحسين البصري منهم إلى الوقف بين كونه تأكيدًا للأول وبين كونه مستقلاً بإفادة ركعتين أخريين. والمختار ما هذب إليه الأكثرون.

والدليل عليه وجهان: أحدهما: أن الأمر الثاني في اقتضاء الفعل على جهة الوجوب أو الندب أو غيرهما من الاحتمال كالأمر الأول، فلو صرفنا الأمر الثاني إلى الأمر الأول لزم حصول ما يقتضي الفعل ووجوبه أو ندبيته من غير حصول اقتضاء الفعل ووجوبه أو ندبيته، لأن اقتضاء الفعل الأول ووجوبه مثلاً حاصل بالأمر الأول، وتحصيل الحاصل محال. وثانيهما: أنا بينا في باب اللغات أن اللفظ إذا دار بين أن يفيد فائدة تأكيدية وبين أن يفيد فائدة تأسيسية كان حمله على الفائدة التأسيسية أولى. واحتجوا: بأن الأصل براءة الذمة، وإنما شغلنا الذمة بمدلول [الأمر] الأول لضرورة أعماله، لأنه لا يمكن حمله على التأكيد، وأما الأمر الثاني فمحتمل للتأكيد فلو شغلنا الذمة بمدلوله لزم إيجاب الشيء مع الشك ولزم أيضًا تكثير مخالفة البراءة الأصلية. وجوابه: أنا نسلم أنه محتمل للتأكيد، لكن احتمالاً مرجوحًا فلا يلزم إيجاب الشيء مع الشك بل مع الظاهر المقتضي له، وبه خرج الجواب عن الثاني إذ ليس من شرط ما به يخالف البراءة الأصلية أن يكون قاطعًا بل يجوز أن يكون ظاهرًا، وأيضًا فإنه معارض بطريق الاحتياط فإنها تقتضي الحمل على غير ما حمل عليه الأول، لأن تقدير حمله عليه لم يلزم إلا فوات فائدة التأكيد، وهو غير موجب للعقاب والذم، وأما بتقدير حمله على التأكيد يلزم فوات الفعل الواجب، وهو موجب للعقاب أو الذم.

أما إذا كان معطوفًا على الأول، فإن لم يكن معرفًا فلا خلاف في أنه يفيد غير ما يفيده الأول، لأن الشيء لا يعطف على نفسه، مثاله: "صل ركعتين وصل ركعتين". أما إن كان معرفًا نحو قوله: "صل ركعتين وصل الصلاة". فمنهم: من حمل على غير ما حمل عليه الأول، لأجل العطف، وهو الأولى، لأن لام التعريف وإن اقتضى حمله على الأول ظاهرًا لكونه، معهودًا سابقًا عليه ولم يوجد هناك معهود آخر يمكن حمله عليه، لكن يمكن صرفها عنه مع الأعمال بأن يكون لتعريف الماهية / (161/ب) أو لتحسين اللفظ، فإن اللفظ مع الألف واللام قد يكون أحسن في التلفظ منه بدونهما، وأما "واو" العطف لو لم يحمل على العطف المقتضي للمغايرة لزم إهمالها بالكلية. ولأنا لو سلمنا: مساواتهما في الدلالة على المغايرة والاتحاد، فذلك يوجب تعارضهما وتساقطهما، وهو يقتضي الرجوع إلى ما كان يقتضيه الأمر الثاني قبل دخولهما عليه، وقد ذكرنا أنه يقتضي غير ما اقتضاه الأمر الأول، فوجب حمله عليه.

ومنهم: من توقف فيه كأبي الحسين البصري بناء على تساوي دلالتهما على الاتحاد والمغايرة وعلى ما سبق من أصله. وأما أصل الصيرفي فيقتضي حمله على عين ما اقتضاه الأمر الأول. لو قيل: بتساوي دلالتهما وإلا فيجب إثبات مقتضي الراجح. وأما إذا كان معرفًا فإن كان بغير حرف العطف نحو قوله: "صل ركعتين صل الصلاة" فلا خلاف في أن الثاني تأكيد للأول، وإن كان بحرف عطف فهو ما سبق. وأما إن كانت العادة مانعة من الزيادة، فإن لم يكن بحرف العطف نحو قول السيد لعبده: "اسقني ماًء، اسقني ماًء" فلا خلاف أيضًا في كون الثاني تأكيدًا للأول، ومن هذا تعرف أن الثاني فيما نحن فيه إذا كان معرفًا بدون العطف كان تأكيدًا للأول بطريق الأولى. مثاله: قوله: "اسقني ماًء، اسقني ماًء". وإن كان معطوفًا بحرف العطف:

فإما أن لا يكون معرفًا باللام، أو يكون معرفًا به. فإن كان الأول: نحو قوله: "اسقني ماًء واسقني ماًء" فهاهنا يقع التعارض بين حرف العطف المقتضي للتغاير، وبين العادة المانعة منه. فإن قيل: تساوي دلالتهما جاء مما سبق من المذاهب، وإلا فيجب إثبات مقتضي الراجح. وإن كان الثاني: فمن قال: بتساوي دلالة حرف العطف ولام التعريف على المغايرة والاتحاد كأبي الحسين البصري، لزم الحمل على الأول إعمالاً للعادة المانعة من الزيادة، ومن لم يقل به بل يرجح دلالة حرف العطف على المغايرة على دلالة لام التعريف على الاتحاد، فيحتمل أن يتوقف في الحمل إلى وجود مرجح يرجح الحمل على أحدهما، ويحتمل أن يحمله على الأول ترجيحًا لمجموع الدلالتين العادة، ولام التعريف، على دلالة حرف العطف، أما احتمال أن يحمله على غير ما دل عليه الأول، إما لأن دلالة حرف العطف متساوية للدلالتين المذكورتين وحينئذ يجب الرجوع إلى ما قبل تلك الأدلة، أو لأن دلالته راجحة عليهما فذلك [الأمر]. بعيد. وأما إذا كان مدلول الأمر الثاني، مماثلاً / (162/أ) لمدلول الأول، ولم تصح الزيادة فيه إما لدلالة عقلية: كقتل زيد، وصوم يوم معين، وإما لدلالة

شرعية: كعتق عبد معين، فإنه لا امتناع من جهة العقل في أن يقف تمام حرية العبد على عدد مخصوص، ويعتق بكل واحد من ذلك العدد جزء معين منه كالطلاق، فإن بينونته الكبرى متوقف على الثلاث منه، والأمر الثاني تأكيد للأمر الأول، إذا كان عامين أو خاصين سواء كان الثاني بحرف العطف أو لا بحرف العطف. مثال: العامين بغير حرف العطف "اقتل كل إنسان اقتل كل إنسان" ومثالهما: بحرف العطف هما بزيادة "الواو". مثال: الخاصين بغير حرف العطف: "اقتل زيدًا اقتل زيدًا". ومثالهما: بحرف العطف هما بزيادة "الواو"، وإنما كان الثاني تأكيدًا مع وجود حرف العطف المقتضي للمغايرة، لأنه لا يمكن حمله على غيره فلو لم يحمل عليه أيضًا لزم التعطيل، وهو أكثر محذورًا من الحمل على التأكيد. ولقائل أن يقول: إن ما ذكرتم من التعطيل، إنما يسلم في العامين وفي الخاصين أيضًا إن لم يكن هناك "زيدًا" آخر يصلح أن يكون قتله مأمورًا به، أما إذا كان فلا نسلم ذلك لاحتمال أن يقال: أنه يجوز أن يكون محمولاً على قتل "زيد" آخر، وإن كان القتل لا تصح الزيادة فيه في "زيد" المدلول عليه في الأمر الأول، لكن ليس المعني من صحة الزيادة في المأمور به ذلك فقط على ما عرفت ذلك من قبل، وعند هذا لا يبقي فرق بين قولنا: "اقتل زيدًا اقتل زيدًا" وبين قولنا: "اعتق عبدًا اعتق عبدًا"، فإن هذا أيضًا إنما يقتضي التكرار إذا كان هناك عبدًا آخر يصلح أن يكون عتقه مأمورًا به، أما إذا لم يكن فإن الثاني أيضًا محمول على الأول تأكيدًا لما ذكرتم من التعليل. فإن قلت: لو حمل الأمر الثاني على "زيد" آخر لزم حمل المشترك على

أحد مفهوميه من غير قرينة لأن كلامنا فيما إذا كان الأمر الثاني مجردًا عن القرينة الدالة على كون المراد منه عين مدلول الأول أو غيره وأنه غير جائز، بخلاف ما إذا حمل على مدلول الأول تأكيدًا، فإن هذا المحذور غير لازم، لأن الأمر [الأول] إنما كان محمولاً على ذلك المعين المسمى به لقيام قرينة معينة وإلا لم يجز حمله عليه عندما يكون شخص آخر مسمى به موجودًا لئلا يلزم المحذور المذكور، وحينئذ يكون حمله عليه بتلك القرينة بخلاف، قولنا: "اعتق عبدًا اعتق عبدًا" فإنه لا يحتاج في العمل بمقتضاه إلى قرينة، بل يجوز له أن يعتق أي عبد أراد مما لا يدل عليه دليل خارجي على عدم أجزائه. قلت: لا نسلم أنه يلزم ما ذكرتم من المحذور، لاحتمال أن يقال: إن التكرار لاسيما مع "واو" العاطفة / (162/ب) قرينة دالة على إرادة غير الأول من الأمر الثاني، ثم أنه قد يتعين، لأنه لو لم يوجد فرد آخر مسمي به سوى ذلك الفرد. أما إذا كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا: فإما أن يكون العام مقدمًا على الخاص، أو بالعكس، وعلى التقديرين إما أن يكون الثاني معطوفًا على الأول، ألا لا يكون، فهذه أقسام أربعة. أحدها: أن يكون العام مقدم، والخاص معطوفًا عليه، نحو قوله: "صم كل يوم وصم يوم الجمعة". واختلفوا فيه: فذهب بعضهم: إلى أن يوم الجمعة، غير داخل تحت قوله: "صم كل يوم" ليصح العطف، وحينئذ يفيد غير ما أفاده الأول. وذهب آخرون إلى الوقف: محتجين: بأنه ليس ترك مقتضى العموم

لأجل صحة العطف أولى من العكس، فيجب التوقف إلى ظهور المرجح ويمكن أن يجاب عنه: بأن الأول أولى، لأن تخصيص العام أهون من ترك مقتضي العطف، لأنه أكثر وكثرته يدل على قلة مفسدته. وثانيها: أن يكون العام مقدمًا، والخاص مذكورًا بعده، بلا عطف ومثالهما ما سبق، ولكن بلا حرف العطف، فهاهنا يكون الثاني تأكيدًا لبعض مدلول العام المتقدم، إذ لا معارض للعام في كونه مجرى على عمومه. وثالثها: أن يكون الخاص مقدمًا، والعام معطوفًا عليه نحو قوله: "صم يوم الجمعة وصم كل يوم" والخلاف كما في الأول. ورابعها: أن يكون الخاص مقدمًا والعام مذكورًا بعده بلا حرف العطف مثالهما: ما سبق، ولكن بدون حرف العطف، فهاهنا العام يحمل على عمومه ومفيد غير ما أفاده الأول قطعًا ومؤكد لمدلول الأول ضمنًا.

"الفصل الثاني" في الآمر

"الفصل الثاني" في الآمر

المسألة الأولي [في الآمر]

الفصل الثاني [في الآمر] وفيه مسائل: المسألة الأولي [في الآمر] الآمر: من صدر منه الأمر لا غير. وهذا على رأي من لم يقل بكلام النفس. وأما على رأي أصحابنا الآمر: من قام به معني الأمر أو صدر منه الأمر. وهذا على رأي الأكثر منهم القائلين بأن الكلام اسم مشترك بين المعني القائم بالنفس وبين العبارة. وأما من يقول: "بأنه حقيقة بالمعني القائم بالنفس لا غير" فالآمر عنده: من قام به مدلول الأمر الذي هو عبارة عن الصيغة المخصوصة.

المسألة الثانية [في الآمر الذي تجب طاعته]

ثم العلو أو الاستعلاء معتبر فيه على رأي من يعتبره في الأمر ومن لم يعتبره فلا. ولا يعتبر فيه أن يكون حكيمًا، بل السفيه قد يكون آمرًا، بدليل أن السلطان، أو المتغلب السفيه إذا أمر وإن كان يظلم الرعية ويقتل النفس بغير حق يقال: إنه آمر بما لا ينبغي، ومخالفة يوصف بأنه خالف الأمر، فلولا أنه آمر لما كان هذا الإطلاق حقًا بطريق الحقيقة، لكنه حق إذ الأصل في الكلام / (163/أ) الحقيقة. المسألة الثانية [في الآمر الذي تجب طاعته] الآمر الذي تجب طاعته ليس إلا الله تعالى، لأن النافذ إنما هو أمر المالك على المملوك ولا مالك سواه سبحانه فلا أمر وجب امتثاله إلا أمره تعالى، فأما النبي والسلطان والسيد والأب ونحوهم، فإنما يجب امتثال أوامرهم، لأنه تعالى أمر بامتثال أوامرهم، نحو قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}. فوجب امتثال أوامرهم بإيجاب الله تعالى لا بإيجابهم ولولا إيجاب الله تعالى امتثال أوامرهم لم يجب امتثال أوامرهم، كما لا يجب امتثال أوامر غيرهم من المخلوفين القادرين على العقاب وتوعده على الترك فإذا لا يثبت وجوب الامتثال في أمر أحد إلا في أمر الله تعالى، أو في أمر من أوجب الله تعالى امتثال أمره.

المسألة الثالثة وجوب فعل المأمور به على المأمور

فإن قلت: إنا وإن لم نشترط في تحقق ماهية الوجوب تحقق العقاب على الترك، لكن لا نزاع بأنه لو تحقق ذلك على ترك الشيء لكان ذلك الشيء واجبًا لا محالة، لأنه لا يضاف تحقق العقاب إلى ترك ما ليس بواجب. فعلى هذا أوامر المتعلين ولو كان بالظلم واجب الامتثال، إذا قرنها بالتوعد بالعقاب، وهو قادر عليه. قلت: نعم يكون كذلك، والذي يدل عليه أن العربي الغير الفارق بقبح المأمور به أو حسنه، إذا سمع من متغلب الأمر بالشيء مقرونًا بالتوعد وهو قادر على تحصيل مضمونه فإنه يسميه أمر او يعلل عقاب مخالف ذلك الأمر بمخالفته، فلولا أنه أمر لما كان كذلك، لكن عادة أهل العلم جارية بتخصيص اسم الأمر بما يكون تركه سببًا للضرر الذي يحذر منه في الآخرة ولا قدرة عليه إلا الله تعالى. المسألة الثالثة وجوب فعل المأمور به على المأمور لا يتوقف على كون الآمر حكيمًا وعلى كون أمره مشتملاً على النفع خلافًا للمعتزلة وهي من تفاريع قاعدة التحسين والتقبيح وقد تكلمنا فيها عليها ولها ما فيه مقنع وبلاغ فلا نفرد هذه المسألة بالكلام، فإن إفسادها يغني عن إفساد هذه المسألة.

"الفصل الثالث" في المأمور به

الفصل الثالث في المأمور به

الفصل الثالث في المأمور به وفيه مسائل: المسألة الأولى [في التكليف بالمحال] يجوز ورود التكليف بالمحال، عند الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأكثر أصحابه، سواء كان ذلك محالاً لنفسه: إما مطلقًا أي لا يختلف استحالته بالنسبة إلى قادر دون قادر، كالجمع بين النفي والإثبات، والجمع بين الضدين، أو لا يكون كذلك وهو على قسمين: لأنه إما أن يكون واقعًا بالقدرة التي هو غير مستحيل بالنسبة إليها، وهو كخلق الأجسام وبعض الأعراض كالطعوم / (163/ب) والروائح فإنه مستحيل بالنسبة إلى القدرة الحادثة دون القدرة القديمة، وهو واقع بها. وهذا على رأي [من يثبت القدرة الحادثة. وأما على رأي] من ينفيها فلا يتصور اختلاف الاستحالة بالنسبة إلى

قدرة دون قدرة، أو غير واقع بها أيضًا كجبل من ذهب، وبحر من زئبق. أو لغيره: وهو: إما لفقد شرطه سواء علم اشتراطه [له] حسا: كالمشي من مقطوع الرجل، والكتابة من مقطوع اليد، أو عقلاً، كالقيام في حالة عدم الداعي إليه أو لوجود مانع، إما حسي كالقيام من المقيد بقيد

مانع [منه]. أو عقلي كالأمر بتحصيل ما علم الله تعالى أنه لا يحصل منه، والأمر بالفعل حال التلبس بضده. ثم اختلف الناقلون في نقل وقوعه عنه. "فمنهم: من نقل عنه أنه واقع، كما هو جائز الوقوع". ومنه من نقل عنه أنه لم يقع. قال إمام الحرمين - رحمه الله -: هذا غلط، بل التكاليف بأسرها عنده لغير الممكن. لوجهين: أحدهما: أن فعل العبد لا يقع عنده إلا بقدرة الله تعالى، ثم قال: ولا معني للتمويه بالكسب". ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير تكليف ما لا يطاق. وثانيهما: أن الاستطاعة عنده مع الفعل والتكليف به متوجه قبله. ولا يخفى أن التكليف بالفعل حال عدم القدرة تكليف ما لا يطاق.

ثم اعترض على هذا الوجه وقال: "الأمر بالشيء بهي عن ضده وهو متلبس به حال الخطاب". أجاب عنه: بأنا لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده. ولئن سلم: ذلك لكن القدرة لم تقارن الفعل وإن قارن الضد. وهما ضعيفان: أما الأول: فلأن الكلام إنما هو على رأي الشيخ لا على رأيه وهو يرى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده. وأما الثاني: فلأن فيه تسليم أن بعض التكاليف تكليف بالمحال لا كله، وهو مقصود السائل ونقيض مقصوده. بل الجواب عنه بوجهين [آخرين]: أحدهما: أن ما هو متلبس به عند ورود الخطاب ليس ضدًا له، وهذا لأن ضده الوجودي المنهي عنه هو الذي يستلزم التلبس به تركه في الزمان الذي أمر بإيقاع الفعل فيه، وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به، لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إن كان الأمر للفور. وثانيهما: أنا وإن سلمنا: أن ذلك ضده المنهي عنه، لكنه حاصل عند ورودا لخطاب، والأمر بترك الحاصل محال لله اللهم إلا أن يقال: إنه مأمور بترك ما هو متلبس به في المستقبل، وذلك إنما يكون بإقدامه على المأمور به

وحينئذ يعود المحذور المذكور. واعلم أن الوجه / (164/أ) الثاني: غير لازم على الشيخ، وهذا لن الاستطاعة وإن كانت مع الفعل عنده، لكن الأمر بالفعل ليس قبله عنده، على ما أشعر به نقل الإمام. وستعرف ذلك في مسألة أن المأمور متى يصير مأمورًا حال الفعل أم قبله. فإن صح هذا من مذهبه كان التكليف بما لا يطاق غير لازم عليه من هذا الوجه، فإن ذكر الإمام ذلك بناء على أنه الحق في نفس الأمر نظر إلى دلالة الدليل عليه، فمن الظاهر أن ذلك لا يصلح أن يخرج عليه مذهبه. والمشهور من جمهور المعتزلة: أنهم ذهبوا إلى امتناع التكليف بالمحال مطلقًا، وإليه ذهب بعض أصحابنا، كالشيخ أبي حامد وإمام الحرمين، والغزالي - رحمه الله - تعالى.

غير أن بعضهم: نقل أن الفرق كلها أجمعوا على جواز التكليف بما علم الله تعالى أنه لا يكون من الممكنات عقلاً، وعلى وقوعه شرعًا كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل، إلا بعض الثنوية فإنه ذهب إلى امتناعه أيضًا. فإن صح هذا النقل يجب أن يفصل بين ما يكون محالاً بسبب تعلق العلم بعدم وقوعه وبين ما لا يكون كذلك فينسب إليهم امتناع التكليف بالقسم الثاني دون امتناعه مطلقًا، إذ لا يشك أن الممكن يستحيل وقوعه بسبب تعلق العلم الأول بعدم وقوعه، لأن وقوعه يستلزم انقلابه جهلاً وهو محال فالمستلزم له أيضًا كذلك، لأن مستلزم المحال محال. ومنهم: من فصل بين ما يكون محالاً لذاته، وبين ما لا يكون كذلك، فأجاز التكليف بالقسم الثاني، دون القسم الأول، وإليه ذهب بعض معتزلة بغداد إذ قالوا: يجوز أن يكلف الله تعالى العبد بالفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعًا عنه.

والبكرية إذ قالوا: الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان، مع ورود التكليف به عامة. وذهب الأستاذ أبو إسحاق - رحمه الله -: إلى أنه لا يجوز أن يرد التكليف بالمحال، فإن ورد لا نسميه تكليفًا بل يكون علامة نصبها الله تعالى على عذاب من كلفه بذلك. ونسب هذا أيضًا إلى إمام الحرمين أيضًا. ومنهم من قال: يجوز التكليف بما لا يطاق مطلقًا لكنه لم يقع للاستقراء.

واعلم أن المسألة مبنية على إثبات الأفعال الاختيارية للعبد، واستحالتها له، فمن أحالها كان القول بوقوع تكليف ما لا يطاق لازمًا عليه. ومن أثبتها، فإن أثبتها بناء على أنه موجد لها وإن كان قائلاً بالتحسين والتقبيح العقلي كان القول باستحالة / (164/ب) تكليف ما لا يطاق لازمًا عليه. وإن أثبتها بناء على أنها مكتسبة له لا أنها مخلوقة له، وإن كان عند البحث عن الكسب لا يحصل على مفهوم محصل منه على ما عرف ذلك في الكلام، لكنه يبينه لما يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين الحركة الاختيارية والرعشة الضرورية، وإن تلك التفرقة لا يجوز أن ترجع إلى الخلق وعدمه لما ثبت أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في الإيجاد والاختراع ألبتة، فما رواه هو المسمي بالكسب وليس إذا يعلم الشيء على التفصيل وجب نفيه أو وجب أنه لا يثبت. أما الأول: فلأن الشيء إذا لم يعلم أصلاً لا يجب نفيه. فكيف إذا علم من وجه؟ [وأما الثاني: فلأن شرط وجوب إثبات الشيء، وإن كان هو العلم به ولو ببعض الاعتبارات لكن ليس من] شرطه العلم بذلك الشيء على

التفصيل وإلا لوجب أن لا يجب إثبات العلة عند العلم بالمعلول، وكذلك بالعكس وما يجري مجراهما، نحو العلم بالملزوم وأحد المضافين، فإن كان قائلاً بالتحسين والتقبيح مع ذلك لزمه القول أيضًا باستحالة تكليف ما لا يطاق، وإلا فجاز أن يقول: باستحالته كما ذهب إليه بعض فقهائنا، وجاز أن يقول: بإمكانه كما ذهب إليه جمهور أهل السنة، إما مع الوقوع أو عدمه، كما اختلف نقل ذلك عن الشيخ أبي الحسين - رحمه الله تعالى -. هذا هو المأخذ والكلام الكلي في المسألة فلنشرع الآن في الحجاج جريًا على المألوف. فنقول: احتج القائلون بإمكانه بوجوه: بعضها تدل على إمكانه مطلقًا، وبعضها تدل على إمكانه ووقوعه لكن فيما يكون محالاً لغيره: فأولها: وهو الوجه السمعي قوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا [به]}. ووجه الاستدلال به: أنهم سألوا من الله تعالى دفع ما لا طاقة لهم به، والله تعالى قررهم على ذلك، وحكي عنهم في سياق المدح والثناء عليهم والحق على الدعاء به، فلو كان التكليف بما لا يطاق محالاً لما سألوه، ولما قررهم الله تعالى على ذلك ولا ندب غيرهم إليه لكون ذلك مندفعًا بنفسه فكان طلبه تحصيلاً للحاصل. فإن قلت: دلالة الآية على المطلوب ممنوعة، وهذا لأن التحميل ليس حقيقة في التكليف حتى يكون معنى قوله تعالى: {ولا تحملنا} لا تكلفنا،

بل هو حقيقة في وضع الحمل على الشيء، فيكون معناه: لا تضع علينا من الحمل ما لا نطيق حمله، فيكون المراد منه سؤال دفع العذاب والأمراض والمحن التي لا يطيق الإنسان تحملها. سلمنا: أنه حقيقة فيه لكن إنما يكون محمولاً عليه أن لو كان التكليف / (165/أ) بما لا يطاق ممكنًا في نفسه [فإن بتقدير أن يكون ممتنعًا في نفسه لا يمكن حمله عليه لما ذكرتم، فحينئذ يتوقف حمله عليه على كونه ممكنًا في نفسه] فلو أثبت كونه ممكنًا يكون محمولاً عليه لزم الدور وأنه ممتنع. سلمنا: إمكان الحمل عليه، لكن يجب صرفه عنه والحمل على دفع ما يشق ويثقل من التكاليف، وإن كان مما يطاق، وهذا وإن كان مجازًا على ما لا يخفى تقريره، لكنه مجاز مشهور كثير الاستعمال على ما شهد به الاستقراء، فيجب حمله عليه توفيقًا بينه وبين ما يذكر من الأدلة الدالة على استحالة تكليف ما لا يطاق. سلمنا: أنه محمول على حقيقته، لكن ما ذكرتم من الدليل على أن طلب ترك الممتنع ممتنع منقوض بقوله تعالى: {رب احكم بالحق} فإن جواز الحكم بالباطل غير ثابت في حقه تعالى وفاقا. أما عندكم: فلأنه غير متصور في حقه تعالى لكونه متصرفًا في ملكه، فكل ما حكم به فهو حق. وأما عندنا: فإما لعدم القدرة، أو لعدم الداعي على اختلاف لنا فيه. وكقوله تعالى حكاية عن دعاء إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يوم يبعثون} "و" خزي الأنبياء غير جائز وفاقا

وكقوله تعالى: {ولا تكونن من المشركين} مع أن جواز الشرك غير ثابت في حق النبي عليه السلام. سلمنا: سلامته عن النقض، لكنه دليل ظني فلا يجوز التمسك به في المسألة العلمية. الجواب عن الأول: أن التحميل في عرف الشرع مخصوص بالتكليف، بدليل أنه المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه فيه ويعضده استعمال القرآن، قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} [إلى] {وحملها الإنسان}. والمراد بالأمانة: التكليف، أو ما يتضمنه وفاقا.

وقال تعالى {أطيعوا الله} إلى قوله {فإن تولوا فإنما عليه [ما] حمل وعليكم ما حملتم} زى عليه ما كلف به وعليكم ما كلفتم به. سلمنا: أنه غير مخصوص به، وأن معناه ما ذكرتم: لكن لا يلزم منه أن يكون المراد منه العذاب والأمراض والمحن فقط بل غاية ما يلزم منه أنه يكون حينئذ عامًا في كل تحميل لا يطاق فيتناولها، والتكاليف بأسرها إذ لا يشك أن وضعها على المكلف تحميل عليه، فيجب إجراؤه على العموم لأن التخصيص من غير دليل غير جائز. وعن الثاني: أنا لا نثبت إمكانه بكون اللفظ محمولاً عليه، بل نثبت إمكانه وكونه محمولاً عليه بدلالته عليه، بأن نقول: اللفظ دل على طلب دفع تكليف ما لا يطاق، فلو لم يكن التكليف بما لا يطاق ممكنًا ولم يكن محمولاً عليه لزم الترك بدلالته من غير دلالة "دليل" على ترك دلالته وأنه غير جائز، ومعلوم / (165/ب) أن دلالته عليه لا تتوقف على إمكانه حتى يلزم الدور. وعن الثالث: من وجهين: أحدهما: أنه لو كان محمولاً على طلب دفع ما يشق ويثقل من التكاليف لزم التكرار، فإن قوله: {ولا تحمل علينا أصرًا كما حملته على الذين من قبلنا {.

دل عليه وأنه خلاف الأصل "على ما عرفت ذلك. وثانيهما: أنا وإن سلمنا أنه لا يلزم منه التكرار أو وإن لزم لكنه ليس خلاف الأصل". لكن لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز وإن كان مشهورًا، فيجب حمله على حقيقته، وأما دلائلكم فيأتي جوابها معها إن - شاء الله تعالى. وعن الرابع: من وجهين: أحدهما: وهو الوجه الإجمالي، أن الأصل أن طلب ترك الممتنع وطلب تحصيل الواجب ممتنع لعدم الفائدة، ولكونه تحصيلاً للحاصل، فإن ترك هذا الأصل في بعض الصور لدليل نحو الإجماع وغيره لا يلزم منه أن يترك في سائر الصور من غير دليل. وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي، أنا لا نسلم أن المراد من الحق: فيما تلوتم من النص ضد الباطل، حتى يلزم منه طلب الحكم بالحق الذي هو واجب، وطلب ترك الحكم بالباطل الذي هو ممتنع. بل المراد منه العذاب عند البعض، وإنما سماه حقًا، لأنه يحق وقوعه كما في قوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق}. والنصرة عند البعض الآخر وإنما سماها حقًا، إما لما تقدم لأنها موعودة

من الله تعالى، وإما لأنها تظهر الحق للجميع، وفعل كل واحد منهما ليس بواجب عقلاً، وكذلك ترك كل واحد منهما ليس بممتنع عقلاً، فإن وجب الفعل وامتنع الترك في شيء منهما، فإنما يجب ويمتنع نظرًا إلى الوعيد، لكن وقته غير متعين فجاز أن يطلب في وقت معين لكون فعله فيه غير واجب، وكذلك تركه فيه ليس بممتنع بخلاف ما نحن فيه، فإنه ممتنع عند الخصم عقلاً في جميع الأزمان، فلا يلزم من جواز طلب القسم الأول جواز طلب القسم الثاني. وعن الآيتين الباقيتين: أن امتناع خزي الأنبياء وامتناع الشرك عليهم، إنما هو بالشرع لا بالعقل فجاز أن يطلب تركه بناء على الجواز العقلي، بخلاف الممتنع عقلاً فإنه ممتنع بحسب الشرع والعقل جميعًا فلم يعتمد الطلب على جواز "ما". ولئن سلم: أن امتناعهما عقلى، لكن بالنسبة إلى الشخص المعين دون غيره من أشخاص وأصناف أنواعه فجاز أن يطلب تركه نظرًا إلى كونه ممكنًا في صنفه / (166/أ) ونوعه بخلاف ما نحن فيه، فإنه لا يعتمد [الطلب على جواز "ما" فلا يلزم من جواز طلب ترك ما هو جائز باعتبار "ما" وممتنع باعتبار "ما"] طلب ترك ما هو ممتنع مطلقًا. وعن الخامس: أنه لازم عليكم أيضًا فإنكم تتمسكون فيه بالدليل الظني على ما يأتي ذكره في دلائلكم، فما هو جوابكم فهو جوابنا.

سلمنا: أنه "غير" لازم عليكم، لكن جوابه بعض ما سبق في الأمر. وثانيها: ما سبق في التحسين والتقبيح، وقد عرفت ما فيه فلا نعيده. وثالثها: وهو المعول عليه للجمهور أن علم الله تعالى كان في الأزل متعلقًا بوقوع كفر الكافر الذي مات على الكفر، كأبي جهل وأبي لهب. أما أولاً: فلمساعدة الخصم ومن عداهم من المخالفين القائلين بعدم العلم. وأما ثانيًا: فلأنه لو لم يكن متعلقًا بوقوعه في الأزل، فإما أن يكون متعلقًا بوقوع ضده، وهو الإيمان أو لا بواحد منهما، وكل واحد منهما ممتنع في حق الله تعالى لكونه جهلاً، ثم إن هذا الكافر أيضًا كان مأمورًا بالإيمان في حال الحياة بإجماع المسلمين، ولأنه لو لم يكن مأمورًا به لم يكن تركه الإيمان معصية وهو ظاهر الفساد غني عن الإفساد، لكن صدور الإيمان منه في "حال" الحياة محال، لأنه يفضي إلى أن ينقلب علم الله جهلاً في الماضي، وهو محال باعتبارات ثلاثة، فكان أمر هذا الكافر بالإيمان كفرًا بالمحال، لأن المفضي إلى المحال محال.

فإن قلت: لا نسلم أن صدور الإيمان من هذا الكافر محال، ولا نسلم أن صدوره يفضي إلى أن ينقلب علمه تعالى جهلاً، وهذا لأن العلم بالوقوع وعدم الوقوع تبع للوقوع واللاوقوع، فإذا فرض وقوع الإيمان منه في حال الحياة، كان العلم الأزلي متعلقًا بالإيمان بدلاً عن الكفر، وإذا فرض وقوع الكفر منه في حال الحياة، كان العلم الأزلي متعلقًا به في الأزل بدلاً عن الإيمان، فلم يلزم عند وقوع الإيمان بدلاً عن الكفر، ووقوع الكفر بدلاً عن الإيمان إلا وقوع العلم بالإيمان بدلاً عن العلم بالكفر ووقع العلم بالكفر بدلاً عن العلم بالإيمان لا ما ذكرتم من انقلاب العلم إلى الجهل في الماضي. واعلم أن هذا طريقة الكعبي، واختاره أبو الحسين في التقصي والانفصال عما ذكرنا من الدلالة. وأما طريقة الباقين منهم نحو أبي على وأبي هاشم، والقاضي: فأضعف من هذا. وهي أنهم قالوا: ثبت بالدلائل القاطعة إن العلم بوقوع الشيء، أو لا وقوعه لا يجوز أن يكون مانعًا من الوقوع واللاوقوع وستعرف بعض / (166/ب) تلك الدلائل، فعند هذا لو قيل: بأن علمه تعالى بالكفر ينقلب جهلاً، عند صدور الإيمان كان ذلك خطأ. ولو قيل: بأنه لا ينقلب كان ذلك أيضًا خطأ، فيجب الإمساك عن القولين. سلمنا: أن ما ذكرتم من الدلائل تقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر

الذي علم الله تعالى أنه يموت على الكفر، لكنه معارض بوجوه: أحدها: لو كان "الشيء" يمتنع عدمه بسبب تعلق العلم بوجوده أو يمتنع وجوده بسبب تعلق العلم بعدمه، لزم أن لا يكون الله تعالى قادرًا على شيء، لأن علمه متعلق بكل شيء فما علم وجوده يصير واجب الوجود، وما علم عدمه يصير ممتنع الوجود، ولا قدرة على الواجب والممتنع. وثانيها: أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه في نفسه فالعلم يتعلق بالممكن لجواز الوجود والعدم، لأن الممكن على جوازهما في نفسه فلو صار الممكن واجب الوجود أو واجب العدم بسبب تعلق العلم به، لزم أن يكون ذلك العلم جهلاً، ولزم أيضًا أن يكون ذلك الممكن جائز العدم وممتنعة، وأن يكون جائز الوجود وممتنعة، وفي ذلك اجتماع النقيضين، ولزم أيضًا أن يكون العلم التابع للمعلوم مؤثرًا فيه وهو محال. وثالثها: لو كان العلم بالوجود مانعًا من العدم، أو العلم بالعدم مانعًا من الوجود، لزم أن لا يكون للعبد اختيار في أفعاله وأقواله الاختيارية، لأن ما علم الله تعالى وجوده يجب أن يكون موجودًا، وما علم عدمه يمتنع وجوده، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى الحركات والسكنات الاضطرارية حركات وسكنات الجمادات، وفساد هذا معلوم بالضرورة. ورابعها: أن تعلق العلم بالمعلوم إن كان موجبًا لوجوده، لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة، إذ لا معنى لهما إلا كونهما موجبين لوجود الممكنات

عند تعلقهما به، وإن لم يكن موجبًا لوجوده لم يكن تعلق العلم الأزلي بالفكر مانعًا من الإيمان. وخامسها: لو كان العلم بالكفر مانعًا من الإيمان، لكان أمر الله تعالى الكافر بالإيمان أمرًا له بإعدام علمه ضرورة أن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، إذ لا يعتبر كونه مقدورًا له على تقدير جواز تكليف ما لا يطاق، ووجود الإيمان يتوقف على انتفاء موانعه، لكن ذلك غير جائز كما لا يجوز أن يأمر بإعدام ذاته تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وسادسها: وهو أقوى الوجوه، وهو أنه تعالى إذا علم أن الكافر يترك الإيمان ويختار الكفر / (167/أ) ويموت عليه، فإما أن يعلم أنه يتركه ويتلبس بالفكر، وهو مجبور عليه لا خيرة له في ذلك وأنه شاء أم أبي فإنه لابد وأن يتركه أو يعلم أنه يتركه، ويتلبس بالكفر، وهو مختار فيه متمكن من الفعل والترك. فإن ادعيتم الأول فممنوع، وهذا لن العبد عندنا قادر مختار متمكن من الفعل والترك، فلو علم الله تعالى الترك على ما ذكرتم من الوجه لكان ذلك جهلاً لا علمًا، فإن دللتما على ذلك بدليل آخر صحيح الدلالة فمع تعذره وبطلان هذا المذهب باتفاق بيننا وبين أكثر خصومنا، كان التمسك بمسألة العلم ضائعًا، فإن ذلك الدليل مستقل في إثبات تكليف ما لا يطاق، فإنه متى ثبت "الجبر" كان وقوع تكليف ما لا يطاق لازمًا، وأيضًا فإنكم تتمسكون على لزوم "الجبر" بمسألة العلم، فلو كانت دلالة مسألة العلم على لزوم الجبر متوقفة عليه لزم الدور، وأنه باطل. وإن ادعيتم الثاني فمسلم، لكنه غير مانع من الإتيان به، إذ لو كان

مانعًا منه لزم أن لا يكون ذلك العلم علمًا بل يكون جهلاً، لأن متعلقة حينئذ يكون غير مطابق له، لأن التمكن من القصد والترك حينئذ يكون غير ثابت، إذ التمكن من الفعل مع المانع منه غير ثابت، وإذا لم يكن التمكن من الفعل والترك حاصلاً كان علمه، بأنه متمكن منه ومختار فيه جهلاً لا علما تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. الجواب عن الأول: أنا وإن كنا لا ندري أن علم الله تعالى في الأزل كان متعلقًا بالكفر بعينه، أو بالإيمان بعينه ما دام الرجل في قيد الحياة حتى كان يمكننا الجزم بانقلاب العلم جهلاً عند صدور غير ما هو متعلق العلم، بل أيهما صدر منه في حال الحياة ومات عليه، علمنا أن العلم الأزلي كان متعلقًا به، [لكن] لما مات على الكفر علمنا أن العلم الأزلي كان متعلقًا به وتبينا أن صدور الإيمان منه في حال الحياة كان محالاً، لاستلزامه انقلاب العلم جهلاً وقد كان مأمورًا به في حال الحياة بالإجماع، فكان مأمورًا بالمحال. وعن الثاني: إن كان المراد من قولهم: إن القول بالانقلاب خطأ وبعدمه أيضًا خطأ الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكمًا بفساد النفي والإثبات، وذلك إنكار للبديهيات وخروج عن غريزة العقل، وإن كان المراد منه أن الحكم بأحدهما حق، ولكن "لا تعرف" أن الحق ما هو منهما فخطأ الحكم بأحدهما بعينه، فيجب الإمساك عن الحكمين لكيلا يحكم بما هو غير

حق، أو إنا وإن علمنا: ما / (167/ب) هو الحق منهما بعينه، لكن لا يقول: به تأدبًا واحترازًا عن سوء القول في صفاته تعالى فهو أحق، لكنه غير دافع لما ذكرنا من الدليل. وعن الأول من وجوه المعارضات، إنا لا نسلم: أنه لا قدرة على الواجب والممتنع مطلقًا، بل إنما نسلم: ذلك في الواجب والممتنع لذاته لا مطلقًا، وهذا لأنه يجوز أن يصير الشيء واجب الوقوع بسبب تعلق القدرة والإرادة الجازمة به، فلو كان الوجوب بالغير مانعًا من أن يكون الشيء مقدورًا، لزم أن يكون تعلق القدرة والإرادة بالشيء مانعًا من تعلقهما به، فيكون الشيء مانعًا لنفسه وهو محال، أو تقول: العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرة والإرادة، فيستحيل أن يكون مانعًا من الوقوع بهما، لأن الفرع لا يمنع الأصل. فإن قلت: هب أن علمه بالوقوع بالقدرة لا يمنع من الوقوع بهما، لكن يمنع من تركه بها لما ذكرتم وكذا بالعكس، وحينئذ لا تتحقق المكنة من الفعل والترك معًا فلا تتحقق القدرة، إذ القدرة بالمكنة من الفعل والترك معًا. قلت: المعني من كون القادر متمكنًا من فعل الشيء وتركه، هو أنه أيهما أراد منهما فإنه متمكن منه لا أنه متمكن منهما ولو عند تعلق الإرادة الجازمة بأحدهما، فإن ترك ذلك عنده محال فلا يلزم من عدم التمكن على خلاف المعلوم عدم القدرة بالنسبة إلى شيء من معلوماته، لأنه إما معلوم الوقوع أو معلوم اللاوقوع وعلى التقديرين لا قدرة.

وعن الثاني: إن العلم يتعلق بالممكن لجواز الوجود والعدم نظرًا إلى ذاته، والوجوب والامتناع الحاصل له إنما هو بسبب الغير، وهو تعلق العلم به بالوجود أو بالعدم فلا يلزم من كونه واجبًا، أو ممتنعًا بالغير أن يكون العلم بكونه جائز الوجود والعدم نظرًا إلى ذاته جهلاً، وبه خرج الجواب عن الملازمة الثانية: فإنه لا امتناع في أن يكون الشيء جائز الوجود وممتنعة باعتبارين مختلفين. وعن الملازمة الثالثة: بمنع لزوم كون العلم مؤثرًا في المعلوم، وهذا لأن اللازم من دليلنا هو أن الشيء يصير واجب الوقوع عند تعلق العلم بوقوعه فإما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فذلك غير لازم منه. وعن الثالث من وجهين: أحدهما: منع لزوم سلب الاختيار، وهذا لأنه تعالى علم وقوعه وإلا وقوعه من العبد على وجه الاختيار، لأن العلم يتعلق بالشيء / (168/أ) على ما هو عليه في نفسه، فإذا وقع الفعل من العبد على الاختيار وجب أن يعلمه الله كذلك وإلا لكان جهلاً، فالعلم المتعلق بالوقوع على وجه الاختيار لا يكون مانعًا من الاختيار فيه. وثانيهما: منع انتفاء اللازم، ومنع كونه معلوم الفساد بالضرورة بناء على لزوم "الجبر، وبهذا إنما يجيب من يقول به من القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق. وعن الرابع: أنه ليس موجبًا بمعني أنه مؤثر في الإيجاب، ولا نسلم أنه يلزم من هذا أن يكون العلم الأزلي المتعلق بالكفر مانعًا من الإيمان لجواز أن يكون كاشفًا عن الإيجاب، لا أنه موجب. وعن الخامس: أنه إثبات للشيء بنفسه، فإن جواز الأمر بإيجاد القديم، أو إعدامه من جملة صور النزاع. وأما الجواب عن السادس: من حيث التقضي والانفصال عن الإشكال

على التقدير الثاني فمما يسخر الله فيه، وأما من حيث المعارضة فيمكن أن يقال: أنه تعالى إذا علم أنه يترك الإيمان ولا يتلبس به في جميع عمره مع تمكنه منه واختياره فيه، وجب أن يمتنع مع هذا العلم حصول الإيمان في جميع عمره، وإلا لزم أن يكون ذلك العلم جهلاً تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. ورابعها: أنه تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون، وذلك في قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}، وفي قوله تعالى لنوح: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}، وفي قوله تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون}. ولا شك أن أولئك الأقوام كانوا مأمورين بالإيمان، لما عرفت من قبل لكن صدور الإيمان منهم محال لوجهين: أحدهما: أنه لو كان ممكنًا لو يلزم من فرض وقوعه محال، لكن يلزم من فرض وقوعه محال، وهو كذب خبر الله تعالى، وأنه محال وفاقًا، وإما لأنه صفة نقص، وإما لأنه يؤدي إلى الجهل أو الحاجة على اختلاف في تعليله فلا يكون ممكنًا. وثانيهما: أن إيمانهم بالله وبالرسول صلي الله عليه وسلم يقتضي تصديقهم الله تعالى في كل ما أخبر عنه وتصديقهم الرسول [كذلك]، ومما أخبر الله تعالى

عنه أنهم لا يؤمنون فيكون إيمانهم بالله تعالى يتضمن تصديقهم هذا الخبر، وإنما يكونون مصدقين لله تعالى فيه، بأن لا يؤمنوا فإن التصديق مع العلم بوجود خلاف المخبر عنه محال، فلو صدر منهم الإيمان بالله تعالى لزم أن يكونوا مصدقين له فيه / (168/ب) وأن لا يكونوا مصدقين له فيه وفي ذلك اجتماع النقيضين وهو محال، فصدور الإيمان منهم محال لكونه مستلزمًا للمحال. وخامسها: التكليف بالفعل أن يوجه إلى المكلف حال استواء الداعي: إلى الفعل والترك، كان ذلك تكليفًا بالمحال، لأن الفعل يمتنع حصوله حالة استواء الداعي، لأن الفعل لا يحصل ما لم يحصل الرجحا، وحصول الرجحان حالة الاستواء محال، وإن توجه حال رجحان إحدى الداعيتين على الأخرى، كان ذلك أيضًا تكليف ما لا يطاق، لأنه إن توجه بالراجح كان ذلك تكليفًا بالواجب لما عرفت أن الراجح واجب، والتكليف بالواجب تكليف بالمحال، وإن توجه بالمرجوح كان ذلك تكليفًا بالممتنع، لما أن المرجوح ممتنع والتكليف بالممتنع تكليف ما لا يطاق، سواء كان بالفعل أو بالترك، لأنه تحصيل الحاصل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يرد التكليف بالراجح؟.

قوله: الراجح واجب. قلنا: نعم، لكن بالداعي إليه والإرادة الجازمة المتعلقة به لا لذاته، [و] وجوب الشيء بالشيء لا ينافي وقوعه به، وإلا لزم نفي وقوع الأشياء بقدرة الله تعالى وإرادته. وهو باطل وفاقا. فيكون الفعل مقدورًا له فلم يكن تكليف ما لا يطاق. سلمناه: لكنه منقوض بفعل "الرب" فإن أمكن أن يقال فيه: إن فعله تعالى حال استواء الداعي إلى الفعل والترك ممتنع لما ذكرتم، وفعل الراجح واجب وتركه ممتنع فلم يكن مقدورًا له، وفعل المرجوح ممتنع، وتركه واجب فلم يكن المرجوح مقدورًا له أيضًا، فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا في فعل العبد. الجواب عن الأول: أنا نسلم أن وجوب الشيء بالشيء لا ينافي وقوعه به ولا يدعى في هذا المقام أن الراجح غير واقع بقدرة العبد وداعيته، حتى يكون ما ذكرتم قادحًا فيه، بل ندعى أن فعل الراجح وتركه غير داخلين تحت اختيار المكلف وإن كانا واقعين بقدرته وداعيته، والدليل عليه أن الراجح واجب الحصول ممتنع اللاحصول، لما عرفت أن الرجحان يستلزم الوجوب، فإن كان هذا الوجوب بسبب الداعية التي هي غير داخلة تحت اختيار المكلف، لما عرفت أنها ليست من العبد ما لم يكن حصول هذا الوجوب داخلاً تحت اختياره، وكان حصول الراجح بغير اختياره، وإن كان بقدرته وإرادته فكان التكليف بالراجح تكليفًا بالمحال، سواء كان بالفعل أو بالترك.

وعن الثاني: ما سبق من الفرق في التحسين والتقبيح. وسادسها: أن العبد لو قدر على الفعل، فإما أن / (169/أ) يقدر عليه حال وجوده، وهو محال لاستحالة إيجاد الموجود، أو قبل وجوده، وهو أيضًا محال، لأنه لم يكن لها أثر فهي قبل وجوده، وثبت أنه ليس لها أثر حال وجوده، لم يكن لها أثر ألبتة فلم تكن القدرة مؤثرة فيه. وإن كان لها فيه قبل وجوده أثر، فهذا يقتضي أن يكون تأثير القدرة في المقدور مغايرًا له ضرورة حصوله دونه فتأثير القدرة في ذلك التأثير المغاير للمقدور. وإن كان حال وجوده لزم ما تقدم من المحذور. وإن كان وجوده، فالكلام فيه كالكلام في الأول: ولزم التسلسل، وهو محال فلم يقدر العبد على الفعل وهو المطلوب، فيكون تكليفه بالفعل [تكليف] ما لا يطاق. وسابعها: الأمر بالفعل قبل الفعل، وهو ظاهر، فإن الكافر "مأمور" بالإيمان قبله، ولأن الأمر لو لم يكن قبل الفعل، بل عنده لم يتصور تحقق الذم على ترك المأمور به، لأن عند الفعل لا ترك، فلا ذم، وقبله لا أمر فلا ذم، فلا يكون ترك الفعل المأمور به سببًا للذم، والقدرة ليست قبله، لأن القدرة صفة متعلقة فلابد لها من متعلق، والمعدوم لا يجوز أن يكون متعلقه،

لكونه نفيًا محضًا، ولأن المستمر لا يجوز أن يكون مقدورًا، فالمعدوم المستمر أولى أن لا يكون مقدورًا. وإذا لم يكن المعدوم متعلق القدرة، وجب أن يكون متعلقة الموجود، فالقدرة لا توجد إلا عند الفعل، وثبت أن الأمر قبله. ولا شك أن الأمر بالفعل بدون القدرة، تكليف ما لا يطاق. وهما ضعيفان، لأنهما منقوضان بقدرة الله تعالى. إذ الأول: يقتضي نفي قدرته تعالى. والثاني: حدوثها، وهم باطلان وفاقا. ويمكن أن يستدل بالثاني على وجه التنقص بقدرة الله تعالى، وهو أن يقال الأمر قبل الفعل لما تقدم، والقدرة ليست قبله، لأنها عرض والعرض لا يبقي زمانين وإلا لزم قيام العرض بالعرض، إذ البقاء أيضًا عرض على ما ثبت أنه ليس نفس الباقي، وعند ذلك يلزم أن يكون التكليف موجودًا عند عدم القدرة التي بها يقدر على الفعل، وهو تكليف ما لا يطاق. وثامنها: أن فعل العبد مخلوق لله تعالى دونه، ومتى كان كذلك كان القول بتكليف ما لا يطاق لازمًا.

وإنما قلنا: إن فعله مخلوق لله تعالى دونه فلوجوه: منها: أنه لو كان خالقًا له. فإما أن يكون خالقًا له بالذات والطبع، وهو باطل وفاقا. أو يكون خالقًا له بالاختيار، وحينئذ يجب أن يكون عالمًا بتفاصيله، لأن الموجد للشيء بالاختيار لا يمكنه تخصيصه بالإيجاد دون غيره إلا بواسطة الشعور به والعلم بذلك ضروري / (169/ب)، ولأنه لو جاز صدور الفعل من الفاعل بالاختيار من علم به لتعذر الاستدلال على علم الله تعالى بأفعاله المحكمة المتقنة، وهو باطل وفاقا، لكنه غير عالم بها. أما أولاً: فلأن النائم والساهي لا علم لهما بما يصدر منهما، ولا يلتفت على منع من منع ذلك بناء على الشعور بالعلم الشيء غير العلم بالشيء، فجاز أن يكون أصل العلم بالشيء الصادر منهما حاصلاً لهما، لكن الشعور بالعلم بالشيء غير حاصل لهما، لأن الشعور بالعلم بالشيء نفس ذلك العلم بالشيء، وإلا لزم حصول علوم لا نهاية لها دفعة واحدة للعبد، وهو محال. وأما ثانيًا: فلأن الفاعل للحركة البطيئة فاعل للسكنات في بعض أحيانها بناء على أن البطء في الحركة يتخلل السكنات على ما هو رأي كثير منهم: مع أنه لم يعلم أنه سكن في بعض تلك الأحيان فضلاً عن أن يقال: إنه يعلم أخبار الحركة بأعيانها وأخبار السكون بأعيانها، بل ربما جزم أنه لم يسكن قط، وهذا ظاهر في الحركة السريعة التي للإنسان مع أنها بطيئة بالنسبة على حركة الشمس. وأما ثالثًا: فلأن من حرك عضوًا من أعضائه، أو تحرك بنفسه إلى مسافة،

فإنه لا يعلم أنه أوجد من الحركة عشرة أجزاء، أو أكثر أو أقل ولو كان موجدًا لها لاستحال ذلك، وتمام هذه الطريقة سؤالاً وجوابًا في علم الكلام. ومنها: أنه لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد لزم حصول مقدرين قادرين وهو محال، فالقول بصلاحية قدرة العبد للإيجاد باطل. وإنما قلنا: إنه لو كانت قدرته صالحة للإيجاد، لزم حصول مقدورين قادرين فلوجهين: أحدهما: أن مقدور العبد عندهم، إما عين مقدور الله تعالى على ما هو رأي أبي الحسين البصري منهم، فعلى هذه الملازمة بينة جدًا. وإما مثله على ما هو رأي أبي علي وأبي هاشم، وعلى هذا أيضًا الملازمة بينه، لأن حكم الشيء حكم مثله، وهذا الدليل على الخصم ألزم فإنه يعول عليه في إثبات كثير من المطالب الكلامية. وإما أن يقال: إن في مقدور العبد ما لا يقدر الله عليه، كالظلم والكذب والجهل وما يجري مجراها من القبائح، على ما هو رأي النظام.

فعلى هذا لابد وأن يكون ما وراءها من مقدوراته مقدورًا لله تعالى عنده، وإلا لم يكن للتخصيص بالقبح معنى، فإذًا هو مقدوره تعالى إما لأنه عين مقدوره تعالى، أو مثل مقدوره وعلى التقديرين يلزم تحقق الملازمة لما تقدم. وثانيهما: أن ما هو متعلق قدرة العبد، إن كان عين / (180/أ) ما هو متعلق قدرة الله تعالى فهو المطلوب، وإن كان غيره فهو باطل، لأن المقدور قبل دخوله في الوجود عدم صرف [و] نفي محض فيستحيل فيه التمييز بغير النسبة والإضافة وإلا لكان موجودًا، إذ لا معني للموجود إلا أنه ذات متحققة في نفسها متميزة عن غيرها، إما بذاتها أو بصفات حقيقية قائمة بها. وإنما قلنا: إن حصول مقدورين قادرين محال فلوجهين: أحدهما: أنه إذا حاول كل واحد منهما إيجاده، فإما أن يقع، أو لا يقع أصلاً، فإن وقع، فإما أن يقع بهما وهو محال، لأن الأثر مع المؤثر التام واجب به، والواجب بالشيء مستغني عن كل ما عداه، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان لزم أن يستغني عن هذا نظرًا إلى كونه واجبًا بالآخر وأن يستغني عن ذلك الآخر نظرًا إلى كونه واجبًا بهذا، فيلزم أن يستغني عن كل واحد منهما بكل واحد منهما، وهو محال.

أو يقع بأحدهما دون الآخر، وهو أيضًا باطل، لأن قدرة كل واحد منهما لما كانت صالحة للإيجاد على وجه الاستقلال، لم يكن وقوعه بأحدهما أولى من وقوعه بالآخر، فلو وقع بأحدهما دون الآخر لزم ترجح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، وهو محال. وإن كان الثاني: وهو أن لا يقع أصلاً، وهو أيضًا باطل، لأن المانع من وقوعه بأحدهما هو وقوعه بالآخر، والمانع من وقوعه بهما، هو أنه واجب الوقوع لكل واحد منهما بدون الآخر، فلو لم يقع بواحد منهما ولا بهما لزم أن يكون واقعًا لكل واحد منهما، وهو محال. فإن قلت: لا نسلم أن محاولة كل واحد منهما إيجاده أمر ممكن، ولم لا يجوز أن يقال: إن محاولة أحدهما إيجاده يصير ممتنعة عند محاولة الآخر إيجاده؟. وحينئذ المحال المذكور إنما يلزم من هذا الأمر كون العبد قادرًا وحصول مقدور بين قادرين. سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يقع بأحدهما؟ وما ذكروه من الدلالة عليه فغير لازم لجواز أن يكون أحدهما أشد وأعم قدرة من الآخر، نعم: ذلك إنما يفيد بالنسبة إلى قادرين متساويين في القدرة عمومًا وخصوصًا وشدة وضعفًا، لكن المدعي ليس ذلك فقط، بل أعم. سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال: أنه لا يحصل ذلك الفعل منهما ولا من أحدهما؟ لأنه يصير إذ ذاك ممتنع الوقوع، وأما ما ذكروه من الدلالة عليه فحصرها ممنوع، وهذا لأنه يجوز أن يكون قصد كل واحد منهما إلى إيجاده موجب لامتناع وقوعه / (170/ب) عنهما، أو عن أحدهما

وحينئذ لا يكون عدم وقوعه منهما ولا من أحدهما مستلزمًا للمحال المذكور. قلت: الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: وهو الوجه العام وهو أنه ليس امتناع إحدى المحاولتين عند المحاولة للأخرى أولى من العكس، فحينئذ إما أن يندفعا وهو باطل، لأن الدافع لوجود كل واحد منهما هو وجود الآخر، فلو اندفعا معًا لوجدا معًا، وهو محال أو يوجدا معًا وهو المطلوب. وثانيهما: وهو الوجه الخاص فيما نحن فيه دون جميع القادرين، وهو أنه لو امتنع إحدى المحاولتين لسبب الأخرى، فإما أن تمتنع محاولة الله تعالى بسبب محاولة العبد وهو باطل. أما أولاً: فلأن محاولة الله تعالى قديمة على ما ثبت من قدم إرادته تعالى، ومحاولة العبد حادثة وانعدام القديم محال، فضلاً عن امتناعه، فضلاً أن يكون ذلك بسبب الحادث. وأما ثانيًا: فلأنه يوجب النقص وهو على الله تعالى محال وفاقًا، وأما أن تمتنع محاولة العبد بسبب محاولة الله تعالى، فحينئذ يلزم أن يمتنع من العبد أن يريد إلا بإرادة الله تعالى. وهذا لأن محاولته تعالى لو نافت محاولة العبد فإنما تنافيها لكونها تتضمن إرادة عدم إرادته بوقوع ذلك الفعل منه، ضرورة أنه لا منافاة بينهما إلا من هذا الوجه، وإن إرادة الشيء تقتضي إرادة ما هو من ضروراته، ومن ضرورات إرادة الوقوع منه تعالى، إرادة عدم وقوعه من الغير ضرورة كونه منافيًا لإرادة الوقوع منه تعالى، ومن ضرورات إرادة عدم الوقوع من الغير إرادة عدم إرادته بالوقوع وإلا لكان مريدًا لإرادته بالوقوع، وإرادة السبب إرادة للمسبب فيكون مريدًا للوقوع منه، وقد ذكرنا أنه مناف لإرادة الوقوع منه تعالى، فيكون مريدًا للشيء وبما ينافيه هذا خلف وإذا لزم أن يمتنع

من العبد أن يريد إلا بإرادة الله تعالى كان الخبر لازمًا، فيكون تكليف ما لا يطاق واقعًا لا محالة. فإن قلت: لا نسلم أن من ضرورات إرادة عدم الوقوع من الغير، إرادة عدم إرادته بالوقوع. وأما قوله: وإلا لكان مريدًا لإرادته بالوقوع. فممنوع، وهذا لأن الخلو عن إرادة الشيء وإرادة عدمه بعدم الإرادة ممكن، نعم: الخلو عن إرادة الشيء وعدم إرادته غير ممكن، لكن عدم إرادة [الشيء غير إرادة عدمه]، فإن الثاني أخص من الأول، ولا يلزم من عدم جواز خلو الشيء عن الشيء ونقيضه عدم / (171/أ) جواز خلوه عنه وعن أخص من نقيضه. سلمنا: ذلك لكنه منقوض بما إنا نعلم أنه تعالى قد يريد منا إرادة وقوع ما لا يريد وقوعه منا بدليل عدم وقوعه منا، فإنه لو تعلق إرادته تعالى بالوقوع منا لوقع منا لا محالة. قلت: الجواب عن الأول: إن الخلو عن إرادة الشيء وإرادة عدمه بعدم الإرادة، وإن كان ممكنًا لكن في حق من يجوز عليه الجهل، فإما في حق من لا يجوز عليه ذلك، وفي حق من يجب أن يكون عالمًا بجميع الأشياء وبوقوع ما وقع وسيقع منها، وبعدم وقوع ما لم يقع ولا يقع منها فلا. وهذا ظاهر جدًا على رأي من يقول: لا معني للإرادة والكراهة شاهدًا أو غائبًا إلا العلم بكون الفعل مشتملاً على المصلحة، وبكونه خاليًا عنها سواء كان مشتملاً على المفسدة، أو كان خاليًا عنهما، فإن ذلك أيضًا جهة صرف للحكم لكونه فعله عيبًا.

وأما على رأي من يثبتها أمرًا زائدًا على العلم، فمن علل من هؤلاء أفعال الله وتروكه بالمصالح والمفاسد كجمهور المعتزلة فالأمر أيضًا ظاهر على رأيهم لأنه تعالى إن علم أن في الفعل مصلحة أراد وجوده قطعًا، وإن علم أنه لا مصلحة فيه أراد عدمه، إما لمفسدته، أو لكونه عيبًا، والشيء لا يخلو عن هذين القسمين، فلا يخلو عن أن يكون مراد الوجود، أو مراد العدم. وأما على رأي من لم يعللها بها كجمهور أصحابنا فالأمر أيضًا ظاهر لأن الشيء لا يخلو عن الوجود والعدم، وكل موجود مراد الوجود، وكل معدوم مراد العدم لله تعالى عندهم، فالشيء إذا لا يخلو عن أن يكون مراد الوجود، أو مراد العدم. فإن قلت: لا نسلم أن كل معدوم فإنه مراد العدم لله تبارك وتعالى عندهم، بل اللازم من مذهبهم أنه لا يحدث شيء من الحوادث إلا بإرادة الله تعالى، والمعدوم الأصلي ليس بحادث حتى يلزم أن يكون مراد العدم على رأيهم، والمعدوم الممكن أعم من المعدوم بعدم طارئ أو بعدم أصلى، فلا يمكن إدعاء أن كل معدوم فإنه مراد العدم عندهم. نعم: لما كان له صلاحية أن يوجد وصلاحية أن لا يوجد، كان بقاؤه على العدم الأصلي لابد وأن يكون بسبب، وذلك يكفي فيه أن لا يتعلق به إرادة الوجود، لأن عند ذلك ينتفي بسبب وجوده، وهو الإرادة والقدرة النافذة. فعلى هذا مفهوم كون الشيء غير مراد الوجود، أعم من كونه مراد العدم وهذا لأن الشيء إذا كان مراد / (171/ب) العدم، كان غير مراد الوجود لا

محالة، وليس أنه إذا كان غير [مراد] الوجود يلزم أن يكون مراد العدم، كما تقدم في المعدوم المستمر، فإنه عندنا غير مراد الوجود إلا أنه مراد العدم. قلت: الدليل على أن كل معدوم ممكن فإنه مراد العدم لله تعالى على رأيهم، أن المعدوم الممكن إما مراد العدم وإما غير مراد الوجود على ما ذكرتم، لكن ليسو المفهوم الثاني أعم من الأول، بل هما متلازمان. أما كون المفهوم الأول: مستلزم للثاني، فلما سلمتم. وأما كون المفهوم الثاني: مستلزمًا للأول، فلأنه متى كان غير مراد الوجود كان معدومًا لا محالة، وإلا كان مراد الوجود ضرورة أن كل كائن بإرادة الله تعالى عندهم، وهو خلاف التقدير، وإذا كان كونه معدومًا لازمًا لكونه غير مراد الوجود، كان كونه مراد العدم لازمًا لكونه غير مراد الوجود، ضرورة أن إرادة الشيء تستلزم إرادة ما هو من لوازمه بتقيد الشعور به. وعن الثاني: أن النقض إنما يلزم أن لو قلنا: إن أفعال العباد تقع بقدرته وإرادته، ونحن لا نقول: بذلك، بل نقول: إنما تقع بقدرة الله وإرادته فلا ينتقض الدليل حينئذ. نعم: النقض لازم على من قال من أصحابنا: إن قدرة العبد مؤثرة في الفعل عندما يخلق الله فيه داعية جازمة إليه، لو سلم الحكم، لكنه يمنعه. ونقول: لا نسلم أنه يريد منا إرادة جازمة بالفعل عند ارتفاع الموانع مع عدم إرادته منا.

وأجاب الإمام - رحمه الله -: عن أصل السؤال في "نهاية العقول"، بوجه آخر، وهو أنه لو امتنع من العبد أن يريد إلا بإرادة الله تعالى كان القول "بالجبر" لازمًا وإلا فالمقصود حاصل. وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من القسم الثاني حصول المقصود، لجواز أن تمتنع محاولة العبد عند محاولة الله تعالى لأمر يخصه مع أنه لا يمنع أن يريد العبد بدون إرادة الله تعالى. وعن الثاني: أن المحال المذكور، وهو ترجيح أحد الجائزين على الآخر إنما يلزم من وقوع ذلك المقدور من أحدهما دون الآخر، مع أن نسبة قدرة كل واحد منهما إليه على السوية، ومعلوم أن التفاوت بين القدرتين بسبب العموم والشدة لا يوجب الرجحان فيه فيستحيل الترجح. وعن الثالث: أن الفعل لو صار ممتنعًا عند ذلك، فإنما يصير كذلك بسبب ذلك القصد لا لذاته ولا لسبب آخر، لأن انقلاب / (172/أ) الممكن ممتنعًا من غير موجب محال، والكلام مفروض فيما إذا كانت الأسباب الخارجية الموجبة لامتناعه غير حاصلة، وذلك القصد لو كان موجبًا لذلك فإنما يكون موجبًا لكونه مستلزمًا لوقوعه، فإن بتقدير أن لا يكون مستلزمًا له فإنا نعلم بالضرورة أنه لا يكون موجبًا له، وإذا كان كذلك كان الموجب لذلك بالحقيقة، هو الوقوع وحينئذ يعود ما ذكرنا من المحذور.

وثانيها: أن أحد القادرين إذا أراد تسكين جسم والآخر تحريكه مثلاً، فإما أن يقعا معًا. وهو باطل، لما فيه من اجتماع النقيضين. أو لا يقع واحد منهما بواحد منهما. وهو أيضًا باطل، لأن المانع من وقوع السكون من أحدهما ليس إلا وقوع الحركة من الآخر، والمانع من وقوع الحركة من أحدهما ليس إلا وقوع السكون من الآخر، لما تبين من امتناع كون المحاولة والأسباب الخارجية مانعًا من الوقوع، فلو لم يقعا معًا لوقع معًا، إذ العلة مع المعلول. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: المانع من ذلك هو كونه مقدورًا لهما؟ قلت: فحينئذ يمتنع أن يقال: كل مقدور بين قادرين لكنا بينا أن تقدير كون العبد قادرًا يلزم وقوع مقدور بين قادرين، فيلزم حينئذ ألا يقع شيء من مقدورات العبد لا بالله تعالى ولا بالعبد. وهو باطل أيضًا قطعًا، وبتقدير تسليمه فالمقصود حاصل، لأن تكليفه بفعل لا يمكن أن يقع لمانع ملازم تكليف بالمحال أو يقع واحد منهما بواحد منهما، وهو أيضًا باطل لما تقدم. ومنها: أنه لو كان قادرًا على بعض الممكنات، لكان قادرًا على كلها، لكن اللازم باطل قطعًا ووفاقًا فالملزوم مثله. وإنما قلنا: ذلك لوجهين: أحدهما: أن المعدوم عند الخصم شيء ثابت لا تأثير لقدرة القادر فيه،

بل تأثيره عندهم إما في وجوده، أو في اتصافه بالوجود، وكل واحد منهما معني عام مشترك بين كل من الممكنات بالوجوه الدالة على أن الوجود منقول على الواجب والممكن باشتراك معنوي، فيلزم صحة تأثير قدرة العبد في كلها. وثانيهما: أن المصحح للمقدورية هو الإمكان، بدليل الدوران وهو معني عام في جميع الممكنات فيجب عموم صحة المقدورية، وفيه نظر لا يخفى عليك. فثبت بهذه الوجوه، أن فعل العبد غير مخلوق له، بل هو مخلوق لله ومتى كان كذلك، كان القول بتكليف ما لا يطاق لازمًا، لأن تكليف العبد بالفعل حينئذ يكون / (172/أ) تكليفًا بفعل الغير، وهو تكليف ما لا يطاق قطعًا ووفاقًا. وتاسعها: الأمر بالنظر والفكر، واقع في قوله تعالى: {قل انظروا} وفي قوله عليه السلام: "تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذات الله تعالى".

.........................................................................

ولا شك في أن حصول النظر متوقف على حصول القضايا. والقضايا، إما نظرية، وإما ضرورية. والنظرية: متوقف على الضرورية، دفعًا للتسلسل. والضرورية: متوقفة على تصور مفرداتها. والعلم بذلك ضروري، لكن شيء من التصورات غير مكتسب، لأنه إن كان محظورًا بالبال امتنع اكتسابه لاستحالة تحصيل الحاصل. وإن لم يكن كذلك امتنع أيضًا اكتسابه، لأن اكتساب ما يكون الذهن عنه غافلاً محال، والعلم بذلك ضروري، وإذا امتنع اكتساب التصورات امتنع اكتساب القضايا الضرورية، ضرورة حصولها عند حصول تصور مفرداتها، وامتناع حصولها عند عدم حصولها. وإذا امتنع تحصليها، امتنع تحصيل القضايا النظرية، لأنها واجبة الحصول عند حصولها وإلا لم يكن اللزوم قطعيًا "لأن جواز انفكاك اللزوم يقدح في القطع وحينئذ يلزم أن لا يكون لشيء من النظريات قطعيًا، وهو خلاف الإجماع. ومن الظاهر أنها ممتنعة الحصول أيضًا عند عدم حصولها.

وإذا كان كذلك كان حصول القضايا النظرية، وعدم حصولها غير متعلق باختيار المكلف، فيكون حصول النظر، وعدم حصوله غير متعلق باختياره أيضًا، فيكون التكليف به تكليفًا بما لا يطاق. وهو ضعيف، لأنه مبني على أن شيئًا من التصورات غير مكتسب. وهو باطل قطعًا، كما نجد من أنفسنا "وجدانًا ضروريًا" طلب بعض التصورات المعلوم، باعتبار المجهول، باعتبار الماهية، أو باعتبارات أخرى. وما ذكر من الدلالة عليه فضعيف، لأن تحصيل الحاصل، إنما يلزم من طلب ما يكون محظورًا بالبال بجميع الاعتبارات، فأما ما يكون محظورًا بالبال، باعتبار دون اعتبار، فلا نسلم أنه يلزم من طلبه تحصيل الحاصل. ولا يقال: المطلوب فيه إن كان هو الوجه المحظور بالبال كان لزومه بينا، وإن كان هو الوجه المجهول، لزم توجه الطلب إلى ما يكون الذهن غافلاً عنه. وهو باطل لما تقدم، لأن الممتنع إنما هو طلب ما يكون الذهن غافلاً عنه بالكلية ولا شعور / (173/أ) له بوجه من الوجوه، فأما ما يكون مغفولاً عنه باعتبار معلوم باعتبار، فلا نسلم أنه يمتنع طلبه. سلمنا: امتناع اكتساب التصورات، ووجوب حصول التصديقات البديهية عند حصولها، لكن لا نسلم: وجوب حصول التصديقات النظرية عند حصولها كيف كان، وهذا لأن مجرد العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل لابد من حصول ترتيب خاص بين تينك المقدمتين، وذلك غير لازم الحصول للقضايا البديهية، بل هو مكتسب الناظر ومقدوره، وإذا كان

كذلك كانت العلوم النظرية مكتسبة ومقدورة [له] أيضًا، ضرورة أن الوقوف على الكسبي كسبي. وعاشرها: أجمعت الأمة على أن المكلف مأمور من جهة الله تعالى بتحصيل العلم بوجوده تعالى. فالمأمور به: إن كان هو العارف به تعالى، لزم تحصيل الحاصل وتكليف ما لا يطاق. وإن كان غير العارف به تعالى، لزم أيضًا تكليف ما لا يطاق، لأن غير العارف بالله تعالى يستحيل أن يعلم أمره تعالى، لأن العلم بأمره [تعالى يتضمن العلم به تعالى والعلم به تعالى] حالة عدم العلم به تعالى محال، وإذا استحال [أن] يعلم أن الله تعالى أمره بتحصيل العلم بوجوده تعالى كان توجيه الأمر نحوه في هذه الحالة توجيهًا للأمر نحو من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر، وهو تكليف ما لا يطاق. وحادي عشرها: أنه لا معنى للأمر إلا الطلب على الوجه الذي سبق ذكره في حده، وليس تعلق الطلب بالمطلوب، كتعليق القدرة والإرادة حتى يستدعى كون المطلوب ممكنًا، لأنهما مؤثرتان في الإيجاد والتخصيص،

والطلب غير مؤثر في المطلوب، بل هو من جنس العلم بدليل صحة تعلقه بالمعين وغير المعين كالعلم، فجاز تعلقه بالمحال كالعلم. وثاني عشرها: أنه لو امتنع التكليف بما لا يطاق. فإما أن يمتنع لنفس كونه تكليفًا بما لا يطاق، وهو باطل قطعًا، وإلا لكان كل من عقله عقل امتناعه وهو باطل، فإن الخصم وإن قال: بامتناعه، فإنما قال ذلك بناء على الدليل لا لنفس مفهومه، ولذلك يذكر عليه الأدلة بعد تعقل مفهومه. وإما أن يمتنع لقبحه وهو أيضًا باطل لما تبين من بطلان القول بالتحسين والتقبيح. وإما أن يمتنع للإضرار وهو [أيضًا] باطل، لأنه جائز بناء على سابقة جرائمه أو تعقب لذة. وإما أن يمتنع لعدم الفائدة، وهو أيضًا باطل، إذ لا سبيل إلى الجزم / (173/ب) بانتفائها، إذ لا نسلم أن الفائدة منحصرة في الامتثال. وإما أن يمتنع لامتناع ورود صيغة الأمر فيه، وهو أيضًا باطل، فإنا نعلم بالضرورة، أنه لا امتناع في ورود صيغة الأمر فيه، إذ لا استحالة في قول القائل: للمقعد قم أو طر. وقوله تعالى {فأتوا بسورة من مثله} و {كن فيكون {منه.

وإذ لم يكن ممتنعًا لأحد هذه الأمور، وجب أن لا يكون ممتنعًا، لأنه لا مأخذ لامتناعه إلا هذه الأمور أو أحدها بدليل الدوران، فإنا متى تعقلناها، أو أحدها في شيء تعقلنا قبح التكليف به، ومتى تعلقنا انتفاء كل واحد منها "عنه" تعقلنا حسن التكليف به. وثالث عشرها: الأمر قبل الفعل لما تقدم الدليل السابع، والقدرة الحادثة مع الفعل، إذ لا يجوز أن يكون متقدمًا عليه، لأنها عرض وهو ظاهر والعرض لا يبقي زمانين على ما ثبت ذلك في موضعه، فلو كانت متقدمة عليه لكانت متقدمة عنده، فيكون الفعل بالقدرة المتقدمة. هذا خلف فهي إذن معه، ومتى كان كذلك كان القول بتكليف ما لا يطاق لازمًا، لأن الأمر بالفعل عند عدم القدرة أمر بالمحال. احتج المخالف: بالمنقول، والمعقول. أما المنقول: فقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها}، وقوله تعالى {ما جعل عليكم في الدين من حرج} وأي حرج أعظم من تكليف ما لا يطاق.

وقوله عليه السلام: "بعثت بالسمحة السهلة الحنفية" .... الحديث. وجوابه: أن ما ذكرتم من النصوص لو دل، فإنما يدل على عدم وقوع تكليف ما لا يطاق لا على عدم جوازه، ولا يلزم من عدم الوقوع، عدم الجواز الذي هو المدعى، فإذا تلك النصوص لا تفيد مطلوبكم ولا نقيض

مدعى الخصم الذي هو نفي الجواز، ولا يمكن أن يقال: إنه إذا لم يثبت عدم وقوعه وجب أن يثبت عدم جوازه، إذ لا قائل: بالفصل لأن كثيرًا منهم: قال به على ما عرفت ذلك من قبل. نعم: هي معارضة للأدلة الدالة على الوقوع، لكن الترجيح معها لكونها أدلة عقلية مفيدة للقطع، وما ذكرتم لا يفيد إلا الظن والتخمين، فكانت راجحة. ولو سلمنا: أنها ليست براجحة، بل هي مساوية لها لكان تأويلها، واجب لما عرف أن عند تعارض العقلي والنقلي، يجب تأويل النقلي لئلا يلزم الترك بمقتضي الدليلين، وذلك، لأنه لو لم يؤول فإما أن يقدم أو يترك على التعارض وعلى التقديرين يلزم ما ذكرنا من المحذور. وأما المعقول: فمن وجوه: أحدها: أن الأمر / (174/أ) بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به، لجاز وروده بكل أنواع السفه والعبث، وحينئذ لم يمتنع منه إظهار المعجزة على يد الكذابين، ولا إنزال الكتب عليهم، ولا يمتنع منه الكذب، وحينئذ لا يبقي وثوق بصحة النبوة، ولا بصحة الخبر والوعيد، ولما كان هذا باطلاً كان الأمر بالمحال باطلاً. وجوابه: أنه مبني على التحسين والتقبيح وقد سبق إبطالهما، ولو سلم عدم بطلانهما، فجوابه ما سبق في التحسين والتقبيح.

وثانيها: لو جاز الأمر بالمحال، لجاز أمر الجمادات، وبعثة الأنبياء إليها، وإنزال الكتب عليها. وهو باطل وفاقا، فكذا ما نحن فيه. وجوابه: أن حاصل الأمر بالمحال عندنا، يرجع إلى إعلام المكلف بنزول العذاب عليه، وهو غير حاصل في حق الجماد. وثالثها: أن التكليف بالمحال، نحو تكليف الأعمى بنقط المصاحف، والمقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالجمع بين السواد والبياض، قبيح عرفًا فكذا شرعًا لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح". وجوابه: أنه ليس معناه: أن ما رآه المسلمون قبيحًا بالنسبة إليهم، فهو قبيح عند الله تعالى بالنسبة إليه تعالى، حتى يحصل مقصودكم، بل معناه: أن ما رآه المسلمون قبيحًا بالنسبة [إليهم، فهو عند الله قبيح بالنسبة إليهم، أو إن ما رأوه قبيحًا بالنسبة] إلى الله تعالى، فهو أيضًا قبيح عند الله تعالى بالنسبة إليه، وحينئذ يمتنع أن يكون المسلمون رأوا قبحه بالنسبة إليه تعالى، حتى يلزم قبحه عنده بالنسبة إليه تعالى. ذلك؟ ومعظم المسلمين على أنه لا يقبح شيء من الله تعالى، بل كل شيء بالنسبة إليه تعالى حسن. ورابعها: وهو ما عول عليه الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى - وهو

أن التكليف طلب ما فيه كلفة، والطلب يستدعي مطلوبًا متصورًا في نفس الطالب، ضرورة أن طلب ما لا تصور له في النفس محال، وذلك المطلوب يجب أن يكون مفهومًا للمكلف بالاتفاق، فلا يجوز أن يؤمر باللفظ المهمل، ولا باللفظ الذي لا يعرف المأمور معناه، ولا متمكنًا من معرفته بالمراجعة، لأن الأمر خطاب مع المأمور وهو يعتمد الفهم والتمكن منه فيما ليس له مفهوم، أو إن كان لكن لا يتمكن المأمور من معرفته ليس خطابًا معه، وإنما اشترط ذلك ليكون منه الطاعة، فإن التكليف اقتضاء الطاعة، فإذا لم يكن في الفعل طاعة، إذا الطاعة بالامتثال، وهو غير متصور في المحال لم يكن اقتضاء الطاعة متصورًا فيه، وإذا / (174/ب) لم يكن اقتضاء الطاعة متصورًا فيه استحال التكليف به لفقد معناه، كما ذكرتم في امتناع تكليف الجماد لسبب فقد معنى الأمر، وهو الإعلام. وتحرر هذا بعبارة أخرى وهي: أن المحال غير متصور، لأن كل متصور متميز، وكل متميز ثابت، والمحال غير ثابت في النفس، ولو كان له ثبوت في النفس، لما امتنع وجوده في الخارج لذاته، فلا يكون متصورًا، وإذا لم يكن متصورًا، لم يكن مأمورًا به، لأن المأمور به لابد وأن يكون متصورًا، لاستحالة طلب ما لا يكون متصورًا، والعلم بذلك ضروري. وجوابهما: أنه مبني على أن المحال غير متصور. وهو باطل: لأنا نحكم بأن الجميع بين السواد والبياض مثلاً ممتنع، فلولا أنه متصور وإلا لامتنع الحكم عليه بالامتناع ضرورة أن التصديق مسبوق بالتصور، ولأنه لو لم يكن متصورًا لم يمكن التمييز بين مفهومه وبين مفهوم أحداث القديم مثلاً، وحيث حصل التمييز دل على أنه متصور، فعلى هذا نمنع في العبارة الأولي قوله: الامتثال غير متصور في المحال.

وهذا لأنه لو كان كذلك، لامتنع الحكم عليه بالامتناع في قولنا: "الامتثال في المحال ممتنع"، ولما أمكننا أن نميز بين مفهومه وبين مفهوم غيره من الحالات. وفي الثانية: يمتنع قوله: "أن المحال غير ثابت في النفس" ولا نسلم أنه لو كان له ثبوت في النفس، لما كان وجوده في الخارج ممتنعًا لذاته، وما الدليل عليه. ومنهم: من أجاب عن الأول: بأن الجمع المعلوم المتصور المحكوم بنفيه عن الضدين، إنما هو الجمع المعلوم بين المتخلفات، التي ليست متضادة، ولا يلزم من تصوره منفيًا عن الضدين تصوره نافيًا لهما. ثم قال: وهو دقيق فليتأمل. وفيه نظر: أما أولاً: فلأنه يقتضي أن يكون إطلاق الجمع على الجمع بين المختلفات، وعلى الجمع بين المتضادات بالاشتراك اللفظي، وهو باطل.

أما أولاً: فلكونه منقسمًا إلى الجمع بين المتماثلات، والمختلفات والمتضادات، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا بين الأقسام التي إليها تنقسم. لا يقال: ما ذكرتم منقوض بصحة تقسيم اللفظ المشترك إلى مفهوماته المختلفة، إذ يصح أن يقال: العين، إما العين الباصرة، وإما العين الجارية، وكذا ينقسم إلى غيرهما من مفهوماته، مع عدم الاشتراك بينهما. لأنا نقول: لا نسلم أن ذلك مع عدم الاشتراك بينها، بل هو باعتبار أمر مشترك بينها وهو كونه مدلول اللفظ، فكأنه يقال / (175/أ) مدلول اللفظ إما ذا، وإما ذا، إذ لا شك أنه قدر مشترك بين تلك الأقسام. وأما ثانيًا: فإنه خلاف المتبادر إلى الفهم، إذ المتبادر إليه هو كونه متواطئًا لا مشتركًا، إذ لا يعقل في مفهومه اختلاف [و] معه يستحيل تعقل الاشتراك. وأما ثانيًا: فلأنه خلاف الأصل. وأما ثالثًا: فلأن المثبت يجب أن يكون بالمعني المنفي حتى يتوارد النفي والإثبات على شيء واحد، وإلا لم يكونا متنافيين، فإذا كان المتصور في جانب النفي، وهو ذلك الجمع، وجب أن يكون المتصور، في جانب الإثبات هو بعينه، ولا شك في أنه محال فيه. وأما وجوهكم الدالة على لزوم الجبر التي يلزمها القول بتكليف ما لا يطاق، فهي معارضة بوجوه: أحدها: لو كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى، وليس العبد متمكنًا من

فعله عندما لا يخلقه الله تعالى فيه، ولا من تركه عندما يخلقه الله تعالى فيه، لزم أن لا يبقي فرق بين الأفعال الاختيارية والرعشة الضرورية، واللازم باطل فقطعًا فالملزوم مثله. وجوابه: بمنع الملازمة، وهذا لأن اللازم من ذلك إنما هو عدم تأثير القدرة الحادثة فيه، وعدم التمكن من الفعل والترك حالتي الفعل والترك، ولا يلزم من اشتراكهما فيه عدم الفرق بينهما من كل الوجوه، إذ الاشتراك في بعض الأمور لا يوجب الاشتراك في كلها. وثانيها: أنه لو كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى، لما وقع فرق بين القوى والضعيف، إذا الكل بخلقه ولكانت قدرة العبد متعلقة بالجواهر، كما هي متعلقة بالأكوان، إذ الكل بقدرة الله تعالى وهي متعلقة بهما واللازم باطل فالملزوم مثله. وجوابه: أيضًا منع الملازمة، وهذا لأن الكل وإن كان بخلقه تعالى "لكن الفرق حاصل بسبب كثرة ما يخلق الله تعالى" من القدرة والمقدور في القوى دون الضعيف، وهكذا نمنع الملازمة الثانية، إذ لا يلزم من كون الكل مقدور الله تعالى كون قدرة العبد متعلقة لكل ما يكون مقدورًا له تعالى، نحو أن يكون الله تعالى خصص تعلق قدرته بنوع من مقدوراته. وثالثها: لو كان فعل العبد من فعل الله تعالى، لما انقسم إلى طاعة، ومعصية، ضرورة أن فعله تعالى لا ينقسم إليهما، لكنه ينقسم فلا يكون من فعله تعالى. وجوابه: أن فعل الله عندنا: ينقسم "إلى ما يكون للعبد فيه تعلق بالكسب وإلى ما لا يكون / (175/ب) كذلك. فإن ادعيتم أن مطلق فعله تعالى لا ينقسم" إليهما سواء كان متعلق

قدرة العبد بالكسب أو لا يكون كذلك، فإن ما هو من مقدوراته تعالى قدرة العبد بالكسب ينقسم إليهما عندنا. وإن ادعيتم أن النوع الثاني: من أفعاله تعالى لا ينقسم إليها، فمسلم: لكن لا يلزم من انقسام هذا النوع إليهما عدم انقسام النوع الأول إليهما. ورابعها: لو كان فعل العبد يخلقه تعالى، لكان الكفر والإيمان بقضائه وإرادته "تعالى ضرورة أن الخلق لا يتم إلا بالقضاء والإرادة، ولأنه لا قائل بالفصل وحينئذ يجب الرضا بالكفر ضرورة أن الرضا بالقضاء واجب لكن الرضا بالكفر كفر بالكفر ليس بقضائه وإرادته" وحينئذ يلزم أن لا يكون بخلقه تعالى ضرورة انتفاء لازمه ويعرف منه أن يقال: لو كان فعله بخلقه تعالى لزم أن يكون مريدًا له وراضيًا به لكنه غير راضي به لقوله تعالى: {ولا يرضي لعباده الكفر}. وجوابهما: أن الرضا في قوله تعالى: {ولا يرضي لعباده الكفر}. وفي قولنا: الرضا بالقضاء واجب، ليس هو بمعني الإرادة، بل هو بمعني ترك الاعتراض. والرضا قد يأتي بهذا المعني يدل عليه قول ابن دريد:

رضيت قسرًا وعلى القسر رضا ... من كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر، والإرادة لا تثبت مع القسر، فدل على أنه ليس بمعني الإرادة. وعلى هذا يصير معنى الآية: لا يترك الاعتراض على الكفر لعباده. وعلى هذا التقدير نمنع الملازمة، فإن من الظاهر أن خلق الشيء لا يقتضي الرضا به بالمعنى المذكور. ويصير معني قولنا: الرضا بالقضاء واجب ترك الاعتراض على الله تعالى سبب القضاء واجب. وأما الرضا في قولنا: "بالكفر كفر" فلا نسلم: أنه بهذا المعنى، بل هو بمعني الإرادة والمحمدة، يقال: هذا الشيء [مرضي] أي محمود، وإذا اختلف المعنيان لم يلزم منه المطلوب.

سلمنا: أنه بالمعنى المذكور، لكن لا نسلم: أنه يلزم من الرضا بالقضاء الرضا بالكفر، وهذا لأن الكفر ليس نفس القضاء، بل هو بالقضاء. وهذا كما تقول: القتل بقضاء الله، وليس نفس القضاء نفس القتل. وكما تقول: الكفر لا يكون إلا بعلم الله تعالى، ثم علمه بالكفر ليس نفس الكفر فكذا هنا، فلا يلزم من الرضا بالقضاء، الرضا بما هو بالقضاء. أو نقول: الكفر ليس نفس القضاء، بل هو المقضي ولا يلزم من الرضا / (176/أ) بالقضاء، الرضا بالمقتضي، ألا ترى أن الواحد منا قد لا يرضي ولا يريد ما قضي الله له من الأمراض والآلام، وإن كان راضيًا بقضائه وقدره تعالى. وخامسها: لو كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى [لكان الكفر والمعصية والطاعة كلها مخلوقًا لله تعالى] ضرورة أنها من جملة أفعاله، وحينئذ يلزم أن لا يحسن ذم العبد وعقابه، على الكفر والمعصية، ولا يحسن إثابته وشكره على الطاعة، ولكان ضرر الله على عبده أكثر من ضرر إبليس عليه اللعنة، لأن إبليس داع إلى المعصية فقط، قال الله تعالى حكاية عنه: {ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}. وأما سبحانه وتعالى فخالق للكفر فيه "بحيث" لا مندوحة له عنه، ثم معاقبة عليه، لكن اللازم باطل، إذ العقلاء مطبقون على حسن ذم المسيء وعقابه، وحسن إثابة المحسن وثنائه، وعلى كونه تعالى رحميًا رؤوفًا لعباده.

وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يحسن الذم والعقاب والإثابة على ذلك التقدير، وإنما نسلم ذلك لو لم يكن كسبًا له أيضًا، فإما بتقدير أن يكون كسبًا له فلا. وأما الثاني: فلازم عليهم أيضًا، فإن التمكين بخلق القدرة على المعصية، والداعية الملجئة إلى فعلها، وإعطاء اليسار المفضي إلى فعلها أكثر ضررًا من الدعاء إلى المعصية. فما جوابكم فهو جوابنا. وسادسها: أن فعل العبد منسوب إليه في استعمال القرآن، والحديث، وعرف أرباب اللسان. قال الله تعالى: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}. وقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون}. وقوله تعالى {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله}. وقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقوله تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات}. وأمثالها كثيرة وغير عديدة في القرآن العظيم. وقوله عليه السلام: "إن أحدكم ليعمل عملاً في جوف صخرة صماء لألبسه الله تعالى لباس عمله إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر".

وقوله عليه السلام: "إن هذه الأمة لتعمل برهة من الدهر بالكتاب وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا".

وقوله "نية المؤمن خير من عمله". وأمثالها كثير.

وأما استعمال عرف أرباب اللسان فأيضًا ظاهر كثير في نظمهم، ونثرهم، من الأمثال وغيرها، والأصل في الاستعمال الحقيقة. لا يقال: كما هو منسوب إليه، منسوب إلى الله / (176/ب) تعالى أيضًا، قال الله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعلمون}. وقوله: {خالق كل شيء}. وقوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل}. والأصل في الاستعمال الحقيقة. وعند هذا نقول: يجب حمل أحد الاستعمالين على المجاز [كيلا يلزم الاشتراك فليس حمل استعمالكم على الحقيقة، وحمل استعمالنا على المجاز] أولى من العكس. لأنا نقول: حمل استعمالنا: على الحقيقة، أولى من حمل استعمالكم عليها، لأنه أكثر فلو حملناه على التجوز، لزم تكثير المجاز وأنه تكثير مخالفة الأصل. وجوابه: أنا نقول: بمقتضي دليلكم ودليلنا، وهو أن إسناد الفعل إلى الله تعالى وإلى العبد بطريق الحقيقة.

وهذا على رأي من قال: من أهل السنة والجماعة أن الفعل حقيقة في الكسب، وفي الإيجاد بحسب معنى مشترك بينهما، وهو كونه مقدورًا لفاعله سواء كان بطريق الكسب، أو بطريق الإيجاد، فإن هذا المفهوم يشتمل النوعين جميعًا. وعلى هذا التقدير لا يلزم الاشتراك ولا المجاز، بل الاستعمالان بطريق الحقيقة. وقد عرفت أن التواطؤ خير من الاشتراك والمجاز. وأما من لم يقل بذلك كالشيخ أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى - ومن تابعه فإنه يقول: تلك الإسنادات مجازات عقلية، إذ المجاز في التركيب ليس إلا عقلي، ولا نسلم: أن ذلك خلاف الأصل، وإنما الذي نسلم: أن المجاز اللغوي خلاف الأصل على ما عرفت ذلك في اللغات. سلمنا: أنه خلاف الأصل، لكن قد يصار إليه وذلك عند قيام الدلالة عليه، وما ذكرنا من الأدلة العقلية دال عليه، فوجب المصير إليه.

واعلم أن استقصاء الكلام في مسألة خلق الأعمال، وإرادات الكائنات، بعلم الكلام أليق فلنقتصر على هذا القدر من الكلام. فرع: اختلفوا في أنه: هل يجوز أن يكون التكليف بالممكن مشروطًا بشرط مستحيل أم لا؟. أما القائلون بعدم جواز تكليف ما لا يطاق: فقد اتفقوا على عدم جوازه. وأما القائلون بجوازه: فقد اختلفوا فيه. فمنهم: من جوزه، كالتكليف بما لا يطاق، بل أولى إذا لا حرج ولا ضرر فيه، فإنه لا يستحق العقاب على تركه، إذا لم يترك المأمور به فإنه يصير مأمورًا به عند وجود شرطه وهو مستحيل الوجود. ومنهم: من لم يجوزه، لأنه لا يحصل فيه فائدة الامتثال ولا هو علم على عذاب من كلف به، إذ لا عقاب على تركه على ما سبق تقريره، والتكليف بالمحال إنما جوز، لأنه علم العذاب / (177/أ)، وهذا المعني غير متحقق في الممكن المشروط بالشرط المستحيل فلا يجوز ورود التكليف به.

المسألة الثانية [في حصول الشرط الشرعي]

المسألة الثانية [في حصول الشرط الشرعي] الأمر بالشيء الذي لم يحصل شرطه حال ورود الأمر به، جائز عقلاً، وواقع سمعًا عندنا، وبعض الحنفية، وعند أكثر المعتزلة وهو كتكليف الكفار بفروع الإسلام. وذهب أبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والشيخ أو حامد الإسفراييني

منا، والقاضي عبد الجبار من المعتزلة - رحمهم الله - إلى امتناعه. ومنهم من فصل بين الجواز والوقوع، فقال: بجوازه دون وقوعه. ومنهم: فصل بين الأوامر والنواهي والمعاملات، فقال: إنهم مخاطبون بالنواهي والمعاملات، دون الأوامر.

لنا: على الجواز العقلي وجهان: أحدهما: أنه لو كان مستحيلاً عقلاً، فإما: أن تعرف استحالته بضرورة العقل. وهو باطل. أما أولاً: فلكونه مختلفًا فيه بين الجم الغفير من العقلاء. وأما ثانيًا: فلمساعدة الخصم عليه، فإنه وإن قال: باستحالته، لكن بنظر العقل لا بضرورته. وإما بنظرة: وهو أيضًا باطل، لأنا نعلم بالضرورة أنه لا امتناع في قول السيد لعبده: أمرتك بصعود السطح بعد إيجاد السلم ونصبه، وأمرتك بهما مقدمًا عليه، وكذلك في قول الشارع للمكلف، أمرتك بالصلوات [الخمس] بعد الإتيان بالإيمان، وأمرتك به قبلها، ولو كان امتناعه معلومًا بنظر العقل لم يكن عدم امتناعه معلومًا بالضرورة. وثانيهما: أن الكافر أهل للتكليف، لأنه عاقل بالغ متمكن من فعل المأمور به. ولهذا كان مكلفًا بالإيمان إجماعًا، فيصح أن يكون مكلفًا بالفروع

لحصول الأهلية، وعدم حصول الإيمان حالة الأمر غير مانع من التكليف بها، وإن كان حصوله شرطًا لصحة فعلها، لكون الإتيان به أولاً ممكن. وأما على الوقوع فوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}. ووجه الاستدلال به: أن الضمير في قوله: {وما أمروا} راجع إلى المذكورين في أول السورة، وهم الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، و "الواو" بمطلق الجمع ليس لها دلالة على الترتيب والتراخي، إلا أن تكون بمعني "ثم" كما أن "ثم" قد تكون بمعناها لكنه مجاز، وأنه خلاف الأصل، وحينئذ تكون الآية دالة على أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مأمورون بعبادة الله تعالى على وجه / (177/ب) الإخلاص، وبإقامة الصلاة وبإيتاء الزكاة وذلك يفيد المطلوب. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه يفيد المطلوب، وهذا لأن الأمر بالتوحيد والإيمان، إما أن يكون داخلاً في هذه الأشياء بناء على أن قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} دال عليه، إذ العبادة قد جاءت بمعني التوحيد، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أو لا يكون

داخلاً فيها. فإن كان الأول: فليس في الآية دلالة على أنهم أمروا بالتوحيد والإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة معًا حتى يفيد المطلوب، فإن "الواو" ليس للجمع بصفة المعية، بل لمطلق الجمع وهو أعم منه ومن الجمع بصفة الترتيب، والدال على القدر المشترك بين الصورتين ليس فيه دلالة على ما يميز أحديهما عن الآخر، فجاء أن يكون الأمر بها على صفة الترتيب، ولا يجوز حمله على العموم، إذ ليس فيه ما يدل عليه، وبتقدير أن يكون فيه ما يدل عليه لا يجوز حمله عليه أيضًا، لأن حكاية الحال لا تفيد العموم ولا على عموم أمر الله، فإن تقدير ذلك يفيد المطلوب أيضًا على ما لا يخفى تقريره عليك، لأن أمرهم كان واقعًا على نمط واحد فلا يجوز حمله على غيره. وإن لم يكن داخلاً فيها فهذا مع كونه باطلاً، لأنه يقتضي أن لا يكونوا مأمورين بالإيمان، إذ الآية تدل على حصر المأمور به لهم في الأشياء المذكورة، وهو باطل إجماعًا، إذ لا خلاف في أنهم مأمورون بالإيمان. و [إنما] النزاع في أن تقديمه هل هو شرط في الأمر بغيره من العبادات أم لا. فالمقصود أيضًا غير حاصل، إذ ليس في الآية دلالة إلا على أنهم أمروا بهذه الأشياء، وأمرهم بها أعم من أن يكون بشرط تقديم الإيمان أولاً بهذا الشرط، والدال على العام غير دال على الخاص، فليس فيه دلالة على أنهم أمروا بالأشياء المذكورة من غير شريطة تقدم الإيمان. ولا يقال: لو كان مشروطًا به لذكره لمسيس الحاجة إليه وإزالة اللبس، لأن ذلك إنما يجب فيما قصد فيه بيان الشرع لا في الأخبار.

ويمكن أن يجاب عنه بأن الآية وإن دلت على أنهم أمروا بهذه الأشياء، من غير بيان شريطة كون البعض متقدمًا على البعض، "لكن الأصل عدم اشتراطه فيلزم من مجموعهما أنهم أمروا بهذه / (178/أ) الأشياء من غير اشتراط كون البعض متقدمًا على البعض"، وذلك هو المطلوب. وثانيها: قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} .... الآية. وهذا يدل على أنهم معاقبون على ترك الصلاة، وترك إطعام المسكين، لأنه لو لم يكونوا مأمورين بهما لم يكونوا معذبين على تركهما، إذ ما ليس بواجب لا عقاب على تركه، ولا مدخل له أيضًا في تغليظ العقاب، فإن التغليظ نوع من العقاب أيضًا فلا يحسن ذكره في مستند العقاب. وهذا وإن كان حكاية قول الكفار، لكن لما لم يكذبهم الله تعالى فيه مع عدم استقلال العقل بمعرفته دل على أنه حق وصدق بخلاف قوله تعالى: {والله ربنا ما كنا مشركين} [وقوله] {ما كنا نعمل من سوء}، وقوله: {[يوم يبعثهم] [الله جميعًا] فيحلفون له كما يحلفون لكم} فإنه لم يكذبهم فيه لما أن العقل مستقل بمعرفته كذبهم فيه، ولا يجوز

حمل المصلين على المؤمنين، كما في قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل المصلين"، وكما في قولهم قال: "أهل الصلاة"، والمراد المسلمون

فإن بتقدير ذلك لا يحصل المقصود، لأنه مجاز لا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه، وهو مقصود إذ الأصل عدم ذلك الدليل. وكون أهل الكتاب من جملة القائلين بهذا القول: مع أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويؤمنون بالغيب لا يصلح دليلاً عليه، لأن الصلاة حقيقة في الأفعال المخصوصة والأركان المعلومة التي في شرعنا، وهي ما كانت حاصلة في شرعهم، فيصدق في حقهم أنهم لم يكونوا من المصلين، ولما لم يكن إيمانهم بالغيب على وجه الذي ينبغي لا جرم يصدق في حقهم أيضًا أنهم يكذبون بيوم الدين، ولئن جوزنا هذا الحمل والتأويل. فما الحيلة في دفع قوله: {ولم نك نطعم المسكين} ولا يجوز إحالة التعذيب إلى التكذيب بيوم الدين، وإن كان سببًا مستقلاً له، ومع أن إضافة الأثر إلى السبب المستقل أولى، لأنه لم يبق حينئذ في ذكر غيره من القيود فائدة، والتكذيب بيوم الدين، وإن كان سببًا مستقلاً لمطلق التعذيب، لكن ليس سببًا مستقلاً بتعذيب مخصوص حاصل بسبب ترك مجموع الأمور المذكورة، فلم يلزم انخرام تلك القاعدة. وحمل {لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} على لم نك من المقرين بوجوب فعل الصلاة والإطعام وإن كان مجازًا ظاهرًا من حيث إن عدم الإقرار بالوجوب سبب للترك، كما أن / (178/ب) الإقرار بالوجوب سبب للفعل خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا عند تعذر الحمل على الحقيقة، وقيام الدلالة على إرادته وحصولها غير مسلم فيما نحن فيه، وتخصيص القضية

بالمرتدين، يوجب تخصيص المجرمين الذي هو عام في جميع الكفار، أو تخصيص الضمير العائد إليه بهم، من غير دليل وأنه غير جائز. وثالثها: قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى}. ووجه الاستدلال به: أنه ذمهم على ترك الصدقة والصلاة، ولو لم يكونا واجبين عليهم لما ذمهم على تركهما. ورابعها: قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}، وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}. والكافر إنسان فيكون داخلاً فيه، وإلا لزم التخصيص، وأنه خلاف الأصل فيكون الكافر مأمورًا بالعبادة وبحج البيت وذلك هو المطلوب. وخامسها: قوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} وترتيب الويل على عدم إيتاء الزكاة مشعر بعكسه، وإنما يكون ترك الزكاة علة استحقاق الويل إن لو كانت الزكاة واجبة عليهم.

واتفاق الكل على أن المراد من الزكاة في هذه الآية كلمة التوحيد ممنوع. وسادسها: قول الله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله تعالى: {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا}. ووجه الاستدلال به أنه حكم بمضاعفة العذاب على من فعل مجموع الأمور المذكورة في الآية، ولا شك أن فيها بعض فروع الإيمان، فلو لم يكن ذلك البعض منهيًا عنه بالنسبة إلى الكافر كان تركه سببًا لمضاعفة العذاب. وهذا النص إنما يكون حجة على نفي التكليف عنهم بالفروع مطلقًا، فأما من أثبت ذلك في المناهي دون الأوامر فلا. وسابعها: أنا أجمعنا أن الدهري مأمور بتصديق الرسول، مع أنه لا يمكن الإتيان به إلا بعد الاعتراف بوجود الصانع لما أنه متمكن من تحصيل العلم به. وكذا المحدث مأمور بالصلاة حالة الحدث لما سبق من الإجماع، ولأنه لو لم يكن كذلك لوجب ألا يستحق الذم من ترك الطهارة والصلاة إلا على

ترك الطهارة، ضرورة عدم توجه التكليف بالصلاة قبل حصولها، بل لا يستحقه على تركها أيضًا عندما يترك ما يتوقف عليه الطهارة، ضرورة أن الطهارة غير واجبة عليه إذ ذاك، لكنه باطل بالإجماع، وإنما كان كذلك، لأنه متمكن من تحصيل الطهارة أولاً، والكافر متمكن من تحصيل الإيمان أولاً - أيضًا - فعدم / (179/أ) حصوله لا يكون مانعًا من التكليف بفروعه، كما في الدهرى والمحدث من غير فرق. وثامنها: الكافر يتناوله النهي فوجب أن يتناوله الأمر. أما الأول: فلمساعدة الخصم عليه، وهذا على رأي من يفصل بين الأوامر والنواهي في التناول. وأما على رأي من يفصل فاستدل عليه بأنه يحد على الزنا وذلك يدل على أنه يتناوله النهي، فإنه لو لم يكن متناولاً له لم يثبت تحريمه في حقه، إذ التحريم والإيجاب وسائر أحكام الشرع فرع تناول الخطاب (وإذا لم يكن محرمًا بالنسبة إليه لا يحد عليه أو لا حد على فعل ما ليس بمحرم عندهم) وإن كان محرمًا عندنا كما في شرب الخمر، ومن هذا تعرف سقوط ما يقال أنه "إنما" يحد، لأنه التزم أحكامنا، لأن من جملة أحكامنا أن لا يحد على فعل ما ليس بمحرم عندهم، وإن كان محرمًا عندنا كما في شرب الخمر. وأما الثاني: فلأن النهي إنما يتناوله تحصيلاً للمصلحة الحاصلة بسبب الاحتراز عن المنهي عنه لمكان المناسبة والاقتران، فوجب أن يتناوله الأمر

تحصيلاً للمصلحة الحاصلة بسبب الإقدام على المأمورية. وفرق بينهما: بأن الانتهاء عن المنهيات مع الكفر ممكن، وأما الإتيان بالمأمور به معه غير ممكن. وأجيب عنه: بأن الانتهاء عن المنهي عنه لغرض امتثال قول الشارع غير ممكن معه، وإن لم يعتبر قصد الامتثال فالانتهاء والإتيان كلاهما مع الكفر ممكنان فلا يحصل بينهما فرق من هذا الوجه. ولقائل أن يقول: هب أنهما لا يفترقان في انه يمتنع صدور قصد الامتثال فيهما من الكافر، ولا في كونهما ممكنين منه بدون قصد الامتثال فيهما، لكنهما يفترقان في اشتراطه وفاقا، فإن قصد الامتثال الذي هو عبارة عن النية يشترط في الإتيان بالمأمور به كالصلاة والزكاة، ولهذا لا يقع كل واحد منهما معتدًا بدون النية، لأنه يعاقب على فعله بدون النية كما يعاقب على تركه، ولا نعني بكونه غير معتد به سوى هذا. بخلاف الانتهاء عن المناهي كالزنا والسرقة، فإنه لا يشترط فيها قصد الامتثال، ولذلك يقع الانتهاء عنها معتدًا به بدونه والمعني من كونه معتدًا به أنه لا يستحق على ذلك عقابا، كما لا يستحقه على الانتهاء مع قصد الامتثال وإن كان يختص / (179/ب) هذا بأنه يستحق فيه الثواب دون الأول، ولو كان الانتهاء عنها غير معتد به بدون قصد الامتثال لا يستحق العقاب عليه، كما يستحقه على فعلها. وعند هذا الفرق نقول: لم يلزم من عدم جواز تكليف الكافر بما هو

مشروط بشيء يمتنع صدوره منه عدم جواز تكليفه بما هو غير مشروط به، وإن كان ممتنع الصدور منه، فلا يكون ما ذكروه قادحًا في الفرق. واحتجوا بوجوه: أحدها: لو وجبت الصلاة على الكافر مثلاً، فإما أن تجب عليه بناء على أنه يجب أداؤها حال الكفر أو بعده، إذ وجوب الشيء من غير أن يجب فعله أصلاً غير معقول. والأول: باطل، لأن أداء الصلاة حال الكفر، ممتنع والتكليف بالممتنع ممتنع، أو وإن لم يكن ممتنعًا، لكنه باطل وفاقا. إذ القائل بتكليف الكافر بالفروع: لم يقل أنه تكليف بالممتنع، فالقول بأن تكليف الكافر بالفروع تكليف بالممتنع قول لم يقل به أحد، فيكون باطلاً. والثاني أيضًا: باطل لانعقاد الإجماع على أن الكافر لا يؤثر بعد الإسلام بقضاء ما فاته من الصلوات حال الكفر، وإذا بطل القول بالوجوب حال الكفر وبعده، بطل القول بأصل الوجوب لاستحالة أن يكون له وقت غيرهما. وثانيها: لو وجبت الصلاة على الكافر في حال الكفر لوجب عليه قضاؤها، أو ما يسد مسدها، إذا فات عن الوقت وزال المانع من الأداء وهو الكفر إلحاقاً للفرد بالأعم والأغلب، وقياسًا على المسلم والجامع استدراك المصلحة المتعلقة بالعبادة الفائتة لكن لا يجب قضاؤها إجماعًا، فلا تكون

واجبة عليه حال الكفر. وثالثها: أن التكليف بالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات نوع من الإكرام والإعظام أو بواسطة يستحق المكلف القربة والمثوبة العظيمة، قال عليه السلام: "لن يتقرب المتقربون مثل تقربهم بأداء ما افترض عليهم" والكافر ليس أهلاً لذلك، لأنه مستحق الإهانة والإبعاد، وبإبعاد المستخف والمهان عن الخدمة جرت العادة والعرف، فإن الملك والسيد الكبير لا يرضي أن يأمر كل خسيس بخدمته لاسيما خدمة من يستحق بسببها القربة العظيمة، بل الخادم الشريف إذا غضب السيد عليه طرده عن حضرته وبعده عن خدمته، ويرى الناس ذلك في إهانته أكثر من الضرب والشتم، وإذا كان كذلك / (180/أ) لا يليق بالحكمة أن يؤهله لذلك إلا إذا تأهل له بنوع من الكرامة والمنقبة، وهو الإيمان، فقبله لا يتوجه التكليف إليه ألبتة.

الجواب عن الأول والثاني من وجهين: أحدهما: أنه ليس المعني من قولنا: الكفار مخاطبون بفروع الشرائع أنه يجب عليهم فعلها في حال الكفر أو بعده، بل المعني منه أنهم يعاقبون على تركها يوم القيامة، كما يعاقبون على ترك الإيمان، ومعلوم أن ما ذكرتموه لا ينفيه، فلا يكون معارضًا لما ذكرنا من الأدلة الدالة على وقوع التكليف بهذا المعني. وثانيهما: أنا نقول مقتضى الدليل والقياس أنه يجب القضاء بعد زوال الكفر وفوات الوقت، فيكون الإيجاب في حال الكفر يعتمد على أنه يجب عليه أداؤها بعد زوال الكفر إن صادف شيئًا من الوقت، وإلا فقضاؤها، لكن الإجماع انعقد على أنه لا يجب عليه القضاء بعد الإسلام، لقوله تعالى: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. ولقوله عليه السلام: "الإسلام يجب ما قبله". ولما أن في إيجاب القضاء تنفيرًا له عن الإسلام، فكذلك لم

يجب القضاء، وترك مقتضي الدليل لدليل أقوى منه غير بدع من العمل. هذا إذا قلنا: بأن القضاء يجب بالأمر الأول أو بطريق القياس على ما هو

رأي الشيخ أبي زيد الديوسي رحمه الله. أما إذا قلنا بأن القضاء بالأمر الجديد فنمنع الملازمة في الثاني، وهذا لأن القضاء على هذا التقدير يعتمد على الأمر الجديد وهو غير وارد فيما نحن فيه، بل ورد ما يدل على الإسقاط، وهو ما تلونا من النص فلا يلزم من وجوب الصلاة على الكافر في حال الكفر وجوب قضائها بعد زوال الكفر وفوات الوقت. وعلى هذا نقول في الدليل الأول: أنه يجب عليه الصلاة بناء على أنه يجب فعلها بعد زوال الكفر إن صادف الوقت، وإلا فيجب القضاء إن ورد أمر جديد وإلا فلا.

وعن الثالث: أن التكليف بالإيمان والتمكين من تحصيله أعظم أنواع الكرامات وأشرف الحرمات، فإن كان كل كرامة يستحق لكرامة أخرى فبماذا يستحق الكافر هذه الكرامة.

المسألة الثالثة [هل يجب أن يكون المأمور به مقدورا للمأمور]

المسألة الثالثة [هل يجب أن يكون المأمور به مقدورًا للمأمور] اعلم أن المأمور به يجب أن يكون مقدورًا للمأمور، إما بطريق الخلق، والاختراع، أو بطريق الكسب على اختلاف فيه، بين أصحابنا وبين القدرية. فعلى هذا لا يجوز أمر الغير بفعل الغير، لأنه وإن كان ممكن الوجود في نفسه / (180/ب)، لكنه غير مقدور لغير فاعله، لا بطريق الخلق ولا بطريق الكسب ولا بمتولدات الأفعال كالانجراح المتولد من الجرح، والإنكسار المتولد من الكسر، لكونه محض فعل الله تعالى، لا مدخل لكسب العبد فيه، وأفعال العباد وإن كانت مخلوقة لله تعالى عندنا، لكنها مكتسبة لهم فمتعلق الأمر في قتل الكافر مثلاً إنما هو الفعل الذي يتولد منه القتل لا نفس الفعل.

وذهب بعض المعتزلة: إلى أن متولدات الأفعال يجوز أن تكون متعلقة الأمر بناء على أنها من فعله، كما أن الفعل الذي يتولد منه القتل من فعله أيضًا، لكن الفرق بينهما، أن الأول: بطريق الكسب، والثاني: بطريق المباشرة، والتكليف يجوز أن يكون متعلقًا بهما عندهم. وعلى هذا أيضًا ذهب الأكثرون منهم: إلى أن متعلق النهي هو فعل الضد لا نفس أن لا تفعل لأن النهي عن الشيء أمر بتركه، والأمر يتعلق بالمقدور لا غير تفريعًا على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق، ونفس أن لا تفعل، عدم محض، ونفي صرف ليس بشيء ولا أثر، وما يكون كذلك لا يكون مقدورًا ولا مكتسبًا، لأن القدرة بعد تعلقها بالمقدور تستدعى أثرًا وشيئًا، والعدم الصرف ليس كذلك، فيمتنع استناده إلى القادر، ولو سلم إمكان إسناد العدم الصرف والنفي المحض إليه في الجملة، لكان العدم الأصلي يستحيل إسناده إليه قطعًا، لأنه حاصل قبل قدرة المكلف وتحصيل الحاصل محال. وهذا ظاهر إن قيل: بأن المعدوم ليس بشيء. وأما إن لم يقل بذلك فيقول: كل من قال: بأن المعدوم شيء وذات متقررة قبل اتصافه بالوجود قال أيضًا: بامتناع إسناده إلى القادر، ولذلك قال: ليس للقادر تأثير إلا في أن يجعل الذات موصوفة بالوجود، وحينئذ يلزم امتناع إسناد المعدوم إليه أيضًا، فعلى التقديرين يمتنع

إسناد المعدوم إلى المؤثر. فإذا ثبت أن متعلق التكليف يجب أن يكون مقدورًا بأحد الوجهين المذكورين، وثبت أن العدم الأصلي يستحيل أن يكون مقدورًا استحال أن يكون العدم الأصلي متعلق التكليف فاستحال أن يكون متعلق النهي هو نفس أن لا يفعل. ويمكن تقرير هذا بوجه آخر من غير تفريع على امتناع تكليف ما لا يطاق. وهو أن يقال للخصم: إنا وإن اختلفنا في جواز تكليف ما لا يطاق، لكن اتفقنا على أن النهي عن المنهيات الممكنة "ليس" من / (181/أ) قبيل تكليف ما لا يطاق، فلو كان متعلق النهي هو نفس "أن لا يفعل" لزم القول بأن النهي عن النهيات الممكنة من قبيل تكليف ما لا يطاق، لما تقدم من أن العدم الأصلي غير مقدور للمكلف، وهذا إنما يتم على رأي غير الشيخ، أو على رأيه لكن بطريق الإلزام، إذ ليس من الخصوم في هذه المسألة من يقول: إن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق. فإن قلت: على الوجه الأول: إنا نسلم أن ما كان من العدم السابق على قدرة المكلف غير مقدور له لما ذكرت. لكن لما قلت: إن المقارن منه للقدرة غير مقدور له أيضًا، ولا يلزم من عدم القدرة على السابق عدم القدرة على المقارن. قلت: المقارن منه للقدرة ليس أمرًا غير الأول، وإنما هو الأول بعينه، لكن غايته أنه حصلت له صفة الاستمرار التي ما كانت حاصلة له من قبل بسبب مرور الزمان عليه، وبسببه حصلت له صفة المقارنة. فهذه الصفة: إما اعتبارية، وإما حقيقية عارضة، وعلى التقديرين يجب

أن لا يتغير ذلك العدم السابق عما هو عليه من استحالة كونه مقدورًا، إلى جواز كونه مقدورًا، لأن الصفة الاعتبارية والحقيقية العارضية لا يغير الشيء عما هو عليه من الاستحالة والإمكان بحسب الذات، أو بحسب لازم من لوازمه. وذهب أبو هاشم إلى أن متعلق النهي هو نفس "أن لا يفعل". وذهب الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: فيه إلى التفصيل فأوجب أن يكون متعلق النهي فعلاً حيث يثاب المنتهي، وهو فيما قصد امتثال النهي بفعل ضد المنهي عنه وكف النفس عن مباشرة المنهي عنه بعد التمكن منه وحصول الداعية إليه، لأن الثواب إنما يكون على ما هو من كسب العبد وسعيه لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}. ومفهوم أن لا يفعل عدم محض ونفي صرف والعدم لاسيما الأصلي ليس من سعى الإنسان فلا يكون مثابًا عليه، بخلاف كف النفس والترك، الذي هو عبارة عن فعل ضد المنهي عنه، فإنه من كسبه وسعيه، فجاز أن يثاب عليه. ثم الفرق بين الكف والترك، أن الكف يستدعى التمكن من فعل المنهي عنه، والداعية إليه. وأما الترك فلا يستدعى ذلك، إذ قد يترك الشيء أي يفعل ضده مع الغفلة

والذهول عنه، بخلاف الكف فإنه لا يكون إلا مع التصور والتوقان. وأما حيث الإثبات المنتهي على الانتهاء وهو حيث لم يقصد الامتثال "وكف" للنفس عنه فإنه يجوز أن يكون متعلق النهي هو نفس أن لا يفعل إذ لا يبعد أن يكون مقصود الشارع أن لا يصدر منه الفواحش المنهي عنها وأن لا يقصد منه فعل ضده ليثيبه عليه، فإن الفوات على ما عرف لابد وأن يكون على فعل ولا يجوز أن يثاب على لا فعل. احتج أبو هاشم: على صحة ما ادعاه بأن العقلاء يمدحون المنتهي على أنه لم يفعل المنهي عنه، وإن لم يخطر ببالهم فعل ضده، فلولا أن متعلق النهي هو نفس أن لا يفعل لما كان كذلك. وجوابه: أنا لا نسلم أنهم يمدحونه على نفس أن لا يفعل من غير أن يخطر ببالهم فعل ضده من حيث الإجمال، وهذا لأنه لما لم يمكن تصور أن لا يفعل بدون تصور فعل العبد كان تصوره مستلزمًا لتصوره لا محالة. نعم: قد لا يخطر بباله فعل ضده على التفصيل، لكن ذلك لا يقدح في الغرض.

المسألة الرابعة [النيابة في المأمور به] اتفقوا على جواز دخول النيابة في المأمور به، إذا كان ماليًا وعلى وقوعه أيضًا، إذ اجمعوا على أنه يجوز للغني أن يصرف، زكاة ماله بنفسه، وأن يوكل فيه، وكيف لا. وصرف زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام، إما واجب، أو مندوب ومعلوم أنه لم يصرفها إلى الفقراء إلا بطريقة النيابة. واختلفوا: في جواز دخولها فيه إذا كان بدنيًا. فذهب أصحابنا إلى الجواز والوقوع معًا: محتجين بأنه لا يمتنع لنفسه.

إذ لا يمتنع قول السيد لعبده: أمرتك بخياطة هذا الثوب، فإن خطه بنفسك أو استنبت في خياطته أثبتك، وإن تركت الأمرين فعاقبتك، والعلم بذلك ضروري. وإذ لم يمتنع ذلك في الشاهد لم يمتنع أيضًا في الغائب، لأنهما لا يختلفان في ذلك. والعلم بذلك ضروري أيضًا، وبطريق القياس عليه أيضًا، والجامع بينهما تحصيل المصلحة الحاصلة من نفس الفعل. ولا لمنافاته معنى التكليف، إذ الكلفة حاصلة في الاستنابة أيضًا، كما هي حاصلة فيما يتعين على المكلف مباشرته، لأنها لا تحصل إلا ببذل عوض للنائب أو تحمل منه، لكن غايته أن الكلفة "فيما" تجوز فيه النيابة أقل وفيما لا يجوز ذلك أكثر، لكن ليس مناط التكليف حصول غاية الكلفة والمشقة، بل حصول أصل المشقة، وهو حاصل في الاستنابة. ولا لمفسدة تنشأ من الاستنابة لأنا نفرض الكلام فيما إذا لم تكن الاستنابة

"منشأ للمفسدة، ولأنها منشأ للمصلحة، لأنها توسعة طريق حصول الفعل الذي هو" / (182/أ) منشأ المصلحة ووسيلة حصول المصلحة مصلحة، ولأن الأصل عدم كونها منشأ للمفسدة. ولا يعارض بمثله، وهو أن يقال: الأصل عدم كونها منشأ للمصلحة فلا تشرع لما تقدم، ولأن شرعية الشيء لا تستدعي كونه منشأ للمصلحة، بل يكفي فيه أن لا يكون منشأ للمفسدة، وإلا لزم نفي شرعية المباح. وإذا لم يمتنع لأحد ما ذكرنا من الأمور الثلاثة: وجب الحكم بجواز دخولها فيه، إما لأن أسباب الامتناع منحصرة فيما ذكرنا من الأمور الثلاثة للاستقراء، أو وإن لم تكن منحصر فيه، لكن الأصل عدم شيء آخر يوجبه. واحتجوا: على الوقوع بما روى أن النبي عليه السلام رأي شخصًا يحرم بالحج عن شبرمة فقال عليه السلام: "أحججت عن نفسك؟ "، فقال: لا، فقال له: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"، وهو

صريح في الباب. ولقائل أن يقول: هذا لا يدل على وقوع دخول النيابة في المأمور به، إذا كان بدنيًا صرفًا، بل إنما يدل على ما هو بدني ومالي معًا كالحج، ولعل الخصم يجوز ذلك، فلا يكون دليلاً عليه.

واحتج الخصم: بأن المقصود من إيجاب العبادات البدنية، ابتلاء العبد وامتحانه لما فيه من كسر النفس وقهرها، وتسويغ النيابة فيها يخل بهذا المقصود، فوجب أن لا تجوز النيابة فيها. وجوابه: أنا لا نسلم أن تسويغ النيابة فيها يخل بمقصود الابتلاء والامتحان مطلقًا، وإنما يكون كذلك لو لم يكن في النيابة ابتلاء وامتحان، وهو ممنوع لما سبق. نعم: تسويغها يخل بالابتلاء والامتحان الحاصل من المباشرة، لكن لا نسلم أن ذلك هو المناط للتكليف لا غير.

"الفصل الرابع" في المأمور

"الفصل الرابع" في المأمور وفيه مسائل:

المسألة الأولى [في شرط المأمور]

"الفصل الرابع" في المأمور وفيه مسائل: المسألة الأولى [في شرط المأمور] اتفق الكل حتى القائلون بجواز تكليف ما لا يطاق، على أنه يشترط في المأمور، أن يكون عاقلاً يفهم الخطاب، أو متمكنًا من فهمه. لأن الأمر بالشيء يتضمن إعلام المأمور بأن الآمر طالب للمأمور به "منه" سواء كان حصوله منه ممكنًا أو لا يكون "كما" في تكليف ما لا يطاق. وإعلام من لا عقل له ولا فهم متناقض، إذ يصير التقدير يا من لا فهم له افهم الخطاب، ويا من لا عقل له أعقل المأمور به. فعلى هذا لا يجوز أمر الجماد والبهيمة، لعدم العقل والفهم، وعدم

استعدادهما، ولا أمر المجنون والصبي أيضًا، لعدم العقل والفهم التأمين / (182/ب) وإن كانا مستعدين لهما، إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق. والدليل عليه وجهان: النص، والمعقول. أما النص: فقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة" الحديث.

وأما المعقول فهو أنه ما يشترط أصل العقل والفهم لصحة التكليف

الذي هو موجود فيهما، لكن يشترط تمامها أيضًا، إذ به يتصور قصد امتثال أمر الله تعالى أو نهيه الذي هو شرط صحة الامتثال، المستدعى تعقل الامتثال والأمر والنهي [من] الله تعالى وأنه أمر ممتثل الطاعة وغير ذلك نحو معرفة صفات المأمور به، ومعلوم أن المجنون والصبي لاسيما غير المميز ليسا موصوفين بعقل، شأنه إدراك ما ذكرنا من الأمور، فلا يكونا مكلفين بشيء من التكاليف. ووجوب الزكاة وبدل المتلفات والنفقات عليهما، بمعني أن الولي مخاطب

بإخراجها من مالهما في حالة الصبي والمجنون، وأنهما مخاطبان بذلك بعد البلوغ، والإفاقة لو لم يتفق إلا خرج في حالة الصبي والمجنون لا يدل على أنهما مكلفان في حالة الصبي والمجنون، إذ لا يتوجه إليهما طلب في تينيك الحالتين أصلاً، والصبي المميز وإن كان مخاطبًا بالصلاة، ومضروبًا على تركها تأديبًا، لكن من جهة الولي لا من جهة الشارع. لأنا لا نسلم: أن الأمر بالأمر بالشيء، حتى يلزم من كونه مأمورًا بالصلاة من جهة الولي، كونه مأمورًا بها من جهة الشارع للحديث المشهور، ولا يلزم من جواز كونه مخاطبًا من جهة الولي، جواز كونه مخاطبًا من جهة الشارع، لأنه يعرف الولي وخطابه ويخاف ضربه، فصار أهلاً لكونه مخاطبًا من جهته، ولا يعرف الشارع، ولا يعرف خطابه، ولا يخاف عقابه، إذ لا يعرف الآخرة فلا يجوز أن يكون أهلاً لخطابه.

فإن قيل: كيف ألحقتم الصبي المميز بغير المميز في عدم كونه مكلفًا، لعدم العقل والفهم التام المدرك لتفاصيل الخطاب مطلقًا من غير فصل بين تبيين [ما] يصير بعده بالغًا بلحظة، وبين تبيين [ما] يصير بعده بالغًا بأمد بعيد يمكن أن يزيد العقل فيه. ونحن نعلم بالضرورة أن مضى لحظة أو انفصال نطفة لا يزيد عقله. قلنا: لا نسلم أن ما ذكرتم معلوم بالضرورة، وهذا لأن القاضي أبا بكر رحمه الله: خالف فيه، وزعم أن كونه غير مكلف قبل البلوغ ولو بلحظة، يدل على نقصان عقله. وهو تصريح منه بأنه يجوز أن يزيد العقل ويكمل بلحظة / (183/أ)، ولو كان عدمه معلومًا بالضرورة، لما كان مختلفًا فيه.

ولئن سلمنا: ذلك فنقول: السبب في ذلك هو أن زيادة العقل وكماله إلى حد يناط به التكليف أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه بغتة، لكونه يزيد على التدريج، وقد علم من عادة الشرع أنه يعلق الحكم على مظان الحكم لا على الحكم نفسه، والبلوغ مظنة كمال العقل، فلا جرم "علق" الشرع الحكم به، وإن كان قد يكمل بحيث يصلح أن يكون مناطًا للتكليف قبله. وعلى هذا لا يجوز تكليف النائم في حالة النوم، لذهوله عن المأمور به، وعن شرائطه، ولعدم قصد الامتثال منه، بل هو بعدم جواز التكليف أولى من الصبي والمجنون، لفقده أصل الفهم دونهما. ووجوب قضاء ما فاته من الصلاة والصيام في حالة النوم لا يدل على أنه مخاطب بهما في حالة النوم، لما عرفت أن القضاء يعتمد على وجود سبب الوجوب لا على الوجوب نفسه. وإنما يجب عليه القضاء دونهما مع فقده أصل الفقد، لأن أمد زواله قريب، بخلاف الصبي والمجنون، لأنه يطول أمد زوالهما. وعلى هذا لا يجوز تكليف الناسي أيضًا، لأنه ذاهل عما كلف به في حالة النسيان فيمتنع منه قصد الامتثال في المأمور به، على الوجه الذي أمر به.

وأما ثبوت الأحكام الشرعية بمالهما كالزكاة، وبأفعالهما نحو وجوب بدل المتلفات، فذلك لا يدل على أنهما مخاطبان في حالة النوم، والنسيان، لأن المعني منه أنه يجب عليهما أداء تلك الحقوق بعد زوالهما. وأما الجواب: عن وجوب قضاء الصلاة والصوم عليه فيما سبق في النائم. وعلى هذا لا يجوز تكليف السكران الذي لا يعقل، لأنه أسوأ حالاً من النائم والصبي والمجنون.

وما يجب عليه من قضاء العبادات والغرامات. فجوابه: ما سبق. وأما نفوذ طلاقه بعد تسليمه فذلك لا يدل على أنه مخاطب، لأنه من باب ربط الأحكام بالأسباب، وذلك قد يوجد بفعل غير المكلف، كوجوب الصلوات بزوال الشمس، ووجوب الصوم بطلوع الهلال. فإن قلت: فقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} بصراحته يدل على أنه مخاطب. قلت: الآية مؤولة دفعًا للتعارض، فإن الأدلة الدالة على أنه لا يجوز خطابه غير قابلة للتأويل وأكد في تأويلها وجهان: أحدهما: أنه خطاب مع من ظهرت منه مبادئ النشاط والطرب، وما زال عقله بالكلية / (183/ب) وإنما سماه سكرانًا مع أنه ليس كذلك في تلك الحالة، لأنه تؤول حاله على السكر في الأكثر، وتسمية الشيء باسم ما

يؤول إليه مجاز مشهور. فإن قلت: ما ذكرتم من التأويل، ينفيه قوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} لأن المنتشي يعلم ما يقول. قلت: الدليل الذي أوجب حمل السكران على المنتشي أوجب صرفه عن ظاهره أيضًا فقوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} معناه - إن شاء الله تعالى: حتى يتكامل فهمكم، لأن المنتشي وإن كان أصل عقله باقيًا، لكن قد يتعذر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع، وكمال العلم بما يقول: وهذا كما يقال للغضبان: اصبر حتى تعلم ما تقول، أي حتى يسكن غضبك فيكمل فهمك. وأيضًا فإنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران، فإن الذي يكون كالمغشي عليه يمتنع منه الاشتغال بالصلاة، فيجب تنزيل النهي عليه، وحينئذ يتعين ما ذكرنا من التأويل. وثانيهما: أن هذا خطاب وارد في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد منه المنع من الصلاة في حالة السكر، كما دل عليه ظاهر اللفظ، بل المراد منه: المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كما يقال: لا تقرب التهجد وأنت شبعان، معناه: لا تشبع في وقت التهجد فيثقل عليك التهجد.

المسألة الثانية [في تعلق الأمر بالمعدوم]

وإنما قلنا: إنه خطاب وارد قبل تحريم الخمر، لأنه لا يجوز أن يراد هذا المعني والخمر حرام، لأنه بمفهومه يدل على جواز إفراط الشرب في غير وقت الصلاة، وعلى جواز شربه فيه [من] غير إفراط. المسألة الثانية [في تعلق الأمر بالمعدوم] المعدوم يجوز أن يكون مأمورًا عندنا خلافًا للمعتزلة، وأكثر الطوائف.

ثم لا نعني به أن المعدوم حال كونه معدومًا مأمور، ليقال: إن الصبي والمجنون والنائم، إذا لم يجز أن يكون مأمورًا لعدم الفهم التام، أو لعدم أصل الفهم مع أنه حاصل له، وإنما زال واستتر بعارض يزول عن قرب، كان المعدوم أولى بأن لا يجوز أن يكون مأمورًا، لعدم الوجود وتوابعه من الفعل والفهم، بل بمعني أنه يجوز أن يكون الأمر موجودًا في الحال، ثم إن المعدوم إذا وجد وتهيأ للفتهم التام يصير مأمورًا بذلك الأمر. ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الولد يصير مأمورًا عند وجوده وتهيئه للفهم التام، بأوامر والده له المكتوبة عند موته بطريق الوصية، بدليل أنه يوصف بالطاعة عند امتثالها، وبالعصيان والعقوق عند مخالفتها، فلو لم يكن مأمورًا بتلك الأوامر لما كان كذلك. وثانيها: أن الواحد منا يصير مأمورًا بأمر النبي عليه السلام، مع أن ذلك الأمر ما كان موجودًا إلا حال عدمنا. وثالثها: أنه ثبت قدم / (184/أ) كلامه تعالى في علم الكلام، فيكون أمره ونهيه أزليًا، ويلزم منه أمر المعدوم بالمعني الذي عيناه قطعًا.

فإن قيل: لا نسلم أن الواحد منا يصير مأمورًا بعد موته عليه السلام، بأمره عليه السلام، الذي كان موجودًا قبلنا. ولم لا يجوز أن يقال: إنه إنما يصير مأمورًا بأمر الله تعالى إياه عند وجوده وبلوغه؟، ويحمل أمر الرسول عليه السلام على أنه إخبار عن أن الله تعالى، يأمر كل واحد من المكلفين عند وجوده وبلوغه بمدلول ذلك الأمر، وحينئذ لا يحصل المقصود. سلمنا: ذلك لكن إنما جاز ذلك فيما ذكرتم من الصورتين، لأنه وجد هناك من سمع ذلك الأمر وبلغه إلينا، ولا يلزم من ذلك جواز أن يأمر الله تعالى عبيده في الأزل، لأنه لم يوجد هناك من سمع ذلك الأمر، فكان أمره عند ذاك عبثا وهو على الله تعالى محال. سلمنا: جوازه أيضًا، لكن ما ذكرتم من الدليل معارض بدليل آخر، وهو: أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل على المأمور، وذلك بدون وجوده عبث وسفه، ألا ترى أن من جلس في الدار وحده، وأخذ يأمر وينهي عد سفيهًا عابثًا تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. قلنا: الجواب عن الأول: لا يجوز أن يجعل أمره عليه السلام خبرًا عما ذكرتم. أم أولاً: فلأن جعل الأمر خبرًا عن شيء ما باطل، لأنه يقتضي أن يتطرق التصديق والتكذيب إليه، وهو غير متطرق إليه وفاقا.

وأما ثانيًا: فإنهم قسموا الكلام إلى أمر ونهي وخبر وغيرها من الأقسام، وذلك يدل على أن كل واحد منها غير الآخر، وغير داخل فيه. وأما ثالثًا: فإنا لو جوزنا ذلك، فإنما يجوز فيما بينه وبين ما يجعل خبرًا عنه مناسبة، كما يقال: إن أمر الله تعالى أو أمر الرسول إخباره عن وقوع العقاب بتقدير ترك المأمور به، فإن استحقاق العقاب على تقدير الترك جزء من مفهوم المأمور به، فإن أن يجعل خبرًا عما لا مناسبة بينه وبين الأمر إلا على وجه بعيد لو أمكن فلا، وبتقدير تسليمه فالمقصود أيضًا [حاصل] لما ثبت أن كلامه تعالى قديم وكان أمره حاصلاً والمأمور معدومًا، وعن الأخيرين [أنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح وقد مر إبطالها. ولئن سلم: لكن نقول: إنما يقبح تفريعًا عليه] الأوامر والنواهي الجازمة التي يقصد منها الامتثال في الحال، فأما التي يقصد منها امتثال من يوجد بعدها من المكلفين ويطلع عليها فلا، وهذا لأنه يقبح من العاقل أن يودع أوامر ونواهي في صحائف في خلوة أو برية ويتركها فيها، ويقصد بذلك امتثال من يوجد بعده ويظفر بها من أولاده وأولاد أصحابه وغيرهم، فكذا فيما نحن فيه حذو القذة بالقذة ولو أنكر حسنه كان ذلك منكرًا من القول وزورا / (184/ب). فرع: اختلفوا: في أن أمر المعدوم بالتفسير المتقدم.

المسألة الثالثة [اشتراط القصد في إيقاع المأمور به]

هل يسمى أمرًا وخطابًا مطلقًا أم لا؟ الحق أنه يسمى أمرًا، ولا يسمي خطا [با إلا إ] ذا وجد المأمور وسمع ذلك الآمر فاهمًا أو ممتثلاً له، بدليل أنه يحسن أن يقال: فيمن أوصى لمن سيوجد من أولاده "من" أمرته بأمر، أنه أمر أولاده بكذا وإن كان قبل وجودهم، ويحسن في الولد أن يقال: امتثل أمر والده بعد وجوده، ولا يحسن أن يقال قبل وجودهم خاطبهم بكذا. المسألة الثالثة [اشتراط القصد في إيقاع المأمور به] المأمور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على وجه الطاعة، ويدل عليه قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات". ومنهم من استدل عليه بالإجماع.

المسألة الرابعة [في تكليف المكره]

وهو ضعيف، إذ الإجماع غير منعقد على وجوب القصد على المأمور في إيقاع كل مأمور به، بل لو ثبت ذلك فإنما يثبت فيما هو قربة بنفسه دون ما ليس كذلك، كالوضوء والغسل، ولهذا اختلف في اشتراط القصد فيه ويستثني عنه شيئان: أحدهما: أول ما يجب على العاقل وهو إما العلم بالله، أو النظر المعرف بحدوث العالم ووجود الصانع، أو القصد إليه على اختلاف فيه، لأن قصد إيقاعه طاعة قبل معرفة الموجب وإيجابه عليه محال. وثانيهما: هذا القصد نفسه إذ هو مأمور به أيضًا في إيقاع كل مأمور به طاعة، فإنه لو افتقر إلى قصد آخر لزم التسلسل وهو محال. المسألة الرابعة [في تكليف المكره] في أن الملجأ إلى الفعل، أو على الترك بسبب الإكراه، هل يجوز أن يؤمر به أو بضده أم لا؟. والحق فيه أن يقال إنه انتهي بالإكراه إلى حد المضطرين، بحيث يصير

نسبته إلى الفعل المكره عليه، كنسبة المرتعش إلى حركته، كان جواز التكليف به أو بضده، مخرجًا على الخلاف في جواز تكليف ما لا يطاق فإن جوزنا ذلك جاز التكليف به، وإلا فلا، لأن الفعل يصير واجب الوقوع ويصير عدمه ممتنعًا، والتكليف بالواجب والممتنع تكليف ما لا يطاق. وهذا النوع من تكليف ما لا يطاق غير واقع. فإن قيل: بوقوع غيره من أنواعه لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، فإن المراد منه: رفع المؤاخذة، وهو يستلزم رفع التكليف. وإن لم ينته إليه، فالأمر به أو بضده جائز لوجوه:

أحدها: أنه مختار فيه، فجاز أن يكلفه به كسائر المكلفين. وثانيها: أن الإكراه حمل على الفعل بإيصال مكروه يقتضي العقل اجتنابه إلى المكره على الترك، وهو أشد مكروهًا في الظاهر من فعل المكره عليه / (185/أ) فامتياز المكره أمر المكره فيه حمل على مقتضي العقل، والنظر الصحيح، فإنه يفضي باحتمال أدنى الضررين، عندما لا مندوحة عن أحدهما، وذلك يدل على أنه مختار فيه. وثالثها: أن أفعال المكره توصف بالوجوب، والحرمة، والإباحة بإجماع الفقهاء، فإنه إذا أكره بالقتل على شرب الخمر فإنه يجب عليه شربه. وإذا أكره على قتل مسلم معصوم الدم ولو بالقتل فإنه يحرم عليه. وإذا أكره على إجراء كلمة الكفر به فإنه يباح له ذلك. وذلك يدل على أنه مكلف، وإلا لما وصف أفعاله بالأحكام الشرعية.

والخصم إن قال بذلك فالاستدلال عليه بطريق الإلزام ظاهر، وإلا فهو محجوج بإجماع الفقهاء. ورابعها: أن العقل، والبلوغ، والاستطاعة، التي هي شرط التكليف كانت موجودة في المكرة قبل الإكراه وهو لا ينافيها، بدليل مجامعتها معه. وأما مجامعة الأولين معه فظاهر. وأما الاستطاعة فكذلك: أما أولاً: فلأن الكلام مفروض فيما إذا أمكنه فعله وتركه، إذ الإكراه لم ينته إلى حد الإلجاء. وأما ثانيًا: فلأنه لو التزم المحذور الذي هدده به أمكنه تركه لا محالة، بخلاف الملجئ إلى الفعل بسببه، فإنه ليس له التمكن من الترك بوجه من الوجوه إذ الكلام مفروض فيما إذا صار فعله كحركة المرتعش. وأيضًا لا خلاف بأنه مكلف بغير ذلك الفعل المكره عليه، ولو لم تكن شرائط صحة التكليف، حاصلة لما كان مكلفًا بغيره، إذ شرائط صحة التكليف لم تختلف بالنسبة إلى فعل دون فعل لاسيما بالنسبة إلى فرد دون فرد من نوع واحد، وإذا كانت الشرائط حاصلة ولا مانع يمنع المكلف من جهته عن التكليف وفاقا وجب القول بصحة التكليف لا محالة. ولقائل أن يقول: الإكراه وإن لم يناف شرائط التكليف، لكن ينافي المعني المقصود من التكليف، وإذا كان كذلك امتنع التكليف معه ضرورة امتناع تحقق الشيء مع ما ينافي مقصوده. وإنما قلنا: إن الإكراه ينافي المعني المقصود من التكليف، لأن المقصود من

التكليف أن يوقع المكلف المكلف به على وجه يكون طاعة، بدليل أنه لو أوقعة لا على وجه الطاعة، كما إذا فعله لا عن قصد أو عن قصد لكن لا "على" قصد امتثال أمر الشارع، بل لغرض آخر نحو السمعة والرياء، فإنه لا يخرج عن العهدة ولا يثاب عليه، فإذا إنما يكون الفعل طاعة أن لو كان فعله لأجل أمر الشارع، وهو مع الإكراه متعذر. لأن الباعث على الفعل في صورة الإكراه، إن كان هو قصد امتثال أمر الشارع لم يكن الإكراه على الفعل متحققًا في الحقيقة / (185/ب) وإن وجد صورة الإكراه، لأن الإكراه عبارة عن أن يحمل الشخص إما على فعل لا يريد أن يفعله، أو على فعل يريد أن لا يفعله وكل ذلك غير متصور فيما نريده، وإن كان الباعث هو قصد امتثال أمر المكره، ودفع أذاه لم يكن الفعل طاعة، لفقد شرطه. فإذًا حيث يتحقق الإكراه حقيقة لا يمكن إيقاع الفعل طاعة، وحيث يمكن إيقاعه طاعة لا يتحقق الإكراه، فالإكراه ينافي كون الفعل طاعة، فينافي التكليف به لمنافاته للمعني المقصود منه.

...................................................................................

المسألة الخامسة [فيما يصير به المأمور مأمورا والفعل المأمور به مأمورا به]

وأما الخاطيء فغير مكلف إجماعًا فيما هو مخطئ فيه لما تقدم من الحديث، وإن كان جواز تكليفه [به] مخرجا على جواز تكليف ما لا يطاق كما في الإكراه. المسألة الخامسة [فيما يصير به المأمور مأمورًا والفعل المأمور به مأمورًا به] اختلفوا: في أن المأمور متى: يصير مأمورًا، والفعل المأمور به متى يصير مأمورًا به، فالذي يدل عليه صريح نقل الإمام، وبعض الآخرين، عن أصحابنا: هو أن المأمور إنما يصير مأمورًا حال التلبس بالفعل، لا قبله وليس قبله إلا الإعلام بأنه سيصير مأمورًا [في الزمان الثاني أعنى زمان الفعل، وعلى هذا يجب أن يكون الفعل المأمور به، إنما يصير

مأمورًا] به عند حدوثه لا قبله، إذ لا يعقل أن يصير الفعل المأمور به مأمورًا به قبل الحدوث بدون أن يصير المأمور إذ ذاك، لكونهما متلازمين. ونقل إمام الحرمين رحمه الله تعالى صريحًا أن مذهب أصحاب الشيخ: أن الفعل في حال حدوثه مأمور به، إذا ثبت الأمر فيه، وذكر في تعليله ما يدل على أنه ليس بمأمور به قبل حدوثه، وهذا هو الذي يقتضيه أصلهم: هو أن الاستطاعة عندهم مع الفعل لا قبله، لكن أصلهم الآخر: وهو جواز تكليف ما لا يطاق، يقتضي جواز الأمر بالفعل حقيقة قبل الاستطاعة. فعلى هذا يكون المأمور مأمورًا قبل التلبس بالفعل، والمأمور به مأمورًا به قبل حدوثه، لكن لعلهم فرعوا هذا على استحالته، أو وإن قالوا: بجوازه لكنهم قالوا: ذلك بناء على عدم وقوعه. ونقل الكل من المعتزلة: بأن الفعل إنما يصير مأمورًا به عندهم قبل حدوثه لا عنده، بل عنده ينقطع تعلق التكليف به، وهو اختيار إمام الحرمين.

وعلى هذا المأمور إنما يصير مأمورًا عندهم قبل التلبس بالفعل لا عنده، وهو موافق لأصلهم، وهو أن الاستطاعة قبل الفعل، وأن تكليف ما لا يطاق غير جائز. ونقل بعضهم: أن الناس اتفقوا على جواز كون الفعل مأمورًا به قبل حدوثه، سوى شذوذ من أصحابنا، وعلى امتناع كونه كذلك بعد حدوثه. واختلفوا في جواز كونه كذلك وقت حدوثه فأثبته أصحابنا ونفاه المعتزلة. وبه يشعر كلام الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى -. فهذا صريح في أن الخلاف بين / (186/أ) معظم الأصحاب، وبين المعتزلة في المأمور، والمأمور به إنما هو في وقت التلبس والحدوث لا قبله، والنقل الأول، يقتضي تحققه فيهما، فبينهما تناقض. ولا يجمع بينهما بأن يقال: إن الأول: تفريع منهم على استحالة تكليف ما لا يطاق، كما ذكرتم.

والثاني: تفريع على جوازه، لأنه يقتضي جواز كون الفعل مأمورًا به بعد حدوثه، وهذا الناقل نقل امتناعه وفاقا. ثم اعلم أن إمام الحرمين - رحمه الله تعالى - اعترض على ما نقل عن الأصحاب، وقال: لا ربط بين الأمر والقدرة عند الشيخ، فإن العبد مأمور عنده قبل القدرة. وبه أوجب أيضًا أن تكون التكاليف بأسرها عند الشيخ رحمه الله تعالى تكاليف ما لا يطاق، على ما نقلنا: عنه في مسألة تكليف ما لا يطاق. واعلم أنه لا ينبغي أن يظن بالشيخ أن يكون قد قال: إن العبد مأمور حقيقة قبل الفعل، والفعل لا يكون مأمورًا به إلا عند حدوثه حتى يكون اعتراض الإمام ردًا عليه، فإن ذلك تناقض بين لا يجوز على آحاد المخلصين فكيف على الشيخ وأمثاله، بل الظاهر أنه رد على الأصحاب أنهم كيف قالوا: إن الفعل إنما يصير مأمورًا به وقت حدوثه لا قبله. ووجه الإنكار عليهم هو أنهم إن قالوا ذلك بناء على أن ذلك مذهبه، إما بطريق النص، بأن نص عليه، أو بطريق التخريج من قاعدة مذهبه والتفريع عليها، فإن من مذهبه أن الاستطاعة مع الفعل. فليس بسائغ: أما الأول: فلما فيه من التناقض البين. وأما الثاني: فلأنه لا ربط عنده بين الأمر والقدرة، فإن العبد مأمور حقيقة

عنده قبل القدرة، لأنه مأمور بالفعل قبل التلبس، ويلزم منه أن يكون مأمورًا قبل القدرة، إذ الاستطاعة مع الفعل لا قبله. وإن قالوا: ذلك من عند أنفسهم، فيلزم أن يكونوا قد خالفوا الشيخ، فإن العبد عنده مأمور قبل القدرة، وقبل الفعل، ويلزم منه قطعًا أن يكون الفعل مأمورًا به أيضًا قبل حدوثه. فعلى هذا كون الفعل مأمورًا به وقت حدوثه لا غير، إنما هو مذهب الأصحاب لا مذهب الشيخ، وهو موافق للنقل الثاني من وجه. واستدلال الإمام على صحة ما نقل عن الأصحاب: بأنه لو امتنع كون المأمور مأمورًا - حال حدوث الفعل - لامتنع كونه مأمورًا مطلقًا، لأن في الزمان الأول لو أمر بالفعل، لكان الفعل، إما أن يكون ممكنًا في ذلك الزمان أو لا يكون. فإن كان الأول: فقد صار مأمورًا بالفعل حال إمكان وقوعه. وإن كان الثاني: كان مأمورا بما لا قدرة له / (186/ب) عليه، وذلك عند الخصم محال. وفيه نظر: أما أولاً: فلأن الدعوى عامة والدليل خاص، فإن ما ذكره لو دل فإنما يدل على صحة كونه مأمورًا حال الحدوث لا على امتناع كونه كذلك قبله، كما هو مذهب الخصم، ومعلوم أنه لا يلزم من صحة الأول، امتناع الثاني، ولا يمكن التمسك بالإجماع على عدم الفصل بينهما، فإنه قد ذهب إليه لا

محالة على ما دل عليه النقل الثاني، وإنما النزاع في أن الناس، هل أطبقوا على صحة كونه مأمورًا قبل الفعل أم لا؟. وأما ثانيًا: فلأن قوله: لو أمر بالفعل في الزمان الأول، فالفعل إما [أن يكون] ممكنا في ذلك الزمان، أو لا يكون، فإن كان الأول فقد صار مأمورًا بالفعل حال إمكان وقوعه. قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا لأنه لا يلزم من كون الشيء ممكنًا في نفسه في وقت أن يكون وقوعه فيه ممكنًا، نحو أن يكون ممكنًا فيه بحسب نفسه، ولا يمكن وقوعه فيه لفقد شرط من شرائط وقوعه، نحو محاولة الفاعل إيجاده، أو لوجود مانع منه كالأزلية بالنسبة إلى وجود العالم، فإنه إذا ذاك "ليس" ممتنعًا في ذاته، وإلا لزم أن ينقلب الشيء من الامتناع إلى الإمكان، وهو محال بل كان ممكنًا في نفسه [فيه مع استحالة وجوده فيه، لما بين الأزلية والحدوث من المنافاة، ولا يقدح ذلك في إمكانه في نفسه] وإلا لاعتبر في كون الشيء ممكنًا في نفسه محاولة الفاعل إياه بالإيجاد. وهو باطل، لأن محاولة الفاعل للفعل مشروط بشرط كونه ممكنًا في نفسه، فلو كان كونه ممكنًا في نفسه مشروطًا بالمحاولة لزم الدور، وهو محال. [فإن] ورد في إمكان وقوعه في ذلك الزمان، بأن يقول: لو أمر بالفعل في الزمان الأول فالفعل إما أن يمكن وقوعه فيه، أو لا يمكن، فإن كان الأول، كان مأمورًا بالفعل حال إمكان وقوعه.

قلنا: نعم، لكن ماذا يكون، وماذا يلزم منه؟. واعلم أن الإمام - رحمه الله تعالى - ما ذكر على ذلك دليلاً، ويمكن أن يقرر ذلك بوجوه: أحدها: أن كونه مأمورًا في وقت إمكان وقوع الفعل فيه يستلزم الخلف، لأنه يقتضي أن لا يكون مأمورًا فيه، لأن بتقدير وقوع الفعل فيه يلزم أن يكون مأمورًا قبله لا فيه، لأن عند الخصم يستحيل اجتماع وصف المأمور به مع وقوع الفعل في وقت فمهما وقع في وقت فإنه مأمور قبله لا فيه، فلو أمكن وقوع الفعل في الزمان الأول مع أن المكلف مأمور فيه "يلزم أن لا يكون مأمورًا فيه" وهو خلف. وثانيها: أن القول: بإمكان وقوعه فيه يقتضي أن يكون / (187/أ) المكلف مأمورًا قبل أول وقت الأمر في الأمر المؤقت بوقت وقبل ورود الأمر في الأمر المطلق، لأن ذلك الزمان الأول لو فرضناه أول الوقت أو زمان ورود الأمر لزم ذلك، لأنه مأمور عند الخصم أبدًا قبل الفعل لا معه. وثالثها: أن وقت إمكان وقوع الفعل، هو وقت تلبس الفاعل به، إذ لو أمكن وقوع الفعل في غير وقت تلبس الفاعل به، لزم وقوع الممكن لا عن فاعل، وهو محال ومستلزم المحال محال، فإمكان وقوع الفعل في غير وقت تلبس الفاعل به محال، فحينئذ يلزم أن يكون مأمورًا في وقت تلبسه بالفعل وهو المطلوب. وإن كان الثاني: كان مأمورًا بما لا قدرة للمكلف عليه.

قلنا: لا نسلم وهذا لأنه لا يلزم من عدم إمكان وقوع الشيء في وقت، أن يكون غير مقدور عليه مطلقًا للقادر، لجواز أن يكون ذلك لفقد شرط أو وجود مانع، وهو غير مناف للمقدورية في الجملة، نعم هو غير مقدور عليه في تلك الحالة مع ذلك الاعتبار، لأن وجود المشروط بدون الشرط ووجود الشيء مع وجود المانع منه محال، والمحال غير مقدور عليه، لكن لا نسلم أنه لا يجوز أن يتعلق التكليف بمثل هذا الفعل عند الخصم، ولا يخفى عليك سنده بعد الإحاطة بما تقدم في مسألة تكليف ما لا يطاق. واحتج على المسألة بوجه آخر: وهو أنه لا نزاع في أن الفعل في أول زمان حدوثه، مقدور، سواء قيل بتقدم الاستطاعة عليه، كما هو مذهب المعتزلة، أو بوجودها مع وجوده كما هو مذهب أصحابنا، وإذا كان كذلك أمكن تعليق التكليف به إذ لا يعتمد صحته إلا على الفهم والقدرة. وفيه نظر. لأنه إن عني بقوله: إن الفعل في أول زمان حدوثه لمقدور بالاتفاق "مع" أنه تعلق به القدرة في حالة العدم وهو به يوجد ولا ينقطع عنه التعلق إلى أن يتم وجوده، فهذا مسلم لكن لا نسلم أن المقدور بهذا المعني يصح أن يتعلق به التكليف، وهذا لأن فعله إذ ذاك واجب عندنا ولا يتعلق التكليف بالواجب عندنا، بل إنما يتعلق بما يصح فعله وتركه. وإن عني به: أنه يصح فعله ويصح تركه، فممنوع.

وهذا لما عرفت من قبل، والمقدور بهذا المعني هو الذي يصح أن يتعلق به التكليف. وتلخيصه أن الفعل حال حدوثه مقدور عندهم بمعني دوام تعلق القدرة به وقبيله مقدور بمعني ابتداء / (187/ب) تعلق القدرة به وصحة تعلق الأمر عندهم، إنما يعتمد على الثاني دون الأول. والأولي في ذلك أن يقال: إنه لو امتنع أن يكون المأمور مأمورًا حال حدوث الفعل لامتنع أن يكون مأمورًا قبيله، لكن لا يمتنع ذلك عند الخصم فلا يمتنع أن يكون مأمورًا حال حدوث الفعل. بيان الملازمة: أنه لو امتنع أن يكون المأمور مأمورًا حال حدوث الفعل فإنما يمتنع ذلك لكون الفعل فيه واجبًا، والتكليف بالواجب ممتنع، لأنه تحصيل الحاصل، لكن من المعلوم أن ذلك الوجوب ليس وجوبًا ذاتيًا ولا لوصف لازم بل لو كان له شيء من الوجوب، فإنما هو بشرط المحمول أي بشرط وجوده والوجوب بشرط المحمول لو كان مانعًا من التكليف لامتنع التكليف بالفعل قبيل حدوثه أيضًا ضرورة أنه واجب العدم بشرط المحمول أي بشرط تحقق العدم ولما لم يكن ذلك مانعًا لم يكن الوجوب، حالة الحدوث مانعًا أيضًا ضرورة عدم افتراقهما في الوجوب بشرط الحمل. واحتج أيضًا بوجه آخر: وهو أن القدرة الحادثة لا توجد إلا مع المقدور لأنها عرض وقد عرف أنه لا بقاء للأعراض، فلو وجدت قبل الفعل لعدمت عند وجوده، وحينئذ يلزم القول بوقوع الأثر بلا مؤثر، وبوقوع المؤثر بلا أثر وهو محال، فوجود القدرة قبل الفعل محال، وإذا امتنع تحقق القدرة قبل الفعل امتنع تحقق الأمر أيضًا إذ ذاك، وإلا يلزم الأمر بما لا قدرة للمكلف عليه، وهو عند الخصم ممتنع.

فإن قلت: لو أوجبت القدرة الحادثة من حيث إنها قدرة أن تكون مقارنة للمقدور، لأوجبت القدرة القديمة ذلك أيضًا، ضرورة أنه لا فرق بينهما من حيث القدرة، وحينئذ يلزم قدم العالم، وهو باطل. أما أولاً: فبالاتفاق. وأما ثانيًا: فلاستحالة كون المقدور قديمًا. قلت: لا نسلم أنه لا فرق بينهما، وهذا فإن القدرة الحادثة عندنا بمعني الكسب، والقدرة القديمة بمعني الخلق والاختراع، وهما معنيان متغايران واقتضاء أحد المفهومين المختلفين بحكم لا يوجد اقتضاء الآخر إياه غاية ما في الأمر أن اللفظ الدال عليهما واحد، ومعلوم أن عدم الافتراق في ذلك غير موجب لعدم الاقتران في الحكم، لأنه يجوز أن يقتضي أحد مدلولي اللفظ حكمًا ولم يقتض مدلوله الآخر، لما أنهما مختلفان ولو سلم أنهما بمعني الخلق والاختراع على ما / (188/أ) هو رأي الخصم، لكن لا نزاع في أن القدرة القديمة، يصح منها خلق ما لا يصح من القدرة الحادثة، وكذا بالعكس على رأي بعضهم وذلك يدل على أنهما متغايران لوجوب تساوي المتماثلان في جميع الاقتضاءات الذاتية.

واحتج الخصم: أن المأمور لابد وأن يكون قادرًا على المأمور به بحيث يصح منه الترك والفعل، ولا قدرة على الفعل حال الحدوث بالمعني المذكور، ضرورة أن الفعل واجب فيه، وحينئذ يلزم أن لا يكون المأمور مأمورًا حال الحدوث. وجوابه: بعد تسليم المقدمة الأولى: مع أن فيه منعًا أنه بعينه يقتضي أن لا يكون مأمورًا قبله أيضًا، لأنه لا قدرة له على تحصيل الفعل حالة العدم، ضرورة أن الترك واجب فيه كما سبق. فإن قلت: القدرة عليه حاصلة نظرًا إلى كونه ممكنًا وحصول شرائطه وارتفاع موانع التأثير وإنما امتنع لاعتبار لعدم فيه. قلت: كذلك نقول: أيضًا في حالة الحدوث، من غير تفاوت أصلاً، فإن الحادث ممكن نظرًا إلى ذاته وحصول شرائطه وارتفاع موانعه، وإنما جاء الوجوب نظرًا إلى اعتبار الوجود فيه، فإن الشيء إذا كان موجودًا، أو في حالة الوجوب كان واجب الوجود لا محالة.

المسألة السادسة [علم المأمور بكونه مأمورا قبل التمكن]

المسألة السادسة [علم المأمور بكونه مأمورًا قبل التمكن] ذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء: إلى أن المأمور يعلم كونه مأمورًا قبل التمكن من الامتثال، وإن كان الآمر عالمًا بأنه لا يبقي إلى أن يتمكن منه، كما إذا أمر الله تعالى: "لزيد بصوم الغد" وعلم أنه يموت قبل الغد. وقالت المعتزلة، وإما الحرمين منا: لا يعلم ذلك إن كان الآمر عالمًا بأنه لا يبقي إلى أن يتمكن من الامتثال.

وعلى هذا تبنى صحة ورود الأمر من الآمر، إذا كان الأمر خاصًا. فمن قال: إن المأمور يعلم كونه مأمورًا قبل التمكن جوز وروده. ومن لم يقل به: لم يجوزه. وأما إذا كان الآمر عالمًا ولم يعلم انقراض الجميع، بل بعضهم، فأظن أنه لا خلاف فيه إذ أكثر أوامر كتاب الله تعالى كذلك. فإن بعض المكلفين يموت قبل التمكن. وكلام بعضهم: يشعر بالخلاف فيه "أيضًا". وعلى هذا الخلاف أيضًا: الأمر المقيد بالشرط الذي علم الآمر بأنه [لا يوجد]، كما إذا أمر الله تعالى: لزيد بالصوم إن قدم "لزيد" عمرو من السفر، وعلم أنه لا يقدم. ولهذا زعمت المعتزلة: أن الشرط في أمره / (188/ب) تعالى محال، لأنه تعالى عالم بعواقب الأمور وما يكون منها وما لا يكون، فإن كان الشرط مما علمه أنه لا يكون لم يكن الأمر المعلق به أمرًا، بل هو جار مجرى قوله: صم غدًا إن صعدت السماء، وليس هو من الأمر في شيء إلا على رأي بعض من يجوز تكليف ما لا يطاق. وإن كان مما علم أنه سيكون لم يكن الأمر مشروطًا به، بل هو كقوله: "قم إن كان الله موجودًا" أو اشمس مخلوقة، وليس هو من الأمر المشروط في شيء لأن الأمر المشروط هو الذي يكون على خطر الحصول واللاحصول لأن الشرط هو الذي يمكن أن يحصل ويمكن أن لا يحصل، ومعلوم أن هذا

التردد والشك في حقه تعالى محال، بل لا يتصور في حقه تعالى إلا العلم، فلا يتصور في حقه تعالى تعليق الأمر على الشرط، فعلى هذا قالوا إن المكلف إذا شهد هلال رمضان، فإنه يجب عليه أن يشرع في الصوم لا على أنه يقطع بأنه يكون متمكنًا منه، فإن القطع بذلك يقتضي القطع ببقائه قادرًا، وهو متعذر لإمكان تطرق الموت والزمانة إليه فجأة، بل بناء على الظن الغالب، فإن الأصل بقاء الحياة واستمرار القدرة. وإن قيل: بعدم بقاء الأعراض لتجدد الامتثال عادة، فلو مات قبل إتمام الصوم تبين أن الصوم ما كان واجبًا عليه، وكذا القول فيما إذا مات في أثناء الصلاة المفروضة أو جن. وأما على رأينا: فإنه لا يدل على عدم الأمر، بل لا يدل عدم لزوم الإتمام، أو على عدم الامتثال، وهما لا يستلزمان عدم الأمر. وأما عدم وجوب الكفارة على من أفسد صوم رمضان بالوقاع، ثم مات أو جن بعد ذلك على رأي لنا: لا يدل على عدم الأمر به، لاحتمال أن يقال: وجوب الكفارة من خصائص وجوب صوم اليوم الذي لا يتعرض للانقطاع فيه.

فإن قلت: فما قولك في المرأة التي عملت بالعادة، أو بإخبار نبي أو ولي أنها تحيض في يوم معين من رمضان، هل تجب عليها أن تشرع في الصوم فيه أم لا؟. قلت: الأظهر وجوبه على رأينا: فإن الأمر محقق في الحال والمرخص لم يوجد بعد: والميسور لا يسقط بالمعسور. ويحتمل أن يقال: إن التمكن وإن لم يكن شرط الأمر عندنا، لكنه شرط الامتثال، ولما علمت: أنه لا يوجد الشرط وجب أن لا يجب المشروط.

وأما على رأي المعتزلة: فلا يخفى أنه لا يجب الشروع، وعلى هذا فقس كل ما يرد عليك، من أمثال هذه المسائل. نحو قوله: إن صليت أو صمت فزوجتي طالق، ثم مات في أثنائها أوجن. ونحو قوله: والله لأعتكفن صائمًا، وإن اعتكفت صائمًا فزوجتي طالق / (189/أ)، فاعتكف صائمًا ساعة، ثم مات. واتفق الكل على أن المأمور لو علم أنه لا يتمكن من فعل المأمور به، فإنه لا يعلم أنه مأمور إلا على رأي من يقول بتكليف ما لا يطاق. احتج الأصحاب بوجوه: أحدها: أن الأمة مجمعة على أن المكلف إذا عزم على فعل المأمور به عند التمكن منه، أو ترك المنهي عنه، فإنه يكون متقربًا إلى الله تعالى بمجرده، وإن لم يتمكن منه. وإنما قيدنا به لئلا يقال: إن ذلك في العازم المتمكن، وإن ذلك بناء على الظن الغالب بالبقاء، لأن الغالب من الظن فيما يتعلق بالمستقبل إنما يعتبر إذا لم ينكشف الأمر على خلافه، وأما إذا انكشف على خلافه فلا، وقد تقدم له نظائر. وأجمعوا أيضًا: على أن من عزم على فعل ما ليس بمأمور به، أو على ترك ما ليس بمنهي عنه، فإنه لا يكون متقربًا إلى الله تعالى، فلو كان التمكن من الامتثال شرطًا لتحقق الأمر، لم يكن التقرب حاصلاً بمجرد العزم، لجواز أن لا يتحقق التمكن من الامتثال الذي هو شرط تحقق الأمر الذي فعل مقتضاه، إذ العزم عليه شرط استحقاق الثواب، لكنه خلاف الإجماع.

واعترض عليه وقيل: إنه ضعيف جدًا، لأن الإجماع حاصل أيضًا على أن من غلب على ظنه كون الشيء مأمورًا به أو منهيًا عنه، وعزم على فعله أو تركه ناويًا فيه القربة فإنه يثاب عليه، وإن تبين أنه كاذب الظن، فالثواب إنما هو على نية فعل ما يتوهم أنه قربة وإن لم يكن قربة. وهو ضعيف: أما أولاً: فلأنا لا نسلم أنه ليس بمأمور في تلك الحالة بذلك الشيء، وهذا لأنه كونه مأمورًا فرع توجه الأمر نحوه عندنا، سواء كان متمكنًا منه أو لم يكن كذلك، ولما توجه الأمر إلى كل مكلف بإتباع ظنه فيما يتعلق بالتكاليف كان مأمورًا بذلك الذي غلب على ظنه أنه مأمور به في تلك الحالة مع أنه مثاب، فلا جرم يثاب على عزم فعله، ثم إذا ظهر أنه كاذب الظن زال ذلك الأمر، لأنه مشروط بغلبة الظن. وأما ثانيًا: فلأنا وإن سلمنا: أنه بمأمور، لكن غايته أنه ليس بمأمور بالأمر الذي ظن أن ذلك الشيء مأمور به، بل بأمر آخر بعدما ظنه كذلك على ذلك العزم، لكن الثواب على عدم فعل ما هو مأمور به وقربه في نفسه غير الثواب على عدم فعل ما هو مأمور به، وقربه في الظن لا في نفس / (189/ب) الأمر قطعًا، وإذا كان كذلك فلا يلزم من كون استحقاق الثواب على عدم فعل ما هو مأمور به وقربه في نفس الأمر دليلاً على أنه مأمور قبل التمكن من الفعل وأن يكون الاستحقاق على عدم فعل ما هو مأمور به وقربه من الظن لا غير دليلاً أنه مأمور به لجواز أن يكون ذلك من

خواصه دون هذا. فإن قلت: هب أن الأمر كذلك، لكن لا نسلم: أنهم أجمعوا على أنه مثاب بثواب العزم على فعل ما هو مأمور به في نفس الأمر، بل غايته إنهم أجمعوا على أنه مثاب ومتقرب وهو أعم مما ذكرتم. قلت: الدليل على أنهم أجمعوا على أنه مثاب بثواب العزم على ما فعل ما هو مأمور في نفس الأمر، هو أنهم لم يفرقوا بين العازم الغير المتمكن وبين العازم المتمكن الفاعل "له" في استحقاق الثواب بسبب العزم، وإن كان الثاني يثاب على الفعل أيضًا دون الأول ولا شك أن الثاني يثاب على عدم فعل ما هو مأمور به في نفس الأمر، فكذا الأول ضرورة عدم افتراقهما فيه. وثانيهما: لو كان التمكن من الامتثال شرطًا، ككون المأمور مأمورًا لوجب أن لا يجب على الصبي حين يبلغ أن يعتقد كونه مأمورًا بشرائع الإسلام نحو الصلاة والصوم والزكاة قبل التمكن منها، ومنهيًا عن منهيات: كالزنا والسرقة والقتل قبل التمكن منها، بل لا يجوز لأنه جهل [لأنه غير مأمور قبل التمكن حينئذ فاعتقاد كونه مأمورًا قبل كونه مأمورًا جهل] وهو غير جائز التحصيل، لكن الأمة مجمعة قبل ظهور المخالف، على أن الصبي عندما يبلغ فإنه يجب عليه أن يعلم ويعتقد أنه مأمور بها ومنهي عنها فلا يكون التمكن من الامتثال شرط تحقق الأمر. "وثالثها: أجمعنا" وأجمعت الأمة أيضًا: على أن الصلاة المفروضة لا

تصح إلا بنية الفرض، ولا تعتبر نية الفرض قبل معرفة الفرض. بدليل أن من نوى فرض الظهر قبل العلم أو الظن بدخول وقته، فإنه لا تنعقد نيته، وهكذا التقرير في نية صوم يوم [من] رمضان، وإنما يستقيم فيه التقرير المذكور على وجه الإلزام، لو قال الخصم: بوجوب النية، وإلا فالتمسك بالإجماع فيه منعقد لحصول الخلاف فيه، فلو كان التمكن من الامتثال شرط تحقق الأمر لوجب أن لا تصح نية الفرض في شيء من الصلاوات المؤدات في أول الوقت، لأنه لا يعلم فرضيتها إلا بعد التمكن منها، فيكون قبل التمكن شاكًا في فرضيتها فلا تصح نيته كنية الشاك في حصول الوقت / (190/أ)، وأيضًا لو كان التمكن من الامتثال شرطًا لتحقق الأمر لم يتصور أداء العبادات المضيقة بنية امتثال الأمر، لأن فعلها قبل التمكن ليس امتثالاً للأمر، لعدم تحقق الأمر وبعده يفوت الوقت فيكون قضاء لا أداء، وهو أيضًا خلاف الإجماع. فإن قلت: هذا الذي قبله غير لازم، لاحتمال أن يقال: إن ذلك بناء على الظن الغالب، فإن لغلبة الظن تأثيرًا في وجوب الشيء لا يخفى عليك صورة، فوجب اعتقاد أنه مأمور بشرائع الإسلام ومنهيًا عن المناهي، ووجوب نية فرض الصلاة والصوم مع عدم قطعه بوصوله إلى التمكن، إنما هو بسبب غلبة ظن بقائه إلى التمكن، وحينئذ لا يدل ما ذكرتم على المطلوب. قلت: لا يجوز أن تكون تلك الأحكام من أهل الإجماع، بناء على الظن الغالب بوصول المكلف إلى التمكن، لأن الخطاب غير ممتنع في الظن الغالب، فجاز أن لا يطابق ظنهم بوصوله إلى التمكن وصوله إليه، وحينئذ يلزم أن يكون إجماعهم على الخطأ. وهو باطل.

فإن قلت: ما ذكرتم يمنع من انعقاد الإجماع عن الخبر والقياس، لكونهما مظنونين. قلت: لما انعقد الإجماع على موجب خبر وقياس مظنون به، علمنا الآن أنه صحيح غير محتمل للخطأ وإلا لزم أن يكون إجماعهم لا عن دليل، وهو خطأ، ولا يمكن أن يقال مثله فيما نحن فيه لأنا نرى أن كثيرًا منهم يموت قبل التمكن فلا يمكن أن يقال: إنه لما انعقد الإجماع على أنه مأمور، وإن كان ذلك بناء على الظن الغالب، علمنا أنه يصل إلى التمكن وإلا لزم أن يكون إجماعهم على الخطأ. ورابعها: أن الإجماع منعقد على أن من حبس المكلف في أول الوقت ومنعه عن الصلاة، فإنه عاص لخصوصية منعه من الصلاة الواجبة، وإن لم يصل إلى التمكن، وإنما قيدنا بها ليندفع ما يقال عليه "أ، هـ" إنما يعصى لأنه منع الحر عن التصرف والتقلب في مرامه حتى لو فرض ذلك في المباح، فإنه يعصى أيضًا وأنه إنما يعصى لأنه أخرجه عن أن يكون مكلفًا، ولا شك في أن كونه مكلفًا مصلحة، وكذلك لو منع الحاج من الاشتغال بالإحرام والسعي، ولو كان التمكن من الامتثال شرطًا لتحقق الأمر وإثباته على عزمه على فعله وجب أن لا يعصى بخصوص المنع والحبس عن الصلاة، ضرورة عدم تحقق الأمر، كما قبل دخول الوقت فإنه لا يعصى لخصوصية المنع عن / (190/ب) الصلاة.

وخامسها: وهو الوجه اللمى وهو أن الأمر بالشيء يحسب تارة بمصلحة تنشأ من فعل المأمور به، وأخرى بمصلحة تنشأ من نفس الأمر، نحو امتحان المأمور وتجربته بما يظهر عليه من علامات البشر والكراهة وتوطين نفسه على الامتثال وانزجاره عن القبائح بسبب اشتغاله بمقدمات المأمور به، ولكونه لطفًا لغيره، فإنه قد يعلم بسبب الأمر جنس المأمور به فيقدم على فعله، ولذلك يحسن من السيد أن ينجز الأوامر على عبده مع علمه بأنه سينسخها عنه ولذلك يحسن منه أيضًا أن يأمره بصوم شهر، وإن فرض أنه يعلم بقول: نبي أو ولى أنه لا يعيش إلى ذلك الشهر، وإذا كان كذلك فلا امتناع في أن يأمر الله تعالى أو رسوله المكلف بشيء مع علمه تعالى بأنه يعيش إلى أن يتمكن منه، وكذلك رسوله للفوائد التي ذكرناها. وسنحيط بالمسألة علمًا في مسألة جواز النسخ قبل حضور وقت العمل به. واحتجوا بوجهين: أحدهما: أن المأمور بالشيء إنما يعلم أنه مأمور به حقيقة قبل التمكن من امتثاله، أن لو كان مأمورًا به حقيقة في نفس الأمر قبل التمكن، وإلا لكان

جهلاً، ضرورة أنه غير مطابق لما هو الواقع في نفس الأمر، لكنه غير مأمور به حقيقة في نفس الأمر قبله، لأنه لو كان مأمورًا به حقيقة قبيله، فإما أن يكون بشرط البقاء إلى التمكن أولا بهذا الشرط. والأول: باطل لاستحالة حصول المشروط بدون الشرط. والثاني: أيضًا باطل، لأنه تكليف ما لا يطاق، وليس هذا تفريعًا عليه، إذ قال به منكم من لم يقل بتكليف ما لا يطاق، كالغزالي - رحمه الله تعالى -. وجوابه: منع لزوم تكليف ما لا يطاق على التقدير الثاني، وهذا لأن من الظاهر أنه لا يلزم من عدم توقف تحقق الأمر في نفسه وقيامه بالأمر على التمكن كلفه فضلاً عن أن يكون ذلك تكليف ما لا يطاق، وإنما يلزم ذلك من عدم توقف الامتثال عليه، لكن لا نسلم أن تحقق الأمر يستدعي تحقق الامتثال حتى يلزم ما ذكرتم من تكليف ما لا يطاق، وهذا لأنا نجوز أن يكون المعدوم مأمورًا بالمعني الذي تقدم ذكره. وكذلك من لم يبلغه الأمر، ولكن إنما يجب عليه الامتثال بشرط أن يبلغه فأما قبله فالأمر متحقق، وإن لم يجب عليه الامتثال لفقد شرطه. وثانيهما: أن الأمر طلب الفعل من / (191/أ) المأمور فيستحيل قيامه بذات من يعلم امتناع حصوله منه، لأن طلب الممتنع ممتنع إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق، وليس الكلام في هذه المسألة تفريعًا عليه فهو جار مجرى قوله: صم إن صعدت السماء، ومعلوم أنه ليس من الأمر في شيء إلا من جهة الصيغة.

وجوابه: أن الطلب ليس عين الإرادة ولا مشروطًا بها على ما عرف ذلك من قبل، حتى يلزم أن لا يتعلق إلا بما تتعلق به الإرادة. وهذا وإن كان يقتضي جواز الأمر بالمحال، ونحن في هذا المقام، وإن سلمنا: عدم جواز الأمر به، فإنما نسلم ذلك لما أنه ليس في الأمر به مصلحة تتعلق بالفعل ولا مصلحة تتعلق بالأمر به، بخلاف ما نحن فيه، فإنه وإن لم تكن فيه مصلحة تتعلق بالفعل، لكن فيه مصالح تتعلق بنفس الأمر كما تقدم ذكره، فلا يلزم من عدم جواز تعلق الطلب بالمحال لما تقدم من المعني، إلا لأن الطلب عين الإرادة أو مشروط بها عدم جواز تعلقه فيما نحن فيه. تنبيه: اعلم أن كل من لم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به المعتزلة: فإنهم اتفقوا على أن التمكن من فعل وقت وجوبه شرط تحقق الأمر، وهو اللائق بأصولهم. وأما من جوزه كجماهير أصحابنا: فهؤلاء، اختلفوا فيه. فذهب الجماهير منهم إلى عدم اشتراطه.

وذهب بعضهم: كإمام الحرمين، وبعض الأصوليين منا، ومن الحنفية إلى اشتراطه. وكل واحد من القولين ليس مناقضًا لذلك الأصل، وإن كان الأول أشد ملائمة له.

"النوع الرابع" الكلام في النهي وما يتعلق به من المسائل

النوع الرابع: الكلام في النهي وما يتعلق به من المسائل

النوع الرابع الكلام في النهي وما يتعلق به من المسائل المسألة الأولى اعلم أن صيغة النهي مستعملة في ثمانية محامل بالاستقراء. أحدها: التحريم، كقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله

إلا بالحق}. وثانيها: لكراهة كقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح} أي على عقدة النكاح، وكقوله عليه السلام: "لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين".

وثالثها: التحقير كقوله تعالى: {ولا تمدن عينيك}. ورابعها: التحذير كقوله تعالى: {ولا تموتن}. وخامسها: بيان العاقبة كقوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا}. وسادسها: اليأس كقوله تعالى: {لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}.

وسابعها: الإرشاد كقوله: {لا تسألوا عن أشياء}. وثامنها: الدعاء كقول الداعي: "لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين". واتفقوا على أنها ليست حقيقة في الكل / (191/ب) بل في البعض وذلك هو التحريم، أو الكراهة، أو ما هو المشترك بينهما، أو هي

مشتركة بينهما. فعلى الخلاف الذي تقدم في الأمر، ودلائل الوجوب بعينها آتية في أنها للتحريم، لأن النهي أمر بالترك، فيكون الترك واجبا، ولا نعني بكون النهي للتحريم سوى هذا. ثم اعلم أن أكثر ما تقدم من مباحث الأمر، جار في النهي بطريق العكس منها لكونه مقابلا له، وقد أحطت بها علما، فلا حاجة إلى الإعادة لئلا يطول الكلام ويتكرر من غير فائدة كثيرة، فلنذكر ما يختص به من المسائل.

المسألة الثانية [في أن النهي للتكرار]

المسألة الثانية [في أن النهي للتكرار] ذهب أكثر من قال إن الأمر ليس للتكرار إلى أن النهي للتكرار، بمعني أنه يفيد الانتهاء عن المنهي عنه دائمًا. ومنهم من سوى بينهما في أنهما لا يفيدانه، وذلك إما بأن يكونا للقدر المشترك بين التكرار وبين المرة الواحد، وإما بأن يكونا للمرة الواحدة. ومنهم: من نقل الإجماع على أن النهي يفيد التكرار.

واحتج الأكثرون بوجوه: أحدها: أن الدوام هو المتبادر إلى الفهم عند سماع الصيغة مجردة عن جميع القرائن، بدليل أن السيد لو قال لعبده: لا تفعل كذا مجردة عن سائر القرائن، يفهم منه منعه عن ذلك الفعل على وجه الدوام حتى لو فعل ذلك في وقت ما عد مخالفا لنهيه، والتبادر إلى الفهم دليل الحقيقة على ما تقدم في اللغات. وثانيها: أن قول القائل: لا تضرب، يفيد المنع من إدخال ماهية الضرب في الوجود، وذلك إنما يكون بالامتناع عن إدخال كل فرد من أفرادها، لأنه لو أدخل فردا من أفرادها لكان قد أدخل الماهية في الوجود، ضرورة أن ذلك الفرد مشتمل على الماهية. ومن الظاهر أن الامتناع عن إدخال كل فرد من أفرادها، إنما يكون بالامتناع دائمًا. وثالثها: أن الحمل على التكرار أحوط على ما لا يخفى عليك تقريره فوجب المصير إليه، لقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وأما حديث الجهل بالاعتقاد فمشترك، ولا ينقض بالأمر، لأنه إنما لم يحمل ثمة على التكرار لما فيه من المشقة الناشئة من تكرار الفعل، بخلاف النهي، فإنه ليس فيه تلك المشقة.

ورابعها: أكثر النواهي المطلقة في الشرع والعرف للتكرار، وهذا لا يستريب فيه عاقل بعد الاستقراء والفحص، فلو لم يكن النهي للتكرار لزم التجوز في تلك الاستعمالات. أما لو قيل: بأنه للتكرار / (192/أ) فحيث لم يكن للتكرار، كما في قول الطبيب للمريض وقت شرب الدواء: "لا تأكل ولا تشرب في هذه الساعة، وإن كان يلزم التجوز فيه أيضا، لكنه قليل وكل ما كان الشيء خلاف الأصل كان تكثيره أيضًا خلاف الأصل، فيلزم أن يكون النهي للتكرار، لئلا يلزم خلاف الأصل. واحتجوا بوجوه: أحدها: أن النهي قد ورد بمعني الدوام، كما في النهي عن القتل والزنا وشرب الخمر وهو متفق عليه. وقد ورد ولا يراد به الدوام، كما في قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}. وكما تقدم في قول الطبيب، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو مطلق الترك، لئلا يلزم أحدهما. وثانيها: أنه لو كان للدوام فحيث لم يكن له يلزم الترك بالدليل. أما لو قلنا: بأنه لمطلق التكرار من غير إشعار بأحد القيدين لم يلزم ذلك،

بل يلزم إثبات أمر زائد، لدليل آخر لا يتعرض له النهي لا بالنفي ولا بالإثبات، ومعلوم أن الثاني أولى. وثالثها: لو قال: لا تفعل كذا دائمًا، أو في هذه الساعة، أما في الساعة الأخرى فافعل لم يكن الأول تكرارًا والثاني نقصا. الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل، لكن قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، وما ذكرنا من الدليل وهو تبادر الدوام إلى الفهم منه من غير قرينة دالة على أنه حقيقة فيه فوجب أن يكون مجازا في غيره، لأن التجوز خير من مطلق الاشتراك، فضلا عن الاشتراك الذي يوجب أن يكون اللفظ في أحدهما راجحا وفي الآخر مرجوحًا، ولا يعارض بمثله، لأنه يقتضي أن يفهم القدر المشترك منه من غير قرينة وأن لا يفهم الدوام إلا لقرينة وذلك خلاف ما يجده المنصف العارف باللغة العربية من نفسه. وثانيهما: أن جعله حقيقة في القدر المشترك، يقتضي أن يكون النهي مجازا في التكرار وفي المرة الواحدة، ضرورة كونه مستعملا فيهما لخصوصيتهما إذ الأغلب في الاستعمال إنما هو بحسب خصوصية الصور لا باعتبار القدر المشترك بينهما، أو وإن لم يكن ذلك [هو] الأغلب، لكن لا نزاع في الاستعمال بحسب الخصوصية فيهما، لكن غاية ما يقول الخصم

فيه أن ذلك لقرينة، فإما أن يقول: بأنه حيث استعمل فإنما استعمل في القدر المشترك فلا إذ هو مناكرة ظاهرة / (192/أ)، والتزام المجاز الواحد أولى من التزام المجازين، فعند هذا إما أن يجعل حقيقة في الدوام، مجازا في المرة الواحدة أو بالعكس، لكن الأول أولى، لأنا لو جعلناه حقيقة فيه أمكن جعله مجازا في المرة الواحدة، لأنها لازمة له، وأما لو جعلناه حقيقة فيها لم يمكن جعله مجازا فيه، لأنه غير لازم لها أو وإن أمكن لكن الأول أولى عند التعارض على ما عرفت ذلك في اللغات. لا يقال: جعله حقيقة في الدوام يقتضي أن يكون مجازا في المرة الواحدة وفي القدر المشترك بينهما أيضا ففيه أيضا التزام المجازين. فلم قلتم: إن جعله حقيقة في الدوام، أولى من جعله حقيقة في القدر المشترك، مع أن في القول بكل واحد منهما التزام المجازين؟ وأيضا فإن ما ذكرتم يقتضي أن لا يكون التواطؤ أولى من المجاز لاستلزامه المجازين فصاعدا، وقد قلتم: في اللغات أن التواطئ أولى من أن يكون اللفظ حقيقة في معنى ومجازا في الآخر. لأنا نقول الجواب عن الأول: إن جعله حقيقة في الدوام أولى وإن كان فيه أيضا التزام المجازين لما سبق من الوجهين في الوجه الثاني. وعن الثاني: إن ذلك إنما هو باعتبار الاستعمال في القدر المشترك لا بحسب خصوص الصور. وعن الثاني: المعارضة بما سبق من الفائدة. وعن الثالث: إنه إن عنى بالتكرار أنه يكون عريا عن الفائدة فليس بلازم

فإنه تأكيد عندنا، وإن عني به أنه يكون عريا عن الفائدة التأسيسية فمسلم، لكن لا نسلم: أنه ليس كذلك. فإن قال: الأصل خلافه. فجوابه: ما سبق، ولا نسلم أيضًا أنه مع قيد اللادوام يكون نقصا، بل يكون قيد اللادوام قرينة دالة على إرادة التجوز منه، فإن عنى بالنقص أنه مستعمل فيما لا يجامع مدلوله لقرينة لا أنه منهيا عنه فمسلم، لكن لا نسلم أنه ليس كذلك، فإن زعم أنه لو كان كذلك لزم خلاف الأصل فجوابه ما سلف.

المسألة الثالثة في أن مطلق النهي عند من يقول: إنه للتحريم، أو المقترن بقرينة للتحريم عند من لا يقول: به. هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟

المسألة الثالثة في أن مطلق النهي عند من يقول: إنه للتحريم، أو المقترن بقرينة للتحريم عند من لا يقول: به. هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب كثير من الفقهاء من الأئمة الأربعة، وجماعة من المتكلمين منا ومنهم، وأهل الظاهر بأسرهم، إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه سواء كان المنهي [عنه] عبادة أو معاملة، وهو مذهب الشافعي / (193/أ) رحمه الله تعالى. لكن اختلفوا في جهة دلالته عليه. فمنهم: من قال: يدل عليه من جهة اللفظ.

ومنهم: من قال: من جهة المعنى. وذهب أبو حنيفة، وأكثر أصحابه كمحمد بن الحسن، وأبي الحسن الكرخي، وكثير من أصحابنا كالقفال الشاشي. وكثير من المتكلمين منا، ومنهم كالجبائيين، وأبي عبد الله البصري، والقاضي: إلى أنه لا يقتضي فساده، سواء كان عبادة أو معاملة.

وذهب أبو الحسين البصري منهم، وبعض أصحابنا كالغزالي، والإمام إلى التفصيل، فقالوا: يقتضي فساده إذا كان عبادة، دون ما إذا كان معاملة. وقد عرفت فيما سبق معنى الفساد في العبادات والمعاملات، وأنه لا اختلاف في معناه في المعاملات، وإنما الاختلاف فيه في العبادات. والأظهر أن كل من ذهب من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يقتضي الفساد في العبادات، أو لا يقتضيه، فإنما ذهب إليه بالمعني المصطلح عليه عنده لا بالمعني الآخر، وإن كان الأمر في الآخر على خلاف هذا على ما عرفت ذلك فاعرف ذلك.

واحترزنا: بمطلق النهي، عن النهي المقترن بقرينة تدل على الفساد، نحو أن يكون دالا على المنع من الشيء لخلل في أركانه، أو في شرائطه. وعن الذي يكون مقترنًا بقرينة تدل على أنه ليس للفساد، نحو النهي عن الشيء لأمر خارج عنه مجاور له، فإن في هذين النهيين ينبغي أن لا يكون خلاف، أو وإن كان فيه خلاف على ما أشعر به إيراد بعضهم، لكنه غير معتد به إذ يمتنع أن لا يكون له دلالة على الفساد مع دلالته على اختلال ركن من أركانه، أو على اختلال شرط من شرائطه والفساد لازم من لوازمه، وإلا فيمكن أن يكون صحيحًا، وحينئذ يلزم جواز وجود الكل بدون الجزء، وجواز وجود المشروط بدون الشرط، وهو ممتنع. وإنما قيدنا الخلاف في النهي الذي للتحريم، إذ لا خلاف في النهي الذي

للتنزيه على ما يشعر به كلامهم، وقد صرح بذلك بعض المصنفين احتج القائلون بالفساد: بالنص، والإجماع، والمعقول. أما النص فهو: قوله عليه السلام: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه". ويروى "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". والمنهي عنه ليس من الدين فكان مردودا، والمردود ما ليس بصحيح ولا مقبول، لأنه استعمل فيهما يقال: رد دعاه وعبادته إذا لم يقبل، ويقال: رد كلام الخصم إذا أبطله، ومنه تسمى الكتب / (193/ب) المصنفة في إبطال الكلام أهل البدع والأهواء كتب الرد، ويقال: كتاب الرد على الفلاسفة، وكتاب الرد على الخوارج، وكتاب الرد على الروافض، فوجب

جعله حقيقة فيهما باعتبار القدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والمجاز، فإذا ورد مجردا عن القرينة وجب حمله عليهما أو على ما ليس بصحيح، لأنه لو لم يحمل عليهما أو عليه. فإما أن لا يحمل على واحد منهما وهو باطل. أما أولا: فلأن فيه تعطيل النص وهو ممتنع. وأما ثانيا: فبالاتفاق. وأما أن يحمل على ما ليس بمقبول: وهو إما بطريق التعيين، أو بطريق التخيير. والأول: باطل، لأن الحمل على التعيين على أحد مدلولي اللفظ المتساويين من غير مرجح غير جائز فضلا عن أن يكون الحمل على المرجوح واجبا. والثاني أيضًا باطل، لأن الحمل على التخيير إنما يجري فيما يتساوي فيه الحمل والحمل على ما ليس بصحيح راجح على ما ليس بمقبول، لأنه مستلزم له من غير عكس فكان فيه زيادة فائدة فكان الحمل عليه واجبا. وأما الإجماع: فهو أن الصحابة استدلوا بالنهي على الفساد، ولم ينقل عن واحد منهم الإنكار على ذلك، فكان إجماعا. أما بيان الأول: فنذكر احتجاجهم، فمن ذلك احتجاج ابن عمر [رضي

الله عنه] على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}. ومنه أيضًا قوله: "كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه السلام، عن المخابرة".

ومنه استدلالهم بفساد عقد الربا بقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل".

ومنه محاجة أبي الدرداء مع معاوية وهو مشهور.

ومن استدلالهم على فساد نكاح المتعة بنهيه عليه السلام عنها. وكذا في العبادات: فإنه لا مأخذ لهم في عدم صحة الصوم في يوم النحر وأيام التشريق، إلا قوله عليه السلام: "ألا لا تصوموا في هذه الأيام"

الحديث، وما يجري مجراه.

وكذا يستدل بقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك". على فساد صلاة الحائض، وأمثال هذه كثير بالجملة. كما يعلم إجماعهم على أن الأمر للوجوب [باستقراء استدلالهم بالأمر على الوجوب، فكذا يعلم إجماعهم على أن النهي للفساد] باستقراء

استدلالهم بالنهي على الفساد، فمن عول عليه في إثبات أن الأمر للوجوب، [وجب] عليه أن يعول عليه أيضا ها هنا، إذ لا يتخلص بينهما فرق. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن المنهي عنه قبيح ومحرم وإذ الكلام فيه والمحرم لا يكون مشروعا وما لا يكون مشروعا لا يكون صحيحا، لأن كل صحيح مشروع فالمنهي / (194/أ) عنه لا يكون صحيحا فإذا النهي للفساد. وثانيها: لو لم يكن النهي للفساد، فحيث حمل بعض النواهي عليه، كما في النهي عن بيع المضامين والملاقيح يجب أن يكون لقرينة منفصلة، لكن الأصل عدمها فهو إذاً للنهي.

وثالثها: أن المنهي عنه، مشتمل على مفسدة خالصة، أو راجحة، لأنه لو لم يكن كذلك لكان إما أن يكون مشتملا على مصلحة خالصة أو راجحة، أو متساوية، أو يكون خاليا عنهما. وعلى التقديرين الأولين: يكون النهي عنه غير جائز، ضرورة أن النهي عن المصلحة الخالصة غير جائز شرعا وعرفا.

أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فعلى أصول المعتزلة أيضا ظاهر. وأما على أصولنا: فهو أنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن المصالح والحكم، بأنه تعالى لا يجب عليه رعاية المصالح الدينية والدنيوية، لكنا نعتقد أن أحكام الشرع كلها أو أكثرها معللة بالمصالح والحكم. ولهذا قلنا: بشرعية العمل بالقياس، ولكن غايته أن ذلك ليس على وجه الوجوب، كما يزعم المعتزلة، بل على وجه التفضيل والإحسان، وإذا كان كذلك كان المنهي عن المنهي عنه لابد وأن [يكون] لمصلحة وحكمة، وإن لم يكن ذلك واجبا، وما يكون مشتملا على المصلحة الخالصة لم يكن النهي عنه مصلحة وحكمة بل هو مفسدة، فلا يجوز نظرا إلى ما أجرى الله تعالى عادته من رعاية المصالح في الأحكام الشرعية. وعلى التقديرين الأخيرين: يكون النهي عنه عبثا، لأنه لا فائدة في إيجاب تركه، كما لا فائدة في إيجاب فعله فيكون عبثا، والعبث على الله تعالى بهذا الاعتبار أيضا محال وفاقا. أما عندهم فظاهر. وأما عندنا فنظرا إلى ما أجرى الله تعالى عادته به من رعاية المصالح في الأحكام الشرعية. فثبت بهذا أن المنهي عنه مشتمل على المفسدة الخالصة، [فوجب أن لا يكون صحيحا لوجهين:

أحدهما: أن القول بالصحة أفضى إلى لا حصولها، واحتمال حصول تلك المفسدة الخالصة] مرجوح بالنسبة إلى احتمال لا حصول لها في نظر الشرع لما سبق، والأفضى إلى المرجوح مرجوح، والأفضى إلى الراجح راجح. فالقول: بالصحة مرجوح بالنسبة إلى القول: بالفساد، ولا نعني يكون النهي للفساد سوى هذا. وثانيهما: القياس على جميع المناهي الفاسدة، والجامع أن القول: بالفساد ينبغي في إعدام تلك المفسدة الخالصة بالكلية. ورابعها: أن النهي مقابل للأمر، والأمر يقتضي الإجزاء وفاقا، على ما تقدم بيانه، فالنهي يقتضي الفساد ضرورة / (194/ب) أن أحد المتقابلين يقتضي حكما مقابلا لحكم المقابل الآخر. وخامسها: أن فعل المنهي عنه معصية، إذ الكلام في النهي الذي للتحريم، وحصول الثواب والتقرب إلى الله تعالى والملك وصحة التصرف كلها نعمة، والمعصية تناسب المنع من النعمة وقد اقترن بها الحكم في جميع المناهي الفاسدة، والمناسبة مع الاقتران دليل باتفاق القائسين، والقول يكون النهي للفساد إعمال لها، والقول بالصحة ترك "لها" فيكون باطلا، لأن القول بترك الدليل باطل. وسادسها: وهو خاص في العبادات، أن العبادة إنما تكون صحيحة إذا كانت موافقة للأمر، أو مسقطة للقضاء، على ما سبق من الاختلاف، وذلك إنما يكون بامتثال الأمر المستدعى لاستحقاق الثواب، والمنهي عنه معصية

وفعله غير موجب له بل سبب لاستحقاق العقاب، فلو كان فعل المنهي عنه سببا لسقوط التعبد أو القضاء عنه لزم أن يكون الفعل الواحد طاعة ومعصية معا وهو محال. اعترض النفاة: على أدلة المثبتين. أما النص: فاعترضوا عليه من وجوه: أحدها: أنا لا نسلم أن المنهي عنه من حيث أنه سبب لإفادة أحكامه ليس من الدين حتى يكون مردودا، نعم: هو ليس من الدين بمعني أنه يسوغ فعله وتجوز مباشرته، ولا يلزم من كونه ليس من الدين بهذا الاعتبار كونه ليس منه بالاعتبار المتقدم، فإن الشارع لو صرح بهذا فقال: حرمت عليك مباشرة العقد الفلاني، وأنك لو باشرته فإنك معاقب من جهتي، ولكن يحصل لك ما يترتب عليه من الآثار، لم يعد مناقضا في كلامه، ولو كان الاعتبار الأول، من لوازم الاعتبار الثاني، لعد مناقضا، فإن إثبات الملزوم ونفي اللازم تناقض وتهافت في الكلام. وثانيها: أنه أراد به الفاعل، وتقديره: من أدخل في ديننا ما ليس منه فالفاعل "رد" أي مردود، ومعنى كونه مردودا أي غير مثاب ونحن نقول به. وثالثها: أنا وإن سلمنا: أن المراد منه الفعل، لكن معني قوله: فهو رد،

أي أنه مردود، بمعني أنه غير مقبول، يعني أنه لا يكون مثابا عليه. ويمكن أن يجاب عنها: أما عن الأول: فهو أن التقييد خلاف الأصل، وليس في الحديث ولا غيره ما يدل على أن المراد منه: أن من أدخل في الدين ما ليس منه باعتبار فهو رد عليه بذلك الاعتبار. أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فبالأصل، بل / (195/أ) الذي دل عليه الحديث بظاهره، أن من أدخل في الدين ما صدق عليه أنه ليس من الدين فهو رد عليه مطلقا، من غير اعتبار بجهة من الجهات، وإنما يكون كذلك أن لو رد عليه بكل الجهات، فإنه لو رد عليه من بعض الجهات لكان الرد متقيدا بتلك الجهة، وأنه خلاف ما دل عليه الحديث بظاهره، وأيضا التقييد ببعض الاعتبارات عبثا دون البعض ترجيح من غير مرجح وبغير عين غير مقيد، لأنه رد إلى جهالة، والقول بأن لا يكون ردا بوجه ما تعطيل للنص فيتعين التعميم، وأيضا لو حمل الحديث على ما ذكرتم من المعني لم يكن فيه فائدة، لأن من المعلوم أن البيع مثلا إذا لم يكن في الدين من حيث إنه سبب لإفادة الملك، فإنه يكون ردا على متعاطيه بهذا الاعتبار قطعا، ولا يتوهم بسبب مباشرة المكلف بما ليس مفيد الشيء في الدين أن يصير مفيدا له حتى يقال: إنه ورد لدفع هذا التوهم، وبتقدير أن يتوهم ذلك كان حمله على ما ذكرنا أولى، لأن حمل النص على مفهوم حقيقي أولى من حمله على ما يدفع التوهم. وعن الثاني والثالث: ما سبق في الاستدلال. وأيضا: البيان حينئذ غير محتاج إليه، لأنه إذا علم حرمة الفعل، علم أنه غير مثاب عليه ولا فاعله مثاب، فلا يحتاج إلى بيان مستأنف بخلاف على

ما ذكرنا، فإنه حينئذ يكون واردا على ما يحتاج إليه. ونخص الثاني: بأن عود الضمير إلى الفعل، أولى من الفاعل. لكونه أقرب المذكورين. وأما الإجماع: فقد اعترضوا عليه: بأنا لا نسلم أن الصحابة رجعوا في الحكم بالفساد [حيث حكموا به، إلى] مجرد النهي لزم الترك بمقتضي الدليل في تلك الصورة وأنه خلاف الأصل، وأما لو قيل: بأنه لا يقتضي الفساد، كما أنه لا يقتضي الصحة، فلا يلزم هذا المحذور، بل غاية ما يلزم منه إثبات حكم لا يتعرض له النهي لا بالإثبات ولا بالنفي، وذلك غير محذور إذا كان لدليل ...... سلمنا: أن الحكم كان بمجرد النهي، لكن من البعض أو من الكل، والأول: مسلم ولا حجة فيه، والثاني ممنوع. وأما سكوت الباقين عن الإنكار، فذلك لا يدل على أن الإجماع حاصل على التمسك بالنواهي على الفساد، لما ستعرف ذلك في الإجماع ...... وجوابه من وجهين: أحدهما: النقض يكون الأمر والنهي للوجوب والتحريم، بناء على هذه

الطريقة، فإن هذا القائل: يتمسك بهذه الطريقة، بل ربما عول عليها في أنهما / (195/ب) للوجوب والحرمة مع أن جميع ما ذكره هاهنا آت فيها والجواب مشترك. وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي: فهو أن يقول: الدليل على أن حكمهم بالفساد إنما كان بمجرد النهي لا لغيره، لأنه لو كان لغيره لكان دليلهم على فساد المخابرة مثلا غير ما رواه رافع كون الدواعي متوفرة على نقل مثله، وحيث لم ينقل ذلك علمنا أنه لم يوجد دليل آخر فيتعين أن يكون هو النهي المذكور، ولأن ظاهر قول ابن عمر - رضي الله عنه وعن أبيه - يدل على أن الحكم كان لذلك النهي، فإن ظهور دليل آخر يدل على فساده عند روايته دون ما قبله لاسيما بأربعين سنة في غاية البعد. وعن الثاني: أن من يقول من المخالفين: إن الإجماع السكوتي إجماع أو حجة فاستدل عليه بطريق الإلزام. وأما من لم يقل منهم بذلك فإنما يستدل عليه بهذا بعد إقامة الدلالة عليه. وعلى الوجه الأول من المعقول: أنا لا نسلم أن كل صحيح مشروع "بهذا" بمعني أنه يجوز فعله حتى يلزم من نفي كون المنهي عنه مشروعا

بالمعنى المذكور، نفي كونه صحيحا وهو منقدح. ولو أجيب عنه: ببعض ما ذكر في الثالث، لكان حاصله راجع إليه. وعلى الثاني: أن الأصل وإن كان عدم تلك القرينة، لكن يجب المصير إلى تلك القرينة لما سيأتي من الأدلة الدالة على أنه لا يقتضي الفساد. وجوابه: أن تلك الأدلة بعد تسليم صحة دلالتها، معارضة بالأدلة الأخرى الدالة على أنه للفساد فيبقي الأصل معمولا به على حاله. وعلى الثالث: بأن الوجه الثاني منه في تقرير الملازمة، لو دل على أن النهي يدل على الفساد فإنما يدل بطريق القياس لا بحسب اللفظ ولا بحسب معناه، وهو خلاف مطلوبكم. سلمنا: لكنه منقوض بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، وبسائر المناهي التي لا تقتضي الفساد من المعاملات. وجواب الأول: أن اللفظ إذا دل بطريق الالتزام على علة الحكم، كان دالا عليه بطريق المعنى. وعن الثاني: أن مخالفة الدليل في صورة المعنى لا توجب مخالفته في كل الصور التي لا يوجد ذلك المعنى فيها، ويمكن أن يقدح بأنه يقتضي التعارض، وأنه خلاف الأصل. وعلى الرابع: بمنع اقتضاء أحد المقابلين الأحكام المقابلة لأحكام المقابل الآخر، وهذا لأنه يجوز اشتراك المتقابلين في لازم واحد / (196/أ). ولئن سلم: ذلك لكن اللازم من ذلك أن لا يدل النهي على الصحة لا أنه يدل على الفساد، فإن التقابل بالحقيقة بين اقتضاء الصحة ولا اقتضائها. وأما بين الصحة والفساد، فبالعرض فلا حاجة إلى إثباته لأن إثباته حينئذ إثبات من غير دليل وهو باطل. وجواب الأول: أن الغالب عدم الاشتراك في الأحكام والاشتراك نادر

والحمل على الغالب أولى. وجواب الثاني: أن المتقابلين إذا كانا متضادين فإن الأغلب على الظن أن التقابل بين حكميهما تقابل التضاد أيضا اعتبار للمعلول بالعلة، فإن المناسبة بين العلة والمعلول معتبرة في التراجيح، وذلك إنما هو بين الصحة والفساد لا بين اقتضاء الصحة ولا اقتضائها، فإن ذلك تقابل السلب والإيجاب. وعلى الخامس: بما على الثالث: وبما أنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران بمجرده دليل، بل مع الاطراد وهو مقصود بدليل عدم الفساد في كثير من المنهيات المحرمة. والكلام على الأول: ما سبق وعلى الثاني: يعرف في مسألة تخصيص العلة. وعلى السادس: النقض بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، وبالتوضئ بالماء المغصوب، والحج على الجمل المغصوب.

وجوابه: على سبيل الإجمال ما سبق. وعلى التفصيل: إنا نقول: إن متعلق النهي في هذه الأشياء، أمر خارجي عنها مجاور لها، وذلك المتعلق لم يقع امتثالا، بل هو معصية والمكلف مؤاخذ به والذي وقع امتثالا لم يتعلق به النهي، بخلاف ما إذا لم يعرف إن للنهي متعلقا سوى عين المنهي عنه، فإن القول بصحة وقوعه امتثالا للأمر قول بأن المنهي عنه عين المأمور به، إذ ليس للأمر متعلق سوى العين أيضا. وهذا الجواب التفصيلي آت فيما نقض به الدليل الثالث: من مناهي المعاملات التي ليست للفساد. وأما الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد: فقد احتجوا عليه: بأنه لو دل على الفساد، فإما أن يدل عليه دلالة لفظية أو معنوية، وهما باطلتان، فالقول بكون النهي دالا على الفساد باطلا. أما الأول: فلأن تلك الدلالة اللفظية، إما تكون بحسب وضع اللغة، أو بحسب وضع الشرع، والأول باطل. أما أولا: فلأن المعني من فساد العقد أن لا يترتب عليه ثمراته، وهو حكم

شرعي، ما كان معلوما للعرب قبل الشرع فيستحيل فهم الوضع لذلك نصا وإثباتا. وأما ثانيا]: فهو أنا وإن سلمنا صحة الوضع / (196/ب) منهم له، لكنهم لم يضعوا له بدليل أنهم قد ينهون عن الطاعات والعقود التي يترتب عليها الأجزاء والثمرات، ويعتقدون أنه نهي حقيقي لكونه دالا على المنع من الفعل منعا جازما. وأما ثالثا: فلأن البدوى العارف باللغة غير العارف بالأحكام الشرعية، إذا سمع لفظ النهي لم يفهم منه سوى المنع من الفعل ولم يخطر بباله قط الفساد، ولو كان موضوعا] له لما كان كذلك. والثاني: أيضا باطل: أما أولاً فلأن النقل خلاف الأصل. وأما ثانيا: فلأنه لو كان موضوعا] للفساد من جهة الشرع، لزم ترك مقتضي اللفظ في الصور التي استعمله فيها، ولم يترتب عليه الفساد فيها، أما لو لم يقل بذلك فحيث استعمله في الصور التي يترتب عليه الفساد، لزم إثبات أمر زائد على ما دل [عليه] اللفظ، ولم يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات ومعلوم أن هذا أولى. وأما ثالثا: فلأنه لو كان النهي موضوعا للفساد، من جهة الشرع لوجب أنه إذا صرح بالصحة مع صريح النهي، كما إذا قال مثلا: حرمت عليك إيقاع الطلاق في حالة الحيض لعينه، ولكن إن أوقعت الطلاق فيها نفذ وحصلت البينونة، وكذلك لو قال: حرمت عليك استيلاد جارية الابن لعينه ولكن إن فعلت ملكت، وكذلك لو قال: حرمت عليك بيع الدرهم بدرهمين

لعينه، ولكن لو فعلت حصل لك الملك، ومثله لو قال: حرمت عليك أن تذبح بسكين الغير لعين÷، وأنت مأثوم على ذلك، ولكن لو فعلت حلت لك الذبيحة أن يكون مناقضا، كما لو قال: حرمت عليك أن تذبح بسكين الغير، وإن فعلت لا يترتب عليه شيء من آثار الذبح، ثم تقول: وإن فعلت حل لك الذبح، وبهذا تعرف أيضا أنه لا يدل عليه دلالة معنوية، لأن شرط الدلالة المعنوية اللزوم، ومفهوم الفساد غير لازم لمفهوم التحريم الذي هو مدلول اللفظ، إذ لو كان لازما له لما صح إثباته مع نفيه، لأن إثبات الملزوم مع التصريح بنفي اللازم غير صحيح. وجوابه: أنا نسلم أنه لا يدل عليه بحسب وضع اللغة، لكن نقول: لم لا يجوز أن يدل عليه دلالة لفظية بحسب وضع الشرع؟ قوله في الوجه الأول: النقل خلاف الأصل. قلنا: نعم: لكن قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، وما ذكرنا من الدليل يدل على أنه للفساد، فيجب المصير إليه لئلا يلزم الترك بالدليل، الذي هو أشد مخالفة من مخالفة الأصل. قوله: جعله حقيقة في الفساد يستلزم ترك مقتضاه في الصور التي لا يفيد الفساد فيها، وأنه محذور. قلنا: نعم لكن لقيام الدلالة عليه، وهذا كما قلتم: إنه / (197/أ)

للتحريم مع أن استعماله في الصور التي لا تفيده يستلزم ترك مقتضاه، ولو جعل حقيقة في القدر المشترك بينه وبين الكراهة لم يلزم هذا المحذور. قوله: ثالثا: لوجب أن يكون مناقضا إذا صرح بالصحة معه. قلنا: لا نسلم أنه لا يعد مناقضا، إذا قال: حرمت عليك الطلاق في حالة الحيض بعينه، ولكن إذا [قال] أوقعته نفذ وحصلت البينونة بالنسبة إلى الوضع الشرعي. نعم: لا يعد مناقضا إذا قال: حرمت عليك الطلاق في حالة الحيض، ولكن إن أوقعت نفذ لاحتمال أن يكون تحريمه لأمر خارجي نحو تطويل العدة. فأما إذا قال لعينه: فلا نسلم ذلك. سلمناه: لكن لا نسلم أن ترك مقتضي اللفظ الظاهري الدلالة بقرينة أو صراحة المتكلم مناقضة غير جائزة على العقلاء، فضلا عن أن يكون الترك في بعض مقتضاه كذلك، وهذا لأن اللافظ العام واللافظ بأسماء العدد مع التخصيص والاستثناء لا يعد مناقضا ومتهافتا في كلامه فكذا هاهنا. واحتج من قال: بالتفصيل بين العبادات، والمعاملات بهذا. لكن في المعاملات خاصة، ولو نقض بالعبادات.

أجاب بأن المعني من الفساد في العبادات عدم اجزائها، والمعني منه في المعاملات عدم إفادتها لثمراتها، وإذا اختلف المعني لم يتوجه النقد. وفيه نظر: أما أولا: فلأنا لا نسلم اختلاف المعني، فإن عدم ترتب ثمرة المنهي عنه عليه معنى واحد يشتمل العبادة والمعاملة، إذ سقوط القضاء، أو التعبد من جملة [ثمرات] العبادة، غاية ما في الباب أن ثمرة البيع مثلا: حصول الملك وصحة التصرف، وثمرة العبادة: سقوط التعبد والقضاء. سلمنا: اختلاف المعني لكن المعني من النقض هنا هو أنه يمكن نصبه بعينه في العبادات بالنسبة إلى عدم الإجزاء، إذ يمكن أن يقال النهي عن العبادة لو دل على عدم إجزائها، فإما أن يدل عليه بلفظة: وهو باطل لما تقدم، أو بمعناه: وهو أيضا باطل، إذ لا استبعاد في أن يقول الشارع: نهيتك عن الصلاة في الأوقات المكروهة لعينها، لكن لو صليت فيها أجزأ عنك، وكذلك لو قال: نهيتك عن صوم يوم النحر لعينه، ولكن لو صمت فيه أجزأ عنك، لأنه غير مقتض للفساد في المعاملات بالمعني الذي يقتضيه في العبادات حتى يستقيم ما ذكره من الجواب.

واحتج على أنه يفيد / (197/ب) الفساد في العبادات، لما تقدم من الوجه السادس الخاص بالعبادة. فرع: الذين قالوا: النهي لا يدل على الفساد، اختلفوا: في أنه هل يدل على الصحة أم لا؟ فنقل: أبو زيد عن أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى أنه يدل على الصحة، ولهذا استدلوا بالنهي الوارد عن صوم يوم النحر، وعن عقد الربا على انعقادهما. وذهب الباقون: إلى أنه لا يدل عليه أيضا، وهو الحق لوجهين:

أحدهما: أنه لو كان مقتضيا للصحة لزم ترك مقتضاه في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم}. وقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك" وما يجري مجراهما من المناهي، نحو النهي وفي نهيه عن بيع المضامين والملاقيح، إذ لا يدل فيها على الصحة وفاقا، وترك مقتضي الدليل خلاف الأصل سواء كان لدليل أو لا دليل. وثانهيما: أن الصحة غير مناسب للتحريم بل يضاد مقصوده، فإن مقصود التحريم أن لا يوجد الفعل، والقول بالصحة يضاد هذا المقصود لكونه أفضى إلى الوجود، والواضع حكيم فلم يجمع بينهما، والاستقراء يحققه فلم يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه، لأن شرط الدلالة المعنوية اللزوم إما قطعا أو ظاهرا، والتحريم لا يستلزم الصحة لا قطعا ولا ظاهرا وهو ظاهرن فلم يدل بمعناه أيضا فانتفت الدلالة من جهة اللفظ ومن الظاهر انتقاد دلالة القياس، والأصل عدم ما سوى ذلك. احتج القائلون بأنه يدل على الصحة: بأن النهي من غير المقدور قبيح وعبث، بدليل أنه يقبح أن يقال للأعمى: لا تبصر، والمزمن: لا تمش، وإنما كان قبيحا وعبثا، لكونه غير متصور منه، فيكون النهي عن غير المتصور قبيحا وعبثا، وهو غير جائز على الحكيم.

وهو ضعيف. أما أولا: فلأنه مبني على استحالة التكليف بما لا يطاق. وأما ثانيا: فلأنه منقوض بالمناهي المحمولة على الفساد. ولو قال: إن ذلك مستفاد من دليل آخر فقد عرفت جوابه غير مرة. وأما ثالثا: فلأنه إنما يدل على الصحة، لو كان اللفظ محمولا على الموضوع الشرعي وإلا فبتقدير أن يكون محمولا على الموضع اللغوي، فلا، لأنه ممكن الوجود بعد النهي، والخصم ربما يمنع الوضع الشرعي، وبتقدير تسليمه لكن لا نسلم أنه يجب الحمل عليه في جانب النهي، فإن الذي قدمناه أنه يجب حمل لفظ الشارع على المعني الشرعي، فإنما هو في جانب الأمر لا في جانب النهي. سلمناه / (198/أ): لكن إنما يلزم ذلك لو لم يكن النهي محمولا على النسخ، أما إذا كان محمولا عليه كما في قول الموكل لوكيله: "لا تبع هذا" فإنه وإن كان نهيا في الصيغة، لكنه نسخ في الحقيقة فلا، فلم قلتم: إن النهي ليس محمولا عليه؟ حتى يلزم ما ذكرتم؟ فإن قلت: الحمل عليه خلاف الأصل. قلت: لا نسلم أنه خلاف الأصل، وهذا لأن النهي عندنا لا يدل إلا على مطلق تحريم الفعل، وهو أعم من أن يكون تحريما بطريق النسخ أو بدونه، وحمل المتواطئ على بعض جزئياته ليس خلاف الأصل، لأن المتواطئ عند

المسألة الرابعة [فيما إذا أمر الشارع بشيء مطلقا ثم نهي عن بعض أحواله]

إطلاقه يحمل على أي جزء يراد منه، نعم تعيين حمله على بعض جزئياته خلاف الأصل لا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه ونحن لا نوجب حمله على النسخ حتى يلزم خلاف الأصل، بل نجوز والمانع يكفيه الاحتمال والجواز على المستدل الإبطال. سلمناه: لكن يجب المصير إليه دفعا للتعارض. تنبيه: أن ما سبق من الخلاف في أن النهي، هل يفيد الفساد أم [لا]. فإنما هو الفساد بمعني البطلان على ما هو رأينا: إنهما مترادفان، لا بالمعني الذي ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، فاعرف ذلك. المسألة الرابعة [فيما إذا أمر الشارع بشيء مطلقا ثم نهي عن بعض أحواله] إذا أمر الشارع بشيء مطلقا: ثم نهي عنه في بعض أحواله. فهل يقتضي ذلك إلحاق شرط المأمور به، حتى يقال: إنه لا يصح بدون ذلك الشرط، وأنه يكون كالنهي عن الشيء لخلل في شرطه الذي عرف

شرطيته، بدليل آخر أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب الشافعي وأصحابه رضي الله عنهم إلى أنه يقتضي ذلك. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه رضي الله عنهم إلى أنه لا يقتضي ذلك، بل يختص النهي بالحال، حتى لو أتاه المكلف بتلك الحالة يكون صحيحا بحسب الأصل، فاسدا بحسب الوصف إن كان ذلك النهي نهي فساد، وأما مجرد النهي عنده لا يدل على الفساد بل على الصحة لما تقدم. مثاله: أن يأمر بالطواف مطلقا وينهي عن إيقاعه مع الحدث، ويأمر بالصوم وينهي عن إيقاعه في يوم النحر، ويأمر بالبيع وينهي عن إيقاعه

متفاضلا في الربوبات. وإنما قضى ببطلان صلاة المحدث، لأن الدليل دل على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة نحو قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور" ونحو قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه". الحديث لا بمجرد الأمر بالصلاة، ثم النهي عنها في حالة الحدث.

ولم يوجد مثله في الطواف، إذ لم يوجد / (198/ب) دليل يدل على أن الطهارة شرط في الطواف. وعلى هذا قالوا: لو صام يوم النحر عن نذره صح، إذ المنهي عنه هو إيقاع الصوم فيه لا الصوم "فيه لا الصوم" الواقع، ولا يخفى أنهما مفهومان متغايران، فلا يلزم من تحريم الإيقاع تحريم الواقع كالصلاة في الدار المغصوبة، فإنه لا يلزم من تحريم الكون في الدار المغصوبة تحريم نفس الصلاة لما أنه مفهوم مغاير لها. واعلم: أن في المسألة نظرين: أحدهما: أن النهي عن إيقاع الشيء على وجه مخصوص نهي فساد، هل هو نهي عن ذلك الشيء نهي فساد حتى يجعل قوله: أوجبت عليك الصوم، وأنهاك عن إيقاعه يوم النحر، نازلا منزلة قوله: أنهاك عن صوم يوم النحر، حتى يكون مضادًا لوجوبه أم لا؟.

والحق ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه، لأنه يفهم قول القائل: أنهاك من إيقاع الصوم في يوم النحر، ما يفهم من قوله: "أنهاك عن صوم النحر" من تحريم صوم يوم النحر. ولا شك أن هذا مضادا لوجوب صوم يوم النحر، فكذا الأول: ضرورة أنه لا فرق بينهما في كونهما موجبين لتحريم الصوم. فإن قلت: قضيتم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، وفساد صوم يوم النحر، فما الفرق بينهما؟ فإن كل واحد من الصلاة والصوم مأمور به، وكل واحد من الإيقاع والكون محرم فما الفرق بينهما؟. قلت: الفرق بينهما ظاهر. وهو من حيث الإجمال والتفصيل، أما الإجمال: فهو أن الخصم وإن قال: بصحة الصوم في يوم النحر، لكن الصوم المنذور فيه لتعيينه فيه لا غيره من الصيام. وأما صحة الصلاة في الدار المغصوبة عند القائلين بها، فغير مختص بصلاة دون صلاة، والافتراق في الحكم يوجب الافتراق في الحكمة. وأما الثاني: فهو أن متعلق النهي في الصلاة الدار المغصوبة أمر أجنبي عن الصلاة لا تعلق له بها، وهو الكون في المغصوب وإن حصل بين الكون المخصوص والصلاة المخصوصة ملازمة بسبب فعل المصلى. فكأنه قال: صل ولا تلبث في المغصوب، فهو في نهيه غير متعرض

للصلاة بوجه من الوجوه، بخلاف النهي عن إيقاع الصوم في يوم النحر، نحو قوله: عليه السلام: "ألا لا تصوموا في هذه الأيام" فإنه متعرض لصفة الصوم وهي إيقاعه فيه وإيقاعه فيه ليس أمرا آخر غير فعل الصوم فيه. فإذا كان نهيه موجبا للفساد كان نهي إيقاعه أيضًا موجبا له، فلا يلزم من فساد صوم يوم النحر فساد الصلاة في الدار المغصوبة، على أن ما ذكرنا من الدليل، وهو أن المفهوم من النهي / (199/أ) عن إيقاع الصوم في يوم النحر، عين ما هو المفهوم من نفس النهي عن صوم يوم النحر غير آت في الصلاة في الدار المغصوبة، إذ ليس من النهي عن الغصب أو من النهي عن اللبث في الدار المغصوبة، عين ما هو المفهوم عن الصلاة، حتى يلزم من فساد صوم يوم النحر، فساد الصلاة في الدار المغصوبة. ولا ينقض ما ذكرنا بالطلاق في حالة الحيض. لأن متعلق النهي فيه عندنا: ليس هو الطلاق ولا وصفه، بل أمر

خارجي عنه، وهو تطويل العدة، ولحوق الندم عند الشك في الولد. وكذلك الصلاة في الأماكن السبعة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، لأن الدليل دل على أن متعلق النهي فيه ليس وصف الصلاة، بل أمر خارجي على ما عرف تعليل ذلك في الفروع.

وأما النقض بالصلاة في الأوقات المكروة، فقد أشعر كلام الشيخ الغزالي - رحمه الله - بأن بعض الأصحاب يجيب عنه: بمنع الحكم وبه صرح بعضهم. وهو غير سديد، لا خلاف في صحة القضاء فيها، وغيره من الصلوات التي لها أسباب.

وإنما الخلاف في انعقاد ما ليس له سبب من الصلوات فلا يمكن منع الحكم مطلقا. بل الجواب عنه: أن النهي فيه أيضا معروفا عندنا عن أصل الصلاة وصفته إلى أمر خارجي على ما أشعر به الحديث الدال على الكراهة ولم يظهر للشافعي رحمه الله تعالى دليل يصرف النهي عن صفة الصوم في يوم النحر إلى غيره، فلذلك قطع ببطلانه، ولم يرض ما يقوله الحنفية: أنه إنما نهي عنه لما فيه من ترك إجابة دعوة الله بالأكل، لأن الأكل ضد الصوم فكيف يقال: لا تأكل أي: صم، وكل أي: أجب دعوة الله. والكلام في تحقيق أنه هل وجد فيه دليل صارف أم لا؟ ليس على الأصولي، بل عليه تمهيد القواعد، فإن صح الدليل وجب

صرف النهي عنه وعن وصفته وإلا فلا. تنبيه: اعلم أن النهي إنما لم يقتض الفساد عند الشافعي - رضي الله عنه - إذا كان متعلقة خارجا عن المنهي عنه مجاورا له، وأما إذا لم يكن كذلك فهو مقتض للفساد فيدخل تحته الأقسام الأربعة من النواهي: أحدها: أن يكون متعلقة عين المنهي عنه. وثانيها: أن يكون متعلقة جزءه، أو شرطه. وثالثها: أن يكون متعلقة صفة من صفاته، كما تقدم من المثال. ورابعها: أن لا يعرف له متعلق من العين أو غيره، فإنه مصروف إلى عين المنهي عنه، بدليل الإضافة إليه.

......................................................................

المسألة الخامسة [في النهي عن أشياء متعددة

المسألة الخامسة [في النهي عن أشياء متعددة (199/ب)] النهي عن الأشياء: إما أن يكون نهيا على الجمع. ومعناه: أن ينهي عن كل واحد من تلك الأشياء، فنقول: لا تفعل هذا ولا تفعل هذا، فالواجب فيه الكف عن الجميع. أو يكون نهيا عن الجميع. ومعناه: أن ينهي عن كل واحد من تلك الأشياء بطريق البدنية، فيقول: لا تفعل هذا إن فعلت ذلك، ولا تفعل ذلك إن فعلت هذا، والواجب فيه الكف عن أحدها لا بعينه، ولو أريد هذا المعني من النهي على الجمع لم يكن تعبدا إذ الجمع اعم من أن يكون جمعا بطريق المعية أو جمعا بطريق البدلية، وكذا لو أريد المعني الأول من هذا، لأن النهي عن الجمع قد يكون بأن يحرم كل واحد من تلك الأشياء، لكن مفهومه بنفيه. أو يكون نهيا على البدل.

ومعناه: ما ذكرناه أولا في النهي عن الجمع. أو يكون نهيا عن البدل ويفهم منه معنيان: أحدهما: أن ينهي عن أن يفعل أحدهما بدون الآخر، فيكون موجبا لفعل الجميع. وثانيهما: أن ينهي عن أن يفعل الشيء على وجه البدلية، فيكون النهي راجعا إلى قصد البداية.

"النوع الخامس" الكلام في العموم والخصوص وهو مرتب على قسمين: القسم الأول: في العموم وفيه مسائل:

النوع الخامس: الكلام في العموم والخصوص

النوع الخامس الكلام في العموم والخصوص وهو مرتب على قسمين: القسم الأول: في العموم. وفيه مسائل: المسألة الأولى في تحديد اللفظ العام قد ذكروا له حدودا: أحدها: أنه اللفظة المستغرقة لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد

"فاللفظية" كالجنس فإنه يتناول العام والخاص. وفيه أيضا: احترازا: عن المعاني العامة، فإن العموم من عوارض الألفاظ في اصطلاح أهل هذا الفن لا نعرف فيه خلافا، وإنما ادخلوا النافية لتخرج عنه الألفاظ المركبة، فإنها وإن كانت لفظا إذ اللفظ يطلق على القليل والكثير لما أنه مصدر في الأصل لكنها ليست عامة لما أنها ليست مفردة. واحترزوا: بالمستغرق لجميع ما يصلح له: عن التكرار إفرادا وتثنية وجمعا سواء أكانت أسماء عدد أو غيرها، فإن رجلا ورجلين ورجالا مثلا صالح لكل واحد من الرجل والرجلين والرجال، لكنه غير مستغرق للجميع. واحترزوا: بحسب وضع واحد: عن اللفظ المشترك، أو عن الذي له حقيقة ومجاز. وقال الإمام: في تعليله: لأن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا. واعلم أن هذا القيد الأخير غير محتاج إليه: أما على رأي من لم يقل بحمل المشترك على مفهوميه معا، لأنه / (200/أ) خرج بقيد الاستغراق، فإنه لا يستغرق جميع ما يصلح له عندهم.

وأما من يقول بذلك: فذكره مفسد للحد، لأنه حينئذ يكون غير جامع، إذ اللفظ المشترك عندهم من جملة الألفاظ العامة، وهو خارج عن الحد بحسب هذا القيد. نعم: لو ثبت أن من يقول بذلك: أو بعض من يقولك بذلك: فإنه مع ذلك لا يجعله من اللفظ العام كان ذكره محتاجا إليه، إذ لا يخرج بقيد الاستغراق، لكنه باطل. ويمكن أن يجاب عنه: بأنه تعريف للعام المتواطئ لا مطلق العام، فإن المشترك وإن جوز حمله على مفهوماته، لكنه ليس بحسب وضع واحد، بل بحسب وضعين فيخرج منه ولا يكون ذكره مفسدا للتعريف. واعترض عليه بوجهين: أحدهما: أنه عرف العام بالمستغرق، وهما لفظان مترادفان، ثم قال المعترض: وليس المقصود من التعريف شرح اللفظ بلفظ آخر ليجوز ذلك، بل المقصود منه شرح المسمي، إما بالحد الحقيقي أو الرسمي وما ذكره خارج عن القسمين. وهو ضعيف، لأنه إن زعم أنهما مترادفان، بحسب الاصطلاح فممنوع.

وهذا لأنه لم يثبت أن المستغرق مختص باللفظ في اصطلاحهم بخلاف، العام وإن زعم: إنهما مترادفان بحسب اللغة فلا يضرنا، لأنا أردنا تعريف العام بحسب الاصطلاح المستغرق بحسب اللغة. وثانيهما: أنه غير مانع، لأنه يدخل فيه قول القائل: ضرب زيد عمرا، فإنه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له، وليس بعام. وهو أيضا: ضعيف، أما على ما ذكرنا فلوجهين: أحدهما: أنه يخرج عنه بسبب التاء التي في اللفظة للإفراد ضرورة أن ما ذكره مركب. وثانيهما: أنه إن أراد بقوله: فإنه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له. إن كل واحد من لفظ زيد وعمر وضرب مستغرق لجميع ما هو صالح فباطل لأن كون اللفظ مستغرقا لجميع ما هو صالح له، مشروطا بأن يكون له فيما هو صالح له تعدد، حتى يعقل فيه الاستغراق، إذ الاستغراق لا يعقل بدون التعدد، وهو غير حاصل في كل واحد من تلك الألفاظ. وإن أراد به، أن هذا المجموع مستغرق لجميع ما هو صالح له فهو أيضا: باطل، لأن هذا المجموع من حيث هو هذا المجموع غير صالح لغير هذا المجموع، فلا يصدق عليه أنه مستغرق لجميع ما هو صالح له لما تقدم، أن الاستغراق لا يصدق حيث لا تعدد. وأما على ما ذكره المعترض: فلهذا الوجه الأخير، فإنه ذكر اللفظ في التحديد بغير التاء.

وثانيها: أنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا من غير حصر. أما فائدة ذكر: اللفظة، فقد عرفتها. واحترز: بالدالة / (200/ب) على شيئين: عن الجمع المنكر، والمثني، والنكرة في معرض الإثبات، فإن الجمع المنكر وإن تناول شيئين فصاعدا من غير حصر، لكن لا على وجه الدلالة بل على وجه الصلاحية. وأما المثني: فإنه وإن تناول شيئين لكنه من غير زيادة. وأما النكرة في معرض الإثبات: فلأنها لا تدل على شيئين. واحترز بقوله: "من غير حصر": عن أسماء العدد. واعلم: أن هذا غير جامع، لأنه يخرج عنه لفظة المعدومات، وهي عامة عند الجماهير، وهي غير دالة على شيئين على ما عرف من مذهبنا: أن المعدوم ليس بشيء وكذا لفظ "المستحيلات" عامة وهي غير متناولة للشيئين وفاقا.

وثالثها: ما قال الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى - هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا. قال: واحترزنا بقولنا: من جهة واحدة. عن قولهم: ضرب زيد عمرا. فإنه وإن دل على شيئين، لكن من جهتين وهما الفاعلية والمفعولية. وفيه نظر، لأنه إن أراد بهذه الدلالة دلالة لفظ: زيد وعمر، على مسماهما فقد خرج ذلك باللفظ الواحد، لأنهما لفظان، والقيد المذكور ثانيا يجب أن يخرج غير ما أخرج الأول. وإن أراد بها دلالة لفظ "ضرب" فقط فهو باطل، لأن دلالته على الفاعل والمفعول بالالتزام لا بالمطابقة، ودلالة العام على معناه بالمطابقة لا بالالتزام. وأيضا: فهو غير جامع وغير مانع. أما الأول: فيما تقدم.

وأما الثاني: فبألفاظ العدد نحو "المائة و" "الألف"، فإن كل واحد منها غير لفظ "الاثنين" ذاك من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مع أنها ليست عامة. ولا يخفى عليك أن ما ذكره - رحمه الله تعالى - يتناول عموم الشمول، وعموم البدل، كالنكرة في الإثبات إذا كان أمرا، لأن ما يدل على شيئين فصاعدا أعم من أن يكون معا أو بطريق البدلية، وأن من يعد هذا القسم أعنى "النكرة في الإثبات" إذا كان أمرا من العموم، فإنه إنما يعده من أقسام عموم البدل لا عموم الشمول. وإنما نبهنا عليه مع أنه في غاية الظهور لا يحتاج إليه، لأن بعض من اشتهي أن يكون أصوليا ادعى على الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى -: مخالفة بين حده "العام" بما ذكره، وبين حده النكرة في الإثبات إذا كان أمرا عاما زعما منه أن الحد لم يتناوله فإنه لا دلالة لقول القائل: "اعتق رقبة" على شيئين أصلا. ورابعها: هو ما استغرق جميع ما يصلح له. وفيه إخلال ذكر اللفظ الذي هو / (201/أ) كالجنس فيكون باطلا.

المسألة الثانية [هل العموم من خواص الألفاظ في الاصطلاح واللغة أو لا؟]

وإذ قد عرفت ما ذكرنا: عرفت أن الحد الأول مما لا بأس فيه، ولكن بعد حذف القيد الأخير، وأنه حد عموم الشمول، دون حد عموم البدل ظاهرا، إذ الاستغراق غير مستعمل فيه، وهذا يصلح أن يكون فرقا بين العام والمستغرق بحسب اللغة. وأن الحد الثاني: بتقدير صحته يتناول عموم الشمول والبدل، لما تقدم من الدلالة على شيئين أعم من أن يكون بطريق الشمول أو بطريق البدلية، فإن أردت تصحيحه فأبدل "الشيئين" "بمسميين"، وإن أردت أن تختص بعموم للشمول فزد بعد "معا" ولا حاجة إلى قيد "أن يكون بحسب وضع واحد" لأن المشترك وما له حقيقة ومجاز عموم على رأي الجماهير أيضا لكن بطريق البدلية، ولا يخفى عليك تصحيح الثالث والرابع مما تقدم. المسألة الثانية [هل العموم من خواص الألفاظ في الاصطلاح واللغة أو لا؟] لا نعرف خلافا في أن العموم من خواص الألفاظ، بحسب اصطلاح أهل هذا الفن، وهذا فإن الأصولي إذا أطلق لفظ العام لم يفهم منه إلا اللفظ. واختلفوا: في أنه هل هو من خواصه بحسب اللغة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه من خواصه بحسب اللغة أيضا وأنه لا عموم في المعاني.

وذهب الباقون: إلى أنه ليس من خواصه، بل يعرض للمعاني كما يعرض للفظ. محتجين بأن العرب قد وصفت المعاني بالعموم حيث قالت: عمهم الخصب، والمطر، والخير، وعمهم القحط. وتقول: أيضا عم الملك الناس بالعطا والإحسان، ويقال: الوجود يعم العرض والجوهر، والأصل في الإطلاق الحقيقة. أجاب الأكثرون عنه بأن تلك الاستعمالات مجازات، لأن العموم غير

متصور فيها، لأن العموم إنما يتصور فيما يكون متحدا مع اتحاده يكون شاملا لأمور عديدة، وذلك فيما ذكروه من الصور غير متصور، لأن المطر المختص بأرض قوم غير الذي اختص بأرض الآخرين، وكذلك الخصب الموجود في بلد غير الخصب الذي في البلد الآخر، وكذا العطا المختص لشخص غير المختص بالآخر، وكذا وجود السواد غير وجود البياض، وليس في الوجود وجود واحد يشملها، بخلاف الرجال مثلا، فإنه لفظ واحد يشتمل جميع من سمى بالرجل، وإذا كان كذلك تعين أن يكون الاستعمال مجازا ووجه التجوز المشابهة، فإن مثل الشيء كثيرا ما يشتبه بالشيء. واعلم أن هذا الجواب غاية ما يقتضيه / (201/ب) أن لا يثبت بذلك الاستعمال مذهب الخصم، لكن لا يلزم منه إبطال كون العموم من عوارض المعاني أيضا، فإنه لا يلزم من عدم تصور اتصاف بعض المعاني بالعموم عدم تصور اتصاف مطلق المعاني بذلك، كما لا يلزم من عدم تصور اتصاف بعض الأسامي كأسماء الأعلام بذلك، عدم تصور اتصاف مطلق الأسامي بذلك، والنافي يجب عليه أن يذكر على النفي دليلا ولا يكفيه القدح في دليل المثبت، فإن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول. ومما تقدم يعرف ضعف استدلالهم، وهو أنه لو كان حقيقة في المعنى لا

طرد ولكنه غير مطرد، فإن المعاني الجزئية نحو الفعل المخصوص غير موصوفة بكونها عامة ألبتة، ويمكن أن يتمسك بالأصل بعد القدح في الدليل، وهو أن كان دليلا عاما لكن لا بأس به في هذا المصنف. واعلم أن الحق: هو التفصيل، بين المعاني الموجودة في الخارج، وبين المعاني الكلية الموجودة في الأذهان. فإن عنوا بقولهم: المعاني غير موصوفة بالعموم، المعاني الموجودة في الخارج، فهو حق، لأن كل ماله وجود في الخارج، فإنه لابد وأن يكون متخصصا بمحل وحال مخصوص ومتخصصا بعوارض لا توجد في غيره، وعند ذلك يستحيل أن يكون شاملا لأمور عديدة. وإن عنوا به: مطلق المعاني سواء كانت ذهنية أو خارجية. فهو باطل، فإن المعاني الكلية الذهنية عامة بمعني إنها معني واحد متناول لأمور كثيرة، ولا يجرى هذا التفصيل في اللفظ إذ اللفظ لا وجود له في الخارج، وأما تخصيص وجوده باللسان لا يمنع من حمله ودلالته على كل مسمياته. تنبيه: اعلم أن اللفظ الدال على تلك الماهية الكلية فقط من غير أن يدل على شيء

المسألة الثالثة [في ألفاظ العموم]

من عوارضه هو المطلق": والدال على الأفراد الداخلة تحتها هو: العام، وهذا يعضد مذهب الجماهير، إذ لو كان معنى من المعاني عاما، لكان المعني الكلي أولى أن يكون عامًا، ولو كان كذلك لكان اللفظ الدال عليه عاما، لأن اتصاف معني اللفظ بالعموم والخصوص، والكلية الجزئية بالذات، توجب اتصاف اللفظ به بالعرض. المسألة الثالثة [في ألفاظ العموم] اللفظ الذي يفيد العموم، إما أن يفيده لغة "أي" من حيث الوضع، أو عرفا، أو عقلا. والأول: إما أن يفيده على الجمع، أو على البدل. والأول: إما أن يفيده بنفسه أو بغيره. والأول: على أقسام ثلاثة: أحدها: ما يعم العقلاء وغيرهم وهو كلفظ "كل" / (202/أ) و"جميع" و "أي" في الاستفهام والمجازات، تقول: "أي رجل جاءك" و "أي ثوب اشتريته" و "رجل ضربت ضربت" و "أي ثوب اشتريت اشتريت". وثانيها: ما يختص بالعقلاء وهو لفظة "من" في الاستفهام، والمجازات. وثالثها: ما يختص بغير العقلاء، وهو على قسمين:

أحدهما: ما يعمها وهو لفظة "ما" وقيل يتناول العقلاء أيضا قال الله تعالى: {والسماء وما بناها}، وقال تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}. وثانيهما: ما يختص ببعضها وهو كلفظة "متى" و "مهما" فإن كل واحد منهما يختص بالزمان وكلفظة "أين" و"حيث" فإنهما مختصان بالمكان. وأما الذي يفيده بالغير فهو: إما في جانب الثبوت، أو في جانب العموم، أما الذي فالذي في جانب [الثبوت] فضربان: أحدهما: "لام" التعريف: إذا لم تكن للعهد، ولغير الماهية، وهي إما في الجمع، سواء كان الجمع جمع سلامة، أو جمع مكسر، سواء كان للقلة "كأفعل" و "أفعال" و "أفعله"، أو للكثرة وهو ما عداها، ونص سيبويه على أن جمع السلامة للقلة. ونصهم على أن جمع القلة للعشرة، وما دونها محمول على حالة التنكير جمعا بين المذهبين، ودفعا للتعارض، وأما في المفرد وهذا على رأي الفقهاء.

وثانيهما: الإضافة: وهي إما في الجمع كقولك: ضربت عبيدي، أو في المفرد كقولك: ضربت عبدي، وكون هذا النوع أعنى المفرد المضاف للعموم وإن لم يلق منصوصا لهم، لكن قضية التسوية بين الإضافة ولام التعريف تقتضي ذلك. وأما الذي في جانب العدم فالنكرة مع حرف النفي. وأما الذي يفيد العموم على البدل فالنكرة في الإثبات في الأمر، أو المضاف إليها المصدر والفعل غير واقع كقوله تعالى: {فتحرير رقبة}. وأما الذي يفيده عرفا فكقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاعات، ولم يفد ذلك بحسب اللغة على ما ستعرف ذلك في المجمل والمبين. وأما الذي يفيده بحسب الفعل فعلى أقسام ثلاثة: أحدها: أن يكون اللفظ مفيدا للحكم وعليه إما بصراحته أو بوجوه من الإيماءات فمقتضي ثبوت الحكم أينما ثبتت العلة. وثانيها: ما يذكر جوابا عن سؤال السائل كما إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عمن أفطر فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "الكفارة" فيعلم أنه يعم كل مفطر. وثالثها: مفهوم المخالفة عند القائلين به كقوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم" / (202/ب) فإنه بمفهومه يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة، وأما مفهوم الموافقة فداخل في القسم الأول، إذ الحكم فيه إنما يثبت بطريق الأولى لأجل أن العلة فيه أولى.

المسألة الرابعة [في إثبات صيغ العموم]

المسألة الرابعة [في إثبات صيغ العموم] وقبل الخوض في الدلالة لابد من بيان مذاهب الناس فيها، فإن التصديق مسبوق بالتصور. فنقول: ذهب جماهير المتكلمين منا و [من] المعتزلة، وجماهير الفقهاء: إلى أن للعموم صيغا مخصوصة موضوعة له خاصة به، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وذهب المرجئة: إلى أنه لا صيغة للعموم في

لغة العرب. وأما الواقفية: بهم وقولان: أحدهما: أن ما يظن أنه من صيغ العموم فهو مشترك بين العموم والخصوص وعليه الأكثرون. وثانيهما: الوقف بمعنى إنا لا ندري أن تلك الصيغ حقيقة في العموم مجاز في الخصوص، أو بالعكس، أو هي مشتركة بينهما. وهو اختيار القاضي أبي بكر رحمه الله تعالى. ومن الواقفية من فصل بين الأمر والنهي والوعد والوعيد، والإخبار، فقطع بالعموم في الأول، وتوقف في الثاني. وذهب أرباب الخصوص إلى أن هذه الصيغ نصوص في أقل الجمع، وهو

إما الثلاثة أو الاثنان، على اختلاف فيه، مجملات في العموم. والمختار إنما هو مذهب الجماهير. والدليل عليه وجوه بعضها: عام أي غير مختص بصيغة دون صيغة، وبعضها: خاص أي مختص بصيغ مخصوصة. أما العام فوجهان: أحدهما: أن العموم معنى تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فيكون الداعي إلى الوضع حاصلا سواء كان الواضع هو الله تعالى أو العبد لما عرفت ذلك في اللغات، والمانع غير حاصل بالأصل، ولأن المانع: إما عقلي: وهو ممتنع إذ العقل داعي إليه لما فيه من الفائدة، وجهة الدعاء إلى الفعل لا يكون جهة المنع منه. وإما شرعي: وهو أيضا غير حاصل وهو ظاهر، فإن الوضع لو كان قبل كل الشرائع، امتنع تحقق المانع الشرعي إذ ذاك، وأن لم يكن كذلك ولم يوجد في الشرائع ما يمنع منه لم يكن المانع الشرعي حينئذ أيضا متحققا. وإما حسي: وإما طبيعي: وهما أيضا ظاهر الانتفاء، فإذا المانع غير متحقق لانحصار المانع في هذه الأربعة، والفعل عند وجود الداعي إليه،

وعدم المانع منه واجب، فيكون الوضع متحققا، إما قطعا أو ظاهرا، والمسألة عندنا ظنية. فإن قيل / (203/أ) لا نسلم أن العموم معنى تمس الحاجة إلى التعبير عنه، وهذا لأن الإنسان قلما يتعلق غرضه بكل الخلائق الذي بالمشرق والمغرب حتى يحتاج إلى التعبير عنه، وإذا لم تكن الحاجة ماسة إلى التعبير عنه لم يكن الداعي إلى الوضع حاصلا، كما في سائر الروائح المخصوصة والاعتمادات المتعينة، والتعبير عن معنى الحال والاستقبال وغيرهما من المعاني التي لا تمس الحاجة إلى التعبير عنه، وإذا لم يكن الداعي إليه حاصلا لم يمكن الحكم بتحقق الوضع لا قطعا ولا ظاهرا. سلمنا: حصول الداعي، لكن لا نسلم عدم المانع منه، وهذا لأن كون اللغة توقيفيا مانع فيه. سلمنا: عدمه لكنه استدلال على إثبات اللغة، واللغة لا تثبت دلالة، بل تثبت توقيفا ونقلا. سلمنا: أنها تثبت به لكن لا نسلم حصول المطلوب منه، وهذا لأن اللازم من دليلكم أنه يجب أن يوجد في اللغة ما يدل على العموم ويمكن التعبير به عنه، ونحن نقول به: فإنه وجد في اللغة ما يمكن التعبير به عن العموم

وهو الألفاظ المركبة، وهي مثل قولك: رأيت الناس واحدًا واحدًا، ولم يعن واحدا منهم، وما يجرى مجراه، والنزاع إنما هو في الصيغة المفردة. فلم قلت: إنها تحب أن تكون حاصلة؟ سلمنا: ذلك، لكن لم قلت: إن يكون ذلك الوضع على وجه الإفراد؟ ولم لا يكفى على وجه الاشتراك؟ فأما): الجواب عن الأول: أن مراتب الحاجات متفاوته، ونحن لا نسلم: أن الحاجة إلى ما يمكن التعبير به عن معنى العموم ليست كالحاجة إلى ما يدل من الألفاظ على الخبر [به] والمانع والثواب وما يجرى مجراها، بل دونها لكن فوق الحاجة إلى ما يمكن أن يعبر [به] عما ذكروه من المعاني، وهذا لأن الإنسان كثيرا ما يحتاج إلى ألفاظ تدل على العموم في الأمر والنهي، والإخبار عن جميع الموجودات، والمعدومات، من المستحيلات، والممكنات، نحو قوله: والله بكل موجود ومعدوم عليم، أو عن الممكنات نحو: والله على كل شيء قدير، أو عن الموجودات نحو: "كل موجود سوى واجب الوجود حادث" وما يجرى مجراها، ويلبث برهة من الدهر لا يحتاج إلى التعبير عن

رائحة المسك والتفاح على سبيل الخصوصية، فليس الحاجة إلى ما يمكن أن يعبر به عن العموم، كالحاجة إلى ما يمكن أن يعبر به عما ذكره من المعاني بل فوقها، وليس من شرط مسيس الحاجة إلى الشيء وشرط حصول الداعي إلى تحصيله / (203/ب) أن تكون الحاجة إليه ضرورية، بل يكفي فيه احتياج ظاهر وهو حاصل، فيلزم حصول الداعي. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن ذلك مانع منه، وهذا لأنه لو كان مانعا منه لامتنع حصول الألفاظ العرفية العامة والخاصة. سلمناه: لكنه بالنسبة إلى غير الله تعالى، أما بالنسبة إلى الله تعالى فلا ونحن نصبنا الدليل عاما. وعن الثالث: منع انحصار طريق "إثبات" اللغة في النقل والتوقيف. وعن "الرابع" والخامس: ما سبق الأمر. وثانيهما: وهو المعول عليه إجماع الصحابة، وأهل اللغة على أن للعموم صيغا، ودليل ذلك: أنهم اجرؤا ألفاظا من الكتاب والسنة على العموم، وما زالوا محتجين بها على العموم من غير نكير ومخالفة من أحد منهم، وذلك يدل على أنهم كانوا معتقدين أن تلك الألفاظ موضوعة للعموم فقط.

بيان الأول بصور أحدها: أنهم تمسكوا على إرث فاطمة - رضي الله عنها -، بقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} حتى نقل لهم أبو بكر - رضي الله عنه - "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة". وثانيها: أنهم تمسكوا بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا

لا إله إلا الله" على عدم جواز قتال مانعي الزكاة، حتى روى لهم الصديق رضي الله عنه قوله عليه السلام "إلا بحقها". وثالثها: احتجاجه - رضي الله عنه - على الأنصار بما قالوا: "منا أمير ومنكم أمير" بقوله "الأئمة من قريش" والكل سلموا له هذا

الاستدلال، ولم يقل أحد منهم: أن هذا لا يدل على أن كل الأئمة من قريش ما لم ينضم إليه دليل آخر. ورابعها: قول: عثمان رضي الله عنه حين سئل عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين فقال: (أحلتهما آية) بمعني قوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} (وحرمتهما آية) يعني قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين}، ولولا أنهما يفيدان العموم لما صح هذا.

وخامسها: احتجاج علي رضي الله عنه على تحريم الجمع بين الأختين في ملك اليمين بما تلونا من النص. وسادسها: تكذيب عثمان بن مظعون رضي الله عنه للبيد لما سمع

قوله: وكل نعيم لا محالة زائل.

فقال: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، ولولا أن لفظة كل تفيد العموم لما صح هذا. وسابعها: لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب / (204/أ) جهنم} قال ابن الزبعري: اليوم لا خصمن محمدا فجاء إليه عليه السلام فقال يا محمد: أنت الذي تزعم أنا وما نعبد من دون الله حصب جهنم، فقال عليه السلام: "نعم"، فقال: أليس أن المسيح قد عبد من دون الله، والملائكة قد عبدت من دونه تعالى، أفهم حصب جهنم؟ فسكت عليه السلام حتى نزل قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا

الحسنى أولئك عنها مبعدون} والاستدلال به من وجهين:

أحدهما: بفهم عبد الله بن الزبعري فإنه كان من أهل اللسان ولو أن كلمة "ما" ليست للعموم لما فهم منه العموم. وثانيهما: سكوته عليه السلام عن رده ومنع استدلاله، وجواب قوله بما يجرى مجرى الاستثناء دليل على أنها للعموم. وثامنها: لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} الآية، قال ابن [أم].

مكتوم ما قال: وكان رجلا ضريرا فنزل قوله تعالى: {غير أولى الضرر}. فلولا أن لفظ المؤمنين للعموم لما صح قوله: ولما احتيج إلى إخراج أولى الضرر بقوله: {غير أولى الضرر}. وتاسعها: لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}. قالت: الصحابة رضي الله عنهم فأينا لم يظلم نفسه، فبين عليه السلام: أنه أراد به ظلم النفاق والكفر.

وعاشرها: أنهم أجروا قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} على العموم. وكذلك قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. وكذا قوله تعال: {وذروا ما بقى من الربا}. وكذلك قوله: {وذورا ظاهر الإثم وباطنه}. وكذلك قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا}. وكذلك قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}. [وكذلك قوله]: {ولا تقتلوا أنفسكم}. وكذلك قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}.

وكذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} و {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} و {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}. وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ........ [إلى قوله]: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا}. وكذلك قوله عليه السلام: "لا وصية لوارث".

........................................................................

.............................................................................

وقوله: "القاتل لا يرث" و "لا تنكح المرأة على عمتها

وخالتها".

وقوله في يوم الفتح: "من ألقى سلاحه فهو آمن". وقوله: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

وقوله: "لا يقتل والد بولده".

وقوله: "الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى". هذه وأمثالها كثيرة لا تحصى قد / (204/ب) أجروها على العموم مع أن أكثرها وارد على أسباب مخصوصة. وأما اتفاق أهل اللغة على ذلك فظاهر أيضًا، من استقراء كلامهم من الأمثال والأشعار، فكيف لا؟ وأنا نعلم بالضرورة من حالهم أنهم إذا أرادوا التعبير عن العموم فزعوا إلى لفظ "الكل" "و" "الجميع" وما يجرى مجراهما ولم ينقل عن أحد منهم لا صريحًا ولا ضمنا إنكار صيغة العموم، ولو كان فيه خلاف فيما بينهم: لنقل ظاهرا، إذ نقل عنهم: مما فيه الخلاف ما هو

دون هذا. وأما بيان الثاني: فلأنهم لو لم يكونوا معتقدين أن تلك الألفاظ موضوعة للعموم فقط، لما جاز لهم أن يحملوا على العموم ما لم يدل عليه دليل منفصل، كما في الألفاظ المجازية والمشتركة، لكن الأصل عدم ذلك الدليل الآخر، وكيف لا؟ وفي بعض ما ذكرنا ما يدل بصراحته على أن الحمل على العموم كان لنفس ذلك اللفظ، ثم إن صح هذا النوع من الاستدلال من الكل كان ذلك إجماعًا، حقيقيًا قطعيًا وإلا كان إجماعًا سكوتيًا ظنيًا، والمخالف قد يتمسك بمثل هذا الإجماع في كثير من المسائل، نحو كون القياس وخبر الواحد حجة، وما يقوله: هاهنا بأن هذا النمط من الاستدلال إنما يصح من البعض دون الكل، وارد عليه أيضًا في تلك المسائل، إذ من المعلوم أنه لا يمكنه أن ينقل عن كل واحد وحد منهم على سبيل التنصيص ذلك، بل غاية ما يمكنه أن ينقل ذلك على لشيوع والذيوع من غير نكير فيما بينهم، وهو حاصل هنا أيضًا. وأما الوجوه الخاصة: فنذكر في كل واحد واحد من تلك الصيغ. القول: في أن صيغة "من" و "ما" و"أين" و "متى" وما يجرى مجراها في الاستفهام، والخبر، والشرط، والجزاء، للعموم. أما الأول: فالدليل عليه أن هذه الصيغ لو لم تكن للعموم فقط لكان للخصوص فقط، أو هي مشتركة بينهما، فإن كونها مهملة، باطل وفاقًا. لكن القسمين باطلان: فيتعين أن يكون للعموم. وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون للخصوص فقط، لأنه لو كان له فقط

لما حسن الجواب بذكر كل العقلاء في "من"، وبكل الأشياء في "ما" عند تجردهما عن قرينة التعميم حالية كانت أو مقالية، إذا كان الاستفهام بهما، إذ الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، لكن لا نزاع في حسنه. فهما إذا ليسا للخصوص فقط. والمعارضة بالمثل: مندفعة، لأن السؤال عن العام بالمطابقة، سؤال عن الخاص بالتضمن، فيحسن الجواب بالخاص عند عدم العام / (205/أ) ولهذا يجب على المدعى عليه نفي ما ادعى عليه، ونفي ما دخل تحت دعواه بطريق التضمن على المذهب. وأما السؤال عن الخاص، فغير متضمن للسؤال عن العام، فلا يحسن الجواب به بتقدير أن يكون للخصوص. وما قيل: بأنه إنما حسن الجواب بالعام، وإن كان اللفظ للخاص لكونه جوابًا عن السؤال عنه وزيادة. فذلك ضعيف، لأنه يقتضي حسن الجواب به لو خص الخاص بالذكر، كما لو قال: "من عندك من الرجال" فيقول: "عندي الرجال والنساء" لكنه باطل. أما أولاً: فبالاتفاق. وأما ثانيًا: فلأنه جواب بغير المسؤول عنه، وبغير ما يتضمنه وهو قبيح. وأما ثالثًا: فلأن الغرض كما يتعلق بذكر ما سئل عنه، فكذا قد يتعلق بالسكوت عن المسكوت عنه "فذكره" حينئذ يكون مناقضًا لغرضه.

وإنما قلنا: لا يجوز أن تكون مشتركة بين العموم والخصوص، لأنه لو كانت مشتركة بينهما، لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع مراتب الخصوص، وليست مشتركة بين مرتبة مخصوصة من الخاص وبين العام وفاقًا، حتى لا يجب ذلك، لأن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، فإذا كان السؤال محتملاً لأمور كثيرة، فلو أجاب قبل أن يطلع على المراد لاحتمل أن يكون الجواب غير مطابق السؤال، وهو غير جائز فيجب الاستفهام عن جميع مراتب الخصوص لكنه غير واجب. أما أولاً: فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح قول القائل: إذا قيل له: من عندك؟ فيقول: "أتسألني عن الرجال، أو عن النساء".؟ فإذا قيل: "عن الرجال": فيقول: "عن العرب أو العجم"؟ فإذا قيل: "عن العرب". فيقول: "عن ربيعة أو مضر"؟ وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع أحياء العرب وأفخاذهم، ثم يأتي على جميع أصنافهم من العلماء، والجهال، والشيوخ، والكهول، والشبان، والصبيان، والبيض، والسود، وغيرها من الأصناف. ولا يعارض هذا بما أنه يحسن بعض الاستفهامات، ألا ترى إذا قيل: "من عندك"؟ حسن أن يقول: "أتسألني من الرجال، أو من النساء، أو من الأحرار أو من العبيد"؟ لأن حسنه ليس دليل الاشتراك كما سيأتي. وأما قبحه: فدليل عدم الاشتراك، وأيضًا لو كان حسنه دليل الاشتراك مع أن قبحه دليل عدم الاشتراك، لزم أن يكون اللفظ حقيقة في بعض مراتب

الخصوص، وهو خلاف الإجماع. وأما ثانيًا: فأنه قد لا يمكن ذكر أقسامه، إما لعدم تناهيه كالعدد، أو لعدم ضبط / (205/ب) أقسامه لعدم العلم بها، أو لعسر التمييز بينها، وما يقال: أنه يجوز أن لا تنفك القرينة المعينة عنها، فلهذا لا يجب الاستفهام. فضعيف جدًا. أما أولاً: فبالإجماع، إذ الإجماع منعقد على أنه يجوز خلو اللفظ المشترك عن جميع القرائن المعينة لأحد مدلوليه. وأما ثانيًا: فأنه لو لزم القرينة إياها، فليس ذلك لكونها ألفاظًا مشتركة ولا لما يلزمها، وإلا لكان كل لفظ مشترك كذلك، ولا لخصوصياتها ولا لما يلزم خصوصياتها، لما عرف أنها أمور عدمية. وأما ثالثًا: فلأن تلك القرينة المعينة، إن كانت قرينة العموم فهو باطل. أما أولاً: فبالاتفاق، أما عندنا: فظاهر، وأما عند الخصم: فلأنه لا يقول بأن اللفظ يفيد العموم أبدًا، وإن كان ذلك لقرينة. وأما ثانيًا: فأنه يقتضي أن لا يكون اللفظ مستعملاً في الخصوص أبدًا، وهو باطل قطعًا. وإن كانت قرينة الخصوص، فهو أيضًا باطل لوجهين: أحدهما: أنه يجب أن تكون تلك المرتبة من الخصوص معلومة أبدًا عندما يسمع اللفظ، لكنه ليس كذلك، والعارف بلغة العرب المنصف من نفسه يعترف بذلك. وثانيهما: عكس ما سبق. وأما رابعًا: فلأن تلك القرينة إن كانت لفظية: فباطل، لأنا قد نسمع

لفظة "من" و"ما" في الاستفهام ولا نسمع معهما من اللفظ ما يعين مدلولهما. وإن كانت خالية: فيمكن خلو اللفظ عنها أيضًا بأن يعرض المستفهم عنه أعم أو عامًا. ولو قيل: بأنه إنما لم يستفهم ويجاب بالكل، لأن المقصود حاصل على التقديرين. فجوابه: ما سبق. ولو قيل: إنه إنما لم يجب الاستفهام، لأن مدلول اللفظ المشترك هو أحد المفهومين لا بعينه، فإذا أجاب بأيهما كان فقد أجاب عما سندعيه، فنحن نمنع أولاً: إن مدلول اللفظ المشترك ما ذكروه، إذ ليس مدلوله عندنا: أحد الأمرين لا بعينه، بل مدلوله عندنا: هو أحدهما على التعيين، أو هما فإن الواضع لم يضع اللفظ المشترك إلا لمعين، وإما هذا بعينه، أو ذاك بعينه، أو هما على رأي من يقول بذلك، وأما لأحدهما لا بعينه فلا [لأ] نه حينئذ يكون متواطئا لا مشتركًا فمدلوله أبدًا متعين في نفسه، وإنما الإبهام عند المخاطب لا غير، ولو سلم ذلك فضعيف أيضًا، لأنه يقتضي أن لا يحسن الجواب بالكل، لأنه جواب عن غير ما سئل عنه هو أحدهما لا بعينه، لكن حسنه معلوم كما سبق.

وأما الثاني فالدليل عليه وجوه: أحدها: أنه لا نزاع / (206/أ) في صحة استثناء كل واحد واحد من العقلاء من من الشرطية نحو [قول]: القائل: "من دخل داري فأكرمه إلا فلانًا [وإلا فلانًا] والإستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل - على ما سيأتي تقريره لك إن شاء الله تعالى - وحينئذ يلزم أن كلمة "من" في معرض الشرط والجزاء للعموم، وهو المطلوب. وثانيها: سقوط الاعتراض عمن جرى على موجب العموم، وتوجهه على من ترك دليل على أنها للعموم. ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده: من دخل هذا البيت فأعطه درهما، وأشار إلى بيت لا يتوهم فيه قرينة معنوية، نحو أن يكون البيت معظمًا يقتضي إكرام الداخل فيه، أو يكون البيت بيته، فإنه ريما يتوهم التعميم من قرينة إكرام الزائر، فإن العبد لو جرى على موجب التعميم، وأعطى كل واحد من المسلم والكافر لم يكن للسيد أن يعاتبه على ذلك، ولو عاتبه على ذلك أو قال لم أعطيت الكافر؟ فإني أردت به المسلم فللعبد أن يقول: وما أدراني بإرادتك، وإنك أمرتني بإعطاء الداخل والكافر داخل، وكان من حقك أن تضم إليه ما يدل على إرادتك حتى ما كنت أعطى كل داخل، فالعقلاء من أرباب اللسان يرون سقوط اعتراض السيد وبدون عذر العبد ممهدًا

ولو لم يجر العبد على موجب العموم ومنع بعض الداخلين نحو الكافر، فللسيد أن يقول: لم لم تعطه؟ وقد أمرتك بإعطاء من دخل وهذا قد دخل، فلو قال العبد: إنما لم أعطه، لأنه كافر [وهو] لا يستحق الإحسان والإكرام فلهذا حسبت أنك أردت به المسلم، فالعقلاء يرون عذره ساقطًا ويرون عتاب السيد متوجهًا عليه، وبتقدير أن يكون عذره ممهدًا كان ذلك دليلاً على العموم أيضًا، لأنه أحال التخصيص إلى القرينة المعنوية، وهو إنما يصح بعد ثبوت التعميم. وثالثها: أن الرجل إذا قال من دخل من عبيدي الدار فهو حر، فإنه يعتق عليه كل عبد له دخل الدار بإجماع الفقهاء، وأرباب أهل اللسان، ولهذا يجوز لكل من سمع هذا ورأي دخول العبد الدار أن يستخدمه، ويستأجره ويشترى ويبيع منه، من غير إجازة مولاه. ورابعها: وهو ما ذكرنا من مخاصمة ابن الزبعرى مع النبي عليه السلام فإنه يدل على أن كلمة "ما" للعموم. وما قيل: بأنه عليه السلام رد عليه وقال: منكرًا عليه "ما أجهلك بلغة قومك أما علمت "إن ما". لما لا يعقل".

فليس بثبت، ويؤكده ما ذكر جماهير المفسرين رحمهم الله تعالى في سبب نزول قوله تعالى: {إن الذين / 206/ب) سبقت لهم منا الحسنى} الآية، وهو أنه عليه السلام سكت بعد أن أورد عليه ما أورد حتى نزول الآية أيضا، ولو كان السؤال فاسدًا لما احتيج إلى ما يجرى مجرى الاستثناء، والاستعمال يقتضي صحة السؤال نحو قوله تعالى: {والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها} "على" القول في أن جميع المعرف باللام، أو بالإضافة يفيد العموم. وإنما قدمنا هذا على القول في أن لفظ "الكل" و "الجمع" وما يجرى مجراهما يفيد العموم مع أنه لا خلاف فيه بين القائلين بالعموم، والأول فيه خلاف فيما بينهم، لأنه تابع مؤكد به الجمع، والمتبوع أجدر بالتقديم.

اعلم أن الجمع المعرف باللام منصرف إلى المعهود إن كان هناك معهود بلا خلاف كما في قولهم: جمع الأمير الصاغة، وإن لم يكن هناك معهود فهو للعموم عند جماهير المعممين. خلافًا لأبي هاشم منهم. وإن أشكل فكذلك خلافًا لإمام الحرمين رحمه الله تعالى - فإنه ذهب إلى أنه مجمل محتمل لهما. والدليل على ما ذهب إليه الجمهور وجوه: أحدها: هو ما ذكرنا من احتجاج الصديق على الأنصار لما طلبوا الإمامة بقوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" والكل سلموا له هذا الاحتجاج، ولو لم يكن الجمع المعرف باللام للعموم لما صح هذا الاستدلال، لأن كون بعض الأئمة من قريش لا ينافي أن يكون البعض الآخر من الأنصار.

وما يقال: إن التعميم مستفاد بما عرف من قصده عليه السلام بذلك تعظيم قريش وتميزهم عن غيرهم من قبائل العرب. فضعيف لوجهين: أحدهما: ما سبق غير مرة. وثانيهما: [أنه] لو دل عليه، فإنما يدل عليه للتعظيم البالغ الكامل، إذ من المعلوم أنه لا يدل عليه مطلق تعظيمهم، لأن ذلك يحصل بأن يكون منهم بعض الأئمة، أما كون كل الأئمة منهم وليس من غيرهم إمام، فذلك يدل على كمال تعظيمهم، لكن لا نسلم أن ذلك معلوم من قصده عليه السلام، وبتقدير أن نسلم ذلك فإنما يسلم بالنسبة إلى البعض، أما بالنسبة إلى الكل، فممنوع. وهذا لأن دلالة القرينة الحالية تختلف لاسيما بالنسبة إلى جمع عظيم غير مخالفين في أكثر الأوقات، فكيف سلموا له الكل الاحتجاج، مع أن تلك القرينة الحالية ما كانت معلومة "لهم". "وثانيها": و"هو" ما ذكرنا من احتجاج عمر رضي الله عنه علي أبي بكر [رضي عنه] لما هم بقتال مانعي الزكاة بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا / (207/أ) ذلك فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم".

ثم إن أحدًا منهم لم ينكر عليه الاحتجاج المذكور، بل عدل أبو بكر رضي الله عنه إلى الاستثناء وقال أليس أنه عليه السلام قال: "إلا بحقها" وإن الزكاة من حقها، ولو لم يكن الناس المعرف باللام للعموم لم يكن الضمير في قوله: "حتى يقولوا لا إله إلا الله" للعموم وحينئذ لم يكن الاحتجاج صحيحًا. وما يقال: إن التعميم مستفاد من العلة الموجبة لعصمة النفس والمال، وهي قول: "لا إله إلا الله" فإنها مناسبة لذلك، إذ الشرك جريمة عظيمة مناسبة للقتل، والتوحيد طاعة كبيرة مناسبة للعصمة، وأيضًا ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والعصمة مرتبة على كلمة التوحيد. فكان كلمة التوحيد هي علة العصمة. فضعيف أيضًا إذ يفهم منه الحكم على العموم من أرباب اللسان من لم يعرف القياس وشرائطه كالبدوي، وإحالة الجلي على الخفي غير جائز. وأيضًا ظاهر الاستثناء وهو قوله: "إلا بحقها". ينفي ما ذكروه وإن جوز تخصيص العلة، لأنه يخرجها عن العلية إذ يصير التقدير كلمة التوحيد علة

العصمة إلا أن يمنع شيء من حقها، فإنه حينئذ لا يكون علة، وأما إذا لم يجوز فينفيه قطعًا. وثالثها: أنه يؤكد بما يفيد الاستغراق فوجب أن يكون مفيدا له في نفسه. وإنما قلنا: إنه يؤكد بما يفيد الاستغراق، لأنه يؤكد "بالكل" و "الجميع" قال الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} وهو مفيد للاستغراق - لما سيأتي في هذا النوع من الاحتجاج على منكري العموم - وأما على أبي هاشم: فاستدل عليه بالاتفاق أيضًا، فإنه يسلم أنه بعد التأكيد يفيد العموم. وإنما قلنا: إنه حينئذ يجب أن يكون في نفسه مفيدًا له، لأن لفظ الكل و"الجميع" مسمى بالتأكيد بالاتفاق، والتأكيد معناه: تقوية الحكم الذي كان ثابتًا في الأصل، فلو لم يكن الأصل مفيدًا للاستغراق، بل حصل بلفظ: الكل، والجميع، وما يجرى مجراهما لم تكن تلك الألفاظ تأكيدات بل

مستقلات بإفادات العموم، لكنه خلاف إجماعهم، ولو نقض ذلك بمثل قولهم: قد صرت البكرة يومًا أجمعا.

واعترض عليه: أيضا بأن ما ذكرتم يستدعي كون المؤكد صالحا للعموم، والدلالة على العموم عند التأكيد، ولا يدل على كونه متعينا بوضعه للعموم. وهو ضعيف أيضا، لأنه إن عني بكونه/ (207/ب) صالحا للعموم الصلاحية بطريق الحقيقة فحاصله يرجع إلى أن اللفظ مشترك بين العموم والخصوص ويصير مع لفظ "الكل" و"الجميع" متعينا للعموم، لكنه باطل. أما أولا: فلأن من قال بالاشتراك في الجمع المعرف باللام، قال: بالاشتراك في جميع ألفاظ العموم، إذ الكلام عند عدم قرينة العهد حتى لا يمنع، إذ لو ادعينا مطلقا لمنع على رأي إمام الحرمين رحمه الله تعالى والمشترك لا يبين المشترك. وأما ثانيا: فلأن اللفظ مسمى بالتأكيد بالإجماع، ولو كان الأمر كما ذكروه كانت التسمية فاسدة عارية عن رعاية المعنى جارية مجرى أسماء العلم، إذ ليس فيه معنى التأكيد شيء حينئذ، وهو خلاف إجماعهم وإن عني به الصلاحية بطريق التجوز مع القول بأن لفظ "الكل" و"الجميع" يفيدان العموم، فهذا وإن كان يستلزم خلاف الأصل وهو مخالف لمذهب المعترض فأنه اختار التوقف في جميع ألفاظ العموم، فحاصله يرجع إلى أن لفظ "الكل" و"الجميع" قرينة دالة على إرادة العموم منه على وجه التجوز فلم يكن فيه شيء من معنى التأكيد فكان باطلا لما سبق.

ورابعها: أنه يصح استثناء كل فرد من الجنس منه، والعلم بصحة ذلك من كلام العرب ضروري بعد الاستقراء، والاستثناء من الكلام: ما لولاه لوجب دخوله فيه. وذلك يدل على أن كل من أفراد الجنس داخل فيه، وهو المطلوب. فإن قلت: لا نسلم أن الاستثناء من الكلام: ما لولاه لوجب دخوله فيه. وهذا لأنه يصح الاستثناء من غير الجنس قال الله تعالي: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وهو ليس منهم بدليل قوله تعالى: {كان من الجن ففسق عن أمر ربه}. وقال تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} والسلام ليس من جنس اللغو والتأثيم، وقوله تعالى: {مالهم به من علم إلا اتباع الظن}. والظن ليس من جنس العلم.

وقال الشاعر: وقفت بها أصيلا لا أسائلها .. أعيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأياما أبينها .. والنوى كالحوض بالمظلومة الجلد.

والأوارى ليس من جنس الأحد، والاستثناء من غير الجنس ليس فيه صحة الدخول فضلا عن وجوبه. فإن قلت: الاستثناء من غير الجنس ليس بحقيقة الاستثناء وإن تصور بصورته، وهذا لأن الاستثناء مأخوذ من الثني وهو الصرف. / (208/أ) والصرف: إنما يعقل فيما يتصور فيه الدخول وهو مستحيل في غير الجنس، وإذا لم يكن الاستثناء من غير الجنس استثناء حقيقيا وجب أن تكون تلك الاستعمالات مجازات، ونحن إنما ادعينا ذلك في الاستثناء الحقيقي وهو الاستثناء من الجنس. قلت: لا نسلم أيضا أن الاستثناء من الجنس: ما لولاه لوجب دخوله تحته، بل هو عندنا: عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه. فلم قلت: إنه ليس كذلك؟ ثم الذي يدل عليه وجوه: أحدها: أن الصحة أعم من الوجوب، وجعل اللفظ حقيقة في المعنى العام أولى، لأنه أكثر فائدة. وثانيها: أنه يصح الاستثناء من جمع القلة في حالة التنكير بالإجماع، وهو ليس بعام فيها بالإجماع. فإن قلت: نحن إنما ندعي ذلك فيما يصح منه استثناء الأفراد والأعداد الكثيرة منه، وجمع القلة ليس كذلك.

قلت: فالاستثناء الذي بشأنه ما ذكرتم يصح مما عدا جمع القلة في حالة التنكير مع أن المستثنى غير واجب "الدخول" تحته، لأنه ليس بعام على "رأي أكثركم". وثالثها: لو لم يكن الاستثناء عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه لما صح قول القائل: صلّ إلا اليوم الفلاني، لأنه ثبت" إن الأمر ليس للتكرار لكنه صحيح. قلت: الدليل على أن الاستثناء] ليس عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه وجوه: أحدها: أنه لو كان عبارة عنه، لم يبق فرق بين الاستثناء [من الجمع المعرف كقولك: رأيت العلماء إلا زيدا، وبين الاستثناء من الجمع المنكر كقولك: رأيت علماء إلا زيدا لصحة دخول زيد فيهما، لكن الفرق معلوم بالضرورة منهم، وليس ذلك إلا أنه يجب الدخول في الجمع المعرف دون المنكر، لأن كل من فرق بينهما لم يفرق إلا بوجوب الدخول وعدم وجوبه، والفرق بينهما بوجه آخر خلاف الإجماع. وثانيها: ما نقل عن أهل اللغة وهو أنهم قالوا: الاستثناء إخراج جزء عن كل. وإنما يكون كذلك أن لو كان المستثنى واجب الدخول تحت المستثنى منه، لأن الجزء واجب الدخول في كله والأصل هو الحقيقة الواحدة.

ولا يجاب عنه بما قيل: وهو أنه لا يلزم من كون الاستثناء إخراج جزء عن كل، أن يكون ذلك الوجوب الدخول لاحتمال أن "ذلك" يكون لصحة الدخول، فإن الوجوب لا ينافي الصحة بمعنى عدم الامتناع، لأن التعريض يفيد الجزئية حينئذ يكون ضائعا عديم الفائدة، بل هو مخل بالمقصود الذي هو تعريف الاستثناء، لأنه يقتضي اعتبار قيد/ (208/ب) الجزئية في ماهيته أو اختصاصه به إذ لا يذكر في التعريف إلا ما يكون داخلا في الماهية أو مختصا بها. ولو أجيب عنه: بأنه لا يلزم من كون الاستثناء إخراج جزء عن كل أن لا يصح استثناء ما هو ممكن الدخول بناء على أن "الاستثناء" واجب الدخول لا يمنع من استثناء ممكن الدخول فضعفه بين لا يخفى على من له أدنى فطانة. وثالثها: أنه لو كان الاستثناء عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه لصح قول القائل: "رأيت رجلًا إلا زيدًا" لصلاحية دخوله له

تحت لفظ "رجل" لكنه غير صحيح وفاقا، نعلم أنه ليس عبارة عنه. فإن قلت: الملازمة ممنوعة، وهذا لأنه كما يعتبر في تحقيق الشئ وجود المقتضي يعتبر أيضا ارتفاع المانع، فلا يلزم من تحقق الصحة فيما ذكرتم من المثال صحة الاستثناء لاحتمال انتفاء الصحة لوجود مانع، ولئن تمسك في انتفائه بالأصل فنحن نبينه، وهو أن قوله: رأيت رجلا، لا يكون إلا معينا في نفس الأمر، ضرورة أن الرؤية لا تقع إلا على معين في نفس الأمر، وإنما الإبهام عند السامع والمعين لا يصح منه الاستثناء وفاقا. قلت: الدليل على الملازمة ما سبق، وهو صحة دخوله تحت لفظ "رجل" إذ المعنى من الدليل ما لو جرد النظر إليه يغلب على الظن وجود المدلول، والنظر إلى المقتضى لصحة الاستثناء وهو صحة الدخول كذلك، فيكون الدليل دالا على صحة الاستثناء حينئذ، وأما ما ذكره في سند المنع من أن ذلك لوجود المانع المذكور. لو سلم ذلك أدى في الاستثناء عن المعين كلامه. فجوابه: أن إسناد انتفاء الحكم إلى عدم المقتضى أولى من إسناده إلى وجود المانع لإفضائه إلى التعارض، فكان "إسناد" انتفاء صحة الاستثناء إلى عدم المقتضى لصحة استثناء أولى من إسناده إلى وجود المانع. وأما ما ذكروه من الوجوه: فجواب المعارضة: بما أنه لو جعل حقيقة في واجب الدخول، أمكن

جعله مجازا في ممكن الدخول للزومه إياه، ولو جعل حقيقة في ممكن الدخول لم يمكن جعله مجازا في واجب الدخول ولو أمكن لكن الأول: أولى لما سبق غير مرة. وعن الثاني: بعد تسليم أنه ليس بعام، فإن لنا أن نمنع على رأي بعض موافقينا القائلين: بالعموم أنه يجب حمله على التجوز جمعا بينه وبين ما ذكرنا من الفرق المعلوم بالضرورة منهم. "أو من أهل اللسان". ولا يجاب عنه: بما أجاب الإمام وهو أنه: هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما/ (209/أ) لولاه- لصح دخوله فيه- فلم قلت: إنه في سائر الصور كذلك؟ لأن الأصل هو الحقيقة الواحدة. وأيضا: فان ما ذكره يرجع حاصله إلى أن الاستثناء عما ليس بعام: عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه. وعما هو عام: عبارة عما لولاه لوجب دخوله فيه. وحينئذ يتعذر الاستدلال بصحة الاستثناء على العموم، لأنه لا يفيد التعميم، إلا: أن يكون عبارة عما لولاه لوجب دخوله فيه، وإنما يثبت ذلك أن لو ثبت العموم في المستثنى منه، فلو أثبت العموم في المستثنى منه بالاستثناء لزم الدور.

وعن الثالث: منع الملازمة، وهذا لأنه يحتمل أن نحو ذلك، وإن لم يكن الأمر للتكرار في نفسه بناء على أن الاستثناء قرينة دالة على إرادة التكرار منه. وخامسها: أن الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر، بدليل صحة انتزاعه منه، من غير عكس، فإنه يصح أن يقال: رجال من الرجال جاءني، ولا يصح أن يقال: الرجال من رجال جائني، وذلك يدل على أنه [للعموم، لأنه] لو لم يكن للعموم لما صح انتزاع المنكر منه، لأن ما دونه يتناوله الجمع المنكر وفاقا، والمنتزع منه يجب أن يكون أكثر فهو إذًا للعموم. فإن قلت: أتدعي أن ذلك يدل على أنه للعموم في نفس الأمر، أو تدعي أنه للعموم إذ ذاك. فإن دعيت الأول: فممنوع، وهذا لأن من المعلوم أنه لا دلالة لما ذكرتم على أنه للعموم في نفس الأمر، بل غايته أنه يدل على أنه للعموم إذ ذاك، فلم لا يجوز أن يقال: إن ذلك لقرينة الانتزاع؟ وإن ادعيت الثاني: فمسلم، لكن لا يفيد المطلوب لاحتمال أن يقال: إن ذلك لقرينة الانتزاع. قلت: جوابه ما سبق غير مرة وهو أن استفادة المعاني من القرائن خلاف

الأصل. وسادسها: أن الجمع المعرف "باللام" لو لم يحمل على العموم: فإما أن يحمل على بعض معين من الجمع، فهو باطل، لأنه ليس في اللفظ ما يشعر به ولا في العقل ما يدل عليه، إذ الكلام عند عدم المعهود السابق أو على بعض غير معين منه، وهو أيضا باطل. أما أولا: فلأنه حينئذ لا يبقى فرق بين قولنا: "الرجال" وبين قولنا: "رجال" وهو خلاف ما هو معلوم من كلامهم. وأما ثانيا: "فلأنه" لا يكون لدخول الألف واللام حينئذ فائدة. لا يقال: نحن نمنع عدم الفرق، وعدم الفائدة، وهذا لأن قولنا: "الرجال" صالح للعموم وللخصوص عندنا: بخلاف قولنا: "رجال" فإنه لا يصلح لذلك، لأنا حينئذ نلزمكم محذور/ (209/ب) الإجمال أو لا يحمل على شئ، وهو أيضا: باطل بالإجماع ولما بطل "قولنا" بهذه الأقسام تعين حمله "على" الكل إلا ما خصه الدليل، وهو المطلوب. وسابعها: أن "الألف واللام" تسمى بحرف التعريف وفاقا، ومن الظاهر أن تسميتها به ليست خالية عن رعاية المعنى جارية مجرى اسم

العلم، فهي إذًا باعتبار المعنى، فالمعرف به: إما الكل، أو مطلق الجمع الصادق على أي جمع كان، أو جمع معين. والأخيران باطلان: فيتعين الأول. أما الأول: منهما فلأنه معلوم قبل دخولهما، وتعريف المعرف تحصيل للحاصل. وأما الثاني: فلأنه ليس يفهم منه السامع بعض مراتب الجموع على التعيين عند عدم معهود سابق لعدم ما يشعر به في اللفظ، إذ الكلام فيه. وهذا الدليل يتمسك به من يقول: إن المفرد المعرف باللام يفيد العموم أيضا، أما من لم يقل به لم يمكنه أن يتمسك به، لأنه ينقض به. ولو أجاب عنه بما أجاب الإمام عنه: وهو أن "الألف واللام" في المفرد يفيد تعيين الماهية المشتركة بين الأفراد، وهو غير حاصل من المفرد المجرد عنهما، بدليل صحة قولنا: "الإنسان نوع" و"الحيوان جنس" وعدم صحة، قولنا: "إنسان نوع" و"حيوان جنس". لأ "جيب" بمثله فيما نحن فيه، فإن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون "الألف واللام" في الجمع يفيدان أيضا تعيين الجمع المشترك بين الجموع.

فإن قلت: إنما ذكرنا ذلك في المفرد لما ذكرنا من الدليل، وليس دليل يدل على أنه يصح حكم غير التعميم على الجمع المعرف دون المنكر حتى يقال: إنهما لتعيين متعلق ذلك "الحكم". قلت: عدم وجدان الدليل لا يدل على عدمه، وبتقدير أن يدل عليه، لكن لا نسلم: أن عدم الدليل يقتضي عدم المدلول، ولا يخفي عليك أنه وارد على الدليل ابتداء لأنه يمنع حصر تقسيمه. وإذا ثبت أن الجمع المعرف "باللام" يفيد العموم، ثبت أن المعرف بالإضافة أيضا كذلك، لجريان أكثر الأدلة فيه، ولعدم القائل بالفصل، ولأن الرجل إذا قال: "أعتقت عبيدي، وإمائي" و "طلقت نسائي" فإنه يعم العتق والطلاق في جميعهم بإجماع الأئمة. ولهذا يجوز لمن سمع هذا أن يعامل أي عبد شاء من عبيده، ويتزوج بأية أمة من إمائه بدون رضاه ورضا ورثته، لو فرض موته عقيب القول. فرع: الكناية نحو قوله: افعلوا، أو فعلوا، تابعة للمكني في العموم، والخصوص، فإن كان المكني عاما، كانت الكناية عامة بدليل/ (110/أ) أن السيد لو خاطب عبيده وقال: أيها العبيد افعلوا كذا، فإن المتخلف من الامتثال منهم يستحق اللوم والتوبيخ، ولو لم يكن للعموم لما كان كذلك، ولأنه لو لم تكن عامة إذ ذاك لزم الإجمال، ضرورة رجوعه حينئذ إلى بعض ما تقدم ذكره، مع أنه غير معلومة من اللفظ والعقل، إذ الكلام مفروض فيه

وأنه خلاف الأصل وإن كان خاصا، كانت الكناية أيضا: خاصة. وهو ظاهر القول في أن لفظ: "الكل" و"الجميع" وما يجري مجراهما من المؤكدات يفيد العموم، والدليل عليه وجوه: أحدها: أن الرجل إذا قال: جاءني كل فقيه في البلد، فمن أراد تكذيبه يقول: ما جاءك كل فقيه في البلد، ولولا أن لفظ "الكل" للعموم لما صح استعماله في التكذيب عند عدم الدلالة على إرادة البعض المعين منه في السلب والإيجاب منهما، لاحتمال أن يكون المنفى غير المثبت، إذ ليس للفظ "الكل" دلالة على مرتبة معينة من مراتب الخصوص وفاقا. وبتقدير أن يكون له: لكنهما يستعملان في التكاذب مطلقا، فدل على أنه للعموم، وما يقال: في سند منع استعمالهما في التكاذب مطلقا، هو أنه "لو" فسر كلامه بالغالب كان تفسيره صحيحا مقبولا، وحينئذ لا يكاذب في استعمالها. فضعيف جدا، لأنه لا يلزم من قبول تفسير اللفظ بشيء أن لا يفيد غيره بإطلاقه، ألا ترى أن الألفاظ كلها بإطلاقها تفيد حقائقها، ولو فسرت

بمجازاتها كان التفسير صحيحا مقبولا. وأيضا قوله: "ولا يكاذب حينئذ" باطل، لأن لفظ "الكل" في الإثبات أو السلب إذا كان محمولا على الغالب، كان هو في الآخر أيضا محمولا عليه، لأن الظاهر أن يتوارد السلب والإيجاب على شيء واحد، وحينئذ يتحقق التكاذب، نعم: لو كان في الإثبات محمولا على الغالب وفي السلب "على" "الكل" من حيث هو كل لا يتحقق التكاذب لكن حينئذ لا يجوز استعمالهما في التكاذب، والإحالة إلى القرينة خلاف الأصل كما سبق. وثانيها: أن الرجل إذا قال: "أعتقت كل من في الدار من عبيدي" فإنه يعتق عليه جميع عبيده الذين هم في الدار بإجماع الفقهاء، ولولا أن لفظ "الكل" تفيد العموم لما صح "هذا". وثالثها: أن السيد إذا قال لعبده: "أعط كل من في الدار كذا" ولم

يسمع العبد من السيد سوى هذا القدر، ولم يعلم قرينة خارجية تقتضي تخصيص بعضهم: نحو كون بعضهم عدوا لسيده، أو كافرا/ (210/ب) معاندا، فإنه لو لم يمتثل أمره بإعطاء كل من فيها فإنه يستحق اللوم والتوبيخ على ذلك، ولو امتثل بإعطاء كل واحد واحد فإنه لا يتوجه نحوه الاعتراض "والتوبيخ"، ولو لم يكن لفظ "الكل" للعموم لما استحق ذلك وإحالة ذلك إلى القرينة لو كانت خلاف الأصل، كيف وقد فرضنا الكلام حيث لا قرينة، ومنعه إذ ذاك مكابرة. ورابعها: أن مفهوم صيغة "الكل" مقابل لمفهوم صيغ "البعض" وذلك يستعمل "في" كل واحد منهما في نفي مفهوم الآخر، كما إذا قال الرجل لغيره أخذت مني كل دراهم" فإنه يقول لا بل بعضه "أو بعضه" فإن أخذ البعض وإن كان لا ينافي الكل من حيث المعنى، لكن المفهوم من البعض ينافيه، فلو لم يكن لفظ "الكل" للعموم لما كان كذلك. وخامسها: أنا ندرك التفرقة بين قول القائل: "جاءني فقهاء وبين

قوله: "جاءني كل الفقهاء" ولو لم يكن "الكل" مفيدا للعموم لما حصلت التفرقة ضرورة أن مفهومها حينئذ يكون متحدا، وهو البعض ولو منع الملازمة بناء على ما سبق من الفرق في الجمع المعرف باللام. فجوابه: أيضا ما سبق. وأيضا: ذلك الفرق الحاصل بين الفقهاء وبين فقهاء فليس دخول "الكل" عليه فائدة وهو تعطيل الكلمة بالكلية وأنه خلاف الأصل. "وسادسها" ما سبق فيما سلف أنه مسمى بالتأكيد، ولو كان محتملا للكل وللبعض بطريق الحقيقة، لكان استعماله في العموم لقرينة جاريا مجرى. قول القائل: "رأيت عينا باصرة" وحينئذ يكون ما دخل عليه من العام أو الخاص قرينة مبينة له فلم يكن هو تأكيدا له، وهو خلاف الإجماع. فان قلت: أنه وإن تبين مراده من لفظه بما دخل هو عليه، لكن ذلك لا يخرجه عن أن يكون تأكيدا له لما أن لفظه صالح للعموم. قلت: دلالة مؤكدة للفظ يجب أن يكون أظهر أو مثل دلالة المؤكد فيما هو مؤكد له بالاستقراء، وهو منتف عليه على ما ذكرتم من التقدير فلم يكن تأكيدا له. وسابعها: ما سبق من أن عثمان- رضي الله عنه- كذّب لبيدا في قوله

وكل نعيم لا محالة زائل. وقال: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، ولو لم يكن لفظ "الكل" للعموم لما توجه التكذيب عليه. وثامنها: وهو ما ذكرنا إنا نعلم- بالضرورة- بالاستقراء من عادة أهل اللسان أنهم إذا أرادوا التعبير عن معنى العموم فزعوا إلى استعمال لفظ "الكل" و"الجميع"، ما يجري مجراهما ولو لم يكن لفظ "الكل" و"الجميع" للعموم لما كان الرجوع إليهما إذ ذاك أولى من غيره كالجموع المنكرة. وتاسعها: أن العرب فرقت بين تأكيد العموم، وبين تأكيد الخصوص [فقالوا] في الخاص: رأيت زيدا نفسه وعينه" وقالوا في العموم: "الرجال كلهم، وأجمعون" ولم يستعمل ما لأحدهما في الآخر، وذلك يدل على تغايرهما في العموم والخصوص، لأن اختلاف التأكيد يدل على اختلاف المؤكد. فإن قلت: نسلم ذلك لكن لا يلزم من الاختلاف بينهما أن يكون ذلك

في العموم والخصوص، ولم لا يكفي في ذلك اختلافهما في الجمع والوحدة. قلت: لو كان ذلك كافيا لجاز تأكيد كل جمع حتى النكرات "بكل" وأجمعين، لكنه غير جائز باتفاق البصريين. وقوله: قد صرت البكرة يوما أجمعا. شاذا لا يعول عليه.

[النكرة في سياق النفي تعم] القول: في أن النكرة في سياق النفي "يعم" ويدل عليه وجوه:

أحدها: أنه يصح استثناء كل فرد من أفراد "ذلك المنفى عنه كقولك لا رجل في الدار إلا زيدا، وقد ثبت أن الاستثناء من الكلام ما لولاه لدخل فيه، فيلزم دخول" كل فرد من أفراد ذلك المنفى تحت ذلك المنفى، وهو المطلوب. وثانيها: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي تعم لما كان قول الموحد: "لا إله إلا الله" نفيا لجميع الإلهة سوى الله تعالى. واعترض عليه: بأنها وإن لم تكن الحقيقة في العموم، لكن لا يمتنع إرادة العموم بها وعلى هذا إنما يصير عاما لو أراد بها المتكلم العموم، أما إذا لم يرد فلا نسلم أنها تفيد العموم إذ ذاك. وهو ضعيف، لانعقاد الإجماع على صحة إسلام المتلفظ بها وإن لم يعلم أنه، هل أراد بها العموم أم لا؟ ولو لم يكن العموم من مقتضيات اللفظ لما كان كذلك، لأن المتلفظ باللفظ المشترك لا يحكم عليه بإرادة معنى معين منه ما لم يعلم منه قرينة دالة على إرادته، وكذلك المتلفظ بالحقيقة المفردة لا يحكم عليه بإرادة المجاز منها، ما لم يعلم قرينة دالة على إرادته. وثالثها: أن الإنسان إذا قال: أكلت اليوم شيئا، فمن أراد تكذيبه من

أهل اللسان، [يقول]: ما أكلت اليوم شيئا، ولو لم يكن قوله: ما أكلت اليوم شيئا، يفيد العموم لما كان مكذبا له، لأن الجزأين لا يجب أن يكذبان، وعلى هذا أيضا ورد التنزيل مكذبا لليهود لما قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} بقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى}. ولو اعترض على هذا بما سبق: كان ضعيفا أيضا، لأن اليهود حينئذ أن يقولوا: إنما أردنا بقولنا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} غير موسى عليه السلام فلا يكون نزول الكتاب على موسى عليه السلام مناقضا/ (211/ب).

ومكذبا لقولنا {ما أنزل الله على بشر من شيء}. ورابعها: أن "لا" في قولهم: لا رجل في الدار، مسماة بلا. لنفي الجنس وإنما ينتفي الجنس بانتفاء كل فرد من أفراده، وذلك يدل على أنه يفيد الاستغراق. فإن قلت: لا التي في قولهم: "لا رجل" إنما يفيد نفي جميع أفراد الرجال لأنها تفيد نفي ماهية الرجل، ومن ضرورة نفس الماهية نفي جميع أفرادها، إذ لو وجد فرد من أفرادها لوجدت الماهية في ضمنه وهو نقيض مدلولها والماهية ليست بعامه، بل هي شيء واحد فلا يلزم من نفيها العموم في طرف النهي. قلت: فرق بين عموم النفي ونفي العموم والمراد من قولنا: النكرة في سياق النفي تعم: هو أن النكرة في سياق النفي يفيد العموم لا نفي العموم الذي قد يكون بالثبوت في البعض، وقد سلمتم لزومه من نفي النكرة، لكن غايته أن ذلك بوساطة نفي الماهية وهو غير قادح في مقصودنا، لأن المفهوم الأول يتحقق بطريقين: أحدهما: نفس ما ليس بعام، لكن يلزم منه عموم النفي، كما هو في نفي الماهية. وثانيهما: نفي كل واحد واحد من أفراد ما هو عام ومتى تحقق الخاص تحقق الخاص تحقق العام.

[اسم الجنس المعرف بالألف واللام] القول: في أن اسم الجنس إذا دخله "الألف واللام" هل يفيد العموم أم لا؟ ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يفيده مطلقا، عند عدم المعهود السابق وهو اختيار المبرد والجبائي. وذهب أكثر المتكلمين: إلى أنه لا يقيده مطلقا، وإن كان عند عدم المعهود السابق.

ومنهم: من فصل وقال: إن كان واحده يتميز "بالتاء" عن اسم الجنس "كالتمر" و"البر" فإن العارى منها يفيد العموم، كما في قوله عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر ولا التمر بالتمر" وإن لم يتميز واحده عن

اسم الجنس "بالتاء" فهو ينقسم إلى ما يتشخص مدلوله ويدخل في التعدد ويوصف بالوحدة، والاثنين والثلاثة، كالدينار، إذ يقال: دينار واحد، وديناران اثنان، وإلى ما لا يكون كذلك كالذهب، والتراب، إذ لا يقال: ذهب واحد وتراب واحد. فالقسم الأول: فيه الاحتمالان العموم، كما في قوله عليه السلام: "لا يقتل المسلم بالكافر".

وتعريف الماهية كما في قولنا: الإنسان نوع، وهو الأشبه. وأما الأول: فهو للعموم وهو اختيار "الشيخ" الغزالي رحمه الله. احتج الفقهاء بوجوه: أحدها: ما تقدم في الجمع المعرف: باللام"/ (212/أ) من أن "الألف

واللام" للتعريف فالمعرف به، إما "الكل" أو غيره، والثاني: باطل فيتعين الأول: وقد عرفت جوابه أيضا. وثانيها: أنه يصح نعته بما ينعت به الجمع المعرف كما في قوله تعالى: {والنخل باسقات} {والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}. وكما في قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر، والدرهم الأبيض، "وهو للجمع" فيلزم أن يكون للعموم، ضرورة امتناع وصف الواحد بالجمع، إذ ليس هو للجمع بتقدير أن لا يكون للعموم. وأجيبوا: بأنه مجاز لعدم الاطراد، إذ لا يجوز أن يقال: جاءني الرجل الحكماء والعلماء، ولو سلم اطراده، فلم لا يجوز أن يكون ذلك وصفا للجنس لا لجملة أفراده؟. سلمنا: أنه وصف لجملة أفراده، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لقرينة معنوية؟. سلمنا: انتفائها، ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك قرينة لفظية دالة على

إرادة العموم"منه"؟. ولا يلزم منه أن يكون بوضعه للعموم ولا يخفي عليك ما في هذا الجواب مما سبق. وأما ما ذكره الإمام: وهو: أن الدينار الصفر، لما كان حقيقة: كان الدنانير الأصفر "خطأ أو" مجازا. فضعيف: أما أولا: فلأنا لا نسلم الملازمة، وهذا لأنه لا يلزم من كون الدنانير "الأصفر" خطأ أو مجازا أن يكون الدينار الأصفر كذلك، لأن الدينار له جهتان اللفظ والمعنى، فيصح الصفر حملا على اللفظ، ويصح الصفر حملا على المعنى، بخلاف الدنانير، فإنه ليست لها هاتان الجهتان، فلا يصح حقيقة إلا الصفر. وأما ثانيا: فلأنا لو سلمنا الملازمة، لكن لا نسلم نفي اللازم، فإن الدينار الأصفر، مجاز عندما يراد منه العموم عند القائلين به. وثالثها: أنه يصح استثناء كل فرد منه، بل استثناء الجمع كما في

قوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا} وقد ثبت أن الاستثناء من الكلام: ما لولاه لدخل فيه، فوجب أن يكون للعموم. وأجيبوا: بأنه مجاز لعدم الاطراد، إذ لا يجوز أن يقال: رأيت الرجل إلا العلماء والحكماء. ورابعها: أن الألف واللام إذا كانتا لتعريف معهود سابق، فإن الاسم مصروف إلى جميع ذلك المعهود لعدم أولوية البعض من البعض، فكذا إذا كانتا لتعريف الجنس وجب أن يكون الاسم مصروفا إلى جميع أفراد ذلك الجنس، لعدم أولوية/ (212/ب) البعض من البعض.

وأجيبوا: بمنع المقدمة الأولى، وهذا لأن المعهود إذا كان جمعًا فإنا نمنع عوده إلى جميعه بطريق المعية، نعم: يعود إلى جميعه على البدلية لعدم أولوية البعض من البعض. وخامسها: أن الحكم إذا كان مرتبا عليه، دل ذلك على أنه علة ذلك الحكم، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فيعم الحكم لعموم علته. وأجيبوا: بأنه استدلال على التعميم لا باعتبار اللفظ، بل بالقياس، وهو ممنوع في اللغات وبتقدير تسليمه فلا نزاع فيه، وإنما النزاع فيه باعتبار اللفظ.

[الجمع المنكر هل يفيد العموم أو لا؟] القول: في أن الجمع المنكر هل يفيد العموم أم لا؟ ذهب الأكثرون من الفقهاء والمتكلمين: إلى أنه لا يفيده، بل هو محمول على أقل الجمع، وهو: أما الثلاثة، أو الاثنين، على اختلاف فيه ستعرفه. وذهب الجبائي إلى أنه يفيده.

والذي أظنه أن الخلاف في غير جمع القلة، وإلا فالخلاف فيه بعيد جدا، إذ هو مخالف لنصهم، فإنهم نصوا على أنه للعشرة وما دونه بطريق الحقيقة، فالقول: بأنه للعموم بطريق الحقيقة مخالف لقولهم. واحتج الجبائي ومن تابعه بوجوده: أحدها: أنه يصح استثناء كل فرد منه، وأنه يدل على أنه للعموم على ما تقدم. وأجيبوا: بأن الاستثناء منه لإخراج ما يصح دخوله، لا ما يجب بدليل ما تقدم منه الفرق المعلوم بين الاستثناءين. وثانيها: أن حمله على العموم، حمل له على جميع حقائقه، فكان أولى من حمله على بعض حقائقه.

وجوابه: منع الأول، وهذا لأنه ليس حقيقة إلا الجمع الذي هو قدر مشترك بين الثلاثة وما زاد عليها، وأما كل واحد من تلك الأعداد فمتعلق بالحقيقة، والدال على الشيء غير دال على متعلقة فضلا عن أن يكون حقيقة فيه. ولئن سلم: ذلك لكنه معارض بأن حمله على العموم يحتمل الخطأ، لاحتمال أن يكون غير مراد للمتكلم، وحمله على أقل الجمع يؤمن منه، لأنه متيقن على التقديرين، وكان حمله عليه أولى. وثالثها: أنه لو لم يحصل على العموم لزم الإجمال، إذ ليس بعض الجموع أولى من البعض. وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن حمله على أقل الجمع أولى لما سبق أنه متيقن، والأصل براءة الذمة على الزائد. فهذه أنواع ستة من القول التي تفيد التعميم عند من يقوله به: لكن الثلاثة منها/ (213/أ) وهي "من" وأخواتها في الاستفهام

والشرط، والجزاء وألفاظ التأكيد نحو: "كل" و"جميع" والنكرة في سياق النفي متفق على تعميمها بين القائلين: بالعموم، والثلاثة الباقية مختلف فيها فيما بينهم. القول: في شبه المنكرين للعموم، والمتوقفين فيها وأجوبتها: الأولى: أنه لا نزاع في أن اللفظ مستعمل في العموم تارة وأخرى في الخصوص، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب أن يكون حقيقة فيها. الثانية: أن ما ذكرتم من ألفاظ العموم، لو كانت حقيقة فيه فقط لما حسن من سامع هذه الألفاظ من أرباب اللسان أن يستفهم المتكلم به إنك أردت به الكل أو البعض، لأن طلب الفهم عند وجود المقتضى له عبث، لكنه حسن وفاقا، فدل ذلك على أنه حقيقة فيهما، وبهذين الوجهين يتمسك منهم من قال بالاشتراك. وثالثها: أن دلالة هذه الألفاظ على الخصوص متيقنة، ودلالتها

على العموم مشكوك فيها، وجعل اللفظ حقيقة فيها في المتيقن أولى لعدم احتمال الخطأ. ورابعها: أنها لو كانت للعموم، لكان دخول "الكل" عليها تكرارا و"البعض" نقضا، ولكان دخول الاستثناء عليه أيضا نقضا. وخامسها: أن هذه الألفاظ لو كانت حقيقة في العموم فقط، لزم تكثير المجاز من غير عكس، ضرورة إنها مستعملة في الأكثر في الخصوص، وأنه خلاف الأصل. وسادسها: أن هذه الألفاظ لو كانت للعموم للزم من استعمالها حيث لا عموم نحو قول القائل: رأيت العباد، وطفت البلاد، ولبست الثياب، وركبت الخيول، واشتريت العبيد والجواري، الكذب ضرورة أنه ما رأى جميع العباد، ولا طاف جميع البلاد، ولا لبس جميع الثياب.

أما لو كان للخصوص لم يلزم من استعماله في العموم ذلك المحذور، ضرورة حصول الخصوص حيث حصل العموم، فكان جعله حقيقة في الخصوص أولى. وسابعها: وهو مختص بمن أنه لو كان للعموم لما جمع، لأن الجمع يجب أن يكون فائدته أكثر مما يفيده لفظ الواحد وليس بعد العموم كثرة، حتى يمكن أن يقال: أنه يفيدها، لكنه يجمع في حالة الوقف ومنه قول الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتم .. فقالوا الجن فقلت عموا ظلاما.

وبهذه الوجوه يتمسك من يقول: إن اللفظ الحقيقة في الخصوص فقط ومجاز في العموم. وثامنها: وهو حجة المتوقفين: أن العلم بكون هذه الألفاظ موضوعة للعموم، إما أن/ (213/ب) يكون ضروريا، أو نظريا، وكل واحد منهما، إما أن يكون عقليا، أو غير عقلي "سواء كان نقليا: [أو لا يكون نقليا] كالعلم الحاصل بعد الاستقراء والتتبع. والأول: باطل سواء كان عقليا، أو غير عقلي" لأنه لو كان كذلك لوجب اشتراك العقلاء فيه ولم ينفرد بالعلم به القائلون بالعموم مع أن غيرهم يشاركهم في السبب الموجب له، وكذا القسم الأول من الثاني، لأن دليله حينئذ يكون عقليا، إذ لا معنى للنظر العقلي إلا ما يكون دليله عقليا، لكنه باطل، إذ لا مجال للعقل في اللغات. وأما الثاني: فذلك الدليل النقلي، إما التواتر، أو الآحاد. والأول: باطل وإلا لعرفه الكل، وهذا إن قلنا: العلم الحاصل عقيب

التواتر نظريا، وإلا فهو داخل في القسم الأول. والثاني: لو سلم صحته وسلامته عن القدح والمعارض لا يفيد إلا الظن، لكن المسألة عملية فلا يجوز التمسك به عليها. وتاسعها: وهو أيضا حجتهم لأن الأدلة متعارضة، والاحتمالات متقاومة، والجزم بواحد ترجيح من غير مرجح، وبتقدير أن يكون المرجح لكن لا نزاع أنه ليس بقاطع لا يحتمل الخطأ بما يحتمله، فيجب التوقف دفعا لهذا المحذور. الجواب: عن الأول: ما سبق أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، ما لم يستلزم الاشتراك، أما إذا استلزمه فلا نسلم ذلك. سلمنا: أنه الأصل مطلقا لكن الأصل مطلقا لكن الأصل عدم الاشتراك أيضا، والمجاز وإن كان على خلاف الأصل، لكنه خير من الاشتراك على ما تم تقريره. وعن الثاني: إنا لا نسلم أن حسن الاستفهام، دليل الاشتراك، وهذا لأنه قد يحسن الاستفهام مع اتحاد المدلول الحقيقي للفظ، سواء كان له مدلول مجازي، أو لم يكن. أما الأول: فلأنه يحسن من السامع أن يستفهم من المتكلم، إذا قال: رأيت حمارا، أو لقيت بحرا، أردت به البليد والكريم، أم أردت به مدلولهما الحقيقي.

وأما الثاني: فكما إذا قال القائل: ضربت القاضي، فيقال: أضربت القاضي؟ فيقول: "نعم"، وتخلف المدلول وإن كان عن الدليل الظاهري خلاف الأصل، ثم السبب في حسن هذا الاستفهام من المتكلم الذي لا يجوز عليه السهو والمجازفة، تقوية الظن بما دل عليه اللفظ ظاهرا من العموم، وإبعاد التخصيص إن كان اللفظ عاما. وإن كان خاصا ففائدته التأكيد وفائدة التأكيد تقوية الظن وإبعاد التجوز وتوثيق السمع، احترازاً عن الاشتباه/ (214/أ) بكلمة أخرى هذا إذا كان مدلول اللفظ متحدا. أما إذا كان متعدد بحسب الحقيقة والمجاز، ففائدة هذا مع فائدة نفي إرادة المجاز منه، وإن كان المتكلم ممن يجوز عليه السهو والمجازفة فيحسن الاستفهام لما سبق. ولوجوه أخرى: نحو استبانة تحفظ المتكلم وتيقظه، فإن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه، أو هو ساه فيه فيستفهمه لاستبانة تحفظه وتيقظه. ونحو دفع المجازفة، عن الكلام، فإن السامع ربما ظن لأمارة أن المتكلم مجازف في الكلام، فيستفهم منع عن مدلول كلامه لشدة اهتمامه به، فربما بين تجرد المتكلم عن المجازفة في كلامه لشدة اهتمام السامع به. ونحو دفع المعارض، فإن السامع ربما ظن قرينة تقتضي تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فيستفهمه لدفع

تلك القرينة ليجري اللفظ على ظاهره. وعن الثالث: أن كون اللفظ دالا على الشيء يقينا، لا يدل على أنه مجاز في الزائد عليه، وإلا لزم النقض بالجمع المذكر، فإن دلالته على الثلاثة متيقنة، مع أنه ليس بمجاز في الزائد عليه وفاقا. سلمنا: سلامته عن النقض: لكنه معارض بما أن الحمل على العموم محصل لغرض المتكلم على التقديرين: أعنى إرادة العموم، أو الخصوص، والحمل على الخصوص غير محصل لغرضه على تقدير إرادة العموم، "فكان الحمل عليه" أولى. وعن الرابع: ما سبق في الأوامر. وأما قوله: يكون الاستثناء نقضا فممنوع، وهذا لأنه يجوز أن يكون قرينة دالة على إرادة الخصوص وحينئذ لا يلزم أن يكون نقضا. سلمناه: لكنه منقوض بألفاظ العدد، فإنها بالاتفاق حقائق فيها مع أنه يحسن الاستثناء منها.

وعن الخامس: أن ما هو على خلاف الأصل قد يصار إليه لقيام الدلالة عليه. وعن السادس: أنا لا نسلم لزوم الكذب فيما ذكروه من الأقوال، وهذا لأنه يجوز أن يريد به الخصوص، وإذ ذاك لا يلزم الكذب، لأن إرادة المجاز من اللفظ الصالح له ليس بكذب وإلا لكان قول القائل: رأيت حمارا، عندما رأى بليدا كذبا، وهو باطل بالاتفاق، وإنما يلزم ذلك من إرادة ما ليس اللفظ صالحا له لا حقيقة ولا مجازا، كما إذا رأى خمسة، فقال: رأيت عشرة، لأن لفظ العشرة لا يصلح للخمسة، لا حقيقة ولا مجازا. وعن السابع: أنا لا نسلم أنه جمع، ولا نسلم أن الواو واو الجمع بل هي متولدة من إشباع الحركة. سلمناه: لكنه شاذ لا عمل عليه على ما قاله: سيبويه رحمه الله تعالى. سلمنا: أنه ليس بشاذ، لكنه يصلح للواحد أيضا بلا خلاف، فلم لا يجوز أن يقال إن جمعها قرينة دالة على إرادته الواحد؟ سلمنا: أنه جمع المستغرقة، لكن لم لا يجوز أن يكون جمعا باعتبار اللفظ لا باعتبار المعنى؟ كما قيل: في "قفا" في شعر امرئ القيس، فإنه قيل: تثنية قوله:

قف، قف" وحينئذ لا يلزم أن لا يكون للعموم، وإنما يلزم ذلك أن لو كان جمعا باعتبار المعنى، فعلى هذا يصير تقديره، من أنت، من أنت. وعن الثامن: ما سبق في الأوامر.

ترتيب: أما من فرق من الواقفية بين الأمر والنهي والأخبار، والوعد والوعيد، فقد احتجوا بوجهين: أحدهما: أن الإجماع منعقد على أن أوامر الشرع ونواهيه عامة متناولة لجميع المكلفين ونحن متعبدون باعتقاد التعميم في التكاليف، وتعميم التكاليف إذا ورد الأمر والنهي مطلقا، فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم، لكان ذلك الإجماع خطأ، ولكان ذلك تكليفا بما لا يطاق، إذ التكليف بما لا يدل عليه اللفظ بصراحته ولا بظاهره، مع عدم ما يدل عليه من خارج تكليف بما لا يطاق، وهذا بخلاف الأخبار فإنه لا تكليف فيه. وثانيهما: أن الخير يجوز أن يرد بالمجهول من غير أن يعقبه أو يتقدمه بيان، كما في قوله تعالى: {ورسلا لم نقصصهم}، وقوله تعالى: {كم أهلكنا قبلهم من قرن}، وقوله: {قرونا بين ذلك كثيرا}. بخلاف الأمر والنهي، فإنه لا يجوز أن يردا بالمجهول من غير أن يعقبه أو يتقدمه بيان، فالحاجة إلى وضع لفظ يدل على تعميم التكليف أكثر من وضع لفظ يدل على تعميم الأخبار. الجواب عن الأول: بمنع ما ذكروه من الفرق، وهذا لأن من الأخبار ما

كلفنا باعتقاد تعميمه، والإجماع منعقد على وجوب اعتقاده على وجه التعميم، كقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير} {والله بكل شيء عليم} {الله خالق كل شيء}، وكذا عمومات الوعد والوعيد لاسيما التي تتعلق بأصول الدين كقوله عليه السلام: "يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان"، وكقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وإذا لم يصح ما ذكروه من الفرق وجب أن يثبت التعميم في الأخبار كما ثبت في الأوامر والنواهي بعين ما ذكروه.

وعن الثاني: أنا لا نسلم امتناع ورود الأمر بالمجهول، وهذا لأن تكليف ما لا يطاق جائز عندنا. سلمنا: امتناعه لكن لا نسلم جواز ورود الأخبار بالمجهول فيما كلفنا بمعرفته وبوجوب اعتقاده، كما ذكرنا من الأخبار، فعلى هذا لا يتحقق زيادة الحاجة في الأمر نعم: يجوز ذلك في الأخبارات التي ما كلفنا بمعرفتها، لكن لا فصل بين خبر وخبر بالإجماع. سلمنا: زيادة الحاجة، لكن لا نسلم: أنها توجب الوقوع لا بد لهذا من دلالة. سلمنا: أنها توجب ذلك، لكن بالنسبة إلى مقاصد الوضع الشرعي، "أو بالنسبة إلى مقاصد الوضع" اللغوي. الأول: مسلم. والثاني: ممنوع. لكن لا نسلم: أن اللغات توقيفية حتى يلزم أن يقال: إن الواضع لا يخل بغرضه ظاهرا.

المسألة الخامسة في أقل الجمع

المسألة الخامسة في أقل الجمع قد ذكرنا أن الجمع عند الأكثرين، محمول على أقل الجمع، فيحتاج أن تعرف أن أقل الجمع ماذا؟ فنقول: ذهب عثمان رضي الله عنه، وابن عباس، وابن مسعود،

والشافعي، وأصحابه، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأكثر المتكلمين رحمهم الله إلى أنه ثلاثة. وذهب زيد بن ثابت. ومالك.

وداود الظاهري، والقاضي أبو بكر، والأستاذ أبو إسحاق، وبعض أصحابنا كالغزالي، وغيره، إلى أنه اثنان، ونسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري أيضا. وقيل لم يتحقق النقل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، بأن الاثنين أقل الجمع بصراحته، وإنما نسب ذلك إليه، لأنه يرى أن الاثنين من الأخوة والأخوات يردان الأم من الثلث إلى السدس كالثلاثة منهم مع ورود النص بصيغة الشرط، وهو قوله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس}.

ومحل الخلاف إنما هو في اللفظ الذي هو مسمى بالجمع نحو "الرجال" و"المسلمين" لا في لفظ الجمع الذي هو مركب من "الجيم" و"الميم" و"العين". احتج الأولون بوجوه: أحدها: ما روي عن ابن عباس أنه قال لعثمان بن عفان- رضي الله عنهم- حين رد الأم في الثلث إلى السدس بأخوين، استدلالا بقوله تعالى {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} ليس الأخوان أخوة في لسان قومك، فقال عثمان رضي الله عنه: "لا استطيع أن أنقض أمرا كان قبلي

وتوارثه الناس". ولولا أن ذلك بمقتضى اللغة لما احتج به/ (215/ب) ابن عباس على عثمان ولما أقره على ذلك لأنهما من أرباب اللسان، بل كان يجب عليه

أن يرد عليه كيلا يقره على الباطل ويوهم لغيره به. وعورض هذا: بما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (الأخوان أخوه). ويمكن أن يرجح الأول للكثرة ولعظم مرتبتهما وعلمهما. وثانيها: أن صيغة الجمع ينعت بالثلاثة فما فوقها فيقال: رجال ثلاثة وأربعة، وبالعكس، فيقال: ثلاثة رجال وأربعة، ولا يجوز أن ينعت الاثنين بالرجال، ولا الرجال بالاثنين، فلا يجوز أن يقال: اثنان رجال ولا رجال اثنان فدل على أن الرجال ليست باثنين، ولا: الاثنين ليسا برجال. واعترض عليه: بأنه لا يدل على أن الاثنين ليسا بجمع، لاحتمال أن تكون "الثلاثة" نعتا لجمع خاص، وهو الرجال، و"الاثنان" نعتا لجمع خاص

وهو الرجلان. وهو ضعيف، لأن الثلاثة والاثنين على تقدير أن يكون جمعا نعت للرجال، والرجال غير مختص بالثلاثة عند الخصم، بل يتناول الاثنين- أيضا- كتناوله الثلاثة والأربعة والخمسة، إذ هو باعتبار الجمع فوجب أن لا يختص نعته بها أيضا جريا للإتباع، وحملا على سائر المراتب. وثالثها: أن أهل اللغة فصلوا بين "التثنية" وبين "الجمع" فوضعوا الرجلين للتثنية، ورجالا للجمع، كما فصلوا بين الواحد والجمع فقالوا: في الواحد "رجل" وفي الجمع "رجال" فكما فرقنا بينهما، وجب أن يفرق بين التثنية والجمع. وهو ضعيف، لأن الخصم يقول: بمقتضاه، فإنه يفرق بينهما فرق بما بين العام والخاص، "نعم" لو قيل وجب أن يفرق بينهما بالتباين، كما فرق بينهما بالتباين كان أولى، لتحصيل المقصود، لكنه غير لازم إذ مقتضى الفصل بين الصيغتين، الفصل بين مدلولهما ولو ببعض الوجوه، لا الفصل بينهما من كل الوجوه.

ورابعها: أنهم فصلوا بين الاثنين، وبين ضمير الجمع، فقالوا: في الاثنين: "فعلا وافعلا"، وقالوا: في الجمع "فعلوا وافعلوا" فإطلاق ضمير الجمع على التثنية رفع لهذا الفصل. وهو أيضا ضعيف، لأنه لا يرفع الفصل على ذلك التقدير أيضا، لأنه حاصل بأن لا يطلق ضمير التثنية على ضمير الجمع. وخامسها: أنه يصح سلب الرجال عن الاثنين، إذ يصح أن يقال: "ما رأيت رجالا، وإنما رأيت رجلين" وقد عرفت أن صحة السلب دليل التجوز. واعترض عليه: بمنع صحة السلب مطلقا بل إنما يصح ذلك لو أريد بالرجال/ (216/أ) ما زاد على الاثنين. فإن قلت: المعارف بلغة العرب يجد من نفسه صحته، وإن لم يعلم إرادة المتكلم. قلت: لو سلم لكم فإنما كان كذلك، لأن سلب الرجال عن الاثنين وإثباته، قرينة دالة على أنه أراد من الرجال الزايد على الاثنين، ولا يخفى

عليك دفعه مما سبق. وسادسها: أنه لو نذر أن يتصدق بدراهم، أو وصى بها، أو أقر بها فإنه يلزمه الثلاثة. وهو ضعيف جدا، فإن ما ذكروه من المسائل من تفاريع المسألة، والخلاف فيه كما في الأصل، فكيف يتمسك به؟ واعلم أن "من" تفاريع المسألة أيضا: جواز تخصيص الجمع العام إلى الاثنين، فمن قال: إنه أقل الجمع جوز تخصيصه إليه كالثلاثة، ومن لم يقل بذلك لم يجوز ذلك، كما لم يجوز تخصيصه إلى الواحد. واحتج الآخرون بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين} وأراد داود وسليمان عليهما السلام. وجوابه: منعه، بل الضمير عندنا: راجع إلى الأنبياء، وذكرها كالمشعر لذكرهم، أو إليهما، أو إلى المحكوم عليه، وله، لأن لفظ الحكم يدل عليه

إذ الحكم لا يتم إلا بمحكوم عليه، وله، والحاكم. وثانيها: قوله تعالى: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} وأراد به يوسف وأخوه. وجوابه منع إرادتهما فقط، بل أرادهما مع أخيهما الثالث، الذي قال: {لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي}. وثالثها: قوله تعالى: {إنا معكم مستمعون} أراد "به" موسى وهارون. وجوابه: أنه أرادهما وفرعون وقومه، إذ البعث يدل على المبعوث إليه.

ورابعها: قوله تعالى:} وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض} قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم}. وجوابه: إن الخصم يطلق على الواحد والجمع، كالضيف، يقال هذا خصمي، وهؤلاء خصمي، كما يقال: هذا ضيفي وهؤلاء ضيفي. وليس في الآية ما يدل "على" أن كل واحد من الخصمين كان واحدا. ولقائل أن يقول: إن ظاهر قوله تعالى: {إن هذا أخي له تسع

وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} يدل على أن كل واحد من الخصمين كان واحدا ويعضده روايات أكثر المفسرين أيضا. وخامسها: قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}. وجوابه: أن الطائفة من المؤمنين قد تكون جمعًا، وليس في الآية ما يدل/ (216/ب) على أن الطائفة كانت واحدة أو اثنين، بل سياقها يدل على أنها جمع. وسادسها: قوله تعالى: {وإن كان له إخوة فلأمه السدس}.

والمراد: الأخوان، لأنهما يردان الأم من الثلث إلى السدس أيضًا: والأصل عدم دليل آخر لاسيما حيث يلزم منه مخالفة دليل آخر كما هو هاهنا، لأن تقدير وجوده يلزم مخالفة مفهوم الشرط. وجوابه: منع أن المراد منه الأخوان، بل المراد منه الثلاثة، وإنما ورثناها السدس مع الأخوين، بدليل الإجماع، كما وقعت الإشارة إليه في حديث عثمان رضي الله عنه، ولا يعد في مخالفة المنطوق للإجماع فضلا عن المفهوم. فإن قلت: لا نزاع في حصول الإجماع، لكن لا بد للإجماع من مأخذ. فنقول: الأصل عدم ذلك المأخذ لاسيما عندما يكون مستلزما لمخالفة دليل آخر، والآية صالحة لأن تكون مأخذا له فتضاف إليه، دفعا للمحذور المذكور. قلت: لما حصل الإجماع على ذلك "و" علمنا أن الإجماع لا يحصل إلا بمأخذ، وإلا لكان باطلا، علمنا أنه لابد له من مأخذ.

بقي أن يقال: ذلك المأخذ هو الآية لما ذكروه. فنقول: إن ادعيتم أن الآية صالحة له بطريق التجوز فمسلم ولا يضرنا. وإن ادعيتم أنها صالحة له بطريق الحقيقة فممنوع. وكيف لا وما ذكرنا من الدليل ينفيه؟ والإضافة إلى الشيء بعد صلاحيته له وحينئذ يلزم أن للإجماع ما أخذ آخر قطعا. وسابعها: قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}. ووجه التمسك بالآية ظاهر، فإنها خطاب مع الاثنين، ومعلوم أنه ليس للاثنين سوى قلبين، وقد جمع في الآية فعلم أن أقل الجمع اثنان. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن القلب قد يطلق على الميل الحاصل في القلب إلى الشيء، إما تجوزا تسمية للحال باسم المحل، أو حقيقة نظر إلى الاشتقاق، فإن العضو المخصوص إنما يسمى به لتقلبه والميول في القلب متقلبة فجاز أن يسمي قلوبا، ومنه يقال للمنافق: "ذو قلبين لميلانه إلى الجنبين" ويقال لمن

لا يميل إلا إلى الشيء الواحد: "ذو قلب واحد" وإذا كان كذلك جاز أن يكون المراد من القلوب هي الميول المختلفة الحاصلة في قلبيهما، وإذا جاز ذلك وجب حمله عليه لوجهين: أحدهما: أنه تعالى وصف القلوب بالعضو/ (217/أ)، والعضو المخصوص لا يوصف به لأنه لا يميل في ذاته. وثانيهما: للجمع بين ما ذكرنا ومن الدليل وبين الآية. وثانيهما: أنه إنما جمع استقلالا للجمع بين تثنيتين، ولهذا كان التعبير عن عضوين من جسدين في اللغة الفصيحة بلفظ الجمع. وثامنها: وهو من جهة السنة قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة".

وجوابه: أنه محمول على بيان حكم الشرع، وهو إدراك فضيلة الجماعة في الصلاة، لا على بيان حكم اللغة إذ الغالب منه عليه السلام تعريف الأحكام الشرعية.

وقيل إنه عليه السلام: "نهى عن السفر إلا في جماعة" فبين أن الاثنين فما فوقها جماعة، لئلا يظن دخوله تحت النهي. وتاسعها: وهو من جهة الاشتقاق، أن في الاثنين معنى الاجتماع حاصل كما في الثلاثة وما زاد عليها وكان إطلاق اسم الجماعة على الاثنين حقيقة. وجوابه: أنا لا نسلم أنا ما منه اشتقاق اسم الشيء إذا كان حاصلا في غيره يجوز إطلاق ذلك الاسم عليه فضلا عن أن يكون حقيقة فيه، وسنده لا يخفي عليك مما سبق في اللغات.

سلمناه: لكن ليس النزاع في اسم الجمع والجماعة، وما فيه حرف الجيم، والميم والعين بل عن لفظ "الرجال" و"المسلمين" فأين أحدهما عن الآخر وهذا يصلح أن يكون جوابا عن الخبر، وإن لم أر لأحد منهم تعرض له. وعاشرها: وهو التمسك من جهة الإطلاق أن الرجل قد يقول إذا رأى أن امرأته تبرجت لرجل بعد رجل: أتتبرجين للرجال؟ وكذلك الخائف إذا أقبل عليه رجلان قد يقول: أقبل الرجال، والأصل في الإطلاق الحقيقة. وجواب الأول: أنا لا نسلم أنه يطلق الرجال على الرجلين، بل على مسمى الرجال وهو الثلاثة وما زاد عليها، وإن لم يكن قد شاهد ذلك لظنه أنها ما تبرجت لرجل بعد رجل وإلا والتبرج للرجال دأبها، ولهذا قد يقوله: وإن رأى أنها تبرجت لواحد. سلمناه: لكنه مجاز للقرينة لظنه أن المحذور الواقع من التبرج للواحد وللاثنين كالمحذور الواقع من التبرج للثلاثة وما زاد عليها. وعن الثاني: أن ذلك على جهة التجوز لقرينة الحث على الاجتماع والتناصر، ولهذا قد يقوله: وإن كان المقبل واحدا لكي يحث أنصاره على نصره.

المسألة السادسة [في حكم نفي الاستواء بين الشيئين]

المسألة السادسة [في حكم نفي الاستواء بين الشيئين] نفي الاستواء بين الشيئين كما في قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} يقتضي نفي الاستواء من جميع الوجوه فيما بينهما إلا ما خصه الدليل، عند أكثر أصحابنا القائلين بالعموم: حتى تمسكوا بهذه الآية على عدم وجوب القصاص على المسلم بقتل الذمي.

وذهبت الحنفية وبعض أصحابنا كالغزالي والإمام: إلى أنه لا يقتضي ذلك، بل مقتضاه نفي الاستواء ولو من بعض الوجوه. احتج الأصحاب بوجوه: أحدها: أن مفهوم قولنا: (يستويان) أعم من أن يكون في بعض الأمور أو في كلها بدليل صحة انضمامه إلى كل واحد منهما من غير تناقض وتهافت، إذ يصح أن يقال: يستويان في بعض الأمور، ويصح أيضا أن يقال: يستويان في كلها، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركا ونفي المفهوم العام ينفي كل فرد من أفراده، فإن نفي الحيوان: يقتضي نفي كل واحد من أفراده، من الإنسان، والفرس، والحمار، وغيرها من أفراد أنواعه. فقولنا: لا يستويان، يقتضي [نفي] كل فرد من أفراد يستويان. وثانيها: أن قول القائل: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، في

قوة قوله: لا مساواة بينهما. أو هو يفيد نفي المساواة بينهما من كل وجه، لما ثبت أن النكرة في سياق النفي تعم، فيقتضي قولنا: لا يستويان نفي كل واحد من أفراد المساواة، وهو المطلوب. وثالثها: لو كفى في إطلاق نفي المساواة بين الشيئين نفى المساواة بينهما ولو من بعض الوجوه، لصدق "إطلاق" نفي المساواة على كل شيئين، لأن كل شيئين لابد وأن يستويان من بعض الوجوه أقله في التعين والتشخص وإذا صدق على كل شيئين أنهما لا يستويان، وجب أن لا يصدق عليهما أنهما يستويان، ضرورة كونهما متناقضين في العرف، ألا ترى أن من قال: هذان الشيئان يستويان، فمن أراد تكذيبه من أهل العرف قال: "إنهما لا يستويان" ولولا أنهما متناقضان وإلا لما استعملا في التكاذب، لكنه باطل. أما أولا: فلأن أهل اللغة والعرف. يطلقون من غير نكير المثلين أنهما يستويان، والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأما ثانيا: فلأن كل شيئين لا بد وأن يستويا في أمور نحو الشيئية، ونفي ما عداهما عنهما والمعلومية والمذكورية فيصدق/ (218/أ) عليهما أنهما فيها، فمتى صدق المفيد صدق المطلق، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فيلزم أن لا يلغي في إطلاق نفس المساواة بين الشيئين نفي المساواة بينهما من بعض الوجوه، بل من كل الوجوه، وهو المطلوب.

احتجوا بوجوه: أحدها ضد هذا الذي ذكرناه: وتقريره أنه لو كفى في إطلاق لفظ المساواة على الشيئين استواؤهما من بعض الوجوه لوجب أن يصدق على كل شيئين أنهما يستويان، لما سبق من وجوب استواء كل شيئين في بعض الأمور وإذا أصدق ذلك وجب أن لا يصدق على كل شيئين أنهما لا يستويان، إما سبق من أنهما متناقضان في العرف، ومن المعلوم أن المتناقضين لا يصدقان معا، لكنه باطل. أما أولا: فلأن أهل اللغة والعرف جميعا: يطلقون من غير نكير على الضدين والمتناقضين، أنهما لا يستويان، والأصل في الإطلاق الحقيقة. وأما ثانيا: فلأن كل شيئين لا بد وأن يتفاوتا في بعض الأمور، نحو اليقين والشخصية فيصدق عليهما أنهما لا يستويان فيه، ومتى صدق المقيد صدق المطلق "به"، ضرورة كونه جزءا منه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فيلزم أن لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة على الشيئين المساواة من بعض الوجوه، بل من كل الوجوه وإذا اعتبر الكلي في جانب الإثبات وجب أن نعتبر الجزئي في جانب المنفي، لما سبق أنهما متناقضان، ونقيض الموجب الكلي السالب الجزئي. وثانيها: نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من بعض الوجوه ومن نفيه

من كل الوجوه، بدليل صحة تقسيمه إليهما ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركا، والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار له بهما. وثالثها: أنه لو اقتضى قولنا: "لا يستويان" نفى الاستواء من كل وجه لما صدق قولنا: "لا يستويان" على شيئين أصلا بطريق الحقيقة، لما سبق من أن كل شيئين لا بد وأن يستويان في بعض الأمور، لكنه خلاف الأصل فمستلزمه أيضا أن يكون خلاف الأصل. الجواب عن الأول المعارضة: بما سبق من الوجه الثالث: ويسلم لنا الوجهان. وعن الثاني: إنا لا نسلم أن نفي الاستواء أعم من نفيه من بعض الوجوه ومن نفيه من كل الوجوه، وما ذكره من الدلالة عليه لو سلم فهو معارض بما أن الاستواء أعم من الاستواء "من"/ (218/ب) بعض الوجوه، ومن كل الوجوه بعين ما ذكرتم والنفي داخل على الاستواء فيقتضي نفيهما جميعا، لأن نفي العام يقتضي نفي كل أنواعه وأفراد أنواعه. وعن الثالث: أنا لا نسلم الملازمة، ولكن نقول خلاف الأصل قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه.

المسألة السابعة [الخلاف في عموم المقتضي]

واعلم أنا في هذا المقام وإن نصرنا مذهب الأصحاب، لكن الحق أن قوله: يستوي أولا يستوي، من باب المجمل على التواطئ، لا من باب العام ونظيره أيضا قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} وما ذكر" من أنهما يستعملان في التكاذب في العرف مطلقا، فليس كذلك بل لقرينة خالية أو مقالية تدل على تعين ما فيه الاستواء أو عدمه. المسألة السابعة [الخلاف في عموم المقتضي] المقتضى على ما عرفت معناه في اللغات لا عموم له.

خلافا لبعض الشاذين. والدليل عليه: أن الإضمار على خلاف الأصل، خالفناه في إضمار حكم واحد ضرورة صدق المتكلم في كلامه، فإنه لو لم يحمل قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" على رفع حكم من أحكامه الدنيوية، نحو "الضمان" أو الأخروية، نحو"التأثيم" لزم الكذب في كلامه عليه السلام ضرورة أن نفس الخطأ والنسيان غير مرفوع فيبقى ما عداه على الأصل حذارا عن تكثير مخالفة الأصل. ولا يخفى عليك أن هذا الدليل غير مختص بالمقتضى، بل يعمه والمضمر فيكون الحكم ثابتا في الإضمار أيضا. احتجوا بوجوه:

أحدها: أن الرفع فيما ذكرتم من الحديث، داخل على نفس الخطأ والنسيان فيقتضي رفعهما، ولما تعذر ذلك وجب حمله على رفع جميع أحكامها، لأن حمل اللفظ على المجاز الذي هو أقرب إلى الحقيقة واجب، ورفع جميع الأحكام أقرب إلى الحقيقة ما اقتضاء الحديث رفع نفس الخطأ والنسيان، ورفع نفسهما يستلزم رفع جميع صفاتهما وأحكامهما، ولا شك أن هذا المفهوم أقرب إلى الحقيقة من رفع بعض الصفات والأحكام، ولا يخفى عليك أن هذا الدليل لا يتأتى في جميع أنواع الاقتضاءات. وجوابه: أن الحمل على أقرب المجاز إنما يجب لو لم يكن الحمل عليه مستلزما لمحذور أما إذا كان مستلزما لمحذور كما هو في مسألتنا من تكثير مخالفة الأصل فلا نسلم ذلك. وثانيها: أنه ليس إضمار بعض الأحكام أولى من إضمار البعض الآخر، فأما أن لا يضمر شيء منها وهو باطل وفاقا، أو يضمر الكل وهو المطلوب. وجوابه/ (219/أ): أنا لا نضمر حكما معينا حتى يقال: إنه ليس [أولى] من الآخر، بل نضمر حكما ما والتعيين موكول إلى الدليل الخارجي، وهذا وإن أن يلزم منه الإجمال قبل الاطلاع على الدليل وهو

خلاف "الأصل"، لكن في الحمل على العموم يلزم زيادة الإضمار وزيادة مخالفة الدليل الدال على ثبوت الأحكام، وهو الفعل الذي صدر على وجه الخطأ والنسيان مقتضي لثبوت تلك الأحكام مطلقا. فإن قلت: لا نسلم أنه مقتضي لثبوت الأحكام مطلقا، بل شرط وهو صفة العمدية والشيء ينتفي لانتفاء شرطه، فليس هو مقتضي للأحكام قبل حصول شرطه فلا يلزم منه مخالفة الدليل. قلت: توقيف المقتضي على الشرط خلاف الأصل بل سقط من الأحكام، ما سقط تخفيفا، ولذلك ثبت بعض الأحكام، نحو وجوب الضمان، وعند هذا نمنع أن ما ذكروه من المحذور يزيد على هذا الذي ذكرناه. وثالثها: أنه في العرف محمول على العموم، بدليل قولهم: ليس للبلد "سلطان ولا ناظر ولا مدبر، فإنه محمول على نفي جميع صفاته المطلوبة من السلطان من العدل والحراسة ونفاذ الأمر حيث تحقق نفس السلطان، فكذا في اللغة والشرع إذ الأصل عدم التعبير. وجوابه: منع أنه محمول على جميع الصفات يدل على الذي دل

المسألة الثامنة [في عموم الفعل المتعدي إلى مفعولاته]

عليه سياق الكلام من العدل أو غيره، بدليل أنه يقال ذلك وإن كان نافذ الأمر عظيم الشوكة إذا كان ظالما فاجرا. المسألة الثامنة [في عموم الفعل المتعدي إلى مفعولاته] الفعل المتعدي إلى مفعول، هل له عموم بالنسبة إلى مفعولاته أم لا؟ اختلفوا فيه. فذهب الإمام الشافعي وأصحابه، والقاضي أبو يوسف رحمهم الله تعالى إلى أن له عموما بالنسبة إليها. وذهب أبو حنيفة، وبقية أصحابه- رحمهم الله تعالى- إلى أنه ليس له عموم.

وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا حلف الرجل فقال: والله لا آكل أو [إن] أكلت فأنت طالق، ونوى مأكولا فإنه لا يحنث بأكل غيره عند القائلين بعمومه: لأن العام يقبل التخصيص ونيته مخصصة له، ويحنث عند من لا يقول بعمومه، لأن ما ليس بعام يقبل التخصيص فلا يؤثر فيه التخصيص. وكذا لو حلف وقال: والله لا [أ] ضرب أو إن ضربت فأنت طالق، ونوى الضرب بآلة بعينها، فإنه لا يحنث بالضرب بغير تلك الآلة عند القائلين بالعموم. وهكذا إذا حلف على الخروج وقال: والله لا اخرج/ (219/ب)، أو إن خرجت فأنت طالق، ونوى مكانا بعينه فإنه لا يحنث بالخروج إلى غيره عند القائلين بالعموم هكذا نقله "الشيخ" الغزالي رحمه الله تعالى، وهو مخل بترجمة المسألة بما ذكرناه، لأن الضرب والخروج غير متعد

إلى "الآلة" و"المكان" اللهم إلا أن يريد بقوله: الفعل المتعدي إلى مفعول أعم من أن يكون متعديا بنفسه أو بالحرف، سواء كان مع الحرف أو لم يكن، وحينئذ يشتمل الخلاف الأفعال كلها. احتج الأصحاب بوجهين: أحدهما: أنه لو قال: إن أكلت أكلا فأنت طالق، أو قال: والله لا آكل أكلا، ونوى مأكولا بعينه لا يحنث بغيره إجماعا. فكذا لو قال: إن أكلت، أو قال: والله لا آكل، لأن الأول إنما قبل فيه التخصيص عنده لوجود المصدر الذي يتناول القليل والكثير وهو موجود في الفعل ضمنا ضرورة أنه مشتق منه والمضمر كالملفوظ، بدليل أنه لو قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى ثلاثا تصح "نيته" إجماعا. وما ذكر الإمام في جوابه: وهو أن المصدر هو الماهية، وهي غير قابلة للتخصيص، وأما قوله: "أكلا" فهو ليس في الحقيقة مصدر، لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا، والمصدر ماهية الأكل، وقيد كونه منكرا خارج عن الماهية. فضعيف، لأنه مخالف لقاعدة أهل العربية اجمع من وجهين: أحدهما: أنهم صرحوا أن المصدر يتناول القليل والكثير، وما يكون كذلك يكون قابلا للتخصيص.

وثانيهما: أنهم اتفقوا على أن قول القائل: أكلت أكلا، وغسلت غسلا وما يجري مجراه منصوب على المصدر، فلو لم يكن قوله: "أكلا" مصدرا لكان ذلك خطأ إذ لك يكون على التجوز ويعرف ذلك بأدنى تأمل. وثانيهما: وهو أنا وإن سلمنا: أنه لا يقبل نية التخصيص باعتبار تضمنه المصدري لكن يقول: "إن قوله": إن أكلت، يستدعي مأكولا مطلقا ضرورة كونه متعديا إليه، ولا شك أن المطلق سائغ في كل ما يدخل تحته من المقيدات، "ولا شك" في جواز إطلاق وإرادة المقيد- على ما عرفت ذلك في اللغات- فيجوز تفسيره بمأكول معين من بين جميع المأكولات، هذا كله في طرق الإثبات. وأما في طرق النفي: نحو قوله: والله لا آكل، ونوى مأكولا معينا، فالأمر أظهر لأن قوله: والله لا آكل، يقتضي نفي ماهية الأكل، وقد عرفت أن نفي الماهية يستدعي نفي كل فرد من أفرادها، فقوله: والله لا آكل، يقتضي نفي كل واحد من/ (220/أ) الأكلات التي تتعدد بحسب المأكولات، "و" إذا كان كذلك كان قابلا للتخصيص، كالنكرة في سياق النفي.

اتجه الإمام للخصم: بأنه لو صحت نية التخصيص [لصحت]: أما في الملفوظ، أو في غيره، والقسمان: باطلان فبطلت نية التخصيص. أما الأول: فلأن الملفوظ ليس إلا الأكل وهو ماهية واحدة، لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام، و "بين" أكل ذاك الطعام، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له، فالأكل من حيث إنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذاك غير مستلزم له، فالماهية من حيث إنها ماهية لا غير لا تقبل العدد، ولا تقبل التخصيص "نعم: لو احتفت بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا وذاك فهناك تصير متعددة، فتصير قابلة للتخصيص" لكنها غير ملفوظة فالمجموع الحاصل من الماهية، وسائر عوارضها الخارجية التي هي غير ملفوظة، غير ملفوظ، فلو صحت نية التخصيص غير الملفوظ، لكن هذا القسم أيضا باطل، لأن إضافة ماهية الأكل إلى "الخبز" تارة والى "اللحم" أخرى إضافة تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به، وإضافتها إلى هذا اليوم، وذاك اليوم، وهذا المكان، وذاك

المكان، إضافة تعرض لها بحسب اختلاف المفعول فيه. ثم اجمعنا: على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح، فكذا لو نوى التخصيص بالمفعول به بجامع رعاية الاحتياط في تعظيم اليمين. وهو ضعيف: لأنه لا يلزم من إبطال قبوله التخصيص بحسب اختلاف المفعول به على القياس على المفعول فيه أن لا يقبله باعتبار غير الملفوظ مطلقا، لأن اعتبار غير الملفوظ غير منحصر فيما ذكره من اختلاف المفعول به، وهذا لأن من المحتمل أن يقبله باعتبار ما تضمنه من المصدر كما سبق، ومن المعلوم أنه لا يمكن إبطاله بما سبق من القياس، لأن تضمن الفعل المصدر وتناول المصدر القليل والكثير، ليس ذلك أمرا عارضا حاصلا لهما بالإضافة إلى شيء آخر، بل بالذات والوضع. سلمنا: انحصاره فيه، لكن الفرق بين دلالة الفعل على المفعول به، وبين دلالته على المفعول فيه ظاهر. وبيانه: من حيث الإجمال والتفصيل: أما الأول: فلأنهم اتفقوا على أن المفعول به يجب أن يقام مقام الفاعل في فعل ما/ (220/ب) [لم] يسم فاعله، وإن وجدت سائر المفاعيل من المفعول المطلق، والمفعول معه، والمفعول فيه، وذلك يدل على أن دلالة

الفعل على المفعول به أقوى من دلالته على سائر المفاعيل. وأما الثاني: فلأن المفعول به لازم من لوازم الفعل المتعدي لا ينفك عنه لا في الوجود الخراجي ولا في الذهني إذ لا يمكن أن يوجد فعل متعدي في الخارج إلا وله مفعول، وكذلك لا يمكن أن يتصور في الذهن بدونه، بخلاف المفعول فيه من المكان والزمان، فإنه ليس لازما من لوازمه لا في الوجود الخارجي، ولا في الذهن بدليل أفعال الله تعالى: نحو "الخلق" فإنه قد انفك عن المفعول فيه من المكان والزمان، فإن خلقه العالم لم يكن في زمان ولا في مكان. وأما قوله تعالى: {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} فمؤل وفاقا، بل إن كان بينهما ملازمة كما في فعل المحدث فبسبب أمر عارض لا لنفسهما وإلا لما انفكا.

واحتجوا أيضاً بوجهين "آخرين": أحدهما: أن القول بعمومه قول بعموم المقتضي، وهذا لأن إضمار المأكول في قوله: والله لا أكل، من ضرورة تحقق الأكل كما أن إضمار الملك في قول القائل: اعتق [عني] عبدك بألف، من ضرورات تحقق العتق ضرورة أن اللفظ في الصورتين لا يتعرض للمأكول، ولا للملك، وقد سبق أن المقتضي لا عموم له، فلا عموم للفعل المتعدي إلى مفعول أيضا. وجوابه: منع أن إضمار المأكول في الأكل كإضمار الملك فيما ذكروه من الفعل، وهذا لأن دلالة الفعل المتعدي على المفعول به بحسب الصيغة والوضع وأما دلالة الكلام على المقتضي فليس كذلك، بل هو لضرورة وجود المذكور أو لضرورة صدق الكلام كما سبق نظيرهما جميعا. وثانيهما: أن قوله: إن أكلت فأنت طالق، المحلوف عليه هو الأكل الكلي المطلق الصادق على كل أكل، والكلي الصادق لا يقبل التخصيص، إذ لا تعدد فيه. وجوابه: ما سبق في الاستدلال، وهو أنه وإن لم يقبل التخصيص، لكن يقبل التقييد فتصح نية التعيين.

المسألة التاسعة [الخطاب المختص بالنبي لا تدخل تحته الأمة]

المسألة التاسعة [الخطاب المختص بالنبي لا تدخل تحته الأمة] الخطاب المختص بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: [{يا أيها النبي}] {يا أيها الرسول} لا يدخل تحته الأمة عندنا: إلا إذا دل دليل على دخولهم تحته، فحينئذ ثبت الحكم فيحقهم بذلك الدليل لا بالخطاب. كما لا يدخل الرسول تحت الخطاب المختص بالأمة وفاقًا، لا نعرف فيه خلافًا/ (221/أ) وهو قوله: يا أيها الأمة.

خلافاً للحنفية، والحنابلة، فإنهم قالوا: يدخل تحته الأمة إلا إذا دل دليل على أن ذلك الحكم من خصائص الرسول، فحينئذ لا يدخلون تحته. لنا: أنه لو دل الخطاب على دخولهم تحته، لدل عليه إما بلفظه، أو بمعناه: أعني به أن مجرد شرعيته في حقه عليه السلام، دال على شرعيته في حقهم، والقسمان: باطلان فبطل القول بالدخول. وإنما قلنا: أنه لا يدل عليه بلفظه، لأن اللفظ مختص به عليه السلام موضوع له على سبيل الخصوصية، واللفظ الممنوع لمعنى على الخصوصية لا يتناول غيره لاسيما إذا كان مضادا له في الوصف الذي تختلف الصيغة بحسبه كوصف الوحدة والجمع في مثالنا إلا بطريق التجوز، وهو مع كونه خلاف الأصل يتعذر المصير إليه هنا، لأنه يقتضي الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ممتنع عند الخصم.

وإنما قلنا: إنه لا يدل عليه بمعناه: لأن شرعية الحكم في حق شخص معين لمصلحة، لا يستلزم شرعيته في حق الآخر لتلك المصلحة أو لمصلحة أخرى، لاحتمال أن تكون مفسدة في حقه، ولهذا اختص النبي [عليه السلام] بجملة من الأحكام لا يشاركه فيها غيره. وشرط الدلالة المعنوية الاستلزام فيستحيل أن يدل عليه بحسب المعنى أيضا. فإن قلت: ماذا تعني بقولك شرط الدلالة المعنوية [الاستلزام تعني به] الاستلزام القطعي، أو الظاهري. فإن عنيت به الأول: فممنوع. وإن عنيت به الثاني فمسلم: لكن لا نسلم أنه غير حاصل، وما ذكرتم من الاحتمال فغير قادح فيه، لأنه احتمال مرجوح بدليل أن الغالب الاشتراك في الأحكام، وذلك يدل على أن الاشتراك في المصلحة غالب فشرعيته في حقه عليه السلام يغلب على الظن شرعيته "في حقهم". قلت: الدليل على أنه غير حاصل، أنه قد ظهر بما ذكرنا أن احتمال المصلحة والمفسدة قائم في شرعيته في حق الآخر والخصم يدعي أن أحد الاحتمالين وهو احتمال المصلحة راجع على الأخر، لكن الأصل عدمه. وأما قوله: إن الغالب المشترك في الأحكام، "وذلك يدل على أن الغالب الاشتراك في المصلحة. قلنا: نسلم لكن التسوية في الأحكام" حينئذ مستفادة من دليل آخر

غير اللفظ الدال على الحكم في حقه عليه السلام، وغير نفس شرعيته في حقه عليه السلام، وذلك مما لا نزاع فيه، فإنا نقول/ (221/ب): أيضا لو دل دليل على التسوية نحو قوله تعالى {ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ونحو إلحاق الفرد بالأعم والأغلب، ونحو العلم بعلة الحكم وحصولها في حقهم ليثبت الحكم في حقهم أيضا: وإنما النزاع أنه هل يدل عليه الخطاب أم لا؟، وذلك إما بنفسه، أو بمعناه، وقد ظهر فساد القسمين. احتجوا: بأنه يفهم في العرف من خطاب المقدم على قوم ومن يقتضي به الخطاب معهم ألا ترى أن السلطان إذا قال لمقدم العسكر: اركب للثارة وشن الغارة، فإنه يفهم منه أمر العسكر بأسرهم بذلك، ولهذا فإن من يتخلف منهم من غير عذر فإنه يستحق اللوم والتوبيخ، وهكذا في الأخبار أيضا: بأنه إذا قيل: فتح الأمير البلد الفلاني، وكسر الجيوش، وقتل الأعداء، فإنه يكون إخبارا عنه وعن أتباعه. وجوابه: أن ذلك لقرينة تحصيل المقصود، لا من نفس الخطاب، بدليل عدم الاطراد، ولو كان مستفادا من الخطاب لا طرد معه وبدليل صحة السلب، فإنه يصح أن يقال: أمر المقدم ولم يأمر الأتباع، وبدليل عدم الحنث به إذا

المسألة العاشرة [الخطاب المتناول للرسول والأمة]

حلف أن لا يأمر الأتباع، وتلك القرينة هي أن ركوب المقدم وحده للثارة، وشن الغارة، غير كاف في تحصيل المقصود والأمر يجب حمله على ما يحصل المقصود، وكذا القول في الأخبار، إذ من المعلوم أن الأمير وحده لم يفعل ذلك "بل" بأتباعه. واحتجوا: أيضا بأن الصحابة كانوا يعتقدون دخولهم تحت الخطاب المختص به عليه السلام إذا ورد في قاعدة ليس "له" فيها خصائص فكان ذلك إجماعا. وجوابه: منع ذلك ولو سلم، لكنه للقرينة بدليل أنهم لم يعتقدوا ذلك إذ ورد في قاعدة له [فيها] خصائص كالنكاح ولو كان ذلك مستفادا من الخطاب لما كان كذلك كالخطاب الوارد بلفظ يشملهما، فإنه لا تختلف دلالته بحسب اختلاف القواعد. المسألة العاشرة [الخطاب المتناول للرسول والأمة] الخطاب المتناول للرسول والأمة كقوله [تعالى]: {يا أيها الناس}

{يا أيها الذين آمنوا} و {يا عبادي} يشملهما عند الأكثرين. وذهب شذوذ من الناس إلى: أنه مختص بالأمة "لم" يدخل تحته النبي عليه السلام. ومنهم: من فصل كالصيرفي من أصحابنا بين ما يكون مصدرا بأمر الرسول بالتبليغ كقوله: {قل يا أيها الناس}، وبين ما لا يكون كذلك كما سبق فقال بعموم: الثاني دون الأول.

احتجوا بوجهين: أحدهما/ (222/أ): أنه عليه السلام يشاركنا في كثير من الأحكام الثابتة بالخطاب المتناول له ولنا، نحو وجوب الصلاة، ووجوب شرائطها، ونحو وجوب الزكاة والصيام والحج وأمثالها، فلو لم يكن ثبوت تلك الأحكام في حقه عليه السلام بتلك الخطابات لكانت أدلة تلك الأحكام غيرها، لكن الأصل عدمها فهي إذا هي. وثانيهما: أن لفظ "الناس" يتناوله عليه السلام كتناوله لغيره، بل أولى إذ هو سيد الناس ومنصب نبوته لا يمنع من دخوله تحته، بدليل أنه لو صرح به لم يلزم منه محذور ومن مخالفة الدليل وغيرها، ولو كان مانعا للزم ذلك، وحينئذ يجب دخوله تحته عملا بمقتضى العموم. ومنهم من تمسك بوجه أخر وهو أنه: أنه عليه السلام كان إذا أمر أصحابه بشيء ولم يفعله فإنهم كانوا يسألونه، ويقولون: ما بالك لم تفعل، كما روى عنه عليه السلام: "أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ولم يفسخ هو فقالوا: أتأمرنا بالفسخ ولم تفسخ، ولم ينكر عليهم ذلك، بل اعتذر وقال: إني قلدت الهدى" ولو لم يكن قد تقرر عندهم دخوله

فيما أمرهم به لما سألوه عن ذلك. ولقائل: أن يقول عليه: لعل ذلك لعلة التسوية في الحكم دون عموم الخطاب، وهذا لأنا لا نعلم أن ذلك الأمر كان صادرا بلفظ عام بحيث كان يتناوله أيضا: وليس في الحديث ما يشعر به، بل الظاهر أنه كان بحيث لا يتناوله، لأنه كان خطاب مشافهة معهم، والآمر غير داخل في مثل هذا الأمر وتعليلهم بقولهم: إنك أمرتنا، أو تأمرنا، مع عدم تعرضهم لعموم الأمر، يشعر بذلك إشعارا ظاهرا. احتج الأقلون بوجوه: أحدها: أن له عليه السلام خصائص في الأحكام، فليخص بكل ما يعني به. وجوابه: أنه لماذا يلزم من الأول الثاني، فإن كان ذلك بطريق القياس فأين الجامع؟ وإن كان بغيره فبينه. سلمناه: لكنه منقوض بما أن لبعض أصناف الناس، كالمريض والمسافر والمرأة والحائض خصائص، مع اندراجهم تحت عموم الخطاب. سلمنا: سلامته عن النقض، لكن نقول: خصائصه أقل بالنسبة إلى ما يشاركنا فيه والحمل على الأكثر أولى.

وثانيها: أن منصبه يقتضي إفراده بالذكر، لما فيه من التعظيم الزائد على ذكره مع غيره في خطاب واحد. وجوابه: منعه، سلمناه: لكن هذه الدلالة الضعيفة لا تعارض/ (222/ب) دلالة عموم اللفظ. وثالثها: أنه لو كان داخلا تحت تلك الخطابات، لكان مبلغا ومبلغا إليه وهو ممتنع. وجوابه: أنه ممتنع "لكن" باعتبار واحد، أما باعتبارين فلا، والرسول عليه السلام: مبلغ إليه باعتبار إبلاغ جبريل عليه السلام إليه، ومبلغ باعتبار إبلاغه إلى الأمة فلا منافاة بينهما.

المسألة الحادية عشرة [أقسام اللفظ بالنسبة إلى الدلالة على المذكر والمؤنث]

المسألة الحادية عشرة [أقسام اللفظ بالنسبة إلى الدلالة على المذكر والمؤنث] اعلم أن اللفظ بالنسبة إلى الدلالة على المذكر والمؤنث على أقسام أربعة: أحدها: لفظ يختص بكل واحد منهما، ولا يطلق احدهما على الآخر بحال وهو كلفظ الرجال في المذكر، والنساء في المؤنث، فها هنا اتفقوا: على أن كل واحد "منهما" من المذكر والمؤنث لا يدخل تحت الخطاب الوارد باللفظ المختص بالآخر. وثانيها: "لفظ" يتناولهما جميعا، إذ ليس لعلامة التذكير والتأنيث فيه مدخل بحال، وهو كلفظ الناس فها هنا اتفقوا: أيضا على أن كل واحد من المذكر والمؤنث يدخل تحته.

وثالثها: لفظ يشملهما جميعا وإن كان لعلامة التذكير والتأنيث فيه مدخلا جوازا وجوبا، وهو كلفظ "من" فها هنا ذهب الأكثرون أيضا إلى أنه يشملهما جميعا إن ورد مجردا من علامة التأنيث. وأنكره بعض الحنفية. ثم اعلم أن كلام إمام الحرمين "رحمه الله تعالى": يشعر بتخصيص الخلاف في "من" الشرطية. والظاهر أنه يعمه والاستفهام فيه، والموصولة. حجة الأكثرين: الإجماع على تعميمه في مثل قول الرجل: من دخل داري

من أرقائي فهو حر، فإنه يعتق عليه كل من دخل داره من عبيده وإمائه، وكذا في الوصية، والتعليق، والتوكيل. احتجوا: بقول العرب: من، ومنه، و"منان" ومنتان، ومنون، ومنات، فصار كلفظ: مسلم، ومسلمة، ومسلمين، ومسلمات، وسيأتي إن ذلك لا يعم فكذا هذا. وجوابه: أن هذا وإن كان جائزا، لكن لا يجب فإنهم اتفقوا: على أن الأصح استعماله فيهما من غير علامة. ورابعها: لفظ يستعمل فيهما، لكن بعلامة التأنيث في المؤنس وبحذفها في المذكر وجوبا "وهو" كلفظ: مسلمين، ومسلمات، وقام

وقامت وقاما وقامتا وقاموا، و"قمن" فها هنا: اختلفوا فيه: فذهبت الشافعية، وجمهور الحنفية، والشاعرة، والمعتزلة: إلى أن المؤنث لا يدخل تحت الخطاب الوارد به أن/ (223/أ) ورد مجردا من علامة التأنيث إلا قرينة منفصلة. وذهب الحنابلة، والظاهرية، إلى أنه يشتملهما ظاهراً ولا يخرج

عنه المؤنث إلا المنفصل. ثم إن كلام إمام الحرمين يشعر بتخصيص الخلاف في الخطابات الواردة في الشرع لقرينة غلبة المشاركات في الأحكام الشرعية. واتفق الكل على أن المذكر، لا يدخل تحته إن ورد مقترنا بعلامة التأنيث. احتج الأكثرون بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} الآية، عطفت المؤمنات على المؤمنين، فلو كان لفظ المؤمنين متناولا للمؤمنات، لكان ذلك من باب عطف الخاص على العام، ففائدته التأكيد لا غير ولو لم يكن متناولا، لكان ذلك من باب عطف المغاير على المغاير وفائدته التأسيس، وقد عرفت أن الحمل على الفائدة التأسيسية الأولى. وثانيها: ما روي في سبب نزول ما تلونا من الآية وهو: أن

أم سلمة قالت رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النساء قلن ما نرى الله ذكر إلا الرجال "فأنزل الله الآية المذكورة". ولو كانت الآية متناولة لهن لما صح قولها: ما نرى الله ذكر إلا الرجال".

والتقرير عليه، لأن نفي ذكرهن مطلقا، يقتضي نفي ذكرهن ولو بالتضمن والالتزام، بدليل صحة تقسيمه إلى الثلاثة اللهم إلا أن يضمر فيه، ويقال: المراد منه: ما نرى الله ذكر على التخصيص إلا الرجال، لكنه خلاف الأصل. وثالثها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سمعت عن النبي عليه السلام يقول: "ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون".

قالت: هذا للرجال فما للنساء؟ فلم يرد عليه السلام عليها السؤال بل أجاب، ولولا خروجهن عن الجمع المذكور، لما صح [السؤال] ولا التقرير عليه، وسؤال التخصيص ساقط بالكلية هنا، لأن سؤالها عن الوعيد، وذلك لا يختلف من أن يكون صريحا أو ضمنا. ورابعها: وهو من الوجه المعقول: وهو أن الجمع تضعيف الواحد، وقولنا "مسلم" و"قام" لا يتناول المؤنث بالإجماع، فكذا "مسلمون" و"قاموا" لا يتناوله وإلا لم يكن تضعيفه. وخامسها: أنا اجمعنا على أن مسلمين حقيقة في الجمع المذكر الصرف فلو كان حقيقة أيضا في الجمع المذكر والمؤنث لزم الاشتراك، وأنه خلاف الأصل. احتجوا "بوجوه:"

أحدها: "أن أهل اللغة" قالوا: إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلب التذكير، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {اهبطوا} في خطاب ادم وحواء وإبليس. وجوابه: أنه لا يلزم من صحة إرادة الشيء عن الشيء إرادته منه إذا ورد مطلقا من غير قرينة تدل على إرادته، فإن المجاز كله شأنه ما ذكرناه مع أنه لا يحتمل اللفظ عليه عند الإطلاق، فلا يلزم من صحة إرادة المذكر "والمؤنث من الجمع المذكر" على وجه التغليب للقرينة إرادته منه إذا ورد مطلقا. أو نقول بعبارة أخرى: وهي أن اللازم مما ذكرتم أنه متى أراد معبر أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان التعبير بالجمع المذكر متعينا إذ هو معناه، وهذا لا يقتضي أنه متى كان التعبير بالجمع المذكر كان المعبر عنه الفريقين إذ القضية الكلية لا يجب أن تنعكس كنفسها. وثانيها: أن أكثر أوامر الشارع بخاطب المذكر، مع انعقاد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في تلك الأحكام، فلولا دخولهن تحت تلك الأوامر لما كان الحكم ثابتا في حقهن إذ الأصل عدم دليل آخر. وجوابه: أن ذلك لدليل نحو الإجماع، والقياس، وغيرهما، بدليل عدم دخولهن في كثير من الأحكام الثابتة بخطاب التذكير، نحو الجمعة والجماعة، والجهاد، وعيادة المريض، وزيارة القبور، فإن تخلف المدلول عن الدليل خلاف الأصل، ولو عورض بهذا الأصل، بما ذكروه من الأصل،

كان المقصود أيضا: حاصلا إذ يوجب سقوط ما ذكروه من الدليل، مع أن الحق عدم التعارض. أما أولا: فلأن ما ذكروه من خلاف الأصل واقع لا محالة لوجود الدليل الآخر كما سبق. وأما ثانيا: فلأن محذور ترك الدليل الشرعي أكثر. وثالثها: أن الرجل من "أهل" اللسان، إذا سال أهل قرية أو حلة حين عبوره عليهم، فإنه يقول: كيف أنتم، وأنتم آمنون، ولم يقل: أنتم آمنون ونساؤكم آمنات، ولو قال "ذلك": لاستهجن منه، وذلك يدل على أن النساء يدخلن تحت قوله: أنتم آمنون. وجوابه: أنه لا نزاع في دخولهن تحته، واستهجان السؤال عنهن ثابتا، لكن لا نسلم أن ذلك بدلالة لفظية، وليس فيما ذكرتم ما يدل على أنه بدلالة لفظية، بل ليس فيه إلا دخولهن تحته ونحن نقول به: لكن بدلالة معنوية: وهي أن أمن الرجال يستلزم الأمن من جميع المخاوف المتعلقة بهم/ (224/أ) من النفس والمال والنساء والأولاد والأتباع، فلو لم تكن النساء آمنات لما حصل الأمن للرجال، فلهذا كان الجواب عن أمن الرجال جوابا عن أمنهن أيضا.

المسألة الثانية عشرة [الخطاب المضاف إلى الناس وبني آدم يدخل تحته العبد والكافر]

المسألة الثانية عشرة [الخطاب المضاف إلى الناس وبني آدم يدخل تحته العبد والكافر] الخطاب المضاف إلى الناس وبني آدم، وما يجري مجراهما في العموم يدخل تحته العبد والكافر عندنا: لأنهما من الناس وبني آدم حقيقة فكانا داخلين تحت الخطاب، إذ الأصل عدم المخصص. وقال قوم: لا يدخل تحته العبد والكفار. وهؤلاء إن زعموا أن اللفظ لا يتناولهم من حيث اللغة فهو جهالة، وإن زعموا أن اللفظ يتناولهم، لكن الرق والكفر في الشرع يخصصهم فهو أيضا: باطل، لأن الرق والكفر غير مانعين من إيجاب الأحكام على العبد والكافر

مطلقا، بدليل وجوب كثير من الأحكام عليهما، وتخلف المدلول عن الدليل خلاف الأصل، بل لو منعنا فإنما يمنعان من بعض الأحكام نحو الأحكام التي تتوقف على المالكية والإيمان فيكونان مخصصين لهما بالنسبة إلى ذلك البعض من الأحكام ونحن نقول بذلك: فإنه إذا دل دليل من خارج أن الكفر والرق مانعان من ثبوت حكم فإنا لا نقول اندراجهما تحت الخطاب الدال على ثبوت ذلك الحكم، أما الحكم بكونهما مانعين على الإطلاق فذلك غير جائز. احتجوا بوجوه في العبد، إذ الكلام في الكافر ما سبق في الأوامر فلا حاجة إلى الإعادة. أحدها: أن حقوق السادات مستغرقة لمنافع العبيد، لأن لهم استخدامهم في كل وقت، وذلك بمنعهم من الدخول تحت الخطاب. فإن قلت: لا نسلم أن حقوقهم مستغرقة لمنافعهم، ولا نسلم: أن لهم استخدامهم في كل وقت حتى في وقت يتعين فيه فعل العبادة، بل إنما لهم ذلك إذا فرغوا من تكاليف الشرع. قلت: الدليل عليه: أن الذي يدل على وجوب خدمة السيد من النص المناسب المقتضي لذلك "الرق" [أو غيرهما] لا إشعار له بوقت دون وقت، فلو خصصنا وجوب خدمة السيد ببعض الأوقات لزم تطرق التخصيص إليه، وأنه خلاف الأصل.

وجوابه: أنا لو لم نقل بتخصيصه لزم أيضا تطرق التخصيص إلى النصوص الدالة على وجوب تلك العبادات عليهم وعلى الأحرار، فلم كان هذا/ (224/ب) التخصيص أولى بالالتزام من ذلك التخصيص، وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون، ثم أنه معنا، وذلك لأن النصوص الدالة على وجوب العبادة كالخاص بالنسبة إلى الأدلة الدالة "على" وجوب خدمة السيد، لأن وجوب كل عبادة من الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات يخصه لفظ، وما دل على وجوب خدمة السيد ليس كذلك، لأن "كل" نوع من أنواع الخدمة ليس يخصه لفظ ولا للرق إشعار به على التخصيص وتخصيص الأعم بالأخص أولى من العكس، والأصل عدم مخصص آخر. فإن قلت: ما ذكرتم من المرجح معارض بوجه آخر وهو: أن حق العبد مقدم على حق الله تعالى، لأنه مبني على الشح والتضيق، وحق الله تعالى على السهولة والترفق، ولذلك يقدم الدين على الزكاة على رأي.

قلت: لا نسلم أن حق العبد مقدم على حق الله تعالى عند التعارض والفوات، وأما كونه مبني على المسامحة والمساهلة فلا يدل عليه، لأن معناه: أنه شرع حق لله تعالى على نوع من اليسر "ولم يشرع حق العبد على ذلك النوع من اليسر نحو قبول الرجوع عن الإقرار في حدود الله" وعدم تتبع المحدود إذا هرب، بخلاف الرجوع عن الإقرار فيما يتعلق بحق العبد فإنه لا يقبل، وبخلاف ما إذا هرب في استيفاء حق

العبد فإنه يتبع لأنه عند التعارض والفوات مقدم على حق الله تعالى وتقديم الدين على الزكاة ممنوع على الآخرين من سلم انه مقدم لكن في البعض لا في الكل، فلم قلتم "إن" ما نحن فيه من ذلك البعض لا بد لهذا من دليل. وثانيها: أن العبد يشبه البهائم، من حيث إنه مال للسيد يباع ويشترى وجناياته تضمن بما نقص من قيمته، والبهائم لا تدخل تحت خطاب التكليف فكذا هذا. وجوابه: أن مشاركة الشيئين في بعض الأمور أو اللوازم لا توجب اشتراكهما في كلها، هذا إن ذكر بطريق الوجوب، وإن ذكر بطريق القياس فمع وضوح الفارق المناسب لا تصح الإضافة إلى ما ذكروه من الجامع. وثالثها: وهو العمدة لهم أنا لو قلنا: بدخولهم تحت الخطاب فحيث لم يدخلوا، كما هو في كثير من الخطابات يلزم الترك بالدليل.

فلو قلنا: بعدم دخولهم فحيث دخلوا كان ذلك لدليل آخر، وترك مقتضي الدليل/ (255/أ) خلاف الأصل، وما يستلزم خلاف الأصل فهو أيضا خلاف الأصل، أما إثبات الحكم بدليل زائد ليس خلاف الأصل، فكان القول بعد دخولهم أولى. وجوابه: أن دليلكم يقتضي عدم دخولهم تحت الخطاب، وذلك قد يكون بأن اللفظ لا يتناولهم، وقد يكون بأن الرق اللازم لهم يخصصهم: فإن كان مقصودكم من هذا الدليل عدم دخلوهم على الطريق وهو الظاهر من كلامكم فقد ذكرنا أن ذلك جهالة، ونزيد هنا إنا إنما نتكلم في هذه المسألة تفريعة على القول بالعموم، وما ذكرتم يرفعه فلا يسمع في هذا المقام. وإن كان مقصودكم منه عدم دخولهم على الوجه الثاني، فالمحذور المذكور لازم عليكم أكثر مما لزمنا مع زيادة محذور آخر، وهو ترك مقتضى التخصيص حيث دخلوا فما هو جوابكم فهو جوابنا.

المسألة الثالثة عشرة [الخطاب الخاص بواحد خطاب للباقين]

المسألة الثالثة عشرة [الخطاب الخاص بواحد خطاب للباقين] الخطاب الخاص لغة بواحد من الأمة، هل هو خطاب للباقين أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب الجماهير إلى أنه ليس خطابا لهم. وذهب بعض الظاهريين إلى أنه خطاب لهم. لنا: أنه لو عم فعمومه، إما حقيقة أو مجاز. فإن كان الأول: فإما أن يكون من جهة وضع اللغة، وهو باطل، إذ المسألة مفروضة فيما إذا كان الخطاب خاصا بالواحد بالوضع اللغوي، أو من جهة وضع الشارع بأن نقله الشارع إلى العموم، وهو أيضا باطل، إذ النقل خلاف الأصل. وإن كان الثاني: فحمله على العموم يتوقف على وجود قرينة دالة على

إرادته، وعند ذلك لا يبقى نزاع فيه. فإنا نقول: أيضا بتعميمه إذ ذاك على وجه التجوز. ونفى إمام الحرمين رحمه الله تعالى الخلاف عن المسألة، وقال: لا شك في أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد ولا ينبغي فيه خلاف، فلا معنى للخلاف في المسألة. وفيه نظر: لأنه لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي، بل الذي نسلم عموم مقتضى الخطاب، وعموم مقتضى الخطاب غير عموم الخطاب قطعا، والنزاع إنما هو في الثاني لا في الأول. احتجوا بقوله عليه السلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة".

وجوابه: أن التعميم لو استفيد فإنما يستفاد من هذا الخطاب لا من خطاب الواحد الخاص به، والنزاع إنما هو فيه لا في غيره وأيضا قوله: "حكمي على الواحد حكمي/ (225/ب) على الجماعة" ليس فيه ما يدل على إن ذلك باعتبار اللفظ، بل هو أعم من أن يكون باعتبار اللفظ، أو باعتبار المعنى العام لا يدل على الخاص. وأيضا: لو كان التعميم مستفادا من خطاب الواحد، لكانت فائدة هذا الخطاب التأكيد لا غير، ولو لم يكن مستفادا منه لكانت فائدته التأسيس، والحمل عليه أولى من الحمل على التأكيد، لما فيه من زيادة الفائدة. فهذا الحديث بأن يكون حجة لنا أولى من أن يكون حجة علينا، وبما أنه عليه السلام إذا شرع حكما في حق بعض الصحابة فإن كان مختصا به ذكر ذلك وإلا سكت، وذلك يدل على أن شرعه في حقه شرع في حق الباقين،

وإلا ذكر التعميم حيث سكت، إذ التعميم غير مستفاد من السكوت لولا المقتضي، ولم يحتج إلى ذكر التخصيص حيث خصص إذ التخصيص بعد المقتضى للتعميم: بيان الأول بصور: احدها: ما روي أن أبا بكرة رضي الله عنه لما دخل الصف راكعا خوفا من الفوات قال عليه السلام: "زادك الله حرصا ولا تعد". وثانيها: أنه خصص عبد الرحمن بن عوف بلبس الحرير.

وثالثها: أنه خصص أبا بردة في أجزاء التضحية بعناق حيث قال: "تجزي عنك ولا تجزي لأحد بعدك".

......................................................................................

ورابعها: أنه خصص خزيمة بقبول شهادته وحده.

وخامسها: أنه خصص الأعرابي بسقوط كفارة رمضان حيث قال: "هذا لك وليس لأحد بعدك".

المسألة الرابعة عشرة [الخطاب الوارد شفاها يختص بالموجودين]

وجوابه: أنه إنما لم يذكر التعميم، بل كان يسكت لظهور علة إلحاق الغير به وهو اشتراكه في السبب الموجب به، وإنما كان تخصيص القطع الإلحاق به، إذ علة الإلحاق به ظاهرة، لأن الخطاب عام في نفسه. المسألة الرابعة عشرة [الخطاب الوارد شفاها يختص بالموجودين] الخطاب الوارد شفاها في عصر النبي عليه السلام كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} و {يا أيها الناس} يختص بالموجودين في عصره عليه السلام. ولا يتناول من يوجد بعدهم "عندنا وجماهير الفقهاء والمعتزلة ولا يثبت ذلك الحكم في حق من يوجد بعدهم" إلا بدليل آخر.

خلافاً لبعض الفقهاء، وطائفة من السلفيين والحنابلة. لنا: أن من لم يكن موجودا في ذلك العصر لم يكن إنسانا ولا مؤمنا به، فلا يكون اسم الإنسان والمؤمن متناولا لهم. ولأن شرط المخاطب أن يكون فاهما للخطاب، ولهذا يشترط أن يكون/ (226/أ) بالغا عاقلا وهو مفقود في المعدوم، فيستحيل أن يكون مخاطبا. فإن قلت: فما الذي يدل على أن مقتضاه ثابت في حق الذين يوجدون إلى يوم القيامة. قلت: الحق أن ذلك معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام، ولأن ما يدل على دوام شرعه إلى يوم القيامة، وكونه خاتم النبيين يدل على ذلك

أيضاً. فأما التمسك على هذا بمثل قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}. وقوله عليه السلام: "بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود".

و"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". فضعيف، لأن لفظ: الناس والأحمر والأسود والجماعة يختص أيضا بالموجودين وقت النزول إذ المعدوم لا يوصف بالأحمر والأسود والجماعة، فلا

يتناول من يوجد بعد نزول الخطاب، ولو صح اندراج من يوجد بعد نزول الخطاب تحت هذه النصوص لصح اندراجهم تحت قوله: {يا أيها الناس} و {يا أيها الذين آمنوا}، إذ ليس فيها إلا زيادة التأكيد. احتج الخصم بوجوه: أحدها: بما ذكر من النصوص: وجه الاستدلال بها أنه لو لم تكن خطابات القران العظيم وقت النزول خطابات متناولة لهم، لم يكن مبلغا إليهم الأحكام ولا رسولا إليهم ولا مبعوثا إليهم، وهو باطل وفاقا. وجوابه: منع اللازم، وهذا لأن تبليغ الأحكام وأداء الرسالة لا يتوقف على خطاب المشافهة حتى يلزم من فقده بالنسبة إلى قوم فقد أداء الرسالة إليهم، بل قد يكون بما ذكرتم، وقد يكون بالفعل "و" بالقرائن وينصب الأدلة والقياس، والذي يحقق ذلك أن النصوص قليلة والوقائع كثيرة، فمعرفة جميعها منها متعذر، فمعرفتها يكون بغيرها من الطرق، ولذلك عرف أكثر أحكام الصلاة والحج بفعله عليه السلام، وعرف أكثر الأحكام من المعاملات وغيرها بالقياس، والبراءة الأصلية. سلمنا: اللازم ودلالة هذه النصوص على المطلوب، لكن إنما يلزم الاندراج

بهذه النصوص لا بالخطاب الذي هو مثل {يا أيها الناس} أو {يا أيها الذين آمنوا} الذي وقع النزاع فيه. وثانيها: وهو التمسك بالإجماع، وتقريره أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتبع التابعين وهلم جرا إلى زماننا، يتمسكون في إثبات الأحكام على من وجد في زمانهم، ولم يكن موجودا/ (226/ب) في زمان النبي عليه السلام، بالآيات والأخبار [الواردة شفاها في عصر النبي عليه السلام، ولو لم تكن تلك الآيات والأخبار] متناولة لهم لم يصح الاستدلال بها وكان استدلالهم بها خطأ، وهو ممتنع من أهل الإجماع. وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك بتلك الآيات والأخبار وحدها، لاحتمال أن يكون ذلك بها، وبما عرف بالضرورة من عدم الفرق بين الموجودين في زمانه عليه السلام، وبين الموجودين بعده، وإنما لم يذكروا ذلك لاشتراك الكل فيه، والذي يحقق الاحتمال إنا لو لم نقل به لزم الترك بما ذكرنا من الدليل، وهو خلاف الأصل. ولو قلنا: به لزم إعماله وإعمال ما ذكرتم من الدليل أيضا فكان هذا أولى. وثالثها: وهو ما ذكر في المسألة السالفة من أن النبي عليه السلام إذا

شرع حكما في حق البعض، فإن حكم مختصا به ذكر تخصيصه به وإن لم يكن مختصا به سكت. فعلى هذا يقول: لو كان الحكم الثابت بخطاب المشافهة مختصا بالحاضرين لذكر ذلك، وحيث لم يكن ذلك دل على أنه عام في حق الكل. وجوابه: أنا لا نقول باختصاص الحكم بالحاضرين، بل نقول: باختصاص الخطاب لهم وفرق اختصاص الخطاب وبين اختصاص الحكم، فإن الخطاب قد يكون خاصا وما تضمنه من الحكم قد يكون عاما من حيث المعنى لقرينة تدل على عمومه، ولعموم علته، والحكم ما كان مختصا بالحاضرين كان يذكر التخصيص على ذاته. ورابعها: أنه عليه السلام إذا أراد التخصيص ببعض الأمة ذكر ذلك لما سبق. فعلى هذا يقول: لو لم يكن الخطاب العام المطلق يكون خطابا للكل لما احتاج إلى التخصيص. وجوابه: أن المعهود منه عليه السلام التخصيص ببعض الحاضرين ولا شك أن الخطاب عام بالنسبة إلى الحاضرين بأسرهم، فلا جرم احتاج إلى التخصيص في صورة التخصيص" فلم يدل ذلك على تناول الخطاب لمن بعدهم، نعم لو ثبت منه عليه السلام التخصيص ببعض من سيوجد بعده

المسألة الخامسة عشرة [دخول المخاطب تحت خطابه]

عليه السلام، كان ذلك محيلا لتناوله للكل، وعند ذلك يكون جوابه ما سبق في المسألة السالفة. المسألة الخامسة عشرة [دخول المخاطب تحت خطابه] المخاطب يدخل تحت خطابه إذا كان صالحا له، ولم تخرجه القرينة عند الجماهير. خلافا لبعض الشاذين. اعلم أن المسألة: قد تفرض في الأمر تارة، والكلام فيه قد سبق في

الأوامر، وتارة في النهي والكلام فيه على منوال ما سبق في الأمر، ومرة في الخبر وهو الذي يتعلق به غرضنا في هذا المقام. فنقول: الدليل عليه: أن اللفظ العام صالح له، إذ الكلام مفروض فيه، فوجب أن يدخل فيه كغيره، إذ لا مانع من الدخول، إذ الأصل عدم المانع ويؤكده الاستعمال كقوله تعالى: {والله بكل شيء عليم} وكقول القارئ: (السعيد من اتعظ بغيره).

احتجوا بوجهين: أحدهما: بقوله تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقوله: {والله على كل شيء قدير}، وذاته وصفاته أشياء وهو غير خالق لهما، وغير قادر عليهما، إذ الواجب لا قدرة عليه. ويقول السيد لعبده: من دخل داري فأعطه درهما، لو دخل لا يستحق الدرهم إذ يستحيل أن يستحق من ماله شيئا. وجوابه: أن الخروج للقرينة، فإن دليل الفعل دال على استحالة كون الشئ مخلوقا لنفسه، وكون الواجب مقدورا، وخروج السيد عما ذكروه من المثال للقرينة الحالية، وخروج الشئ عن عموم اللفظ لقرينة لا يقدح في العموم.

المسألة السادسة عشرة [حكاية النهي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفيد العموم]

وثانيهما: أنا لو لم نقل بالدخول فحيث دخل المخاطب تحت الخطاب لا يلزم الترك بالدليل إثبات حكم بدليل لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات. ولو قلنا: بالدخول فحيث لم يدخل يلزم الترك بمقتضى الدليل، خلاف الأصل فكان الأول أولى. وجوابه: ما سبق فيما سبق فلا حاجة إلى الإعادة. اعلم أن بعض هذه المسائل، وإن كان إيراده في الخصوص أولى، لكن إنما أوردناه هنا لمناسبة إخوانه من حيث الاندراج تحت الخطاب. المسألة السادسة عشرة [حكاية النهي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفيد العموم] قول الصحابي "نهى النبي عن بيع الغرر" و"قضى بالشفعة

للجار".

و"قضى بالشاهد واليمين"، وأمثالها، لا يفيد العموم عند

الأكثرين. وهو الحق، لأن ما ذكروه ليس لفظ الرسول، بل هو حكاية عن نهيه عليه السلام ولم يعلم عمومه، فلعل نهيه عليه السلام كان خاصا بصورة فيها غرر، فظن الراوي عمومه حتى روى ما روي، وكذا يحتمل أن يكون قضاؤه لجار معين من الشريك أو الملاصق، فظن الراوي عموم الحكم فروى صيغة العموم، وكذا يحتمل أن يكون قضاؤه بالشاهد واليمين في نوع معين من المال أو البضع أو الجناية، فظن الراوي تعميمه. وبتقدير أن يعلم ذلك النوع، فلعله كان في صورة خاصة لمعنى يخصها، وظن الراوي/ (227/ب) عموم الحكم، فروى صيغة العموم وإذا كان

احتمال الخصوص قائما كاحتمال العموم لم يجز الحكم بالعموم. لا يقال: احتمال العموم راجح، لأن الظاهر من حال الصحابي أن يكون عالما بعموم نهيه عليه السلام، أو بخصوصه، لأنه من أهل اللسان ودينه يمنعه من إطلاق ما يفيد العموم ما لم يقطع بعموم المحكي، أو يظن ذلك ظنا قريبا من القطع فإطلاقه للعموم دال على أنه قاطع بالعموم، أو ظان به ظنا قريبا من القطع، وإذا كان كذلك كان احتمال العموم راجحا لا محالة، والعمل بالظن واجب فيكون العمل بقوله: واجبا. لأنا نقول: اختلاف الناس في صيغ العموم مشهور، فلعله اعتقد فيما سمعه أو لغة من نهيه عليه السلام أنه من صيغ العموم، مع أنه ليس من صيغ العموم عند المجتهد، وليس من ظاهر حاله إصابته العموم المتفق عليه حتى يقال: إن كل من عمل بالعموم على مقتضى بقوله: رضي الله عنه عمل بما هو عنده من العموم. ودينه إنما يمنعه من إطلاق ما يفيد العموم، لو لم يعتقد عمومه، إما إذا اعتقد ذلك فلا، بل ربما يوجبه وأيضا: الظن النشئ من ظاهر حال المجتهد في الإصابة غير معتبر بالنسبة إلى المجتهد الآخر، ألا ترى أنه لو قال المجتهد

المسألة السابعة عشرة [في عموم الفعل]

البالغ في العلم والدين قولا في المسألة ولم يذكر المجتهد الآخر مدركه فإنه لا يجوز أن يقول به مع أن الظاهر أنه لم يقل به إلا عن مدرك صحيح، لما أنه كلف بالعمل بالقطع أو الظن الناشئ من مدرك الحكم. أما لو قال الصحابي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قضيت بالشفعة للجار"، فهذا أيضا: يحتمل أن يكون حكاية عن قضاء قضاه في الماضي لجار معروف والألف واللام للعهد، لكن جانب العموم ليرجح لأن احتمال بيان شرعية الحكم اظهر، إذ لا يستدعي ذلك تقدم القضاء وكون الألف واللام للعهد. وأما لو قال الراوي: "قضى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الشفعة للجار" فاحتمال العموم ها هنا أرجح مما إذا قال: "قضى بالشفعة للجار وهو جار". ما لو قال سمعته عليه السلام يقول: "قضيت بأن الشفعة للجار" فها هنا احتمال العموم أرجح مما سبق من المثالين قطعا. المسألة السابعة عشرة [في عموم الفعل] الفعل لا عموم له بالنسبة إلى الأحوال التي يمكن أن يقع عليها [حتى يثبت العموم] لأنه قد لا يمكن أن يقع على جميع/ (228/أ) تلك

الأحوال، لأن تلك الأحوال قد تكون مضادة، أو وإن أمكن وقوعه عليها حيث لا تضاد بينها لكن ليس بواجب أن يقع عليها حتى يثبت العموم، بل يحتمل أن يقع عليها ويحتمل أن يقع على وجه واحد منها، ومع الشك والاحتمال لا يثبت العموم. مثال الأول: ما روي عنه عليه السلام: "أنه صلى داخل الكعبة".

فهذا لا عموم له بالنسبة إلى الفرض والنفل معا، ولا يمكن أن يستدل به على صحة الفرض والنفل جميعا في داخل الكعبة، لأن الصلاة الواحدة يستحيل أن تقع فرضا ونفلا معا. مثال الثاني: ما روي عنه عليه السلام: "أنه صلى العشاء بعد غيبوبة الشفق". فيحتمل أن يكون بعد غيبوبة الشفق الأحمر، ويحتمل أن يكون بعد غيبوبة "الشفقين" الأحمر والأبيض ولا يثبت عمومه بالنسبة إليهما

ولا يجب أن يحمل أنه صلى بعدهما. وإن قيل: بجواز حمل المشترك على المفهومين لاحتمال أن يكون بعد غيبوبة الأحمر مع صدق اللفظ، بخلاف قوله: بعد الشفقين، فإن اللفظ لا يصدق نعم قوله: بعد الشفق، يكون كقوله: بعد الشفقين، على رأي من يقول: بوجوب حمل المشترك على المفهومين كالقاضي أبي بكر "رحمه الله"، لكن العموم لم يثبت له حينئذ، من حيث أنه فعل، بل من دلالة اللفظ، ونحن إنما ادعينا عدم عموم الفعل بالنسبة إلى الأحوال التي يمكن أن يقع عليها من حيث إنه فعل لا بالإخبار بصراحة الألفاظ عن كونه واقعا على جميع تلك الأحوال، فإن العموم حينئذ "للقول لا" للفعل. وأما قول الصحابي رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين".

من قبيل القسم الأول: إن قيل بأن: كان، لا يقتضي تكرار الفعل وهو الحق، لأن مقتضاه حينئذ هو الجمع مرة واحدة وهو إما في وقت الأولى "منهما"، أو في وقت ثانية، ويستحيل أن يكون الجمع مرة واحدة يقع فيهما. وأما إن قيل بأن: كان يقتضي التكرار في العرف، وإن لم يقتضيه في

اللغة، بدليل أنه لا يقال في العرف: فلان كان يتهجد إذا تهجد مرة واحدة. فهو من قبيل القسم الثاني: لأن مقتضاه وهو تكرار الجمع يحتمل أن يكون واقعا على وجه واحد، وهو إما في وقت الأولى أو في وقت الثانية، ويحتمل أن يكون واقعا على الوجهتين: بأن يكون بعضه في وقت الأولى وبعضه في وقت الثانية، وعلى التقديرين لا عموم له بالنسبة إلى الوقتين. ويجب أن تعلم أنه كما لا عموم له بالنسبة إلى الوقتين لا عموم له أيضا: بالنسبة إلى سفر النسك وغيره. وإن قيل بأنه: كان للتكرار، لأنه ليس من ضرورة تكرار الجمع أن يكون بعضه في سفر النسك وبعضه في غيره، بل يتصور ذلك في غير سفر النسك وفي سفر النسك وحده أيضا: اللهم إلا إذا أريد من الصلاتين نوعا واحدا من صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فإن تكراره في سفر نسكه عليه السلام غير متصور، وحينئذ يمكن الاستدلال بما رواه الصحابي على جواز الجمع في غير سفر النسك، لأنه حينئذ يتعين أن يكون المراد منه في غير سفر النسك، أما إذا لم نقل بهذا الاحتمال فلا. لا بطريق العموم ولا بطريق إرادته منه فقط. واعلم أيضا: أنه كما لا عموم للفعل بالنسبة إلى أحواله التي يمكن أن

يقع عليها، لا عموم [له] أيضا: بالنسبة إليه عليه السلام والى غيره، من حيث إنه فعل، بل لو ثبت له عموم فإنما يثبت ذلك الدليل من خارج نحو دليل التأسي به عليه السلام، إما مطلقا أو في نوع معين كالصلاة والحج كقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وكقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم". وأما ما ثبت من الأحكام على العموم، بما روي أنه فعله نحو شرعية سجود السهو بما روى أنه - عليه السلام -: "سهي فسجد". ووجوب

الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال بما روت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- (فعلته أنا ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] واغتسلنا".

ونحوهما من الأحكام، فليس ذلك لمجرد الفعل، بل لدليل آخر نحو الإشعار بالعلية، كما في سجود السهو ونحو القياس والإلحاق بالأعم والأغلب، كما في خبر التقاء الختانين.

المسألة الثامنة عشرة

المسألة الثامنة عشرة قال الشافعي رضي الله عنه: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. مثاله: أن ابن غيلان اسلم على عشرة نسوة فقال له الرسول عليه وسلم: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" ولم يسأله عن كيفية عقده عليهن في

الجمع والترتيب، فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق في هذا الحكم بين عقده.

عليهن جمعا وترتيبا. واعترض/ (229/أ) عليه: بأنه يحتمل أن يكون النبي عليه السلام عرف خصوص الحال، فأجاب بناء على ذلك، لا لأنه لا فرق بين تلك الحالة وغيرها في ذلك الحكم. وهو ضعيف، لأن من الظاهر أنه ليس المراد من قوله "رضي الله عنه" مع قيام الاحتمال، احتمال لفظ الحكاية لتلك الحالة، وإن فرض المسئول عالما بأن تلك الحالة غير مرادة للسائل، إما لعلمه بأن القضية لم تقع على تلك الحالة، أو لقرينة تدل على أن تلك الحالة غير مرادة له، بل المراد منه احتمال وقوع تلك القضية في تلك الحالة عند المسؤول مع احتمال

المسألة التاسعة عشرة [الحكم في واقعة مخصوصية يفيد العموم]

اللفظ إياها، وعند ذلك لا يخفي أنه يسقط ما ذكروه من الاحتمال. المسألة التاسعة عشرة [الحكم في واقعة مخصوصية يفيد العموم] اختلفوا فيما إذا حكم النبي عليه السلام بحكم في واقعة مخصوصة وذكر علته، كما في حكم الأعرابي المحرم الذي وقصت به ناقته بأنه لا يخمر رأسه ولا يقرب طيبا لعلة أنه يحشر يوم القيامة ملبيا حيث قال: "لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا"، وكما حكم في شهداء أحد بأنهم يدفنون على حالهم لعلة أنهم يحشرون على أثر الشهادة حيث قال: (زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم

تشخب دما". أنه هل يفيد تعميم الحكم حيث وجدت تلك العلة أم لا؟ فذهب الشافعي ومن تابعه إلى أنه يفيده. خلافا للقاضي أبي بكر

الباقلاني وإليه ميل الغزالي. واعلم: أنه لا يظن بالشافعي رضي الله عنه أنه قال ذلك: بناء على أن اللفظ يفيده، إذ ليس اللفظ الوارد في هذا الباب، مما يفيد التعميم لا بحسب اللغة، ولا بحسب العرف، بل إنما قال ذلك بناء على الاشتراك في العلة، فإن ذلك الوصف لحرف الفاء عقيب الحكم يفيد عليته، على ما ستعرف ذلك في القياس- إن شاء الله تعالى- والاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم، فيكون الحكم عاما لعموم علته لا لأن اللفظ يفيد تعميمه. فإن قلت: لا نزاع في أنه يفيد عليه ذلك الوصف لذلك الحكم، ولا نزاع أيضا في أنه حيث وجد ذلك الوصف وجد ذلك الحكم، لكن لم قلت: إن علة ذلك الوصف هو ما وجد من الإحرام، والشهادة، في ذينك المحلين لا غير حتى يلزم من تحقق الإحرام والشهادة بمجردهما تحقق هذين الحكمين، ولم لا يجوز أن يكون علته، هو المجموع الفاصل من كونه محرما ووقصت به/ (229/ب) ناقته؟ أو المجموع الحاصل من كونه محرما وما علم منه

المسألة العشرون [في عموم مفهوم الموافقة]

عليه السلام من حسن إسلامه وموته عليه وكونه مخلصا في أداء تلك العبادة؟ أو المجموع الحاصل من هذين المجموعين لا مجرد الإحرام؟. وكذلك القول في الشهادة فإنا نمنع أن تكون علة حشرهم على تلك الحالة هي الشهادة المجردة، ولم لا يجوز أن تكون العلة هو المجموع الحاصل منها ومن سبقهم في الإسلام، وعلو درجتهم فيه، وإخلاصهم في الجهاد؟ وهذا المجموع لا يحصل في كل شهيد، فلا يلزم [من] حصول ذلك الوصف، فلا يثبت ذلك الحكم. قلت: لا ننكر أن ما ذكرتم محتمل، لكن الاحتمال الأظهر المتبادر إلى الفهم عند سماع هذا الكلام، إنما هو التعليل بالإحرام والشهادة بمجردهما لما أنه عليه السلام جعل علة الحكم فيهما وصفين هما من آثار الإحرام والشهادة لا إشعار لهما بما ذكرتم من الأوصاف. المسألة العشرون [في عموم مفهوم الموافقة] اختلفوا في أن مفهوم الموافقة، على تقدير أن تكون دلالته معنوية، أو المخالفة على تقدير كونه حجة، هل له عموم أم لا؟ فأثبته البعض.

ونفاه البعض كا "لشيخ" الغزالي "رحمه الله تعالى". والحق أن النزاع فيه لفظي، لأن من قال: إنه عام فإنما قال ذلك: لأنه يثبت الحكم في جميع صور المسكوت عنه، إما على موافقة المنوط به، أو على مخالفته كاللفظ يثبت الحكم في جميع الصور مسمياته، ومن نفاه فإنما نفاه لأن دلالته ليست لفظية والعام عنده لفظ تتشابه دلالته بالنسبة إلى مسمياته، لا لأنه لم يثبت الحكم في جميع صور المسكوت عنه، فإن ذلك ينفي كونه حجة، والمفهوم ليس بلفظ فلا يكون عامًا.

واعلم أن الخلاف مبني على الخلاف في المعاني هل توصف بالعموم أم لا؟. وأولى بأن يكون له عموم لاتحاد النسبة وعدم التمييز ووجوب التعميم.

"القسم الثاني" في الخصوص

القسم الثاني في الخصوص

القسم الثاني في الخصوص وهو مرتب على مقدمة، وفصول. أما المقدمة ففيها مسائل:- المسألة الأولى في حد التخصيص قال أبو الحسين البصري: هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه. وهذا على رأي المعممين. أما على رأي الواقفية، والقائلين بالاشتراك: هو إخراج بعض ما يصح أن يتناوله الخطاب عنه، سواء كان الذي صح واقعا، أو لم يكن واقعا. اعترض على الأول: بأنه لا يصح على مذهب، أما على المذاهب الثلاثة أعني الاشتراك، والوقف، والخصوص فظاهر.

وأما على مذهب المعممين، فلأنه إن/ (230/أ) لم يقم دليل على مخالفة الحقيقة وجب إجراء اللفظ على ظاهره، وهو العموم، وحينئذ لم يتحقق الإخراج، وإن قام الدليل على مخالفة الحقيقة وامتناع العمل به في الاستغراق [وجب حمله على المجاز الذي هو الخصوص، وحينئذ لا يكون اللفظ متناولا للحقيقة، وهي الاستغراق]، فلا يتحقق إخراج بعض ما يتناوله الخطاب أيضا، لأنه مستعمل في المجاز حينئذ، وحين يكون اللفظ مستعملا في المجاز لا يكون مستعملا في الحقيقة، وعلى هذا فإطلاق القول بتخصيص العام، أو أن هذا عام مخصص لا يكون حقيقة. والحاصل أن اللفظ حين يكون محمولا على الاستغراق لا يتصور الإخراج منه، وحين يكون محمولا على الخصوص لا يتحقق تناول الاستغراق لعدم الاستعمال فيه. وهو ضعيف جدا، لأن التناول ليس عين الاستعمال، ولا هو مشروطا به حتى يلزم من انتفائه، فإن اللفظ متناول للحقيقة بطريق الوضع وإن كان مستعملا في المجاز، ولأن كون اللفظ متناولا لمعنى صفة حاصلة له أبدا بالوضع، وبالذات عند من يقول: إن دلالتها ذاتية. أما استعماله في معنى وإرادته منه فصفة حاصلة له من اللافظين

ويفارقه ويختلف باختلافهم من أهل ذلك اللسان، بل من لافظ واحد في ساعتين، بل في ساعة واحدة عند من يجوز استعماله في الحقيقة والمجاز، وإذا كان كذلك استحال أن يكون التناول عين الاستعمال أو مشروطا به. وتلخيص العبارة في ذلك أن يقال: إن تناول اللفظ لمعنى، كدلالة الدليل على المدلول، فكما أنه ليس من شرط دلالة الدليل على المدلول أن يكون ثابتا، بل يجوزان ألا يثبت لمانع، فكذا ليس من شرط التناول أن يكون المتناول مرادا، بل يجوز أن لا يكون مرادا لعدم الاستعمال فيه. فإن قلت: يجب تقييد التعريف "بالوضع" ليكون مانعا، وإلا لدخل فيه ما ليس منه، كالخطاب العام المحمول على عمومه، لأنه أخرج عنه بعض ما تناوله، وهو المعنى المجازي، لأن تناول اللفظ أعم من أن يكون بطريق الحقيقة أو بطريق التجوز، وكالخطاب المحمول على بعض مجازاته مصروف عن النقض، لأنه اخرج عنه بعض ما تناوله. قلت: من يجوز استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز، أو في المجازات بأسرها عند تعذر حمله على الحقيقة، فذكر التقييد يفسد/ (230/ب) التعريف عنده، لأنه حينئذ يصير غير جامع، إذ يخرج عنه ما ذكرتم من النوعين من الخطاب، مع أنها من جملة المخصوصات عنده. وأما من لم يجوز ذلك فلا حاجة عنده إليه، لأن اللفظ بمجرده لا يتناول المعنى المجازي عنده، إذ المعنى من التناول مما لو جرد النظر إليه لغلب على الظن إرادة متناوله كالدليل، والمعنى المجازي ليس كذلك بالنسبة إلى اللفظ

المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ

العاري من القرينة، فلا يكون متناولا له، وإنما هو بحيث يصح أن يتناوله. وإذا عرفت معنى التخصيص، فلا يخفى عليك أن معنى قولنا: عام مخصوص على رأينا، هو أنه مستعمل في بعض ما وضع له، وعلى رأي الواقفية والقائلين بالاشتراك: هو أنه أريد منه بعض ما يصلح له دون بعض، فيكون المخصص للعام حقيقة إنما هو إرادة المتلفظ، لأنها المؤثرة في استعماله في بعض ما يتناوله، "أو بعض ما يصح أن يتناوله" على اختلاف المذهبين. ويقال: على سبيل التجوز على الدليل الذي يعرف ذلك، وعلى الشخص الذي يقيم ذلك الدليل، وعلى الشخص الذي يعتقد التخصيص، أو يقول به سواء كان محقا فيه أو مبطلا. المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ قال الإمام رحمه الله تعالى: "لا معنى للنسخ إلا تخصيص الحكم

بزمان معين بطريق خاص، فيكون الفرق بينهما فرق ما بين العام والخاص. وفيه نظر: إذ لا يصح هذا الفرق بحسب اللغة، لأن معنى النسخ في اللغة هو الإبطال، أو النقل، والتحويل، على اختلاف فيه. وهو غير متضمن لمعنى التخصيص الذي هو الإفراد، ولا بحسب الاصطلاح وسيظهر لك ذلك مما نذكره من الفرق بينهما وهو من وجوه: أحدها: أن التخصيص مخصوص بالأعيان، والنسخ مخصوص بالأزمان، بدليل أنهما المتبادران إلى اأإفهام عند إطلاقهما. وثانيها: أن النسخ يرد على كل حكم ثبت بأي طريق كان، والتخصيص لا يتطرق إلا إلى ما ثبت بالألفاظ أو ما يؤول إليه: وثالثها: أن النسخ يتطرق إلى كل حكم سواء كان ثابتا في [حق شخص واحد] أو في حق أشخاص كثيرة، والتخصيص لا يتطرق إلى النوع الأول.

ورابعها: أنهم يعدون النسخ إبطالا، ولهذا يشترطون فيه ما لا يشترطون في التخصيص، بخلاف التخصيص، فإنهم يعدونه بيانا. ولهذا يتساهلون في إثباته وإن كان يرفع مقتضى اللفظ. وخامسها: أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ، بل يجب ذلك على رأي/ (231/أ)، وأما التخصيص فإنه لا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالمخصص وفاقا. وسادسها: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى، ولا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى، وهو من تفاريع الفرق الخامس. وسابعها: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص ليس كذلك، وهذا على رأي القاضي، وأما على رأي الأستاذ أبي إسحاق- رحمه لله تعالى- فإنه ينبغي أن يقال: هو انتهاء حكم كان ثابتا، والتخصيص ليس كذلك.

وثامنها: أن الناسخ يجب أن يكون متراخيا، والمخصص [لا يجب فيه ذلك، بل يجوز أن يكون مقارنا، ويجوز أن يكون متقدما. وتاسعها: أن التخصيص] يقع بالإجماع، والنسخ لا يقع به. وعاشرها: أن تخصيص المقطوع يقع بالظنون كخبر الواحد والقياس، ونسخه لا يقع به. وحادي عاشرها: أنه يجوز تخصيص الخبر ولا يجوز نسخه، وهذا على رأي أكثر المتقدمين. وثاني عشرها: الناسخ يجب أن يكون طريقا شرعيا، والمخصص لا يجب أن يكون كذلك، فإنه يجوز التخصيص بالعقل والحس.

المسألة الثالثة [إطلاق العام وإرادة الخاص]

المسألة الثالثة [إطلاق العام وإرادة الخاص] يجوز إطلاق العام وإرادة الخاص سواء كان في الأمر أو في الخبر. خلافا لعضهم. والدليل عليه: وقوعه في القرن العظيم فإنه دليل الجواز وزيادة، وهو كقوله تعالى: {اقتلوا المشركين} مع أن أهل الذمة من المشركين غير مراد منه، وكقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربك} مع أن الصبي والمجنون غير مرادين منه، وكقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} مع أن كل سارق وسارقة غير مرادين منه بالإجماع،

وكذا القول في قوله تعالى: {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}، وكقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} مع أن المسافر والمريض والعبد مخصوصون منه، وأمثاله كثيرة غير عديدة. وأما في الخبر فهو كقول الله تعالى: {خالق كل شيء} مع أنه تعالى غير خالق لنفسه، لأن خلق الشيء نفسه ممتنع. وكقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير} مع أنه تعالى غير قادر على ذاته ضرورة أنه تعالى واجب الوجود لذاته ولا قدرة على الواجب. فإن قلت: استدلالكم بالآيتين، إنما يتم لو كان الله تعالى شيئا وهو ممنوع، فلم قلتم إنه كذلك؟ سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن اللفظ يتناوله، وهذا لأن اللفظ لم يوضع لما يخالف المعقول عندنا، وإذا لم يتناوله اللفظ لم يلزم التخصيص إذ التخصيص فرع التناول.

سلمنا: صحة دلالتكم لكنه معارض: بما أن تجويزه في الأمر/ (231/ب) يوهم البداء وفي الخبر يوهم الكذب، وإيهام القبيح، وهو على الشارع محال. قلت: الدليل على أنه تعالى شيء المنقول، والمعقول. أما المنقول: فقوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم}. وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} والاستدلال بهما ظاهر. وأما المعقول: فلأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه أو ما له وجود في الخارج على اختلاف المذهبين، والله تعالى كذلك فيكون شيئا، ولأن النزاع بين العقلاء إنما هو في تسميته تعالى بالشيء، لا في تحقق مسمى الشيء فيه تعالى. وأما الدليل على أن اللفظ يتناوله: فهو أنه لو فرض صدوره، أو ما يجري مجراه نحو أن يقال: كل شيء يفنى أو يموت ممن لم يثبت صدقه،

فإنه يتوجه لتكذيب نحوه بالنسبة إلى لله تعالى، ولا شك أن فناءه وموته تعالى محال، فلو لم يكن اللفظ متناولا له لما توجه التكذيب نحو قائله. وأما قوله: في سند المنع: اللفظ لم يوضع لما يخالف المعقول، فباطل وإلا لما أمكن التعبير عن حصول المحال. وأما الجواب عن المعرضتين: فهو أن الإيهام زائل بالدليل الدال على امتناع البداء والكذب على الله تعالى. واعلم: أن الآيات التي تشتمل على إطلاق لفظ العام وإرادة الخاص في الخبر كثيرة، نحو قوله تعالى: {تدمر كل شيء}، وقوله تعالى: {يجبي إليه ثمرات كل شيء}، وقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء}، وقوله تعالى: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}، وقوله: {وأوتينا من كل شيء} وغيرها من الآيات الخبرية، والأمرية المخصوصة التي يطول ذكرها. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ما من عام إلا وقد خص عنه البعض". ويقال أيضا في العرف العام: خالطت كل الناس، وباشرت كل الأمور، مع أنه لم يخالط كلهم بل أكثرهم، ولا باشر كلها بل أكثرها، والتعبير

المسألة الرابعة فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز

خلاف الأصل وعند هذا تعرف أن العلم الحاصل بجوازه من قاعدة كلامهم يكاد أن يكون ضروريا فلا يلتفت إلى إنكار من أنكره من الشذوذ. المسألة الرابعة فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز اعلم أن الذي لا يتناول إلا الواحد لا يجوز تخصيصه، لأن التخصيص على ما عرفت: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، وذلك غير متصور فيما لا يتناول إلا الواحد. وأما الذي يتناول أكثر من ذلك فعمومه، إما من جهة اللفظ أو من جهة المعنى. فإن كان الأول: فإنه يجوز تخصيصه سواء كان عاما لا خصوص فيه/ (232/أ) بوجه من الوجوه، كالمعلوم يتناول المعدوم والموجود، أو لا يكون كذلك بل فيه عموم بالنسبة إلى معلوم، وخصوص بالنسبة إلى معلوم كالشيء، فإنه لا يتناول المستحيل وفاقا والموجود وما تحته من أسماء الأجناس. وأما الذي عمومه من جهة المعنى: فهو إما أن يكون تابعا لدلالة اللفظ

المسألة الخامسة [في العناية التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص]

كمفهوم المخالفة والموافقة، أو يكون كالعلة العامة. فإن كان الأول: فإنه يجوز تخصيص النوع الأول منه مطلقا. وأما الثاني: فإنه يجوز أيضا لكن بشرط أن لا يعود نقضا على الملفوظ كإباحة ضرب الأم إذا فجرت، أما إذا عاد نقضا عليه كما إذا قال: {فلا تقل لهما أف} لكن ينتج له نوعا من أنواع الأذى مطلقا فإنه لا يجوز. وأما الثاني: ففي جواز تخصيصه كلام ستعرفه في القياس إن شاء الله تعالى. المسألة الخامسة [في العناية التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص] اختلفوا في الغاية التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص، فذهب جماعة إلى أنه يجوز أن ينتهي التخصيص إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم.

ومنهم: من منع من ذلك في جميع ألفاظ العموم، وأوجب أن يراد بها كثيرة تقرب من مدلول اللفظ، وإن لم يعلم قدرها عينا، إلا أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم أو الإبأنة أن ذلك الواحد يجري مجرى العدد الكثير، وهو مذهب "أبي" الحسين البصري، وكثير من أصحابنا كإمام الحرمين، والإمام "رحمهما الله".

ومنهم: من فصل بين الجمع المعرف باللام كالرجال، والمسلمين، والجمع المذكر لو قيل بعمومه، وبين غيره من ألفاظ العموم "كمن" و"ما" والمفرد المعرف باللام، لو قيل بعمومه، فأوجب في النوع الأول الانتهاء إلى أقل الجمع وهو الثلاثة، ولم يوجب ذلك فيما عداه، بل جوز انتهاء التخصيص فيه إلى الواحد، وهو مذهب القفال الشاشي رحمه الله "تعالى". احتج الأولون: بالنص، والأثر، والمعقول. أما النص: فنحو قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله تعالى: {نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين {

وقوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم}، والمراد بالناس القائلين: الواحد، وهو نعيم بن مسعود الاشجعي، وقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة}، والمراد منه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وأما الأثر فقول عمر رضي الله عنه: لسعد/ (232/ب) بن أبي وقاص نفذ إليه القعقاع مع ألف فارس: (قد نفذت إليك ألفي فارس) فقال سعد رضي الله عنه: (قد نفدت إلى ألف فارس والقعقاع)، فقال

رضي الله عنه: (القعقاع بألف) أطلق اسم الألف على الواحد. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: القياس على الاستثناء، فإنه يجوز استثناء الجمع إلا الواحد باتفاق بيننا وبينكم، فكذا التخصيص، الجامع تدارك الضرر الناشئ من التعميم، أو يقول بطريقة أخرى: إن استثناء الجميع إلا الواحد جائز باتفاق بيننا وبين خصومنا، فكذا التخصيص، لأن الاستثناء تخصيص خاص، ومتى صدق الخاص صدق العام. وثانيها: أن استعمال اللفظ في بعض ما وضع له "مجاز، فليس القول بجواز هذا التجوز في بعض أقسام" ما وضع له دون البعض الآخر أولى من العكس، فوجب جوازه في الكل نظرا إلى الجهة المسوغة للتجوز. وثالثا: أنه لو امتنع إطلاق الجمع وإرادة الواحد منه، فإما أن يمتنع ذلك، لأن اللفظ لم يستعمل في حقيقته، أو لأنه إذا استعمل فيه صار الخطاب مجازا، أو لأنه حينئذ يبطل دلالة هيئة الصيغة على مدلولها، إذ الأصل

انتفاء مانع آخر، لكن الكل باطل. أما الأولان: فلاقتضائهما امتناع تخصيص العام بالنسبة إلى أي عدد يفرض من ضرورة أنه حينئذ غير مستعمل في حقيقته وهو مجاز فيه، وهو باطل بالإجماع. وأما الثالث: فلوجهين: أحدهما: أن دلالة هيئة الصيغة "لا تزيد على دلالة أصل الصيغة"، فإذا لم يكن بطلان دلالة أصل الصيغة مانعا، فلأن لا يكون بطلان دلالة هيئة الصيغة مانعا أولى. [وثانيهما]: أن ذلك ليس حاصلا في "من" و"ما"، وما يجري مجراهما فوجب أن يجوز تخصيصه إلى الواحد ضرورة انتفاء علة الفساد، والخصم لا يقول به. الجواب عن الآيات: أنها غير دالة على محل النزاع، "لأن" بعضه مستعمل في الواحد على سبيل التعظيم، وبعضها على سبيل الإبانة على أن

ذلك يجري مجرى العدد الكثير، ونحن نجوز ذلك وليس هو من التخصيص "في شيء"، وهو الجواب بعينه عن ابن عمر رضي الله عنه. "والجواب" عن الوجه الأول: من المعقول: بعدم تسليم حكم الأصل، فإنه ممنوع عند بعضهم: وتسليم صحة القياس في اللغة بالفرق، وهو أن الاستثناء عندنا: إخراج من المستثنى منه وتغيير للإسناد/ (233/أ) إذ هو: مع المستثنى منه كالشيء الواحد، بخلاف التخصيص فإنه ليس كذلك. وعن الطريقة الثانية: "أنه" لا نزاع في أنه متى ثبت الخاص ثبت العام، لكن المثبت للحكم في خاص، لم قلتم: أنه يلزمه أن يثبته في أفراد عمومه؟. وظاهر أنه لا يلزمه ذلك، لأنه يجوز أن يكون ذلك لمعنى يخصه. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن بعض الأقسام ليس أولى من البعض، وستعرف سنده في استدلالنا.

وعن الثالث: منع حصر علة عدم الجواز فيما ذكروه من الأقسام، وهذا لأنه يجوز أن يكون علة ذلك عدم استعمالهم تخصيص العام على ذلك الوجه. وهذا الجواب إنما يستقيم على رأي من يرى أن المجاز موقوف على السمع، أما من لم ير ذلك بل يكتفي بمجرد العلاقة فلا. وجوابه: على هذا أن يقال: إنه وإن اختلف في اعتبار السمع في الاستعمال، لكن لا خلاف في اعتبار المنع منه، واستقباحهم هذا النوع من الاستعمال على ما ستعرف ذلك، هو المانع منه، لا ما ذكرتم من الأقسام. احتج أبو الحسين البصري، بأن الرجل إذا قال: أكلت كل ما في الدار من الرمان، وكان فيها ألف من الرمان مثلا، وكان قد أكل واحد أو ثلاثة منه عابه أهل اللسان. وكذلك لو قال لعبده: من دخل داري فأعطه درهما، ثم قال: له أردت بذلك: زيدا وحده، أو ثلاثة أشخاص بأعيانهم، يعد كلامه مستهجنا ومستقبحا، وإن أظهر دلالة إرادة الواحد أو الثلاثة منه، إذ لو لم تظهر الدلالة لم يجز أصل التخصيص فضلا عن التخصيص على هذا الوجه ولو كان هذا النمط من التخصيص جائزا لما كان كذلك، كما إذا أبقى عدد كثيرا.

وقول القائل: "أكلت اللحم والخبز"، و"شربت الماء"، ليس من هذا القبيل. وإن قيل: بأن المفرد المعرف يعم إذا لم يكن للعهد ولتعريف الماهية، لأن التعريف فيها للعهد. واحتج من قال: بالتفصيل بأن رد صيغة الجمع إلى الواحد على وجه التخصيص إبطال لدلالة أصل الصيغة وهيئته، فيكون تركا لدلالته بالكلية، فيكون نسخا، فوجب أن لا يقبل فيه ما يقبل في التخصيص. وحينئذ لم يجز رده إلى الواحد على وجه التخصيص، وهو المطلوب، بخلاف "من" وإخوانه لا تتغير فيه دلالة هيئة الصيغة، إذ ليس لهيئة صيغته دلالة أصلا على شئ فلم يتطرق إليه تغيير كلي. وجوابه: منع كونه نسخا، إذ لا تبطل دلالته"/ (233/ب) بالكلية،

المسألة السادسة [العام المخصوص حقيقة في الباقي أو مجاز]

بحيث لا يبقى من مدلوله شيء ولو اعتبر ذلك نسخا مع دلالته على بعض مدلوله، لكان حمل اللفظ على المجاز الخارج عن مسماه أولى أن يكون نسخا، فوجب أن لا يقبل فيه إلا ما يقبل في النسخ، لكنه باطل وفاقا. المسألة السادسة [العام المخصوص حقيقة في الباقي أو مجاز] اختلفوا في أن العام المخصوص، هل هو حقيقة في الباقي أو هو مجاز؟. فذهب جمهور أصحابنا، والمعتزلة كأبي على، وأبي هشام: إلى أنه مجاز كيف كان المخصص، وهو اختيار عيسى بن أبان من الحنفية.

وذهب جمهور الحنفية، والحنابلة، وكثير من أصحابنا، إلى أنه حقيقة كيف كان المخصص. ومنهم من فصل وذكر فيه وجوها: أحدها: أن المخصص إن كان مستقلا، سواء كان عقليا كالدليل الدال على أن غير القادر مراد من الخطاب في العبادات، أو لفظي، كما إذا قال المتكلم بالعام: أردت به البعض الفلاني فهو مجاز، وإن لم يكن مستقلا كالاستثناء كما إذا قال: من دخل داري أكرمته إلا زيدا، والشرط نحو أن يقول: من دخل داري أكرمته "إن أهدى إلي" والتقييد بالصفة مثل أن يقول: من دخل داري [من الطوال أكرمته، فهو حقيقة.

والتقييد بالغاية: وإن لم] يذكروه في هذا المقام حكمه حكم أخواته من المتصلات ظاهرا، إذ لا يظهر فرق بينهما على هذا الرأي، وهو اختيار الكرخي، وأبي الحسين البصري، والإمام منا. وثانيها: أنه إن خص بالشرط أو الاستثناء فهو حقيقة، وإلا فهو مجاز "حتى" في الاستثناء. وهو مذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة. ونقل بعضهم عنه: أنه إن خص بدليل منفصل فهو حقيقة وإلا فهو مجاز.

وكلامه في "العمدة" يدل على أنه اختار أنه مجاز كيف كان المخصص فلعله اختار ما نقل عنه في غيره. ورابعها: أنه إن خص بدليل لفظي سواء كان متصلا أو منفصلا، فهو حقيقة وإلا فهو مجاز. وخامسها: أنه بقى بعد التخصيص جمع، فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز، وهو مذهب أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه. وكلام الشيخ الغزالي صريح في أنه لا خلاف في أن هذا مجاز.

وسادسها: أنه حقيقة في تناول ما بقى، مجاز في الاقتصار عليه، وهو اختيار إمام الحرمين رحمه الله تعالى. والحق هو مذهب الأولين: والدليل عليه/ (234/أ)، أن اللفظ حقيقة في الاستغراق فقط، على رأي المعممين، والكلام في أن العام المخصوص، هل هو حقيقة أو مجاز إنما هو على رأيهم. وأما على رأي الواقفية وأرباب الخصوص والقائلين بالاشتراك: فغير متصور. وإذا كان كذلك كان استعماله في غير ما وضع له، فيكون مجازا سواء كان الدليل الدال على ذلك لفظيا متصلا كان أو منفصلا، أو عقليا، إذ لا معنى للمجاز: إلا استعمال اللفظ في غير ما وضع له لملاحظة بينه وبين ما وضع له. وهذا المعنى لا يختلف باختلاف الدليل المبين له، وهو غني عن مزيد كشف وبيان. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: العام وحده حقيقة في الاستغراق، ومع القرينة "المخصصة لفظية كانت أو عقلية حقيقة فيما عدا المخصوص؟.

سلمنا: أن مع القرينة" العقلية ليس بحقيقة فيه، لكن لم لا يجوز أن يكون مع القرينة اللفظية سواء كانت متصلة أو منفصلة حقيقة فيه؟. وهذا لأن دلالتهما وضعية، فأمكن أن يقال: إن مجموعهما حقيقة في ذلك الباقي. سلمنا: أنه ليس بحقيقة مع القرينة اللفظية المنفصلة، فلم لا يجوز أن يكون حقيقة مع المتصلة سواء كانت شرطا أو استثناء أو صفة؟. وهذا لأن العام مع القرائن المتصلة من الاستثناء، والشرط، والتقييد بالصفة، تصير كلاما واحدا آخر مركبا من ذلك العام والقرينة المتصلة مستقلا بنفسه غير العام وما معه بدون تلك القرائن مفيدا لذلك البعض الباقي فقط، إذا لو أفاد غيره معه لم تكن تلك القرائن مفيدة، وإذا لم يفد غيره معه استحال أن يقال: إنه مجاز فيه، إذ المجاز ما يكون من الكلام مصروفا عن الغير إليه، بل المجموع المركب من العام والاستثناء والشرط والتقييد بالصفة دال عليه، ودلالة المركب على معناه ليس بمجاز سواء كان التركيب بين كلمتين مفهمتين، أو بين كلمة وحرف غير مفهم "كمسلم" و"مسلمين" و"رجل"، والرجل وهذا الاحتمال يظهر جدا في الاستثناء، إذ المستثنى والمستثنى منه وحرف الاستثناء كالكلمة الواحدة عندنا: فمعنى قوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} على هذا، فلبث فيهم تسع مائة وخمسين/ (234/ب) عاما من غير فرق إلا في التركيب والبساطة، ومعلوم أن ذلك ليس بمجاز فكذا هذا. سلمنا: أن ما ذكرتم يدل على أنه مجاز فيه، لكن عندنا: ما

يدل على أنه حقيقة فيه، وذلك لأن اللفظ كان متناولا له على سبيل الحقيقة، فخروج غيره منه لا يؤثر في صيرورته مجازا فيه. الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أن ما ذكرتم من الاحتمال يقتضي رفع المجاز بالكلية، لأنه لا لفظ يدعي أنه مجاز في معنى، إلا ويمكن أن يقال: إنه وحده حقيقة في معنى، ومع القرينة فيما ادعى أنه مجاز فيه، والكلام في أن العام المخصوص مجاز أم لا "فرع" ثبوت أصل المجاز فلا يسمع في هذا المقام ما يرفع أصله فإن اعتبر هذا الاحتمال بالنسبة إلى استعمال اللفظ في بعض ما وضع له دون المجاز الخارجي كان ذلك تحكما محضا لا يخفي فساده. وثانيهما: أن دلالة القرينة العقلية ليست وضعية، فلا يمكن أن يقال إن المجموع اللفظ العام أو لقرينة كيف كان حقيقة في ذلك البعض، لأن الحقيقة والمجازية من عوارض الألفاظ دون الأدلة العقلية وفاقا. وعن الثاني: أنه يقتضي رفع المجاز الخارجي الذي مبينه قرينة لفظية منفصلة، لأن الاحتمال المذكور بعينه قائم فيه لكن لم يقل به أحد من الأمة، فإن الأستاذ أبا إسحاق- رحمه الله تعالى- أنكر المجاز مطلقا وغيره أثبته مطلقا سواء كانت قرينة لفظية أو عقلية. "فأما الفصل بين القرينة اللفظية المستقلة وبين العقلية" في المجاز

الخارجي لم يقل به أحد من الأمة. وعن الثالث: قلنا: أما الدليل على أنه ليس بحقيقة فيما بقى، وإن كان مع القرينة المتصلة، فيما سبق في الاستدلال من أنه يختلف ما هو المعنى من المجاز بسبب اختلاف دليل المبين له. وأما قوله: في الدلالة عليه أنه يصير مع القرائن المتصلة كلاما واحدا إلى آخره فمسلم: لكن بحيث يتغير بسبب تلك القرينة المتصلة مدلول العام من الكلية إلى البعضية أو لا بهذه الحيثية. والأول مسلم: وهو اعتراف بالمجازية. والثاني: ممنوع، وهذا لأن من الظاهر أن قبل تلك "الزيادة" التي هي القرينة المتصلة كان العام وما معه كلاما تاما دالا على جميع أفراده وبعدها/ (235/أ) وإن كان أيضا كلاما تاما غير الأول لكنه دال على بعض افرداه معين لمدلوله من الكلية إلى البعضية بخلاف قولك: "مسلم" و"مسلمون" و"رجل" و"الرجل" وبخلاف قولك: "الرجال قاموا" لا يتغير في هذين المثالين مدلول الأول بسبب الزيادة من الكلية إلى الجزئية فلا جرم ليسا من المجاز من شيء. وأما قوله: فهذا الاحتمال يظهر جدا في الاستثناء إلى آخره فهو أيضا: باطل لأنا نقطع أن دلالة قوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} على تسع مائة وخمسين بطريق إخراج الخمسين من الألف، فعلى هذا تعين أن يقال: الألف تدل على الألف، والخمسون على الخمسين، وإلا على معنى الإخراج إذ ليس فيه ما يمكن إحالة معنى النفي إليه إلا إليها ومعرفة الباقي إنما هو بالحساب لا بصراحة اللفظ.

وأما دلالة قوله: تسع مائة وخمسين على تلك المدة، فليست بطريق الإخراج، بل بالضم وعطف أحد الاسمين على الآخر، وليس يفهم منه معنى الإخراج فقط، فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟. وعن الرابع: أنه إن عني بقوله: إن اللفظ كان متناولا له على سبيل الحقيقة أنه كان متناولا له فقط على سبيل الحقيقة فممنوع، وهذا لأنه كان متناولا له وللمخصوص على سبيل الحقيقة. وإن عني به أنه كان متناولا له ولغيره على سبيل الحقيقة فمسلم، لكن لا نسلم أن خروج غيره عن الإرادة لا يؤثر في صيرورته مجازا في الباقي، وهذا لأنه يصير إذ ذاك من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، ثم هو منقوص بما إذا بقى واحد على ما نقله الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى. واحتج من قال: بالتفصيل بين القرينة المتصلة وبين القرينة المنفصلة: بما سبق من أن اللفظ العام مع القرينة [المتصلة] يصير كاللفظ الواحد الدال على ذلك الباقي، ومع القرينة المنفصلة سواء كانت لفظية أو عقلية وإن كان لا تدل إلا على ذلك الباقي، ومع القرينة المنفصلة سواء كانت لفظية أو عقلية وإن كان لا تدل إلا على ذلك الباقي لكن لا يصير الكلام معه كاللفظ الواحد، بل هما كلامان مستقلان، وقد عرفت جوابه. وأما من قال: أنه حقيقة كيف كان المخصص، أو مع المخصص

اللفظي كيف كان متصلا أو منفصلا، فقد عرفت مأخذهما أيضا مع جوابهما فيما سبق. وأما من قال: بالتفصيل بين الاستثناء والشرط وبين الصفة فقد احتج/ (235/ب) في الاستثناء بما سبق. وفي الشرط: بأنه لم خرج من مدلول اللفظ العام شيئا، بل هو باق على حاله، وإنما تقيد الحكم ببعض أحوال مدلول اللفظ العام ألا ترى أنك لو قلت: أكرم الناس إن أكرموك، فإنك بسبب التقييد بالشرط لم يخرج أحدا من الناس، بل قيدت الإكرام بحالة إكرامهم دون حالة عدم الإكرام، وليس لفظ الناس عاما بالنسبة إلى أحوالهم، حتى يلزم من خروج بعض الأحوال تخصيصه، وكذلك القول في اللفظ "أكرم" والمأخذان مفقودان في الصفة، فإنك تخرج من مدلول اللفظ العام فيها من لم يتصف بتلك الصفة. وجوابه: أما عن الاستثناء فقد سبق، وأما عن الشرط فهو أنه يلزم من خروج بعض الأحوال، خروج بعض مدلولات اللفظ العام عنه، ضرورة أن الأفراد التي لم تأت بذلك الشرط غير مراده من اللفظ، فمن لم يكرم من الناس غير مراد من لفظ الناس في المثال المذكور. واحتج القاضي: على ما نقل عنه في الرواية الثانية: بأن الدليل المتصل أبطل

دلالة اللفظ على الاستغراق في جميع الأزمان على وجه البيان فجعل مجاز. وأما المنفصل: فلأنه إنما أبطل دلالته في بعض الأزمان على وجه المعارضة فلا يكون مجازا. وضعفه لا يخفى على من له أدنى فطانة. ويمكن أن يحتج له على ما حكي عنه في الرواية الأولى مع بعده: بأن الاستثناء يخرج الفرد بالذات وبصراحة اللفظ، وكذلك القرائن المنفصلة اللفظية، بخلاف الشرط "والصفة" فإنهما يخرجان بالفرض والالتزام، كما عرفت ذلك في الشرط، وخروج الشيء عن أن يكون مرادا بالخطاب بالفرض، كما في موت المكلف قبل وقت العمل بالخطاب لا يقدح في عموم الخطاب، وهذا إنما يستقيم على رأيهم: فإنهم يجوزون تأخير بيانه عن وقت الخطاب بالعام، ولو كان ذلك تخصيصا لما جاز تأخير بيانه، كما في سائر التخصيصات. وأما نحن فلا نسلم أن هذا ليس بتخصيص، ولا يمكن أن يستدل به علينا، لأنا نجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب. وأما من ذهب إليه أبو بكر الرازي، فقيل: أنه مبني على أنه أهل يشترط في العموم الاستيعاب أم يكتفي فيه بالجمع؟ فإن قيل: بالثاني: فهو حقيقة، لأنه بقى جمع. وإن قيل بالأول: فهو مجاز.

وهذا البناء/ (236/أ) ضعيف، لأن الذي لم يشترط الاستيعاب في العموم يشترط كثيرة غير منحصرة عادة، ولا يكفي بأقل الجمع وإلا لم يبق فرق بينه وبين المنكرين له، فإن أرباب الخصوص أيضا ينزلون اللفظ الجمع على أقل الجمع، والاختلاف في شرط العموم فرع القول بالعموم، بل هو ابتداء خلاف جار على القولين. وإن كان هذا القائل: يجعل اللفظ عند عراية عن القرينة المخصصة حقيقة في العموم ومع القرينة المخصصة إلى أقل الجمع حقيقة فيه ولم يجعله حقيقة في الأقل منه، وإن كان مع القرينة المخصصة إليه لما فيه من إبطال دلالة وزان الصيغة كما تقدم، وهذا مع ضعفه إنما يستقيم في المجموع، أما ما ليس بجمع فلا. وأما إمام الحرمين رحمه الله فقد احتج على ما ذهب إليه: بأن تناول

اللفظ لما بقي من مسمياته ليس على وجه التجوز، بدليل أنه كان متناولا له على الحقيقة قبل التخصيص، وتناوله له بعد التخصيص، وتناوله "له" قبله لا اختلاف فيه من جهة احتياج اللفظ في الدلالة إلى أمر زائد، نحو القرينة وغيرها مع احتياج المجاز إليه في الدلالة على المعنى المجازي، لكن اختصاصه به وقصور الدلالة عليه، هو الذي حدث بعد التخصيص، وهو في هذا محتاج إلى أمر زائد، وهو أنه المجاز فكان مجازا من هذا الوجه. وجوابه: أنا لا نسلم اتحاد التناولين، وهذا لأن التناول قبل التخصيص شرط الاستيعاب وبعده شرط عدمه والمشروط بشيء غير المشروط بعدمه، وحينئذ لا يلزم من كون التناول في الأول على وجه الحقيقة أن يكون في الثاني أيضا كذلك. تنبيه: القائلون بالتفصيل بين المخصص المتصل والمنفصل: اختلفوا فيما إذا قال الله تعالى": {اقتلوا المشركين} فقال الرسول عليه السلام عقيبه إلا زيدا.

المسألة السابعة [يجوز التمسك بالعام المخصوص مطلقا]

هل هو مخصص متصل أو منفصل؟. فمنهم من جعله متصلا: محتجا بأن الشارع للحكم هو لله تعالى لا غير والرسول عليه السلام، إنما هو مبلغ، فكان تخصيصه كتخصيصه، لو خصصه لله تعالى على ذلك النمط كان متصلا، فكذا تخصيصه عليه السلام. ومنهم: من جعله منفصلا. وهو الأظهر، لأن الاستثناء كالجزء من الكلام ولا يستقل بالإفادة دون ما قبله، ولهذا لا يقبل منفصلا (236/ب)، والجزء من الكلام إذا صدر من الله تعالى، والآخر من الرسول [صلى الله عليه وسلم] فإنا لا نجعلهما كالصادر من الله تعالى فكذا هنا. المسألة السابعة [يجوز التمسك بالعام المخصوص مطلقا] يجوز التمسك بالعام المخصوص مطلقا عند جماهير فقهاء الفريقين.

وذهب بعض الحنفية، عيسى بن إبان، ومحمد بن شجاع، وأكثر المعتزلة: إلى أنه لا يجوز التمسك به مطلقا. ومنهم من فصل، وذكر فيه وجوهًا: أحدها: أنه إن خص بدليل متصل، يجوز التمسك به وإلا فلا، وهو مذهب الرخي والبلخي. وثانيها: أنه إن كان المخصوص معلومًا، يجوز التمسك به سواء كان المخصص متصلًا أو منفصلا وإلا فلا، وهو رواية الكرخي، وهو اختيار

الإمام. ونقل بعضهم: أنه لا خلاف في أنه لا يجوز التمسك به فيما إذا كان المخصوص مجهولا، وهو الأظهر. إذ لا يظهر جواز التمسك به وجه إذ ذاك، لأن كل فرد يفرض يحتمل أن يكون هو المخصوص أو منه. نعم: قد يتجه أن يقال: إنه يستقيم التمسك به في كل فرد من أفراد مسمياته لكون دلالته عليه معلوما أو مظنونا ظنا غالبا على اختلاف فيه، وكونه مخصوصا مشكوك فيه والشك لا يزيل العلم والظن، لكن ليس هو مما نحن فيه في شيء، لأن مسألتنا مفروضة في الاحتجاج بالعام المخصوص فيما عدا المخصوص وما ذكر من الاحتمال [آت] في الكل المخصوص وغيره. وثالثها: أن التخصيص: إن كان قد منع من تعلق الحكم بالاسم العام، وأوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعليق به، كما في قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، لأن قيام الدلالة على

اعتبار النصاب والحرز، وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق، يمنع من تعلق الحكم، وهو القطع بعموم اسم السارق، وموجب لتعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ. وإن كان التخصيص لا يمنع "من" تعلق الحكم به جاز التعلق به، كما في قوله "تعالى": {اقتلوا المشركين}، لأن قيام الدلالة على المنع من قبل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين. وهو قول: أبي عبد الله البصري. ورابعها: أن العام المخصوص: إن كان بحيث لو تركنا وظاهره من غير بيان التخصيص، لكنا نمتثل ما أريد منا، ولكن يضم إليه شيئا آخر لم يرده منا، كقوله تعالى: {اقتلوا المشركين}، فإنا لو خلينا وظاهره، لكنا نقتل كان من صدق عليه الإسلام من الحربي والذمي والمستأمن. فكنا قد امتثلنا في ذلك ما أريد منا وما لم يرده جاز التمسك به. وإن كان العام بحيث لو تركنا وظاهره من غير بيان التخصيص، لم يمكننا أن نمتثل ما أريد منا لم يجز التمسك به، وهو كقوله تعالى {أقيموا الصلاة}

لأنه لو لم يبين مراده لم يمكننا فعل ما أراده من الصلاة الشرعية أصلا، بخلاف آية السرقة فإنا لو خلينا وظاهرها، لكنا قطعنا كل سارق، وفي ذلك امتثال ما أريد منا وما لم يرده، وهو قول القاضي عبد الجبار. وخامسها: أنه يجوز التمسك "به" في أقل الجمع، ولا يجوز فيما زاد عليه، وهذا يشبه أن يكون قول: من لا يجوز التخصيص إلى [أقل] من أقل الجمع. واحتج الأولون بوجوه: أحدها: الإجماع: وتقريره أن التمسك بالعام المخصوص كان شائعا ذائعا فيما بين الصحابة. روي أن فاطمة- رضي الله عنها- احتجت على أبي بكر- رضي الله عنه- حين طلبت ميراثها من أبيها بقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم}، مع

أن الآية مخصوصة بالعبد والقاتل والكافر. ولم ينكر عليها أبو بكر ولا غيره من الصحابة- رضي الله عنهم- في ذلك، بل عدل أبو بكر رضي الله عنه في منعها منه إلى التمسك بقوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة". وروي عن علي رضي الله عنه أنه احتج على جواز الجمع بين الأختين في ملك اليمين بقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم}، مع أنه مخصوص بالمجوسيات، والأخوان وغيرهما، ولم ينكر عليه أحد بل من حرم تعلق بقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين}. وعنه، وعن عثمان رضي الله عنه: (أحلته آية وحرمته آية)، فلو لم يكن قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} حجة فيما بقى بعد التخصيص

لم يكن محللا للجمع بينهما في ملك اليمين. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه- احتج على تحريم المرضعة ولو بمصة أو مصتين بقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وقال: (قضاء الله تعالى أولى من قضاء ابن الزبير)، لأن ابن الزبير كان لا يرى التحريم بالرضعة والرضعتين، مع أن الآية مخصوصة بالمرضعة في غير

سن الرضاعة، وأمثالها كثيرة غير داخلة تحت التعداد، وكيف لا: وتمسكهم بالنصوص/ (237/ب) في الوقائع مشهور، وما من نص إلا وهو مخصوص، كما تقدم ولم ينقل عن أحد منهم في ذلك إنكار فكان إجماعا. وثانيها: أن المقتضى لثبوت الحكم فيما بقى من الأفراد قائم، وهو اللفظ العام: دال على ثبوت الحكم في كل واحد من مسمياته، ولا شك أن غير المخصوص من جملة مسمياته، فيكون دالا على ثبوت الحكم فيه، والمعارض الموجود وهو: انتفاء الحكم عن الصورة المخصوصة لا يصلح أن يكون معارضا، لأن عدم الحكم فيها لا يستلزم عدم الحكم في غيرها لا قطعا ولا ظاهرا، اللهم إلا أن يكون معللا بعلة مشتركة بينها وبين غيرها من الصور، لكن ذلك ليس لنفس انتفاء الحكم بل لأمر زائد عليه، وليس كلامنا فيه، بل في نفس انتفاء الحكم، والمعارض لدليل الثبوت لا بد وأن يستلزم النفي إما قطعا أو ظاهر، وحينئذ يلزم ثبوت الحكم في غير المخصوص عملا بالمقتضى. وثالثها: أنه لو لم يكن حجة فيما بقى فإما أن لا يكون حجة في شيء منه. وهو باطل، لأنه تعطيل النص، إذ غيره من المجاز غير مراد لعدم قرينة تدل عليه أو يكون حجة في شيء منه. وهو باطل، لأنه تعطيل للنص، إذ غيره من المجاز غير مراد لعدم قرينة تدل عليه أو يكون حجة في شيء منه، لكنه غير معلوم إجمال، وهو خلاف الأصل فيكون أيضا: باطلا فيتعين أن يكون حجة فيما بقي.

ورابعها: وهو ما احتج به الإمام: وهو أن اللفظ العام كان متناولا للكل فكونه حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل، إن كان متوقفا على كونه حجة في الكل من حيث إنه كل، أو على كل واحد من أقسامه مع التعاكس لزم الدور، لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من أقسامه، فلو توقف كونه حجة في الكل لزم الدور وأيضا، فإنه يلزم حينئذ أن تكون دلالة العام على كل واحد من تلك الأقسام بالتضمن، كدلالة أسماء الأعداد على الأفراد الداخلة تحت مسمياتها، وكذا القول: في لزوم الدور على التقدير الثاني، وإن لم يكن متوقفا عليهما، أو كان متوقفا على كونه حجة في كل واحد من أقسامه من غير تعاكس لزم أن يكون حجة في الباقي، وإلا لكان متوقفا عليهما، ونحن نتكلم على خلاف هذا التقدير، ثم القسم الثاني: مختص بما أنه يستلزم الترجيح من غير مرجح، لأن نسبة دلالة اللفظ العام على كل/ (238/أ) تلك الأقسام على حجته في الباقي من غير عكس ترجيح لأحد المتساويين على الآخر من غير مرجح، وهو محال. وهذا ضعيف: لأنه إن عني بالتوقف التوقف بصفة التقدم والتأخر، أي يكون المتوقف عليه متقدما ولو بالرتبة والمتوقف متأخر كذلك، فلا يلزم من عدمه جواز كونه حجة في البعض، وإن لم يكن حجة في البعض الآخر، لاحتمال أن يكون حجته في البعض ملازم لحجته في البعض الآخر بصفة

المعية، ويستحيل وجود أحد المتلازمين بدون الآخر، وإن عني به عدم وجوده بدون الآخر، فلا نسلم أن الآخر لو كان كذلك يلزم "منه" الدور الممتنع، فإن المتلازمات والمتضايفات بأسرها كذلك، وهي ليست بممتنعات وفاقا. احتجوا بوجهين: أحدهما: إنه لو دل على ما بقى، فإما أن يدل عليه بطريق الحقيقة، وهو باطل لما تقدم من الدلائل، ولمساعدتكم عليه، أو بطريق التجوز،

وحينئذ ليس حمله عليه أولى من حلمه على البعض الآخر، فيصير مجملا، بل حمله على أقل الجمع أولى أما أولا: فلما فيه من تقليل المجاز. وأما ثانيا: فلأنه متيقن فيه. وثانيهما: أن العام بعد التخصيص يتنزل "منزلة" ما لو قي: اقتلوا المشركين إلا بعضهم، وهذا ليس بحجة لمساعدتكم عليه، فكذا ما يتنزل منزلته. الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أن ليس الحمل عليه أولى من الحمل على البعض الآخر، وهذا لأنه متعين والبعض الآخر من مسميات العام مبهم فيها والحمل على المتعين أولى لما فيه من دفع الإجمال، وأما ما ذكرتم من الوجهين فهو معارض بوجهين آخرين:- أحدهما: أن الحمل عليه أحوط، ولا يخفى عليك تقريره. وثانيهما: أنه أقرب إلى الحقيقة على أن الوجه الثاني، مما ذكرتم ممنوع على رأي من يجوز التخصيص إلى الواحد. وعن الثاني: أنا لا نسلم أنه يتنزل منزلته، وهذا لأن في تلك الصورة يتعذر العمل بالعام، إذ لا يمكن حمله على الكل وهو ظاهر ولا على البعض منه، لأنه ما من بعض إلا ويحتمل أن يكون هو المخصوص، بخلاف ما نحن فيه لا يتعذر العمل به، إذ الخارج معين فيعمل به فيما وراءه.

المسألة الثامنة [التمسك بالعام قبل استقصاء طلب المخصص]

المسألة الثامنة [التمسك بالعام قبل استقصاء طلب المخصص] اختلفوا في جواز/ (238/ب) التمسك بالعام في إثبات الحكم قبل استقصاء طلب المخصص. فذهب ابن سريج- رحمه الله تعالى- إلى أنه لا يجوز ما لم يستقص في طلب المخصص. وذهب أبو بكر الصيرفي رحمه الله تعالى إلى أنه يجوز التمسك به ابتداء من غير طلب ما لم يظهر المخصص. ثم قوله: هذا يحتمل أن يكون بناء على أنه يجب على المجتهد أن يظن عمومه إذ ذاك، إذ ليس من شرط جواز التمسك بالدليل أن يكون المتمسك قاطعا بمقتضى الدليل الذي تمسك به.

ويحتمل أن يكون بناء على أنه يجب عليه أن يقطع بعمومه إذ ذاك، لكن صرح إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- وغيره بالاحتمال الثاني نقلا عنه. ثم كلامه يدل على أن هذا إنما يليق بمذهب من لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وأما من يجوز ذلك فلا، لأن القول بجواز ورود المخصص معه القول بوجوب الجزم باعتقاد العموم متناقض، لكن أبا بكر الصيرفي ليس منهم. واستدل عليه: بأنه من الرادعين عليهم في كتبه، فألزمه التناقض المذكور. لكن نقل ابن الصباغ وغيره، عن أبي بكر الصيرفي في أنه لا يجوز

تأخير البيان عن وقت الخطاب فيما له ظاهر، وقد أريد منه غير ظاهره. "وأما قوله": أنه من الرادعين عليهم في كتبه، صحيح لكن في غير هذه المسألة، فعلى هذا يندفع عنه التناقض المذكور على رأي الإمام. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الجزم باعتقاد العموم إنما يليق بمذهب من لا يجوز تأخير البيان على وقت الخطاب، بل التناقض المذكور لازم لهم أيضا إلا من لم يجوز منهم إسماع المكلف العام دون الخاص، فإن التناقض المذكور إنما يندفع عنهم لا غير، وهذا لأنهم "وإن" أوجبوا اتصال المخصص بالعام في الورود، لكنهم لم يوجبوا وصوله إلى من يصل إليه العام، فيحتمل أن يظهر المخصص للمكلف بعد سماع العام، وإن كانا عند الورود مقترنين ومع هذا الاحتمال والتجويز كيف يجب القطع عليه بالعموم. واعلم أن هذا الذي حكينا عن الصيرفي: أنه يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، هو ما حكاه الإمام عنه، وهو اللائق بأصله.

إذ الجماعة متفقون على النقل عنه: بأنه يجب اعتقاد العموم جزما عند ورود العام، فمع الجزم بالعموم يستحيل أن لا يجوز التمسك به. لكن نقل الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: أنه لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن أدلة التخصيص. ولا يخفى أن هذا لا يستقيم أصلا على مذهب الصيرفي "في" هذا كله قبل حضور/ (239/أ) وقت العمل به. أما إذا حضر وقته فلا شك في وجوب العمل به، لكن مع القطع بعدم المخصص، والجزم بإرادة العموم، أم لا يشترط فيه ذلك؟. فيه خلاف: فذهب القاضي منا وجماعة من الأصوليين إلى الاحتمال الأول: وزعموا أن معرفة عدم المخصص بطريق القطع ممكن، وذلك بأن تكون المسألة التي تمسك

المجتهد فيها بالعموم مما كثر فيها الخلاف، وطال فيها النزاع فيما بين العلماء ولم يطلع أحد منهم على ما يقتضي تخصيصه، مع كثرة بحسم وشدة فحصهم عن مواقعة واستقصاء طلبهم، فهذا يفيد القطع بعدم المخصص، إذ لو كان هناك مخصص لاستحال أن يكون لا يعرف عادة، كالطالب لمتاع في البيت إذا فتش عنه في جميع البيت ولم يجده، يقطع بعدمه فيه. واحتجوا عليه أيضا: بأنه لو كان مخصوصا، لنصب الله عليه دليلا ويبلغه إلى المكلفين عند حضور وقت العمل به إزالة للتلبيس والخطأ في العمل. وذهب ابن سريج، وإمام الحرمين، والغزالي، وأكثر الأصوليين إلى الاحتمال الثاني: وهو الحق. قال إمام الحرمين: إذا حضر وقت العمل بالعام، فقد يقطع المكلف بمقتضى العموم، لقرائن تتوفر عنده فيصير العام كالنص، وقد لا يقطع بذلك لعدم القرائن التي تفيد القطع، بل يغلب على ظنه العموم فيعمل به بناء على غلبة [ظنه]، كما في خبر الواحد والقياس.

واعلم: أن الأولين: إن أرادوا بقولهم: إنه يجب على المكلف أن يقطع بعدم المخصص، وأن يجزم بإرادة العموم أنه يقطع بذلك بالنسبة إلى ما في نفس الأمر. فهذا باطل، وما ذكروه من الطريق في إفادة القطع فغير مفيد. أما أولا: فلأنه مبني على أن عدم الوجدان بعد البحث والفحص الشديد يدل على عدم الوجود. وهو ضعيف لاحتمال أن يكون موجودا ولم يطلع أحد منهم [عليه]. والقياس على طلب المتاع في البيت غير صحيح لو سلم الحكم فيه، لظهور الفرق، وهو أن الذي طلب فيه المتاع منحصر مضبوط، بخلاف ما طلب فيه دليل الخصوص. وإما ثانيا: فلأنه مبني على ما لو وجد الفعل، وهو أيضا غير واجب لاحتمال أن يكون واحد منهم قد وجد ذلك ولم ينقله، ولو تمسك في ذلك بأن علمه وعدالته يمنع من ذلك، فمن المعلوم أن هذا لا يفيد القطع، بل يفيد الظن الغالب. وأما ثالثا: فلأنه من شرط كل مسألة استدل عليها بالعام أن تكون صفته ما ذكروه ليكون/ (239/ب) ذلك طريقا عاما، بل لو صح فإنما يصح

بالنسبة إلى المسألة التي صفتها ما ذكروه وأما ما ذكروه من الدلالة عليه ثانيًا، فمن الظاهر أنه لا يستقيم على مذهبنا، فلا يصح به الاستدلال علينا، وإنما يصح الاستدلال على من يقول بالتحسين [والتقبيح] "فيه الأصح"، وإن أرادوا بذلك أنه يقطع بعدم المخصص وأن يجزم بإرادة العموم منه بالنسبة على نفسه، فهذا ينبغي أن يبنى على أن المصيب واحد أم كل مجتهد مصيب. فإن قيل بالأول: فالقطع بعدم المخصص وبجزم إرادة العموم منه أيضًا باطل لما تقدم. وإن قيل بالثاني: فصحيح إذ لو لم يقطع بعدم المخصص في حق نفسه لما كان قاطعًا بإصابته، بل جاز أن يكون مخطئًا. واحتج لأبي بكر الصيرفي بوجوه: أحدها: أن ترك التمسك بالعام لاحتمال وجود المخصص [يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح، فإن احتمال وجود المخصص] مرجوح بالنسبة إلى اللفظ العام الدال على ثبوت الحكم، إذ هو معلوم قطعًا، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع عقلًا. وثانيها: أن الأصل عدم المخصص، وذلك يوجب ظن عدم التخصيص، وهو يكفي في ظن إثبات الحكم.

وثالثها: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لما جاز التمسك باللفظ على حقيقته إلا بعد الطلب أنه هل وجد ما يقتضي صرفه عن المجاز أما لا؟ بجامع تعليل احتمال الخطأ، لكن لا يجب ذلك، لأنه لا يجب ذلك عرفا، بليل أنهم يحملون الألفاظ على حقائقها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يقتضي صرفها عنها أم لا؟ وإذا لم يجب ذلك عرفا فكذا شرعا للحديث المشهور. ولقائل أن يقول: احتمال تطرق التخصيص إلى العام أكثر من احتمال تطرق التجوز إلى اللفظ، بدليل أنه ما من عام إلا وقد خص عنه البعض إلا قوله تعالى: {والله بكل شي عليم} وليس كل لفظ مستعمل تطرق إليه التجوز بمعنى أنه مستعمل في مجازه، فلا يلزم من وجوب طلب المخصص ثمة لدفع الاحتراز عن الخطأ المحتمل الغالب، وجوب طلب ما يصرف اللفظ عن حقيقته مع أنه ليس كذلك.

واحتج ابن سريج: أن اللفظ العام بتقدير وجود المخصص لا يكون حجة في صورة التخصيص، فتكون حجته مشروطة بعدم المخصص، وقبل الطلب وجوده وعدمه مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، فحجته بالنسبة إلى كل فرد مشكوكة فيها، وهذا القدر كاف في أن لا يكون حجة كيف والأصل أن لا يكون حجة. وأجيب/ (240/ أ): بمنع أن وجود المخصص وعدمه مشكوك فيه، بل عدمه عندنا أغلب فيكون ظن حجته أغلب، فلو أجاب عن هذا المنع بما أن الغالب وجود المخصص بالاستقراء ولما تقدم من الأثر، فإن لم يكن هذا فلا أقل من الشك، فنحن نعارض الغالب بالأصل، إذا الأصل عدم المخصص، ولئن عارض هذا الأصل بما أن الأصل عدم الحجية كما تقدم، فنحن نعارض ذلك بأن الأصل عدم التعارض، وأن الأصل عدم التجوز.

فرع: إذا قلنا: يجب طلب المخصص، فلا يجب ذلك إلى أن يقطع بعدمه، لما تقدم أن القطع بعدمه متعذر، بل إلى أن يغلب على ظنه عدمه، وحد البحث في ذلك أن يبلغه إلى حيث لو بحث عنه ثانيًا وثالثا لما أجداه نفعا. واعلم: أن أدلة التخصيص تنقسم إلى: متصل، ومنفصل، والمتصل ينقسم إلى: الاستثناء، والشرط، والتقييد بالغاية، والصفة، فلنعقد في كل واحد منها فصلا.

الفصل الأول في الاستثناء

الفصل الأول في الاستثناء

الفصل الأول في الاستثناء وفيه مقدمة ومسائل: أما المقدمة: ففي اشتقاقه وحده. أما الاشتقاق: فهو أنه استفعال من الثني، وهو الصرف والعطف، يقال: ثنيت الثوب إذا عطفته، وثنى الثوب ما كف وعطف من أطراف الأذيال. وسمي الاستثناء استثناء: لأنه يصرف "المستثنى" عن حكم الكلام المتقدم. وأما حده: فأقرب ما قيل فيه وجهان: أحدهما: هو أن الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ: إلا، أو ما أقيم مقامه. وفيه نظر: لأنه أراد بقوله: أو ما يقوم مقامه. أنه يقوم مقامه في

الإخراج فينتقض بمثل قول القائل: أكرم العلماء ولا تكرم زيدا منهم، فإنه يقوم مقام قوله: أكرم العلماء إلا زيدا في الإخراج مع أنه ليس باستثناء. وإن أراد به أنه يقوم مقامه في الاستثناء، فهو دور. ولو بدل قوله: أو ما يقوم مقامه بقوله: أو أحد أخواتها، "حتى يصير هكذا: الاستثناء عبارة عن إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ: إلا أو أحد أخواتها" اندفع الإشكال المذكور. وثانيهما: أنه عبارة عما لا يدخل في الكلام "إلا" لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل بنفسه. خرج عنه الخارج من العام بدليل العقل والقياس، لأنه ليس بلفظ، والخارج عنه بالأدلة المنفصل، لأنها مستقلة، والخارج بالشرط والصفة، لأنهما وإن لم يكونا مستقلين لكن الخارج بهما ليس خارجًا باللفظ، أي ليس الخارج ملفوظا وقد قلنا/ (240/ ب): في التحديد أن يكون الإخراج بلفظه. مثال الخارج بالصفة: أكرم بني تميم الطوال، خرج عنه القصار وهو وإن كان بعض بني تميم، لكن لفظ: الطوال، الذي أخرجه لم يتناولها.

مثال الشرط: أكرم بني تميم إن كانوا علماء، خرج عنه الجهال ولفظ "العلماء" لم يتناول الجهال. والخارج بالتقييد بالغاية: لأن الغاية قد تكون داخلة، كما في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق}. وقد قلنا: في الحد أن لا يدخل إلا الإخراج. وقد اعترض عليه بوجوه: أحدها: أنه غير جامع، لأن قولنا: جاء القوم غير زيد، استثناء وفاقا، وهو غير داخل [وفاقا] في الحد، ضرورة أنه لا يصدق على غير أنه لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه، لأنه قد يدخل لغرض الوصفية، وهو حيث لا يصلح أن يقام إلا مقامه. كقوله: عندي درهم غير جيد، إذ لا يجوز أن يقول مكانه عندي درهم إلا جيدا. وثانيها: أن الاستثناء ليس لإخراج بعض الكلام، بل لإخراج بعض ما دل عليه، وفرق بين الأمرين. وثالثها: أنه تعريف للاستثناء بالاستثناء، لأن قوله: إلا لإخراج بعضه استثناء فلا يعرف معناه: حتى يعرف معنى الاستثناء فتعريف الاستثناء به دور. واعلم أن الإشكال الأول، والثالث: يندفعان لو غير، وقيل هكذا: أنه عبارة عما يدخل في الكلام لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل بنفسه.

المسألة الأولى [اتصال الاستثناء بالمستثنى منه]

وأما الثاني: فإنا لا نسلم أن الضمير في قوله: لإخراج بعضه راجع إلى الكلام، بل إلى مدلول الكلام، ولفظ الكلام قد دل عليه. ولئن سلم: أنه راجع إليه، لكن المراد مدلوله، وإطلاق اسم الدليل وإرادة المدلول مجاز مشهور، واستعمال مثله في الحدود غير قبيح. وأما حروف الاستثناء وأحكامه في الإعراب فمذكورة في كتب النحو لا حاجة لنا إلى ذكرها هاهنا، إذ ليست من هذا الفن في شيء، وإن كان بعضهم: ذكرها هاهنا محبة منه للعربية. المسألة الأولى [اتصال الاستثناء بالمستثنى منه] أطبق الجماهير على وجوب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه بحسب العادة، فعلى هذا طول الكلام والفصل بينهما بالتنفس والسعال لا يقدح فيه، لأنه يعد متصلا بحسب العادة. وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه جوز الاستثناء المنفصل وإلى مدة مديدة.

............................................................................

واستبعد المحققون هذا النقل منه. وقالوا: تكذيب الناقل أو تخطيئه، أهون من نسبة هذا النقل عن ابن عباس وأمثاله، فإن صح هذا النقل منه فمحمول/ (241/ أ) على ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالمستثنى منه، لكن لم يظهره في ذلك الوقت، ثم أظهر نيته بعد ذلك فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى.

وإليه ذهب بعض أصحاب مالك رضي الله عنه. ثم إن كان مذهبه أن كل ما يدين فيه العبد فيما بينه وبين الله تعالى يقبل أيضًا: في الظاهر كان هذا الاستثناء مقبولا أيضا في الظاهر وإلا فلا. ونقل عن عطاء بن "أبي" الرباح: أنه يجوز الاستثناء المنفصل ما دام في

المجلس. وقال قوم: يجوز في كتاب [الله] خاصة لزعمهم أن كلام الله تعالى في الأزل واحد، والتقدم والتأخر إنما هو في الوصول إلى المخاطبين، فالاستثناء وإن تأخر عن المستثنى منه في الوصول إلينا، لكنه غير متأخر عنه حيث حصل التعدد، وأما ما قبله فقد كان واحدا. وضعفه لا يخفى على ذي لب، فلا حاجة إلى تضعيفه. واحتج الجماهير على بطلان الاستثناء المنفصل بوجوه:

أحدها: وهو المعول عليه: أن الإجماع منعقد على أن الطلاق والعتاق إذا نفذا لا مرد لهما، ولهذا لو كانا بعوضين فإنهما لا يفسدان بفسادهما، والقول بصحة الاستثناء المنفصل يرفع هذا الإجماع، لأنهما يريدان بعد النفوذ بالاستثناء بعده على تقدير صحته، وكذلك يلزم أن لا يستقر شيء من العقود والأقارير لتوقع الاستثناء بعدها، فيلزم أن لا يجوز الانتفاع للمشتري بالمبيع، كما في زمن الخيار لعدم استقرار الملك، وكل ذلك خلاف الإجماع، وكذلك لا يحصل الثقة باليمين والوعد والوعيد، وفي ذلك من الفساد ما فيه. وثانيها: أن الرجل إذا قال لوكيله مثلاً: بع داري ممن شئت، ثم قال بعد مدة: إلا أن زيد، فإن أهل اللسان لا يعدون هذا الاستثناء عائدًا إلى الكلام الأول، حتى لو باع الوكيل الدار من زيد لا يلومه أحد على المخالفة، ولو لامه الموكل على ذلك لاستهجن واستقبح لومه. وثالثها: القياس على تأخير المبتدأ والشرط، فإنه لا يجوز تأخيرهما عن المبتدأ وعما هو شرط له وفاقا، فكذا هذا، والجامع أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه دون الانضمام إلى ما قبله، بل الاستثناء أولى بعدم الاعتبار لما فيه من إبطال معنى الكلام الأول حتما، بخلاف خبر المبتدأ فإنه ليس على تقدير الضم إلى الأول يبطل معناه: بل يصلحه، وبخلاف الشرط فإنه ليس يبطل مدلول ما سبق حتما، بل إن لم يوجد ذلك الشرط. ورابعها: أن مقتضى الدليل أن لا يصح الاستثناء/ (241/ ب) أصلا، لأنه رفع بعد الإثبات وإنكار بعد الإقرار، وترك العمل به في المتصل لمسيس

الحاجة، فإن الإنسان قد يخبر عن شيء ويذهل "عن" جزئية "ثم" يتذكر أن ذلك الجزئي على خلاف ذلك الشيء في ذلك الحكم فيستثنيه، وهذه الحاجة مفقودة بعد طول المدة، فوجب أن يبقى على الأصل. وخامسها: أنه عليه السلام أرشد الصحابي الذي كان يخدع في البيوع، وقال له: قل "لا خلا به واشترط الخيار لنفسك ثلاث أيام" ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحًا لأرشد إليه، إذ هو أصلح من الخيار لاستبداده به بدون رضا البائع ولطول مدته، وحيث "لم يرشد إليه" دل على أنه

لا يصح، وهذا التقرير بعينه آت أيضًا: في قوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" أو " [فليكفر عن يمينه] وليأت الذي هو خير" على اختلاف الروايتين.

واحتجوا بوجوه: أحدها: ما روى أنه عليه السلام قال: "والله لأغزون قريشا"، ثم سكت وقال بعده "إن شاء الله تعالى"، ولو لم يصح الاستثناء بعد السكوت لما فعله لكونه عبثا، ولأنه يوهم صحته وإيهام الباطل باطل.

وجوابه: أنه لم يرد في الروايات سوى أنه سكت، فلعل ذلك السكوت كان لعذر من بلع ريق أو إزاحة بلغم أو شيء من الحلق أو انتظار كلمة من سامع هذه اليمين، وإذا كان هذا محتملا وجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين. وثانيهما: ما روى أنه عليه السلام سئل عن عدة أصحاب الكهف، وعن مدة لبثهم، فقال عليه السلام: "أخبركم غدا" ولم يقل إن شاء الله تعالى: فتأخر الوحي عنه أياما كثيرة على اختلاف في عددها على ما هو

مشهور في التفاسير فنزل قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت}، فقال عليه السلام: "إن شاء الله تعالى" على أنه استثناء عن خبره الذي تقدم، وهو قوله: "أخبركم إذا" ولو لم يكن الاستثناء المنفصل صحيحا لما فعله لما سبق. وجوابه: أنه لا نسلم أنه عائد إلى ما تقدم من خبره، بل هو عائد إما إلى قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} وهو الأظهر، أو إلى قوله: {واذكر ربك إذا نسيت}. فكأنه قال على التقدير الأول: لا أقول لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن أقول معه إن شاء الله تعالى، فيكون الاستثناء الأول متعلقا بقوله: {إني فاعل ذلك غدا}، والثاني متعلقا بقوله/ (242/ أ): إلا أن أقول معه إن شاء الله تعالى. وأما على التقدير الثاني: يصير تقديره أذكر ربي إذا نسيت إن شاء الله تعالى، وهذا كما إذا قال الرجل لغيره افعل كذا فقال: إن شاء الله تعالى، أي أفعل ذلك إن شاء الله تعالى. وثالثها: أن الاستثناء رافع لحكم اليمين فجاز تأخيره كالكفارة. وجوابه: أن الجامع وصف طردي، وهو غير معتبر. ولئن سلم اعتباره: لكن الفرق بين الرفعين ظاهر، وذلك لأن الاستثناء رافع لحكم اليمين يرفع أصل اليمين، والكفارة رافعة لحكمها في هتك حرمة اسم الله تعالى بسبب الحنث، فلم يكن أحد الرافعين مثل الآخر حتى يصلح أن يكون جامعاً بينهما.

سلمنا: ذلك لكن النزاع في صحة الاستثناء المنفصل من جهة اللغة لا من جهة الشرع، فلم يصح قياسه على الحكم الشرعي. ورابعها: القياس على التخصيص والنسخ. وجوابه: المطالبة بالجامع. ولئن سلم: صحته لكنه قياس في اللغة، وهو ممنوع. ولئن سلم: جوازه لكنه منقوض بخبر المبتدأ والشرط. ولئن سلم: سلامته عن النقض، لكن الفرض بينهما وبين الاستثناء ظاهرة، أما بينه وبين التخصيص فهو: إن التخصيص يجوز بدليل العقل والقياس وقرائن الأحوال والاستثناء لا يجوز بشيء من ذلك، والافتراق في الحكم ينبئ عن الافتراق في الحكمة. وأيضا: فإن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد، والتخصيص بالمنفصل ليس كذلك وفاقا، وأما بينه وبين النسخ، فهو: أن النسخ يجب تراخيه، والاستثناء لا يجب فيه ذلك. وأيضا: الاستثناء يجب أن يبقى من حكم المستثنى منه شيئا، لأن الاستثناء المستغرق لا يصح وفاقا، والنسخ لا يجب فيه ذلك. وأيضا: النسخ يصح فيما علم ثبوته، ولو بدليل غير اللفظ، بخلاف الاستثناء فإنه لا يصح إلا من الدليل اللفظي، وكل ذلك يدل على افتراقهما في الحكمة.

المسألة الثانية [في الاستثناء من غير الجنس]

المسألة الثانية [في الاستثناء من غير الجنس] ذكر اختلاف قول بين العلماء في صحة الاستثناء من غير الجنس. فنقل عن الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وجماعة من المتكلمين: كالقاضي أبي بكر رحمهم الله، القول: بالجواز. ونقل عن الآخرين القول بعدم الجواز.

هذا النزاع والاختلاف فيه إن كان من جهة الحقيقة فهو غير متجه، فإنا نعلم بالضرورة أن المتبادر إلى الفهم من سماع لفظ الاستثناء ومن سماع الاستثناء نفسه أعنى به: مدلول هذا اللفظ المخصوص، معنى الصرف والعطف على ما دل عليه/ (242/ ب) الاشتقاق أيضا: إذ المشتق منه لابد وأن يوجد في المشق. وما يقال [من] أن الاستثناء مشتق من التثنية، لأن الكلام كان واحدا قبله فثنى. فضعيف لا لعدم اطراده في كل ما يوجد فيه معنى التثنية، إذ

الاشتقاق غير واجب الاطراد، بل لأن الأصل يطابق التبادر والاشتقاق، فإن اختلاف المعاملات من قبيل التعارض وهو خلاف الأصل. ومعنى الصرف والعطف: إنما يعقل في المستثنى لو دل عليه اللفظ، وغير الجنس لا يدل عليه اللفظ، فلم يعقل فيه معنى الصرف، فلم يصح كالاستثناء بطريق الحقيقة [ولو حمل اللفظ على المعنى المشترك بين مسماه، وبين المستثنى من غير الجنس حتى يصح الاستثناء بطريق الحقيقة] إذ فيه معنى الصرف على هذا التقدير، لوجب أن يصح استثناء كل شيء من كل شيء، لأن كل شيئين لابد وأن يشتركا من بعض الوجوه، فإذا حمل اللفظ على ذلك المشترك صح الاستثناء عنه بطريق الحقيقة. لكنه باطل، لأنا نعلم بالضرورة فساد قول من يقول: مثلا فلان لا يتعلم إلا أنه مستثنى في السوق، وما يجري مجراه من الهذيانات. فإن قلت: ما ذكرتم إنما يلزم أن لو حمل اللفظ على أي مشترك كان بينهما، وجوازه ممنوع. ولم يجوز أن يقال: إنه يشترط في ذلك لصحة الاستثناء على وجه الحقيقة، حمله على معنى مشترك بينهما مناسب قريب؟. كما قال الشافعي رضي الله عنه: أنه لو قال: الرجل لفلان على مائة درهم إلا ثوبا، فإنه يصح استثناؤه لو بين الثوب بما قيمته أقل من مائة درهم. ويكون معناه: إلا قيمة ثوب، أما على إرادة حذف المضاف وإقامة المضاف

إليه مقامه، أو على إرادة القيمة من الثوب، لأنها لازمة من لوازمه، وهي تشتمل المستثنى منه أيضا. وكما قال أبو حنيفة رضي الله عنه: أنه لو قال الرجل لفلان علي كر من من الحنطة إلا منوين من اللحم صح استثناؤه، لأنه يجوز استثناء المكيل عن الموزون وبالعكس، على التأويل السابق في الثوب لاشتراكهما في علة الربا. كما يشهد بذلك استعمالات أهل اللسان، إذ لم يوجد في كلامهم استثناء بعيد غير مناسب منافر من غير الجنس، بل غاية ما يوجد مثل قولهم: ليس له ابن إلا بنت، وما في الدار رجل إلا امرأة، وما رأيت أحدا إلا ثورا، وليس له إبل إلا بقر. وهذه الاستثناءات يحتمل أن تكون من الجنس على تقدير حمل اللفظ الأول على/ (243/ أ) المشترك القريب المناسب بين مدلوله وبين المستثنى كالولد في الأول والإنسان في الثاني، والحيوان في الثالث، لو سلم اختصاص إلا حد بالإنسان أو بمن يعقل وهو ممنوع. وهذا لأنه يقال: رأيت أحد الحمارين، وركب أحد الفرسين، والنعم في الرابع، وإذا كان كذلك لا يلزم صحة استثناء كل شيء عن كل شيء.

قلت: نحن لا ننكر اشتراط ما ذكرتم من الاحتمال في صحة الاستثناء من غير الجنس، لكن على وجه التجوز، إذا لا يجوز استثناء كل شيء عن كل شيء، وإن كان على وجه التجوز. فإما على وجه الحقيقة فلا ويدل عليه وجهان: أحدهما: ما سبق في اللغات، وهو: أن تقييد جواز استعمال اللفظ في معنى بأمر، مع عدم تقييده به في آخر، دليل التجوز. وثانيهما: أن حمل اللفظ على لازم مدلوله، وإن كان قريبا بينا مجاز بالاتفاق، وهو خلاف الأصل، فلو كان الاستثناء من غير الجنس حقيقة مشروطا بما ذكرتم من الاحتمال، لكانت الحقيقة مستلزمة للمجاز الذي هو على خلاف الأصل، ومستلزم خلاف الأصل أيضا، فتكون الحقيقة خلاف الأصل، هذا خلف. وإن كان على وجه التجوز، فهذا أيضا: لا يتجه، لأنه قد ورد في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله عليه السلام، وفي كلام الفصحاء من أهل اللسان، في نظامهم، ونثرهم كثيرا خارجا عن الحصر على ما عرفت بعضه فيما تقدم

وجوابهم: عن ذلك حيث عجزوا عن حمل اللفظ على ما به يصير الاستثناء من الجنس بجعل: إلا، بمعنى: لكن، لا يرفع احتمال التجوز، بل يحققه، لأنه متى لم يكن "إلا" مستعملة في حقيقته كان الاستثناء مجازا قطعا. وإنما دافع الاحتمال كون الاستثناء في غير الجنس حقيقة، لكن قد ذكرنا أن الخلاف فيه أيضا: غير متجه حتى يفرض الاستدلال فيه، فيحتاج إلى الدفع فالمسألة حينئذ تكون اتفاقية لا يتجه فيها الخلاف ببطلان الاستثناء فيه على وجه الحقيقة، وجوازه على وجه التجوز والخلاف على "هذا" الوجه

المسألة الثالثة [في الاستثناء المستغرق]

"الأول" أقرب قليلا من الوجه الثاني، إذ لا يتجه إنكاره على وجوه التجوز أصلا. وفي المسألة وجه آخر: وهو أنا أجمعنا على أن الاستثناء من الجنس بطريق الحقيقة دفعا للاشتراك، ولا يمكن/ (243/ ب) جعله حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بينهما، لأن الدلالة الالتزامية معتبرة وحاصلة في الاستثناء من غير الجنس على تقدير كونه حقيقة فيه قطعا وهي غير معتبر وغير حاصلة في الاستثناء من الجنس فلم يتحدد مدلوله فيهما. المسألة الثالثة [في الاستثناء المستغرق] اتفقوا: على أن الاستثناء المستغرق فاسد، وأن الثابت في ذلك هو مقتضى المستثنى منه، وبلغو المستثنى، وهو كقولك: لفلان على عشرة إلا عشرة والواجب في ذلك هو العشرة بالإجماع. واتفقوا أيضا: على أن الاستثناء الأقل صحيح، وأن الواجب في ذلك في الأقارير ما بقى بعد الاستثناء. لكن نقل عن بعض أئمة اللغة استقباح استثناء عقد صحيح وإن كان أقل مما

بقي كالعشرة من مائة. واختلفوا: في استثناء الأكثر، والمساوي، فمنع بعض أئمة العربية الأول لا غير، وعزى إلى مالك- رضي الله عنه-، ولا يكاد يصح ذلك عنه. ومنع القاضي والحنابلة منهما.

جميعا. والدليل على فساد المذهبين جميعا، إجماع الفقهاء، قبل ظهور المخالف على صحة قول القائل: لفلان على عشرة إلا تسعة، وإن الواجب في ذلك هو الواحد، فلو كان استثناء الأكثر، والمساوي فاسدا، لما صح هذا، وإن إجماعهم حينئذ يكون باطلا. وهو باطل.

لا يقال: ما ذكرتم لو صح فإنه إنما يدل على صحته شرعا لا غير، لأنهم أئمة الأحكام لا أئمة اللغة والعربية، وإجماعهم إنما يعتبر بالنسبة إلى أحكام الشرع، إذا الإجماع المعتبر يجب أن يكون صادراً من أهل ذلك الفن. فلم قلتم أنه يصح لغة أيضا؟ لأنا نقول: الأصل عدم التعبير لاسيما فيما لا يوجد فيه دليل شرعي على الخصوصية. وأما الاستدلال: في ذلك بقول الشاعر: أدوا التي نقصت سبعين في مائة .. ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا

وبقياس الاستثناء على التخصيص على ما استدل به بعض الأصحاب، فضعيف: إذ لا استثناء في الشعر، لأن معناه: أدوا المائة التي تسقط منها تسعون، ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء بل قد يكون بغيره، كما لو صرح وقال: أسقطت التسعين "من مائة". والفرق قائم بين التخصيص والاستثناء، على ما عرفت ذلك من قبل. وأما الدليل على فساد المذهب الثاني: خاصة وهو مذهب القاضي والحنابلة فقوله تعالى/ (244/ أ): {إن عبادي ليس عليك سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}. وقال حكاية عن إبليس: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}. استثناء الغاوين في الآية الأولى: عن العباد فمقتضى هذا على رأي الخصم أن يكون المخلصون أكثر، ضرورة أنه ليس بعد الغاوين إلا المخلصون "ولأنه نفى عنهم سلطانه والذين ليس له عليهم سلطان هم المخلصون" بدليل قوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}. واستثنى المخلصين في الآية الثانية: ومقتضى هذا على رأيهم أن يكون الغاوين أكثر لما سبق، وحينئذ يلزم أن يكون كل واحد من الغاوين

والمخلصين أقل من الآخر والأقل من الأقل أقل، فيلزم أن يكون كل واحد منهما أقل من نفسه وهو محال. أو نقول بطريق آخر: وهو أنه تعالى استثنى الغاوين من العباد وهم أكثر المخلصين الباقين بعد الاستثناء، بدليل قوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} {بل أكثرهم لا يؤمنون} {ولا تجد أكثرهم شاكرين} {وقليل من عبادي الشكور}. والاستقراء أيضا يشهد بذلك، فلو كان شرط المستثنى أن يكون أقل لما صح هذا الاستثناء، لكنه صح إذ ورد في كتاب الله تعالى، فدل ذلك على أنه ليس بشرط. واعترض عليه بوجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن "إلا" في قوله تعالى: {إلا من اتبعك} للاستثناء، بل هي عندنا بمعنى: لكن، فلم قلتم إن ذلك لا يجوز؟ سلمنا: أنها للاستثناء، لكن إنما يمتنع استثناء الأكثر لو كان عدد المستثنى والمستثنى منه "مصرحا، كما في استثناء الأعداد من الأعداد، أما إذا لم يكن" مصرحا به، كما إذا قال: أكرم الناس الذين يدخلون في داري إلا

الجهال، فإنه يصح وإن كان الجهال أكثر الداخلين، فلم تكن الآية دالة على صورة النزاع، ضرورة أن العدد "غير" مصرح به. وجواب الأول: أن جعل: "إلا"، بمعنى: "لكن"، خلاف الأصل، والأصل استعمال كل لفظ في موضوعه إلا لدلالة صارفة عنه، والأصل عدمه. وعن الثاني: أن القول بالفصل في الجواز وعدمه في الاستثناء بين ما يكون العدد مصرحا به وبين ما لا يكون كذلك، لكن المتكلم والسامع يعلم كل واحد منهما أن المستثنى أكثر من المستثنى منه حالة الاستثناء، سواء كان معلقا بصفة، كما في الآية المتلوه/ (244/ ب)، أو لا يكون معلقا بها كما إذا قال: جاءني كل الناس إلا أكثرهم. قول: "لم يقل به أحد: وفيه نظر ولا هو متجه إذ لا فرق بينهما في مأخذ الخصم" على ما ستعرفه. نعم: قد يتجه الفصل في الجواز وعدمه بينه وبين ما يكون معلقا بصفة لا يعلم المتكلم ولا السامع أنه "يكون" أكثر من المستثنى منه، حالة الاستثناء وإن كان يتفق أنه يكون أكثر منه فيما بعد، كما إذا قال السيد لعبده: أكرم كل من دخل داري إلا الصبيان، وإن كان يتفق أن الصبيان أكثر الداخلين، لما إن علة المنع غير متحققة حالة الاستثناء، وإن كنا

لا نعلم أن أحدًا "منهم" قال به أم لا. ولقائل أن يقول: إنا لا نسلم أن مجموع الغاوين المنتزع من العبادة لو كان أقل من المخلصين الباقين، وأن المخلصين المستثنين، لو كان أقل من الغاوين الباقين، لزم أن يكون كل واحد منهما أقل من نفسه، وإنما يلزم ذلك "أن لو كانا" منتزعين من شيء واحد، وهو ممنوع. وهذا لأن الغاوين منتزع من العباد المتناول، للملائكة، والجن والإنس، والشياطين، ولا شك أن المخلصين الباقين من هؤلاء أكثر من الغاوين المستثنين، لأن الملائمة وحدها تزيد على من سواها من المخلوقات، على ما تشهد به الآثار الواردة في كثرتهم نحو قوله عليه السلام: "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد".

ونحو ما روي عنه عليه السلام: "أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة "السماء" الثانية"، وهكذا إلى السماء السابعة، فكيف وينضم إليها كثير من مخلصي الجن والإنس؟ وأما المخلصون في الآية الأخرى فمنهم مستثنون من بني آدم، لأن الضمير في قوله تعالى {لأغوينهم أجمعين} راجع إليهم ولا شك أن

المخلصين منهم أقل من الغاوين الباقين، وحينئذ لم يلزم ما ذكروه من المحذور، وهو أن يكون كل واحد منهما أقل من نفسه. وأما الآيات التي استدل بها على أن الغاوين أكثر في الطريقة الثانية فهي مختصة ببني آدم، إذ الضمائر فيها راجعة إليهم، ولفظ العباد وإن كان/ (245/ أ) عاما في قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، لكنه يجب أن يكون مختصا بهم أيضا: ضرورة أن الملائكة المعصومين ليسوا كذلك، والاستقراء إنما يدل على كثرة الغاوين من الإنسان لا من غيرهم، وإذا كان كذلك لم يكن المستثنى أكثر من المستثنى منه في النصين جميعا. واستدل أيضا: على جواز استثناء النصف خاصة بقوله تعالى: {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا "نصفه"}. ووجه الاستدلال به هو أن النصف بدل من "القليل" الذي هو المستثنى وإنما جعل النصف قليلا، لأنه قليل بالنسبة إلى الكل، فيكون هو المستثنى في الحقيقة، إذ البدل هو المقصود بالنسبة دون المبدل. وأجيب عنه بمنع كونه بدلا عنه، بل هو بدل عن "الليل" وتقديره: قم الليل نصفه إلا قليلا، فهو على هذا ظرف للقيام، لأنه مستثنى. ولقائل أن يقول: جعله بدلا عن: القليل، أولى من جعله بدلا عن

الليل" لوجهين: أحدهما: أنه على التقدير الأول: يكون بدل الكل من الكل، وعلى التقدير الثاني: يكون بدل البعض من الكل، ولا شك أن الأول أولى، لعدم التخصيص فيه ووجوده في الثاني. وثانيهما: أنا لا نحتاج إلى التقديم والتأخير الذي هو على خلاف الأصل على تقدير أن يجعل بدلا من القليل، بخلاف ما إذا جعل بدلا عن الليل، فإنا نحتاج إليه ومعلوم أن المحوج إلى خلاف الأصل، خلاف الأصل فيكون جعله بدلا عن الليل، خلاف الأصل. احتج المانعون بوجهين: أحدهما: أن الدليل يأبى قبول الاستثناء، لكونه إنكارا بعد الإقرار، وجحدا بعد الاعتراف وترك العمل به في القليل، لأنه بصدد النسيان لعدم التفات النفس إليه، فالمعترف بشيء عليه إنما نسى أن ذلك الشيء عليه بنقصان شيء يسيرا، وإن كان تماما لكن أدى منه شيئا يسيرا ونسيه لقلته، فإذا اعترف به فعند ذلك إنما يتذكر ذلك، فلو لم يكن متمكنا من استدراكه بالاستثناء لكان ذلك ضررا ظاهرا عليه، فسوغنا له الاستثناء في ذلك اليسير الذي في معرض النسيان، ثم درجات القلة متفاوتة بالنسبة إلى المال

المعترف به، وإلى الشخص المعترف ولا ينضبط ذلك، وضبطنا القلة بما دون النصف، وهذا/ (245/ ب) [المعنى] غير موجود في النصف والأكثر، لأنه يضاد الذكر لكثرته فوجب أن يبقى على الأصل. وجوابه: أن من قال من الجوزين أن الاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة، فهذا ساقط عنه بالكلية، وأما من لم يقل به فهو يقول: إنا لا نسلم أن الاستثناء إنكار بعد الإقرار حتى يأبى الدليل قبوله، وهذا لأن الكلام إنما يتم بآخره، فقبل الإتمام ليس هو معترفا بشيء، وإنما يصير معترفا بما تقدم على الاستثناء أن لو انقطع الكلام عنده، أما إذا لم ينقطع فلا، وإذا كان كذلك لم يكن قبول الاستثناء على خلاف الدليل فلم يكن عدم قبوله في النصف والأكثر منه على وفق الدليل. وثانيهما: أن الرجل إذا قال لفلان: على عشرة إلا تسعة وخمسة أسداس وخمس حبات، يعد كلامه هراء وهزوا، والهراء والهزو ليسا من كلام العرب، وإذا لم يجز في هذه الصورة لم يجز في النصف أيضا: لعدم القائل بالفصل. وجوابه: أنا نسلم أن ذلك خلاف الأحسن، لكن ليس كل ما هو خلاف الأحسن ليس من كلامهم، ألا ترى أن الرجل إذا قال لفلان: على سبعة وخمسة أسداس وخمس حبات، كان خلاف الأحسن مع أنه جائز بالاتفاق، وكذلك لو قال لفلان: على عشرة إلا خمسة أسداس وخمس حبات ونصف حبة، كان على خلاف الأحسن، لأن الأحسن أن يقول: لفلان على تسعة ونصف حبة، مع أنه جائز بالاتفاق.

المسألة الرابعة الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، عند أصحابنا خلافا للحنفية فيهما

المسألة الرابعة الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، عند أصحابنا خلافا للحنفية فيهما. وإيراد الإمام يشعر بتخصيص الخلاف في الأول.

والحق ما ذكرناه على ما صرح به بعضهم، لأن مأخذه في ذلك هو أن بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة، وهو عدم الحكم وتركه على ما كان عليه قبل الاستثناء، فمقتضى الاستثناء، هو خروج المستثنى عن أن يكون محكوما عليه بالحكم المذكور، وبقاؤه على ما كان عليه قبل الحكم لا يفرق بين الاستثناء من النفي وبين الاستثناء من الإثبات، إذ الواسطة بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات بعدم الحكم، حاصلة سواء كان الاستثناء من النفي أو من الإثبات. نعم: يلزم النفي للمستثنى من الإثبات عنده، بناء على أنه الأصل قبل الحكم بالإثبات، لأن الاستثناء اقتضى ذلك/ (246/ أ). فإن القائل إذا قال مثلا: لفلان على عشرة إلا درهما، كان معناه عنده إن الدرهم غير محكوم عليه باللزوم، لأنه محكوم عليه بعدم اللزوم، ومتى كان الدرهم غير محكوم عليه باللزوم، كان عدم اللزوم لازما له بناء على العدم الأصلي. ولعل الإمام "لهذا" السبب خصص الخلاف في النوع الأول، إذ لا يظهر للخلاف في الثاني، فائدة، فإن النفي ثابت فيه بالاتفاق، لكن المأخذ مختلف، فعندنا بسبب الاستثناء، وعنده بسبب البقاء على

الحكم الأصلي. احتج الأصحاب: على صحة مذهبهم بوجهين: أحدهما: أنا أجمعنا، بأن الكافر سواء كان مشركا أو دهريرا لا يرى للعالم صانعا، إذا قال كلمتي الشهادة: فإنه يصير مؤمنا عند ذلك، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثباتا، لما كان مؤمنا، إذ ذاك، لأنه حينئذ لم يكن مثبتا للإلهية لله تعالى، بل نافيا لها من غيره تعالى فقط وبمجرده لا يحصل التوحيد، لأن التوحيد يتوقف على أمرين: أحدهما: نفي الإلهية عن غير الله تعالى. وثانيهما: إثباتها لله تعالى، وحينئذ يلزم إلا يصير مؤمنا بقولهما، وهو خلاف الإجماع، وإنما فرضنا الكلام في الدهري أيضا: كيلا يظن أن المقصود من هذه الكلمة إنما هو نفي الشركاء، فإما إثبات الإلهية لله تعالى، فليس هو المقصود من هذه الكلمة، بل كان ذلك حاصلا للكافر قبل التلفظ بكلمتي الشهادة، بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله}. فإذا حصل مع ذلك اعتقاد نفي الشركاء صار الكافر مؤمنا، لأن هذا لا يستقيم في حق الدهري الذي لا يرى للعالم صانعا، إذ ليس هو مثبتا للإلهية لأحد، والضمير في قوله: {ولئن سألتهم} ليس براجع إلى جميع أصناف الكفار، بل إلى بعضهم لما علم أن بعضهم لم يقولوا بإثبات الإلهية لله

تعالى، كما أخبر الله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيات وما يهلكنا إلا الدهر}. وثانيهما: أن المتبادر إلى الفهم، عند سماع قول القائل: لا عالم في المدينة إلا زيد، إثبات كونه عالما ونفي غيره عن أن يكون كذلك، ويفهم منه من كمال علمه ما لا يفهم من قولنا: زيد عالم، ولو لم يكن الاستثناء من النفي مفيدا للإثبات لما فهم ذلك، فضلا عن أن يكون متبادرا وإحالة الفهم إلى قرينة المدح/ (246/ ب) وإلى العرف خلاف الأصل. احتجوا: بأنه لا يفيد الإثبات في مثل قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي".

...........................................................................

...........................................................................

"ولا صلاة إلا بطهور"، ولا يلزم من تحقق الولي والطهور، تحقق النكاح والصلاة. والأصل في الاستعمال الحقيقة، والاشتراك خلاف الأصل. وأيضا: لو جعل مفيدا للإثبات فحيث لم يفد يلزم الترك بالدليل، أما لو جعل مفيدا لإخراج المستثنى عن الحكم المستثنى عنه فقط فحيث استعمل للإثبات لم يلزم منه إلا إثبات حكم آخر لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات. ومعلوم أن الثاني أولى. ولأنه استعمل في إفادة الإثبات، كما ذكرتم واستعمل أيضاً حيث لا يفيده، بل يفيد عدمه كما ذكرنا، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فوجب جعل حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو أخراج المستثنى عن حكم المستثنى منه لا غير. الجواب عن الأول من وجهين:

أحدهما: أنا إنما ندعي ذلك، حيث يصدق اسم المستثنى منه على المستثنى وهو في الاستثناء من الجنس، وما ذكرتم من المثالين ليسا كذلك، إذ لا يصدق النكاح على الولي، والصلاة على الطهور. وثانيهما: أن الفرق بين قولنا: لا قضاء إلا بالعلم، ولا كرم إلا بالمال، وبين قولنا: لا قاضي إلا فلان، ولا كريم إلا فلان، معلوم بالضرورة. فإن الأول: إنما يستعمل لإفادة الشرطية لا غير، ولذلك أدخلوا باء الإلصاق في المستثنى ليؤذن بإلصاق المستثنى منه بالمستثنى، ولذلك أيضا: يصح استعماله وإن لم يوجد قاض وكريم في الدنيا، إذ الشرطية بين الشيئين لا يتوقف على وجودهما. بخلاف النوع الثاني فإنه لا يفهم منه معنى الشرطية أصلا، ولم يصح استعماله حيث لا وجود للمستثنى، ولم يصح دخول الباء عليه. وعن الثاني: المعارضة بما أنا لو جعلناه حقيقة في إفادة الإثبات أمكن جعله مجازا في الإخراج، ولو جعلناه حقيقة في الإخراج، لم يمكن جعله مجازا في إفادة الإثبات، إذ هو غير لازم له، وأيضا: الترك بالدليل وإن كان خلاف الأصل، لكن قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه وما ذكرنا من الدليل دال عليه فوجب المصير إليه. وعن الثالث: أنا لا نسلم استعماله، حيث لا يفيده إذا كان المستثنى من الجنس. سلمناه: لكنه معارض بما أنه يستلزم مجازين، وهو استعماله في تينك/ (247/ أ) الصورتين، بخلاف ما إذا جعل حقيقة في أحديهما فإنه لا

المسألة الخامسة [في تعدد الاستثناءات]

يلزم إلا التجوز في الصورة الأخرى. سلمنا: سلامته عن هذا المعارض، لكن المجاز قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه. المسألة الخامسة [في تعدد الاستثناءات] الاستثناءات إذا تعددت، فلا يخلوا إما أن يكون البعض معطوفا على البعض أو لا يكون. فإن كان الأول: فإما أن يكون مجموعها ناقصا عن المستثنى منه، أو لا يكون كذلك. فإن كان الأول: عاد الكل إلى المستثنى منه، وهو كقولك: لفلان على عشرة إلا اثنين وإلا ثلاثة وإلا أربعة، وهو ظاهر غني عن البيان. وإن لم يكن مجموعها ناقصا عنه، سواء كان مساويا، أو أزيد بعضها أو مجموعها، فإن حصلت المساواة بالاستثناء الأول: فلا كلام في فساده، ووجوب المستثنى منه كاملا، وإن حصلت بالأول

وبالثاني: مثلا، فلا يخلو: إما أن يكون الثاني مساويا للاستثناء الأول، أو أنقص منه. فإن كان الأول: فقد تعذر رجوعه "مع" الأول إلى المستثنى منه، وبقدر رجوعه أيضا إلى الثاني "بيان" "لعلتين": العطف، والمساواة، فيفسد لا محالة. وهل يفسد معه الأول: حتى لا يسقط من المستثنى منه شيء، لأن العطف يجعل الاستثناءات المتعددة كاستثناء واحد، أم يخص الثاني بالإفساد لأن الفساد نشأ منه؟. فيه احتمالان: لكن الظاهر إنما هو الثاني. وإن كان الاستثناء الثاني أنقص من الاستثناء الأول، فالظاهر أن هاهنا يقع التعارض بين واو العطف وبين ما يقتضي حمل كلام العاقل البالغ على الصحة، لأن بتقدير أن يعود الاستثناءان إلى المستثنى منه يفسدان، وبتقدير أن يعود الأول إلى المستثنى منه، ويعود الثاني إلى الأول يصحان، لكن تبطل دلالة الواو على العطف، إذا لا عطف على هذا التقدير، هذا كله إذا كان البعض معطوفا على البعض. أما إذا لم يكن البعض معطوفا على البعض، فالاستثناء الثاني لا يخلو إما أن يكون مساويا للاستثناء الأول أو أزيد، أو أنقص، وعلى كل واحد من

هذه التقادير الثلاثة، لا يخلو أيضا: إما أن يكون مساويا لما بقي من المستثنى منه بعد الاستثناء الأول، أو أزيد، أو أنقص، فهذه أقسام تسعة، تحصل من ضرب الثلاثة في الثلاثة، تبين أمثلتها وأحكامها. فأولها: كقولك: لفلان على عشرة إلى خمسة إلا خمسة، فهاهنا يفسد الاستثناء الثاني لا محالة، لتعذر رجوعه إلى الاستثناء الأول، وإلى المستثنى منه، ويجب من المستثنى من ما بقى بعد الاستثناء الأول. وثانيها: كقولك: لفلان على تسعة إلا خمسة إلا خمسة وحكم هذا القسم في فساد الاستثناء الثاني، ووجوب ما بقى من المستثنى منه بعد الاستثناء الأول كحكم الأول. وثالثها: كقولك: لفلان على عشرة إلا أربعة إلا أربعة، فهاهنا يرجع الاستثناء الثاني إلى المستثنى منه كالاستثناء حملا لكلام البالغ العاقل على الصحة، لأن بتقدير أن يرجع إلى الاستثناء الأول يلغو. ورابعها: كقولك: لفلان على عشرة إلى أربعة إلا ستة، فهاهنا يفسد الاستثناء الثاني أيضا لما سبق. وخامسها: كقولك: لفلاه على عشرة إلا أربعة إلا سبعة، وحكمه

ما سبق. وسادسها: كقولك: لفلان على عشرة إلا أربعة إلا خمسة، فهاهنا أيضا يعود الاستثناء الثاني إلى المستثنى منه لما سبق". وسابعها: "كقولك": لفلان على عشرة إلا ستة إلا أربعة فهاهنا يعود الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول، ولا يعود إلى المستثنى منه لما سبق. وثامنا: كقولك: لفلان على عشرة "إلا ستة إلا خمسة، وحكم هذا كحكم السابع. وتاسعها: كقولك: لفلان على عشرة" إلا خمسة إلا أربعة، فهاهنا يصلح أن يعود الاستثناء الثاني إلى الأول، وإلى المستثنى منه أيضا. فلا يخلو إما أن يقال: إنه يعود إليهما، وإلا إلى واحد منهما، أو إلى المستثنى منه فقط، أو إلى الاستثناء الأول فقط، والأقسام الثلاثة الأول باطلة فيتعين الرابع. أما الأول فلوجهين: أحدهما: أن المستثنى منه إذا كان منفيا مثلا بالاستثناء الأول يكون إثباتا قطعا لما سبق، فالاستثناء لو عاد إليهما جميعا لزم أن يكون نفيا وإثباتا معا وهو محال. فإن قلت: النفي والإثبات إنما يستحيل اجتماعهما في شيء واحد باعتبار

واحد، أما باعتبارين مختلفين فلا نسلم استحالة اجتماعهما، ولو كان في شيء واحد. وقلت: ذلك إنما يعتبر فيما يجوز أن يختلف باختلاف/ (248/ أ) الاعتبارات، "كالأمور النسبية أما وجود الشيء وثبوته في نفسه فذلك لا يختلف باختلاف الاعتبارات"، إذ لا يجوز أن يقال: الشيء موجود في نفسه بالنسبة إلى هذا ومعدوم بالنسبة إلى هذا. وثانيهما: أنه [لو] عاد إليهما النفي من المستثنى منه عين ما أثبته من الاستثناء الأول، ضرورة أنه نفي، فيكون الاستثناء عنه ثبوتا فينجبر النقصان بالزيادة ويبقى ما كان حاصلا قبل الاستثناء فيلغو الاستثناء، ويضان كلام البالغ العاقل عنه. وأما الثاني: فبهذا وبالإجماع. وأما الثالث: فلأن القرينة يوجب الرجحان، فإن لم يوجب ذلك فلا أقل من المساواة.

المسألة السادسة في أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة المعطوفة بعضها على بعض هل يعود إليه بأسرها [أم يختص بالأخيرة؟.

المسألة السادسة في أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة المعطوفة بعضها على بعض هل يعود إليه بأسرها [أم يختص بالأخيرة؟. اختلفوا فيه، فذهب الشافعي وأكثر الصحابة: إلى أنه يرجع

إليها بأسرها]. وذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنه يختص بالجملة الأخيرة.

وذهب المرتضى من الشيعة: إلى أنه مشترك بين الرجوع إلى الكل، وبين أن يختص بالأخيرة. [وتوقف القاضي أبو بكر، والغزالي، وجماعة من أصحابنا في ذلك]، بمعنى لا ندري أن حكمه في اللغة ماذا. ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها: وأحدها: وهو ما ذكره إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- واختاره: أن الجمل التي تباعدت معانيها واختلفت مقاصدها كقولك: أكرموا من يزورنا، وحبست ضيعتي على أقاربي، وبعت داري من بني فلان، واعتقوا عبيدي إذا مت إلا لفاسق منهم، فهاهنا يختص الاستثناء بالجملة الأخيرة.

وإن لم يكن كذلك، بل تقاربت معانيها وتناسبت مقاصدها، كقولك وقفت داري على بني فلان، وحبست ضيعتي على أقاربي إلا الفاسق منهم، فهاهنا يجب أن يتوقف فيه، كما اختاره القاضي. ثم قال: وآية القذف وإن كانت أحكامها متناسبة، لكن لا يتوقف استثنائها، بل يجب ردها إلى ما قبل الأخيرة، لأن الأخيرة كالعلة لما قبلها، فكأنه قيل: ولا تقبلوا لهم شهادة، لأنهم الفاسقون، فإذا رفعت العلة بالتوبة رفع ما يتفرع عليها. وثانيها: أن الجمل كلها إن كانت لغرض واحد عاد الاستثناء إلى الكل، وإن كانت الأغراض مختلفة اختص الاستثناء بالأخيرة، وهو اختيار القاضي عبد الجبار بن أحمد على ما نقله بعضهم.

وثالثها: وهو أن الجملتين من الكلام إما أن يكون من نوع واحد، أو من نوعين مختلفين/ (248/ ب). فإن كان الأول: فإما أن تكون الثانية منهما متعلقة بالأولى، بأن يكون اسمها مصغرا فيها كقولك: أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال، أو حكمها كقولك: أكرم ربيعة ومضر إلا الطوال، فهاهنا الاستثناء راجع إليهما لعدم استقلال الثانية بدون الأول، لكن الثانية أولى برجوع الاستثناء إليهما، لأن المقصود من الاستثناء إخراج المستثنى عن أن يكون محكوما عليه بالحكم السابق، والجملة الثانية متعلقة بالأولى في المقصود الأصلي بالاستثناء، وهو الحكم، فيكون رجوعه إليهما أولى. أو لم يكن، وحينئذ إما أن تكون الجملتان مختلفتي الاسم والحكم سواء كان بين الحكمين اشتراك في أمر خاص، كقولك: وقفت ضيعتي على ربيعة، وأعتقت عبيدي إلا لفاسق منهم، فإن بين الحكمين اشتراكا خاصا غير كونهما قربه، وهو كونهما قربة مالية وإزالة ملك على وجه لا يجوز التصرف فيه بالبيع والهبة والانتفاع به لا له ولا لغيره. أو لم يكن كذلك كقولك: أكرم ربيعة، واضرب مضر إلا الطوال. أو متفقتي الاسم ومختلفتي الحكم سواء كان بين الحكمين اشتراك في غرض من الأغراض، إما اتحاد القصة كقولك: القاذف مجلود، والقاذف مردود الشهادة، القاذف فاسق إلا التائب منه. فإن هذه الأحكام مشتركة في غرض الإهانة مع اتحاد القصة.

أو لا مع اتحاد القصة كقولك: أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال، إذ الحكمان يشتركان في غرض الإحسان بعد غرض الإعظام مع عدم اتحاد القصة. أو لم يكن كقولك: أطعم ربيعة واصفع ربيعة إلا الطوال. أو متفقتي الحكم ومختلفتي الاسم كقولك: أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال، فالاستثناء في هذه الصور يختص بالجملة الأخيرة، لأن الظاهر أنه لم ينقل عن الجملة [الأخيرة] المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مثلها في الاستقلال إلا وقد تم غرضه منها، وذلك ينفي عود الاستثناء إليها ظاهرا، لكن بعض هذه الصور أولى من البعض باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة. فالثانية: من القسم الأول أولى بذلك من الأولى، ومن كل ما بعدها ولتغاير الاسم والحكم، ولعدم المناسبة. ثم الأول منه: أولى بذلك من كل ما بعدها، لتغاير الاسم والحكم، لأنه أولى بالاعتبار من المناسبة. والثالثة: من القسم الثاني أولى بذلك من الثانية، والأولى منه والثانية أولى بذلك من الأول. والقسم الثالث/ (249/ أ) أولى بذلك من الثالثة من القسم الثاني لما سبق أن المقصود من الاستثناء إخراج المستثنى عن الحكم لا إخراج ذاته. وأما القسم الثالث والثانية والأولى من القسم الثاني، فالظاهر أنها متساوية في ذلك لوجود أمرين معنويين.

هذا كله إذا كانتا الجملتان من نوع واحد، أما إذا لم يكونا من نوع واحد بل كانتا من نوعين مختلفين فحينئذ، إما أن تكون الجملتان متضمنتين لحكمين متنافيين. أما مع اتحاد القصة، كقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ..} الآية، فإن الجملة الأولى أمر، والثانية نهي، والثالثة خبر، وإن أحكامها متناسبة لعرض الإهانة والزجر عن ذلك الفعل مع اتحاد القصة. أولا مع اتحادها كقولك: من زنى فاجلده، ومن قذف فلا تقبل شهادته. أو لا يكونا كذلك كقولك: أكرم ربيعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البدعة والضلال، فالاستثناء في هذه الصور الثلاثة يختص بالجملة الأخيرة. ولا يخفى عليك مما سبق أن هذه الثلاثة أولى بذلك. وهو اختيار أبي الحسين البصري وجماعة من المعتزلة، خلا أمور زدناها فيه على المنقول عنهم على ما ظهر لنا وإنما نبهنا عليه، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى أحد ما لا يقول هو به، إما صريحا أو ضمنا سواء كان حقا أو باطلا،

وإذا قد عرفت المذاهب فيه. فاعلم: أن المختار في ذلك: إنما هو التوقف على ما قاله: إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- وهو التوقف في الجمل المتقاربة، والتقارب، إما أن يكون بسبب تعلق بعضها بالبعض كما تقدم، أو بسبب مناسبة بينهما، إما لفظية أو معنوية. أما في الجمل المتباعدة كقولنا: أكرم ربيعة وأهنت أهل بغداد إلا الطوال فهاهنا يظهر اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة. وهذا ظاهر غنى عن البيان، وإنما الشأن في إثبات التوقف فيما وراءها، وذلك ببيان حجج القاطعين، وبيان ضعفها، فإن المتوقف ليس عليه أن يذكر على التوقف حجة، بل يكفيه في ذلك القدح في أدلة القاطعين. احتج أصحابنا بوجوه: أحدها: أن الشرط بمشيئة الله تعالى أن تعقب الجمل عاد إلى الكل بالاتفاق، فكذا الاستثناء، والجامع أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه، وهذا الإلزام بعينه آت في الشرط أيضا: فإنا أجمعنا على أن الشرط إن

تعقب الجمل عاد إلى الكل، فكذا الاستثناء والجامع ما سبق، ولأنه لا فرق بينهما في المعنى، لأن قول/ (249/ ب) القائل: أكرم العلماء وأحسن إلى الشرفاء إلا الفاسق منهم، جاري مجرى قوله: أكرم العلماء وأحسن إلى الشرفاء إن لم يفسقوا. أجيب بالفرق، أما بين الأول منهما، وبين الاستثناء، فلأن في الاستثناء- بمشيئة الله تعالى- قرينة معنوية لازمة له تقتضي عودة إلى الكل، وهي ما علم من توقيف وجود الأشياء كلها على مشيئة الله تعالى، وهذه القرينة وإن كانت حاصلة قبل التلفظ بهذا التعلق والشرط، فإن حقيقة الاستثناء بمشيئة الله تعالى راجعة إلى الشرط، وإن سموه العلماء بالاستثناء، بدليل جريانه في الواحد وعدم جريان الاستثناء فيه، لكن لا عمل بها بالإجماع لما أن المعلق عليها منجبر في اللفظ ونحن إنما نعتبر حال اللفظ لا ما هو الواقع في نفسه، فإذا ذكر ذلك عاد إلى الكل، إذ ليس البعض في ذلك أولى من بعض. وأما بين الثاني منهما وبينه، فلأن الشرط متقدم في المعنى، وإن كان متأخرًا في اللفظ لوجوب تقدم الشرط على الجزاء، ولهذا كان تقديمه في اللفظ جائزًا بل أولى، بخلاف الاستثناء فإنه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه، وإذا كان متقدمًا على الكل صار كل ما بعده مشروطًا به، وهذا الفرق بعينه آت في الاستثناء بمشيئة الله تعالى لما تقدم، أنه راجع إليه. وهو ضعيف.

أما أولا: فلأنه غير قادح، وهذا لأنه إذا لم يعتبر ما هو الواقع في نفسه فالمعتبر، إما الملفوظ وحده، أو هو مع ما هو الواقع في نفسه وعلى التقديرين لم قلتم أنه راجع إلى الكل حتى يصير الكل موقوفًا عليه؟. فإن الشيء قد يختص بذكر نسبته إلى الشيء، وإن كان نسبة غيره إليه كنسبته إليه، لاسيما إذا كان الحكم يختلف بذلك. وأما الثاني: فغير قادح أيضًا: وهذا لأن الشرط مقدم في المعنى على ما هو شرط له، فتقديمه على الكل إنما يثبت إن لو ثبت أنه شرط للكل، فإثبات شرطيته للكل بكونه متقدمًا على الكل دور وهو ممتنع. سلمنا: تقدمه على الكل، مطلقا، لكن لم قلتم إن كل ما بعده يصير مشروطا به، ولم لا يجوز أن يكون المشروط "به" هو الذي يليه لا غير؟ وجوابه: أنا نمنع الحكم فيهما ولا يدفع ذلك بالإجماع، بأن يقال: التسوية بينهما وبين الاستثناء في الاختصاص بالجملة الأخيرة قول لم يقل به أحد، لأنا لا نسلم ذلك، وهذا إنا لو سلمنا أن أبا حنيفة/ (250/ أ) وأصحابه يسلمون الحكم فيهما، إلا أن بعض أهل العربية والواقفية يمنعون من ذلك. سلمنا: الحكم لكن ما الجامع، وما ذكرتم من الجامع لا يناسب الحكم، وهو العود إلى الكل، بل إنما يناسب إن تعلق بشيء قبله لا بكل ما قبله. سلمنا: مناسبته لذلك، لكنه قياس في اللغة. وهو ممنوع. وثانيها: أن حرف العطف يصير الجمل الكثيرة المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، قياسًا على المفرد وتمسكًا بعموم قول أهل العربية إذ

قالوا: إن، واو، العطف في المختلفات كواو الجمع في المتفقات، فلا فرق حينئذ بين قولك: أحسن إلى المسلمين إلا الفاسق منهم، وبين قولك: أحسن إلى العلماء وأحسن إلى الشرفاء، وهلم جرا إلى أن يذكر جميع أصناف المسلمين إلا الفاسق منهم، فإذا كان الاستثناء في الأول يعود إلى جميع المسلمين المذكورين وجب أيضًا: أن يعود في الثاني إلى جميع المذكورين. وجوابه: منع أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض كالجملة الواحدة، أما قياسه على المفرد فيمنع صحته، إذ هو قياس في اللغة. ولئن سلم: صحته فالفرق بينهما ظاهر، وبيانه من حيث الإجمال أن الاشتراك بين المعطوف، وبين المعطوف عليه في نسبة الفعل المذكور واجب، وهو غير واجب في الجمل المعطوف بعضها على بعض، فإنه يجوز أن يعطف الجملة المنفية على المثبتة وبالعكس، بل "لا" يجب الاشتراك بينهما في مطلق الفعل أيضًا: إذ يجوز عطف الجملة الأسمية على الجملة الفعلية. وأما قول: أهل العربية مختص بالمفردات لما تقدم ولمقابلتهم "واو" المختلفات "بواو" الجمع في المتفقات، ومن المعلوم أن "واو" الجمع في المتفقات لا يتصور في غير المفردات إذ الجمع لا تجمع، وإذا كان كذلك فلا يلزم من عود الاستثناء إلى جميع المذكورين في الجملة الواحدة، عودة إلى جميع المذكورين في الجملتين.

فإن قلت: فما فائدة "الواو" في الجمل المعطوف بعضها على بعض. قلت: ليس الفائدة فيه سوى تحسين الكلام، فإن قولك: قام زيد وباع عمرو داره، أحسن منه بدون "الواو". سلمنا: أنها تصير كالجملة الواحدة، لكن في كل الأمور أو في بعضها والأول ممنوع، وهذا لأن المتكسر لفظًا ومعنى لا يكون واحدًا كذلك وبتقدير تسليمه فقياس الجمل على الجملة الواحدة فاسد، لأنه قياس للشيء على نفسه والثاني مسلم/ (250/ ب)، لكن لم يلزم منه الاشتراك فيما ذكرتم فإن اشتراك الشيئين في بعض الأمور لا يوجب اشتراكه في البعض الآخر، فإن بنيتم ذلك بطريق القياس فأين الجامع، وبتقدير صحته فإنه قياس في اللغة، وهو ممنوع. وثالثها: أن الاستثناء صالح لأن يعود إلى كل واحدة من تلك الجمل وذلك مما لا نزاع فيه، ولهذا فإن الخصم يحمله عليه عند أدنى قرينة دالة عليه، ولو لم يكن صالحا له، لما حمل عليه ولو دل عليه ألف قرينة وليس البعض أولى من البعض، فوجب حمله على العود إلى الكل كاللفظ العام. وجوابه: إن عنيتم بالصلاحية الصلاحية بطريق الحقيقة فممنوع، وهذا لأنه غير صالح لذلك بطريق الحقيقة عندنا، بل بطريق التجوز، ولهذا يحتاج الحمل على ذلك إلى القرينة. وإن عنيتم الصلاحية بطريق التجوز فمسلم، لكن ذلك لا يوجب الحمل

عليه بدون القرينة، وأما القياس على اللفظ العام فغير صحيح، لأن صلاحيته لذلك بطريق الحقيقة. سلمنا: أنه صالح له مطلقا، لكن لا نسلم أنه ليس البعض أولى من البعض، وهذا لأن الجملة الأخيرة أولى بذلك. ورابعها: أن الحاجة قد تدعو إلى الاستثناء عن الجمل الكثيرة بأسرها، فلابد وأن يكون له طريق، وذلك إما بتكرره عقيب كل جملة، بأن يقول: من زنا فاجلده إلا من تاب، ومن سرق فاقطعه إلا من تاب، ومن قذف فرد شهادته إلا أن تاب، وهؤلاء كلهم فساق إلا من تاب، أو يذكره مرة واحدة عقيب كل الجمل، لكن الأول: قبيح وركيك باتفاق أهل اللغة فيبعد أن تتخذ العرب الذين هم أهل الفصاحة والبلاغة ذلك سبيلًا لما تدعو الحاجة إليه فيتعين الثاني، وإذا كان سبيلا إليه في هذه الصورة وجب أن لا يكون سبيلا إلا غيره بطريق الحقيقة دفعا للاشتراك ولا يعارض بمثله. لأنا لا نسلم أنه لا طريق له سوى ذلك، وهذا لأن له طريقًا آخر وهو أن يفصل بين الجملة الأخيرة وبين ما قبلها بسكتة، ثم يأتي بها وبالاستثناء ولا يعطفها على ما قبلها ليكون مقتطعًا عما قبلها. وجوابه: أنا نسلم إن الطريق المستحسن وهو الثاني، لكن مع البينة على ما يقتضي العود إلى الكل، وليس كل ما يعبر به عن معنى أن يكون هو حقيقة فيه.

وخامسها: لو قال: لفلان على خمسة وخمسة إلا سبعة صح ورجع إلى الخمستين، والأصل في الاستعمال الحقيقة/ (251/ أ)، وإذا كان حقيقة فيه لم يكن حقيقة في الاختصاص بالجملة الأخيرة دفعًا للاشتراك. وجوابه: أنا لو سلمنا الحكم فيه، إذا هو ممنوع على رأي فإنما كن ذلك لأن الرجوع إلى الأخير وحده متعذر لفساده وكلام العاقل البالغ يصان عن ذلك فلا جرم رجع إلى الجملتين ودلالة اللفظ على معنى للقرينة لا يدل على أنه حقيقة فيه بل الدلالة المجردة عن القرينة دليل الحقيقة. وسادسها: أن الرجال إذا قال: العلماء والشرفاء أكرموهم إلا الفاسق منهم، فإن الاستثناء يعود إلى الجميع وفاقًا، فكذا لو قال: أكرموا العلماء والشرفاء إلا الفاسق منهم، ضرورة أنه لا فرق بينهما في المعنى. وجوابه: أن الاستثناء في الأول: إنما رجع إلى العلماء، والشرفاء، لأنه استثناء عن الضمير الراجع إليهما، فكان الاستثناء عن الجملة الواحدة. وأما في الثاني فليس كذلك، بل هو استثناء عن الجملة الأخيرة عندنا. وسابعها: أن القول بعود الاستثناء إلى جميع الجمل المذكورة تقتضي القطع بحصول مراد المتكلم منه، لأنه إذا كان مراده ذلك فظاهر، وإن كان مراده منه العود إلى البعض، فذلك أيضًا: حاصل في ضمن الكل. وأما القول: باختصاصه بالجملة الأخيرة فلا يقتضي القطع بحصول مراده منه، لأن بتقدير أن يكون مراده منه العود إلى الكل لا يحصل مراده بالجمل على العود إلى الجملة الأخيرة، فكان الأول أولى.

لا يقال: أنا لا نسلم أنه يحتمل أن يكون مراده منه العود إلى الكل، حتى كون الحمل عليه محصلا لمراده على القطع، وهذا لأنه لا يجوز أن نعني باللفظ غير ظاهره عند عدم قرينة دالة عليه، والعود إلى الكل غير ظاهر عندنا، فلا يجوز أن يكون ذلك مراده مع أنه لا يدل عليه. لأنا نقول: هذا بعد أن يثبت أنه ظاهر في شيء وغير ظاهر في شيء آخر، فأما قبل أن يثبت ذلك، وقبل النظر إلى دليل المذهبين، فلا شك أن احتمال إرادته قائم، وأنه محصل لغرضه قطعًا، إذ ذاك، فكان أولى. وجوابه: منع كونه مقتضيًا للقطع بحصول مراده "وهذا لأنه يجوز أن يكون مراده منه هو العود إلى الجملة الأخيرة، مع إرادة عدم عوده إلى غيرها لا مع عدم إرادة عوده إلى غيرها، فإن القول بالعود على الكل معه يوجب القطع بحصول مراده". فأما مع الأول/ (251/ ب) فيستحيل، إذا يمتنع وجود الكل عند فرض عدم جرئه. سلمناه: لكن لا يعارض هذا صريح دلالة تلك الجمل على إرادة كل مدلولاتها، لأن الدلالة اللفظية راجحة على القرائن المعنوية، وبهذا خرج الجواب أيضًا: لو رجح القول بالعود على جميع الجمل، بأن يقال: إنه وإن لم يكن محصلا للغرض قطعًا، لكنه محصل له على التقديرين، والقول بأنه يختص بالجملة الخيرة ليس كذلك، فكان أولى.

احتجت الحنفية -رحمهم الله تعالى- بوجوه: أحدها: أن القول بتعميم الرجوع يستلزم الترك بالدليل في آية القذف، وأمثالها، إذا لم يرجع الاستثناء إلى الجلد، فإنه لا يسقط بالتوبة وفاقا، والترك بالدليل خلاف الأصل، فما يسلتزمه يكون أيضًا كذلك. وجوابه: بعد تسليم أنه لا يرجع إلى الجلد، إذ هو ممنوع على رأي لنا: المعارضة بمثله، وهو أن يقال: إنا لو جعلناه حقيقة في الاختصاص بالجملة الأخيرة، لزم الترك بالدليل في مثل قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}. فقوله: {إلا قليلا} ليس باستثناء عن الجملة الأخيرة، إذ لو كان استثناء عنها لصار تقدير الكلام إن أكثر من ليس عليه فضل الله ورحمته يتبع الشيطان، وإن قليلهم لا يتبعه، وهو فاسد فإن كل من لا يتبعه فإنه بفضله وعصمته وتوفيقه فهو إذًا استثناء، إما عن قوله: {أذاعوا به}، أو عن قوله: {لعلمه الذين يستنبطونه} أو عنهما معًا، وعلى التقديرين يلزم الترك بالدليل، فما هو جوابكم عن هذا؟ فهو جوابنا عن ذلك.

وثانيها: أنه استعمل في العود إلى الجملة الأخيرة فقط، كما في قوله تعالى: {فتحرير رقبة "مؤمنة" ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا}، فقوله تعالى: {إلا أن يصدقوا} راجع إلى الدية فقط، إذ الكفارة لا تسقط بتصدق الأهل بالإجماع، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وإذا كان حقيقة فيه لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك. وجوابه: ما سبق في حجج القائلين بتعميم العود. وثالثها: إن الاستئناف على خلاف الأصل، لأنه تخصيص خاص، والتخصيص خلاف الأصل، فهو أيضًا خلاف الأصل ترك العمل بهذا الأصل بالنسبة إلى/ (252/ أ) تعليقه إلى جملة واحدة، لضرورة حمل الكلام على الصحة فإنه لو لم يعلق بشيء مما تقدم عليه للغا، فوجب أن يبقى على الأصل بالنسبة إلى غيرها، لأنه قد اندفعت الضرورة بالتعليق إلى جملة واحدة. بقي أن يقال: فلم يتعين لذلك الجملة الأخيرة؟. قلنا: للقرب، فإن للقرب تأثيراً في كلامهم، في أن تعلق القريب من الشيء به، إذا كان محتاجًا إليه.

ويدل عليه أمور: أحدها: أنهم اتفقوا على أن رجوع الضمير في مثل قول القائل: ضرب زيد عمرا وضربته، إلى عمرو أولى من رجوعه إلى زيد، ولا يحتمل ذلك لمناسبة معنوية، فإنه لو قدم المفعول وأخر الفاعل، لكان عود الضمير إلى زيد أولى من عوده إلى عمرو، وليس ذلك للقرب. وثانيها: أنهم اتفقوا على أن ما يلي الفعل، يجب أن يكون هو الفاعل إذا كان هو والمفعول مقصورين، ولم يكن في الكلام قرينة تدل على أن أحدهما بالفاعلية أولى من الآخر، وليس ذلك إلا للقرب. وثالثها: أنهم اتفقوا في مثل قولهم: أعطي زيد بكرا خالدا، على أن بكرا أولى بأن يكون مفعولا أو لا لأعطي، وليس ذلك إلا للقرب. ورابعها: أنا لو لم نعلقها بالجملة الأخيرة، لزم خرق الإجماع، لأن كل من علقه بجملة واحدة [قال]: إن تلك الجملة هي الجملة الأخيرة، فالقول بأنه يتعلق بجملة واحدة غيرها خلاف الإجماع. وجوابه: أنا لا نسلم أنه خلاف الأصل، قوله: لأنه تخصيص خاص. قلنا: ممنوع على رأي من يقول: إن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على ما بقى بعد الاستثناء. سلمنا: ذلك لكن دليلكم منقوص بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط، فإن كل واحد منهما خلاف الأصل لرفع مقتضى الكلام الأول، بل هما أولى بذلك.

أما الأول: فلأنه يرفع مقتضى الكلام الأول بالكلية. وأما الشرط: فلأنه قد يرفع ذلك لجواز أن لا يحصل الشرط أصلا بالنسبة إلى شيء من مدلولات الكلام الأول، مع أنهما يرجعان إلى كل ما يتقدمهما من الجمل ولا يدفع بالفرق المذكور، لأنه مر تزييفه. سلمنا: سلامته عن النقيض أيضًا: "لكن" التخصيص قد يلتزم بأدنى قرينة، فلم لا يجوز أن يقال: إن جعل كونه حقيقة في العود إلى الكل، أولى من جعله كونه حقيقة في العود إلى الجمل الأخيرة لما عرفت ذلك غير مرة، مع دعو الحاجة إلى العود إلى الكل/ (252/ ب) قرينة دالة على أن التزامه أولى. ورابعها: أن الاستثناء من الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة، كقولك: لفلان على عشرة إلا خمسة إلا أربعة، فكذا في سائر الصور، دفعا للمجاز والاشتراك. وجوابه: أن هذا هو الدليل الثاني بعينه [فإن الاختصاص بالجملة الأخيرة هاهنا أيضًا للقرينة، إذ العود إليهما ممتنع لما سبق] غير أن المثال مختلف. فجوابه: "هو" ما سبق "والعود إلى الجملة الأولى فقط أيضا: ممتنع لما سبق فلم يبق" إلا الاختصاص بالجملة الأخيرة "ها هنا أيضاً

للقرينة، إذ العود إليها ممتنع لما سبق [والعود إلى الجملة الأولى فقط أيضا ممتنع لما سبق فلم يبق] الاختصاص بالجملة الأخيرة. وخامسها: أن العامل في المستثنى هو الفعل المذكور في المستثنى منه أو تقديره بواسطة إلا: على ما هو مختار المحققين منهم ولو رجع الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة المختلفة إليها بأسرها، لزم اجتماع العوامل الكثيرة المختلفة على معمول، لأن تقدير الاستثناء عقيب كل جملة خلاف الأصل، لأنه إضار لكن ذلك ممتنع. أما أولًا: فلنصهم على ذلك. وأما ثانيًا: فلامتناع اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد. وجوابه: أنا لا نسلم إن العامل هو الفعل الذي في المستثنى منه أو تقديره، وها لأنه ليس متفقًا عليه. قلنا: أن نمنعه بل العامل فيه عندنا هو الفعل المقدر وهو استثنى وإلا نابت منابه، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور. سلمنا: ذلك لكن لا نسلم امتناعه. قوله: أولا: لأنهم نصوا عليه.

قلنا: كلهم أم بعضهم. والأول: ممنوع، وهذا لأن الكسائي وغيره يجوز. والثاني: مسلم لكنه ليس بحجة. قوله ثانيًا: يلزم اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد. قلنا: اجتماع علتين بمعنى مؤثرتين محال. أما اجتماع علتين بمعنى "معرفتين"، فليس كذلك لجواز اجتماع معرفات كثيرة على شيء واحد، والعوامل الإعرابية معرفات عندنا. سلمنا: ذلك لكنه منقوص بما إذا دل دليل على عودة إليها بأسرها، "فإنه لا خلاف في أنه يعود إليها بأسرها، مع أن جميع ما ذكرتم آت فيه إذا أمكن أن يقال: لو رجع الاستثناء المذكور عقيب تلك الجمل "الكثيرة" المختلفة إذ ذاك إليها بأسرها لزم اجتماع العوامل الكثيرة المختلفة على معمول واحد، لأن

تقدير الاستثناء عقيب كل جملة خلاف الأصل، تعين ما ذكرتم لكن ذلك محال بما ذكرتم من الوجهين، فما هو جوابكم فهو جوابنا. فإن قلت: الإضمار وإن كان على خلاف الأصل، لكن يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، و"لما دل الدليل" على عود الاستثناء إليها بأسرها"/ (253/ أ) وقام الدليل على امتناع اجتماع عاملين مختلفين على معمول واحد، مع ما ثبت إن العامل هو الفعل المذكور أو المقدر في المستنثى منه، تعين ذلك أن يكون بطريق الإضمار عقيب كل جملة، وهذا لا يتأتى لكم. قلت: لا نسلم أنه لا يتأتى لنا: فإن ما ذكرنا من قياس الاستثناء بمشيئة الله تعالى والشرط، دليل على عود الاستثناء إلى كل الجمل لا يمكنكم الجواب عنه بما أجبنا عنه، لأنكم سلمتم الحكم فيها والمقدمتان الباقيتان لا تختلف فيكون الدليل دالا على الإضمار في المتنازع فيه أيضًا. وخامسها: أن دخول الأفراد التي يخرجها الاستثناء عما قبل الجملة الأخيرة، على تقدير عوده إلى الكل تحته معلوم، وخروجها عنه بسببه مشكوك فيه، واليقين لا يزال بالشك. وأجيب عنه: بمنع تيقن الدخول مع الاستثناء المتصل بآخر الكلام، وهذا لأنه راجع إلى الكل عندنا: ومع هذا كيف يمكن ادعاء تيقن الدخول علينا؟. وفيه نظر، لأن المعنى من قولنا: اليقين لا يزال بالشك، أن اليقين الذي كان ثابتا قبل ما به الشك لا يزال بالشك، ولا مع ما به الشك لا يبقى اليقين قطعًا، ونظائره في الاستعمال كثيرة لا تخفى عليك، وحينئذ لا يصح المنع، لأن تيقن الدخول كان ثابتًا قبل الاستثناء وفاقًا.

سلمنا: سلامته عن هذا النقص، لكنه منقوص بالشرط والصفة، فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا. وسادسها: أن القول يعود إلى الاستثناء إلى كل الجمل يقتضي جواز الاستثناء المنفصل، وهذا لأن الفصل كما يحصل بالسكوت، فكذا يحصل بالشروع في كلام أجنبي، بل أولى كما في الأذان وغيره، ويدل عليه أيضا/ (253/ ب) اعتبار الطول في السكوت حيث هو فاصل وفصله مفسد كما في الأذان، وقراءة الفاتحة عندكم، بخلاف الشروع في كلام أجنبي، فإنه لا يعتبر فيه الطول، والجملة الأخيرة أجنبية عن الجملة الأولى لاسيما إذا كان الشروع فيها إضرابًا عما تقدمها بالكلية، لكن ذلك باطل بما ثبت من فساد الاستثناء المنفصل. وأجيب: عنه: بأنه إنما يصح لو لم يكن الكلام كله كجملة واحدة، أما إذا كان كجملة واحدة [فلا. وهو ضعيف لأنه مبني على أن الواو العاطفة تصير الجملة الكثيرة بسبب القطع كجملة واحدة]، وهو باطل لما تقدم. فالأولى أن يجاب بمنع أن الفصل يحصل بالشروع في كلام أجنبي فضلا

عن أن يكون ذلك أولى. وأما القياس على الأذان وقراءة الفاتحة فالفرق بينهما ظاهر، لأن المحافظة على نظم الأذان واجبة لئلا يعد تلاعبا فيخل بمقصود الأذان، ولذلك قلنا: إن السكوت القصير لا يضر، والكلام اليسير يضر، لأن إخلال نظمه يحصل بالشروع ولو في كلام يسير دون السكوت القصير. وأما قراءة الفاتحة فلأن الموالاة بين كلماتها واجبة وتخلل كلام يسير يخل بذلك، وليس الموالاة بين المستثنى والاستثناء واجبة، بدليل أنه يجوز الفصل بينهما بكلام طويل يتعلق بصفة المستثنى منه أو بشيء مما يتعلق به حتى يكون تخلل كلام أجنبي مانعا. سلمنا: ذلك، لكن ما ذكرتم إنما يقضى في الجمل التي لا يتعلق بعضها ببعض، ولا يناسب بعضها بعضا، ونحن قد سلمنا: الحكم فيه، وإنما ادعينا التوقف فيما ورائها، وما ذكرتم لا يستقيم فيه، إذ الشروع في الجملة بعد الجملة في الجمل المتعلقة بعضها ببعض والمتناسبة لا تعد إعراضا وشروعا في الكلام الأجنبي. وسابعها: أنه لو كان الاستثناء عائدا إلى جميع الجمل، لوجب في قول القائل: أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعة، أن يقع اثنتان، لكنه ليس كذلك وفاقا، فلا يكون الاستثناء عائدا إلى الجمل كلها. وجوابه: بعد تسليم الحكم إذ هو ممنوع على رأي لنا "إن ذلك لوجهين":

أحدهما "أنا" إنما يرد المستثنى بعينه إلى كل واحدة من الجمل بعينها "لأنا" نجمع مدلولات الجمل بأسرها ثم نرد الاستثناء إليها [وذلك متعذر هنا لأنه مستغرق لكل واحد من الثلاثة فيلزم إلغاء كلام العاقل البالغ بالكلية فلا جرم خصصنا بالثلاثة الأخيرة ليصح الأول] فيقع ثلاثا. وثانيهما: أن المعتبر هو الثلاث الأول، وأما الثلاث الأخيرة فغير معتبرة لأن المرأة بانت بالأولى، فلم يبق محلا للطلاق فصار، كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، ولأنه استوى في كمال العدد فلم يبق له التطليق وحينئذ يعود الاستثناء إليها، فيكون مستغرقا فيبطل فتقع الثلاث الأول/ (254/ أ) وترك مقتضى الدليل لدليل ليس ببدع، ولئن قال ترك مقتضى الدليل إنما نشأ من مذهبكم فيكون باطلا. فجوابه قد سبق. واحتج المرتضى على الاشتراك بوجوه: أحدها: أنه يحسن أن يستفهم من المتكلم أنه أراد باستثناء عقيب الجمل الكثيرة العود إليها بأسرها أو إلى البعض، وحسن الاستفهام دليل الاشتراك.

وجوابه: ما سبق في العموم. وثانيها: أنه استعمل فيهما معا، ولا نزاع في جوازه، والأصل في الاستعمال الحقيقة. وجوابه: ما سبق غير مرة، وهو أن الاستعمال دليل الحقيقة، إذا لم يفض إلى الاشتراك، ونزيد هنا وهو يخصه: أنه استعمل في العود إلى الجملة الواحدة غير الأخيرة أيضا: فليكن حقيقة فيه تعين ما ذكرتم وأنت لا تقول به. وثالثها: أن الحال، وظرفي الزمان، والمكان مشترك في العود إلى الكل وفي العود إلى الأخيرة نحو قول القائل: أكرمت العلماء، وأهنت الجهال، فإنما في داري ويوم الجمعة، فكذا في الاستثناء، والجامع أن كل واحد منها فضله يأتي بعد تمام الكلام. وجوابه: منع كونها مشتركة، بل هي عائدة إلى الكل، أو إلى الأخيرة، أو إنا لا ندري ماذا حكمه إذا على حكمه في التفصيل الذي سبق في الاستثناء على اختلاف المذاهب. سلمنا: ذلك لكن الكلام على الجامع مع سبق، سلمنا صحته، لكنه قياس في اللغة، وهو ممنوع.

الفصل الثاني في التخصيص بالشرط

الفصل الثاني في التخصيص بالشرط

الفصل الثاني في التخصيص بالشرط وفيه مسائل: المسألة الأولى في تعريفه قال الشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى-: الشرط: هو الذي لا يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده. واعترض عليه بوجهين: أحدهما: أن معرفة المشروط متوقفة على معرفة الشرط، لكونه مشتقا منه، فلو عرفنا الشرط لزم الدور ضرورة إن معرفته حينئذ متوقفة عليه وهو ممتنع. ويمكن أن يجاب عنه: أن المشروط مشتق من الشرط اللغوي، والمعرف هو الشرط الشرعي والعقلي، فلا دور.

وثانيهما: أنه غير مانع، لأنه يدخل فيه جزء العلة، إذ الحكم لا يوجد بدونه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده مع أنه ليس بشرط هو منقدح على المشهور، لكن لعل الشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى- لا يسلم أنه ليس بشرط، وهو إن كان خلاف المشهور، لكن الخلاف فيه آيل إلى التسمية فله أن يمنع ذلك، فإن رمنا اندفاعه عنه زدنا في التعريف. وقلنا: ولا يكون جزء/ (354/ ب) العلة، وحينئذ يكون التعريف جامعا مانعا. وقال الإمام: الشرط هو الذي يقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته. ثم قال: ولا يرد عليه العلة، لأنها نفس المؤثر، والشيء لا يقف على نفسه ولا جزء العلة، ولا شرط ذاتها، لأن العلة تقف عليه في ذاتها، فهذا هو الشرط الشرعي كا "الإحصان"، فإنه شرط اقتضاء الزنا للرجم. واعترض عليه: بأنه غير جامع، لأن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري تعالى وشرط كونه تعالى عالما مع أنه لا تأثير ولا مؤثر.

وهو غير وارد عليه أصلا: لأنه ذكر تعريف الشرط الشرعي لتصريحه بذلك، ولاستثناءه شرط العلة ومعلوم أن شرطيته عقلية. وهذا التعريف أخص من الأول، لأنه لا يتناول الشرط العقلي، ولا شك أن مطلق الشرط منقسم: إلى شرعي وعقلي، فكان [ما] يتناولهما أولى. وقيل: هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سببا لوجوده ولا داخلا في السبب. وهو غير مانع، لأنه يدخل تحته المضافان، والمتلازمان، مع أن كل واحد منهما ليس شرطا للآخر، لأن الشرط متقدم بالرتبة على المشروط، والمضافان معا، ولأنه لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، ويلزم من وجود أحد المضافين وجود الآخر. فإن أردت ما هو أولى مما سبق فقل: هو الذي لا يلزم وجوده وجود شيء آخر مع أنه يلزم من عدمه عدمه ولا يكون بسببه.

المسألة الثانية [في أوان وجود المشروط إذا كان موقوفا على الشرط فقط]

وهو جامع للشرط الشرعي: كالإحصان للزنا في اقتضاء الرجم، والطهارة للصلاة، والعقلي: كالحياة للعمل والقدرة، وشرط الحكم، وشرط السبب، على ما عرفت ذلك في أول الكتاب. والشرط في اصطلاح النحاة: هو الذي علق عليه الحكم بحرف "إن" أو أحد أخواتها، وهي مشهورة مذكورة في كتب العربية لا حاجة إلى ذكرها هنا. المسألة الثانية [في أوان وجود المشروط إذا كان موقوفا على الشرط فقط] الشرط إن كان مما يوجد دفعة واحدة، بأن كان واحدا لا جزء له كالجوهر المفرد والآن، أو كان مركبا، لكن لا توجد أجزاؤه إلا معا كالماهية النوعية المركبة من الجنس والفصل، فإن الجنس والفصل، فإن الجنس لا وجود له في الخارج إلا مع الفصل، وكذلك الفصل لا وجود له في الخارج إلا مع الجنس حصل المشروط أيضا مقارنا لذلك الوقت. وإن كان الشرط مما يمتنع وجوده دفعة واحدة كالكلام والحركة، فإنه

عندما يكون الجزء/ (255/ أ) الأول منهما موجودًا كان الجزء الثاني معدوما، وعندما يحصل الجزء الثاني يصير الجزء الأول معدوما حصل المشروط في زمان حصول الجزء الأخير منه، لأنه كان معلقا على وجوده فلابد من اعتباره، ووجود الحقيقي غير متصور لعدم حصول أجزائه في الخارج معا فلابد من اعتبار وجوده العرفي، وأهل العرف إنما يحكمون عليه بالوجود إذ ذاك. وإن كان الشرط مما يصح أن يوجد دفعة واحدة، ويصح أن يوجد متدرجا أيضا: فالمشروط في هذا القسم "إنما يوجد عند حصوله بجميع أجزائه لأنه الوجود الحقيقي والعدول عنه في القسم الثاني" إنما هو لضرورة أنه لا يمكن اعتباره لامتناعه، وهو منتف فيما نحن فيه، فوجب اعتباره. هذا كله إذا كان الشيء مشروطا بوجود هذه الأقسام الثلاثة. أما إذا كان مشروطا بعدمها فالحكم لا يختلف في الأقسام الثلاثة، فإنه يحصل المشروط في أول زمان عدمها، لأن عدم الشيء يحصل بطريقتين: أحدهما: بانعدام أحد أجزائه. وثانيهما: بانعدام مجموع أجزائه، بخلاف الوجود فإنه لا يحصل إلا بوجود مجموع الأجزاء.

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة اعلم أنه لا نزاع في أن الشرط يخرج بعض الأفراد التي كانت تدخل تحت لفظ العام لولاه، وإن كان النزاع حاصلا في أنه يصير بسببه مجازا أم لا على ما عرفت ذلك من قبل. لكن تارة يكون منفردًا بالإخراج كقولك: أكرم الناس إن دخلوا داري، وتارة يكون غير منفرد به بأن يكون مستفادا من دليل آخر، إما عقلي كقولك: تصدقوا إن كنتم قادرين عليها، أو شرعي كقولك: صلوا إن كنتم متطهرين. وفائدة "هذا" النوع: التأكيد لا غير، [فإذا] دار الشرط بين النوع الأول، وبين النوع الثاني، بأن يكون اللفظ مشتركا بين معنيين تخصيصه العام بأحد المعنيين معلوم من دليل آخر، وتخصيصه العام الآخر بالمعنى الآخر غير معلوم من دليل آخر، فيحتمل أن يقال: الحمل على النوع الأول أولى دفعا لزيادة التخصيص، ويحتمل أن يقال: الحمل على النوع الثاني أولى، لأنه يفيده فائدة تأسيسية وهي أولى من الفائدة التأكيدية.

المسألة الرابعة [في أقسام الشرط والمشروط باعتبار التعدد والاتحاد]

المسألة الرابعة [في أقسام الشرط والمشروط باعتبار التعدد والاتحاد] الشرط والمشروط: [إما أن يكونا متحدين، أو متعددين، أو يكون الشرط واحد والمشروط] متعددا، أو بالعكس، فهذه أقسام أربعة، لا مزيد عليها، فلنبين مثال كل واحد منها وحكمه. أما الأول: فمثاله ما سبق وحكمه ظاهر/ (255/ ب)، وهو أنه متى وجد الشرط وجد المشروط، على الوجه الذي تقدم ذكره. وأما الثاني: وهو أن يكونا متعددين، فهذا على أقسام أربعة: لأن تعدد كل واحد منهما، إما على البدل، أو على الجمع:- فالأول: أن يكون الشرط متعددا على البدل، والمشروط أيضا كذلك، كقولك: إن كلمت زيدا أو دخلت الدار فامرأتي طالق وعبد حر. وحكمه: أنه متحصل أحد الشرطين حصل أحد المشروطين والتعيين "إلى المتكلم". والثاني: أن يكون الشرط متعددا على الجمع والمشروط أيضا كذلك، "ومثاله ما سبق" لكن بحذف الهمزة.

وحكمه: أنه متى حصل المشروطان، ولا يحصلان ولا أحدهما عند فوات أحد الشرطين. والثالث: أن يكون الشرط متعدد على البدل، والمشروط على الجمع كقولك: إن كلمت زيدا، أو دخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حر. وحكمه: أنه متى حصل أحد الشرطين حصل المشروطان. والرابع: أن يكون المشروط متعددا على الجمع، والمشروط على البدل كقولك: "إن كلمت زيدا ودخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حر". وحكمه: أنه متحصل الشرطان حصل أحد المشروطين، والتعيين إلى القائل. والثالث: أن يكون الشرط واحدا والمشروط متعددا. وهذا على قسمين: أحدهما: أن يكون الشرط واحدا والمشروط متعددا على البدل كقولك: "إن كلمت زيدا فامرأتي طالق أو عبدي حر". وحكمه: أنه متى حصل الشرط حصل "أحد" المشروطين، والتعيين إلى المعلق. وثانيهما: أن يكون الشرط متحدا والمشروط متعددا على الجمع كقولك: "إن كلمت زيدا فامرأتي طالق وعبدي حر". وحكمه: حصولهما عند حصوله.

المسألة الخامسة اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام لا نعرف في ذلك خلافا

والرابع: أن يكون الشرط متعددا، والمشروط متحدا، وهذا أيضا على قسمين: أحدهما: أن يكون الشرط متعددا على البدل والمشروط متحدا كقولك: "إن كلمت زيدا أو دخلت الدار فامرأتي طالق". وحكمه: أنه متى حصل أحد الشرطين حصل المشروط. وثانيهما: أن يكون الشرط متعددا على الجميع كقولك: إن كلمت زيدا أو دخلت الدار فامرأتي طالق. وحكمه: أنه يحصل عند حصولهما ويختل باختلال أحدهما. المسألة الخامسة اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام لا نعرف في ذلك خلافا. ودليله ما مر في الاستثناء. واتفقوا أيضا: على أنه يجوز تقييد الكلام بشرط يكون الخارج به أكثر من النافي، وهذا يجب تنزيله على ما علم أنه كذلك، وأما ما يجهل/ (252/ أ) الحال فيه، فإنه يجوز أن يقيد ولو بشرط لا ينفي شيئًا من مدلولاته كقولك:

المسألة السادسة [في تقديم الشرط وتأخيره]

أكرم الناس إن كرموك، وإن اتفق أن أحدا منهم لم يكرمه. واتفق الأكثرون ممن قال: الاستثناء عقيب الجمل الكثيرة يختص بالجملة الأخيرة: على أن الشرط المذكور عقيب الجمل الكثيرة تعود إليها بأسرها. خلافا لبعض أئمة العربية فإنه خصه بالأخيرة، كما في الاستثناء، وطرد قياسه في الشرط المتقدم على الجمل الكثيرة. إذا قال: إنه يختص بالجملة التي تليه والكلام في هذا نفيا وإثباتًا واختيارًا، كما هو في الاستثناء فتلك الأدلة بعينها آتية فلا حاجة إلى إعادتها. المسألة السادسة [في تقديم الشرط وتأخيره] لا نزاع في جواز تقديم الشرط وتأخيره، وإنما النزاع في الأولى.

فذهب الجمهور إلى أن التقديم أولى وهو الحق، لأنه متقدم طبعا فيستحق التقديم وضعا. ونقل عن الفراء وخلافه. ولا أعرف له وجها.

الفصل الثالث في التخصيص بالغاية

الفصل الثالث في التخصيص بالغاية

الفصل الثالث في التخصيص بالغاية اعلم أن غاية الشيء: نهايته ومقطعه. وألفاظها: حتى، وإلى: كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}، وقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}. وحكما ما وراءها مخالف لحكم ما قبلها، وإلا لم تكن "الغاية" غاية، بل وسطًا وفيه خروج الشيء عن حقيقته وهو مجال، فإن دخل في بعض المواضع فالمنفصل وتمام القول فيه قد تقدم في اللغات.

ثم الغاية إن كانت واحدة مذكورة عقيب جملة واحدة فلا كلام فيه. وإن كانت واحدة مذكورة، لكن عقيب الجمل الكثيرة: فالخلاف في اختصاصها بما يليها، وفي عودها إليها بأسرها، وفي كونها مشتركة بنيهما، والتوقف، والتفصيل في ذلك كما في الاستثناء. وإن كانت متعددة: فإما أن يكون على الجمع، أو على البدل وعلى التقديرين. إما أن يكون عقيب الجملة الواحدة، أو عقيب الجملة الكثيرة، فهذه أقسام أربعة: أحدها: أن تكون الغاية متعددة على الجمع عقيب الجملة الواحدة، كقولك: ولا تقربوا الحيض حتى ينقطع حيضهن ويغتسلن. وحكمه استمرار التحريم إلى وجود الغايتين، والغاية في هذه الصورة

وأمثالها في الحقيقة هي الأخيرة، لأن الحكم ينتهي عندها، وتسمية الأولى بالغاية مجاز لقربها من الغاية الحقيقية. وثانيها: أن تكون الغاية/ (256/ ب) كذلك لكن عقيب الجمل الكثيرة كقولك: لا تقربوهن، ولا يطفن، ولا يصلين حتى ينقطع حيضهن ويغتسلن. وحكمه استمرار تحريم الأفعال المذكورة إلى وجود مجموع الغايتين عند من يقول: بعود الغاية الواحدة إلى الجمل الكثيرة بأسرها، وأما من لم يقل بذلك فلا يستمر عنده تحريم الجملة الأخيرة إلى وجودها أو يتوقف فيها. وثالثها: أن تكون الغاية متعددة على البدل عقيب الجملة الواحدة كقولك: ولا تقربوهن حتى ينقطع حيضهن أو يغتسلن. وحكمه استمرار التحريم إلى وجود أحد الأمرين، وعند وجود أحدهما يرتفع. ورابعها: أن تكون الغاية كذلك، لكن عقيب الجمل الكثيرة كقولك: لا تقربوهن ولا يصلين، ولا يحملن المصحف حتى ينقطع حيضهن أو يغتسلن. وحكمه استمرار تحريم الكل إلى وجود أحد الأمرين وارتفاعه عند وجود أحدهما عند من يقول: بعود الاستثناء إلى كل الجمل، وأما من لا يقول:

بذلك فلا يستمر عنده تحريم الجملة الأخيرة إلى وجود أحدهما، ويرتفع عند وجود أحدهما، أو يتوقف في المذهبين.

الفصل الرابع في التخصيص بالصفة

الفصل الرابع في التخصيص بالصفة

الفصل الرابع في التخصيص بالصفة اعلم أن الصفة: إما أن تكون مذكورة عقيب جملة واحدة، أو عقيب جمل كثيرة، "فإن كان الأول: فإما أن يكون واحدة أو كثيرة". فإن كانت واحدة فلا نزاع في عودها إليها وتخصيصها بها كقولك: أكرم العلماء الزهاد، فإنه يخرج بسبب هذا الوصف غير الزهاد منهم. ولولاه لدخل تحته الزهاد وغير الزهاد منهم، فهذا لا نزاع فيه، وإن كان النزاع واقعا في أنه هل يصير بسببه مجازا أم لا؟ وإن كانت كثيرة: فإما أن يكون على الجمع كقولك: أكرم العلماء الزهاد أو العباد، وحكمه تقييده بمجموعها. وإما أن يكون على البدل كقولك: أكرم العلماء الزهاد أو العباد. وحكمه تقييده بأحدها أي واحد كان. وإن كانت الصفة مذكورة عقيب جمل كثيرة: فإما أن تكون واحدة أو كثيرة، إما على الجمع أو على البدل، فهذه أقسام ثلاثة. لا يخفى عليك حكمها مما سبق فلا حاجة إلى تعدادها.

الفصل الخامس في التخصيص بالأدلة المنفصلة وفيه مسائل:

الفصل الخامس في التخصيص بالأدلة المنفصلة

الفصل الخامس في التخصيص بالأدلة المنفصلة وفيه مسائل: المسألة الأولى [في التخصيص بدليل العقل] يجوز التخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا. فالأول:/ (257/ أ) كتخصيص قوله تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير} فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وأنه لا قدرة له على ذاته، لأنه واجب الوجود، فمن عرف معنى واجب الوجود، علم بالضرورة أنه لا قدره عليه لأحد. والثاني: كتخصيص قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم لفهمهما الخطاب. وخالف فيه بعضهم.

ثم قيل: الخلاف لفظي، لأنه لا نزاع "في" أن مقتضى اللفظ العام غير ثابت، فيما دل العقل على امتناعه فيه، وأن الثابت فيه هو مقتضى العقل، بما أن القول بترك مقتضاها يستلزم الخلو عن النقيضين، والقول بثبوت مقتضى اللفظ فيه يستلزم الترك بمقتضى العقل، إذ الجمع بين مقتضاهما فيه غير ممكن، لاستلزمه اجتماع النقيضين، لكن ذلك باطل، لأن العقل أصل النقل، ضرورة أنه لا يعرف صحته إلا بالعقل، لامتناع التسلسل والدور، فالقدح فيه قدح في أصل النقل، والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما هذا مع ما أنه يوجب ترجيح الفرع على الأصل فيما يحتاج إليه

الفرع، وهو باطل فلم يبق إلا ثبوت مقتضى العقل، لكن الخصم لا يسمى ذلك تخصيصًا، ولا يسمى العقل مخصصًا لوجوه: أحدها: أن المخصص هو الذي يؤثر في اختصاص اللفظ ببعض مدلولاته الحقيقية، وليس العقل مؤثرًا في ذلك، بل ليس المؤثر في ذلك إلا الإرادة فليس العقل مخصصًا. وجوابه: النقض بسائر الأدلة السمعية. فإن قالوا: إنا لا نسمي الدليل السمعي مخصصًا بهذا المعنى، بل معنى آخر. قلنا: فنحن أيضًا لا نسمي العقل مخصصًا بهذا المعنى، ولا يلزم من هذا أن لا يسمى مخصصًا أصلًا، لجواز أن يسمى بذلك المعنى الذي سميتم الدليل السمعي مخصصًا. وثانيها: أن التخصيص بيان، والمخصص مبين، والمبين متأخر بالرتبة عن المبين، ودليل العقل سابق على دليل السمع بالرتبة لما تقدم فلا يكون مخصصًا لاستحالة أن يكون المتقدم متأخرًا بالنسبة إلى شيء واحد. وجوابه: أنه يعتبر في استحالة ذلك اتحاد النسبة أيضًا، وهو غير متحقق، إذ العقل متقدم على المخصص، باعتبار الذات ومتأخر باعتبار الصفة (257/ ب) وهي التخصيص والتبيين وإذا تغايرا التبيانات فلا استحالة فيه. وثالثها: أن التخصيص بيان، وكلام الله تعالى لا يبينه إلا كلامه، وكلام الرسول "عليه السلام" اتل إليه، لأنه مخبر عنه فلا يبينه العقل، فلا يكون مخصصًا.

وجوابه: أن كلام الله تعالى لا يبينه إلا كلامه، لكن فيما يحتمل أن يكون مرادًا وأن لا يكون مرادًا، أما فيما لا يحتمل ذلك فممنوع فيه الحصر. ورابعها: القياس على النسخ، فإن العقل وإن دل على رفع الحكم كما دل على سقوط غسل الرجلين عمن انكسرت رجلاه، ولكن لا يسمى ناسخًا ولا دلالته على الرفع نسخًا. وجوابه: أنا لا نسلم أن النسخ عبارة عن الرفع، بل هو عندنا: عبارة عن بيان مدة الحكم. سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن رفع الحكم لفوات المحل نسخ، وهذا لأن النسخ عندنا عبارة عن رفع الحكم بطريق شرعي على ما ستعرف ذلك في حده، وفوات المحل ليس بطريق شرعي، فلا يكون الرفع الحاصل به نسخًا. سلمنا: ذلك لكن "لا نسلم حينئذ أنه لا يسمى ناسخًا ولا دلالته على الرفع ناسخًا. سلمنا: ذلك لكن" ما الجمع بينهما؟ سلمنا: صحته لكن الفرق بينهما قد تقدم.

المسألة الثانية [التخصيص بالحس]

وقيل: بل النزاع معنوي، لأن العام المخصوص بدليل العقل، على رأي من "لم" يجوز تخصيصه به "يجرى فيه الخلاف السابق من أنه حقيقة فيه أو مجاز وأما على رأي من لا يجوز تخصصه به"، فلا، بل عندهم حقيقة فلا خلاف، ودليلهم على المسألة على هذا ما تقدم من اللفظ لم يوضح لما يخالف المعقول، وحينئذ لم يكن اللفظ متناولًا له، وإذا لم يكن متناولًا له لم يتصور تخصيصه عنه، فلم يتصور تخصيصه بالعقل؟ وجوابه: ما تقدم في مسألة جواز إطلاق العام وإرادة الخاص. المسألة الثانية [التخصيص بالحس] يجوز التخصيص بالحس، وهو "في" مثل قوله تعالى: {يجبي إليه ثمرات كل شيء}،

فإن ما يكون مختصًا من الثمار بأقصى الشرق والغرب لم ير أنه يجبى إليه. وقوله تعالى: {تدمر كل شيء بأمر ربها} مع أنها ما دمرت السماء والأرض والجبال. وقوله: {وأوتيت من كل شيء} مع أنها ما أوتيت ما كان في يد سليمان- صلوات الله عليه- وهو شيء، وكذا ما "كانت" أوتيت شيئًا من العرش والكرسي، وقوله تعالى: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} مع أنها أتت على الجبال وما جعلتها كالرميم. وأمثالها كثيرة، والمخصص في الكل هو الحس إذ به علم خروج هذه الأشياء عن الإرادة/ (258/ 1) ولولاه لما علم ذلك.

المسألة الثالثة يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب عند عامة أهل العلم

المسألة الثالثة يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب عند عامة أهل العلم. خلافًا لبعض أهل الظاهر. لنا: أنه وقع ذلك، فإن قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ورد مخصصًا لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، ولقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}. وكذلك قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، ورد مخصصًا لقوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}. ولوقوع دليل الجواز وزيادة.

ولأن العام والخاص من الكتاب ومن السنة أو من الكتاب، ومن السنة إذا اجتمعا، فإما أن يعمل بهما، أو لا يعمل بواحد منهما، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو بالعكس، والأقسام الثلاثة الأول باطلة، فيتعين الرابع. أما الأول، والثاني: فلاستحالة الجمع بين النقيضين، واستحالة الخلو عنهما، ولأن الثاني منهما يستلزم الترك بالدليلين من غير ضرورة وأنه باطل. أما الثالث: فلأنه يستلزم إبطال أحدهما بالكلية بخلاف عكسه، فإنه لا يستلزم إبطال العام بالكلية، بل من وجه كان العمل به متعينًا، لأن إعمال الدليلين أولى من إبطال أحدهما بالكلية- وحينئذ- نقول: زوال مقتضى العام فيما تلونا من الآيات وأمثالها من النصوص مما يدعي تخصيصه إن كان بطريق التخصيص فقد حصل الغرض، وإن كان بطريق النسخ فهو باطل. وبتقدير صحته فالمقصود حاصل. أما الأول: فلأن التخصيص أهون من النسخ لأن النسخ إبطال بالكلية، والتخصيص ليس كذلك، ولهذا يحتاط في النسخ ما لا يحتاط في التخصيص فكان الحمل عليه أولى. ولأن التخصيص أكثر من النسخ والحمل على الأكثر أولى. ولأن النسخ أنكره بعض المسلمين واليهود والتخصيص لم ينكره أحد من

الخلائق. فكان الحمل عليه أولى. وأما أنه بتقدير صحته فالمقصود حاصل: فلأنه يلزم منه جواز التخصيص، لأن كل من جوز نسخ الكتاب جوز أيضًا: تخصيصه به. احتجوا: بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فوض البيان إلى الرسول عليه السلام، وذلك يقتضي أن لا يحصل البيان إلا بقوله عليه السلام. وجوابه: / (258/ ب) أنا لا نسلم أنه يلزم من تفويض البيان إليه أن لا يحصل البيان منه تعالى، وهذا لأنه يجوز أن يفض الشيء إلى الشخص ويحصل ذلك الشيء من غيره، والفائدة في التفويض نصبه لذلك، لا أن غيره ممنوع منه. سلمنا: لزومه لكن المراد من البيان هو إظهار ما نزل الله "وإبلاغه" إلى الأمة ويدل عليه وجهان: أحدهما: أنا لو حملنا البيان على إزالة الإشكال والإيهام لزم التخصيص في الآية المذكورة، لأن كل ما يدل إليه لا يحتاج إليه، بل بعضه وأما لو حملنا على ما ذكرنا لبقى قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} على عمومه، وكان الحمل عليه أولى إذ التخصيص على خلاف الأصل.

المسألة الرابعة [تخصيص السنة بالسنة المساوية]

وثانيهما: أن قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} يقتضي أن لا يحصل بيانه إلا منه، والبيان الذي يحصل منه هو "بمعنى" إزالة الإشكال والتوضيح على ما هو المشهور أن القرآن يفسر بعضه بعضًا، خالفنا مقتضاه بالنسبة إلى بعضه فوجب أن يبقى فيما عداه على الأصل، وعند ذلك نقول: لو حملنا البيان في قوله تعالى: {لتبين للناس} على البيان المذكور، لزم التعارض بين تلك الآية وبين ما تلونا، والتعارض خلاف الأصل فوجب حمله على التلاوة والإبلاغ، لئلا يلزم قول ثالث خلاف الإجماع، وإذا كان المراد من البيان: هو الإبلاغ، والتلاوة، لم يلزم من تفويض البيان إلى الرسول أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب إذ هو المظهر للكل. المسألة الرابعة [تخصيص السنة بالسنة المساوية] يجوز تخصيص السنة المتواترة بالنسبة المتواترة، وكذا يجوز تخصيص الآحاد منها بمثلها.

لأنه وقع ذلك، فإن قوله عليه السلام: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق". ورد مخصصًا لقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" خلافًا

لبعض الشاذين لزعمهم أنه عليه السلام جعل كلامه مبينًا فلا يحتاج كلامه إلى بيان. وكذا يجوز تخصيص المتواتر منها بالآحاد عند الأكثر. خلافًا لهم، ولم لا يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون؟ ودليل الكل ما تقدم من الوجه المعقول.

المسألة الخامسة [في تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة]

المسألة الخامسة [في تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة] يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، قولًا كان أو فعلًا بالإجماع لا نعرف في ذلك خلافًا، ولأنه وقع تخصيص الكتاب بالفعل. فإنه خصص قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} بما روي على التواتر من رجم ماعز.

والوقوع دليل الجواز وزيادة. ولما تقدم من الوجه المعقول. وكذا يجوز تخصيص السنة متواترة كانت أو آحاد بالكتاب عند الأكثرين خلافًا لبعض الفقهاء والمتكلمين. لنا: قوله تعالى: {ونزلنا عليك "الكتاب" تبيانا لكل شيء}

والسنة شيء من الأشياء، والتخصيص بيان فيكون الكتاب مخصصًا لها وما تقدم من الوجه المعقول. فإن قلت: ظاهر الآية متروك، لأنه يقتضي أن يكون الكتاب تبيانًا لكل السنة، وكذا لكل الأشياء، ومعلوم أن كل السنة لا تحتاج إلى البيان، وكذا كل الأشياء، فلم يصح الاستدلال بها، إذ ليس بعض المجاز أولى من البعض. سلمنا: صحة الاستدلال "بها" لكن ليس فيها ما يدل على عموم البيان، حتى يكون متناولا للتخصيص، فلعل المراد منه بعض أنواع البيانات. سلمنا: ذلك لكنه معارض بنص آخر، وهو قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}. ووجه الاستدلال به، أنه عليه السلام جعل مبين الكتاب، وذلك إنما يكون بسنته، فلو كان الكتاب مخصصًا للسنة، لزم أن يكون المبين للشيء مبينًا به، وهو محال. ولأن وصف الكتاب بكونه بيانا للسنة يوهم بالتبعية أن البيان تابع،

فوجب أن لا يجوز، لأن إيهام الباطل باطل. قلت: نسلم أن ظاهره يقتضي التعميم، وأنه متروك وفاقًا، لكن لا يلزم من ترك تعميم النص لدليل ترك مقتضاه بالكلية، فإن العام إذا خص عنه بعض الأفراد يبقى في الباقي حجة على ما قررنا ذلك. وقوله: ليس بعض المجازات أولى من البعض، ممنوع فإن الباقي بعد التخصيص أولى من المجاز الخارجي على ما عرفت ذلك في اللغات. وعن الثاني: أن التقييد خلاف الأصل، فيتناول بإطلاقه التخصيص أيضًا. وعن الثالث: من وجوه: أحدها: أنا نمنع أن بيانه الكتاب المفوض إليه إنما هو بالنسبة، وهذا لأنا قد ذكرنا أن المراد من ذلك البيان، وهو الإبلاغ والإظهار، فلا يلزم من كون الكتاب مبينا للسنة بمعنى إزالة الإشكال، وكون النبي عليه السلام مبينًا للكتاب بالمعنى المذكور أن يكون كل واحد من الكتاب والسنة مبينا للآخر. وثانيها: أنا نسلم أن المراد من ذلك البيان هو البيان المتعارف، لكن نقول: إن كل القرآن/ (259/ ب) لا يحتاج إلى ذلك البيان، بل بعضه. وإذا كان كذلك فلا امتناع في أن يبين ذلك البعض من الكتاب بالسنة التي لا تحتاج إلى البيان، وبين السنة بالكتاب التي تحتاج إليه، وحينئذ لا

يلزم ما ذكرتم من المحذور وثالثها: أن قوله: {ما نزل إليهم} يتناول السنة أيضًا، بدليل قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} لكن منه ما يتلى وهو الكتاب، ومنه ما لا يتلى وهو السنة، وإذا كان كذلك تعين أن يكون بيان ما نزل إليهم، إنما هو بما نزل إليهم إذ ليس ما يستفاد منه عليه السلام إلا الكتاب والسنة، فجاز أن يبين السنة بالكتاب، كما جاز عكسه إذ ليس في النص ما يدل على امتناع أحد القسمين على الخصوصية دون الآخر. وفيه نظر لا يخفى عليك. وعن الرابع: بمنعه وهذا لأن الله تعالى وصفه بكونه تبيانًا لكل شيء في معرض المدح له، فلو كان كونه بيانا لغيره يوهم بالتبعية لما كان صفة مدح. سلمنا: ذلك لكن الإيهام زائل بما علم من كون القرآن أصلا غير تابع لكل ما يقع بيانا له، وهو أقل رتبة منه.

المسألة السادسة [تخصيص الكتاب بخبر الواحد]

المسألة السادسة [تخصيص الكتاب بخبر الواحد] يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند أكثر الفقهاء نحو الأئمة الأربعة، والمتكلمين من الفريقين. ومنهم: من منع عنه مطلقا. ومنهم: من فصل، وذكر فيه وجهين: أحدهما: أنه إن خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه به وإلا فلا، وإليه ذهب عيسى بن أبان رحمه الله تعالى.

وثانيهما: أنه إن خص بدليل منفصل جاز تخصيصه به، لأنه صار مجازًا ضعيف الدلالة وإلا فلا، وهو مذهب الكرخي. وتوقف فيه القاضي أبو بكر رحمه الله تعالى. لنا وجهان: أحدهما: المعقول المتقدم. وثانيهما: إجماع الصحابة، فإنهم خصصوا عموم الكتاب بأخبار الآحاد من غير نكير فيما بينهم، فكان ذلك إجماعًا منهم على قبوله. بيان الأول بصور: (أحدها): أنهم خصوا قوله تعالى: {يوصيكم الله في

أولادكم} الآية. بما روى الصديق- رضي الله عنه- "نحن- معاشر الأنبياء- لا نورث ما تركناه صدقة"، وبما روى عنه عليه السلام: "القاتل لا يرث". ويقول عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين" فإن

كل واحدة من هذه الأخبار خبر واحد. وثانيها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} / (260/ أ) وخصصوا قوله تعالى: {فإن كان لهن ولد فلكم الربع} بما روى المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أنه عليه السلام: (فرض للجدة السدس)، لأن الميت إذا كان امرأة وخلفت زوجا وبنتين وجدة، فإن للزوج الربع ثلاثة،

وللبنتين الثلثان ثمانية، وللجدة السدس اثنين، تعول المسألة إلى ثلاثة عشر،

والثلاثة من عشر أقل من الربع وكذلك الثمانية من ثلاثة عشر أقل من الثلثين. وثالثها: أنهم خصصوا قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. بما روى عنه عليه السلام "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها وبنت أختها". ورابها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره}. بما روي عنه عليه السلام: أنه قال "لا مرأة رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".

وخامسها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {أحل الله البيع}. بما روي عنه عليه السلام: "أنه نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين". وفي هذه الصورة نظر فإن لقائل: أن يقول: إنه مخصوص بقوله: وحرم الربا "فيه" ولكن قبلوا الحديث لاعتبار ما يحرم "فيه" الربا، إذ الربا هو الفضل والفضل لا يحرم في كل شيء بل في بعضه وليس في النص ما يدل عليه فأرشد إليه الحديث.

وسادسها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة}. بما روى عنه عليه السلام أنه قال في حق المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وسابعها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. بما روي عنه عليه السلام: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا".

على ما يرويه أصحابنا "أو لا قطع في التافه" على ما يرويه أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وفسر التافه بأقل من عشرة دراهم، وكذا في غيرها من الصور الكثيرة تعرف بالاستقراء.

اعترض عليه الإمام، وقال: أن كانت الصحابة ما كانت الصحابة ما أجمعت على تخصيص هذه الأخبار فقد سقط دليلكم، وإن كانوا أجمعوا عليه فالمخصص لها هو إجماعهم لا هذه الأخبار، ثم لا يجب أن يكون مستند إجماعهم هو هذه الأخبار إذ رب إجماع خفي مستنده. سلمنا: أن مستندهم هو هذه الأخبار لكن لعلها كانت متواترة عندهم ثم صار آحادًا عندنا. وهو ضعيف جدًا. أما الأول: فلأنه وإن جاز أن يخفي مستند الإجماع على الندور، لكن يمتنع عادة إحالة الإجماع الحاصل عقيب سماع ما يصلح أن يكون مستنده إلى غيره، كيف وإن الأصل عدم ذلك الغير، ثم هذا/ (260/ ب) الاحتمال منتف في حديث عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن مسلمة، وأمثالهما إذ صرح في قصتهما أن الحكم والإجماع كان بسببهما. وأما الثاني: فلأن الأصل عدم التعبير. سلمنا: تطرق ذلك الاحتمال في الجملة، لكن لا يمكن تطرقه في حديث المجوس والجدة. إذ روي أن الصديق كان يشاور الصحابة في أمر الجدة، وكان يقول: هل سمعتم في حقها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئًا؟ فما كان يجد عند أحد في ذلك

شيئاً فلما روى له محمد بن مسلمة: أبى قبوله حتى شهد له المغيرة بن شعبة. وما شأنه هذا يمتنع أن يقال فيه لعله كان متواترًا. وكذلك الفاروق كان يشاور الصحابة في أمر المجوس فما كان يجد في ذلك شيئًا عند أحد حتى قال ما قال إلى أن روى له عبد الرحمن الحديث. سلمنا ذلك: لكنه منقوص بما أنه استدل بهذه الطريقة على صحة العمل بخير الواحد والقياس "مع" تطرق ما ذكره من الاحتمال إلى ذلك الاستدلال بعينه، فما هو جوابه ثمة فهو جوابنا هنا. احتج الخصم بوجوه: أحدها: إجماع الصحابة على رد الخبر الواحد، إذا كان مخالفا للكتاب إذا روى أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس فيما روته عن النبي

عليه السلام أنه لم يفرض لها النفقة والسكنى، وقال: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أنها صدقت أم كذبت)، وفي بعض المصنفات: (لا ندري لعلها نسبت أو كذبت) ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا.

وجوابه: (أنه) إنما رده لتهمة الكذب والنسيان، لا لكونه مخصصًا للقرآن إذ تعليله يدل عليه، ولو كان كون خبر الواحد مخصصًا للقرآن يوجب الرد لما جاز التعليل المذكور، إذ التعليل بالوصف المفارق مع وجود الوصف اللازم المستقل باقتضاء الحكم غير جائز، لما ستعرف ذلك في الأخبار إن شاء الله تعالى، وعند هذا ظهر أن ما ذكروه يكون حجة لنا أولى من أن يكون علينا. وأجاب: القاضي عبد الجبار عنه بوجه آخر، وهو أنه إنما ردوه، لأنه يؤدي إلى رفع حكم القرآن بالكلية، إذ لا فرق بينها وبين غيرها من البتوتات في حكم الطلاق، فلو قبلوا خبرها لزم (رفع) حكم القرآن بالكلية. وهو ضعيف، لأنه لا يلزم منه عدم استحقاق الرجعية للنفقة والسكنى والآية عامة في المطلقات الرجعيات والمبتوتات، فخروج المبتوتات/ (261/ أ) عن حكم الآية تخصيص لها، وإنما يلزم ما ذكره لو كانت مختصة بالبتوتات، وهو ممنوع والاستدال عليه بمفهوم قوله تعالى: {وإن كن

أولات حمل فأنفقوا عليهن} ضعيف لاسيما على مذهب القاضي، فإنه لا يرى تخصيص العام بتعقيب حكم يختص ببعضه. وثانيها: ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه". والحبر الذي يخصصه على مخالفته إذ المخالفة أعم من مخالفة العموم

.........................................................................

ومن مخالفة الخصوص بدليل صحة تقسيمها إليهما فوجب رده. وجوابه: النقص بالخبر المتواتر، فإنه يجوز تخصيص كتاب الله تعالى به إجماعًا، فما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا هنا. فإن قلت: فنحن نجيب عنه بأنه وإن اقتضى أن لا يجوز التخصيص بالتواتر أيضا: لكنه خص عنه لكونه مقطوعًا به في متنه كالكتاب، وبهذا انعقد الإجماع على جواز التخصص به، وهذا المعنى غير حاصل في خبر الواحد، ولا يلزم من كونه مخصوصا عنه خصوصه عنه، وهذا الجواب لا يتأتى لكم. قلت: فنحن إن جوزنا التخصيص بخبر الواحد، لم يلزم سوى تخصيص ما ذكرتم من الخبر أيضا، لكن من وجه آخر وهو أن المخالفة لغة، وإن كانت متناولة لمخالفة العموم ولمخالفة الخصوص. أعني بالأول المخالفة من بعض الوجوه، وبالثاني المخالفة من كل الوجوه، على ما ذكرتم، لكن نحن نحمل قوله عليه السلام في الحديث،

فإن خالفه على على النوع الثاني لإجماع الصحابة على قبول ما يخالف من السنة عموم الكتاب، والجمع بين الدليلين كما تقدم فحينئذ يلزم تخصيص الحديث المذكور لتخصيص المخالفة المذكورة فيه، وإذا كان التخصيص لازمًا على المذهبين، فلم كان تخصيصكم أولى من تخصيصنا وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون، ثم أنه معنا. وبيناه من وجهين: أحدهما: أن المخصص لا يوصف بالمخالف على الإطلاق لاسيما في العرف، بل لو وصف بذلك فإنما يوصف به مقيدا، وإنما يوصف بكونه مبينا للمراد ومقررا له، ولهذا لا يتبادر إليه الفهم لا غير. وثانيهما: أنا وإن سلمنا: أنهما يفهمان عند لفظ المخالف، لكن دلالة لفظ المخالف عليهما بالتشكيك/ (261/ ب)، لأن دلالة لفظ المخالف على ما يخالف دلالة اللفظ والمراد معا، وهو مخالف الخصوص أولى وأقوى من دلالته على ما يخالف دلالة اللفظ فقط، وهو مخالف العموم على وجه التخصيص إذ هو مقرر للمراد، وتخصيص المرجوح من المشكك أولى من تخصيص ما ليس كذلك، فكان تخصيصنا أولى. وثالثها: أن الكتاب مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، فتقديمه عليه

تقديم للمرجوح على الراجح، وهو ممتنع عقلا. وجوابه من وجوه: أحدها: أن نقول: ما المراد من قولكم: إن الكتاب مقطوع به؟ تعنون به أنه مقطوع به في متنه فقط، أو في متنه وفي دلالته على العموم معا. والأول مسلم لكن لا نسلم أن تقديم خبر الواحد الخاص عليه حينئذ تقديم للمرجوح على الراجح، وهذا لأنه حينئذ يكون مظنون الدلالة على العموم، وخبر الواحد وإن كان مظنون المتن لكنه مقطوع الدلالة، فلم يترجح العام عليه من جهة القطع. فإن قلت: هب أنه لا يترجح عليه، لكن خبر الواحد الخاص أيضا لا يترجح عليه، بل يتساويان فتقديم أحدهما على الآخر تقديم لأحد المتساويين على الآخر، وهو ممتنع، فيجب التوقف، كما ذهب إليه القاضي أبو بكر- رحمه الله تعالى. قلت: الجواب عنه من وجوه:

أحدها: أنا لو خلينا والعقل كان الأمر كما ذكرتم، لكن منعنا من ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم. وثانيها: أنهما وإن تساويا في جهة القطع على ما ذكرتم، لكن تقديم الخاص على العام يستلزم العمل بهما، وأما التوقف فإنه يبطل فائدتهما، فكان الأول أولى. وثالثها: أنهما وإن تساويا في جهة القطع على ما ذكرتم، لكن ظن صدق خبر الواحد أكثر من ظن دلالة العام على العموم، وهذا لأن أكثر العمومات مخصوصة وليس أكثر خبر العدل الواحد كاف فيترجح هو عليه من جهة الظن، لأن احتمال التخصيص ظاهر فيه جدا، وهذا الجواب لا يستقيم على أصول [المعتزلة، ومن يقول: إن دلالة العام على العموم قطعية. وثانيها: أنه وإن كان] مظنون المتن، لكن لما دل القاطع على وجوب العمل به أفاد فائدة مقطوع المتن في وجوب العمل بمضمونه، إذ لا فرق بين أن يقول النبي عليه السلام للمكلف شفاها: أوجبت عليك الشيء الفلاني، وبين أن يقول: إذا روى لك عني أني

أوجبت عليك الشيء الفلاني وغلب على ظنك صدقه فاعلم واقطع بأني أوجبت عليك ذلك الشيء، فعلى هذا/ (262/ أ) يتساويان في إفادة القطع بوجوب العمل بمضمونهما ويزيد الخاص عليه بخصوصه. وثالثها: النقض بالبراءة الأصلية فإنها يقينية مع أنها تترك بخبر الواحد وفاقا. ولقائل أن يقول: الفرق بينهما قائم، وبيانه من حيث الإجمال وهو أن البراءة الأصلية يقينية عقلية، وهي أضعف من اليقينية الشرعية، بدليل أنها تترك بخبر الواحد، وإن كان عاما وبالقياس الظني، وإن كان عاما ومضمون اليقيني الشرعي لا يترك بالعام الظني، وكذلك بالقياس العام الظني وفاقا. ورابعها: أنه لو كان مخصصا لكان بيانا، ولو كان بيانا لوجب أن يكون مقارنا للمبين، ولوجب أن يبلغه النبي عليه السلام إلى أهل التواتر لتقوم الحجة به. وجوابه: منع وجوب اقتران البيان بالمبين.

سلمناه: لكن لا نسلم عدمه، فلعله كان مقارنا لكن لم ينقل اقترانه، ولا نسلم وجوب إبلاغه إلى أهل التواتر، فإن ذلك إنما يجب فيما كلف فيه بالعلم لا بالعمل. وخامسها: القياس على النسخ، فإنه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد وفاقا، والجامع بينهما رفع المفسدة الناشئة من إلغاء الخاص. وجوابه: أنا نمنع الحكم أولا: وهذا لأن بعض أهل العلم القائلين "بجواز" تخصيص الكتاب بخبر الواحد يجوز نسخه به أيضا. سلمنا: الحكم على ما هو رأي الجماهير، لكن نقول: لو خلينا والقياس لكان الأمر على ما ذكرتم، لكن منعنا من ذلك الإجماع، فإن الصحابة أجمعوا على رد خبر الواحد إذا كان ناسخا للمقطوع، كما أجمعوا على قبوله إذا كان مخصصا له. سلمنا: عدم حصول هذا الإجماع، لكن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن التخصيص أهون من النسخ لما عرفت ذلك من الفروق المذكورة بينهما التي مضى ذكرها، لأنه دفع، والنسخ رفع، والدفع أسهل من الرفع، فلا يلزم من تأثيره فيه تأثيره في الأقوى.

وأما مذهب القاضي أبي بكر- رحمه الله تعالى- قد عرفت مأخذه فلا نعيده. وأما مآخذ ما ذهب إليه عيسى بن أبان والكرخي، فهو أن العام قبل التخصيص دلالته على العموم قطعية عندهما فيكون العام من الكتاب قبل التخصيص قطعي المتن وقطعي الدلالة، فلا يجوز تقديم الخاص من خبر الواحد عليه، أما بعد أن خص بمقطوع به مثله أو بالمنفصل كيف كان عند الكرخي صار مجازا، وصارت دلالته على نفيه الأفراد ظنية، فجاز تخصيصه به. وجوابه: لا يخفى عليك مما سبق هنا ومن قبل فلا حاجة/ (262/ ب) إلى الإعادة.

المسألة السابعة في بناء العام على الخاص

المسألة السابعة في بناء العام على الخاص. إذا وجدنا نصين: أحدهما عام، والآخر خاص، وهما متنافيان في النفي، والإثبات. فأما أن يكونا من الكتاب، أو أحدهما منه، والآخر من السنة، أما متواترا، أو غير متواتر، أو يكونا من السنة، إما متواتران، أو غير متواترين أو أحدهما متواتر والآخر غير متواتر. والحكم في الكل واحد إلا فيما يتعلق بالنسخ عندما يكون المتأخر ظنيا، والمتقدم قطعيا، فإنه يتعذر المصير إليه إذ ذاك عند من لا يجوز نسخ القطعي بالظني، لكن نحن نعين منها مسمى واحدا، ليكون الكلام أضبط ويعرف منه حكم الباقي. فنقول: إذا وجد خبران من الآحاد شأنهما (ما) ذكرنا، فإما أن يعلم تاريخها، أو لا يعلم: فإن علمنا تاريخهما، فإما أن يعلم مقارنتهما، أو يعلم تراخي أحدهما عن الآخر، فإن علمنا مقارنتهما، فإما أن يكون الخاص مقارنا للعام، أو يكون العام مقارنا للخاص. فإن كان الأول: نحو أن يقول: "فيما سقت السماء العشر" ثم يقول

عقيبه: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" فهاهنا يكون الخاص مخصصا لعلام لوجوه: أحدهما: أنا لو لم نخصص العام به: فإما أن نجريه على عمومه، وهو باطل لما فيه من إلغاء الخاص بالكلية، أو نجعلهما متعارضين في ذلك القدر، فيتوقف فيه إلى المرجح، أو يتخير بين الحكمين فين، وهو أيضًا باطل لما فيه من ترك العمل بكل واحد منهما، وإذا بطل الاحتمالان تعين تقديم الخاص عليه. وثانيها: أن الخاص أقوى دلالة على مدلوله من دلالة العام على مدلوله، لأن العام يجوز إطلاقه من غير إرادة العموم منه، ولا يجوز إطلاق الخاص من غير إرادة ذلك الخاص منه، فيكون أقوى، والأقوى راجح، فالخاص راجح على العام. وثالثها: أن الموكل إذا أذن لوكيله في شيء عام، ثم خص بعض أفراده عقيبه بالمنع، فهم منه إخراجه عن الكلام الأول، وفهم المعنى عند إطلاق اللفظ، دليل على أنه حقيقة فيه.

ونقل عن بعض من شذ من القدر من العام يصير معارضا للخاص. ويرجع في تقديم أحدهما على الآخر إلى دليل آخر، وكان هذا القائل يشترط التراخي في المخصص كما في الناسخ وإلا فلا مأخذ له، إذ لا يمكنه إنكار أصل التخصيص ولا اشتراط تقدم المخصص، ولو تشبث في ذلك بأن العام لتناوله ما يتناوله الخاص وغيره جاري مجرى خبرين، ولو كان كذلك لكان/ (263/ أ) الخاص معارضا لما ينافيه، فكذا هنا كان القول بالتعارض لازما عليه في جميع الصور، وهو إنكار للتخصيص من أصله. فإن قلت: ليس يتعين في العمل بهما ما ذكرتم من الطريق، بل هنا طريق آخر، وهو أن يحمل قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" على الندب، وقوله: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" على الوجوب. وهذا وإن كان خلاف الظاهر، إذ لا تقدير في الصدقة المندوبة، لعدم ورود التقدير فيها، بل (الأمر) فيها مفوض إلى رأي المتصدق كلما كان أكثر كان أكثر استحبابا، لكن التخصيص أيضا: خلاف الظاهر فلم

قلتم: إن خلاف الظاهر الذي ذكرتم أولى من هذا الذي ذكرنا؟ وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون؟. قلت: ما ذكرنا أولى، لأنه لم يلتزم خلاف الظاهر فيه إلا في محل الضرورة، وهو محل التعارض وأما ما ذكرتم فيلتزم فيه خلاف الظاهر في غير محل الضرورة، والتعارض، وهو في خمسة أوسق فصاعدًا، لأن قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" يقتضي بظاهرة وجوب العشر فيما دون خمسة أوسق" وما زاد عليه ولم يوجد له المعارض إلا فيما دون خمسة أوسق". فلو حملناه بعمومه على الندب، لزم ترك ظاهره في خمسة أوسق فصاعدًا من غير معارض له فيه، وهو باطل فكان ما ذكرنا من التزام التخصيص أولى، وأيضا: فإن ما ذكرنا مثال ليس الخلاف منحصرا فيه فلنعدل إلى مثال لا يتأتى فيه التأويل المذكور مع بقاء الخلاف، نحو أن يقول: أوجبت فيما سقت السماء العشر، ثم يقول عقيبه: لا تجب فيما دون خمسة أوسق شيء. "وإن كان" الثاني: وهو أن يكون العام مقارنا للخاص نحو أن يقول: لا زكاة فيما دون خمسة أوسق، ثم يقول عقيبه: فيما سقت السماء العشر.

فحكم هذا القسم كحكم ما قبله. وإن جوز نسخ الخاص بالعام، لأنه لا يمكن القول بالنسخ هاهنا، لأن الناسخ يجب أن يكون متراخيًا وفاقا، والعام فيما نحن فيه مقارنا، فلا يمكن أن يكون ناسخا فلم يبق إلا بناء العام على الخاص أو تعارضهما على ما سبق. وأما إن علمنا تراخي أحدهما عن الآخر، فالمتراخي: إما الخاص أو العام. وعلى التقديرين: إما أن يكون متراخيًا عن وقت العمل، أو لا يكون متراخيًا عنه، بل يكون متراخيًا عن وقت الخطاب لا غير فهذا أقسام أربعة: أحدها: أن/ (163/ ب) يكون الخاص متراخيا عن وقت العمل بالعام، فهاهنا يكون الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من العام وفاقا، إذ لا يمكن حمله على التخصيص، لأن تأخير بيانه عن قوت العمل غير جائز وفاقا، فيعمل بالعام في بقية الأفراد في المستقبل. وثانيها: أن يكون متراخيا عن وقت الخطاب "بالعام"، دون وقت العمل به. فمن لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب". ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، كالمعتزلة: أحال المسألة.

ومن جوزهما اختلفوا فيه: فالذي عليه الأكثرون منهم، نحو أصحابنا وغيرهم: إن الخاص يكون مخصصا للعام، لأنه وإن جاز أن يكون ناسخًا لذلك القدر من العام، لكن التخصيص أقل مفسدة من النسخ، وقد أمكن حمله عليه فالحمل عليه أولى من الحمل على النسخ الذي هو أكثر مفسدة. ونقل عن معظم الحنفية: أن الخاص إذا تأخر عن العام بحيث أن يتخلل بينهما زمان يتمكن المكلف فيه من العمل، أو الاعتقاد بمقتضى العام، كان الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله من العام، لأنهما دليلان وبين حكميهما تناف، فيجعل المتأخر ناسخا للمتقدم عند الإمكان دفعا للتناقض. وهو ضعيف لما تقدم. وثالثها: أن يكون العام متراخيا عن وقت العمل بالخاص، فهاهنا يبني العام على الخاص عندنا، وأهل الظاهر، وبعض الحنفية

وأبي الحسين البصري من المعتزلة. وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه، والقاضي عبد الجبار، إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم. وتوقف فيه ابن العارض. لنا: وجوه:

أحدها: ما تقدم غير مرة، وهو أن تقديم العام على الخاص يوجب إلغاء الخاص بالكلية، وتقديمه عليه لا يوجب ذلك، فكان تقديمه أولى. وثانيها: أن الخاص المتقدم يحتمل أن يكون منسوخا [بما] بعده بأن أريد بالعام كل ما يتناوله، ويحتمل أن يكون مخصصا له بأن أريد منه ما وراء مدلول الخاص، وإذا احتمل الأمرين كان الحمل على التخصيص أولى، لأنه أقل مفسدة. وثالثها: أن الخاص أقوى دلالة على مدلوله من العام على متناوله، لأنه ما من فرد من أفراده إلا ويجوز تخصيصه بالنسبة إليه، فيجوز إطلاقه بغير إرادة مدلول الخاص عنه بخلاف الخاص بأنه لا يجوز إطلاقه بغير إرادة مدلوله منه، فيكون أقوى، والأقوى راجح، فالخاص راجح. احتجوا بوجوه: أحدها: ما روى عن ابن عباس/ (264/ أ) - رضي الله عنه- أنه قال: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث".

.........................................................................

والعام أحدث فيجب الأخذ به والأخذ به إنما يكون بإعماله في عمومه فيكون ناسخا. وجوابه: أنه قول صحابي واحد، فيكون ضعيف الدلالة، فنحمله على ما إذا كان الأحدث خاصا جمعا بين الأدلة. وثانيها: ما تقدم من أن العام جاري مجرى خبري بالنسبة إلى صنفين، أعني به مدلول الخاص وما عداه، وإذا كان كذلك كان قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" بالنسبة إلى قوله: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق". جاريا مجرى قوله: فيما (دون) خمسة أوسق العشر "أو" سقى بماء السماء وفي خمسة أوسق وما زاد عليها العشر إذا سقى بماء السماء،

فإذا فرض تأخير هذين القولين عن قوله: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" كان ما ينافيه لا محالة ناسخا له، فكذا قوله: "فيما سقت السماء العشر" إذا كان متراخيا عنه. وجوابه: منع أنه جاري مجراه، وهذا لأن تخصيص العام والاستثناء عنه جائز وفاقا، وما فصلت إفراده لا يجوز تخصيصه ولا الاستثناء عنه. وثالثها: لفظان تعارضا، وعلم تراخي أحدهما عن الآخر، فوجب تسليط المتأخر على المتقدم، كما لو كان الأخير خاصا، واحترازنا، بقولنا: "لفظان" عن دليل العقل، فإن العام، وإن كان متأخرا عنه، لكن لا يسلطه عليه، بل يسلط دليل العقل عليه. وجوابه: بالفرق، وهو ما ذكرنا في الاستدلال. ورابعها: وهو ما ذكرنا من أنهما دليلان، وبين حكميهما تناف، فيجعل المتأخر ناسخا للمتقدم عند الإمكان دفعا للتناقض. وجوابه: المعارضة بمثله: وهو أن يقال: دليلان بين حكميهما تناف فيجعل المتقدم مخصصا للمتأخر "عند" الإمكان دفعا للتناقض، فإن

التناقض مندفع أيضا على تقدير التخصيص. وخامسها: أن الخاص المتقدم: متردد بين أن يكون مخصصا لما بعده ومنسوخًا به، وذلك مانع من كونه مخصصا إذ البيان لا يحتاج إلى البيان الآخر. وجوابه: أن التردد على سبيل التساوي ممنوع، وهذا لأن احتمال كونه مخصصا راجح عندنا على ما عرفت دليله، وأما سبيل المرجوحية لا يضرنا، فإن الظهور كاف في البيان ولا يشترط الجزم فيه. واحتج ابن العارض: على ما ذهب إليه بوجهين. أحدهما: أن الخاص المتقدم راجح من جهة الخصوص، مرجوح من جهة/ (264/ ب) [التقدم، والعام لمتأخر مرجوح من جهة] العموم راجح من جهة التأخر فاستويا، فيجب التوقف إلى ظهور مرجح آخر. وجوابه: أن التقدم متى يوجب المرجوحية نشرط التساوي في جهة الدلالة أولا بهذا الشرط بل مطلقا، والأول: مسلم ولا يضرنا إذ الشرط مفقود فيما نحن فيه، والثاني: ممنوع. وهذا لأن دليل العقل متقدم مع أنه غير مرجوح لما أن دلالته على مدلوله أقوى. وثانيهما: أن الخاص المتقدم أخص من العام المتأخر من وجه وأعم منه.

من وجه، لأن قوله: لا تقتلوا اليهود مثلا أخص من قوله: اقتلوا المشركين لما أن اليهود أخص من المشركين وأعم منه من وجه، كما أنه دخل تحته من الأزمنة المتقدمة ما لم يدخل تحت العام المتأخر. وهو ما بين وروده وورود العام المتأخر، فيكون الخاص على هذا أخص من العام في الأعيان وأعم منه في الأزمان، والعام بالعكس من هذا، فيكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص منه من وجه، فليس تقديم أحدهما على الآخر أولى من العكس، فيجب التوقف فيه إلى ظهور المرجح. وجوابه: أن ما ذكرتم لا يتأتى فيما إذا كان الخاص المتقدم أمرا والعام المتأخر نهيا نحو أن يقول: صل اليوم ركعتين"، ثم يقول: متراخيا عنه: "لا تصل اليوم شيء يا"، فإن العام المتأخر هاهنا أعم من الخاص المتقدم في الأعيان والأزمان معا. أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فلأن الأمر لا يقتضي التكرار والنهي يقتضيه، والخلاف في الكل واحد ولو تمسك في إثبات هذا القسم بعد إثبات ذلك القسم بالإجماع، إذ القول بالفصل بينهما قول لم يقل به أحد لا يفيده، لأنه معارض بمثله بعد إثبات الحكم في هذا القسم الذي ذكرناه. سلمنا: أنه يتأتى فيهما جميعا، لكن لا نسلم أن ليس تقديم أحدهما على الآخر أولى من العكس، وهذا لأنهما وإن استويا من جهة العموم والخصوص، لكن العام المتأخر يترجح عليه لتأخيره، فلم لا يجوز أن

يترجح به؟ ورابعها: أن يكون العام متراخيا عن وقت الخطاب بالخاص، لكنه قبل وقت العمل به. فحكم هذا القسم كحكم القسم الثالث في البناء والنسخ، إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، كالقاضي عبد الجبار، فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ، فيتعين عليه أن يقول: بالبناء/ (265/ أ) أو بالتعارض في ذلك القدر الذي حصل البناء فيه، أو يحيل المسألة وإن كان إطلاق قوله: يقتضي أن يكون العام ناسخا له، إذ قال: إن ورد الخاص بعد العام كان ناسخا له، وإن ورد العام بعد الخاص فكذلك، لكن أصله يقتضي تنزيله بما إذا كان الوورد بعد حضور وقت العمل بالخاص. أما إذا لم يعرف تاريخهما: فعندنا يبنى العام على الخاص، وساعدنا القاضي عبد الجبار، وبعض الحنفية من المخالفين عليه.

وعند أبي حنيفة يتوقف فيه إلى ظهور التاريخ، أو المرجح، أو يرجح إلى غيرهما، وكل من الإمامين ذهب إلى ما يقتضه أصله. أما الشافعي- رضي الله عنه-، فلأنه يبني العام على الخاص في جميع الأحوال عند العلم بالتاريخ مقارنا كان له، أو متقدما عليه، أو متأخرا عنه، لكن في بعض الصور يكون البناء على وجه التخصيص، وفي بعضها على وجه النسخ، وحالة الجهل لا تخلو عن هذه الأحوال الثلاثة، فوجب أن يبنى العام على الخاص، والجهل يكون ذلك البناء على وجه النسخ، أو على وجه التخصيص لا يمنع منه، أما في حق العمل بمقتضى البناء فظاهر، إذ العمل بمقتضاه لا يختلف بسبب ذلك، وأما في حق اعتقاد التخصيص على وجه غلبة الظن فكذلك لأن الاحتمال المرجوح لا يقدح في غلبة الظن، والبناء على وجه النسخ احتمال مرجوح. أما أولا: فلأن البناء على وجه التخصيص على التقادير الثلاثة، والبناء على وجه النسخ على تقدير واحد، وما يحتمل وجوده على أكثر الاحتمالات أغلب على الظن مما لا يوجب إلا على احتمال واحد.

وأما ثانيا: فلأن تقدير النسخ يستدعي دخوله تحت الخطاب وإرادته منه ثم خروجه عنه، والتخصيص لا يستدعى إلا التناول، فكان وجوده في الظن أغلب، لأن ما يتوقف على أكثر المقدمات أندر وجودا مما ليس كذلك. وأما ثالثا: فلأن التخصيص أكثر من النسخ والإلحاق بالأكثر أولى فاعتقاد التخصيص أولى (وهذا إنما يصح فيما إذا كان متساويين في القوة أو الضعف، فأما إذا اختلفا في ذلك فلا، لأن الخاص الظني إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام القطعي، لم يقبل لا ناسخا ولا مخصصا وفاقا). وأما أبو حنيفة- رضي الله عنه- فلأنه ينسخ الخاص بالعام، إذا كان متقدما عليه، ويخصص العام أو ينسخه به إذا كان متأخرا عنه، فعند الجهل بالتاريخ ذكر الخاص بين أن يكون منسوخا، أو مخصصا، أو ناسخا، فعند التردد/ (265/ ب) في هذه الأقسام يجب التوقف. وأما القاضي عبد الجبار: فقد استدل على البناء عند الجهل، بأن يقال: إن من حق من ثبتت حكمته أن لا يلغا كلامه، متى أمكن حمله على وجه يفيد، فإذ صح ذلك، فلو وجب استعمال العام، لزم إلغاء الخاص، ومتى استعملنا الخاص لم يوجب طرح العام، بل يوجب حمله على وجه يصح أن يريده الحكيم، فوجب لأجل ذلك بناء العام على الخاص.

وما ذكره منقوض بما إذا تقدم الخاص، وورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، فإنه يجعله ناسخا مع أن ما ذكره قائم بعينه فيه، ولو فرق بأن شرط النسخ متحقق عند العلم بالتاريخ، وقد صلح أن يكون العام ناسخا له فوجب حمله عليه. وهو غير معلوم التحقق عند الجهل به فهو غير قادح، لأن تحقق الشرط مع صلاحية وجود المقتضى لا يوجب تحقق المشروط، بل لابد معه من تحقق المقتضى قطعا أو ظنا، حتى يوجب تحقق المشروط قطعا أو ظنا، وكون اللفظ عاما إنما يقتضي ظن إرادة شمول الأفراد إن لو لم يلزم منه مفسدة، أما لو لزم فلا نسلم ذلك، ولا شك أن إلغاء الخاص مفسدة فوق مفسدة التخصيص. ثم استدل الأصحاب على بناء العام على الخاص عند الجهل بالتاريخ في وجوه التعارض كلها سواء كان بين المتساويين، أو بين المختلفين في القوة والضعف بوجوه: أحدها: وهو المعول عليه وهو الإجماع، فإن فقهاء العصور كلها من الصحابة والتابعين، وتابع التابعين، وهلم جرا إلى زماننا هذا، وغيرهم، في الأمصار بأسرها يسارعون إلى الحكم بالخاص على العام مع عدم علمهم بالتاريخ. وعدم تخصيص ابن عمر رضي الله عنه لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}، ولقوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}

بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}، مع خصوصه، وبقوله عليه السلام: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" مع

خصوصة، غير قادح فيما ذكرنا من الإجماع. لاحتمال أن يكون "رضي الله عنه" قد امتنع من ذلك لدليل آخر غير الجهل بالتاريخ، نحو إن علم، أو ظن نسخ الخاص بخاص آخر، أو بالعام لتقدمه عليه، بأن كان يرى ذلك. ولا يلزم منه القول: بالتوقف عند الجهل بالتاريخ حتى يكون ذلك قادحا أيضا: فيما ذكرنا من الإجماع بطريق الاستلزام/ (266/ أ)، لا من حيث إنه قول لم يقل به أحد: لما عرفت أن جماعة ممن يرون نسخ الخاص بالعام، قالوا به: ولا من حيث المعنى: إذ قد ثبت الحكم للشيء مع تطرق الاحتمال المنافي له، لاسيما إذا كان الاحتمال المنافي منشأ للمفسدة الرجحة، كما في موت جماعة من الغرقى، أو الحرقى، ومن يقع عليهم سقف أو جدار

من الأقرباء، فإنا لا نورث ورثة البعض من البعض، ونقدر موتهم معا مع تطرق احتمال التقدم والتأخر في موتهم المنافي لذلك الحكم. ولو قيل: بأن ذلك للضرورة، فتلك الضرورة بعينها قائمة فيما نحن فيه إذ يستحيل الاطلاع على التاريخ بعد انقراض عصر الصحابة، وكذلك يتعذر الاطلاع على المرجح بعد تقرر المذاهب، أو كان يرى أن المراد من الخاص غير ظاهر من صور المجاز، لدليل دل عليه عنده، أو ضعف الحديث، ولو سلم أنه قادح في إجماع الصحابة، لكنه غير قادح في إجماع أهل العصر الثاني والثالث، وحصول الإجماع بعد الخلاف جائز- على ما ستعرف ذلك في الإجماع إن شاء الله تعالى. وثانيها: قالوا: إن أحوال ورود الخاص مع العام منحصرة في المقارنة،

والتقدم، والتأخر، وقد دللنا أن العام يبنى على الخاص في الأحوال الثلاثة فكذا في حالة الجهل بالتاريخ، ضرورة أنه لا يخلو عن الأحوال الثلاثة. وهذا الاستدلال لا يستقيم في وجود التعارض كلها، بل إنما يستقيم في المتساويين في القوة والضعف، وفي المختلفين فيهما، فيما إذا كان العام مظنونا، والخاص مقطوعا مطلقا، لأنه كيف ما فرض حال من الأحوال من المقارنة والتقديم، والتأخير، قبل حضور وقت العمل، أو بعده، يكون العام مبنيا على الخاص، على ما ذكروا من الدلالة عليه. أما إذا كان العام مقطوعا، والخاص مظنونا فلا، بل إنما يستقيم في الأحوال الثلاثة، وهي ما إذا كان الخاص مقدما، والعام متأخرا عن وقت خطابه فقط، أو عن وقت عمله، أو كان الخاص متأخرا عن العام، لكنه ورد قبل حضور وقت العمل به. أما إذا كان بعد حضور وقت العمل به فلا يستقيم فيه هذا الاستدلال، لأنهم ما دلوا عليه ولا يبنى العام عليه وفاقا، إذ يلزم منه نسخ المقطوع بالمظنون، وهو باطل باتفاق المذهبين. وثالثها: أن العموم يخص بالقياس مطلقا، فكذا بخبر الواحد، بل أولى، لأنه أرجح من القياس. وهو ضعيف، لأنهم: إن أرادوا بذلك حالة/ (66/ ب) الجهل بالتاريخ، وغيرها فممنوع، وهذا لأنه إنما يجوز تخصيص العام به عندنا: لو علم أن

أصل ذلك القياس متأخر عن العام، أما إذا علم تقدمه عليه، أو جهل التقدم والتأخر فلا. فرع: اعلم أن أبا حنيفة وأصحابه- رحمهم الله تعالى- لما اعتقدوا أن الواجب في حالة الجهل بالتاريخ، إنما هو التوقف إلى ظهور المرجح، أو التاريخ أو يرجع إلى غيرها من الدليل، ذكروا في الترجيح وجوها: أحدها: اتفاق الأئمة على العمل بأحدهما، لخبر الوسق وهو قوله: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق". وثانيهما: عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين وعيبهم على من لم يعمل به كخبر أبي سعيد في الربا، فإن عمل أكثر الأمة به، وأنهم عابوا ابن عباس

رضي الله عنه حين ترك العمل به، وتعلق بقوله عليه السلام: (لا ربا إلا في النسيئة).

وثالثها: أن تكون رواية أحدهما أشهر. ورابعها: أن يكون أحدهما بيانا للآخر، إما بالاتفاق، أو لدلالة تدل عليه، كاتفاقهم على "أن" قوله عليه السلام: "لا قطع إلا "في" ثمن المجن أو في ربع دينار أو إلا في عشرة دراهم) على ما يرويه الحنفية بيان لآية السرقة.

وخامسها: أن يكون مضمون أحد الخبرين حكما شرعيا دون الآخر "وهذه الأمور كلها أمارات على تأخر أحد الخبرين" كما قاله أبو الحسين البصري. فإنه لو لم يكن متأخرا، لما اتفق على عمله كل الأمة، أو أكثرهم مع عيبهم على من ترك العمل به، ولما كان نقله أشهر ولا اتفق على كونه بيانا للآخر، وكونه متضمنا للحكم الشرعي، أمارة لكونه متأخرا عن الذي يتضمن حكما عقليا [تقليلا] للنسخ. وفيه كلام سيأتي في التراجيح إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة في أنه يجوز تخصيص كتاب الله تعالى والسنة، بالإجماع

المسألة الثامنة في أنه يجوز تخصيص كتاب الله تعالى والسنة، بالإجماع. والدليل عليه وجوه: أحدها: الإجماع، فإنا لا نعرف في ذلك خلافا بين القائلين بكون الإجماع حجة. وثانيها: الوقوع، فإنهم خصصوا آية القذف، وآية الزنا، بإجماعهم على أن العبد كالأمة في تنصيف الجلد في الزنا والقذف، والوقوع دليل الجواز وزيادة.

وثالثها: أن الإجماع دليل قاطع، فجاز تخصيص الكتاب والسنة به، كما جاز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، بل أولى إذ السنة قابلة للتأويل، والإجماع غير قابل لذلك. وأما/ (267/ أ) تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة فغير جائز، لاستحالة أن ينعقد الإجماع على خلاف الكتاب والسنة، وأما تخصيص نص أهل الإجماع على الإجماع فجائز، لكن ليس ذلك تخصيص الإجماع، بل هو تخصيص للفظ أهل الإجماع وبينهما فرق.

المسألة التاسعة في أن تخصيص الكتاب والسنة هل يجوز بفعل الرسول أم لا؟

المسألة التاسعة في أن تخصيص الكتاب والسنة هل يجوز بفعل الرسول أم لا؟ وتحقيق القول في ذلك، أن يقال: إن ذلك العام الذي صدر فعله عليه السلام مخالفا له، إما أن يكون متناولا له وللأمة، أو للأمة فقط. فإن كان الأول: كما إذا فرض أنه قال: حرم الله تعالى كشف الفخذ، أو الوصال على كل مكلف، ثم روى أنه كشف فخذه بحضور أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

وروي أنه واصل. فلا شك أن فعله مخصص له عن عموم ذلك الخطاب. ثم إن دل دليل على أن كل من سواه من المكلفين مساو له في ذلك الحكم، إما على سبيل الخصوصية كالخبر الدال على وجوب التأسي به في الصلوات والحج، أو على سبيل العموم بالنسبة إلى ذلك الحكم وغيره

كآية التأسي، كان ذلك نسخا للحكم، فعلى هذا يعتبر في ذلك الدليل، وذلك الفعل ما يعتبر في الناسخ من التساوي في القوة، وكونه واردًا بعد وقت العمل بالعام، على رأي من يشترط ذلك، فإن الناسخ هو مجموعها في الحقيقة، إذ لولا واحد منهما لما ثبت النسخ، مع أن لكل واحد منهما مدخلا في النسخ، وكيف ينكر مدخليه الفعل في النسخ مع أنه هو المثبت بالذات كضد حكم ذلك العام. والدليل الذي دل على شرعيته في حق الكل غير مثبت له بالذات، فإن حصل هذه الشرائط صير إليه إلا لم يقبل، فيكون الفعل مخصصا له عليه السلام فقط، وإن دل على أن بعض من سواه من المكلفين كذلك، كان ذلك تخصيصا في حقهم أيضا، وإن لم يوجد دليل على شيء من ذلك لم يجز التخصيص ولا النسخ به في حق غيره. وإن كان الثاني: كما إذا فرض أنه قال: نهيتكم عن كشف الفخذ، أو عن الوصال، ثم روى عنه عليه السلام فعلهما، إذ المخاطب لا يدخل في مثل هذا الخطاب، ففعله في هذه الصورة لا يكون مخصصا له، لأنه لم يدخل تحت العام، فكيف يفعل تخصيصه عنه. وهل يكون تخصيصا أو نسخا في حق الأمة؟ فعلى التفصيل السابق. وعند هذا ظهر أنه لا معنى لإنكار من أنكر التخصيص، أو النسخ بالفعل

على الوجه المذكور. أو توقف في ذلك. زعما منه أن المخصص بالحقيقة إنما هو ذلك الدليل الذي دل/ (267/ ب) على مساواة الأمة للنبي عليه السلام في ذلك الفعل وغيره نحو قوله تعالى: {واتبعوه}، وهو أعم من ذلك العام، ضرورة أنه إنما يدل على نوع من أنواع الحكم، نحو الإباحة، أو التحريم، أو غيرهما، في قسم من الأقسام نحو العبادات، أو المعاملات، بخلاف ذلك الدليل، فإنه يعم الكل فتخصيصه به تخصيص العام بما هو أعم منه، وأنه غير جائز، وهذا مع ضعفه [على] ما عرفت غير آت في النسخ، إذ نسخ العام بالعام أو بما هو أعم منه جائز، نعم لو قيل: [بالعمل] به لا على وجه النسخ، بل على وجه التعارض والترجيح يتأتى ذلك، إذ ليس ترجيح أحد العاملين على الآخر أولى من العكس، فيجب التوقف.

المسألة العاشرة إذا فعل واحد بحضرة الرسول فعلا، يخالف مقتضى العموم، وهو عليه السلام غير ذاهل عنه ولم ينكر عليه، دل ذلك على أنه مخصوص من ذلك العام، إن كان ذلك قبل حضور وقت العمل به

وجواب. الكل هو ما تقدم من أن المخصص والناسخ إنما هو ذلك الدليل مع ذلك الفعل، وهما أخص من ذلك العام. المسألة العاشرة إذا فعل واحد بحضرة الرسول فعلا، يخالف مقتضى العموم، وهو عليه السلام غير ذاهل عنه ولم ينكر عليه، دل ذلك على أنه مخصوص من ذلك العام، إن كان ذلك قبل حضور وقت العمل به. لكنه ينفرد بذلك أو لا يتفرد به، وعند ذلك ماذا يكون حكمه، فعلى ما تذكره، ثم إن وجد في ذلك الشخص معنى مناسب لإحالة التخصص إليه، كان ذلك تخصيصا في حقه، وفي حق كل من يشاركه في ذلك المعنى على رأي من يجوز تخصيص العام بالقياس، لكن يشترط أن لا يستوعب ذلك المعنى جميع أفراد العام، فإنه إذ ذاك يتعذر الحمل على التخصيص، إذ لم يبق شيء من أفراده، بل يكون ذلك نسخا، إن جوز النسخ قبل حضور وقت العمل، وبالقياس والاقتصار إلى التعارض، أو يلغى المعنى المناسب ليقتصر

الحكم عليه، فيكون ذلك تخصيصا في حقه فقط. وإن كان ذلك بعد حضور وقت العمل بالعام، فلا يمكن حمله على التخصيص، إذ البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة وفاقا، فكان ذلك نسخا للحكم في حقه لا محالة. وهل يكون نسخا في حق الباقين أم لا؟ فمن رأى عموم قوله عليه السلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" مع أنه عليه السلام لم يبين تخصيصه بذلك جعله نسخا في حق الباقين أيضا لأنه لو كان مختصا به لوجب عليه أن يبينه دفعا لمحذور التلبيس. ومن لم ير تعميمه بناء على أن المفرد المضاف لا يعم، لا يجعله نسخا في حق الباقين، إذ التخصيص إنما يحتاج إليه إذا كان/ (268/ أ) ثمة ما يوجب التعميم، إما على سبيل القطع، أو على سبيل الظن، وهو غير حاصل فيما نحن فيه، فعدم بيان التخصيص لا يدل على تعميم الحكم، فلا يجعل ذلك نسخا في حق الكل. وهذا فيه نظر، لأنا نمنع أنه إنما يحتاج إلى بيات التخصيص إذا كان ثمه ما يوجب التعميم على القطع أو الظن، وهذا لأنه يحتاج إليه حيث يوهم ذلك دفعا لإيهام الباطل، ولا يمكن إنكار قيام الإيهام فيما نحن فيه. سلمنا أنه إنما يحتاج إليه عند قيام ما يقتضي غلبة الظن بذلك، لكن لا

نسلم أنه غير حاصل فيما نحن فيه، غاية ما في الباب أنه غير حاصل من الحديث، ولا يلزم منه أن لا يحصل أصلا لجواز أن يحصل من دليل آخر، وهو "غير" حاصل هنا. وبيانه: أن الغالب في الأحكام المشروعة إنما هو التعميم لا التخصيص، وإلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى من إلحاقه بالنادر، فهذا يقتضي غلبة الظن بشرعية ذلك الحكم في حق الباقين، فيكون نسخا في حق الكل، ثم الدليل على ما ذكرنا أن فعله لو كان منكرا لما جاز للنبي عليه السلام السكوت. أما أولا: فلما أن النهي عن المنكر واجب. وأما ثانيا: فلأن سكوته يغلب على الظن جوازه. وهب أنه لم يغلب جوازه، لكن لا أقل من أن يوهم جوازه، ودفع إيهام الباطل واجب حيث لا يدل على نفيه. فإن قلت: فلو كان تقدم من النبي- عليه السلام- إنكار ذلك الفعل على التعميم ينبغي أن لا يجب عليه- صلوات الله عليه والسلام- الإنكار، إذ الظن الغالب أو الإيهام بجوازه من مندفع بذلك الإنكار السابق، فلعله- عليه السلام- اكتفى بذلك ولم يجدد الإنكار، فعلى هذا ينبغي أن ينعطف هذا ضدا في المسألة، بأن يقال: مع [عدم] الإنكار عليه سابقا. قلت: لو كفى ذلك فيه لكفى العام نفسه، فإن مقتضى العموم إذا كان الوجوب على سبيل التعميم كان متضمنا للإنكار على فعل ضده قطعا فليكتف به، ثم السبب في عدم اشتراط ذلك هو أنه كما يحتمل تخصيصه عن مقتضى

المسألة الحادية عشرة [التخصيص بمفهوم الموافقة]

العام بسبب فعله والسكوت عنه أو كونه منسوخا عنه، يحتمل أيضا: أن يكون كذلك عن الإنكار السابق الذي صدر على سبيل التعميم، لأنه إذا فعل بحضرته ما أنكر عليه من قبل ولم ينكر عليه إذ ذاك احتمل أن يكون مخصوصا عن عن ذلك الإنكار أو نسخ عنه/ (268/ ب) حكم، وإذا كان احتمال التخصيص أو النسخ بعينه قائما فيه لم يكن في اشتراطه فائدة فلم يشترط ذلك. المسألة الحادية عشرة [التخصيص بمفهوم الموافقة] لا يستراب في جواز التخصيص بمفهوم الموافقة، سواء قيل إن دلالته،

لفظية أو معنوية، لأنه أقوى دلالة من المنطوق على ثبوت الحكم، إذ الحكم فيه أولى بالثبوت ونفيه مع ثبوت حكم المنطوق يعود بعضا على البعض في الأكثر بخلاف نفي الحكم عن بعض المنطوق وإثباته في البعض. وكذلك بمفهوم المخالفة عند القائلين به. وعلى هذا الأصل بنى الشافعي رضي الله عنه مذهبه في المياه، فإنه خصص عموم قوله عليه السلام "خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه".

.............................................................................

بمفهوم قوله عليه السلام: "إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل خبثا".

والسبب في ذلك هو مفهوم المخالفة، وإن كانت دلالته أضعف من دلالة المنطوق، بدليل أنه يرجح المنطوق عند تعارضهما عموما أو خصوصا، وأنه مفتقر في دلالته إلى المنطوق من غير عكس، لكنه خاص العمل به يستلزم العمل بالدليلين من وجه، والعمل بالعام يستلزم إلغاءه بالكلية، فكان "هو" راجحا بهذا السبب. وبهذا عرف اندماج ما ذكره الإمام من الإشكال عليه، ولا يبعد فيه

المسألة الثانية عشرة [في حكم تخصيص عموم الكتاب والسنة والمتواترة بالقياس]

خلاف بين القائلين به، وإن كنا لا نعرف فيه، إذ ليس هو أقوى من الخبر والقياس وفي التخصيص بهما خلاف بين القائلين بكونهما حجة. المسألة الثانية عشرة [في حكم تخصيص عموم الكتاب والسنة والمتواترة بالقياس] يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة، بالقياس مطلقا، عند الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة من المعتزلة: كأبي هاشم في إحدى

الروايتين، وأبي الحسين البصري، والقاضي عبد الجبار الهمذاني، رحمهم الله تعالى. وذهب جماعة من الفقهاء، كأهل العراق من الحنفية، وجماعة من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم فيما روى عنه أولا: إلى المنع مطلقا. ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها: أحدها: وهو قول ابن سريج وجماعة من أصحابنا أنه يجوز بالقياس الجلي دون الخفي. واختلف هؤلاء في تفسير [الجلي، والخفي، فقال: بعضهم الجلي قياس

العلة، والخفي قياس الشبه. وقيل الجلي ما تتبادر] علته إلى الفهم عند سماع الحكم نحو إعظام الأبوين عند سماع قوله تعالى {فلا تقل لهما أف} ونحو اندهاش العقل عند تمام الفكر عند سماع/ (269/ أ) قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". والخفي ما ليس كذلك. [وقيل الجلي ما لو قضى القاضي بخلافه لنقض قضاؤه، والخفي ما ليس

كذلك]، وهو قول الإصطخري رحمه الله تعالى. وفي هذا التعريف نظر: لأنه ليس كل ما لو قضى القاضي بخلافه لنقض قضاؤه قياسا جليا، فإن القضاء الذي يكون بخلاف الخبر الصريح وإن كان خبرًا واحدًا ينقض، مع أنه ليس بقياس، فليس المراد من كلمة "ما" العموم، بل الخصوص، وهو القياس، ويكون التقدير الجلي: هو القياس الذي لو قضى القاضي بخلافه لنقض قضاؤه، وحينئذ يلزم تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به لأنه لا يعرف القضاء الذي بخلاف القياس ينقض إلا بالقياس الجلي، فتعريف القياس الجلي به تعريف بما لا يعرف إلا به وهو باطل.

وثانيها: وهو قول الغزالي- رحمه الله- أنه يرجح الأقوى منها في إفادة الظن، وتعرف القوة والضعف بقلة تطرق التخصيص وكثرته، وإن تعادلا فالتوقف. وثالثها: وهو قول عيسى بن أبان: أنه إن تطرق التخصيص إليه، سواء كان بمتصل، أو بمنفصل جاز تخصيصه بالقياس وإلا فلا. ورابعها: وهو قول الكرخي: أنه إن تطرق التخصيص إليه بمنفصل جاز تخصيصه ("به" وإلا فلا]. وذهب القاضي، وإمام الحرمين- رحمهما الله تعالى- إلى القول بالتوقف.

قال إمام الحرمين: يحصل مقصود المخصص من وجه دون وجه، لأنه من حيث إنه لا يحكم في محل التعارض بمقتضى العموم يحصل مقصوده، ومن حيث إنه لا يحكم بمقتضى القياس فيه أيضا لا يحصل مقصوده، هذا كله في القياس المستنبط من الكتاب، وعموم "السنة" المتواترة، أو عموم خبر الواحد، فأما القياس المستنبط من خبر الواحد، بالنسبة إلى عموم خبر الواحد، فعلى الخلاف السابق أيضا، وأما بالنسبة إلى عموم الكتاب فيترتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد، فمن لا يجوز ذلك لا يجوز تخصيصه بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى، وأما من يجوز ذلك فيحتمل أن لا يجوز ذلك لزيادة الضعف، ويحتمل أن يجوز ذلك أيضا، كما في القياس المستنبط من الكتاب إذ قد يكون قياسه أقوى قوة من عموم الكتاب، بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصات كثيرة، ويحتمل أن يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك. لنا وجهان/ (269/ ب). أحدهما: ما تقدم غير مرة، من أن تقديم العام على الخاص يوجب إلغاء الخاص بالكلية، وتقديم الخاص عليه لا يوجب ذلك، فكان ذلك أولى. وثانيهما: أن العام يحتمل التجوز، ويحتمل الخصوص احتمالاً ظاهراً،

بناء على ما تقدم، أنه ما من عام إلا وقد خص عنه البعض، والقياس لا يحتمل ذلك فكان أولى. احتجوا بوجوه: أحدها: حديث معاذ، فإنه دل على تقديم الكتاب والسنة على القياس والقول بتخصيص عموم الكتاب بالقياس تقديم للقياس على

...........................................................................

الكتاب وأنه خلاف النص فكان باطلا. وجوابه: أنه بعينه يقتضي أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة وإن كانت متواترة، وهو باطل بالإجماع، فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا. فإن قلت: مقتضى الدليل أن لا يجوز ذلك، لكن ترك العمل به في السنة لإجماع الصحابة على جواز التخصيص بها لما تقدم فيبقى فيما عداه على الأصل. قلت: المعنى الذي لأجله أجمعوا عليه، وهو أن لا يلزم الترك بمقتضى الدليل بالكلية قائم "ما" هنا، فيلزم من جواز التخصيص به جواز التخصيص بالقياس. وثانيها: أن العام في دلالته على محل التعارض، لا يخلو، إما أن يكون راجحا على القياس، أو مساويا، أو مرجوحا. فإن كان الأول، وجب العمل به، وامتنع تخصيصه "به ضرورة أن العمل بالراجح واجب. وإن كان الثاني: وجب التوقف إذ ليس العمل بأحدهما أولى من العمل بالآخر.

وإن كان الثالث: وجب تخصيصه" وتقديمه عليه، لكن لا شك في أن وقوع احتمالين من الثلاثة أغلب على الظن، من "وقوع" احتمال واحد منها، فيكون عدم تخصيصه به أغلب على الظن، فيكون العمل به واجبا، إذ العمل بما هو غالب الظن واجب. وجوابه: أن ما ذكرتم إنما يسلم في الاحتمالات المتساوية في المصلحة، أو المفسدة، فأما في المتقاومة في ذلك، فلا نسلم ذلك فيه، وهذا لأنه رب احتمال واحد قد يغلب على الظن وجوده بالنسبة إلى مقاصد الشرع على الاحتمالات الكثيرة، بناء على اشتماله على مصلحة راجحة. على تلك الاحتمالات ولا شك أن احتمال التخصيص، راجح في المصلحة على احتمال الإلغاء، وعلى احتمال الترك بالدليلين. وثالثها: أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم، والحكم المدلول عليه/ (270/ أ) بالقياس مظنون، والمعلوم راجح على المظنون. وجوابه: منع أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم، وهذا لأن العام عن الكتاب والسنة المتواترة، وإن كان مقطوع المتن، لكنه مظنون الدلالة على العموم: إذ هو مبني على عدم المخصص وهو ظني. سلمنا: ذلك لكنه لا فرق بينهما، وقد عرفت دليل ذلك في مسألة أنه يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فلا نعيده.

ورابعها: أن القياس فرع النص، وتقديم الفرع على الأصل غير جائز. وجوابه: أنه فرع نص "آخر" لا فرع المخصوص به، حتى يلزم ما ذكرتم من تقديم الفرع على الأصل. وخامسها: أن الإجماع حاصل على أن من شرط القياس أن لا يرده النص، وإذا كان مقتضى العموم مخالفا له، فقد رده فلم يصح العمل به. وجوابه: أن النص إنما يرد القياس أن لو كان القياس رافعا لكل مقتضاه، أما إذا كان رافعا لبعض مقتضاه فلا نسلم أن النص حينئذ يرده، وهذا لأنه حينئذ بيان له والمبين لا يرد المبين، وبتقدير أن يكون ذلك "ردا" بناء على ظاهر التعميم، لكن لا نسلم أن الإجماع منعقد على أن من شرط صحة القياس أن لا يرده النص مثل هذا الرد، وإنما الذي يسلم حصوله عليه هو الرد بالمعنى الأول لا غير.

وسادسها: أن جهة الضعف في العام المقطوع المتن منحصرة في أمرين: أحدهما: احتمال التخصيص. وثانيهما: احتمال التجوز، وفي غيره في الثلاثة الاحتمالات المذكوران مع احتمال كذب الناقل. وأما في القياس فكثيرة: أحدها: هذه الثلاثة، والاثنان، لأن أصل القياس لابد وأن يكون نصا. وثانيها: احتمال ألا يكون معللا بعلة أصلا. وثالثها: أنه وإن كان معللا بعلة، لكن يحتمل أن يكون غير ما ظنه القائس عليه. رابعها: أنها وإن كانت ما ظنه القائس علة، لكن يحتمل أن لم يصادفها على طريقها، إما بأن يكون ليس أهلًا لذلك، أو وإن [كان] أهلًا له، لكنه أخطأ في طريق إثباتها. وخامسها: أنه وإن صادفها بطريقها، لكنه يحتمل أن تكون موجودة في الفرع، مع أنه قد ظن وجودها فيه.

وسادسها: أنها وإن وجدت في الفرع، لكن ربما لم يوجد فيه شرط الحكم، أو أن وجد شرطه، لكن وجد فيه مانع منه، مع أنه قد ظن حصول الشرط وعدم المانع، وإذا كان/ (270/ ب) كذلك كان القياس أضعف من العام، لاسيما من المقطوع متنه فلم يجز تقديمه عليه، إذ العمل بالمرجوح مع وجود الراجح غير جائز. وجوابه من وجوه: أحدها: أن كميات المقدمات، قد تصير معارضة لكيفياتها، فمقدمات القياس، وإن كانت كثيرة، لكنها قد تكون أقوى من مقدمات العام القليلة، بحيث تصير مع كثرتها بسبب كيفياتها معادلة للمقدمات القليلة التي للعام أو راجحة عليها وهذا، فإنه لا يخفى على ذي لب، أن دلالة قياس "الأرز" على "البر" على تحريم بيعه متفاضلا، أقوى بالنسبة إلى دلالة قوله تعالى: {وأحل الله البيع} على جواز بيعه، كذلك وإذا كان كذلك وجب تقديمه عليه. وعند هذا ظهر أن الحق ما ذهب إليه الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى.

وثانيها: أنا نسلم أن العام أرجح من القياس مطلقا، ولهذا لا يقدم قياس على عام، وإن كان خبرًا واحدًا عند تعارضهما بالكلية، لكن في تقديمه على القياس إلغاء القياس بالكلية، لكن في تقديمه على القياس إلغاء القياس بالكلية، وفي تقديم القياس عليه على وجه التخصيص ليس ذلك، فكان تقديمه عليه أولى، لأن مفسدة الترك بمقتضى الدليل بالكلية تربو على مفسدة تقديم المرجوح على الراجح في بعض مقتضيات الراجح، بدليل أنه يخص العموم بما أنه لو وقع التعارض بينه وبين العام تعارضا يمتنع الجمع بينهما، لكان تقديم العام واجبا كالفعل إذا دل دليل على تعميمه وكالمفهوم، وقول الصحابي عند من يقول بكونهما حجة. وثالثها: النقض بجواز تخصيص المقطوع من الكتاب والسنة بالخبر المظنون، وقد سلم ذلك كثير ممن منع تخصيص العام بالقياس. وسابعها: أنه لو جاز التخصيص بالقياس، لجاز النسخ به، بجامع

تقديم الخاص على العام واللازم باطل، فالملزوم مثله. وجوابه ما تقدم غير مرة. وأما حجة من فرق بين القياس الجلي والخفي: فهي أن الجلي أقوى من العموم، بدليل أنه يتبادر فيه الذهن إلى فهم العلة عند سماع الحكم، بخلاف العموم فإنه قل ما يتبادر الفهم إلى التعميم عند سماع العام، بسبب كثرة تطرق التخصيص إلى العمومات، وإذا كان أقوى وليس في تقديمه على العام إلا مفسدة التخصيص/ (271/ أ) بخلاف تقديم العام عليه، فإن فيه مفسدة التعطيل وجب تقديمه عليه. وأما مأخذ ما اختاره الغزالي- رحمه الله تعالى- فظاهر جدا. وأما مأخذ عيسى بن أبان، والكرخي، والقاضي- رحمهم الله- فما سبق في خبر الواحد. وأما إمام الحرمين: فإنه لم يتوقف في جواز تخصيص الكتاب بالسنة، بل جزم بجوازه، وتوقف هنا فمأخذه في ذلك: هو أنه زعم أن مقتضى الدليل التوقف في خبر الواحد أيضا. كما قال القاضي أبو بكر- رحمه الله تعالى- لكن ترك مقتضاه

الإجماع الصحابة وهو غير حاصل في القياس فوجب أن يبقى على الأصل. وجوابه: أن ما لأجله أجمعوا عليه حصل هنا، وإن لم يكن الإجماع حاصلا فوجب تقديمه عليه كالخبر.

الفصل السادس فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك وفيه مسائل:

الفصل السادس فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك

الفصل السادس فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك وفيه مسائل: المسألة الأولى [في حكم عطف الخاص على العام] عطف الخاص على العام لا يوجب تخصيص العام عندنا. خلافا لأبي حنيفة وأصحابه- رحمهم الله. وتوقف فيه بعض المتكلمين. مثاله: قوله عليه السلام: "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده".

فإنه لو وقع الاتفاق على أن المراد من قوله: "ولا ذو عهد في عهده" هو أن لا يقتل ذو عهد في عهده بكافر إذ لا موجب لهذا الإضمار لأنه كلام تام بدونه سوى زيادة المناسبة، وهي قرينة ضعيفة لا تقتضي الإضمار، فهل يقتضي ذلك تخصيص الكافر بالحربي في قوله "لا يقتل مسلم بكافر" فإنه عام إذ النكرة في سياق النفي تعم بناء على أن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع. فعندنا "لا" ولهذا لا يقتل مسلم بكافر حربيا كان أو ذميا إجراء لعموم قوله عليه السلام: "لا يقتل مسلم بكافر" وعندهم نعم: ولهذا يقتلون المسلم بالذمي، والمراد من الكفار في قوله: "لا يقتل مسلم بكافر" هو الحربي عندهم لقرينة عطف الخاص عليه، وهو الحربي.

لنا وجوه: أحدها: أن المقتضى للتعميم قائم، وهو اللفظ العام، والمعارض الموجود وهو عطف الخاص عليه لا يصلح أن يكون معارضا له، لأن مقتضى العطف هو الإشراك بين المعطوف والمعطوف عليه في أصل الحكم الذي عطف عليه، لا الاشتراك فيه من جميع/ (271/ ب) الوجوه، وإذا كان كذلك لم يكن عطف الخاص منافيا لتعميم المعطوف عليه، فلم يصلح معارضا له، وإذا وجد المقتضى للتعميم ولم يوجد المعارض له وجب القول بالتعميم، لأن المقتضى لا ينفك عن المقتضى إلا لمعارض. وثانيها: أنه إن لم يرد في استعمالاتهم عطف الخاص على العام مخصصا له لم يجز جعله مخصصا له، لأنه خلاف استعمالاتهم، وهو يقتضي عدم جواز استعمال في ذلك، فإن لم يقتض ذلك، فلا أقل من أن لا يقتضي وجوب ذلك، وإن ورد مخصصا له فقد ورد أيضا غير مخصص له، كما في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، فإنه عام في الرجعية والبائن، وقوله: {وبعولتهن أحق بردهن}، خاص في الرجعية ولم يختص الأول بالإجماع، وعند ذلك، إما أن يجعل حقيقة فيهما بخصوصيتهما، وهو خلاف الأصل، أو في أحدهما دون الآخر وهو أيضًا خلاف الأصل فوجب جعله حقيقة فيهما بحسب قدر مشترك بينهما، وهو الاشتراك في أصل الحكم من غير أن يكون له دلالة على إثبات أو نفي

أمر زائد عليه. وثالثها: أنا لو جعلناه مقتضيا لذلك، فحيث لم يقتضى ذلك كما في الآية المتلوة لزم الترك بالدليل ولو لم يجعله مقتضيا لذلك فحيث اقتضى ذلك لم يلزم منه إلا إثبات أمر زائد عليه، بدليل آخر لم يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات، ومعلوم أن لثاني أولى، فجعله غير مقتض لذلك أولى. ورابعها: أن الاشتراك في الأصل الحكم الذي عطف عليه متيقن، وفي صفاته مشكوك فيه، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أول، فجعله حقيقة في الاشتراك في أصل الحكم أولى. احتجوا بوجهين: أحدهما: أن حرف العطف يجعل المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد وذلك يقتضي التسوية بينهما في الحكم وتفاصيله. وجوابه: أن حرف العطف يقتضي ذلك، لكن فيما عطف عليه لا في غيره. فلم فلتم: إنه عطف على الحكم وتفاصيله؟.

ولم قلتم: إن ذلك مقتضى العطف حتى يلزم ما ذكرتم؟. وثانيهما: أنه إما أن لا يضمر في المعطوف شيء مما تقدم في المعطوف عليه، وهو باطل ضرورة أنه غير مفيد حينئذ أو يضمر بعضه المعين، وهو/ (272/ أ) أيضا باطل لعدم دلالة الكلام عليه، أو غير المعين وهو أيضا باطل لما فيه من الإجمال فلم يبق إلا أن يضمر الكل. وجوابه: أنا نختار من الأقسام القسم الثاني. قوله: إنه باطل لعدم دلالة الكلام عليه ممنوع، فإن الاشتراك في أصل الحكم مع عدم التعرض لإثبات النافي أو نفيه مقتضى العطف عندنا، فلم قلتم إنه ليس كذلك؟

المسألة الثانية [تخصيص العموم بمذهب الراوي الصحابي]

المسألة الثانية [تخصيص العموم بمذهب الراوي الصحابي] لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي الصحابي عندنا وعند أكثر الأصوليين. خلافا للحنفية، والحنابلة. ومنهم من فصل: فقال: قوم "إن وجد ما" يقتضي تخصيصه به لم يخص بمذهب الراوي، بل به إن اقتضاه عند الناظر فيه، وإلا خص بمذهبه وهو مذهب القاضي عبد الجبار.

وقال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: إن علم من حاله أنه فعل ما يخالف الحديث نسيانًا، فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف، إذ لا يظن بعاقل أنه يرجح فعله إذ ذاك، ولو احتمل أن يكون فعله احتياطا، كما لو روى ما يقتضي رفع الحرج عن الفعل فيما يظن فيه التحريم، ثم رأيناه متحرجا عنه غير ملابس به له فالتعويل على الحديث، ويحتمل فعله على الورع والتعلق بالأفضل، وإن لم يحتمل شيء من ذلك لم يجز التعلق بالحديث. مثاله: ما روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام إنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" فهذا عام في الرجال والنساء.

لكن من مذهبه أن المرتدة لا تقتل، فهل يخصص عمومه بمذهبه أم لا؟. فعندنا لا. ولهذا تقتل المرتدة.

وعندهم نعم، ولهذا لا يقتلونها. وقد أورد الإمام رحمه الله تعالى، لهذا مثالا: خبر أبي هريرة فإنه روى عنه عليه السلام: أنه قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب". ثم إن مذهبه الاكتفاء بالثلاث.

فهل يجوز تخصيصه به حتى يجوز الاقتصار على الثلاث، فعلى

الخلاف السابق. وفي هذا المثال نظر: لأن أسماء الأعداد نصوص في مسمياتها، والنص لا يقبل التخصيص، إذ لا يجوز إطلاق العشرة وإرادة الخمسة منها، وإنما يقبل الاستثناء، وما يجري مجراه، فلا يكون المثال مطابقا. نعم: قد يحسن إيراد ذلك مثالا: إذا صدرت المسألة هكذا: الراوي الصحابي إذا/ (272/ ب) خالف الحديث، وفعل ما يضاده، فالتعويل على الحديث، أو على فعله، فعلى الخلاف نحو خبر أبي هريرة.

لنا: أن العام دليل ظاهر فيما اقتضاه من التعميم، ولم يوجد له معارض فوجب الجري على موجبه. أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فلأنه لم يوجد ما يصلح أن يكون معارضا له سوى فعله، وهو غير معارض له إما بحسب ذاته فظاهر، وإما بحسب سنده، فلأن فعله

لم يكن مستندا" إلى قاطع دال على أن المراد من ذلك العام الخاص، كما أنه لم يكن مستندا" إلى مجرد التشهي ومجرد إتباع الهوى، لظهور عدالته لأنه لو كان كذلك لبينه وأشهر، إزالة للتهمة عن نفسه، والشبهة عن غيره، ولو كان كذلك لظهر، لأنه مما تتوفر الدواعي على "نقله، وحيث لم يظهر دل على أنه ما بينه وأشهره، بل يكون مستندا إلى" ما يظنه دليلا أقوى منه، فيحتمل أن يكون دليلا، ويحتمل أن لا يكون، وبتقدير أن يكون دليلا، يحتمل أن يكون أقوى منه، ويحتمل أن لا يكون. وإذا كان كذلك لم يكن فعله معارضا له بحسب سنده أيضا، إذ الاحتمالات متعارضة، ولو سلم أن الاحتمالين الأولين أظهر من مقابلتهما، لكن ليس ظهورهما بحيث يقام ظهور العام، إذ الدلالة اللفظية أظهر من القرينة التي ظاهر الحال. ولو سلم أن ظهورها مثل ظهوره، لكن حكمه في وجوب الإتباع مقصور في حقه دون غيره، إذ لا يجب على غيره متابعته مهما أدى اجتهاده إلى شيء بخلاف العام، فإن حكم ظهوره غير مقصود في حقه، بل يجب إتباعه على كل من اعتقد عمومه، فكان بالإتباع أولى. احتجوا: بأن مخالفة الراوي للحديث، إن كانت لا عن طريق قدح ذلك في عدالته، والقدح في عدالته في الخبر، فلم يجز العمل به فضلا عن أن

يكون واجبا. وإن كانت عن طريق، ذلك الطريق ليس بمحتمل، ولو سلم أنه كذلك فالمقصود أيضا حاصل. أما الأول: فلأنه لو كان كذلك لبينه إزالة للتهمة عن نفسه والشبهة عن غيره، وإذا لم يكن محتملا كان قاطعا فيجب إتباعه إذ إتباع القاطع واجب. وأما الثاني: فلأنه حينئذ يجب تخصيصه به أيضا، كيلا يلزم الترك بذلك الدليل المحتمل. وجوابه/ (273/ أ): أن لا نسلم أنه ليس بمحتمل، ولا نسلم أن المقصود حاصل على تقدير أن يكون محتملا. قوله: لو كان محتملا لبينه وأشهره. قلنا: متى إذا اتفق في ذلك مناظرة أو مطلقا. والأول: مسلم لكن لعلها لم تتفق. والثاني: ممنوع، وهذا لأنه لا يجب إتباعه عبثا فلا يجب إظهاره، بخلاف القاطع فإنه يجب إتباعه عبثا فيجب إظهاره. قوله: على تقدير أن يكون محتملا يجب تخصيصه به جمعا بين الدليلين. قلنا: على من ظهر له ذلك الدليل أو على الكل. والأول: مسلم. والثاني: ممنوع. فلم قلتم: إنه يجب علينا تخصيصه به، فإنه لم يظهر لنا ذلك.

المسألة الثالثة في أن خصوص السبب لا يخصص عموم اللفظ

الدليل، ولم يجب علينا إتباعه. وأما تخصيص الخبر بمخالفة الصحابي الغير الراوي، هل يجوز أم لا؟ فمن لا يجوز بمخالفة الراوي لم يجوز بمخالفة الصحابي الغير الراوي بالطريق الأولى. وأما من يجوز تخصيصه به فمن قال منهم: إن قول الصحابي حجة خصص به، وإلا فلا. المسألة الثالثة في أن خصوص السبب لا يخصص عموم اللفظ وتحقيق القول في ذلك، أن يقال: الخطاب الذي يرد جوابا عن سائل الحكم، إما أن لا يكون مستقبلا بنفسه دون السؤال، أو يكون مستقلا بنفسه دونه. فإن كان الأول: فإما أن يكون [ذلك] الأمر يرجع إلى الوضع كقوله عليه السلام: حين سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص الرطب إذا جف"؟ قالوا: نعم. قال: "فلا إذًا"، فقوله: "فلا إذًا" لا يفيد ما لم يعد السؤال فيه،

وعدم إفادته أينما كان، لأنه لم يوضع لأن يعاد به، أو لا يكون لذلك بل للعرف والعادة، كقول: القائل: والله لا أكلت. في جواب من يقول له: "كل عندي" فإن قوله: "والله لا أكلت" يفيد بحسب الوضع، لأنه كلام تام يحسن السكوت عليه، لكن العرف والعادة اقتضى تخصيصه بالسؤال حتى صار تقديره والله لا أكلت عندك. ولهذا لا يعدونه مخالفا بالأكل عند غيره، وحكم الجواب في هذين القسمين، هو أن يكون تابعا للسؤال في العموم، والخصوص، لكن في أحدهما بحسب اللغة، وفي الآخر بحسب العرف. مثال العام من القسم الأول: ما سبق من الحديث. مثال الخاص منه: نحو قول: القائل: "لا" حين سئل أيجوز بيع هذا الرطب بهذا التمر؟. مثال العام من القسم الثاني: قول القائل/ (273/ ب): "والله لا أكلت" حين قيل له كل عن الناس. مثال الخاص منه ما سبق.

وإن كان الثاني: وهو أن يكون الجواب مستقلا بنفسه بدون السؤال، فهذا على أقسام أربعة: لأنه إما أن يكون مساويا له، أو أخص منه، أو أعم منه، أو أعم منه من وجه وأخص "منه" من وجه. ولنبين أمثلة هذه الأقسام وأحكامها. القسم الأول: وهو أن يكون الجواب مساويا له، وهو إما في العموم: نحو قوله عليه السلام: "من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر" لو فرض أنه قال في جواب من سأله عمن أفطر في نهار رمضان. وأما في الخصوص: نحو قول القائل: يجب عليك كفارة الظهار، حين قال له: "ماذا يجب على وقد أفطرت في نهار رمضان؟ ". وحكمه ظاهر لا إشكال فيه. القسم الثاني: وهو أن يكون الجواب أخص منه، نحو قول القائل: من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر، في جواب من سأله عمن أفطر في نهار رمضان، وهذا الجواب إنما يجوز بثلاث شرائط. أحدها: أن يكون فيما خرج [من] الجواب تنبيه على ما لم يخرج منه، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير جائز. وثانيها: أن يكون السائل من أهل الاجتهاد وإلا لم يفد التنبيه. وثالثها: أن لا يفوت وقت العمل بسبب اشتغال السائل بالاجتهاد، لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق، وحكمه حينئذ في العموم والخصوص كحكم السؤال في

ذلك، لكن لا يسمى عاما وإن كان السؤال عاما، لأن الحكم في غير محل التنصيص غير مستفاد من اللفظ، بل من التنبيه. والقسم الثالث: وهو أن يكون الجواب أعم منه، وهذا ينقسم إلى قسمين: لأنه إما أن يكون أعم منه فيما سئل عنه، لقوله عليه السلام: لما سئل عن بئر بضاعة: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه". أو في غير ما سئل كقوله عليه السلام: حين سئل عن التوضؤ بماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وحكم هذا القسم التعميم بالنسبة إلى ما سئل عنه، وإلى غيره من غير خلاف، لأنه وارد ابتداء بالنسبة إلى غير المسؤول عنه، وأما بالنسبة إلى المسؤول عنه فللمطابقة.

وأما القسم الأول: فقد اختلفوا فيه فذهب أبو حنيفة وأكثر الفقهاء ومعظم الأصوليين إلى تعميم حكمه.

وذهب مالك، والمزني، وأبو ثور، وأبو بكر القفال، وأبو بكر الدقاق من أصحابنا إلى تخصيص حكمه بالمسؤول عنه.

وعزى ذلك أيضا إلى الشافعي/ (274/ أ) - رضي الله عنه- وصحح إمام الحرمين نقل ذلك أيضا عنه. وعلى هذا الخلاف أيضا إذا ورد العام ابتداء على سبب خاص من غير

سؤال، كقوله: عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فإنه روى أنه قال ذلك حين مر بشاة ميمونة. ولنا وجوه: أحدها: أنا نعلم بالضرورة أنه يمكن أن يكون حكم غير

المسؤول مساويا لحكم غير المسؤول عنه. ونعلم أيضا بالضرورة، أنه لا منافاة بينه وبين بيان حكمهما بلفظ واحد عام، وإذا لم يكن بينهما منافاة، والثاني مقتضى لثبوت الحكم فيهما عملا بالمقتضى. وثانيها: أنه لو كان خصوص السبب معارضا لعموم اللفظ، فحيث ثبت التعميم مع خصوص السبب، كما في كثير من العمومات، نحو آية السرقة، والظهار واللعان، وغيرها من الآيات، والأخبار التي يطول استقصاؤها لزم الترك بمقتضى الدليل المخصص، فكان تعميم أحكامها على خلاف الدليل، ولم يقل أحد من الصحابة والتابعين، بل أحد من الأمة أن تعميم كثير من عمومات الكتاب والسنة التي شأنها ما ذكرنا على خلاف الأصل. ولئن سلم أنه لم ينعقد الإجماع عليه، لكن لا شك في أنه على خلاف الأصل فما يستلزمه أيضا خلاف الأصل. وثالثها: لو كان خصوص السبب مقتضيا لاقتصار الحكم عليه فحيث بين حكمه بلفظ يتناوله وغيره، لزم التعارض بينه وبين ذلك اللفظ العام، والتعارض خلاف الأصل، وانتفاء مستلزمه يتعين أن يكون بانتفاء كون خصوص السبب مقتضيًا لاقتصار الحكم عليه، إذ الأمران الباقيان وهو العام وبيان العام وبيان الحكم به ثابتان بالاتفاق. احتجوا بوجوه:

أحدها: أن اللفظ العام الوارد على السبب الخاص صار نصا صريحا فيه، وبهذا لم يجز تخصيصه عنه بالإجماع، ولو كان اللفظ عاما لم يكن نصا فيه، لأن دلالة العام على مسمياته متحدة، وحينئذ كان يجوز إخراجه عنه كغيره من المسميات، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنه ليس بعام، بل هو مختص بالسبب. لا يقال: لا نسلم حصول الإجماع على عدم جواز تخصيصه عنه، وهذا لأن أبا حنيفة- رضي الله عنه- لم يثبت نسبة ولد الأمة المستفرشة عن سيده بمجرد الفراش، بل يعتبر في ذلك الإقرار/ (274/ ب) الصريح بالنسب مع ورود قوله عليه السلام: "الولد للفراش" فيه إذا روى أنه اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

في ابن أم زمعة فقال سعد: "أوصاني أخي عتبة بقبض ابن أمة زمعة فإنه ابنه"، وقال عبد الله بن زمعة: "هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه" فقال عليه السلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وذلك يدل على أن أبا حنيفة رضي الله عنه يجوز إخراجه عنه على وجه التخصيص.

لأنا نقول: لا نسلم أن ذلك يدل عليه لاحتمال أن يقال: إنه إنما ذهب إليه لعدم اطلاعه على ورود الخبر عليه، أو وإن اطلع عليه لكن لم يصح ذلك عنده. وجوابه: منع اللازم، وهذا لأنه [لا] يجوز أن يصير اللفظ [نصا] صريحا في بعض مسمياته، لقرينة خارجية تتصل به بالنسبة إليه، وهو إنما صار نصا فيه لقرينة الورود فيه لا من حيث الوضع، ودلالة العام إنما تتحد بالنسبة إلى مسمياته من حيث الوضع لا غير، فلا منافاة بين كونه نصا صريحا في محل الورود وبين كونه عاما. وثانيها: أنه لو كان الحكم عاما ثابتا في محل الورود وغيره، لما تأخر البيان إلى وقوع تلك الواقعة ظاهرا، لكنه تأخر فلا يكون عاماً.

وجوابه: أنه إنما لا يجوز تأخير بيانه إلى ذلك الوقت إن لو اتفقت الحاجة إليه قبله، وهو ممنوع، أما إذا لم تتفق فلا نسلم أنه لا يجوز تأخيره إليه لا قطعا ولا ظاهرا، وما الدليل عليه؟. ولئن سلم ذلك: لكنه منقوض بما أنه لا يختص بذلك الشخص، وبذلك الزمان، وبذلك المكان بالاتفاق. ولئن سلم: سلامته عن هذا النقض، لكنه منقوض بالعمومات الواردة على الأسباب الخاصة الغير المختصة بها. وثالثها: أن الجواب لو لم يستقل بنفسه اختص بالسؤال وفاقا. فكذا إذا استقل قياسا عليه، والجامع عدم إلغاء فائدة السؤال. وجوابه: الفرق وهو ظاهر فإنه لو لم يتعلق به ثمة للغا فائدة السؤال والجواب، وما نحن فيه لو لم يتعلق الجواب بالسؤال كان الجواب مفيدا بنفسه، بل فائدته حينئذ يكون أكثر مما إذا عقلناه به وما هو المقصود من السؤال حاصل أيضا. ورابعها: أن الرجل إذا قال لغيره: كلم فلانا فقال:/ (275/ أ) والله لا أكلم، فإنه يختص بذلك الرجل حتى لا يحنث بالكلام مع غيره مع عموم اللفظ وفاقا. فلو لم يكن خصوص السبب مقتضيًا للتخصيص لما كان كذلك.

وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك لخصوص السبب، بل للقرينة العرفية، فإن من الظاهر أنه لم يحلف على أنه لم يكلم أصلا مع مسيس حاجته إليه، وهذه القرينة منتفية بالنسبة إلى خطاب الشارع، فلم يلزم من تخصيص خطاب الناس بعضهم مع بعض، تخصيص خطاب الشارع. وخامسها: أن الجواب لو كان عاما غير مقتصر على السؤال لم يكن الجواب مطابقا للسؤال، [وحينئذ لم يجز ضرورة أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال] ولهذا لم يجز أن يكون الجواب خاصا والسؤال عاما. وجوابه: أن المعنى من قوله: "الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، هو أنه يجب أن يستوعبه ولا يغادر منه شيئًا، والخاص لما لم يكن مطابقا "للسؤال" بهذا المعنى لا جرم لم يجز، لا أنه يجب أن لا يتضمن بيان شيء آخر مع بيانه، يدل عليه أنه عليه السلام لما سئل عن التوضؤ بماء البحر أجاب بقوله: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" ولو كان يجب أن يكون الجواب مطابقا للسؤال بمعنى أنه لا يزيد عليه ولا ينقص منه، لما جاز هذا الجواب وهو خلاف الأصل إذ لم يقل أحد من الأمة بذلك.

وسادسها: أن السبب يجري مجرى العلة، لأنه المثير للحكم فوجب أن يختص الحكم به كما في العلة. وجوابه: أنه لا يلزم من اشتراك الشيئين في بعض الأمور اشتراكهما في الماهية، ولئن ذكر ما ذكر بطريق القياس فنطالبهم بالجامع المناسب، ثم نجيبهم بالفرق وهو ظاهر، ولئن سلم صحة القياس، لكنه منقوص بالسائل فإنه هو المثير للحكم، والحكم غير مختص به وفاقا. وسابعها: أنه لو لم يكن للسبب مدخل في اختصاص الحكم به، لم يكن في فعله فائدة، فكان الاشتغال به عبثا، لكن الأمة اتفقت على نقله خلفا عن سلف، ويرون ذلك جائزا، واتفاق الأمة بأسرها على العبث والباطل غير جائز. وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن الفائدة غير منحصرة في اختصاص الحكم به فإن معرفة أسلوب التنزيل ومعرفة تلك القضية وعدم جواز تخصيصه عن النص فوائد. وأما القسم الرابع: وهو أن يكون الجواب أعم من السؤال من وجه دون وجه، فنحو ما إذا سئل هل على من أفطر بالجماع/ (275/ ب) في نهار رمضان كفارة؟. فيقول في جوابه: على من أفطر في نهار رمضان الكفارة إذا تعمد الإفطار لا إذا ما أفطر ناسيا، فالسؤال خاص بالمجامع، عام في الناسي

المسألة الرابعة [في تخصيص العام بذكر بعضه]

والمعتمد، والجواب خاص بالمعتمد عام في المجامع وغيره. وحكم هذا القسم على رأي من يرى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ظاهر، وأما على رأي المخصصين فيحتمل أن يختص بالسبب أيضا لكن مع ما ذكر من القيد إذ لم يرد على القسم الثالث سوى ذكر القيد فيعتبر ذلك من غير تغيير وهو الاحتمال الأظهر، ويحتمل أن لا يختص به بل يجري على عمومه، لأنه لما عدل عن ذكر الحكم على إطلاقه إلى ذكر قيد فيه خالف السؤال فكأنه ابتدأ به والخطاب العام المبتدأ به يجري على عمومه، فكذا هذا. المسألة الرابعة [في تخصيص العام بذكر بعضه] لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه عند الجماهير من الفقهاء والأصوليين. خلافاً لأبي ثور.

مثاله: قوله عليه السلام: "أي إهاب دبغ فقد طهر" فإنه عام في كل جلد غير مدبوغ، إذ الإهاب اسم لذلك، وقال عليه السلام في شاة ميمونة "دباغها طهورها" فهذا لا يكون مخصصا لذلك العام عندنا حتى يقال: إن المراد من الإهاب هو جلد الشاة لا غير.

خلافا له، فإنه قال: المراد من الإهاب هو جلد الشاة. لنا: أن المخصص يجب أن يكون منافيا للعام، وذكر بعض العام بحكم العام غير مناف له، فلا يكون مخصصا له. احتج الخصم: بأن المفهوم مخصص، كما ذكرتم واعترفتم به، وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم كما عداه بطريق المفهوم فتخصيص جلد الشاة بالذكر يدل على نفي ذلك الحكم عما عداه، وإذا ورد عام متناول لكل الجلود، وقع التعارض بينه وبين مفهوم هذا الخاص، فيكون مخصصا له كيلا يلزم الترك بالدليل الخاص. وجوابه: أن مفهوم المخالفة الذي أثبتناه مخصصا فهو مفهوم الصفة لا مفهوم اللقب، فإن القول به عندنا: باطل، وذكر جلد الشاة إنما يدل على عدم ما عداه بطريق مفهوم اللقب لا بطريق مفهوم الصفة، فلا يرد ذلك علينا إلزاما، ولو سلم أن مفهوم اللقب حجة، لكنه في غاية الضعف لا يصلح أن يكون مقاوما للعموم، فالتمسك بالعموم أولى ولا استبعاد في ذلك، فإن القياس وخبر الواحد حجة عند كثير في الناس/ (276/ أ)، فإذا عارضهما

المسألة الخامسة [في جواز التخصيص بالعادة]

عموم الكتاب أو السنة المتواترة لم يروا التمسك بهما، بل يرون أن التمسك بالعموم أولى. المسألة الخامسة [في جواز التخصيص بالعادة] لا يجوز تخصيص بالعادة عندنا، وعند جماهير الأصوليين. خلافا للحنفية. واعلم أن كون العادة مخصصة للعام، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الرسول- عليه السلام- أوجب أو حرم أشياء بلفظ عام، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها، أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك

العادة في تخصيص ذلك العام حتى يقال: المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه، أو بفعله أم لا يؤثر في ذلك، بل هو باق على عمومه متناول لذلك الفعل ولغيره. ولاحق في هذا النمط التفصيل، وهو أن يقال: إن علم أن العادة كانت حاصلة في عصر الرسول- عليه السلام- مع علمه بها وعدم منعهم عنها كانت مخصصة كما سبق أن تقريره عليه السلام مخصص لكن المخصص بالحقيقة، هو تقرير الرسول عليه السلام لا العادة. وإن علم أنها ما كانت حاصلة في عصره، أو ما علم بها، أو كان يمنعهم من ذلك أو لم يثبت شيء من ذلك لم يجز التخصيص بها، لأن أفعال الناس ليس بحجة على الشرع، نعم لو فرضت العادة بحيث يكون مجمعا عليها، بأن يستمر عليها كل واحد من العلماء وغيرهم كانت مخصصة، لكن المخصص بالحقيقة هو الإجماع لا العادة. وثانيهما: أن تكون العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلا، ثم إنه عليه السلام نهاهم عنه بلفظ تناوله وغيره، كما لو قال: نهيتكم عن أكل الطعام، فهل يكون النهي مقتصرا على أكل ذلك الطعام فقط، أم يجري على عمومه ولا يؤثر عادتهم في ذلك.

فمن قال: بأن العادة تخصص حمل النهي عليه لا غير. ومن قال: إنها لا تخصص، وهو الحق أجراه على عمومه، لأن اللفظ عام "ولم يوجد له" معارض إذ العادة ليست بحجة على ما تقدم حتى تكون معارضة له فوجب الجري على موجبه. فإن قلت: قد قدمتم في اللغات، أن المجمل العرفي مقدم على المجمل اللغوي في تنزيل لفظ الشارع عليه. فلم قدمتم المجمل اللغوي على العرفي هنا فإن العموم مجمل لغوي؟ قلت: ليس هذا الذي نحن فيه/ (276/ ب) من هذا القبيل، لأنه ليس لأهل العرف عرف طارئ وتصرف في لفظ الطعام ولا في لفظ الأكل، وإنما عرفهم في المأكول لا غير، ولهذا يطلقون على أكل غير ذلك الطعام أكل الطعام من غير استبعاد ولا اعتقاد يجوز بخلاف لفظ الدابة، فإنهم لا يطلقون على غير ذوات الأربع أو على غير الحمار أو على غير الفرس منها على اختلاف في العرف في ذلك، ولو أطلق واحد منهم عليه فمع اعتقاد

المسألة السادسة [قصد المدح والذم لا يوجب التخصيص]

التجوز بالنسبة إلى عرفهم، وإذا لم يكن لهم فيه عرف مغاير للغة واللفظ عام بحسب الوضع، وجب إجراؤه على عمومه بخلاف الألفاظ العرفية، فإن العرف الطارئ نسخ الوضع الأول، فلم يكن ما نحن فيه من قبيل ما ذكرتم في شيء. المسألة السادسة [قصد المدح والذم لا يوجب التخصيص] اللفظ العام إذا قصد به المتكلم المدح أو الذم لا يوجب ذلك تخصيصه عند الجماهير. خلافا لبعض فقهائنا، ونسب ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه.

مثاله قوله تعالى: {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} وقوله: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} فالقائلون بالتخصيص: منعوا التعلق بالأول: في وجوب الزكاة في الحلي وما يجري مجراه. وبالثاني: في انقطاع الوعيد عن أصحاب الكبائر. وقالوا: المقصود من الكلام الأول إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة تحذيرا من الادخار وترغيبا في الإنفاق لا التعميم. ومن الثاني: مدح المؤمنين ترغيبا في الإيمان، وذم الكافرين تحذيرا عن الكفر لا التعميم.

المسألة السابعة إذا عقب اللفظ العام باستثناء، أو تقييد بصفة، أو حكم خاص لا يتأتى في كل مدلوله بل في بعضه، فهل يوجب ذلك تخصيصه أم لا؟

وقال المعممون: لا نزاع في أنه قصد بالكلام المدح والذم، لكن لم قلتم إن قصده مناف لقصد التعميم؟ وما الدليل عليه؟ فظاهر أنه ليس بمناف له إذ الجمع بينهما ممكن، وبهذا لو صرح به معه لم يعد ذلك تناقضا وتهافتا، وإذا لم يكن قصده منافيا لقصد التعميم، وقد وجد المقتضي له، وهو اللفظ العام وجب القول به. المسألة السابعة إذا عقب اللفظ العام باستثناء، أو تقييد بصفة، أو حكم خاص لا يتأتى في كل مدلوله بل في بعضه، فهل يوجب ذلك تخصيصه أم لا؟ اختلفوا فيه. فذهب أكثر أصحابنا، والقاضي عبد الجبار: إلى أن ذلك لا يوجب تخصيصه، وهو الأظهر. وذهب أكثر الحنفية- رحمهم/ (277/ أ) الله تعالى-: إلى أنه

يخصصه. ولهذا قالوا في قوله عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل" أن المراد منه ما يكال من البر، فيجوز بيع الحفنة بالحفنتين، لأن ذلك القدر مما لا يكال. وذهب جماعة نحو إمام الحرمين، والإمام وأبي الحسين البصري، إلى التوقف. مثال: الاستثناء قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} إلى قوله: {إلا أن يعفون}، فاستثنى العفو عنه بكناية راجعة إلى النساء. ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من البالغات العاقلات دون الصبية والمجنونة،

فهل يوجب ذلك أن يقال: إن المراد من النساء في أول الكلام البالغات العاقلات دونهن أم لا؟. مثال: التقييد بالصفة قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}، ثم قال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} يعني الرغبة في مراجعتهن، ولا شك أن ذلك لا يتأتى في الطلاق البائن، فهل يقتضي ذلك تخصيص الطلاق المذكور في أول الكلام بالرجعى أم لا؟ مثال: التقييد بحكم آخر نحو قوله [تعالى]: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن}، وهذا مختص بالمطلقة بالطلاق الرجعى دون البائن. فهل يقتضي ذلك أن يقال المراد من المطلقات الرجعيات أم لا؟. إذا عرفت هذا، فنقول: الدليل على أن ذلك لا يوجب تخصيص العام، هو أن اللفظ عام ولم يوجد له مخصص، لأن المخصص لابد وأن يكون منافيا للعام، وكون الضمير عائدا إلى بعض مدلول العام غير مناف لعمومه

فوجب إجراؤه على العموم عملا بظاهر اللفظ. فإن قلت: إن أردتم بقولكم: إن كون الضمير عائدا إلى بعض مدلول العام غير مناف لعموم أنه غير مناف له على سبيل القطع فهذا مسلم، لكن ليس من شرط المخصص أن يكون منافيا للعام على القطع، وإن أردتم به أنه ليس منافيا له لا قطعا ولا ظاهرا فممنوع. وهذا لأن الأصل مطابقة الكناية في العموم والخصوص، فهذا الأصل يدل على أن المراد من العام البعض الذي يطابق الكناية، وإلا لزم الترك بهذا الأصل. قلت: هذا الأصل إنما يجب العمل به لو لم يستلزم مخالفة أصل آخر، أما إذا استلزم ذلك، كما في مسألتنا فإن العمل بهذا الأصل يستلزم الترك/ (277/ ب) بمقتضى العام، وهو أيضا خلاف الأصل، إذ الأصل إجراء العام على عمومه، فلم قلتم: إنه يلزم العمل به حينئذ؟. فإن قلت: فحينئذ يجب التوقف، كما ذهب إليه جماعة، لأنهما يتعارضان ويتساقطان، إذ ليس العم بأحد الأصليين أولى من العمل بالأصل الآخر. قلت: لا نسلم إنه ليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر، وهذا لأن

مراعاة إجراء العام على عمومه أولى من مراعاة مطابقة الكناية "للمكنى" لأن المكنى أصل والكناية تابعة لأنها تفتقر في دلالتها على مسعاها إليه من غير عكس، ومراعاة دلالة المتبوع أولى من مراعاة دلالة التابع، ولأنه أكثر فائدة وأظهر دلالة، فكان بالرعاية أجدر.

"النوع السادس" الكلام في المطلق والمقيد وفيه مسائل:

النوع السادس: الكلام في المطلق والمقيد

"النوع السادس" الكلام في المطلق والمقيد وفيه مسائل: المسألة الأولى اعلم أن المطلق، ينقسم إلى مطلق حقيقي: وهو المطلق على الإطلاق، والمطلق من كل وجه: وهو اللفظ المجرد عن القيود أجمع الدال على ماهية الشيء من غير أن يدل على شيء من أحوالها وعوارضها على ما ذكرناه في باب العموم. وليس ذلك هو المراد فقط هنا، فإن قولنا: "رقبة" و"رجل"، في نحو قوله تعالى: {فتحرير رقبة}، وفي مثل قولنا: "اعتق رقبة" أو "اضرب رجلا" مطلق باتفاق الأصوليين، مع أنه ليس على الوجه الذي ذكرناه، لأنه يدل على واحد شائع في الجنس، وهما قيدان زائدان على ماهية الرقبة، بل "ما" يعمه وغيره. وإلى مطلق إضافي: نحو "رقبة" أو "رقبة مؤمنة" فإن قولنا: "رقبة" مطلق بالنسبة إلى قولنا: "رقبة" مؤمنة، ومقيد بالنسبة إلى اللفظ الدال على ماهية الرقبة، من غير أن يكون فيه دلالة على كونها واحدة، أو كثيرة أو شائعا في الجنس، أو معينا، وأقرب لفظ يعقل فيه هذا المعنى نحو الرقبة إذا أريد بالألف واللام تعريف الماهية، وكذلك قولنا: "رقبة مؤمنة" مطلق بالنسبة

المسألة الثانية في حمل المطلق على المقيد

إلى "قولنا": رقبة مؤمنة سليمة عن العيوب، ومقيد بالنسبة إلى قولنا: "رقبة". وإذا عرفت أن المطلق ينقسم إلى قسمين. فاعلم أن المقيد أيضا ينقسم إلى قسمين مقابلتهما: فالمقيد على الإطلاق ومن كل وجه: هو اللفظ الذي لا اشتراك فيه أصلا كأسماء الأعلام/ (278/ أ). وأما المقيد من وجه دون وجه فنحو "رقبة مؤمنة" و"رجل عالم" على ما عرفته. وإذا "قد" عرفت معنى المطلق والمقيد وأقسامها فلنذكر أنه هل يحمل المطلق على المقيد أم لا؟. المسألة الثانية في حمل المطلق على المقيد اعلم أن متعلق حكم المطلق: إما أن يكون عين متعلق حكم المقيد، أو لا يكون.

فإن كان الثاني: نحو أن يقول الشارع "مثلا": أدوا الزكاة، واعتقوا رقبة مؤمنة إذا حنثتم، فلا خلاف في أنه لا يحمل المطلق على المقيد، لأنه لا مناسبة بينهما ولا تعلق لأحدهما بالآخر أصلا. وإن كان الأول: فإما أن يكون السبب واحدا، أو مختلفا وعلى التقديرين، إما أن يكون كل واحد من المطلق والمقيد أمرا أو نهيا، أو أحدهما أمرا والآخر نهيا، فهذه أقسام ستة: "أحدها": أن يكون السبب واحدا وكل واحد منهما أمرا نحو أن يقول: اعتقوا رقبة مؤمنة إذا حنثتم، ثم يقول مرة أخرى: اعتقوا رقبة إذا حنثتم، فهاهنا لا خلاف في أن المطلق محمول على المقيد. وكذا لو قال أولا: اعتقوا رقبة، ثم قال: اعتقوا رقبة مؤمنة. وكذا لو لم يعلم التاريخ بينهما، وهذا التفصيل وإن لم يكن مصرحا به في المؤلفات، لكن إطلاقهم القول يدل عليه.

ولهذا اعترض الشيخ الغزالي "رحمه الله تعالى" وقال: "هذا صحيح مستقيم على رأي من لا يرى بين العام والخاص تقابل الناسخ والمنسوخ، والقاضي مع مصيره إلى ذلك، نقل الاتفاق من العلماء على ذلك". وما ذكره الشيخ حسن متجه، لأن المطلق كالعام، والمقيد كالخاص. فإذا تأخر المطلق عن المقيد، أو إذا لم يعلم التاريخ بينهما، ينبغي أن لا يحمل المطلق على المقيد، لأنه حينئذ يكون ناسخا كالعام إذا تأخر عن الخاص. "وفي بعض المؤلفات قيل: إن تأخر المقيد نسخ المطلق، ويلزمه عكسه إن رأى نسخ الخاص بالعام". ثم الدليل على ذلك أن العمل بالمقيد عمل بالمطلق، ضرورة أن المطلق جزء

من المقيد، والآتي بالكل آت بالجزء، فيكون العمل بالمقيد عملا بالدليلين. وأما العمل بالمطلق فليس عملا بالمقيد، لأن الآتي بالجزء لا يكون آتيا بالكل، بل يكون تاركا له، فيكون العمل بالمطلق يستلزم الترك بأحد الدليلين بالكلية. فإذا كان الجمع بين الدليلين واجبا حيث إنه يستلزم/ (278/ ب) "الترك" بأحد الدليلين بالكلية فإذا كان الجمع بين الدليلين واجبا حيث يستلزم" الترك بشيء من مدلولات لفظ أحدهما، فلأن يجب ذلك حيث لا يستلزم ذلك بطريق الأولى. ولعلهم لهذا الفرق اتفقوا على حمل المطلق على المقيد كيف ما فرض الأمر من التقدم والتأخر، ولم يخرج على الخلاف الذي فيما بين العام المتأخر والخاص المتقدم. فإن قلت: لا نسلم أن المطلق جزء المقيد، وهذا لأن المطلق ضد المقيد، وأحد الضدين لا يكون جزء الآخر. سلمنا: ذلك لكن ليس يتعين الجمع بينهما بما ذكرتم من الطريق بل هنا طريق آخر غير ما ذكرتم وهو: أن يجري المطلق على إطلاقه، ويحمل المقيد على الندب.

فلم قلتم: إن ما ذكرتم من الطريق أولى، وعليكم الترجيح، لأنكم مستدلون. ثم إنه معنا: لأن على هذا التقدير مقتضى المطلق وهو تمكن المكلف من الإتيان بأي فرد شاء باق، ومقتضى المقيد أيضا: باق لأنا اعتبرنا ذلك القيد على وجه الندبية. وأما على ما ذكرتم من التقدير فإن مقتضى الإطلاق غير باق. قلت: الدليل على أن المطلق جزء المقيد هو: أن المطلق إن كان حقيقيًا فهو دال على نفس الماهية والحقيقة لا غير، والمقيد الذي يقابله دال عليها مع اعتبار آخر، ولا شك أن المفهوم الأول: جزء من المفهوم الثاني. وإن كان إضافيا فهو دال على الماهية مع اعتبار أمر آخر أو أمرين والمقيد الذي يقابله يدل على ذلك المجموع مع اعتبار أمر آخر ولا خفاء أن المفهوم الأول جزء من المفهوم الثاني. قوله: المطلق ضد المقيد. قلنا: لا نسلم بالمعنى الذي ذكرناه، وكيف يكون ضده بذلك المعنى، وقد

ذكرنا أن جزءه، بل بمعنى أن حكمه ضد حكم المقيد، أو بمعنى الدال على الشيء بشرط الخلو عن جميع القيود، وتحن لا نعتبر ذلك في المطلق، بل نعتبر أن لا يدل على القيود لا أنه يدل على عدم القيود، وفرق بين الشيء لا بشرط بشيء، وبين الشيء بشرط لا شيء، فإن عدم الشرط غير شرط العدم. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن مقتضى المقيد باق حينئذ، وهذا لأن ظاهر يقتضي وجوب المقيد، لأن ظاهر الأمر للوجوب على ما ثبت "ذلك"، ولأن الخصم مساعد عليه، فإذا حمل على الندب فقد ترك ظاهره. بقى أن يقال: لو راعينا هذا لزم ترك مقتضى الإطلاق، وهو تمكن المكلف من الإتيان بأي فرد شاء، ولو راعينا مقتضى الإطلاق لزم/ (279/ أ) ترك ظاهر التقييد، فلم كان التزام ترك مقتضى الإطلاق أولى من التزام ترك مقتضى التقييد؟. قلنا: التزام ترك مقتضى الإطلاق أولى. أما أولا: فلأنه غير مدلول عليه باللفظ بطريق الوضع، لأن دلالته عليه معنوية. ولئن سلم: أنه يدل عليه بطريق الوضع، لكنه ليس بصريح فيه، بخلاف المقيد فإنه يدل على وجوب ذلك المسمى المخصوص بطريق الوضع، وهو صريح في دلالته على اعتبار ذلك القيد. وأما ثانيا: فلأن مراعاة ظاهر التقيد يقتضي الخروج عن العهدة بيقين،

ومراعاة مقتضى الإطلاق لا يقتضي ذلك، فكان أجدر بالرعاية. وأما ثالثا: فلأنه ليس في حمل المطلق على المقيد التزام مجاز، ولهذا يجوز له أن يعتق الرقبة المسلمة، وإن لم يدل عليها قرينة. وأما في صرف المقيد إلى الندب، فإن فيه التزام ذلك فكان الأول أولى. وثانيها: أن يكون كل واحد المطلق والمقيد نهيا نحو أن يقول: "لا تعتق رقبة" ثم يقول مرة أخرى: "لا تعتق رقبة كافرة في كفارة اليمين" فمن لا يقول بمفهوم الخطاب لا يخصص النهي العام إذ لا موجب لذلك. وأما من يقول به فأصله يقتضي تخصيص النهي العام بالكفارة، لأن النهي الثاني عنده يدل على "إجزاء المسلمة لأنه مختص بالنهي عن الكفارة وهو بمفهومه يدل على" إجزاء المسلمة والتخصيص بالمفهوم جائز عنده. وثالثها: أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا، وهو على قسمين: لأنه إما أن يكون المطلق أمرا والمقيد نهيا نحو أن يقول في كفارة اليمين أيضا: اعتق رقبة، ثم يقول: لا تعتق رقبة كافرة، أو بالعكس نحو أن يقول: لا تعتق رقبة، ثم يقول: اعتق رقبة مؤمنة، وفي هاتين الصورتين لا خلاف أيضا:

في أن المقيد يوجب تقييد المطلق بضده، وهو أهر غني عن البيان. ورابعها: أن يكون كل واحد منهما أمرا، لكن السبب مختلف نحو قوله تعالى في كفارة الظهار: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة مؤمنة}، وقوله تعالى في كفارة القتل: {من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة}. فهاهنا اختلفوا على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو قول الشافعي رضي الله عنه، وجمهور أصحابه: أنه إن قام دليل نحو القياس على المقيد أو غيره، حمل المطلق على المقيد وإلا بقى على إطلاقه. وثانيها: وهو قول بعض أصحابنا أنه يحمل عليه من غير حاجة إلى دليل آخر فإن تقييد أحدهما/ (279/ ب) يوجب تقييد الآخر لفظاً.

وثالثها: وهو قول: الحنفية أنه لا يجوز الحمل عليه بحال، لأن ذلك الدليل إن كان دون المطلق في القوة لم يصلح لنسخه، وإن كان مثله، فإن علم شرط النسخ كان ناسخا له، وإلا كان معارضا فهو غير محمول على المقيد بحال. لنا وجهان: أحدهما: أن القياس دليل شرعي عام في كل الصور إلا ما فقد فيه ركنه أو

شرط لانعقاد الإجماع عليه، ولأن الأدلة التي تدل على أن القياس حجة غير مخصص له بصورة دون صورة، فإذا دل القياس على حمل المطلق على المقيد وجب المصير إليه عملا بالدليل. فإن قلت: لا نزاع في أنه لو وجد شرائطه وأركانه لوجب العمل به، لكن لا نسلم أنه وجد ذلك فيما نحن فيه، وهذا لأن من جملة شرط صحة القياس أن لا يكون مخالفا للنص، فإذا أوجب تقييده بما اقتضاه النص من الإطلاق كان مخالفا له، لأن التقييد مخالف للإطلاق فلم يجب العمل به. قلت: إن عنيتم بقولكم إن من [شرط] القياس أن لا يكون مخالفا للنص: أن لا يكون مخالفا له مخالفة لا يمكن الجمع بينهما، بأن يكون رافعا لكل ما اقتضاه، فهذا مسلم لكنه مفقود هنا. وإن عنيتم به أن لا يكون مخالفا له بوجه ما، بأن لا يكون رافعا ولو لشيء من مقتضاه فهذا ممنوع. هذا لأن تخصيص النص بالقياس جائز باتفاق بيننا وبينكم، مع أنه مخالف له من بعض الوجوه، إذ هو رافع لبعض مقتضاه.

سلمنا: ذلك لكنه منقوض بالتخصيص. فإن قلت: إنه ليس بمخالف، بل هو بيان المراد من العام. قلت: كذلك نقول: إن المقيد مع ذلك القياس ينبئ عن المراد من المطلق. وثانيهما: القياس على تخصيص العام بالقياس، والجامع مع صيانة القياس عن الإلغاء، بل هذا أولى، لأن دلالة العام على كل الأفراد لفظية ودلالة المطلق عليه ليست لفظية، بل معنوية والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية، فإذا جاز أن تقاوم القياس أقوى الدلالتين، فلأن يجوز أن تقاوم أضعفها بالطريق الأولى. احتجوا: بأن تقييد النص المطلق بالقياس نسخ له به إما لأنه رافع لحكم كان ثابتا بالنص لولاه، أو لأنه زيادة على النص، وأنه نسخ والنسخ بالقياس غير جائز بالاتفاق. وجوابه: أنا لا نسلم أن زوال ذلك الحكم بطريق النسخ، بل هو عندنا بطريق التقييد، ولهذا كان/ (280/ أ) الحكم كذلك أيضا، لو كان المطلق والمقيد مقترنين في الورود، أو كان المقيد متقدما ولو كان ذلك بطريق النسخ لما كان كذلك، فلم قلتم إنه ليس كذلك؟ أو أن ذلك غير جائز بالقياس. وأما الطريقة الثانية: فلا نسلم أن الزيادة على النص نسخ، وسيأتي

ذلك إن شاء الله تعالى. سلمناه أنه نسخ لكن يلزم أن يكون التخصيص أيضا نسخا، لأنه يدل على رفع حكم كان ثابتا لولاه، فكان ينبغي أن لا يجوز فما هو جوابكم فهو جوابنا. سلمنا: سلامته عن هذا النقض، لكنه منقوض بما أنكم اعتبرتم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب، فإن اشتراطهما يخرج الرقبة المعيبة عن أجزاء مطلق الرقبة الذي كان ثابتا بالنص، كما أن اشتراط الإيمان يخرج الكافرة عنه، فكان اشتراطها نسخا للنص، فكان ينبغي أن لا يجوز إثباتها بالقياس. وأما من قال من أصحابنا أن تقييد أحدهما يوجب تقييد الآخر لفظا من غير حاجة إلى دليل آخر. فقد احتجوا بوجوه: أحدها: أن المطلق في باب الشهادة نحو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} محمول على المقيد نحو قوله تعالى: {وأشهدوا

ذوي عدل منكم}، ولذلك اعتبرت العدالة في شهود المداينة مع إطلاق النص فيها فكذا هاهنا، والجامع تقديم المقيد الذي هو كالخاص على المطلق "الذي" هو كالعام. وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك التقييد بحسب اللفظ من غير دليل، بل هو للإجماع والنص وهو قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}، والقياس على الموضع الذي نص فيه على العدالة، بجامع حصول الثقة بقولهم. وثانيها: أن الذاكرات محمول على قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيرا} من غير دليل، إذ الأصل عدم ما يفرض دليلا عليه، فلو لم يكن المطلق محمولا على المقيد لفظا لما جاز هذا. وجوابه: منع أنه من غير دليل، وهذا لأن دليله العطف فإنه يوجب حمله عليه، لأن قوله: {والذاكرات} لا استقلال له في نفسه فلو لم يكن محمولا على قوله: {والذاكرين الله [كثيرا]} ومشاركا له فيما هو به مما للغا، وكلام الله تعالى يصان عن ذلك، بل كلام العقلاء.

وثالثها: أن القرآن كالكلمة الواحدة، فتقييد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل، كتقييدها به في كفارة الظهار. وجوابه: أنكم إن ادعيتم أن القرآن كالكلمة الواحدة، في أنه لا تناقض فيه فهذا مسلم [و] معلوم أن الاختلاف في/ (280/ ب) الإطلاق والتقييد لا يستلزم ذلك. وإن ادعيتم أنه كالكلمة الواحدة في كل شيء فهذا ممنوع. وكيف يمكن ادعاؤه مع اختلافه في العموم والخصوص "والإطلاق"، والتقييد والأمر والنهي وغير ذلك من الاختلافات. وخامسها: أن يكون كل واحد منهما نهيا والسبب مختلف، نحو أن يقول: لا تعتق رقبة في كفارة الظهار مثلا، ثم يقول: لا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل، فمن يقول: بالمفهوم وتقييد المطلق بالمقيد إن وجد دليل، فأصله يقتضي تخصيص النهي العام بالكافرة إن وجد دليل وإلا فلا.

المسألة الثالثة الشارع إذا أطلق الحكم مرة، ثم ذكره مرة أخرى وقيده تقييدا، ثم ذكره مرة أخرى وقيده تقييدا مضادا لقيد المرة الأولى، كيف يكون حكمه؟

وأما من لا يقول به فلا يخصص النهي العام. وسادسها: أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا والسبب مختلف. وهذا أيضا على قسمين: لأنه إما أن يكون المطلق أمرا نحو أن تقول: اعتق رقبة في كفارة الظهار، والمقيد نهيا نحو أن تقول: لا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل، أو بالعكس نحو أن تقول: لا تعتق رقبة في كفارة الظهار، ثم يقول: اعتق رقبة مسلمة في كفارة القتل. وحكمها واحد لا يخفى عليك مما سبق فلا حاجة إلى ذكره. المسألة الثالثة الشارع إذا أطلق الحكم مرة، ثم ذكره مرة أخرى وقيده تقييدًا، ثم ذكره مرة أخرى وقيده تقييدًا مضادًا لقيد المرة الأولى، كيف يكون حكمه؟. واعلم أن هذا على قسمين، لأنه إما أن يكون فيما اتحد سببه. أو فيما اختلف سببه. فإن كان الأول: نحو ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب"، وروى في حديث آخر: "أولاهن بالتراب"، وروى في حديث آخر: "آخرهن بالتراب". فحكمه أن يبقى المطلق على إطلاقه، ويتعارض المقيدان، لأن التقييد في هذا القسم متفق عليه، وليس لدليل آخر غير المقيد وفاقا، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر، فيبقى على إطلاقه.

وإن كان الثاني: فنحو الصوم فإنه أطلق في قضاء رمضان، قال الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} من غير اشتراط التتابع والتفريق. وقيد صوم التمتع بالتفريق قال الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} وقيد صوم كفارة الظهار بالتتابع، قال الله تعالى: {فصيام شهرين متتابعين}. وحكم هذا القسم كحكم القسم الأول: عند من يقول: المطلق يتقيد بالمقيد لفظا من غير حاجة إلى دليل آخر لما سبق. "وأما من" يقول إنما يتقيد به لو دل/ (281/ أ) عليه قياس أو دليل آخر فحكمه عنده أنه يحمل على ما كان القياس عليه أولى أو على ما كان دليل

الحمل عليه أقوى. تنبيه: اعلم أن المطلق كالعام، والمقيد كالخاص، فكل ما يجوز به تخصيص العام من خبر الواحد والقياس وغيرهما من الأدلة، إما على الوفاق أو على الخلاف، فإنه يجوز به تقييد المطلق عند من يقول به من غير تفاوت فلا حاجة إلى إعادة تلك المسائل، بعد إحاطة العلم بها.

"النوع السابع" الكلام في المجمل والمبين

النوع السابع: الكلام في المجمل والمبين

"النوع السابع" الكلام في المجمل والمبين وهو مرتب على مقدمة وفصلين. أما المقدمة: ففي تفسير المجمل والمبين والبيان: أما المجمل: فهو اسم المفعول من الإجمال، وهو في اللغة: عبارة عن جعل الشيء جملة واحدة، يقال: أجملت الحساب إذا جمعت المتفرق منه ورددته إلى جملة واحدة. وقيل: الإجمال: الإبهام، يقال: أجمل الأمر إذا أبهمه. والأقرب أن المجمل في اصطلاح الأصوليين مأخوذ من هذا. وقيل: الإجمال التحصيل يقال: أجملت الشيء إذا حصلته، فالمجمل على هذا المحصل. وأما في الاصطلاح: فقيل: لفظ تمس الحاجة إلى بيانه في حق السامع دون المتكلم. وهو غير جامع، لأنه يخرج عنه الفعل والإجمال قد يكون فيه كما يكون في الألفاظ على ما ستعرف ذلك.

وغير مانع: لأنه يدخل فيه اللفظ الذي له حقيقة ظاهرة، وأريد منه المجاز المرجوح، فإنه يحتاج إلى البيان في حق السامع مع أنه ليس بمجمل. وقيل المجمل ما لا يطاق العمل به إلا ببيان يقترنه. وهو أيضا غير مانع لما سبق. وقيل: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء. وهو أيضا غير جامع لما سبق، بل لا يتناول شيئا من المجملات، لأنه ما من مجمل من المشترك، والمتواطئ، وغيرهما من أقسامه، على ما ستعرفه إن شاء الله تعالى، وألا يفهم منه شيء نحو أن يفهم من المشترك انحصار المراد في أحد مفهوماته. ومن المتواطئ نحو قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} إيجاب الحق على سبيل الإيهام، بحيث يصلح أن يفسر بأي جزء أريد نحو النصف والثلث والربع، وكذا من غيرهما لابد من أن يفهم شيء. وغير مانع: أيضا لما سبق لا لأنه لا يمنع اللفظ المهمل والممتنع والمستحيل

من الدخول تحته وهي ليست بمجملات، لأنه قد يدفع، بما أن قولنا: لا يفهم منه عند الإطلاق شيء يشعر بأنه عندما لا يكون مطلقا يفهم منه شيء وهي ليست/ (281/ ب) كذلك، ويخص الأخيران بالدفع، بأن المراد من الشيء ما يطلق عليه اسم الشيء، وإن كان على وجه التجوز لا ما حقيقة شيء، وإطلاق الأسماء المجازية ليس بممتنع في الحدود لاسيما الشائع الكثير الاستعمال. وقال الشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى-: المجمل هو اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه، لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال. وهو غير جامع لما سبق، وأيضا فإنه إن عنى بقوله: لأحد معنيين، أحد معنيين مختلفين فغير جامع، من وجه آخر أيضا: لأنه يخرج عنه المتواطئ إذ ليس له معنيان مختلفان، بل معناه واحد والتعدد والاختلاف إنما هو في مجال معناه. وإن عنى به أحد معنيين سواء كانا مختلفين أو متفقين فغير مانع، لأنه يدخل تحت نحو أعتق رقبة إذ هي صالحة لأحد معنيين متفقين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال مع أنها ليست مجملة بالاتفاق.

وقال أبو الحسين البصري: المجمل ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا بعينه. ولا يرد عليه قولك: اضرب رجلا، فإنه وإن أفاد شيئا من جملة أشياء لكنه غير متعين في نفسه بل أي رجل ضربه جاز، وليس كذلك لفظ: "القراء"، فإنه يفيد إما الطهر أو الحيض بعينه، ولهذا لا يخرج المكلف عن عمدة التكليف الوارد بلفظه بامتثال أيهما كان، وإنما تخرج عن عهدته بامتثال ما دلت القرينة على تعينه. واعلم أن هذا التعريف إن كان تعريفا لمطلق المجمل وهو الذي أشعر به كلامه إشعارا ظاهرا، فإنه ذكر في أوله لفظة "ما" وهي عامة التناول فيشمل اللفظ والفعل، كان ينبغي أن لا يذكر في آخر اللفظ "فإن ذلك يشعر بأنه أراد من "ما" اللفظ وحينئذ يكون التعريف غير جامع، لخروج الفعل المجمل عنه، وإن كان تعريفا للمجمل اللفظي فقط، إما لأن الإجمال بالذات للفظ

وبالعرض للفعل إذ الفعل غير موضوع للدلالة على الشيء حتى يتطرق إليه الإجمال والتصريح، أو لأن الغالب إنما هو الإجمال في اللفظ دون الفعل كأن ينبغي أن لا يذكر في أوله ما يتناوله وغيره، بل كان ينبغي أن يصرح بذكر اللفظ دفعا لإيهام التعميم. هذا مع أن الأولى ذكر التعريف على وجه تناولهما، فإصلاحه بحذف اللفظ وإيراد "هو" وما يجري مجراه مكانه فيقال: ما أفاد شيئا من جملة أشياء/ (282/ أ)، وهو متعين في نفسه وهو لا بعينه. وحينئذ يكون جامعا مانعا لا إشكال فيه. "وأما المبين" فيطلق على معنيين: أحدهما: الخطاب الذي يحتاج إلى البيان وقد ورد عليه بيانه. وثانيهما: الخاطب المبتدأ المستغنى عن البيان، وهو نوعان: أحدهما: ما دل عليه الخطاب بحسب الوضع وهو النص والظاهر. وثانيهما: ما دل عليه بحسب المعنى كمفهوم الموافقة والمخالفة، وسائر ما دل عليه النص بطريقة التعليل كقوله عليه السلام: "إنها من الطوافين والطوافات"، وكقوله: "أينقص الرطب إذا جف؟ " فقالوا:

(نعم) فقال: "فلا إذا"، وكما دل عليه النص بواسطة الفعل نحو الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به. وكقوله [تعالى]: {واسأل القرية} فإنه لما تعذر إجراء الخطاب على ظاهره، وجب إضمار "الأهل" وما جرى مجراه، وهكذا كل خطاب دل الفعل على تعين مجازه في بادئ النظر، والأول يشبه أن يكون

هو الحقيقة، أما لغة فلأنه هو الذي ورد عليه البيان وبين دون الثاني. والمبين: اسم المفعول من بين الشيء إذا ظهر. وأما اصطلاحا: فلتبادر الفهم إليه عند إطلاقه وكثرة استعماله فيه. وأما البيان: في اللغة: فهو اسم مصدر "بين" إذا أظهر، وأزال الإيهام كالكلام والأذان، يقال: بين يبين تبينا وبيانا كما يقال: كلم يكلم تكليما وكلاما وأذن يؤذن تأذينا وأذانا. وأما في الاصطلاح فاعلم: أن للشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى- فيه كلاما حسنا. وهو: أنه لا شك في أن البيان أمر يتعلق بالتعريف والإعلام، وإنما يحصل الإعلام بدليل، والدليل محصل للعلم أو الظن فهاهنا أمور ثلاثة: الإعلام، ومحصله، ونتيجته. فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف، وإليه ذهب أبو بكر الصيرفي من أصحابنا، وهؤلاء قالوا في حده: إنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز

التجلي. ومنهم من جعله عبارة عما به يحصل الإعلام: وهو الدليل. وإليه ذهب القاضي أبو بكر، وأكثر أصحابنا: نحو الشيخ الغزالي، والإمام، وغيرهما، وأكثر المعتزلة: كأبي هاشم، وأبي حسين البصري، وغيرهما. وهؤلاء قالوا في حده: إنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب منه. ومنهم من جعله عبارة عن: نفس العلم أو الظن الحاصل من الدليل. وإليه ذهب أبو عبد الله البصري. وهؤلاء قالوا: في تحديده "هو" عبارة عن تبيين/ (282/ ب) الشيء،

فالتبيين عندهم واحد. واعلم أن القول الذي عليه الجماهير هو الأشبه: أما بحسب اللغة فلكثرة الاستعمال فيه، قال الله تعالى: {هذا بيان للناس} أي دليل لهم، ويقال: بين فلان كذا، بيانا حسنا إذا ذكر الدلالة عليه، ويقال: لفلان بيان حسن أي قدرة على تقرير الدلائل. وأما بحسب الاصطلاح: فلأن الأصولي إذا سمع لفظ البيان من مثله لم يتبادر فهمه إلا إلى الدليل، لكن غايته أنه يتبادر إلى دليل مخصوص، وهو الدليل القولي فقط عند من يعتقد أنه مخصوص به، وأما من لا يعتقد ذلك فلا تخصيص عنده بدليل دون دليل بل يتبادر إلى مطلق الدليل. ويقول الأصولي: وجد لهذا الكلام بيان أي دليل يبين المراد منه، وإن لم يحصل التعريف والإعلام به بعد، وبهذا عرف فساد المذهبين الآخرين، لأنه إذا لم يحصل التعريف والإعلام به، لم يحصل العلم أو الظن به لا لما قيل "أن" من ذكر الدلالة على الشيء لغيره، وأوضحها غاية الإيضاح يصح لغة وعرفا أن يقال: "تم بيانه" و"هو بيان حسن" وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع فلا يحصل به تعريفه ولا إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي، لأنه ليس من شرط التعريف والإعلام حصول المعرفة

والعلم، بدليل أنه يصح أن يقال: عرفه فما عرف، واعلم فما علم. ومن جعل البيان عبارة عن التعريف والإعلام، لم ينقل عنه أنه يشترط في لك حصول المعرفة للمعرف له، وكذلك ليس من شرط إخراج الشيء عن حيز الإشكال إلى حيز التجلي أن يكون ذلك حاصلا للسامعين لجواز أن يكون ذلك لمانع من جهتهم لا لإشكال في الشيء، ولهذا يصح أن يقال: "ظهر الحق" وتجلى "بحيث ليس فيه إشكال وإن أكثر الناس لا يعرفونه ولا يقال: بأن تحديده بذلك غير جامع لأن ما يدل على الحكم ابتداء من غير سابقه إشكال بيان، ولم يتصور فيه الإخراج عن حيز الإشكال إلى حيز التجلي لأنا نمنع أنه بيان على اصطلاحهم، فإن الذهن لم يتبادر عند سماعه إلا إلى بيان المجمل، أو ما فيه نوع من الإيهام، وكيف لا واختصاص البيان بما يزيل الإشكال على اصطلاحهم أظهر من اختصاصه بالدليل [القولي] والشيخ الغزالي المزيف لهذا الحد بما ذكرنا معترف بأن البيان في اصطلاح القوم مخصوص بالدليل القولي، وليس هو/ (283/ أ) عبارة عن مطلق الدليل عندهم، مع أن الفعل قد يكون بيانا للمجمل عندهم على ما ستعرف ذلك، والدليل العقلي أيضا قد يكون بيانا له فإن المشترك إذا استحال حمله على أحد مفهوميه لدليل عقلي، فإنه يتعين حمله على المعنى الآخر إذ ذاك، فبيانه هو ذلك الدليل العقلي.

وإذا عرفت هذه الألفاظ فلنشرع في المقاصد.

"الفصل الأول" في المجمل وما يتعلق به وفيه مسائل:

"النوع الأول" في المجمل وما يتعلق به

"النوع الأول" في المجمل وما يتعلق به وفيه مسائل: المسألة الأولى في أقسام المجمل اعلم أن الدليل إما شرعي، أو عقلي: والشرعي إما أصلى، أو مستنبط منه وهو القياس، والإجمال غير متصور في هذين القسمين: أعني العقل والمستنبط من الشرعي. والأصلي، إما قول، أو فعل. والقول: إما مفرد أو مركب. والمفرد: إما علم "كزيد" المتردد بين الشخصين المسميين به، أو غيره. وهو إما ظاهر: حكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في موضوعه، وهو اللفظ الظاهر الذي يتناول معاني كثيرة، لا يجوز الحمل عليها بأسرها لا على وجه التعميم، ولا على وجه البدلية، كما في المطلق.

وهو على قسمين، لأن تناوله لها: إما بحسب خصوصياتها، وهو اللفظ المشترك كالقرء، والمختار، فإنه مشترك بين الفاعل، والمفعول، وقد عرفت أقسامه في بابه. وأما بحسب معنى مشترك بينهما، وهو المتواطئ كقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده}. أو حال كونه مستعملا في بعض موضوعه، وهو العام المخصوص، وما يجري مجراه. إما باستثناء مجهول كقوله تعالى: {وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم}. أو بصفة مجهولة كقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين}.

فإنه لو لم يكن الحل مقيدا بقوله: {... محصنين} كان التعميم معلوما فلما قيده به وهو غير معلوم لنا صار ما هو المراد "منه" مجهولا "لنا". أو بدليل منفصل، كما إذا قيل في عام، المراد منه البعض لا الكل. أو حال كونه مستعملا خارج موضوعه، لا في كله، ولا في بعضه، وهو على قسمين لأنه: إما أن يكون مستعملا فيه بطريق النقل إليه، وهو الأسماء المنقولة الشرعية "أي" والمنقولات الخاصة دون العامة، فإن الاشتهار فيها واجب فيما بين أهل العرف، فلا يتحقق فيها الإجمال، أو لا بطريق النقل إليه، بل على وجه التجوز، وهو اللفظ الذي دل الدليل على أن الحقيقة غير مرادة منه وله مجازات عديدة/ (283/ ب) متساوية، فإن اللفظ يكون مجملا بالنسبة إلى تلك المجازات، إذ ليس الحمل على بعضها أولى من حمله على بعضها الآخر، كما هو في المشترك والمتواطئ، فيكون مجملا. أو غير ظاهر نحو اسم الإشارة المتردد بين أمور يصلح كل واحد منها أن يكون مشارا إليه، ونحو اسم الموصول [المتناول] بصلته أشياء كثيرة،

ونحو الضمير الذي يكون مترددا في عوده إلى الشيء وغير ترددا سويًا، نحو "هو" عندما تقدم عليه ذكر أمور يصلح أن يكون مرجوعا إليه "له" وكذلك الضمير المتصل البارز، فإنه وإن كان لا يتلفظ بدون التركيب "لكن" لا مدخل له في إجماله وما نشاء إجماله من التركيب، لكن لا يجوز الحمل عليهما، لا بطريق المعية، ولا بطريق البدلية، بل يحمل على واحد منهما نحو قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} "فإن قوله: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} " صالح للزوج، والولي وصادق عليهما. وقد يكون بسبب حرف العطف الذي يصلح أن يكون ما بعده معطوفا على ما قبله، ويصلح أن يكون مبتدأ نحو قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا}، فإن قوله: {والراسخون} يصلح أن يكون معطوفا، ويصلح أن يكون مبتدأ، وإنما يتعين أحدهما بدليل من خارج.

وقد يكون بسبب التجوز الناشئ من التركيب، كما في النفي الداخل على الشيء الذي علم أنه غير منتفي، فإنه يجب صرف ذلك النفي إلى ما هو المطلوب منه من الصفات، فإذا كان ذلك أمورا عديدة نحو عدل السلطان، وعلمه وقدرته، وشجاعته، لم يمكن صرفه إلى الكل. أما أولا: "فلأن" كل [ما] هو المطلوب منه غير منفي قطعا. وأما ثانيا: فلأنه إضمار من غير ضرورة، إذ الضرورة مندفعة بإضمار بعض ملك الصفات فلا حاجة إلى إضمار كلها، ثم ليس البعض أولى من البعض فيتحقق الإجمال، وهذا على رأي بعضهم. وقد يكون بسبب جميع الصفات وأردافها بما يصلح أن يرجع إلى كلها، أو إلى بعضها نحو قولك: زيد طبيب أديب خياط ماهر، فقولك: "ماهر"

يصح أن يكون راجعا إلى الكل، وإلى البعض فقط، وذلك البعض يصح أن يكون هو الأخير أو غيره. فإن قلت: هو ظاهر في عوده إلى الكل عند البعض، وإلى الأخير عند البعض الآخر، وعلى التقديرين لا يتحقق الإجمال. قلت: أليس أنه عند البعض مجمل غير ظاهر في شيء منهما؟ وغرضنا إنما هو/ (284/ أ) تطرق الإجمال في الجملة لا الإجمال المتفق عليه ثم الإجمال في مثل هذا لازم على رأيهم أيضا: إذا دل دليل على أنه لا يرجع إلى الكل أو إلى الأخير. وقد يكون بسبب أن اللفظ متردد بين جميع الأجزاء، وبين جميع الصفات نظرا إليه، وإن كان أحدهما يتعين بدليل من خارج، نحو قولك: الثلاثة زوج وفرد، فإنه بالنظر إلى دلالة اللفظ لا يتعين أحدهما، وبالنظر إلى صدق القائل يتعين أن يكون المراد فيه جمع الأجزاء، فإن حمله على جميع الصفات، أو على جمعها يوجب كذبه. وأما الفعل فالاحتمال فيه بالذات، لأنه لا يدل بمجرد على وجه وقوعه

والظهور والقطع في دلالته على وجه وقوعه، إنما هو من دليل خارج فإن اقترن به ذلك كان مبينا وإلا كان مجملا. مثال الأول: مداومته عليه السلام على الركوع والسجود في الصلاة، فإن مجرد فعلها لا يدل على أنهما من واجبات الصلاة، لكن قرينة المداومة تدل على ذلك، إذ لو كان غير واجب لترك لئلا يعتقد وجوبه، فإن المداومة خصوصا مع قوله: "صلوا كما رأيتموني [أصلي] " يدل على ذلك. مثال الثاني: تركه التشهد الأول، فإن مجرد تركه لا يدل على أنه ليس من واجبات "الصلاة" لاحتمال أن يكون تركه ناسيا، وإنما يدل عليه أن لو علم تركه متعمداً.

المسألة الثانية يجوز ورود المجمل في كتاب الله تعالى و [سنة] رسول "الله صلى الله عليه وسلم"

المسألة الثانية يجوز ورود المجمل في كتاب الله تعالى و [سنة] رسول "الله صلى الله عليه وسلم"، والدليل عليه ما تلونا من الآيات هنا، وفي مسألة أنه يجوز ورود المشترك في كتاب الله تعالى وسنة ورسول [الله عليه السلام] والكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا ما سبق في تلك المسألة، ولا حاجة إلى التطويل. المسألة الثالثة [لا إجمال في التحريم والتحليل المضافين إلى الأعيان] ذهب جماهير الأصوليين من الفريقين، إلى أن التحريم والتحليل المضافين إلى الأعيان نحو قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} لا إجمال فيه، بل يفيد بحسب العرف تحريم الفعل المطلوب من تلك الأعيان

فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} يفيد تحريم الاستمتاع، وقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} يفيد تحريم أكل الميتة وشر الدم. خلافا للكرخي، وأبي عبد الله البصري، فإنهما ذهبا إلى أنه مجمل. لنا وجوه:

أحدها: قوله عليه السلام "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها". ووجه الاستدلال به هو أن التحريم المضاف إلى الشحوم، لو لم يفد تحريم كل نوع من أنواع التصرفات المتعلقة بها، لما استحقوا اللعن/ (284/ ب) على بيعها وأكل أثمانها.

فإن قلت: إنه حكاية وهي لا تفيد التعميم، فلعل ذلك التحريم كان "على" وجه يفيد تحريم جميع أنواع التصرفات المتعلقة بها، وذلك مما لا نزاع فيه وليس في الحديث ما يدل على أن ذلك التحريم كان مطلقا حتى حصل مقصودكم. سلمنا: أنه كان مطلقا، لكن لا نسلم أنه لو لم يفد تحريم جميع أنواع التصرفات لما استحقوا اللعن، وهذا لأنه يجوز أنهم إنما استحقوا ذلك، لأنهم عملوا ذلك قبل الاستكشاف وطلب البيان وصادفوا ما هو المحرم عليهم من جملة تلك التصرفات، وكان الواجب عليهم أن لا يقدموا على شيء من التصرفات المتعلقة بها قبل الاستكشاف، فلما تركوا ذلك وصادفوا المحرم استحقوا اللعن. قلت: الأصل والظاهر متطابقان في الدلالة على أنهم إنما استحقوا ما استحقوا بمجرد مخالفة تحريم الشحوم لا غير. أما الأول: فلأن الأصل عدم ما يظن أنه مستفاد منه غير التحريم. وأما الثاني: فلأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعليته فترتب اللعن على البيع وأكل الثمن بعد تحريم الشحوم، يدل على أن علته هي مخالفة تحريم الشحوم بالبيع وأكل ثمنها. وعن الثاني: أنه لو كان ذلك لما ذكرتم، لكان الواجب التصريح بذلك علمنا أنه ليس لما ذكرتم.

ثانيها: أن المتبادر إلى الفهم عند سماع قول القائل: هذه المرأة حرام على هذا الرجل، أو حرمت هذه المرأة عليه، أو هذا الطعام حرام، أو حرم هذا الطعام، إنما هو تحريم الاستمتاع بها، وتحريم أكل الطعام، والتبادر دليل الحقيقة. فإن أحيل ذلك إلى العرف الطارئ، دفع بأن الأصل عدم التعبير. ولئن سلم: كان المقصود أيضا حاصلا لأنا ما ادعينا سوى أنه يفيد بحسب العرف تحريم الأفعال المطلوبة من تلك الأعيان سواء كان العرف مطابقا لمقتضى اللغة أو لم يكن. وثالثها: أن التعميم أكثر فائدة من الإجمال [لأن مدلولاته معينة وأكثر بخلاف مدلول المجمل، فإنه غير معين وأقل منه] فكان الحمل عليه أولى. فإن قلت: التعميم وإن كان أكثر فائدة من الإجمال، [لأن مدلولاته معينة وأكثر، بخلاف مدلول المجمل، فإنه غير معين] لكنه في هذا المقام يستلزم محذورين، وهما كثرة الإضمار، ولزومها إياه دائما "لأن مدلولاته

معينة وأكثر بخلاف مدلول المجمل فإنه غير معين وأقل منه" بخلاف محذور الإجمال، فإنه يزول عنه عندما عرف المراد منه، بدليل آخر وليس فيه كثرة الإضمار، بل لا يضمر فيه إلا أمر واحد/ (285/ أ) فمع المحذورين، لم قلتم أنه أولى من الإجمال؟ قلت: لا نسلم أولا لزوم كثرة الإضمار، لم سلم أن هناك إضمار وهذا لأن المعنى من قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} حرم عليكم جميع أنواع الاستمتاع بها، وإنما يلزم من الأول دون الثاني. فإن قلت: إن كثرة المضمر يستلزم كثرة الإضمار، لأن قولنا: حرم جميع أنواع الاستمتاع جار مجرى قولنا: حرم عليكم النظر بالشهوة، وحرم عليكم القبلة، وحرم عليكم المعانقة، وحرم عليكم الوطء، وإذا كان كذلك كان كثرة الإضمار لازما له. قلت: لا نسلم أنه جار مجراه، وقد عرفت سنده فيما سبق غير مرة فلا نعيده. سلمنا: لزوم كثرة الإضمار ودوامها له، لكنه مع هذا خير من الإجمال، لأن ما هو المقصود من الكلام، هو إفهام المراد منه حاصل فيه كل زمان. وأما الإجمال فإنه يخل بهذا المقصود قبل البيان في حق الكل وبعده في حق من لا يصل إليه البيان، وهو موقع للمتكلم في كلفة البيان، وللسامع في كلفة طلبه، والنظر بخلاف القول بالتعميم، فكان أولى.

احتجا بوجهين: أحدهما: أن التحليل والتحريم يستحيل أن يتعلقا بالأعيان، لأنهما حكمان شرعيان، والحكم الشرعي إنما يتعلق بما هو مقدور للعبد من أفعاله، والأعيان غير مقدورة له فيستحيل تعلقهما بها، وحينئذ يجب صرفهما عن ظاهرهما وتعليقهما بالأفعال المتعلقة بتلك الأعيان دفعا للتعطيل، فإما أن تعلقهما بجميع الأفعال المتعلقة بها وهو باطل، لأنه إضمار من غير حاجة أو يتبعض بمعين وهو أيضا باطل، لأنه ليس البعض أولى من البعض لعدم ما يدل عليه لفظا ومعنى أو ببعض غير معين، وهو أيضا باطل، لأنه خلاف الإجماع "أولا تعلقهما بشيء وهو أيضا باطل، لأنه تعطيل للنص وهو أيضا خلاف الإجماع" فلم يبق إلا لتوقف إلى أن يدل دليل على ذلك التعليق، وهو المطلوب. وجوابه: أنا لا نسلم أن تعليقها بالأفعال المطلوبة من تلك الأعيان على وجه الإضمار، وهذا لأن اللفظ يدل عليه بطريق الحقيقة بعرف الاستعمال بدليل التبادر كما سبق في الاستدلال، وإذا كان كذلك/ (285/ ب) لم يكن هناك إضمار، فضلا عن أن يكون بغير حاجة. سلمنا: أن تعليقهما بالأفعال المتعلقة بتلك الأعيان على وجه الإضمار، لكن لا نسلم إنه البعض أولى من البعض، بل الأفعال المطلوبة منها أولى بذلك للعرف.

وثانيهما: أنهما لو دلا على تحريم فعل معين، أو تحليله لدلا عليه في كل موضع واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وجوابه: منع الملازمة، وما الدليل عليه. سلمناه: لكن في التعين النوعي، فأما في التعين الشخصي فممنوع، والتعين النوعي حاصل فيما نحن فيه فإنهما يدلان في كل موضع على تحريم وتحليل الأفعال المطلوبة من تلك الأعيان.

المسألة الرابعة ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} مجمل

المسألة الرابعة ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} مجمل. لأنه محتمل لمسح جميع الرأس ولمسح بعضه، وليس أحدهما أولى من الآخر، فتحقق الإجمال، وإنما أوجبنا مسح مقدار الناصية، لأن فعله عليه السلام وقع بياناً له.

وذهب الباقون إلى نفي الإجمال. لكن منهم من قال: إنه يفيد مسح جميع الرأس وإليه ذهب مالك رضي الله عنه، ومن الأصوليين القاضي، ومن الأدباء ابن جني. ومنهم من قال: إنه يفيد التبعيض وإليه ذهب أصحابنا. ومنهم من قال: يفيد القدر المشترك بين الكل والبعض، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، واختاره جماعة من الأصوليين، نحو القاضي

عبد الجبار وغيره. وتمام الكلام فيه قد مر في اللغات فلا نعيده.

المسألة الخامسة اختلفوا في قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" و"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي

المسألة الخامسة اختلفوا في قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" و"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي

وشاهدي عدل" ..........................

و"لا صلاة إلا بطهور" وأمثالها فذهب جماهير الأصوليين إلى أنه لا إجمال فيها مطلقا. وذهب القاضي أبو بكر، وأبو عبد الله البصري، إلى أنه مجملة مطلقا، ونقل ذلك أيضا عن أبي علي وأبي هشام. ومنهم من فصل وقال: حرف النفي إن كان داخلا على مسمى شرعي: كالصلاة، والصوم، فلا إجمال فيه، بل اقتضى نفي نفس الفعل الشرعي، لأنه حقيقة في نفي الذات، كما في قولهم: لا رجل في الدار.

وقد أمكن استعماله في حقيقته بحسب الشرع إذ لا يلزم في ذلك كذب، لاحتمال أن يكون الوصف المفقود معتبرا في ماهية ذلك الفعل وبحسب الشرع فوجب المصير إليه، وإن كان/ (286/ أ) داخلا على مسمى لغوي فقد تعذر استعماله في حقيقته، لأن استعماله فيها يستلزم كذب الشارع، ضرورة أنه وجد مسماه اللغوي، فيجب صرفه إلى حكمه حذارا عن تعطيل النص، فأما أن يكون له حكم واحد، أو أكثر. فإن كان الأول: نحو الشهادة، والإقرار فيما ندب ستره، فإذا "فرض" ورود "قوله": لا شهادة لمجلود في القذف، ولا إقرار لمن أقر بالزنا مرة واحدة من الشارع، وجب صرفه إلى نفي الجواز، لأنه تعذر إجماله بالنسبة إلى المسمى لما سبق، وكذا في غير ذلك الحكم، إذ ليس له إلا ذلك الحكم الواحد، فيتعين تعليقه به لئلا يتعطل النص. وإن كان الثاني: نحو الشهادة فيما لا يندب ستره، بل يندب إظهارها فيه، فإذا فرض أنه قال فيه: لا شهادة لمستورين منه، فيحتمل أن يكون المراد منه نفي الفضيلة والكمال، ويحتمل أن يكون المراد نفي الجواز فهاهنا يتحقق الإجمال وهو مختار الأكثرين. احتج من قال: بنفي الإجمال مطلقا بوجهين: أحدهما: أن النفي إن دخل على ما له مسمى بحسب عرف الشرع، سواء

كان له مسمى بحسب وضع اللغة، أو لا، وجب حمله على نفيه، لما سبق في تقرير مذهب القائلين بالتفصيل فيما يوصف به. أما إذا لم يكن له حقيقة بحسب اللغة فظاهر. وأما إذا كان له حقيقة بحسب اللغة أيضا: فكذلك، لأن الغالب منه عليه السلام استعمال الألفاظ في مسماها الشرعية، والحمل على الغالب، وبتقدير أن لا يحمل عليه لعلة يذكرها الخصم وستعرفها، وجب حمله نفي حكمه، فإن كان له حكم واحد تعين حمله عليه، وإن كان له حكمان وجب حمله على نفي الجواز، لما سيأتي، وعلى كل تقدير لا إجمال، وإن دخل على ما ليس "له" في مسماه عرف تعذر حمله على نفي حقيقته بحسب عرف اللغة لما سبق وحينئذ يجب صرف النفي إلى حكمه، فإن كان له حكم واحد تعين حمله عليه لئلا يتعطل النص، وإن كان له حكمان الكمال والجواز، وجب حمله على نفي الجواز لوجوه: أحدها: أن اللفظ دال على نفي الذات بطريق الحقيقة، وذلك مما لا نزاع فيه، والدال على نفي الذات بطريق الحقيقة دال على نفي جميع الصفات بطريقة الالتزام لاستحالة بقاء الصفات مع عدم الذات، فإذا تعذر حمله على حقيقته، وجب حمله على لازمه وهو نفي جميع الصفات فتنتفي/ (286/ ب) الصحة والكمال.

فإن قلت: دلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة، فإذا انتفى المتبوع انتفى التابع. قلت: لا نسلم انتفاء المتبوع فيما نحن فيه، فإن دلالة اللفظ بالمطابقة على نفي الذات متحققة فيما نحن فيه وإنما المدلول المطابقي غير متحقق، ولا يلزم من انتقاء المدلول انتفاء الدلالة، وليس المعنى من كون دلالة الالتزام والتضمن تابعة لدلالة المطابقة، هو أنه حيث لم يتحقق المدلول المطابقي لم يتحقق المدلول الالتزامي والتضمني، لأن ذلك يقتضي عدم جواز الحمل على المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة، وهو شرط له. وثانيها: أنا بينا في اللغات أن اللفظ إذا تعذر حمله على حقيقته، يجب حمله على المجاز الذي هو أكثر مشابهة للحقيقة، ولا شك أن المشابهة بين المنفى، وبين ما لا يصح، ولا يفضل أكثر وأتم من المشابهة بين المنفي وبين ما لا يفصل، ولكنه يصح، وإذا كان كذلك كان الحمل عليه واجبا عند تعذر حمله على نفي الذات. وثالثها: أن القول بالحمل على نفي الصحة يقتضي رفع الإجمال، والقول بترديد اللفظ بينه وبين نفي الفضيلة يقتضي إثباته، ولا شك أن الإجمال خلاف الأصل فما يقتضيه أيضا خلاف الأصل، وأما أنه يحمل على نفي الفضيلة فقط فقول لم يقل به أحد، وعند هذا يجب حمله على رفع الجواز.

وثانيهما: أن المتبادر إلى الفهم عند السماع من استعمال النفي فيما هو غير منفي حقيقته إنما هو نفي فائدته وجدواه كقولهم: لا بلد إلا بسلطان، ولا سلطان إلا بعدل، ولا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، ولا حكم إلا لله ولرسوله، ولا طاعة إلا لله ولرسوله، والتبادر دليل الحقيقة، فيكون حقيقة فيه سواء كان بحسب اللغة، أو بحسب العرف الطارئ، وعلى كل تقدير يلزم أن لا يكون اللفظ مجملا، ومتوقفا فيه في الحمل بين نفي الكمال، وبين نفي الجواز، بل هو محمول على حقيقته، وهو نفي الفائدة والجدوى، ولا شك أن ذلك يقتضي نفي الجواز، لأن كل ما كان جائزًا كان مفيدا لآثاره، فهو إذًا دال على نفي الجواز. احتج الخصم بوجوه: أحدها: أن حرف النفي إذا دخل على غير ما هو غير منفي بحسب الصورة فتارة يفيد نفي صحته، نحو قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور"، و"قوله": "لا نكاح إلا بشهود". وتارة يفيد نفي الفضيلة أو الكمال فقط نحو قوله عليه السلام: "لا صلاة للعبد الآبق حتى يعود إلى "أهله""، و"لا صلاة لجار المسجد إلا في

المسجد" والأصل في الاستعمال/ (287/ أ) الحقيقة فهو حقيقة فيهما، إما بحسب اللفظ، أو بحسب المعنى وإنما كان يلزم الإجمال.

......................................................................

وجوابه: أنه حقيقة في نفي الصحة أو فيما يستلزمه مجاز في نفي الكمال، وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكن الاشتراك والتواطؤ الذي هو مجمل أيضا خلاف الأصل. فلم قلتم: إنه أولى من التجوز وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون؟ ثم أنه معنا، أما بالنسبة إلى الاشتراك "فلما" سبق في اللغات.

وأما بالنسبة إلى التواطؤ الذي هو مجمل، فلأن المجاز أكثر من جميع أنواع المجمل للاستقراء، فضلا عن المتواطئ الذي هو مجمل، وذلك يدل على قلة اشتماله على المفسدة بالنسبة إلى المجمل. وثانيها: أن حرف النفي يقتضي نفي مسمى ما دخل عليه، فإن لم يكن له مسمى شرعيا لم يكن حمله على مقتضاه لئلا يلزم كذب الشارع، وحينئذ يجب صرفه إلى نفي حكمه لئلا يتعطل النص، فإما أن يصرف إلى الكل، وهو باطل، لأنه كثير إضمار من غير ضرورة، إذ الضرورة تندفع بإضمار واحد منها، ولأن إضمار الكل قد يتناقض لأن نفي الكمال يستلزم ثبوت الصحة بطريق المفهوم، فلو أضمرنا معه الصحة لزم التناقص، أو إلى بعض معين وهو أيضا باطل، لأنه ليس البعض أولى من البعض، أو إلى بعض غير معين أي بعض كان وهو المطلوب، وإن كان له مسمى شرعيا سواء كان مع اللغوي أو هو وحده لم يكن صرف النفي إلى نفي الحقيقة أيضا: إذ المسمى حاصل بدليل أنه يصدق عليه الاسم مع ذهاب ذلك الوصف الخصوص، قال عليه السلام: "دعي الصلاة أيام إقرائك" ويقال: الصلاة فاسدة بدون قراءة الفاتحة، والصوم الفرض بدون نية من الليل فاسد، والأصل في الاستعمال هو الحقيقة، وإذا لم يكن حمله على المسمى وجب صرفه إلى حكمه أيضا لما مر، وما "في" "التقريب" كما مر، ولو

سلم أنه يمكن حمله لكن لا يتعين لذلك، لأن ذلك الوصف المفقود يحتمل أن يكون داخلا في ماهية المسمى، ويحتمل ألا يكون داخلا فيها في اعتبار الشارع، فعلى الأول، يمكن الحمل على المسمى، وعلى الثاني لا، وحينئذ يتردد اللفظ بين نفي المسمى، وبين نفي الجواز، وبين نفي الكمال فبتقدير إمكان الحمل على نفي المسمى الشرعي يرد احتمال الإجمال، لأنه يرفعه كما ذكرتم. وجوابه: أن نقول: لم لا يجوز أن يصرف إلى الكل؟. قوله: لأنه تكثير الإضمار من غير ضرورة. قلنا: لا نسلم وقد عرفت سنده في/ (287/ ب) المسألة السابقة. قوله: في الوجه الثاني: إن إضمار الكل قد يتناقض. قلنا: نعم لكن عند من يقول بالمفهوم، ونحن لا نقول به. سلمنا: القول بالمفهوم، لكنه إنما يعتبر حيث لا منطوق، أو ما هي في حكمه يخالفه، فأما معه فلا. سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يصرف إلى بعض معين؟. قوله: ليس البعض أولى من البعض. قلنا: بل الصرف إلى نفي الجواز أولى لما سبق، ونخص القسم الثاني: أنا لا نسلم لا يمكن صرف النفي إلى المسمى، وهذا لأنه يجوز أن يكون الوصف المفقود داخلا في المسمى في اعتبار الشارع، فينتفي المسمى بانتفائه فحينئذ يتصرف النفي إليه.

قوله: المسمى حاصل بدليل صدق الاسم عليه. قلنا: لا نسلم وصدق الاسم عليه إنما هو على وجه التجوز للمشابهة في الصورة، بدليل أن لو حلف أنه لا يصلي، فصلى صلاة فاسدة لا يحنث، ولأن في حمل التمسية على التجوز جمعا بين ظاهر النفي وبين التسمية، لأن ظاهر النفي يقتضي نفي مسمى ما دخل عليه، بخلاف حمله على الحقيقة، لأن ظاهر النفي يصير متروكا فكان أولى. وبهذا خرج الجواب أيضا عن قوله: أنه لا يتعين لذلك [بتقدير الإمكان، لأنه يتعين لذلك] ظاهرا لظاهر النفي. وثالثها: أن صرف النفي إلى الجواز، عند تعذر صرفه إلى الحقيقة يترجح من وجه، وهو أنه أقرب إلى الحقيقة، وأكثر مشابهة لها، وصرفه إلى الكمال يترجح من وجه آخر، وهو أنه متيقن، لأنه منتفي على تقدير نفي الصحة أيضا، لكن غايته أنه على سبيل الالتزام، وإذا ترجح كل منهما على صاحبه من وجه لم يتعين، لأن يصرف النفي إليه وحينئذ يتحقق الإجمال. وجوابه: أن الصرف إلى الجواز أولى، لأنه لازم ما يتبادر إليه الفهم، ولأن فيه تقليل مخالفة الدليل ومراعاة زيادة المشابهة ونفي الإجمال. فإن قلت: فقوله عليه السلام: "لا عمل إلا بنية" وقوله: "إنما الأعمال بالنيات".

المسألة السادسة ذهب جماهير الأصوليين إلى أنه لا إجمال في قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وأمثاله

هل هو كقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" أم لا؟ قلت: هو عندنا في نفي الإجمال كالأخبار التي تقدم ذكرها لاطراد الدليلين المذكورين. وخالف فيه بعض من وافقنا في نفي الإجمال عن الأول، بناء على أنه ليس للشارع في مسمى "العمل" عرف، فلا يدري إلى "ماذا" يرجع النفي، فإنه غير راجع إلى نفس العمل وفاقا، ولا يخفى عليك إنما ذكروه غير قادح في الدليلين المذكورين، لأنهما مطردان فما للشارع فيه عرف وفيما ليس له له عرف، فلا يكون عدم عرف الشارع قادحا في الدليل/ (288/ أ). المسألة السادسة ذهب جماهير الأصوليين إلى أنه لا إجمال في قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وأمثاله.

خلافا لأبي عبد الله وأبي الحسين البصريين. لنا: أن المتبادر منه وأمثاله إلى الفهم حيث لا يرتفع نفس الخطأ والنسيان، كما في قول السيد لعبده: رفعت عنك الخطأ والنسيان، إنما هو رفع المؤاخذة والعقوبة عن الفعل الذي أخطأ فيه أو نسيه والتبادر دليل الحقيقة، ولأنه لو قال: ذلك ثم أخذ يعاقبه على ما أخطأ فيه أو نسيه عد مناقضا، فيكون حقيقة فيه فإذا صدر من الشارع وجب حمله عليه، لأنه كما لا يمكن حمله على رفع نفس الخطأ والنسيان ثمة لعدم قدرته عليه، هكذا لا يمكن حمله عليه في كلام الشارع، لكن لعلة أخرى وهي صيانة منصبه عن الكذب فإن الخطأ والنسيان واقعان من أمته، وحينئذ يجب حمله على ما هو المتبادر إلى الفهم، ضرورة أنه يجب حمل الألفاظ على حقائقها ما لم يصرفها صارف عنها. ثم اعلم أن المعنى من رفع المؤاخذة والعقوبة عما فعل خطأ ونسيانا هو: أنه ما كان من خصائص تحريمه، وهو الذم عاجلا والعقاب آجلا يكون مرتفعا عنه، إذ هو المتبادر إلى الفهم، من المؤاخذة والعقاب على الفعل، لا أنه يرتفع عنه جميع أحكامه نحو وجوب القضاء والضمان والكفارة، فإن كل ذلك ليس من خصائص التحريم ولا هو متبادر إلى الفهم من إطلاق المؤاخذة والعقاب على الفعل ولا وجوبها على وجه العقاب، "ألا ترى" أن القضاء

يجب على من حبس عن الصلاة مع أنه لا يعصى بالترك. وكذلك يجب قضاء الصوم على من أفطر على ظن الغروب، أو تسحر على ظن عدم طلوع الفجر ثم بان خلافهما، مع أنهما لا يعصيان ولا يستحق كل هؤلاء العقاب، ولا هو أهل للمؤاخذة. وكذلك الضمان فإنه قد يجب في مال من لا يعصى بالإتلاف كالصبي والمجنون، وقد يجب على من يثاب على فعله كالرامي إلى صف الكفار إذا قتل مسلما، وقد يجب على من يجب عليه الإتلاف كالمضطر في المخمصة، إذا وجد طعام الغير، فإنه يجب عليه أن يأكل، ويجب عليه الضمان، فليس هو من خصائص المحرم ولا وجوبه على وجه المؤاخذة والعقاب على ذلك الفعل فإن المندوب والواجب لا يستحق على فعلهما المؤاخذة والعقاب

ولهذا يجب على العاقلة "مع" أنه لم يصدر منهم ما يوجب المؤاخذة/ (288/ ب) والعقاب فهو إذا قد يجب جبرانا للحق وامتحانا ليثاب عليه، وكذلك تجب الكفارة حيث لا مؤاخذة ولا عقاب، بل هو يثاب كما في الرامي إلى صف الكفار إذا قتل مسلما، فلا يلزم من رفع المؤاخذة والعقاب عن فعل خطأ ونسيانا، رفع الضمان والكفارة والقضاء عنه، فعلى هذا لا حاجة لنا إلى التزام التخصيص بالنسبة إلى هذه الأحكام كما التزمه بعضهم ورجحه على احتمال الإجمال. واحتج الخصم: بأن ظاهر الحديث يقتضي رفع الخطأ والنسيان عن الأمة وهو غير مرفوع عنهم لوقوعه منهم فلم يمكن حمله عليه لئلا يلزم الكذب، فيجب صرفه إلى حكمه لئلا يتعطل، وحينئذ إما أن يصرف إلى الكل وهو باطل، لأنه يكثر الإضمار من غير حاجة أو بعض معين أو غير معين وهما باطلان لما سبق فيتعين الإجمال. وجوابه: ما سبق.

المسألة السابعة الحق أنه لا إجمال في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وهو مذهب جماهير الأصوليين

المسألة السابعة الحق أنه لا إجمال في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وهو مذهب جماهير الأصوليين، لأنه لا إجمال في لفظ {السارق والسارقة} وهو متفق عليه ولا في لفظ "اليد" لأنها حقيقة في العضو المخصوص إلى المنكب ويدل عليه وجوه: أحدها: ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم مسحت إلى المناكب والآباط.

لما نزلت آية التيمم، ولولا أنهم فهموا من إطلاق لفظ اليد العضو بجملته لما فعلوا ذلك، إذ لا قرينة يمكن إحالة الفهم إليها. أما أولا: فبالأصل. وأما ثانيا: فلأنه يلزم الترك بمقتضى تلك القرينة، إذ لا يجب المسح إلى المنكب بالإجماع، وأنه خلاف الأصل ولا يعارض هذا الثاني بمثله، لأنا نرجحه بأنه لا يلزم على هذا الإجمال، بخلاف القول بالإحالة إلى القرينة.

فإنه يستلزم الإجمال والترك بمقتضى القرينة، "بل لو قيل بوجود" قرينة تدل على عدم استيعاب مسح جميع العضو لكان أقرب، فإن كون التيمم بدلا عن الوضوء، وأن البدل لا يزيد على المبدل بدل عليه، وفهم ذلك يدل على أنها حقيقة في العضو المخصوص بحملته. وثانيها: أنه لا نزاع في أن لفظ اليد يطلق تارة ويراد منه العضو إلى المنكب، ويطلق مرة ويراد منه العضو إلى المرفق، ويطلق أخرى ويراد منه العضو إلى الكوع، فإما أن يجعل حقيقة في الكل وهو باطل، لأنه يلزم منه الاشتراك أو مجازا في الكل وهو أيضا باطل بالإجماع، فلم يبق إلا أن يحصل حقيقة في واحد منها ومجازا في الباقي/ (289/ أ) وحينئذ إما أن يجعل حقيقة فيه إلى المنكب مجازا في الباقيتين، أو يجعل حقيقة فيه إلى المرفق مجازا في الباقيتين، أو يجعل حقيقة [فيه] إلى الكوع مجازا في الباقيتين، والأول راجح على الاحتمالين الأخيرتين، لأنه حينئذ يكون التجوز من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، وعلى التقديرين الآخرين يكون من باب إطلاق اسم الجزء على الكل وقد ثبت أن الأول راجح على الثاني. وثالثها: كما "يقال" إذا قطعت يده من المنكب أنه قطعت يده بالكلية، بل يقال: ما قطعت يده بالكلية، وإنما قطعت يده من المرفق أو من

الكوع، ولا يصح هذا إذا قطعت يده من المنكب، ولو كان اسم اليد حقيقة في العضو إلى المرفق أو الكوع لصدق الأول، كما في سائر الأعضاء، لأن من شأن الحقيقة الاطراد عند عدم المانع، والأصل عدمه ولما صح السلب، فإن الحقيقة لا يصح سلبها عن مسماها، ولهذا لا يصح السلب فيما إذا قطعت من المنكب، ولا في لفظ القطع، لأن القطع حقيقة في الإبانة، فإذا أضيف إلى شيء أفاد إبانته، والشق إنما أطلق عليه القطع، كما في قولهم: فلان كان يبري القلم فقطع يده، لأنه يفيد إبانة الجلد عما كان متصلا به لا لخصوصية الشق حتى يلزم الاشتراك، فالقطع على هذا مستعمل في موضوعه، وإنما التجوز في إطلاق اسم اليد على الجلد الذي هو جزؤها، ولا يلزم من استعمال لفظ في معناه المجازي استعمال ما يتعلق به، ويقارنه في مجازاه أو "نقول" القطع حقيقة في الإبانة مجاز في الشق إذ التجوز خير من الاشتراك، وعكسه فانتفى بالإجماع، وإذا كان كذلك لم يكن الإجمال حاصلا في لفظ القطع أيضا: وإذا انتفى الإجمال عن هذه الألفاظ الثلاثة لم تكن "الآية" مجملة.

المسألة الثامنة قد سبق في اللغات أنه يجب تنزيل لفظ الشارع على الحقيقة الشرعية أولا، ثم العرفية/ (289/ ب) اللغوية

وذهب بعضهم: إلى أنها مجملة لزعمه أن اليد مجملة، لترددها بين المعاني الثلاثة، وهي العضو المخصوص إلى الكوع، وإلى المرفق، وإلى المنكب، لأنها مستعملة فيها، والأصل في الاستعمال الحقيقة. ولزعمه أن القطع أيضا مجمل لتردده بين المعنيين، وهما: الإبانة، والشق، لأنه مستعمل فيهما فيكون حقيقة فيهما. وهو ضعيف لما سلف أنه لا إجمال فيهما، والاستعمال إنما يدل على كون اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه، لو لم يستلزم الاشتراك، فأما إذا استلزمه فلا. المسألة الثامنة قد سبق في اللغات أنه يجب تنزيل لفظ الشارع على الحقيقة الشرعية أولا، ثم العرفية/ (289/ ب) اللغوية، فعلى هذا إذا كان للفظ معنى شرعي، ومعنى لغوي، فليس هو بمجمل بالنسبة إليهما. وقال القاضي: أنه مجمل بالنسبة إليهما، ولعله قال ذلك تفريعا على القول

بالحقائق الشرعية وإلا فهو منكر لها. وفصل الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى بين الوارد في الإثبات كقوله عليه السلام: "إني إذا أصوم" حين كان يقال له ليس في البيت شيء بعد سؤاله عنه، وبين الوارد في النهي كقوله عليه السلام: "إلا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وابتعال". فقال: ما ورد في الإثبات فهو للمعنى الشرعي، فقوله عليه السلام: "إني إذا أصوم" محمول على المعنى الشرعي حتى يستفاد منه صحة الصوم بنية من النهار. وما ورد في النهي فهو مجمل، لتردده بين المعنى الشرعي، واللغوي

حتى لا يستفاد بالنهي الوارد عن الصوم في أيام النحر وأيام التشريق "صحة" الصوم في هذه الأيام، لاحتمال أن يكون المراد هو: الصوم اللغوي، فلا يدل ذلك على صحة الصوم الشرعي في هذه الأيام، ولو كان المراد منه الصوم الشرعي، دل ذلك على إمكان الصوم الشرعي في هذه الأيام، إذ النهي عن الممتنع ممتنع، إذ يقال للأعمى لا تبصر، ولا للزمن لا تمش. واعلم أن ما ذهب إليه القاضي أبو بكر رحمه الله تعالى ضعيف لا يظهر له مأخذ، إلا أن يفرض أن المسمى الشرعي ما صار بحيث ينسخ المسمى اللغوي، وجعله مجازا فيه لا يفهم من اللفظ إلا بقرينة، بل يتردد الذهن بينه وبين المسمى الشرعي عند سماع ذلك اللفظ، لتعادلهما، كما في المشترك، فأما إذا فرض بحيث يتبادر إلى الفهم عند سماع اللفظ من الشارع، أو من جملة الشرع وصار المسمى اللغوي بسببه منسوخا لا يفهم منه إلا لقرينة فلا، لأن تبادره إلى الفهم مع أن الغالب من الشارع في الألفاظ "التي" له فيها عرف إنما هو إطلاقها وإرادة معانيها الشرعية ينفي كونه مجملا، ولأن كونه عليه السلام مبعوثا لبيان الأحكام الشرعية يغلب على الظن حمل لفظه عليها.

احتج القاضي: بأنه عليه السلام كان يناطق العرب بعرفهم، كما كان يناطقهم بعرفه، نحو قوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام إقرائك" ونحو نهيه عليه السلام عن بيع المضامين والملاقيح، ونهيه عن بيع الحر، والخمر، فإنه لا يجوز أن يراد منها معانيها الشرعية، وإلا لكانت الصلاة الشرعية متصورة في أيام القروء، والبيع متصورا في المضامين، والملاقيح والحر، لأن/ (290/ أ) النهي عن الشيء يقتضي إمكانه لامتناع النهي عن الممتنع لما سبق، وإذا كان كذلك كان اللفظ مجملا بالنسبة إلى كل واحد منها.

وجوابه: أنا لا نسلم أن النهي عن الشيء يستدعي إمكان وجوده، وهذا لأن تكليف ما لا يطاق جائز عندنا. سلمنا: امتناعه لكن يستدعى إمكان وجوده، بحسب العقل، وبحسب الشرع. والأول: مسلم، والثاني: ممنوع، فلم لا يجوز أن يقال: أنه وإن كان متصور الوجود بحسب العقل، لكنه غير متصور الوجود بحسب الشرع؟ سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال: أنها محمولة على المعاني الشرعية وأن هذا وإن اقتضى إمكان وجود المنهي [عنه] بحسب الشرع، لكن ترك ذلك لدليل؛ وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكن الإجمال أيضا خلاف الأصل. فلم قلتم: إنه "أولى"؟ سلمنا: ذلك لكن الاستعمالات المذكورة إنما هي في طرف النفي لا في طرف الإثبات، فلم قلتم أنه في طرف الإثبات أيضا مجمل؟ سلمنا: الاستعمال في الطرفين لكنه نادر بالنسبة إلى الاستعمال في المعنى الشرعي، والحمل على الغالب أولى. سلمنا: التساوي في الاستعمال لكنه إنما يعتبر لو لم يستلزم الإجمال، أما إذا استلزم فلا نسلم اعتباره. سلمنا: اعتباره مطلقا، لكن الحمل على المعنى الشرعي أولى لما سبق. ومما سبق لا يخفى عليك مأخذ من قال: بالتفصيل. وجوابه:

المسألة التاسعة في أن لفظ الشارع إذا دار بين أن يفيد معنى، وبين أن يفيد معنيين، فهل هو مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما، أم هو ظاهر بالنسبة إلى إفادة المعنيين

المسألة التاسعة في أن لفظ الشارع إذا دار بين أن يفيد معنى، وبين أن يفيد معنيين، فهل هو مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما، أم هو ظاهر بالنسبة إلى إفادة المعنيين. اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون: إلى أنه ظاهر بالنسبة إلى إفادة المعنيين. وذهب الأقلون: منهم الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى إلى أنه مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما. والنزاع إنما هو في "ما لم" يظهر أنه حقيقة في المعنيين، أو في المعنى الواحد بل يحتملهما، فمن لم يجعله مجملا يجعله حقيقة في المعنيين مجازا في المعنى الواحد.

واللفظ الدائر بين الحقيقة والمجاز ليس بمجمل، بالنسبة إلى كل واحد منهما، بل هو ظاهر بالنسبة إلى الحقيقة، ومن جعله مجملا لا يجعله حقيقة في أحدهما عينا، بل يحتمل عنده احتمال سواء أن يكون حقيقة في المعنى الواحد مجازا في المعنيين، وبالعكس، وأن يكون حقيقة فيهما ولا ترجح بسبب إفادة المعنيين. احتج الأكثرون بوجوه: أحدها: أن حمله على المعنيين أكثر فائدة من حمله على معنى واحد وكان أولى قياسا على الحمل على التأسيس، فإن/ (291/ ب) اللفظ إذا دار بين أن يفيد فائدة التأسيس، وبين أن يفيد التأكيد كان الحمل على التأسيس أولى، وقياسا على الحمل على التباين، فإن اللفظ إذا دار بين أن يفيد معنى لفظ آخر، وبين أن يفيد معنى غير مدلول عليه للفظ آخر، كان الحمل على الثاني أولى، والجامع زيادة الفائدة، ثم هذا ليس من القياس المتنازع فيه في اللغات على ما عرفت ذلك في اللغات حتى يدفع بأنه غير جائز. وثانيها: أن المقصود من الكلام إنما هو الإعلام والإفادة، وكل ما فيه الفائدة

أكثر كان أقرب إلى المقصود بالوضع، وكان الحمل على ما هو أكثر فائدة أولى لقربه من المقصود. وثالثها: المفيد للمعنى الواحد، كالمهل بالنسبة إلى المفيد للمعنيين، لعدم إفادته معنى يفيده الثاني، والمفيد راجح على المهمل والمشابه للراجح راجح على المشابه للمرجوح فالمفيد للمعنيين راجح، فكان الحمل عليه أولى. احتجوا: بأن المفيد للمعنيين راجح من وجه، وهو أنه أكثر إفادة والمفيد للمعنى الواحد راجح من وجه آخر وهو أن المفيد للمعنى الواحد أغلب في ألفاظ الشارع وغيره، والغلبة توجب الرجحان فيتعارضان فيتحقق الإجمال. وجوابه: أن الحمل على إفادة المعنيين أولى لما فيه من رفع الإجمال الذي هو خلاف الأصل، وهذا المقصود وإن كان حاصلا في الحمل على المعنى الواحد، لكنه خلاف الإجماع، إذ القائل: قائلان، قائل يقول بالحمل على المعنيين، وقائل يقول بالإجماع لتردده، بين أن يكون محمولا على إفادة المعنى الواحد، وبين أن يكون محمولا على إفادة المعنيين، فإما أن يتعين الحمل على معنى واحد فقول لم يقل به أحد.

المسألة العاشرة ذهب الأكثرون، إلى أن لفظ الشارع إذا دار بين أن يكون محمولا على حكم شرعي متجدد، وبين أن يكون محمولا على التقرير على الحكم الأصلي العقلي، أو الاسم اللغوي، كان حمله على الحكم الشرعي المتجدد أولى

المسألة العاشرة ذهب الأكثرون، إلى أن لفظ الشارع إذا دار بين أن يكون محمولا على حكم شرعي متجدد، وبين أن يكون محمولا على التقرير على الحكم الأصلي العقلي، أو الاسم اللغوي، كان حمله على الحكم الشرعي المتجدد أولى. وذهب الأقلون: منهم الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: إلى أنه محتمل لهما مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما. مثال الأول: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية، فإنه يقتضي نفي التحريم عما عدا المذكورات في الآية، ونفيه عنه يحتمل أن يكون بأن ينفى على حكم الأصل، ويحتمل أن يكون بأن يثبت الحل فيه وهو حكم شرعي متجدد والتقرير على الأصل، وإن كان حكما شرعيا/ (291/ أ) لكنه غير متجدد.

مثال الثاني: كقوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة" فإنه يحتمل

أن يكون المراد منه أنه كالصلاة حكما في الافتقار إلى الطهارة عن الحدث والخبث، ويحتمل أن يكون المراد منه أنه مسمى بالصلاة بناء على أن فيه الدعاء الذي هو مسمى بالصلاة اللغوية، ويحتمل أن يكون المراد منه أنه مسمى بالصلاة شرعا "لم يكن مسمى بها لغة، وفي هذا أيضاً

يرجع إلى الحمل على الحكم الشرعي" لأنه إنما يراد تسميته بها شرعا ليترتب عليه أحكامها المنوطة بالاسم، كقوله عليه السلام: "الأذنان من الرأس". فإنه يحتمل أن يكون المراد منه أنه في الحكم كالجزء من الرأس حتى يمسح

بما مسح به الرأس ولا يحتاج إلى ماء جديد، وكذا في غيره من الأحكام، إلا ما خصه الدليل. ويحتمل أن يكون المراد أن اسم الرأس مشتمل عليه وأنه جزؤه، وكذا قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" فإنه يحتمل أن يكون

المراد منه أن الاثنين كالجماعة في الحكم في انعقاد صلاة الجماعة، وإحراز فضيلتها وفي جواز السفر، فإنه روى عنه عليه السلام: "أنه كان ينهى عن السفر إلا في جماعة"، ويحتمل أن يكون المراد منه أنه مسمى بالجماعة إذا عرفت هذا. فنقول: الدليل على أن حمله على الحكم الشرعي أولى، هو أن حمله على الحكم الشرعي حمل له على ما [هو] بيانه به عليه السلام أمس وأخص، لأنه عليه السلام مبعوث لبيان الأحكام الشرعية التي لا تعرف إلا منه، دون التسمية اللغوية التي يستقل بمعرفتها كل واحد من أهل اللسان، وعلى ما نحن إلى معرفته أحوج، ولا شك أن حمل اللفظ على ما يتعلق به غرض المتكلم تعلقا ظاهرا ويحتاج إليه السامع احتياجا بينا ماسا أولى مما ليس كذلك، ولأن حمله على الحكم الشرعي لا يتضمن تعريف المعرف بالنسبة إلى أحد، وحمله على التسمية يتضمن ذلك بالنسبة إلى أهل اللسان، ولا شك أنه خلاف الأصل فما يتضمنه أيضًا، كذلك فإن "غلب" الحمل على الحكم الشرعي، وإن كان يترجح مما ذكرتم لكن الحمل على التسمية في مثل قوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة" و"الاثنان فما فوقهما جماعة" يترجح بوجهين: أحدهما: أنه لا يحتاج إلا الإضمار، لأن قولنا: "الطواف بالبيت

صلاة" جاري مجرى قولنا: الإنسان حيوان، وهو ليس بمستعمل على طريق الإضمار، فكذا ما نحن فيه ولو سلم أنه/ (291/ ب) يحتاج إليه لكنه قليل، إذ التقدير فيه على تقدير الإضمار الطواف مسمى بالصلاة بخلاف الحمل على الحكم الشرعي، فإنه يحتاج إلى إضمار كثير، لأن تقديره حينئذ يصير حكم الطواف حكم الصلاة في كذا أو في كل شيء إلا ما خصه الدليل. وجوابه: أنا نسلم أن قوله: "الطواف بالبيت صلاة"، جار مجرى قوله: الحيوان إنسان، لكن لا نسلم أنه ليس يتضمن الإضمار، وهذا لأن قولنا: الحيوان إنسان، ليس المراد منه أن لفظ الحيوان لفظ الإنسان، بل مدلوله مدلوله، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد منه أن ما حقيقته الحيوان حقيقته الإنسان، ويحتمل أن يكون المراد منه، إنما وصف بأنه حيوان، "وصف بأنه إنسان" وهو خارج عن ماهيته، وصف بأنه إنسان وهو خارج عن ماهيته ويحتمل أن يكون المراد منه أن ما صدق عليه الحيوان سواء كان ذلك حقيقته أو لم يكن بل يكون وصفه صدق عليه الإنسان سواء كان ذلك حقيقته أو لم يكن، بل يكون وصفه، وإذا كان محتملا لهذه التقديرات، وعلى كل تقدير يلزم الإضمار، كان استعماله بطريق الإضمار لا محالة. قوله: الإضمار على تقدير الحمل على التسمية أقل. قلنا: ممنوع، وهذا لأن تقدير حينئذ ليس ما ذكرتم، لأن الطواف نفسه

ليس مسمى بالصلاة، بل مسمى الطواف مسمى بالصلاة، وإذا كان كذلك كان حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لازما على التقديرين. وثانيهما: أن الحمل على التسمية والحكم الأصلي، لا يستلزم النقل عن شيء، بخلاف الحمل على الحكم الشرعي المتجدد، فإنه يستلزم النقل عن الحكم الأصلي، وهو خلاف الأصل. وجوابه: أنه إن كان كذلك، لكنه معارض بوجه آخر، وهو أن حمله على الحكم الشرعي يقتضي إلحاق الفرد بالأعم والأغلب، إذ الغالب في كلام الشارع إنما هو بيان الأحكام الشرعية دون بيان التسمية، والنفي الأصلي وحمله على التسمية أو النفي الأصلي يقتضي إلحاقه بالشاذ والنادر، ولا شك أن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى. وبهذا أيضا خرج، الجواب عن قولهم: إنه عليه السلام كما كان ينطق بالحكم الشرعي، فكذا كان ينطق أيضا بالحكم الأصلي العقلي، كقوله عليه السلام: "ليس في الكسعة ولا في النخسة ولا في الجبهة صدقة"،

وكقوله "ليس في الحلي صدقة"، وكقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق

.......................................................................

صدقة" وبالتسمية أيضا كقوله: "كل (292/ أ) مسكر خمر" لأنه نادر والغالب إنما هو الحكم الشرعي المتجدد.

المسألة الحادية عشرة روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه تردد في إجمال قوله تعالى: {وأحل الله البيع} وتعميمه

المسألة الحادية عشرة روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه تردد في إجمال قوله تعالى: {وأحل الله البيع} وتعميمه.

وإلى كل واحد من الاحتمالين ذهب قوم. وفصل إمام الحرمين، وقال: إنه مجمل في البيع الذي اشتمل على جهة من جهات الزيادات، مبين في البيع الذي لا مفاضلة فيه بوجه من الوجوه. واعلم أن تردده فيه- رضي الله عنه- يحتمل وجهين: أحدهما: أنه بناء على تردده في أن الألف واللام في المفرد، هل هما ظاهران في العموم أو في الجنس، فإنه بتقدير أن يكون ظاهرا في الجنس، يكون اللفظ صادقا على الكل والبعض، فيكون مجملا بالنسبة إلى كل واحد منهما.

وكلام الغزالي- رحمه الله تعالى- يشعر باحتمال التردد بين التعميم والعهد. وهو باطل، لأنه يلزمه القول بالإجمال في الجمع المعرف، لإمكان هذا الاحتمال فيه وهو جزم بالإجمال لا تردد فيه. وثانيهما: أنه وإن جعلهما ظاهرين في إفادة التعميم، عند عدم معهود سابق، لكن يجعل قول الله تعالى فيه: {وحرم الربا} جاريا مجرى الاستثناء منه وهو المجهول، لأن الربا هو الزيادة لغة، ومن المعلوم أن كل زيادة لا تحرم فما هو المراد من الربا المجهول، والعام إذا استثنى المجهول منه صار مجملا وفاقا. ومن هذا المأخذ نشأ تفصيل إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- وأما من جزم باحتمال لتعميم فهو بناء على أن الألف واللام في المفرد للعموم، وقد مر مأخذه ولم يجعل قوله تعالى: {وحرم الربا} جاريا مجرى الاستثناء بل يجعله جملة أخرى مستقلة فمقتضى قوله تعالى:

{وأحل الله البيع وحرم الربا} عنده إحلال كل بيع إلا ما خصه الدليل وتحريم كل زيادة إلا ما خصه الدليل. وأما من جزم باحتمال الإجمال فهو بناء على أنهما ليستا للعموم في المفرد بل للجنس، والجنس يصدق على القليل والكثير، فيكون اللفظ مترددًا بين الكل وبين البعض، فيكون مجملا بالنسبة إلى كل واحد منهما. وترددوا أيضا في إجمال قوله تعالى: {وافعلوا الخير}. وتعميمه. فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه عام حتى استدلت به على وجوب

المسألة الثانية عشرة اختلفوا في أنه هل بقي مجمل في كتاب الله تعالى "و" بعد وفاة الرسول عليه السلام أم لا؟

الوتر من قال منهم بوجوبه. وذهب جماعة إلى أنه مجمل، ومأخذ هذا الاختلاف بعض ما سبق. ومن المجمل قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}، عند من لم (292/ ب) يجعله عاما. المسألة الثانية عشرة اختلفوا في أنه هل بقي مجمل في كتاب الله تعالى "و" بعد وفاة الرسول عليه السلام أم لا؟. فذهب الذاهبون إلى المنع منه محتجين عليه بوجهين: أحدهما: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، وإكمال الدين، وإتمام النعمة هو بيان ما في القرآن، لأنه لو بقي فيه شيء مجهول لم يكن الدين مكملا، ولم تكن النعمة متممة إذ ذاك، لأن عند معرفته الدين

أكمل والنعمة أتم. وثانيهما: أن الدليل ينفي اشتماله عليه ابتداء ودواما، وهو ما ذكرنا في باب الاشتراك، ترك العمل به في الابتداء لضرورة الوقوع، فوجب أن يبقى معمولا به في الدوام. وذهب آخرون إلى تجويزه، لأنه ممكن عقلا. أما أولا: بالاتفاق. وأما ثانيا: فلأنا نعلم بالضرورة أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال، لا بحسب الذات، ولا بحسب الغير، وليس في السمع ما يحيله وينفيه بالأصل، فوجب أن يبقى على جوازه. وأما ما ذكروه من الوجه الأول: فضعيف، لأنه إنما يكون الدين والنعمة عند معرفته أكمل وأتم، إن لو لم يكن معرفته على التفصيل مفسدة، أما إذا كان كذلك فلا. وقد ذكرنا في باب الاشتراك أن معرفة الشيء على الإجمال قد يكون منشأ للمصلحة، ومعرفته على التفصيل قد يكون منشأ للمفسدة، فلم قلتم: إن هذا الاحتمال منتف عما في كتاب الله تعالى؟.

سلمنا: ذلك لكن دليلكم منقوض، لأنه يقتضي أن يكون جميع العلوم حتى أخبار الأمم السابقة والآتية، وجميع ما يتعلق بالمبدأ والمعاد، من أحوال خلق السماوات والكواكب [والأرض] وما فيها من البحر والجبال، وأحوال الجنة والنار، وأحوال الثقلين فيهما مبين لنا عند نزول الآية، ومن المعلوم أنه ليس كذلك، فكل ما هو "من" جوابكم فيه فهو جوابنا عما بقى مجملا في كتاب الله تعالى. وأما الوجه الثاني: بجواب ما ذكروه من الدليل على امتناع اشتمال كتاب الله تعالى على المجمل، وقد سبق ذلك في باب الاشتراك.

"الفصل الثاني" في المبين وما يتعلق به وفيه مسائل:

الفصل الثاني في المبين وما يتعلق به

الفصل الثاني في المبين وما يتعلق به وفيه مسائل: المسألة الأولى [جواز كون الفعل بيانا] ذهب جماهير الأصوليين والفقهاء بأسرهم إلى أن الفعل قد يكون بيانا، ثم لا يظن أن من قال منهم كالغزالي وغيره أن البيان مخصوص بالدليل القولي، لم "يقل" بكون الفعل بيانا، لأن ذلك نزاع في التسمية بحسب الاصطلاح بسبب غلبة الاستعمال/ (293/أ) بناء على أن الغالب إنما هو البيان بالقول لا في حقيقة ما يقع به البيان ولا في جوازه. وذهب بعض المتأخرين الشاذين "إلى" أن البيان لا يقع بالفعل.

لنا: المنقول، والمعقول: أما المنقول: فما روى أنه عيه السلام بين للصحابة كيفية الصلاة والحج بفعله وقال: "خذوا عني مناسككم". وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وروى أن رجلا سأله عن أوقات الصلاة، فقال عليه السلام: "صل معنا"، مبين له بفعله، بأن أقامها في أوقاتها، وكذلك بين الوضوء أيضا بفعله إذ روى أنه عليه السلام: توضأ مرة مرة فقال: "هذا وضوء لا يتقبل الله صلاة] امرئ [بدونه"، وتوضأ مرتين فقال: "هذا

وضوء ضاعف الله فيه الأجر" وتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال: "هذا وضوئي

ووضوء الأنبياء من قبلي"، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم ببنوا الوضوء بأفعالهم. وأما المعقول فهو: أن القول حيث يكون بيانا للفعل إنما كان بيانا له لكونه مرشدا إلى كيفية ذلك الفعل، وهذا المعنى متحقق في الفعل بل هو أكثر إرشادا منه، لأنه قد يرشد إلى دقائق تقصر عنها العبارة وأشد ترسيخا للكيفية في الخاطر، ألا ترى أن فهم الأشكال الهندسية عند مشاهدتها، أشد من حال الإخبار عنها، ولهذا قيل: "ليس الخبر كالعيان" فيلزم بطريق

الأولى أن يكون الفعل بياناً.

احتجوا بوجوه: أحدها: أن البيان يجب أن يكون متعلقا بالمبين، ليعلم أنه بيان له، والفعل لا ينبئ عن التعليق به، فلم يعلم أنه بيان له، فلم يصح أن يقع به البيان. وجوابه: أنا نسلم أن الفعل لا ينبئ عن التعلق بالمبين، وأن البيان يجب أن يكون متعلقا بالمبين، لكن لا نسلم أنه لا يعلم كونه بيانا له، وهذا لأنه لا يلزم من عدم إثباته ذلك أن لا يعلم، لجواز أن يعلم ذلك بطريق آخر، نحو أن بعلم بصريح القول: بأن يقول: هذا الفعل بيان لهذا المجمل أو بقرائن الأحوال أو بالفعل نحو أن يتلفظ بالمجمل، ولم يأت بشيء يصلح أن يكون بيانا له، ثم إنه فعل ما يصلح أن يكون بيانا له عند حضور وقت عمله فيعلم أنه بيان له، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت العمل، وهو غير جائز وفاقا ولا يقال أن البيان في الحقيقة حينئذ إنما يقع بتلك الأشياء لا بالفعل، لأن المتضمن / (293/ب) لصفة مدلول المجمل، وكيفية أفعاله، إنما هو الفعل لا تلك الأشياء، وهي إنما تدل على أنه وقع بيانا له لا على صفاته، وليس فيها دلالة على إزالة الإيهام أصلا فكيف، يقال: أن البيان في الحقيقة إنما وقع بتلك الأشياء. وثانيها: أن الفعل يطول فيفضي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة. وجوابه: أن القول أيضا يطول، بل ربما كان أطول منه، فإن زمان

الإتيان بركعة واحدة أقصر من زمان وصف أفعالها وتركها على الاستقصاء، إذ ليس من شرط البيان القولي أن يكون وجيزا، بل يجوز أن يكون طويلا مع القدرة على الوجيز، فما جوابكم ثمة فهو جوابنا. وثالثها: أن البيان يجب أن يكون متصلا بالمبين، واتصال الفعل مع القول غير متصور، فلا يصح به البيان. وجوابه: أنه ممنوع على رأينا لأنا نجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب. سلمنا: ذلك لكن لا يوجب الاتصال الحقيقي على هذا التقدير، بل الاتصال العرفي والعادي] وذلك متصور بأن يشرع في الفعل عقيب تلفظه بالمجمل بل لو صبر لحظة يسيرة ثم [شرع في الفعل جاز أيضا، كما هو في القول، فالبيان يجب أن يكون متصلا أو في حكم الاتصال، والثاني متصور في الفعل فلم يمتنع كونه بيانا، ولو قيل بأنه يطول بعد الشروع، فإذا انضم هذا مع ما قبل الشروع من الفصل لزم تأخيره عن وقت خطابه. فجوابه: ما سبق. تنبيه: إذا علمت أن البيان يقع بالفعل، فاعلم أنه يقع بالترك أيضا، إذ لا قائل بالفصل بينهما، لكن الفعل يبين صفة الفعل، والترك لا يبين ذلك بل لا يبين إلا ما يناسبه من الأحكام العدمية وهو على أنواع:

أحدها: عدم الوجوب فإن الرسول عليه السلام إذا داوم على فعل نحو القنوت في الفجر، أو الجلسة الأولى، ثم تركه متعمدا فإن تركه ذلك متعمدا يدل على عدم وجوبه، إذ لا يجوز أن يكون النبي عليه السلام يتعمد ترك الواجب. وثانيها: أن يسكت عن بيان حكم حادثة وقعت بين يديه، أو سئل عنها فإنه يدل على أنه ليس فيها حكم شرعي، وإلا لزم تأخير البيان عن

وقت الحاجة وأنه غير جائز. وثالثها: أن يترك ابتداء ما يوجبه اللفظ العام المتناول له ولأمته، فإنه يدل على أنه عليه السلام مخصوص منه. ورابعها: أن يتركه بعد ما فعله، فإنه يدل على نسخ ذلك الحكم في حقه، وفي حق الأمة أيضا: عن كانوا مشاركين له في علة الحكم وإلا فلا. وخامسها: أن يترك الإنكار على فعل فُعل بين يديه أو إن / (294/أ) لم يكن بين يديه، لكن علم ذلك ولم يتقدم له ببيان في كتاب الله تعالى، ولا في سنته عليه السلام، فإنه يدل على أنه ليس بقبيح. وأما البيان بالفعل: فيقع تارة بالكتابة- والبيان بها متصور من الله تعالى، ومن الرسول عليه السلام، ومرة بعقد الأصابع كما بين الرسول عليه السلام الشهر به حيث قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا وحبس إبهامه

في الثالثة"، فبين به أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما، وهذا النوع من البيان مستحيل على الله، لاستحالة أن يكون له أصابع وجوارح.

وطورًا بالإشارة وقد بين بها الرسول عليه السلام حيث أشار إلى الذهب والحرير، وقال: "هذان محرمان على ذكور أمتي حل لإناثها".

المسألة الثانية في أن القول مقدم على الفعل في البيان

وهذا النوع من البيان يستحيل أيضا على الله تعالى. وتارة بأن يفعل فعلا يعلم أنه قصد بذلك بيان ما أمر به من الأفعال على الإجمال، وغنما يعلم ذلك بما سبق من الطرق الدالة على كون الفعل بيانا. المسألة الثانية في أن القول مقدم على الفعل في البيان. اعلم أن القول والفعل إما أن يتوافقا في البيان أو يتنافيا في ذلك وعلى التقديرين، إما أن يعلم التاريخ بينهما أو لا يعلم ذلك فهذه أقسام ستة: أحدها: أن يكون القول مقدما على الفعل الموافق له في البيان. فهاهنا البيان مضاف إلى القول لتقدمه في إفادة التعريف المعني عن تعريف آخر، وحمل الثاني على التأكيد. وقيل: إن كان الفعل أضعف دلالة على البيان من ذلك القول، فإن

الفعل قد يكون أقوى دلالة على البيان من القول، وإن كان مفتقرا إليه في الجملة، لا في كل موضوع، وذلك حيث علم بالضرورة بسبب قرائن الأحوال أنه قصد به البيان، والألفاظ المستعملة في القول تكون دلالتها على الوصف ضعيفة لم يجز أحالة إصداره إلى تأكيد البيان لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة، بل حمل على أنه فعل لغرض آخر، نحو قصد الامتثال "وغيره" وإن كان أقوى أو مساويا حمل على التأكيد، إذ الحمل عليه أكثر فائدة. وفيه نظر: لأنا لا نسلم أنه لا يجوز تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة، وهذا لأنه لا معنى للتأكيد إلا تقوية المفهوم الأول، والشيء قد يتقوى بما هو دونه إذا انضم إليه، ألا ترى أن المتعارضين إذا انضم إلى أحدهما ما هو أضعف دلالة منه فإنه يترجح على صاحبه. وثانيها: أن يعلم تقدم الفعل على القول، فهاهنا / (294/ب) أيضا البيان مضاف إلي الفعل لما سبق، وأما القول بكون الثاني تأكيدا أم لا فكما سبق. ثالثها: أن لا يعلم التاريخ بينهما، فهاهنا حكم على الجملة بأن الأول منهما بيان، والثاني تأكيد.

وقيل: وإن كانا متساويين كان الأمر كما ذكرتم، وإن كانا مختلفين. فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم، لأنا لو فرضنا عكسه لضاع الإتيان بالمرجوح، إذ لا يمكن الحمل على التأكيد لما سبق، ومنصب الشارع يصان عن الإتيان بما لا يفيد. وهذا الذي ذكره غير لازم، لأنه لا يلزم من أن لا يكون تأكيدا أن لا يكون فعله مفيدا أصلا لما عرفت، نعم: الحمل على التأكيد أولى، لأنه أكثر فائدة. ورابعها: أن يتقدم القول الفعل وهما متنافيان فيه. فهاهنا البيان إنما هو بالقول، وحمل الفعل على الندب، إن كان القول دل على الوجوب مثلا، او غيره فيما يليق به من المحامل، ولا يحمل على الحكم الذي دل عليه القول، لئلا يلزم التخصيص أو النسخ إمام عموما أو خصوصا أعني في حقه خاصة. وخامسها: أن يتقدم الفعل القول، فهاهنا البيان مضاف إلى الفعل أيضا، ثم إن أمكن تنزيل اللفظ على مجمل لا يلزم منه التنافي فعل، وإن لم يمكن، فإما أن يكون عاما متناولا له، ولأمته، أو لأمته فقط، أو يكون

خاصا به، فإن كان خاصا به جعل ناسخا لحكم الفعل في حقه عليه السلام لا غير. أما الأول: فللضرورة فإنا لو لم نحمل عليه لزم إهماله ولا يخفى أن أعمال الدليل ولو بطريق النسخ خير من إهماله. وأما الثاني: فلأنه لا يعارض الفعل في مقتضاه في حق غيره عليه السلام. وإن كان متناولا لأمته فقط جعل الفعل بيانا في حقه فقط، والقول في حق أمته. وهذا وإن كان على خلاف الغالب، إذ الغالب المشاركة في الأحكام وتخصيصه ببعض الأحكام نادر، لكنه أولى من النسخ والإهمال اللازم على تقدير أن لا يجعل كذلك، وإن كان متناولا له ولأمته فالحكم ما سبق في الثاني، لأنه لا يلزم على هذا إلا التخصيص وهو خير من النسخ والإهمال "اللازم" على تقدير التعميم. وقال أبو الحسين البصري: المتقدم هو البيان في القسمين. فإن أراد به: أنه بيان في حق الكل فهو ضعيف، لأنه يلزمه تعطيل

القول. وسادسها: أن لا يعلم التاريخ بينهما، نحو ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا" وروى عنه / (295/أ)] عليه [السلام: "أنه قرن فطاف لهما طوافين وسعى سعيين" فهاهنا القول هو المتقدم في كونه بيانا، وقدر أنه ورد قبل الفعل.

المسألة الثالثة] جواز البيان بالأدنى [

أما أولا: فلأنه مستقل بنفسه غير محتاج في الدلالة "على كونه بيانا إلى شيء آخر، بخلاف الفعل فإنه محتاج في ذلك" إلى غيره ما عرفت ذلك. وأما ثانيا: فلأنا لو لم نقدمه في كونه بيانا، فإما أن نقدم الفعل عليه فيه أو لا نقدم واحدا منهما بل يحكم بالتعارض. والأول: باطل، لأن تقديمه عليه إنما يكون بتقدير تقدمه في الورود، وذلك يستلزم أحد المحذورات، وهو إما الإجمال، أو النسخ أو التخصيص، أو الحكم بخلاف الغالب على ما عرفت ذلك، وتقدير تقدم القول عليه لا يستلزم ذلك فكان أولى. المسألة الثالثة ] جواز البيان بالأدنى [ ذهب الجماهير إلى أن البيان لا يجب أن يكون كالمبين في القوة، بل

يجوز أن يكون أدنى منه، فيقبل المظنون في بيان المعلوم. خلافا للكرخي، فإنه قال: إذا كان المبين لفظا معلوما كان بيانه يجب أن يكون كذلك أيضا، ولا يتوهم في حق أحد أنه ذهب إلى اشتراط أنه كالمبين في قوة الدلالة، فإنه لو كان كذلك، لما كان بيانا له، بل كان هو يحتاج إلى بيان آخر، لأن ما يكون كالمجمل في الدلالة لا يكون مبين الدلالة، فيحتاج هو إلى بيان آخر ولزم التسلسل، هذا في بيان المجمل. وأما في بيان التخصيص والتقييد فالأمر فيه أظهر ضرورة أن المبين هاهنا أظهر دلالة من المجمل، وبيانه يجب أن يكون أظهر دلالة منه ولزم التسلسل بل المراد أنه هل هو كالمبين في قوة المتن حتى لو كان المبين معلوما والبيان مظنونا لا يكون مقبولا عند من يشترط المساواة. لنا: أنا بينا أنه يجوز تخصيص مقطوع المتن، نحو القرآن، والسنة المتواترة، وتقييده بمظنون المتن، كخبر الواحد والقياس، مع ما بينهما من

المنافاة، فلأن يجوز بيان المقطوع بالمظنون مع عدم المنافاة بطريق الأولى. وأيضا: فإن كثيرا من مجملات القرآن مبين بالمظنون نحو قوله تعالى:} وآتوا حقه يوم حصاده {بما روى عنه عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بالنضح والدوالي نصف العشر"، وقبلوا حديث المغيرة في المسح، في بيان قوله:} وامسحوا برءوسكم {، وكذا الأخبار التي وردت في صفة الصلاة فإنها أخبار آحاد، وقبلت الأمة ذلك. واحتج له: بأن البيان يدل على ما لم "يدل" عليه المبين، فيشبه ذلك زيادة على النص والزيادة / (295/ب) على النص نسخ، فوجب أن لا يقبل فيه ما لم يقبل في النسخ. وجوابه: أن المشابهة من وجه لا توجب المساواة في الحكم إلا إذا ثبت أن ما به المشابهة علة الحكم وهو ممنوع هنا.

سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ- وستعرف] ذلك [إن شاء الله تعالى. إذا عرفت أن البيان لا يجب أن يكون كالمبين في القوة. فاعلم أنه لا يجب أيضا أن يكون كالمبين في الحكم. ونقل عن قوم أنهم قالوا: إن البيان يجب أن يكون كالمبين في الحكم. والظاهر أن مرادهم من هذا أن المبين إذا كان واجبا كان بيانه واجبا، وإلا فلا، لأنه بيان لشيء واجب فأن ذلك مما لا يحتمله اللفظ بل لبنوا عنه، ولا أنه يدل على ما دل عليه المبين من الحكم، حتى يرد بأنه لم يكن أحدهما حينئذ بيانا للآخر، لأنه إنما يكون أحد الأمرين بيانا للآخر، إذا كان دالا على صفة مدلول الآخر، لأن ذلك ظاهر الفساد، ولا أنه يدل على وجوب ما تضمنه من صفات مدلول المبين أو ندبيته، كما دل المبين على أصل وجوب مدلوله أو ندبيته، وهذا وإن كان أقرب الاحتمالين المذكورين. واختاره القاضي عبد الجبار بن أحمد، في تأويل ما نقل عنه، لكنه أيضا باطل، لأنه ليس البيان من حيث إنه بيان مشتمل على صفات مدلول المبين، لأن البيان قد يكون بأن يعين أحد مدلوي المجمل ولا يتصور فيه هذا الاحتمال.

ولئن سلم ذلك/ لكن ليس يجب أن يكون في البيان صيغة تدل على وجوب تلك الصفات أو ندبيتها، بل ليس يجب أن يكون فيه إلا ذكر تلك الصفات فبعضها يحتمل أن يكون واجبا، وبعضها ندبا، وليس من شرط بيان الواجب أو الندب أن لا يكون] مشتملا إلا على ذكر الصفات الواجبة أو المندوبة فقط، بل يجوز أن يكون [مشتملا على الواجب والندب معا، ثم يتميز أحدهما على الآخر بدليل آخر، كالأحاديث التي وردت في بيان الصلاة، فإنها مشتملة على ما هو واجب فيها ومندوب، ثم هذا المفهوم الظاهر من كلامهم أيضا باطل، لأنه إن كانت الحاجة داعية إلى بيان المجمل كان بيانه واجبا على الشارع سواء كان مدلوله واجبا أو غير واجب لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق، إما بالنسبة إلى العمل والاعتقاد معا أو بالنسبة إلى الاعتقاد فقط، حيث لا تكليف في العمل، كما في الإباحة والندب والكراهية على رأي بعضهم، وأيضا فإن النزاع في أنها هل هي من التكليف أم لا؟ نزاع في التسمية ولا نزاع في أن الندب والكراهة دعاء إلى الفعل والترك، وفي الإباحة إذا / (296/أ) في الفعل والترك فإذا لم يعلم ما إليه الدعاء وكيفية علمه كان الدعاء إليه عبثا غير مفيد، وكذلك إذا لم يعلم ما أذن في فعله وتركه كان الأذن فيه عبثا غير مفيد، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى بيانه لم يكن بيانه واجبا، سواء كان مدلوله واجبا أو لم يكن واجباً.

المسألة الرابعة] تأخير البيان [

المسألة الرابعة ] تأخير البيان [ اتفق الكل على أنه لا يجوز تأخير بيان الخطاب عن وقت الحاجة، وهي وقت العمل سوى القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق، فإنهم يجوزونه، والكلام فيه نفيا وإثباتا، فرع الكلام في تكليف ما لا يطاق، قد تقدم. وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فقد اختلفوا فيه: فذهب جماهير أصحابنا، والحنفية إلى جواز تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت العمل مطلقا. وذهب جماهير المعتزلة، والظاهرية، وبعض أصحابنا: كأبي بكر الصيرفي، وأبي حامد المروزي، وأبي إسحاق المروزي على ما

روى الغزالي عنه، وكثير من الحنفية إلى: امتناعه مطلقا إلا في تأخير بيان النسخ فإنهم يجوزونه. ومنهم من فصل: فذهب جماعة إلى تجويزه في الأمر والنهي، دون الوعد والوعيد. وذهب الكرخى وجماعة من الفقهاء: إلى تجويزه في المجمل دون غيره

وذهب أبو الحسين البصري: إلى المنع من تأخير البيان الإجمالي لا التفصيلي عن الخطاب الذي له ظاهر، وقد استعمل في خلاف ظاهره كتأخير بيان تخصيص العام، وتأخير بيان المنقولات الشرعية والمجازات اللغوية عن الحقائق الأصلية، وتأخير بيان النكرة إذا أريد بها شيء معين. وكون هذا القسم من قبيل ما نحن فيه،] فيه [نظر: إن فسر خلاف الظاهر ينفي ما يثبته اللفظ أو إثبات ما ينفيه، وذلك لأن النكرة إنما تدل على واحد لا بعينه لعدم دلالته على التعيين لا لدلالته على عدم التعيين وبينهما فرق، وكيف لا وأصحابنا صرحوا بأن حمل المطلق على المقيد ليس خلاف ظاهر المطلق، بل هذا إثبات "أمور زائدة" لا يتعرض له المطلق لا بنفي ولا بإثبات بدليل آخر، وأي فرق بين حمل المطلق على المقيد، وبين حمل النكرة على المعين حتى يكون الثاني من قبيل خلاف الظاهر دون الأول، وتأخير بيان النسخ دون الخطاب الذي ليس له ظاهر بل نسبته إلى المعنيين سواء كالأسماء المشتركة والمتواطئة التي هي مجملات، فإنه يجوز تأخير بيانه إلى وقت الحاجة، والبيان الإجمالي هو أن نقول / (296/ب): هذا العام مخصوص وإن المراد من هذه اللفظة الحقيقة الشرعية أو المجاز اللغوي دون حقيقتها، وإن هذا الحكم سينسخ وهذا التفصيل ذكره بعض أصحابنا: كأبي بكر

القفال وأبي بكر الدقاق. والعم أن البيان الإجمالي غير مفيد أصلا في القسم الثاني، لأن من المعلوم على تقدير إجمال المشترك أن المراد منه بعض مدلولاته، ومن المتواطئ بعض ما يصدق عليه الاسم فلذلك يشترطون ذكره عقيب الخطاب، كما شرطوه في القسم الأول لكونه مفيدا. وأما البيان التفصيلي فتأخيره جائز في القسمين عندهم، فلا فرق بينهما إلا من حيث إنما هو فائدة البيان الإجمالي في القسم الأول حاصل في القسم الثاني من لفظه، فلا معنى لاشتراطه بخلاف القسم الأول فإنه غير مستفاد منه ذلك. وإذا عرفت مذاهب الناس فيه فلنذكر الدليل عليها. أما الدليل على ما ذهب إليه أصحابنا فعام تناول كل الصور، وخاص يختص ببعضها، أما العام فوجوه: أحدها: قوله تعالى:} إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه {. ووجه الاستدلال به ظاهر وهو أن قوله:} فإذا قرأناه فاتبع قرآنه {. يدل على إنزاله عليه لاستحالة أن يكون مأمورا بإتباع القرآن قبل إنزاله

عليه، ثم إنه تعالى أخر بيانه عنه، لأنه قال:} ثم إن علينا بيانه {، لان كلمة "ثم" للتراخي والمهلة، على ما تقرر ذلك في اللغات، وذلك يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الإنزال وهو المطلوب. فإن قلت: لا نسلم أن المراد من البيان: هو البيان الذي اختلفنا فيه، وهو بيان المجمل والعموم والمطلق، بل المراد منه عندنا إظهارا وإشهاده للخلائق، فإن البيان في اللغة عبارة عن الإظهار على ما تقدم تعريفه، يقال: بان لنا الكوكب الفلاني إذا ظهر، وبان لنا سور المدينة إذا ظهر، وإذا كان كذلك فليس حمله على الإظهار خلاف الظاهر، بل هو على وقفه إذ حمل اللفظ على موضعه وهو الظاهر، فلم قلتم إنه لا يجوز الحمل عليه وأن يكون مرادا منه؟ ثم الذي يدل على أن الحمل عليه أولى، هو أن على تقدير الحمل عليه لا يلزم منه تخصيص "وأما على تقدير الحمل على البيان المختلف فيه يلزم منه تخصيص" الضمير الذي في قوله:} ثم إن علينا بيانه {، لأن ذلك الضمير راجع إلى ما ترجع إلية الضمائر التي قبله، لئلا يلزم عود الضمير إلى غير المذكور وهي التي في قوله:} لا تحرك به لسانك / (297/أ) لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه {.

وهي راجعة إلى كل القرآن. أما أولا: فلأن أول هذه الضمائر هو الذي في قوله:} لا تحرك به لسانك لتعجل به {. إما أن يكون راجعا إلى القرآن وإلى بعضه، إما معينا، أو غير معين، والقسمان الأخيران باطلان فتعين الأول. أما الأول: منهما فلعدم دلالة الدليل عليه، إذ الأصل عدم ما يظن دليلا عليه. وأما الثاني: فلاستلزام الإجمال، وأما ما يعمهما فلأن دأبه عليه السلام بذلك ما كان مختصا ببعض القرآن دون بعض حتى نهى عنه، بل كان يفعل ذلك بكل القرآن حرصا على الحفظ فنهى عنه. وإذا كان ذلك الضمير راجع إلى كل القرآن، وجب أن يكون ما بعده كذلك لئلا يلزم التخصيص. وأما ثانيا: فلأن الضمير في قوله:} إن علينا جمعه وقرآنه {راجع إلى كل القرآن، لأنه لا يحصل مقصوده من جمع بعض القرآن وقراءته، وهذا لأن مقصود تأمين الرسول عليه السلام عما كان يخاف عليه، وهو ذهاب بعض القرآن عنه فإنه عليه السلام ما كان يعجل في التلقف إلا خوفا منه، بل إنما "يحصل" بجمع كل القرآن وقراءته فوجب أن يكون الضمير راجعا إليه تحصيلا للمقصود وتحسينا للتعليل، فإنه وارد لتعليل النهي.

وأما ثالثا: فلأنه ليس بعض القرآن بذلك أولى من بعض، فأما أن لا يعود إلى شيء منه وهو باطل بالإجماع "أ" وإلى بعض غير أي معين أي بعض كان، وهو أيضا باطل لما سبق، أو يعود إلى الكل وهو المطلوب. وأما رابعا: فلأن الضمير في قوله:} فإذا قرآناه فاتبع قرآنه {راجع إلى كل القرآن، وإلا لزم ان يكون راجع إلى البعض لئلا يلزم خلاف الإجماع، لكن ليس البعض بذلك أولى من البعض لعدم ما يدل عليه لفظا، ومعنى، والعمل على أي بعض كان يوجب سقوط التكليف بالإتباع ولو بإتباع آية، وهو خلاف الإجماع فثبت بهذه الوجوه أن الضمائر التي قبل الضمير الذي في قوله:} ثم إن علينا بيانه {راجع إلى كل القرآن. فلو كان المراد من البيان المجمل والعام والمطلق، لزم أن يكون ذلك الضمير عائدا إلى بعض القرآن ضرورة أن كل القرآن ليس بعام مخصوص "ومطلق مقيد"، ومجمل محتاج إلى البيان وضرورة أن بيان الكل] غير [متراخ عنه بخلاف ما إذا حملنا البيان على الإظهار / (297/ب) فإنه حينئذ يمكن أن يعود الضمير إلى الكل إذ إظهار الكل وإشهاره ممكن فثبت أن على تقدير حمل البيان على الإظهار لا يلزم منه تخصيص وعلى تقدير حمله على البيان المختلف فيه يلزم منه تخصيص الضمير، فكان الحمل على الإظهار أولى. سلمنا: أن الحمل على ما ذكروه أولى، لكن لم لا يجوز أن يكون

المراد منه البيان التفصيلي وتراخيه جائز عند بعض أصحابنا كأبي الحسين البصري. سلمنا: أن المراد منه مطلق البيان الإجمالي والتفصيلي، لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان، لأن كلمة "علي" للوجوب، لكنه قول لم يقل به أحد، لأن الخصم يقول بجواز التراخي والمقارنة معا، وأما نحن فنقول: بوجوب المقارنة. فالقول بوجوب التراخي قول لم يقل به أحد، فكان باطلا وحينئذ يتعذر العمل بظاهر الآية، فوجب صرفها إلى المجاز، وليس صرفهم الآية عن ظاهرها يحملهم على جواز التراخي أولى من صرفها إياها عن كونها مقتضية للتراخي بحمل "ثم" على معنى "الواو"، كما في قوله تعالى:} فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون {، وكما في قوله تعالى:} ثم آتينا موسى الكتاب {. ففي بقاء معنى الوجوب إذ مقارنة البيان مع المبين واجب عندنا في كل الصور وعليهم الترجيح لأنهم المستدلون. قلت: الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن البيان في اللغة عبارة عن مجرد الإظهار بل هو عبارة عنه مع إزالة إشكال وإبهام، بدليل الاستعمال وشعور الذهن بذلك عند سماعه، وما ذكرتم من الاستعمال ففيه أيضا معنى إزالة الإبهام والإشكال على ما لا يخفى عليك تقريره، فما فيه الظهور من غير إزالة الإبهام

والإشكال كظهور الألفاظ فلا نسلم أنه يسمى بيانا. وثانيهما: أنا نسلم أنه في اللغة عبارة عما ذكرتم، لكن نقول: إن البيان إن كل حقيقة في بيان المجمل والعام والمطلق بعرف الشارع، وحمله الشرع وجب حمل البيان المذكور في الآية عليه لما تقدم، من أنه يجب حمل الألفاظ على الحقائق الشرعية أولا، ثم على الحقائق العرفية، ثم على الحقائق اللغوية، وإن لم يكن حقيقة فيه وجب حمله على الحقيقة اللغوية التي هي الإظهار وهو قدر مشترك بين إظهار اللفظ، وبين إظهار المعنى المراد منه، وحينئذ إن قيل بأن المفرد المضاف كالفرد المعرف] بالألف واللام [وهو عام وجب حمله / (298/أ) عليهما وإن لم يقل به فحينئذ، إما أن يحمل على أحدهما على التعيين وهو باطل، لأنه ترجيح من غير مرجح، لأن نسبة اللفظ إليهما على السواء، أو لا يحمل على واحد منهما ما لم يدل عليه دليل من خارج، وهو أيضا باطل، لأنه إجمال وتعطيل للفظ إلى أو أن وجود الدليل، وهو خلاف الأصل أو يحمل على كل واحد منهما بطريق البدلية، كما في المطلق وهذا يقتضي جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب أيضا، وإن حمل البيان المذكور على الإظهار والإشهار، لأن التخيير بين حمل اللفظ على ما يجوز، وبين حمله على ما لا يجوز لا يجوز. فلما ورد ما يوجب التخيير دل ذلك على جوازه، وبه أيضا يعرف اندفاع ما ذكروه من الأولوية بسبب لزوم محذور التخصيص لو سلم لزومه، لأن ذلك إنما يظهر لو حمل عليه فقط، أما لو حمل عليهما إما معا أو بطريق

البدلية فلا فإن قلت لو كان البيان محمولا عليهما لزم أن يكون الضمير في قوله تعالى:} ثم إن علينا بيانه {، راجعا إلى كل القرآن وإلى بعضه معا، لأنه من حيث أنه محمول على إظهاره وإشهاره يجب أن يكون راجعا إلى كله ومن حيث أنه محمول على بيان المجمل والعام يجب أن يكون راجعا إلى بعضه كما سبق، لكن ذلك باطل، لأنه جمع بين الحقيقة والمجاز في الإرادة من اللفظ الواحد. قلت: من جوز منا استعمال اللفظ في معنيين مختلفين فقد سقط عنه هذا الكلام بالكلية، وأما من لم يجوزه فإنه يمنع لزوم أن يكون الضمير عائدا إليها، وهذا لأنه لا يسلم أن البيان من حيث إنه محمول على الإظهار والإشهار يكون الضمير عائدا إلى الكل. وأما الدليل عليه وكون إظهار الكل ممكنا لا يوجب عوده إليه، بل نقول: هو عائد إلى البعض، وهو البعض الذي يستأنف نزوله عليه، فلم لا يجوز ذلك؟ ثم الذي يدل على صحته هو أن الضمير في قوله تعالى:} لا تحرك به لسانك {عائد إلى ما يتلقاه من القرآن في المستقبل دون ما مضى، لأنه نهى له عنه عن التعجيل في التلقف، وذلك إنما يمكن فيما يستقبل، إذ النهي عن الماضي محال، وإذا كان ذلك الضمير عائدا إلى البعض، وجب أن يكون محل ما بعده من الضمائر راجعا إليه أيضا: لئلا يلزم عود الضمير إلى غير المذكور.

وبهذا يعرف أيضا: عدم لزوم التخصيص على تقدير حمل البيان على البيان المختلف فيه / (298/ب) وبه أيضا: خرج الجواب عما ذكر من الأدلة الدالة على كون الضمائر التي قبل ضمير البيان راجعة إلى كل القرآن، لأن الضمير راجع إلى البعض على التقديرين لما سبق. ثم الذي يؤكد "أن" الضمير على تقدير أن يكون البيان محمولا على الإظهار والإشهار أيضا راجع إلى البعض دون الكل بمعنى كل جزء منه لا الكل من حيث إنه كل، فإن ذلك باطل وفاقا، هو أن قوله:} ثم إن علينا بيانه {يقتضي أن الإظهار والإشهار ما كان حاصلا لمن يرجع إليه الضمير، لأن تحصيل الحاصل محال، وما تلقفه الرسول عليه السلام من القرآن من قبل كان قد ظهر وبلغ إلى أهل التواتر بحيث تقوم به الحجة، وهو المطلوب من الإظهار، لا أنه يصل إلى كل من في الشرق والغرب فاستحال أن يرجع الضمير إلى الكل بالمعنى المذكور. لا يقال: المحذور المذكور لازم، أيضا: على تقدير عود الضمير إلى البعض، وهذا لأن تقدير أن يكون المراد من البيان الإظهار كان الضمير راجعا إلى كل ما بقي من القرآن، وبتقدير أن يكون المراد منه البيان المختلف فيه لا يكون راجعا إليه، بل إلى البعض منه لاستحالة أن يكون ما بقي عاما مخصوصا ومطلقا ومجملا فيلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين،

لأن ذلك البعض غير هذا البعض، وبهذا أيضا عرف لزوم التخصيص على تقدير حمل البيان المختلف على البيان المختلف فيه دون تقدير حمله على الإظهار ... لأنا نقول: نحن نسلم أن ذلك البعض غير هذا البعض، لكن ليس دلالة البعض على كل بعض بطريق الاشتراك أو بطريق الحقيقة والمجاز حتى يلزم ما ذكرتم من استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، بل دلالته على كل بعض بطريق التواطؤ، فجاز أن يطلق. ويراد به كل ما صدق عليه البعض باعتبار كونه بعضا، لا باعتبار الخصوصية فإن ذلك يجوز. ألا ترى أنك إذا قلت: البعض من الناس أكرمته وأهنته لا يلزم أن يكون البعض المكرم هو البعض المهان، بل الظاهر أنه غيره، والإلزام التناقض إلا على تأويل، وإذا كان كذلك لم يلزم ما ذكروه من المحذور. واما التخصيص فلا نسلم لزومه أيضا: على ذلك التقدير، وهذا لأن الضمير الذي في قوله:} ثم إن علينا بيانه {راجع إلى ما ترجع إليه الضمائر التي قبله وإن كان البيان محمولا على البيان المختلف فيه، وكون كل ما بقي من القرآن "ليس" عاما مخصوصا ومجملا ومطلقا ومقيدا لا ينافي ذلك، لأن البيان والتفسير والشرح / (299/أ) مضاف إلى الجملة في عرف الاستعمال، وإن لم يكن فيها ما لا يحتاج إلى التفسير والشرح، يقال:

هذا تفسير القرآن وإن كان فيه ما لا يحتاج إلى التفسير، ويقال هذا شرح الكتاب الفلاني وإن كان فيه ما لا يحتاج إلى الشرح ويقال بين فلان كلام فلان، وإن كان ما بين منه إلا كلمتين، والأصل في الإطلاع الحقيقة. ولو سلم ابتداء أن الضمير الذي في البيان راجع إلى كل القرآن كان هذا الجواب أيضا. وأما الجواب: عن الثالث: فهو أن البيان مطلق، وتقييد المطلق خلاف الظاهر، فتقييده بالبين التفصيلي خلاف الظاهر، وما قيل: عليه أنه إذا كان مطلقا لا يمكن حمله على جميع صوره، وإلا لكان عاما لا مطلقا بل غايته أنه إذا عمل به في صورة واحدة فقد وفي بالعمل لدلالته، وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على التفصيلي دون الإجمالي أو بالعكس يكون تقييدا للمطلق، وهو ممتنع من غير دليل. وإن لم يقل: بتنزيله عليه، فلا حجة فيه، ظاهر السقوط، لأن تنزيل المطلق على أحد مجملاته على وجه التخصيص خلاف الأصل، أما تنزيله عليه على وجه الجواز والتخيير فليس ذلك خلاف الأصل، بل هو مقتضاه، فتنزيله على تأخير البيان الإجمالي على وجه الجواز والتخيير ليس خلاف الأصل بل هو مقتضاه وفي ذلك حصول المطلوب، فبطل قوله: إن لم يقل:

بتنزيله عليه فلا حجة فيه، إن أراد به التنزيل على وجه التخصيص، وإن أراد به ما هو أعم منه فلا نسلم أنه يلزم ذلك من امتناع التنزيل عليه وجه التخصيص حتى لا يقول به. وعن الرابع: أنا نقول: به لأنه تعالى أخبر بأن بيانه عليه بكلمة "ثم" فلو كان كل بيان مقارنا لزم الخلف في خبره تعالى، وهو محال. سلمنا: عدم وجوبه لكن "فيه" صرف الآية عن الوجوب وحملها على الجواز أولى من صرف "ثم" عن التراخي وحمله على معنى "مع"، فإن بتقدير أن تكون "الواو" للجمع المطلق لم تكن "ثم" محمولا عليه على زعم الخصم وإلا لكان المقصود حاصلا لما سبق أن الدال على القدر المشترك يجوز حمله على ما صدق عليه الاسم، بل يكون محمولا على أحد نوعيه وهو الجمع بطريق المعية وحينئذ يلزم أن يكون ما ذكرنا من المجاز أولى، لأن إطلاق ما يدل على الوجوب وإرادة الجواز منه من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء وإطلاق "ثم" وإرادة معنى "مع" من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء وإطلاق "ثم" وإرادة معنى "مع" من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء وإطلاق "ثم وإرادة معنى مع من قبيل إطلاق / (299/ب) اسم أحد الضدين على " الآخر وقد ثبت في اللغات أن الأول أولى. وثانيها: قوله تعالى:} آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت {وتفصيل

الآيات إنما هو تبيين معانيها، فيكون تبيين معاني الآيات متأخرا عنها وهو المطلوب، واعلم أن الاستدلال بهذه الآية إنما يتم بعد إثبات أمور ثلاثة: أحدها: أن تفصيل الآيات إنما هو تبيين معانيها وهو ممنوع ولم لا يجوز أن يكون المراد منه تبيين ما به تصير الآية آية، وهذا هو الظاهر، لأن الآية اسم للألفاظ المتلوة لا للمعاني، فتفصيل الآيات بأن يميز كل واحدة منها عن الأخرى، تبيين مواقفها ومقاطعها، ولو أطلقت الآية عى المعاني حيث أطلقت فإنما هو بطريق التجوز من قبيل إطلاق اسم الدليل وإرادة المدلول، وإذا احتمل أن يكون المدلول الحقيقي مرادا لم يجز المصير إلى المجاز إلا عند قيام دلالة على إرادة المجاز، لكن الأصل عدمه. وثانيها: أنا وإن سلمنا أن المدلول الحقيقي غير مراد، لكن لا نسلم أن ما ذكروه من المجاز مراد، ولم لا يجوز أن يراد من تفصيل الآيات تفصيلها في الإنزال؟ ويكون المعنى على هذا والله أعلم: أحكمت آياته في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في الإنزال، وهذا وإن كان إضمارا، وهو خلاف الأصل، لكن ما ذكروه أيضا كذلك فلم كان ذلك أولى. وثالثها: أنا وإن سلمنا أن ما ذكروه من المجاز أولى، لكن لا نسلم أنه يحصل منه المطلوب، وهذا لأن مقتضى الآية على هذا أن يكون تبيين معاني الآيات متأخرا عن أحكامها، وليس في ذلك ما يدل على أن تبيين معانيها متأخر عن نزولها فلعل الأحكام قبل الإنزال والتبيين والإنزال معا فحينئذ لا

يحصل المطلوب، ويمكن أن يقال في تقرير إثبات الأول أن قوله} أحكمت آياته {يدل على أنها آية عند الإحكام، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، فالتفصيل متراخ عنه فلا يجوز أن يحمل قوله:} ثم فصلت {على ما به تصير الآية آية، لئلا يلزم التناقض. وفي الثاني: إن "قيل" المجاز خير من الإضمار، فالأمر ظاهر وإن لم يقل به، فالحمل على ما ذكرناه من المجاز أيضا أولى، لأنه أكثر فائدة، بخلاف الحمل على الإضمار، فإن مقتضاه معلوم بالضرورة بقرينة الحال. وأما في تقرير الثالث: فلم يحضرنا ما يعول عليه. وثالثها: أن من المعلوم بالضرورة / (300/أ) بعد الاستقراء أن ما ورد من النصوص الدالة على الأحكام والأخبار على وجه الإجمال والعموم، لم يبين للرسول، ولا بينه الرسول عليه السلام لنا دفعة واحدة عند نزوله، بل على التدريج على حسب الحاجة، قال الله تعالى:} أقيموا الصلاة {، وقد بينه جبريل صلوات الله عليه للرسول بفعله في يومين في أوقاتها، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا بفعله، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقال تعالى:} وآتوا الزكاة {، ثم بينه الرسول بعد ذلك ببيان أصناف ما يجب فيه الزكاة نحو

الأنعام السائمة والذهب والفضة، وأصناف ما لم يجب فيه نحو الخيل والحمير والرقيق، والحلى، على ما هو مذكور في كتاب الصدقات وغيره، ومقدار الذي يجب فيه نحو قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، وقدر الواجب نحو قوله: "فيما سقت السماء العشر" الحديث و "هاتوا ربع عشور أموالكم" وعلى من تجب وفي أي وقت تجب

وغير ذلك من أحكامها، كنقلها من بلد إلى بلد فإنه ما بينه إلا حين بعث معاذا إلى اليمن، قال: "خذ من أغنيائهم ورد إلى فقرائهم" إذ لو بينه لاشتهر، وبالجملة يعلم المصنف من نفسه بعد الاستقراء أن الرسول

عليه السلام ما بين كل ذلك عند نزول قوله تعالى:} وآتوا الزكاة {، وكذا أحكام الحج من القرآن والتمتع، والإفراد، وغيرها ما بينها إلا بفعله وقوله بحسب الحاجة، لا عند نزوله قوله:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا {. وكذا أحكام البيع مما ثبت "فيه" من خيار المجلس والشرط وغيرهما من الأحكام، فإنه ما بينه حتى شكى إليه في قضية حبان بن منقذ إذ لو لم يوجد في الأحاديث ما يدل عليه سوى حديث حبان بن منقذ.

وكذا أحكام النكاح، وما يحل وما لا يحل وشرائط صحته كل ذلك ما بين عند نزوله قوله تعالى:} وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم {. وكذا أحكام الربا فإنه ما بين حكم العرايا إلا حين شكى محاويج الأنصار.

وما بين حكم بيع الرطب بالتمر حتى سئل عنه لا عند نزول قوله:} وحرم الربا {. وكذا أجكام الإرث، والسرقة، والزنا، والقصاص، فإنه ما بين قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وقوله: "لا توارث بين ملتين مختلفتين" وقوله: "القاتل لا يرث" و "الرقيق لا يرث ولا يورث"، عند نزول قوله:} يوصيكم الله في أولادكم {الآية. وكذا ما بين حكم إقرار / (300/ب) الزنا وغيره من الأحكام عند نزول آية الزنا.

وكذا لم يبين قوله: "لا قطع فيما دون ربع دينار" وقوله: "لا قطع من أقل من ثمن المجن"، وموضع القطع وأنه يكرر عليه القطع عند تكرر السرقة وغيرها من الأحكام، نحو بيان الحرز وعدم الشبهة في المال المسروق عند نزول قوله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {. وكذا لم يبين قوله: "لا يقتل والد بولده" و"لا يقتل مؤمن كافر" عند نزول قوله:} ولكم في القصاص حياة {، وقوله:} الحر بالحر {الآية. وكذا ما بين للرسول حكم خصوص قوله:} إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم {، عند نزوله حتى حاججه في ذلك ابن الزبعري على ما يذكر ذلك، وكذا غير ما ذكرنا من العمومات، والمجملات التي يطول ذكرها لم يقترن بيانها، ولا يجد المصنف من نفسه بعد الاستقراء إنكار تراخي البيان عن جميع هذه الصور، وإن كان يمكنه ذلك في بعض الصور، وكيف يمكن أن يقال: إن جميع هذه البيانات كانت مقرنة بتلك العمومات، والمجملات، ولم ينقل أحد من الرواة في واحد منها أنه عليه السلام ذكره عند نزول الآية الفلانية، مع أن من عادتهم نقل مثل ذلك فيما لا يتعلق به غرض، فكيف فيما يتعلق به غرض، ويثبت به الأصل عظيم مرجوع إليه في الأحكام، وهذا مسلك شريف يصلح أن يكون معمولا عليه في إثبات هذا الأصل. وإن كان كثير منهم لم يذكره فضلا على أن يكون معمولا عليه لهم

وقد احتج في المسألة بوجوه آخر عامة من المعقول: وهي ضعيفة نذكرها، ونذكر وجه ضعفها: أحدها: أنه يكون لو امتنع تأخير البيان لكان امتناعه، إما لذاته، أو لإفضائه إلى محال، وكل واحد منهما، إما أن يعرف بضرورة، أو بنظر. ودعوى الضرورة مدفوعة ومعارضها لمثلها، ودعوى النظر أيضا مدفوعة إذ ليس في أدلة الخصم ما يوجب امتناعه لما نجيب عنها والأصل عدم دليل آخر، وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز وهذا دليل استعمله القاضي أبو بكر رحمه الله تعالى في مسائل وعول عليه. واعترض عليه: أنه لا يلزم من عدم وجدان الدليل عدم الدليل، والتمسك بالأصل ضعيف إذ المسألة علمية، غير آيلة فائدتها إلى العمل إذ لا عمل قبل حضور وقت العمل. سلمنا: أنه يدل على عدمه، لكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول / (301/أ) فلا يلزم من عدم دليل الإحالة عدم الإحالة حتى يلزم منه ثبوت الجواز. وثانيها: أنه لو لم يجز تأخير البيان فإنما لم يجز، لأنه لا يمكن بدونه الامتثال، وهذا المعنى بعينه حاصل في القدرة والآلة، فإنه لا يمكن

الامتثال بدونهما فوجب أن لا يجوز تراخي تحصيلهما عن وقت الخطاب واللازم باطل وفاقا فالملزوم مثله. وهو أيضا ضعيف لأنا لا نسلم أنه لا يجوز لما ذكروه، بل الظاهر أنه لا يجوز أن يكون لذلك، لأن الامتثال غير مطلوب وقت الخطاب، ولذلك لم يعتبر حصول القدرة وتيسير الآلة فيه فلا يكون إمكانه فيه معتبرا فلا يشترط حصول ما يتوقف عليه بإمكانه، بل إنهما لك يجزا إما لإفضائه إلى التجهيل، أو لكونه تكلما بما لا فائدة فيه ومع وجود الفارق المناسب لا يضاف الحكم إلى المشترك. وثالثها: أنه لو امتنع تأخير البيان إلى وقت الحاجة لامتنع البيان لكلام طويل وفعل طويل، وامتنع تأخيره بزمان قصير، وإن تبين "حمله" بعد أن يعطف عليها "جملا أخر" لأن كل ما يذكرونه من تجهيل، والتكلم بما لا فائدة فيه حاصل فيه لكن اللوازم ممتنعة وفاقا فالملزوم مثله. وهو أيضا ضعيف، لأن الخصم إنما يجوز البيان بكلام طويل

وبفعل طويل إذ لم يكن البيان إلا بهما، أو كانت فيه مصلحة ظاهرة، لا تحصل في الكلام القصير والفعل والقصير. "قلنا". إذا لم يكن كذلك فلا نسلم جوازه وحينئذ لم يكن البيان متأخرا وإن كان متأخرا بزمان يسير "لكن" فيه مصلحة ظاهرة تربو على مفسدة التأخير اليسير، فلا يلزم من امتناع تأخير البيان امتناع البيان بالكلام الطويل والفعل الطويل، وأما تأخيره بزمان قصير بحيث لا يعد انقطاعا عن الكلام الأول فإنما تجوز، لأن ما هو علة المنع في التأخير بالزمان الطويل، وهو التجهيل والتكلم بما لا فائدة فيه غير حاصل في التأخير بالزمان القصير على ما ذكرنا من التفسير، لان السامع لا ينبغي له أن يعتقد ظاهر الكلام قبل تمامه فلا ينبغي له أن يعتقد ظاهر الكلام في ذلك الزمان القصير، لجوزا أن يأتي المتكلم باستثناء، أو شرط، أو يعقبه بصفة تصرفه عن ظاهره، فإن اعتقد ذلك كان "ذلك" تقصيرا منه، وحينئذ لم يكن ذلك القدر من التأخير منشأ للجهل ولا كان التكلم بالمجمل لغوا، لجواز / (301/ب) أن يأتي ببيانه فيه فيكون مع الأول كالكلام الواحد فيخرج عن أن يكون لغوا لخلاف الفصل بالزمان الطويل، لأن ما يأتي بعده ليس معدودا من الكلام الأول، فيكون الأول تجهيلا ولغوا وبه أيضا خرج الجواب عن الأخير، لأن الجمل المعطوف بعضها على بعض تصير كالجملة الواحدة فلم يكن البيان

متأخرا في الحقيقة عن الجملة التي هو بيانها وهذا على رأي من يجعل الاستثناء المذكور عقيب الجمل راجعا إليها بأسرها ظاهرا جدا. ورابعها: أنه لو لم يجز تأخير البيان فإنما كان ذلك لعدم تبين المكلف المراد من الخطاب، وذلك يقتضي قبح الخطاب الذي لا يتبين المكلف المراد منه إذا تبين له إذ لا فرق في حصول مفسدة عدم التبين بين أن يكون بسبب المخاطب، وبين أن يكون بسبب المخاطب ولهذا يسقط التكليف عن الإنسان سواء قتله غيره أو قتل نفسه، لكنه باطل وفاقا، فكذا ما يقتضيه، لأن ما يقتضي الباطل باطل. وهو أيضا ضعيف لأن عدم التبين بسبب تأخير البيان منسوب إلى تقصير المخاطب فيناسب أن يؤثر في تقبيح خطابه الذي هو فعله، وأما عدم التبين مع وجود البيان فمنسوب إلى تقصير المخاطب فلا يناسب أن يؤثر في تقبيح الخطاب الذي هو فعل الغير، وأما سقوط التكليف عن الإنسان بسبب القتل فإنما كان ذلك لفقد شرط التكليف، وهو التمكن من الامتثال، ولا يفترق الحال فيه بين أن يكون بفعله أو بفعل غيره. وأما الدليل الخاص بكل واحدة من تلك الصور، فالذي يدل على جواز تأخير "بيان المخصص وجوه":

أحدها: لما نزل قوله تعالى:} إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون {. قال عبد الله بن الزبعري لأخصمن محمدا عليه السلام ثم أتاه وقال: أليس أن الملائكة قد عبدت، والمسيح قد عبد أفتراهم حصب جهنم؟ والنبي عليه السلام لم ينكر عليه ذلك وسكت حتى أنزل الله تعالى] بعد [ما شاء الله في بيان ذلك قوله:} إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون {ولو لم يجز تأخير بيان التخصيص لما جاز تأخيره عن وقت الخطاب بالأول. فإن قلت: لا نسلم أن الآية متناولة للملائكة والمسيح حتى يلزم من تأخير قوله تعالى:} إن الذين سبقت لهم منا {الحسنى (302/أ) الآية عنها تأخير بيان التخصيص، وهذا لأن كلمة "ما" لمن لا يعقل لوجهين: أحدهما: ما روى أنه عليه السلام قال: لابن الزبعري حين أورد عليه ما أورد "ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن "ما" لما لا يعقل و"من" لما يعقل".

وثانيهما: النقل عن أئمة اللغة أنهم قالوا إن "ما" لما لا يعقل ثم الذي يؤكد أن قوله تعالى:} إنكما وما تعبدون من دون الله {غير متناولهم هو أنه خطاب مع العرب، وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة عليهم السلام، يل كانوا يعبدون الأوثان. سلمنا: التناول لكن المخصص كان حاصلا معها، وهذا لأن التخصيص بدليل العقل جائز، على ما تقدم تقريره، وقد دل العقل هنا على أنه لا يجوز أن تكون الملائكة والمسيح مرادين من الآية، لأن تعذيب أحد بذنب صادر عن غيره لا يجوز وإنما سكت الرسول عنه لو صح أنه سكت، لتأكيد الدليل العقلي بالنقلى، لا يقال: ما ذكرتم من المخصص في حقهما فهو بعينه قائم في حق كل معبود سوى الله تعالى، إذ الذنب صادر من العابدين دونهم فلم يجز تعذيبهم، وهو ترك مقتضى النص بالكلية وتعطيل له فكان

باطلا، لأنا نقول: لا نسلم أنه قائم في حق كل معبود سوى الله تعالى، بل إنما هو قائم في حق معبود يتألم بالتعذيب ولم يكن داعيا لهم إلى عبادة نفسه ولا راضيا بها، فاما من يكن كذلك كالأصنام التي لا تتألم بالإلقاء في النار، وإنما يلقى فيها لتعذيب عابديها لا لتعذيبها، والمعبودين الذين دعوا الناس دعوا الناس إلى عبادة أنفسهم ورضوا بذلك، فليس هو بعينه قائما في حقهم إذ العقل لا يأبى إلقاء الأصنام في النار، لتعذيب المشرك ولا تعذيب من دعا إلى الشرك أو رضي به، وحينئذ لم يلزم الترك بمقتضى الآية بالكلية، بل إنما يلزم تخصيصها لا غير. سلمنا: عدم المخصص العقلي، لكن المخصص الشرعي كان حاصلا معها وتقريره من وجهين: أحدهما: أنه ورد في القرآن في مواضع} ولا تزر وازرة وزر أخرى {ومن البعيد أن يقال: إن الكل كان متأخرا عن هذه القضية. وثانيهما: أنه قد علم بالضرورة من دينه عليه السلام تعظيم الملائكة والمسيح وأنهم من العباد المكرمين، وذلك ينفي أن يكونوا حصب جهنم. سلمنا: عدمه أيضا: لكن ما ذكرتم خبر واحد، والمسألة علمية، فلا يجوز إثباتها به.

قلت: الدليل على أن الآية متناولة لهم، هو أن المذكور / (302/ب) في الآية كلمة "ما" وهي متناولة للعقلاء وغيرهم، ويدل على وجوه: أحدها: الاستعمال قال الله تعالى:} وما خلق الذكر والأنثى {،} والسماء وما بناها والأرض وما طحاها {} لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد {وهو دليل الحقيقة، فيكون حقيقة فيه وإلا لزم التخلف وهو خلاف الأصل. وثانيها: اتفاق أهل العربية على ورود "ما" بمعنى "الذي" وهو متناول للعقلاء وغيرهم وفاقا فكذا "ما". وثالثها: أن ابن الزبعري كان من الفصحاء والبلغاء وهو فهم دخولهم تحته، فلو لم تكن كلمة "ما" متناولة لهم لما فهم ذلك. ورابعها: أنه عليه السلام قرره عليه وما رده عليه، ولو لم تكن متناولة لهم لما قرره عليه. وخامسها: "أنها" لو لم تكن متناولة لمن يعلم لم يكن لقوله:} من دون الله {فائدة، لأنه إنما يحتاج إلى الإخراج حيث يتحقق التناول فأما حيث لم يتحقق ذلك لم يحتج، "إليه" لا يقال: لا نسلم أنه لم يكن له فائدة، بل فائدته التأكيد. لأنا نقول: التأكيد هو تقوية للمفهوم الأول، وهو غير مقوي للمفهوم

الأول بل يناقضه، لان اللازم من مفهوم قوله:} إنكم وما تعبدون {من حيث إنما لا يتناول من يعلم أن لا يدخل معبود يعلم تحته بناء على أنه بقى على الحكم الأصلي، واللازم من مفهوم قوله:} من دون الله {دخوله غيره تعالى من المعبودين تحته، سواء كان من يعلم أو لا يعلم، لأنه جاري مجرى الاستثناء فيفيد ما ذكرنا، وما يخالف الشيء ويناقضه لا يكون مقويا له، نعم: هو يقوي بعض ما فهم من الأول، لكن على وجه يخالف مقتضاه في الباقي، وذلك لا يسمى تأكيدا. سلمنا: أنه يصلح أن يكون تأكيدا له حينئذ، لكنه خلاف الأصل، إذ الأصل الحمل على الفائدة التأسيسية. وسادسها: أنه لو قال: "مالي صدقة" دخل فيه الرقيق وغيره، وكذا لو قال: ما في بطن جاريتي "فهو" حر، صح وعتق عليه ما فيه من الذكر والأنثى، والأصل عدم استفادته من القرينة. ] وأما [قوله في الوجه الأول: روى أنه عليه السلام قال لابن الزبعري: "ما أجهلك بلغة قومك".

"قلنا"/ لم يثبت ذلك وهو الظاهر، إذ لو ثبت ذلك لزم مخالفة الأصل فيما ذكرنا من الاستعمالات، وفي قوله:} من دون الله {، وفي قوله:} إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون {من وجهين / (303/أ) إذ تأكيد التأكيد خلاف الأصل من وجهين. هذا لو سلم أنهما تأكيدان فإن الأغلب في الكلام تأكيد ما هو المقصود من اللفظ بالدلالة الوضعية، لا تأكيد ما لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات، وهو باق على حكم الأصل وتكذيب ما أطبق عليه جماهير المفسرين: من أنه عليه السلام ما أمكر عليه، وسكت حتى أنزل الله تعالى قوله:} إن الذين سبقت لهم منا الحسنى {الآية، والإثبات إنما يقدم على النفي لو لم يكن مضبوطا ومستفادا من صدق ثبوتي، أما إذا كان أحدهما فلا، وتخطيئه فهم ابن الزبعري مع أنه كان من الفصحاء والبلغاء. وقوله: في الوجه الثاني: نقل عن أئمة "العربية" أنهم قالوا: "ما" لما لا يعقل.

قلنا: عن كلهم، أو "عن" بعضهم. والأول: ممنوع فإن الأكثر منهم على أنها عامة ممن يعقل وغيره. والثاني: مسلم لكن لا حجة فيه. قوله: إن العرب ما كانوا يعبدون الملائكة والمسيح. قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا فإن الرواية مشهورة، بأنه كان فيهم من كان يعبد الملائكة والمسيح. قوله: المخصص العقلي قائم. قلنا: التخصيص بالعقل وإن كان جائزا، لكن لا نسلم أن المخصص العقلي قائم، وهذا لأن حكمه في هذا المقام غير معتبر عندنا، لأنه لا يحسن ولا يقبح. سلمنا: اعتباره لكنه متى يحكم بذلك إذا لم يكن ذلك الغير داعيا إلى ذلك لذنب وراضيا به أو مطلقا. والأول: مسلم. والثاني: ممنوع، فيجوز أن يتوهم متوهم رضاهم في ذلك فيصح السؤال.

وما قيل: عليه بأن أحدا من] العقلاء [لم يخطر بباله ذلك. فضعيف جدا، إذا امتناعه ليس ضروريا بحيث لم يخطر ببال أحد. وكيف يقال ذلك وقد قال تعالى:} وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله {لو كان ذلك مما لم يخطر بالبال لم يكن لهذا القول فائدة. وأيضا: فإن طائفة من العقلاء يجوزون الكبائر على الأنبياء، ثم منهم من يرى التكفير بذلك. ومنهم من لم ير ذلك والرضاء بالكفر لا يزيد على الكفر، فكيف

يقال: إنه لم يخطر ببال أحد من العقلاء ذلك؟ وبه خرج الجواب عن المخصص الشرعي أيضا، فإن على تقدير الرضاء بذلك هو معذب بوزر نفسه لا بوزر غيره، وكونهم مكرمين ومعظمين معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام لا ينفي أن يتوهم] متوهم [ذلك فيهم من ليس على الدين أو من هو عليه، لكنه / (303/ب) يعتقده بسبب جريمة صادرة "عنهم" والتكريم إنما هو عند عدمها. قوله: إنه خبر واحد. قلنا: لا نسلم، فإن المفسرين اتفقوا عليه وذكروه في سبب نزول هذه الآية وذلك يدل على أنه مقطوع بصحته. سلمنا: أنه خبر واحد، لكن سبق جوابه فيما سبق من الكلام في الأوامر. وثانيها: التمسك بقصة نوح عليه السلام فإنه تعالى وعده بأن ينجيه وأهله، وهو كان يظن أن ولده من أهله، وأنه داخل تحت قوله:} وأهلك {ولم يتبين له أنه ليس من أهله حتى قال:} إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق {.

ومن المعلوم أنه ما كان سؤاله عليه السلام متصلا بقوله:} وأهلك {حتى يقال: إن الفصل كان بزمان قصير، وهو] جائز [وفاقا، كما هو في قصة لوط عليه السلام إذ الملائكة صلوات الله عليهم لما قالوا لإبراهيم عليه السلام:} إنا مهلكوا أهل هذه القرية {ولم يبينوا إخراج لوط عليه السلام ومن معه من المؤمنين. قال: لهم إبراهيم عليه السلام عقيبه:} إن فيها لوطا {فبعد ذلك} قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله {فبذلك سقط الاستدلال بتلك القصة لا بأن البيان كلن مقترنا معه بقولهم:} إن أهلها كانوا ظالمين {. من حيث إنه لا يدخل تحته إلا من كان ظالما لوجهين: أحدهما: أنه يلزم] أنه [عليه السلام ما كان تبين ذلك البيان، أو وإن تبينه لكنه أراد التصريح بذلك للتأكيد، وهو بعيد جدا. ثانيهما: أنه لم يصلح بيانا لنجاته عليه السلام ومن معه من المؤمنين، لأن جزاء عقوبة الظالمين قد تكون بحيث تعمهم وغيرهم قال الله تعالى:

{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة {، وإذا كان كذلك يصلح بيانا لنجاتهم. لا يقال: إن ما ذكرتم من قصة نوح عليه السلام ليس من قبيل تخصيص العام، لأنه إذا لم يكن ولده من أهله لقوله تعالى:} إنه ليس من أهلك {، "لم يكن قوله وأهلك متناولا له فلم يمكن خروجه عن مقتضاه تخصيصا له، لأنا نقول: ليس معنى قوله:} إنه ليس من أهلك {أنه ليس مما يصدق عليه الاسم من حيث الوضع كما قال: البليد ليس من الحمار بالمعنى المذكور، بل معناه إن شاء الله تعالى أنه ليس من أهلك" في الحقيقة، وإن كان هو في الظاهر معدودا من أهلك، وهذا كما يقال: لمن يشاققك ويخالفك من أولادك: أنه ليس من أولادك، لأن ما هو المطلوب من الشيء إذا لم يكن فيه كان وجوده كعدمه، أو أنه ليس من أهلك الموعودين بالنجاة. إذ النجاة كانت موعودة للمؤمنين لا غير، وهذا على قراءة من قرأ: (إنه

عمل غير / (304/أ) صالح ظاهر جدا، لأنه يرى أنه كان من أولاده، وإنما هلاكه وعدم نجاته لأجل الكفر، فيكون الاسم صادقا عليه باعتبار ما هو الأمر في نفسه، وباعتبار ما هو في الاعتقاد. وأما على قراءة من قرأ:} إنه عمل غير صالح {على المصدر، فهو وإن كان يزعم أنه ما كان من أولاده فلا يكون الاسم صادقا عليه بطريق الحقيقة في نفس الأمر، لكنه يعترف أنه صادق عليه باعتبار ما في الاعتقاد وقد ذكرنا أن دلالة الألفاظ على المعاني فإنما هو باعتبار ما هي في الاعتقاد، لا باعتبار ما هي في نفس الأمر، سواء كان ذلك بالنسبة إلى المتكلم، أو بالنسبة إلى السامع، لأن السامع لا يحمل اللفظ إلا على ما يعتقد أنه حقيقة فيه لا على ما هو حقيقة فيه في نفس الأمر، فتحقق عمومه بالنسبة إلى فهمه عليه السلام، فتأخير بيانه تأخير بيان التخصيص. ولو سلم أنه ليس بعام حينئذ، لكن ما لأجله امتنع تأخير بيان التخصيص، هو كونه منشأ للجهل قائم هنا فإنه إذا اعتقد أنه من أهله وقد وعده بنجاة

أهله، ولم يبين له أنه ليس من أهله كان ذلك منشأ للجهل. واعلم أن بعض من اشتهى أن يكون أصوليا: فهم وجه التمسك بقصة نوح عليه السلام على نمط آخر، وهو أن قول الله تعالى:} إنه ليس من أهلك {سلب للأهلية، وقوله:} إنه عمل غير صالح {: بيان له، وقد أخره عنه ولهذا اعترض عليه وقال: إنه فاسد إذ لم يثبت أن قوله تعالى:} إنه عمل غير صالح {، قد انفصل عن قوله تعالى:} إنه ليس من أهلك {إلى وقت الحاجة وتجويز الاقتران لا تقوم حجة. ولا يخفى عليك سخافة ما فهمه وضعف ما تحيله. وثالثها: أنه تأخر بيان تخصيص قوله تعالى:} وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم {إلى حين شكاية الضعفاء، لأن قوله} ليس على الضعفاء ولا على المرضى {الآية، نزل بعدها، وليس كل ضعيف ومريض يمتنع منه

الجهاد، حتى يقال باستحالة تكليفهم بذلك، لاستحالة تكليف ما لا يطاق. حتى يلزم أن يكون البيان مقارنا، لأن بعض من يصدق عليه الاسم يتأتى منه الجهاد، ويحصل به تكثير السواد ومعاونة للمقاتلين والخروج لهذا الغرض جهاد أيضا، ولهذا يستحق السهم من شهد الوقعة ولم يقاتل. ورابعها: التمسك بقوله تعالى:} واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه {الآية. ووجه الاستدلال من وجهين: أحدهما: أنه/ (304/ب) يقتضي أن خمس جميع الغنيمة مصروف إلى الله والرسول والمذكورين بعد، لكن المراد منه ما وراء السلب، وقد بينه الرسول عليه السلام بعده، وإلا لما كان تقدم إخراج السلب للقاتل على الخمس. وثانيهما: أنه يقتضى أن حصة ذوي القربى من الخمس مصروف.

لجميعهم ثم بين الرسول بعده أن المراد منه "بنو هاشم" وبنو المطلب، دون بني أمية وبني نوفل بما أنه لم يعطهم من الخمس شيئا وسئل في ذلك فقال: "أنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه".

وخامسها: وهو أنه لو لم يجز تأخير بيان التخصيص "لما جاز تأخير بيان النسخ لأن عدم جواز تأخير بيان التخصيص" إنما كان لأجل أنه منشأ للجهل، إذ المقتضى للعموم إذا كان قائما فلم يرد مقتضاه ولم يبين المكلف ذلك كان ذلك سببا لأن يعتقد المكلف العموم الذي هو غير مراد، وهو جهل، وهذا المعنى بعينه قائم في النسخ، فوجب أن لا يجوز لكن

اللازم باطل بالاتفاق فالملزوم مثله. فإن قلت: الفرق بينهما من وجوه: أحدها: أن النسخ عبارة عن الرفع، وارتفاع حكم الخطاب الذي أريد نسخه معلوم لعلمنا بانقطاع التكليف، وليس كذلك العام المخصوص. وثانيها: أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف من العمل في الحال، وأما احتمال التخصيص في الحال فيمنعه من العمل "به"، لأنه لا يدري أنه هل هو مراد من الخطاب أم لا؟ وثالثها: أن تأخير بيان التخصيص مما يوجب الشك في أن كل واحد من أفراد العام، هل هو مراد من الخطاب أم لا؟ بخلاف تأخير بيان النسخ فإنه لا يوجب ذلك، إذ النسخ قبل حضور وقت العمل غير جائز عندنا. قلت الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أن العام المخصوص ليس كذلك وهذا لأن انقطاع حكمه عن المكلف بموته أيضا معلوم كما في

المنسوخ، وكما أن هذا لا يسمى تخصيصا، فكذا ما ذكروه من الارتفاع أيضا لا يسمى نسخا، لأن ارتفاع الحكم بسبب انتفاء الشرط ليس بنسخ، وكما أن ذلك الانقطاع ليس على وجه يوافق التخصيص، إذ الحكم في صورة التخصيص غير ثابت أصلا و] لارتفاع [الانقطاع بسبب الموت إنما هو بعد ثبوته فكذا ارتفاع حكم الخطاب المنسوخ بسبب الموت "ليس" على وجه يوافق النسخ، لأن نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به لا يجوز عند الخصم وموت المكلف قبل حضور وقته جائز وفاقا، فلا فرق بينهما من جهة / (305/أ) ارتفاع الحكم بسبب الموت. سلمنا: حصول ما ذكروه من الفرق كنه غير قادح، لأن الموجب لعدم جواز تأخير بيان التخصيص وهو أن تأخيره سبب للجهل، لما سبق تقريره: وهذا المعنى بعينه قائم في النسخ، فإن الخطاب المنسوخ يفيد دوام شرعية الحكم في كل الأزمنة، إذ الكلام مفروض فيما إذا كان الخطاب كذلك فإذا خرج عنه ما بعد الموت لاستحالة تكليف الميت بقى ما عداه مندرجا تحته لئلا يلزم الترك بمقتضى الدليل بلا معارض، فلو كان شيء من ذلك الزمان غير مراد من الخطاب مع أنه مقتضى له ولم يبين ذلك لزم الجهل، فلزوم الجهل الذي هو المحذور مع العلم بارتفاع حكم الخطاب عن بعض الأزمنة في المنسوخ،

كما هو مع عدم العلم به عن بعض الأعيان في المخصوص فلا يكون لعدم العلم به مدخل في تقبيح تأخير البيان فلا يكون العلم به سببا لزوال ذلك الاستقباح. وعن الثاني: أنه إن عنى أن احتمال التخصيص في الحال يمنع المكلف من العمل في الحال فمسلم لكنه ليس وقت العمل حتى يحتاج إلى معرفته، وإن عنى أنه يمنعه منه في وقته فممنوع، وظاهر أنه لا يمنعه فإنه وإن جهله في الحال لكنه يعرفه "في" ثاني الحال، والعجب من القاضي عبد الجبار كيف عول على هذا الفرق ويتبجح به، مع ضعفه جدا. وعن الثالث: أنا لا نسلم أنه يوجب الشك، وهذا لأن الغالب احتمال الإرادة نظرا إلى المقتضى، والتخصيص إنما هو محتمل احتمالا مرجوحا. وإن قال: هب أنه لا يوجب الشك، وأنه يوجب الاحتمال المرجوح، كما ذكرتم لكن "تأخير" بيان النسخ لا يوجب ذلك. قلنا: مسلم وأي شيء يلزم منه ومن أين يناسب هذا قبح تأخير بيان التخصيص دون النسخ. وإن قال: إن تطرق احتمال الجهل في التخصيص حينئذ يكون أكثر.

قلنا لا نسلم ذلك، بل هما يتساويان في ذلك أو إن احتمال تطرق الجهل في صورة النسخ أكثر، وهذا لأنه أن جوز التخصيص إلى الواحد لزم الأول، لأنه حينئذ يقطع بإرادة واحد من أفراد العام منه كما يقطع بإرادة أول الوقت في المنسوخ غير أن الأولية كما كانت معقولة متميزة في صورة النسخ، ضرورة أنه لا وجود لأجزاء الزمان معا تعين الأول للإرادة، بخلاف صورة التخصيص فإنه لا يتعين فيه فرد من أفراده لعدم الأولوية، والأولية وإن لم تجوز ذلك بل لا بد من إبقاء عدد كثير أو أقل الجمع لزم الأمر الثاني، فإنه لا يجب في صورة النسخ إلا إبقاء الوقت الأول وفي صورة التخصيص يجب إبقاء / (305/ب) العدد الكثير أو أقل الجمع فيكون احتمال تطرق الجهل في صورة النسخ أكثر، هذا إن أراد بقوله: إن تأخير بيان التخصيص يوجب التردد في إرادة كل واحد من أفراد العام بإيجاب التردد على سبيل البدلية وهو الظاهر. أما إذا أراد إيجابه على المعية منعنا المقدمة وإفسادها حينئذ بين إذ التخصيص إلى حد لا يبقى واحد مندرجا تحت العام غير جائز وفاقا. واعلم أن هذا الدليل إنما هو حجة على من سلم من المخالفين جواز تأخير بيان النسخ نحو أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد] الجبار [والجماهير منهم. فأما على رأي أبي الحسين البصري ومن وافقه على أنه لا يجوز تأخير بيان

النسخ أيضاً فلا. واعلم أيضا: أنه يمكن إيراد هذا الدليل على وجه يتناول كل الصور على ما لا يخفى عليك تقريره، لكن إنما أوردناه في هذه الصورة الخاصة لما بين التخصيص والنسخ من زيادة المناسبة. وسادسها: أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال باللفظ العام وبموت كل واحد منهم قبل حضور أوقاتها، وحينئذ يكون غير مراد من الخطاب لا سيما على أصل الخصم، وفي ذلك شكنا فيمن أريد بالخطاب وهو تخصيص لم يتقدمه بيان. وهذا كما هو دليل في المسألة فهو نقض "أيضا" لما ذكروه من الفرق الثالث. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن هذه تخصيص، وهذا لأنه يجوز أن يموت كلهم جميعا قبل حضور وقت العمل وفاقا، فلو كان ذلك تخصيصا لما جاز ذلك كما لا يجوز إخراج جميعهم عنه "وفاقا".

وأما الذي "يدل" على جواز تأخير بيان النكرة إذا أريد بها شيء معين فقصة بني إسرائيل فإن الله تعالى أمرهم بذبح بقرة معينة، ولم يبينها لهم حتى سألوا تعيينها سؤالا بعد سؤال. وإنما قلنا: إنهم أمروا بذبح بقرة معينة لوجوه: أحدها: أن الضمائر الستة التي في السؤال والجواب وهي:} ما هي {} ما لونها {} ما هي إن البقر تشابه علينا {} إنها بقرة لا فارض {} إنها بقرة صفراء {} إنها بقرة لا ذلول {. ضمائر ما أمروا بذبحه أولا: لأنها لم لو تكن ضمائره لكانت إما ضمائر القصة والشأن أو غيرها وهما باطلان. أما الثلاثة التي في السؤال فظاهر أنها ليست ضمائر القصة والشأن، لأنها مع ما صريحه في الطلب، وضمير القصة والشأن ليس فيه معنى الطلب، وأيضا: فإن القصة والشأن غير مذكور بعدها، وما يكون ضمير القصة والشأن فإن القصة والشأن مذكور بعده. قال الله تعالى: {قل هو الله أحد}

{فإنها لا تعمى / (306/أ) الأبصار {} إنه لا يفلح الظالمون {وأمثالها كثيرة، وكذا ليست هي ضمائر غير القصة، لأنه غير مذكور فعودها إليه خلاف الظاهر. وبهذا أيضا يعرف أنها غير عائدة إلى القصة والشأن، إذ القصة والشأن غير مذكور. وأما الثلاثة التي في الجواب أيضا: لا يجوز أن تكون كذلك، أما ما يخص أنها لا يجوز أن تكون ضمائر القصة والشأن، فلأنها لو كانت كذلك لزم أن يكون ما بقي بعدها غير مفيد إلا بإضمار إذ لا يتم الكلام بالموصوف والصفة، والإضمار خلاف الأصل، فما يستلزمه أيضا خلاف الأصل. وأما ما يعمها فلأنه إذا ثبت أن الضمائر التي في السؤال عائدة إلى ما أمروا به أو لا، لزم أن تكون التي في الجواب عائدة إليه لوجوب مطابقة الجواب للسؤال، ولأن القصة والشأن وغيرها غير مذكور، فعودها إليه خلاف الظاهر. وثانيها: أن الصفات المذكورة في الجواب بعد السؤال الأول، إما أن يقال أنها صفات البقرة التي وجبت أولا، أو صفات بقرة أخرى وجبت بعد ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا أولا، لاحتمال أن يقال: أنه يغير مصلحة التكليف بسبب السؤال.

فإن كان الأول: فقد لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا يتأتى فيه السؤال المذكور. وإن كان الثاني: فهو وإن كان خلاف الظاهر لا يستلزمه النسخ لكن المقصود أيضا حاصل على هذا التقدير، وذلك لأن الترديد المذكور بعينه آت فيه، بأن يقال: الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني، إما أن تكون صفات البقرة المذكورة في الجواب عن السؤال الأول: التي بها انتسخت البقرة المذكورة ابتداء، أو صفات بقرة أخرى وجبت بعد السؤال الثاني: لما سبق. فإن كان الأول: فالصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثالث، إما أن يكون صفات تلك البقرة، أو صفات بقرة أخرى وجبت بعد ذلك السؤال، وانتسخ ما أوجب في الجواب عن السؤال الثاني. فإن كان الأول: لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب. وإن كان الثاني: لزم أن لا يعتبر جميع الصفات المذكورة في الأجوبة الثلاثة في البقرة المأمور بها، وهو خلاف الإجماع. وإن كان الثاني: فسواء كانت الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثالث، صفات تلك البقرة أو لم تكن، فإنه يلزم أن لا يعتبر جميع الصفات المذكورة في الأجوبة بأسرها في البقرة المأمور بها، وهو خلاف الإجماع. وما قيل / (306/ب): بأنه يحتمل أن تكون البقرة المطلقة نسخت بالبقرة المتصفة بالصفات المذكورة أولا: ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة ثانيا.

فضعيف: لأنه إن ساغ هذا الاحتمال في بقية الصفات فليسغ في الصفات المذكورة أولا، من غير إلزام نسخ فإنه ليس في اعتبارها إلا إزالة حكم للإطلاق، وهو بعينه حاصل في اعتبار الصفات المذكورة ثانيا وثالثا، فإن البقرة الموصوفة بالصفات المذكور أو "لا" كالمطلقة بالنسبة إلى المذكورة باعتبار الصفات المذكورة ثانيا وثالثا، ولأن ظاهر قولهم:} قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي {و} ما لونها {و} ما هي إن البقر تشابه علينا {وقوله تعالى:} إنها بقرة لا فارض {،} إنها بقرة صفراء {} إنها بقرة لا ذلول {ينفي هذا الاحتمال. وبهذا يعرف أيضا ضعف هذا الاحتمال بالنسبة إلى كل الصفات كما ذكره الإمام عن الخصم على وجه الاحتمال. وثالثها: لو كانت البقرة منكرة لما سألوا تعيينها سؤالا بعد سؤال، لأن اللفظ بظاهره يدل على التنكير، والأصل عدم وجوب ما عدا ما دل عليه اللفظ، كيف والتنكير على هذا التقدير عليهم أسهل، إذ كان يجزيهم

على هذا التقدير ذبح أية بقرة كانت، والظاهر من حال الإنسان محبة سهولة التكليف عليه لا سيما في مثل هذا التكليف، فاستقصاؤهم في طلب صفاتها لا يكون عن هوى القلب، بل لكونها كانت معينة وهو المطلوب. ولقائل أن يقول عليه: إنما ذكرتم يدل على أنهم أشعروا بالتعيين قبل طلب البيان، وإلا لما طلبوا التعيين لكونه خلاف الظاهر كما ذكرتم، وهو إنما يطلب عنه قيام الدليل عليه، فذلك الإشعار إن كان على وجه حصل فيه البيان التام لكنهم إنما لم يتبينوا لبلادتهم فطلبوا زيادة الاستكشاف فقد سقط الاستدلال به بالكلية، وإن كان على وجه لم يحصل فيه ذلك، بل ليس فيه إلا الإشعار بأن المراد منه المعين، فذلك يكون بيانا إجماليا، وحينئذ يسقط الاستدلال به أيضا. على من يقول: بجواز تأخير البيان التفصيلي دون الإجمالي كأبي الحسين البصري وغيره. ولا يجاب عنه بما أجاب الإمام به: وهو أنه لو كان البيان مقارنا لذكر الله تعالى إزالة التهمة. لأنه إنما يجب ذلك لو لم يكن عليه دليل، أما إذا كان فلا. وما ذكرناه دليل عليه، وإذا كان طلب الإشعار بالتعيين متقدما على البيان

لم يمكن الاستدلال بطلب البيان على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لجواز أن يكون مقارنا. وأما أنه تعالى لم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال، فذلك / (307/أ) ظاهر معلوم من صريح ذكر القصة. فإن قلت: الآية متروكة الظاهر، لأنها تقتضي جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح البقرة كانوا محتاجين فيه إلى الذبح، فتأخيره عنه تأخير عن وقت الحاجة، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كانت متروكة الظاهر لم يمكن الاستدلال بظاهرها. سلمنا: أنها ليست متروكة الظاهر، لكن ما ذكرتم معارض بوجوه آخر: أحدها: أن ظاهر قوله تعالى:} إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {يدل على أنها كانت منكرة غير معينة، والقول بالتعيين مخالفة لظاهر الآية فكان باطلا. وثانيها: أنه لو كان المراد منها بقرة معينة، لما استحقوا التعنيف على طلب البيان، بل كانوا استحقوا المدح عليه إذ هو سعي في الامتثال، فلما عنفهم الله تعالى بقوله:} وما كادوا يفعلون {، دل ذلك على أن ما أتوا به ليس سعيا في الامتثال، بل هو تأخر فيه، وذلك إنما يكون لو كانت البقرة منكرة. وثالثها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لو ذبحوا

أية بقرة أرادوا لأجزت عنهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". قلت: الجواب عن الأول من وجهين:

أحدهما: أنا لا نسلم أنها تقتضي ما ذكرتم، قوله: إنهم كانوا محتاجين إلى الذبح وقت الأمر. قلنا: احتياجهم إليه لاقتضاء الأمر الذبح في ذلك الوقت أو لغيره نحو اشتهائهم وإرادتهم الفعل في ذلك الوقت. والأول: ممنوع. وهذا لأن مطلق الأمر ليس للفور عندنا: حتى يكون الذبح في وقت الأمر مقتضاه. والثاني: لو سلم فإنه لا يضرنا إذ لا يعتبر في تعيين وقت المأمور به إرادة المأمور. فإن قلت: هب أن الأمر ليس مقتضاه الفور، لكن لا خلاف في أنه يفيد جواز الفعل عقيبه، فتأخير بيانه عنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة. قلت: إنما يفيد جوازه فيه أن لو كان مبينا وأما إذا كان غير مبين ففعله غير

متصور فيه، فكيف يفيد جوازه فيه؟ سلمنا: ذلك لكن الوقت الذي لا يجوز تأخير البيان عنه هو الوقت الذي "لو" أخر الفعل عنه لفات سواء كان واجبا أو لم يكن وسواء أمكن قضاؤه أو لم يمكن، فأما الوقت الذي يجوز الفعل فيه ولا يفوت بفواته فلا نسلم أنه لا يجوز تأخير البيان عنه. وثانيهما: أنا لو سلمنا: أن ذلك مقتضاه، لكن نقول: إن ما دل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة دل على جواز تأخيره عن وقت الخطاب قطعا، فإذا ترك مقتضاه بالنسبة إلى جواز التأخير عن وقت الحاجة لدليل / (307/ب) الإجماع، وجب أن يبقى معمولا به بالنسبة إلى جواز التأخير عن وقت الخطاب تعليلا لمخالفة الدليل. وعن الثاني: أن القول بالتعيين، وإن لزم منه مخالفة ظاهر التنكير لكن القول بالتنكير يلزم منه مخالفة الضمائر الستة، وعدم تصحيح سؤالهم، وعدم صحة قولهم:} إن البقر تشابه علينا {فإن المنكر لا تشابه فيه، مع أنه تعالى ما رد ذلك عليهم، بل قررهم عليه. وأجاب بقوله:} إنها بقرة لا ذلول {إلى آخر" ومعلوم أن مخالفة ظاهر واحد أولى من مخالفة ظواهر كثيرة. وعن الثالث: منع أنه تعالى: عنفهم على طلب البيان

أما قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} فليس فيه دلالة على أنهم عنفوا بسبب طلب البيان، بل ليس فيه دلالة إلا على أنهم ما كادوا أن يفعلوا ما أمروا به، فأما أن ذلك في أول الأمر أو بعد استكمال البيان فليس فيه دلالة عليه فيحتمل أن يكون ذلك بعد استكمال البيان. وعن الرابع: أنا لا نسلم أنه يدل على أن البقرة المأمور بها غير معينة في نفس الأمر، بل ليس فيه دلالة إلا على أنه كان يجزيهم ذبح أي بقرة كانت، ولا يلزم من ذلك أن يكون المأمور به في نفس الأمر ذبح بقرة منكرة، لاحتمال أن تكون معينة في نفس الأمر مع أنه يجزى غيرها، فإن إجزاء الشيء لا يدل على أنه مأمور به في نفس الأمر كصلاة من ظن أنه متطهر، فلا بد من نفي هذا الاحتمال. سلمنا: دلالته عليه لكنه "خبر واحد" لا يعارض نص الكتاب. وأما الذي يدل على تأخير بيان الأسماء الشرعية، هو أنه لما أوجب الصلاة لم يرد منها الدعاء إجماعا، ولم يبين ما هو المراد منها في ذلك

الوقت، بل تأخر بيانها إلى أن بين جبريل عليه السلام بفعله، وذلك أن صلى معه عليه السلام في يومين، وكذلك لما نزل قوله تعالى:} وآتوا الزكاة {، فإنه لم يرد منها المسمى اللغوي بالاتفاق، ولم يبين الرسول عليه السلام ما هو المراد منها في جميع أصناف الأموال في ذلك الوقت، وذلك معلوم بالضرورة لا يشككنا في ذلك مشكك "وهذا في" البيان التفصيلي ظاهر. وأما في البيان الإجمالي فلا يمكن ادعاء العلم الضروري فيه، لكن الأظهر عدمه أيضا بالأصل. وأما الذي يدل على جواز تأخير "بيان" النسخ وجهان: أحدهما: الإجماع فإن الأمة متفقة على جوزاه قبل ظهور أبي الحسين البصري ومن وافقه. فالقول بعدم جواز تأخير بيانه خلاف الإجماع. وثانيهما: أن كثيرا من أحكام الكتاب والسنة نسخ من غير / (308/أ) أن يقارنه بيان ينسخه بدليل أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه احتج في "نسخ" شيء من الأحكام المتنازع في نسخه بما كان معه من الدليل الدال من الكتاب أو السنة على أنه سينسخ، ولو كان معه ما يدل على أنه سينسخ لامتنع ذهول الكل عنه، فإن تقدير وجود ما يدل على النسخ ولا

يعلمه أحد منهم ممتنع عادة، فغن المعترف بنسخه لو علمه لأظهره، واحتج به على منكره والمنكر لو علمه لما أنكر نسخه فلم يعلمه أحد منهم. وإذا ثبت جواز تأخير بيان هذا النوع من الخطاب، وهو ما له ظاهر واستعمل في خلافه عن وقت "الخطاب" ثبت جواز تأخير بيان المجمل، لأن القول بجواز التأخير في النوع الأول مع عدم جوازه هنا قول لم يقل به أحد من الأمة، ولأن المحذور في النوع الأول أكثر، ولهذا بعض من قال بعدم جواز التأخير في النوع الأول، قال بجوازه هنا::فإذا جاز التأخير فيه مع كثرة المحذور، فلأن يجوز فيما ليس فيه ذلك المحذور" بطريق الأولى، ولأنه لم ينقل أن ما في القرآن والسنة من المجملات، نحو قوله تعالى:} والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {وقوله:} والليل إذا عسعس {، وقوله:} وآتوا حقه يوم حصاده {، وقوله:} إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح {بيانات "به" به مقترنة معه، ولو كان ذلك لنقل لا سيما في الواحد وفي الاثنين، بل الذي علم التراخي في البعض كما سبق تقريره. واحتج المخالف بوجوه:

أحدها: أن الشارع إذا خاطبنا بالخطاب الذي له ظاهر، وهو يريد "غير" ظاهرة فأما منا الإفهام في حالة الخطاب أو لا يريد: فإن كان الأول: فإما أن يريد إفهام ظاهره، او غير ظاهره. فإن أراد الأول: فقد أراد منا الجهل. وإن أراد الثاني: فقد أراد منا من لا سبيل لنا إليه، وكلاهما قبيحان غير جائزين عليه. وإن كان الثاني: فهو باطل. أما أولا: فلأنه حينئذ يلزم أن يغرينا على الجهل، لأن كونه مخاطبا لنا يقتضي ظاهرا أن يعتقد أنه أراد به إفهامنا. وأما ثانيا: فلأنه حينئذ يلزم أن لا يكون مخاطبا لنا، لأن المعقول من كونه مخاطبا لنا أنه قد وجه نحونا الخطاب ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا. وأما ثالثا: فلأنه حينئذ يكون عبثا إذ الفائدة في الخطاب إنما هو الإفهام. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقول: ما المانع من أن يقال: إنه أراد منا أن نفهم ظاهره ونعتقده، لكن لا بمعنى أنا نجزم بإرادته أو نظن / (308/ب) أنه إرادة مع تجويز النقيض، كما أجاب به الإمام وغيره عن هذا السؤال.

فإن على هذا التقدير يلزم أن يريد "منا" الظن الكاذب كما أنه يلزم على التقدير الأول، أن يريد منا الجهل بل بمعنى أنه يريد أن يفهم ظاهره، ويعتقد أنه مراده لكن بشرط أن لم يرد المخصص بعده إلى وقت الحاجة، وعلى هذا لا يلزم الجهل ولا الظن الكاذب، فإن الحكم بالشيء مع الشرط ليس حكما به، قبل الشرط لا قطعا ولا ظنا حتى يلزم أحد ما ذكرنا من الأمرين، وهو الجهل، أو الظن الكاذب، بل إنما يكون حكما بأحدهما عند وجود الشرط، فأما قبله فلا ولو غلب على ظنه الحكم به قبل الشرط فإنما يكون ذلك بناء على غلبة الظن بوجود الشرط فيكون آيلا إلى الأول. وثانيهما: أنا لو سلمنا صحة مقدمات دليلكم، لكنه منقوض بما أنه لا يجوز اعتقاد العموم عند سماع العام قبل التفتيش عن الأدلة المخصصة وفاقا، مع أن جميع ما ذكروه آت، وهذا إنما يكون حجة على من سلم من المخالفين لهذا الحكم نحو أبي الحسين وغيره من المعتزلة، وعلى من يجوز منهم سماع المكلف العام بدون الخاص، فأما من لم يسلم ذلك كأبي الهذيل

والجبائي والصيرفي على ما عرفت مذهبة من قبل فلا. فأن قلت: الفرق بينهما هو غنما يعلمه المكلف من كثرة السنن والأدلة، كالإشعار بالتخصيص، لأنه يجوز أن يكون فيما معه من الأدلة ما يخص ذلك العام. قلت: فعلمه بكثرة تخصيصات العمومات كالإشعار به، فإذا كان ذلك التجويز والإشعار مانعين من اعتقاد العموم، كان هذا التجويز والإشعار مانعين من اعتقاد العموم، ومنقوض أيضا بما أنه يجوز تأخير بيان النسخ إجمالا وتفصيلا، وجميع ما ذكروه آت فيه، والفرق المذكور قد مر تزييفه، وهذا إنما يكون حجة على غير أبي الحسين وموافقيه، فأما عليهم فلا. وأيضا: فإنه منقوض بما أنه يجوز بموت كل واحد من المكلفين قبل حضور وقت العمل به بالمأمور به، وحينئذ لم يكن مرادا من الخطاب وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب وجميع ما ذكروه آت في هذه الصور أيضا. وثانيها: انه لو جاز أن نخاطب بخطاب ونعني به غير ظاهره ولا يبينه لنا حالة الخطاب لتعذر علينا معرفة وقت العمل المتوقف عليه إيجاب البيان، لأنه

ما من لفظ يصرح به عنه نحو الآن، أو هذه الساعة، أو أول الظهر، إلا ويحمل بأن يكون مراده منه غير ظاهره على وجه التجوز أو على وجه الإضمار، وحينئذ يتعذر علينا معرفة مراده من كلامه/ (309/أ) مطلقا. أما قبل وقت العمل، فلأنه لا يجب عليه البيان فلا يبينه ولو تبرع وبين، فمحتمل أن يريد به غير ظاهره ولا يبينه النافي تلك الحالة إذ لا يجب عليه البيان إذ ذاك، وكذلك القول في بيان البيان لو تبرع ببيانه. وأما عند وقت العمل به، فلأنه وإن كان لا يجوز أن نعني بالبيان غير ظاهره، فلا يبينه في الحال وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وانه جائز، ولكن ذلك إنما يكون أن لو علمنا وقت العمل وقد بينا أنه متعذر والمتوقف على المتعذر متعذر فمعرفة المراد متعذرة، وهو باطل بالإجماع. وإن شئت تقريره بوجه آخر، فقل: لو جاز أن يخاطبنا بما له ظاهر وهو يعني غير ظاهره لتعذر علينا معرفة وقت العمل لما سبق. وفي ذلك تعطيل النص، لأن إعماله بامتثاله، وامتثاله متوقف على معرفة الوقت ضرورة أنه لا يجوز امتثال ما أمر به قبل وقته، فإذا كان معرفة الوقت متعذرة، كان الامتثال متعذرا ضرورة أن المتوقف على المتعذر متعذر، وهو

باطل إجماعاً. وجوابه: أنا لا نسلم أنه يتعذر معرفة وقت العمل حينئذ، قوله: ما من لفظ يصرح به عنه إلا ويحتمل أن يعني به غير ظاهره. قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا لأنه يحتمل أن يبينه بما لا يحتمل التأويل نحو أن يقول: الآن، أو هذه الساعة. وينفي عنه كل ما عدا المدلول الحقيقي من الاحتمالات قريبا كان أو بعيدا، وهذا وإن كان مشقا لكنه ممكن في الجملة. سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أنه حينئذ يتعذر معرفة كلامه مطلقا، وهذا لأن من الظاهر أنه لا يلزم منه تعذر معرفة المراد من كلامه فيما لا يتعلق بالعمل، بل لو لزم ذلك فإنما يلزم فيما يتعلق بالعمل لا غير. سلمنا: لزومه مطلقا لكن يتعذر ذلك من حيث اللفظ أو مطلقا. والأول: مسلم ولا يضرنا ولو سلم انعقاد الإجماع على بطلانه. والثاني: ممنوع. وهذا لأنه يجوز أن يعلم المراد لقرائن تحتف باللفظ، وهذا الاحتمال جاري في تعيين وقت العمل وإن لم نذكره ثمة. سلمنا: دليلكم لكنه منقوض بالنسخ، ولا يخفى عليك ما يحذف من هذا في جواب تقرير الوجه الثاني.

وثالثها: أنه لو جاز أن يخاطب بما له ظاهر وهو يغني عن ظاهره، أو بالمجمل ولا يبينه لنا في الحال، لجاز أن يخاطب العربي بالزنجية ويبينه "له" بعد مدة، ولجاز أن يخاطب النائم والمغشى عليه ويبينه لهما بعد مدة، وان يقصد الإنسان إعلام غيره شيئا بالتصويت والتصفيق ويبينه له/ (309/ب) بعد مدة، لأن الجهل بالمراد حاصل في الكل في الحال، والعلم به حاصل في الكل بعد مدة، بل مخاطبة العربي بالزنجية أولى من مخاطبته بما له ظاهر "وهو يعني غير ظاهر" لأنه ليس للزنجية ظاهر عند العربي يدعوه إلى اعتقاده بخلاف ما له ظاهر وهو يريد منه غير ظاهره، فإن ظاهره يدعو المخاطب إلى اعتقاده وهو جهل. ولا يفرق بين خطاب العربي بالزنجية، وبين خطابه بالمجمل من غير بيان في الحال: بأنه يعلم في صورة الخطاب بالمجمل أن المراد أحد المعنييين، وأن ما عداهما غير مراد، وهذا القدر مما يراد تعريفه لما سبق في اللغات. بخلاف الخطاب بالزنجية، فإنه لا يفهم منه شيء، لأن المعتبر في حسن لخطاب إن كان هو الوقوف على المراد بكماله وجب أن لا يحسن الخطاب بالمجمل من غير بيان، وإن كان المعتبر في حسنه الوقوف عليه ولو من بعض الوجوه، وجب أن يحسن مخاطبة العربي بالزنجية، لأن العربي أيضا يعلم أنه يريد به إما الأمر أو النهي أو غيرهما من أنواع الكلام.

وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن الفرق بين مخاطبة العربي بالزنجية، "وبين الصورتين المتنازعتين حاصل، أما بين مخاطبة "العربي" بالزنجية" وبين مخاطبته بما له ظاهر ويعني به غير ظاهره، فلأن الظاهر يشترط عدم ورود التخصيص مفهوم منه من جهة اللفظ، وهو ليس بجهل ولا ظن كاذب، بل هو مطابق لما هو الواقع في نفس الأمر بخلاف مخاطبة العربي بالزنجية، فإنه لا يفهم منه شيء من جهة اللفظ. وبهذا تعرف أيضا اندفاع ما ذكروه من الأولوية، وأما بينه وبين الخطاب بالمجمل فالفرق المذكور، قوله عليه إنه اعتبر في جنس الخطاب معرفة المراد ولو من بعض الوجوه وجب أن يحسن مخاطبة العربي بالزنجية إذ العربي أيضا يعرف أنه يريد به أحد أنواع الكلام. قلنا: لا نسلم أنه يعرف ذلك فإن العربي إذا لم يعرف حكمه الزنجي، بل يجوز أن يكون ممن يهدي ويغيث فإنه لا يعرف إذ ذاك أنه يريد بما أتى به من الألفاظ أحد أنواع الكلام، بل لو عرف ذلك فإنما يعرف من حكمته لا من جهة دلالة اللفظ عليه، والمعتبر في حسن الخطاب إنما هو أن يفيد شيئا بالنسبة إلى فهم المخاطب من جهة الوضع أو بواسطته، وهذا حاصل في الخطاب بالمجمل من غير بيان المراد منه عينا، وغير حاصل في الخطاب بالزنجية فلا يلزم من حسنه حسنه / (310/أ).

المسألة الخامسة [في جواز التدرج في البيان]

المسألة الخامسة [في جواز التدرج في البيان] القائلون بجواز تاخير البيان إلى وقت الحاجة، اختلفوا في جواز التدريج في البيان. فذهب المعظم منهم إلى جوازه، لأن الأدلة التي تدل على جواز تأخير كل بيان إلى وقت الحاجة، تدل على جواز تأخير بعضه إليه قطعا، فعدم الجواز لو ثبت فإنما ثبت لدليل آخر يدل على انتفائه، وذلك قول بالتعارض وإنه خلاف الأصل، فالقول بعدم جواز تأخير البعض المستلزم لذلك أيضا خلاف الأصل، ولأنه إذا جاز تأخير كل البيان مع أن الجهالة فيه أكثر، فلأن "يجوز" تأخير بعضه مع أن الجهالة فيه أقل بطريق الأولى، وما يذكرونه من المانع سنجيب عنه، والأصل عدم مانع آخر، ولأنه وقع ذلك وهو دليل الجواز وزيادة، روى أنه لما نزل قوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا {سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطاعة فقال: "الزاد والراحلة"، ولم يتعرض في هذا الحديث لأمن الطريق والسلامة عن طلب

......................................................................................

الخفارة، بل علم اعتبارهما بدليل آخر. وكذلك بيان أكثر العمومات، إنما وقع على التدريج بحسب وقوع الوقائع على ما تشهد روايات الأحاديث الدالة على الأحكام، نحو قوله عليه السلام: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه] أو ريحه [" فإنه ورد لما سئل عن ماء بئر بضاعة.

وقوله: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" ورد وقتا آخر، وكل واحد منهما يصلح أن يكون بيانا لقوله تعالى:} وأنزلنا من السماء ماء طهورا {وقوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وقوله: "القاتل لا يرث" وقوله: "لا توارث بين ملتين مختلفتين" وقوله: "الرقيق لا يرث" ما ورد كل هذا معا، بل على التدريج مع أن الكل بيان في وجوب قطع السرقة، ما ورد معا. وكذلك ما يدل على خروج أهل الذمة والصبيان والنسوان من عموم قوله تعالى:} وقاتلوا المشركين {ما ورد معا، بل كل ذلك على التدريج. وفي الجملة العلم بجواز التدريج في البيان كالعلم بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب بعد الاستقراء، فإنكاره مع الاعتراف بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب غير سائغ. وذهب الأقلون منهم: إلى أنه لا يجوز.

المسألة السادسة [في جواز تأخير تبليغ الوحي للرسول]

محتجين بأن التنصيص على خروج البعض على مقتضى العموم يوهم اقتصار التخصيص فيه واستعمال العام في الباقي فلو كان شيء آخر مخصوصا عنه لزم التجهيل / (310/ب) والإلباس وهو غير جائز على الشارع. وجوابه: أن ترك بيان التخصيص حالة الخطاب بالعام، مع كونه ظاهرا في التعميم يوهم التعميم أيضا: لا بل يغلب الظن بذلك، فإذا لم يكن ذلك مانعا من التخصيص مع أن دلالته لفظية، فلأن لا يكون ذكر بعض المخصوص مانعا من التخصيص شيئا آخر مع أن دلالته على إثبات الحكم في غيره بجهة مفهوم الاسم بطريق الأولى. المسألة السادسة [في جواز تأخير تبليغ الوحي للرسول] القائلون: بعدم جواز تأخير البيان من وقت الخطاب. اختلفوا في أنه هل يجوز للرسول عليه السلام تأخير تبليغ ما أوحى إليه من الأحكام إلى وقت الحاجة أم لا؟ فذهب الجماهير منهم إلى تجويزه. ومنع الباقون منه

احتج المجوزون: بأن معرفة الأحكام إنما تجب بوجوب العمل بها، ولهذا لم يجب معرفة الأحكام التي لا يجب العمل بها، ولا عمل قبل الوقت فلا يجب معرفتها قبله، فلا يجب على النبي عليه السلام تبليغها إذ ذاك، غذ الأصل عدم علة أخرى لأجلها يجب، ولأنه يحتمل أن يعلم الله تعالى في التقديم مفسدة وفي التأخير مصلحة، وحينئذ يكون الواجب هو التأخير] ويحتمل أن يعلم أن في التقديم مصلحة وفي التأخير مفسدة، وحينئذ يكون الواجب هو التقديم [، ويحتمل أن يعلم أن الأمرين على السوية، وحينئذ لا يكون التقديم واجبا أيضا: إذ الوجوب لا لمصلحة عبث غير جائز، وبتقدير أن يكون جائزا لكنه خلاف الأصل، فعدم وجوب التقديم يتحقق على احتمالين ووجوبه يتحقق على احتمال واحد، ولا شك أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد بعينه فعدم وجوب التقديم أغلب على الظن، ولا نعني بكون التقديم غير واجب سوى هذا، وأما مصلحة التوطين والتهيئ والعزم فبتقدير خلوها عن المعارض فمن لا يقتضي الوجوب، وإلا لجاز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وهو غير جائز باتفاق بيننا.

المسألة السابعة اختلف القائلون بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب: في جواز إسماع الله المكلف العام من غير إسماعه ما يخصصه

واحتج الباقون: بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل {وظاهر الأمر للوجوب على الفور. وجوابه: منع أن ظاهره لهما، وإن سلم ذلك لكن لا نسلم أنه يتناول صورة النزاع، وهذا لأن المتبادر إلى الفهم من لفظ المنزل ومن قوله:} ما أنزل إليك {إنما هو القرآن فيجب تنزيله عليه دفعا للتجوز والاشتراك. المسألة السابعة اختلف القائلون بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب: في جواز إسماع الله المكلف العام من غير إسماعه ما يخصصه. فذهب الأكثرون منهم: كالفقهاء، والنظام، وأبي هاشم، وأبي الحسين

البصري إلى تجويزه. وذهب / (311/أ) الأقلون منهم، كأبي الهذيل، والجبائي إلى المنع منه، هذا في المخصص السمعي. فأما في المخصص العقلي فاتفق الكل على جواز أن يسمع الله تعالى المكلف العام من غير أن يعلمه أن في العقل ما يخصصه. احتج الجمهور بوجوه: أحدها: أنه وقع ذلك فإن فاطمة وكثيرا من الصحابة رضي الله عنهم سمعوا قوله تعالى:} يوصيكم الله في أولادكم {الآية مع أنهم ما سمعوا قوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" إلا بعد وفاته.

وكذلك سمع الأكثر منهم قوله تعالى:} وقاتلوا المشركين كافة {ولم يسمع قوله عليه السلام في حق المجوسي: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" إلى زمان عمر رضي الله عنه، وفي الجملة لا حاجة إلى تعداد الصور، فإن العلم بوقوع ذلك يكاد أن يكون ضروريا، والمنصف من نفسه يعلم ذلك من حيث إنه كثير ما يسمع العام ولم يسمع جميع مخصصاته في تلك الساعة، ولو سئل أكثر علماء كل عصر عن ذلك لأخبر به فإنكار جوازه مكابرة للضروريات. وثانيها: أنه يجوز أن يسمع المكلف المنسوخ من غير أن يسمع الناسخ بدليل الوقوع فإن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم سمعوا قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء"، ولم يسمعوا قوله عليه السلام: "إذا التقى الختانان وجب الغسل"، وكذا سمعوا، أو علموا ما يدل على جواز المخابرة ولم

يسمعوا نهيه عليه السلام عنها حتى قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج رضي الله عنه نهيه عليه السلام عنها) وإذا جاز ذلك في الناسخ والمنسوخ، فلأن يجوز في العام وتخصصه بطريق الأولى، إذ المحذور فيه أقل. وثالثها: القياس على المخصص العقلي، فإنه يجوز بالاتفاق أن يسمع المكلف العام ولم يعلم مخصصه العقلي، فكذا يجوز أن يسمعه ولم يسمع مخصصه السمعي والجامع بينهما هو أنه متمكن من معرفة المراد بعد الطلب. واحتج الأقلون بوجوه: أحدها: أنه لو جاز أن يسمع المكلف العام ولم يسمع مخصصه، لوجب أن لا يجوز التمسك بالعام واعتقاد عمومه إلا بعد الطواف في الدنيا وسؤال علماء المشرق والمغرب أنه هل وجد له مخصص أم لا؟ وذلك يفضي إلى تعطيل العمومات بأسرها. وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأنه مهما طلب بحيث يغلب على ظنه

عدم المخصص بعده كفاه ذلك في وجوب التمسك به واعتقاد عمومه على سبيل الظن الغالب لا على الجزم والقطع، لأن العمل بالظن الغالب واجب، وهذا على رأي من يشترط / (311/ب) طلب المخصص والتفتيش عنه في جواز التمسك به (واعتقاد عمومه فأما من لم يشترط ذلك بل يجوز التمسك به) ابتداء من غير طلب وتفتيش. فتقول: إن كون اللفظ ظاهرا في العموم محتملا للتخصيص يفيد ظن الاستغراق، والظن حجة في العمليات. وثانيها: أن سماع العام دون إسماع الخاص إغراء بالجهل، وجوابه ما سبق. وثالثها: أن العام المخصوص لا ينبئ عن المراد بدون المخصص فاسماعه وحده كاستعماله بدون القرينة المخصصة، وهو غير جائز بالاتفاق فكذا ما نحن فيه. وجوابه: أن التمكن من معرفة المراد غير حاصل فيما إذا لم يذكر المخصص، بخلاف ما إذا ذكروه ولم يسمعه المكلف، فإن التمكن من معرفة المراد حاصل بالطلب والتفتيش، فلا يلزم من عدم جواز ذلك عدم جواز

هذا. تنبيه: اعلم أنا إذا قلنا: يجب اسماع الخاص لمن سمع العام، أو يجب بيان المجمل، أو بيان ما له ظاهر وأريد منه خلاف ظاهره فإنا لا نعني به أنه يجب ذلك لكل واحد من المكلفين، بل لبعضهم وهو من أراد الله تعالى منه أن يفهم حطابه وهم ضربان. أحدهما: الذين أراد منهم فهم الخطاب مع العمل بمقتضاه إن كان مقتضاه عملا، وهم العلماء بالنسبة إلى الخطاب المتضمن للأفعال كأفعال الصلاة والحج. وثانيهما: الذين أراد منهم الفهم دون العمل بمقتضاه وإن كان مقتضاه العمل، وهم العلماء من الرجال بالنسبة إلى الخطاب المتضمن لأحكام الحيض وأما البعض الآخر وهم الذين ما أراد الله منهم فهم خطابه وهم أيضا ضربان: أحدهما: الذين ما أراد منهم الفهم ولا العمل بمقتضاه، وهم أمتنا بالنسبة إلى الكتب السابقة، فإنه تعالى ما أراد منهم الفهم ولا العمل بمقتضاه. وثانيهما: الذين أراد منهم العمل بمقتضى الخطاب دون الفهم، وهم العوام بالنسبة إلى خطاب الصلاة والزكاة والحج، لأن فرضهم الاستعبا] د [دون الاجتهاد حتى يراد منهم فهم الخطاب.

"النوع الثامن" الكلام في النص والظاهر والتأويل وهو مرتب على مقدمة ومسائل:

النوع الثامن: الكلام في النص والظاهر والتأويل

النوع الثامن الكلام في النص والظاهر والتأويل وهو مرتب على مقدمة ومسائل: أما المقدمة: ففي تفسير هذه الألفاظ الثلاثة. واعلم أنا وإن كنا قد ذكرنا معاني هذه الألفاظ الثلاثة في اللغات فإنما نذكرها هاهنا مرة أخرى لمزيد فوائد لم نذكرها ثمة، ولما جرت عادة الأصوليين بذكرها في هذا المقام. أما النص فهو في اللغة: عبارة عن الظهور، يقال: نصت الظبية رأسها إذا رفعت. وأما في الاصطلاح / (312/أ) فيطلق على معان ثلاثة: أحدها: أنه يطلق على ما لا يحتمل من الألفاظ غير معنى واحد. وهذا هو الأشهر وهو الذي ذكرناه في اللغات. وحده على هذا قيل: إنه اللفظ الذي يفيد معنى ولا يحتمل غيره أصلا ولو على بعد كألفاظ العدد.

"فاللفظ" وقع احترازا عن الفعل، ودليل العقل، فإن كان كل واحد منهما لا يسمى نصا، ولو فرض القطع بدلالتهما بحيث لا يحتمل غير ما دل عليه. فإن قلت: إنه غير جامع، لأن مفهوم الموافقة نص فيما يفيده وليس هو بلفظ. قلت: إن من يقول: إنما سميتموه بمفهوم الموافقة فإن دلالته لفظية فقط سقط عنه هذا السؤال. ومن لم يقل بذلك بل يقول: إن دلالته بحسب المفهوم من الفحوى فيحتمل أن يمنع منه، ويحتمل أن يسلم. وهو الذي دل عليه كلام إمام الحرمين، لكنه يقول: إنه وإن كان ليس بلفظ، لكنه مستفاد من فحوى اللفظ، فهو إذا آيل إلى اللفظ. وهذا بخلاف الفعل، فإنه وإن كان لا يدل على ما يدل عليه بواسطة اللفظ، لكنه غير مستفاد من اللفظ ولا من مدلوله بطريق الالتزام، بل هو مستقل في نفسه لا تعلق له باللفظ، وإنما يحتاج إلى اللفظ ليدل على كونه حجة، لا أنه في وجوده محتاج إليه كالمفهوم، فلا يلزم من كون الفحوى نصا، أن يكون الفعل نصاً أيضاً.

واعلم أن في هذا الجواب شيئا لا يخفى عليك: فالأولى أن "يغير العبارة" على تقدير أن يكون مفهوم الموافقة نصا. ونذكر عبارة تتناول اللفظ والفحوى نحو أن يقال: كل خطاب واحد- وما يستفاد منه- يفيد معنى لا يحتمل غيره أصلا لا على قرب ولا على بعد. وقد خرج بقيد "الواحد" المجمل مع المبين فإنهما وإن أفادا معنى ولا يحتملا غيره، لكنهما ليسا بخطاب واحد، فلهذا لا يسمى نصا. وثانيها: أنه يطلق على ما يفيد من الألفاظ معنى، مع أنه يحتمل غيره احتمالا مرجوحا. وحده على هذا حد الظاهر، وسنذكره وكثيرا ما يطلق الشافعي رضي الله عنه النص ويريد به هذا المعنى. وثالثها: أنه يطلق على ما يفيد من الألفاظ معنى، مع أنه لا يحتمل غيره احتمالا يعضده دليل، وذلك، إما بأن لا يحتمل غيره أصلا، أو وإن احتمل لكنه ليس يعضده دليل. وحده على هذا لا يخفى عليك.

والمعنى الثاني أعم "من" المعنى الثالث" من وجه وهو أعم من الأول وبين الثاني وبين الأول مباينة. وأما الظاهر: في اللغة فهو عبارة عن الواضح المنكشف، يقال: ظهر الأمر إذا اتضح وانكشف / (312/ب). وأما في الاصطلاح: فيطلق على معنيين: أحدهما: أنه يطلق على ما يفيد من الألفاظ معنى مع أنه يحتمل غيره احتمالا مرجوحا. وهذا "هو" الذي ذكرناه في اللغات وهو المشهور. وحده على هذا: أنه اللفظ الذي يفيد معنى مع أنه يفيد غير إفادة مرجوحة. فقولنا" يفيد معنى، كالجنس يتناول الحقائق الثلاثة منفردة كانت أو مشتركة، والمجاز راجحا كان أو مرجوحا. وقولنا: إفادة مرجوحة، يخرج عنه الحقائق المشتركة والمجازات الغير الراجحة، وتبقى الحقائق المنفردة والمجازات الراجحة مندرجة تحت التعريف

إذ اللفظ ظاهر بالنسبة إلى المجاز الراجح دون الحقيقة المرجوحة. وبهذا يعرف أن ما قيل في تعريفه: وهو أن اللفظ الظاهر: ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي مع أنه يحتمل غيره احتمالا مرجوحا. غير جامع، لأنه يخرج عنه المجاز الراجح، لأنه لا يدل على ما يدل عليه بأحد الوضعين المذكورين. وكذلك تخرج عنه الحقيقة الشرعية فإن الظاهر من قوله: أو العرفي إنما هو العرف العام أو الخاص دون عرف الشرع حتى يقال: أنه مندرج تحت قوله: أو العرفي. وثانيهما: أنه يطلق على ما يفيد من الألفاظ معنى سواء أفاد معه غيره إفادة مرجوحة أو لم يفده. فهذا أعم من كل ما تقدم من معنى النص والظاهر. وحده على هذا: أنه اللفظ الذي يفيد معنى سواء أفاد معه معنى آخر إفادة مرجوحة أو لم يفده.

وأما التأويل: فهو في اللغة: عبارة عن الترجيع يقال: فلام يؤول الرؤيا أي يرده إلى ما ترجع إليه، ويقال: آل إليه الأمر أي رجع، وسيؤول إليك الأمر "أي" سيرجع ومنه قوله تعالى:} ابتغاء تأويله {أي] ما [يؤول إليه. وأما في الاصطلاح: فقد قال الشيخ الغزالي: وذكره الإمام أيضا: أنه عبارة عن احتمال يعضده دليل، يصير به أغلب على الظن، من المعنى الذي دل عليه الظاهر. وهذا لو صح: فإنه جعله عبارة عن نفس احتمال يعضده دليل وليس كذلك، فإنما هو تعريف للتأويل الصحيح الظني دون مطلق التأويل المتناول للصحيح والفاسد والظني والقطعي، لأنه اعتبر فيه الاعتضاد بدليل يصير به أغلب على الظن، والتأويل الفاسد ليس فيه الاعتضاد بدليل، والقطعي ليس فيه غلبة الظن بل القطع والجزم "به"، فالأولى أن يذكر على وجه يتناول

الكل ويندفع عنه التجوز الذي فيه. فتقول: التأويل: عبارة عن صرف اللفظ عما دل عليه / (313/أ) بظاهره إلى ما يحتمله. فقولنا: صرف اللفظ، خير من قوله: إنه عبارة عن احتمال، إذ التأويل ليس نفس الاحتمال، بل هو لازمه. وخير أيضا من قول من قال: إنه عبارة عن حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع] احتماله له. لأن الحمل على غير مدلوله الظاهر [مع احتمال اللفظ له قد يكون ولا تأويل، وذلك عندما يحمل عليهما، ثم لا يظن أن هذا القدح إنما ينقدح أن لو جوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، أما إذا لم يجوز فلا، لأن القدح على

التقديرين منقدح، وهذا لأن التأويل لو كان عبارة عن حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر، فحيث يكون الحمل صحيحا كان التأويل صحيحا، وحيث يكون فاسدا يكون التأويل فاسدا، فجواز ذلك إنما "لو" يؤثر في صحة التأويل لا في تحقق ماهيته، فكان ينبغي أن يكون التأويل فاسدا إذ ذاك "إذ" الحد لمطلق التأويل المتناول للصحيح والفاسد باعتراف قائله. وقولنا: بظاهره، وقع احترازا عن المشترك فإنه وإن صرف عن أحد مدلوليه إلى الآخر، فإنه لا يسمى تأويلا لما أنه ليس بظاهر فيه. وقولنا: إلى ما يحتمله احترازا عما إذا صرف إلى ما لا يحتمله، نحو أن يصرف النص إلى غير مدلوله، أو الظاهر إلى ما لا يحتمله، فإن صرفه إليه لا يسمى تأويلا لما أنه غير محتمل. فإن أردت حد التأويل الصحيح فزده في أخره. وقولنا: لدليل يعضده. ومما سبق يعرف أن المجمل والنص لا يتطرق إليهما التأويل، ثم اعلم أنه ليس كل احتمال يعضده دليل فهو تأويل صحيح مقبول، بل ذلك يختلف باختلاف ظهور المؤول، فإن كان دلالة المؤول على المؤول إليه مع الدليل الخارجي تزيد على دلالته على ما هو ظاهر فيه قبل وإلا فلا. وقد جرت عادة الأصوليين تذكر ضروبا من التأويلات في هذا المقام ليتميز

المسائل

الصحيح عن الفاسد حتى يقاس عليها غيرها ويتدرب فيه المبتدئ ويتمرن الناظر فيه ويتثقف فلنذكر نحن] فيه [أيضا ضروبا منها اقتداء بهم وكيلا يخلو كتابنا عن هذه الفائدة هذا تمام الكلام في المقدمة. وأما المسائل ففي ذكر التأويلات. المسألة الأولى ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن الكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة، فإن له أن يختار أربعا منهن سواء عقد عليهن معا، او على التفريق سواء اختار الأوائل منهن أو الأواخر، وكذلك لو أسلم على أختين فإن له أن يختار إحداهما، كيف كان العقد، أولاهما "كانت" أو أخراهما. وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: إن وقع العقد على التفريق واختار الأوائل منهن صح وإلا فلا. احتج الشافعي رضي / (313/ب) الله عنه في ذلك، بما روى عنه عليه السلام أنه قال لابن غيلان وقد أسلم على عشر نسوة: "أمسك أربعاً وفارق

سائرهن" وبما روي عنه عليه السلام أنه قال: لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين "أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى" ووجه الاحتجاج به من وجهين: أحدهما: وهو ما ذكرناه من أن ترك الاستفصال في حكاية الحال ينزل منزلة العموم من المقال. وثانيهما: أن ظاهر قوله: أمسك أربعا، يقتضي جواز أمسك أي أربع:

كان فتخصيص جواز إمساك الأربع الأول دون غيرهم خلاف الظاهر. وأما الحديث الثاني: فتزيد دلالته من حيث إنه فوض الإمساك إلى مشيئة الزوج وهو صريح في إثبات التخيير وهو مناقض للتعيين. وأما الخصم فقد أوله بتأويلات ثلاثة: أحدها: أن المراد بالإمساك النكاح فمعنى قوله: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" أي انكح أربعا منهن ولا تنكح سائرهن. وثانيها: لعل النكاح وقع على التفريق فأمر بإمساك الأولى منهن. وثالثها: أنه وإن كان وقع العقد عليهن معا، لكن لعله قبل حصر عدد النساء وقبل تحريك الجمع بين الأختين، وحينئذ يكون العقد على وفق الشرع لا على خلافه. واعلم أن هذه التأويلات ضعيفة. أما الأول: فهو أن إطلاق الإمساك وإرادة ابتداء النكاح منه، وإن كان خلاف الظاهر إذ الظاهر منه استدامة النكاح لا التجديد لكنه ليس ببدع من الإطلاق والاستعمال أيضا، لو قيل بأن المجاز لم يتوقف على السماع البينة، لأنه من باب إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب وهو مجاز مشهور لكنه

قد حصل من القرائن ما يضعف إرادته منه. ويعضد إرادة ظاهر الإمساك منه، وهي من وجوه: أحدها: أنه فوض الإمساك والفراق إلى الزوج، ولو كان المراد منهما الإنكاح وعدمه لما كان كذلك، إذ الإنكاح متوقف على رضا الزوجة والفراق بحاصل بنفس الإسلام عندهم. وثانيها: أنا نعلم أن السائل والحاضرين من الصحابة لم يفهموا منه إلا ظاهره، وهو الاستدامة] و [لو كان المراد منه الابتداء لما أخلاه عن القرينة إذ هو وقت الحاجة والإحالة إلى القياس غير جائز إذ السائل ليس أهلا لذلك، لحداثة عهده بالإسلام. وثالثها: أنه لو كان المراد منه ابتداء النكاح لذكر له شرائط النكاح وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والاعتماد على معرفته بالبيان السابق غير جائز لما سبق. ورابعها: أن الظاهر من حال السائل امتثال / (314/أ) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك. ولم ينقل أحد من الرواة أنه جدد النكاح، ولو كان ذلك لنقل، ولا يعارض بأنه لم ينقل استدامة النكاح ولا الفراق، ولو كان ذلك لنقل، لأن ذلك على وفق الاستصحاب وليس على خلافه، بخلاف تجديد النكاح فإنه خلاف الاستصحاب وخلاف ظاهر الإمساك المأمور به، فكانت الدواعي

تتوفر على نقله. وخامسها: انه إنما سأل عن الإمساك والفراق بمعنى استدامة النكاح وانقطاعه، لا بمعنى تجديد النكاح وعدمه، فلو حمل الإمساك في الجواب على ما ذكروه لزم أن يكون الجواب غير مطابق للسؤال وهو خلاف الأصل. وسادسها: أن قوله: "أمسك" و"فارق" أمر هو يقتضي الوجوب أو الندب، أو القدر المشترك بينهما ظاهرا، والتزوج من العشر، أو من الأختين ليس بواجب ولا ندب والمفارقة بمعنى عدم الإنكاح ليس بفعل حتى يكون مأمورا بها فلا يكون كل واحد منهما مأمورا به. ولقائل أن يقول: هذا معارض بمثله فإن الإمساك بمعنى الاستدامة والاستصحاب ليس بواجب ولا ندب أيضا. ولا يدفع هذا بمنع عدم وجوبه وندبيته بناء على أن أصل النكاح قد يكون واجبا وقد يكون نديا، فاستدامته في تلك الحال بعينها أوجب وأندب لما فيه من استجلاب القلوب وتأليفها للإسلام وعدم التنفير عنه وكف الإيذاء، لأنه لا يلزم من وجوب أصل النكاح أو ندبيته في حالة وجوب الاستدامة أو ندبيتها في تلك الحالة، لاحتمال أن يسرحها ويتزوج بأخرى، والواجب ليس إلا للامتناع عن الوقوع في الزنا وهو يحصل بأخرى، ولأن وجوب الاستدامة أو ندبيتها يقتضي وجوب استدامة نكاح امرأة بعينها وهي غير واجبة بحال. وسابعها: أن الزوج ربما أراد أن لا ينكحهن بسبب ما نحو ميله عنهن، فكيف خص فيهن التزويج، بل كان ينبغي أن يقول عليه السلام أنكح أربعاً

ممن شئت من نساء العالم. وأما التأويل الثاني: فهو أيضا ضعيف. أما أولا: فلأن قوله لزوج الأختين: "امسك أيتهما شئت وفارق الأخرى" ينفي ذلك بصراحته. واما ثانيا: فلما روى أنه قال لواحد وقد أسلم على خمس نسوة: "اختر أربعا منهن وفارق واحدة منهن" قال الزوج: (فعمدت إلى أقدمهن عندي ففارقتها) لو كان المراد منه الأول لما فعل الزوج ما فعل ولما قدم عليه، إذ الظاهر بلوغ هذا الخبر إلى الرسول والصحابة. وأما الثالث: فهو أيضا ضعيف، لأن الظاهر "أن" حصر / (314/ب) عدد النساء وتحريم الجمع بين الأختين كان ثابتا أيضا في ابتداء الإسلام، وإلا

لما أطبق الجميع على عدم الزيادة على الأربع، وعلى عدم الجمع بين الأختين عادة لا سيما أنهم هم الناكحون، ويدل على الإطباق أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه فعل ذلك، وبتقدير أن لم ينقل ذلك لوجب أن ينقل مفارقته عند نزول الحصر، كما نقل التحول إلى الكعبة في الصلاة عند نزوله آية التوجه إليها، وكما نقل كسر جرار الخمر عند تحريمها،

وغيرهما من الأحكام، فإن الظاهر استمرار النكاح إلى وقت نزول آية الحصر. وقوله تعالى:} وأن تجعلوا بين الأختين إلا ما قد سلف {لا يدل على جوازه في ابتداء الإسلام، لاحتمال أن يكون المراد منه قبل الإسلام زمان الجاهلية، ثم هذا الاحتمال مؤكد بما روى عن أئمة التفسير أنهم قالوا: أن المراد من قوله تعالى:} إلا ما قد سلف {زمان الجاهلية قبل بعثه عليه السلام. فإن قلت: فقوله تعالى في آخر الآية:} إن الله كان غفورا رحيما {يدل على أنه كان في صدر الإسلام جائز وإلا فذكر المغفرة عقيب فعل

المعصية إغراء بالمعصية. قلت: لا نسلم أنه يدل عليه وذكر المغفرة عقيب فعل المعصية إنما يكون إغراء بالمعصية أن لو كان مطلقا، فأما إذا كان مقرونا بأمر ممتنع حصوله في المستقبل كما فيما نحن فيه فلا. ولئن سلم دلالته على ما ذكروه من هذا الوجه، لكنه يدل على ثبوت التحريم من وجه آخر، وهو أنه لو كان جائزا لما احتيج إلى قوله:} وكان الله غفورا رحيما {لأنه معلوم من القاعدة، والأصل حمله على فائدة جديدة. ولو سلم أنه قبل حصر عدد النساء لكن لا شك في أن إسلامهم بعد الحصر، وإلا لما أمر بإمساك الأربع ومفارقة الباقيات. وعند هذا نقول: إن اعتبرتم في صحة أنكحة الكفار حصول الشرائط وعدم مقارنة المنافي له في ابتداء عقده فقط، وجب أن لا يحكموا بصحة أنكحتهم إذا زوجوا بلا شهود أو في العدة، وحينئذ يجب أن لا يقروا عليها بعد الإسلام. وإن اعتبرتم حصولها في ابتداء العقد وفي حالة الإسلام معا، أو في حالة الإسلام فقط، وجب أن لا يجوز لهم اختيار الأربع بعد الإسلام

الواقع بعد حصر عدد النساء إذا تزوجوا أكثر من الأربع معا، ولو فرض التزوج قبل عدد النساء كما "لو" تزوجوا بعد حصر النساء على تقدير اشتراط تجرد ابتداء عقدة النكاح عنه فإن المنافي مقارن له في الصورتين في وقت يعتبر تجرده عنه سلمنا بسلامته عن هذه المناقضة، لكن / (315/أ) مقتضى ما ذكروه بطلان نكاح الكل بعد ورود الحصر في عدد النساء لا جواز اختيار الأربع، فإنه إذا طرأ ما ينافي عقد النكاح اندفع النكاح من أصله، كما لو تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة فإنه يثبت بينهما الأخوة إذ ذاك ويندفع النكاح من أصله وفاقا. ولو قيل: بأن القياس يقتضي ذلك لكنه ثبت جواز الاختيار إذ ذاك رخصة وترغيبا في] الإسلام. فلنقل مثله فيما إذا كان التزويج بعد ثبوت حصر عدد النساء، فإن المحذور [ليس إلا مخالفة القياس، وهي لازمة على التقديرين. فإن قلت: فلو صح رفع الحجر على الزيادة على الأربع في ابتداء الإسلام. هل كان هذا قادحا في التمسك بالحديث مطلقاً؟.

المسألة الثانية تمسك الشافعي- رضي الله عنه- في أن نكاح المرأة نفسها باطل

قلت: نقل الشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى- عن بعض الأصوليين أنه غير قادح فيه، لأن الحديث يستقل حجة فلا يترك بمجرد الاحتمال، بل لا يسقط الاستدلال به ما لم ينقل وقوع نكاح ابن غيلان قبل حصر عدد النساء. وضعفه: بأن الحديث ليس بحجة على الاستقلال، ما لم يثبت وقوع نكاح ابن غيلان بعد حصر عدد النساء، فإن على تقدير أن يكون واقعا قبل حصر عدد النساء لا يكون حجة، وإذا احتمل واحتمل، وليس أحدهما أولى من الآخر، لا تقوم الحجة به إذ الحجة لا تقوم بمجرد الاحتمال. وهو حق. المسألة الثانية تمسك الشافعي- رضي الله عنه- في أن نكاح المرأة نفسها باطل بقوله عليه السلام": أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل". إلى أن قال ذلك ثلاثا على ما هو المشهور في الرواية.

ووجه التمسك به هو أن البطلان مصرح به مؤكد بالتكرار والتعميم ظاهر جدا، فإنه أتى أولا: بصيغة "أي" في معرض الشرط والجزاء، وهي من أعم ألفاظ العموم في الشرط والجزاء، وألفاظ الشرط والجزاء أقوى دلالة على التعميم من غيرها، ولذلك قد اعترف بعمومها جماعة ممن توقف في غيرها من ألفاظ العموم، ثم إنه أكده ثانيا، بما المزيدة المؤكدة للعموم، ثم إنه رتب الحكم عليه ثالثا: في معرض الجزاء بفاء الجزاء المشعرة بالتعليل المقتضى لثبوت المعلول، إنما تثبت العلة هذا مع ما أنه ذكره ابتداء تمهيدا لقاعدة لا في معرض السؤال عن شيء حتى يظن تخصيصه به، وإذا ثبت التعميم والبطلان حصل المقصود. وقد أوله الخصم بتأويلات ثلاثة أيضا. أحدها: قال: المراد من المرأة الصغيرة، وضعفه بما سبق من قرائن

العموم، وبما أنه لا يطلق عليها المرأة، وبأن نكاحها نفسها بغير إذن وليها ليس باطلا عندكم، بل هو موقوف على إجازة الولي فإن جاز صح، وقد قال: في الحديث فنكاحها باطل / (315/ب) وأكده ثلاثا. فإن قلت: إطلاق البطلان على نكاحها، إنما هو على وجه التجوز، لأنه يؤول إلى البطلان بسبب اعتراض الولي، وعدم إجازته غالبا لقصور نظرهن في حفظ مصالح النكاح. قلت: لا نسلم تسويغ ذلك، وهذا لأن التعبير عن الشيء باسم ما يؤول إليه، إنما يسوغ إذا كان ما يؤول إليه كائن لا محالة، كقوله تعالى:} إنك ميت {، وكتسمية العصير بالخمر، فإنه لو ترك فإنه يؤول إليه لا محالة، وأما ما ليس كذلك فلا نسلم تسويغه. ولئن سلم جواز إطلاقه بناء على الغالب، لكن لا نسلم إفضاءه إلى البطلان غالبا لا بد لهذا من دليل. سلمنا: ذلك لكنه خلاف الأصل، لا يجوز المصير إليه بدون قرينة تعارض العموم وما معه من القرائن التي ذكرناها وهي مفقودة، والأصل عدمها

والقياس بتقدير سلامته عن المعارض لو عارض فإنه لا يعارض إلا عموم اللفظ، فأما ما معه من القرائن القوية فلا. وثانيها: قال المراد من المرأة الأمة. وضعفه بما سبق من القرائن المعممة، وبأن نكاحها موقوف، وبأنه قال عليه السلام في الحديث: "فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها" فإن مهر الأمة ليس لها بل لسيدها. وثالثها: قال المراد من المرأة المكاتبة. وهو أيضا ضعيف، بل أضعف، لأن المكاتبة بالنسبة إلى عموم النساء نادرة جدا، فإطلاق المرأة وما معها من القرائن المعممة وإرادة المكاتبة منها دخول في باب الألغاز والتلبيس، وهو غير جائز في فصيح الكلام، فكيف في كلام الشارع؟ والتأويل المقبول هو: الذي يساغ من ذي الجد أن يريد بذلك لا ما يعد هزلا ولغزا. وقياس التخصيص على الاستثناء، لو سلم الحكم في الاستثناء، وجواز القياس في اللغة غير مفيد لما بينهما من الفرق. وأيضا فأن بتقدير صحة الاستثناء ينتفي التلبيس لأن ما هو المراد في

المسألة الثالثة تمسك الشافعي رضي الله عنه في عدم جواز الإبدال في باب الزكاة

الاستثناء، وهو المستثنى مصرح به، لخلاف التخصيص، فإنما هو المراد من المخصوص غير معلوم منه، فلا يلزم من جواز ما لا تلتبس فيه جواز ما فيه التلبيس. المسألة الثالثة تمسك الشافعي رضي الله عنه في عدم جواز الإبدال في باب الزكاة بقوله عليه السلام "في أربعين شاة شاة" فإن ظاهر هذا يقتضي وجوب الشاة بعينها، لأن قوله: "في أربعين شاة شاة" لا يمكن إجراؤه على ظاهره،

بل لا بد "فيه" من إضمار حكم، نحو وجوب الإخراج، أو ندبيته، أو غيرهما، ثم ليس هو غير الوجوب إجماعا. فتعين أن يكون هو، ولأنه بيان لقوله / (316/أ) تعالى:} وآتوا الزكاة {وهو للوجوب، فهو إذا للوجوب، ثم الواجب هو المذكور، أو غيره. والثاني خلاف الأصل، فيتعين أن يكون هو، فثبت أن ظاهر قوله: "في أربعين شاة شاة" يقتضي وجوب شاة بعينها، فالقول بجواز صرف قيمتها عدول عن الظاهر، وإنه غير جائز من غير دليل. هذا هو الحق والإنصاف، لا ما زعمه بعض الأصحاب أن الحديث المذكور نص في وجوب الشاة، فالقول بجواز صرف قيمتها قول بتأويل النص، وأنه غير جائز قطعا، لأن الحديث المذكور نص في أصل وجوب الشاة لا في تعيين وجوبها بدليل أنه لو صرح بعد ذكر وجوب الشاة بوجوب بدلها معه، لا يعد مناقضا كما لو قال: الواجب في أربعين شاة شاة، أو بدلها بخلاف ما لو صرح بنفي أصل الوجوب فإنه يعد مناقضا كما لو قال: الواجب في أربعين شاة شاة لا بل الواجب بدلها، وتحقيقه أن مفهوم وجوب الشيء أعم من أن يكون مع وجوب غيره يقوم مقامه أولا مع وجوب غيره

بتلك الصفة، بدليل صحة تقسيمه إليها. والدال على القدر المشترك لا دلالة "له" "على ما به يتميز أحد القسمين على الآخر، فالدال على وجوب الشاة لا دلالة له" على أنه لا يجب معها شيء يقوم مقامها أو يجب فإذا ليس هو نصا في تعيين وجوب الشاة. فإن قلت: ما ذكرتم هنا يقتضي أن لا يكون ظاهرا فيه أيضا، وقد قلتم: من قبل أنه ظاهر فيه. قلت: هو ظاهر فيه من حيث إن وجوب بدلها يحتاج إلى إضمار أو تقدير شيء آخر، نحو أن يقال: الواجب في أربعين شاة مقدار قيمة شاة، أو يقال: شاة أو بدلها وكلاهما خلاف الأصل، لا من حيث إن اللفظ الدال على وجوب الشاة دال على نفي وجوب بدلها بطريق التضمن، أو بطريق الالتزام، فلا منافاة بين ما ذكرنا أولا، وبين ما ذكرنا آخرا. قالت الحنفية: نحن لا ننازعكم في أنه ظاهر في وجوب الشاة بعينها، لكن نقول: المراد منه غير ظاهر، وهو مقدار قيمة الشاة، وتقديره في أربعين شاة، مقدار قيمة شاة على تقدير حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه لدليل دل عليه، وهو أن المقصود من إيجاب شاة في أربعين شاة مثلا، إنما هو سد خلة الفقراء ودفع حاجاتهم وذلك يحصل بدفع القيمة كما

يحصل بدفع الشاة بعينها فلا معنى لتخصيص الشاة بوجوب الدفع. قال أصحابنا: ما ذكرتم من التأويل محتمل لكنه ضعيف وبيانه من وجهين: أحدهما: أنا لا ننكر / (316/ب) أن سد خلة الفقراء، ودفع حاجاتهم مقصود من إيجاب الشاة، لكن لا نسلم أن] ذلك [كل المقصود، فلعل معه مقصود آخر، نحو أن يشارك الفقير الغني في جنس ماله، إما تعبدا وهو المقصود غالبا في العبادات، وإما لأن حاجته قد تتعلق بخصوصية ذلك النوع من المال، وقد يعز وجوده فلا يقدر على تحصيله، أو وإن كثر لكنه كفى مؤنة التحصيل ومباشرة الشراء، وإذا احتمل ذلك كان المصير إليه أولى، لما فيه من الجمع بين ظاهر الحديث، والتعليل بسد الخلة، والتعبد الذي هو الغالب في العبادات، والاحتمال الذي ذكرناه وهو وإن كان مرجوحا، لكنه محتمل في الجملة. وثانيهما: أن العلة في المنصوص عليه فرع الحكم "إذ يعرف" الحكم فيه أولا، ثم يستنبط منه العلة، وإذا كان كذلك وجب أن لا يستنبط على وجه يعكر على أصله بالإبطال.

وقوله: "في أربعين شاة شاة". ظاهره يقتضى وجوب الشاة بعينها على ما تقدم تقريره، فجعل سد الخلة ودفع الحاجة علة لذلك يرفع وجوب عينها فوجب أن لا يصح، وعلى هذا الأصل نقول: كل تأويل يعتمد صحته على علة مستنبطة من الحكم رافعة له أو لشيء من المدلولات اللفظية أو المعنوية للنص الدال على ذلك الحكم كان ذلك باطلا، لأن العلة تجب أن تكون ملائمة للحكم لا منافية له رافعة إياه، كما أن الحكم يجب أن يكون ملائما لظاهر اللفظ الدال عليه. فعلى هذا يلزم بطلان تأويل من أول آية الصدقات، إلى بيان جهة الصرف والاستحقاق، وجوز صرف الصدقة إلى واحد من الأصناف الثمانية وترك ظاهرها الذي يقتضي استيعاب الأصناف الثمانية والتشريك بينهم ضرورة كون الصدقات مضافة إليهم بلام التمليك وواو العطف المقتضى للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه، بناء على أن المقصود من إيجاب الصرف إليهم وهم الأصناف الثمانية إنما هو دفع الحاجة عن جهة من هذه الجهات الثمانية لا استيعابهم بدليل سياق الآية، فإنه تعالى ذكر أولا طمع جماعة في الصدقة ليسوا أهلا لها في قوله:} ومنهم من يلمزك في الصدقات {الآية، ثم بين بعد ذلك من هم أهل لها، فإذا دفع إلى

واحد منهم فقد اندفعت الحاجة عنهم، فوجب أن يجوز. لأن هذه العلة مستنبطة مما دل عليه ظاهر الآية، وهو الاستيعاب والتشريك، لما تقدم وهي رافعة لهذا الحكم ومبطلة لدلالة "اللام" و"الواو"، وكانت باطلة، والتأويل مبنى عليهما فكان باطلا. هذا من حيث المعارضة. وأما بطلانه من حيث المنع في مقدمات / (317/أ) الدليل فيمنع أن ما ذكروه هو المقصود فقط، ولم لا يجوز أن يكون استيعابهم وتشريكهم أيضا مقصود مع ما ذكروه، وهذا أولى لما فيه من الجمع بين ظاهر اللفظ وبين المعنى المستنبط من الحكم، وبين الاحتمال المذكور، وكونه مذكورا عقيب ذكر من ليس أهلا للصدقة لا ينافي وجوب الصرف إلى جميع من ذكر أنه أهل لها إذ فيه بيان جهة الصرف وزيادة. ومن هذا الأصل يعرف أيضا بطلان تأويل الحنفية آية الكفارة وهي قوله تعالى:} فإطعام ستين مسكينا {فإنهم أولوها إلى إطعام طعام ستين مسكينا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. لزعمهم أن المقصود إنما هو دفع حاجة المسكين ولا فرق في ذلك بين

دفع حاجة ستين مسكينا وبين دفع حاجة مسكين واحد في ستين يوما، فجوزوا الاقتصار على إطعام مسكين واحد ستين يوما. لأن هذه العلة مستنبطة مما دل عليه ظاهر قوله تعالى:} فإطعام ستين مسكينا {وهو وجوب صرف الطعام إلى ستين مسكينا وهي رافعة لاعتبار العدد الذي هو حكم الأصل فكانت باطلة لما تقدم. والتأويل مبني عليها فكان باطلا، هذا لو سلم ما ذكروه من أن المقصود إنما هو دفع حاجة المسكين، ولا فرق في ذلك بين دفع حاجة ستين مسكينا، وبين دفع حاجة مسكين واحد في ستين يوما، أما إذا لم يسلم ذلك، وهو الأولى، إذ الدفع أسهل من الرفع، بناء على أن المنافسة المعنوية والدلالة اللفظية كلتيهما متطابقتان على اعتبار العدد، فكان] من [اندفاعه] ما ذكروه [وسقوطه أظهر. أما المناسبة المعنوية فلأن كثرة الدعاء مطلوب المؤمن لصلاح دينه ودنياه واستجلاب كثرة المحسنين إليه طريق صالح لتحصيله، ولا يبعد أن يقصد الشارع رعاية العدد مع رعاية دفع الحاجة نظرا لجانب المكفر لما يناله من الخير في الدنيا والآخرة بسبب كثرة دعائهم له. وليتحصن عن المكاره والعذاب بسبب صرف همتهم إليه وقل ما يخلو جميع المسلمين عن ولي من أولياء الله تعالى مستجاب الدعوة يغتنم دعاؤه وتستجلب همته فمع مناسبة هذا، كيف يمكن إلغاء العدد عن درجة الاعتبار وجعل مجرد دفع الحاجة علة لذلك الحكم.

المسألة الرابعة من التأويلات البعيدة تأويل يخالف ظاهر اللفظ، وما أشعر به اللفظ من التعليل

وأما الدلالة اللفظية: فلأن الإطعام من الأفعال التي يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما إذ يجوز أن يقول: أطعمت زيدا ولا يقول: ما أطعمته، ويجوز أن يقول: أطعمت الطعام، ولا يقول: ما أطعمته، والأصل في هذا النوع من الفعل إذا ذكر أحد مفعوليه أن يذكر ما هو الأهم في غرض المتكلم، فذكر عدد المساكين يشعر بزيادة اعتبار الشارع به إشعارا/ (317/ب) ظاهرا، فتركه عن درجة الاعتبار وجعله كالمسكوت عنه، و"اعتبار المسكوت عنه، وجعله كالمذكور خلاف ظاهر الكلام وفصاحته ودخوله في هجنته وركاكته، وكلام الله تعالى يصان عنه. المسألة الرابعة من التأويلات البعيدة تأويل يخالف ظاهر اللفظ، وما أشعر به اللفظ من التعليل، نحو تأويل أبي حنيفة- رضي الله عنه- قوله تعالى:} ولذي القربى {فإنه صرفه عن العموم حيث اعتبر الحاجة فيهم، في جواز صرف ما يصرف من الغنيمة إليهم المضاف بلام التمليك إليهم من غير اعتبار الحاجة فيهم، وألغى ما أشعر به اللفظ من تعطيل وجوب الإعطاء بالقرابة لشرفها وتعظيمها وجلالة قدرها، ولذلك حرك عليهم الصدقة التي هي الطهرة المأخوذة على وجه الذل. لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعليته

مع خلوه عن المناسبة على ما ستعرف ذلك- إن شاء الله تعالى-، فكيف مع المناسبة، فأعطى الفقير منهم دون الغني. وهذا التأويل مع ما فيه من مخالفة ظاهر العموم والتعليل الذي أشعر به اللفظ إشعارا ظاهرا فيه اعتبار زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ عنده لا يجوز إثباته بخبر الواحد فكيف بالقياس وكونهم مذكورين مع اليتامى والمساكين مع قرينة إعطاء المال ليس قرينة دالة على اعتبار الفقير فيهم، وإلا لكان ما كان يأخذه الرسول- عليه السلام- في حال حياته من هذا الخمس مشروطا أيضا بالحاجة، ضرورة وجود هذه القرينة بعينها في حقه عليه السلام. ولا قائل به وأيضا: لو كان مثل هذه القرينة مانعا من أن يكون اعتبار الفقير فيهم زيادة على النص، لكان تيسير الفاتحة مانعا من أن يكون وجوب قراءته في الصلاة زيادة على قوله تعالى:} فاقرؤا ما تيسر من القرآن {حتى لا يمنع قبول ما ورد في وجوب قراءته في الصلاة من أخبار الآحاد، هذا كله لو اعتبر القرابة بشرط الحاجة والفقير في صرف ما يصرف إليهم من الخمس، فأما إذا لم يعتبرها ويجعلها كالعجم الطماطم، وهو الظاهر من مذهبه إذ الخمس عنده

ينقسم على ثلاثة أسهم فيعطى ذوي القربى من سهم المساكين لفقرهم لا لقرابتهم فلا وجه له اصطلاح وليس هو من التأويل في شيء، بل هو تعطيل للنص. فإن قلت: إنما ذكروا لئلا يحرموا عن هذا كما حرموا عن الصدقة. قلت: هذا باطل لوجوه: أحدهما: أن فيه إبطال دلالة "اللام"، إذ هي ظاهرة في التمليك إذا أضيفت به إلى من يصلح للملك. وثانيها: أن فيه إبطال دلالة "واو" العطف، فإنها تقتضي الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه فيما عطف عليه، وقد عطف على الاستحقاق، إذ كان / (318/أ) الرسول- عليه السلام- يستحق سهمه المضاف إليه، فوجب أن يثبت الاستحقاق لذوي القربى أيضا تسوية بينهما فيما عطف عليه. وأيضا فإنه عطف عليه اليتامى والمساكين، فلو كان حكمه جواز الصرف لكان حكم ما عطف عليه أيضا كذلك لما سبق. وثالثها: أن ما ذكروه إنما يحتاج إليه أو يحسن ذكره، لو كان يظن أو يتخيل حصول موجب تحريم الصدقة في الخمس، أما إذا لم يظن ذلك ولا يتخيل فلا وهو غير متخيل فيه، إذ الموجب له هو كون الصدقة غسالة الناس وأوساخهم.

ورابعها وخامسها: ما تقدم من الوجهين. وسادسها: لو كان ذكرهم إنما هو لدفع ما ذكروه من الظن الفاسد والتخيل الباطل، لوجب أن يذكروا على وجه لا يوجب ظنا فاسدا آخر أقوى منه، فكان ينبغي أن لا يذكروه على الاستقلال، بل كان ينبغي أن يذكر عند ذكر المساكين ما ينبه على هذا المقصود. لا يقال: ما ذكرتم في ذي القربى فهو لازم عليكم في اليتامى فإنكم تعتبرون الحاجة فيهم في جواز] صرف [سهمهم إليهم. لأنا نقول: لا نسلم "أنا نعتبر ذلك، وهذا لأن الأظهر من قول الشافعي- رضي الله عنه-: أنه لا يعتبر ذلك. قلنا: أن يمتع ذلك بناء عليه. ولئن سلم الحكم فيه، فليس بلازم علينا من جملة ما ذكرنا إلا تخصيص عموم اليتامى على ما لا يخفى ذلك عليك، وتخصيص العموم للقرينة جائز، والقرينة المخصصة له هي ذكره مع قرينة إعطاء المال، فإن ذلك مشعر بالحاجة فيهم، ولأنه ليس فيهم معنى يناسب الإعطاء "غير" الحاجة، بخلاف ذوي القربى فإن جلالة قدر القرابة يناسب الإعطاء لهم. ومن هذا الجنس تأويلهم في قوله- عليه السلام-: "لا يقتل مؤمن بكافر" حيث قالوا: المراد منه الكافر الحربي، فإنه

خلاف ظاهر العموم، إذ النكرة في سياق النفي من أدل ألفاظ العموم، وخلاف ما أشعر به اللفظ من التعليل، فإنه يشعر إشعارا ظاهرا على أن العلة لذلك هو مطلق الكفر لما سبق، وكن الخاص معطوفا عليه لا يصلح أن يكون قرينة مخصصة له لما سبق في العموم. المسألة الخامسة من التأويلات البعيدة، تأويل بعض أصحابنا: قوله عليه السلام: "من ملك ذا رحم محرم عتق عليه" فإنه أوله عن عمومه وخصصه بالأصول

المسألة الخامسة من التأويلات البعيدة، تأويل بعض أصحابنا: قوله عليه السلام: "من ملك ذا رحم محرم عتق عليه" فإنه أوله عن عمومه وخصصه بالأصول والفصول

والفصول. وهو بعيد جداً. أما أولا: فلما تقدم أن ألفاظ الشرط والجزاء أقوى الدلالة على العموم، لا سيما إذا وردت ابتداء لتأسيس قاعدة، لا في حكاية حال وجواب عن سؤال، حتى يعتقد تخصيصه به. وأما ثانيا: فلأن إرادة الآباء والأبناء من هذا اللفظ من غير قرينة ألغاز وتلبيس ألا ترى أن (318/ب) الرجل لو قال: لعبده: من بقيته من رحمي محرمي فأكرمه، ثم قال: أردت بذلك الآباء والأبناء عد ملغزا أو ملبسا. وأما ثالثا: فلأنه سلك فيه مسلك الحدود، من حيث أنه بدأ بالأعم

وختم بالأخص، وذلك يدل على] أنه قصد به [الضبط، واختصاص الحكم] بما [ذكر من القيود، وإلا لم يكن ذكر القيد مفيدا، لأن فائدته ليس إلا ذلك. وأما رابعا: فلأن الأصول والفصول يختصان بخاصية قرب القرابة وشرف النسب، وذلك يقتضي التنصيص عليهما احتراما لهما. وأما خامسا: فلأن اللفظ أشعر بعلية الرحم مع المحرمية وتعظيمه وحرمته لما سبق غير مرة، فتنزيله على الأصول والفصول ترك لهذه الدلالة وهو باطل. والشافعي - رضي الله عنه- لم يقل بمقتضى الحديث لا لأنه يؤكده ويخصصه بناء على القياس على وجوب النفقة بسبب البعضية لا غير أو لغيره بل لأن الحديث لم يصح عنده، لأنه موقوف على الحسن بن

عمارة. ومن جنس هذا التأويل تأويل الحنفية قوله عليه السلام: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" وقد أولوه بتأويلات ثلاثة: أحدهما: بالحمل على القضاء والنذر. وهو بعيد، لأن النكرة في سياق النفي من أدل ألفاظ العموم على العموم، وقد قاله عليه السلام: ابتداء لتأسيس القاعدة، لا في جواب سائل حتى يعتقد تخصيصه به، فحمله على القضاء النادر الذي هو فرع الأداء، والنذر النادر الذي هو فرع الفرائض، وإخراج الصوم الأصلي الذي هو الغالب والمتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الصوم وهو الفرض المعتاد والتطوع بعيد جدا، وإن كان بعده ليس كبعد حمل حديث النكاح على المكاتبة، إذ المكاتبة بالنسبة إلى النساء أندر من القضاء والنذر بالنسبة إلى الصوم. وثانيها: وهو ما عزى إلى الطحاوي أنه محمول على نية صوم الغد

"قبل الغروب" من يومه، وكان يتبجح بهذا التأويل، لأنه أبقى "لا صيام" على عمومه. وهو أيضا بعيد، بل أبعد من الأول. ويدل على وجوه: أحدها: أن سياق الخبر يدل على النهي من تأخير النية عن الليل والحث على تقديمها على بياض النهار الذي يصومه، وهذا المفهوم منه جاري مجرى الفحوى الذي لا ينكره دون إنصاف من المخلصين، فحمل الخبر على النهي

عن تقديم النية والحث على تأخيرها مضاد مقصود الكلام الذي سيق لأجله، فكان باطلا. وثانيهما: أن حمل النهي على المعتاد أولى من حمله على ما لا يعتاد، بل لا يكاد يوجد، فضرورة أن النهي المعتاد أمس، وتأخير النية عن الليل معتاد بسبب الذهول / (319/أ) والغفلة عنها، وأما التقديم "فنادر" لا يفعله أحد، لأنه ينسب إذ ذاك إلى جنون وقلة عقل وهو وازع له عنه فلم يجز حمله عليه. وثالثها: أنا وإن سلمنا أنه ليس بنادر، بل هو معتاد كاعتياد التأخير، لكن نقول: قوله: عليه السلام: "لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل" يقتضي النهي عن أن لا يقع مبينا وذلك قد يكون بالتقديم، وقد يكون بالتأخير وليس في اللفظ ما يقتضي تخصيصه بأحدهما، فوجب أن يحمل عليهما معا دفعا للإجمال، وتكثيرا للفائدة، فحمله على النهي عن التقديم فقط باطل .. ورابعها: قالوا إنه محمول على نفي الكمال. وهذا تفريع على أن حرف النهي إذا دخل على الاسم الشرعي يقتضي نفي حقيقته الشرعية، فأما إذا لم نقل بذلك سواء قيل بأنه مجمل فيهما أو هو حقيقة في نفي الكمال فليس هو من التأويل في شيء.

وهذا التأويل قريب. وتضعيفه بأن يقال: انه مستعمل في القضاء والنذر لنفي الصحة وفاقا، فلو استعمل في غيرهما لنفي الكمال، لزم استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا، وهو غير جائز، وبتقدير أن يكون جائزا لكنه خلاف استعمال الفصيح. فإن قلت: هذا إنما يلزم لو كان القضاء والنذر مرادين منه. وهو ممنوع وهذا لأن ما ذكرتم من أنهما نادران يدل على أنهما غير مرادين. قلت: أما الدليل على أنهما مرادان فهو أن اللفظ عام وخروجهما عنه تخصيص له وهو خلاف الأصل، ولان الحكم على مقتضاه ثابت فيه والأصل "عدم" دليل آخر. وأما ما ذكرنا في الليل إنما يدل على امتناع اقتصار إرادتهما لا على امتناع إرادتهما مطلقا، وإلا لزم أن لا يكون العام عاما، وأيضا فإن كونهما غير مرادين منه قول لم يقل به أحد فكان باطلاً.

المسألة السادسة اعلم أن ضعف التأويل يعرف: تارة بقوة ظهور اللفظ فيما هو فيه ظاهر، وتارة لضعف دليله، وتارة بهما بأن يكون اللفظ المستعمل "ضعيف" الدلالة على العموم، ودليل التأويل أيضا "ضعيف"

المسألة السادسة اعلم أن ضعف التأويل يعرف: تارة بقوة ظهور اللفظ فيما هو فيه ظاهر، وتارة لضعف دليله، وتارة بهما بأن يكون اللفظ المستعمل "ضعيف" الدلالة على العموم، ودليل التأويل أيضا "ضعيف". فمن التأويل الضعيف الذي يعرف ضعفه بسبب ضعف دليله، تأويل من صرف قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر" عن العموم حتى منع من الاحتجاج به في إيجاب العشر أو نصفه في الخضروات، لأن دليله في ذلك هو أن المقصود من الحديث الفصل بين واجب الجنسين، لا بيان عموم ما يجب فيه العشر ونصف العشر. وهو ضعيف، لأن كون الفصل بين واجب الجنسين مقصودا، لا يمنع/ (319/ب) من أن يكون العموم معه أيضا مقصودا، وإذا لم يناف ذلك، واللفظ عام وجب إجراؤه على عمومه "أيضا".

المسألة السابعة من التأويلات البعيدة، تأويل يقتضي حمل كلام الله تعالى، أو كلام رسوله على شواذ اللغة والإعراب ونوادرهما

المسألة السابعة من التأويلات البعيدة، تأويل يقتضي حمل كلام الله تعالى، أو كلام رسوله على شواذ اللغة والإعراب ونوادرهما مثاله: القائلون بوجوب مسح الرجلين عينا كالشيعة، وعلى التخيير بينه وبين غسلهما كالحسن البصري، وعلى الجمع بينه وبين الغسل كداوود الظاهري. لما تمسكوا بقوله تعالى:} وأرجلكم إلى الكعبين {على قراءة الكسر على وجوب مسح الرجلين، فإن ظاهره يقتضي وجوب مسحهما، لكونه

معطوفاً على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {ولكون ظاهر العطف يقتضي مشاركة المعطوف للمعطوف عليه فيما عطف عليه. قال بعض القائلين بوجوب غسل الرجلين أن الاستدلال المذكور إنما يتم لو كان} وأرجلكم {معطوفا على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {وهو ممنوع ل هو عندنا معطوف على قوله:} فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق {بدليل أنه قدر الحكم في المعطوف إلى الكعبين كما قدر في المعطوف عليه إلى المرافق، ولو كان معطوفا على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {لما كان مقدرا كما هو في المعطوف عليه. وأما الكسر فإنما هو على الجوار، فإن المجاورة تقتضي الاستتباع. كما في قولهم: جحر ضب خرب، وكما في قول امرئ القيس: كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل

كسر قوله: مزمل، مع أنه من حقه أن يكون مرفوعا، لكونه صفة: كبير أناس، وإنما كسره على الجوار إذ ليس ثم ما يوجب الكسر سواه" وهو ضعيف جدا. أما ما ذكره من الدلالة، فلأنه لا يجب التسوية بين المعطوف والمعطوف عليه في كل شيء، حتى يلزم من كون مسح الرأس غير مقدر أن يكون مسح الرجلين أيضا غير مقدر على تقدير أن يكون معطوفا عليه. سلمنا: ذلك لكنه منقوض بقوله:} وأيديكم إلى المرافق {فإنه معطوف على قوله:} فاغسلوا وجوهكم {وفاقا، مع أنه غير مقدر. وأما ما ذكروه من سبب الكسر فهو أيضا ضعيف جدا، لأن الاستتباع لسبب المجاورة من شواذ اللغة، ونوادر الإعراب، التي لا يعدل بها عن مواردها المسموعة إلا لضرورة الشعر. وبتقدير أن يجوز ذلك فإنما يجوز فيما ليس فيه لبس، كما في قولهم: جحر ضب خرب، لأن من المعلوم أن الخرب، ليس صفة الضب. فأما ما فيه لبس] نحو [ما نحن فيه فلا. وشعر امرئ القيس لا نسلم أنه من هذا الباب، وهذا لأنه إنما يكون

من هذا الباب لو كان كسرة/ (320/أ) مزمل، لأجل كسرة: بجاد، وهو ممنوع، بل كسرته لأجل محافظة القوافي وموافقة الأبيات، وليس هو من الاستتباع بسبب الجوار في شيء، لأن ما يكون من هذا الجنس يجب أن لا يكون بين المستتبع وبين التابع فصل كما هو في قولهم: جحر ضب خرب، ونظائره. ولهذا أيضا يعرف أنه وإن لم يكن الاستتباع بسبب الجوار من ضعيف اللغة. والإعراب لم يجز أيضا حمل كسرة قوله:} وأرجلكم {عليه لتخلل واو العطف بينه بين "قوله"} وامسحوا برؤوسكم {. فإن قلت: فما وجه مذهب الجماهير القائلين بوجوب الغسل فيه على تقدير قراءة الكسر] فإنها [صحت في السبع كقراءة النصب، والتعارض بين القطعيين غير جائز حتى يصار إلى ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، أو يقال: إن القراءتين تتعارضان وتتساقطان، ويجب الرجوع في ذلك إلى السنة، بل لا بد من تأويل أحدهما. قلت: الوجه فيه أن يقال: إن قوله:} وأرجلكم {معطوف على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {، وظاهر هذا وإن اقتضى وجوب مسح الرجلين لأن ظاهر العطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما عطف عليه وهو

إنما عطف على الرأس في المسح لا في غيره إذ تقدير أمر آخر خلاف الأصل، لكن ما ثبت من النقل الصحيح عن الرسول عليه السلام أنه غسل الرجلين حين بين الوضوء، وعدم نقل مسح الرجلين عنه مع أن الظاهر أنه لو مسح لنقل، وإجماع الصحابة والتابعين، على غسلهما قبل ظهور المخالف، أوجب صرفه عن ظاهره، وحمله على أنه معطوف على ما دل عليه المسح من المعنى المشترك بينه وبين الغسل، وهو إمساس العضو بالماء. فعلى هذا ليس في الآية دلالة على وجوب مسحهما ولا على وجوب غسلهما، وإنما ثبت الغسل بقراءة النصب أو بالسنة أو بالإجماع وإنما المقصود دفع دلالته على المسح لا غير. وهذا النوع من العطف في كلامهم ليس ببدع ولا ضعيف، بل هو كثير معدود من الفصاحة والبلاغة.

قال سيبويه: الكلام الجزل الفصيح، يسترسل في الأحايين استرسالا، ولا تختلف مبانيه لأدنى تغير في معانيه. مثاله: قول الشاعر: علفتها تبنا وماء باردا ... عطف الماء على التبن "في العلف"، مع أن الماء لا يعلف بل

يسقى لكن لما اشترك التعليف والسقي في أصل التناول، حسن العطف. ونظيره أيضا قول الآخر: ولقد رأيتك في الوغى ... متقلدًا سيفاً ورمحا.

عطف الرمح على تقليد السيف مع أنه لا / (320/ب) يقلد، وإنما يعتقل لكونهما جملتين متقاربتين. وقال الآخر: فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها. عطف النعام على الظباء في الأطفال مع أن النعام لا يطفل، وإنما يبيض لاشتراكهما في إخراج ما يبقى به النسل. فإن قلت: ليس تأويلكم لقراءة الكسر، أولى من تأويلنا لقراءة النصب، وهو أن يجعل نصبه على العطف على محل الرأس، لا أنه معطوف على

الأيدي، فإن الرأس في محل النصب، لأنه مفعول به، والتقدير وامسحوا رؤوسكم، وإنما كسر لدخول الجار عليه وهكذا حكم كل مجرور اتصل الفعل به بواسطة الجار، والعطف على المحل ليس بضعيف باتفاق أهل الصناعة، ويشهد لهم اعتبارهم المعاني في مواضع لا تخفى عليك، قال الله تعالى:} إن وعد الله حق والساعة {قرئ بالرفع على أنه معطوف على محل اسم إن. قال الشاعر: معاوى إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا

نصب الحديد على أنه معطوف على محل الجبال، فإنها في محل النصب لكونها خبر ليس. وإنما كسر لدخول الباء الجارة. نعم: هو خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعطوف تابع للمعطوف عليه في اللفظ والمعنى، لكن ما ذكرتم أيضا خاف الظاهر. فلم قلتم: أن جريكم على ظاهر قراءة النصب، وتأويل قراءة الكسر أولى من الجري على ظاهر قراءة الكسر، وتأويل قراءة النصب وعليكم الترجيح، لأنكم المستدولن، ثم إنه معنا، لأن تأويلنا ليس فيه إلا مخالفة اللفظ، وأما تأويلكم ففيه مخالفة اللفظ والمعنى فكان ما ذكرنا أولى. قلت: لو أولنا قراءة الكسر لمجرد قراءة النصب كان ما ذكرتم متجها، لكنا لا نؤلها لمجردها، بل لما سبق من الإجماع والنقل الصحيح عن الرسول

عليه السلام، بأنه كان يغسل الرجلين ولم ينقل عنه مسحهما فتأويلنا غير مستلزم بهذه الأدلة، وتأويلكم يستلزم ذلك فكان ما ذكرنا أولى. ولنقتصر على هذا القدر من مباحث التأويل، فإنه ليس المقصود منه نصرة المذاهب وتزييف كلام الخصم حتى يتسع الكل، بل المقصود منه تمرين الناظر فيه وتثقيفه، ليتمكن من تميز الصحيح منه عن الفاسد، وليقدر على استنباط الصحيح منه. وهذا المقصود حاصل لهذا القدر لمن له فطانة مرشدة.

النوع التاسع الكلام في المفهوم وفيه مسائل:

النوع التاسع: الكلام في المفهوم

النوع التاسع الكلام في المفهوم وفيه مسائل: المسألة الأولى في تحقيق معنى المفهوم وتقسيمه وتحقيق القول فيه يستدعي تقسيما نذكره، وهو أن ما يدل عليه اللفظ/ (321/أ) إما أن يدل بحسب الوضع والمطابقة أولا. فإن كان الثاني: فإما أن يدل عليه] في [محل النطق أولا. فإن كان الأول "فإما أن يقصد أولا. فإن قصد" فإما أن يتوقف وجود محل النطق عليه سواء كان التوقف بحسب العقل كما في: اصعد السطح أو] بحسب [الشرع، كما في: اعتق عبدك "عنى"، أو لا يتوقف وجوده عليه بل إنما يتوقف صدق المتكلم به عليه كما في قوله عليه

السلام: "رفع عن أمتي الخطأ ... الحديث"، أو لا يتوقف] الصدق [عليه" أيضا وحينئذ" إن اقترن محل النطق بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل كان لغوا كقوله: واقعت في نهار رمضان، فقال عليه الكفارة، وكحديث الخثمعية. وإما أن لا يقصد فهو كقوله عليه السلام في حق النساء: "أنهن ناقصات عقل ودين" الحديث. فإنه يدل على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، وكذلك يدل على أن أقل الطهر كذلك، إذ لو كان أكثر منه لذكره عند قصد المبالغة في نقصان دينهن لكنه ما قصد بيان هذا المعنى. وإما أن لا يدل في محل النطق، بل في غيره"، فإما أن يكون موافقاً

"لحكم" المنطوق، أو مخالفا له، فهذه أقسام سبعة. "أولها: ما يدل بالوضع". وثانيها: ما يدل بغيره، لكن في محل النطق وهما مسميان بدلالة المنطوق، لكن يختص الأول منهما بالصريح، والثاني بغير الصريح. وثالثها: وهو ما يدل في محل النطق: وهو مقصود يتوقف عليه الوجود أو الصدق وهو المسمى بدلالة الاقتضاء. ورابعها: وهو ما اقترن محل النطق بحكم لو لم يكن للتعليل كان لغوا وهو المسمى بدلالة التنبيه والإيماء. وخامسها: وهو أن لا يقصد وهو في محل النطق ويسمى دلالة الإشارة] نحو قوله عليه السلام في حق النساء ": إنهن ناقصات عل ودين" فقيل: يا رسول الله ما نقصان دينهن؟ فقال رسول الله عليه السلام: "تبقى إحداهن شطر دهرها لا تصوم ولا تصلي" فإنه يدل على أن أكثر

الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يوما، إذ لو كان أكثر من ذلك لذكره عند قصد المبالغة في نقصان دينهن، لكنه بطريق الإشارة، أي بطريق التبعية من غير أن يقع قصد إلى بيانه، فالكلام في المثال الأول الذي أوردناه ما سبق لبيان

أكثر الحيض وأقل الطهر وإنما سبق لبيان نقصان الدين لا غير. و"قد" ذكرت له الحنفية "لها" مثالا آخر وهو قوله تعالى:} للفقراء المهاجرين {الآية، فإنه يدل على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء بطريق الإشارة إليه، أي بطريق التبعية من غير قصد إلى بيانه، إذ الآية سيقت لبيان استحقاقهم سهما من الغنيمة، لا لبيان أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء، لكن] وقعت [الإشارة إليه من حيث إن الله تعالى سماهم فقراء مع إضافة الأموال إليهم، والفقير اسم لعديم المال، لا لمن لا تصل يده إليه مع كونه مالكا له، فلو كانت أموالهم باقية على ملكهم] لكانت [التسمية المذكورة مجازا وهو خلاف الأصل. وهو ضعيف، لأن التسمية وإن دلت على ما ذكروه، لكن إضافة الأموال إليهم يدل على بقاء ملكهم، إذ الأصل في الإضافة الملك فليس حملهم الإضافة على التجوز وإجراء التسمية المذكورة على الحقيقة أولى من العكس. وسادسها: "وهو ما يدل في غير محل النطق ولكن وافق حكمه

حكمه وهو"] المسمى [بمفهوم الموافقة، كقوله تعالى:} فلا تقل لهما أف {فإنه يدل على تحريم الضرب وسائر أنواع الأذى بطريق الأولى. وسابعها: "أن لا يوافق حكمه حكمه وهو المسمى" بمفهوم المخالفة كقوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم"، فإنه يدل على عدم وجوب الزكاة عن المعلومات عند القائل به. وكلام إمام الحرمين: يدل بصراحته على أن كل ما ليس منطوقا به (أي ليس بطريق الوضع) فهو مسمى بالمفهوم، وهو خلاف ما يفهم من المفهوم عند الإطلاق، بحسب الاصطلاح، ولعله يزعم: أنه وأن كان اسما عاما لجميع أنواع "غير" المنطوق، لكنه غلب في ذنيك النوعين أعني مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة.

وعند هذا "التقسيم" لا يخفى عليك حد المفهوم، بحيث يشمل النوعين وهو: أنه عبارة عما فهم من اللفظ في غير محل النطق مع أنه مقصود من. والمنطوق وإن كان مفهوما أيضا من اللفظ لكنه لما اختص بالدلالة المنطقية اختص بالاسم المنطوق، وهذا على رأي إمام الحرمين سديد، وأما على ما ذكرنا فلا. ثم هو على ما عرفت ينقسم إلى مفهوم الموافقة، وإلى مفهوم المخالفة. أما مفهوم الموافقة: فهو الذي دل اللفظ من جهة المعنى على أن حكمه موافق لحكم المنطوق. لكن بشرط] أن [يكون حكمه أولى من حكمه، أو مساويا له على اختلاف قول فيه "وسيأتي ذكره". ويسمى "بفحوى الخطاب" و "لحن الخطاب" أي معنى الخطاب، قال الله تعالى:} ولتعرفنهم في لحن القول {أي معناه.

والشافعي رضي الله عنه يسميه بالقياس الجلي أيضا، والحنفية تسميه بدلالة النص، ثم منهم من لا يمتنع من تسميته قياسا جليا أيضا، ومنهم من منع من ذلك نحو الشيخ أبي زيد الديوسي وغيره. وهل من شرطه أن يكون الحكم فيه ثابتا بطريق الأولى من المنطوق، أو لا يشترط ذلك، بل يشترط أن لا يكون دونه، حتى لو كان في رتبته كان من هذا القبيل فيه اختلاف قول، إذ كلام الأكثرين يدل على الأول".

وكلام الشيخ الغزالي رحمه الله صريح باشتراط الأمر الثاني، دون الأول، فلا يحسن على رأيه "أن" يجعل مفهوم الموافقة من باب التنبيه بالأدنى (322/أ) على الأعلى، بل قد يكون منه ذلك، وإنما يحسن ذلك على رأي الأولين. وتسمية الشافعي رضي الله عنه إياه بالقياس الجلي، يشعر بالرأي الثاني، فإنه ليس من شرط القياس الجلي أن يكون الحكم في المقيس أولى من المقيس عليه، بل لا يشترط فيه إلا أن يكون علة الحكم سابقة إلى الفهم عند سماع الحكم، فلا يحسن أن يقال على رأي الأولين: إن مفهوم الموافقة هو القياس الجلي، بل هو "عندهم" أخص منه، ولو سمى به لكان من باب تسمية الخاص بالعام، وعليه ينزلون تسمية الشافعي رحمه الله إياه بالقياس الجلي. ثم اعلم أنه ينقسم إلى قطعي: وهو الذي دل النص على حكمه بفحواه، وسياق الكلام، ومعرفة المقصود منه في محل النطق، نحو قوله تعالى:} فلا تقل لهما أف {فإنه إنما يدل على تحريم الضرب والشتم،

لأنه عرف قطعا أن المقصود منه احترام الوالدين وتعظيمهما وإلا فمجرد النهي عن التأفيف لا يدل] عليه [على سبيل القطع، ألا ترى أنه يحسن من السلطان المستولي على سلطان آخر منازع له في ملكه، أن يأمر أعوانه بقتله وينهاهم عن ضربه وتأفيفه إذا كان المقصود من قتله دفع منازعته في الملك، ومزاحمته إياه فيه وهو غير حاصل من الضرب، والتأفيف. فلو كان ذلك بمجرد دلالة اللفظ لما حسن ذلك، كما إذا أمرهم بتأفيفه وعرف أن مقصود منه إهانته ثم يناهم عن الشتم والضرب، وهذا القسم مما لا يعرف خلافا في حجيته، بل أطبق الكل على حجيته، حتى المنكرون للقياس، وإنما اختلفوا في أن دلالته لفظية أم قياسية على ما سيأتي ذكره. وإلى ظنى: هو الذي لم يعرف المقصود من الكلام قطعا، وإن كان المسكوت عنه أولى بالحكم المنطوق، لكنه في الظاهر، لاحتمال معنى آخر هناك لم يدل على سياق الكلام ولا غيره على الغاية قطعا، نحو قوله تعالى:} ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة {.

المسألة الثانية في أن دلالة النص على الحكم في مفهوم الموافقة. هل هي لفظية، أم قياسية؟

فإن القتل العمد وإن كان أولى بذلك ضرورة أنه أجدر بالتغليظ والمؤاخذة، كما هو رأي أصحابنا، لكن إنما يكون لو ثبت أن الكفارة إنما وجبت على الخاطئ على وجه التغليظ والمؤاخذة، وهو ممنوع، وهذا لأنه يحتمل أن يكون وجوبها عليه إنما هو على وجه النظر له من حيث إنه شرع له ما يكفر ذنبه الحاصل له بسبب تقصيره وترك تحفظه، وجناية المتعمد فوق جناية الخاطئ، ولا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثمه أدنى الجنايتين أن تكون رافعة لإثم أعلاهما/ (322/أ). وهذا القسم مما اختلف في حجيته، كما في مفهوم المخالفة. وأما مفهوم المخالفة: فهو الذي دل اللفظ من جهة المعنى على أن حكمه مخالف لحكم المنطوق نحو قوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم"، فإنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفات عند من يقول به، ويسمى "بدليل الخطاب" أيضا وهي أصناف يأتي ذكرها في مسائل. المسألة الثانية في أن دلالة النص على الحكم في مفهوم الموافقة. هل هي لفظية، أم قياسية؟.

فذهب الجماهير من أصحابنا، وبعض الحنفية: إلى أنها قياسية. وذهب الآخرون من الفريقين: إلى أنها لفظية. إما لزعمهم أن صيغ التنبيه بالأدنى على الأعلى موضوعة في أصل الوضع للمجموع، المركب من الأمرين وهو ثبوت الحكم في ذلك الأدنى الذي هو مذكور وتأكيد ثبوته في الأعلى المسكوت عنه، أو لزعمهم أنها في أصل الوضع، وإن كانت موضوعة لثبوت الحكم في المذكور لا غير، لكن العرف الطارئ نقلها عنها إلى ثبوت الحكم المذكور في الصورة المذكورة وفي الصورة المسكوت عنها. احتج الأولون بوجوه: أحدها: أن المنع من التأفيف مثلا، لو دل على المنع من الضرب والشتم لفظا، لدل عليه، إما بحسب الوضع اللغوي، أو بحسب الوضع العرفي، والأمران باطلان، فبطل القول بدلالته لفظا. أما الأول: فلأن التأفيف غير الضرب، وليس هو جزء منه، وهو

معلوم قطعاً، فالمنع منه لا يكون منعا من الضرب لا بطريق المطابقة، ولا بطريق التضمن. وأما الثاني: وهو كما يقال: إن المنع من التأفيف نقل إلى المنع من جميع أنواع الأذى، فهو أيضا باطل، لأن النقل خلاف الأصل، وإن الأصل هو التقرير على الوضع الأول، فلا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه. وثانيها: أن دلالته عليه لو كانت لفظية، لما توقفت معرفتها على] معرفة سياق الكلام [ومقاصده، لان معرفة المقاصد "المعتبرة بالعبارة" تتوقف على معرفة دلالة العبارة عليها، فلو توقفت معرفة دلالة العبارة عليا لزم الدور وهو ممتنع، لكنها تتوقف كما تقدم فليس إذن دلالته لفظية. وثالثها: لو كان النهي عن التأفيف نهيا عن الضرب والقتل لفظا] لما حسن [النهي عنه مع الأمر بالقتل، كما لا يحسن الأمر بالقتل مع النهي عنه لكنه قد يحسن كما تقدم فهو إذا ليس نهيا عنه لفظا. واحتج الآخرون بوجوه: أحدها: لو كان الحكم فيه ثابتا بطريق القياس لوجب، أن لا يقول: به من لا يقول: بالقياس ضرورة أنه لا قائل بطريق حكمه، لكنه ليس كذلك/ (323/أ) بل قال به كلهم، أو أكثرهم، فإذا ليس طريق ثبوت الحكم فيه القياس.

وثانيها: أنه لو كان طريق ثبوته القياس، لوجب أن لا يعلم العاقل حرمة ضرب الوالدين من حرمة تأفيفهما إعظاما لهما عندما يمنعه الشارع عن القياس لكنه ليس كذلك وفاقا. وأجيب عنهما: بأن القياس فيه يقيني والخلاف إنما هو في الظنى لا غير فلم يكن ذلك الخلاف قادحا فيه، والمنع إنما يتصور عن القياس الظنى دون اليقيني فلم يكن ذلك المنع مانعا من العلم به، ولو فرض الكلام في المنع عن القياس اليقيني فعند ذلك لا نسلم نفي اللازم، وهو وإن كان محالا لكن المنع عن القياس اليقيني أيضا محال، والمحال جاز أن يستلزم المحال. وثالثها: إنما هو الأصل في القياس غير مندرج تحت الفرع، ولا هو جزء منه وفاقا، وما هو الأصل عند الخصم في هذا النوع من الاستدلال قد يكون جزءا لما هو الفرع عنده، وذلك في مثل: قوله تعالى:} فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره {. فإن هذا يفيد أن ما زاد على الذرة أيضا: يره لو عمله والذرة جزء لما هو أكثر منها مندرجة تحته، ونظيره أيضا: قول القائل: فلان لا يملك حبه، ولا يشرب لفلان جرعة، ولا يأكل لقمة خبز، فإن كل هذا يفيد نفي ما فوقه. وجوابه: أنا لا نسلم أن دلالة نفي الحبة لنفي ما فوقها من قبيل الفحوى، بل من قبيل الاقتضاء، ضرورة أن صدق نفي الحبة يتوقف على نفي ما فوقها،

إذ لو وجد ما فوق الحبة لوجدت الحبة، وحينئذ لا يصدق نفي الحبة. ورابعها: أنه لا يشترط في القياس أن يكون المعنى المناسب الموجب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعا، وهذا النوع من الاستدلال يشترط فيه ذلك فلا يكون قياسا. وجوابه: منع الإجماع، والعجب أن من تمسك به كيف تمسك وكلام الغزالي صريح في عدم اشتراط ما ذكره، كما تقدم نقله. وخامسها: وهو المعول عليه في إبطال كون دلالة الفحوى قياسية. إن في صورة الفحوى قد يكون حكم المسكوت عنه أسبق إلى الذهن من حكم المنطوق به عند سماعه، وفهم حكم الفرع في القياس عند سماع حكم الأصل، إما متأخرا عنه أو هو معه لا غير فلا يكون الحكم المثبت بالفحوى قياسا. والحق أن دلالة الفحوى،] لفظية لكن لا بحسب الوضع الأصلي، ولا العرفي، بل بواسطة القرائن كما تقدم بيانه، أن تحريم التأفيف لا يستلزم تحريم الضرب والقتل مطلقا، بل [بواسطة سياق الكلام / (323/أ) ومقصده.

وعند هذا ظهر سقوط أدلة القائلين بالقياس. أما الأول: فلأنه لا يلزم من إبطال الدلالة اللفظية] الوضعية أصلية كانت أو عرفية إبطال مطلق الدلالة اللفظية حتى يلزم منه [أن تكون دلالته قياسية. وأما الثاني: فلأن معرفة سياق الكلام ومقاصده لا يتوقف على معرفة الفحوى، حتى يلزم من توقف معرفة الفحوى على معرفة السياق والمقاصد الدور، بل قد يعرف ذلك من سياق الكلام وسياقه. وأما الثالث: فهو أن النهي عن التأفيف مع الأمر بالقتل إنما يحسن حيث لا قرينة على تحريم القتل، أما أذا كان معه] قرينه [تحريمه فلا، ونحن ما أدعينا دلالته] لفظا [إلا عند القرينة، فليس هو مناف للدلالة] اللفظية [على ما ذكرنا من التفسير.

المسألة الثالثة في مفهوم الصفة

المسألة الثالثة في مفهوم الصفة الخطاب العام المعلق حكمه على صفة لا توجد في كل مدلول، هل يدل على نفي ذلك الحكم عما انتفى عنه تلك الصفة نحو قوله تعالى:} ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتيانكم المؤمنات {ونحو قوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم". اختلفوا فيه: فذهب الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، والشيخ أبي الحسن الأشعري وجماهير الفقهاء، والمتكلمين منا، وجماعة من أهل العربية نحو أبي عبيدة معمر بن المثنى: إلى أنه يدل على

النفي. وذهب أبو حنيفة وأصحابه، والمعتزلة، وبعض المتكلمين، والفقهاء منا، نحو القاضي أبو بكر. وأبي شريح والقفال الشاشي، والغزالي، وبعض أهل العربية، نحو الأخفش: إلى أنه لا

يدل على ذلك. وفرق أبو عبد الله البصري، فقال: بالمفهوم في الخطاب الوارد لبيان المجمل، كقوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم" فإنه ورد بيانا لقوله:} وآتوا الزكاة {. والوارد للتعليم كقوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة" الحديث.

..............................................................................

والوارد فيما انتفى عنه الصفة، إذا كان داخلا تحت المتصف بها، نحو الحكم بالشاهدين والشاهد الواحد، فإن الشاهد الواحد داخل تحت الشاهدين. وفرق إمام الحرمين بين الوصف المناسب وغير المناسب، فقال: بمفهوم النوع الأول دون الثاني. وقال الإمام: إنه لا يدل على النفي بحسب وضع اللغة لكنه يدل عليه بحسب العرف العام.

احتج الأولون بوجوه: أحدها: أن ابن عباس رضي الله عنه فهم من قوله تعالى} إن امرؤ هلك وليس له ولد وله أخت "فلها نصف ما ترك" {عدم توريث الأخت النصف عند وجود البنت. لما أن الله تعالى جعل لها النصف عند عدم الولد، وذلك يدل على أن ليس لها ذلك عند وجود الولد، لأن البنت ولد، وفهمه حجة، لأنه من فصحاء أهل اللسان، وترجمان القرآن. فإن قلت: لا نسلم أنه إنما لم يورثها بناء على المفهوم، وهذا لأنه يحتمل أنه إنما لم يورثها بناء على النفي الأصلي، إذ الأصل عدم توريثها ترك العمل به عند عدم الولد فيبقى على الأصل عند وجوده. قلت: تمسكه بالنفي في الحرمان ينفى ما ذكرتم، فإنه لو لم يكن في النص دلالة إلا على الإثبات لم يكن التمسك به في النفي سائغا وإحالة ذكره

في معرض التمسك به، لدفع سؤال وارد على الأصل مع عدم ذكره بعيدا جدا وثانيها: أن الشافعي، وأبا عبيدة قالا: بدليل الخطاب. أما أن الشافعي رضي الله عنه قال به: فمشهور، وتفاريعه تدل عليه، فإنه لم يجوز لواحد طول الحرة المؤمنة نكاح الأمة، ولا لفاقده نكاح الكافرة، عملا بمفهوم قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات} الآية. وأما أن أبا عبيدة قال به؛ فلأنه روي عنه أنه قال: إن قوله عليه السلام: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، يدل على أن من ليس بواجد لا

يكون ليه ظلما ولا يحل عرضه وعقوبته. وقال: المراد من قوله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا" من لا يعتني غير الشعر إذ لا يجوز أن

...................................................................

يكون المراد منه الهجو فإن قليله مذموم ككثيره، وحينئذ لم يكن للتقييد بالامتلاء معنى، ولا يجوز أن يكون المراد منه القليل من غيره أيضا إذ لو كان قليله مذموما لم يكن لتعليق الحكم بالكثرة والامتلاء معنى، وإذا ثبت أنهما قالا به وجب القول به، والمصير إليه، لأنهما من علية علماء العربية، فإذا جاز التمسك بقول: أعرابي جلف، فلأن يجوز التمسك بقولهما: كان أولى. وأجيب عنه: بأنه إنما يجب المصير إليه لو قالا ذلك: بطريق النقل، وسلم عن المعارض وهما ممنوعان. وهذا لأن قولهما صريح في أنهما قالا ذلك عن نظر واجتهاد لا بطريق النقل. وقول: المجتهد على المجتهد ليس بحجة، بخلاف قول الأعرابي فإنه ينطق بمقتضى طبعه لا عن نظر واجتهاد، فكان قوله دالا على أن ذلك

لغتهم فجاز التمسك به. وقول الأخفش: معارض بقولهما وهو منقدح. وثالثها: لا نزاع أن تخصيص الحكم بالصفة، موهم/ (324/ب) لانتفاء الحكم عما عدا الموصوف بالصفة. فلو قيل: بأنه يدل عليه كان ذلك صونا للكلام عن إيهام الباطل [ولم يقل به كان ذلك حملا للكلام على إيهام الباطل] ومعلوم أن الأول أولى، فكان المصير إليه أولى. ورابعها: أن تخصيص الحكم بالصفة لابد له من فائدة صونا للكلام عن اللغو، فإن لم يكن هناك فائدة سوى انتفاء الحكم عما عدا الموصوف بتلك الصفة وجب حمله عليه، وإلا لكان التخصيص لغوا، وكلام الشارع يصان عنه، وإن كان "هنا" فائدة أخرى فإن حمل على الكسل تكثيرا للفائدة كان المقصود حاصلا، وإن لم يحمل إلا على واحدة كان الحمل على الانتفاء أولى، لأنه أسبق إلى الذهن.

وخامسها: أن تعليق الحكم بالصفة يفيد في العرف نفي الحكم عما عدا الموصوف بتلك الصفة، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك. أما الأول: فلأن الإنسان إذا قال: الإنسان الطويل، أو زيد الطويل لا يطير، واليهودي الميت لا يبصر، ضحك منه وتعلل بإلغاء التقييد بأن يقال: إذا كان القصير لا يطير، والميت المسلم لا يبصر، فأي فائدة للتقييد بالطويل، واليهودي، بخلاف قول القائل: الإنسان أو زيد لا يطير، فإن هاهنا لو ضحك فإنما يضحك، لأن بيان للواضحات لا لأن التقييد بالاسم غير مفيد. وأما الثاني فلأن النقل خلاف الأصل. وسادسها: أن أهل اللغة قالوا: إن تعقيب الخطاب للعام بالصفة وتقييده بها كتعقيب الخطاب العام بالاستثناء، ولهذا جرى فيه من الخلاف فيما يتعلق بالرجوع إلى الكل، أو الاختصاص بالجملة الأخيرة وغيره من المسائل، ما جرى في الاستثناء وقد ثبت أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فكذا التقييد بالصفة يجب أن يفيد النفي فيما عدا الموصف بتلك الصفة إن كان الكلام موجبا، أو بالعكس إن كان منفيا. فإن قلت: إن ادعيت أنهم قالوا: إن تعقيب العام بالصفة كتعقيبه بالاستثناء في كل الأمور، فممنوع. وهذا لأن الافتراق بينهما حاصل في أمور لا تخفى. وإن ادعيت ذلك في بعض الأمور فمسلم، لكن لا يلزم منه تساويهما فيما نحن فيه لاحتمال أن يكون ذلك في غير الأمر الذي نحن فيه.

قلت: تدعي ذلك في كل الأمور إلا ما خصه الدليل. وتحريره بعبارة أخرى أن نسبة الخطاب العام المقيد بالصفة إلى الخطاب العام المطلق عند أهل اللغة، كنسبة الخطاب العام المستثنى منه إلى الخطاب العام الغير المستثنى، فكما أن الخطاب العام المستثنى منه يدل على النفي/ (325/أ) والإثبات "معا"، فكذا الخطاب العام المقيد بالصفة يدل عليهما "معا" ضرورة تساوي النسبتين. وسابعها: أن الحكم المرتب على الخطاب المقيد بالصفة معلول بتلك الصفة، لما ستعرف إن شاء الله تعالى أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلة، وانتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، وتعليل الحكم بعلتين مختلفتين، خلاف الأصل، فيلزم انتفاء الحكم فيما انتفى عنه تلك الصفة. وبهذا تمسك إمام الحرمين: لكن في الوصف المناسب على ما هو اختياره من أن مفهوم الوصف المناسب حجة. وأجيب: عنه بمنع أن ذلك خلاف الأصل.

وهو ضعيف لأن منهم من لم يجوز ذلك ومن جوزه فينبغي أن يكون عنده خلاف الأصل إذا هو على خلاف الغالب بالاستقراء، ولا نعني بكونه خلاف الأصل سوى هذا. احتج من لم يقل بكون المفهوم حجه بوجوه: أحدها: أنه لو كان دال على نفي الحكم عما عداه، فإنما أن يعرف ذلك بالعقل وهو باطل، إذ لا مجال للعقل في باب اللغات، أو بالنقل وهو إما متواتر، أو أحاد. والأول: باطل وإلا لعرفه المخالف مع اشتراكهم خصومهم في أسبابه من سلامة الحاسة والعقل ومخالطة أهل اللغة والاقتباس منهم. والثاني: تقدير صحته وسلامته عن المعارض غير كاف، لأنه لا يفيد إلا الظن، ولا يمكن إثبات مثل هذا الأصل الذي نزل عليه كلام الله وكلام رسوله المفيدين للتعيين بما يفيد الظن وقد عرفت ضعفه غير مرة. وثانيها: أن المقيد بالصفة لو دل على انتفاء الحكم عما عداه لدل عليه، إما بلفظه أو بمعناه، والقسمان باطلان فبطل القول بدلالته عليه مطلقا. أما الأول: فظاهر لأن قوله: "زكوا عن الغنم السائمة" غير موضوع لنفي الزكاة عن المعلوفة لا بطريق الاشتراك، ولا بطريق الانفراد، ولا هو موضوع لمفهوم يكون هذا المفهوم جزؤه حتى تكون دلالته على هذا المفهوم بطريق التضمن، فتكون دلالته لفظية على رأي إذا لو كان شيئا من هذا بيانا لم تكن المسألة مسألتنا، ولم يكن النزاع حاصلا فيه، بل كنا قائلين به وموافقين لخصومنا فيه.

وأما الثاني: فلأن شرط الدلالة المعنوية استلزام المسمى اللازم، إما قطعا أو ظاهرا وهما غير حاصلين فيما نحن فيه. وأما الأول: فظاهر إذ الحكم قد يكون ثابتا فيما عدا الموصوف بالصفة كما هو ثابت في الموصوف بهما لو كان الاستلزام قطعيا لما انفك عنه/ (325/ب) في صورة ما. وأما الثاني: فكذلك وإلا لزم الترك بذلك الظاهر حيث يكون حكم المذكور ثابتا فيما انتفى عنه الصفة، وأنه خلاف الأصل. فإن قلت: إذا كان الحكم ثابتا فيما عدا الموصوف بتلك الصفة، كما هو ثابت في الموصوف بها فما السبب في تخصيص الحكم وتقييده بالصفة، وهل التقييد إلا لغوًا. قلت: لا نسلم ذلك، وهذا لأنه يحتمل أن يكون السبب في ذلك أمورًا أخر غير انتفاء الحكم عما عدا الموصوف بتلك الصفة. أحدها: عدم خطران ذلك القسم ببال المتكلم عند التكلم، وهذا في حق الله ممتنع ويضعف في حق غيره جدا في العام المردف بالصفة نحو الغنم السائمة. وثانيها: أنه وإن خطر بالبال، لكنه إنما خص هذا القسم، لأن بيانه واجب، وأما لسؤال سائل، أو حدوث واقعة. وثالثها: أنه وإن كان بيانه غير واجب كالقسم الآخر، لكنه لعلة بينة بطريق آخر، نحو أن نص عليه على سبيل الخصوصية فيكون ذكره مع غيره إرداف للبيان القوي بالضعيف، فإنه مستدرك كيف وأنه موهم لجواز التخصيص.

ورابعها: أنه وإن لم يبينه بطريق آخر لكنه بينه بهذا المقيد بالصفة بطريق الأولى نحو قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} فإنه إذا حرم قتل الأولاد عند خشية الإملاق، كان تحريمه عند عدم الخشية بطريق الأولى. وخامسها: أنه وإن لم يبينه بهذا الطريق، لكنه أحال بيانه إلى الاجتهاد المكلف بطريق الإلحاق بالمقيد بالصفة من حيث العلة بأن يجتهد المكلف في ذلك ويرى أن لا مدخل للوصف في الحكم ويكون المقصود أن ينال المكلف ثواب الاجتهاد. وسادسها: أنه وإن لم يبينه بهذا الطريق، لكنه أمكن أن يقال: إنه حصل بيانه بالعقل من حيث إنه لم يتعرض له بحكم شرعي ناقل، فإن حكم هذا في الشرع البقاء على حكم العقل. وهذا يقع على وجهين: أحدهما: أن يكون حكم المقيد بالصفة الثبوت فهنا ما انتفى عنه الصفة إنما يبقى على العدم الأصلي لكون حكمه غير مذكور من جهة الشارع لا صريحا ولا التزاما لا لأن مفهوم الثبوت في المقيد بالصفة دال على نقية الاتفاق هنا على العدم حاصل بين الفريقين، وإنما الاختلاف في الكيفية فعند القائلين بالمفهوم وعدم الحكم ثابت بالمفهوم وعند غيرهم بالعدم الأصلي. وثانيهما: أن يكون حكم المقيد بالصفة النفي فهاهنا ما انتفى/ (326/أ) عنه الصفة يبقى على العدم الأصلي عند من لا يقول: بالمفهوم. وأما عند القائلين به: فيختلف الحكم بحسب اختلاف الأوصاف، فإن كان الوصف مناسبا لثبوت الحكم كان المفهوم دالا على النفي بطريق الأولى، نحو قول القائل: لا تزكوا عن الغنم السائمة، فهاهنا المعلوفة لا تجب فيها الزكاة

بطريق الأولى، وإن لم يكن كذلك سواء كان مناسبا للنفي أو لا يكون مناسبا له ولا للثبوت، فإنه يدل على ثبوت الحكم فيما انتفى عنه الصفة، مثال الأول: لا تضرب العلماء، مثال الثاني: لا تضرب الطوال، ولقائل: أن يقول عليه: إن هذا إنما يتم أن لو ثبت أن المفهوم لا يدل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بالصفة حتى يكون عدم الحكم ثابتًا بالعقل، فإن تقدير أن يدل عليه كان العدم ثابتًا بالمفهوم لا بالعقل، وإنما يثبت ذلك أن لو ثبت أن للتقيد فائدة أخرى وسببًا آخر غير نفي الحكم عما عدا الموصوف بالصفة، فإن بتقدير أن لا يثبت ذلك كان التقيد والتخصيص دال على نفي الحكم عما عدا الموصوف صيانة للتقييد والتخصيص عن اللغو، وحينئذ يلزم الدور، لأن إثبات هذه الفائدة موقوف على أن المفهوم ليس بحجة، وإثبات ذلك يتوقف على إثبات هذه الفائدة فكان الدور لازما وهو ممتنع. هذا كله لو قيل: بوجوب تعليل تقييد الحكم بالصفة الصادرة من القادر المختار، فأما إذا لم نقل به بناء على أنه لا يجب تعليل الأفعال الصادرة عن الفاعل المختار كان السؤال ساقطا. وجوابه: منع الحصر، وهذا لأن دلالة القرينة خارجة عن الدلالة اللفظية والمعنوية فلعله يدل لقرينة التخصيص. سلمنا: الحصر لكن لا نسلم أن من شرط الدلالة المعنوية الاستلزام. ولم لا يجوز أن يقال: إن المناسبة والملابسة بحيث يحصل الشعور باللازم عند الشعور بالمسمى كاف في ذلك؟. سلمنا: أنه لابد من الاستلزام لكن لم قلتم: إن الاستلزام الظاهري غير

حاصل، بل الظاهر أنه حاصل بدليل تبادر الذهن إلى النفي عند الإطلاق. قوله: يلزم الترك بالظاهر حيث يكون حكم المسكوت عنه موافقًا للمنطوق به وهو خلاف الأصل. قلنا: نعم لكن لدلالة من خارج وهو ليس ببدع إذ ذاك/ (326/ب). وثالثها: أن صورة المنطوق بها مخالفة لصورة المفهوم، [وهذا مما لا شك فيه، ولا شك أيضًا: أن الصورتين المختلفتين] يجوز اشتراكهما في الحكم واختلافهما فيه، وكذا يجوز أن يشتركا في الإخبار عن ثبوت الحكم فيهما وأن يختلفا فيه، وإذا كان كذلك كان الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يدل على ثبوت الحكم في الصورة الأخرى، ولا على عدمه، ولا على الإخبار عن ثبوته في الصورة الأخرى ولا على عدمه. وهو أيضًا ضعيف لأنه لا نزاع في الجواز العقلي، وإنما في أن هل للفظ به أشعار أم لا؟ وما ذكروه لا ينفيه. ورابعها: أن المقيد بالصفة لو دل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها، لما حسن الاستفهام عن الحكم فيه لا نفيا ولا إثباتًا، كما في مفهوم الموافقة

لكنه يحسن فإنه لو قيل: في الغنم السائمة زكاة. حسن أن يقال. هل في المعلوفة زكاة أم لا؟ فهو إذا غير دال على الحكم فيه لا نفيا ولا إثباتًا. وهو أيضًا ضعيف إذ الملازمة ممنوعة وسنده ما سبق في العموم، وأما القياس على الفحوى فضعيف إذ الفرق ظاهر، فإن دلالة الفحوى قطعية، ودلالة دليل الخطاب ظنية، فلا يلزم من استقباح الاستفهام ثمة استقباحه هنا لو قاس على الفحوى الظني فالحكم ممنوع. وخامسها: إن تخصيص الحكم بالصفة، لو دل على نفي الحكم حيث انتفى تلك الصفة لما حسن إردافه بثبوت الحكم فيه لا بحرف العطف ولا بغير حرف العطف، كما لا يحسن إرداف صريح النفي صريح الإثبات كقوله: في الغنم السائمة زكاة، وليس في الغنم السائمة زكاة، أو ليس في الغنم السائمة زكاة، بحرف العطف وبغيره لكنه يحسن فإنه يحسن أن يقال: في الغنم السائمة زكاة، وفي المعلوفة أيضًا زكاة، وكذا بغير حرف العطف فهو إذا غير دال على النفي. وهو أيضًا ضعيف، لأن دلالة المفهوم مشروطة بتخصيص الحكم بالصفة، فإذا ذكر بعد تعليق الحكم بها الحكم في مفهومه بحرف العطف، لم يكن تخصيص الحكم بالصفة حاصلًا فينتفي شرط دلالته والشيء ينتفي بانتفاء شرطه، بخلاف ما إذا كان كل واحد من النفي والإثبات معروفًا به، فإن دلالة أحدهما غير مشروط بعدم الآخر، وهذا إذا كان الإرداف بحرف العطف.

أما إذا كان بغير حرف العطف لما يتأت هذا الجواب، لأن ذكر الحكم في مفهوم المخالفة بصريح النطق بعد تمام الحكم لو كان قادحا في تخصيص الحكم بالصفة لم يتصور التعارض بين المفهوم والمنطوق، لأنه ما من صورة من صور/ (327/أ) المفهوم إذا ورد فيه صريح النطق بإثبات الحكم فيه إلا وأمكن أن يقال: إنه انتفاء شرط دلالة المفهوم وهو تخصيص الحكم بالصفة، لكنه خلاف تصريحهم، فإنهم صرحوا أنه إذا وقع التعارض بين المفهوم والمنطوق كان المنطوق أولى، ومن المعلوم أنه لا يمكن جعل عدم المعارض شرط دلالة الدليل وإلا لم يتصور التعارض بين الدليلين، بخلاف ما إذا كان بحرف العطف، فإن ذلك قبل تمام الكلام إذا الكلام يتم بآخره فأمكن أن يقال: إنه لم يوجد التخصيص. بل جوابه: أن يقال: أن دلالة المفهوم على النفي ظنية، فإذا ورد صريح النطق دالًا على الإثبات عقيبه علم أنه غير مراد من الخطاب وصار ذلك قرينة دالة على عدم إرادة المفهوم من الخطاب، بخلاف صريح النفي والإثبات، فإن دلالة كل واحد منهما بعد ثبوت المتن قطعية، فإذا ورد النفي عقيب الإثبات كان ذلك تناقضًا وتهافتًا، إذا القطعي غير قابل للتأويل فلذلك لم يصح، بخلاف الظني، فإنه قابل للتأويل فيصح أن يعارضه ظني أو قطعي. وسادسها: أن تخصيص الحكم بالصفة لو دل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بالصفة، لدل عليه: إما من جهة صريح الخطاب. وهو باطل بالإجماع لما سبق. وأما من جهة أن يخصص الحكم بالصفة لابد له من فائدة، ولا فائدة سوى نفي الحكم عند عدم الصفة. وهو أيضًا باطل، لما تقدم أن له فوائد غيره.

وأما من جهة أخرى. وهو أيضًا باطل، إذا الأصل عدمه فلا يصار إليه إلا لدليل يحققه. وهو أيضًا ضعيف لاحتمال أن يقال: إنه يدل عليه من جهة أن لابد للتخصيص من فائدة، لكن لا لأنه لا فائدة سوى نفي الحكم، بل إما لأن هذه الفائدة أسبق إلى الذهن فيكون الحمل عليه أولى، وإما لأن الحمل على جميع الفوائد أولى تكثيرًا للفوائد. وسابعها: أن تقييد الحكم بالصفة، لو دل على النفي عند عدم الصفة، لما كان حكم المنطوق به ثابتًا مع عدمها، لأنه لو ثبت إذ ذاك لكان إما لا عن دليل يدل عليه، أو لدليل يدل عليه. والأول: باطل، لأن تخلف المدلول عن الدليل لا بسبب يقدح في كون ذلك الدليل دليلًا. والثاني: "أيضًا" باطل لما فيه من التعارض بين الدليلين، وأنه خلاف الأصل، لكنه ثابت كما في قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} وفي قوله: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم} / (327/ب).

وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وجوابه: ما سبق في جواب الدليل الثاني. وثامنها: أن الحكم المقيد بالصفة يرد تارة مع انتفاء الحكم عما عدا الموصوف بها "كما في قوله: زكوا عن الغنم السائمة، وتارة مع ثبوت الحكم فيه كما "في ما تلونا" من الآيتين قبل، فعند هذا نقول: إما أن يجعل حقيقة فيهما وهو باطل. أما أولا: فبالاتفاق. وأما ثانيًا: فلأن الاشتراك خلاف الأصل. أو مجازًا فيهما وهو أيضًا باطل لما تقدم من الوجهين. أو يجعل حقيقة في الثبوت مجازًا في النفي، وهو أيضًا باطل لما سبق من الوجهين. أو يجعل حقيقة في النفي مجازًا في الإثبات، وهو أيضًا باطل، لأن المجاز خلاف الأصل، فيتعين أن يجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو ثبوت الحكم في المنطوق به، مع قطع النظر عن ثبوته ونفيه عن غير المذكور. وأعلم أن هذا الدليل والذي قبله أقوى حجج من لم يقل بالمفهوم. وجوابه: أن المجاز وإن كان خلاف الأصل لكنه قد يصار إليه عند قيام

الدلالة عليه وما ذكرنا من الأدلة دال عليه فوجب المصير إليه. وتاسعها: لو دل تقييد الحكم بالصفة على نفي الحكم عما عد الموصوف بها، لدل تقييد الحكم بالاسم على نفيه عما عداه، إما بجامع صيانة التخصيص عن الإلغاء، أو بجامع حمله على تكثير الفائدة، أو بجامع التمييز فإن المقصود من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عن غيره، فكذا المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره واللازم باطل، فالملزوم مثله. وأجيب: عنه بأنه قياس في اللغة وهو ممنوع. سلمناه: لكن الملازمة ممنوعة وهذا لأن الفرق المناسب القادح بينهما قائم، ومعه لا يضاف الحكم إلى المشترك، وبيانه أن نفي الحكم في صورة التقييد "بالصفة أسبق إلى الفهم من سائر الفوائد، وهو غير حاصل في صورة التقييد" بالاسم، ولو سلم أنه ليس كذلك لكن لا يشك في منصف أن لا يرتاب في أن شعور الذهن عند سماع اللفظ العام المقيد بالصفة الخاصة بما ليس له تلك الصفة، أتم من شعوره بما يغاير "مدلول" اسم ما عند سماعه، وإذا كان كذلك لا يلزم من دلالة المفهوم على النفي ثمة دلالته على

النفي في صورة التقييد بالاسم. سلمنا: الملازمة، لكن انتفاء اللازم ممنوع، وهذا لأن بعض القائلين بمفهوم الصفة. قالوا: بمفهوم الاسم أيضًا. سلمناه: لكنه منقوض بمفهوم الشرط والغاية، فإن بعضهم سلم الحكم فيها كابن شريح والقاضي. وعاشرها: لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفي الحكم عند عدمها بطريق المفهوم لوجب أن ينفى حكم المفهوم، وإن بطل حكم المنطوق قياسًا على مفهوم الموافقة، وقياسًا على العكس، لكنه لا ينفى عند بطلان حكم المنطوق وفاقًا فليس له دلالة عليه. وجوابه: منه الملازمة، وهذا لأن المفهوم تابع المنطوق فإذا زال المتبع زال التابع. وأما القياس على مفهوم الموافقة، فالفرق بينهما ظاهر، وهو أن الحكم فيه ثابت بطريق الأولى، أو بطريق التساوي على اختلاف فيه، ولا يلزم من زوال الحكم عن الأدنى زواله عن الأعلى، وكذا القول على تقدير التساوي بخلاف مفهوم المخالفة، فإنه ليس الحكم فيه بطريق الأولى ولا بطريق التساوي، بل هو أضعف منه وإنما ثبت بواسطة [تخصيص الحكم بالصفة فإذا بطل التخصيص بل ما ثبت بواسطته] وأما القياس على العكس فالفرق أوضح وهو غني عن البيان وقريب من هذا الخلاف، الخلاف في تخصيص

الحكم بمجرد الأوصاف التي تطرأ وتزول من غير ذكر عام نحو قول القائل في السائمة زكاة، وسبب بعد هذا عن الأول هو أن في صورة التخصيص بالصفة من غير ذكر العام يمكن أن يكون الباعث التخصيص هو خطرانه بالبال وذهول المتكلم عما ليس له تلك الصفة، وهذا الاحتمال إن لم يمتنع في العام المردف بالصفة الخاصة في معرض الاستدراك فلا شك في بعده حدا، إنما قيدنا بالأوصاف التي تطرأ أو تزول احترازًا عن الصفة اللازمة للجنس كالطعم لما يؤكل نحو قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" فإن هذا ليس الخلاف فيه كالخلاف في تينك الصورتين المذكورتين، بل أبعد وهو قريب من الخلاف في التخصيص بالاسم. فرعان: أحدهما: القائلون بأن مفهوم المخالفة حجة اتفقوا: على أنه إنما يكون حجة إذا لم يكن الباعث للتقيد بالصفة العادة، وعليه وقوع ذلك الشيء مع تلك

الصفة، كما في تقدم من الأمثلة. وأما الذي يكون السبب فيه ما ذكرنا نحو قوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما} الآية ونحو قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" فلا، لأنه يغلب على الظن أن الباعث على التخصيص والتقييد هو غلبة الوقوع، لأن الحكم مختص بالصفة. الثاني: ذهب أكثر القائلين بمفهوم الصفة: إلى أن تقييد الحكم بالصفة في جنس، إنما يدل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك (328/ب) الجنس، لا غير فلا دلالة لمفهوم قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم زكاة" "عندهم على نفي الزكاة" "عن" معلوفات الإبل والبقر. وذهب الأقلون إلى القول بتعميم الأدلة. احتج الأكثرون: بأن دلالة المفهوم تابعة لدلالة المنطوق، والتابع لا يزيد على المتبوع ولا يجاوزه. ولأن دلالة المفهوم مخالفة لدلالة المنطوق، وهو لم يتناول إلا الجنس المذكور فمخالفة أيضًا لم يتناوله تحقيقًا لمعنى المخالفة، فإنه إذا بقي الحكم عما

المسألة الرابعة اختلفوا في الحكم المعلق على شيء بكلمة "إن" هل هو عدم عند عدم ذلك الشيء أم لا؟

لا يتعرض "له" المنطوق بالإثبات لم يكن مخالفًا له على الحقيقة، بل تسميته بذلك مجاز من باب إطلاق اسم الجزء على الكل. "وأما الأقلون فقد احتجوا: بأن الوصف المذكور في الحكم علة الحكم،" فإذا انتفى العلة انتفى الحكم إذ الأصل اتحاد العلة. وجوابه: منع أن الوصف المذكور علة الحكم، وهذا لأنه يحتمل أن يكون شرطًا له. سلمناه: لكن في الجنس المذكور لا مطلقًا، لكن في الوصف المناسب لا في غيره والبحث فيه وفي غيره. المسألة الرابعة اختلفوا في الحكم المعلق على شيء بكلمة "إن" هل هو عدم عند عدم ذلك الشيء أم لا؟.

فذهب القائلون بمفهوم الصفة بأسرهم، وجماعة من منكريه نحو ابن سريج والكرخي وأبي الحسين البصري: إلى أنه عدم عند عدمه وهو اختيار الإمام. وذهب: الباقون: نحو القاضي أبي بكر، والغزالي، وأكثر المعتزلة: إلى أنه ليس كذلك. لنا وجوه:

أحدها: ما روي أن يعلى بن أمية، قال لعمر بن الخطاب، ما لنا نقصر وقد أمنا وقد قال تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقال عمر رضي الله عنه تعجبت مما عجبت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".

ووجه الاستدلال به ظاهر، فإن يعلى بن أمية فهم منه عدم جواز القصر عند الأمن، وكذلك فهم عمر رضي الله عنهما ذلك وتعجب منه وفهمها حجة، وكذلك تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر على هذا الفهم أدل دليل عليه. فإن قلت: لا نسلم أنهما فهما ذلك، ولا نسلم إنما سألا ما سألا بناء على ما ذكرتم، ولا نسلم تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر على ما ذكرتم من الفهم، ولا تقرير عمر ليعلى بن أمية عليه، وهذا لأنه يحتمل أن يكون السبب في ذلك كله: هو أن الأصل في الصلاة هو الإتمام، وأن حال الخوف مستثنى من ذلك، فوجب أن يبقى ما عدا حال الخوف على الأصل، فلما لم يبق الحكم على الأصل تعجبا/ (329/أ) وسألا ما سألا وقررا على ما يعجبا منه. قلت: لو كان الأمر "على ما" ذكرت لم يكن لتلاوة آية القصر عند السؤال معنى ولا التعجب من مخالفة حكمها، لأنه ليس في جواز القصر في غير حالة الخوف مخالفة لها، بل كان المناسب ذكر ما يدل على وجوب الإتمام، فإن في جواز القصر في غير حالة الخوف له من غير دليل، وهو محل التعجب والسؤال، ولما لم يكن الأمر كذلك علما أن التعجب إنما كان بسبب مخالفة مفهوم الشرط. وقد أجيب عن السؤال المذكور بوجه آخر: وهو يمتنع أن الأصل في الصلاة هو الإتمام، بل الأصل عدم الإتمام والإتمام طارئ عليه يدل عليه ما

روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر) وإذا كان كذلك فليس في جواز القصر في غير حالة الخوف مخالفة الأصل فلم يصلح أن يكون ذلك سببًا للتعجب. وهو ضعيف. أما أولًا: فلأن معظم القائلين بمفهوم الشرط، نحو الشافعي وأصحابه لم يقولوا بهذا الأصل، بل هو باطل عندهم، فلم يمكنهم تصحيحه به، لأن

تخريج المذهب الصحيح على الباطل باطل، نعم: لو أجيب به على سبيل الإلزام على بعض الحنفية القائلين بمفهوم الشرط وبهذا الأصل كان صحيحًا. وأما ثانيًا: فإنا وإن سلمنا أن ذلك هو الأصل، لكن لا شك في نسخ ذلك الأصل بعد الزيادة، ويستحيل القول باحتمال نزور الآية قبل الزيادة، وإلا لقصرت الصلاة إلى ركعة واحدة، أو يتعطل اللفظ، لأن قوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا}. دال من وجهين: على أن الإتمام هو الأصل قبل نزول الآية، لأن سلب الجناح عن عدم الإتمام دليل على أنه رخصه، ولو كان ذلك هو الأصل لكان عزيمة، وكذلك لفظ القصر دال عليه، لأن الصلاة المشروعة ابتدأ ركعتين لا تسمى مقصورة ولا فعلها قصرًا، فيتعين أن يقال أنها نزلت بعد الزيادة ونسخ ذلك الأصل، وحينئذ يصلح أن يكون ما ذكروه منشأ للتعجب. وثانيها: أن كلمة "إن" مسماة بحرف الشرط عند أهل العربية، وهو ظاهر فإن كتب النحو بأسرها ناطقة بهذا، والأصل في الاستعمال الحقيقة، والنقل خلاف الأصل، لأن من الظاهر أنها ليست مسماة بهذا الاسم باعتبار "أن" نفسها أو معناها شرط، بل باعتبار إن ما دخل عليه لفظًا أو معنى لما بعده كذلك والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه، لأنه معنى عام في جميع/

(329/أ) موارد استعماله فوجب جعله حقيقة فيه دفعا للاشتراك والتجوز. وإنما قلنا: ذلك لأنهم يقولون: الحياة شرط العلم والقدرة والإرادة، والوضوء شرط صحة الصلاة، والحول شرط وجوب الزكاة، والاستطاعة شرط وجوب الحج. ويقولون: أيضًا أشراط الساعة: أي علاماتها. والمعنى العام الذي يشمل هذه الموارد كلها، هو أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء ما هو شرط له، لأنه يلزم من انتفاء الحياة انتفاء العلم والقدرة والإرادة، ويلزم من انتفاء الوضوء والحول والاستطاعة وعلامات الساعة، انتفاء صحة الصلاة ووجوب الزكاة والحج وانتفاء الساعة. أما أنه يلزم من وجود الشرط وجود ما هو شرط له أو مجموع الأمرين أعني أنه يلزم من الوجود الوجود ومن العدم العدم، فليس بمعنى عام في جميع موارد استعماله إذ لا يلزم من وجود "الوضوء" والحول صحة الصلاة، ووجوب الزكاة، فعند هذا ظهر أنه يلزم من انتفاء ما دخل عليه "إن" انتفاء ما هو مشروط به وهو المطلوب. فإن قلت: سلمنا: أن ما دخلت عليه كلمة "إن" شرط لما بعده، وأن الشرط ما يلزم من انتفائه انتفاء ما هو مشروط به، لكن إذا لم يوجد ما يقوم

مقامه، أما إذا وجد ما يقوم مقامه فلا. وهذا لأنه يقال الوضوء شرط صحة الصلاة، ومع هذا لا يلزم من انتفاءه انتفاء صحة الصلاة إذا قام غيره مقامه كالتيمم، وحينئذ لا يلزم من عدم ما دخلت عليه كلمة "إن" عدم ما هو مشروط به، إلا إذا ثبت أنه لم يوجد ما يقوم مقامه. فلم قلت: أنه لم يوجد ما يقوم مقامه، وإذا لم يثبت ذلك لم يحصل مقصودكم من إثبات هذا الأصل، وهو الاستدلال بانتفاء ما دخل عليه "كلمة" إن على انتفاء ما هو مشروط به. قلت: نحن نساعدكم أنه لا يلزم من "كلمة من" انتفاء ما هو مشروط به إلا إذا ثبت أن ذلك الشرط شرط بعينه، أما إذا لم يثبت ذلك فلا لكن نقول: قد ثبت بما ذكرنا وسلمتم أيضًا أن ما دخل عليه كلمة "إن" شرط لما بعده والأصل عدم شرط آخر يقوم مقامه فيلزم من انتفائه انتفاء المشروط ظاهر، وحينئذ يحصل ما هو المقصود من إثبات هذا الأصل. وثالثها: لا شك أن الرجل إذا قام: أكرم زيدًا إن كان فاسقًا، فإنه يستقبح ويستهجن في العرف ولو قال: أكرم زيدًا وإن كان فاسقًا، فإنه لا

يستقبح ولا يستهجن فاستقباح القول الأول، إما أن يكون لأنه أمر بالإكرام مع منافيه الذي هو/ (330/أ) الفسق، أو لأنه أمر بالإكرام مع الفسق الذي هو منافيه مع قيد "أنه غير متعرض" لغير حالة الفسق لا بالإكرام ولا بعدمه على ما هو رأي الخصم فيه، وفي أمثاله، أو أمر بالإكرام في حالة الفسق وبعدمه في غير حالة الفسق التي فيها الأمر بالإكرام أجدر، والأمران الأولان باطلان فتعين الثالث. أما الأول: منهما فلأنه لو قبح ذلك لفتح القول الثاني، لأنه فيه الأمر بالإكرام في حالة الفسق أيضًا. أما الثاني: فلكونه عدميا إذ المركب من العدمي والقبيح وجودي، ولعدم مناسبته للاستقباح [كان خبره غير مناسب] لأنه التصريح بعدم إكرام الصالح هو القبيح لا عدم التعرض لإكرامه وعدمه، ألا ترى أن الرجل لو أمر بعدم إكرام الصالح لقبح منه ذلك، ولو لم يتعرض لإكرامه ولا لعدم إكرامه ويسكت عن القسمين لم يقبح منه ذلك وجزء العلة يجب أن يكون مناسبًا وإذا بطل الأمران تعين الثالث. لا يقال: إنه وحده وإن [كان] لا يقبح لكن لا نسلم أنه مع الأمر بإكرام الفاسق لا يصح، وهذا فإن الشيء قد لا يقبح ابتداء لكن يقبح عند ذكر غيره، لأنا نقول لو قبح إذ ذاك فإنما يقبح، لأن تخصيص ذكر حالة الفسق بالإكرام ينبئ عن أن حالة غير الفسق بخلاف حالة الفسق عنده وذلك من قبيل المفهوم الذي لا يقول به الخصم، وهو أضعف من مفهوم الشرط فلم يجز أن يكون ذلك مستند القبح عندهم، ولو أورد بطريق الإلزام فدفعه

بإجماع اللاقائل بالفصل، وإذا بطل الأمران الأولان تعين الثالث وهو المطلوب. ورابعها: أن قول الرجل: أكرم الرجل إن كان صالحًا، يقابل في العرف قوله: أكرم الرجل إن كان فاسبقًا، لهذا لو قال: الرجل القول الأول فمن أراد مخالفته ومضادته وعكس ما قاله "و" قال: القول الثاني، فلو لم يكن الحكم المعلق بكلمة "إن" عدم عند عدم المعلق عليه لما كان كذلك، وإذا أفاد ذلك في العرف وجب أن يكون كذلك في أصل اللغة، وإلا لزم النقل وأنه خلاف الأصل. احتجوا بوجوه: أحدها: النفي وهو نحو قوله تعالى: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون}. وقوله: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} وقوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} وقوله: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا}. والحكم في جميع هذه الآيات المتلوة غير منتف عند انتفاء ما علق عليه

بكلمة "إن" إذ الأمر بالشكر حاصل سواء حصلت العبادة أو لم تحصل، وكذلك الرهن جائز في الحضر ومع وجود الكاتب، وكذلك القصر جائز سواء حصل الخوف/ (330/ب) أو لم يحصل، وكذلك تحريم الإكراه على البغاء سواء حصل إرادة التحصين أو لم يحصل، فإن كان هذا مقتضى الكلام والاستعمال فقد حصل المقصود، وهو أن المعلق بكلمة "إن" لا يلزم أن يكون عدمًا عند عدم المعلق عليه وإن لم يكن ذلك مقتضاه، بل حصل ذلك لدليل آخر [فحينئذ] يلزم التعارض، وأنه خلاف الأصل فما يستلزمه يكون أيضًا كذلك. وجوابه من وجهين: أحدهما: وهو الوجه الجملي: وهو أن التعارض وإن كان خلاف الأصل، لكنه يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، وما ذكرنا من الأدلة مع التخلف فيما ذكرتم من الصور دال عليه، إذ التخلف لا لدليل قادح في تلك الأدلة فوجب المصير إليه. وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي: أما عن الآية الأولى فلا نسلم أن الحكم غير منتف فيها عند انتفاء المعلق عليه، وهذا لأنه يجوز أن يكون معنى العبادة في الآية هو التوحيد فمعنى قوله: {إن كنتم إياه تعبدون} أي توحدون، كما في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي ليوحدون.

فعلى هذا إن لم تحصل العبادة المعلق عليها الحكم حصل الشرك والكفر، وعند ذلك لا يكون الأمر بالشكر حاصلًا بمعنى طلب الفعل وفاقًا. ولئن سلمنا: أن المعنى من العبادة المذكور في الآية ما هو المتعارف "منها"، لكن لا نسلم أن الحكم غير منتف عند انتفائها. وهذا لأن الشكر عندنا على ما بينا في مسألة شكر النعم: عبارة عن القول: اللساني والفعل الجوارحي والمعرفة الجناني. ولا شك أن ذلك المجموع لا يبقى عند انتفاء أعمال الجوارح، فعند ذلك يستحيل وجود الشكر، والمستحيل غير مأمور به. سلمنا: أن الشكر ليس عبارة عن هذا المجموع، لكن نقول: لم لا يجوز أن يكون الشكر المأمور به في الآية هو الشكر الكامل، وحينئذ يكون الحكم منتف عند انتفاء المعلق عليه، إذ لا شك أن الشكر الكامل يستحيل وجوده إذ ذاك، والمستحيل غير مأمور به. فإن قلت: المأمور به في الآية هو مطلق الشكر وتقييده بالشكر الكامل، خلاف الأصل. قلت: يجب الحمل عليه لئلا يلزم التعارض فإنه أشد محذورًا من الإضمار. وأما عن الآية الثانية والثالثة: فهو أن التعليق بكلمة "إن" عندنا إنما يدل على العدم عند عدم المعلق عليه، إن لو لم يمكن الباعث على التعليق شدة الحاجة، كما هو في الآية الثانية فإن الحاجة إنما تمس إلى أخذ الرهن في حالة

السفر وعدم وجدان الكاتب أو غلبة الوقوع على ذلك النسق، كما هو/ (331/أ) في الآية الثالثة فإن خوف افتتان الكفرة كان حاصلًا في غالب أسفار المسلمين في ذلك الزمان. أما إذا كان الباعث أحد ما ذكرنا من الأمرين فلا نسلم أنه يدل عليه، وهذا وإن لم يكن منصوصًا للأصحاب، لكن لا بأس به أخذًا مما قالوه: في مفهوم الصفة: كيف وجدت ذلك في كلام إمام الحرمين منصوصًا عليه "وهذا يبطل الاستدلال بالآية ويضعفه فهم الصحابة وتقرير الرسول فإنه إذا لم يكن للآية مفهوم لم يكن للتعجب معنى فالأولى أن يجاب عنه بأن ظاهر الشرط يقتضي العدم لكن لا يمتنع مخالفة المنفصل". وأما عن الآية الرابعة: فهو أنا لا نسلم أن الإكراه على البغاء محرم حالة عدم إرادة التحصن، وهذا لأن تحريم الإكراه "على البغاء" فرع تصور ماهية الإكراه على البغاء، وحالة عدم إرادة التحصين يمنع تصور ماهية الإكراه على البغاء لأنه حينئذ يتحقق إرادة البغاء والإكراه لا يتصور على المراد فيمتنع تحريم الإكراه على البغاء، حينئذ لامتناع ماهيته.

فإن قلت: لا نسلم أنه عند عدم إرادة التحصين يتحقق إرادة البغاء حتى يمتنع الإكراه عليه، وهذا لأنه يجوز أن لا تريده أيضًا: إذ يجوز خلو الإرادة عن الضدين، نعم: إنما يلزم امتناع الإكراه على البغاء إذ ذاك، من حيث تفسير الإكراه لا من حيث إنه مراد إذ ذاك حتمًا، وذلك لأن الإكراه لو كان عبارة، عن أن يحمل الإنسان على فعل ما يريد أن يفعله لزم امتناعه عند عدم إرادة التحصن، لأن إذ ذاك إما أن يريد البغاء، أو لا يريده، إما بأن لا يكون محظورًا بالبال، أو وإن كان محظورًا فيه، لكن لا يريده، لأنه يجوز خلو الإرادة عن الضدين، وعلى التقديرين يستحيل الإكراه على البغاء على ذلك التفسير، لكنه ممنوع. ولم لا يجوز أن يكون الإكراه؟ عبارة: عن أن يحمل الإنسان على فعل ما لم يرد فعله. وحينئذ لا يلزم من عدم إرادة التحصن امتناع الإكراه على البغاء على ما ذكرنا من التفسير، لجواز أن لا يكون مرادًا أيضًا: لما سبق فيمكن الإكراه عليه.

قلت: الدليل على أن عند عدم إرادة التحصن يتحقق إرادة البغاء هو أن قوله تعالى: {إن أردن تحصنا} دل على أن المراد حالة الداعي إلى قضاء الشهوة لأن من لا داعية له إلى قضاء الشهوة كالعنين وغيره لا يقال: له تحصن، ولأنه ليس فيه تكليف وهو ينبي عن التكليف كالتحكم والتعلم، ومفهوم الكلام الجواب يتقيد بحالة منطوقة، فيكون معنى مفهومه، فإن لم يردن التحصن حالة الداعي إلى قضاء/ (331/ب) الشهوة لا يكون الإكراه منهيًا عنه، والأمر كذلك؛ لأن عند ذلك يردن البغاء قطعًا وإلا لم يكن الداعية داعية والإكراه على المراد غير تصور فلا يكون منهيًا عنه وبه خرج، الجواب عن الثاني أيضًا: لأنه مبني على أنه لا يلزم أن يكون البغاء مرادًا إذ ذاك وقد أبطلناه. سلمنا: صحته لكن نقول الإكراه عبارة عن أن يحمل الإنسان على فعل ما يريد أن لا يفعله، لا على فعل ما لا يريد أن يفعله. لأن المتبادر إلى الذهن من إطلاق الفعل المكره عليه، أنه مكروه للمكره "أي" الفاعل، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يكون مكروها له إلا وأن يريد أن لا يفعله إذ الكراهة ضد الإرادة فتعتبر فيها إرادة عدم الفعل لا عدم إرادة الفعل، ولأن الذي يستوي فعله وتركه عند الإنسان يفعله الإنسان

بأدنى باعث من خارج من غير أبا النفس عنه ومن غير مشقة فلا يتصور فيه الإكراه. وثانيها: الحكم وهو أن الرجل إذا قال: لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فهذا لا ينفي وقوع الإطلاق بدون دخول الدار وفاقًا، حتى لو نجز أو علق بشيء آخر وقع. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا ينفي والاستدلال على ذلك بوقوع المنجز أو المعلق بتعليق آخر غير صحيح، لأن ذلك عندنا غير المعلق بدخول الدار ويدل عليه أن المعلق بدخول الدار يقع بعد التنجيز، إن كان واحدًا، أو أثنين، أو ثلاثًا، على رأي ولو كان عينه استحال ذلك، كما لو كان الدخول بعد الدخول. سلمنا: أنه عينه لكن المفهوم إنما يدل لو لم يعارضه المنطوق، وهذا الشرط منتف عند التصريح بالتنجيز. وثالثها: أن ما علق عليه الحكم بكلمة "إن" إن لم يكن شرطًا للحكم، أو كان شرطًا له، لكن ليس من لوازم الشرط انتفاء الحكم عند انتفائه، فقد حصل المقصود، وإن كان من لوازمه ذلك فحينئذ يلزم عدم جواز القصر في السفر حالة عدم خوف افتتان الكفار، وهو محال مخالف للإجماع، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. وجوابه: ما سبق في جواب الآية.

المسألة الخامسة [في حجية مفهوم الغاية]

ولو فرض هذا الاستدلال في غيرها حيث لا يتأتى ذلك الجواب. فجوابه أنه من لوازمه عند عدم المعارض وليس من لوازمه عند وجوده، ولو قيل بأنه خلاف الأصل. فجوابه أيضًا قد سبق. المسألة الخامسة [في حجية مفهوم الغاية] مد الحكم إلى غاية بصريح الكلام نحو قوله: صوموا صومًا آخره الليل. أو بصيغة "إلى" أو "حتى" نحو قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام/ (332/أ) إلى الليل}. وقوله: {حتى يطهرن}. هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية؟

اختلفوا فيه: فذهب كل من قال بمفهوم الشرط، وبعض المنكرين له نحو القاضي أبي بكر، والقاضي عبد الجبار: إلى أنه يدل على النفي. وذهب الباقون: إلى أنه لا يدل عليه. لنا وجوه: أحدها: أن ما بعد الغاية نحو قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} ونحو قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ليس كلامًا تامًا بأنه لو ابتدأ وقال: {حتى يطهرن} و {حتى تنكح زوجًا غيره} وسكت لم يحسن السكوت عليه، فلابد فيه من إضمار وذلك "إما" ضد ما قبله، أو غيره. والثاني: باطل، لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه عينا، ولا في العقل، فإما أن يضمر الكل وهو باطل. أما أولًا: فبالاتفاق. وأما ثانيًا: فلأنه تكثير الإضمار من غير حاجة، أو يضمر واحد من غير تعيين، وهو أيضًا باطل، لأنه إجمال مخل بالمقصود، فيتعين الأول، وهو

المقصود، فيكون تقدير الكلام فيما ذكرنا من المثالين، ولا تقربوهن حتى يطهرن فاقربوهن وحتى تنكح زوجًا غيره فتحل، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة ثبت في غيرها لعدم القائل بالفصل. فإن قلت: لا نسلم أنه ليس في العقل ما يدل على تعيين إضمار غير ضد الكلام، وهذا لأن إضمار كونه مسكوتًا عنه إذ ذاك مما يدل عليه العقل، وذلك لأن العقل دل على أنه لا حكم قبل الخطاب، فإذا ورد الخطاب مثبتًا للحكم إلى حصول وصف، أو إلى زمان، أو إلى مكان، وجب أن يبقى ما بعد ذلك الزمان والمكان على حكم الأصل، فيكون مسكوتًا عنه، فإضماره مما دل عليه العقل. قلت: هب أن إضمار كونه مسكوتًا عنه مما دل عليه العقل بالطريق الذي ذكرتم، لكن نقول: إن إضمار "ضد" الحكم المذكور أولى. أما أولًا: فلأنه أكثر فائدة، وأما ثانيًا: فلأنه مشعور به من جهة اللفظ والإضمار حكم لفظي، فيكون إضماره أولى. وأما ثالثًا: فلأن الذهن مبادر إلى فهمه عند الإطلاق، كما سيأتي. وثانيها: أن غاية الشيء، نهاية الشيء، ونهاية الشيء منقطعة وإنما يكون ما بعد الغاية منقطعًا، إن لو لم يكن الحكم ثابتًا فيه، فإن بتقدير أن يكون الحكم ثابتًا فيه، لم يكن منقطع الحكم فلم يتحقق مفهوم الغاية، وهو خلاف ظاهر التسمية، ولا يدفع بأن الحكم لو ثبت فإنما يثبت بخطاب آخر لا بالأول لأنه ليس غاية مقيدة، بل هي غاية للحكم على الإطلاق.

وثالثها: أن الرجل إذا قال: "لا تعط" زيدًا درهما حتى/ (332/ب) "يقوم" واضرب عمرًا حتى يتوب، فهم منه الأمر بالإعطاء عند القيام وترك الضرب عند التوبة ولهذا يستقبح الاستفهام عنهما "بعدهما ولو لم يفهما لم قبح الاستفهام عنهما". فإن قلت: الملازمة ممنوعة، وهذا لأنه يجوز أن يكون قبح الاستفهام لأجل أنه مسكوت عنه غير متعرض للنفي والإثبات فقبح، كما قبل الأمر بالإعطاء والضرب، فإنه إذا قال: ابتداء هل أعطي زيدًا درهما "إذا قام" وهل ترك الضرب عن عمر؟ إذا تاب قبح ذلك. قلت: الدليل على أن قبح الاستفهام، إنما كان لأجل أنهما فهما من الكلام، لا لأجل ما ذكرتم، هو أن الاستفهام عن الشيء قد يحسن لوجود ما يوهم وجوده، والتقييد بالغاية إن لم يكن مقتضيًا لضد الحكم السابق فلاشك أنه موهم له، فكان ينبغي أن يحسن بخلاف ما قبل الأمر، فإنه لم يوجد هناك ما يوهم الإعطاء والضرب وتركه حتى يحسن الاستفهام عنهما ولما لم يحسن دل على أنه إنما قبح لأنه مقتضى للحصول وأنه غير متردد فيه. احتجوا بوجهين: أحدهما: أنه لو دل تقييد الحكم بالغاية المحدودة على نفي الحكم عما بعد الغاية، فإنما يدل لأنه لابد للتقييد من فائدة، وإلا لكان التقييد بالغاية عبثًا إذ

من المعلوم أنه لا يدل اللفظ المقيد بالغاية بصراحته، والأصل عدم غيرهما لكن لا يدل من تلك الجهة، لأن له فائدة أخرى وهي تعريف بقاها بعد الغاية على ما كان عليه قبل الخطاب، فإنه لو أطلق اللفظ ولم يقيده بالغاية لثبت الحكم فيما قبل الغاية وبعدها فقيد ليعرف بقاؤه على ما كان عليه من قبل. وجوابه: أن ما ذكرتم، وإن كانت فائدة، لكنها ليست فائدة لفظية، لأن بقاء حكم ما بعد الغاية على ما كان عليه قبل الخطاب، إنما يعرف بالعقل واللفظ على ما ذكروه إنما يفيد قطع الحكم لا غير، وحمل اللفظ على الفائدة اللفظية أولى، ولأن ما ذكرناه أكثر فائدة على ما ذكرتم، فكان الحمل عليه أولى. وثانيهما: أنا أجمعنا على أنه يجوز أن يثبت ما بعد الغاية مثل حكم ما قبلها، فعند ذلك يقول التقييد بالغاية لو اقتضى عدم الحكم فيما بعدها لزم التعارض، وأنه خلاف الأصل، وإن لم يقتض فهو المطلوب. وجوابه: ما سبق من أنه يصار إليه عند قيام الدلالة عليه.

المسألة السادسة في أن تقييد الحكم بعدد مخصوص، هل يدل على نفي ذلك الحكم عن غيره من الإعداد أم لا؟

المسألة السادسة في أن تقييد الحكم بعدد مخصوص، هل يدل على نفي ذلك الحكم عن غيره من الإعداد أم لا؟ اختلفوا فيه: وتحقيق القول فيه يستدعي تفصيلًا، وهو أن غيره من الأعداد إما زائدًا، أو ناقص، وعلى التقديرين الحكم: إما واجب/ (333/أ) أو ندب أو إباحة، أو كراهة، أو حرمة، فيحصل من ضرب هذه الأحكام الخمسة في الاثنين أقسام عشرة. أحدها وثانيها وثالثها: أن يكون عدد مخصوص واجبًا، أو ندبًا، أو مباحًا، نحو ما وجب الله تعالى علينا جلد الزاني مائة جلدة، أو ندبنا إليه أو إباحة لنا، فهذا يقتضي أن يكون ما زاد على ذلك العدد واجبًا، أو ندبًا أو مباحًا، وكذا "لا يقتضي أيضًا" حرمة، ولا كراهة، نعم: إنه يقتضي عدم وجوب الزائد على مذهب القائلين بالمفهوم: وهو ظاهر غني عن البيان. ورابعها: أن يكون عدد مخصوص واجبًا، فهذا يقتضي أن يكون ما دونه من العدد واجبًا إن كان داخلًا فيه لا محالة، لأنه لا يمكن الإتيان به دونه وما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب، وإن لم يكن كذلك فلا.

وخامسها: أن يكون عدد مخصوص ندبًا فهذا يقتضي أن ما دونه من العدد راجح الفعل لا محالة، لكن بالشرط المذكور وإلا فلا. وإنما قلنا إنه يقتضي كونه راجح الفعل ولم يقل إنه يقتضي أن يكون مندوبًا كهو، لأنه محتمل أن يكون [راجح الفعل ولم يقل إنه] واجبًا والحكم بالندبية ينافي الوجوب. وسادسها: أن يكون عدد مخصوص مباحًا، فهذا يقتضي أن ما دونه من الأعداد جائز الفعل إن كان داخلًا فيه لا محالة، ولا يقتضي إباحته، أو ندبيته، لاحتمال أن يكون واجبًا، لأن من الظاهر أن قول الشارع أبحت لكم أن تجلدوا الزاني مائة وعشرين جلدة، لا ينافي قوله: أوجبت عليكم أن تجلدوه مائة جلدة، ولو كان مقتضيًا للإباحة، لكان منافيًا له وهو التقرير بعينه في الندب وإن لم نذكر ثمة، وإن لم يكن داخلًا فيه على الشرط المذكور فسواء كان داخلًا تحته مرة دون أخرى أو لم يدخل تحته أصلًا، فإنه لا يدل على جواز فعلهما، لأنه لا يتوقف فعل المباح عليهما كما توقف ما هو داخل تحته لا محالة. وسابعها وثامنها: أن يكون حكم عدد مخصوص الكراهة، أو الحضر

فهذا يقتضي أن ما زاد عليه أولى بالكراهة، والحظر، نحو ما إذا حظر الشارع جلد الزاني مائة وعشرين، فهذا يقتضي أن مائة وأربعين أولى أن يكون محظورًا، وكذا قوله عليه السلام: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" يدل على أن ما زاد على القلتين لم يحمل الخبث بطريق الأولى. أما إذا نص على عدد مخصوص، بأنه غير مستلزم لكذا، أو لا يترتب عليه كذا، نحو قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله/ (333/ب) لهم} فهذا "هل" يتقتضي أن ما زاد عليه على خلافه أم لا؟. اختلفوا فيه فالقائلون بالمفهوم: ذهبوا إليه، وأنكره الباقون وهو صورة من صور مفهوم العدد المختلف فيه. وتاسعها وعاشرها: أن يكون حكم عدد مخصوص الكراهة، أو الحظر فهل يقتضي هذا أن يكون حكم ما دونه على خلافه أم لا؟ اختلفوا فيه أيضًا فالقائلون بالمفهوم: ذهبوا إليه. وأنكره الباقون. وعلى هذا الخلاف أيضًا حكم النفي نحو قول القائل: "القلتان لا تحملان الخبث" فإن مفهومه عند القائلين به، إن ما دونهما يحمل الخبث. احتج القائلون بمفهوم العدد بوجوه:

أحدها: "ما" روي أنه لما نزل قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} قال عليه السلام: "والله لأزيدن على السبعين"

فعقل عليه السلام أن الحكم منفي عن الزيادة وإلا لم يكن للزيادة فائدة وأجيب عنه بوجوه: أحدها: أنه خبر واحد فبتقدير صحته لا نسلم أنه تقوم الحجة في إثبات اللغة، كيف وإن الأظهر أنه غير صحيح، وذلك لأنه عليه السلام أعرف

الخلق بمعاني كلام الله تعالى، وذكر السبعين في الآية ما جرى إلا لقطع الطمع في الغفران ومبالغة في اليأس عنه، على ما عرفت ذلك من عادة العرب في أن التقييد بالسبعين في الأكثر إنما هو للتكثير والمبالغة في العدد، لا أن خصوصية السبعين مراده. ولقائل: أن يقول: "إن" هذا لا يدل على عدم صحة الحديث، لاحتمال أن يقال: إنه عليه السلام قال ما قال: لغرض آخر غير حصول المغفرة، نحو: استمالة قلوب الأحياء منهم، وترغيبهم في الإسلام، إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه إنما قال: ما قال: رجا لحصول المغفرة، وإذا أمكن أن يكون غرضه شيئًا آخر غير حصول المغفرة، لم يكن ما ذكروه فادحًا في صحة الحديث، كيف وإنه في الصحيح المتفق على صحته. وثانيها: وهو ما ذكره الإمام: وهو أن تقييد الحكم بالسبعين، كما لا ينفيه عن الزائد، فكذا لا يوجبه، فلعله عليه السلام جوز حصول المغفرة فيما زاد على السبعين، كما كان قبل التقييد. وهو أيضًا ضعيف: لما سبق من أنه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني كلام الله تعالى، وأن

التقييد بالسبعين إنما جرى لقطع الطمع عن حصول المغفرة لا لتخصيص الحكم به، وهو كقول القائل: إشفع أو لا تشفع إن شفعت سبعين مرة لا أقبل شفاعتك، فإنه لا يفهم منه إلا سد باب "قبول" الشفاعة لا غير، ويؤكده قوله تعالى: {سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر/ (334/أ) ما دون ذلك لمن يشاء}. وثالثها: وهو الأولى أنه عليه السلام إنما قال: ما قال: لاستمالة قلوب الأحياء منهم، ولترغيبهم في الإسلام بسبب شدة اهتمامه في تحصيل المغفرة لهم مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع لا لأنه عليه السلام عقل أن حكم السبعين فنفي عما هو زائد على السبعين. ورابعها: وهو أيضًا جيد وهو أنه إن لم يصح عنه -عليه السلام- ما ذكروه فقط سقط الاستدلال بالكلية، وإن صح فنقول: إنه مؤول والتقدير والله لأزيدن على السبعين لو علمت أن الزيادة تنفع. وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكن يجب المصير إليه لما سبق، ولما روى أنه عليه السلام قال

عند ذلك "لو كنت أعلم أن الزيادة تنفع لزدت". وثانيها: قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}. جعل مخصصا لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} قاله: بعد ذكر المحرمات، إذا الأصل عدم دليل آخر، وكذلك قوله تعالى: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} جعل مخصصًا لقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}. إذ الأصل عدم دليل آخر. وكذلك خصص قوله عليه السلام: "في الغنم صدقتها" بمفهوم قوله عليه السلام: "في أربعين من الغنم السائمة شاة" إذ الأصل عدم دليل آخر. وجوابه: منع التخصيص بما ذكروه من مفهوم العدد، بل خصص ما ذكروه من النصوص بالإجماع، وظهور مستند الإجماع غير لازم لو سلم أنه لابد له من مستند، فإن من يجوز انعقاد الإجماع عن بحث ومصادفة يمنع منه، كيف وأنه مستنده ظاهر على ما لا يخفى ذلك على المحصل. وثالثها: أن الأمة عقلت من تحديد حد القاذف ثمانين نفي وجوب

الزيادة، وكذلك عقل ابن عباس رضي الله عنهما من قوله تعالى: {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} المنع من الرد، ولذلك احتج بالآية على عدم جواز الرد وقال: إن إثبات النصف لها يدل على أنها لا تزاد على ذلك، وتعقله وفهمه حجة. وجوابه: منع أن الأمة عقلت ذلك من الآية، بل لم يعقلوا من الآية إلا إيجاب الثمانين، وأما نفي الزيادة فبالبراءة الأصلية، وعن الثاني: أنه لو صح عنه ما ذكروه، فلا نسلم أنه بناء على مفهوم العدد، بل لأن الله تعالى بين مالها عند عدم الولد عند الحاجة، فلو كان لها شيء/ (334/ب) آخر لبينه، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز.

المسألة السابعة في أن تقييد الحكم، أو الخبر، بالاسم: علما، كان أو اسم جنس لا يدل على نفي الحكم عما عداه. خلافا لأبي بكر الدقاق والحنابلة

المسألة السابعة في أن تقييد الحكم، أو الخبر، بالاسم: علمًا، كان أو اسم جنس لا يدل على نفي الحكم عما عداه. خلافًا لأبي بكر الدقاق والحنابلة.

لنا وجوه: أحدها: لو دل تخصيص الحكم بالاسم على عدم الحكم عما عداه لزم أحد الأمرين: وهو إما إبطال القياس بالكلية، أو التعارض. وذلك لأن الحكم في الفرع إن كان منصوصًا عليه أو مجمعًا عليه، كما في الأصل فقد لزم إبطال القياس بالكلية، وإن لم يكن كذلك كان النص الدال على الحكم في الأصل، دالًا على عدم الحكم في الفرع بطريق المفهوم، فعند ذلك إن لم يجز إثبات الحكم في الفرع بالقياس بناء على أن من شرط القياس أن لا يدل النص على الحكم فيه، لا بطريق الصريح ولا بطريق المفهوم، فقد لزم أيضًا إبطال القياس بالكلية، وإن جاز بناء على أن من شرطه أن لا يدل بطريق الصريح لا أنه لا يدل عليه بطريق المفهوم، فقد لزم التعارض سواء ثبت الحكم فيه على مقتضى المفهوم، أو على مقتضى القياس لكن الأول: خلاف الإجماع والثاني خلاف الأصل فما يستلزمه يكون أيضًا كذلك. وثانيها: أن الرجل إذا قال: زيد يأكل، لم يفهم منه أهل اللسان أن عمرًا وغيره لم يأكل، ولو كان دالا لما كان كذلك، وبهذا القيد سقط. [و] ما قيل: بأن عدم فهمه بالنسبة إلى من يعتقد مفهوم اللقب، ممنوع، وبالنسبة إلى من لا يعتقد لا يضر. وثالثها: لو كان تقييد الحكم بالاسم دالا على نفي الحكم عما عداه،

لكان قول الرجل: إن زيدًا أكل، أو ذهب إل السوق، أو صلى، كاذبًا عندما فعل غير ذلك، لكنه باطل بإطباق أهل اللسان فالملزوم مثله. فإن "قلت" "إ" نما لم يعد كاذبًا لدلالة القرينة على أنه لم يرد منه دلالة المفهوم، وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون عالمًا بأن غيره فعل ذلك، أو لا يكون عالمًا به، وعلى التقديرين: القرينة الخالية دالة على أنه لم يرد منه دلالة المفهوم، لأن الظاهر من حال العاقل أن لا يخبر بنفي ما علم وقوعه ولا ينفي ما لم يعلمه. قلت: هذا يقتضي أن لا يحمل خبر على الكذب مهما أمكن حمله، ولو على مجاز بعيد بدون القرينة المعينة له بغير ما ذكروه، لكنه باطل، لأن خبر من لم تثبت عصمته عن الكذب محمول على الحقيقة عند عدم القرينة الدالة على إرادة المجاز "سواء" لزم منه صدقه أو كذبه، وإنما يحكم بإرادة المجاز إذ ذاك عند ما لزم من حمله على الحقيقة الكذب في خبر المعصوم/ (335/أ) عن الكذب لا غير وما ذكروه قرينة لازمة للخبر غير منفكة عنه، يمنع من حمله على الكذب إلا حيث لا يحتمل اللفظ مجازًا، ومعلوم أن ذلك ممتنع أو نادر، "وأيضًا القصد غير معتبر في صدق الخبر وكذبه باتفاق بيننا". ورابعها: أن تقييد الحكم باللقب لو كان دليلًا على نفي الحكم عما عداه لكان قول القائل: محمد رسول الله كفرًا، لأنه يدل بمفهومه على أن عيسى وموسى وغيرهما من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليسوا برسل وهو كفر

صريح. واعترض: بأنه إنما يكون كفرًا لو لم يكن منبهًا بدلالة لفظية أو قرينة حالية، أو عقلية: على أنه لم يرد منه المفهوم. وجوابه: أنه حينئذ يلزم التعارض وهو خلاف الأصل. واحتجوا بوجهين: أحدهما: عكس ما مضى في مفهوم الصفة. وجوابه: أيضًا ما تقدم. وثانيهما: أن الرجل إذا قال لصاحبه في الخصومة: أما أنا فليست أمي زانية وليس أبي قوادًا، فإنه يفهم منه نسبة الزنا والقيادة إلى أما صاحبه وأبيه، ولذلك يجب الحد على رأي بعض العلماء.

المسألة الثامنة [في مفهوم "إنما"]

وجوابه: أن ذلك لقرينة الخصومة، ولو فرض هذا في غير الخصومة فنحن نمنع فهمه منه، ولو سلم فإنما هو لقرينة المدح. المسألة الثامنة [في مفهوم "إنما"] اختلفوا في مفهوم "إنما" وقد ذهب كثير من منكري المفهوم كالقاضي أبي بكر، والغزالي وغيرهما، إلى أنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد وأصرت الحنفية على إنكاره أيضًا، والاحتجاج عليه نفيًا وإثباتًا فقد تقدم في اللغات في أن كلمة "إنما" للحصر فلا حاجة إلى الإعادة.

المسألة التاسعة اختلفوا في مفهوم نحو قوله: لا عالم في المدينة إلا زيد، فجماهير منكري المفهوم ذهبوا إلى إثباته، وأصرت الحنفية على إنكاره أيضا

المسألة التاسعة اختلفوا في مفهوم نحو قوله: لا عالم في المدينة إلا زيد، فجماهير منكري المفهوم ذهبوا إلى إثباته، وأصرت الحنفية على إنكاره أيضًا: وقد عرفت ما في هذه المسألة من الكلام نفيًا وإثباتًا في باب الاستثناء فلا حاجة إلى الإعادة. "المسألة العاشرة" اختلفوا في مفهوم نحو قوله عليه السلام "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"

.................................................................

وقوله "الأعمال بالنيات" " والشفعة فيما لم يقسم". ونحو قول القائل: العالم زيد، وصديقي زيد. فذهب بعض منكري المفهوم نحو الغزالي وغيره: إلى أنه يدل على الحصر. وأنكره الباقون: نحو القاضي أبي بكر، والحنفية.

احتج القائلون بالحصر بوجهين: أحدهما: إنما ندرك التفرقة بين قول: القائل: زيد صديقي، وبين قوله: صديقي زيد، وبين قوله: التكبير تحريمها، والتسليم/ (335/ب) تحليلها، بين قوله: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) ولولا أن الثاني يفيد الحصر لما حصلت التفرقة بينهما، لأن كل من قال بالتفرقة بينهما قال: إن تلك التفرقة بإفادة الحصر وعدم إفادته فالقول بحصول التفرقة مع أن تلك التفرقة غير ما ذكرناه من إفادة الحصر، وعدم إفادته قول لم يقل به أحد. وثانيهما: أنه لو لم يفد الحصر، لزم أن يكون المبتدأ أعم من الخبر، لأن قولنا: صديقي، مبتدأ وقولنا: زيد، وخبره في قولنا: صديقي زيد، لأن المعرفتين إذا اجتمعتا فأيهما قدمت فهي المبتدأ فلو لم تنحصر الصداقة في زيد، لزم أن يكون المبتدأ أعم من الخبر، وهو باطل إذ لا يجوز أن يقال: الحيوان إنسان، والإنسان زيد. فإن قلت: إنما يلزم ما ذكرتم أن لو كان، قوله: [صديقي] زيد يفيد العموم، أما بتقدير أن لا يفيد ذلك لم يلزم ما ذكرتم من المحذور، لأنه يصير تقديم الكلام بعض أصدقائي زيد، ومعلوم أن هذا لا يفيد الحصر، فكذا ما هو في تقديره، وهذا التقدير بعينه في قوله: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم.

قلت: ما ذكرتم من الاحتمال موجود في قولنا: الحيوان إنسان والإنسان زيد فكان ينبغي أن يجوز. سلمناه: لكن قد تقدم في باب العموم أن المفرد المعرف يفيد العموم. احتجوا: بأنه لو أفاد الحصر، لكان قول القائل: صديقي زيد وعمرو، تناقضًا، لأن قوله: صديقي زيد يفيد الحصر، وقوله: عمرو، يقتضي أن لا تكون صداقته منحصرة في زيد، بل توجد فيه وفي عمرو فكان تناقضًا. وجوابه: أنه إنما يفيد الحصر أن لو لم يقترن به ما يغيره عن وضعه، فأما إذا اقترن ما بغيره عنه فلا "والمعطوف" عليه "يغيره" عنه، لأنه حينئذ يصير المعطوف مع "المعطوف" عليه جملة واحدة، والمعطوف عليه بدون المعطوف بعض الكلام، وبعض الكلام لا اقتضاء له على الانفراد، وهذا كحال المستثنى منه مع الاستثناء، فإنه لو لم يقترن به كان تمام الكلام، وبتقدير الاقتران به يصير بعض الكلام. وهذا تمام الكلام في المفهوم.

النوع العاشر الكلام في دلالة أفعال الرسول عليه السلام وسكوته وتقريره وفيه مسائل:

النوع العاشر: الكلام في دلالة أفعال الرسول عليه السلام وسكوته وتقريره

النوع العاشر:"الكلام" في دلالة أفعال الرسول عليه السلام وسكوته وتقريره وفيه مسائل: المسألة الأولى في عصمة الأنبياء اعلم أنه لا يمتنع صدور الذنب منهم، قبل الإنباء كبيرة كانت أو صغيرة، عمدًا كانت أو سهوًا، بل لا يمتنع عقلًا إرسال من آمن بعد الكفر على رأي الجماهير منا ومن المعتزلة. وذهب الشيعة إلى امتناعه كما بعد الإنباء/ (336/أ) وأما بعد الإنباء، فاعلم أن كل معصية تناقض مدلول المعجزة، نحو الجهل بوجوده تعالى، والكذب فيما يدعيه من دعوى الرسالة وكتمانها، والجهل بتفاصيل الشرع الذي يدعيه أنه أمر بالدعوة إليه، "فهو" غير جائز

"عليهم" عقلًا لا عمدًا ولا سهوًا وفاقًا. وإن كان إيراد بعضهم مشعرًا بالخلاف في حالة السهو النسيان. وأما ما ليس كذلك فكل ما يكفر به صاحبه سواء كان من باب الاعتقاد، أو من باب الأقوال، أو من باب الأفعال، فقد اتفقوا "أيضًا" على أنه لا يجوز ذلك أيضًا منهم لكن بدليل التوقيف، إلا الفضيلة من الخوارج،

فإنهم يجوزون صدور الذنب منهم فكل ذنب عندهم كفر. والأزارقة منهم أيضًا: فإنهم يجوزون أن يبعث الله نبيًا يعلم أنه يكفر بعد نبوته. وأما ما ليس كذلك فهو على أقسام: أحدها: أن يكون من باب الاعتقاد، فالاعتقاد الذي لا يكون مطابقًا ولا يكفر صاحبه، فقد اختلفوا فيه: فمنهم: من أباه لكونه منفرًا لاسيما إذا كان بحيث يوجب تبديع صاحبه ومنهم: من جوزه. وثانيها: ما يكون من باب التبليغ: وقد اتفقوا على أنه لا يجوز منهم تغيير وكتمان ما أوحي إليهم للتبليغ عمدًا، وإلا لزال الوثوق بقولهم.

واختلفوا في ذلك على وجه السهو والنسيان، فأباه الأكثرون لما تقدم. وجوزه الأقلون بناء على أن ما كان من قبيل السهو والنسيان غير داخل تحت التحفظ، وهو نادر جدًا غير مخل بالوثوق بقولهم. وثالثها: ما يتعلق بالفتوى عن اجتهاد، فإنه لو كان عن وحي فهو داخل في قسم التبليغ. فإن قيل: بأن كل مجتهد مصيب فلا يتصور الخطأ في اجتهاد غيره، فكيف في اجتهاده عليه السلام. وإن قيل: بأن المصيب واحد، فقد اتفق الأكثرون على عصمتهم عن الخطأ فيه، وجوزه قوم: عن سهو وغلط لا عن تعمد، لكنهم لا يقرون عليه، ثم قيل: ينبهون عليه عن قرب. ومنهم من لا يوجب ذلك بل يجوز بقاؤهم عليه زمنًا طويلًا، لكنه لا يجوز أن ينقرضوا عليه. ورابعهما: ما كان من باب الأفعال: فما كان منها من الكبائر،

فالأكثرون على أنه لا يجوز أن يصدر منهم كبيرة عن تعمد. لكن اختلفوا: في أن مدركه السمع أو العقل؟ فذهب المحققون منا كالقاضي والغزالي وغيرهما إلى أن مدركه السمع. وذهب بعض أصحابنا وجماهير المعتزلة: إلى أن مدركه العقل أيضًا كالمسند إلى المعجزة. هذا إذا لم يسنده إلى المعجزة في التحدي، فإن أسنده إليها كان امتناعه عقلياً وفاقًا.

وذهب [بعض] الحشوية: إلى جواز صدور الكبيرة منهم/ (336/ب)، ووقوعها منهم، وأما صدورها منهم على جهة السهو والنسيان، والتأويل فقد جوزه الكثيرون. وذهب الأقلون وهم الشيعة: إلى امتناعه أيضًا. وأما ما ليس من الكبائر:

فإما أن يوجب الخسة والدناءة لفاعله، كالتطفيف وسرقة باقة من البقل والتميمة أو لا يكون كذلك، كالنظر، واللطمة، والشتم بغير الزنا. فإن كان الأول: فالظاهر اتفاق الأمة على عصمتهم من فعله على جهة التعمد، وأما على جهة السهو والنسيان: فعلى الخلاف السابق في الكبيرة. وإيراد بعضهم يشعر بالخلاف في جهة التعمد أيضًا. وإن كان الثاني: ففيه أربعة مذاهب: أحدها: جواز صدوره منهم عمدًا وسهوًا، وعليه الأكثرون منا ومن المعتزلة. وثانيها: عدم جواز صدوره منهم عمدًا "وسهوا"، وهو مذهب الروافض. وثالثها: عدم جوازه عمدًا، وجوازه من جهة التأويل، وهو مذهب الجبائي. ورابعها: عدم جوازه عمدًا. ومن جهة التأويل أيضًا، وجوازه سهوًا

وهم مأخوذون بما يقع منهم على هذا الوجه، دون غيرهم، لأن معرفتهم أتم وقوتهم على التحفظ أقوى. فهذه هي المذاهب المنقولة في هذه المسألة. والمختار: أنه لا تجوز منهم الكبيرة: لا عمدًا ولا سهوًا. وأما الصغيرة فلا تجوز أيضًا عمدًا، ولكن تجوز سهوًا، ومن جهة التأويل، ولكن بشرط أن لا يقرون عليه وينبهون عليه. وأدلة هذه المذاهب مذكورة في الكتب الكلامية، على الاستقصاء ولا حاجة إلى ذكرها في هذا الفن، إذ الباحث فيه يكفيه أن يأخذ المذهب الذي يريد أن يفرع عليه مسلمًا. فإن قلت: فالقول بوجوب الاقتداء به في مطلق الفعل، أو ندبيته أو إباحته، أو التوقف في هذه الأقسام، مفرع على أي قول من هذه الأقوال. قلت: يحتمل أن يكون مفرعًا على امتناع صدور الذنب منهم بوجه ما كما هو مذهب الشيعة، ويحتمل أن يكون مفرعًا على القول بجواز صدوره منهم على وجه السهو والنسيان والتأويل، لأنه نادر جدًا والغالب في فعله إنما هو القربة والجواز، فاحتمال الذنب منهم على الندور لا يقدح في القول بوجوب الاقتداء به، أو ندبيته. فإن قلت: هذا التعليل بعينه يجرى في المفعول على وجه القصد، فهلا فرع عليه أيضًا؟ قلت: لا نسلم، وهذا لأنه يبطل الثقة به عليه السلام فلا يمكن الحكم بالقلة إذ ذاك.

المسألة الثانية/ ... (337/أ) في أن مجرد فعل الرسول عليه السلام، هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟

المسألة الثانية/ ... (337/أ) في أن مجرد فعل الرسول عليه السلام، هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ فذهب ابن سريج، وأبو سعيد الاصطخري، وابن خيران وابن أبي هريرة، والحنابلة، وكثير من المعتزلة: إلى أنه للوجوب. وذهب جماعة من الأئمة إلى أنه للندب، وينسب إلى الشافعي رضي الله عنه وهو اختيار إمام الحرمين.

وذهب الإمام مالك رضي الله عنه إلى أنه للإباحة وتابعه في ذلك جماعة من الأئمة. وتوقف فيه جمهور المحققين منا كالصيرفي والواقفية. واختاره الغزالي والإمام، وأكثر المعتزلة، فقالوا: لا ندري أنه للوجوب، أو للندب أو للإباحة، أو هو مخصوص به، أو يشاركه فيه غيره فهو محتمل لهذه الأقسام، ولا يستعين واحد منها إلا بدليل زائد. وهو المختار. وذهب قوم ممن يجوزون المعاصي على الأنبياء: إلى أنه للحظر.

واحترزنا بقولنا: إن مجرد الفعل هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ عما دل عليه دليل آخر أو قرينة على أنه للوجوب كقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقوله: "خذوا عني مناسككم" فإن هذين الحديثين يدلان على وجوب إتباعه في أفعال الصلاة، وأفعال الحج، إلا ما خصه الدليل ونحو ما عرف أنه عليه السلام فعله بيانًا لما أمر به نحو قطعه يد السارق من الكوع.

فإنه فعله بيانًا لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. ونحو ما عرف بالقرينة أنه للإباحة، كالأفعال الجبلية نحو القيام والقعود والأكل والشرب، ونحو ما عرف أنه مخصوص به كالوتر والضحى والأضحى.

ونحو ما عرف أنه غير مخصوص به كأكثر التكاليف فإنه ليس في شيء من هذا الخلاف المذكور. فإن قلت: فقصد القربة في الفعل، هل هو قرينة الوجوب، والندب، حتى لا يتأتى فيه الخلاف المذكور؟. قلت: لا إذا الخلاف جار في القسمين فيما ظهر فيه قصد القربة وفيما لم

يظهر فيه ذلك غير أن القول بالوجوب والندب يقوى في القسم الأول، والقول بالإباحة والتوقف يضعف فيه. وأما القسم الثاني: فبالعكس منه. لنا: إن ما فعله يحتمل أن يكون واجبًا وندبًا "ومباحًا" إن لم يجوز الذنب عليه، وإن جوزنا الذنب "عليه" احتمل أن يكون ذنبًا أيضًا، وكل واحد منها يحتمل أن يكون من خصائصه، ويحتمل أن يكون مما يشاركه فيه غيره، والأحكام الندبية فإن لم يثبت إن شيء منها من خصائصه لكنه محتمل غير ممتنع، لأن عدم الوقوع لا يدل على الامتناع/ (337/ب) والخصائص وإن كانت نادرة بالنسبة إلى الأحكام التي يشاركه فيها غيره، لكنه محتمل، وإذا احتمل هذه الأقسام بعضها بصفة التسوية ككونه واجبًا وندبًا ومباحًا، وبعضها بصفة المرجوحية ككونه ذنبا وكونه من خصائصه امتنع الحكم بواحد منها، أما فيما يتساوى فيه الاحتمال فمطلقًا، وأما فيما يتفاوت فيه الاحتمال فعلى وجه الجزم لا على وجه الغلبة. احتج القائلون بالوجوب: بالقرآن، والسنة، والإجماع، والمعقول. وأما القرآن: فآيات أحدها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}.

والأمر حقيقة في الفعل أيضًا على ما تقدم تقريره. واللفظ المشترك يجب حمله على جميع مفهوماته على ما سبق تقريره وأيضًا، فتكون الآية أمرًا بالحذر المخالف قوله وفعله، وذلك يقتضي وجوب موافقة قوله وفعله، وهو المطلوب. وجوابه: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله: {عن أمره} [راجع إلى الرسول] "حتى" يمكن أن تكون الآية حجة في المسألة، وهذا لأن الضمير عائد إلى الله تعالى لكونه أقرب المذكورين، وحينئذ لا يمكن أن تكون الآية حجة في المسألة، وكون الآية واردة في الحث على طاعة الرسول لا ينافيه، بل هو مؤكد له أيضًا، لأنه لما نهاهم أن يجعلوا دعاؤه كدعاء غيره، ثم حذرهم عن مخالفة أمره كان ذلك مؤكدًا لما هو المقصود من الآية. سلمنا: أن الضمير عائد إلى الرسول، لكن لا نسلم أن الأمر حقيقة في الفعل. أما الجواب: عن استدلال القائلين به فقد تقدم. سلمنا: أنه حقيقة فيه، لكن امتنع حمله عليه، لأنه محمول على القول بطريق الحقيقة إجماعًا، فلو حمل عليه أيضًا لزم استعمال المشترك في

جميع مفهوماته، وإنه غير جائز على ما تقدم تقريره. وأما استدلال القائلين به فقد سبق الجواب عنه. سلمنا: جوازه لكن وجد من القرينة ما يدل على أن المراد منه القول، وهي تقدم ذكر الدعاء، حيث قال: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} فإن الرجل إذا قال لعبده: لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر من مخالفة أمري، فهم من الأمر القول، وحينئذ لا يجوز حمله عليهما، لأن اللفظ المشترك إنما يحمل على المعنيين عند تجرده عن القرينة. سلمنا: عدم القرينة المعينة لإرادة القول، لكن لم قلت: إن مخالفة الفعل عبارة عن مجرد ترك الفعل كيف كان ذلك الفعل، حتى يلزم وجوب موافقة الفعل منه، وهذا لأن المخالفة في عرف الشرع عبارة عن ترك افعل هو واجب، بدليل أن ترك ما فعله الرسول على وجه الندبية، أو الإباحة، لا يمسى مخالفة له، ولا تاركه مخالفًا له إذ المخالفة اسم ذم فتختص بتارك الواجب، وكذلك إخلال المسافر، والمريض، بصوم رمضان [لا يسمى مخالفة "للمسلمين"، لما أنه غير واجب عليهما] وحينئذ لا يكون بيان أن تارك ما فعله الرسول عليه السلام يسمى مخالفًا له، إلا

إذا ثبت "أن" ذلك الفعل واجب، فإثبات وجوب ذلك يكون تاركه يسمى مخالفًا دور وهو ممتنع. وما يقال: [من] أن مخالفة الفعل ضد موافقته: وهي عبارة عن أن يأتي بمثله فمخالفته هو أن لا يأتي بمثله، وأن المختلفين هما اللذان لا يسد أحدهما مسد الآخر، والترك لا يسد مسد الفعل، فكانا مختلفتين، فالتارك للفعل مخالف للفاعل له، فهو وإن دل بعد تسليم ما فيه من الضعف على أن المخالفة عبارة عن مجرد ترك الفعل، لكنه بحسب اللغة دون عرف الشارع فلا يكون منافيًا لما قلنا. وثانيها: قوله تعالى: {واتبعوه} والإتباع قد يكون في القول، وقد يكون في الفعل، بدليل أن يقال: إن فلان متبع لأقوال فلان وأفعاله، والإتباع في الفعل هو أن يأتي بمثل فعله والأمر للوجوب على ما تقدم،

فيكون الاتباع في القول، والفعل واجبًا. وجوابه. أن هذا الأمر إما للندب، أو للوجوب، فإن كان الأول: سقط الاستدلال به على وجوب الإتباع. وإن كان الثاني: وجب حمله على ما يكون من أقواله وأفعاله للوجوب، لئلا يلزم إيجاب ما ليس بواجب، وحينئذ يتوقف إثبات وجوب الفعل على كون ذلك الفعل واجبًا، فإثبات إيجاب الفعل يوجب الإتباع دور وهو ممتنع. فإن قلت: هو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور المذكور. قلت: هذا باطل. أما أولًا: فلأنه لا عموم للمقتضى ودلالة: (واتبعوه) على وجوب إتباعه في أقواله: إنما هي على وجه الاقتضاء، فكان من حقه أن لا يضمر فيه غيره فلو سلم إضمار ما كان من الأفعال الواجبة فيه أيضًا، وجب أن لا يراد عليه تقليلًا لمخالفة الأصل.

أما ثانيًا: فلأن التخصيص خلاف الأصل، وإذا كان الحمل على العموم يستلزم خلاف الأصل كان حمله عليه أيضًا خلاف الأصل. وثالثها: قوله تعالى: {قل [إن] كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} جعلت الإتباع لازمًا للمحبة، ومحبة الله واجبة بالإجماع ولازم الواجب واجب، فالإتباع واجب. وجوابه: ما سبق. ورابعها: قوله تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم/ (338/ب) عنه فانتهوا}، وإذا فعل فعلًا فقد أتانا به فيجب الأخذ به للأمر. وجوابه: أنا لا نسلم أنه أريد به الفعل، إذ القرينة وهي مقابلته بالنهي دالة على أنه أريد به القول.

سلمنا: ذلك لكن المراد منه ما كان من الأفعال الواجبة لما سبق، وحينئذ يلزم الدور المذكور. وخامسها: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} وهذا جاري مجرى التهديد على ترك التأسي به، لأن معنى الآية أن من يرجو الله واليوم الآخر فله فيه الأسوة الحسنة، ومن لم يرجو الله واليوم الآخر فليس له فيه الأسوة الحسنة، فيكون وعيدًا على ترك التأسي به، أو نقول: بعبارة أخرى إنه جعل التأسي به لازمًا لرجاء الله واليوم الآخر، فيلزم من عدم التأسي به عدم رجاء الله واليوم الآخر، وهو محرم فما يستلزمه يكون أيضًا كذلك، والتأسي به في الفعل إنما هو بإتيان مثل فعله، فيكون الإتيان بمثل فعله واجبًا. وجوابه: أنا لا نسلم أن التأسي به في الفعل إنما يكون بإتيان فعله ولم لا يجوز أن يقال: إنه يكفي فيه أن نستخيره لأنفسنا ونعتقد أن لنا في فعله الخيرة لو فعلناه وإنما فعله حق من غير أن يعترض عليه، ومعلوم أن هذا لا يستدعي حصول الفعل منا، فضلًا عن أن يكون حصوله على سبيل الوجوب. سلمنا: أنه لابد من الفعل، لكن المعتبر في التأسي به فيه أمران: أحدهما: إتيان مثل فعله. وثانيهما: إتيانه على وجه فعله الرسول على ذلك الوجه، وحينئذ

يتوقف وجوب الإتيان بمثل فعله على كون ذلك الفعل واجبًا، فلو أثبت وجوبه يكون الإتيان به واجبًا لزم الدور وأنه محال. سلمنا: أنه لا يعتبر في التأسي معرفة وجه الفعل، لكن قوله لكم "ينفي" أن يكون الأسوة واجبة، إذ لا يقال هذا واجب لكم، بل يقال واجب عليكم. سلمنا: أنه لا يدل على الوجوب، لكن على سبيل العموم أو في الجملة. والأول ممنوع، وهذا لأن الفرد المنكر لا يفيد عموم الشمول وفاقًا. وعموم البدلية لا يفيد لما سيأتي، والثاني مسلم لكنه غير مفيد إذ النزاع في مطلق أفعاله عليه السلام إلا ما خصه الدليل لا في البعض، لا يقال: أنه وإن لم يفد التعميم من حيث اللغة، لكنه يفيده من حيث العرف، إذ لا يقال للإنسان إن لك في فلان أسوة حسنة إذا كان له أسوة حسنة في بعض أفعاله، أو فعلين، بل إنما يقال: ذلك لو كان له فيه أسوة حسنة في كل/ (339/أ) أفعاله، إلا ما خصه الدليل، لأنا نمنع ذلك، وهذا لأن التغيير خلاف الأصل ولأنه يقال: في العرف أيضًا فيمن تعلم من إنسان نوعًا واحدًا من العلم أن لك في فلان أسوة حسنة، ولأنه لا يفهم في العرف أيضًا من قول القائل: لغيره لك في فلان أسوة حسنة في كل الأمور أو في بعضها التكرار [أو النقض، ولو كان مفيدًا له لفهم في الأول والتكرار] وفي

الثاني النقض. وسادسها: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا}. دلت الآية على أن تشريع الحكم في حقه عليه السلام، إنما كان لأجل التسوية بينه وبين أمته، وذلك يدل على وجوب الإتيان بمثل فعله تحقيقًا لمعنى التسوية. وجوابه: منع دلالتها على التسوية في نفس حصول الفعل بل من حيث شرعيته، فعلى هذا إنما تدل الآية على وجوب الإتيان بمثل فعله أن لو كان فعله واجبًا فإثبات وجوبه يوجب الإتيان بمثله دور وأنه ممتنع. وسابعها: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}. دلت الآية على وجوب طاعة الرسول، والإتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله بعد طاعة له فيكون الإتيان بمثل فعله واجبًا. وجوابه: أن الإتيان بمثل فعله إنما يكون طاعة أن لو كان فعله مأمورًا به على ما عرف من تفسير الطاعة على رأينا، فإثبات كون الإتيان بمثل فعله مأمورًا

به يكون طاعة دور وهو محال. وأما السنة: فمن وجوه: أحدها: ما روى عنه عليه السلام أنه لم واصل واصلت الصحابة معه. وثانيها: أنه لما خلع نعله في الصلاة خلعوا نعالهم فيها.

وثالثها: إنه لما خلع خاتمه خلعوا خواتيمهم. ولولا أنه تقرر عندهم

وجوب متابعته في أقواله وأفعاله عليه السلام لما فعلوا ذلك. لاسيما وبعض تلك الأفعال مخالف للنهي، وبعضها مخالف للأمر، ويؤكده أنه عليه السلام لم ينكر ذلك عليهم، بل بين بعد السؤال علة انفراده بتلك الأحكام على ما هي مذكورة في تتمة الأحاديث. ورابعها: أنه أمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكى إلى أم سلمة فقالت: (أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل، فذبحوا وحلقوا متسارعين) ولولا أنه تقرر عندهم أن متابعة أفعاله آكد من متابعة أقواله، لما كان الأمر كذلك. ويؤكده، ما روي أنه عليه السلام لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فلم يفسخوا، وقالوا: ما بالك أمرتنا بفسخ الحج إلى/ (339/ب) العمرة ولم تفسخ.

وخامسها: ما روي أنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قبلة الصائم "ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم" عدل عن الجواب بقوله: إلى

الإخبار عن فعله، وذلك يدل على أنه آكد من قوله في وجوب الإتباع، ونحوه ما روي عنه عليه السلام أنه قال: في جواب سؤال أم سلمة عن بل الشعر في الاغتسال: "أما (أنا) فيكفيني أن أحثوا على رأسي ثلاث حثيات من ماء". وجوابه: من وجوه:

أحدها أن هذه الأخبار أخبار أحاد فلا تثبت بها حجية الأفعال كحجية القياس، وخبر الواحد والإجماع، فإن كل واحد منها قاعدة من قواعد الأصول، وهذا الجواب يستقيم على رأي الجماهير الذين يرون أن حجية هذه القواعد يقينية قطعية. فأما الذين لا يرون ذلك نحو أبي الحسين وغيره فلا يستقيم ذلك على رأيهم. وثانيها: أن ما ورد من هذه الأخبار فيما يتعلق بالصلاة [والحج] وهو أكثرها فلا حجة فيها إذ الرسول عليه السلام بين أن شرعه وشرعهم فيه سواء حيث قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" وحيث قال: "خذوا عني مناسككم" وما لم يرد فيه نحو حديث "الوصال" و"قبلة الصائم". فجوابه: أنا لا نسلم أن الإتباع فيه على سبيل الوجوب، وهذا لأن القول يوجب إتباع ما ليس بواجب يقتضي وجوب ما ليس بواجب وهو متناقض، وهذا أيضًا جواب عن جميع ما اتبعوه فيه من المندوبات والمباحات. وأما قبلة الصائم، فلعله إنما كان، لأنه قد ثبت عندهم بدليل، نحو بيانه أو الاستقراء مساوته لهم في حكم المفطرات، وإن شرعه شرعهم فيه،

وعلى هذا يكون وجوب الإتباع مستفادًا من دليل آخر لا من نفس الفعل. ويخص الوصال أنهم إنما اتبعوه فيه لظنهم أنه من واجب الصيام، لأنه عليه السلام أمرهم بالصيام، ثم أنه صام وواصل فظنوا أنه قصد بذلك امتثال الواجب وبيانه حتى عرفوا بصريح النهي أنه ليس كذلك. وثالثها: أنهم وإن اتبعوه في هذه الأفعال التي ذكرتموها، لكن من المعلوم أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله، وإن كان كذلك فليس جعل إتباع البعض دليلًا على وجوب [الإتباع أولى من جعل عدم إتباع البعض "دليلًا" على عدم وجوبه]، كيف وإن الفعل لا يدل على الوجوب وتركه يدل على عدم الوجوب ظاهرًا. وأما الإجماع: فهو أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يرجعون إلى أفعاله متمسكين بها فيما كانوا "مختلفين فيه"، وفيما كانوا يفعلونه روي أن الصحابة لما اختلفوا في وجوب الغسل من غير إنزال بعث/ (340/أ) عمر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها يسألها عن ذلك.

فقالت: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا، فأخذ الناس بذلك" واتفقوا عليه، وليس لهذا الاتفاق مستند سوى الرجوع إلى فعله، فقد أجمعوا على أن مجرد فعله للوجوب. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر ويقول: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك".

وكان هذا وأمثاله شائعًا فيما بين الصحابة -رضي الله عنهم- من غير نكير وكان إجماعًا على إتباع فعله. وجوابه: من وجهين: أحدهما: أن هذا الإجماع غير منقول إلينا بالتواتر، وإلا لكان العلم به ضروريًا حاصًلا للموافق والمخالف، بل بالآحاد وحينئذ لم يكن مقطوعًا به فلا يجوز إثبات مثل هذه القاعدة به لما سبق. وثانيهما: أنا لا نسلم أن الإجماع حصل بمجرد الفعل. أما الأول: فلما روت عائشة رضي الله عنها "أنه إذا التقى الختانان وجب الغسل" وقولها: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم" تأكيدًا (للقول) بالفعل. وأما الثاني: فلا نسلم أن الإتباع فيه على سبيل الوجوب وسنده ما سبق. سلمناه: لكن ليس للفعل بل لقوله: "خذوا عني مناسككم". وأما المعقول: فمن وجوه: أحدها: أن فعله يحتمل أن يكون واجبًا عليه وعلينا، ويحتمل أن لا يكون كذلك، وطريقة الاحتياط تقتضي حمله على الوجوب لما فيه من الأمن من العقاب إذ الحكم بالوجوب أفضى إلى الفعل.

وأجيب عنه: بأن طريقة الاحتياط "إنما" يصار إليها أن لو خلت عن الضرر قطعًا "وأما" إذا لم يكن كذلك فلا، وهنا كذلك، لأنه يحتمل أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة. وإذا كان كذلك لم يجب المصير إليه. وزيف: بأن الصوم واجب احتياطًا في يوم الثلاثين من رمضان إذا غم الهلال مع احتمال أن يكون يوم العيد، فحينئذ يكون صومه حرامًا. وهو ضعيف. لأن لا نسلم أن وجوبه بطريق الاحتياط، بل بالنص المشهور. وتعليله

بأن الأصل في الشهر هو الإتمام، والتمسك بالأصل غير طريق الاحتياط وغير مستلزم له وكذلك طريقة الاحتياط غير مستلزم له، بدليل أن المتطهر إذا شك في الحدث فإن التمسك بالأصل يقتضي بقاء الطهارة، وطريقة الاحتياط يقتضي وجوب الطهارة، فيكون كل واحد غير مستلزم للآخر/ (340/ب). ثم إن هذا المعترض أجاب عنه: أن الاحتياط يكون أولى لما ثبت وجوبه كالصلاة الفائتة من صلوات يوم وليلة، أو كان الأصل وجوبه كما في صوم يوم الثلاثين من رمضان، إذا كانت الليلة معتمة. فأما ما عساه أن يكون واجبًا وغير واجب، فلا. وما نحن فيه كذلك، حيث لم يتحقق فيه وجوب الفعل ولا الأصل وجوبه.

وهو أيضًا: ضعيف جدًا: فإن ما اختلف في وجوبه نحو الوتر، وقراءة الفاتحة، وغيرهما لا خلاف أن طريقة الاحتياط جارية فيه وأن الاحتياط فيه أولى مع أنه لم يثبت وجوبه ولا الأصل فيه الوجوب. نعم لو قال: إن الاحتياط إنما يقتضي وجوب شيء لو كان ذلك الشيء واجبًا، أو كان الأصل فيه الوجوب، فأما إذا لم يكن كذلك فلا نسلم أنه يقتضي الوجوب كان له وجه، لأن الاحتياط لا يكون فيه أولى. وثانيها: أن إتيان فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله تعظيم له، بدليل العرف، وتعظيم الرسول واجب إجماعًا، فيكون الإتيان بفعله واجبًا. وجوابه: منع كلية الصغرى، وهذا لأن الإتيان ببعض أفعال المعظم قد يكون إخلالًا بتعظيمه وجزيته غير مفيد إذ الإتيان ببعض أفعاله واجب وفاقًا.

وثالثها: أن ما فعله، يحتمل أن يكون واجبًا، ويحتمل أن لا يكون واجبًا، لكن احتمال كونه واجبًا أظهر، لأن الظاهر منه عليه السلام أن لا يختار لنفسه سوى الأكمل "والأفضل" والواجب أكمل مما ليس بواجب، فيكون ما اختاره لنفسه واجبًا في حقه وإذا ثبت بهذا أنه يكون واجبًا في حقه وجب أن يكون واجبًا في حق أمته إذ لا قائل بالفصل فإن كل من قال: إن مطلق فعله للوجوب في حقه، قال بوجوبه في حق الأمة، ومن أنكر ذلك في حقه أنكر في حق الأمة أيضًا. وجوابه: بعد تسليم الصغرى فإن فيها منعًا ظاهرًا منع إنتاج ما ذكروه من المقدمتين لما ذكروه من النتيجة [فإن] القياس من الموجبتين في الشكل الثاني غير منتج. ورابعها: قياس الأفعال على الأقوال، بجامع كون كل واحد منهما مخصصا للعموم، ومقيدًا للمطلق، وبيانًا للمجمل. وجوابه: أن الجامع وصف طردي. سلمنا: مناسبته لكن الفرق بينهما هو أن القول فيه دلالة ظاهرة على ما هو المراد منه، فيكون محمولًا على الوجوب، إن كان فيه دلالة على الوجوب. وأما الفعل فلا دلالة فيه/ (341/أ) أصلًا لأنه غير مصوغ للدلالة. واحتج القائلون بالندب: بالنص. والإجماع، والمعقول.

أما النص: فقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} الآية. ووجه الاستدلال به من وجهين: أحدهما: ما تقدم من أنه قال "ولكم" وما قال "عليكم" وذلك يفيد أنه مندوب إليه إذ المباح لا يقع فيه "واللام" للاختصاص بجهة النفع والظاهر من جهة الشرع اعتبار النفع الأخروي لا الدنياوي. وثانيهما: أنه وصف الأسوة بالحسنة وأدنى درجات الحسنة أن تكون مندوبة، فيجب التنزيل عليه، لئلا يلزم مخالفة الأصل من وجهين. وجواب الوجه الأول: من الاستدلال أنا لا نسلم أن قوله "لكم" يدل على ندبيته، وهذا لأنه ليس في "اللام" إلا الدلالة على الاختصاص بجهة النفع، وهذا لا يدل على الندبية، بل على القدر المشترك بين المندوب والواجب، ضرورة حصول هذا المفهوم فيهما، والدال على القدر المشترك بين الصورتين لا دلالة عليهما، بل غايته أنه لا يدل على الوجوب ولا يلزم منه دلالته على الندبية. فإن قلت: كون اللام للاختصاص بجهة النفع ينفي أن يكون المراد منه الوجوب، لأنه لا يتمحص جهة النفع في الوجوب ضرورة استحقاق العقاب على الترك فيه بخلاف المندوب فإنه تتمحص جهة النفع فيه من غير احتمال عقاب وضرر فيه فعلًا وتركًا. قلت: ليس من شرط الاستعمال "اللام" في فعل أن لا يكون في ذلك الفعل ضرر بوجه "ما" لا في الفعل ولا في الترك، وإلا لامتنع استعماله في

كل شيء، ضرورة أن كل شيء فيه ضرر بوجه "ما" "في" فعله أو في تركه بل لا يشترط في استعمالها سوى أنه لا ضرر فيما استعمل فيه من الفعل أو الترك، والواجب لا ضرر فيه من حيث الفعل فلا يكون كونها للاختصاص بجهة النفع منافيًا لاستعمالها فيه. وعن الوجه. وعن الوجه الثاني: أن تعليل مخالفة الأصل وإن أوجب حمله على ما ذكرتم، لكن قوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" يقتضي حمله على الوجوب، ضرورة أن حمله على الندب مما يريب، وحمله على الوجوب مما لا يريب، واعتبار النص أولى من اعتبار الأصل إذ به يترك الأصل. سلمنا: صحة دليلكم، لكنه معارض بطريقة الاحتياط، وهذا إنما يتم إذا لم يشترط في اقتضاء الاحتياط الوجوب، أن يكون الشيء، واجبًا في نفسه إذ الأصل فيه الوجوب، أما إذا شرط ذلك فلا. وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل/ (141/ب) الأعصار متطابقين على ندبية الاقتضاء في الأفعال بالنبي عليه السلام وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب. وجوابه: أنه منع أن ذلك بمجرد الفعل، بل لو صح فللقرائن، والأصل [وإن كان] عدم تلك القرائن، لكن يجب المصير إليها جمعًا بين الدليلين.

وأما المعقول: فهو أن فعله لابد وأن يكون راجح الوجود لئلا يلزم خلاف الظاهر، لأن كون فعله ذنبًا وعبثًا خلاف الظاهر، لو جوزنا الذنب عليه، وحينئذ يحتمل أن يكون واجبًا، ويحتمل أن يكون ندبًا، لكن الحمل على الندب أولى: لوجوه. أحدها: أن الحمل على الوجوب حرج وضرر، وهو منفي بالنصوص النافية له فالحمل على الندب ليس كذلك، فكان أولى. وثانيها: أن الرجحان مع عدم جواز الترك يستلزم مخالفة الأصل من وجهين، والرجحان مع جواز الترك يستلزم مخالفة الأصل من وجه، فكان أولى. وثالثها: أن المندوب أكثر من الواجب، فكان الحمل عليه أولى، إذ الحمل على الأعم الأغلب أولى. وجوابه: أنا لا نسلم أن فعله لابد وأن يكون راجح الوجود، ولا نسلم أن على تقدير المساواة يلزم العبث، وهذا لأن العبث هو الخالي عن الغرض، والفعل إذا كان في غرض نحو منفعة عاجلة. أو بيان أباحته بفعله، فلا نسلم أنه عبث. سلمنا: أنه راجح الوجود لكن لم قلتم: أنه حينئذ يكون مندوبًا. وأما ما ذكرتم من الوجوه الدالة على أن الحمل على الندب أولى، فهي

معارضة بما يدل على "أن" الحمل على الوجوب أولى، نحو قوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وطريقة الاحتياط، وبما أن الحمل على الوجوب أكثر فائدة، ضرورة أنه أكثر ثوابًا، وعورض الوجه الثالث بما أن الحمل على المباح أولى لما ذكره، ضرورة أن المباح أكثر من المندوب. واحتج القائلون: بالإباحة: بوجهين: وأحدها: هذا الذي تقدم ذكره. وثانيها: أن الحرج عن فعله مرتفع، إما قطعًا، وهو على تقدير أن لا يجوز الذنب عليه أو ظاهرًا وهو على تقدير جوازه، فإن "كان" على تقدير جواز الذنب عليه، لاشك أن صدوره منه خلاف الظاهر، والراجحان منفي عنه بالأصل ترك العمل بهذا الأصل فيما دل الدليل على وجوبه أو ندبيته فوجب أن يبقى معمولًا به في الباقي ويلزم من هذا أن يكون مباحًا.

وجواب الأول: منع أن المباح من فعله أكثر من غير الأفعال الجبلية والعادية الذي فيه النزاع، هذا إن عنوا بقولهم: المباح أكثر المباح من/ (342/أ) فعله [وإن عنوا به أن المباح من الأفعال في نفس الأمر أكثر فلا يفيد، لأن فعله] يحمل على ما هو الأكثر من فعله لا على ما هو الأكثر في نفسه، وعند هذا يتبين ضعفه ما عورض به الوجه الثالث. وعن الثاني أجاب عنه الإمام، هب أنه في حقه كذلك، فلم قلتم: إنه في حق غيره كذلك؟. وهذا المنع يمكن دفعه بما تقدم من الإجماع اللاقائل بالفصل، فإنه إذا ثبت الإباحة بالنسبة إليه وجب أن يثبت في حق "الأمة" كذلك لئلا يلزم قول ثالث مخالف للإجماع. والأولى أن يجاب عنه بأن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب يقتضي ترك ذلك الأصل في مطلق أفعاله، لأن أكثر أفعاله غير الجبلية والعادية راجح الوجود الذي هو قدر مشترك بين الواجب والمندوب. سلمنا صحة الدليل، لكنه معارض بما أن حمل فعله على الوجوب أو الندب حملًا على أشرف المراتب، ومعلوم أن حمل الأشرف على أشرف مراتبه الأولى.

المسألة الثالثة اختلفوا فيما إذا عرف وجه فعل الرسول عليه السلام من الوجوب، والندب، والإباحة، ولم يعرف أنه بيان لخطاب سابق، ولا أنه من خواصه، هل يجب علينا التأسي به: أي هل كنا متعبدين به، فإن كان واجبا فعلى وجه الوجوب، وإن كان ندبا فعلى وجه الندبية

المسألة الثالثة اختلفوا فيما إذا عرف وجه فعل الرسول عليه السلام من الوجوب، والندب، والإباحة، ولم يعرف أنه بيان لخطاب سابق، ولا أنه من خواصه، هل يجب علينا التأسي به: أي هل كنا متعبدين به، فإن كان واجبًا فعلى وجه الوجوب، وإن كان ندبًا فعلى وجه الندبية، وإن كان مباحًا فباعتقاد إباحته أو لا؟ فذهب جماهير الفقهاء والمتكلمين إلى وجوب التأسي به. وذهب بعض من توقف في المسألة الأولى: إلى أنه لا يجب ذلك ما لم يدل دليل على تسويتنا إياه في ذلك الفعل. وفصل بعضهم: نحو أبي علي بن خلاد من المعتزلة، بين العبادات وغيرها فقال: بوجوب التأسي به في العبادات دون غيرها، كالمناكحات

والمعاملات. احتج الجماهير: بالنص، والإجماع، والمعقول. أما النص: فآيات: أحدها: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها "وطرا"} الآية، ولولا أنه متبع في أفعاله ومتأسى به فيها، لما كان للآية معنى. ولقائل أن يقول: متى لم يكن للآية معنى إذا لم يكن الرسول متأسى به في هذا الحكم، أو وإن كان متأسى به في هذا، لكنه غير متأسى به في جميع الأفعال التي تقدم شأنها. والأول: مسلم ومعلوم أنه لا يفيد المطلوب، لأن التسوية مستفادة عند الخصم من قرينة التعليل لا من مجرد الإباحة له.

والثاني: ممنوع، وهذا لأنه لا تناقض ولا خلل بين التصريح بالتسوية بينه عليه السلام وبين أمته في إباحة فعل معين وبين التصريح بحرمة إتباع ما/ (342/ب) عداه إلى أن يدل دليل على التسوية. وثانيها: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}. وقد عرفت أنه جاري مجرى الوعيد على "ترك" التأسي به، فيكون التأسي به واجبًا. وتمام الكلام فيها سؤالًا وجوابًا قد تقدم، ولا يخفى عليك ما يسقط منه في هذا المقام، والذي نزيده هنا ما قيل: في إثبات إفادتها التعميم.

هو أن المقصود من الآية، إظهار شرفه عليه السلام، وإبانة لخطره. وذلك إما أن يكون بوجوب التأسي به في فعل واحد، أو في جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل. والأول: باطل. لأن ذلك الواحد إما معين، وهو باطل، لأنه ليس في اللفظ ما يدل عليه، أو غير معين وهو أيضًا باطل. أما أولًا: فبالإجماع. وأما ثانيًا: فلأن الإبهام خلاف الغالب من خطاب الشرع. وأما ثالثًا: فلأنه ليس فيه مزيد إظهار شرفه عليه السلام، فيتعين الثاني: وهو المقصود. وهو ضعيف، لأن ما هو المقصود من الآية: وهو إظهار شرفه، وإبانة خطره، عليه السلام حاصل بوجوب التأسي به في جميع أقواله وكثير من أفعاله الذي دل الدليل على التسوية، وهو غير ما ذكره من القسمين، وحينئذ لا يلزم التأسي به قبل الإطلاع على دليل التسوية. وثالثها: قوله تعالى: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. ووجه الاستدلال به ما تقدم. وجوابه: بعض ما تقدم. ورابعها: قوله تعالى: {"واتبعوه"}، وتمام الكلام فيه أيضًا قد

تقدم. وأما الإجماع: فهو أن الصحابة أجمعوا على الرجوع إلى أفعاله، نحو رجوعهم إلى تزويج ميمونة وهو حلال، أو حرام، أو نحو رجوعهم إلى أنه

.....................................................................

قبل وهو صائم، أو نحو رجوعه إلى أنه كان يصبح جنبًا وهو صائم، ونحو رجوعهم إلى تقبيله الحجر [الأسود]، وأمثالها كثيرة غير عديدة. وكذا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالرسول عليه السلام، ولم يعللوا ذلك سوى أنه فعله عليه السلام. وعند هذا لا يدفع هذا بما قيل لعل ذلك لقرينة غير الفعل، ولا يقدح فيه

بما تقدم من الوجهين. أما الأول: فلأنا لا نسلم أن نقل هذا الإجماع غير متواتر، وكون العلم به غير حاصل للمخالف، غير قادح فيه، إذ يجوز أن لا يحصل العلم الضروري لبعض الشاذين. سلمنا: أن نقله بطريق الآحاد، لكن هذه المسألة "ليست" قاعدة كلية مثل تلك، بل هي جزئية داخلة تحتها، وحينئذ لا يجوز التمسك فيه بالإجماع الظني، فإن التزم الخصم في تلك القاعدة بأنها أيضًا ظنية عنده سقط/ (343/أ) ذلك القدح عنه أيضًا كما تقدم. وأما الثاني: فلما تقدم من أنهم كانوا يعللون ذلك بنفس الفعل ولم يند واحد منهم في ذلك الدليل الموجب للتشريك. وأما المعقول: فمن وجهين: أحدهما: أن ذلك الفعل يحتمل أن يكون مختصًا به، وحينئذ يحرم التأسي به فيه، ويحتمل أن لا يكون مختصًا به، وحينئذ يجب علينا التأسي به فيه، لكن الاحتمال الثاني أولى، لأن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى. وثانيهما: أنه لو كان مختصًا به لوجد عليه دليل، كما في سائر ما اختص به، ولما لم يوجد ذلك إذ كلامنا في ذلك علمنا أنه غير مختص به ولا

يعارض بمثله، لأن التسوية في الأحكام ليس على خلاف الأصل "فلا يحتاج إلى دليل التشريك، بخلاف احتمال التخصيص فإنه على خلاف الأصل" فيحتاج إلى دليل يدل عليه. واعلم أن من أنكر ذلك مطلقًا يليق بمذهبه، أن تكون الأفعال على الحظر حتى يمكنه التمسك بالأصل في حقنا، بأن يقول: إن فعله عليه السلام يحتمل أن يكون مختصًا به فيبقى على أصله في حقنا. وجوابه: منع أن الأصل ذلك. ولئن سلمناه: لكن احتمال التشريك أظهر كما سبق والأصل يترك بالاحتمال الظاهر. واحتج من قال بالتفصيل: بأن الدليل قد دل على أن شرعه وشرعنا سواء في العبادات نحو قوله عليه (السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ونحو قوله عليه السلام): "خذوا عني مناسككم". فلذلك قلنا: بوجوب التأسي به فيها بخلاف المناكحات، والمعاملات. فإنه لم يوجد فيها الدليل الموجب للتشريك، والأصل عدم شرعيته في حقنا فيبقى على الأصل.

المسألة الرابعة في بيان الطرق التي يعرف كون الفعل واجبا، أو ندبا، أو مباحا

المسألة الرابعة في بيان الطرق التي يعرف كون الفعل واجبًا، أو ندبًا، أو مباحًا. اعلم أن وجوب التأسي به عليه السلام، لما كان موقوفًا على معرفة وجه الفعل يحتاج إلى معرفة وجه الفعل. ولا نقول: يجب معرفة وجه الفعل "كما وقع في كلام الإمام رحمه الله، لأن وجوب التأسي به ليس مطلقًا حتى يجب معرفة وجه الفعل" الذي يتوقف عليه التأسي به، بل إنما يجب بعد معرفة وجه الفعل "فلا يجب تحصيل معرفة وجه الفعل". أما الوجوب فيعرف بطرق: أحدها: أن ينص عليه الرسول عليه السلام "على" أنه واجب. وثانيها: أن يقع امتثالًا لنص دال على الوجوب. وثالثها: أن يقع بيانًا لنص دال على الوجوب. ورابعها: أن يدل دليل على أنه فعله على وجه القضاء لعبادة ثبتت وجوبها عليه.

وخامسها:/ (343/ب) أن يدل دليل على: أنه كان مخيرًا بينه وبين "فعل آخر قد ثبت وجوبه، إذ التخيير لا يقع بين الواجب وبين" ما ليس بواجب. وسادسها: أن يوقعه مع أمارة، قد تقرر في الشريعة إنها أمارة الوجوب، كالصلاة بأذان وإقامة. وسابعها: أنه يكون جزء الشرط موجب كفعل ما وجب بالنذر. وثامنها: أنه لو لم يكن واجبًا لما جاز فعله كزيادة الركوع في صلاة الخسوف. وتساعها: أن يداوم على الفعل مع عدم ما يدل على عدم الوجوب، فإن هذا يدل على الوجوب ظاهرًا، لأنه لو كان غير واجب لنصب عليه دليلًا أو لأخل بتركه لئلا يكون موهمًا لإيجاب ما ليس بواجب.

وأما المندوب: فيعرف بتلك الطرق الخمسة الأول وبغيرها، نحو أن يعرف أنه عليه السلام قصد القرية بذلك الفعل، فيعلم أنه راجح الوجود، ثم يعرف عدم الوجوب بالأصل فثبت الندب، ونحو أن يداوم على الفعل، ثم يخل به من غير نسخ، لأن مداومته تدل على كونه طاعة، وإخلاله من غير نسخ يدل على أنه ليس بواجب. وأما المباح: فيعرف بالطرق الثلاثة الأول. وبطريقة أخرى وهي مجرد الفعل، فإنه إذا ثبت أنه لا ندب ثبت أنه لا جرح عليه في ذلك الفعل، ويعرف نفي وجوبه وندبيته بالبقاء على حكم الأصل فيعرف حينئذ أنه مباح.

المسألة الخامسة في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار فعل فعل بين يديه، أو في عصره مع علمه به، هل ينزل منزلة فعله في كونه مباحا أم لا؟

المسألة الخامسة في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار فعل فعل بين يديه، أو في عصره مع علمه به، هل ينزل منزلة فعله في كونه مباحًا أم لا؟ والحق: أنه ينزل منزلة فعله في كونه مباحًا، لأنه إن لم [يتقدم منه] ما يدل على تحريم ذلك الفعل، فسكوته عنه مع القدرة على الإنكار دليل ظاهر على جوازه، لأنه إن لم يكن جائزًا كان سكوته عنه مع القدرة على الإنكار عليه حرامًا، وهو ممتنع عليه، وبتقدير أن يكون جائزًا لكنه خلاف الظاهر كما سبق ولأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير جائز وفاقًا. وإن تقدم منه ما يدل على تحريمه، فإما أن يكون عالمًا ببلوغ ذلك التحريم إلى ذلك الفاعل، أو يعلم أنه ما بلغه، أو لا يعلم واحدًا منهما. فإن كان عالمًا ببلوغه إليه، فإما أن يكون عالمًا بانقياده له في أصول الدين وكونه غير راد عليه أوامره ونواهيه، وإن كان يصدر منه مخالفة أمره أو نهيه، لكن لا على وجه الرد، أو يعلم كفره له وعناده إياه، أو لا يعلم واحدًا منهما، فهذه أقسام: أولها: أن يكون عالمًا ببلوغ ما يدل على تحريمه إليه، وهو يعلم أيضًا انقياده له. فهاهنا سكوته أيضًا دال على جواز الفعل ونقدر/ (344/أ) نسخ ذلك الحكم في حقه، إذ لو لم يكن جائزًا لما جاز له السكوت عنه،

لأنه يوهم نسخ ذلك الحكم وهو غير منسوخ حينئذ. ولأن الأمر بالمعروف لا يسقط بسبب علم فاعل المحرم بتحريمه، فكان سكوته غير جائز، وحيث سكت دل على جوازه. وثانيها: أن يعلم بلوغ التحريم إليه، ويعلم كفره وعناده، وعدم اعتقاد حقيقة أمره، فهاهنا لا يدل سكوته على جواز ذلك الفعل، إذ السكوت في مثل هذا المقام لا يوهم النسخ، والأمر بالمعروف يسقط حيث يعلم أنه لا ينفع بسبب اعتقاد عدم "حقيقة" الأمر أو غيره من الأسباب وهو كسكوت الرسول عليه السلام عن إنكار تردد اليهود والنصارى إلى بيعهم وكنائسهم. وثالثها: أن لا يعلم واحدًا منهما مع العلم ببلوغ التحريم إليه، فهاهنا سكوته يدل على جواز الفعل أيضًا لما سبق. ورابعها: أن يعلم أنه ما بلغه التحريم فهاهنا السكوت يدل على جوازه أيضًا لما سبق. لا يقال: سكوته إذ ذاك ليس بحرام حتى يستدل به على جواز الفعل، لأنه "لما" لم يبلغه التحريم لم يكن الفعل حرامًا عليه، لأنا لا نسلم أن قبل بلوغ التحريم لم يكن الفعل حرامًا.

المسألة السادسة في التعارض الحاصل بين الفعلين، [أو بين الفعل والقول

سلمناه: لكن يجب إعلامه لئلا يعود "عليه" بناء على ظن الإباحة، ولأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز وفاقًا. وخامسها: أن لا يعلم واحدًا من الأمرين أعنى البلوغ، واللابلوغ فهاهنا أيضًا السكوت يدل على جوازه لما سبق. المسألة السادسة في التعارض الحاصل بين الفعلين، [أو بين الفعل والقول أما الأول: فاعلم أن التعارض بين الفعلين] بالذات لا يتصور، لأنهما إن كانا بحيث يمكن الجمع بينهما فظاهر، وإن لم يمكن الجمع بينهما فحينئذ لابد وأن يكون وقت أحدهما غير وقت الآخر، وحينئذ لا يحصل التعارض بينهما ضرورة أن شرط التعارض اتحاد الوقت، بل إنما يتصور بالعرض، وهو على وجهين: أحدهما: بأن يفعل الرسول عليه السلام فعلًا في وقت، ويدل دليل على أنه عليه السلام مأمور بمثل ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت، ثم أنه عليه السام فعل ضد ذلك في مثل ذلك الوقت، فيعلم أنه نسخ عنه وهو تفريع على عدم جواز صدور الذنب منه. وثانيهما: أن يفعل الرسول عليه السلام فعلًا، ويدل دليل على أن غيره

مكلف به، ثم نراه بعد ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده، فيعلم أنه مخصوص عنه، أو نسخ عنه "الحكم" على حسب ما يقتضيه الحال. وأما الثاني: فإما أن يعلم أن القول هو المتقدم، أو الفعل، أو لا يعلم واحد منهما. فإن كان الأول: فإما أن يكون/ (334/ب) القول خاصًا به، أو بنا، أو هو متناول له، ولنا. فإن كان الأول: فإما أن يصدر الفعل قبل التمكن من امتثال مقتضى القول، أو بعده. فإن كان الأول: كان الفعل ناسخًا لمقتضى القول عند من يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، فأما من لم يجوز ذلك ولم يجوز صدور الذنب منه قال: لم يتصور وجود مثل هذا الفعل منه. وأما من يجوز صدور الذنب منه، ولم يجوز النسخ قبل حضور الوقت حمله على كونه ذنبًا. وإن كان الثاني: كان الفعل ناسخًا لمقتضى القول وفاقًا،. وهو ظاهر على رأي من لم يجوز صدور الذنب منه، وأما من جوز ذلك فكذلك، لأنه خلاف الظاهر على ما تقدم تقريره، والنسخ وإن كان خلاف الأصل أيضًا،

لكنه أكثر منه وأنه متفق عليه. وخلاف بعض الشاذين فيه لو صح غير معتبر، بخلاف جواز صدور الذنب فإنه مختلف فيه، والأكثرون على عدم تجويزه، فكان الحمل على النسخ أولى. هذا هو اللائق لمذهبهم، وإن لم نطلع عليه من حيث النقل. وإن كان قوله: خاصًا بنا، فإما أن يدل دليل على وجوب التأسي به بذلك الفعل، أو لم يدل. فإن كان الأول: فإما أن يحصل الفعل قبل التمكن من امتثال مقتضى القول، أو بعده. فإن كان الأول: قال الإمام: وجب المصير إلى القول دون الفعل، وإلا لكان القول لغوًا، ولا يلغوا الفعل، لأن حكمه ثابت في حق الرسول. وهذا يقتضى أن يكون الحكم كذلك إن فرض صدور الفعل بعد التمكن من الامتثال، لأن إمكان الحمل على النسخ حاصل في الموضعين على رأينا، وهو لم يقل به. والقياس يقتضي أن يقال: إن ذلك الفعل مع ذلك الدليل ناسخ لمقتضى

القول المتقدم، عند من يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به. ومن لم يجوز ذلك فلا تتصور المسألة عنده، أو يقول بترجيح القول كما ذكره الإمام. وإن كان الثاني: كان الفعل مع ذلك الدليل ناسخًا لمقتضى القول المتقدم وفاقًا. وإن كان الثاني: كان الفعل مختصًا به، والقول مختصًا بنا ولا تعارض بينهما. فإن كان قوله متناولًا له ولنا، فإما أن يحصل الفعل قبل التمكن من الامتثال أو بعده. فإن كان الأول: فإن دل دليل على وجب التأسي به في ذلك الفعل كان ذلك نسخًا لمقتضى القول على ما ذكرنا من القياس، على رأي الإمام: يكون فعله مخصصًا له "عن" عموم القول [وإن لم يدل عليه دليل كان الفعل مخصصًا له عن عموم القول]. وإن كان الثاني: فإن دل دليل على وجوب التأسي به في ذلك الفعل كان نسخًا لمقتضى/ (345/أ) القول وفاقًا. وإن لم يدل عليه دليل: فإما أن يكون قبل العمل بمقتضى القول، أو بعده.

فإن كان الأول: كان ذلك تخصيصًا في حقه وتبقى الأمة مندرجة تحت خطاب القول، لأنه وإن أمكن جعله نسخًا في حقه لكن الحمل على التخصيص أولى مهما أمكن الحمل عليه. وإن كان الثاني: كان نسخًا في حقه دون الأمة، [و] إن دل دليل على تكرر العمل بمقتضى الأول. وإن كان الثاني: وهو أن يكون الفعل متقدمًا على القول: "فإن" لم يدل دليل على تكرر العمل به، ولا على تأسي الأمة به فيه فلا تعارض بينهما سواء كان القول خاصًا به، أو بنا، أو هو متناول له ولنا، وسواء حصل عقيب الفعل أو متراخيًا عنه، لأن القول المتأخر لم يرفع شيئًا من حكم ما تقدم من الفعل لا في الماضي ولا في المستقبل، إذ الماضي لا يمكن رفعه ولا حكم له في المستقبل. وإن دل الدليل عليهما معًا، أو على تكرره في حقه عليه السلام فقط، أو على تأسي الأمة به فيه فقط، فلا يخلو إما أن يحصل القول عقيب الفعل، أو متراخيًا عنه، وعلى التقديرات، إما أن يكون القول خاصًا به أو بنا أو هو متناول له ولنا. فهذه أقسام: أحدها: أن يدل دليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به، فإن حصل القول عقيب الفعل، وكان خاصًا به عليه السلام كان القول مخصصًا له عن عموم حكم الفعل. وإن كان خاصًا بالأمة كان مخصصًا للأمة عن عمومه.

وإن كان متناولًا له ولهم دل على سقوط حكم الفعل عنه وعنهم، وهو بطريق النسخ على رأي من يجوز قبل التمكن من الامتثال، وأما على رأي من لم يجوز ذلك، فيحتمل أن يكون بطريق الترجيح، وإن حصل القول متراخيًا عنه، فإن كان مختصًا به كان ذلك نسخًا لحكم الفعل في حقه فقط، وإن كان مختصًا بالأمة كان نسخًا في حقهم فقط، وإن كان متناولًا له ولهم كان نسخًا في حقه وحقهم جميعًا. وثانيها: أن يدل دليل على تكرره في حقه عليه السلام فقط، فإن حصل القول قبل وقت التكرار وكان خاصًا به كان نسخًا له في حقه عند من يجوز النسخ قبل التمكن من الامتثال. وإن كان خاصًا بالأمة فلا تعارض بينهما. وإن كان متناولًا له ولهم كان نسخًا في حقه ولا تعارض بينهما بالنسبة إلى الأمة، وإن حصل بعد وقت التكرار فالحكم على ما سبق، غير أن يكون نسخًا في حقه بالاتفاق حيث يكون القول متناولًا له. وثالثها: أن يدل دليل على تأسي الأمة به في ذلك الفعل فقط، فالقول إن حصل/ (345/ب) عقيب الفعل، فكان مختصًا بالأمة كان ذلك نسخًا لحكم الفعل في حقهم، على رأي من يجوز النسخ قبل حضور الوقت، وإن كان مختصًا بالرسول عليه السلام فلا تعارض بينهما. وإن كان متناولًا له ولهم فالحكم على ما سبق، وهو أنه يكون نسخًا

في حقهم على رأي أصحابنا، ولا تعارض بينهما بالنسبة إليه عليه السلام، وإن حصل متراخيًا عنه فالحكم على ما لا يخفى عليك. وإن كان الثالث: وهو أن لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر: فإن لم يدل دليل على تكرر الفعل في حقه، ولا على تأسي الأمة به، فلا تعارض بينهما ويجب العمل بمقتضى القول، لاحتمال أن يكون الفعل متقدمًا، والقول متأخرًا، وعند ذلك لا يتحقق التعارض بينهما لما سبق. وإن دل دليل على تكرر العمل بالفعل في حقه عليه السلام وعلى تأسي الأمة به فيه، فإما أن يكون القول متناولًا له وللأمة، أو له فقط، أو للأمة فقط. فإن كان الأول: فالعمل بمقتضى القول عند الجماهير. ومنهم: من رجح القول. وتوقف فيه آخرون. احتج الأولون بوجهين: أحدهما: أن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل. أما أولًا: فلأنه مستغن عن الفعل في الدلالة، والفعل غير مستغن عنه فيها، فكان أقوى. وأما ثانيًا: فلأنا لو سلمنا: أنه مستغن عنه، لكنه ليس صريح الدلالة

بخلاف القول. وأما ثالثًا: فلأن دلالة القول أعم من دلالة الفعل، لإمكان التعبير به عن المحسوس وغيره، بخلاف الفعل فإنه لاينبئ من غير المحسوس، والأعم أقوى والأقوى راجح والعمل بالراجح واجب، فيكون العمل به واجبًا. وثانيهما: أن كون القول متناولًا لنا محقق، وكون الفعل متناولًا لنا ليس كذلك، لاحتمال أن يكون القول متقدمًا والفعل صدر عقيبه فيكون مخصصًا له عن عموم القول فقط، والمعلوم أولى مما ليس كذلك. وإن كان الثاني: فلا تعارض بين القول والفعل بالنسبة إلى الأمة لعدم تناول قوله لهم، وأما بالنسبة إليه عليه السلام فيتحقق التعارض، وتأتي المذاهب الثلاثة المذكورة لو تصور الجهل بالتاريخ في حقه. وإن كان الثالث: لم يعارض قوله فعله بالنسبة إليه لعدم تناول قوله: إياه، وأما بالنسبة إلى الأمة فيتحقق. وتأتي المذاهب الثلاثة، وإن دل دليل على تكرر العمل بالفعل في حقه فقط، فإن كان القول خاصًا به، أو إن كان متناولًا له والأمة تحقق التعرض بينهما بالنسبة إليه دون الأمة، والخلاف فيه كالخلاف فيما تقدم/ (346/أ) وإن كان خاصًا بالأمة فلا تعارض بينهما. وإن دل دليل على تأسي الأمة "به" في ذلك الفعل فقط، فإن كان

القول خاصًا بالأمة أو كان متناولًا له ولهم تحقق التعارض بالنسبة إليهم والخلاف على ما تقدم. وأما بالنسبة إليه فلا تعارض بينهما، وإن كان خاصًا به عليه السلام فلا تعارض بين القول والفعل أصلًا. فرع: إذا وقع التعارض بين قوله العام المتناول له، وللأمة -المطلق بالنسبة إلى الحالتين الشامل لهما جريا على الإطلاق- وبين فعله الخاص بإحدى الحالتين نحو "نهيه عليه السلام عن استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة" وفعله الذي روى "أنه جلس في البيت لقضاء الحاجة مستقبل

بيت المقدس"، واستقباله من بيته لا يمكن إلا باستدبار الكعبة.

فهل يكون نهيه مخصوصًا بفعله بإحدى الحالتين في حقه وحقهم، أم يختص فعله به ويجرى النهي عن إطلاقه في حق الأمة، "أو" يتوقف فيه؟ فيه خلاف. فذهب الشافعي: إلى الاحتمال [الأول]، ولهذا قال: لا بأس باستقبال القبلة واستدبارها في البنيان، ويكون فعله دليلًا على أن ذلك غير "مراد" "و" يختص النهي في حقه وحقهم في الصحراء. وذهب الكرخي إلى الاحتمال الثاني: ولهذا قال: استقبال الكعبة واستدبارها منهي عنه في البناء والصحراء معًا، وإنما كان يجوز في البنيان للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الخصوصية. وذهب القاضي عبد الجبار: إلى الاحتمال الثالث، زعمًا منه أن التخصيص [لازم] على المذهبين [على ما ستعرف وليس] أحد

التخصيصين أو [لى من الآخر] فيتوقف فيه إلى ظهور المرجح. حجة الإمام الشافعي رضي الله عنه: أن القول بتخصيص فعله به يوجب إبطال الدليل الدال على وجوب التأسي به في ذلك الفعل، والقول بتخصيص النهي بإحدى الحالتين وتعميم حكم الفعل في حقه وحق الأمة إعمال للدليلين، أما دليل وجوب التأسي به، فلأنه معمول به من كل وجه، وأما نهيه فلأنه معمول به في إحدى الحالتين وإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما. فإن قلت: لو قيل بتخصيص الفعل به لم يلزم إبطال دليل وجوب التأسي به بالكلية، ضرورة أنه معمول به في غير ذلك الفعل، بل غاية ما يلزم أنه يصير مخصوصًا بالنسبة إلى ذلك الفعل، وحمل النهي على إحدى الحالتين أيضًا يوجب "الترجيح" فالتخصيص لازم على المذهبين. فلم قلتم: إن تخصيصكم أولى من تخصيصنا، بل تخصيصنا أولى، لأن دليل وجوب التأسي به في كل فعل مع كل فعل أعم من ذلك النهي، ضرورة/ (346/ب) أنه متناول لكل فعله، ونهيه عن الاستقبال غير متناول لكل فعل وتخصيص الخاص بالعام غير جائز. قلت: دليل وجوب التأسي به في كل فعل مع كل فعل ليس هو المخصص للنهي حتى يلزم تخصيص الخاص بالعام، بل دليل وجوب التأسي به في ذلك الفعل مع ذلك الفعل بخصوصيته وأنه أخص من ذلك النهي، ضرورة أنه غير متناول لغير ذلك الفعل، ونهيه متناول له ولغيره، فكان أخص منه

وتخصيص العام بالخاص أولى من العكس فكان تخصيصنا أولى لا يقال نحن لا نخصص دليل وجوب التأسي به في ذلك الفعل مع ذلك الفعل بالنهي حتى يلزم تخصيص الخاص بالعام، بل تخصيص دليل وجوب التأسي به في الفعل فقط بالنهي وإنه أعم من النهي لما سبق. لأنا نقول: لا منافاة بين دليل وجوب التأسي به في الفعل فقط، وبين النهي حتى يخصص به، بل المنافاة بينهما إنما هو باعتبار الفعل، فكان المعتبر هو المجموع وأنه أخص من النهي. ومما سبق لا يخفى عليك مأخذ الكرخي رحمه الله.

النوع الحادي عشر: الكلام في النسخ

الفصل الأول في النسخ وتعريف الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل: المسألة الأولى في حقيقته لغة ذهب الأكثرون: إلى أنه حقيقة في الإزالة والإعدام. وذهب القفال: إلى أنه حقيقة في النقل والتحويل. وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وغيرهما: إلى أنه مشترك

بينهما بالاشتراك اللفظي. احتج الأولون بوجهين: أحدهما: أنه "استعمل في الإزالة" والإعدام، يقال: نسخت الريح آثار القوم، إذا أعدمت وأزالت، ونسخت الشمس الظل، إذا أعدمت، ونسخ الشيب الشباب، إذا أزاله وجاء مكانه، ومنه يقال: تناسخ القرون والأزمنة، بمعنى انعدام البعض ومجيء البعض الآخر مكانه، والأصل في الاستعمال الحقيقة. وكون التجوز واقعا في إسناد الاستعمالات المذكورة، من حيث إن المزيل للآثار، والظل، والشباب، ليس هو الريح، والشمس، والشيب [لو سلم ذلك فإن في كون تلك الإسنادات] "مجازات، منعا لا يخفي سنده" [بل الله تعالى]. لا ينفي كون اللفظ حقيقة في الإزالة أو التجوز العقلي، بجامع

الحقيقة اللغوية على ما سبق ذلك في اللغات. وإذا كان حقيقة فيه وجب أن لا يكون حقيقة في النقل والتحويل دفعًا للاشتراك. وعورض: هذا الوجه بمثله فقيل: النسخ استعمل في النقل والتحويل على ما سيأتي، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وإذا كان حقيقة فيه، وجب أن لا يكون "حقيقة" في غيره دفعًا للاشتراك، وحينئذ ليس جعله حقيقة في أحدهما أولى من جعله حقيقة في الآخر. وأجاب الإمام عنه بأن الترجيح معنا، لأن الإزالة والإعدام أعم من النقل/ (347/ أ) والتحويل، لأن الإعدام والإزالة تارة في الذات، وتارة في الصفات، والنقل والتحويل ليس فيه إلا إزالة الصفة وإعدامها، لأن الذات فيه باقية، وإنما ينعدم صفة كونه في هذا المقام ويتحدد له صفة كونه في هذا المقام، [وهو] مطلق الإعدام المنقسم إلى إعدام الذات والصفة أعم من كل واحد منهما، وجعل اللفظ حقيقة في المعنى العام، أولى من جعله في الخاص. أما أولا: فلأنه يكون متواطئًا في تلك الموارد من غير استلزام تجوز واشتراك.

وأما ثانيا: فلأنه أكثر فائدة، وبالتقرير الذي قررناه أن الإزالة والإعدام أعم من النقل والتحويل يسقط ما قيل في سند منع كونه أعم منه، وهو أن الإعدام حيث يكون [إنما] يكون بزوال صفة "وهي" صفة الوجود، وتحدد أخرى، وهي صفة العدم فلا يكون أعم منه. ولا يخفى عليك معارضة الوجهين بما سبق في اللغات. وثانيهما: وهو أن إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم: نسخت الكتاب، أو نسخت ما في الكتاب، مجاز ضرورة أن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة، وإذا كان اسم النسخ مجازا في النقل، لزم أن يكون حقيقة في الإزالة والإعدام، لئلا يلزم قول ثالث خارق للإجماع، أو لأنه غير مستعمل فيما سواهما. وهو ضعيف جدا، لأنه لا يلزم من أن يكون ذلك الاستعمال بطريق الحقيقة أن لا يكون النسخ حقيقة في النقل، لجواز أن يكون حقيقة فيه مجازا في قولهم: نسخت الكتاب بطريق التشبيه، نعم لو كان استعمال النسخ بمعنى النقل منحصرًا فيه، أو لو قيل: إن كل من قال إنه حقيقة في

النقل قال إنه حقيقة في قولهم: نسخت الكتاب، لكنه ليس بحقيقة فيه لما سبق، فلا يكون حقيقة في النقل أتم، لكن من المعلوم أنه ليس الاستعمال منحصرًا فيه ولا يمكن ادعاء الثاني. احتج القفال على أن النسخ بمعنى النقل والتحويل: إذ يقال: تناسخ المواريث بمعنى انتقالها من ورثة إلى ورثة ومن المعلوم أنه ليس هو بمعنى الإزالة والإعدام، وكذلك: تناسخ الأرواح، بمعنى انتقالها من بدن إلى بدن. وقولهم: نسخت الكتاب، أو ما في الكتاب، كأنك تنقله لنقل مثله مجاز منه بطريقة المشابهة، لا من النسخ الذي هو بمعنى الإزالة والإعدام، لأنه لا مشابهة بينهما، أو وإن كان بينهما مشابهة لكن المشابهة بينه وبين النسخ بمعنى النقل والتحويل أكثر، وقد عرفت أن جهة الرجحان فيكون مجازًا منه، فيكون حقيقة فيه. وأما القائلون: بأنه مشترك بينهما، قالوا: إنه استعمل في المعنيين كما سبق ولم يترجح أحدهما على الآخر بكونه حقيقة أو مجازا فيكون حقيقة/ (347/ ب) فيهما.

المسألة الثانية في حده بحسب الاصطلاح والناسخ والمنسوخ

وجوابه: أنه مستعمل فيه، إما بطريق التواطؤ، أو بطريق التجوز، وجعل الإزالة أصلا والنقل فرعا، أولى من العكس لما عرفت "من" قبل. المسألة الثانية في حده بحسب الاصطلاح والناسخ والمنسوخ النسخ عبارة عن: رفع حكم ثابت "بطريق شرعي".

وإنما قلنا: رفع حكم، لأن حقيقة النسخ الرفع والإزالة لغة. واصطلاحًا: على ما ستعرف ذلك. وقولنا: ثابت بطريق شرعي، وقع احترازا عن الثابت بطريق العقل، كالبراءة الأصلية، فإن رفعه ولو بطريق شرعي لا يسمى نسخًا "بحسب الاصطلاح، وهو خير من قول القائل: الثابت بالخطاب، لأنه يندرج تحته الثابت به ويغيره، كالأفعال. وإنما قلنا: بطريق شرعي"، ليتناول الخطاب، ومفهوميه، والأفعال، ويخرج عنه ما يكون الرفع بالموت، والجنون، وانكسار العضو، وغيره من الموانع الرافعة للأحكام. ولا حاجة إلى اعتبار مثل الحكم في التحديد حتى يقال: رفع مثل حكم ثابت، كما وقع في كلام بعض المعتزلة، لأن اعتبار ذلك إن كان لامتناع

تعقل رفع الثابت بناء على ما يقال: إن المرفوع إن كان ثابتًا لا يمكن رفعه، وإن لم يكن ثابتًا لا يحتاج إلى رفعه. فباطل، لأنه بعينه آت في المثل، إذ يمكن أن يقال: رفع المثل إن كان في حالة ثبوته فباطل لما ذكرتم، وإن كان في غير حالة ثبوته سواء كانت تلك الحالة حالة عدمه قبل وجوده أو حالة عدمه بعد وجوده فلا يحتاج إلى رفعه، وإن كان لأجل أن المرفوع بالنسخ ليس هو عين الثابت بالطريق الشرعي، ضرورة أن زمان النسخ زمان الثبوت بالطريق الشرعي، فالثابت في زمان النسخ ليس غير الثابت بالطريق الشرعي، بل مثله فهو أيضا باطل، لأنا لم نقل رفع حكم ثابت قبل النسخ حتى يلزم ذلك والثابت بالطريق الشرعي يتناول الثابت حالة النسخ وقبلها، فإن الثابت حالة النسخ لو سلم أنه غير الثابت قبلها لكنه ثابت بالطريق الشرعي أيضا كالثابت قبلها، وإلا لم يكن حكمًا شرعيًا وهو خلاف الإجماع. وقولنا: رفع حكم: يغني عن التقييد: بالتراخي، وعن قولنا: لولاه لكان الحكم ثابتًا، لأن الأول: إنما يراد للاحتراز عن انتفاء الحكم الذي يحصل بسبب الاستثناء، والتقييد بالصفة، والغاية، والشرط وقد حصل

الاحتراز عنه، بقولنا: رفع حكم، إذ ليس في شيء منها رفع الحكم، لأن الرفع إنما يكون/ (348/ أ) بعد الثبوت وليس في شيء من ذلك ثبوت الحكم، لأنها تخصيصات وهو يبين أنه غير مراد. والثاني: إنما وقع احترازا عن النهي الوارد بعد الأمر المطلق الذي امتثل مقتضاه. وقلنا: إنه لا يقتضي التكرار وما يجري مجراه، فإن النهي لا يكون نسخًا للأمر المتقدم، لأنه ليس بمثابة: لولاه لكان الحكم ثابتًا. وقد حصل ذلك "بقولنا" رفع الحكم، ضرورة أن لما امتثل مقتضاه لم يكن الحكم ثابتًا فيما بعده. فإن قلت: الأمة إذا اختلفت على قولين، فإنه يجوز للعامي الأخذ بكل واحد من القولين بدلا من الآخر، ثم إذا اتفقت على أحدهما، فإنه لا يجوز له ذلك إذ ذاك. فهذا طريق شرعي: رفع حكم ثبت بطريق شرعي مع أنه لا نسخ، إذ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به. قلت: من منع من أصحابنا كالصيرفي في حصول مثل هذا الإجماع فقد سقط عنه هذا السؤال، وأما من جوز ذلك فإنه يمنع كون الإجماع على أحد

القولين رافعًا لجواز الأخذ بكلا القولين على البدلية، وهذا لأنه يجوز أن يكون مشروطًا بعدم حصول الإجماع بعده على أحد القولين، فإذا وجد ذلك فقد زال شرطه فيزول الحكم لزوال شرطه، وهو ليس من النسخ في شيء. لا يقال: ما ذكرتم من الاحتمال بعينه، قائم في النسخ. إذ يمكن أن يقال: إن حكم المنسوخ كان مغيًا إلى غاية وجود الناسخ، فإذا وجد ذلك زال الحكم لزوال شرطه فلا يتحقق معنى الرفع في النسخ أيضًا. وعند ذلك يلزم: إما إنكار النسخ على ما نقل ذلك عن بعض المسلمين، فإنه لا يمكن تصحيحه إلا بهذا الطريق. وإما أن يقال: إنه عبارة عن انتهاء مدة الحكم. على ما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق.

لأنا نقول: هذا الاحتمال وإن كان قائما في النسخ، لكنه مرجوح خلاف ظاهر اللفظ المنسوخ حكمه، فإن لفظه يفيد دوام الحكم، إذ النسخ بعد الفعل لا يرد إلا على ما يفيد تكرار الحكم، إما على سبيل الدوام أو وإن كان إلى غاية معينة، لكنه يكون واردًا قبل تلك الغاية، وإذا كان كذلك كان معنى الرفع فيه أغلب بخلاف اختلافهم في مسألة على قولين، فإنه ليس فيه ما يدل على جواز الأخذ بأحد القولين على تلك الصفة، وإذا كان كذلك فلا يلزم من العمل بمقتضاه حيث ليس يخالف الظاهر بل يؤيده، فإن ظاهر ما يدل على أن الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ به يؤيده العمل بمقتضاه حيث يخالف الظاهر، ولو فرض الإجماع على جواز الأخذ بأحد القولين بصراحة القول، إما على التأييد أو غيره فإننا نمنع حصول الإجماع بعد ذلك على أحد القولين. وسلك الإمام رحمه الله تعالى في دفع/ (348/ ب) هذا النقض مسلك العناية فإنه لما قال: الناسخ طريق شرعي إلى آخره، قال: نعني بالطريق الشرعي القدر المشترك بين القول الصادر من الله ورسوله، والفعل المنقول عنهما، والإجماع على جواز الأخذ بأحد القولين، والإجماع على أحدهما بعد ذلك، يس بطريق شرعي على هذا التفسير. ولا يخفى عليك ما فيه من الضعف، ودفع بعضهم بوجه آخر وهو أن الحكم نفيًا وإثباتًا إنما يستند إلى الدليل السمعي الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم وعلى هذا فيكون إجماعهم دليلًا على وجود الخطاب الذي هو النسخ، لا أن خطابهم نسخ.

وهو ضعيف جدًا، لأن الاحتمال المذكور قائم في كل إجماع، وهو إنما يكون نقضًا على من سلم أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وهذا التعريف الذي ذكرناه إنما هو على رأي القاضي. فأما إذا أردت تعريفه على ما يشترك فيه المذهبان فقل: النسخ عبارة عن زوال حكم ثبت بطريق شرعي، عند ورود طريق شرعي مناف لحكمه، على وجه لولاه لكان الحكم ثابتًا. وإنما زدنا هذا القيد الأخير: احترازًا عما ورد ما ينافي مقتضى مطلق الأمر من الطرق الشرعية بعد فعله، فإنه زال حكمه عند ورود طريق شرعي مناف لحكمه، وهو ليس بنسخ، لأنه ليس على وجه لولاه لكان الحكم ثابتًا، إذ حكمه قد انقطع بعد الامتثال. ولا حاجة إلى قيد التراخي إذ الزوال إنما يكون بعد الثبوت، وفي صورة الاستثناء والتقييد بالصفة، والشرط، والغاية، لم يثبت الحكم أصلًا، وهذا في الغاية المفصلة. فأما المجملة نحو قوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن

الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} فهل يجعل بيان الحكم على خلاف الحكم السابق بعدها نسخًا للحكم المتقدم أم لا؟ فيه احتمالات: وذلك نحو شرعية جلد الزاني والزانية بعد قوله: {أو يجعل الله لهن سبيلًا} الأظهر أنه يقع عليه اسم النسخ، كما لو قال: هذا "وأحب إليَّ" أن أنسخه ثم ينسخه. ويحتمل أن لا يقع كما في الغاية المفصلة. وأما الناسخ: فيطلق على الشارع، الناصب للدلالة على النسخ وهو الله تعالى في الحقيقة. فإن الرسول مبلغ عنه الأحكام وليس له شرعية الحكم من تلقاء نفسه، يقال: نسخ الشارع هذا الحكم فهو ناسخ، قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها}.

وقد يطلق على الطريق الشرعي الرافع للحكم، إذ يقال: آية الاعتداد بالأشهر نسخت لآية الاعتداد بالحول، في حق المتوفى عنها زوجها، وخبر التقاء الختانين نسخ قوله: "الماء من الماء". ويطلق على نفس الحكم المشروع بعد النسخ، نحو "ما يقال" وجوب صوم رمضان، نسخ وجوب صوم عاشوراء، فهو ناسخ. ويطلق على نعتقد النسخ يقال: فلان ينسخ الكتاب بالسنة إذا اعتقد ذلك. واتفقوا على أنه ليس حقيقة في الكل، بل في البعض. وهو إما الأول: فقط.

أو هو مع الثاني: فقط على ما نقل ذلك عن المعتزلة. ويحتمل أنه يقال إنه حقيقة فيهما. أما الأول: فظاهر. وأما الثاني: فلكثرة الاستعمال فيه بالنسبة إلى سائر المعاني، وجعل المعنى الثاني: غير النسخ كما زعم الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى بعيد جدا. أما إذا قلنا: الناسخ حقيقة فيه فظاهر، لأن النسخ ليس [هو] حقيقة في لناسخ فيكون مغايرا. وأما إذا قلنا: إنه مجاز فيه فكذلك، لأن جهة مجازية تلك غير جهة مجازية هذه وتغاير جهة التجوز دليل على التغاير. وأما المنسوخ فهو الحكم المرتفع بالنسخ.

المسألة الثالثة ذهب كثير من المحققين كالقاضي والغزالي (إلى): أن النسخ رفع

وقد يطلق على الدليل الذي تضمن إثبات الحكم المنسوخ، إذ يقال خبر كذا، وإنه كذا منسوخ إذا كان حكمها منسوخًا. المسألة الثالثة ذهب كثير من المحققين كالقاضي والغزالي (إلى): أن النسخ رفع. ومعناه: أن خطاب الله تعالى بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لنفى إلا أنه زال لطريان الناسخ. وقال الأستاذ والفقهاء أنه بيان. ومعناه: أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت، "ثم" جعل بعده حكم، والدليل الذي يرد مثبتًا للحكم الجديد يعرف ذلك.

وهو كالخلاف في أن زوال الإعراض بالذات أو بالضد. فإن من قال: ببقائها، قال: إنما ينعدم الضد المتقدم لطريان الطارئ ولولاه لبقي. ومن لم يقل ببقائها قال: إنه ينعدم بنفسه، ثم يحدث الضد الطارئ وليس له تأثير في إعدام الضد الأول. احتج القاضي بوجوه: أحدها: أن النسخ في اللغة: عبارة عن الإزالة كما تقدم، فوجب أن

يكون الشرع كذلك، إذ الأصل عدم التغيير. ولا يدفع "بما" أن التمسك بالأصل لا يفيد إلا الظن، والدلائل العقلية التي يذكرها الخصم تفيد اليقين، فلا يعارضها لأنا سنيين ضعفها. وثانيهما: أن النسخ لو كان عبارة عن انتهاء الحكم، لم يبق فرق بينما إذا ورد الخطاب بالحكم مغيًا إلى غاية معينة، وبينما إذا ورد مفيدًا لشرعيته على الدوام، ثم يرد عليه النسخ إلا في اللفظ وهو كون الغاية مذكورة لفظًا في الأول دون الثاني، لكن ليس كذلك لأنا نجد تفرقة معنوية بين قول القائل: صل الظهر في كل يوم، ثم/ (349/ ب) ينسخه بعد شهر مثلا وبين قوله: صل الظهر في كل يوم إلى شهر. وثالثهما: أن كل ما بقي بعد وجوده، فإن عدمه ليس لذاته، وإلا لما وجد، أو لما بقي فهو إذا المزيل وهو الناسخ. فإن قلت: الملازمة مسلمة فيما يكون بقاؤه مطلقًا غير مقيد إلى وقت معين، فأما ما يكون كلك فالملازمة ممنوعة فيه، وهذا لأنه إذا كان بقاؤه مشروطًا إلى وقت، جاز أن يوجد ويبقى إلى ذلك الوقت، فإذا جاء ذلك الوقت ينعدم لفقد شرطه فلا يحتاج إلى مزيل. قلت: إنه وإن كان محتملًا، لكنه خلاف ما دل عليه ظاهر اللفظ فلا يصار إليه إلا عند قيام دليل عليه، والأصل عدمه والمسألة ظنية [فيه]

فيكفينا هذا القدر. ورابعهما: أنا سنبين إن شاء الله تعالي أنه يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وذلك يمنع من أن يكون النسخ عبارة عن بيان انتهاء مدة العبادة إنما يكون بعد حصول المدة، فقبل حصوله يستحيل بيان [انتهائها وفيه نظر فليتأمل الناظر]. فإن قلت: الحكم الشرعي عندكم قديم. فكيف يعقل رفعه، فإن رفع القديم غير معقول. قلت: قد عرفت أن الحكم هو الخطاب الأزلي المتعلق "بالأفعال" وهو غير مرفوع عند النسخ، بل المرفوع إنما هو تعلقه، وهو حادث وليس رفعه يستلزم رفع الخطاب، إذ الخطاب كان حاصلا في الأزل وتعلقه بالفعل غير حاصل فلا يكون رفعه مستلزمًا لرفعه، وكذا يرتفع تعلق الخطاب بسبب الجنون والعجز. ثم إذا "قال": يعود مع بقاء الخطاب في الحالتين في نفسه وعدم تغيره في ذاته، فعلم أن رفع التعلق لا يقتضي رفع الخطاب، ونحن لا نعني بنسخ الحكم الشرعي سوى نسخ تعلق الخطاب. واحتج الخصم بوجوه: أحدها: أنه ليس زوال الباقي لطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لبقاء الباقي فلا يحصل أحدهما بالآخر، وعند ذلك، إما أن يوجدا معا، وهو محال، لاستحال اجتماع الضدين أو يعدما معا، وهو أيضا محال، لأن علة

علة عدم كل واحد منهما هو وجود الآخر فلو عدما معا لوجدا معا وذلك محال. وجوابه: أن زوال الباقي، لحدوث الحادث، أولى من العكس بدليل أن عند وجود العلة التامة لعدم الشيء، أو لوجوده المنافية لوجوده، أو لعدمه ضرورة أن علة عدم الشيء منافية لوجوده، وعلة وجود الشيء منافية لعدمه يحصل عدمه/ (350/ أ) أو وجوده قطعًا، ولولا الأولوية لامتنع حصوله وما ذكر من الوجهين في دفع الحادث أقوى من الباقي فضعيف. أما الأول: وهو أن الباقي إن لم يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلا له حالة الحدوث لزم أن يكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث، وحينئذ يمتنع رجحان الحادث عليه، وإن حصل له أمر زائد فذلك الزائد يكون حادثًا قطعا، فيكون مساويًا للضد الطارئ في الحدوث فيمتنع رجحان أحدهما على الآخر، وإذا امتنع عدم كيفية الباقي عدم الباقي وإلا لما امتنع (عدم) الكيفية. فلأنه إن عني بقوله: إن لم يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلًا له حالة الحدوث (له) لأنه لم يحصل [له] أمر ما كان حاصلًا له حالة الحدوث، ولا زال عنه ما كان حاصلًا له فيها وهو الأظهر فحينئذ نمنع امتناع رجحان الضد الطارئ على الباقي على التقدير الثاني، وهذا لأن جهة الرجحان وهي الحدوث حاصلة لذات الضد الطارئ [وهي غير حاصلة لذات

الضد الباقي على التقدير الثاني، (بل لأن جهة الرجحان] وهي غير حاصلة لذات الضد الباقي على التقدير الثاني) بل الكيفية، والمنافاة بالذات إنما هو بين الضدين وأما بين الضد الطارئ وبين كيفية الضد الباقي فبالعرض من حيث إنه ينافي ما هو محل لها، وإذا كان كذلك لم يمتنع رجحان الطارئ بحدوثه على الباقي الذي هو فاقد له. وإن عني به القسم الأول: فقط فحينئذ نمنع أن يكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث، لجواز أنه لم يحصل له أمر ما كان حاصلًا له، لكن زال عنه ما كان حاصلًا له. وأما الثاني: وهو أن الحادث إن كان يمتنع عدمه حالة حدوثه، لكونه مع سببه فبالباقي أيضا يمتنع عدمه حالة بقائه لكونه مع سببه ضرورة أنه ممكن، وإذا امتنع العدم عليهما استويا في القوة فيمتنع رجحان أحدهما على الآخر، فلأنه مبني على أن علة الحاجة إلى السبب هي الإمكان، لأن بتقدير أن لا يكون ذلك علة الحاجة إلى المؤثر لم يجب أن يكون مع الباقي السبب، وهو ممنوع على ما عرف أن علة الحاجة عند المتكلمين هي الحدوث. وثانيهما: أن الضد الطارئ إن طرأ حالة كون الضد الأول معدومًا لم يكن له تأثير في إعدامه، لأن إعدام المعدوم محال، وإن كان طرأ حالة وجوده فقد وجد مع وجوده، وإذا وجدا معا لم يكن بينهما منافاة وإذا لم يكن بينهما منافاة لم يكن أحدهما رافعًا للآخر.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون ذلك، كالكسر مع الانكسار؟ قلت: لانكسار/ (350/ ب) عبارة: عن زوال التأليفات الحاصلة لأجزاء المنكسر، والتأليفات أعراض غير باقية فلا يكون للكسر أثر في إزالتها، بل في دفع المثل. وجوابه: أن تمام الضد الطارئ انعدام الضد الباقي، وذلك ليس إعدام المعدوم، بل هو إثبات العدم كإثبات الوجود ليس إيجاد الموجود. وثالثهما: أن طريان الطارئ مشروط بزوال المتقدم، فلو كان زوال المتقدم معللًا بطريان الطارئ لزم الدور. وجوابه: منع أنه مشروطة به، ولا يلزم من منافاة الشيء لغيره، أن يكون وجوده مشروطًا بزواله، فإن وجود العلة تنافي عدم معلوله، مع أنه ليس مشروطًا بزواله، وإلا لكان وجود المعلول متقدمًا على وجود العلة، ضرورة أن رتبة الشرط متقدم على رتبة المشروط. ورابعهما: أن حكمة كلامه، وكلامه قديم، والقديم يستحيل رفعه. وجوابه: أن المرفوع تعلق الخطاب لا نفس الخطاب كما سبق، وما قيل: في دفعه بأن تعلق الخطاب إن لم يكن أمرا وجوديًا استحال رفعه، وإن كان وجوديًا، فإن كان قديمًا استحال أيضا رفعه، وإن كان وجوديًا، فإن كان قديمًا استحال أيضًا رفعه، وإن كان [وجوديًا] حادثًا

لزم أن يكون الباري محلا للحوادث. (فضعيف، لنه لا يلزم من حدوث تعلق الخطاب، أن يكون الباري محلا للحوادث)، إذ هو غير قائم بذات الله تعالى. وخامسها: وهو ما استدل به إمام الحرمين على فساد القول بالرفع، وهو: أن علم الله تعالى جهلًا، وهو محال، وإن تعلق باستمراره إلى ذلك الوقت الذي نسخ فيه لزم أن لا يبقى بعده، وإلا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا، وهو محال، وحينئذ يمتنع أن يكون زواله بمزيل، لأن الواجب لذاته لا يصير واجبًا بغيره.

وجوابه: أنه يجوز أن يكون علمه متعلقًا بزواله في ذلك الوقت بإزالة الحادث (إياه) لا بنفسه، وهو لا يمنع من زواله به، وإلا لزم أن يقال: إن علمه تعالى بوجود العالم ي=بالمؤثر مانع من وقوعه به، بل يمنع من زواله بنفسه وإلا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا، وهو محال. وسادسها: أن الحكم المرفوع، إن كان ثابتًا استحال رفعه، لأن رفع الثابت محال، وإن كان منفيًا استحال ايضًا رفعه لاستحالة تحصيل لحاصل. وجوابه: أنه منقوض بالزوال إذا أمكن أن يقال: إن الحكم الزائل إن كان ثابتًا استحال زوال الثابت، وإن لم يكن كذلك استحال زواله، لاستحالة أن يزول الزائل، ثم الجواب/ (351/ ب) الكاشف عن محل الإشكال هو أن المرفوع كان ثابتًا فعندما حصل الرفع بتمامه ارتفع به ولا استحالة فيه.

المسألة الرابعة في الفرق بين النسخ والبداء

المسألة الرابعة في الفرق بين النسخ والبداء اعلم أن النسخ غير البداء وغير مستلزم له. أما الأول: فلأن النسخ عبارة عما سبق لغة، واصطلاحًا. وأما البداء: فهو عبارة عن الظهور بعد أن أن لم يكن كذلك، قال الله تعالى: {وبدا لهم سيئات ما عملوا}، وقوله: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} أي ظهر لهم من الله ما لم يكن كذلك. ويقال: في عرف الاستعمال: بدا لنا وجه الرأي، وبدا لنا سور المدينة أي ظهر بعد أن لم يكن كذلك، وإذا كان كذلك كان النسخ غير البداء، إذ لا يتفقان في الدلالة على مسمى واحد، لا بحسب اللغة، ولا بحسب الاصطلاح.

وأما الثاني: فلأنه يجوز أن يكون فعل المأمور مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت، فيحس الأمر به في وقت يكون مصلحة فيه، ويحسن النهي عنه في وقت يكون مفسدة فيه، ولا ننكر جواز ذلك، فإن أكثر الأفعال العادية كذلك. ألا ترى أن الأكل والشرب حالة الجوع والعطش مصلحة، وحالة الشبع والري مفسدة فلا يلزم من نسخ ما كان مطلوبًا فعله أن يكون ذلك لظهور مفسدة فيه، لما سبق من الاحتمال. وهذا على رأي من لم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وأما من يجوز ذلك فيعلل بأن الأمر بالشيء في وقت قد يكون مصلحة، والنهي عنه (قبيح) فيه وفي وقت آخر يصير الأمر به (فيه) قبيحًا ويصير النهي عنه فيه حسنًا، كما سيأتي تمام تقريره في مسألة جواز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وحينئذ ينبغي أن يحسن الأمر والنهي كلاهما بحسب وقتين مختلفين، فلا يكون النهي عما أر به أولا قبل حضور وقت عمله مستلزما للبداء، إذ لا يكون دالا على ظهور مفسدة

فيه، فظهر أن النسخ غير البداء وغير مستلزم له. وذهبت الروافض، واليهود: إلى أن النسخ يستلزم البداء فلزمهم التسوية بينهما في الجواز وعدم الجواز. فذهبت اليهود إلى عدم جوازهما، وقالوا: لا يجوز النسخ من الله تعالى لاستحالة البداء عليه. وذهبت الروافض إلى جوازهما وقالوا: بجواز البدء على الله تعالى لجواز النسخ منه. فكل واحدًا من المذهبين، وإن كان كفرًا. إذ الأول يقتضي إنكار نبوة نبينا عليه السلام. والثاني: يقتضي جواز الجهل على الله تعالى، وكونه محلًا للحوادث. لكن الثاني: كفر صريح لا يمكن أن يحمل على وجه لا يلزم منه الكفر/ (351/ ب) (بخلاف الأول: فإنه يمكن أن يحمل على وجه لا يلزم منه الكفر)، وذلك بأن يقال: ليس من ضرورة القول بصحة نبوة نبينا عليه

السلام القول بصحة النسخ حتى يلزم من إنكار النسخ إنكار النبوة، وذلك لاحتمال أن يقال: أن شرع من قبله كان مغيا إلى غاية ظهوره عليه السلام في اللفظ فعند ظهوره عليه السلام زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية وليس ذلك من النسخ في شيء، بل هو جارى مجرى قوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} وحينئذ لا يلزم من إنكار النسخ إنكار نبوته عليه السلام، وبهذا التأويل أنكر بعض المسلمين النسخ. ثم كذبت الروافض وبهتوا في نسخة تجويز البداء على الله تعالي إلي أهل البيت حيث نقلوا عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة". ونقلوا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال:"البداء ديننا ودين أبائنا في الجاهلية". ونقلوا عنه أيضا أنه قال: "ما بدأ الله في شيء كما بدأ له في إسماعيل" أي في أمره بذبحه. واتخذوا هذه الأكاذيب المخترعة من بعضهم مستندا لمذهبهم الباطل.

وربما استدلوا عليه من جهة نص الكتاب بقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}. واستدلوا عليه من المعقول: بأنه إن علم خلو الفعل من المفسدة حسن الأمر به فقبح النهي عنه، وإن علم اشتماله على المفسدة قبح الأمر به وحسن النهى عنه، فأحدهما حسن والآخر قبيح لا محالة ولم يحسن الأمران معا إلا بحسب اختلاف العلم بذلك. وأيضا: لو لم يجز عليه البداء لكان فعله على نمط واحد كفعل الطبائع، وذلك ينافي كونه فاعلا مختارا تعالي عن ذلك، إذ الفاعل المختار ما يمكنه الفعل والترك على حسب ما يشاء. وفي هذا المعني قال قائلهم:

ولولا البداء سميته غير هائب ... وذكر البداء نعت لمن يتقلب ولولا البداء ما كان فيه تصرف ... وكان كنار دهرها يتلهب وكان كضوء مشرق بطبيعة ... وبالله عن ذكر الطبائع يرغب واعلم أن نصوص الكتاب، نحو قوله تعالي {[و] ما يعزب" عن ربك" [من] مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء}، ونحو قوله: {عالم الغيب والشهادة}، وقوله: {وهو بكل شيء عليم}، وقوله: {ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}، ونحو قوله: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} وغيرها من النصوص التي تدل على أن علمه تعالي محيط بجميع الأشياء والأدلة/ (352/ أ) القاطعة العقلية الدالة عليه (و) كلاهما يدل على فساد

هذا المذهب وليس له مستند، ولا بحسب العقل، ولا بحسب العقل، ولا بحسب النقل سوى تلك الأكاذيب المخترعة. وأما قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} فهو لا يدل عليه، لأن المراد منه المحو والإثبات بطريق النسخ لا بطريق البداء، ويحتمل أيضا أن يكون المراد منه (محو) السيئات بالحسنات، كما قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}،أو محو السيئات بالتوبة، ومحو الحسنات بالردة، كما قال تعالي: {ومن يرتد [د] منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} وغيرها من الاحتمالات التي ذكر المفسرون في تفسيرها. وأما الوجه الأول من المعقول: فقد عرفت جوابه.

المسألة الخامسة في إثبات النسخ على منكريه

وأما الثاني: فجوابه: إنما يمتنع أنه لو لم يجز عليه البداء، لكان فعله على نمط واحد، وهذا لأنه يجوز أن يختلف فعله بحسب اختلاف المصلحة والمفسدة بالنسبة إلى الأوقات كما تقدم. سلمنا: الملازمة لكن لا نسلم أن ذلك ينافي كونه فاعلا مختارا، وهذا لأن المعني من كونه فاعلا مختارا، هو أنه إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإن ذلك محال (لا أنه بعد مشيئة الفعل وإرادته إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإن ذلك محال)، لأن مشيئة الترك مع مشيئة الفعل محال، وكذا بعدها في حق من تكون مشيئته وإرادته قديمة. وأما الرد على اليهود فسيأتي في مسألة منفردة بعد هذا إن شاء الله تعالي. المسألة الخامسة في إثبات النسخ على منكريه النسخ جائز عقلا واقع سمعًا عند أكثر المتكلمين. خلافا لليهود فإن منهم من أنكر جوازه عقلا، ووقوعه شرعًا ومنهم

من أنكر وقوعه فقط. وذهبت العيسوية منهم، وهم أصحاب أبي عيسي الأصفهاني، المعترفون بصحة نبوة نبينا لكن إلى بني إسماعيل وهو العراب خاصة إلى جوازه عقلا ووقوعه سمعا. وهؤلاء وإن لم يكونوا مخالفين فلا يحسن ذكرهم في معرض ذكر المخالفين، لكن إنما ذكرناهم لئلا يتوهم أن جميع اليهود مخالفون في ذلك. وروى عن بعض المسلمين إنكاره، مع اعترافه بأن شرعنا يخالف شرع

من قبلنا في كثير من الأحكام، لكن بالتأويل الذي سبق. واعلم أنا مهما دللنا على الوقوع، فقد دللنا على الجواز العقلي، إذ لا

يجوز أن يقع ما لا يكون جائزا عقلا، لكن مع ذلك يستدل على الجواز العقلي بدليل يخصه من جهة العقل، والشرع ليكون مدلولا عليه/ (352/ ب) بصريح الدلالة، فإن على الطريقة الأولى، إنما يكون مدلولا عليه بطريق الالتزام. فنقول: لو لم يكن النسخ جائزا لكان ممتنعا، إذ لا قائل بوجوبه (و) لو قيل به لكان الغرض حاصلا، إذ كل واجب جائز بالمعنى العام، فامتناعه، إما لذاته وصورته، وإما لغيره. والأول: باطل، لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال، لا بمعنى الرفع، ولا بمعنى انتهاء الحكم، أما بالمعني الثاني: فظاهر إذ لا إشكال عليه. وأما بالمعني الأول: فلما تقرر من قبل من تحقيق معنى الرفع على الوجه المعقول. وأما الثاني: فإما أن يكون لاستلزامه البداء وهو باطل لما بينا أنه لا يستلزمه، أو لأنه يستلزم أن يكون الشيء الواحد حسنًا وقبيحًا معا وهو محال. وهو أيضا باطل، لأنا بينا أن ذلك جائز بالنسبة إلى الوقتين، وإن أكثر الأفعال كذلك، أو لأنه يستلزم الإخلال بحكمة فاعله من حيث إنه إن لم يكن أمره ونهيه لحكمه لزم العبث، وإن كان لحكمه وجب أن يحسن أحدهما دون الآخر، وهو أيضا باطل، لأنا لا نسلم وجوب تعليل أفعال الله تعالى.

ولئن سلم: لكن لا نسلم أن اللازم إذ ذاك حسن أحدهما، وهذا لأنه يجوز أن يحسن كلاهما في وقتين لما سبق، أو بمعني آخر والأصل عدمه إلا إذا بينه الخصم. وأما الدليل على جوازه بحسب الدليل الشرعي. فاعلم أن الأصحاب اعتمدوا في ذلك على قوله تعالي: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}. وزعموا أن هذه الآية بظاهرها تدل على جواز النسخ منه تعالي فهي حجة على من أنكر من المسلمين جوازه شرعا.

وأما على اليهود المنكرين له شرعا. فحجتهما إنما ثبتت بعد إثبات نبوته عليه السلام، فإنه إذا ثبت نبوته امتنع عليه الفرية والكذب، فيثبت كون الآية من كلام الله تعالي، ضرورة أنه ادعى ذلك وقد ثبت ذلك في الكلام بأدلة قاطعة، فوجب أن يكون حجة عليهم ولا يقال الاحتجاج بالقرآن يتوقف على صحة النسخ، ضرورة أنه متى ثبت أنه كلام الله تعالى لزم نسخ ما تقدم من الشرع، إما كله أو بعضه، إذ أحكامه مخالف لأحكام الشرع المتقدم فإثبات صحة النسخ به دور، لأنا نمنع ذلك وسنده الاحتمال المتقدم، ولو سلم التوقف فيستدل على صحة النسخ بما أنه ثبتت بالأدلة القاطعة كونه كلام الله فيلزم صحة النسخ.

ومنهم من استدل بوجهين آخرين: أحدهما: أن الأدلة القاطعة دالة/ (353/ أ) على صحة نبوة نبينا عليه السلام، وصحة نبوته لا تثبت إلا مع القول بنسخ شرعه شرع من قبله، (فوجب القول به. وهو ضعيف. لأنا نمنع أن صحة نبوته عليه السلام لا تثبت إلا بنسخ شرعه شرح من قبله) وسنده ما سبق من الاحتمال، ولا يدفع بأن الأصل عدم التقييد؛ لأن المسألة قطعية والتمسك بالأصل لا يفيد إلا الظن. وثانيهما: أن الأمة مجمعة على وقوع النسخ، وهذا إنما يصح لو ادعى الإجماع قبل ظهور المخالف، وإلا فمع الخلاف كيف يصح ادعاء الإجماع. وأما حجيته على اليهود، فيتوقف على إثبات النبوة، وقد ثبت ذلك فيكون حجة عليهم أيضا. وأما الوقوع فاستدل الأصحاب على اليهود بإلزامين: أحدهما: أنه جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند

خروجه من الفلك: أني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم، كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم إن الله تعالى حرم على موسى عليه السلام وبني إسرائيل كثيرا من الحيوانات. وثانيهما: أنه تعالى أباح لأدم عليه السلام أن يزوج الأخت من الأخ، وقد تواتر ذلك في شرعه، ثم أن تعالى حرم ذلك في شريعة موسى وغيره. وهما ضعيفان لما سبق من الاحتمال. لا يقال: لو كان التقييد مذكورا مع الحكم إما مع الاتصال، أو بجملة،

مستقلة لنقل كأصل الحكم، لأنا نقول: إن ذلك غير لازم، لأن توفر الدواعي على نقل الأصل أكثر، ولهذا نقل كثير من كليات الأحكام ولم ينقل شيء من كيفياته وأوصافه ولو لم يكن كذلك لا نتقص بها. فالأولى أن يستدل على الوقوع بما وقع من النسخ في القرآن، وهو ينتهض دليلا عليهم، كما هو دليل على من أنكر من المسلمين النسخ، لكن بعد إثبات أنه كلام الله تعالى بالدليل القاطع، وقد ثبت ذلك. فتقول: الدليل على أنه واقع، هو أنه وقع النسخ في القرآن وبيانه بصور: أحدها: أنه نسخت أية الاعتداد بالحول في حق المتوفى عنها (زوجها) بقوله تعالى} والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا {. لا يقال: إن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية في حق المتوفى زوجها يعني حتى يكون نسخا، بل زال في بعض الأحوال فيكون تخصيصاً لا نسخاً.

بيان الأول: أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملة ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا. لأنا نقول: الاعتداد بالحول زائل كلية، لأن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء/ (353/ب) كانت متوفى عنها زوجها أو لم يكن وسواء كانت مدة الحمل سنة أو لم يكن، وإنما يكون تخصيصا لو بقى الاعتداد بالحول بخصوصيته في صورة ما في حقها وليس كذلك، ولأنه لو كان مخصصا لما جاز تأخيره عن وقت العمل بالمخصص وفاقا. وثانيهما: أنه تعالى أمر أولا بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى} إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين {ثم نسخ ذلك بقوله} الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين {. فإن قلت: لا نسلم نسخه، وهذا لأن حكمه باق فيما إذا قصد الكفار المسلمين وهم عشرهم، فإنه يجب عليهم الثبات إذ ذاك. قلت: ذاك في الجهاد الذي هو فرض عين والثبات فيه واجب على كل واحد من المسلمين، سواء كانوا عشر الكفار، أو أكثر، أو أقل، ووجوب ثبات الواحد للعشرة بخصوصيته إنما هو الجهاد الذي هو فرض

على الكفاية وهو زائل بالكلية، فلأنه (قد) عمل بمقتضى الأول مدة ثم نزل آية التخفيف وتأخير بيان التخصيص عن وقت العمل غير جائز. وثالثهما: أن التوجيه إلى بيت المقدس في الصلاة كان واجبا في أو الأمر بدليل قوله تعالى} سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها {، وجوب هذا التوجيه وإن لم يكن مذكورا في القرآن ولكنه معلوم بالتواتر وبدلالة القرآن فهو كالحكم المذكور في القرآن، ثم نسخ بقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام}.

وكون التوجه إليه واجبا عند الاشتباه عندما يؤدي إليه الاجتهاد ولا يقتضي بقاء حكمه في صورة ما حتى يقال: إنه تخصيص لا نسخ، لأن ذلك من خصوصية الاشتباه والاجتهاد لا من خصوصية بيت المقدس، فكان (وجوب) التوجيه إليه زائلا بالكلية، وأيضا فإنه باطل بما سبق من الطريق. ورابعها: أنه تعالى: أمر بتقديم الصدقة بين يدي الرسول عليه وسلم حيث قال تعالى:} يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة {. نسخ ذلك بقوله:} فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم {. وليس زواله لزوال سببه، وهو تميز المنافقين عن المؤمنين من حيث إن المنافقين ما كانوا يتصدقون على المؤمنين، لأن ذلك يقتضي أن من لم يتصدق يكون منافقا. ولكنه باطل لما روى أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه.

ويؤكده ناسخه، فإن قوله} فإذ لم تفعلوا {خطاب مع المؤمنين،

بدليل قوله تعالى:} وتاب الله عليكم {. وخامسها: قوله تعالى:} كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين {، فإنه يدل على وجوب الوصية لهم، ثم أنه نسخ بآية المواريث. فإن قلت: إنه ليس بنسخ، بل هو تخصيص، لأنه بقي الحكم معمولا به في الجملة وهو حيث يوصي بقدر أنصبائهم.

قلت: لو سلم ذلك مع فساده لما سبق، فإنه لا يقدح في نسخ وجوبه الذي هو المدعي، بل في نسخ جوازه الذي هو غير مدعي في هذا المقام. وسادسها: قوله تعالى:} وإذا بدلنا آية مكان آية الله أعلم بما ينزل {. ووجه الاستدلال بها أن التبديل يستدعي إثباتًا ورفعًا والمرفوع إما التلاوة، وإما الحكم وأياما كان يلزم وقوع النسخ. وفي الاستدلال بهذه الآية على الوقوع أو على الجواز نظر: إذ الملازمة بين الشيئين لا يدل على وقوعهما، ولا على جواز وقوعهما، إذ الملازمة قد ثبتت بين الممتنعين، كما نقول إن اجتمع السواد والبياض فهما ليسا بضدين. وبهذا أيضا يعرف ضعف دلالة قوله:} ما ننسخ من آية أو ننساها نأت بخير منها أو مثلها {على جواز وقوع النسخ، اللهم إلا إذا ضم إليه ما قيل في سبب نزوله، لكن قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا

بخصوص السبب. وعند هذا يعرف أنه لا دليل على جواز وقوع النسخ بحسب السمع إلا وقوعه، فإن الوقوع دليل الجواز وزيادة. واحتج المنكرون للنسخ عقلا بوجوه: أولها: لو جاز النسخ فإما أن يجوزك بمعني الرفع، وهو باطل لما تقدم من الوجوه، أو بمعني انتهاء الحكم غايته، وهو أيضا باطل، لأنه إن كان ذلك مصرحا به فاللفظ لم يكن نسخا، وإن لم يكن مصرحا به فاللفظ، إما يفيد التكرار، أو لم يفد، فإن لم يقد لم يجز نسخه، أما قبل وقت العمل به، فلما يأتي في مسألة أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل حضور

وقت العمل به، وأما بعده فلانقطاع التكليف (به) وإن أفاد لم يجز أيضا لما سيأتي في دليل المانعين منه سمعا. وجوابه: أن نقول: لم لا يجوز النسخ بمعني الرفع، وما ذكر من الوجوه في إبطاله فقد تقدم إبطاله. سلمنا: أنه لا يجوز بمعني الرفع، فلم لا يجوز بمعني انتهاء الحكم. قوله: إن كان فيما لا يفيد التكرار ولا يجوز قبل الوقت. قلنا: ممنوع وسيأتي تقريره. والجواب: عن أدلتهم وأن كان بعد حضور وقت العمل فيما يفيد التكرار فلا يجوز لما ذكره. قلنا: سيأتي الجواب عنها / (254/ب)، فحينئذ لا يلزم امتناعه. وثانيها: النهي عن الشيء بعد الأمر به إن لم يكن لحكمة لزم العبث، وهو على الحكيم محال، وإن كان لحكمه ظهرت لزم البدء وهو على الله تعالى محال، إن كان لحكمة كانت معلومة حالة الأمر (وجب أن لا يحسن الأمر. وجوابه: لحكمة كانت معلومة حالة الأمر) حصولها في وقت

النهي دون وقت الأمر، وحينئذ لا يلزم قبح الأمر. وثالثها: أن نسخ الحكم بمعني انتهائه خلاف ظاهر اللفظ، إذ اللفظ يفيد الدوام فلا يصار إليه، لأنه خلاف الظاهر وبمعني الرفع ممتنع، لأن المرفوع إن كان ثابتًا استحال رفعه (وإن كان نافيًا محضًا سواء كان ذلك قبل الوجود أو بعده استحال رفعه) أيضا لاستحالة رفع ما ليس بشيء. ولو سلم إمكانه، لكن اللازم بعده ثبوت الحكم ضرورة أن رفع العدم ثبوت وليس ذلك هو اللازم بعد النسخ. وجوابه: النقض بالإيجاد والإعدام، فإن ما ذكرتم آت فيه، إذ يمكن أن يقال: الإيجاد إن كان للموجود لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان للمعدوم لزم إيجاد المعدوم وهو محال فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا عن الرفع. ورابعها: أن الفعل الواحد إما أن يكون حسنًا أو قبيحًا، وعلى الأول: يحسن الأمر دون النهي (و) على الثاني: عكسه، وحينئذ يلزم أن لا يحسن الأمران معًا. وقريب من هذا ما يقال: إنه من حيث أنه مأمور به مراد، ومن حيث أنه منهي عنه مكروه (فلو حسن الأمران لزم أن يكون الشيء الواحد مرادًا أو

مكروهًا) وهو محال. وجوابه: أنه يحسن في وقت ويقبح في وقت، فلا جرم يحسن الأمران في وقتين. وكذا يجوز أن يكون مرادًا في وقت ومكروهًا في وقت، فلا جرم يحسن أن يكون مأمورا به ومنهيًا عنه بحسب الوقتين. واحتج المنكرون له سمعًا: أما الذين أنكروا من المسلمين فقد احتجوا: بأنه لو جاز النسخ مطلقًا لجاز نسخ القرآن إذ لا قائل: بالفصل إذ لم يعرف من جواز النسخ في الجملة، وأنكر نسخ القرآن، لكن لا يجوز نسخ القرآن لقوله تعالى:} لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {ولو نسخ لكان قد أتاه الباطل. وجوابه: أنا لا نسلم أن بتقدير النسخ يكون قد أتاه الباطل، وهذا لأن النسخ بيان انتهاء الحكم، وذلك ليس إبطالًا له بل بيان له وبيان الشيء لا يعد إبطالًا له، ولو فسر النسخ برفع الحكم لم يكن إذ ذاك قد أتاه الباطل أيضًا، لأن الباطل مطلقًا هو الذي ليس بحق أصلا والحكم المنسوخ ليس كذلك فإنه كان حقا قبل النسخ / (355/أ) وقد يكون حقا أيضا بعده، وإنما نسخ

تخفيفا عن العباد. ولهذا قد يتقرب به بعد النسخ كوجوب صوم عاشوراء. سلمنا: أن النسخ إبطال لكن ليس ذلك مرادا لقرينة قوله:} من بين يديه {إذ النسخ لا يأتي كذلك. بل المراد منه: أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتاب بما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله. فأما الذين أنكروه من اليهود سمعًا فقد احتجوا بوجهين: أحدهما: أنه تعالى لما بين شرع موسى عليه السلام، فلا يخلوا إما أن يكون قد بينه بلفظ يفيد الدوام، أو بلفظ لا يفيد الدوام وأللا دوام. فإن كان الأول: فإن لم يضم إليه ما يدل على أنه سينسخه لم يجز نسخه لوجوه:

أحدها: أن تجويزه يوجب تجويز التلبيس والتجهيل من الله تعالى، لأن ذكر لفظ يفيد الدوام مع انه لا دوام تلبيس وتجهيل، وهو عليه محال. وثانيها: أن تجويزه يرفع الثقة عن وعده ووعيده، وجميع كلامه لاحتمال أن يقال: المراد منه غير ما دل عليه بظاهرة، وفيه من الفساد ما فيه. وثالثهما: أن تجويزه يوج توجيه نسخ شرعنا، وأن لا يبقى لنا طريق إلى معرفة الدوام وتعريفه، لأنه لا طريق إلى معرفة دوامه، إلا أن يقول الشارع: هذه الشريعة دائمة مؤبدة لم يتطرق إليها النسخ أو ما يجري مجراها، فإذا جاز مع ذلك النسخ لزم تجويز نسخ شرعنا، وأن لا يكون لنا طريق إلى معرفة دوامه، وذلك مما لا يقولون به. وإن ضم إليه ما يدل على أنه سينسخه، فإما أن تكون الغاية معينة، أو لم تكن معينة وعلى التقديرين: البيان، إما منفصل مستقل، أو متصل غير مستقل، فهذه أقسام أربعة: أحدها: أن تكون الغاية معينة، والبيان بجملة مستقلة، نحو أن يقول: هذا الشرع دائم مؤبد معمولا به. ثم يقول: أنا نسخة بعد عشر سنيين. فهذا باطل. أما أولا: فلأنه متناقض. وأما ثانيا: فلأنه كان يجب أن ينقل ذلك كأصل الشرع إذ لو لم يجب ذلك لزمنا تجويز نسخ شرعنا لاحتمال أن يقال إنه عليه السلام نص على نسخه بعد مدة معينة، لكنه لم ينقل إلينا ولأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، وما كان ذلك يجب نقله واشتهاره وإلا فلعل القرآن عورض ولم ينقل، ولعل ما

جاء به الرسول (عليه السلام) من الشرع غير هذا الشرع، ولم ينقل وإذا كان كذلك وجب أن يكون العلم بتلك الكيفية كالعلم بأصل الشرع، وحينئذ يجب أن يعلم الكل بالضرورة / (355/ب) (بأن من دين موسى عليه السلام أن شرعه سينسخ وحينئذ يستحيل اتفاقهم على إنكاره، إذ يستحيل اجتماع الجمع العظيم على إنكار الضروريات). وثانيها: أن تكون الغاية غير معينة والبيان بجملة مستقلة نحو أن يقول: هذه الشريعة دائمة مؤيدة. ثم يقول: وأنا أنسخة بعد مدة. فهذا أيضا باطل لما سبق من الوجهين: وثالثها: أن تكون الغاية معينة والبيان متصل غير مستقل نحو أن يقول: هذه الشرعية دائمة مؤبدة، إلا أن بعد الزمان الفلاني لا تبقى معمولة بها، أو إلا أن بعد المدة الفلانية سأنسخه. فهذا لا نسلم أنه نسخ، بل هو جاري مجرى قوله تعالى:} ثم أتموا الصيام إلى الليل {، ولو سلم ذلك لكنه باطل بالوجه الثاني بل ها هنا أظهر، لأنه إذا كان متصلا كان يجب نقله مع ما هو متصل به. ورابعها: أن تكون الغاية غير معينة، والبيان متصل غير مستقل نحو أن

يقول: هذه الشريعة دائمة مؤيدة إلا أنها لا تبقى بعد مدة معمولة بها وترتفع أحكامها، أو سأنسخ أحكامها فهذا لا نسلم أنه نسخ لما سبق وإن كان كونه نسخا أقرب من السابق عليه. سلمناه: ولكنه باطل لما سبق. هذا كله إذا بينه بلفظ يفيد الدوام. إما إذا بينه بلفظ يفيد اللادوام، فإما أن لا يفيد التكرار، أو يفيده. فإن كان الأول: فلا يحتمل النسخ، أما بعد العمل به فظاهر، وأما قبل حضور وقت العمل (به) فلما سيأتي في مسألة أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به. وإن كان الثاني: فاحتمال النسخ إنما يكون فيما يفيد فيه التكرار دون ما لا يفيد فيه ذلك، وحينئذ يعود فيه ما سبق من الكلام. وأما إن كان البيان بلفظ لا يفيد الدوام ولا اللادوام فهذا أيضا غير قابل للنسخ لما سبق في الأول من القسم الثاني. وجوابه على رأي من يجوز تأخير بيان النسخ وهو أن يقول: لم لا يجوز أن يكون البيان بألفاظ تفيد الدوام، ولم يضم إليه ما يدل على أنه

سينسخه، وما ذكر من الأدلة على فساده فقد سبق أجوبتها في مسألة جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وسلمنا: فساد هذا القسم فلا يجوز أن يكون البيان على ما هو مذكور في القسم الثاني، وما ذكر من الوجهين على فساده. فالوجه الأول: منها منقوض بالتخصيص فإنه يجوز أن يقول: اقتلوا المشركين كلهم أجمعين، ثم يقول اليهود لا تقتلوهم. والتحقيق فيه هو أن التناقض إنما يتحقق على تقدير إدارة العموم / (356/أ) من العام، فأما إذا لم يرد ذلك، بل يرد منه بعض مدلولاته من الأزمان أو الأشخاص فلا، وتكون الجملة المخصصة قرينة إدارة ذلك. وأما الوجه الثاني منهما فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقول لا يجوز أن يكون البيان على وجه لا يظهر إلا بنظر دقيق وبحث عميق، وما كان كذلك لم يتصور فيه النقل المتواتر، لأن من شرطه تأخير التواتر أن يكون واقعا عما علم وجودة بالضرورة بخلاف أصل الشرع، فإنه ليس كذلك وبه خرج الجواب عما لزمنا من تجويز نسخ شرعنا، فأنه بيان: أنه لا نبي بعده.

وأنه خاتم النبيين، ما ورد على وجه يحتاج فيه إلى تدقيق النظر، وبه خرج الجواب عما ذكره من توفر الدواعي على نقله، لأن ذلك إنما يكون فيما علم وجوده بالضرورة. وثانيهما: أنا لو سلمنا: أن البيان كان ظاهرا جليا، ومثله يجب تواتره ولكن إنما يجب ذلك أن لو بقي من اليهود في كل زمان ما يحصل به التواتر وهو ممنوع وهذا لأنهم انقطعوا في زمان بخت نصر، ولم يبق منهم عدد لا يمكن تواطؤهم على الكذب حتى يحصل بنقلهم التواتر، بخلاف شرعنا، فإن أهل شرعنا في كل عصر وزمان بالغين مبلغ التواتر.

فإن قلت: فكان يجب أن يكون العلم بأصل شرعهم غير ضروري لعدم ناقليه. قلت: ذلك معلوم من القرآن وشرعنا لا من نقلهم، وبهذين الوجهين يجيب من لا يجوز تأخير بيان النسخ. وثانيهما: قالوا: ثبت بالتواتر أن موسى عليه السلام قال: تمسكوا بالسبت أبدا ما دامت السموات والأرض. ولا خلاف في أنه نبي صادق القول، وكان قوله حجة، وهو بظاهرة يمنع جواز النسخ. وجوابه: أنا لا نسلم أنه قول موسى، وتواتره ممنوع لما سبق، بل هو

مختلف صريح بعد (موسى) ومحمد رسول الله عليهما السلام، إذ لم ينقل عن اليهود محاجتهما به، ولو كان ذلك قول موسى عليه السلام، أو كان مختلقا قبلهما مشهورا فيما بين اليهود، لكان ذلك أقوى حججهم. وقد قيل: إن أبن الرواندي وضعه، ولقنهم بأصفهان. سلمنا: صحته، لكنه محمول بشرط أن لا يرد ناسخ. كما روي أنه جاء في التوراة في البقرة التي أمروا بذبحها، فيكون ذلك سنة أبداً.

ثم انقطع بذلك التعبد عندهم. وكما جاء في قصة دم الفصح بأن يذبحوا الجمل ويأكل لحمه ملهوجا، ولا يكسروا منه عظما ويكون لهم هذا الجمل سنة أبدا. ثم نسخ ذلك وهو كالخطاب المقترن بالأبد فإنه محمول بشرط الحياة. كما / (356/ب) وروي أنه جاء في التوراة في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة، ثم إن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً.

المسألة السادسة [في نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به]

ومعلوم أن معناه يستخدم أبدا ما دام حيا فهكذا هذا. المسألة السادسة [في نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به] ذهب جماهير أصحابنا إلى أنه يجوز أن يقول: الشارع: صل غدا ركعتين، ثم أنه ينسخه قبل مجيء الغد. خلافا للمعتزلة، وكثير من الفقهاء منا، ومن الحنفية، والحنابلة. وهذه المسألة: الملقبة: بنسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به،

واللقب لا يتناول جميع صور النزاع، فإن النزاع واقع أيضا إذا حضر وقت العمل به، لكنه لم يمض منه مقدار ما يسعه، فيكون اللقب أخص، والأولى أن يترجم: بنسخ الشيء قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته فيكون متناولا لجميع الصور التي وقع النزاع فيها. فعلى هذا يجوز النسخ وفاقا بعد مضي مقدار ما يسعه، وإن لم يكن قد فعل المأمور به، وهذا على المشهور. وفي بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم: كالكرخي خالف فيه أيضا، وقال: لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما يسع أو لم يمض. فعلى هذا ترجمته النسخ قبل الفعل، كما وقع في كلام إمام الحرمين وغيره من المتقدمين. تنبيه: أعلم أن كل من قال: أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال (يلزمه أن يقول بعدم جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال) إذ النسخ قبله على هذا التقدير يبين أن الأمر في نفس الأمر، وإن كنا نتوهم وجوده والنسخ يستدعي تحقيق الأمر السابق، فيستحيل النسخ عند عدمه. وأما من لم يقل بذلك فجاز أن يقول بجوازه، وأن لا يقول ذلك،

لدليل يخصه، وعند هذا ظهر أن هذه المسألة ليست فرع تلك المسألة على الإطلاق، أعني في الجواز وعدم الجواز، كما وقع إليه الإشارة في كلام الشيخ الغزالي -رحمه الله-، بل في عدم الجواز فقط. استدل الأصحاب بوجوه: أحدها: التمسك بقوله تعالى:} يمحو الله ما يشاء ويثبت {وهو عام في كل ما يشاء محوه على أي وجه كان، فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها. ولا يدفع: بأنه مجاز، لأن نسخ العبادة إنما هو رفع التكليف بها، وليس ذلك حقيقة المحو، فلا يجوز أن يحمل عليه مادام يمكن حمله على حقيقته، وهو محو الكتابة، نحو ما كتب في اللوح المحفوظ من الإسعاد، والأشقاء، والإحياء، والأمانة. أو على نحو ما يكتب الملكان من الأعمال المباحة / (357/أ) إذ لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب، وتبقية المعاصي والطاعات، لأنه يتعلق بهما الثواب والعقاب. لأنا نمنع أن المحو إنما هو حقيقة في محو الكتابة، بل هو حقيقته في إزالة الأثر، يقال: محوت آثار القوم إذا أزلته، والأصل في الإطلاق

الحقيقة، ومنه قوله تعالى:} وجعلنا الليل ونهار آيتين فمحونا آية الليل {أي جعلنها ممحوة إذ لا يظهر فيه أثر، ولو سلم ذلك لكن إنما يكون فيه مجازا أن لو لم تكن التكاليف مكتوبة وهو ممنوع، وهذا لأن ظاهر قوله تعالى:} ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين {يدل على أنها أيضا مكتوبة فيه. ولقائل أن يقول: هب أنه يمكن حمله عليه على وجه الحقيقة، ولكن لا يدل على مسألة، لأنه ليس فيه دلالة إلا على أنه تعالى يمحو ما يشاء. فلم قلتم: إنه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها حتى تكون الآية حجة في المسألة، فإن بين ذلك بأنه ممكن إذا ليس مستحيل لذاته وهو ظاهر، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرا إلى ذاته ولا لغيره، لما سنجيب عما يذكره الخصم من استلزامه المحال، وكل ممكن يجوز أن يتعلق به الإرادة والمشيئة، فيجوز أن يشاء محوه فهو دليل مستقل في المسألة، وحينئذ يصير التمسك بالآية ضائعا مستدركا. وثانيهما: التمسك بقصة إبراهيم عليه السلام فإنه تعالى أمره بذبح إسماعيل: ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله:} يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك {وهو صريح في أنه رأى مباشرة ذبحه لا مقدماته فقط [ورؤية الأنبياء فيما يتعلق

بالفعل] والترك وحي معمول به، وأكثر وحي الأنبياء كان بهذا الطريق. وثانيها: أنه لو لم يعلم عليه السلام بأن ما رآه يجب العمل به لما جاز له العزم على ذبحه، وإرعابه بإخباره عنه، وإظهار مقدماته له فإن العزم على فعل المحرم محرم، وإرعاب المؤمن محرم أيضا. ثالثها: أن قوله:} افعل ما تؤمر {يدل على أنه مأمور بالذبح، إذ لو لم يحمل عليه، فإما أن يحمل على ما أمر به في الماضي من غير الذبح. وهو باطل: لما فيه من مخالفة ظاهر الكلام وعدم مناسبته. أو على ما يؤمر به في الاستقبال. وهو أيضا باطل: لعدم مناسبة الكلام إذ المناسبة تقتضي حمله على المذكور السابق.

ولهذا لو قال الرجل لغيره: إن السلطان أمرني بكذا، فيقول له الرجل أفعل ما تؤمر غدا أو في الحال، يعد قوله سخفا من المقال وحمل الكلام على المعنى المجازي المناسب أولى من حمله على الحقيقة التي لا تناسب، إذ التكلم بما لا يناسب يعد جنونا أو ناقصا / (357/ب) في العقل، والتكلم بالمجاز ليس كذالك على أن التعبير بالفعل المضارع عن الحالة الثانية المستمرة كثير ومجاز مشهور، نحو قولهم: فلان يحل ويعقد ويبرم وينقض، أي شأنه ذلك في الأحوال كلها الماضي وغيره، لا أنه يفعل ذلك في الحال أو في الاستقبال فقط ولما أمر في الماضي بقيت صفة المأمور به ثابتة ما لم يأت بالمأمور به فجاز أن يعبر عنها بالفعل المضارع على وجوه التجوز. ورابعها: أن قوله تعالى:} وفديناه بذبح عظيم {يدل على أن المأمور به (هو) الذبح لا مقدماته، لأن المقدمات قد حصلت بتمامها فلا يحتاج إلى الفداء ولما سمي بالفداء. أما لو حملناه على أنه كان مأمورا بالذبح حسن تسميته بالفداء، واحتيج إليه أيضا، ضرورة أن المأمور به لم يوجد. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: إنه بدل عما يتوقعه من الأمر بالذبح،

فبهذا الاعتبار يصح تسميته فداء ويحتاج إليه، لأنه لم يوجد ما هو فداء له وهو الأمر بالذبح. قلت: الأمر المتوقع معدوم فلا يحسن جعله بدلا عنه إذ المعدوم لا يوصف بالبدلية والمبدلية ذا إن جعل بدلا عن الأمر المتوقع، وإن جعل بدلا عن نفس توقع الأمر فلا يحسن أيضا ضرورة أنه حصل فلا يحتاج إلى الفداء ولأن [البدل] والمبدل لا يكون من جانب واحد. وخامسها: أن قوله:} إن هذا لهو البلاء المبين {يدل على أن المأمور به هو الذبح، لا مقدمات الذبح لا توصف ذلك. فإن قلت: حتى لا يوصف بذلك مع العلم بعدم وجوب الذبح أو مطلقا. والأول مسلم والثاني ممنوع، وهذا لأن الأمر بإخراج الولد إلى الصحراء وإضجاعه وأخذ المدية مع غلبة الظن بأن الذبح سيؤمر به، أو مع إبهام عاقبة الأمر بلاء مبين. قلت: وإن كان الأمر كما ذكرتم، لكن الذبح أشد بلاء، فحمل الآية عليه حمل اللفظ على أشد وأقوى مفهوماته، فكان الحمل عليه أولى (لا يقال) ما ذكرتم من الدليل وإن دل على أن الذبح مأمور به.

لكن قوله تعالى:} قد صدقت الرؤيا {يدل على أن الذبح غير مأمور به، لأنه لم يحصل فلم يحصل تصديق الرؤيا بالنسبة إليه، بل المأمور به إنما هو مقدمات لأنها هي التي حصلت. لأنا نقول: لا نسلم أن تصديق الرؤيا بالنسبة إلى الذبح إنما يكون أن لو حصل الذبح، وهذا لأن تصديق الرؤيا، هو أن يجعلها صادقة، وذلك يكفي فيه العزم والتصميم على فعل مقتضاها فإنها لو كانت كاذبة عند الرائي لما عزم وصمم على فعل مقتضاها. سلمنا: أنه يستدعي حصوله، لكن العازم / (358/أ) المصمم على فعل الشيء [يجعل] كالفاعل له على وجه التجوز، فيحمل عليه جمعا بين الدليلين. فثبت بهذه الوجوه أنه تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل. ثم أنه تعالى نسخ ذلك عنه قبل وقت الذبح. لأنه لو لم يكن كذلك، فإما: أن يقال: إنه لم ينسخه عنه، أو وإن نسخه عنه، ولكنه بعد وقت الذبح. فإن قيل: بالاحتمال الأول فيحتمل وجهين:

أحدهما: ما يقال: إنه حصل الذبح ولكن لم يبطل الحياة، لأنه كلما قطع موضعا وتعداه إلى غيره، وصل الله تعالى ذلك الموضع، وبطلان الحياة ليس جزءا من مسمى الذبح، بدليل أنه يصح أن يقال: ذبح الحيوان. وإن لم يبطل الحياة بعد حتى يكون ذلك قدحا في تحقيق مسمى الذبح. وثانيهما: ما يقال: إنه تعالى جعل على عنقه عليه السلام صفحة من حديد، أو نحاس مانعة له من الذبح، وانتفاء الحكم لوجود المانع ليس بنسخ. وهذان احتمالان: باطلان أما ما يعمهما فلأنهما لو وقعا لوجب إشهارهما وتواترهما، لأنهما من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة التي تتوفر الدواعي على نقلها، ولما لا يكن كذلك، علمنا عدم وقوعهما، ولأنه تعالى حكي تسليمهما وتله للجبين، فلو كان ما ذكروه واقعا [لحكي أيضا لأن الانقياد في الذبح وإمرار المدية على الحلق (أكثر)] وأما ما يخص الأول: فلأنه حينئذ ما كان محتاجًا إلى الفداء، وما كان يسمى

الكبش به ضرورة أنه أتى بما أمر به، وأما ما يخص الثاني: فهو أنه غير جائز عند "الخضم" ضرورة أنه تكليف ما لا يطاق. وأما الاحتمال الثاني: فهو أيضا باطل. أما إن قيل بأن مطلق الأمر للفور، وإن الصغائر على الأنبياء غير جائز فظاهر، وإما إن لم يقل به، بل يقول: ليس مقتضى الأمر المطلق إلا إدخال المأمور به في الوجود سواء أكان ذلك على الفور أو على التراخي، وإن الصغائر عليهم جائز، فلأن الظاهر من حالهم المسارعة إلى امتثال، والظاهر من حالهم عدم فعلها عمدا، وأما السهو والنسيان فهو نادر في حق غيرهم، فكيف في حقهم، والمسألة ظنية فيجوز التعويل على الظاهر والغالب وبه يعرف اندفاع ما يورد على هذه الحجة. وثالثها: التمسك بقصة الأسرى، وهو ما روي عنه عليه السلام أنه أوجب عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فلما رجع من معراجه رأى موسى عليه السلام في طريقه في بعض السموات فستحكى منه عليه السلام ما فرض على أمته من من التكاليف فلما حكي له قضية الصلاة

أشار إليه بالرجوع، وقال ((إن أمتك ضعافا لا يطيقون ذلك فاستنقض الله بنقصك)). فرجع عليه السلام وسأل الله تعالى (في ذلك) مرة / (358/ب) (بعد) مرة حتى نسخ الخمسين، وأبقى خمس صلوات منها. وهو نسخ للفعل قبل دخول وقته. فإن قلت: إنه خبر واحد، فلا يجوز التمسك به في إثبات مثل هذا الأصل. سلمناه: لكنه نسخ قبل علم المكلف بالتكليف، وهو غير جائز وفاقاً

أما إن قيل: إن الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور فظاهر. وأما إن لم يقل به فكذلك، أما عندنا فظاهر، وأما عندكم فلأنكم وإنما تجوزون النسخ قبل دخول وقت الفعل، لأن الأمر بالفعل قد يكون مصلحة، وإن لم يكن فعله مصلحة، نحو اعتقاد وجوب الفعل، وانقياد المكلف للأمر، وتوطين نفسه على الفعل، وعزمه عليه فإنه يثاب على ذلك كله، وهذه الفوائد لا تحصل في النسخ قبل علم المكلف بالأمر. قلت: الجواب عن الأول أنا لا نسلم أنه لا يجوز التمسك بخبر الواحد في هذه المسألة، وهذا لأن هذه المسألة ظنية اجتهادية عندنا فالتمسك في الظنيات بخبر الواحد جائز وفاقا. وعن الثاني: إن ما ذكروه من الاحتمال غير آت في حقه عليه السلام، فإنه علم الأمر فيكون نسخا في حقه، قبل دخول الوقت، وقد يفيد المطلوب. سلمناه: أنه نسخ قبل علمهم به. فلم قلتم: إنه غير جائز ولا نسلم أنا إنما نجوز ذلك بناء على ما ذكرتم من الفوائد. وكيف يقال: ذلك وقد عرف من أصلنا أنا لا نوجب تعليل أفعاله تعالى وحيث يتبين جوازه بناء على تلك الفوائد، فإنما هو على تقدير الإلزام على الخصم، أو على تقدير وجوب التعليل في أفعاله تعالى.

فإن قلت: لا نسلم أنه نسخ قبل دخول الوقت، وهذا لأنه لا يجوز أن يكون قد دخل وقت من أوقات تلك الصلوات المفروضة، فيما بين وقت الفرض وبين وقت الرجوع من موسى عليه السلام، والنبي عليه السلام صلى [بعد] ما دخل وقته، فلا يكون ذلك نسخا قبل دخول الوقت. قلت: هب أنه لا يكون نسخا لتلك الصلاة قبل دخول وقتها، لكنه نسخ للصلوات التي لم تدخل أوقاتها، فيلزم وقوع النسخ فبل دخول الوقت وهو المطلوب، إذ الوقوع دليل الجواز وزيادة. وفيه نظر: إذ الخصم ربما يجوز مثل هذا النسخ، إذ لم يشترط في ذلك أن يكون قد دخل وقت جميع العبادة المفروضة، بل ربما يكتفي بدخول وقت البعض منها، فإنه تعالى لو فرض صوم شهر مثلا، فإنه يجوز نسخه بعد صوم يوم منه أو يومين وفاقا. وبه استدل بعض الأصحاب: وقال: لو قال: الله تعالى: واصلوا الفعل سنة، ثم ينسخه بعد مضي شهر / (359/أ) منها مثلا وجاز وهو نسخ للفعل قبل دخول وقته فيما بقي من تمام السنة. والأستاذ أبو إسحاق بالغ في ذلك، وقال: كل نسخ فإنه نسخ قبل الفعل، وإذ أجمعنا على أن النسخ لا ينعطف على [ما] مضى، فكل نسخ فإنما هو للفعل الآتي فيكون نسخا قبل الفعل.

وهو إن أراد بذلك الفعل نفسه، فلا يستقيم كونه حجة إلا على القول المحكي عن الكرخي. فإن أراد به وقت الفعل، على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فغير لازم، لجواز أن ينسخ بعد دخول مقدار ما يسعه من الوقت قبل فعله ثانيا. ولو قرر هكذا: بأنا أجمعنا على جواز النسخ بعد الفعل، وقبل دخول وقته الثاني، وهو نسخ قبل دخول الوقت إذ النسخ لا ينعطف على ما مضي كان أوجه. ولكن الخصم يفرق بين الصورتين المذكورتين أعني صورة نسخ الأمر بصوم شهر قبل مضي تمامه، وصورة نسخ الفعل بعد فعله في الوقت الأول وقبل دخول وقته الثاني، وبين المتنازع فيه بأن النسخ في تلك الصورتين يبين

المراد من الخطاب، بأن تمام الشهر غير مراد من الخطاب، وأن الفعل غير مراد التكرار، وإن كان ظاهر الخطاب قد أشعر به حتى لو دل الخطاب على وجوب الصوم وفعله في تمام الشهر، وفي الوقت الثاني والثالث بطريق التنصيص عليه لم يجز نسخه أيضا عندنا، فكان ذلك كالتخصيص فلم يتوارد الأمر والنهي على شيء واحد، بخلاف النسخ ابتداء قبل دخول الوقت فإنه لا يمكن حمله على التخصيص فيتوارد الأمر والنهي على شيء واحد قطعا. فاعلم أن هذا الفرق لو صح فإنما يصح بين العبادة المتكررة، كصلاة الظهر في ظهر كل يوم، والعبادة المتماثلة كصوم شهر، وبين المتنازع فيه فأما بينه وبين العبادات المختلفة، كما لو قال: صل (في) الصبح ركعتين، وفي الظهر أربعا، فإن نسخ الظهر قبل دخول وقته ولو بعد صلاة الصبح نسخ قبل دخول الوقت فتكون القصة حجة، وإنما عقلنا صحة الفرق بقولنا: لو صح لأنه لم يجز إطلاق الشهر وإرادة يوم أو يومين، وما نقل عن القوم [في] جواز نسخ ما إذا قال الله تعالى: واصلوا الفعل سنة قبل مضي تمام السنة فهو محمول على الفعل المتكرر والمماثل لا على المختلف الذي يمكن التعبير عنه بعبارة واحدة حتى يمكن أن يجعل كالعام فيتطرق إليه التخصيص وقيام وقت البعض منه مقام البعض الآخر تعبد.

ورابعها: أننا بينا في مر، أن التمكن من الامتثال / (359/ب) ليس من شرط تحقيق الأمر، فيجوز أن يأمر الله تعالى زايدا بفعل غدا، مع علمه بأنه يمنعه عنه مانع، أو يموت قبل الغد، وهو أمر بشرط عدم المانع، والأمر بالشرط أمر ثابت في الحال، وجد الشرط أو لم يوجد على هذا التقدير، فإذا جاز ذلك جاز أن يأمره بشيء مع علمه بأنه سينسخه ويرفع عنه التكليف قبل التمكن منه. ولا يقدح ذلك في كونه أمرا فهذه المسألة فرع تلك المسألة على الوجه الذي تقدم ذكره. وقد استدل في المسألة بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي الرسول قبل حضور وقت فعله. وهو ضعيف. لأنا نمنع أن ذلك كان قبل حضور وقت العمل. ثم الذي يدل عليه وجهان: أحدهما: ما روي أن عليًا رضي الله عنه ناج الرسول بعد تقديم الصدقة.

وذلك يدل على كون الوقت حاضرا. لا يقال: إن الأمر ما كان مختصا به رضي الله عنه، بل كان متناولا لكل المؤمنين وكان الأمر معلقا بإرادة المناجاة مع النبي عليه السلام، فمن أراد المناجاة فقد حضر وقت فعله بالنسبة إليه، ومن لم يرد لم يحضر وقت فعله بالنسبة إليه) نسخ) قبل حضور وقت العمل. لأنا نقول: إن نسخه بعد فعل البعض دليل على أن غيره غير مراد من الخطاب، فكان ذلك تخصيصا بالنسبة إليهم لا نسخا قبل حضور وقت العمل، ونسخا بعد حضور وقت العمل بالنسبة إلى من هو مراد من الخطاب. وهذا الجواب إنما يستقيم لو جوز التخصيص ألفاظ الجمع إلى واحد، إذ الخطاب وارد بضمير الجمع قال الله تعالى} يا أيها الذين آمنوا {. وثانيهما: أن قوله تعالى:} أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم {يدل على أن الوقت حاضر وإلا لما حسن ذلك. وقد أستدل أيضا في المسألة بما روي أنه عليه السلام (صالح المشركين عام الحديبية على رد من هاجر إليه مسلما كان أو مسلمة) ثم نسخ ذلك في حق النساء.

قبل الرد بقوله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات {إلى قوله} فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار {. وهو ضعيف أيضا لأن لا نسلم أن ذلك قبل حضور وقت الرد، وإن كان قبل الرد لا يقال. إن وقت الرد إنما يكون بعد مجيئهن، لأن الصلح إنما وقع على ردهن إذا جئن فقبل مجيئهن لا يتحقق وقت الرد، لأن المعتبر إنما هو مضي الوقت الذي يمكن فيه مجيئهن وردهن، لا نفس المجيء، لأن ذلك (قد) لا يتفق، ولأن اعتباره يقتضي / (360/أ) عدم تجويز نسخ الأمر المعلق على حصول شيء ما لم يحصل ذلك الشيء نحو أن يقول: صل إن كنت متطهرا، فإنه أمكن أن يقال: إن وقت الصلاة إنما يكون بعد الطهارة، لأن الأمر مقيد بحالة حصول الطهارة، فقبل حصول الطهارة لا يتحقق وقت الصلاة فيلزم أن لا يجوز نسخه ولو كانت المدة مديدة ما لم يتطهر ويمضي وقت يسع للصلاة، وهو خلاف الإجماع.

وأيضاً وهو عقلي: أنه يحسن من السيد أن يقول لعبده، أذهب غدا إلى القرية الفلانية راجلا لتقضي الشغل الفلاني، ويكون غرضه من ذلك امتحان العبد في انقياده له وحصول الرياضة له في الحال، وتوطين نفسه عليه ليسهل عليه فعل ما دونه من التكاليف التي كلفه بها، مع علمه بأنه سيرفع عنه ذلك التكليف وإذا حسن ذلك التكليف وإذا حسن ذلك في الشاهد حسن في الغائب، للحديث المشهور. واحتجوا بوجهين: أحدهما: أنه تعالى: إن كان عالما حالة الأمر بما هو عليه الفعل من المصلحة أو المفسدة في الوقت الذي أمر فيه بالفعل، وجب أن لا يحسن إلا الأمر به أو النهي عنه، وإلا لزم الأمر بالمفسدة أو النهي عن المصلحة، وهو غير جائز على الحكيم، وإنما قيدنا كونه كذلك في وقت الفعل، لأن المعتبر [هو وقت الفعل في الأمر المقيد بوقت] لا وقت الأمر، فإن الشيء إذا كان مشتملا على المصلحة حالة الأمر دون حالة الفعل، فإنه لا يجوز الأمر به في وقت تغيير مصلحته وإن لم يكن عالما به لزم الجهل على الله تعالى وهو محال. وجوابه: أنه مبني على التحسين والتقبيح ورعاية المصلحة والمفسدة وكل ذلك باطل عندنا. سلمناه: لكن الأمر بالشيء إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء مشتملا على المصلحة والأمر به أيضا يكون كذلك، فأما إذ لم يكن كذلك لم يحسن الأمر به إذ يكفي في المنع عن الشيء اشتماله على جهة من جهات المفسدة.

وإذا كان كذلك جاز أن يكون الأمر به في الزمان الثاني لم يكن مشتملا على المصلحة، كما (كان) في الزمان الأول، وإن كان كون الفعل مشتملا على المصلحة لم يتغير، فكذلك حسن النهي عنه في الوقت الثاني دون الوقت الأول. وثانيها: لو جاز أن يقول: الشارع لزيد صل عقيب الزوال ركعتين، ثم يقول: له بعد ساعة لا تصل عقيب الزوال ركعتين، لزم كون الشخص الواحد مأمورا ومنهيا في وقت واحد عن فعل واحد من وجه واحد وهو محال. وجوابه: أنه إن عنى بقوله: يلزم كون الشخص الواحد مأمورا ومنهيا في وقت واحد، وكون الفعل مأمور به ومنهيا عنه في وقت واحد، إنهما يكونان كذلك معا فهذا غير لازم، لأن الأمر / (360/ب) وإن أقتضى أنه يكون مأمورا به في ذلك الوقت الذي عين له لكن عندما ورد النهي عنه لم يبق مأمور به في ذلك الوقت، لقطع النهي حكم الأمر، بل بقي منهيا عنه فلم يحصل الازدواج بينهما معا في وقت واحد في ذلك الفعل. وإن عنى به أنه يكون مأمورا بالأمر الأول وفي ذلك الوقت، فلو جاز النهي عنه في ذلك الوقت لزم أن يكون منهيا عنه في ذلك الوقت أيضا، وإن انقطع حكم الأمر بعده، فلا نسلم أن ذلك محال، فإن ذلك أول المسألة.

وإن عنى به أنه من حيث أنه أمر به في ذلك الوقت يجب أن يكو مشتملا (على المصلحة ومن حيث أنه نهي عنه في ذلك الوقت يجب أن يكون مشتملا) على المفسدة. وحينئذ يلزم اجتمعا مصلحة الأمور ومفسدة النهي في وقت واحد معا، فهو مبني على التحسين والتقبيح ورعاية المصلحة والمفسدة، وكل ذلك باطل على أصلنا. ولو سلم ذلك لكن لا نسلم لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في ذلك الفعل معا في وقت واحد، وهذا لا يجوز أن يحسن النهي عنه في الزمان الثاني، فإن لم يكن ذلك الفعل مشتملا على المفسدة في ذلك الوقت لما سبق في الجواب عن الوجه الأول، وحينئذ لا يقتضي النهي عنه حصول المفسدة فيه، فضلا عن اجتماع المصلحة والمفسدة فيه معا. وثالثها: إذا قال صلوا ولا تصلوا، لا يصح وفاقا، فكذلك إذا قال: صلوا بعد الزوال، ثم يقول: قبل دخوله: لا تصلوا بعد الزوال، لاشتراكهما في استلزام البداء والعبث ولاشتراكهما في أنه نسخ قبل التمكن من الفعل الذي هو المقصود من الخطاب. وجوابه: أنه إنما لم يصح ذلك، لأنه لم يوجد شرط النسخ وهو التراخي، والتراخي وإن وقع احترازا عن الاستثناء والتقييد بالغاية ونحوه من المتصل بالخطاب، وما نحن فيه ليس بمتصل، لكنه في معني المتصل من حيث أنهما يردان على سمع المكلف في وقت واحد، فلا يتحقق معنى الرفع ولا معنى انتهاء الحكم، ونزيد عليه بأنه يعد متناقضاً.

المسألة السابعة [في جواز النسخ إلي غير بدل]

ذلك بل المتعلق بأحدهما يصير متعلقا بالآخر وباعتبارهما يختلف عليه هذان الاسمان، وليس هو من المحال في شيء، بل هو كالجواهر يتصف بالبياض مرة وبالسواد أخرى فيتجدد عليه أسم الأبيض والأسود وهما متضادان والذات التي تتصف بهما واحد. المسألة السابعة [في جواز النسخ إلي غير بدل] يجوز نسخ الشيء لا إلى بدل. خلافا لقوم من أهل الظاهر.

لنا: أنه لو لم يجز ذلك، فإما أن يكون ذلك عقلا، أو شرعا. فإن كان الأول: فإما أن يعرف بذلك بضرورة العقل، وهو باطل قطعا، أو بنظرة، وهو أيضا باطل. أما أولا: فلأن الأصل عدم ما يقتضي ذلك. وأما ثانيا: فلأنه لو كان كذلك فإنما يكون لمخالفته المصلحة، إذ من الظاهر أنه لا تعلق لغيرهما بالمسألة، لكن ذلك باطل أيضا. أما إن لم يوجب تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح والمفاسد الظاهرة. وأما إن قيل: بوجوبه فكذلك، لأنه قد لا يكون في مخالفة المصلحة، بل قد تكون المصلحة في نسخ الحكم من غير بدل، وإذا كان كذلك لم يكن ممتنعا لأجل مخالفة المصلحة. وإن كان الثاني: فهو أيضا باطل، لأنه وقع ذلك شرعا على ما نبين ذلك، فلو دل دليل شرعي على امتناعه لزم التعارض بين ما وقع وبين ذلك الدليل، لأن ما وقع دليل الجواز، والتعارض خلاف الأصل، لأنه وقع ذلك. فإنه نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول لا إلى بدل. ونسخ تحريم إدخال لحوم الأضاحي من غير بدل.

وكذا نسخ (وجوب الإمساك بعد الإفطار في ليالي الصيام) من غير بدل. والوقوع دليل الجواز والزيادة. واحتجوا بوجهين: أحدهما: قوله تعالى} ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها {. فإن الآية تدل على أنه تعالى لا ينسخ / (361/ب) إلا ببدل خيراً منها أو مثلها.

وجوابه: أن نسخ الآية نسخ لفظها لا نسخ مدلولها الذي وقع النزاع فيه، لأن الآية اسم لما يتلى وهو اللفظ، ولذلك قال:} نأت بخير منها {. وللخصم أن يقول: لما وجب إثبات البدل في نسخ الآية، وجب أيضا في الحكم إذ لا قائل بالفصل. سلمناه: أنه يدل على نسخ الحكم، ولكنه مخصوص بما ذكرنا من الصور. سلمناه: أنه غير مخصوص ولكنه لم لا يجوز أن يقال إن نفى ذلك الحكم وإسقاط التعبد به بدل عن ثبوت ذلك الحكم، وهو خير منه في ذلك الوقت لكون المصلحة فيه دون الإثبات. وفيه نظر. لأن عدم المحض والتفي الصرف لا يوصف بقوله: (نأت) لأن ما أتى به شيء، ولأن الجزاء متأخر عن الشرط والعدم مع رفع الوجود. سلمناه: أنه يقتضي بدلا وجوديا، لكن الآية لا تدل على عدم الجواز الذي وقع النزاع فيه، بل لو دل فإنما يدل على عدم الوقوع. ولقائل: أن يقول: عليه إذا ثبت عدم الوقوع، وجب أن يثبت عدم الجواز، لأن كل من يقول: بالجواز قال: بالوقوع. فالقول: بعدم الوقوع مع الجواز قول لم يقل به أحد.

المسألة الثامنة [في النسخ بالأخف والأثقل]

وثانيهما: أن النسخ في اللغة عبارة: عن الإزالة، والنقل، فوجب أن يكون في الشرع كذلك، إذ الأصل عدم التغيير. وجوابه: منع أنه من حقيقة فيهما، (بل هو حقيقة في أحدهما. سلمناه: أنه حقيقة فيهما) لكن بطريق البدلية، أو بطريق الجمع. والأول: مسلم لكنه غير مفيد. والثاني: ممنوع، وهذا لأنه على ذلك التقدير يكون مشتركا والمشترك لا يدل على مفهومية معا، ولو سلم ذلك لكن بطريق الجواز لا بطريق الوجوب، ولو سلم أنه بطريق الوجوب لكن حيث لا قرينة، وهنا القرينة حاصلة على أنه لا يراد المعنيان منه وهي ما ذكرنا من الصور التي وجد النسخ فيها من غير بدل. المسألة الثامنة [في النسخ بالأخف والأثقل] اتفق الفريقين أعني القائلين: بوجوب البدل في النسخ، وبعدم وجوبه على أن يجوز النسخ ببدل أخف من الحكم المنسوخ، أو يماثل له.

واختلفوا في جوازه ببدل أثقل منه، فذهب الأكثرون منهم: إلى جوازه. وذهب بعض أصحابنا، وبعض أهل الظاهر: إلى عدم جوازه. ثم منهم من منع ذلك عقلا، ومنهم من منع سمعا. لنا: أنه نسخ وجوب صوم عاشوراء بصوم رمضان.

ونسخ التخيير بين صوم رمضان وبين الفداء بتعيين الصوم. ونسخ وجوب حبس الزواني في البيوت بالجلد والرجم.

ونسخ شرعية عدم التعرض للكفار، بوجوب القتال، مع التشديد العظيم وهو ثبات الواحد للعشرة.

ونسخ جواز تأخير الصلاة عن الوقت في حالة القتال، بوجوب إقامتها في أثناء القتال. وكل / (362/ أ) ذلك أثقل من الحكم المنسوخ، ولوقوع دليل الجواز عقلاً وشرعًا. احتجوا بوجهين: أحدهما: من جهة النص نحو قوله تعالى: {نأت بخير منها} والأثقل ليس بخير، وبقوله: {يريد الله بكم اليسر} {ويريد الله أن يخفف عنكم} {وما جعل عليكم في الدين من حرج} {ويضع

عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فإن كل هذه النصوص تنفي التكليف بالأثقل والأشق. وجوابه: منع أن الأثقل ليس بخير، وهذا لأنه يجوز أن يكون المراد من الخير ما هو أجزل ثوابًا وأدفع عقابًا. وعن باقي الآيات النقض بابتداء التكليف، فإن ما لا يجوز الخصم من الأثقل والأشق بطريق يجوزه ابتداء، ودلالة الايات المذكورة على نفيه ابتداء وبطريق البدلية واحدة إذ لا شعار لها بخصوصية ما بعد النسخ. وثانيهما: أن نسخ الحكم الأول، وشرع حكم آخر بعده، إن لم يكن لمصلحة أو كان لمصلحة دون مصلحة الحكم الأول، أو لمصلحة مساوية لمصلحته لزم العبث، أو ترجيح المرجوح على الراجح، وهو على الحكيم محال، وإن كان لمصلحة راجحة على مصلحته، وجب أن يكون أخف منه، إذ لو كان أثقل منه وأشق لا كان أرجح منه مصلحة، لما فيه من زيادة التغيير من الانقياد، والقبول بالنسبة إلى الحكم الأول وبالنسبة إلى شرعه ابتداء أيضًا، لئلا ينقص به، وحصول أحد الضررين، أعني العاجل والآجل فإن بتقدير الفعل، يلزم الأول، وبتقدير الترك يلزم الثاني.

وجوابه: أنه مبني على رعاية المصالح في أفعاله تعالى، وهو ممنوع. سلمناه: لكنه منقوض بالنقل من الصحة إلى السقم، ومن الغني إلى الفقير. سلمنا: سلامته عن النقض، لكن المعتبر عند الشارع إنما هو المصالح الأخروية وهي في الأثقل أكثر.

المسألة التاسعة في أنه يجوز نسخ الحكم المؤكد بالتأييد كقوله: أمرتكم بهذا أبدا

المسألة التاسعة في أنه يجوز نسخ الحكم المؤكد بالتأييد كقوله: أمرتكم بهذا أبدا. وقال قوم من الأصوليين: لا يجوز. لنا وجهان: أحدهما: أنه يجوز تخصيص العام بعد التأكيد "بالكل" "وأجمع"، قال الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس}. والخصم يسلم ذلك أيضًا، على ما أشعر به نقل بعضهم. فكذا يجوز نسخ العام الدال على ثبوت الحكم في كل الأزمان بعد التأكيد بالتأبيد الذي لا دلالة فيه سوى تأكيد التعميم. ولا يفرق بينهما: بأن التخصيص يبين أن المخصوص ما كان مرادًا من

اللفظ، والنسخ ليس كذلك، بل هو رفع فلا يلزم من جوازه جوازه لما فيه من المفسدة الزائدة، وكذلك لا يجوز النسخ بكل ما يجوز التخصيص، لأنا نمنع ذلك على رأي الأستاذ والفقهاء. ولو سلم ذلك لكنه فرق بين/ (362/ ب) أصل النسخ والتخصيص، لا بين النسخ المخصوص والتخصيص المخصوص، والكلام في النسخ المخصوص بعد جواز أصل النسخ فلا يسمع في هذا المقام ما يرفع أصله. فإن قلت: إطلاق العام، وإرادة الخاص من قبيل التجوز وهو متوقف على السمع، والعام المؤكد "بكل" "وأجمع" قد وجد استعماله في الخصوص في كلام الفصيح، بخلاف العام الدال على كل الأزمان المؤكد بالتأبيد، فلا يلزم من جواز استعمال الأول فيه جواز استعمال الثاني فيه. قلت: لا نسلم أن ما نحن فيه من قبيل التجوز، وإنما يكون إن لو لم يكن النسخ عبارة عن الرفع، وهو ممنوع. سلمنا: أنه عبارة عن بيان أمد الحكم، لكن لا نسلم أن المجاز يتوقف على السمع. سلمنا: ذلك لكن يقال في العرف: عمر الله هذا المنزل أبدا، وأدام الله دولة الأمير أبدا، والأصل عدم التغيير، كيف وقد ورد في القرآن العظيم التأبيد في وعيد الفساق، مع أنه صح القول بانقطاعه.

وثانيهما: أن من شرط النسخ أن يرد في الزمان الذي دل الخطاب على ثبوت الحكم فيه، إما ظاهرًا، أو نصًا، لأنا بينا جواز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، فنصوصية الخطاب الدال على ثبوت الحكم لا يكون منافيًا للنسخ، بل شرط على البدلية، ودلالة التأبيد على دوام الحكم لا يخلو عن أن يكون بطريق الظهور، أو بطريق النصوصية، وعلى التقديرين يكون شرط النسخ وشرط الشيء لا ينافيه. واحتجوا بوجوه: أحدها: أن التأبيد جاري مجرى التنصيص على كل واحد واحد من الأزمنة بخصوصيته، ولو شرع الحكم كذلك لم يجز نسخه فكذا هذا. وجوابه: منع أنه جاري مجرى التنصيص وقد عرفت سنده. سلمناه: لكنه منقوض بالعام المؤكد "بكل" "وأجمع". سلمنا: سلامته عن النقص، لكن لا نسلم أنه لو شرع الحكم في جميع الأزمنة بلفظ هو نص في هذا المعنى لا يجوز نسخه وقد عرفت سند أيضًا. وثانيها: أن الحكم قبل اقترانه بلفظ التأبيد، كان قابلاً للنسخ وفاقا، فلو كان قابلا له بعده أيضًا، لم يكن لاقترانه به فائدة.

المسألة العاشرة أنه يجوز نسخ التلاوة والحكم معا

وجوابه: منع أنه لا فائدة فيه، وهذا لأن فائدته إبعاد احتمال تطرق النسخ إليه بالنسبة إلى ما كان أولاً لا أنه يصير ممتنعًا، ثم أنه منقوض بالعام المؤكد "بكل" "وأجمع". وثالثها: لو جاز النسخ بعده لوجب أن لا يبقى لنا طريق إلى العلم بدوام الحكم وفيه امتناع التكليف على التأبيد، وهو باطل وفاقًا. وجوابه: منع أن لا يبقى طريق إلى العلم به، وهذا لأنه يجوز أن يعلم ذلك بالقرائن وبخلق العلم الضروري/ (363/ أ). المسألة العاشرة أنه يجوز نسخ التلاوة والحكم معًا. وقد نقل فيه خلاف بعض الشاذين. إذ قالوا: لا يجوز نسخ التلاوة أصلاً.

والدليل على جوازه وقوع ذلك: إذ روى عن عائشة رضي الله عنهما. أنها قالت: "كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس محرمات".

ولقائل أن يقول: ثبوت نسخ تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معًا يتوقف على كونه من القرآن، وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد، فلا يثبت به نسخ تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معًا. ويمكن أن يجاب عنه بأن القرآن المثبت بين الدفتين لا يثبت بخبر الواحد بل بالتواتر، وأما المنسوخ الذي لا يثبت ولا يقرأ، فلا نسلم أن ذلك لا يثبت بخبر الواحد. سلمنا: ذلك لكن الشيء قد يثبت ضمنًا بما لا يثبت به استقلالاً، كالنسب بشهادة القابلة على الولادة. ولهذا قال بعض الأصوليين: إذا قال الصحابي في أحد الخبرين المتواترين: أنه كان قبل الآخر قبل ولزم منه نسخ المتأخر، وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم.

وهل يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة؟. ففيه خلاف: فذهب الأكثرون إلى جوازه. وذهب الأقلون من المعتزلة إلى امتناعه. لنا: أن التلاوة عبادة مستقلة، ولها أحكام: نحو كتبها في القرآن، وجواز الصلاة بقرائتها، وحكم المتلو أيضًا عبادة مستقلة، وله أيضًا: أحكام. ولذلك يثاب المكلف بفعل أحدهما دون "فعل" الآخر، وإذا كان كذلك جاز أن ينسخ أحدهما بدون الآخر لاحتمال أن يصير مفسدة دون الآخر، كما في الحكمين الثابتين معًا بخطاب واحد. وكيف ينكر جوازه، وقد وقع ذلك، وهو دليل الجواز وزيادة. أما الأول: فنحو ما يروى أن من جملة ما أنزل قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله" ونحو ما يروى أنه نزل في

قتلى بئر معونة: "بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضى، عنا وأرضانا".

ويروى عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه قال: كنا نقرأ من القرآن: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم". وأما الثاني: فنحو قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين}. ونحو آية الاعتداد بالحول في حق المتوفى عنها زوجها. ونحو قوله: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اله لهن سبيلا} وغيرها من الآيات. احتجوا بوجوه:

أحدها: أن نسخ التلاوة يوهم نسخ الحكم من حيث إنه دليل عليه/ (363/ب)، فلو نسخت التلاوة دون الحكم لأوهم ذلك الباطل فموهمة أيضًا باطل. وجوابه: أن موهم الباطل إنما يكون باطلاً إذا لم يكن عليه دليل، أما إذا كان فلا، كما في إنزال المتشابهات، ولما دل الدليل على دوام الحكم من حيث أن الأصل في كل ثابت دوامه ما لم يدل على زواله دليل، لا يكون ذلك الإيهام باطلاً. وثانيها: أن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم يفضي "في" إخفاء الدليل الذي مدلوله ثابت وأنه قبيح لإفضائه إلى إخفاء المدلول. وجوابه: منع إفضائه إلى إخفائه في حالة الدوام، لأن إذ ذاك يصير عليه دليل آخر وهو الأصل كما سبق، فلا يفضي [إخفاؤها إلى إخفائه، لأن إخفاء دليل معين لا يفضي إلى] إخفاء المدلول. وثالثها: أن المقصود من الآية الحكم، وزوال المقصود يغلب على الظن زوال التابع من حيث إنه لا فائدة في إبقائه بدون المقصود من حيث إن بقاؤه يوهم بقاء المقصود، وهو إيهام للجهل وهو قبيح. وجوابه: منع أن الحكم هو المقصود فقط، بل هو والتلاوة، لما بينا أن التلاوة عبادة مستقلة غير تابعة، فيكون مقصوده أيضًا فلا تبقى عرية من الفائدة، والإيهام زائل بالدليل الناسخ المتواتر قرآنًا كان أو خبرًا متواترًا، إذ لا يجوز نسخ القرآن إلا به فلا يقبح.

المسألة الحادية عشرة اختلفوا في ثبوت حقيقة النسخ "وحكمه" في حق من لم يبلغه الخبر حيث ثبت ذلك مع العلم

المسألة الحادية عشرة اختلفوا في ثبوت حقيقة النسخ "وحكمه" في حق من لم يبلغه الخبر حيث ثبت ذلك مع العلم. فقال: قوم يثبت النسخ في حقه وإن كان جاهلاً به، كما في حق العالم، فإن الرافع للحكم، أو المبين لأمد الحكم، إنما هو الناسخ، لا العلم، وإنما يعذر في تركه مقتضاه لعدم علمه به، لا لأنه لم يرفع الحكم في حقه، وهذا ينسب إلى أصحابنا. وقال قوم: لا يكون نسخا في حقه ما لم يبلغه الخبر وهذا ينسب إلى الحنفية، إذ حقيقة النسخ وهو الرفع أو البيان بأن الحكم غير مراد الثبوت في ذلك الزمان غير ثابتة في حقه، لأنه مأمور بالإتيان بمقتضى المنسوخ،

المسألة الثانية عشرة اختلفوا في أن كل "واحد" من الأحكام، هل هو قابل للنسخ أم لا؟

وعاصي بتركه ولو بان بعده النسخ وفاقا، ولا يتجه "فيه" خلاف، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، فإن تكليف من هو بأقصى اليمن بترك التوجه إلى بيت المقدس والتوجه إلى الكعبة عند نزول آية وجوب التوجه إليها بالمدينة تكليف بما لا يطاق. وعند هذا ظهر أن فائدة الخلاف لا يظهر في حقيقة النسخ، وهو رفع التكليف وانقطاعه عن الفعل الأول [بل] إنما يظهر في نتيجته وهو وجوب القضاء بمقتضى الناسخ عند معرفة وجود الناسخ لو وجد الأمر بالقضاء عند من يرى أن القضاء بأمر جديد وإلا فبالأمر الأول. وهذا الخلاف إنما هو بعد وصول/ (364/أ) الناسخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأما قبله فلا وإن وصل إلى جبريل عليه السلام. المسألة الثانية عشرة اختلفوا في أن كل "واحد" من الأحكام، هل هو قابل للنسخ أم لا؟ فذهب أصحابنا إلى تجويزه.

وذهب المعتزلة إلى أن من الأحكام ما لا يقبل ذلك، وهو كل ما يكون بذاته أو اللازم ذاته حسنًا أو قبحًا "لا يختلف" باختلاف الزمان، كحسن معرفة الباري وشكر النعم، والعدل، والإنصاف، وقبح الجهل والكذب الضار، وهو سديد على قاعدة التحسين والتقبيح، فإن النسخ على هذه القاعدة إنما يجوز لاحتمال أن يكون فعل الشيء حسنًا في زمان قبيحًا في زمان آخر، وذلك فيما فرضناه من الأحكام محال. وإبطال هذا بإبطال قاعدته وقد تقدم. واتفق الكل على أنه يجوز أن تزول التكاليف بأسرها عن المكلف؛ لزوال شرطه كالعقل، وأنه لا يجوز أن ينهى الله تعالى المكلف عن معرفته إلا إذا جوز تكليف ما لا يطاق، لأن نهيه عنها يستدعي معرفة النهي وفي ذلك معرفة الناهي ففي امتثال النهي ضد مقتضاه، وهو تكليف ما لا يطاق. وإنما اختلفوا: في أنه هل يجوز أن تزول التكاليف بأسرها بطريق النسخ أم لا؟ فذهب الغزالي، والمعتزلة: إلى أن ذلك عير جائز، لأنه إذا نسخ جميع التكاليف عن المكلف، فقد أوجب عليه ضمنًا معرفة الناسخ، والنسخ، والدليل المنصوب عليه، لضرورة تحقق النسخ، وهذا النوع من التكليف ينفي ضرورة وضمنًا لا يمكن نسخه.

المسألة الثالثة عشرة في نسخ الخبر

وأعترض عليه: أنا وإن قلنا: بأن النسخ لا يحصل في حق المكلف دون علمه بنزول النسخ، فلا يمتنع تحقق النسخ بجميع التكاليف في حقه عند علمه بالنسخ، وإن لم يكن ملكفًا، بمعرفة النسخ. وهو ضعيف، لأن زوال التكليف بمعرفة النسخ عند معرفة النسخ عند معرفة النسخ ليس بطريق النسخ، بل بطريق الامتثال، فإن ما يجب مطلقًا إذا امتثل مرة زال التكليف به، ولن نسلم عدم وجوب معرفته قبل الشعور بنزوله حتى يقال: إنها ليست واجبة قبل الشعور بنزوله ولا بعد الشعور، لجواز أن يكون العلم به معه فيستحيل إيجابه لاستحالة تحصيل الحاصل، فلا تكون معرفة النسخ واجبة بحال، ولو سلم أنه لا يجب إذ ذاك، لكن لم لا يجوز أن يقال: إنه يجب عند العلم به متقدمًا عليه بالرتبة، كما في سائر العلل التي مع المعلول في الزمان. المسألة الثالثة عشرة في نسخ الخبر اعلم أن الخبر إن كان خبرًا عما لا يجوز تغييره، ككون الصانع عالمًا قادرًا والعالم حادثًا فهذا لا يجوز نسخه وفاقًا.

وإن كان خبرًا بمعنى [الأمر] والنهي كقوله تعالى: {والوالدات/ (364/ب) يرضعن أولادهن} [وكقوله] {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وكقوله: {لا يمسه إلا المطهرون}. فهذا يجوز نسخه ولا يعرف فيه خلافًا. ولا يتجه الخلاف فيه؛ لأنه بمعنى الأمر والنهي. وما نقل الإمام وغيره من الخلاف في الخبر عن حكم شرعي، فليس هو هذا لأن "ذلك" محمول على ما كان خبرًا في اللفظ، "والمعنى" وإنما مدلوله حكم شرعي، وما نحن فيه ليس فيه إلا صيغة الخبر استعملت في الأمر على وجه التجوز، فهو في معنى الأمر، إذ نحن نعلم قطعًا أن الصيغة لا مدخل لها في تجويز النسخ وعدمه فهو في معنى الأمر. وإن كان خبرًا عما يجوز تغييره: وهو إما أن يكون ماضيًا، كالإخبار عن عمر

شخص كان، أو مستقبلاً وهو إما وعد أو وعيد، أو خبر عن حكم شرعي نحو أن يقول: الحج واجب عليكم في كل سنة. فهذا هل يجوز نسخه أم لا؟. فقد اختلفوا فيه: فذهب أبو علي، وأبو هاشم وأكثر المتقدمين من الفقهاء، والمتكلمين: إلى أنه لا يجوز نسخه. وذهب أبو عبد الله وأبو الحسين البصريين، والقاضي عبد الجبار: إلى أنه يجوز، وهو مختار الإمام. وفصل بعضهم بين الماضي والمستقبل: فجوزه في الثاني دون الأول. واعلم أنه إن فسر النسخ بالرفع، فهذا الخلاف لا يتجه ألبتة؛ لأن نسخ الخبر حينئذ يستلزم الكذب قطعًا، لأن الخبر إن كان صادقًا كان الناسخ الذي يرفع بعض مدلوله كاذبًا، ضرورة أنه صدق وإلا فهو كاذب، نعم: إنما يتجه لو فسر بأنه عبارة: عن بيان المراد فحينئذ يصح أن يقال: إن الخطاب وإن دل على ثبوت المخبر عنه في جميع الأزمنة ظاهرًا، لكنه غير مراد من اللفظ، بل

المراد منه الأزمنة التي مضت قبل ورود الناسخ. واستدل القائلون بالجواز: بأنه إذا قال الشارع: لأعذبن الزاني أبدا، ثم تبين بعد ذلك أنه لم يعذبه بعد ألف سنة لا يلزم الكذب، لاحتمال أن يقال: إنه أراد من الأبد تلك المدة وليس فيه إلا أنه أطلق العام وأراد به الخاص، وليس هو من الكذب في شيء وإلا لزم أن يكون العام المخصوص من أسماء الأعيان كذبًا. وكذلك لو قال: عمر نوح ألف سنة، ثم تبين بعد ذلك أنه عمر ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهذا إنما يصح أن لو صح إطلاق أسماء الأعداد وإرادة البعض منها. وفيه نظر: لأنها نصوص في مدلولاتها فلا يتطرق إليها التخصيص، نعم: يصح الاستثناء منها، لكن تقديره في النسخ ممتنع؛ لأن بتقدير اتصاله/ (365/ أ) بالمستثنى منه لم يكن ناسخًا وبتقدير انفصاله لم يصح إلا الاستثناء به اللهم إلا على المذهب المروي عن ابن عباس، لكنه ضعيف غير معمول به وفاقًا. واحتجوا بوجهين:- أحدهما: أن تطرق النسخ إلى الخبر يوهم كونه كذبًا، وهو على

الشارع غير جائز. وجوابه: أن مجرد الإيهام مع قيام الدليل الدال على امتناع ذلك غير مانع، وإلا لكان يلزم أن لا يتطرق النسخ إلى الأمر والنهي ضرورة أنه يوهم البداء فإن قالوا: لا يوهم ذلك لأن الناسخ دل على المنسوخ ما تناول الزمان الذي ورد الناسخ فيه وما بعده. قلنا: وكذا نقول في نسخ الخبر: إنه لا يوهم الكذب؛ لأن الناسخ دل على أن الخبر المنسوخ ما تناول تلك الأزمنة. وثانيهما: أنه لو جاز نسخ الخبر لجاز نسخ هذا الخبر وهو أن يقول الله تعالى: أهلكت عادًا، ثم يقول: ما أهلكت عادًا، ومعلوم أنه لو قال: ذلك لكان كذبًا، أو تخصيصًا؛ لأنه إن أراد نفي إهلاك كلهم لزم الكذب، وإن أراد نفي إهلاك بعضهم لزم التخصيص، وعلى التقديرين لا يكون نسخًا. وجوابه: أن إهلاكهم غير متكرر بحسب الزمان، وإن كان متكررًا بحسب الأشخاص، فلم يقبل التخصيص بحسب الزمان، الذي هو عبارة: عن النسخ، وإن كان قابلاً للتخصيص بحسب الأعيان، الذي هو مسمى بمطلق التخصيص.

الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل:

الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ

الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل: المسألة الأولى القائلون بجواز نسخ القرآن: اتفق أكثرهم على أنه يجوز نسخ القرآن بالقرآن لتساويهما في إفادة العلم ووجوب العمل به، وقد وقع ذلك كما تقدم ذكره. واتفق القائلون بجواز النسخ على أنه: يجوز نسخ المتواترة بالسنة المتواترة، ونسخ الآحاد منها بالمتواترة والآحاد. نحو نهيه عليه السلام عن ادخار لحوم الأضاحي: بقوله: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، والآن كلوا وادخروا". ونحو نهيه عن زيارة القبور بقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها". ونحو ما روى عليه السلام أنه قال في شارب الخمر: "فإن شربها

الرابعة فاقتلوه".

"ثم روي" أنه حمل إليه من شربها في الرابعة فلم يقتله". وأما نسخ المتواتر منها الآحاد: فاتفقوا: على جوازه عقلا. واختلفوا: في جوازه شرعًا ووقوعه". فذهب الأكثرون: إلى أنه غير واقع.

خلافًا لبعض أهل الظاهر. وكذا نسخ القرآن بخبر الواحد لم يقع ولا يجوز شرعًا عند الجماهير. خلافًا لهم. وفصل بعضهم: كالشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: بين زمان الرسول، وبين ما بعده/ (365/ ب) فجوزه، وقال: بوقوعه في زمانه عليه السلام دون ما بعده جمعًا بين الدليلين، كما سيأتي ذلك. احتج الأكثرون بوجهين: أحدهما: الإجماع: وتقديره أن الصحابة كانت تترك خبر الواحد إذا رفع حكم الكتاب والسنة المعلومة. قال عمر في خبر فاطمة بنت قيس: (لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا

بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت). وقال علي رضي الله عنه في خبر أبي سنان الأشجعي "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه".

وكان ذلك مشهورًا فيما بينهم، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعًا. وثانيهما: وهو الوجه المعقول: أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والمتواتر يفيد القطع، وترجيح الأضعف على الأقوى غير جائز. ولقائل: أن يقول: الوجهان ضعيفان. أما الأول: فلأن ما ذكرتموه لا يدل على عدم قبولهم خبر الواحد إذا رفع حكم المعلوم؛ وهذا لأنه يحتمل أن يكون ردهما الخبرين لعدم إفادتهما ظن الصدق بهما بسبب عدم تحفظ الراوي وسقوط مروءته وهو الظاهر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: "لا ندري أصدقت أم كذبت" وقال علي رضي الله عنه: "بوال على عقبيه".

سلمناه: لكنه منقوض بما أنه يجوز تخصيصهما به. فإن قلت: لم يقبل في التخصيص في رفع الحكم، ضرورة أنه لم يرفع الحكم، بل يبين المراد. قلت: إنما يصح هذا الفرق أن لو صح قبوله في التخصيص، فإن بتقدير أن لا يقبل في التخصيص كان الحكم ثابتًا فإثبات صحة قبوله في التخصيص بهذا الفرق دور. "أما" الثاني: فإنه يقتضي نفي الجواز العقلي أيضًا، لأن ترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في العقول، وأنتم لا تقولون به فيكون منقوضًا. وأجيب بوجهين آخرين: أحدهما: تمنع أنه يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى، وهذا لأن الكتاب والسنة متواترة وإن كان مقطوعي المتن، لكنهما مظنونى الدلالة، وخبر الواحد وإن كان مظنون المتن، لكنه مقطوع الدلالة خاصًا لكونه فاستويا، بل خبر الواحد الخاص أقوى دلالة على مدلوله، لأن تطرق الضعف إلى مدلول خبر الواحد الخاص، إنما هو من احتمال الكذب والغلط، وتطرق الضعف إلى مدلول الكتاب العام، إنما هو من جهة تخصيصه وإرادة بعض مدلولاته دون بعض، ومعلوم أن تطرق التخصيص إلى العام أكثر من تطرق الكذب والغلط إلى العدل المتحفظ.

وثانيهما: النقض بجواز تخصيصهما به. وهما ضعيفان. أما الأول: / (266/ أ) فلأنه ليس من شرط المنسوخ من الكتاب أو السنة المتواترة أن يكون عامًا وناسخه من خبر الواحد خاصًا حتى يتأتى ما ذكروه، بل قد يكونا عامين، أو خاصين، والمنسوخ خاصًا، والناسخ عامًا، على رأي من يرى أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، وحينئذ لا يتأتى ما ذكروه من المنع، فيلزم ترجيح الأضعف على الأقوى فلم يجز النسخ في هذه الصور، وإذا لم يجز في هذه الصور لم يجز في تلك الصور لعدم القاتل بالفصل "ولا يعارض مثله. بأن يقال: إذا جاز النسخ في تلك الصورة لتساويهما جاز في هذه الصور، لعدم القائل بالفصل" لأن إلحاق الفرد بالأكثر أولى، ولأن تحقق المفسدة في صور عديدة أشد محذورًا من تحققها في صورة واحدة. وأما الثاني: فلأن الخصم إنما يجوز التخصيص "به" لأنه لا يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى لما ذكر من المعنى فلم يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى، وهو غير متحقق في النسخ على ما عرفت فلا يلزم النقض. احتجوا بوجوه: أحدها: أن الرسول عليه السلام كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ.

وذلك يدل على قبول الناسخ والمنسوخ كيف كان. وجوابه: أنه كان يبعث للفتوى، بدليل أن العوام فيهم أكثروا الحاجة إليه أمس. سلمناه: لكن فيما يقبل فيه خبر الواحد، وأما على الإطلاق فممنوع. وثانيها: أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة المتواترة، إذ ليس في الكتاب ما يدل عليه، وأهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخه، إذ روى أنهم كانوا يصلون متوجهين إليه فجاءهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم ألا إن القبلة حولت إلى الكعبة، فاستداروا لخبره، والرسول عليه السلام لم ينكر عليهم ذلك مع علمه به.

فدل ذلك على الجواز. وجوابه: أنه خبر واحد ولا تثبت مثل هذه القاعدة به. سلمنا: جواز إثبات مثل هذه القاعدة به، لكن لعل الرسول أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة، فلذلك قبلوه. سلمنا: أنه ما أخبرهم، لكن لعله لقرينة انضمت إليه نحو أنهم سمعوا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتجر على الرسول أحد بمثله، ونحو كون المسجد قريبًا وارتفاع ضجة في ذلك فيه. وثالثها: أنه نسخت آية الوصية للوالدين والأقربين، بما روى عنه عليه السلام: أنه قال "لا وصية لوارث" إذ لم يوجد غيره ما يصلح أن يكون ناسخًا "لها" فيتعين أن يكون هو.

لا يقال/ (366/ ب): الناسخ له آية الميراث، ولهذا قال عليه السلام حين نزلت "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث". لأن الجمع بينهما ممكن. ولهذا جازت الوصية للأجنبي مع توريث الوارث. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن الناسخ لها هو آية الميراث لا الخبر، وإنما هو مؤكد لها. وقوله: الجمع بينهما ممكن. قلنا: بين التوريث على ما فرض الله تعالى، وبين الوصية التي هي مدلول الآية، أو بينه وبين الوصية في الجملة، نحو الوصية الجائزة أو المقيدة بالثلث، كما هي في حق الأجنبي. والأول: ممنوع ولا يمكن دعواه، لأن الوصية التي هي مدلول الآية هي الوصية بكل المال، وهي كانت واجبة بصراحة الآية، قال الله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين}.

وآية التوريث منافية لهذا الوجوب، لأن وجوب صرف المال إليهم على وصية الله تعالى ينافي وجوب صرفه إليهم على وصية العبد، لأن وصية العبد إن كانت مخالفة لوصية الله تعالى فظاهر، وإن كانت موافقة فالعمل بوصية الله لا بوصيته ووصيته لاغية، ومنه يعرف عدم وجوب توصيته أيضًا إذ لا فائدة فيه على التقديرين "و" إذا كانت منافية لها كانت ناسخة لها ضرورة أنه لا يمكن الحمل على التخصيص. والثاني: مسلم "لكنه" لا يضر إذ ليس هو مدلول الآية حتى يجعل الحديث ناسخًا له. فإن قلت: لما دلت الآية على وجوب الوصية بكل المال، دلت على جواز الوصية في كل المال وفي الثلث، ضرورة أن الدال على الكل دال "على الجزء وذلك الجواز غير باق الآن للحديث لا للآية فيكون الحديث ناسخًا" لمدلول الكتاب. قلت: لا نسلم أن الجواز غير باق الآن، وهذا لأن الوصية لهم تصح على الأظهر، ولكن يتوقف على إجازة الورثة، ولهذا يصح تقيدًا على الرأي الأظهر. سلمنا: أنه غير باق لكن الوجوب إذا نسخ لم يبق الجواز، فيكون الناسخ للجواز ما هو الناسخ للوجوب. سلمنا: أنه لم يوجد غيره ما يصلح أن يكون ناسخًا لها، لكن

"لا" نسلم أنه يلزم منه جواز نسخ المتواتر بالآحاد، وهذا لأنه [لا] يجوز إن كان الخبر مقطوعًا به عندهم. ثم إنه ضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه "و" هذا وإن كان خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه بين الدليلين. ورابعها: أنه نسخ قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا}. بما روى عنه/ (367/ أ) عليه السلام: "أنه حرم كل ذي ناب من

السباع وكل ذي مخلب من الطيور". وجوابه: أن الآية لم تتناول الوحي إلا إلى تلك الغاية التي نزلت الآية فيها فلا يتناول الوحي الذي يحصل بعدها. فلم يكن الحديث رافعًا لشيء من مقتضاه فضلاً عن أن يكون ناسخًا. سلمنا: عموم التناول لكنه يكون مخصصًا لا ناسخًا وهو ظاهر جدًا إذ لم يسقط حكمه بالكلية. وخامسها: أنه نسخ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بما

المسألة الثانية [نسخ الكتاب بالسنة المتواترة]

روي عنه آحادًا "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". وجوابه: أنه مخصص لا ناسخ؛ وهذا لأن النص يقتضي أن يكون كل ما عدا المذكورات حلالاً أخرج عنه الخبر بعضه فيكون تخصيصًا لا ناسخًا، وإنما يتعين أن يكون نسخًا لو أثبتوا أنه ورد بعد العمل بمقتضى الآية فحينئذ يكون ناسخًا إذ لا يجوز تأخير بيان المخصص عن وقت العمل وفاقًا. المسألة الثانية [نسخ الكتاب بالسنة المتواترة] يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة عند جماهير الفقهاء: نحو مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين، وأصحابهم، والمتكلمين من الفريقين. وقال هؤلاء: بوقوعه أيضًا.

ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه لا يجوز، وهو مذهب أكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وإليه ذهب المتكلمين من أصحابنا القلانسي والحارث

المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القطان، والأستاذ أبو إسحاق، وأبو منصور البغدادي ونقل الإمام عنه مشعر بثبوت الخلاف في الوقوع لا في الجواز. حيث قال: قال الشافعي - رضي الله عنه-: لم يقع، وهو خلاف نقل الجماعة. وقال ابن سريج يجوز لكنه لم يقع.

واحتج المجوزون على الجواز بأن الكتاب مقطوع به في المتن والدلالة لو فرض كذلك، والسنة المتواترة الناسخة أيضًا كذلك إذ نفرض الكلام فيه، فيجوز نسخه لتساويهما في ذلك. كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب والسنة المتواترة بالسنة المتواترة. واحتجوا على الوقوع بوجوه: أحدها: أنه نسخ قوله عليه السلام: "ألا لا وصية لوارث". آية الوصية. وهو ضعيف من وجهين:- أحدهما: ما سبق من أن الناسخ لها آية الميراث لا الخبر. وثانيهما: أن ذلك يقتضي نسخ المتواتر بخبر الواحد وهو غير جائز لما تقدم، ولأن أكثر الخصوم يسلمون ذلك. فإن قلت: لعله كان متواترًا، كما ذكرتم. قلت/ (367/ ب): المستدل لا يكفيه لعل وعسى، بل يجب عليه الإثبات على الجزم "ونحن كنا مانعين في المسألة السابقة فلذلك كفانا الاحتمال" ولا يمكن الاستدلال على كونه متواترًا بما تقدم من أنه يقتضي الجمع بين الدليلين؛ لأن الخصم هذا يحاول نفي كونه ناسخًا، بخلاف المسألة

السابقة. فإنا إنما قلنا: ذلك على تقدير تسليم كونه ناسخًا. وثانيهما: أنه نسخ قوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} بما روى عنه عليه السلام "أنه أمر بقتل ابن الأخطل وإن كان متعلقًا بأستار الكعبة".

وجوابه: منه أنه نسخ به، بل نسخ بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}. ثم الذي يؤكده أن أمره بقتل ابن الأخطل ليس من قبيل المتواتر، فلو نسخ به لزم نسخ الكتاب بخبر الواحد، وأنه غير جائز لما تقدم. وثالثها: أن آية الحبس في البيوت. ونسخت آية الجلد، بما تواتر من مجموع قوله: وهو قوله "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". ومن حكمه: وهو حكمه على ماعز بالرجم، وإنما قلنا: بما تواتر من مجموع قوله وحكمه ليصير التواتر معنويًا، ويندفع المنع المتوجه إلى كل واحد منهما بأنه من قبيل الآحاد، وهذا لو سلم أن نقل حكمه بالرجم من قبيل الآحاد.

وفيه نظر فإن قلت: لا نسلم أنه نسخ بالسنة، بل بما كان قرآنًا، وهو قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله وروسوله". فإنه روى عن عمر رضي الله عنه أن ذلك من جملة ما أنزل. قلت: إنه لم يكن قرآنًا؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد وفيه ما تقدم من المنع. وقد نفى ذلك بوجه آخر، وهو أن ذلك لم يكن قرآنًا لما روى أن عمر رضي الله عنه قال: "لولا أن يقول الناس [إن] عمر زاد في كتاب الله تعالى [شيئًا] لألحقت ذلك بالمصحف". ولو كان قرآنًا لما قال ذلك. وهو ضعيف؛ لأن ذلك يقدح في كونه قرآنًا في الحال، لا في كونه كان قرآنًا في الماضي "لأن" بتقدير أنه كان من

القرآن، لكن نسخت تلاوته وحكم بإخراجه من المصحف كفى ذلك في صحة قول عمر رضي الله عنه. واحتج من قال: بعدم جوازه بوجوه:- أحدها: قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم أن الله على كل شيء قدير}. ووجه الاستدلال به من وجوه: أحدها: أنه قال: {نأت بخير منها}، وذلك يفيد أنه المنفرد بالإتيان/ (368/ أ) بذلك الخير. أما أولاً: فلأنه جعله جزاء للشرط والجزاء يترتب حيث يترتب الشرط، فلو جاز إتيان غيره بذلك الخير عند النسخ لم يكن إتيانه بالخير جزاء له. وأما ثانيًا: فلأنه ذكره في سياق المدح، والمدح الكامل إنما يحصل لو كان هو منفردًا بذلك، وإذا كان هو منفردًا بذلك وجب أن يكون قرآنًا، لأنه هو المنفرد بذلك دون السنة التي يأتي بها الرسول. وثانيها: أنه قال {نأت بخير منها أو مثلها} وذلك يفيد أن يكون من جنسها؛ لأن الرجل إذا قال: ما أخذ منك ثوبًا إلا أتيتك بخير منه أو بمثله، يتبادر منه إلى الفهم بأنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه أو مثله والتبادر دليل الحقيقة ويكون حقيقة فيه، فيجب حمله عليه إذ لا مانع منه، وحينئذ

يجب أن يكون قرآنًا، لأن جنس القرآن قرآنًا. وثالثها: أنه وصف المأتى به بأنه خير منها أو مثلها، وذلك يفيد أن يكون قرآنًا لأنه غير القرآن لا يكون خيرًا منه ولا مثلاً له. ورابعها: أن قوله: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} يفيد أن الذي يأتي بذلك الخير أو المثل هو المختص بالقدرة عليه من حيث إنه ذكر عقيب ذلك النفي الامتناع والاستبعاد {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فإنه لا يحسن ذكر مثل هذا الكلام عقيب فعل يقدر عليه غير الفاعل، ألا ترى أن الرجل إذا فعل فعلاً يقدر عليه كل "واحد" لا يحسن منه، ان يقول: أنا أفعل هذا وخيرًا منه ألم تعلموا أني على ما أشاء من الأفعال قدير، وحينئذ يجب أن يكون ذلك هو القرآن دون غيره. وجوابه: من وجوه: أحدها: أن الآية ظاهرة في نسخ الآية نفسها وهو نسخ تلاوتها "دون" حكمها، والخصم يحتمل أن يسلم الحكم في نسخ التلاوة، فلم قلتم: إن الحكم في نسخ الحكم كذلك، فلقائل: أن يقول: لا نسلم أن الآية ظاهرة في نسخ التلاوة فقط. وهذا لأن نسخ الآية أعم من نسخ تلاوتها، ونسخ حكمها وهو نسخ حكم من أحكامها، فإن التلاوة حكم من أحكامها وهو

القدر المشترك بينهما بدليل أنه استعمل فيهما، إذ يقال آية الاعتداد بالحول، منسوخة بآية التربص بأربعة أشهر وعشرًا. وآية إثبات الواحد للعشرة، منسوخة بآية "ثبات" الواحد للاثنين. ويقال: آيات الموادعة والمسالمة مع الكفار، منسوخات بآية القتال، ويستعمل حيث تكون نفس التلاوة منسوخة/ (368/ ب) دون الحكم، كما في قوله: (والشيخ والشيخة)، وهو متفق عليه، فوجب جعله حقيقة فيهما بحسب القدر المشترك دفعًا للاشتراك والمجاز، وحينئذ يجب حمله عليهما دفعًا للإجمال وتكثيرًا للفائدة. سلمنا: أنه حقيقة في نسخ التلاوة، لكنه لما وجب هذا الحكم في حقيقة التلاوة، وجب أن يعتبر في الحكم ضرورة أنه لا قائل بالفصل.

وثانيها: أن قوله {نأت بخير منها} ليس فيه دلالة على أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخًا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير آية أخرى مغايرة للناسخ يحصل بعد حصول النسخ، وحينئذ "لا يمنع" نسخ حكم الكتاب وتلاوته بالسنة. ثم الذي يدل على أن المراد من ذلك الخير غير الناسخ هو أن قوله: {نأت بخير منها} جزاء للشرط المتقدم وهو قوله: {ما ننسخ} والجزاء متأخر بالرتبة عن الشرط ومترتب عليه والنسخ مترتب على الناسخ ضرورة أن الفعل متأخر بالرتبة عن الفاعل موجبًا كان أة مختارًا، فلو كان المراد من ذلك الخير هو الناسخ، لزم "ترتب" كل واحد منهما على الآخر، وهو دور. لا يعارض هذا: بأنه تعالى جعل إتيانه بالخير جزاء للنسخ والجزاء مما يجب حصوله عند حصول الشرط وغير الناسخ لا يجب حصوله عند حصول النسخ فلا يجوز أن يكون مرادًا منه؛ لأنا نمنع؛ وهذا لأن الله تعالى وعد بإتيانه الخير عند النسخ، وقد دل الدليل على أنه لا يجوز أن يكون المراد منه هو الناسخ، فوجب أن يكون غيره، وحينئذ يجب حصوله نظرًا إلى وعده ونظرًا إلى أنه جعله جزاء له. وأما قوله: وغير الناسخ لا يجب حصوله عند حصول النسخ. قلنا: نعم لكن نظرًا إلى نفس النسخ لا إلى غيره، ونحن إنما أوجبنا ذلك لأمر خارجي لا لنفس النسخ، فلا يكون منافيًا لما ذكرنا. ولا يدفع هذا بأنه قول: لم يقل: به أحد، لأن من لم يجوز نسخ الكتاب بالسنة. قال: المراد من ذلك الخير هو الناسخ، ومن جوز ذلك لم يوجب أن يؤتى بآية أخرى تقام مقام المنسوخ، إما في الحكم أو في التلاوة

على تقدير نسخه بالسنة. فالقول: بوجوب الإتيان بذلك الخير على تقدير نسخ الكتاب بالسنة قول لم يقل به أحد، لأنا نمنع حجة مثل هذا الإجماع. "سلمناه": لكنا لا نسلم أنه قول لم يقل به أحد، إذ ليس منهم إطلاق وإشارة عليه غايتع أنه لم يوجد ما يدل على أنه قول أحد منهم، لكن عدم الوجدان/ (369/ أ) لا يدل على العدم. وثالثها: وهو الجواب على الوجه التفصيل: وهو أن يقول: لا نسلم دلالة الآية على المطلوب، قوله: في الوجه الأول: إنها تفيد أنه تعالى هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وهو القرآن لا غيره. "قلنا: لا نسلم أنه تعالى هو المنفرد بذلك، لكن لا نسلم أن ذلك هو القرآن لا غيره" وهذا لأن السنة وإن نسخت لكن الآتي بذلك الخير الذي هو مدلول السنة، إنما هو الله تعالى، والرسول إنما هو مبلغ فلا يجب أن يكون ذلك الخير قرآنًا. وأما قوله: في الوجه الثاني: إن ذلك الخير لا بد وأن يكون من جنس القرآن فممنوع. [والمثال] الذي ذكروه في الدلالة عليه فمعارض بمثال آخر، نحو ما يقال: ما تفعل معي من حسنة إلا وآتيك بخير منها، فإن هذا لا يقتضي

أن ما يفعله المكافي يكون من جنس ما فعله المكافي، ألا ترى أنه يحسن ذلك وإن كان فعل المحسن إقراضًا وفعل المحسن إليه إنقاذًا من الغرق أو الحرق وتخليصًا من العدو. فإن قلت: إنما يفعله المحسن من جنس الحسنة المذكورة، والسنة ليس من جنس الآية المذكور في الآية. قلت: الضمير لا يرجع إلى اللفظ إلا باعتبار مدلوله المراد منه، بدليل أن الاسم المشترك إذا استعمل في أحد مفهوميه، ثم أعيد إليه الضمير، فإنه لا يرجع إليه باعتبار ذلك المعنى. والمراد من الحسنة في قوله: ما يفعل معي من حسنة، ليس هو كل واحد واحد مما صدق عليه اسم الحسنة، وإلا لكان الضمير في قوله: أتيك بخير منها، راجعًا إليه لكنه باطل لاستحالة الإتيان بما هو خير من كل الحسنة، ولا ما صدق عليه اسم الحسنة وإلا لكان الضمير راجعًا إليه، وحينئذ لو أتى، بما هو خير [منه] من حسنة ولو كانت دون حسنة لكفى لكنه باطل، بل المراد منها الحسنة المفعولة. أو يقال: إن المراد منها وإن كان غيرها لكن الضمير لا يرجع إلا إليها وحينئذ يعود ما ذكرناه من أنها لا تجب أن تكون من جنس حسنة المكافأ على أنا نعدل منه إلى مثال أظهر منه نحو ما يقال: ما أخذ منك درهما إلا آتيك بخير منه، فإنه لا يدل على أن الذي يأتي به إنما هو الدرهم، بل قد يكون غيره. سلمنا: أن ما هو موصوف بالخير لا بد وأن يكون من جنس ما سبق. لكن يقول: المراد من قوله: {ما ننسخ من آية}، ما ننسخ من حكم آية ليكون متناولاً للفظ والمعنى، لما ثبت أن نسخ الآية أعم من نسخ تلاوتها أو

حكمها، وحينئذ يكون الحكم/ (369/ ب) الثابت بالسنة الناسخ لحكم الكتاب من جنس ما تقدم. وعن الثالث: أن المراد من الخير إذا كان ما هو أسهل على المكلف فعله وأجزل ثوابًا له في المعاد. فلم قلتم: إن ما بينته السنة لا يكون خيرًا مما بينته الآية؟ وعن الرابع: أنا نسلم أن الله تعالى هو المنفرد بإتيان ذلك الخير سواء كان ذلك الخير مضمون الآية أو مضمون السنة، لأن الكل من عند الله تعالى بوحي قال الله تعالى: {[و] ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، لكن منه ما يتلى وهو الكتاب ومنه ما يتلى وهو السنة، ولو جوز صدور الأحكام منه بالاجتهاد فلا شك أن مثله لا يكون ناسخًا فضلاً عن أن يكون ناسخًا للكتاب. وثانيها: قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس}. ووجه الاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه تعالى أخبر أنه هو الذي يبدل الآية وذلك يدل على أنه لا

يبدل غيره الآية، لأنه حينئذ لا يكون التبديل مضافًا إليه ولا يكون بالآية أيضًا. وثانيهما: أن المشركين كانوا يقولون عند تبديل الآية بالآية إنما أنت مفتر والله تعالى أزال هذا الاتهام بقوله: {قل نزله روح القدس من ربك} وذلك يدل على أن ما لا يكون من روح القدس لا يكون مزيلاً للاتهام [و] في نسخ الكتاب بالسنة تأكيد الاتهام فيكون باطلاً. وجواب الأول: أنا نمنع أن التبديل لا يقع من غيره، ولا نسلم أن قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية} يقتضى أن لا يقع التبديل من غيره. -[ولا نسلم أن قوله] ولا بغير الآية- لأن القول بمفهوم الاسم باطل. سلمنا: أنه يقتضى أن لا مبدل إلا الله تعالى، لكن لا نسلم أن هذا يقتضى أن لا يقع التبديل بالسنة، فهذا فإن الناسخ هو الله تعالى سواء ظهر ذلك بالكتاب، أو بالسنة. وعن الوجه الثاني: أن مضمون السنة أيضًا مما ينزله روح القدس، فيكون مزيلاً للاتهام، وهذا لا يقوى؛ لأنه يكون بالإلهام. فالأولى أن يقال: إن التهمة إنما تتطرق إليه من الشك في نبوته وعند ذلك

لا تزول التهمة، سواء نسخ القرآن بالقرآن أو بالسنة، لأنا لا نسمع القرآن إلا منه ولا تزول هذه التهمة إلا بالنظر في معجزاته. وأما من لا يكون شاكًا في ذلك فإنه لا تهمه سواء نسخ القرآن بالقرآن أو بالسنة، فلا عبرة بذلك الاتهام مع وجود ما يزيله. وثالثها: قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فوض بيان المنزل وهو القرآن إليه، والنسخ رفع وإبطال وهو ضد البيان. وجوابه: أن النسخ أيضًا بيان، فإنه بيان انتهاء الحكم، وإن ما بعده غير مراد من الخطاب كالتخصيص ولو اقتضى تفويض البيان إليه أن لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة/ (370/ أ) لاقتضى أن لا يجوز تخصيصه به. سلمنا: أنه ليس بيانًا لكن تفويض البيان إليه لا يقتضى أن لا يكون ناسخًا فإنه يجوز وصف الإنسان بوصفين مختلفين أو متضادين في زمانين. سلمنا: أنه ينافي ذلك لكن لا نسلم أن الوارد من البيان بيان المجمل حتى يكون الرفع والإبطال منافيًا له، بل المراد منه إظهار المنزل، وحينئذ لم قلتم "إن نسخ حكمه" بالسنة منافيًا له، بل هو مقتضى له، لأنه إظهار

للمنسوخ وهو أعم من أن يكون بالقرآن أو بالسنة. ورابعها: قوله تعالى {[قال] الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلىَّ}. وهذا دليل على أنه لا يجوز تبدل القرآن بغيره. وجوابه: أنه ظاهر في تبديل الآية نفسها لا في تبديل حكمها. سلمنا: أنه ظاهر فيهما، لكن إنما يبقى التبديل من تلقاء النفس ولا يبقى التبديل بالوحي والسنة أيضًا وحي وليس كل وحي قرآنًا حتى تتم الدلالة عليه. وخامسها: أن نسخ القرآن بالسنة يوجب التهمة والنفرة فوجب أن لا يجوز. وجوابه: ما تقدم من أن التهمة زائلة بالتمسك بمعجزاته وكذلك النفرة

لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. سادسها: أن السنة إنما يجب العمل بمقتضاها بالكتاب. لما تقدم من الآيات في وجوب التأسي به يجوز.، فيكون فرعًا له، والفرع لا يرفع الأصل، كالقياس لا يرفع مقتضى النص. وجوابه: من وجوه:- أحدها: أنه لا ترفعه، بل تبينه كالتخصيص، فإن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم. سلمنا: أنه رفع لكنها لا ترفع أصلها الذي دل على وجوب العمل بها، بل ترفع مقتضى غير أصله وهو ما لا يتضمن إيجاب العمل بها. وثانيها: أنها ترفع نفس أصلها وهو القرآن، بل حكمه وحكمه ليس أصلاً لها. وثالثها: المعارضة بوجه آخر، وهي: ما ذكرتم يقتضى جواز النسخ بالسنة، فإن الرسول إذا شافهنا بأن حكم هذه الآية منسوخ، فإنه إن لم يقبل قدح ذلك في دلالة تلك الآيات على وجوب متابعته. وإن قيل: لزم تجويز النسخ بها.

المسألة الثالثة [في نسخ السنة المتواترة بالكتاب]

المسألة الثالثة [في نسخ السنة المتواترة بالكتاب] يجوز نسخ السنة المتواترة بالكتاب عند جماهير الفقهاء والمتكلمين وهو واقع. وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. ونقل عنه قول آخر أنه لا يجوز. احتج الجماهير على جوازه أولاً. ثم على وقوعه ثانيًا. أما على الجواز فلما تقدم في المسألة السالفة، بل هنا أولى إذ ليس فيه اتهام ولا نفرة. وأما على الوقوع فبوجوه:

أحدها: أن تحريم المباشرة/ (371/ ب) في ليالي الصيام كان ثابتًا بالسنة إذ لا يوجد في القرآن ما يدل عليه، ثم أنه نسخ بقوله تعالى: {فالآن باشروهن}. وثانيها: أن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة كان واجبًا بالسنة إذ ليس في القرآن ما يدل على وجوب التوجه إليه على سبيل "الخصوص". ثم أنه نسخ بالقرآن، وهو قوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام}. وثالثها: أنه نسخ صلح الرسول مع المشركين عام الحديبية على رد من جاءه منهم مسلمًا بقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} وكان ذلك الصلح ثابتًا بالسنة إذ ليس في القرآن ما يدل على شرعيته. ورابعها: أنه نسخ وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان الثابت

بالقرآن قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. وليس في القرآن ما يدل على وجوب صوم عاشوراء، فكان "ثابتًا" بالسنة. وخامسها: أن تأخير الصلاة عن وقتها بعذر القتال كان جائزًا في أول الأمر. ولهذا أخر الظهر والعصر في يوم الخندق عن وقتهما وقال في قتلاهم "حشى الله قبورهم نارًا" لحبسهم له عن الصلاة. وهو ثابت بالسنة إذ ليس في القرآن ما يدل عليه، ثم نسخ بقوله: {فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا} أو بقوله: {وإذا كنت فيهم} الآية.

فإن قلت: لعل هذه الأحكام كانت ثابتة بقرآن نسخ تلاوته، أو وإن ثبت بالسنة، لكن لعلها نسخت أيضًا بالسنة، لكنها لم تنقل، إما لدلالة القرآن على هذه الأحكام، أو لحصول الإجماع عليها. قلت: الأصل عدم ذلك لا سيما مع عدم الوجود بعد التفتيش والبحث التام، فإن دواعي الخصوم متوفرة على الطلب والبحث عن ذلك، لدفعهم حجاج خصومهم عليهم ولا مانع لهم عنه، فوجب حصول التفتيش والطلب، والمسألة اجتهادية فيكفينا فيها التمسك بالأصل، وكيف لا وفتح هذا الباب يقتضى أن لا يتعين ناسخ ولا منسوخ، لاحتمال أن يقال: في كل ناسخ يعين أنه ليس بناسخ، بل غيره وفي كل منسوخ يعين ذلك، وفي عدم تعين المنسوخ نظر. فإن قلت: إنه غير لازم، لأنا إنما نحيل النسخ هنا إلى غيره لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يكون ناسخًا وأنه لا يجوز أن يكون منسوخًا به، وهذا غير حاصل في كل ناسخ ومنسوخ. قلت: سنجيب عن تلك الأدلة فلا يكون ذلك مانعًا من إحالة النسخ إليه. سلمنا: ذلك لكن لا يلزم من عدم الدليل على شيء عدم ذلك الشيء فيم يبقى هذا الاحتمال ثمة. واحتجوا بوجوه:-

أحدها: قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}. ووجه الاستدلال به: وهو أنه تعالى جعل كلامه بيانًا للقرآن، فلو كان القرآن/ (371/ أ) ناسخًا له، فإما أن يكون بمعنى الإبطال وهو باطل لأن المبين "لا يكون" مبطلاً للمبين، وإما أن يكون بمعنى البيان، وهو أيضًا: باطل، لأن المبين يصير مبينًا للمبين فيلزم أن يكون كل واحد منهما بيانًا للآخر. وجوابه: أن المراد من البيان التبليغ والإظهار دون بيان المراد "لأن في" الحمل على الأول: إجراء كلمة "ما" على العموم. وأما في الحمل على الثاني: فليس كذلك، ضرورة أن كل ما نزل إليهم لا يحتاج إلى البيان، فحينئذ يلزم، إما الإجمال، أو التخصيص، وهما على خلاف الأصل. فما يستلزمه أيضًا كذلك، وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على أن القرآن لا ينسخ السنة. سلمنا: أن المراد منه بيان المراد، لكن ما ينسخه القرآن من السنة ليس هو بيانًا لناسخه حتى يلزم ما ذكروه من المحذور بل يغيره، وحينئذ لا يلزم ذلك. سلمنا: أن ما ينسخه القرآن من السنة فهو بيان له، لكن على تقدير أن يكون قوله: {لتبين}، يدل على أن كلامه لا يكون إلا بيانًا. وهو ممنوع وهذا لأن قول القائل: بعثت إليك الكتاب لتبينه، لا يدل على أنه لا يصدر

منه إلا البيان. وثانيها: أن تجويز نسخ السنة بالقرآن يوهم عدم رضا الله بما سنه الرسول عليه السلام وهو مناقض لمقصود البعثة، فموهمه أيضًا باطل. وجوابه: لأن الإيهام إنما يلزم أن لو كان النسخ عبارة: عن الرفع وهو ممنوع، أما إذا كان عبارة عن: بيان انتهاء المدة فلا. سلمنا: لزومه مطلقًا، لكنه زائل بما أنه لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى} ولأن هذا الإيهام حاصل في تجويز نسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، مع أنه جائز بالاتفاق. وثالثها: أن السنة ليست "من" جنس القرآن، لكونه معجزًا، ومتلوًا، ومحرمة تلاوته على الجنب والحائض.

وكونه لا يمسه إلا المطهرون، وكونه يتوقف على قراءته صحة الصلاة، لم يجز نسخها به كما لا يجوز نسخها بالقياس، وكما لا ينسخ حكم العقل بالقرآن والسنة. وجوابه: أن نسخ السنة بالقياس، إنما امتنع للضعف، لا لاختلاف الجنس وحكم العقل زال بهما، وإنما لا يسمى ذلك نسخًا، لأنه ما كان "ثابتًا" بطريق شرعي وهو معتبر في النسخ على ما تقدم في تفريعه، وهو آيل إلى أنه لا يسمى نسخًا بحسب الاصطلاح وإن سمي به لغة.

.......................................................................

...........................................................................

المسألة الرابعة في أن الحكم الثابت بالإجماع لا ينسخ به ولا بغيره

المسألة الرابعة في أن الحكم الثابت بالإجماع لا ينسخ به ولا بغيره، والحكم الثابت بغير الإجماع وبه لا ينسخ به أيضًا: ولتعلم أن الإجماع لا ينعقد دليلا إلا بعد وفاة الرسول، لأنه لو انعقد دليلاً في حياته عليه السلام فمن الظاهر أنه لا ينعقد بدون قوله: لأنه عليه السلام سيد المجتهدين والعلماء/ (371/ ب) فكيف ينعقد الإجماع بدون قوله ولا مع قوله "لأن قوله عليه السلام" وحده حجة ولا عبرة بقول الغير في ذلك ويعتبر في حجية الإجماع اجتماع الأقوال مع وجود أهل القول وفاقًا، فحجية قوله، وإن كان مع غيره من الأقوال على خلاف حجية الإجماع، ولأن منكر حكم الرسول الثابت بطريق القطع كافر وفاقًا، ومنكر حكم الإجماع ليس بكافر فليس حجية قوله مع غيره من الأقوال بطريق الإجماع بل حجيته إذ ذاك بحجيته وحده إذا عرفت

هذا فنقول: لو انتسخ الحكم الثابت بالإجماع فإما أن ينسخ بالنص: وهو باطل، لأن ذلك النص، إما أن يقال: إنه كان حاصلاً قبل حصول الإجماع، أو حصل بعده. والأول: باطل. أما أولاً: فلأن شرط الناسخ أن يكون متراخيًا في الورود على ما عرفت ذلك، فالمتقدم في الورود يستحيل أن يكون ناسخًا. وأما ثانيًا: فلأن ذلك الإجماع، حينئذ يكون على خلاف النص ضرورة أن المنسوخ مناف للناسخ، وهو خطأ ممتنع الصدور من أهل الإجماع. والثاني: أيضًا باطل، إذ يستحيل ورود النص بعد وفاة الرسول عليه السلام. أو بالإجماع: وهو أيضًا: باطل، لأن ذلك الإجماع. إما أن لا يكون عن دليل، أو يكون عن دليل. والأول: باطل، لأن القول أو الاعتقاد بغير دليل باطل، فكان الإجماع باطلاً ممتنع الصدور من أهل الإجماع. ولقائل أن يقول: من يجوز صدور الإجماع عن تبخيت اندفع هذا عنه ويلزمه أن يجوز نسخ الإجماع بالإجماع، لأنه يجوز أن يحصل الإجماع الأول عن تبخيت ويصادف ما هو حكم الله تعالى على المكلفين في ذلك الزمان عن تبخيت ناسخ لحكم الإجماع الأول، وهذا الاحتمال أظهر لو قيل معه أنه ليس لله تعالى في كل واقعة حكم معين، بل هو ما ذهب إليه المجتهد.

إما بالتوفيق، أو بالتوقيف "وفيه نظر أن إختلاف حكم الله تعالى بحسب زمانيين بعد انقطاع الوحي يقتضي تكليف ما لا يطاق". والثاني: أيضًا باطل، لأن ذلك الدليل يستحيل حدوثه إذ ذاك نصًا كان، أو قياسًا. وأما القياس: فلأنه يستدعى أصلاً ثابتًا بالنص الحاصل من قبل، لاستحالة حدوث الأقيسة، وحدوث النص، وإذا استحال حدوث ذلك الدليل كان موجودًا من قبل، وهو أيضًا: باطل لما تقدم. فإن قلت: أليس أن الأمة إذا إختلفت في مسألة على قولين: فقد جوزت للعامي الأخذ بأيهما شاء، فإذا اتفقت بعد ذلك على أحد القولين، أو اتفق/ (371/ أ) أهل العصر الثاني: على أحد القولين، فقد منعت العامي من ذلك، وأوجبت عليه الأخذ بأحد القولين عينًا، وهو نسخ الإجماع بالإجماع. وهذا مستند المخالف في هذه المسألة إذ نقل فيه خلاف بعض الناس. قلت: من منع من حصول هذا الإجماع فقد سقط عنه هذا السؤال، ومن جوز، فيقول: لا نسلم أنه نسخ، بل هو زوال حكم لزوال شرطه، فإن جواز الأخذ بكلا القولين على البدلية مشروط عنده بعدم حصول الإجماع على أحد

القولين، فإذا حصل ذلك فقد زال شرطه، وزوال الحكم لزوال شرطه ليس هو من النسخ في شيء على ما عرف ذلك والاستدلال على عدم شرطيته بما سيأتي في الإجماع إن شاء الله تعالى، خروج عن المسألة وانتقال عنها إلى غيرها، وهو غير مسموع عند أهل النظر. أو بالقياس، وهو أيضًا: باطل. أما أولاً: فلما سبق. وأما ثانيًا: فلأن شرط العمل بالقياس أن لا يكون مخالفًا للإجماع، فإذا حصل الإجماع على خلافه فقد زال شرط صحة العمل به، فلم يكن القياس صحيحًا فلم يجز النسخ به، وهذا الوجه آت أيضًا في أنه لا يجوز أن يكون القياس دليل الإجماع الثاني الناسخ للإجماع الأول، وإن "لم" يذكره ثمة هذا كله في أنه لا يجوز نسخ الحكم الثابت بالإجماع. وأما أنه لا يجوز نسخ الحكم الثابت بالإجماع وتغير الإجماع به، فلأن ذلك الحكم، إما أن يكون ثابتًا بالنص، أو بالإجماع، أو بالقياس. فإن كان الأول: فالإجماع الناسخ له إما أن يكون عن دليل، أو لا عن دليل. فإن كان عن دليل، فذلك الدليل: إما أن يكون نصًا، أو قياسًا، إذ لا يتصور أن يكون إجماعًا، لأن الإجماع لا يكون دليلاً على الإجماع، ولو كان: كان الكلام فيه كالكلام في الإجماع الذي هو مدلوله الناسخ للحكم. فإن كان نصًا: كان الناسخ لذلك الحكم النص لا الإجماع.

وإن كان قياسًا: كان القياس ناسخًا لحكم النص بالحقيقة. وهو باطل إذ شرط القياس أن لا يرده النص [فإذا كان منافيًا لحكم النص كان مردودًا، وإن كان] لا عن دليل فيكون خطأ، وإن جوز صدوره عن تبخيت إذ الحق متعين هنا وهو مدلول النص فلا يمكن تصويب ما وقع على خلافه. وإن كان الثاني: وهو أن ذلك الحكم ثابت بالإجماع فهاهنا أيضًا لا يجوز أن يكون الإجماع ناسخًا له لوجين: أحدهما: ما سبق. وثانيهما: أن الإجماع الثاني: لو رفع حكم الإجماع الأول: فلا يرفعه من أصله إذ ليس ذلك مقتضى الناسخ، بل وقت حصوله، وعند ذلك نقول الإجماع الأول لا يخلو إما أن يفيد الحكم إلى تلك الغاية فقط، أو يفيد مطلقًا. فإن كان الأول: لم يكن الإجماع الثاني ناسخًا له، لأن انتهاء/ (372/ ب) الحكم إلى غايته المعلومة ليس بنسخ. وإن كان الثاني: كان أحدهما خطأ، وحينئذ لا يتحقق النسخ. وإن كان الثالث: فهو أن يكون ذلك الحكم ثابتًا بالقياس، فها هنا أيضًا:

لا يجوز أن يكون الإجماع ناسخًا له، وتقريره من حيث الإجمال، والتفضيل، أما الأول: فلأن المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضى القياس حكمًا ثم يحصل الإجماع بعده، على خلاف ذلك الحكم فيزول وحكم القياس وهو ليس من النسخ في شيء، لأن شرط صحة العمل بالقياس، أن لا يحصل الإجماع، فإذا حصل الإجماع على الحكم فقد زال شرط صحة العمل بالقياس، وزوال الحكم لزوال شرطه ليس بنسخ. وأما من حيث التفصيل: فلأن ذلك الإجماع الناسخ له إن لم يكن عن دليل كان خطأ، وإن كان عن دليل، فإن كان نصًا فالناسخ لحكم القياس هو النص لا الإجماع، وإن كان قياسًا إذ لا يمكن أن يكون إجماعًا لما سبق، فإن كان عن قياس راحج كان الحكم الأول باطلاً إذ العمل بالدليل المرجوح مع وجود الدليل الراحج باطل، وحينئذ [لم] يتحقق الناسخ، وإن لم يكن القياس راجح سواء كان لمرجوح أو لمساوي، فحينئذ يكون الإجماع على خلاف ذلك الحكم باطلاً، أما إذا كان القياس مرجوح فظاهر، وأما إذا كان لمساوى فكذلك لأن مقتضاه التخيير أو التساقط، وعلى التقديرين الجزم بمقتضى أحد المتساويين باطل. واحتج المخالف فيه: وهو عيسى بن ابان وبعض المعتزلة:

فإنه نقل عنهم جواز النسخ بالإجماع بوجهين: أحدهما: ما مضى بجوابه. وثانيهما: أن الإجماع دليل شرعي لفظي فجاز النسخ به كغيره من الأدلة. وجوابه: أنه إثبات لكونه ناسخًا بالقياس، وهو غير جائز، لأنه إذا لم يجز النسخ به على ما ستعرف ذلك، فلأن لا يجوز إثبات كون غيره ناسخًا به بالطريق الأولى. سلمنا: التمسك به، لكن الفرق بينه وبين غيره من الأدلة قائم، وهو أن النسخ به يستلزم ما ذكرنا من المفاسد بخلاف غيره من الأدلة فإن ليس فيه ذلك.

المسألة الخامسة في نسخ حكم القياس ونسخ حكم غيره "به"

المسألة الخامسة في نسخ حكم القياس ونسخ حكم غيره "به". أما الأول: فإما أن يكون ذلك في زمان الرسول عليه السلام، أو بعده. فإن كان: في زمانه فيمكن نسخه مع نسخ أصله. وينسخ أصله، وإن لم يتعرض لنسخه، لأنه إذا نسخ أصله بطلت علته المبنى عليها الحكم. ونقل فيه خلاف الحنيفة إذ جوزوا صوم رمضان بنية من النهار، قياسًا

على ما ثبت من صحة صوم عاشوراء، بنية من النهار حين/ (373/ أ) كان واجبًا مع زوال حكمه بالنسخ، وبقاء الفرع على حاله، لكن لا يكون هذا النسخ إلا بالنص لأن حكم النص لا ينسخ بالقياس. وأما نسخ القياس بالإجماع فغير متصور لأنه لا يحصل في زمانه عليه السلام. وهل يمكن نسخه بدون نسخ أصله، فهذا ينبغي أن يكون محل الخلاف فجوزه الجماهير. وأباه بعضهم: كالقاضي عبد الجبار. وأما المجوزون فقالوا: يجوز نسخه بالنص. بأن ينص في ذلك الفرع بأن الحكم فيه كذا على خلاف مقتضى القياس، وبالقياس بأن ينص على حكم آخر ضد حكم أصل ذلك القياس، والأمارة الدالة "على" علته المشترك بين هذا الأصل وبين الفرع، راجحه على الأمارة الدالة على علته المشتركة بين [المستنبط من حكم] الأصل الأول وبين الفرع. وأما المانعون منه فقالوا: العلة المستنبطة من حكم الأصل كالفحوى بالنسبة إلى الأصل، فكما لا يجوز نسخ الفحوى بدون الأصل فكذا لا يجوز نسخ العلة بدونه.

وجوابه: منع أن تكون لعلة الفحوى، وهذا لأن نسخ الفحوى مع بقاء حكم الأصل مناقض للغرض، وليس نسخ العلة مع بقاء حكم الأصل كذلك. سلمناه: لكن لا نسلم أن ذلك لا يجوز. هذا كله في نسخ حكم القياس في حال حياة الرسول عليه السلام. فأما بعده فلا يتصور نسخه، لأنه لو نسخ، فأما أن ينسخ بالنص، وهو باطل، لأنه لو نسخ به، فأما أن يكون بنص حادث بعد وفاة الرسول، وهو باطل لاستحالة ورود النص بعد وفاة الرسول، أو بنص كان موجودًا من قبل، لكن لمجتهد المستنبط لعلة القياس ما كان يعلمه، مع إستقصاء البحث والتفتيش عنه حين أثبت الحكم بالقياس. ثم وجده، وهو أيضًا: باطل. لأنه تبين إذ ذاك أن حكم القياس مرتفع من أصله، وكان باطلاً وليس هو من النسخ في شيء لا في اللفظ، ولا في المعنى، سواء قيل: أن كل مجتهد مصيب، أو لم يقل بذلك. وكلام أبي الحسين البصري مشعر بالفرق، لأن معنى النسخ، إما رفع

لحكم، أو بيان انتهائه، وعلى التقديرين، إنما يبطل الحكم فيه من حينه لا من أصله، فما تبين أنه كان باطلاً من أصله لا يكون نسخًا في المعنى أيضًا: ولو سمى إنسان زوال التعبد عن الحكم كيف ما كان نسخًا، فهذا حينئذ يكون نسخًا خلاف المصطلح عليه لفظًا ومعنى، أو ينسخ بالإجماع، وهو أيضًا باطل لما تقدم "إن الإجماع لا يكون ناسخًا، أو بقياس وهو أيضًا باطل". لأن الكلام فيه على "النسق" الذي مضى على النص/ (373/ ب). وأما الثاني: وهو نسخ حكم "غير" القياس به فقد اختلفوا فيه. فمنهم: من جوزه مطلقًا. ومنهم: من منع مطلقًا. ومنهم: من فرق بين الجلي وغيره، فجوز بالجلي، دون غيره. وهو قول أبي القاسم الأنماطي.

وهذا الخلاف أيضًا: ينبغي أن يكون في حال الرسول عليه السلام لما سبق، من أنه لا يمكن نسخ حكم القياس بالقياس، بعد وفاته عليه السلام وبالنسبة إلى حكم ثابت بالقياس، إذ الثابت بالنص لا ينسخ بالقياس الظني. فأما بالقياس القطعي سواء نص على عليته، أو لم ينص كقياس الأمة على العبد في تقويم نصيب الشريك على الشريك المعتق، فإنه يجوز لأنه في معنى النص على الحكم. وأما الثابت بالإجماع، فلا يمكن نسخه به لما تقدم من أن الإجماع لا ينسخ كما لا ينسخ. واحتجوا بوجهين: أحدهما: أن آية التخفيف وهي قوله: {الآن خفف الله عنكم} الآية نسخت آية التشديد، وهي قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} وليس نسخها إياها بصراحة اللفظ بل بالتنبيه، وهو نسخ بالقياس.

وجوابه: أنه إن أراد بالتنبيه التنبيه على علة القياس، أو القياس إذ يجوز أن يكون القياس منبهًا عليه بدون علته، ثم تستخرج علته بالنظر فممنوع. وإن أراد ما هو أعم منه بحيث يتناول المفهوم وغيره فمسلم، لكنه ليس نسخًا بالقياس، بل بمفهوم اللفظ. وثانيهما: القياس على التخصيص والجامع كون كل منهما بيانًا. وجوابه: الفرق بينهما وقد تقدم ذكره. سلمنا صحته لكنه منقوض بالإجماع وخبر الواحد، ودليل العقل.

المسألة السادسة في نسخ المفهوم والنسخ به

المسألة السادسة في نسخ المفهوم والنسخ به أما مفهوم الموافقة: فقد اتفق الكل على أنه يجوز به نسخ كل ما يجوز نسخه لأن دلالته إن كانت لفظية فظاهر، وإن كانت معنوية فكذلك، لأنها قطعية غير قابلة للتأويل فهي كدلالة النص. فأما نسخه مع نسخ الأصل فهذا أيضًا مما لا نزاع فيه وهو ظاهر. وأما نسخ الأصل بدون الفحوى، أو نسخ الفحوى بدون الأصل فقد اختلفوا فيه: فذهب أصحابنا، والمعتزلة: إلى أن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفخوى. ونقل فيه خلاف الحنفية: وهو غير بعيد "بل هو متجه" لأن المقتضى لثبوته قائم، وهو المقتضى لثبوت حكم الأصل، والناسخ الرافع للأصل غير رافع له حتمًا، لجواز أن يكون مقتصرًا على رفعه فقط. ولهذا يجوز أن يصرح بنفي تحريم التأفيف مع التصريح بتحريم الضرب/ (374/ أ) وإذا كان كذلك وجب أن لا يفيد نسخ الأصل نسخ الفحوى.

وهذا الدليل وإن كان لازمًا على الكل، لكن على من يقول من اصحابنا، كالإمام وغيره: إن نسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز ألزم. وعلى هذا "بنو أن نسخ" قوله عليه السلام: "من قتل عبده قتلناه" لا قتضى نسخ مفهومه، وهو أنه يقتل بقتل عبد غيره بالطريق الأولى.

احتج الجماهير: بأن الفحوى تبع الأصل، فإذا زال المتبوع زال التبع. وجوابه: أنه تابع له في الثبوت في مثل هذا الخطاب لا مطلقًا ولهذا يعقل ثبوت حكم الفحوى بدون حكم الأصل، وفي مثل هذا التابع لا نسلم أن زوال المتبوع يوجب زوال التابع. سلمناه: لكنه منقوض بالجواز إذا نسخ الوجوب. فأما نسخ الفحوى بدون الأصل فغير جائز عند أبي الحسين البصري وهو مختار الأكثر. وتردد فيه القاضي عبد الجبار، فعلى هذا نسخ الفحوى يستلزم نسخ

الأصل عند أبي الحسين، ولا يستلزم عند القاضي على رأي. احتج أبو الحسين: بأن نسخ الفحوى مع بقاء الأصل مناقض للغرض، ألا ترى أنه إذا حرم التأفيف إعظامًا للأبوين كانت إباحة ضربهما نقضًا للغرض. واحتج القاضي: بأن الفحوى، إما تابع، أو غير تابع، بل تحريمه وتحريم الأصل نازل منزلة تحريم شيئين. فإن كان الأول: وجب أن لا يكون رفعه رفع حكم الأصل، لأن رفع [حكم] التابع لا يستلزم رفع المتبوع. وإن كان الثاني: لم يكن نسخ تحريمه مستلزمًا لنسخ تحريم الأصل أيضًا: كما في كل شيئين إذا حرما معًا. وجوابه: أن المتبوع إذا كان ملازمًا للتابع، فلا نسلم أن رفعه لا يستلزم رفع المتبوع. وأما مفهوم المخالفة: فيجوز نسخه مع نسخ الأصل، وبدونه "هو" ظاهر إذ لا يصير نقضًا على الغرض، كما في مفهوم الموافقة. وهو كقوله عليه السلام: "الماء من الماء"، نسخ مفهومه بقوله عليه السلام:

"إذا التقى الختانان وجب الغسل" وبقى أصله وهو وجوب الغسل من الإنزال. فأما نسخ الأصل بدونه فيحتمل أن لا يجوز، ويحتمل أن يجوز، ولا يخفى مأخذهما مما سبق، وإن كان الأظهر هو الاحتمال الأول: لأنه إنما يدل على العدم باعتبار ذلك القيد المذكور فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل ما يبنى عليه. فعلى هذا نسخ الأصل نسخ للمفهوم، وليس المعنى منه أن يرتفع العدم ويحصل الحكم الثبوتي، بل المعنى فيه أن يرتفع العدم الذي كان شرعيًا ويرجع إلى ما كان/ (374/ ب) عليه من قبل.

"الفصل الثالث" فيما اختلف فيه أنه ناسخ وليس هو بناسخ وفيه مسائل:

"الفصل الثالث" فيما اختلف فيه أنه ناسخ وليس "هو" بناسخ

"الفصل الثالث" فيما اختلف فيه أنه ناسخ وليس "هو" بناسخ وفيه مسائل: المسألة الأولى في الزيادة على النص هل هو نسخ أم لا؟ فنقول: اتفق الكل على أن زيادة عبادة مستقلة سواء كان من جنس المزيد عليه، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس، أو لم يكن من جنسه كزيادة عبادة ليس من جنس الأركان الخمسة، ليس نسخًا للمزيد عليه. وإنما جعل بعض أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخًا لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} دون الصلوات الخمس "لأنها" تجعل الوسطى غير الوسطى. وهو ضعيف، لأنه يلزمهم أن يقولوا: بنسخ الصلوات الخمس إذا زيدت صلاة سادسة في آخرها، لأنه يجعل الأخيرة غير الأخيرة. ويجعل عددها

ستة ويخرجها عن كونها خمسًا فقط وتخرجها عن أن يكون لها وسط. وقد زيف بوجه [آخر] وهو: أن كون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بشرعي والنسخ إنما يتطرق إلى الحكم الشرعي لا غير. وفيه نظر. لأن الحكم العقلي يصير شرعيًا إذا ورد الشرع به وقرره عليه، فحينئذ يكون نسخًا للحكم الشرعي. وأيضًا: كون صلاة منها بعينها وسطى ليس أمرًا حقيقًا لا يختلف، بل كون صلاة منها أي صلاة كانت وسطى أمر حقيقي. واختلفوا في الزيادة التي لا تكون كذلك. كزيادة الركعة في صلاة واحدة وكزيادة التغريب على الجلد في حد الزنا، وكزيادة صفة الإيمان في مطلق الرقبة الواجبة في الكفارة.

فذهب الشافعي، وأصحابه والحنابلة، وجماعة من المعتزلة، كأبي علي، وأبي هاشم: إلى أنه لا يكون نسخًا. وذهبت الحنفية إلى أنها تكون نسخًا. ومنهم: من فصل وذكروا فيه وجوهًا:- أحدها: أن الزيادة إن كانت تفيد خلاف ما أفاد النص بمفهوم المخالفة كمفهوم الصفة، أو الشرط، أو الغاية، كانت الزيادة نسخًا وإلا فلا. وثانيها: أن الزيادة إن كانت مغيرة للمزيد عليه تغييرًا شديدًا بحيث إن لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة كان وجوده، كعدمه ووجب استئنافه، فإنه يكون نسخًا، نحو زيادة ركعة على صلاة الصبح، أو الظهر، وإن لم تكن كذلك بل يقع معتدًا به ولا يجب استئنافه، وإنما يجب أن يضم إليه

تلك الزيادة لم يكن نسخًا نحو زيادة التغريب على الجلد المذكور في الكتاب، ونحو زيادة عشرين جلدة عليه مثلاً، وهو قول القاضي عبد الجبار/ (375/ أ) [قريب منه ما قاله الشيخ الغزالي رحمه الله]. "وثالثها": أن الزيادة إن كانت متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كانت نسخًا، نحو زيادة ركعتين على ركعتي الصبح وإلا فلا، نحو زيادة عشرين جلدة على حد القاذف "ونحو الشرط وزيادته"، وهو اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى. ورابعها: أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخًا، نحو زيادة عشرين جلدة على الجلد المذكور في حد الزنا، ونحو زيادة التغريب عليه، ونحو زيادة النية على الطهارة، وإن لم يغير حكمه نحو زيادة وجوب ستر الركبتين على ستر الفخذين، ونحو وجوب قطع رجل السارق

بعد قطع يده لم يكن نسخًا، وهو قول الكرخي وأبو عبد الله البصري. وخامسها: وهو طريقة أبي الحسين البصري، وهي أجودها وأحسنها فقال: النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة: أحدها: أن الزيادة على النص، هل يزيل أمرًا كان قبلها أم لا؟. والحق أنها تزيل، لأن إثبات كل شيء لا أقل من أن يزيل عدمه السابق عليه، كيف وهي تزيل كون المزيد عليه وحده مجزئًا ومخرجًا عن عهدة التكليف وكونه كل الواجب. وثانيها: أن الدلالة التي يحصل بسببها، هل يسمى نسخًا. والحق أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة، إن كان حكمًا شرعيًا، وكانت الزيادة، متراخية عنه كان ذلك الزوال نسخًا. وإن كان حكمًا عقليًا لم يسمى نسخًا اصطلاحًا وإن سمى به لغة. وثالثها: أنه هل يجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والإجماع والقياس أم لا؟. والحق أنه يجوز حيث يكون الزائل حكمًا عقليًا إلا [أن] يمنع منه مانع،

نحو أن يقال: إن خبر الواحد لا يقبل فيما تعم به البلوى فحينئذ لا يقبل، لكن لا تعلق له بالمسألة إذ لا يقبل ذلك ابتداء أيضًا: عند من يقول به، وإن لم يكن الزائل حكمًا عقليًا بل شرعيًا، فلتنظر في دليل الزيادة، فإن كان مما لا يجوز نسخ الحكم الزائل به لم يقبل وإلا فقبل. فإن قلت: فلو قيل فلينظر في دليل الزيادة، فإن كان مما لا يجوز نسخ المزيد عليه به لم يقبل وإلا فقبل. فهل تقوم هذه العبارة مقام تلك العبارة، فإن ما يدل على المزيد [عليه] هو الدال بعينه على الحكم الزائد فوجب أن تقوم إحداهما مقام الأخرى. قلت: فيه نظر. لأنا نسلم أن دليلهما واحد، لكن يجوز أن تختلف دلالته عليهما بأن يدل على المزيد عليه بطريق المنطوق وعلى الحكم الزائل بطريق مفهوم المخالفة على رأي/ (375/ ب) من يقول به، وخبر الواحد لو ورد في نسخ منطوق

مقطوع المتن لم يقبل كما تقدم ولو ورد في نسخ ما يدل عليه بطريق مفهوم المخالفة وما يجري مجراه فإن الظاهر أنه يقبل إذ هو مظنون المتن أيضًا إذ لم يثبت بقاطع أنه حجة، وحينئذ يظهر أنه لا تقوم العبادة الثانية مقام العبادة الأولى، ولو ثبت أن كل ما نقل في نسخ الحكم الزائد يقبل في نسخ المزيد عليه، وما لا فلا لقامت إحدى العبارتين مقام الأخرى، لكن لم يثبت ذلك، لنا على الحقيقة على وجه الإجماع: هو أن نسخ عبارة عن إزالة الحكم الشرعي، وليس من ضرورة الزيادة أن يزيل حكمًا شرعيًا، بل قد لا يزيل إلا الحكم العقلي كما ستعرف ذلك في الفروع الآتية التي هي مبنية على هذا الأصل، وإذا كان كذلك، وجب أن لا يحكم عليها بأنها ناسخة على الإطلاق. وأما على وجه التفصيل: فإنما يظهر ذلك بتعيين الكلام في كل واحد من الفروع التي هي مبنية [على هذا] الأصل. ولنتكلم فيها وهي فروع: الفرع الأول: قبل أصحابنا خبر الواحد في إيجاب التغريب على الزاني، ولم يقبله الحنفية زعمًا منهم أنه زيادة ناسخة لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز قلنا: نسلم أنه زيادة عليه، لكن لا نسلم "أنها" ناسخ له. وهذا لأن "إيجاب" مائة جلدة أعم من إيجابها مع التغريب، ومن

إيجابها بدونه، والدال على القدر المشترك بين الصورتين، لا دلالة له على ما به يمتاز أحدهما عن الأخرى، فلا دلالة للنص الدال على إيجاب مائة جلدة على الزاني على نفي التغريب ولا على وجوده، فلا يكون إثباته بخبر الواحد: نسخًا له، ولأنه يصح أن يقال: أوجب الجلد مع التغريب، أو أوجب بدونه، فلو كان إيجاب الجلد دالاً على نفي التغريب لكان الأول نقضًا، والثاني تكرارًا. وأيضًا: وجوب الجلد ماهية، ووجوب التغريب ماهية أخرى، ولا تعلق لأحديهما بالآخر، فاللفظ الدال على وجوب الجلد لو دل على نفي التغريب، فإما أن يدل بطريق الإشتراك، أو بطريق التجوز. والأول: باطل، لأن الاشتراك خلاف الأصل. سلمناه: لكن لم يقل أحد من الأمة أن قوله تعالى: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} مشترك بين إيجاب الجلد وبين التغريب، فكان باطلاً. سلمناه: لكنه قد أريد منه أحد المعنيين بالإجماع فلم يجز إرادة الآخر/ (376/ أ) إذ المشترك لا يستعمل في المفهومين المختلفين، والخصم والبرهان يساعدان عليه. والثاني: أيضًا باطل، لأن شرط التجوز حصول العلاقة والمناسبة ولا علاقة بينهما ولا مناسبة. سلمناه: لكنه باطل لما سبق من أنه لا يستعمل اللفظ الواحد في المفهومين المختلفين.

فإن قلت: أليس أن قبول خبر الواحد في إيجاب التغريب يقتضي رفع كون الجلد وحده مجزئًا، وهو حكم من أحكامه، وروفع كونه كل الحد ورفع كون الإمام لا يفسق أو لا يأثم بتركه، ورفع كونه بحيث يجب الاقتصار عليه، ورفع كون غيره ليس بواجب، ورفع كون الفاء للجر في قوله تعالى: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}. إذ الجزاء: إما يكون كافيًا وكونه كافيًا يمنع من وجوب غيره. قلت: لا نزاع في أنه رافع لما ذكرتم من الأحكام، لكنها أحكام عقلية وتابعة للحكم العقلي، فإن كون غيره ليس بواجب حكم عقلي لا يرتاب العاقل منه، وكونه وحده مجزئًا وكمال الحد، وكون الإمام لا يأثم بتركه وكونه بحيث يجب الاقتصار عليه فكلها أحكام تابعة للحكم العقلي، وإزالة الحكم العقلي ليس نسخًا، فيجوز قبول خبر الواحد فيه، كما يجوز قبوله وفاقًا في إثبات عبادة مستقلة مع أنه يزيل كون العبادات الواجبة قبلها كل الواجبات، وكون غيرها ليس بواجب، وكون المكلف ما كان يأثم بترك غيرها ولا كان يرد شهادته وروايته بترك "غيرها". وأما كون "الفاء" للجزاء فممنوع وهذا لأنها حقيقة في التعقيب وفاقًا، فلو كانت حقيقة في الجزاء أيضًا لزم الاشتراك، وأنه خلاف الأصل، ولو استعمل فيه باعتبار التعقيب وهو الصحيح من حيث إن الجزاء يوجد عقيب الشرط لم يكن

لها دلالة على خصوصية الجزاء فليس لكون الفاء للجزاء معنى. سلمنا: ذلك، لكن لا نسلم أن الجزاء ما يكون كافيًا، وهذا لأنه يصح أن يقال: هذا كل الجزاء، وهذا بعض الجزاء ولو كان اسمًا، للكافي لكان الأول: تكرارًا، والثاني نقضًا. سلمنا: ذلك لكن إنما يكون نسخًا لو ثبت أن ورود الخبر كان بعد حضور وقت العمل بالنص، فإن بتقدير أن يكون واردًا قبل حضور وقته كان ذلك دليلاً على أنه ما أريد منه حقيقته، ورفع حكم الدليل إنما يكون نسخًا بعد ثبوت حكمه واستقراره، فأما قبل ذلك فلا لاحتمال أن يقال: إنه ما أريد به ذلك الحكم واستعمل اللفظ على وجه التجوز ولم يبين إذ ذاك، فإن تأخير بيان المجاز والتخصيص إلى/ (376/ ب) وقت الحاجة جائز والحمل على ذلك إذ ذاك [أولى] من حمله على النسخ، وإن كان محتملاً له على رأينا، لما تقدم من قبل أن احتمال الاشتراك خير من النسخ، واحتمال التجوز والتخصيص خير منه فيكون خيرًا من النسخ، وحينئذ لم لا يكن الخبر ناسخًا لمدلول القائل هو ذاك على أنه ما أريد به الجزاء الكافي. سلمنا: ذلك لكن نحن إنما نقبل الخبر بتقدير أن لا يكون في النص ما يدل على نفي مدلوله، فلو ثبت أن فيه ذلك فلا يقبله، فإنا إنما لا نجعل الزيادة على النص نسخًا إذا لم ينف من مدلوله شيئًا، فعلى هذا نطلب له فرعًا آخر مطابقًا له.

الفرع الثاني: إذا أوجب الشارع الزكاة في معلوفة الغنم لم يكن ذلك نسخًا لقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم زكاة" عند من لم يقل بدليل الخطاب لأنه لم يرفع شيئًا من مدلوله، بل إنما يرفع شيئًا لم يتعرض له الخبر لا بنفي ولا إثبات، فيكون المرفوع حكمًا عقليًا، وليس هو من النسخ في شيء. فأما من يقول به فإنه يكون نسخًا لو ثبت أن المفهوم مراد من الخطاب. أما بتأخير البيان عن وقت الحاجة أو بدليل آخر، فأما قبله فلا لما سبق من أن رفع حكم الدليل إنما يكون نسخًا بعد ثبوت حكمه واستقراره فأما قبله فلا. الفرع الثالث: اشتراط النية في الطهارة والغسل ليس نسخًا لنص الوضوء والغسل، لأن إيجاب غسل جميع البدن أعم من إيجاب غسله مع إيجاب النية أولاً مع إيجابها، والدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به الامتياز ولا دلالة للنص الدال على إيجابهما لا على عدم وجوب النية ولا على وجوبها فلا يكون النص المثبت لها نسخًا للنص الدال على وجوبهما مطلقًا.

الفرع الرابع: تقييد الرقبة بالإيمان، ليس نسخًا للنص الدال على وجوبها مطلقًا حيث ورد كذلك لما سبق، بل هو تقييد للمطلق وحكمه حكم التخصيص. فيجوز إثباته بخبر الواحد والقياس حيث لم يعلم أن المطلق على إطلاقه مرادًا، أما إذا علم ذلك بسبب تأخير البيان عن وقت الحاجة، أو بدليل آخر مقطوع المتن فلا. الفرع الخامس: إذا أمر الله بقطع يد السارق، وإحدى رجليه على التعيين، فإباحة قطع رجله الأخرى إنما يرفع عدم إباحة قطعها الثابت بحكم العقل لا شيئًا من مقتضيات النص، فلا تكون إباحته/ (377/ أ) نسخًا [له] فيجوز إثباته بخبر الواحد والقياس. الفرع السادس: إذا أوجب الله تعالى علينا شيئًا بعينه كغسل الرجلين، ثم أوجب علينا غيره بدلاً عنه على التخيير، كالمسح على الخفين أو أوجب علينا الحكم بشهادة شاهدين وشهادة شاهد واحد وامرأتين على التخيير، ثم أوجب

علينا الحكم بشهادة شاهد واحد ويمين على التخيير، هل يكون ذلك نسخًا للنص الدال على الحكم الأول حتى لا يقبل فيه المظنون إذا كان هو مقطوعًا به. اختلفوا فيه: والحق، أنه ليس بنسخ، لأنه لم يرفع ما دل عليه الإيجاب الأول: وهو ترتب العقاب على ترك ما أوجبه فإنه يعاقب على تركه إذ ذاك على بعض الوجوه. وإنما يزول إذ ذاك ترتب العقاب على تركه عينًا وهو تابع لحكم عقلي، وترتب العقاب على تركه أعم من أن يكون على تركه عينًا أو لا يكون على تركه عينًا، بل على بعض الوجوه، والدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به الامتياز، وحيث يعلم ترتب العقاب على ترك الواجب بعينه، فإنما يعلم ذلك لأنه لم يجب غيره لا لدلالة الإيجاب عليه وهو حكم عقلي بارتفاع العقاب على تركه عبثًا تابع لارتفاع حكم عقلي وإيجاب شيء آخر إنما يرفع هذا الحكم العقلي لا غير فإذا ارتفع الأصل ارتفع ما هو تبع له فلم يكن يجاب شيء آخر بعد إيجابه نسخًا له، وعلى هذا الكلام فيما إذا كان الواجب شيئين على التخيير ثم أوجب شيء ثالث. والعجب من الحنفية أنهم لم يقبلوا خبر الواحد في وجوب الحكم بالشاهد واليمين لزعمهم أنه نسخ لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} مع أنه ليس فيه سوى زيادة التخيير التي لا يدل عليها النص لا بنفي ولا إثبات، وقبلوا خبر نبيذ التمر مع أنه

رافع لوجوب التيمم عند فقد الماء الثابت بقوله تعالى: {فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا}. فإن قلت: أن نبيذ التمر ماء فلم يكن الخبر واقعًا لوجوب التيمم عند فقد الماء. قلت: لا يفهم نبيذ التمر من إطلاق الماء كان معرفًا أو منكرًا، ولو استدلوا عليه بما في الحديث من قوله "ثمرة طيبة وماء طهور" لزمهم التسوية بينه وبين غيره من المياه.

ولو سلم أنه لا يلزمهم التسوية، لكنه حينئذ يكون رافعًا لإطلاق {فاغسلوا وجوهكم} ضرورة أنه لا يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه وتقييد مدلول النص المطلق نسخ لذلك النص عندهم. فإن/ (377/ ب) قلت: أليس أن مفهوم قوله: {واستشهدوا شهيدين

من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} يدل على أنه لا يجوز الحكم بغيرهما والخبر برفع هذا المفهوم فكان نسخًا له. قلت: لا نسلم أنه يكون نسخًا له، وإنما يكون كذلك إن لو ثبت أن المفهوم مراد من الخطاب لما سبق من أن النسخ إنما يتطرق الخطاب بعد ثبوته واستقراره لكن ذلك ممنوع، ولو سلم ذلك لكنه نسخًا لمفهوم الخطاب لا للخطاب نفسه، لكن لا نسلم أن ذلك لا يجوز. سلمنا: ذلك لكن لا يليق ذلك بمذهب من رد الخبر فإنه لا يقول بالمفهوم. السابع: قال أبو الحسين البصري: زيادة ركعة على ركعتين ليست نسخًا لحكم الدليل الدال على وجوب ركعتين، لأنها لو كانت نسخًا لحكم من أحكامه فإما أن يكون نسخًا للركعتين، وهو باطل، لأن النسخ لا يتعلق بالأفعال ولأن الركعتين لم يرتفعا بزيادة الركعة، أو نسخًا لوجوبهما، وهو أيضًا باطل لأن وجوبهما لم يرتفع، بل هو ثابت لكن قبل الزيادة كان الثابت وجوبهما فقط، وبعد الزيادة وجوبهما مع وجوب الزائدة بالدليل بعد الزيادة، إنما هو الوجوب بوصف كونه واجبًا فقط وهو تابع لحكم عقلي، وهو عدم وجوب غيرهما أو نسخًا لإجزائهما، وهو أيضًا: باطل، لأنهما يجزيان لكن قبل الزيادة بانفرادهم، أو بعد الزيادة مع الركعة الأخرى فلم يرتفع إجزاؤها بالكلية، بل إنما ارتفع إجزاؤهما بدون الركعة الزائدة وذلك تابع

لنفي وجوبها، أو يكون نسخًا لوجوب التشهد عقيب الركعتين، وهو أيضًا، باطل لأن وجوبه عقيب الركعتين إنما كان لكون تمام الركعتين كان آخر الصلاة ووجوبه في آخر الصلاة باق غير مرتفع، وإنما ارتفع خصوصية وجوبه عقيب الركعتين، وذلك تابع لحكم عقلي، وهو عدم وجوب غيرهما هذا إذا زيدت قبل التشهد. فأما إذا زيدت بعد التشهد وقبل السلام فظاهر أنها ليست نسخًا، لوجوب التشهد في محله إذ هو باق على حالته، وإنما يكون الكلام في نسخ السلام، وهو على نمط ما تقدم فيما إذا زيدت قبل التشهد وإذا لم يكن نسخًا لحكم من أحكام دليله، لم يكن نسخًا له مطلقًا فيقبل فيه خبر الواحد أو القياس لو أمكن. وكلام الإمام وغيره صريح في أنها تكون نسخًا لوجوب التشهد عقيب الركعتين إن كانت الزيادة/ (378/ أ) [قبل التشهد أو لوجوب التسليم بعد التشهد إن كانت الزيادة] بعده واستدل عليه بأن وجوب التشهد بعد الركعتين حكم شرعي وقد ارتفع ذلك بسبب الزيادة فيكون نسخًا. وفيه نظر. لأنه وإن كان حكمًا شرعيًا، لكنه تابع للحكم العقلي كما قررناه وهو لم يجعل رفع "مثل" هذا نسخًا في كثير من الفروع.

فكيف جعله نسخًا هنا؟. وإذا زاد الشارع إيجاب غسل عضو في الطهارة غير الأعضاء المعهودة. فهل يكون ذلك نسخًا لحكم دليله؟ فمن قال في المسألة الأولى: لا يكون نسخًا فهاهنا أولى. وأما من قال بذلك فيها. فمنهم من قال به هنا أيضًا كالغزالي. ومنهم من لم يقل بذلك كالقاضي عبد الجبار. ووجه الفرق بينهما: من حيث الصورة ما تقدم عند بيان المذاهب، والكلام في الاحتجاج على نسق ما تقدم فلا حاجة إلى الإعادة. الثامن: زيادة شرط في صحة العبادة، والمعاملة ليست نسخًا لوجوب تلك العبادة، ولا لشرعية تلك المعاملة لبقاء الوجوب والشرعية بعد الزيادة ولا لصحتهما، لأن صحتهما باقية لكن قبل الزيادة كانتا صحيحتين بدون الشرط، وبعدها لا يصحان بدونه، لكن ذلك تابع لنفي الحكم العقلي، وهو عدم وجوب ذلك الشرط المرتفع بوجوبه، وليس إزالة الحكم العقلي وتابعه نسخًا شرعيًا، فيجوز قبول خبر الواحد والقياس في ذلك، فلا يكون اعتبار الطهارة في الطواف في كونه معتدًا به نسخًا لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} حتى لا يقبل فيه قوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة" مطلقًا

أو فإن كان قبل لكن بالنسبة إلى وجوب الطهارة فيه فقط، لا بالنسبة إلى عدم الإجزاء بدونه، كما قبله أبو حنيفة رضي الله عنه. التاسع: نحو قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} يفيد كون أول الليل غاية وطرفًا للصوم، وإن بعده على خلاف ما قبله، على ما تقرر أن مفهوم الغاية حجة فلو ورد خبر واحد أو قياس يقتضي "مد الصوم" إلى غيبوبة الشفق بعد تقرر أن المفهوم مراد من الخطاب لم يقبل، لأنه يرفع كون أول الليل طرفًا وغاية للصوم، وهو نسخ حقيقة، كما لا يقبل ذلك فيما إذا قال: صوموا صومًا آخره وغايته أول الليل، وهذا إنما يستقيم لو لم يجز نسخ مفهوم المقطوع بالمظنون، فإن دلالة "إلى" على أن ما بعدها مخالف لما قبلها إنما هي بطريق المفهوم لا بالوضع، وإن جعلت مشتركة بين دخول الغاية وعدم دخولها، فإن دلالتها على عدم دخولها غير/ (378/ ب) دلالتها على عدم الحكم فيها، وغير مستلزمة لها، لأن الدلالة الأولى أعم من الثانية، والعام يستلزم الخاص. وفيه نظر.

كما تقدم، وبهذا ظهر الفرق بينه وبين ما إذا قال: صم صومًا آخره الليل، فإن دلالة قوله: آخره الليل، على أن أول الليل غاية وطرفًا للصوم إنما هي بطريق المطابقة لا بطريق المفهوم. والإمام جزم في هذا المكان أنه يكون نسخًا لا يقبل فيه خبر الواحد والقياس. فلعله فرع على أن مفهوم الغاية حجة، وأن لا يجوز نسخ مفهوم المقطوع بالمظنون مع أن كلامه فيما تقدم صريح في أنه لم يثبت ذلك. تنبيه: اعلم أن إزالة الذي لا يدل عليه الخطاب بصراحته أو بمفهومه على رأي من يقول به إنما لا يجعله نسخًا، إذا لم يعلم ثبوت ذلك في دينه عليه السلام. فأما إذا علم ذلك فإنه يكون نسخًا. وإن لم يدل عليه الخطاب لا بصراحته ولا بمفهومه، فحينئذ لا يجوز قبول خبر الواحد والقياس في إزالته.

المسألة الثانية اتفقوا على أن إسقاط شيء من العبادة، أو شيء من شروطها، أو شيء من سننها ومستحباتها: "نسخ لما سقط"

المسألة الثانية اتفقوا على أن إسقاط شيء من العبادة، أو شيء من شروطها، أو شيء من سننها ومستحباتها: "نسخ لما سقط" وكلام الشيخ الغزالي مشعر بالخلاف فيه أيضًا. وإنما اختلفوا في أن إسقاط ما يتوقف عليه صحة العبادة هل يكون نسخًا للعبادة أم لا؟ فذهب الكرخي، وأبو الحسين البصري، وجماعة من المحققين: إلى أن ذلك لا يكون نسخًا للعبادة سواء كان المنسوخ جزءًا أو شرطًا. ومنهم من قال: إنه يكون نسخًا.

ومنهم من فصل بين الجزء، والشرط. فقال: إسقاط الجزء نسخ للعبادة، وإسقاط الشرط ليس نسخًا: وهو مذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الشيخ الغزالي في الجزء. وخالفه في الشرط من حيث إنه تردد فيه وهذا في الشرط المتصل كالتوجه إلى القبلة في الصلاة وترك الأفعال فيها. فأما الشرط المنفصل من العبادة كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فإيراد بعضهم كالإمام وغيره مشعر بأنه لا خلاف فيه. وإطلاق البعض مشعر "بخلاف في الكل". احتج الأولون: بأن الصلاة إذا كانت أربع ركعات فالمقتضى لها مقتضى للركعتين فخروج الركعتين عن أن تكون عبادة لا يقتضى خروج الركعتين الأخرتين عن أن تكون عبادة ولو اقتضى/ (379/ أ) ذلك لوجوب أن لا يجب الإتيان بهما كما بالركعتين المنسوختين، لكن ذلك خلاف الإجماع، إذا أجمعت الأمة على أنه يجب الإتيان بالركعتين الباقيتين. وبهذا ظهر أنه لا يلزم من القول بأن نسخ الوجوب نسخ للجواز

القول بأن نسخ الركعتين نسخ للعبادة، فإن عند نسخ الوجوب لا يثبت القائل بنسخ الجواز بل يرد الأمر إلى ما كان قبل الإيجاب، وهذا ليس كذلك، بل يجب الإتيان بالركعتين الباقيتين وهو ظاهر غني عن التنبيه، وإنما نبهنا عليه لأن سياق دليلهما واحد فلا يظن أنه يلزم من القول بلزوم نسخ الجواز، القول بلزوم نسخ العبادة فيما نحن فيه. ولقائل: أن يقول: إنا نسلم أن نسخ الركعتين لا يوجب نسخ الركعتين الباقيتين، لكن لم قلتم: إنه لا يوجب نسخ أصل العبادة، فإن نسخ أصل العبادة عندنا قد يكون بحيث لا يكون شيء منها مشروعًا، وقد يكون بحيث يبقى شيء منها مشروعًا، وإذا كان كذلك لا يكون بقاء وجوب الركعتين دليلاً على عدم نسخ أصل العبادة. واحتجوا بوجهين: أحدهما: أن الشارع إذا أوجب أربع ركعات ثم نسخ منها وجوب ركعتين فقد نسخ وجوب أصل العبادة، ضرورة أن وجوب أربع ركعات لم يبق إذ ذاك، والركعتان اللتان حكم بوجوبهما بعد النسخ عبادة أخرى غير الأربع المفروضة أولاً، وليس أيضًا بعضًا من الأربع المفروضة أولاً، بدليل أنهما لو كانتا بعضًا منهما لكان من صلى الصبح أربعًا فقد أتى بالواجب وزيادة، كمن أمر بصوم النهار فصام النهار والليل، وبالإجماع ليس كذلك، فعلم أنهما ليس بعضًا من الأربع المفروضة أولاً.

وجوابه: أن التصديق مسبوق بالتصور فما المعنى من قولك. إن نسخ بعض العبادة أو نسخ شرطها "لا تلك" العبادة. فإن عنيتم به أن حكم تلك العبادة من الوجوب وغيره لا يبقى، بل يرتفع من حيث إنه كل فهذا صحيح لا ننازعكم فيه، ولا حاجة في إثبات هذا الاستدلال، بل ادعاء الضرورة كاف فيه، فإن الكل وحكمه من حيث إنه كل ينتفي بانتفاء الجزء ولو احتيج إليه لكن لا حاجة إلى ما ذكروه من أن الركعتين الباقيتين ليستا بعض الأربع، وإن عنيتم به أنه يرفع حكم تلك العبادة بالكلية، وأنه لا يبقى من حكمها شيء، فهذا باطل فإن وجوب الركعتين الباقيتين من حكم الأربع المفروضة أولاً، بدليل أنه لو/ (379/ ب) كان غيره بمعنى أنه ينفك عنه ويمكن وجوده بدونه لا بمعنى: أن المفهوم منه غير المفهوم من وجوب الأربع، فإن البعض بهذا المعنى مغاير للكل لاحتاج ثبوت وجوبه إلى دليل آخر غير الخطاب الأول، وبالإجماع ليس كذلك. وأما قوله: لو كانتا بعضًا منها لكان من صلى الصبح أربعًا لكان قد أتى بالواجب وغيره. قلنا: إنما لم يصح ذلك، لأنه لم يأت بالتسليم المفروض عقيب الركعتين لا لأن الركعتين ليستا بعضًا من الأربع، ولهذا فإن من لم يوجب التسليم وإنما يوجب القعود بمقدار التشهد يصحح ذلك لو قعد عند تمام الركعتين مقدار التشهد ولم يصححه أيضًا إذا ترك ذلك، ولأن بقاؤهما بعد النسخ على الوجه الذي أوجب أولاً من ركعتين القراءة والأذكار والهيئات دليل على أنهما

بعضًا منها. وثانيهما: أن نسخ الركعتين من أربع ركعات يوجب رفع نفي إجزائها بدونهما، ويوجب رفع وجوب تأخير التشهد، وتوجب رفع وجوب ضم المنسوختين إلى الباقيتين، وتوجب رفع إجزائها معًا وكل هذا نسخ، فكان نسخًا لأصل العبادة. وجوابه: من وجهين: أحدهما: أن هذه الأحكام أحكام للركعتين الباقيتين، وهي مغايرة لهما فليس نسخها [نسخًا] لهما. وثانيهما: وهو الجواب التفصيلي أن نفي أجزاء الركعتين بدون الركعتين إنما كان لوجوب الأربع، فلما زال وجوب مجموع الأربع زال ما هو تبع له فرفع نفي الإجزاء تبع لرفع الركعتين من الأربع، وهو الجواب بعينه عن قولهم: إنه يرفع وجوب تأخير التشهد، ويرفع وجوب ضم الركعتين المنسوختين إلى الباقيتين ويرفع إجزاء الباقيتين مع المنسوختين.

المسألة الثالثة في أن نسخ أصل القياس هو نسخ للفرع أم لا؟

المسألة الثالثة في أن نسخ أصل القياس هو نسخ للفرع أم لا؟ المشهور من أصحابنا أنه نسخ له. والمشهور من الحنفية أنه ليس بنسخ له. وقد تقدم ذكره. والذي نزيده هنا هو أن الحنفية قالوا: إن هذا نسخ بالقياس، إذ لم يرد ناسخ للفرع، وإنما أثبتم ذلك بالقياس على الأصل. أجاب المثبتون: أن هذا ليس نسخًا بالقياس، إذ ليس يحتاج فيه إلى معنى جامع هو علة النسخ، ولو كان قياسًا لاحتيج إليه بل هو زوال الحكم عن

الفرع لزوال أصله، فإن الحكم في الفرع مبني على العلة، والعلة فرع الحكم في الأصل، لأنها مستنبطة من الأصل بحسب الحكم، فإذا بطل الحكم في/ (380/ أ) الأصل بطلت العلة، فإذا بطلت العلة زال الحكم المبني عليها. وعند هذا ظهر أن هذا النزاع ليس نزاعًا في أنه نسخ حقيقة، فإن زوال الحكم لزوال علته ليس بنسخ، إذ لا يجعل زوال التحريم عن الخمر لزوال الإسكار عنها نسخًا. بل هو نزاع في أنه هل يزول الحكم عن الفرع إذ ذاك أم لا؟ قالت الحنفية: قولكم: إذا بطلت العلة بطل الحكم المبني عليها حتى إذا كان الحكم مفتقرًا إليها دوامًا أم مطلقًا. فالأول: مسلم، والثاني ممنوع. وهذا لأن الباقي غير مفتقر إلى العلة حالة البقاء عندنا وحينئذ لا نسلم أنه يلزم من زوال العلة زوال الحكم. أجاب المثبتون: بأن زوال الحكم لزوال علته ثابت بالاستقراء في مسائل من غير نقض يوجد لذلك، وذلك يغلب على الظن أنه سبب لزوال الحكم ولو سلم وجود النقض، لكان أفراد الدائر أكثر وإلحاق الفرد بالأكثر أقوى.

خاتمة: في طريقة معرفة الناسخ والمنسوخ: اعلم أن التعارض: إذا وقع بين معلومين، أو مظنونين، أو بين معلوم ومظنون. فإما أن يمكن الجمع بينهما: نحو الخاص مع العام، والمقيد مع المطلق، وقد تقدم الكلام في هذا النوع فيما سلف. أو لا يمكن وحينئذ إما أن لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر منهما لا بصراحة اللفظ ولا بغيره، أو يعلم ذلك. فإن كان الأول: فحكمه العمل بالراجح إن ظهر الترجيح وستعرف طريقه إن شاء الله تعالى "وإلا فحكمه التوقف والتخيير على ما سيأتي ذلك في التراجيح إن شاء الله تعالى". وإن كان الثاني: فالمتأخر ناسخ للمتقدم إن كانا متساويين في القوة والضعف، أو كان المتأخر أقوى من المتقدم، وعكسه غير متصور عند من لا يجوز نسخ المعلوم بالمظنون، ثم كونه متأخرًا وناسخًا يعلم تارة بصريح اللفظ، نحو أن يقال: هذا متأخر عن ذلك وهذا ناسخ لذاك، وذاك متقدم على هذا ومنسوخ بهذا، ويلحق بهذا القسم: ما إذا كان في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر نحو قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها"، ونحو قوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم}، فإنه يدل

على أنه بعد التثقيل المذكور من قبل فهو ناسخ له. وتارة يعلم بغير صراحة اللفظ، وهذا ينقسم إلى ما لا يعلم بدلالة حال الراوي، نحو أن يقال: ورد هذا في سنة كذا، وهذا في سنة كذا، ويقال: ورد هذا في غزوة بدر، وورد هذا في غزوة أحد، وهذا إنما يفيد لو علم تقدم إحدى الغزوتين على الأخرى. إما بالطريق الأول/ (380/ ب)، أو بغيره نحو التصريح بتقدم أحدهما على الآخر من غير أن يعلم وقوعها في سنة معينة، بهذا ظهر الفرق بين هذه الطريقة المذكورة من قبل. وإلى ما يعلم بدلالة حاله نحو: أن يروي أحد الخبرين رجل متقدم الصحبة للرسول عليه السلام، ويروي الخبر الآخر رجل متأخر الصحبة له، بحيث يكون ابتداء صحبته عند انقطاع صحبة الأول، ويكون كلاهما يرويان عنه عليه السلام من غير واسطة، فإنه إذ ذاك يدل على أنه متأخر عنه، أما إذا لم يكن بهذه الحيثية فلا يجوز أن سمع متقدم الصحبة الخبر الذي رواه بعد سماع متأخر الصحبة الخبر الذي رواه. ويجوز أن يروي متأخر الصحبة عمن تقدمت صحبته ويروي متقدم الصحبة عمن تأخرت صحبته. ومن هذا يعلم أنه لا يثبت النسخ بكون روى أحد الخبرين من أحداث الصحابة. أو يكون إسلامه متأخرًا عن إسلام راوي الآخر.

وأما قول الصحابي: كان هذا الحكم ثم نسخ أو هذا الخبر منسوخ، أو هذا الخبر ينسخ هذا الحكم، فليس يعرف به النسخ، لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادًا فلا يثبت به النسخ في حق الكل. وعن الكرخي: الفرق بين ما إذا قال هذا منسوخ، وبين ما إذا قال هذا منسوخ بهذا. فأوجب قبول قوله في الأول دون الثاني، زعمًا منه أنه لولا ثبوت النسخ وظهوره ما أطلق النسخ إطلاقًا، بخلاف ما إذا عين الناسخ، فإنه يجوز أن يكون قاله اجتهادًا. وهو ضعيف. لأنا وإن سلمنا: أن ذلك يدل على الظهور، لكن بالنسبة إلى ظنه واجتهاده، لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر إذ ليس فيه دلالة على ذلك، وحينئذ لا يجب قبوله كما في الأول. ولا بكون إحدى الآيتين مثبتة في المصحف بعد الأخرى، فإن قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر

وعشرًا} مثبتة قبل آية الاعتداد بالحول، وهو ناسخ لها، ولأن ترتيب الآيات والسور في المصحف ليس على ترتيبها في النزول، فلا يكون تأخرها في الإثبات دليلاً "على تأخرها في النزول، فلا يكون" دليلاً على النسخ. وأما إذا قال الصحابي: في أحد الخبرين المتواترين أنه كان قبل الآخر. فهل يقبل ذلك أم لا؟ فالأكثرون على أنه لا يقبل، لأنه يتضمن نسخ المعلوم بالمظنون، وهو غير جائز إذ الكلام في هذه المسألة تفريعًا عليه. وقال القاضي عبد الجبار: يقبل وإن لم يقبل المظنون في نسخ المعلوم إذ الشيء [يقبل] بطريق التضمن والتبع، ولا يقبل بطريق الأصالة "كما يقبل بطريق الضمن والتبع، ولا يقبل بطريق/ (381/ أ) الأصالة" كما تقبل شهادة القابلة في كون الولد من إحدى المرأتين، وإن كان يترتب على

ذلك ثبوت النسب للولد من صاحب الفراش مع أن شهادة النساء لا تقبل في النسب وكما تقبل شهادة الاثنين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم، وإن كان لا تقبل شهادتهما في إثباته. قال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي الجواز العقلي في قبوله لا في وقوعه ما لم يثبت أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الأمر، والجواز العقلي لا نزاع فيه، فإنا بينا أنه لا نزاع في أنه يجوز أن ينسخ المقطوع بالمظنون، فإذا لم يكن في قبول المظنون في أصل النسخ نزاع، فلأن يكون نزاع في قبوله بالنسبة إلى شرطه بطريق الأولى. والله أعلم "وأحكم".

النوع الثاني عشر الكلام في الإجماع

النوع الثاني عشر: الكلام في الإجماع

النوع الثاني عشر: الكلام في الإجماع وهو مرتب على مقدمة وفصول: أما المقدمة ففي تفسيره لغة، ورسمه شرعًا. اعلم أن الإجماع في اللغة يطلق على أمرين: أحدهما: العزم على الشيء، ومنه قوله تعالى: {فأجمعوا أمركم} أي اعزموا. ومنه قوله - عليه السلام -: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" [أي لمن يعزم عليه من الليل].

وثانيهما: الاتفاق يقال: القوم أجمعوا على كذا أي: اتفقوا عليه وأما رسمه بحسب اصطلاح العلماء فقد قال الشيخ الغزالي - رحمه الله - "الإجماع عبارة عن اتفاق أمة محمد - عليه السلام - خاصة على أمر من الأمور الدينية". واعترض عليه من وجوه: أحدها: أنه يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة؛ لأن أمة محمد - عليه السلام - من اتبعه إلى يوم القيامة، والموجود في العصر بعض الأمة لا كله فلا يكون إجماعهم حجة. وهو ضعيف؛ لأن الأمة أخص من الشيء، فإذا كان الشيء على رأينا لا يتناول المعدوم، فلأن لا يتناول ما هو أخص منه بالطريق الأولى. ولئن سلمنا أن الشيء يتناول المعدوم، لكن الاتفاق حاصل بيننا وبينهم على أن الموجود وما هو أخص منه لا يتناول المعدوم، والأمة والناس وما يجري مجراهما أخص من الموجود فلا يتناول المعدوم.

فإن قلت: ما هو أخص من الموجود مطلقًا لا يصدق على ما لا يصدق عليه الموجود، فأما ما هو أخص منه من وجهٍ دون وجهٍ، فلا نسلم أنه لا يصدق حيث لا يصدق هو عليه، ولم لا يجوز أن يقال: إن الأمة أخص من الموجود من وجه دون وجه من حيث إن الأمة تتناول الموجود من جنسه والمعدوم من جنسه، وحينئذ لا يلزم من عدم صدق الموجود على المعدوم من الأمة عدم صدق لفظ الأمة عليه؟. قلت: هذا الاحتمال مندفع بالإجماع، فإنهم اتفقوا على أن الأسامي التي مدلولاتها مركبة لا تصدق في حالة العدم؛ لأنه لا تحقق لماهية التأليف والتركيب في حالة العدم وفاقًا. وثانيهما: أنه يقتضي أن يكون إجماع العوام عند خلو الزمان من المجتهد إجماعًا شرعيًا وليس كذلك. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنا إن لم نعتبر قول العوام في انعقاد الإجماع منعنا إمكان وقوع المسألة؛ وهذا لأنه لا يجوز خلو الزمان عمن يقوم بالحق. وإن اعتبرنا قولهم منعنا أن إجماعهم ليس إجماعًا شرعيًا. وثالثها: أنه غير جامع؛ لأنه خرج منه إجماعهم على أمر عقلي، أو عرفي، أو لغوي؛ ضرورة أنه ليس أمرًا دينيًا مع أن إجماعهم فيه/ (2/ أ) إجماعًا شرعيًا وهو منقدح. وقال النظام: هو كل قول قامت حجته.

وقصد بذلك الجمع بين مذهبه من أن اتفاق أمة محمد - عليه السلام - ليس بحجة وبين ما تواتر من السلف من أنه لا يجوز مخالفة الإجماع. والنزاع لفظي ولا مشاحة في الألفاظ. وأما ما أورد عليه بأنه يلزم منه أن يكون قول الواحد إجماعًا وهو على خلاف اللغة والعرف. فهو وارد أيضًا على من يقول بالإجماع بالمعنى المشهور؛ لأنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد فإنه يكون قوله حجة بطريق الإجماع عنده فما هو جوابه في هذه الصورة فهو جواب النظام. ولئن قلت: إنه حجة بطريق الإجماع من حيث إنه لا يجوز ذهول مجموع الأمة عن الحق، لكن لا يطلق عليه اسم الإجماع. قلت: وللنظام أن يقول مثله، بأن يقول: إنما يطلق الإجماع على القول الذي قامت حجته إذا كان قول الجماعة، فأما إذا كان قول الواحد فإنه لا يجوز مخالفته بطريق الإجماع، لكن لا أطلق عليه لفظ الإجماع. فالأولى أن يقال في حده أنه: عبارة عن اتفاق جميع المجتهدين الموجودين في كل عصر من الأعصار من أمة محمد - عليه السلام - على أمر من الأمور. وأطلقنا اتفاقهم، ليتناول الاتفاق في الاعتقاد، والقول، والفعل، والسكوت، والتقرير، المنزلين منزلة القول والفعل والاتفاق المركب منها.

وإنما قيدنا بالجميع؛ ليخرج البعض فإن اتفاق البعض ليس بحجة. وقيدنا بالمجتهد؛ ليخرج اتفاق العامة فإنه غير معتبر على الرأي الأظهر ولو اعتبر ذلك وجب حذفه ويقام مقامه ما يتناولهم ولغيرهم ممن يعتبر قولهم. وإنما قلنا: الموجودين في كل عصر من الأعصار؛ لرفع أن يتوهم متوهم أن المراد من المجتهدين من يوجد إلى يوم القيامة وإن كان هذا التوهم باطلاً. وإنما قلنا: على أمر من الأمور، ليتناول الشرعيات، والعقليات والعرفيات، واللغويات. هذا تمام المقدمة، أما الفصول ففي المقاصد.

"الفصل الأول" "في الإجماع"

"الفصل الأول" "في الإجماع" وفيه مسائل:

"المسألة الأولى" في إمكان وقوع الإجماع، وإمكان الإطلاع عليه

"المسألة الأولى" في إمكان وقوع الإجماع، وإمكان الإطلاع عليه: اعلم أن من الناس من أحاله عادة. ومنهم من قال بإمكانه بغير إحالة بوجه ما، لكن قال: لا سبيل إلى الاطلاع عليه.

أما الأولون، فقالوا: إن كل ما لا يكون معلومًا بالضرورة فإنه يستحيل اتفاق الخلق العظيم والجم الغفير عليه، كما يستحيل اتفاقهم في الساعة الواحدة، على المأكول الواحد، واللبس الواحد، وكيف لا وتراهم يختلفون في الضروريات والبديهيات: فمنهم من اعترف بها، ومنهم من أنكرها أصلاً ورأسًا، مع أن طريقها واحدة لا فكر فيها ولا روية، فالنظريات القطعيات بذلك أجدر لافتقارها إليهما وافتقارها إلى النظر والناس مختلفون فيه فإن منهم من [أنكر] كون النظر يفيد العلم بل لا يفيد إلا الظن الغالب والظنيات بذلك أولى من القطعيات؛ لأن طرائقها كثيرة، وطباع الخلق الكثير وأذهانهم مختلفة عادة، فمن الممتنع تطابقها على طريقة واحدة. وجوابه: منع استحالة اتفاق الخلق الكثير، والجم الغفير على الشيء الواحد الذي لا يكون معلومًا بالضرورة إذا كان له دليل قاطع، أو شبهة أو أمارة مغلبة للظن؛ وهذا لأنه وجد ذلك؛ فإنا نعلم اتفاق الخلق الكثير والجم الغفير في شرق البلاد وغربها على نبوة محمد - عليه السلام - بسبب معجزته القاطعة، واتفاق أهل الشبه على مقتضاها كأهل البدع والكفر. وكذلك نعلم اتفاق الخلق العظيم على فساد بيع المضامين والملاقيح مع أن الموجب له ليس إلا ما يوجب الظن من خبر واحد، أو قياس. وإنما عدلنا عن العبارة المشهورة في ذلك، وهي: أنا نعلم اتفاق المسلمين

مع أن كثرتهم لا تحصى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ونعلم اتفاق اليهود والنصارى على إنكار نبوته. واتفاق الشافعية على أقواله الصادرة عن الأمارة، إلى ما ذكرنا ليندفع ما يقال عليها وهو: أنك إن عنيت بالمسلم المعترف بنبوته كان ذلك جاريًا مجرى قولنا المعترف بنبوته معترف بنبوته وذلك معلوم بالضرورة، وإن عنيت به غيره فلا نسلم اتفاقهم عليها، وكذا الكلام في المثالين الأخيرين، فإن هذا لا يتأتى على عبارتنا، وما ذكروه من الصور، فإنما امتنع فيه الاتفاق، لانتفاء ما شرطنا في حصول الاتفاق وهو الدليل القاطع، أو الأمارة المغلبة للظن. وما ذكروه من اختلاف الناس في الاعتراف بالبديهيات، والضروريات، والنظريات فإنما يقدح فيما نحن فيه أن لو ادعينا اتفاق جميع الأمم على شيء واحد، وليس كذلك، بل ندعي اتفاق بعض من اعترف بكلها وهم المجتهدون. وقوله: الظنيات طرائقها كثيرة، وأذهان الناس مختلفة، فمن الممتنع عادة اتفاقهم على واحدة منها. قلنا: وإن كان كذلك لكن قد يكون البعض منها أرجح من البعض فلا يمتنع اتفاقهم عليه. سلمناه [لكنه] منقوض بما تقدم من أنا نعلم اتفاق الخلق الكثير على عدم جواز بيع المضامين والملاقيح مع أن الدليل الدال عليه ظني نحو الخبر

المروي بالآحاد، أو القياس. وأما الآخرون الذين قالوا: بإمكان وقوعه لكن زعموا أنه لا طريق لنا إلى معرفته. فقد احتجوا عليه بأن قالوا: إن من الظاهر أنه لو أمكن أن يحصل العلم به فإنما يحصل من جهة السمع لا غير، بأن يسمع من/ (3/ أ) أهل الاتفاق أنهم اتفقوا عليه، أو يسمع منهم ما يجري [مجراه] فإن ما عداه من الطرائق نحو الوجدان والإحساس [بغير حس السمع، وحكم العقل إما بالبداهة، أو بالنظر فيما لا يمكن اكتسابه به] لكن ذلك متعذر، لأن سماع كلام الغير مع العلم بكونه كلامه يتوقف على معرفته بعينه، وذلك معلوم بالضرورة، فأذن العلم باتفاق المجتهدين على حكم يتوقف على معرفة أعيانهم، لكنه متعذر لتفرقهم شرقًا وغربًا. لا يقال: يمكن ذلك بطريقين: أحدهما: أن يطوف عليهم شرقًا وغربًا ويسمع منهم ذلك. وثانيهما: أن يجمعهم سلطان قاهر فحينئذ يمكن الاطلاع عليه، لأنا نقول: أما الأول، فباطل، لأنه لم يوجد إلى الآن من طاف المشرق والمغرب وعرف المجتهدين بأعيانهم، وأخبر عنهم اتفاقهم على حكم ما. سلمنا ذلك، لكن من أين نعلم أنه لم يغادر أحدًا منهم لم يجتمع به، وكيف الخلاص من وجود خامل منهم لا يعرف؟

سلمناه، لكن من أين نعلم أن ما أفتاه، أو أخبره من اعتقاده من أنه يعتقد ذلك الحكم أفتاه من صميم قلبه، أو كان صادقًا فيما أخبره؟ فلعله أفتاه بذلك خوفًا وتقية، أو لأسباب أخر وهو لا يعتقد ذلك. وكذا الكلام فيما إذا أخبره عن اعتقاده. سلمناه لكن لا يمكن ذلك في زمان واحد ضرورة تفرقهم في شرق البلاد وغربها، بل في مدة متطاولة وحينئذ لم يمكن القطع بحصوله؛ لاحتمال أن يكون الذي أفتاه أولاً. فقد رجح عنه بعد ارتحال المستفتى عنه قبل إفتاء الآخرين، وحينئذ لا يحصل الإجماع، لعدم حصول الاتفاق في زمان ما. وأما الثاني فهو باطل أيضًا بأكثر ما سبق، ولا ينقض ذلك لما أنا نعلم من اتفاق المسلمين على نبوة محمد - عليه السلام - مع تفرقهم في شرق البلاد وغربها. وكذلك نعلم اتفاق اليهود والنصارى على إنكار نبوته - عليه السلام - مع تفرقهم في الآفاق. وكذلك نعلم اتفاق الشافعية على فساد النكاح بلا ولي، واتفاق الحنفية على صحته، وإن لم نعرفهم بأعيانهم. ولا ينقض أيضًا: بما أن نعلم باستيلاء بعض المذاهب والملل على بعض النواحي كما نعلم باستيلاء الإسلام في بلاد الحجاز واليمن، واستيلاء الملة النصرانية في جزائر الإفرنج وإن كنا لا نعرفهم بأعيانهم لأنا نقول: أما الجواب عن الأول فقد سبق. وأما عن النقضين الباقيين فعلى نحوه بأن يقال: إن أريد باليهودي المعترف

بنبوة موسى - عليه السلام - المنكر لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك جار مجرى قولنا: المعترف بنبوة موسى - عليه السلام - المنكر لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم منكر لنبوته وهو ضروري. وإن أريد به غيره فلا نسلم حينئذ اتفاقهم على إنكار نبوته - عليه السلام - وعلى هذا المنوال الجواب في اتفاق الشافعية والحنفية. فأما النقض الأخير فالجواب عنه: أنا إنما نعلم ذلك بالنسبة إلى أكثر من في البلاد بخبر التواتر، أو المشاهدة بناء على رؤية شعار الإسلام والتنصر، ومعرفة علامتها، نحو الأذان والمساجد للمسلمين، والكنائس والناقوس للنصارى، فأما أن نعلم ذلك بالنسبة إلى كل واحد من أهل تلك البلاد فذلك مما لا سبيل إليه. الجواب عنه: أنه يمكن الاطلاع عليه، أما إذا كان المجتهدون قليلين بحيث يمكن معرفتهم بأعيانهم كما كان في زمان الصحابة. فبمراجعتهم ومشافهتهم وإن كانوا كثيرين بحيث لا يمكن لواحد أن يعرفهم بأعيانهم فبمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم، وخمول المجتهد بحيث لا يعرفه أهل بلدته مستحيل عادة.

"المسألة الثانية" "في كون الإجماع حجة"

"المسألة الثانية" "في كون الإجماع حجة" مذهب جماهير السلف والخلف أن إجماع أمة محمد - عليه السلام - حجة، لكن اختلفوا في أنه هل هو حجة قطعية، بحيث يكفر، أو يضلل ويبدع مخالفه، أو لا يكون حجة قطعية، بل هي ظنية لا يضلل ولا يبدع مخالفه؟ فذهب الأكثرون إلى الأول. وذهب المحققون منا ومن المعتزلة إلى الثاني.

وقالت الخوارج، والنظام، والشيعة القائلون بالإمام المعصوم أنه ليس بحجة. لنا وجوه، وهي: الكتاب، والسنة، والمعقول. أما الكتاب فآيات: أحدها: قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا}. ووجه الاستدلال به: أنه جمع بين مشاقة الرسول، وإتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو لم يحرم (اتباع) غير سبيل المؤمنين لما جاز الجمع بينه وبين المشاقة في الوعيد؛ إذ لا يجوز أن يجمع بين المحرم والمباح في الوعيد كما يقال: إن زنيت وشربت الماء عاقبتك، وإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم.

فإن قلت: لا نسلم أن كلمة من للعموم، وسنده ما سبق في أدلة الواقفية. وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على أن يحرم على كل واحد واحد من المكلفين اتباع غير سبيل المؤمنين، فلا يكون فيها دلالة على كونه حجة، إذ حجيته إنما تثبت أن لو حرم على الكل مخالفته. لا يقال: بأن كل من قال بحرمة اتباع غير سبيل المؤمنين بالنسبة إلى بعض المكلفين، قال بذلك بالنسبة إلى كلهم فالقول بذلك بالنسبة إلى البعض دون البعض قول لم يقل به أحد؛ لأنا نمنع ذلك، وهذا، لأنه يحرم على العوام عندنا مخالفة المجتهدين واتباع/ (4/ أ) غير سبيلهم دون المجتهد. سلمنا أنها للعموم لكن لا نسلم أنه توعد على كل واحد من المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين بانفراده حتى يلزم أن يكون كل واحد منهما محرمًا بانفراده بل توعد على مجموعهما، وحينئذ لا يلزم أن يحرم اتباع غير سبيل المؤمنين بانفراده. وقوله، لو لم يكن محرمًا لما جاز الجمع بينه وبين المشاقة في الوعيد. قلنا: متى إذا لم يحرم بحال الجمع والإفراد، أو أن حرم حالة الجمع دون الإفراد؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع، وهذا فإن الشيء جاز أن يحرم مع الغير

ولا يحرم وحده كنكاح الأخت مع الأخت، وإنما لم يجز الجمع بين الزنا وشرب الماء في الوعيد لأنه من قبيل القسم الأول. سلمنا حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقًا، لكن حرمة بعض غير سبيل المؤمنين أو حرمة كل غير سبيل المؤمنين؟ والأول مسلم: فإن عندنا بعض ما يغاير، أو كل ما يغاير بعض أو كل غير سبيل المؤمنين حرام وهو ما صاروا به مؤمنين. وهذا التأويل متعين لتبادر الفهم إليه، فإن القائل إذا قال: "لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به غير صالحين لا غير. ولأن الآية نزلت في رجل ارتد، وذلك يفيد أن الغرض منها المنع من متابعتهم في الكفر. والثاني ممنوع؛ وهذا لأن لفظ الغير والسبيل مفرد فلا يفيد الكل. ولو أفاد الكل لم يفد؛ لأنه لا يلزم من [حرمة كل ما هو غير سبيل المؤمنين كون الإجماع حجة؛ لأن حرمة الكل من حيث] إنه كل لا يستلزم حرمة كل واحد منه.

سلمنا حرمة كل واحد من سبيل غير المؤمنين. لكن لم قلت: إنه يلزم منه وجوب اتباع سبيل المؤمنين؟ فإن قلت ذلك بناء على أنه لا واسطة بين اتباع غير سبيل المؤمنين، وبين اتباع سبيلهم حتى يلزم من حرمة اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم فممنوع، وهذا لأن عدم الاتباع واسطة و [إن] قلت بناء على مفهوم الخطاب، فلا نسلم أن مفهومه التواعد على عدم اتباع سبيل المؤمنين، بل مفهومه عدم التواعد على اتباع سبيلهم، وذلك لا يستلزم وجوب اتباع سبيلهم، وفرق بين التواعد على عدم الشيء وبين عدم التواعد على الشيء، فإن الأول يستلزم الوجوب دون الثاني. سلمنا أن مفهومه يدل عليه لكن لا نسلم أنه حجة فإن قلت: إنا لم نقل ذلك بناء على المفهوم بل بناء على أنه لا واسطة بينهما، والدليل على ذلك وجهان أحدهما: أن غير هاهنا بمعنى إلا، لا بمعنى الصفة، إذ لو كان بمعنى الصفة لزم تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين، ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره، أو وجوبه، والمخالف لا يقول بذلك، وإذا كان غير بمعنى إلا يصير تقدير الآية. ومن يشاقق الرسول ولا يتبع سبيل المؤمنين، وحينئذ يكون التوعد على عدم متابعة سبيل المؤمنين، ويلزم منه وجوب اتباع سبيلهم ضرورة أنه لا واسطة بين عدم الاتباع والاتباع وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن غير للصفة، لكن نقول عدم اتباع سبيل المؤمنين اتباع لسبيل غيرهم؛ لأن غير المؤمنين لا يتبع سبيلهم فيكون ذلك سبيل

غيرهم عن لم يتبع سبيلهم فقد اتبع سبيل غير المؤمنين. قلت: أما الأول، فباطل؛ لأنا أجمعنا على أن غير موضوعة للصفة فجعله بمعنى إلا إن كان على وجه الحقيقة لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل، وإن كان على وجه التجوز لزم المجاز، وأنه أيضًا خلاف الأصل، فوجب أن يكون مستعملاً في موضوعه. وقوله في الدلالة على امتناعه: أنه لو كان بمعنى الصفة لزم تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين، ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو بوجوبه والمخالف لا يقول به، قلنا: لزوم الاحتمال المذكور الذي لا يقول به الخصم على التقديرين أعنى أن تكون غير بمعنى الصفة، أو بمعنى إلا على السواء؛ لأن المعنى الثاني أخص من المعنى الأول، وكل ما دل عليه العام دل عليه الخاص، فإن كان كون الخصم لا يقول به دل على فساده [فليدل على فساد الاحتمال الثاني أيضًا لأنه لا] يقول به الخصم على هذا التقدير، وإن ذكر ذلك على وجه الإلزام فلا يصح؛ لأن كون الخصم لا يقول باحتمال قادح في استدلال المستدل لا يدل على فساده إلا إذا اعتبر من حيث أنه قول لم يقل به أحد، وهو تمسك بالإجماع فيكون إثباتًا للإجماع بإجماع أضعف منه. وأما الثاني فلا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين اتباع لسبيل غير المؤمنين وإن كان ذلك سبيلاً لغير المؤمنين؛ وهذا لأن الاتباع عبارة عن: أن يأتي بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير أتى به، فمن لا يتبع سبيل المؤمنين لأجل أن غير المؤمنين لا يتبعونهم كان متبعًا لهم.

فأما من لا يتبعهم لا لأجل ذلك بل لأجل أن دليلاً دل على عدم اتباعهم أو لأنه لم يوجد ما يدل على اتباعهم لم يكن متبعًا لهم. سلمنا: وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن بشرط تبين الهدى المشروط في المشاقة أولاً بهذا الشرط؟. والأول مسلم، لكنه لا يفيد؛ لأنه حينئذ لا يجب اتباع سبيل المؤمنين إلا إذا تبين/ (5/ أ) جميع أنواع الهدى؛ لأن الهدى عام لكونه محلى بالألف والسلام فيتناول جميع أنواع الهدى، ومن جملة الهدى دليل ذلك الفرع الذي اتفقوا عليه فلا يجب اتباعهم إلا إذا تبين ما لأجله أجمعوا عليه وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة. لا يقال: لا يشترط في تبين الهدى تبين جميع الأدلة على الشيء بل يكفى فيه تبين دليل واحد من أدلته، فلم لا يجوز أن يقال: إنه يجب اتباع سبيل المؤمنين بعد تبين حصول الإجماع وإن لم يتبين ما لأجله أجمعوا عليه؟ لأننا نقول: ذلك إنما يصح لو ثبت كونه دليلاً؛ فإن بتقدير أن لا يكون الإجماع دليلاً على ما أجمعوا [عليه] لم يكن تبينه تبينًا لهدى ما أجمعوا عليه فإثبات كونه دليلاً به دور. والثاني ممنوع؛ وهذا لأن تبين الهدى شرط في المشاقة فيكون شرطًا في حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين لكونه معطوفًا عليه، والشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف، وإذا كان شرطًا في حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين وجب أن يكون شرطًا في وجوب اتباع سبيل المؤمنين ضرورة أن ما هو شرط أحد

المتلازمين يكون شرطًا في الآخر، وحرمة اتباع غير سبيل المؤمنين ووجوب اتباع سبيل المؤمنين متلازمان على ما ذكرتم من أنه لا واسطة بينهما. سلمنا: وجوب اتباعهم لا بهذا الشرط، لكن لفظ "السبيل" حقيقة فيما يحصل فيه المشي وهو غير مراد وفاقًا، وحينئذ يجب حمله على المجاز دفعًا لتعطيل النص، وليس حمله على المجاز الذي تحملونه وهو اتفاقهم على أمر من الأمور أولى من حمله على مجاز آخر وهو دليلهم واستدلالهم على ذلك الأمر، فإنهم حين اتفقوا عليه لا بد وأن استدلوا بشيء على إثباته، وإلا لكان اتفاقهم عليه باطلاً بل هذا أولى؛ لأن المناسبة بين الاستدلال وبين السبيل الحقيقي أتم من المناسبة بينه وبين الحكم المتفق عليه؛ لأن ما بينهما من مشابهة الاستمرار والمضي عليهما حاصل بعينه في الأول مع زيادة وهي مشابهته للإفضاء إلى المقصود. سلمنا: أن حمله عليه أولى، لكن يقتضى وجوب اتباعهم في كل الأمور أو في بعضها؟ والدال على العام لا يدل على الخاص. ثم الذي يدل على أنه لا يجب اتباعهم في كل الأمور وجوه: أحدها: أنه لو وجب اتباعهم في كل الأمور لوجب أنهم إذا فعلوا شيئًا واعتقدوا إباحته أن يجب فعله وأن لا يجب؛ لأنه من حيث أنهم فعلوه يجب فعله، ومن حيث أنهم اعتقدوا إباحته لا يجب فعله، لكنه محال لأنه جمع بين النقيضين. وثانيهما: أنهم إذا أجمعوا على حكم فلا بد أن يكون ذلك لدليل؛ لأن الحكم بغير دليل باطل، وذلك الدليل يجب أن يكون غير الإجماع لأن

الإجماع كيفية من كيفيات ثبوت ذلك الحكم؛ لأن ثبوت الحكم قد يكون بحيث يتفق عليه، وقد يكون بحيث لا يتفق عليه فيكون متأخرًا عنه بالرتبة، والدليل متقدم عليه، فلا يكون الإجماع دليل ذلك الحكم بل غيره، فيكون إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع سبيلاً لهم، فلو وجب اتباعهم في كل الأمور لوجب إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع لأنهم أثبتوه به، وعدم وجوبه لإجماعهم على أنه لا يجب التمسك بدليل معين عند وجود غيره وهو جمع بين النقيضين. وثالثها: أنهم كانوا قبل إجماعهم على ذلك الحكم متوقفين في المسألة غير جازمين بالحكم، بل كانوا جازمين بأنه يجوز البحث عنه، ويجوز لكل واحد أن يحكم في المسألة بما أدى إليه اجتهاده. ثم أنهم إذا [أجمعوا قطعوا بأنه لا يجوز فيها الاجتهاد، وأنه يتعين القول بذلك الحكم] فلو وجبت متابعتهم في كل الأمور لزم أن يجوز الاجتهاد فيها، وأن لا يجوز، وهو قول بالجمع بين النقيضين. لا يقال: إن جواز الأخذ بمقتضى الإجماع السابق كان مشروطًا بعدم الإجماع البات بعده، فإذا حصل ذلك زال ذلك الحكم لزوال شرطه؛ لأنا نقول: لو جاز أن يكون الإجماع بجواز الأخذ بكلا القولين فيما اختلف فيه على قولين مشروطًا بعدم الإجماع البات بعده لجاز أن يقال: إن الإجماع البات أيضًا مشروط بعدم إجماع بات آخر على خلافه وكذا القول في الإجماع الثاني والثالث، وحينئذ يلزم أن لا يستقر شيء من الإجماعات وهو باطل عندكم.

والثاني مسلم ونحن نقول بموجبه، فإنه يجب اتباعهم عندنا في الإيمان بالله ورسوله، ولا يلزم منه كون الإجماع حجة، إذ لا يلزم من وجوب اتباعهم في بعض سبيلهم وجوب اتباعهم في كل سبيلهم الذي يحصل [به] الإجماع. ويؤكد هذا الاحتمال ما يتبادر إلى الفهم من قول القائل: "اتبع سبيل الصالحين" من الأمر باتباع ما صاروا به صالحين. وكذلك المتبادر من قول السلطان إذا قال: من يشاقق وزيري من الجند ويتبع غير سبيل فلان عاقبتهم، ويشير به إلى المتظاهر بطاعة الوزير. إنما هو الأمر باتباع سبيله في طاعة الوزير، ولو سلم أن هذا المفهوم غير متبادر إلى الفهم وأنه والإجماع سواء في الفهم من الآية، فالحمل على الأمر باتباع سبيلهم في/ (6/ أ) الإيمان أولى؛ لأن ذلك سبيلهم حين نزول الآية، والإجماع ليس سبيلهم إذ ذاك؛ ضرورة أنه لا يحصل إلا بعد وفاة الرسول وحمل الكلام على ما يحصل مقصوده في الحال والمآل أولى من حمله على ما ليس كذلك. سلمنا: وجوب اتباعهم في كل الأمور، لكن لكل المؤمنين أو لبعضهم؟ والأول مسلم، ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة، وإجماعهم على أمر واحد ممتنع، ضرورة عدم بقاء البعض عند وجود البعض الآخر، ولو سلم بقاء القول للميت، فإنه وإن أمكن حصول الإجماع

على هذا التقدير لكن عند قيام الساعة ومعلوم أنه لا فائدة فيه إذ ذاك إذ لا يمكن الاحتجاج به بعده لارتفاع التكليف. وإذا كان كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة وجب أن يكون الموجودون في كل عصر بعضهم فلا يكون إجماعهم حجة. فإن قلت: المؤمن هو الموجود ضرورة أنه أخص من الشيء، فلا يكون متناولاً لمن لم يكن موجودًا منهم؟ قلت: فعلى هذا يلزم أن تكون الآية دالة إلا على إجماع الصحابة الذين كانوا موجودين عند نزول الآية؛ لأنهم هم الموجودون لا غير إذ ذاك لكن إجماعهم أيضًا ممتنع؛ أما في حياة الرسول فلما مر غير مرة، وأما بعدها فلأنه مات بعضهم فيلزم أن لا يكون شيء من الإجماعات حجة ولو سلم بقاء كل من كان موجودًا عند نزول الآية إلى ما بعد وفاة الرسول لم يتحقق حجية شيء من الإجماعات أيضًا إذ لم ينقل عنهم لا بالتواتر ولا بالآحاد اتفاقهم على حكم واحد في مسألة ما. والثاني ممنوع، وهذا لأن لفظ "المؤمنين" جمع محلى بالألف واللام فيفيد الاستغراق. سلمنا: أن المراد منه البعض الذين يوجدون في كل عصر، لكن كل مؤمني ذلك العصر أو بعضهم؟ والأول باطل، وإلا لاعتبر في الإجماع قول العوام، والأطفال، والمجانين وهو باطل وفاقًا.

والثاني مسلم، فإن عندنا يجب متابعة بعض من يوجد في كل عصر وهو الإمام المعصوم. سلمنا أن المراد منه: جميع مؤمني كل عصر إلا ما خصه الدليل، لكن بشرط العلم بإيمانهم أولاً بهذا الشرط؟ والأول مسلم، لكنه لا سبيل إليه، لأن الإيمان عبارة: إما عن التصديق بالقلب فقط. أو هو عبارة عنه وعن غيره نحو الإقرار باللسان، والعمل بالأركان. وعلى التقديرين لا يمكن الاطلاع عليه، [لأن التصديق القلبي أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه] وإذا امتنع العلم به امتنع الأمر باتباع سبيلهم، ضرورة أن انتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط. والثاني ممنوع؛ وهذا لأن المأمور يجب عليه أن يأتي بالمأمور به على قصد الامتثال والمأمور به إنما هو اتباع سبيل المؤمنين، فإذا لم يعلم تحقق الإيمان استحال أن يقصد اتباع سبيل المؤمنين. لا يقال: المراد من المؤمنين المصدقين باللسان في قوله تعالى {ولا تنكحوا

المشركات حتى يؤمن} فحينئذ يكون الاطلاع عليه ممكنًا؛ لأنا نقول: إطلاق المؤمن على المصدق باللسان مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة لا سيما في هذا المكان فإن تجويز اتباع المصدق باللسان دون القلب بموجب تجويز اتباع الكافر والمنافق وهو ممتنع. سلمنا إرادة المجاز، لكن لم قلتم أن ذلك المجاز هو مجازكم؟ ولم لا يجوز أن يكون [ذلك] المجاز غيره؟ لا بد لهذا من دليل. سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة، لكن دلالة قطعية، أو ظنية؟ والأول ممنوع ولا يحتاج إلى سنده لظهوره، والثاني مسلم، لكن المسألة قطعية؛ ولهذا أطبق الفقهاء على أن مخالف الحكم المجمع عليه كافر أو فاسق، فلا يجوز التمسك فيها بالدلائل الظنية. ثم شنع الإمام على الفقهاء بأنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات

والأخبار، وأجمعوا: على أن المنكر لمدلول العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم أنهم أطبقوا على أن الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر أو فاسق، وهذا غفلة عظيمة إذ جعلوا الفرع أقوى من الأصل. الجواب: قوله: لا نسلم أن كلمة من للعموم. قلنا: قد ثبت ذلك في باب العموم، وقد أجبنا ثمة عن أدلة المخالفين، قوله: لم لا يجوز أن يكون التوعد على الأمرين جميعًا دون كل واحد منهما؟ واعلم أن هذا سؤال مشكل على الاستدلال بهذه الآية. وقد أجاب الناس بأجوبة لا يكاد يصح واحد منها، فلنذكر بعض ما ذكر في ذلك وهو أجودها ونذكر وجه الخلل فيه. فالأول: وهو ما أجاب به أبو الحسين البصري، وهو: أن اتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرمًا ومتواعدًا عليه إلا عند مشاقة الرسول لزم أن لا يجب اتباع سبيلهم إلا عند مشاقة الرسول لما ذكرتم من أنه لا واسطة بينهما لكن ذلك محال؛ لأن مشاقة الرسول ليست عبارة عن المعصية كيف كانت، بدليل أنه لا يقال لكل من عصى الرسول أنه مشاق له، بل هي عبارة عن الكفر

الكفر به وتكذيبه، وإذا كان كذلك فلو لم يجب اتباع سبيل المؤمنين إلا عند مشاقة الرسول [لزم أن لا يجب العمل بالإجماع إلا حالة تكذيب الرسول] وهو محال؛ لأن العلم بكون الإجماع حجة يتوقف على العلم بنبوته عليه السلام فإيجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة إيجاب للشيء المتوقف على الشيء حال عدمه وهو تكليف ما لا يطاق وهو محال. لا يقال: ما ذكرتم لازم عليكم أيضًا؛ لأن بتقدير أن لا تكون حرمة اتباع غير سبيل المؤنين مشروطة بالمشاقة كان هو حرامًا مطلقًا، أعني حالة المشاقة وحال عدمها، فما هو جوابكم عنه بالنسبة/ (7/ أ) إلى حالة المشاقة، فهو بعينه جوابنا عنه على تقدير اشتراط تحريمه بوجود المشاقة، فإن التزمتم على ذلك التقدير صحة تكليف ما لا يطاق التزمنا نحن أيضًا على تقدير اشتراط تحريمه بالمشاقة؛ لأنا نقول: إذا كان التحريم ثابتًا مطلقًا بحسب دلالة الآية لا يلزم منه إلا تقييد الحكم المطلق ببعض الأحوال لدليل العقل، أما إذا كان مشروطًا به لزم تعطيل النص بالكلية لأن عند عدم المشاقة لا يكون التكليف به ثابتًا لعدم ما يدل عليه وعند وجودها يستحيل التكليف به.

ومعلوم أن هذا الجواب لا يتأتى لكم، وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن المشاقة عبارة عن تكذيب الرسول والكفر به فقط، وما ذكرتم من الدليل لا يدل عليه، بل لو دل فإنما يدل على أنها ليست عبارة عن مطلق المعصية، ولا يلزم منه أن لا يكون عبارة عن بعض منها غير الكفر به وتكذيبه. سلمنا: دلالة ما ذكرتم على أنها عبارة عن الكفر وتكذيبه، لكنه معارض بما يدل على أنها عبارة عن مطلق المعصية؛ وذلك لأن المشاقة مشتقة من الشق وهو الطرف والناحية، فتكون المشاقة عبارة عن كون أحد الشخصين في شق، والآخر في شق آخر، وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغ. سلمنا: سلامته عن المعارض، لكن لا نسلم أن مطلق الكفر ينافي التكليف بالإجماع؛ وهذا لأن كون الإجماع حجة لا يتوقف إلا على صدق الرسول، والكفر الذي ينشأ من تكذيبه ومن عدم العلم بصدقه ينافي التكليف به. فأما الكفر الذي لا ينشأ منه نحو الذي يحصل من شد الزنار، ولبس الغيار، وإلقاء المصحف في القاذورات، والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتراف بكونه نبيًا، وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيًا وما يجري مجراها، فكل ذلك لا ينافي التكليف بالإجماع.

فإن قلت: هب أنه لا ينافي التكليف به، لكن يلزم منه تكليف الكافر بالعمل بالإجماع وهو ممتنع أيضًا. قلت: لا نسلم امتناعه وقد تقدم ما يدل على أنه ليس كذلك حيث بينا أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. سلمنا أن مطلق الكفر ينافي التكليف به، لكن لم قلتم أن ذلك غير جائز؟ وقد تقدم ما يدل على جوازه. واعلم أنه لو سلم امتناع تكليف ما لا يطاق، وامتناع كون الكفار مخاطبين بفروع الإسلام لمشى هذا الجواب، إذ الجواب عن المانعين الآخرين ممكن يعرف بالتأمل. وثانيها: وهو ما ذكره الإمام - رحمه الله - وهو: أن المعلق بالشرط، إن لم يكن عدمًا عند عدم الشرط فقد حصل الفرض. إن كان عدمًا عند عدمه لم تكن حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مشروطة بالمشاقة والإلزام أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين جائزًا مطلقًا عند عدم المشاقة ضرورة أن المعلق بالشرط عدم عند عدمه لكن ذلك باطل؛ لأن مخالفة الإجماع وإن لم تكن خطأ، لكن لا شك في أنها لا تكون صوابًا مطلقًا فبطل ما ذكروه. وهو أضعف من الأول. أما الأول: فلأنا لا نسلم أنه يحصل الغرض من القسم الأول؛ وهذا لأنه يجوز أن لا يكون المعلق بالشرط عدمًا عند عدمه وتكون حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين، وكونه متوعدًا عليه عدمًا عند عدم المشاقة بخصوصيته، وهذا يسهل

دفعه بأن يردد في نفس هذه الصورة. بأن يقال: حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن عدمًا عند عدم المشاقة فقد حصل الغرض. وأما ثانيًا: فلأنه إن عنى بقوله "مطلقًا" في قوله: وإن كان عدمًا عند عدمه لزم أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين جائزًا مطلقًا، الكل أي يجوز اتباع كل واحد مما هو غير سبيل المؤمنين فهذا غير لازم، إذ انتفاء حرمة اتباع كل واحد من سبيلهم لا يستلزم جواز اتباع كل واحد من سبيلهم؛ لأن دفع السلب الكلي لا يستلزم الإثبات الكلي. وإن عنى به الجواز في الجملة أي يجوز اتباع بعض ما هو غير سبيلهم حينئذ فهذا حق؛ لأن انتفاء السلب الكلي يستلزم الإثبات الجزئي، لكن لا نسلم بطلانه، بل هو مذهب الخصم وما ذكره من الدلالة عليه فهو غير صحيح لأنه إن عنى بالصواب مفهومًا زائدًا على الجواز فبتقدير تسليم أن مخالفة الإجماع لا يكون صوابًا فهذا المعنى لم يحصل المقصود، ولأن انتفاء الصواب حينئذ لا يستلزم انتفاء الجواز أن يكون انتفاؤه بانتفاء ذلك المفهوم الزائد. وإن عنى به ما هو المعنى من نفس الجواز يناقض كلامه؛ لأن معنى قوله: ليس بصواب حينئذ هو أنه ليس بجائز، وما ليس بجائز يكون خطأ قطعًا، فيلزم أن يكون خطأ على تقدير أن لا يكون خطأ وهو متناقض. سلمنا عدم التناقض، لكن لا نسلم أن خلاف الإجماع ليس بصواب مطلقًا؛ وهذا لأن معناه على التقدير أن خلافه ليس بجائز في الجملة، وأنه غير مسلم عند الخصم، بل هو مذهبه، فكيف يمكن أن يقال لا شك أن خلافه ليس بجائز في الجملة. هذا إن أراد بقوله "مطلقًا" في قوله: ليس بصواب مطلقًا كونه كذلك في الجملة.

وإن أراد به أنه كذلك في كل الصور فمسلم أنه ليس بصواب، لكن لا يحصل منه المقصود وهو حجية الإجماع، فإن ذلك إنما يحصل إن لو لم تجز مخالفته في صورة ما. وثالثها: وهو ما ذكر بعضهم أن الوعيد إذا ترتب على أمرين اقتضى ذلك ترتبه على كل واحد منهما وعليهما معًا، يدل عليه قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا}، فإن الإثم كما هو مترتب على/ (8/ أ) فعل الجميع مترتب على فعل كل واحد منها. وهو ضعيف أيضًا؛ لأنا لا نسلم أن ترتب الوعيد على كل واحد منها مستفاد من هذا النص، بل من دليل آخر وهو ما يدل على كون كل واحد منها محرمًا. ثم الذي يدل على أنه غير مستفاد من هذا النص هو: أنه لو كان مستفادًا منه لزم أيضًا ترتب ضعف العذاب على كل واحد منها لقوله تعالى: {يضاعف له العذاب} وبالإجماع ليس كذلك. فإن قلت: مقتضى الآية ذلك لكن خرج ذلك بدليل آخر. قلت: ليست إحالة عدم ترتب ضعف العذاب على فعل كل واحد منها إلى دليل آخر أولى من إحالة ترتب الإثم على فعل كل واحد منها إلى دليل آخر بل هذا أولى لأنه لا يلزم منه التعارض، وأما على ذلك التقدير فإنه يلزم منه التعارض وهو خلاف الأصل. وأيضًا: الرجل إذا قال لزوجته: "إن دخلت الدار وأكلت فأنت طالق"

فإنها لا تطلق بفعل أحدهما إجماعًا، ولو كان ما ذكرتم مقتضى الكلام لما انعقد الإجماع على خلافه، إذ ليس له دليل آخر بالأصل، ولما سبق من استلزام ذلك التعارض. ورابعها: أجمعنا على أن مشاقة الرسول وحدها يترتب عليها الوعيد المذكور وذلك يدل على ترتب الوعيد المذكور على اتباع غير سبيل المؤمنين وحده أيضًا؛ إذ ليس للنص إشعار بترتب الوعيد على خصوصية المشاقة، بل لو دل فإنما يدل على ترتبه على المجموع وعلى كل واحد منهما، فأما أن يدل على أحدهما دون الآخر فلا ولما دل على أحدهما دل على الآخر أيضًا. وهو أيضًا من جنس ما سبق؛ لأنا لا نسلم أن ذلك مستفاد من هذه الآية بل من دليل آخر. فإن قلت: الأصل عدم الدليل فيجب أن يكون مستفادًا من هذا الدليل لئلا يلزم القول بغير دليل؛ لأنا نقول: إن ذلك الدليل معلوم بالضرورة من دين محمد - عليه السلام - فلا يمكن الاستدلال بالأصل على نفيه. وخامسها: وهو أنه لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فأما أن يكون ذلك لمفسدة متعلقة به أو لا لمفسدة، لا جائز أن يقال بالثاني، فإن ما لا مفسدة فيه لا تواعد عليه وفاقًا، وإن كان الأول فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين أما أن يكون من جهة مشاقة الرسول، أو لا من جهتها فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التواعد لما قيل ولا حاجة إلى قوله "ويتبع غير سبيل المؤمنين". وإن كان الثاني لزم التواعد لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد.

وهو أيضًا ضعيف؛ لأنا نختار من جملة الأقسام المذكورة أنه كان التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين لمفسدة متعلقة به لكن بشرط وجود المشاقة. وقوله في الدلالة على فساده: فذكر المشاقة كاف في التوعد من غير حاجة إلى قوله {ويتبع غير سبيل المؤمنين} ممنوع، وهذا لأنه إنما يكون كاف لو كانت المشاقة مستقلة باقتضاء تلك المفسدة، وأما إذا لم تكن مستقلة بذلك فلا، ولو عنى بقوله: فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن يكون من جهة مشاقة الرسول، أو لا من جهتها أن تكون المشاقة مستقلة باقتضاء تلك المفسدة منعنا القسم الثاني، وهو أنه يلزم التواعد على اتباع غير سبيل المؤمنين بدون المشاقة إذ لا يلزم من استقلالها أن لا يكون لها مدخل في تحقق المفسدة المتعلقة باتباع غير سبيل المؤمنين. والأولى في ذلك وجهان: أحدهما: أن مشاقة الرسول من جملة غير سبيل المؤمنين، فلو كانت شرطًا في حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين لزم أن تكون حرمة الشيء مشروطًا بوقوعه وهو مناقض للمعنى المقصود من التحريم، فإن المقصود من تحريم الشيء منع إدخاله في الوجود، ولأن الفعل بعد ما وجد لم يبق متعلق التكليف وفاقًا وكونه محرمًا بعده يقتضي ذلك فالجمع بينهما متناقض. لا يقال: ما ذكرتم إنما يلزم لو كانت حرمة المشاقة منحصرة في جهة كونها غير سبيل المؤمنين لكنه ليس كذلك ليس كذلك؛ لأنها محرمة لخصوص جهة المشاقة أيضًا، وحرمتها بهذا الاعتبار غير مشروطة لوقوع نفسها فلا يلزم ما ذكرتم من المحذورين؛ لأنا نقول: نحن ما ادعينا أنه يلزم أن لا تحرم المشاقة إلا بعد

وقوعها وأنها لا تبقى متعلق التكليف إلا بعد وقوعها حتى يكون ما ذكرتم قادحًا فيه بل ادعينا أن اعتبار شرطية المشاقة في تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين يستلزم المحذور المذكور فيكون باطلاً [وما] ذكرتم غير قادح فيما ذكرناه. وثانيهما: أن الآية سيقت لتعظيم الرسول، ولتعظيم مجموع المؤمنين، وذلك إنما يحصل لو حرم كل واحد منهما بدون الآخر، وإلا لم يحصل هذا المقصود بل تعظيم مجمول الرسول تعظيم لهم لئلا يلزم الترك بسياق الآية وإذا كان كذلك وجب القول بأنه لا تشترط المشاقة في تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين كما لا يشترط هو في تحريمها تعظيمًا للرسول. قوله: الآية دالة على حرمة اتباع بعض ما هو غير سبيل المؤمنين لا على حرمة اتباع الكل لأن لفظ السبيل والغير مفرد. قلنا: بل هي دالة على حرمة الكل لوجوه: أحدها: أنهما وإن كانا مفردين لكنهما مضافان إلى الجمع المعرف باللام وهو يفيد العموم، فكذا ما أضيف إليه ويصير المعنى على هذا: ويتبع كل واحد مما هو غير سبيل المؤمنين. وثانيها: أن/ (9/ أ) الرجل إذا قال: "من دخل غير داري ضربته" فهم منه العموم، ولهذا يصح منه استثناء كل واحد من الدور المغايرة لداره.

وثالثها: أنا لو لم نحمله على العموم فإما أن نحمله على بعض معين منه وهو باطل، [إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه أو على بعض غير معين وهو أيضًا باطل] لما فيه من الإجمال، أو لا يحمل على شيء وهو أيضًا باطل وهو ظاهر، فيتعين الحمل على العموم. ورابعها: أن ترتيب الحكم على الاسم يشعر بكون المسمى علة لذلك الحكم، فعلة التهديد والتوعد هو كونه اتباعًا لغير سبيل المؤمنين فيعم الحكم لعموم علته. قوله: العمل على البعض متعين وهو ما صاروا به مؤمنين. [قلنا: قد تقدم أنه للعموم فيجب إجراؤه على العموم وأما قوله أولاً: إن الفهم يتبادر إليه]. قلنا: ممنوع. سلمناه لكنه وجد هنا ما يدل على أن المراد منه ليس ما ذكرتم؛ وذلك لأنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لزم التكرار ضرورة أنه لا معنى لمشاقه الرسول إلا اتباع غير سبيل المؤمنين فيما صاروا به غير مؤمنين، فيكون النهي عنه نهيًا عن اتباع غير سبيل المؤمنين فيما صاروا به غير مؤمنين، وهذا إنما يتم لو كانت المشاقة هي الكفر، فأما إذا كانت أعم منه أو أخص فلا، إذ لا يلزم من نهى الشيء نهى ما هو أعم منه أو أخص للتكرار. سلمنا دلالة ما ذكرتم لكنه معارض ببعض ما تقدم. وأما قوله ثانيًا: إن الآية وردت في رجلٍ ارتد.

قلنا: قد تقدم في باب العموم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب. قوله: لو حمل على الكل لا يفيد أيضًا. قلنا: ذاك لو حمل على الكل من حيث إنه كل، فأما إذا حمل على كل واحد واحد كما تقدم فإنه يحصل المقصود ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم، فإن الرجل إذا قال: "من دخل غير داري فله كذا" فإنه لا يفهم منه: أنه أراد به من دخل جميع الدور المغايرة لداره ولهذا يستحق الجزاء بدخول أي دار كانت غير دوره. قوله: لم قلت: إنه يلزم من حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين وجوب اتباع سبيلهم؟ قلت لوجهين: أحدهما: أنه يفهم في العرف من قول القائل: "لا تتبع غير سبيل الصالحين" الأمر بمتابعة سبيلهم، ولهذا لو صرح بالنهي عن متابعة سبيلهم معه وقال: لا تتبع سبيلهم أيضًا عد متناقضًا. نعم لو قال: "لا تتبع سبيل غير الصالحين" فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعتهم، ولهذا لو صرح معه بالنهي عن متابعتهم أيضًا بأن قال: "ولا تتبع سبيلهم أيضًا" لم يعد متناقضًا فإذا كان كذلك كان التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين أمرًا باتباع سبيلهم. وثانيهما: أن غيرها هنا بمعنى إلا؛ بدليل أنه لو كان بمعنى الصفة لزم إضمار الموصوف، والإضمار خلاف الأصل، فما يفضي إليه يكون أيضًا كذلك

كذلك، وجعل غير بمعنى إلا وإن استلزم التجوز لكنه خير من الإضمار، وحينئذ يصير المعنى: ومن يشاقق الرسول ويتبع إلا سبيل المؤمنين، ومعلوم أنه لو قال هذا لأفاد إيجاب اتباع سبيلهم فكذا هذا. قوله: "إنما يجب اتباع سبيلهم بشرط تبين الهدى". قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن قوله: "ويتبع غير سبيل المؤمنين" مطلق فتقييده بتبين الهدى خلاف الأصل، وكونه معطوفًا على المشاقة المشروطة بتبين الهدى لا يقتضي أن يكون أيضًا مشروطًا بتبين الهدى؛ إذ العطف لا يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأمور ولو سلم ذلك، لكنه يقتضي تبين دليل التوحيد والنبوة فقط؛ لأنه هو الهدى الذي شرط تبينه في المشاقة لا أدلة الفروع، وحينئذ لو شرط تبين أدلة الفروع في وجوب اتباع غير سبيل المؤمنين فإما أن يكون ذلك لأن العطف يقتضي الاشتراك بينهما في جميع الأمور وهو باطل؛ لأنه غير مشروط في المعطوف عليه، أو لغيره والأصل عدمه. ولو سلم وجود ما يقتضيه لكنه معارض بوجهين: أحدهما: أنه لو شرط في وجوب اتباع غير سبيل المؤمنين تبين دليله لخرج ذلك عن أن يكون اتباعًا لسبيلهم؛ لأن من يقول قولاً بناء على دليل لا يعد متبعًا لأحد وإن وافقه في ذلك، ولذلك لا يعد المسلمون متبعين لليهود والنصارى في القول بنبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - وهو خلاف مدلول الآية.

وثانيهما: أن هذه الآية خرجت مخرج التعظيم والمدح للمؤمنين، وتمييزهم عن غيرهم، فلو شرط في وجوب اتباعهم تبين دليل ما يتبعون فيه لم تكن الآية مدحًا لهم لأنه لا منقبة للنصارى واليهود في أن يقول المسلمون بقول من أقوالهم عند معرفة دليله. سلمنا سلامته عن المعارض، لكن لا نسلم أنه لم يبق إذ ذاك في التمسك بالإجماع فائدة؛ وهذا لأنه حجة قطعية غير قابل للنسخ والتخصيص بخلاف غيره من الأدلة. قوله: "لفظ السبيل غير مستعمل في حقيقته". قلنا: لا نسلم بل هو عندنا حقيقة في الطرائق والأقوال والأفعال التي يختارها الإنسان لنفسه بحسب قدر مشترك؛ وهذا لأنه مستعمل في الكل كثيرًا قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك}، {قل هذه سبيلي}، و {من أهدى سبيلاً}، و {من أضل سبيلاً}، والأصل في الاستعمال الحقيقة الواحدة. سلمنا أنه مجاز لكن لا نسلم أن الحمل على دليل الحكم أو الاستدلال عليه أولى من الحمل على نفس الحكم، وما ذكروه من الدلالة وإن دل عليه لكن لفظ الاتباع يمنع من حمله عليه إذ المتمسك بالدليل لا يكون متبعًا/ (10/ أ).

سلمنا ذلك لكنه لا يخل بمقصودنا وذلك، لأنه تعالى لما أمرنا بمتابعة دليلهم أو استدلالهم: دل ذلك على أنه حق وصواب مطلقًا، وإلا لما أمرنا باتباعه مطلقًا، وذلك يستدعي حقيقة ما أجمعوا عليه مطلقًا فيجب اتباعه. واحترزنا بقولنا: "مطلقًا" مما أدى إليه اجتهاد المجتهد على قولنا: إن كل مجتهد مصيب، فإنه وإن كان حقًا لكنه ليس مطلقًا لكن بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى من يقلده. قوله: "وجوب الاتباع أعم من وجوب الاتباع في كل الأمور، أو في بعضها والدال على العام لا يدل على الخاص". قلنا: الآية دالة على وجوب اتباع سبيلهم في كل الأمور، بدليل صحة الاستثناء، وبدليل الإيماء فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيشعر أنه إنما وجب اتباع سبيل المؤمنين [لكونه سبيل المؤمنين] فيعم الحكم لعموم علته، وأيضًا لما حرم اتباع كل ما هو غير سبيل المؤمنين وجب اتباع كل ما هو سبيلهم؛ ضرورة أنه لا واسطة بينهما، وهذا إنما يتم إن لو لم يجعل عدم الاتباع واسطة. قوله: "لا يجب اتباعهم في بعض الأمور قطعًا". قلنا: ندعي وجوب اتباعهم [في كل الأمور إلا ما خصه الدليل وما ذكرتم من الأمور خصه الدليل] فيبقى فيما عداه باق على دلالته. قوله: "الحمل على ما صاروا به مؤمنين أولى".

قلنا: لا نسلم، أما الوجه الأول [فلا نسلم] تبارد الفهم إليه [وهذا] لأن للآمر أن يذم المأمور ويوبخه على ترك بعض السنن والمندوبات التي لهم مع أنهم ما صاروا به صالحين، بل إنما صاروا صالحين بفعل الواجبات، وترك المنهيات، ولولا أنه للعموم لما صح الذم، ولو سلم ذلك لكن لم يمكن ذلك في الإيمان؛ لأنه لا يحصل بالتقليد، والاتباع إنما يكون بالتقليد على ما عرفت ذلك غير مرة؛ ولأن الحمل عليه يقتضي التكرار والتأكيد، فإن القرآن مشحون بالتحذير عن الكفر والحث على الإيمان، فلو حمل هذه الآية عليه لزم التأكيد، ولو حمل على جميع سبيلهم يحصل فائدة جديدة لم تحصل من غيرها فكان الحمل عليه أولى. وبهذين الأخيرين عرف الجواب أيضًا عن قوله: "الحمل على الإيمان أولى لكونه حاصلاً عند نزول الآية". وأما الوجه الثاني: فجوابه أنا لو سلمنا فهم ما ذكرتم منه دون العموم فإنما هو لقرينة عرفية اقتضت، وإلا فهو من حيث اللفظ يفيد التعميم لما سبق. قوله: " [يجب] اتباع كل المؤمنين أو البعض". قلنا: الكل إلا ما خصه الدليل. قوله: "الكل هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة. قلنا: ممنوع، وسنده ما سبق. قوله: "فحينئذ لا يتناول إلا إجماع الموجودين عند نزول الآية، وحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من الإجماعات حجة بالتقدير الذي سبق.

قلنا: لما تعذر الحمل على الكل الذين يوجدون إلى يوم القيامة، وعلى الموجودين عند نزول الآية، وجب حمله على كل مؤمني عصر دفعًا للتعطيل. قوله: "يحمل على كل مؤمني كل عصرٍ أو على بعضهم؟ قلنا: على كلهم إلا ما خصه الدليل، نحو العوام والمجانين والصبيان. قوله: "نحمله على الإمام المعصوم". قلنا: حمل لفظ الجمع على الواحد غير جائز عند الأكثرين، ومن جوز قال: إنه مجاز نادر لا يجوز الحمل عليه ما دام أمكن الحمل على ما يتحقق فيه معنى الجمع. لا يقال: نحن لا نحمل على الإمام المعصوم بل على الأئمة المعصومين لأنا نقول: لا وجود لإجماعهم قبل يوم القيامة، وبعده لا فائدة فيه، ولو اعتبر إجماع ثلاثة أو أربعة منهم لزم الترجيح من غير مرجح. قوله: "الإيمان أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه". قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه عندنا حقيقة في الإقرار باللسان فيحمل عليه، وحينئذ يمكن الاطلاع عليه، فلم قلت: إنه ليس عبارة عنه بطريق الحقيقة؟ لا بد لهذا من دليل. سلمنا أنه ليس حقيقة فيه، فلم لا يحمل عليه؟ قوله: "يلزم منه التجوز وأنه خلاف الأصل". قلنا: التجوز خير من تكليف ما لا يطاق.

سلمنا أنه حقيقة في التصديق القلبي، وأنه هو المراد من الآية، لكن لا نسلم أنه لا يمكن الاطلاع عليه على وجه العلم، وهذا لأنه يجوز أن يعلم بالقرائن الظاهرة، فإن الأمور الباطنة كالحب، والبغض، والعلم، والجهل قد تعلم بالقرائن الظاهرة. سلمنا أنه لا يمكن الاطلاع عليه على وجه العلم، لكن لا شك في إمكان الاطلاع عليه على وجه الظن، فلم لا يكتفى به في هذا المكان كما اكتفى به في مواضع كثيرة من التكاليف؟ فلو قال: أنه تجويز لاتباع من يجوز أن يكون كافرًا. قلنا: نعم لكن لم قلتم أن ذلك ممتنع؟ وهذا لأنه يجوز قتل المسلم بغلبة الظن بأنه كافر، فلم لا يجوز اتباع من ليس بمؤمن بناء على غلبة الظن بأنه مؤمن في مسألة فرعية؟ قوله: "سلمنا دلالة الآية لكن دلالة ظنية، أو قطعية؟ قلنا: دلالة ظنية. قوله: "المسألة علمية فلا يجوز التمسك فيها بما يفيد الظن". قلنا: لا نسلم أن المسألة علمية بل هي عندنا ظنية. سلمنا، لكن لم لا يجوز التمسك فيها بأدلة كل واحد منها وإن كان لا يفيد إلا الظن، لكن مجموعها يفيد القطع واليقين؟ والمقصود من هذه الأدلة تقوية الظنون إلى أن تنتهي إلى حد العلم. ومن هذا يعرف أن تشنيع الإمام غير واقع في موقعه؛ لأنهم حيث لم يكفروا ولم يفسقوا المنكر مدلول العمومات، فإنما لم يكفروا ولم يفسقوا،

لأنه لم تتظافر عليه عمومات مجموعها يفيد القطع واليقين، أو ظنًا قريبًا منه. وأما إذا كان مدلولاً لمثل هذه العمومات أعنى مثل عمومات الإجماع، فلا نسلم أنهم لم يكفروا ولم يفسقوا المنكر مدلولها، والإجماع من جملة ما تظافر عليه أدلة مجموعها يفيد القطع وإن لم يفد كل واحد منها ذلك. وثانيها: قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على/ (11/ أ) الناس}. ووجه الاحتجاج به: أنه وصف الأمة بكونهم أمة وسطًا، و"الوسط" هو العدل والخيار من كل شيء. قال الله تعالى: {قال أوسطهم}، أي أعدلهم وخيارهم. وقال عليه السلام: "خير الأمور أوساطها" أي أعدلها.

وروي عنه أنه قال: "عليكم بالنمط الأوسط" أي الأعدل. وقيل: "إنه عليه السلام أوسط قريش نسبًا" أي أخيرهم وأعدلهم. وقال الشاعر: هم وسط يرضي الأنام بحكمهم .... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم

أي عدول. وإذا كانوا عدولاً وخيارًا بتعديل الله تعالى وجب أن لا يجوز منهم صدور شيء من المحظورات، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا. فإن قيل: لا نسلم أنه وصف الأمة بالوسط، بل وصف المخاطبين بكونهم أمة وسطًا ولا يلزم منه وصف الأمة بكونهم أمة وسطًا. سلمناه، لكن الأمة أيضًا لا يتناول إلا الموجودين، فلو دلت الآية على عدالة الأمة فإنما تدل على عدالة الموجودين لا غير، فليس في دلالتها على عدالة الأمة زيادة على دلالتها على عدالة المخاطبين فإنه على التقديرين يختص بالموجودين حالة نزول الآية. سلمنا: تناوله للموجودين في كل عصر، لكنه متروك الظاهر؛ لأن ظاهره يقتضي عدالة كل واحد واحد من الأمة وهي ثابتة، للعلم الضروري أن كل واحد من الأمة ليس بعد ولا خيار لصدور المحظورات منهم، وحينئذ يجب حمله على المجاز وليس البعض أولى من البعض، فتبقى الآية مجملة فلا يصح بها الاستدلال. سلمنا: أن البعض منه أولى من البعض الآخر، لكن ليس الحمل على

الموجودين في كل عصر أولى من الحمل على الأئمة المعصومين. سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن الوسط هو العدل، وما ذكرتم من الدلالة عليه فهو معارض بوجهين: أحدهما: أن العدالة من فعل العبد، ضرورة أنها عبارة عن فعل الواجبات واجتناب المحرمات، وكونهم وسطًا من فعل الله تعالى لصراحة قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} فوجب أن يكون كونهم عدولاً غير كونهم وسطًا. وثانيهما: أن "الوسط" حقيقة فيما يكون متوسطًا بين الشيئين، فلو كان حقيقة أيضًا في العدالة لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل. سلمنا سلامته عن المعارض لكن لا نسلم أن كونهم عدولاً وخيارًا يقتضي أن لا يصدر منهم شيء من المحظورات؛ وهذا لأن الصغائر لا تقدح في العدالة، وحينئذ يجوز إجماعهم على الخطأ الذي هو من باب الصغائر. سلمنا ذلك لكن إنما جعلهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس في الآخرة بتبليغ الأنبياء الرسالة إليهم وذلك يقتضي عدالتهم في ذلك، فلم قلتم

أنهم عدول في غيره؟ وهذا لأن العدالة تتجزأ، فإن الرجل قد يكون عدلاً في شيء دون شيء. سلمنا أنها لا تتجزأ وأنه يقتضي أن يكونوا عدولاً في كل شيء لكن بالنسبة إلى وقت أداء الشهادة، أو مطلقًا؟. والأول مسلم، والثاني ممنوع، وهذا لأن عدالة الشهود لم تعتبر إلا وقت الأداء، دون وقت التحمل، ولا شك أن وقت الأداء إنما هو الدار الآخرة فيقتضى تحقق عدالتهم فيها فقط. سلمنا دلالة الآية على تحقق عدالتهم في الدنيا والآخرة لكن على وجه القطع، أو على وجه الظن؟ والأول ممنوع، وسنده ظاهر. والثاني مسلم، لكنه لا يفيد إذ المسألة علمية فلا يجوز التمسك فيها بالدليل الظني. سلمنا دلالته على تحقق العدالة قطعًا، لكن العدالة تدل على عدم صدور الخطأ ظاهرًا، أو قطعًا؟ والأول مسلم، ولا يفيد، إذ الإجماع حينئذ يصير حجة ظنية. وأنتم لا تقولون به. والثاني ممنوع، إذ من المعلوم أن العدالة لا تدل على عدم صدور الخطأ على وجه القطع.

الجواب: قوله: "وصف المخاطبين بالوسط لا الأمة. قلنا: خطاب المشافهة لا يتناول سوى الموجودين، والأمة أيضًا لا تتناول إلا الموجودين على ما ذكرتم، وساعدناكم عليه، فيكون وصف المخاطبين بذلك يقتضي وصف الأمة بذلك. قوله: "الآية إنما تدل على عدالة الموجودين لا غير. قلنا: سبق الجواب عنه في المسلك الأول. قوله: "الآية متروكة الظاهر وليس البعض أولى من البعض فتكون مجملة". قلنا: لا نسلم أن ليس البعض أولى من البعض، وهذا لأن الحمل على الموجودين في كل عصر أولى دفعًا للتعطيل. قوله: "ليس الحمل عليه أولى من الحمل على الأئمة المعصومين". قلنا: قد مر الجواب عنه في الدليل الأول. قوله: "لا نسلم أن الوسط هو العدل". قلنا: قد مر الدليل عليه في وجه الاستدلال. قوله: في المعارضة الأولى "العدالة من فعل العبد". قلنا: لا نسلم، وهذا لأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى عندنا ولو قال: العدالة من كسب العبد، وكونهم وسطًا ليس من كسبهم [فلا يكون كونهم وسطًا عبارة عن كونهم عدولاً، منعنا الثاني، وهذا لأن قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} لا دلالة فيه على أن ذلك ليس من

كسبهم] قوله في الوجه الثاني "الوسط اسم للمتوسط حقيقة فلا يكون حقيقة في العدالة". قلنا: هو حقيقة فيه بحسب قدر مشترك بينه وبين العدالة وهو: البعد عن الطرفين لا بحسب الخصوصية، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور ولو ادعيتم أنه حقيقة فيه بحسب الخصوصية منعناكم. ثم الذي يدل على مرجوحيته أنه يستلزم الاشتراك أو التجوز وكلاهما خلاف الأصل/ (12/ أ) وما ذكرنا لا يستلزم شيئًا من هذا فكان أولى. قوله: "الصغائر لا تقدح في العدالة". قلنا: لا صغيرة على الإطلاق، بل كل ذنب فإنه صغيرة بالنسبة إلى ما فوقه، كبيرة بالنسبة إلى ما تحته فقد سقط هذا السؤال. وأما أن قيل: بأن الصغائر والكبائر ثابتة على الإطلاق، فقد أجيب عنه على هذا التقدير: أن الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولاً، والأصل أن يكون ذلك حقيقة في نفس الأمر، لكونه عالمًا بالخفيات، والحاكم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل.

وهو ضعيف، إذ لا نزاع في أنه تعالى إذا أخبر عن عدالتهم تكون عدالتهم ثابتة، وإنما الكلام في أن العدالة هل تقتضي المنع من الصغائر أم لا؟ وما ذكره لا يفيده، ثم الذي يدل على أنه لا يمنع من تجويز الصغائر أن الفرق بين العصمة والعدالة معلوم، فلو اقتضت العدالة المنع من الصغائر والكبائر لما بقى بينهم فرق. فإن قلت: الفرق بينهما: أن العصمة تمنع من التجويز، والعدالة لا تمنع منه وإنما تمنع من الوقوع. قلت: من يقول بأن الإجماع حجة لا يجوز منهم صدور الخطأ إلا أنه لا يقع منهم مع جواز أن يقع ذلك منهم. وأيضًا: لو كانت الصغائر تقدح في العدالة لقدحت في عدول القضاة، إذ العدالة غير مختلفة بالنسبة إلى كل الأمة وإلى بعضها. وما قال الإمام في دفع هذا وهو "أنه لا اطلاع للقضاة على بواطن الأمور فلا جرم اكتفى بالعدالة الظاهرة، بخلاف الله تعالى فإنه عالم بظواهر الأمور وبواطنها، فإذا أطلق العدالة عليهم وجب أن يكونوا عدولاً في كل شيء". فليس بدافع، لأنه مبني على أن العدالة الظاهرة والباطنة تمنع من الذنوب كلها صغائرها وكبائرها وهو ممنوع لما سبق، وأيضًا [العدالة إذ لم تثبت باطنًا لم تمنع من الكبائر أيضًا فلا معنى لجعل] العدالة الظاهرة مانعة من الكبائر دون الصغائر. واعلم أنه يمكن تقرير الدلالة على أن العدالة متى تحققت وجب أن تمنع من المعاصي كلها، بأن يقال:

العدالة عبارة عن هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة [والأصل ترتب المقتضى على المقتضى، ولا شك أن الإتيان بالصغيرة يخل بالتقوى]، إذ التقوى بالاتقاء عن المعاصي، والصغيرة معصية فلو صدرت مع تحقق العدالة لزم عدم ترتب المقتضى على المقتضى وهو خلاف الأصل لكن هذا إنما يدل على عدم جواز صدورها عمدًا، فأما سهوًا أو نسيانًا فلا، إذ الإتيان بالمعصية على وجه السهو أو النسيان لا يخل بالتقوى وحينئذ لم يلزم حجية الإجماع. قوله: "إنما جعلهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس في الدار الآخرة بتبليغ الأنبياء الرسالة إليهم". قلنا: هذا تقييد للمطلق، لأن قوله {لتكونوا شهداء على الناس}، مطلق غير مقيد بشيء دون شيء، فتقييده بالشهادة على تبليغ الرسالة خلاف الأصل بل هو متناول له ولغيره إذا صح نقل هذا القول عن السلف، وإلا كان الحمل عليه بعيدًا، لأن الأمم السالفة شاهدت الرسل [و] المرسل إليهم، وكثير منهم من آمن بهم، فشهادتهم على المنكرين منهم أولى ممن لم يشاهد ذلك. قوله: "الآية تقتضي عدالتهم في الدار الآخرة". قلنا: لا نسلم [هذا]، لأن قوله: {وكذلك جعلناكم} يقتضي أن جعلهم وسطًا في الماضي، ولو كان [المراد] جعلهم عدولاً في الدار

الآخرة لقال "سيجعلكم" ولأن الأمم كلها عدول في الدار الآخرة، إما لعدم صدور المعاصي منهم فيها، أو وإن صدر من بعضهم الكذب كإنكار المعاصي كما حكى الله تعالى عنهم في الكتاب العزيز في مواضع، لكنهم غير مؤاخذين به لارتفاع التكاليف، وحينئذ لم يكن في تخصيص أمة محمد صلى الله عليه وسلم بذلك مزيد فائدة. وكونه جعلهم وسطًا ليكونوا شهداء على الناس في الدار الآخرة على تقدير تسليمه لا يقتضي أن يكونوا عدولاً في غيرها، لجواز أن تعدل في وقت وتتراخى الشهادة عنه. قوله: "دلالة الآية على تحقيق العدالة ظنية، وكذلك دلالة العدالة على عدم الخطأ ظنية، فلا يجوز التمسك بها. قلنا: قد مر الجواب عنه في المسلك الأول. وثالثها: قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. ووجه الاستدلال به: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم خير أمة، لأمرهم بالمعروف

ونهيهم عن المنكر، والمراد من المعروف والمنكر: كل المعروف وكل المنكر، أما إن قيل: بأن المفرد المحلى بالألف واللام للعموم فظاهر، إذ هو حقيقة في الاستغراق حينئذ والأصل عدم الصارف عنه. وأما إن لم نقل بذلك فيجب حمله على العموم هنا أيضًا، لأنه لو لم يحمل عليه، فإما أن يحمل على المعهود وهو إما ما يصح به الدين، أو غيره. والأول باطل، لأنه ليس في تخصيص هذه الأمة بذلك زيادة منقبة ومدح، إذ الأمم كلها تأمر بأصول ما يصح به دينها وتدعو إليه، مع أنه الآية ما سيقت إلا لبيان المدح والثناء عليهم. والثاني أيضًا باطل، إذ لا عهد بالنسبة إلى كله، ولا بالنسبة إلى البعض [لا بحسب الدليل العقلي، ولا بحسب الدليل النقلي فليس كله أولى من غيره وليس] البعض منه [أولى من/ (13/ أ) البعض الآخر فيتحقق الإجمال وهو خلاف الأصل]، والاكتفاء بالبعض منه أي بعض كان يوجب إلغاء فائدة التخصيص، إذ الأمم تشارك هذه الأمة في الأمر بمعروف ما والنهي عن منكر ما. وبهذا يعرف أيضًا [أنه لا يجوز حمله على الماهية أيضًا]، لأنه يكفي في تحقق مدلول النص على هذا التقدير الأمر بمعروف ما والنهي عن منكر ما، وإذا بطل أن يحمل على الماهية وعلى المعهود وعلى البعض معينًا، أو غير معين وجب حمله على الكل حذارًا من التعطيل، وإذا حمل على الكل من المعروف والمنكر لزم أن يكون الإجماع حجة، إذ لو جاز أن يجمعوا على ما ليس بحق

لكانوا آمرين به، وناهين عن ضده، فكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف، وهو خلاف مدلول الآية، وإذا كان ما أجمعوا عليه حقًا وجب اتباعه، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا. فإن قيل: ما ذكرتم مبني على أن الآية خرجت مخرج المدح، وأنها ما سيقت إلا لبيان الثناء عليهم على وجه الاختصاص بهم وهو ممنوع، ولم لا يجوز أن يقال: أنه ليس المراد منها إلا بيان ما هو عليه الأمة سواء كانوا فيه منفردين أو يشاركهم فيه غيرهم؟ سلمنا ذلك لكنه مدح له في الماضي أو في الحال؟ والأول مسلم، لكنه لا يفيد، إذ لا يلزم من مدحهم في الماضي باعتبار الصفة المذكورة ثبوت المدح لهم باعتبار تلك الصفة في الحال، بل لو نظر إلى المفهوم اقتضى ذلك عدمه في الحال. سلمنا ثبوت المدح في الحال لكن باعتبار ما كانوا عليه في الماضي أولاً بهذا الاعتبار؟ والأول مسلم، ولا يلزم منه مدحهم في الحال بذلك الاعتبار، فإنه يجوز أن يمدح الإنسان في الحال بما صدر عنه في الماضي وإن كان باعتبار ما في الحال يستحق الذم. والثاني ممنوع، وهذا لأن قوله: {كنتم خير أمة} صريح في أنه مدح لهم باعتبار الماضي. سلمنا أنه مدح لهم في الحال باعتبار ما كانوا عليه في الحال، لكن لم قلتم

أنه يجب بقاؤهم عليها في الاستقبال حتى يلزم أن يكون الإجماع حجة في جميع الأزمنة؟ ولا يمكن دفعه بعدم الفصل بين الزمانين لما سبق غير مرة، ولا بأن إجماعًا ما وهو الحاصل في ذلك الزمان يكون حجة حينئذ والخصم لا يقول به فيصير محجوبًا، لأنه لم يعلم حصول إجماع ما في ذلك الزمان لا بعينه ولا بغير عينه حتى يلزم حجيته. سلمنا ذلك لكنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين. سلمنا عدم اختصاصه بهم، لكنه متروك الظاهر وليس بعض المجازات أولى من البعض فيتحقق الإجمال. سلمنا أن البعض أولى من البعض، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الأئمة المعصومون؟ سلمنا دلالة الآية لكن دلالة ظنية، أو قطعية؟ الأول مسلم. والثاني ممنوع، وفد عرفت سنده فيما مر. الجواب عن الأول: أن كون الآية سيقت لبيان مدحهم، وأنهم خير من سائر الأمم فذلك معلوم من صراحة قوله {كنتم خير أمة} ومن سياق الكلام، وحينئذ يجب أن تكون الصفة المذكورة مختصة بهم، وإلا لما حصلت خيرتهم بالنسبة إلى سائر الأمم، وإنما تكون مختصة بهم لو أمروا بجميع المعروف ونهوا عن جميع المنكر، وإلا فسائر الأمم يشاركونهم في الأمر ببعض

المعروف والنهي عن بعض المنكر. وعن الثاني: أنه إن جعلت كان هنا زائدة كما في قوله تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيًا}. أو تامة، كما في قوله تعالى {كان ذو عسرة} فالسؤال ساقط بالكلية لأنه حينئذ لم يوجد ما يدل على اتصافهم بذلك في الماضي، بل وجد ما يدل على اتصافهم بذلك مطلقًا، لأنه يصير تقدير الكلام على الأول: أنتم خير أمة أخرجت للناس، وعلى الثاني: أي وجدتم وخير منصوب على التقديرين على الحال، ومعلوم: أنه لو قال هكذا لأفاد مدحهم وخيرتهم مطلقًا، فكذا قوله {كنتم خير أمة}. وإن جعلت خبرية وهي التي تحتاج إلى اسم وخبر فعلى هذا وإن كان لفظ "كنتم" يدل على ثبوت تلك الصفة في الماضي، لكن لفظ "تأمرون وتنهون" يدل على ثبوته في الحال أو في الاستقبال أو فيهما فيجب القول بثبوت مدلولهما لعدم المنافاة بين مدلوليهما بحسب المطابقة، ومفهوم كان لو سلم القول به لا ينتهض معارضًا لمنطوق تأمرون وتنهون؛ لأن المفهوم المخالف لا يعارض المنطوق. وبه خرج الجواب عن الثالث، فإن لفظ "تأمرون وتنهون" يدل على ثبوت هذه الصفة لهم في الحال أو في الاستقبال أو فيهما.

وعن الثالث، أنه إن قيل: أن صيغة المضارع حقيقة في الحال والاستقبال أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وقلنا. اللفظ الواحد يجوز استعماله في المعنيين المختلفين، أو قلنا: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك المعنوي، فإنه يجب حملها عليهما، وحينئذ تكون الآية دالة على ثبوت تلك الصفة في الحال والاستقبال، وأما إن لم نقل بذلك فيستدل على ثبوته في الاستقبال باستصحاب الحال وهذا وإن كان ظنيًا لكن دلالة الآية على المطلوب أيضًا ظنية عندنا. وعن البواقي ما سبق في المسلكين المتقدمين. ورابعها: وهو معتمد الإمام، وهو التمسك بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. أمر بالكون مع الصادقين فلا بد أن يكون مقدورًا لنا، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وحينئذ لم يجز أن يراد/ (14/ أ) منه الصادق في بعض الأمور، وإلا لكان ذلك أمرًا بموافقة كلا الخصمين، لأن كل واحد منهما صادق في بعض الأمور، ولكان ذلك أمرًا لكل واحد منهما بموافقة الآخر وهو باطل فيتعين أن يكون المراد منه: من يكون صادقًا في كل الأمور، وحينئذ نقول: إما أن يكون هذا أمرًا بالكون معهم في جميع الأمور، أو في بعضها. والثاني باطل، لأن ذلك البعض غير متعين بحسب دلالة الآية ولا بحسب غيرها، إذ الأصل عدم ذلك فيلزم الإجمال، وهو خلاف الأصل فيتعين الأول وحينئذ نقول، إن الصادقين الذين أمرنا بالكون معهم هم الصادقون في كل الأمور وهم إما مجموع الأمة أو بعضه، والثاني باطل، لأنه تعالى أمرنا بالطون معهم وجب أن يكون مقدورًا لنا كما سبق، وإنما يكون ذلك مقدورًا لنا أن لو عرفناهم بأعيانهم لكنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف أحدًا نقطع فيه

بأنه من الصادقين، وإذا كان كذلك كانت القدرة على الكون معهم فائتة والإمامية وإن قالوا بامتناع خلو زمان عن الإمام المعصوم، لكنهم لم يقولوا بامتناع عدم اشتهاره، ووجوب ظهوره حتى يمكن الكون معه، ولأن حمل لفظ الجمع المحلى بالألف واللام على الواحد ممتنع أو بعيد، وإذا بطل هذا القسم تعين الأول، وهو أن المراد من الصادقين مجموع الأمة دفعًا لتعطيل النص. ولقائل أن يقول: الأمر بالكون معهم إما أن يكون بشرط العلم بصدقهم، وأعنى بالعلم هنا ما يعم العلم، والظن، أولاً بهذا الشرط بل من يكون صادقًا في نفس الأمر وإن لم يعلم ذلك، والثاني باطل، لاقتضائه تكليف ما لا يطاق، ولو جاز هذا لبطل أصل الدليل فيتعين الأول، وحينئذ نقول: دلالة الآية على وجوب اتباعهم يتوقف على ثبوت صدقهم، فإثبات صدقهم بدلالة الآية دور. وبعبارة أخرى وهي أن وجوب اتباع الصادقين يتوقف على العلم بصدقهم فلو استفيد العلم بصدقهم من وجوب اتباعهم لزم الدور. سلمنا أن لا دور، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه ايجاب الكون معهم فيما صدقوا فيه دون غيره؟ وللنص به اشعار من حيث أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلة، فعلة الأمر بالكون معهم إنما هو صدقهم، وصدقهم إنما يوجد فيما صدقوا فيه دون غيره، فيجب اتباعهم فيه دون غيره لانتفاء علة الاتباع وإذا كان كذلك فلا يجب اتباعهم في كل الأمور إلا إذا ثبت أنهم صادقون في كل الأمور فلم قلت أنه كذلك؟ وخامسها: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}.

ووجه الاحتجاج به: أنه شرط في إيجاب الرد إلى الله تعالى والرسول التنازع، وقد تقدم بيان أن مفهوم الشرط حجة، فهذا يقتضي أنه لا يجب الرد إلى الله والرسول عند عدم التنازع، بل يكفي فيه بالاتفاق، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا. ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال ضعيف، لوجوه: أحدهما: أنه متناقص، لأن الاكتفاء بالإجماع رد إلى الله ورسوله، لأن المعنى من الرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهو أعم من الرد إليها بواسطة، أو بغير واسطة، إذ لو كان المراد منه الرد إليهما بغير واسطة لكان الحكم المثبت بالقياس، أو بالإجماع على رأي من يقول به، أو بالبراءة الأصلية لم يكن مردودًا إلى كتاب الله وسنة رسوله فكان باطلاً وهو متناقض للقول بحجيتها فثبت أن الرد إليهما أعم من الرد إليهما بواسطة أو بغير واسطة، فالاكتفاء بالإجماع عند عدم التنازع رد أيضًا إلى كتاب الله وسنة رسوله ضرورة أن حجيته عندكم مستفاد منهما فيكون وجه الاستدلال مناقضًا للنتيجة. وثانيها: أنا وإن سلمنا سلامته عن التناقض بناء على أن المراد من الرد إليهما الرد إليهما من غير واسطة لكن نقول: أن مفهوم الشرط إنما يكون حجة إذا لم يكن الباعث على التقييد العادة والغلبة، فأما إذا كان ذلك فلا، وهنا كذلك، لأن الإنسان إنما يحتاج إلى الإثبات عند التنازع، فأما عند الوفاق فلا [لمساعدة الخصم، فلا يدل عدم التنازع على عدم وجوب الرد إليهما].

سلمنا ذلك لكن لا نسلم عدم التنازع فأنا نفرض فيما إذا رجع بعض المجمعين عن الحكم، أو بعض المجتهدين في العصر الثاني لم يقل به فإنه إذ ذاك يوجد التنازع، فيجب الرد إليهما وهو يرفع القول بحجيته. سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن مفهوم الشرط حجة. سلمنا أنه حجة لكنه حجة ظنية أو قطعية؟ سلمنا أنه حجة، لكن الاكتفاء بالاتفاق إما بناء على صدوره عن الكتاب أو السنة إما بواسطة، أو بغير واسطة أو لا بناء على هذا. فإن كان الأول كان فيهما غنية عنه فيكون ضائعًا، وإن كان الثاني كان باطلاً، إذ القول في الشرع من غير دليل باطل وذلك معلوم بالضرورة. واعلم أن بعض هذه الأسئلة وإن كان سهل الجواب لكن البعض الآخر صعب فمن أمكنه الجواب عن كله فله التمسك بهذا النص. وسادسها: التمسك بقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} ووجه الاستدلال به: أنه نهى عن التفرق فيكون محرمًا، خص عنه التفرق فيبقى ما عداه على الأصل. لا يقال: المراد منه التفرق في الاعتصام بحبل الله، لا جميع التفرقات لأن الفهم يتبادر إليه، فإن الملك إذا/ (15/ أ) قال: احملوا كلكم على العدو، ولا تفرقوا، فهم منه النهي عن التفرق في الجملة. لأنا نقول: اللفظ مطلق فتقييده في الاعتصام بحبل الله خلاف الأصل، وما ذكرتموه من التبادر لو سلم القول به فإنه بناء على القرينة العرفية واعتبار اللفظ أولى من القرينة العرفية.

وأيضًا فإن الحمل عليه يوجب التأكيد ضرورة أن قوله: {واعتصموا بحبل الله جميعًا} نهى عن التفرق فيه بناء على أن الأمر بالشيء نهى عن ضده، والحمل على التعميم لا يوجب ذلك بل يوجب فائدة جديدة مستقلة فكان الحمل عليه أولى لما تقدم في اللغات. وسابعها: وهو التمسك بالسنة، وهو المعول عليه في إثبات هذا المطلوب لأكثر المحققين. وتقريره: أن نذكر أولاً ما ورد عنه - عليه السلام - في هذا الباب، ثم نبين وجه دلالته على المطلوب. فالأول: روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "لا تجتمع أمتي على خطأ" وروى "على ضلالة".

الثاني: أنه قال: سألت الله أن لا تجتمع أمتي على خطأ فأعطانيه". الثالث: "لم يكن الله بالذي ليجمع أمتي على الضلالة" وروى "أنه لم يكن الله ليجمع أمتى على الخطأ". وهذا من مراسيل الحسن البصري، ومراسيله أقوى من مسانيده، لأنه ما كان يرسل إلا إذا حدثه أربعة من الصحابة. الرابع: "يد الله على الجماعة ولا نبالي بشذوذ من شذ".

الخامس: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". السادس: "من سره بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم، وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد".

السابع: "عليكم بالسواد الأعظم" وهو جماعة الأمة، لأن كل من دونهم فالأمة بأسرها أعظم منهم". الثامن: "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه". التاسع: "من فارق الجماعة ومات مات ميتة جاهلية".

العاشر: "ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم الجماعة: فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". الحادي عشر: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، قيل يا رسول الله ومن تلك الفرقة؟ قال هي الجماعة".

الثاني عشر: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلوا الدجال". الثالث عشر: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم".

الرابع عشر: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله". الخامس عشر: "لن تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من نأواهم إلى يوم القيامة". السادس عشر: "من شذ شذ في النار" وأمثال هذه الأخبار كثيرة غير عديدة. إذا عرفت هذا فنقول: للأصوليين في الاستدلال بهذه الأخبار طرق: الطريقة الأولى: ادعاء التواتر المعنوي، وهو أولى الطرق المقطوعة، وتقريرها: أن هذه الأخبار وأمثالها اشتركت في أنه لا يجوز على مجموع الأمة الخطأ والمعصية، ولا يجوز ذهولهم عن الحق، ثم أن هذه الأخبار يرويها خلق كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب، فصار ما اشترك فيه مجموع هذه الأخبار وهو كون الإجماع حجة، أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجة مرويًا بالتواتر كشجاعة علي، وسخاوة حاتم.

وقدح الإمام في هذا النوع من الاستدلال بأن قال: "لا نسلم بلوغ مجموع رواة هذه الأخبار إلى حد التواتر، فإن العشرين، بل الألف لا يكون متواترًا، إذ لا يمتنع إقدام عشرين إنسانًا على الكذب في واقعة معينة بعبارات مختلفة. ثم قال: "سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار [في الجملة، لكنهم إما أن يدعوا القطع بلفظها، أو بمعناها، أما القطع بلفظها]. فهو أن يقال: إنا وإن جوزنا في كل واحد من هذه الأحاديث أن يكون كذبًا إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبًا، بل لا بد وأن يكون بعضها صحيحًا. وأما القطع بمعناها فهو أن يقال: إن هذه الألفاظ على اختلافها مشتركة في إفادة معنى واحد، فذلك المشترك يصير مرويًا بكل هذه الألفاظ فيكون ذلك المشترك مرويًا بالتواتر. فنقول: إن أردتم الزول فهو سلم، لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم أن كل واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة دلالة قاطعة وإلا لم يفد، لاحتمال أن يكون الصحيح ما ليس كذلك لكنكم ما فعلتم ذلك واستدلالكم بعد فراغكم من تصحيح المتن بواحد منها نحو قوله - عليه السلام - "لا تجتمع أمتي على خطأ" واستقصاء السؤال والجواب عليه ينفي أن يكون كل واحد منها قاطع الدلالة.

وإن أردتم الثاني: فذلك المعنى المشترك إن كان نفس كون الإجماع حجة، فقد ادعيتم أن كون الإجماع حجة منقول بالتواتر عنه - عليه السلام - لكن ذلك باطل، وإلا لكان العلم بكونه حجة جاريًا مجرى العلم بوجود غزوة بدر وأحد، ولما وقع الخلاف فيه لاشتراك الكل في ذلك، ولأن استدلالكم بواحد منها بعد الفراغ من تصحيح المتن واستقصاء السؤال والجواب عليه ينفي ذلك. وبهذا ظهر الفرق بين هذا وبين علمنا بشجاعة علي - رضي الله عنه - وسخاوة حاتم بعد سماع أخبارهما في ذلك، لأنا لا نحتاج إلى استدلال ببعض تلك الأخبار على إثبات الشجاعة والسخاوة بعد السماع بل يحصل لنا العلم الضروري بذلك. وإن كان معنى يلزم منه كون والإجماع/ (16/ أ) حجة، فذلك إن كان مطلق التعظيم فلا يفيد، وإن كان تعظيمًا ينافي إقدامهم على الخطأ فيؤول إلى ادعاء التواتر في كون الإجماع حجة وقد تقدم إبطاله، وإن كان غيرهما فلا بد من بيان إفادة التصور أولاً ثم بيان إفادة التصديق ثانيًا. وهو ضعيف، أما منعه فجوابه أن نقول: إنك اخترت مذهب المحققين وهو أنه لا يتعين للتواتر عدد معين، بل المرجع فيه إلى العلم فإن حصل العلم للسامع علم حصول عدد التواتر وسائر شرائطه وإلا فلا، ومن تتبع كتب الأحاديث، وأحاط بما ورد في هذا الباب من الأخبار، وخالط أهلها، فإنه يحصل له العلم الضروري بأنه - عليه السلام - قصد بها بيان تعظيم هذه

الأمة تعظيمًا ينافي إقدامهم على المعصية والخطأ، وكون الخلاف واقعًا فيه من زمرة قليلة غير مخالطة لأهل الأخبار، ولا محيطة بما ورد فيه لا ينفي ذلك، بل لو فرض الإنكار منهم مع تتبع كتب الأحاديث ومخالطة أهلها، لما قدح ذلك أيضًا؛ لأن إنكار الجمع القليل للضروريات مع الاشتراك في طرائقها غير ممتنع. وبهذا أجاب هو عن منع المرتضى في باب الأخبار فكيف عول على المنع هنا والمنع المنع، والجواب الجواب؟. وأما قوله: فإن العشرين بل الألف لا يكون متواترًا، إن أراد به أن هذا عدد لا يحصل به التواتر ألبتة فهو باطل قطعًا، وإن أراد به أنه قد يحصل وقد لا يحصل فهذا مسلم، لكنه احتمال آت في كل عدد يفرض، إذ ليس لنا عدد نقطع أنه عدد التواتر، وأنه يحصل العلم الضروري بقولهم البتة، فإن كان هذا قادحًا به فليقدح في الكل وإلا فهو مقدوح. وأما قوله: نرى المستدلين بهذه الأخبار بعد فراغهم من تصحيح المتن يتمسكون بواحد منها، ويستقصون الكلام فيه سؤالاً وجوابًا فليس ذلك لتوقف العلم عليه بل لإزالة إشكالات تتطرق على لفظ ما يفيد اليقين إما بحسب التواتر المعنوي، أو اللفظي وهو غير ممتنع. أو يقال: أنه ليس على طريقة هؤلاء بل هو على طريقة غيرهم من الطرق الآتية. الطريقة الثانية: الاستدلال على كون هذه الأخبار صحيحة في الجملة

وتقرير هذه الدلالة من وجوه: أحدهما: أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان آحادًا محتملاً لكونه صادقًا أو كاذبًا، لكنا نعلم قطعًا أنها بأسرها ليست كاذبة، وأي واحد منها صح بمعنى أنه قطع بصدقه لزم أن يكون الإجماع حجة، لما تقدم أن القدر المشترك بين هذه الأخبار إما نفس كون الإجماع حجة، أو معنى يلزم منه ذلك. وثانيها: أن هذه الأخبار بتقدير صحتها يثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب والسنة، وما هذا شأنه: كانت الدواعي متوفرة على البحث عنه بأقصى الوجوه، أما القائلون به فلتصحيحه، وأما المنكرون له فلدفعه وإفساده فلو كان في متنها خلل استحال ذهول هؤلاء الخلق الكثير، والجم الغفير عنه بعد البحث التام والطلب الشديد، نظرًا إلى جري العادة، ولما لم يعلموا فيها خللاً إذ لو علموا ذلك لأظهروه، ولو أظهروه لاشتهر إذ الإظهار والاشتهار في مثل هذا أوجب وأمس من إظهار واشتهار ما يقدح في مسألة فرعية لكنه ليس كذلك علمنا صحتها. واعترض الإمام عليه: بأنه إن عنى بالخلل في متنها ما يدل على فسادها وعدم جواز العمل بها، فهذا مسلم أنه لم يجدوا ذلك فيها، لكن لا يلزم من عدم ذلك القطع بصدقها، إذ أخبار الآحاد المعمول بها بهذه المثابة مع أنها ليست مقطوعة الصدق. وإن عنى به ما يقدح في قطعها، فلا نسلم أنهم لم يعلموا ذلك في متنها، فإنهم لما علموها آحادًا فقد علموا خللاً في متنها بالتفسير المذكور، ولا يقال: أن واحدًا منهم لم يقل بذلك بل كلهم أطبقوا على أنها متواترة، لأن ذلك إن ثبت بالتواتر لزم كونها متواترة عندنا ضرورة ثبوت تواتره بالتواتر لكن ادعاء

ذلك ادعاء لما علم بالضرورة خلافه، فإن من المعلوم بالضرورة أن كل واحد من تلك الأخبار ولا واحدًا منها بعينه متواتر عندنا. وإن ثبت ذلك بالآحاد لزم كونها آحادًا؛ لأن من شرط التواتر استواء الطرفين [والواسطة وهو منقدح. وثالثها: أن هذه الأخبار كانت مشهورة] بين الصحابة والتابعين وكانوا متفقين على موجبها مستدلين بها عليه [من غير اختلاف ولا نكير وكان الأمر هكذا إلى زمان ظهور المخالف] والاستقراء دل على إحالة اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع اختلاف هممهم ودواعيهم ومع تطاول الأزمان على الاستدلال لما لا أصل له، لا سيما في إثبات أصل هو مقدم على الكتاب والسنة من غير أن ينتبه أحدهم على فساده وبطلانه. وهو أيضًا ضعيف، لأنه إن عنى بقوله: "بما لا أصل له" أي بما هو غير صالح لإثبات الحكم فهذا مسلم، لكن لا يلزم من هذا أن يكون قاطعًا لأن ما يثبت به الحكم أعم من أن يكون قاطعًا أو غير قاطع. وإن عنى به غير قاطع المتن فهو ممنوع، وهذا لأنه لا بعد في أن يتفقوا على شيء مستدلين عليه بما لا يفيد إلا الظن كما اتفقوا على موجب حديث عبد الرحمن بن عوف وهو أخذ الجزية من

المجوس بالاستدلال به عليه مع أنه خبر واحد. وكما اتفقوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها وخالتها استدلالاً بخبر أبي هريرة وهو قوله - عليه السلام -: "لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها"

مع أنه خبر واحد. وبهذا أيضًأ يعرف اندفاع ما قيل في تقرير الوجه الذي نحن في تضعيفه: أن الاستقراء دل على أمتنا لا يجتمعون على/ (17/ أ) موجب حديث مستدلين به عليه وإلا كانوا قاطعين به. الطريقة الثالثة: أن نجعل هذه الأخبار من باب الآحاد، ونتمسك بواحد منها أو أكثر وهذه الطريقة طريقة من يقول: إن الإجماع حجة ظنية ويستدل بقوله - عليه السلام -: "لا تجتمع أمتي على خطأ" فإنه أصرح من غيره. ووجه الاستدلال به أن نقول: الحديث يدل بصريحه على أن ما اتفق عليه الأمة صواب فيغلب على الظن أنه كذلك، والعمل بالظن واجب لما سيأتي، فيكون العمل بالإجماع واجبًا، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا. فإن قيل: لا نسلم دلالة النص على المطلوب، وهذا لأن لفظ الأمة إن قيل: بأنه لا يتناول إلا الموجودين لم يكن شيء من الإجماعات حجة إلا إجماع الصحابة، لكن إجماعهم إنما يكون حجة أن لو عرفنا الموجودين منهم

وقت ورود الخبر، وبقاءهم بعد الرسول واتفاقهم على مسألة ما، ومن المعلوم أنه متعذر، فحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من الإجماعات حجة. فإن قيل: بأنه يتناول الموجودين وغيرهم فحينئذ يلزم أن يكون المراد من الأمة جميع من يوجد إلى يوم القيامة، إذ ليس بعض غير الموجودين أولى من البعض فيتناول الكل، وحينئذ إن لم يعتبر للميت قول لم يتصور حصول الإجماع، وإن اعتبر لم يتصور حصوله إلا عند انقراض العالم ومعلوم أنه لا فائدة فيه إذ ذاك، فلم يكن الإجماع حجة. سلمنا أن المراد منها أهل كل عصر، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من الخطأ الكفر، أو خطأ يكون كبيرة؟ كما ورد في حديث آخر "لا تجتمع أمتي على ضلالة" فإن الخطأ الذي هو من باب الصغائر لا يوصف بالضلالة، وهذا لأن المطلق يحمل على المقيد. سلمنا أن المراد من الخطأ حقيقته، لكن لعل المراد منه الخطأ الذي هو سهو لا جميعه. سلمنا ذلك لكن إنما يلزم نفيه أن لو ورد الحديث على صيغة الخبر وهو ممنوع، فإن من الجائز أن كان واردًا على صيغة النهي فاشتبه على الراوي فرواه مرفوعًا. سلمنا أنه ورد بصيغة الخبر لكن جاز أن يكون المراد منه النهي، فإن صيغة الخبر تستعمل في النهي على وجه التجوز كما تقدم في اللغات. سلمنا أن المراد منه الخبر، لكن لم قلت أنه يلزم منه كون الإجماع واجب الاتباع؟ بل غاية ما يلزم منه أن ما أجمعوا عليه صواب لكن ليس كل صواب واجب الاتباع، ألا ترى أن المجتهد لا يجب عليه اتباع المجتهد الآخر ولا

[يجب على] العامي اتباع مجتهد بعينه مع أن ما ذهب إليه صواب. أما على قولنا: إن كل مجتهد مصيب فظاهر، وأما على قولنا المصيب واحد، فلأنه حينئذ يغلب على الظن صواب المجتهد وإن كنا لا نقطع به، والحديث أيضًا لا يفيد سوى غلبة الظن بصواب ما أجمعت الأمة عليه. الجواب: أما عن الأول فمن وجهين: أحدهما: ما تقدم في التمسك بالآية. وثانيهما: أن بقية الأحاديث نحو قوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق". ونحو قوله: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه". ونحو قوله "عليكم بالسواد الأعظم". ونهى عن الشذوذ نحو قوله: "من شذ شذ في النار". ونحو قوله: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وأمثالها ينفي ما ذكرتم من الاحتمال. وعن الثاني: أنه تقييد بغير دليل فيكون باطلاً، ونحن إنما نحمل المطلق على المقيد إذا دل دليل على الحمل عليه، وهو غير حاصل [هنا]، إذ الأصل عدمه لا بمجرد اللفظ، فإن ذلك المذهب باطل كما تقدم في بابه فيبقى قوله: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" على إطلاقه، والحديث الآخر على

تقيده إذ لا منافاة بينهما. وعن الثالث: أنه تقييد من غير دليل فيكون باطلاً؛ ولأنه ليس في تخصيص أمته - عليه السلام - بذلك فضيلة، فإن السهو ممتنع عادة على الجمع العظيم من أي أمة كان. وعن الرابع: أن عدالة الراوي المتحفظ المتيقظ ينفيه ظاهرًا. ولأن فتح هذا الباب يسد باب الاستدلال بأكثر النصوص، ولأنه مدفوع بسائر الأحاديث. وعن الخامس: أنه خلاف الأصل فإن الأصل استعمال الصيغة في مدلولها. وعن السادس: أن الأمة أجمعت على أن الإجماع إذا كان صوابًا يجب اتباعه، فالقول بكونه صوابًا مع عدم وجول اتباعه قول لم يقل به أحد، فلو كان هذا الاحتمال واقعًأ صحيحًا لأجمعت الأمة على الخطأ وهو خلاف مدلول الخبر. واعلم أن هذه الطريقة وإن كانت لا تفيد القطع بكون الإجماع حجة لكن تفيد ظنًا غالبًا بذلك لا ينقص عن الظن الذي يحصل من التمسك من نصوص الكتاب، وإن كان مقطوع المتن لضعف دلالالتها على المطلوب، وهذه الأخبار وإن كانت مظنونة المتن لكن صريحة الدلالة على المطلوب فلا ينبغي أن يقدح فيها. وثامنها: وهو الوجه المعقول الذي عول عليه إمام الحرمين: أن اتفاق

الخلق العظيم المختلف الدواعي والهمم على الحكم الواحد إما أن يكون الدليل أو لأمارة، أو لا لدليل ولا لأمارة، وهذا الثالث مستحيل عادة. فإن كان الأول كان الإجماع كاشفًا عن ذلك الدليل وحينئذ وجب اتباع الإجماع، وإلا لكان ذلك تجويزًا بمخالفة الدليل وهو ممتنع. وإن كان الثاني فمثل هذا الحكم وإن كان يسوغ مخالفته لأمارة أخرى لكن لما رأينا التابعين قاطعين بالمنع من مخالفة الإجماع علمنا اطلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة الإجماع إذ لو/ (18/ أ) كان المانع منه أيضًا الأمارة لما قطعوا بالمنع منه، وهذه الدلالة لو صحت تقضي أن يكون إجماع الخلق العظيم من كل أمة حجة وأن لا يكون الإجماع حجة إذا كان المجمعون عدد التواتر. واعترض الإمام على هذه الدلالة وقال: "لا نسلم انحصار التقسيم، وهذا فإنه يجوز أن يكون اتفاقهم على الحكم لشبهة، فكم من المبطلين - مع كثرتهم - في الشرق والغرب قد اتفقوا على حكم واحد لشبهة اعترضت لهم. سلمنا الحصر، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لأمارة؟ ولا نسلم إجماع الصحابة والتابعين على المنع منه. سلمنا ذلك، لكن لم جوزت حصول الإجماع على الحكم لأمارة؟ فلم لا يجوز حصول الإجماع على المنع من مخالفة الإجماع لأمارة أيضًا؟ واعلم أن السؤال الأول قادح وأما الثاني فضعيف، فإن العلم بإجماع الصحابة والتابعين على المنع من مخالفته بعد استقراء أحوالهم يكاد أن يكون ضروريًا.

وأما الثالث فيمكن أن يجاب عنه: بأن المعلوم من عادتهم أنهم كانوا يقطعون بالمنع من مخالفة الحكم الصادر عن الأمارة، ورأيناهم قاطعين في المنع من مخالفته فلا يكون ذلك صادرًا عن الأمارة. وتاسعها: وهو وجه آخر من المعقول، وهو: أن هذه الأمة آخر الأمم، لأنه قد ثبت أنه لا نبي بعد نبيهم فلا أمة بعدهم، فلو جاز إطباقهم على الخطأ وإصرارهم عليه لاحتاجوا إلى نبي يدعوهم إلى الحق كما احتاجت إليه سائر الأمم الذين كانوا على الباطل، فكانت البعثة واجبة بمقتضى الحكمة إذ ذاك، والإخلال به إذ ذاك غير لائق بالحكمة، ولذلك قال عليه السلام: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" فإن الأنبياء عالمون بالحق في تلك الشرائع، وفي شريعتنا لما امتنع وجود الأنبياء قام العلماء مقامهم، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجوز اتفاقهم على الخطأ. فإن قلت: قيام الأدلة والمعجزة الدالة على صدقه وهو القرآن يغني عن ذلك. قلت: بقاؤها إنما يكون بعصمة الأمة، إذ لو جاز إجماعهم على الباطل جاز إطباقهم على عدم القيام بها ونقلها فحينئذ لا يحصل بها الاكتفاء. وأيضًا فإن ذلك إنما يغنى بالنسبة إلى مسائل الأصول كالتوحيد وإثبات النبوة دون مسائل الفروع. فهذا ما أردنا إيراده من أدلة المثبتين للإجماع. وأما المنكرون له فقد احتجوا بوجوه من الكتاب، والسنة، والمعقول:

أما الكتاب فنحو قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، وقوله {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وكذا كل ما فيه نهى لكل الأمة، فإن ذلك يستدعي تصور الخطأ منهم، فإن النهي عما لا يتصور صدوره من النهي لا يجوز، وإذا كان الخطأ منهم متصور الوجود لم يكن الإجماع حجة. ونحو قوله تعالى: {فإن تناوعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. أوجب الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع واقتصر عليه، وذلك يدل على عدم اعتبار الإجماع، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز. ونحو قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} وهو يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع. وجواب النوع الأول: أنا لا نسلم أن ذلك خطاب للكل، بل لكل واحد بدليل تبادر الفهم إليه، والفرق بين كل واحد وبين الكل معلوم بالضرورة فلا يلزم من تصور المعصية من كل واحد منهم تصورها من جميعهم. وبهذا أيضًا يعرف اندفاع ما يذكر في هذا المقام من أن الخطأ جائز على كل واحد منهم فكذا على الكل. سلمنا أنه نهى للكل من حيث أنه كل، لكن النهى عن الشيء يستدعي تصوره بحسب نفسه فقط، أو تصوره بحسب نفسه والأمر الخارجي معًا؟

والأول مسلم، ولا يضرنا، لأنا نقول بامتناع الخطأ عليهم من جهة أنه لا يتصور الخطأ منهم بحسب نفسه بل لأمر خارجي. والثاني ممنوع، وهذا فإنه تعالى نهى نبيه عن الشرك في قوله تعالى: {ولا تكونن من المشركين}، وعن الجهل في قوله تعالى: {فلا تكونن من الجاهلين} مع أنه غير متصور منه بحسب الأمر الخارجي. وكذا نهى الله تعالى كل واحد من المكلفين عن الكفر والقتل، والزنا، مع علمه ببعضهم أنه يموت على الإيمان من غير قتل، وزنا، وما علم الله تعالى أنه لا يقع يستحيل وقوعه، لكن امتناعه لأمر خارجي لا بحسب نفسه. سلمنا أنه يستدعى جواز وقوعه مطلقًا لكن ليس كل جائز يقع، وما ذكرنا من الدليل يدل على أنه لا يقع فيجمع بينهما. وأما الآية الثالثة فهي حجة عليهم لا لهم، من حيث أنه وقع النزاع في أن الإجماع هل هو حجة أم لا؟ فنحن رددناه إلى كتاب الله وسنة رسوله وأثبتناه بهما. سلمنا أن المراد منه النزاع في الحكم لكن الرد إلى الإجماع رد إلى الكتاب والسنة من حيث أنه ثابت بهما وليس المراد الرد إليهما من غير واسطة، وإلا لبطل غيرهما من الأدلة. وبهذا أيضًا خرج الجواب عن الآية الرابعة، فإن كون الكتاب تبيانًا لكل شيء ليس بصريحه بل به وبالتوسط.

وأما السنة فنحو حديث معاد، والاستدلال به ظاهر، فإنه لم

يذكر الإجماع ولا الرسول - عليه السلام -، ولو كان مدركًا شرعيًا معروفًا لذكره معاد، وبتقدير أن لا يكون معلومًا له لوجب ذكره على الرسول - عليه السلام - لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز وفاقًا، والحاجة كانت ماسة إلى بيان مدارك الشرع إذ ذاك، ولما لم يذكره الرسول - عليه السلام - ولا معاذ - رضي الله عنه - علمنا أنه ليس مدركًا شرعيًا. ونحو قوله - عليه السلام -: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض". ونحو قوله: "لتركبن/ (19/ أ) سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" يعني في العدول عن الحق وعما جاءت به أنبياؤهم.

ونحو قوله: "لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي" ونحو قوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

ونحو قوله: "تعلموا الفرائض وعلموها للناس فإنها أول ما ينسى". ونحو قوله: "من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل". ونحو قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدًا". ونحو قوله: "خير القرون القرن الذي أنا فيه، ثم الذي يليه" الحديث.

فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالحق وذهولهم عنه. وجوابه: أما حديث معاذ، فإنما لم يذكر الإجماع فيه؛ لأنه لم يكن إذ ذاك حجة فلم يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأما الحديث الثاني فجوابه - بعد تسليم صحته - فإن فيه كلامًا - يحتمل أنه خطاب مع أقوام [وهم] الذين ارتدوا بعده - عليه السلام - كبني حنيفة الذين منعوا الزكاة، وقاتلوا أبا بكر - رضي الله عنه -، ولو سلم أنه خطاب مع الكل، لكن لا يقتضي ذلك جواز وقوعه منهم على ما

تقدم ذلك [ولو سلم ذلك] لكن إنما ندعي حجية إجماعهم إذا بقوا على صفة الإيمان لا مطلقًا. وهو الجواب بعينه عن بقية الأحاديث التي تدل على خلو عصر ما عن العلماء. وهذا الجواب إنما يستقيم على رأي من يجوز خلو الزمان عمن يقوم بالحق، فأما من لم يجوز ذلك فلا، بل هو يجيب عن البقية بأنه محمول على قلة العلماء؛ وهذا لأنه ليس فيها ما يدل بصراحته على أنه لا يبقى عالم ما في العصر، ولو سلم أن فيها ما يدل عليه لكن يجب حمله على ما ذكرنا، لمعارضة قوله - عليه السلام -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" وأمثاله جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن كل واحد من الأمة يجوز عليهم الخطأ فوجب أن يجوز على الكل، كما أن كل واحد من الزنج لما كان أسود وجب أن يكون الكل أسود. وجوابه ما تقدم، والمثال الذي ذكرتم لا يدل على اللزوم، بل يدل على أنه قد يكون كذلك وهو غير مفيد. وثانيها: أن الإجماع على الحكم إن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان باطلاً لمساعدتكم والدليل عليه فلا يجب اتباعه، وإن كان لدلالة وجب اشتهارها؛ لأن الدواعي تتوفر على نقل قواطع الوقائع العظيمة، وما اجتمع عليه علماء الشرق والغرب لا شك أنه واقعة عظيمة، وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة.

وإن كان لأمارة فهو محال، أما أولاً فلأن حجية الأمارة مختلف فيها عند العلماء فلا يمكن الاتفاق بناء عليها. وأما ثانيًا: فلأن دلالة الأمارة تختلف بالنسبة إلى الأذهان ويستحيل عادة تطابق الأذهان على دلالة واحدة من وجهي دلالتها. وجوابه: أنه يجوز أن يكون لدلالة وإنما يجب نقلها لو لم يحصل ما يسد سدها، فأما عند حصول ذلك فلا نسلم ذلك. سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون لأمارة. أما الوجه الأول: فلأن الاختلاف في حجية الأمارة محدث، فلا يمنع ذلك من انعقاد الإجماع على حكم بناء عليها قبل حدوث الخلاف، ولا بعده أيضًا، لجواز أن لا يبقى منهم مجتهد في بعض الأعصار فيعتبر قوله. وأما الوجه الثاني فممنوع، وهذا لأن تطابق الأذهان والهمم المختلفة إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال، فأما ما يترجح فيه ذلك فلا نسلم امتناع ذلك فيه. وثالثها: أن أمة محمد - عليه السلام - أمة من الأمم فلا يكون اتفاقهم حجة كغيرهم من الأمم. وجوابه: منع الحكم في المقيس عليه؛ وهذا لأن بعض أصحابنا كأبي إسحاق وغيره وجماعة من العلماء ذهبوا إلى أن إجماع علماء الملل السابقة

حجة أيضًا لكن قبل نسخ شرائعهم. سلمناه لكنه وصف طردي في مقابلة النص فلا يقبل. ورابعها قياس الأحكام الشرعية على إثبات العلم بالصانع، وعلى إثبات علمه وقدرته، فإنه لا يجوز إثبات شيء من ذلك بالإجماع، فكذا الأحكام الشرعية، والجامع بينهما أن كل واحد منهما لا يجوز إثباته إلا بدليل. وجوابه ما سبق [أنه] وصف طردي في مقابلة النص. سلمنا صحته لكن إنما لم يجز ذلك، لأن إثبات ذلك بالإجماع دور كما ستعرف ذلك، وإثبات الأحكام به ليس كذلك فافترقا.

"المسألة الثالثة" "في وجه استدلال الشيعة على أن الإجماع حجة"

"المسألة الثالثة" "في وجه استدلال الشيعة على أن الإجماع حجة" قالوا: لا يجوز خلو زمان من أزمنة التكليف عن الإمام المعصوم، ومتى كان كذلك كان الإجماع حجة. أما الأول، فلأن نصب الإمام لطف، لأن حال الخلق في فعل الطاعات والانكفاف عن المعاصي عندما يكون لهم إمام قاهر يحثهم على فعل الطاعات ويمنعهم عن القبائح أحسن مما إذا لم يكن لهم ذلك، والعلم بذلك ضروري مستفاد من استقراء العادة، ولذلك قيل: "الناس على دين ملوكهم"، ولأنه لو لم يكن أحسن حالاً منه لكان الفعل مع المعاون والمعاوق كهولاً معهما وهو باطل قطعًا، وكل لطف واجب. أما أولاً، فلأنه كالتمكين في إزاحة عذر المكلف، لأنه لا فرق بين رد الباب على وجه الضيف المدعو الذي يراد تناوله الطعام، وبين ترك التواضع له إذا علم من عادته أنه لا يأكل الطعام عند ترك التواضع له، والتمكين واجب فاللطف كذلك، ضرورة عدم افتراقها في مناط الوجوب.

وأما ثانيًا فلأنه لو لم يجب فعل اللطف لم يقبح فعل المفسدة، إذ لا فرق في العقل بينهما؛ لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما يختار المكلف عنده القبيح، وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب. والأول فعل المفسدة، والثاني/ (20/ أ) ترك اللطف، وإذا لم يكن بينهما فرق كان ترك اللطف أيضًا قبيحًا، وحينئذ يكون فعله واجبًا، ضرورة أن ما يكون تركه قبيحًا يكون فعله واجبًا. ثم ذلك الإمام الذي يجب نصبه يجب أن يكون معصومًا؛ لأن احتياج الخلق إلى الإمام إنما كان لصحة إقدامهم على المعاصي، فلو كانت هذه الصحة ثابتة في حقه لاحتاج هو أيضًا إلى إمام آخر، ويلزم إما الدور، أو التسلسل، وهما محالان. فثبت أنه يجب أن يكون معصومًا. وأما أنه متى كان كذلك كان الإجماع حجة، لأن الإجماع مهما انعقد فلا بد أن يكون قول الإمام فيه وإلا لم يكن إجماعًا إذ يعتبر فيه اتفاق جميع المجتهدين وهو سيدهم، فكيف لا يعتبر قوله؟ ومهما كان قول [من لا] يجوز عليه الخطأ فيما بين ذلك الاتفاق كان ذلك الاتفاق حجة بطريق الكشف عنه، لا أن نفس الاتفاق حجة، وهذا يقتضي أن يكون إجماع كل الأمة حجة، وأن لا يتوقف العلم بحجيته على العلم بالنبوة ضرورة أن الدليل ليس سمعيًا. وهو ضعيف، لأنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، وقد تقدم إبطالها إذ لا قائل بالفصل بين التحسين والتقبيح شاهدًا أو غائبًا، لأن أثبتهما

شاهدًا وغائبًا، ومن تفاهما نفاهما شاهدًا وغائبًا فإذا بطل القول به شاهدًا بطل القول به غائبًا، لأن القول بإثباته غائبًا دون الشاهد قول لم يقل به أحد. سلمناه لكن لا نسلم أن نصبه لطف؛ ولا نسلم أن حال الخلق عندما يكون لهم إمام أحسن مما إذا لم لكن لهم ذلك. وأما ما ذكروه من الوجه الأول فممنوع، وهذا لأن الاستقراء في ذلك غير متصور على مذهبكم، وهذا لأن الاستقراء فيه إنما يمكن أن لو خلا زمان من الإمام، وعندكم لا يخلو زمان عنه فلا يمكن استقراء الزمانين، أعني زمان وجوده، وزمان عدمه. سلمنا إمكان الاستقراء مطلقًا لكن تدعون التفاوت بين الزمانين بسبب نصب الإمام كيف كان أم بسبب أمام قوي قاهر؟

والأول ممنوع ولا يمكن دعواه؛ وهذا لأن من المعلوم بالضرورة أن نصب من لا يعرف ولا يؤبه به لا يظهر بسببه تفاوت البتة. والثاني مسلم لكنكم لا توجبونه، فما هو دعواكم لا يوجبها الدليل وما يوجبه لا تقولوه به. وأما الوجه الثاني فأنا نسلم أن الفعل مع المعاون والمعاوق ليس هو كمع عدمهما، لكن لا نسلم أن المعاونة والمعاوقة تحصل بمجرد الإمام كيف كان بل الذي نسلم حصولهما من إمام ظاهر قوي قاهر، وأنتم لا توجبون ذلك، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور. سلمنا أن نصبه يوجب التفاوت المذكور لكن متى لا يجب ذلك إذا خلا عن جميع جهات القبح أم مطلقًا؟ والأول مسلم، لكن لا يحصل مقصودكم منه إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن جميع جهات القبح وأنتم ما فعلتم ذلك. والثاني ممنوع، وهذا لأن بتقدير أن يكون مشتملاً على جهة من جهات المفسدة والقبح، لا سيما على الراجح، أو المساوي لا يجوز نصبه فضلاً عن أن يكون واجبًا، وهذا لأنه يكفي في كون الشيء قبيحًا اشتماله على جهة من جهات المفسدة. ولا يكفي بمثله في الحسن. لا يقال: إنما نقيم الدلالة على خلوه عن جهات المفسدة وهي من وجهين: أحدهما: أنه لا دليل على اشتماله على جهة من جهات المفسدة لأنا سبرنا وبحثنا فما وجدنا عليه دليلاً، وما لا دليل عليه يجب نفيه. وثانيهما: أن جهات المفسدة مشهورة منحصرة في نحو الكذب، والظلم والجهل، وهي بأسرها زائلة عما نحن فيه فوجب القطع بعدم اشتمالها على

جهة من جهات المفسدة. لأنا نقول أما الأول: فلا نسلم أن ما لا دليل عليه في نفس الأمر وجب نفيه، فكيف ما لا دليل عليه في علم الإنسان؛ وهذا لأن الباري تعالى ما كان عليه دليل في نفس الأمر في الأزل ضرورة انحصار أدلته في مخلوقاته فلو كان ما لا دليل عليه في نفس الأمر وجب نفيه لزم نفي الباري تعالى في الأزل وهو كفر صريح. وأما الثاني: فلا نسلم انحصار جهة المفسدة فيما نعلمه نحن من جهات المفسدة، وهذا لأن قبح صوم أول يوم من شوال ليس بشيء نعلمه من جهات القبح. فإن قلت: ما ذكرتم من احتمال منقوض بوجوب معرفة الله تعالى، فإن غاية ما يمكن في تقرير أنها لطف واجب: اشتمالها على المصالح نحو أن يقال: أن العلم بوجود الصانع المنعم داع لقبول تكاليفه، باعث على أداء الواجبات العقلية، مانع من ارتكاب قبائحها، وداع لنفي معظم الجهل وأشده ظلمة ومضرة ولا يمكن إقامة الدليل على خلوها عن جميع جهات القبح، ولأن هذا الاحتمال متطرق إلى جميع ما يقال أنه لطف واجب على الله تعالى وأنه يبطل القول بفائدة التحسين والتقبيح وأنتم سلمتم في هذا المقام القول بهما. قلت: أما النقض فمندفع، لأن الفرق بينهما حاصل، وهو أن المعرفة لطف واجب علينا فيكفي في وجوبها العلم باشتمالها على المصلحة وغلبة الظن بخلوها عن المفسدة، لأن غلبة الظن في حقنا قائم مقام العلم في وجوب العمل، بخلاف نصب الإمام فإنه لطف واجب على الله تعالى ولا يكفي في

الإيجاب على الله تعالى ظن كونه لطفًا، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ولا يتصور في حقه الظن، فما لم يثبت خلوه عن جميع جهات القبح لم يمكن القطع بوجوبه على الله تعالى. وأما الثاني: فإنه لا يقدح في قولنا: ما هو اللطف فهو واجب على الله تعالى وأنه يكفي أن يكون فائدة التحسين والتقبيح، وإنما يقدح في الحكم في فعل معين أنه لطف واجب على الله تعالى، وليس ذلك من ضرورة التحسين والتقبيح. سلمنا/ (21/ أ) أنه لا بد من تعيين جهة المفسدة في القدح في كون الفعل لطفًا واجبًا، لكنا نعين فيه جهات مفضية إلى المفاسد: أحدهما: أن نصبه ربما يكون سببًا للتأبى عن الانقياد، والدخول تحت الطاعة، وامتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي بسبب الاستنكاف، ولهذا قالت صناديد قريش وجهلتها: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}. وثانيها: أن نصبه يفضي إلى أن المكلف يترك القبيح إذ ذاك خوفًا من الإمام، لا لكونه قبيحًا وأنه مفسدة، بخلاف حالة عدم الإمام فإنه يتركه لكونه قبيحًا لا غير. لا يقال هذا باطل بترتيب العقاب على فعل القبيح، فإن المكلف إذ ذاك يترك القبيح لأجل خوف العقاب، لا لكونه قبيحًا، لأنا نقول لا نسلم أن هذا

قبيح؛ وهذا لأن ترتيب العقاب على فعل القبيح من لوازم القبيح، ولوازم الماهية معلولات الماهية، فترك القبيح لخوف العقاب على فعله أقل لتركه لكونه قبيحًا. ثم الذي يؤكد أن ترك القبيح لأجل خوف العقاب ليس بقبيح هو: أن المقتضى لترتب العقاب على فعله هو نفس القبيح وحصول الخوف بعد الشعور بهذا الاقتضاء لازم له، فلو كان ترك القبيح لأجل خوف العقاب قبيحًا لكان ترك القبيح قبيحًا، ضرورة أن مستلزم القبيح قبيح، ولا يتأتى هذا في الإمام لأن ترك القبيح لأجل خوفه ليس بلازم من لوازم القبيح. سلمنا أنه قبيح لكنه لازم الماهية ولا يمكن الاحتراز عنه، بخلاف الخوف بسبب الإمام فإنه ليس بلازم فيمكن الاحتراز عنه. وما ذكره الإمام - رحمه الله - من الدلالة على أنه ليس بقبيح لورود الشرع به إذ الشرع لا يرد بالمفاسد، فإنه مشترك بينه وبين صورة الإمام، وما ذكره من أنه حينئذ يصير وجوب نصب الإمام شرعيًا فممنوع، وهذا لأن معرفة ذلك من الشريعة لا يقتضي أن يكون وجوبه شرعيًا أيضًا، لاحتمال أن يقال: أن وجوبه عقلي، لكن إنما يعرف ذلك بعد ورود الشرائع به، نعم ما كان يمكن الجزم بوجوبه قبل ورود الشريعة به، لاحتمال أن ما ذكر مفسدة لكن لما وردت الشريعة به انتفى هذا الاحتمال فأمكن الجزم الآن بوجوبه عقلاً لانتفاء احتمال أن يكون ما ذكروه مفسدة اللهم [إلا] إذا فسر الوجوب العقلي: بما يستقل العقل بمعرفة وجوبه من غير توقف على الشرع لا بحسب نفسه، ولا بحسب ما تتوقف عليه حجيته، فحينئذ يكون ذلك قادحًا في كونه عقلها.

وثالثها: أن فعل الطاعات، وترك القبائح عند وجود الإمام أسهل مما إذا لم يكن ضرورة توفر الدواعي على ذلك على ما ذكرتم وسهولة الفعل عند توفر الدواعي فيكون سببًا لنقصان الثواب، إذ الفعل كلما كان أشق كان الثواب أجزل، للحديث، وهو مفسدة. فثبت بهذه الوجوه أن نصب الإمام يشتمل على المفاسد فوجب أن لا يجوز، فضلاً عنن أن يكون واجبًا. سلمنا خلوه عن جهة المفسدة لكنه لطف عينا، أو في الجملة ولو على طريق البدلية، أي يقوم غيره مقامه في كونه لطفًا؟ فإن ادعيتم الأول فممنوع؛ وهذا لأنه إنما يكون كذلك أن لو لم يكن هناك لطف آخر يقوم مقامه وهو ممنوع، ولا يمكن الاستدلال على عدمه بالأصل إذ المسألة علمية. وإن ادعيتم الثاني فمسلم، لكنه لا يحصل مقصودكم وهو الجزم بوجوبه في كل زمان، لأن ما لا يتعين لكونه لطفًا بعينه لا يتعين للوجوب في كل زمان. سلمنا أنه لطف بعينه لكنه في المصالح الدنيوية، أو [الدينية] الشرعية، أو الدينية مطلقًا شرعية كانت أو عقلية؟ فالأول مسلم لكنه لا يقتضي وجوبه؛ لأن تحصيل الأصلح في الدنيا غير واجب عليه تعالى، فما يكون وسيلة إليه أولى أن لا يجب. والثاني أيضًا مسلم، لكنه لا يقتضي وجوبه عقلاً إذ الوسيلة تجب كإيجاب

أصله، فلما كانت الدينية الشرعية واجبة بالشرع كانت وسيلة أيضًا كذلك. والثالث ممنوع، وهذا لأن جميع ما يحصل من المنافع من نصب الإمام منحصر في اندفاع الهرج والمرج، واستقامة أحوالهم فيما يتعلق بإقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وكل ذلك مصالح دنيوية أو شرعية، وعلى التقديرين لا يجب نصب الإمام عقلاً كما سبق. فإن قلت: أنه لطف في المصالح الدينية مطلقًا، شرعية كانت أو عقلية لأن ما ذكرناه من المنفعة في وجوده من الحث على أداء الواجبات، والمنع من القبائح لا اختصاص له بالشرعيات، بل يعمها والعقليات فإنه كما يحث على فعل الواجبات الشرعية، ويمنع من قبائحها، فكذا على الواجبات العقلية ويمنع من قبائحها. قلت: فحينئذ يمنع أن يكون حال الخلق عند وجود الإمام أقرب إلى الإتيان بالواجبات، والانتهاء عن المنهيات [وهذا لأنه إذا حثهم على فعل الواجبات، والانتهاء عن المنهيات] فربما تقوى دواعيهم على ضد ذلك إذ الإنسان حريص على ما منع، فكان فعل القبائح وترك الواجبات أقرب من العكس لقوة الدواعي إليه، ولهذا يكون فعل الذي يمنع منه السلاطين أكثر من الذي لم يمنع منه، ولهذا نهى عن التسعير، فإن الغلاء

إذ ذاك أكثر ولو سلم ذلك لكن إتيانهم ذلك إذ ذاك ربما يكون بمجرد خوفهم عنه من غير قصد امتثال الأمر والنهي، ولا شك أن ذلك ليس أقرب إلى الحق والسداد. سلمنا أنه لطف مطلقًا لكن لم قلتم أن كل لطف واجب؟ أما الوجه الأول: فلا نسلم أن فعل اللطف كالتمكين، ولا نسلم أن ترك التوتضع كرد الباب؛ وهذا لأن إرادة/ (22/ أ) تناوله الطعام مختلفة، فأي مرتبة فرضت من مراتبها كان رد اللباب مناف لتلك الإرادة، لأنه علامة الكراهة فكان مناف للإرادة، بخلاف ترك التواضع فإنه ليس كذلك، ولهذا لو صرح وقال: أريد أن تأكل طعامي لكن لا إلى حيث أنك لو لم تأكل طعامي إلا عند تقبيلي ليدك فعلت ذلك بل إرادة دون ذلك لا يعد مناقضًا، بخلاف ما إذا قال: أريد أن تأكل طعامي لا إلى حيث لو أنك جئت لذلك أترك الباب لك مفتوحًا [بل إرادة دون ذلك، فإنه يعد مناقضًا، ويعد كلامه متهافتًا] وذلك لأن أي مرتبة فرضت من مراتبها كان ذلك منافيًا له، ولأن فعل التواضع قد يشق على بعض الناس فيكون ذلك معارضًا لإرادة أكل الطعام فيبقى الأمر فيه موقوفًا على القوة والضعف بخلاف ترك الباب مفتوحًا فإنه ليس مشقًا على من دعا الناس إلى بيته وليس الفعل مع

المعارض كهو مع عدمه وعند ظهور الفرق لا يصح القياس سلمناه لكنه لا يفيد إلا الظن، والمسألة علمية. وأما الوجه الثاني فالملازمة ممنوعة، وهذا لأن الفرق حاصل بيهما، لأن ترك اللطف ترك الانفاع، وفعل المفسدة فعل الأضرار، والأول قد لا يكون قبيحًا بخلاف الثاني فإنه قبيح قطعًا، ولهذا لا يقبح منا ترك إنفاع الفقير ويقبح منا إضراره؛ ولأن ترك اللطف ترك المحصل وفعل المفسدة فعل المزيل وقد ورد الشرع يقبح الثاني دون الأول، وذلك يدل على تمكن المفسدة فيه دون الأول، سلمنا الملازمة لكنه قياس وهو غير مفيد لليقين. سلمنا أنه يجب فعل اللطف لكن اللطف المحصل، أم مطلق اللطف [حتى] المقرب. والأول مسلم، والثاني ممنوع؛ وهذا لأن ما ذكرتم من الدلالة لا يتناول اللطف المقرب، إذ التواضع إذ ذاك إنما يجب أن لو علم حصول الأكل عنده فأما إذا لم [يعلم] ذلك فلا نسلم وجوبه بل التمكين هو المقيس عليه إنما يجب إذا علم حصول الفعل المطلوب إذ ذاك، وحينئذ نقول: لم قلتم أن الإمام لطف محصل؟ بل هو عندنا لطف مقرب، وهذا لأنه لا يعلم حصول الطاعات، والانتهاء عن المنهيات من المكلفين عند حصول الإمام المعصوم، بل الذي يعلم أن حالهم إذ ذاك أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية. والذي يؤكد هذا الاحتمال: أنه لا امتناع في أن يعلم الله تعالى من أهل زمان أن الإمام لا يكون لطفًا محصلاً لهم فحينئذ يستحيل أن يكون الإمام لطفًا محصلاً لهم، ثم لا زمان إلا ويحتمل أن يكون ذلك الزمان، فلا يمكن القطع في شيء من الزمان أن يكون الإمام لطفًا محصلاً فيه لأهله.

سلمنا صحة دليلكم لكنه منقوض بعدم عصمة القضاة والأمراء والجيوش وبعدم وجوب نصب الإمام في كل بلد أو في كل قطر، ويكون ذلك الإمام غير قادر على إيصال النكبة بمن شاء من العصاة، وكيف شاء من غير أعوان وخدم، وبكونه غير قادر على الطيران، والاستتار عن العيون، وعلم الغيوب، فأنا نعلم بالضرورة أن حال الخلق عند عصمة القضاة والأمراء وتعدد الأئمة المعصومين، وعندما يكون ذلك الإمام قادرًا على ما شاء من الإساءة إلى العصاة مع علمه بالغيب أصلح مما إذا لم يكن كذلك، ولا يمكن دفع هذا باحتمال مفسدة فيها يعلما الله تعالى ولا نعلمها نحن لأن ذلك الاحتمال بعينه موجود فيما نحن فيه فكان يجب أن لا يجب. ولو قيل: أنه وإن كان لطفًا لكنه لا يجب فهذا يبطل مقدمة دعواه وهي أن كل لطف واجب. لا يقال: إن ما ذكرتم كله لطف مكمل وقد يجب أصل اللطف، دون اللطف المكمل، لأنا نقول: إذا كان دليلهما واحدًا يجب التسوية بينهما، فإن عمل في أحدهما وجب أن يعمل في الآخر وإلا ألغى فيهما اللهم إلا إذا أبدى معنى في أحدهما يوجب إلغاءه لكن الأصل عدمه. يلمنا سلامته عن النقض، لكن لم قلتم أنه يجب أن يكون معصومًا؟ قوله: لو لم يكن معصومًا لافتقر إلى إمام آخر. قلنا: لا نسلم بل الذي نسلم افتقاره إذ ذاك إلى لطف آخر لا إلى إمام آخر، وحينئذ نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو مجموع الأمة؟ وليس هو لطفًا لمجموع الأمة حتى يدفع ذلك بالدور بل هو لطف لكل واحد من الأمة، وحينئذ يجب عليهم إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون مجموع الأمة لطفًا له، ولا يكفيهم في ذلك القدح في أدلة الإجماع، لأن ذلك ينفي الجزم بعصمتهم وكون إجماعهم حجة، لا احتمال كونه حجة

والمانع يكفيه الاحتمال. سلمنا عصمته لكن لا نسلم أن ذلك يدل على أن قوله صواب، وهذا لأنه يجوز أن يكون باطلاً، لكن إنما أفتى بذلك خوفًا وتقية، فإنه لما رأى أهل العلم متفقين على ذلك القول خاف من مخالفتهم وذلك عندهم جائز. سلمنا أنه لا يجوز أن يكون ذلك خوفًا وتقية، فلم لا يجوز أن يكون ذلك على وجه السهو والنسيان منه؟! فأما من القوم كلهم فلا على هذا الوجه، لئلا يدفع بأن السهو والنسيان يستحيل على الجمع الكثير عادة بل على وجه التعمد من كلهم أو من أكثرهم وعلى وجه السهو من أقلهم فهذا تمام الكلام في تقرير كون الإجماع حجة على اختلاف المذهبين.

"الفصل الثاني" "فيما اختلف فيه أنه من الإجماع" وفيه مسائل:

الفصل الثاني فيما اختلف فيه أنه من الإجماع

الفصل الثاني فيما اختلف فيه أنه من الإجماع وفيه مسائل: المسألة الأولى إذا اختلفت الأمة في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث أم لا؟ اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب: فذهب الأكثرون/ (23/ أ) إلى المنع منه مطلقًا. وذهب أهل الظاهر، وبعض الحنفية، والشيعة إلى تجويزه مطلقًا. وفصل المحققون فيه فقالوا: إن كان القول الثالث يرفع شيئًا مما اتفق عليه القولان لم يجز إحداث القول الثالث. وإن لم يرفع ذلك جاز وهو المختار.

مثال الأول: اختلاف الأمة في الجد مع الأخوة: فمنهم من جعل المال كله للجد. ومنهم من جعل له بعضه إما بطريق المقاسمة، أو بطريق الفرضية على اختلاف الحالين. فالقول بأن المال كله للأخوة خلاف ما اتفق عليه القولان فيكون باطلاً. مثال الثاني: اختلافهم في متروك التسمية:

فمنهم من قال: يحل أكله سواء كان الترك عمدًا أو سهوًا. ومنهم من قال لا يحل أكله سواء كان الترك عمدًا أو سهوًا. فالقول الثالث: وهو التفصيل بين العمد والسهو في حل الأكل وعدمه كما هو مذهب مالك ليس خرقًا للإجماع؛ لأنه قول موافق للقولين السابقين لكن في حال دون حال فلا يمتنع. [فإن قلت] فقد قال الشافعي: "وطء الجارية الثيبة لا يمنع من ردها بلا عقر" مع أن الأمة قبله كانوا مختلفين على قولين: بمنع الرد أصلاً ورأسًا، أو بالرد مع العقر. [قلت]: لم يثبت خوض جميع الصحابة في المسألة بل كان القولان

من الخائضين لا غير، فلذلك قال الشافعي - رحمه الله - بالرد مجانًا، فأما إن كان ذلك على تقدير خوضهم جميعًا فيها واستقرار رأيهم على الرأيين فلا. احتج المانعون منه مطلقًا بوجوه: أحدها: أنه لو جاز القول الثالث فأما أن يكون [له] دليل أو لا يكون له دليل. فإن كان الأول فذلك الدليل إما أن يعلمه أهل العصر الأول المختلفون في المسألة أو لا يعلمه. فإن كان الأول فإما أن يكون راجحًا على مستند مذهبهم، أو مساويًا له، أو مرجوحًا عنه. والأول باطل وإلا لزم إجماعهم على الخطأ؛ لأن ترك العمل بالراجح مع العلم به والعمل بالمرجوح خطأ، وهم حينئذ مطبقون عليه فكان يلزم إجماعهم على الخطأ. وكذا الثاني، لأن مقتضاه إذ ذاك التوقف، أو التخيير فالجزم بالحكم إذ ذاك خطأ فكان إجماعهم على الجزم بالحكم خطأ. وإن كان الثالث كان القول المحدث باطلاً، لأن العمل بالمرجوح مع وجود الراجح باطل. وإن كان الثاني لزم ذهولهم عن الحق واتفاقهم على غير مقتضاه ولو جوزنا ذلك بطل أصل الإجماع. وإن كان ذلك لا لدليل كان القول به باطلاً فوجب أن لا يجوز القول الثالث بحال.

وجوابه أن نقول: لم لا يجوز أن يكون القول الثالث لدليل مرجوح واعتقد صاحبه رجحانه؟ والعمل بالمرجوح إنما يكون خطأ أن لو كان ذلك مع العلم بكونه مرجوحًا أما بدونه فلا. سلمنا أنه خطأ مطلقًا لكن المجتهد قد تمكن من العمل بالاجتهاد الخطأ. سلمنا فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون ذلك مع عدم العلم بذلك الدليل؟ قوله: لزم ذهول مجموع الأمة عن الحق. قلنا: ممنوع، وهذا لأنه إنما يكون كذلك أن لو كان ذلك راجحًا، فأما إذا لم يكن كذلك بأن يكون مساويًا له، أو مرجوحًا عنه فلا. وما ذكر من أن الحكم إذ ذاك إما للتخيير، أو التوقف فذلك عند العلم بهما لا مطلقًا. سلمنا فساد هذا القسم أيضًا، لكن لم لا يجوز أن يكون القول الثالث لا لدليل لكنه ظنه دليلاً وحينئذ لا نسلم أنه خطأ، وإنما يكون خطأ أن لو لم يكن كل مجتهد مصيب؟ سلمنا أن المصيب واحد لكن لا يلزم من كونه خطأ أن لا يمكن من العمل به لما سبق. وثانيها وهو ما تمسك به القاضي عبد الجبار: أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت على أنه يجب على كل واحد من المكلفين الأخذ بأحد

ذينك القولين، وأنه لا يجوز العدول عنهما، وتسويغ القول الثالث يبطل ذلك فكان باطلاً. وجوابه: أنه مشروط بعدم ظهور القول الثالث، فإذا ظهر زال الحكم لزوال شرطه. وهذا الاشتراط وإن كان محتملاً في الإجماع على القول الواحد، لكنهم حذفوه فيه، وقطعوا بعدم تطرقه إليه، وجزموا بوجوب الأخذ به دائمًا فلا يجوز التسوية بينهما إذ من شرط صحة القياس أن لا يكون الحكم مجمعًا عليه. وثالثها: أن القول الثالث إن كان خطأ وجب أن لا يسوغ القول به، وإن كان صوابًا وحقًا لزم إجماع الأولين على الخطأ. وجوابه: أنه لا يلزم من حقيقته خطأ ما سبق؛ لأن كل مجتهد مصيب. سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك ممتنع، وهذا لأن الممتنع عندنا إنما هو تخطئه كل الأمة فيما اتفقوا عليه لا مطلقًا، إذ يجوز خطأ بعضهم في المسألة، والبعض الآخر في مسألة أخرى. سلمنا امتناعه مطلقًا لكن لا يلزم من خطئه أن لا يسوغ القول به لما سبق. واحتج المجوزون مطلقًا بوجهين: أحدهما: أن الشافعي - رضي الله عنه - أحدث القول الثالث في رد الجارية الثيبة الموطوءة المعيبة، وهو مناف للقولين السابقين، لأنهم متفقان على أنها لا ترد مجانًا، ولم ينكر عليه أحد من علماء عصره فكان إجماعًا.

وجوابه: ما سبق من أنه لم يثبت خوض الجميع فيها واستقرارهم على الرأيين. وثانيهما: أنه لم يحصل إجماع على حكم واحد فلم يكن حجة كما قبل الاستقرار على الرأيين. وجوابه: منع الصغرى؛ وهذا لأنهم اتفقوا على أن للجد قسطًا من المال فالقول بحرمانه مع الأخوة مخالفة لما اتفقوا عليه فكان ممتنعًا. وعند هذا ظهر أن الحق من الأقوال هو ما اختاره المحققون.

المسألة/ (24/ أ) الثانية أهل العصر إذا لم يفصلوا بين المسألتين، فهل يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما أم لا؟

المسألة/ (24/ أ) الثانية أهل العصر إذا لم يفصلوا بين المسألتين، فهل يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما أم لا؟ اختلفوا فيه: فمنهم من جوز ذلك مطلقًا. ومنهم من منع ذلك مطلقًا. ومنهم من فصل وقال: إن كان طريق الحكم واحدًا لم يجز الفصل وإلا جاز. ثم اعلم أن هذا الخلاف مختص فيما إذا لم يوجد فيهم من فصل بينهما. فأما إذا علم نفي الفصل بصراحة قولهم نحو أن يقولوا: "لا فصل بينهما في شيء من الأحكام، أو في الحكم الفلاني" فإنه لا يجوز الفصل بينهما فيما نصوا عليه وفاقًا؛ لأنه إجماع صريح كغيره من الإجماعات والمختار إنما هو التفصيل. والدليل عليه: أن طريق الحكم في المسألتين إذا كان واحدًا، كما في توريث العمة والخالة، فإن من ورثهما فإنما ورثهما لأنه يرى توريث ذوى الأرحام. ومن لا يورثهما فإنما لا يورثهما لأنه لا يرى ذلك. كان ذلك جاريًا مجرى فولهم: "لا فصل بين هاتين المسألتين في ثبوت الحكم وعدمه، ضرورة

أنه يلزم من ثبوت العلة ثبوت حكمها، ومن نفيها نفيه، إذ الكلام حيث تكون العلة متحدة، ومعلوم أنهم لو قالوا ذلك لم يجز الفصل بينهما، فكذا عند حصول ما هو جار مجراه. احتج المجوزون مطلقًا بوجوه: أحدها: أنه لو لم يجز الفصل لوجب على من وافق الشافعي في مسألة الدليل يخص تلك المسألة، أن يوافقه في جميع المسائل؛ لأن المجموع المركب من بعض ما قاله وبعض ما قاله غيره قول لم يقل به واحد منهما لكنه باطل وفاقًا، إذ فيه حجر المجتهد عن النظر والاستدلال. وجوابه: أنه أن عنى بقوله: لو لم يجز الفصل عدم جوازه في كل واحد من الصور سلمنا الملازمة، لكنه لا يحصل المقصود، إذ لا يلزم من انتفاء السلب الكلي تحقق الموجب الكلي. وإن عنى به عدم جوازه في الجملة ولو في بعض الصور منعنا الملازمة؛ وهذا لأنا لا نمنع الفصل في كل الصور بل فيما اتحدت العلة فيه. وثانيها: أجمعت الصحابة والتابعون على أن كل ما ليس مجمعًا عليه فإنه مساغ للاجتهاد، وما نحن فيه ليس مجمعًا عليه فيسوغ فيه الاجتهاد، فلا يمتنع الفصل إذا أدى إليه الاجتهاد.

وجوابه: منع أن ما طريق حكمه واحد ليس مجمعًا عليه؛ وهذا لأنا بينا أنه جار مجرى قولهم لا فصل بينهما، ومعلوم أنهم لو قالوا ذلك لم يجز الفصل فكذا ما يجري مجراه. وثالثها: أن بعضهم أحدث قولاً ثالثًا ولم ينكر عليه فكان تجويزه مجمعًا عليه. بيان الأول: أن الصحابة كانوا على رأيين في زوج وأبوين، وزوجه وأبوين، كان ابن عباس ومن تابعه على أن للأم في المسألتين ثلث

جميع المال، وكان الباقون على أن لها ثلث الباقي بعد فرض الزوج أو الزوجة، فجاء ابن سيرين وأحدث قولاً ثالثًا، فقال بقول ابن عباس في زوجة وأبوين، وقال [بقول] سائر الصحابة في زوج وأبوين. وأما بيان الثاني: فإنه لو وجد الإنكار لنقل واشتهر، ولما لم يشتهر ولم ينقل بطريق الآحاد دل على أنه لم يوجد. وكذلك أحدث سفيان - رضي الله عنه - قولاً ثالثًا وهو: أن الجماع ناسيًا يفطر، والأكل ناسيًا لا يفطر، مع أن الأمة قبله على قولين بالإفطار وعدمه فيهما ولم ينكر عليه لما تقدم.

وكذلك أحدث مسروق في مسألة الحرام قولاً آخر غير الأقوال المذكورة [فيها] للصحابة من غير إنكار عليه. وجوابه: أن القول الثالث فيما ذكرتم من الصور إن لم يتضمن رفع حكم اتحد طريقه فقد سقط الاستدلال به، لأنه حينئذ غير دال على الجواز مطلقًا.

وإن تضمن فإنما جاز، لأنه لم يثبت خوض الجميع فيهما، أو وإن ثبت ذلك لكن لعلهم خالفوهم لوجودهم في حالة اتفاقهم، أو في عصرهم. وهذا إنما ينقدح إذا اشترك انقضاء العصر في انعقاد الإجماع. واحتج المانعون منه مطلقًا بوجوه: أحدها: أن تسويغ القول الثالث تخطئه للقولين الأولين وفيه تخطئة كل الأمة. وجوابه: ما سبق في المسألة السابقة. وثانيها: أن الأمة إذا قالت بثبوت الحكم في المسألتين، أو بنفيه عنهما فقد اتفقوا على أنه لا فصل بينهما، فالقول بينهما بالفصل رفع لهذا الإجماع فيكون باطلاً. وجوابه: منع أنهم اتفقوا عليه بل لم يوجد فيهم من يفصل بينهما وهذا ليس اتفاقًا منهم على عدم الفصل، وإلا لكان كل ما ليس قولاً لهم باطلاً، وفيه بطلان أكثر وجوه الاستدلالات، والطائف المستنبطة من الآيات. وثالثها: أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أوجبت على كل مكلف الأخذ بأحد ذينك القولين فيها، وحظرت الأخذ بغيرهما، وتسويغ القول الثالث يرفع هذا الإجماع فيكون باطلاً. وجوابه: ما سبق من أنه مشروط بعدم ظهور قول آخر فإذا ظهر زال الحكم لزوال شرطه.

المسألة الثالثة يجوز حصول الإجماع في المسألة بعد الخلاف فيها

المسألة الثالثة يجوز حصول الإجماع في المسألة بعد الخلاف فيها، سواء كان قبل استقرار الخلاف، وتفصيل المذاهب، ومضى أربابها عليها مدة، أو بعد ذلك كله. أما الأول، ففيه خلاف الصيرفي. لنا: إجماع الصحابة على دفنه - عليه السلام - حيث توفي بعد الاختلاف فيه، وإجماعهم على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - بعد

اختلافهم فيها. وإجماعهم على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم فيه، والوقوع دليل الجواز وزيادة. واحتج الصيرفي على امتناعه بوجهين: أحدهما: بأنهم أجمعوا حالة الخلاف على أنه يجوز الأخذ في المسألة بكل ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فلو حصل الإجماع بعد ذلك على حكم واحد، فإن لزم المصير إليه لزم بطلان الإجماع/ (25/ أ) الأول، وإن لم يلزم بل يقال حكم الأول باق لزم بطلان الإجماع الثاني، ولأنه ليس بطلان أحدهما بالآخر أولى من العكس، فإما أن يبطلا معًا وهو محال، أما أولاً: فلأنه

يلزم منه الخروج من النقيضين. وأما ثانيًا: فلأنه ليس علة بطلان أحدهما إلا صحة الآخر فلو بطلا معًا لصحا معًا، أو يصحا معًا وهو أيضًا باطل، لاستحالة اجتماع النقيضين، ولما لم ينفك حصوله عن أحد هذه الأقسام الباطلة كان حصوله باطلاً. وجوابه من حيث النقض، والتفصيل. أما من حيث النقض، فلأنه يقتضي امتناع حصول الإجماع على حكم كان غير مجمع عليه غير الإجماع على تسويغ الاجتهاد في كل ما ليس مجمعًا عليه إذ أمكن أن يقال: إنهم أجمعوا على أن كل ما ليس مجمعًا عليه فيما بينهم فإنه يسوغ فيه الاجتهاد، ويجوز الأخذ فيه بكل ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فلو انعقد الإجماع على حكم كان غير مجمع عليه لزم تعارض الإجماعين. وأما من حيث التفصيل: فهو أنا نقول: إن ذلك الإجماع كان مشروطًا بعدم الإجماع على قول واحد، فإذا حصل ذلك زال الحكم لزوال شرطه. وهذا وإن اقتضى إمكان اعتبار هذا الشرط في الإجماع على الحكم الواحد، وحينئذ يخرج أن يكون شيء من الإجماعات حجة دائمة وهو خلاف الإجماع لكن أهل الإجماع أجمعوا على عدم اعتباره فلا يمكن اعتباره. وثانيهما: أنه لا يجوز حصول الإجماع بعد استقرار الخلاف وتمهيد المذاهب فكذا قبله، والجامع دفع ما ذكرنا من المحذور. وجوابه: منع الحكم في الأصل ثم بالفرق على ما ستعرف ذلك إن

شاء الله تعالى في الكلام الذي نذكره بعد هذا. وأما الثاني فيقع على أنحاء: أحدها: أن يختلف أهل العصر الأول في المسألة على قولين، ثم يتفق أهل العصر الثاني على أحد ذينك القولين، وفيه خلاف الإمام أحمد - رحمه الله - والصيرفي وغيره من أصحابنا: كأبي علي ابن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، وأبي حامد المروروذي، وإمام الحرمين، والغزالي

وكثير من الحنفية، وكثير من المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري. لنا وجوه: أحدها: أنه لو وقع لم يلزم من فرض وقوعه محال لا بحسب العقل وهو ظاهر، ولا بحسب الشرع؛ لأن المحال الذي يظن أنه يلزم بحسب الشرع ليس إلا ما تقدم ذكره، وهو غير لازم، لما تقدم من الاحتمال، وحينئذ يلزم جواز وقوعه، فبعد وقوعه يكون حجة لاندراجه تحت أدلة الإجماع. وثانيها: أنه إجماع حصل بعد ما لم يكن، فيكون حجة كالإجماع الحاصل بعد التردد قبل استقرار الخلاف. والجامع بينهما اندراجهما تحت أدلة الإجماع، وعدم استلزامهما مخالفة إجماع آخر. وهذا الدليل إنما هو دليل على [غير الصيرفي. ولقائل أن يقول: الفرق بينهما ظاهر فإن حصول الإجماع على]

أحد القولين بعد استقرار الخلاف يقتضي بطلان القول الآخر الثابت المفتى به المحتج عليه وبه، بخلاف الإجماع حالة التردد وقبل استقرار الخلاف، فإنه لا يقتضيه فلا يلزم من عدم جوازه ثمة عدم جوازه هنا. وثالثها: أنه وقع ذلك، فإن الصحابة كانوا مختلفين في بيع أمهات الأولاد ثم اتفق التابعون على عدم جواز بيعهن. وهو أحد أقوالهم. والقول القديم للشافعي فيه عير معتبر؛ لأن أقواله القديمة مرجوع عنها غير معتد بها إلا على الندور، وأيضًا فإنه يحتمل أنه إنما قال ذلك بناء على أنه لم

يصح عنده إذ ذاك الإجماع، فلما صح ذلك رجع عنه، أو يقال: أنه وإن صح عنده الإجماع لكنه لم ير أن مثله حجة، وهو العذر بعينه عن مذهب الشيعة. وحينئذ لا يكون الخلاف فيه بعد عصر التابعين قادحًا في إجماع التابعين الذي هو المدعى، وإذ صح وقوعه وجب أن يكون حجة لاندراجه تحت أدلة الإجماع. احتجوا بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، أوجب الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله عند التنازع، وهو حاصل في الحال، لأن حصول الاتفاق فيه لا ينافي ما تقدم من الخلاف فوجب الرد فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله. وجوابه: منع أن التنازع حاصل في الحال وحصول الاتفاق في الحال وإن كان لا ينافي الخلاف السابق لكنه ينافي التنازع والخلاف في الحال. سلمناه لكن الرد إلى الإجماع رد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله على ما تقدم تقريره. وثانيها: قوله - عليه السلام -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ظاهره يقتضي جواز الأخذ بقول كل واحد من الصحابة، من غير فصل بين ما حصل الإجماع بعده وبين ما لم يحصل.

وجوابه من وجوه: أحدها: أنه خطاب مع العوام، بدليل ما يذكر أن مذهب الصحابي ليس بحجة، وإذا كان كذلك كان جواز الاقتداء به مشروطًا بجواز الافتاء بقوله، ضرورة أنه لا يجوز للعامي العمل به ما لم يفت به مفت، فللاستدلال بجواز الاقتداء به على جواز الإفتاء بقوله دور. وثانيها: أنه خص عنه جواز الاقتداء بهم في التوقف حال الاستدلال والنظر فكذا جواز الاقتداء بهم في القول الذي انعقد الإجماع في العصر الثاني على خلافه، والجامع بينهما تصحيح الإجماع الذي انعقد أخيرًا.

ولقائل أن يقول: الفرق بينهما حاصل وهو أن الاقتداء بهم في التوقف مخل بمقصود التكليف [بخلاف الاقتداء في القول الآخر فإنه/ (26/ أ) لا يخل بمقصود التكليف] فلا يلزم من تخصيصه تخصيص هذا. وثالثها: أنه محمول على ما يرويه الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو يخبر عنه بظنه الغالب دون ما يخبر عن اجتهاده حتى يعم ذلك بالنسبة إلى الصحابي وغيره، ولو كان ذلك محمولاً على القسمين لزم خروج الصحابي عنه؛ لأنه ليس مذهبه حجة بالنسبة إليه وفاقًا، وهو تخصيص بخلاف الأصل فيكون باطلاً. ورابعها: أن قول المجتهدين لا يموت بموتهم [بل] يبقى كما كان في حال حياتهم، بدليل أنه تحفظ أقوالهم في المسائل يحتج بها وعليها ولذلك دونت كتب الفقه، ونقلت أقوالهم فيها، وإذا كان كذلك وجب أن لا ينعقد إجماع مع مخالفة من سبق من المجتهدين كما هو في حال حياتهم مع مخالفتهم. وجوابه: أنه إن عنى بقوله: أن قول المجتهدين لا يموت بموتهم أنه لا يندرس بالكلية، ولا يجعل نسيًا منسيًا، لعدم تعلق الغرض به فهذا مسلم. لكن هذا القدر لا يقتضي أن لا ينعقد إجماع بدونه. وإن عنى به: أنه يكون مانعًا من انعقاد الإجماع على خلافه، كما هو في حال حياة صاحبه فهو عين النزاع.

وإنما دونت كتب الفقه لمعرفة مواقع الخلاف والوفاق، وطرق الدلالة على المسائل، وما قيل فيها، فإن نظر المجتهد إذ ذاك لا شك أتم. وخامسها: أنهم إذا اختلفوا في واقعة واستمروا عليها، وأفتوا بذلك فقد اتفقوا ضمنًا على جواز الأخذ بكلا القولين، فلو انعقد الإجماع على أحد القولين، فإما أن يكون ذلك مانعًا من جواز الإفتاء بالقول الآخر أو لا يكون. والقسمان باطلان، لبطلان أحد الإجماعين فما يفضى إليه أيضًا كذلك. وجوابه: ما سبق، وأيضًا النقض بالإجماع بعد الخلاف وقبل استقراره وهذا يختص بمن سلم الحكم فيه، فأما من لا يسلم الحكم فيه كالصيرفي فلا يصح هذا الجواب بالنسبة إليه. وسادسها: أنه قد مضى أن الأمة إذا اختلفت في المسألة على قولين فإنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، والقطع على قول واحد غير القولين لهم، ضرورة أن كل واحد منهما غير مقطوع به فيكون غير جائز. وجوابه: أنه غير باعتبار الصفة دون اعتبار الذات، والممنوع إنما هو الأول دون الثاني. سلمناه لكن بينا أنه غير ممنوع عنه مطلقًا. سلمناه، ولكن متى لم يجز إحداث قول ثالث إذا كان الإجماع منعقدًا على عدم جوازه مطلقًا، أم إذا كان مشروطًا بشرط؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع، فلم لا يجوز أن يقال: إنه مشروط بعدم اتفاق الكل على قول واحد؟ وسابعها: لو كان قولهم إذا اتفقوا - بعد الاختلاف - حجة لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة. وفيه كون القول بالموت حجة.

وجوابه: منع لزوم كون القول بالموت حجة. بل اللازم أنه يصير عنده حجة لاندراجه، تحت أدلة الإجماع لا به. وثامنها: أنه لو كان اتفاقهم على القول الواحد من ذينك القولين حجة لكان ذلك لأن ذلك الاتفاق حاصل عن دليل بأن الاتفاق الحاصل لا عن دليل باطل وفاقًا، لكن ذلك باطل، إذ لو كان لما خفى على أهل العصر الأول. وجوابه: أنه ما خفى على كل أهل العصر الأول، وإنما خفى على بعضهم والمحذور إنما هو الأول دون الثاني. وتاسعها: أن أهل العصر الثاني بعض الأمة، وبعض المؤمنين، فلا يكون إجماعهم حجة كبعض أهل العصر. وجوابه: منع الصغرى؛ وهذا لأنهم لو كانوا بعضهم لما انعقد إجماعهم فيما هو غير مسبوق بالخلاف، وأنه باطل إجماعًا. وعاشرها: لو كان هذا الإجماع حجة لوجب ترك القول الآخر، فلو فرض حصول الإجماع على أحد القولين بعد قضاء القاضي بالقول الآخر لوجب أن ينقض، لكونه حاصلاً على مضادة الدليل القاطع، لكن ذلك باطل، أما أولاً فبالاتفاق، وأما ثانيًا: فلأن أهل العصر الأول أجمعوا على نفوذ مثل هذه القضايا فنقضه على خلاف الإجماع منهم. وجوابه: أن الحكم حين اتصل بقضاء القاضي ما كان على مضادة الدليل القاطع. ونحن إنما ننقض الحكم الذي يكون على مضادة الدليل القاطع [حين اتصال قضاء القاضي به لا غير. وحادي عشرها: القياس على الإجماع] على القول الواحد، فإنه لا يتصور بعده إجماع آخر فكذا بعد الإجماع على القولين، والجامع صيانة

الإجماع عن التعارض والنسخ. وجوابه: ما تقدم في الكلام مع الصيرفي. وثانيها: أن يختلف أهل العصر الأول في المسألة على قولين، ثم يموت أصحاب أحد القولين، أو يكفروا فهل يصير القول الآخر مجمعًا عليه أم لا؟ اختلفوا فيه على الخلاف المتقدم. والمختار أنه يصير مجمعًا عليه لا بالموت والكفر، بل عندهما لاندراجه تحت أدلة الإجماع. وثالثها: أن يختلف أهل العصر الأول في المسألة على قولين، ثم يرجع أصحاب أحد القولين إلى القول الآخر، فهل يجوز وقوع ذلك؟ وبتقدير وقوعه هل يصير إجماعًا متبعًا أم لا؟ اختلفوا فيه: فمن اعتبر انقراض العصر في الإجماع جوز وقوع ذلك قطعًا، وقال بحجيته، إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين على هذا الرأي. وأما من لم يعتبر انقراض العصر في الإجماع: فمن جوز منهم حصول الإجماع - في المسألتين السالفتين - وقال بحجيته جوزها هنا وقال بحجيته بطريق الأولى. وسبب هذه الأولوية: أن القول الثاني فيما نحن فيه مرجوع عنه بالكلية، بخلاف - المسألتين السابقتين - فإن القول الثاني فيهما ما صار مرجوعًا

مرجوعًا عنه أصلاً. وأيضًا: فإنه قد يظن في/ (27/ أ) المسألتين السابقتين] أن المجمعين ليسوا كل الأمة بل بعضهم، - وها هنا - هذا الظن زائل؛ لأن جميع أهل العصر الزول قد اتفقوا عليه. وأما من لم يجوز حصول الإجماع في المسألتين السالفتين - فهؤلاء اختلفوا: فمنهم من جوزه لكنه قال ليس بحجة. ومنهم من جوزه وجعله حجة. ومنهم: من فصل فقال بجوازه فيما هو دليل خلافه الأمارة والاجتهاد دون ما هو دليل خلافه القاطع عقليًا كان أو نقليًا. ومنهم: من أحاله مطلقًا. والمختار: أنه يجوز وقوعه وأنه حجة. ودليله: ما مر والكلام فيه نفيًا وإثباتًا ما مر في المسألة المتقدمة فأغنى ذلك عن الإعادة.

المسألة الرابعة انقراض العصر ليس بشرط في انعقاد الإجماع عند الأكثرين من الفرق

المسألة الرابعة انقراض العصر ليس بشرط في انعقاد الإجماع عند الأكثرين من الفرق. خلافًا للإمام أحمد والأستاذ أبي بكر بن فورك منا. ومنهم من فصل بين الإجماع السكوتي وغيره، فشرط في السكوتي دون غيره وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق. وفصل إمام الحرمين بوجه آخر وهو: أنه إن علم أن متمسكهم ظني فليس بحجة حتى يطول الزمان، وتتكرر الواقعة، ومقتضى هذا: أنهم لو

انقرضوا عقيب الإجماع لا تستقر حجته، ولو بقوا بعد التكرر وتطاول الزمان يكون حجة وإن كان قطعيًا فلا يعتبر الانقراض ولا التطاول [وإن كان الثالث فهو باطل]. لنا: أدلة الإجماع: فإنها بإطلاقها تدل على حجية الإجماع من غير فصل بين انقراض العصر، وعدم انقراضه. فوجب أن يكون حجة مطلقًا، وإلا لزم تقييد تلك الأدلة وأنه خلاف الأصل. واستدل بوجهين آخرين: أحدهما: أن الإجماع بعد انقراض العصر حجة وفاقًا، فأما أن يكون لنفس الإجماع، أو لنفس الانقراض، أو للأول بشرط حصول الثاني. فإن كان الأول فهو المطلوب؛ لأنه يلزم أن يكون الإجماع حجة قبل انقراض العصر لحصوله فيه. وإن كان الثاني فهو باطل، وإلا لكان انقراض العصر بدون الاتفاق حجة وهو باطل وفاقًا. وإن كان الثالث فهو باطل أيضًا، لأنه يقتضي أن يكون الموت شرطًا في

حجية قولهم، وهو باطل؛ لأن الموت لا يكون شرطًا في حجية قول هو حجة كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو ضعيف، أما أولاً: فلأن الجامع وصف طردي لا يصلح للعلية فلا يصح القياس به. وأما ثانيًا: فلأن حجية قول الرسول وإن لم يتوقف على الموت، لكن استقرار حجيته يتوقف على الموت، فلم لا يجوز أن يكون استقرار حجية الإجماع كذلك؟ والمعنى من كون انقراض العصر شرطًا في انعقاد الإجماع: استقرار حجيته عليه. وثانيهما: أنه لو اعتبر انقراض العصر في حجية الإجماع لم يتصور إجماع بات مقطوع بحرمة المخالفة، لاحتمال أن يحدث قبل انقراض أهل العصر الأول من له أهلية الاجتهاد، ويحدث قبل انقراضه مجتهد آخر، وقبل انقراضه مجتهد آخر، وهلم جرا إلى يوم القيامة. فمهما أراد مجتهد مخالفته لم يحرم عليه، لعدم حصول شرط حرمتها، وهو انقراض العصر وهو خلاف الإجماع، ولا يدفع هذا بأن المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدًا عند حدوث الحادثة، لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اشتراط انقراض الجميع، لأن هذا الاحتمال بعينه آت بالنسبة إلى اشتراط انقراض عصر من كان مجتهدًا عند حدوث الواقعة، فإنه يمكن أن يقال: أنه ربما يحدث مجتهد قبل انقراض ذلك اللاحق، وهلم جرا فلم يحصل إجماع بات مقطوع بحرمة المخالفة. وهو أيضًا ضعيف، أما إن قيل: بأن فائدة اشتراط انقراض العصر إنما يرجع إلى المجمعين لا غير، أي يجوز لهم الرجوع عن الحكم ما داموا أحياء ولا يجوز لغيرهم مخالفتهم وإن لحقهم أحياء كما هو مذهب أحمد فظاهر. وأما إن لم تقتصر الفائدة عليه بل تظهر فائدته في حقهم وفي حق من

لحقهم من أهل العصر الثاني فكذلك، لاحتمال أن يعتبر الانقراض بالنسبة إلى المجمعين وإلا من لحقهم لا بالنسبة إلى لاحق اللاحق وما بعده. لا يقال: فعلى هذا يلزم [اعتبار] انقراض بعض أهل العصر لا كلهم؛ لأنا لا نسلم ذلك؛ وهذا لأنا اعتبرنا مخالفة اللاحق، ولكن لم نعتبر مخالفة من لحقه وهو ليس من أهل العصر الأول حتى تعتبر مخالفته، بل هو لاحق بمن هو لاحق بأهل العصر الأول، وليس لاحق اللاحق كاللاحق، ولأنا نعني بانقراض أهل العصر انقراض المجمعين أو من لحقهم وحينئذ يسقط ما ذكروه بالكلية. واحتج المخالف بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس}، ولو كان إجماعهم حجة عليهم لا يجوز لهم مخالفته لكانوا شهداء على أنفسهم وهو خلاف دلالة الآية. وجوابه من وجوه: أحدها: أنه مخالف مفهوم الآية لا مخالف منطقوها وهو ليس بحجة. سلمنا حجيته لكن وجد من القرينة المعنوية ما يدل على عدم إرادته وهو: أنه إذا كانت شهادتهم مقبولة على غيرهم مع احتمال تطرق التهمة إلى تلك الشهادة، فلأن تكون شهادتهم على أنفسهم مقبولة بطريق الأولى، ولهذا

يقبل إقرار المرء على نفسه وإن لم تقبل شهادته على غيره. فإن قلت: فعلى هذا فأي فائدة في تخصيص شهادتهم على غيرهم؟ قلت: الفائدة فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} فإن قتلهم عند خوف الفقر إذا كان منهيًا عنه، فلأن يكون عند عدمه بطريق الأولى. وثانيها: أن قوله: {شهداء على الناس} يتناول شهادتهم على أنفسهم وهذا لأنهم/ (28/ أ) من جملة الناس فيدخلون تحت قوله: {شهداء على الناس} فتكون شهادتهم على أنفسهم مدلول الآية لا مخالفًا لمدلولها. وثالثها: أن شهادتهم على الغير، إنما تكون مقبولة؛ لأن ما أجمعوا عليه حق وصواب، فإذا كان حقًا وصوابًا بالنسبة إلى غيرهم [كان] حقًا وصوابًا بالنسبة إليهم أيضًا، ضرورة أن كونه حقًا وصوابًا لا يختلف. وفيه نظر، فإن الشيء قد يكون صوابًا وحقًا بالنسبة إلى شيء دون شيء، وكذلك قد يكون الشيء مقبولاً بالنسبة إلى شيء دون شيء. وثانيها: ما روي عن النبي - عليه السلام -[أنه قال:] "لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله بحجة" وهو بمفهومه يدل على خلو بعض

العصر منه، وحينئذ لا يكون الإجماع فيه حجة. وجوابه: أن المفهوم ليس بحجة. سلمناه لكن المراد منه وقت من الأوقات، بدليل قوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، وأمثاله من الأحاديث. وثالثها: "ما روي أن عليًا - رضي الله عنه - سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال: "كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن* فرأيت الآن بيعهن" فقال له عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك،

فدل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلاً، مع أن عليًا خالفه، لأنه لم ينقرض العصر، لأنه كان من جملة المجمعين. وجوابه: أنه ليس في قول على ولا في قول عبيدة ما يدل على أن الإجماع كان حاصلاً، بل غاية ما يدل عليه هو أن اتفاق جماعة كان حاصلاً في ذلك، ولا يلزم منه اتفاق الأمة، لجواز أن يكون ذلك رأي بعضهم الذين يصدق عليهم أنهم جماعة. فإن قلت: فكان ينبغي أن يقول: رأيك مع جماعة ولا يقول مع الجماعة لأنه ظاهر في العموم. قلت مطلقًا أم بتقدير عدم العهد؟ والأول ممنوع، وقد عرفت سنده في باب العموم. والثاني مسلم، لكن لا يفيد، لاحتمال أن العهد كان حاصلاً، فإن الجماعة الذين اتفقوا على الحكم ربما كانوا معينين معروفين عندهما فلذلك عرف لفظ الجماعة، ثم الذي يدل على أن التعريف ليس باعتبار العموم أن جماعة من الصحابة كانوا يرون جواز بيعهن. نقل عن جابر بن عبد الله أنه كان يرى جواز بيعهن في زمان عمر

رضي الله عنهما. ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يرى جواز بيعهن وكان يقول: "ما هي إلا كشاتك وبعيرك". وكذا نقل عن ابن الزبير أنه كان يرى جواز بيعهن، ومع المخالفة يستحيل انعقاد الإجماع، هذا لو صح رؤية الجماعة. أما إذا لم يثبت ذلك على ما يقال أنه قال: "رأيك مع عمر أحب إلينا

من رأيك وحدك" فيسقط الاستدلال بالكلية، وهذا أولى لمطابقة الكلامين اللهم إلا إذا روي كلام علي - رضي الله عنه - على نحو قوله: "كان رأيي ورأي الجماعة" وقد روي بذلك فإنه لا يتأتى هذا الترجيح، وأيضًا فإنه روي "رأيك في الجماعة" فعلى هذا يحتمل أن يكون المراد منه: رأيك في زمن الجماعة والألفة والطاعة للإمام قبل ظهور الفتن والمخالفة، أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة، لكنه بعيد لمقابلة قوله: "من رأيك وحدك" اللهم إلا إذا روي ذلك هكذا: "من رأيك في الفرقة" وقد روي ذلك أيضًا فإنه حينئذ بيان التأويل المذكور. سلمنا دلالة ما ذكرتم على مخالفة علي - رضي الله عنه - للإجماع قبل انقراض العصر لكن [لعله] كان مذهبًا له فلا يكون حجة على غيره. ورابعها: أن الصديق - رضي الله عنه - كان يرى التسوية في "القسم"، ولم يخالفه أحد في زمانه، ثم أن عمر - رضي الله عنه - خالفه بعد وفاته، ولم ينكر عليه ذلك. فدل ذلك على انعقاد الإجماع

على جواز مخالفة الإجماع قبل انقراض العصر. وجوابه: منع حصول الإجماع على ذلك، إذ روى مخالفة عمر له في زمانه. واحتج عليه في ذلك بقوله: "أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ " ولم ينقل رجوعه عنه بعد ذلك، والأصل استمراره، وسكوته عن جواب استدلال أبي بكر رضي الله عنه لو ثبت، لا يدل على رجوعه عنه، لاحتمال أنه رآه دليلاً صحيحًا لكنه لم ير رجحانه على دليله. وخامسها: أن عمر - رضي الله عنه - حد الشارب ثمانين، وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من حده أربعين.

وجوابه: منع إجماع الكل عليه، وهذا لأنه لم يثبت خوض الكل فيه بل الظاهر عدمه، لعدم تعلق غرضهم به، إذ لم يسألوا عنه، وعلمهم بمن يعتني به وهو الإمام. سلمناه لكن كان لمصلحة وقد تغيرت تلك المصلحة في زمن عمر - رضي الله عنه -، فزال الحكم لزوالها، وليس هو من مخالفة الإجماع في شيء. ثم أن الذي يدل على أن حد الشارب إنما كان بناء على المصلحة: أنه كان يضرب في زمان الرسول بأطراف الثياب والنعال والجريد، فضرب أبو بكر أربعين، بناء على أنه قدر ذلك به، وضرب عمر ثمانين، بناء على أن ذلك القدر من الجلد ما كان يزجر الناس عنه، وإقامة لمظنة الشيء مقامه، ولولا عرفوا أن الحكم فيه للمصلحة ما كان يجوز لهم مخالفة الرسول - عليه السلام - بالاجتهاد، فإن شرط الاجتهاد [أن] لا يكون منصوصًا عليه من جهته - عليه السلام-. سلمناه لكن لو دل على اعتبار انقراض العصر فإنما يدل في الإجماع السكوتي دون القولي وربما يلتزم ذلك فيه.

وسادسها: أن قول مجموع الأمة لا يزيد على قول الرسول، لأنه اختلف في حجيته دون حجية قول الرسول، ولأن حجيته مستفادة من حجية قول الرسول، فإذا كان موت الرسول شرطًا في استقرار حجية قوله، فلأن يكون موتهم شرطًا في استقرار حجية قولهم أولى. وجوابه: منع الجامع المعتبر./ (29/ أ). سلمناه لكن الفرق بينهما حاصل، وهو أن عدم استقرار حجية قوله - عليه السلام - مادام حيًا إنما يكون؛ لأنه يحتمل النسخ من جهته تعالى، وأما الإجماع فلا يحتمل ذلك، لما تقدم، ولا يتصور أن ينعقد على خلاف دليل راجح حتى يقال عند الاطلاع عليه يزول الحكم عنه ويجعل ذلك كالنسخ في حقه. وسابعها: لو لم نعتبر انقراض العصر، لحصل الإجماع بموت المخالف لهم في حالة حكمهم؛ لأن من بقى بعد موته كل الأمة. وهو باطل، لأنه يصير القول بالموت حجة؛ ولأنه يلزم بطلان قول الميت. وجوابه: أما بطلان قول الميت فلازم على المخالف أيضًا على تقدير انقراض العصر، فما هو جوابه عنه فهو جوابنا عنه قبل انقراضه. وأما لزوم حجية القول بالموت. فممنوع على ما عرفت أنه يصير حجة عنده لا به. وثامنها: أن الإنسان مادام في قيد الحياة، فإنه في الفحص عن الأدلة والفكر فيها، والإجماع على الحكم الواحد قد يكون عن اجتهاد وظن فلو قلنا مجرد إجماعهم حجة لا تجوز مخالفته من غير انقراض العصر، لزم أحد المحذورين وهو: إما منعهم من الحكم إذا لاح لهم دليله، أو سد باب الطلب والفحص والفكر في الأدلة إذا لاح لهم دليل على الحكم.

فإن لم يقولوا بمقتضاه إلا إذا قطعوا بعدم دليل آخر أرجح منه لعلمهم أنهم إذا قالوا به لم يجز لهم الرجوع عنه وإن ظهر لهم دليل أرجح منه لزم الأمر الأول. وإن قالوا بمقتضاه لزم الأمر الثاني؛ لأنه حينئذ لم يبق في الطلب والفكر فائدة، ضرورة أنه لا يجوز الرجوع عنه بحال. وجوابه: أن طلب أدلة الحكم والفكر فيها بعد الحكم به، إن كان لاحتمال أن يوجد فيها ما يخالف الدليل الأول وهو أرجح منه، أو يوجد فيها وجه استدلال يخالف الاستدلال الأول وهو راجح، فهذا محال، لأن مجموع الأمة معصوم عن الخطأ فيستحيل منهم الحكم بالدليل المرجوح مع وجود الدليل الراجح لأن ذلك إن كان مع العلم به فظاهر، وإن كان مع الجهل به فكذلك، لأنه لا يجوز ذهولهم عن الحق فسد هذا الباب سد باب العناء وهو غير محذور، وإن كان الطلب والفكر لأغراض أخر نحو الظفر على ما يقوى ذلك الحكم من الدليل، أو وجه الاستدلال، فهذا ممكن الحصول لكن من المعلوم أن عدم اعتبار انقراض العصر لا يسد هذا الباب. وتاسعها: أن الحكم الذي اتفقوا عليه إن كان دليله قطعيًا، فلا يعتبر فيه انقراض العصر، وإن كان ظنيًا وجب أن يعتبر فيه ذلك، وإلا لزم أن يقال الاجتهاد مانع من الاجتهاد، والحجر على المجتهد في أن لا يتغير اجتهاده. وجوابه: منع لزوم ما ذكروه، وهذا لأن مجرد الاجتهاد السابق لا يمنع من الاجتهاد الثاني، وإنما يمنع منه اتفاقهم على مقتضاه، فإنه يصير إذ ذاك الحكم قطعيًا، [فلا يسوغ فيه الاجتهاد بعد ذلك، وكذا لا يلزم حجر المجتهد في أن لا يتغير اجتهاده، وإنما يلزم حجره عن العمل بمقتضى اجتهاده

بعد أن صار الحكم قطعيًا]. وعاشرها: أن السكوت عن حكم الحادثة ليس دليلاً على الرضا به لاحتمال أن يكون ذلك للتروي والفكر، فإذا مات على ذلك دل على الرضا به إذ لا تتمادى مدة النظر والفكر عن مدة الحياة فوجب اعتبار انقراض العصر في الإجماع السكوتي. وما يقال في جوابه، أن السكوت إن دل على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت، وإن لم يدل عليه لم يحصل ذلك أيضًا بالموت، لاحتمال أنه مات على ما كان عليه قبل الموت فضعيف، لأنه وإن احتمل ذلك لكنه احتمال مرجوح. والأظهر إنما هو احتمال الرضا، لما تقدم أنه لا تتمادى مهلة النظر عن مدة العمر.

المسألة الخامسة إذا قال بعض المجتهدين من أهل العصر قولا في المسائل التكليفية الاجتهادية، وعرفه الباقون، ولم يظهر منهم في ذلك إنكار عليه فهل يكون ذلك إجماعا أم لا؟

المسألة الخامسة إذا قال بعض المجتهدين من أهل العصر قولاً في المسائل التكليفية الاجتهادية، وعرفه الباقون، ولم يظهر منهم في ذلك إنكار عليه فهل يكون ذلك إجماعًا أم لا؟. اختلفوا فيه: فذهب الشافعي - رضي الله عنه - إلى أنه لا يكون إجماعًا ولا حجة وهو مذهب داود وبعض الحنفية.

وذهب الإمام أحمد وكثير من الحنفية والشافعية وبعض المعتزلة كالجبائي إلى أنه إجماع وحجة، لكن منهم من يعتبر في ذلك انقراض العصر كالجبائي وأتباعه، وأكثرهم لم يعتبروا ذلك. وقال أبو هاشم: أنه حجة وليس بإجماع، وهو منقول عن الصيرفي أيضًا. وقال أبو علي ابن أبي هريرة: إن كان ذلك الحكم صادرًا عن حاكم لم يكن إجماعًا ولا حجة. وإن كان صادرًا عن غيره يكون إجماعًا متبعًا. ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني: أنه إن كان صادرًا عن حاكم يكون إجماعًا وحجة، لأن الظاهر من حالة أنه لا يقول به إلا عن بحث وإتقان بعد مباحثة العلماء والفقهاء واستصواب منهم، وإن كان عن غيره فلا،

إذ لا يمكنه جمع العلماء للمباحثة والمشاورة، والظاهر أنه قاله عن رأيه وحده. احتج الأولون: بأن السكوت يحتمل أن يكون للرضا فعلى هذا التقدير يكون الإجماع حجة. ويحتمل أن يكون لغيره: نحو أن لم يجتهد فيه بعد، أو وإن اجتهد لكن لم يظهر له جهة الصواب فيه، أو وإن ظهر لكنه لم يظهره، لغاية سخطه عليه وازدرائه بذلك القول، وقد تظهر قرائنه عليه، أو وإن لم يكن كذلك لكنه ربما يراه قولاً سائغًا لم أدى اجتهاده إليه وإن لم يكن قد أدى اجتهاده إليه. أو وإن لم يكن كذلك لكنه إنما لم يظهر الإنكار، لأنه لم يره فرضًا أصلاً، بناء على أن كل مجتهد مصيب. أو وإن يرى الإنكار فرضًا/ (308 أ) في الجملة لكنه لم يره فرضًا إذ ذاك إما لعدم الوقت الموافق لذلك، فينتهز فرصة [التمكن منه، أو لأنه لو أنكره لم يلتفت إليه ولحقه بسبب ذلك ذل وهوان] أو بحضور من هو أولى بالإنكار. أو وإن لم يكن كذلك لكنه ظن أنه سبق بالإنكار، وإن لم يكن كذلك فكذلك لم يظهر الإنكار، وإن لم يكن كذلك لكنه سكت خوفًا وتقية ومهابة، كما قال ابن عباس: "هبته ولقد كان والله مهيبًا". أو وإن لم يكن كذلك لكن يرى الإنكار في ذلك من الصغائر، بناء على أن ذلك الخطأ من باب الصغائر فلا يرى في تركه قدحًا في عدالته فلم ينكره.

وعلى هذا لا يكون الإجماع السكوتي حجة. وإذا احتمل سكوت الساكتين هذه الوجوه لم يكن سكوتهم دالاً على الرضا، وهذا معنى قول الشافعي - رضي الله عنه -: "ولا ينسب إلى ساكت قول". اعترض عليه القائلون بحجية هذا الإجماع: أنكم إن عنيتم بقولكم: لا يكون سكوتهم دليلاً على الرضا به، أنه لا يكون دليلاً على الرضا قطعًا، فهذا مسلم، لكنه لا يفيدكم، إذ لا يلزم منه أن لا يكون الإجماع السكوتي حجة ظنية، وإن عنيتم به أنه لا يكون دليلاً على الرضا لا قطعًا ولا ظنًا فهذا ممنوع، وهذا لأن ما ذكرتم من الاحتمالات وإن كان السكوت محتملاً له لكن احتمالاً مرجوحًا، وإذا كان كذلك لم تكن تلك الاحتمالات قادحة في حصول غلبة الظن على الرضا. أما الأول: وهو عدم الاجتهاد؛ فلأنه بعيد من الخلق الكثير والجم الغفير من المجتهدين من حيث الدين، ومن حيث الباعث النفساني، أما الأول فظاهر، وأما الثاني، فلأن من علم شيئًا أوله قدرة على تحصيل علمه بالنظر إلى ما حصل له من أسبابه، فإنه لا يطيق أن يصبر عنه إذا وقع الكلام فيه بين يديه. وأما الثاني: فلأن كل واقعة يمكن أن تقع فإن الشارع لا بد وأن يكون قد

نصب عليها دليلاً، أو أمارة، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق على تقدير وقوعها، والظاهر من المجتهد الاطلاع عليه، أما قبل وقوع الواقعة، أو بعده بعد البحث الشديد والتفتيش التام، والظاهر تأدية نظره إلى وجه دلالته، فإن وجه دلالة الدليل أو الأمارة لا يخفى على المجتهد. وأما الثالث: فلأنه إن ظهر عليهم قرائن السخط والغضب لم يكن مثل هذا الإجماع السكوتي حجة؛ لأن دلالة القرينة الحالية على الرد والمخالفة لا تقصر عن دلالة القولية، وإن لم يظهر عليهم ذلك، فالظاهر إنما هو الرضا والموافقة، لأن الإنكار عليهم واجب بتقدير أن يظهر لهم أنه خلاف الحق، فكان يجب عليهم إظهاره، فلما لم يظهروه لا بصريح القول ولا بدلالة الحالية، غلب على الظن الرضا والموافقة. ولأن اتفاقهم مع كثرتهم وعدم خوفهم على إخفاء الغضب والسخط بحيث لم يظهر من واحد منهم ما ينبي عنه لا بصريح المقال ولا بقرينة الحال بعيد جدًا. وأما الرابع والخامس، فلأنه وإن كان لا يبعد السكوت فيها على تقدير المخالفة أيضًا، بناء على جواز الحكم وصوابه على ذينك التقديرين، لكن يبعد السكوت على تقدير المخالفة، نظرًا إلى ما جرت به العادة المستمرة بين العلماء من زمن الصحابة إلى زماننا من المباحثة والمناظرة في إظهار مآخذهم في المسائل الاجتهادية، فلو أدى اجتهادهم إلى خلاف ذلك الحكم لوجب أن يظهروه جريًأ على مقتضى العادة، ولما لم يظهروه غلب على الظن عدم الأدية إلى المخالفة. وأما السادس: فبعيد أيضًا؛ لأنه على خلاف ما عهد منهم من الصدع بالحق، والمسارعة إلى فعله، وإن كان بحيث قد يلحقهم في ذلك ضرر، ولو سلم ذلك لكنه في غاية البعد مع تطاول الزمان وانقراض العصر وبه يعرف مرجوحية احتمال السابع والثامن والتاسع.

ويخص التاسع أنه ظن كاذب والأصل خلافه، إما لأن الأصل عدم ما يوجبه، أو وإن وجد لكن الظاهر اطلاعهم على وجه الكذب. وأما الاحتمال العاشر فبعيد أيضًا، لأن القائل بالحكم إن كان مثل الباقين أو دونهم فظاهر، وإن كان فوقهم بحيث يقدر على إيصال المكروه إليهم لو أراد كالإمام الأعظم، فكذلك أيضًا لوجهين: أحدهما: ما سبق من أنه لا تأخذهم في الله لومة لائم. وثانيهما: أنه إنما يخاف حيث يكون إظهار المخالفة يوجب الغضب والحقد، وذلك إنما يكون حيث يكون إظهار المخالفة على وجه التجهيل والتعبير والمغالبة، وكل ذلك خلاف الإجماع من أرباب الدين لا سيما مع الإمام الأعظم ونوابه. فأما إذا كان إظهار المخالفة لا على هذا الوجه بل على وجه النصح وترك الغش، وإظهار الحق، فلا يفضي إلى ذلك فلا يكون هناك تقية ولا خوف. وأما الاحتمال الأخير فضعيف جدًا، إذ لا يلزم من عدم قدحه في العدالة أن لا ينكره، فإن الباعث على إنكاره حاصل وهو حرمة سكوته سواء كانت حيث تبلغ إلى أن يقدح في العدالة، أو لم يبلغ إلى ذلك الحد فظهر أن تلك الاحتمالات مرجوحة بالنسبة إلى احتمال الرضا، وإذا حصلت غلبة الظن بالرضا حصلت غلبة الظن بحصول الإجماع فيكون إجماعًا ظنيًا، ولا ندعي نحن سوى هذا القدر. واعلم أن للنافين في الانفصال عنه طريقين: أحدهما: أن يقولوا أنه لو كان إجماعًا لكان حجة قطعية، بناء على أن

كل إجماع فهو حجة قطعية، ولما سلمتم أنه [ليس] حجة قطعية لم يكن إجماعًا ولا يخفى عليك ضعف هذه الطريقة؟ إذ لا يمكن تقريرها لا من حيث الإلزام، ولا من حيث الدلالة وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن احتمال كون السكوت للرضا وإن كان راجحًا على كل واحد من [تلك] الاحتمالات، لكن لا نسلم رجحانه على مجموع تلك الاحتمالات فيتعارض كيفية أحد الجانبين بكمية/ (31/ أ) الجانب الآخر، فإن لم تترجح الكمية على الكيفية، فلا أقل من المساواة، وحينئذ لا يثبت احتمال كون السكوت للرضا راجحًا على تلك الاحتمالات فلا يحصل الإجماع. واحتج القائلون بحجيته بوجهين: أحدهما: أن الإجماع منعقد على الاحتجاج بالقول المنتشر بين الصحابة إذا لم يعرف له مخالف، فإن أبعد الناس عن القول به الشافعية، وكتبهم مشحونة بالتمسك به، وكذا كتب جميع أرباب المذاهب، والاستقراء يحققه، فلو لم يكن الإجماع السكوتي حجة لزم اتفاقهم على الباطل، وأدلة الإجماع تنفيه ثم إن كان المقصود من هذه الحجة إثبات كونه حجة لا غير اكتفينا بهذا القدر، وإن رمنا إثبات كونه إجماعًا زدنا قولنا: إن ذلك إما أن يكون بناء على كونه إجماعًا، أو لا يكون بناء عليه. والثاني باطل، إذ لا عهد في الشرع بحجية شيء خارج عن مداركه المعروفة المنحصرة، فيتعين أن يكون لكونه إجماعًا. وجواب الأول: منع انعقاد الإجماع عليه، ولعل الاحتجاج به على

وجه الإلزام، أو ممن يعتقد حجيته، أو على وجه الاستئناس به في المضائق لا أنه تقوم الحجة به، وإذا بطل انعقاد الإجماع على حجيته بطل ما يتفرع عليه. ويخص الثاني: أنا لا نسلم أنه خارج عن مدارك الشرع، وإن كان خارجًا عن مداركه المتفقة عليها، وهذا لأن مثل هذا مدرك من مداركه عند البعض كإجماع الأكثر فإنه حجة، وليس بإجماع على رأي. وثانيها: أن العادة جارية أن الجمع العظيم من الناس لا سيما من العلماء المتدينين إذا اعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه إذا لم يكن هناك مانع قوي، ولو كان هناك مانع قوي لظهر، لإظهارهم ذلك للمخلصين من أصحابهم، لئلا ينسب إليهم التقصير في كتمان الحق ولاطلاع الناس غالبًا على مثل هذا المانع القوي الذي يجمع الجمع العظيم على الكتمان، ولما لم يظهر ذلك علمنا عدمه، وإذا لم يكن هناك مانع وجب إظهار المخالفة ولما لم يظهروا المخالفة علمنا الرضا به. وجوابه: ما سبق من معارضة الكيفية بالكمية. واحتج على ابن أبي هريرة: أن العلماء لم تزل يحضروا مجالس الحكام ولم ينكروا عليهم، ولو يجدونهم يحكمون على خلاف معتقدهم بخلاف ما إذا عرفوا ذلك من غيره؛ ولأن في الإنكار على الإمام نوعًا من الافتيات فيجمل السكوت بالنسبة إليهم على الامتناع منه، بخلاف الإنكار في حق غيرهم. وجواب الأول: أن ذلك بعد تقرير المذاهب، فأما قبله فلا نسلم جريان العادة بذلك.

وعن الثاني: أن إظهار المخالفة على وجه النصح والعرض والمشاورة لا يعد افتياتًا. فرع القائلون بأن الإجماع السكوتي إجماع وحجة - اختلفوا فيما إذا قال بعض أهل العصر من أهل الحل والعقد قولاً، أو حكم بحكم، وانتشر ولم يعرف له مخالف هل يكون إجماعًا وحجة له أم لا؟ ذهب بعضهم إلى أنه ليس بإجماع وحجة، محتجين: بأنه إنما يكون الإجماع السكوتي إجماعًا وحجة بأن بعضهم قال بالحكم، وسكت الباقون مع العلم به. فلو كان ذلك الحكم خطأ، لحرم عليهم السكوت عن الإنكار فالسكوت إذن دليل الرضا، وهنا لم يكن حمل السكوت على الرضا لاحتمال أن يكون ذلك لعدم العلم به. وذهب بعضهم: إلى أنه إجماع أو حجة. على الخلاف السابق لأن الظاهر وصوله إليهم مع الانتشار فيكون كالسكوت مع العلم به. وعلى هذا تأتي مذاهب التفصيل. والحق فيه التفصيل، وهو: أن ذلك الحكم إن كان فيما تعم به البلوى فهو إجماع وحجة، أو حجة على الخلاف السابق، لأن الانتشار مع عموم البلوى به يقتضي علمهم بذلك الحكم فيكون كالسكوت مع العلم وإلا فلا، لاحتمال الذهول عنه.

المسألة السادسة أهل العصر الأول إذا استدلوا بدليل على حكم أو استنبطوا منه وجه دلالة، أو ذكروا له تأويلا، ثم أهل العصر الثاني استدلوا عليه بدليل آخر واستنبطوا منه وجه دلالة أخرى، أو ذكروا له تأويلا آخر، فأما أن لا يكون الثاني منافيا للأول بوجه ما،

المسألة السادسة أهل العصر الأول إذا استدلوا بدليل على حكم أو استنبطوا منه وجه دلالة، أو ذكروا له تأويلاً، ثم أهل العصر الثاني استدلوا عليه بدليل آخر واستنبطوا منه وجه دلالة أخرى، أو ذكروا له تأويلاً آخر، فأما أن لا يكون الثاني منافيًا للأول بوجه ما، أو يكون منافيًا له، إما من كل الوجوه أو من بعضها، وعلى التقديرين فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال الأول؛ لأن إبطاله يقتضي إبطال ما أجمعوا عليه على وجه البت وهو باطل؛ ولأنه لو كان باطلاً، وكانوا ذاهلين عن التأويل الجديد - الذي هو الحق - لزم ذهول مجموع أهل العصر الأول عن الحق، وأدلة الإجماع تنفيه. ومن هذا يعرف أنه لا يقبل الثاني وفاقًا إذا كان منافيًا للأول ولو بوجه ما، وإنما الكلام في قبول الثاني إذا لم يكن منافيًا له بوجه ما. فذهب الجمهور إلى قبوله محتجين: بأن الناس في كل عصر يستخرجون وجوهًا من الدلالات، والتأويلات التي لم يعرفها أهل العصر الأول، والكل مطبقون على قبولها، فلو كان ذلك باطلاً لزم أن يكون إجماعهم خطأ، وهو باطل. وذهب الأقلون إلى عدم قبوله محتجين في ذلك بوجوه. أحدهما: أن التأويل الجديد، والدليل الجديد ليس سبيلاً للمؤمنين فوجب أن لا يجوز اتباعهم وقبوله، لقوله تعالى {ويتبع غير سبيل

المؤمنين}. وجوابه من وجهين: أحدهما: المعارضة بمثله. وهو أن القول ببطلانه ليس سبيلاً للمؤمنين، فوجب أن لا يجوز القول به، وأن لا يجوز اتباعه للآية. وثانيهما: أن المفهوم من سبيل المؤمنين ما كان من الأفعال والمتروك مقصودًا لهم ومختارًا لهم، فيختص بمن اتبع نفي ما أثبته المؤمنون، أو إثبات ما نفوه، ولا يكون متناولاً لإثبات أو نفي ما لا يتعرض له المؤمنون لا بنفي ولا بإثبات. وثانيها: أن قوله تعالى: {تأمرون بالمعروف} يقتضي كونهم - أعنى أهل العصر الأول - آمرين بكل المعروف، فكل ما لم يأمروا به ولم/ (32/ أ) يذكروه وجب أن لا يكون معروفًا، وما لا يكون معروفًا يكون منكرًا، وما كان منكرًا وجب أن لا يكون مقبولاً. وجوابه من وجهين: أحدهما: المعارضة بقوله: {وتنهون عن المنكر} فإن هذا يقتضي أن يكونوا ناهين عن كل المنكر، فما لم ينهوا عنه لا يكون منكرًا، وما لا يكون منكرًا يكون معروفًا، وما كان معروفًا يكون مقبولاً. وثانيهما: أن ذلك مشروط بشرط العلم به، وخطرانه بالبال ولو على نوع من الإجمال، ضرورة أن الأمر بالشيء والنهي عنه مشروط بالشعور به

ولو من بعض الوجوه، فإن العلم الضروري حاصل بأنه يستحيل الأمر والنهي عما لا شعور به بوجه ما، وحينئذ نقول: أن ذلك التأويل جاز أن يكون غير مشعور لهم بوجه ما فلذلك لم يأمروا به. وثالثها: أنه لو جاز ذهولهم عن ذلك التأويل وهو صواب - لكان عدم العلم به سبيلاً لهم، وحينئذ يلزم حرمة طلب العلم بشيء هو صواب ضرورة أنه اتباع لغير سبيلهم وهو باطل إجماعًا. وجوابه من وجهين: أحدهما: النقض، فإنه يقتضي امتناع طلب العلم بشيء لم يعلمه أهل العصر الأول وهو باطل قطعًا، فإنه في كل زمان تتجدد علوم، وتعليمه وتعلمه من فروض الكفايات، لا أنه حرام. وثانيهما: ما تقدم من أن المفهوم من سبيل الشخص أو الطائفة ما كان مقصودًا لهم ومختارًا لهم، وعدم العلم بشيء مغفول عنه ليس كذلك، فلا يكون ذلك سبيلاً لهم. ورابعها: أن ذلك التأويل أو الدليل لو كان صحيحًا - لما ذهل عنه الأولون مع تقدمهم في العلم وجدهم واجتهادهم في طلب العلم والحق. وجوابه أيضًا من وجهين: أحدهما: ما سبق. وثانيهما: أنه ربما اكتفوا بالدليل الواحد والتأويل الواحد.

المسألة السابعة قال مالك - رضي الله عنه -: إجماع أهل المدينة وحدها حجة خلافا للباقين

المسألة السابعة قال مالك - رضي الله عنه -: إجماع أهل المدينة وحدها حجة خلافًا للباقين. واختلف أصحابه في قوله: فالأكثرون على إجرائه على ظاهره. ومنهم من أوله وحمله على أن روايتهم راجحة على رواية غيرهم. ومنهم من حمل ذلك على إجماع الصحابة والتابعين دون علماء سائر الأعصار. ومنهم من حمل ذلك على المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة. ومنهم من حمل على أن موافقة إجماعهم أولى وإن كان لا يمتنع مخالفته.

ثم ممن خالفه ذهب إلى أن إجماع أهل الحرمين، أعني مكة والمدينة والمصرين أعنيك الكوفة والبصرة حجة. فقيل المراد منه: أن هذه البقاع في الزمان الأول جمعت أهل [الحل] والعقد فكان إجماعهم حجة ضرورة أنهم كل أهل الحل والعقد. والأكثرون على أن المراد منه ما أشعر به ظاهره، وهو أن إجماع أهل هذه البقاع في كل زمان حجة.

واحتج الجماهير: بأن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة، إما المنقول، وإما المعقول. أما المنقول: فوارد بلفظ المؤمنين، والأمة، وهما متناولان للكل بطريق الحقيقة لا غير، وليس المؤمنون منحصرين في أهل المدينة، والحرمين والمصرين حتى يكون إجماعهم إجماع كل الأمة، فإنه لو فرض كذلك ليست المسألة مسألتنا، لأنا حينئذ نساعدكم على أن إجماعهم إذ ذاك حجة، وإذا كان كذلك فلا يكون إجماعهم حجة ضرورة أنهم بعض المؤمنين حينئذ، وإجماع البعض ليس بحجة. وأما المعقول فهو أيضًا: لا إشعار له بخصوصية أهل المدينة دون مدينة على ما عرفت ذلك منه، وحينئذ يلزم أن لا يكون إجماعهم حجة. وهذا المسلك ضعيف؛ لأنه لا يلزم من عدم دلالة دليل معين على المطلوب عدمه، لجواز أن يكون له دليل آخر، وأدلة الإجماع وإن لم تثبته لكن لا شك في أنها لا تنفيه إلا بطريق مفهوم العدد الذي هو ضعيف لم يقل به محصل. وإذا كان كذلك، فالأولى أن تحرر الدلالة هكذا: وهو أنه لو كان إجماعهم حجة فإما أن يكون ذلك لدليل، أو لا لدليل، والثاني باطل؛ لأن القول في الدين بغير دليل باطل، فيتعين أن يكون لدليل [وهو إما أدلة الإجماع، أو غيرها، والأول باطل، لأنه لا دلالة لها على المطلوب]

وهو ظاهر لا يمكن إنكاره، والثاني خلاف الأصل، إذ الأصل عدم ذلك الدليل ثم إذا ذكروا عليه دليلاً اعترضنا عليه وبينا وجه عدم دلالته عليه، وحينئذ يلزم أن لا يكون إجماعهم حجة. واستدل للجماهير أيضًا بوجهين آخرين: أحدهما: أن الأماكن لا تؤثر في كون أقوال ساكنيها حجة للاستقراء. وثانيهما: أنه لو كان أقوال أهلها حجة فيها، لكانت أيضًا حجة إذا خرجوا منها، كالرسول عليه السلام. وهما ضعيفان، لأن الجامع فيهما وصف طردي لا يصلح للعلية، ويخص الأول: الفرق بين أهلها وبين أهل سائر الأماكن على ما ستعرف ذلك. واحتج لمالك بالمنقول، والمعقول: أما المنقول: فما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "إن المدينة طيبة تنفي خبثها، كما ينفي الكير خبث الحديد"، والخطأ خبث فوجب أن

يكون منفيًا عنها، وإنما يكون منفيًا عنها أن لو كان منفيًا عن أهلها إذا لو كان في أهلها لكان فيها فما كان منفيًا عنها. لا يقال: ظاهر الحديث متروك؛ لأنه يقتضي أن يكون كل من خرج عنها فإنه [من] خبثها الذي تنفيه المدينة. لكن ليس كذلك، إذ خرج عنها الطيبون: كعلي، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة الذين خرجوا منها إلى العراق والشام، وهم أمثل ممن بقي فيها كأبي هريرة وأمثاله، وإذا كان كذلك وجب صرفه عن الظاهر، وليس بعض المجازات أولى من البعض فيكون الخبر مجملاً فلا يجوز التمسك به، ولو سلم أن البعض أولى من البعض، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الأولى الذي هو محمول عليه، نوعين: أحدهما: الكفار، ولهذا لا يقيم/ (33/ أ) كافر بها. وثانيهما: هو من كره المقام بها مع أن في المقام بها بركة عظيمة، بسبب جوار الرسول - عليه السلام-، وجوار مسجده، ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين بها، لأن الكاره للمقام بها - مع هذه الأحوال - لا بد وأن يكون ضعيف الدين. ومن كان كذلك فلا شك في أنه خبث؟

سلمنا أن هذا ليس أولى من غيره، لكن لا نسلم أن الأولى ما يلزم منه المطلوب. سلمنا إرادة الحقيقة منها لكن ليس في قوله "تنفي خبثها" ما يدل على العموم. سلمنا ذلك، لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في المسألة العلمية، لأنا نقول: لا نسلم أن ظاهر الحديث متروك، وهذا لأنه ليس ظاهره أن من خرج عنها فهو خبثها حتى يلزم الترك بالظاهر، بل ظاهره أن ما فيها من الخبث فإنها تنفيه، وهو غير الأول، وغير مستلزم له، فإن الموجبة الكلية لا تستلزم عكسها كليًا، وحينئذ لا يلزم ترك ظاهره فتسقط بقية الأسئلة المتفرعة على هذا السؤال. وأما قوله: أنه ليس في قوله: "تنفي خبثها" ما يدل على العموم. فجوابه: منعه، وهذا لأن قوله "تنفي خبثها" يقتضي نفي ماهية الخبث، وإنما تنتفي ماهية البحث بانتفاء أفرادها، فلو بقى فرد من أفراد الخبث في المدينة لما نفت المدينة خبثها. وعن الثالث منع أن المسألة علمية، بل هي ظنية، فإن أصل الإجماع عندنا ظني فكيف هذا الإجماع؟ وجوابه: هب أن الحديث يدل على أنهم مصيبون فيما يتفقون عليه لكن لا يلزم منه أن يكون قولهم واتفاقهم حجة على غيرهم من المجتهدين، ألا ترى أنه يجوز للمجتهد أن يخالف مجتهدًا آخر وإن كان يقطع بإصابته على قولنا: أن كل مجتهد مصيب؟ سلمنا لزوم ذلك لكنه منقوض بقول الواحد منهم فإنه بالاتفاق ليس

بحجة مع أن الحديث بعينه يدل على انتفاء الخطأ عن قوله أيضًا، لأن انتفاء ماهية الخبث عنها لا يكون إلا بانتفاء جميع أفراد الخبث عن جميع أفراد ساكنيها، إذ لو بقى الخطأ في فرد من أفراد ساكنيها لما انتفى جميع أفراد الخبث عنها. وأما التمسك بمثل قوله: "إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها". وقوله - عليه السلام -: "لا يكايد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء" فساقط جدًا، إذ لا إشعار له ولا مثاله على أن إجماعهم

حجة. وأما المعقول فمن وجهين: أحدهما: أن المدينة مهبط الوحي، ودار الهجرة، (و) أكثر أحكام الشرع شرع فيها، وأهلها صحابة الرسول - عليه السلام - شاهدوا التنزيل، وسمعوا التأويل، وأعرف الناس بأحوال الدليل من كونه ناسخًا، أو منسوخًا، أو عامًا، أو خاصًا، وغيرها من الأحوال، والعادة تقضي بأن مثل هؤلاء العلماء الأحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا عن دليل راجح. وجوابه: أنه إن عنى بالراجح الراجح في ظنهم فمسلم، لكن ذلك لا يدل على كونه راجحًا في نفس الأمر، لاحتمال أن يعتقدوا ما ليس براجح راجحًا، ولا يمكن إثبات امتناعه الخطأ عليهم، لأن ذلك إنما يثبت إن لو كان إجماعهم حجة، فإثبات كون إجماعهم حجة بهذا دور ممتنع. وإن عنى به الراجح في نفس الأمر فنحن نمنعه، وهذا لأنه إنما يثبت ذلك أن لو أحاط علمهم بجميع الأدلة وأن لا يجوز عليهم الخطأ، وهما ممنوعان، أما الأول، فلأن صحابة الرسول - عليه السلام - بعد وفاته الذي هو وقت إمكان حصول الإجماع تفرقوا في البلاد والأطراف، وكان مع كل منهم من الدليل ما ليس مع الآخر، فلم ينحصر الدليل الراجح في سكان المدينة، فلم يمكن إحاطة علمهم بجميع الأدلة. وأما الثاني فلما تقدم. وثانيهما: أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم، فكان حكمهم راجحًا على حكم غيرهم، فيكون إجماعهم حجة.

وجوابه: منع صحة القياس، لعدم الجامع، ولوجود الفارق بعد تسليمه وهو من حيث الإجمال والتفصيل: أما الأول فمن وجهين: أحدهما: أن الرواية يجب فيها الاتباع والحكم المثبت بالاجتهاد لا يجب فيه ذلك بل لا يجوز عند الأكثرين. وثانيهما: أن الرواية ترجح بكثرة الرواة، وبزيادة اطلاع الرواي على أحوال المروى عنه، وغير ذلك مما يخالف طريق الرواية طريق الاجتهاد، والاختلاف في الحكم دليل الاختلاف في الحكمة. وأما الثاني: فهو أن النظر في الرواية: إنما هو في تصحيح المتن فكان رواية من هو أخبر بوقوع القضية، راجحة على رواية من ليس كذلك، بخلاف [النظر] في إثبات الحكم، فإنه يتعلق في وجه دلالة الدليل، ولا يختلف ذلك بالقرب والبعد، وبزيادة الاطلاع على أحوال من ينقل عنه ذلك الدليل. وإنما يختلف ذلك بالفطانة والذكاء، وبسبب كثرة حصول شرائط الاستدلال وقلته.

المسألة الثامنة إجماع العترة - وحدها - ليس بحجة، خلافا للزيدية، والإمامية

المسألة الثامنة إجماع العترة - وحدها - ليس بحجة، خلافًا للزيدية، والإمامية. لنا وجوه: أحدها: نحو ما مضى من المسلك في الاحتجاج على مالك - رضي الله عنه -. وثانيها: أن ذلك عند الخصم مبني على عصمتهم، والقول بوجوب عصمتهم باطل، لأن ذلك إما أن يكون لدليل، أو لا لدليل.

والثاني باطل، لأن القول في الدين لا لدليل باطل. والأول إما أن يكون لدليل شرعي، أو عقلي، والأول باطل، إذ الأصل عدمه إلا إذا بين الخصم ذلك فحينئذ يكون الكلام معه في تصحيح متنه ووجه دلالته. وأما الثاني فقد تقدم بطلانه وإذا/ (34/ أ) بطل الأصل ما يتفرع عليه. وثالثها: أن عليًا خالفه الصحابة في مسائل كثيرة في الحالة التي يعلم أنه لم يكن غيره من العترة فيها بصفة الاجتهاد، وهي ما بين صوت فاطمة، وبلوغ الحسنين - رضي الله عنهم - فيتعين أن يكون قوله وحده حجة، كما إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد على قول من يقول: إن قول مجموع

الأمة حجة، مع أنه - رضي الله عنه - ما كان يقول لأحد منهم أن: قولي وحدي حجة فلم تخالفوني؟ ولو فرضت المخالفة في حالة اتصاف الباقين بصفة الاجتهاد، فنحن نعلم موافقتهم إياه في بعض تلك المسائل كمسألة الإمامة مع أنهم - رضي الله عنهم - ما كانوا يقولون لأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - لم تخالفونا في أن الإمامة لنا، أولى فإن العترة متفقة على ذلك. احتج الخصم بالآية، والخبر والمعقول: أما الآية فقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا}. ووجه الاستدلال به: أن المراد من أهل البيت هم العترة، بدليل ما روي عنه عليه السلام أنه لما نزلت الآية لف كساء على علي وفاطمة والحسن والحسين وقال: "هؤلاء أهل بيتي" والخطأ رجس فوجب أن يكون منفيًا عنهم. وحينئذ يلزم أن يكون إجماعهم حجة [ولا نعني بكون إجماعهم

حجة] سوى هذا. وجوابه: أن المراد من أهل البيت زوجاته - عليه السلام -، فإن ما قبل الآية وما بعدها وسياقها يدل عليه. أما الأول: فإن قوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} إلى قوله: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} مختص بهن، وكذلك ما بعدها، وهو قوله: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن} الآية، وأما سياقها فلأن الآية ذكرت في معرض دفع التهمة عنهن، وامتداد الأعين بالنظر إليهن، وهي واردة في ضمن الآيات التي وردت في حقهن.

وما ذكروه من الحديث فهو بيان لكونهم مرادين من الآية أيضًا، لا أن الآية مختصة بهم، ويدل عليه: ما روي عن أم سلمة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست من أهل البيت؟ فقال بلى إن شاء الله تعالى. وإنما احتيج إلى هذا البيان لئلا يظن أن الآية مختصة بالزوجات فإن سياق الآية يدل على أنها مختصة بهن، وكون أهل البيت ظاهرًا فيهن أيضًا يدل على قصر الإرادة فيهن. وبهذا أيضًا خرج الجواب عما يقال عليه من الإشكال وهو: لو كانت الزوجات مرادة لقال: ليذهب عنكن ويطهركن، لأن الإرادة لما لم تكن مقصورة عليهن، بل أريد منها الذكور أيضًا اجتمع التذكير والتأنيث، فكان يجب التعبير بعبارة التذكير، لما عرف أن التذكير يغلب التأنيث. ونحو قوله تعالى في قصة إبراهيم: {قالوا أتعجبين من أمر الله} مخاطبين لها، فلما أرادوا خطابها وخطاب غيرها من أهل البيت من الذكور والإناث الذين حواهم بيت إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قالوا:

{رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} تغليبًا للتذكير على التأنيث. فإن قلت: لو كان أهل البيت ظاهرًا فيهن لملازمتهن البيت لكان دخول غيرهم في حكمهن أعنى في زوال الرجس خلاف الظاهر، لأن كلمة "إنما" للحصر فاقتضى حصر إرادة زوال الرجس عنهم، فدخول غيرهم فيه خلاف الأصل، فما يستلزمه أيضًا خلاف الأصل. وأيضًا: فإنه حينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو باطل. قلت: لا نسلم أن كلمة "إنما" للحصر، وأن الجمع بين الحقيقة والمجاز غير جائز. سلمناه لكن إنما يلزم ذلك أن لو كان حقيقة فيهن فقط، أما إذا كان حقيقة فيهن، وفي غيرهن ممن حواه البيت ولزمه أو تربى فيه، وإن فرض بعد ذلك خروجه عنه، لكنه يغشاه كل ساعة ولحظة ذكرًا كان أو أنثى بحسب معنى مشترك بينهم، وإنما يكون ظاهرًا في البعض دون البعض الآخر، لأن إطلاقه على تلك الأفراد وإن كان بالتواطؤ لكنه بالتشكيك فلا يلزم ذلك. سلمنا لزومه لكن كون كلمة "إنما" ليس للحصر في هذا المقام فذلك لازم على كل مذهب، فإن بتقدير أن يكون المراد منه عليًا وفاطمة والحسن والحسين يلزم ذلك أيضًا، وذلك، لأن إرادة الله ليست منحصرة في إذهاب الرجس عنهم، بل قد يريد لهم غير ذلك، وقد يريد لغيرهم هذا. سلمنا أن الخطأ منفى عنهم لكن كل أنواع الخطأ أو بعضه؟

والأول ممنوع، وهذا لأن المفرد المعرف لا يفيد العموم. والثاني مسلم لكنه لا يفيد المطلوب. سلمنا إفادته العموم وأن قولهم صواب، لكن لم قلتم أنه يكون حجة على غيرهم من المجتهدين فإنا قد نحكم بإصابة المجتهد ولا نوجب اتباعه على غيره من المجتهدين. وأما الخبر، فما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي" وروي بعبارة أخرى: "إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لم يفترقا حتى يردا على الخوض". ووجه الاحتجاج بالأول ظاهر، وهو آت في الثاني ويخصه وجه آخر وهو: أنه قال "لم يفترقا" وهو يدل على أن كل ما يقولونه فإنه موافق لكتاب الله تعالى، ولا شك أن الكتاب حجة، فموافقه أيضًا حجة. وجوابه: أن الخبر من باب الآحاد، وعند الخصم أنه ليس بحجة في العلميات، فكيف/ (35/ أ) يحتج به في العلميات مع أنه ليس بحجة فيه

وفاقًا؟ وكون الأمة تلقته بالقبول، لأن بعضهم قبله للاستدلال به على المسألة، وبعضهم قبله لفضيلتهم، لا يدل على القطع بصحته لاحتمال أن قبلوه آحادًا. سلمناه لكنه يقتضي وجوب التمسك بهما، وأن مجموعهما حجة، فلم قلتم، إن قول العترة وحدهم حجة؟ وكون الكتاب وحده حجة غير مستفاد من هذا الدليل حتى يلزم مثله في قول العترة بل من دليل آخر ومقتضى هذا ليس إلا أن التمسك بمجموعهما ينفي الضلالة، فأما كون التمسك بالكتاب وحده أيضًا ينفي الضلالة فذاك من دليل آخر. فإن قلت: فعلى هذا يكون التعرض للتمسك بقول العترة حينئذ ضائع عبث وكلام الشارع يصان عنه. قلت: لا نسلم ذلك، وهذا لأن فائدته تظهر عند التعارض، فإن الكتاب إذا عارضه كتاب آخر، أو سنة متواترة، فإن الذي يعضده قول العترة يترجح على الذي لم يكن كذلك، فالتمسك بهما إذ ذاك ينفي الضلالة، لا التمسك بالكتاب وحده. سلمنا أنه يفيد وجزب التمسك بكل واحد منهما، لكن لا يلزم منه أن يكون إجماعًا؟ وهذا لأنه يجوز أن يكون حجة لعموم كونه قول الصحابي لا لخصوصية كونه إجماعًا كقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وكقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"

وأمثاله، فإنه ليس ذلك بطريق الإجماع وفاقًا بيننا وبين خصومنا، بل لو كان فإنه إما بطريق أن قول الصحابي حجة، أو بطريق الفتيا فكذا ها هنا. سلمنا وجوب التمسك بقول العترة وحدهم، لكن فيما يقولونه بطريق الرواية، لا فيما يقولونه بطريق الاجتهاد، وهذا إن لم يكن خلاف الظاهر من قوله فظاهر صحة حمله عليه، وإن كان خلافه فيجب المصير إليه جمعًا بين الدليلين وإنما خصهم بذلك لأنهم أخبر بحاله، وأكثر اطلاعًا على أقواله. ويؤكد هذا ما قيل في تفسير الحديث الثاني: أن المراد من الثقلين الكتاب والسنة، ويخص الوجه الثاني منع أن موافق الكتاب مطلقًا حجة، وهذا لأن النقيضين قد يوافقان الكتاب كل واحد منهما من وجه مع أنا نقطع بخطأ واحد منهما من غير تعيين على قولنا: المصيب واحد لا بعينه. وأما المعقول، فهو: أن أهل البيت مهبط الوحي، ومعدن النبوة والنبي فيهم، ومنهم، فكان علمهم بما هو المراد من النصوص من الظاهر وغيره وبكيفية قوله - عليه السلام - من كونه على وجه الإباحة، والوجوب، أو غيرهما من الأحكام أتم الخطأ عليهم أبعد. وجوابه: أنا لو سلمنا ذلك لا يلزم منه إلا أن يكون قولهم أبعد عن الخطأ، لا أنه إجماع وحجة، ثم أنه منقوض بزوجاته - عليه السلام - فإن جميع ما ذكرتم موجود فيهن مع أن قولهن ليس بحجة.

"المسألة التاسعة" إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة مع مخالفة غيرهم لهم

"المسألة التاسعة" إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة مع مخالفة غيرهم لهم. خلافًا لأبي حازم على ما حكى عنه أبو بكر الرازي وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -.

وكذلك إجماع الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ليس بحجة مع مخالفة الغير لهما. وخالف فيه أيضًا بعض الناس. لنا ما سبق. احتج الأولون بقوله - عليه السلام -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوًا عليها بالنواجذ". أوجب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، كما أوجب اتباع سنته، فذلك إما بعموم كونه قول الصحابي، أو بخصوص كونه قول الخلفاء، والأول باطل لأنه حينئذ يلغو تقييد السنة بالخلفاء، ولا يبقى فيه فائدة البتة، فيتعين أن يكون الثاني. وهو إما بطريق الإجماع، أو بغيره، والثاني [باطل] بالإجماع، لأنه كل من قال أن قولهم جميعًا حجة لخصوص كونه قول الجميع قال أنه بطريق الإجماع لا غير، فالقول بكونه حجة لا بطريق الإجماع قول لم يقل به أحد، وإذا بطل الثاني تعين الأول وهو المطلوب. وما يجاب عنه: بمنع انحصار سنة الخلفاء الراشدين في سنة الأربعة فضعيف

لقوله - عليه السلام: "الخلافة بعدي ثلاثون ثم [تصير] بعدي ملكًا". وكذلك جوابه بالتعارض بقوله - عليه السلام -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، لأن الخصم إن قال بحجية قول الصحابي فظاهر، وإن لم يقل به حمل ذلك على أنه خطاب مع العوام، ولا سبيل إلى حمل ما نحن فيه على كل واحد منهما، لأنه يلغو فائدة التقييد بالخلفاء. وجوابه: النقض بقوله: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهذا لأن جميع ما ذكروه آت فيه مع أن الخصم لا يقول بأن اتفاقهما إجماع وحجة.

واحتج الآخرون على ما ذهبوا إليه بهذا الخبر. ووجه الاستدلال به على الوجه الذي تقدم في الخبر الأول. وأجيب عنه بالمعارضة بالخبر العام وقد عرفت ضعفه. والأولى أن يجاب عنه: بأنه محمول على الحجية لا على الإجماع لكنه عند التعارض، وهذا الجواب بعينه آت في الأول أيضًا وإن لم يذكره ثمة.

"المسألة العاشرة" إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين حالة الإجماع ليس بحجة عند الأكثرين

"المسألة العاشرة" إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين حالة الإجماع ليس بحجة عند الأكثرين. والخلاف فيه مع فريقين: أحدهما: الذين قالوا: لا حجة إلا في إجماع الصحابة، والكلام مع هؤلاء بخصوصيته سيأتي في مسألة منفردة. وثانيهما: الذين سلموا أن إجماع غيرهم/ (36/ أ) أيضًا حجة، لكن قالوا: لا عبرة لمخالفة غيرهم مع إجماعهم وهم بعض المتكلمين. فأما إذا خالفهم بعد انعقاد الإجماع، وقبل انقراض العصر، فيخرج على اعتبار انقراض العصر، فمن اعتبره جعل خلافه في هذه كخلافه في حالة انعقاد الإجماع. ومن لم يعتبره جعل خلافه فيها كخلافه بعد انقراض العصر.

لنا وجهان: أحدهما: أن الأدلة إنما تدل على أن إجماع مجموع الأمة حجة، خرج عنها العوام، والصبيان، والمجانين، لدليل فوجب اعتبار من عداهم والصحابة مع معاصرة التابعي لهم ليسوا مجموع الأمة بل بعضهم، فوجب أن لا يكون إجماعهم حجة، لئلا يلزم القول في الدين بغير دليل، إذ الأصل عدم دليل آخر. وثانيهما: أن الصحابة اعتبروا قول التابعي، وسوغوا له الاجتهاد، ورجعوا إلى قوله: روي أن ابن عمر - رضي الله عنهما - سئل عن فريضة، فقال: "اسألوا سعيد بن جبير، فإنه أعلم بها مني". وسئل أنس عن شيء فقال: "اسألوا مولانا الحسن، فإنه سمع

وسمعنا، وحفظ ونسينا". وربما سئل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - عن مسألة فقال: "اسألوا الحسن البصري". وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: "تذاكرت أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس: عدتها أطول الأجلين، وقلت أنا: عدتها أن تضع حملها: فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي". وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن نذر ذبح الولد؟ فقال: اسألوا مسروقًا، فلما أتاه السائل بجوابه تابعه فيه.

وأمثال هذه الروايات كثيرة، فلو لم يكن قول التابعي معتبرًا في الدين إذ ذاك لما جاز لهم ذلك، وحيث جاز ذلك علمنا أن قوله معتبر في الدين فإذا كان قوله معتبرًا في الدين مع وجود الصحابة وجب أن لا ينعقد إجماعهم بدون قوله. فإن قلت: إنما اعتبروا قوله حالة اجتهاده واختلافهم، دون حالة إجماعهم، ولا يلزم من اعتباره حالة الاجتهاد والاختلاف، اعتباره حالة الاتفاق. قلت: كل من اعتبر قوله حالة الاختلاف اعتبر قوله حالة الاتفاق كالمجتهد من الصحابة بالنسبة إلى إجماعهم، والمجتهد من التابعين بالنسبة إلى إجماع التابعين بجامع كونه مجتهدًا متمكنًا من الاجتهاد، ولأن الدوران الوجودي والعدمي [دل] أيضًا على أن كل من اعتبر قوله حالة الاختلاف والاجتهاد

والاجتهاد اعتبر قوله في انعقاد الإجماع إذا كان موجودًا حالة انعقاده إما وجودًا: كقول المجتهد الصحابي بالنسبة إلى إجماعهم، وكقول المجتهد التابعي بالنسبة إلى إجماعهم، وإما عدمًا: فكقول العامي. واحتج الخصم بالنص والخبر والأثر والمعقول: أما النص فقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. دلت الآية على أنه تعالى راض عنهم، ولا يكون راضيًا إلا إذا كانوا غير مقدمين على شيء من المحظورات، ومتى كان كذلك كان قولهم حجة. وجوابه: أنه مختص بأهل بيعة الرضوان، ولا خلاف في أنه لا ينعقد إجماعهم مع مخالفة غيرهم من الصحابة والتابعين لهم فما تقولونه لا تدل عليه الآية، وما تدل عليه لا تقولون به. سلمنا أنه غير مختص بهم، لكن لا نسلم زوال الرضا بسبب الخطأ الذي هو صغيرة. سلمناه لكن فيما يكون صاحبه به آثمًا دون ما لا يكون صاحبه غير آثم به

بل هو مأجور فيه. وأما الخبر - فنحو قوله - صلى الله عليه وسلم - "لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه"، وهو يدل على أن أعمالهم وأقوالهم مرضية مزكاة، والقول الخطأ غير مرضي ولا مزكي فلا يكون قولهم. وجوابه: النقض بقول الواحد منهم، هذا إن سلم الخصم أن قول الواحد منهم ليس بحجة، وحينئذ فما هو جوابه ثمة فهو جوابنا هنا. وأما إن لم يسلم الحكم فجوابه: أنه لا يدل على حجية قول الواحد بطريق الإجماع بالإجماع، فليكن مثله في قول كلهم مع مخالفة غيرهم لهم فإن دلالة الحديث في الصورتين على السواء. وأما الأثر فمن وجهين: أحدهما: أن عائشة - رضي الله عنها - أنكرت على أبي سلمة بن

عبد الرحمن خلافه لابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها - وهي حامل - وقالت: فروج يصيح مع الديكة. وجوابه: لعل الإنكار إنما كان، لأنه خالف بعد الإجماع، أو في مسألة قطعية. وهذا الاحتمالان ضعيفان، وإلا لكان كون عدتها أبعد الأجلين مجمعًا عليه ومقطوعًا به وهو باطل قطعًا. أو لأنه خالف قبل أن كان أهلاً للاجتهاد، أو لأنه أساء الأدب في المناظرة، أو لأنها كانت ترى أنه لا عبرة بقول التابعي مع اتفاق الصحابة ولا حجة في مذهبها. وثانيهما: أن عليًا - رضي الله عنه - نقض على شريح حكمه في ابني

عم أحدهما أخ لأم لما جعل المال كله للأخ، ولولا أنه لا عبرة بقوله واجتهاده مع مصير الصحابة إلى خلافه لما نقضه. وجوابه: أنا لا نسلم أن المراد من قولهم: أنه - رضي الله عنه - نقض ما حكم به، بل المراد منه: أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض كما يقول: نقض كتاب فلان وكلامه إذا اعترض عليه بقادح، وهذا إن لم يكن خلاف ظاهر اللفظ فصحة الحمل عليه ظاهرة، وإن كان خلافه فيحمل عليه أيضًا جمعًا بين الدليلين. سلمنا أنه نقض حكمه، لكن لا نسلم أن ذلك، لأنه لا عبرة بقوله وإلا لنقض غيره من الأحكام، كما فيما حكم عليه على خلاف رأيه في مخاصمة له مع آخر، بل لأنه كان على وجه ينقض فيه حكم الحاكم، / (37/ أ) وحينئذ لا يكون فيه دلالة على أنه لا عبرة مخالفة التابعي. وأما المعقول: فهو أن الصحابة أعرف بالدليل لصحبة الرسول وشهادة التنزيل. وأعرف بما هو المراد من ظاهر الدليل أو التأويل، وإذا كان كذلك كان قوله أقرب إلى الصواب، وموافقة الدليل. هذا إذا فرض مخالفة واحد منهم لواحد من غيرهم، فكيف إذا اتفق جميعهم على شيء وشذ واحد من غيرهم من موافقتهم. وجوابه، أن ما ذكرتم يقتضي ترجيح - مذهب الصحابي على مذهب غيره وهذا قد يسلم لكم، لكنه لا يقتضي أن ما اتفقوا عليه مع مخالفة غيرهم لهم في حالة الاتفاق يكون إجماعًا، فإنه ليس كل ما هو أقرب إلى الصواب وموافقة الدليل يكون إجماعًا.

"المسألة الحادية العاشرة" المجتهد إذا اعتقد في الأصول ما يوجب تكفيره لا يعتبر قوله في انعقاد الإجماع وفاقا لا نعرف في ذلك خلافا

"المسألة الحادية العاشرة" المجتهد إذا اعتقد في الأصول ما يوجب تكفيره لا يعتبر قوله في انعقاد الإجماع وفاقًا لا نعرف في ذلك خلافًا، لكن لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك الاعتقاد، لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره أن لو ثبت كفره، فإثبات كفره بإجماعنا وحده دور. وأما إذا وافقنا هو على أن ما ذهب إليه كفر فحينئذ يثبت كفره لا لأن قوله معتبر في الإجماع؛ لأنه حينئذ يكون كافرًا، وقول الكافر غير معتبر في الإجماع، ولا لإجماعنا وحده لما سبق. بل لأنه لو لم يكن ما ذهب إليه كفرًا إذ ذاك لزم أن يكون مجموع الأمة على الخطأ، وعلى الاعتقاد الغير المطابق وأدلة الإجماع تنفيه. وأما إذا اعتقد ما لم يوجب التكفير، بل يوجب التبديع والتضليل، فها هنا اختلفوا في اعتبار قوله في الإجماع: فمنهم من اعتبره وهو الصحيح؛ لأنه من جملة المؤمنين والأمة، وهو متصف بأهلية الاجتهاد، غايته أنه مبتدع نضلله في ذلك الاعتقاد، لكن ذلك لا يخل بأهلية اجتهاده، ولا يبطل الثقة عن أخباره مطلقًا، إذا كان من مذهبه أنه لا يجوز الكذب لا سيما فيما يخبر عما أدى إليه اجتهاده، فإن

احتراز الإنسان عن الكذب في ذلك أكثر، لما فيه من الكذب ونسبة الباطل إلى نفسه فإن عندما أدى اجتهاده إلى شيء يعتقد أن ما وراءه باطل، وإذا كان كذلك وجب اعتبار قوله في انعقاد الإجماع سواء كان بالنسبة إليه، أو بالنسبة إلى غيره. نعم لو كان من مذهبه جواز الكذب ولم يقترن من القرائن ما يدل على صحة ما يخبر عن اجتهاده لم يعتبر إخبارهما أدى إليه اجتهاده؛ لأنه لم تحصل الثقة بقوله، لكن ذلك لا يخل بأهلية الاجتهاد، فلا ينعقد إجماع قبل معرفة وفاقه، فإذا أخبر عن نفسه بأنه أدى اجتهاده على خلاف ما ذهب إليه الباقون لم ينعقد الإجماع، لا لأنه تحقق الخلاف بل لأنه لم يتحقق الاتفاق. ومنهم من لم يعتبر قوله مطلقًا مصيرًا منه بأنه فاسق، والفاسق غير مقبول القول، لآية التبين، فكان كالكافر في عدم اعتبار وفاقه، غايته أنه جاهل بفسقه وهو ضم جهل إلى فسق، وهو غير موجب لاعتبار وفاقه كالكافر الذي لا يعلم أن ما ذهب إليه كفر بل يعتقد أنه الدين الحق. وهو ضعيف، لأنا لا نسلم أن كل فاسق غير مقبول القول، بل الفاسق الذي هو غير متأول وهو عالم بفسقه، وأما الذي لا يكون كذلك فلا نسلم عدم قبول قوله. وأما آية التبين فمخصوصة على ما ستعرف ذلك في الأخبار إن شاء الله تعالى. ولئن سلمنا أنه غير مقبول القول لكن لماذا لا يعتبر وفاقه؟ والقياس على الكافر غير صحيح، لوجود الفرق فإن ما يدل على حجية

الإجماع يدل على اعتبار قول المبتدع، ضرورة أنه من المؤمنين والأمة، ولا يدل على اعتبار قول الكافر بل يدل على عدم اعتباره بطريق المفهوم، وإذا كان كذلك لم يلزم من عدم اعتبار قولهما في الأخبار عدم اعتبار وفاقهما في الإجماع. ومنهم من فرق، وقال باعتبار قوله في عدم انعقاد الإجماع بالنسبة إليه دون غيره فقال: لا ينعقد الإجماع عليه مع مخالفته، وينعقد في حق غيره حتى لا يجوز لغيره مخالفته ويجوز له ذلك، ولا يخفى عليك مأخذه وجوابه مما سبق.

"فرعان" أحدهما: إذا ثبت كفر المخالف في الأصول، فلا يعتبر خلافه بعد ذلك، فلو اتفق كل من عداه بعد ذلك على شيء يكون إجماعهم حجة وإن خالفهم هو وهو ظاهر مما سبق، لكن لو خالف الباقين في حالة الكفر في السائل التي أجمعوا عليها في حال كفره ثم تاب وأصر على ذلك الخلاف فهل يعتبر خلافه الآن أم لا؟ قلنا: من لم يعتبر انقراض العصر في انعقاد الإجماع لم يعتبر خلافه الآن أيضًا؛ لأنه خالف بعد انعقاد الإجماع، فكان كمخالفة الكافر والصبي للإجماع الذي حصل قبل إسلامه وبلوغه. وأما من اعتبره فإنه يعتبر خلافه بعد التوبة كما لو كان مخالفًا ثم أظهر الخلاف. وثانيهما: أن بعض الفقهاء لو خالف الإجماع الذي خالف فيه المبتدع أما بناء على أنه لا يعلم بدعته، أو وإن علم بدعته لكنه لا يعلم أن بدعته توجب التكفير، ويعتقد أنه لا ينعقد الإجماع بدون وفاقه، فهل يكون معذورًا أم لا؟ قلنا: إذا لم يعلم بدعته فهو معذور وإن كان مخطئًا فيه حيث تكون البدعة موجبة للتكفير؛ لأنه غير مقصر إذ لم يوجب عليه الشارع التفتيش عن عقائد الناس حتى يقال: إنه بترك التفتيش عن ذلك مقصر ولو سلم وجوب ذلك، لكنا نفرض الكلام فيما إذا فتش وبحث وما أطلع على اعتقاده فيكون معذورًا كالمجتهد إذا بحث عن الناسخ، والمخصص ولم يجدهما. وأما إذا علم ببدعته لكنه غير عالم بكونها موجبة للتكفير فهو غير معذور، بل/ (38/ أ) كان يازمه مراجعة علماء الأصول والمسألة عنهم أن مثل هذا

الاعتقاد هل يكفر أم لا؟ فإذا أفتوه بالتكفير وجب عليه أن يقلدهم إن لم يكن له استعداد فهم تلك الأدلة، وإلا فعليه السؤال عن الدليل أيضًا، وإن ذكر له الدليل ولم يفهمه فقال: لم يظهر لي وجه دلالة على التكفير على أن أخالف الإجماع. قلنا: ليس لك ذلك بل يجب عليك أن تقلدهم؛ لأنه ظهر أنه ليس لك استعداد فهمه إذا كنت صادقًا فيما تخبر عن نفسك من عدم ظهور دلالة الدليل لك وإلا فأنت معاند غير معذور - والله أعلم -.

"المسألة الثانية عشرة" الاتفاق الحاصل من الأكثر ليس بإجماع ولا حجة عند الأكثرين، وهو المختار

"المسألة الثانية عشرة" الاتفاق الحاصل من الأكثر ليس بإجماع ولا حجة عند الأكثرين، وهو المختار. وقال قوم منهم محمد بن جرير الطبري، وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخياط. وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمهم الله -: أنه إجماع وحجة. ومنهم من قال: إنه حجة وليس بإجماع.

ومنهم من قال: إنه ليس بحجة ولا بإجماع لكن الأولى اتباع الأكثر وإن كان لا يحرم مخالفتهم. ومنهم من فصل وذكر فيه وجهين: أحدهما: أن الجماعة إن سوغت اجتهاد الأقل وخلافه كان خلافه معتدًا به، وهو كخلاف ابن عباس في مسألة العول. وإن أنكرت الجماعة اجتهاده وخلافه لم يكن معتدًا به، وهو كخلاف ابن عباس في تحريم ربا الفضل وتحريم نكاح المتعة، وهو اختيار

أبي عبد الله الجرجاني. وثانيهما: أنه إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر لم يكن إجماعًا وإلا فهو إجماع. [ثم من الظاهر أن كل من يقول بأنه إجماع، فإنما يقول أنه إجماع ظني لا قطعي، وبه يشعر إيراد بعضهم]. لنا وجوه: أحدها: أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة إنما هي واردة بلفظ الأمة والمؤمنين، وهما متناولان لكل الأمة والمؤمنين وظاهران فيه وحيث استعملا في الأكثر فإنما هو بطريق التجوز، وهو متفق عليه على القول بتعميمهما، وإذا كان كذلك لم يكن لتلك الأدلة دلالة على أن إجماع الأكثر حجة؛ لأن الأصل عدم التجوز وعدم دليل آخر.

وثانيها: أن المسألة غير متفق عليها بل مختلف عليها ومنازع فيها فيجب رده إلى الله والرسول لقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}. وقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فلم يكن مجمعًا عليه، وليس الرد إلى قول الأكثر ردًا إلى الكتاب والسنة، إذ ليس فيهما ما يدل على حجيته حتى يكون ذلك ردًا إلى الكتاب والسنة، بخلاف الرد إلى الإجماع لما تقدم في بعض المسائل ضرورة أن الكتاب والسنة دلان على حجيته. وثالثها: أن الصحابة لم ينكروا على المخالف للأكثر في الحكم والاجتهاد، ولم ينسبوه إلى مخالفة جماعة المسلمين، كما عهد منهم فيمن يخالف ما أجمع عليه مجموع الأمة، بل سوغوا اجتهادهم، بل ربما رجعوا إلى اجتهاده كما في قتال مانعي الزكاة، فإن الصحابة كلهم غير أبي بكر - رضي الله عنه - كانوا متفقين على ترك قتال مانعي الزكاة وهو كان مخالفهم فيه، ولم ينكروا عليه بل رجعوا كلهم في الأخير إلى قوله، وبقى ذلك الحكم إلى الآن معمولاً به. وكذلك خالف ابن عباس وابن مسعود سائر الصحابة في بعض مسائل

الفرائض ولم ينكروا عليهما ذلك، بل بقى مذهبهما إلى الآن معمولاً به، ولو كان ذلك إجماعًا لأنكروا على المخالف، وشددوا النكير عليه كما في الإجماع المتفق عليه. فإن قلت: لعلهم إنما لم ينكروا عليه؛ لأنه وإن كان إجماعًا لكنه ظني غير مقطوع به بخلاف الإجماع المتفق عليه فإنه قطعي، ثم لا نسلم أنهم ما أنكروا عليه بل أنكروا: ألا ترى أنهم أنكروا على ابن عباس إنكار ربا الفضل، وتجويز نكاح المتعة. وأنكرت عائشة على زيد بن أرقم في مسألة العينة.

أنكروا على أبي موسى الأشعري خلافه للجماعة في أن النوم لا ينقض الوضوء.

وأنكروا على أبي طلحة قوله بأن أكل البرد لا يفطر، وغير ذلك من الاجتهادات لانفرادهم وشذوذهم. قلت: لو قيل: إن الإجماع المتفق عليه حجة ظنية اندفع الفرق، وأما إن لم نقل به فإن قيل بقطعية هذا فكذلك، وأما إن قيل بظنيته وهو الظاهر من مذهبهم فهذا وإن اقتضى أن لا يكون النكير عليه، فما يكون النكير في مخالفة المقطوع به، لكن نعلم من مذهبهم أنهم كانوا ينكرون أيضًا مخالفة الدليل الظني إذا كان ظاهرًا جليًا كخبر الواحد والقياس الجلي ولذلك قال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد بن ثابت جعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل

أب الأب أبًا" وأنكروا على ابن عباس مخالفة خبر ربا الفضل، وأنكروا على أبي موسى الأشعري في أن النوم لا ينقض الوضوء، لمخالفة دليله وغيره من الصور التي ذكرها الخصم، فلو كان إجماع الأكثر حجة لكان حجة ظاهرة لا شك فيها، فكان يجب تحقق النكير على مخالفه جريًا على العادة، ولما لم ينكروا المخالفة، بل جوزوها وبحثوا عن مأخذها، فإن كان ظاهرًا جليًا تبعوه كما في قتال مانعي الزكاة، وإلا فإن كان مرجوحًا جدًا أنكروا عليه المخالفة، وإلا تركوه علمنا أنه ليس بإجماع، وبه خرج الجواب عن الثاني؛ لأنا لا نسلم أن الإنكار فيما ذكروه من الصور إنما كان لمخالفة الأكثر وإلا لا طرد، بل لمخالفة الدليل الظاهر الذي كان متمسك الأكثر وهو صريح في بعضها، وليس في بعضها إشعار ورمز إلى أن الإنكار إنما كان لمخالفة الأكثر. ورابعها: لو انعقد إجماع مع مخالفة الواحد والاثنين، فأما أن يكون ذلك لخصوصية كون المخالف واحدًا أو اثنين، أو لعموم كونه أقل، والقسمان باطلان فبطل القول بالانعقاد. أما الأول: فبالإجماع، إذ لم/ (39/ أ) يجعل الخصم الحكم مقصورًا على ما إذا خالف الواحد والاثنان فقط هكذا أشعر إيراد البعض، ولأن قصر الحكم على خصوصية الواحد والاثنين تحكم محض. وأما الثاني: فلأنه حينئذ يلزم أن ينعقد الإجماع إذا زاد المجمعون على النصف بواحد ولا قائل به، ولو جعل ذلك لعموم كونه أقل من عدد التواتر فهذا مع كونه باطلاً يساعده أكثر الخصوم فهو أيضًا باطل لكونه قولاً من غير دليل.

وخامسها: أنه لو انعقد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل فإما أن ينعقد إجماعًا قطعيًا، أو ظنيًا، والأول باطل؛ لأنه مختلف فيه، والأكثرون على عدم حجيته، ولا يبدع المخالف فيه ولا يضلل، فكيف يكون مقطوعًا به. وأصل الإجماع وإن خالف في حجيته شذوذ من الناس لكنه يبدع المخالف فيه ويضلل وهو حادث مسبوق بإجماع الصحابة والتابعين، ولذلك أول النظام الإجماع وقال: "هو كل قول قامت حجيته" فالخصم معترف بذلك وهذا الإجماع ليس كذلك، ودعوى إجماع الصحابة والتابعين عليه بهت صريح والخصوم ربما يساعدون عليه على ما يشعر به إيراد البعض فيتعين أن يكون ظنيًا، وهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ إما أن ينعقد على المخالف وغيره، أو ينعقد على الغير فقط. والأول باطل، لأن فيه أمر المجتهد بالتقليد وترك العمل، والاعتقاد بما أدى إليه اجتهاده في المسألة الاجتهادية، وهو باطل في حق المجتهد، وأنه لا يجوز له أن يقلد مجتهدًا آخر، وبقولنا في المسألة الاجتهادية خرج عنه: ما إذا اتفق عليه مجموع الأمة [ثم خالف فيه مجتهد آخر فأنا نأمره بترك اجتهاده، والرجوع إلى ما اتفق عليه المجموع] لأن المسألة لم تكن اجتهادية إذ ذاك. والثاني باطل أيضًا، أما أولاً فلمساعدة الخصم عليه، إذ لا يعرف أن من يسبق من المخالفين قال بذلك، بل كل من قال بحجيته قال بحجيته على المخالف وغيره. وأما ثانيًا فلإلحاق الفرد بالأعم والأغلب وإذا بطل القسمان بطل أن يكون إجماعًا. واحتجوا بأمور: أحدها: أن الأدلة التي تدل على أن إجماع مجموع الأمة حجة بعينها تدل

على أن إجماعهم مع مخالفة الواحد والاثنين حجة أيضًا لأنها تتناولهم كتناوله لهم، بدليل ما يقال: بنو تميم يحبون الجار، ويكرمون الضيف، وإن كان فيهم من لا يفعل ذلك على الندور. وكذلك البقرة التي فيها شعيرات بيض تسمى بالسوداء كتسميتها به إذا لم يكن فيها تلك الشعيرات، وإذا كان كذلك وجب أن يكون إجماع الأكثر مع مخالفة الواحد والاثنين حجة كإجماع الكل تسوية بين متناول الدليل. وجوابه: أنها تتناولهم بطريق التجوز، لما ثبت أن لفظ الأمة والمؤمنين حقيقة في العموم، وإرادة المجاز على خلاف الأص لا يثبت إلا بقرينة والأصل عدمها، كيف وقد وجد ما يدل على عدم إرادته، وهو إرادة الحقيقة منها وفاقًا، فلو أريد منها المجاز أيضًا إذ ذاك لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو غير جائز. وثانيها: قوله - عليه السلام -: "عليكم بالسواد الأعظم". "عليكم بالجماعة" "يد الله على الجماعة" "إياكم والشذوذ" "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" فهذه الأخبار ونحوها كما تدل على أن إجماع الكل حجة، فكذا تدل على أن إجماع الأكثر مع مخالفة الواحد والاثنين شاذ، وكون الشيطان مع الواحد قرينة دالة على عدم إصابته الحق. وجواب الأول: أن السواد الأعظم على الإطلاق هو كل الأمة، لأنه ليس

شيء أعظم منه، وهو أعظم من كل ما عداه، ولو لم يرد هذا بل ما صدق عليه أنه أعظم من غيره لدخل تحته النصف الزائد بواحد على النصف الآخر وبه خرج الجواب عن الثالث والرابع، فإن الجماعة على الإطلاق إنما هو مجموع الأمة لما سبق. وأيضًا: فإن الألف واللام في الجماعة إما للعهد، أو للجنس، لأن الاشتراك والمجاز على خلاف الأصل فكان تقليله أوفق للأصل، ودلالتهما عليهما وعلى غيرهما لا يخلوا عن هذين الوجهين، إذ لا يمكن جعلهما [متواطئًا في جميع موارد استعمالهما ولو أمكن لكن كون اللفظ] متواطئًا بين المعنيين أولى من أن يكون متواطئًا بين الأكثر من ذلك، ثم هما ليسا للجنس؛ لأن كل جماعة ليس يد الله عليها، ولا كل جماعة أمر الشارع باتباعها، وإلا لكان ذلك أمرًا لكلا الخصمين لمتابعة الآخر، ضرورة أن كل واحد منهما جماعة فيتعين أن يكون للعهد، والمعهود بحسب الشرع إنما هو مجموع الأمة دون الأكثر لعدم ما يدل عليه وضبطه. وأما قوله - عليه السلام -: "الاثنان فما فوقهما جماعة" فليس تلك الجماعة المعهودة مرادة هنا بالإجماع، بل المراد منها جماعة الصلاة، أو جماعة السفر.

وأما الخامس، فالمراد منه: الانفراد عن الجماعة بعد الموافقة، فإن كان هذا ظاهرًا للفظ فذاك، وإلا فلا شك أنه من محتملاته، فيجب الحمل عليه جميعًا بين الدليلين. وعن السادس من وجهين: أحدهما: أنه ليس بعام، لأن المفرد المعرف لا يعم فيحمل على ما سيأتي ذكره. سلمناه لكن مخصوص بالإجماع، فإن الشيطان ليس مع كل واحد وإلا لم يكن قول النبي حجة فيحمل على الواحد الذي خالف بعد الإجماع والواحد الذي دليله مرجوح. وثانيهما: أنه - عليه السلام - أراد به التحذير عن السفر وحده والحث على طلب الرفيق فيه، ولهذا قال: "والثلاثة ركب". سلمنا دلالة هذه الأخبار على ما ذكرتم لكنه معارض بما يدل على قلة أهل الحق نحو قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، {بل أكثرهم لا يعقلون}، {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة}. ونحو قوله - عليه السلام - حيث قال: "وهم يومئذ الأقلون".

ونحو/ (40/ أ) قوله - عليه السلام -: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ". وثالثها: أن الأمة اعتمدت في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - على الإجماع مع أنه لم يحصل اتفاق الكل عليه، فإن عليًا وسعد بن عبادة مقدم الأنصار لم يوافقا في ذلك بل؛ لأنه حصل اتفاق الأكثر عليه. وجوابه: منع اعتماد الأمة عليه، بل على البيعة؛ وهذا لأن انعقاد الإمامة لا يتوقف على الإجماع بل على البيعة، وهي لا تتوقف على الإجماع. وأجيب أيضًا بمنع عدم حصول الإجماع في ذلك وفيه نظر. ورابعها: [أن الإجماع حجة على المخالف فيستدعي تحقق المخالف ليتحقق كونه حجة على المخالف وإلا لم يتحقق هذا المعنى]. وجوابه: [أن الإجماع حجة على المخالف الذي يوجد بعد انعقاد الإجماع في العصر أو في غيره على تقدير عدم اعتبار انقراض العصر، وعلى تقدير اعتباره فهو حجة على المخالف الذي يوجد بعد انقراض العصر].

سلمنا أنه لا بد وأن يكون المخالف موجودًا معه حتى يكون حجة، لكنه منقوض بالإجماع الذي ليس فيه مخالف فإنه بالإجماع حجة مع أنه ليس له مخالف. وخامسها: أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافه للباقين في ربا الفضل والعول، ونكاح المتعة ولولا أن اتفاقهم حجة لما أنكروا عليه. وجوابه: أنا لا نسلم أن الإنكار للمخالفة، بل لأنه خالف صريح الحديثين أعنى الذي ورد في ربا الفضل، ونكاح المتعة على زعمهم، وأما في مسألة العول فلما أنه لما أظهر ذلك في زمن عمر - رضي الله عنه - وأظهره بعد ذلك مع أن دليل صحته ظاهر جدًا. وسادسها: أن ما اتفق عليه الأكثرون يعلم أنه طريقة المؤمنين قطعًا، ضرورة أنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم مؤمنون، ويستحيل أن يكون إخبار الجمع الكثير كلها كذبًا سواء كان مخبر خبرهم واحدًا أو أكثر. وما ذهب إليه الواحد والاثنان لا يعلم قطعًا أنه سبيل المؤمنين لجواز اتفاقهم

على الكذب فيما أخبروا عن أنفسهم أنهم مؤمنون، وإذا كان كذلك [وجب أن يكون إجماعهم حجة؛ لأن مخالفه مخالف لسبيل المؤمنين. وجوابه:] هب أن إخبارهم عن أنفسهم أنهم مؤمنون صادقة لكن لا يلزم منه المقصود، فإنه ليس مخالفة سبيل كل من يقطع بأنه من المؤمنين محظورة، ألا ترى أنا لو قطعنا بإيمان شخص بأخبار نبي، أو ولي أو بقرائن، فإنه لا يحرم علينا مخالفته، بل الذي يحرم إنما هو مخالفة سبيل المؤمنين [لا مخالفة سبيل المؤمنين] كيفما كان أعنى أن يكون بعضًا أو كلاً. وسابعها: القياس على الرواية؛ فإن الرواية ترجح بكثرة العدد فكذا أقوال المجتهدين. وجوابه: أن المناط مختلف، ومع اختلاف المناط لا يصح القياس، فإن مناط الرواية غلبة ظن صدق الراوي، ومناط الإجماع عصمة المجمعين، ولم تثبت عصمة أكثر الأمة، وقول الأكثر يفيد من الظن ما لا يفيد قول الأقل فلا جرم حصل الترجيح بقول الأكثر، ولم يثبت الإجماع بقول الأكثر، لعدم تحقق المناط. وثامنها: أن خبر الواحد عن شيء لا يفيد العلم بل يفيد الظن، وخبر جماعة بلغ عددهم عدد أهل التواتر يفيد العلم، وكذا قول المجتهد الواحد يفيد الظن، فليكن قول جماعة منهم بلغ عددهم عدد أهل التواتر يفيد العلم.

وجوابه: أن شرط إفادة اليقين في خبر جماعة بلغ عددهم عدد أهل التواتر الإحساس بالمخبر عنه، وهو ممتنع الثبوت في المجتهدات، وبتقدير صحته فهو منقوض بما إذا كان المجمعون عدد أهل التواتر بدون وصف الأكثرية. وتاسعها: لو اعتبرنا مخالفة الواحد أو الاثنين لما انعقد إجماع على سبيل القطع لأنه ما من إجماع إلا ويمكن أن يوجد فيه مخالف أو مخالفان. وجوابه: منعه؛ وهذا لأنه يمكن أن ينعقد مع العلم بعدم المخالف حيث يكون المجتهدون منحصرين كما في زمان الصحابة، وحيث يتعذر العلم به بتعذر العلم بإجماع الأكثر أيضًا، إذ هو مشروط بالعلم بكلهم وهو متعذر. وعاشرها: أن ظن حقيقة ما ذهب إليه الأكثر أغلب، فوجب العمل به بالأدلة الدالة على أن العمل واجب بالظن الغالب. وجوابه: أنا لا نسلم أن ظن حقيقته أغلب بالنسبة إلى الكل، فإن الذي خالفه لم يغلب على ظنه ذلك، بل يغلب فساده على ظنه فلم يكن حجة في حقه. سلمنا ذلك، لكن مثل هذا الظن الغالب لا يوجب العمل على المجتهد بل على العوام. سلمناه لكنه منقوض بما إذا كان المجمعون أكثر من المخالفين بعدد يحصل به غلبة الظن مع كثرة المخالفين، فإنه ليس بإجماع بالاتفاق مع حصول غلبة الظن به.

"المسألة الثالثة عشرة" المجتهد الخامل يعتبر قوله في الإجماع عند الجماهير خلافا لبعض الشاذين

"المسألة الثالثة عشرة" المجتهد الخامل يعتبر قوله في الإجماع عند الجماهير خلافًا لبعض الشاذين. لنا: أن ما عداه ليسوا جميع الأمة من أهل الحل والعقد الذين يعتبر اتفاقهم في الإجماع بل بعضهم فلا يكون إجماعهم بدون موافقته حجة. احتجوا: بأن اعتباره يوجب القول بامتناع حصول الإجماع، إذ الاطلاع على قول من لا يعرف أنه من أهل الاجتهاد والعلم متعذر. وجوابه: ما سبق من أنه لا تعذر مع الانحصار، وأما حيث لم يكونوا منحصرين فبالنقض بغير الخامل.

الفصل الثالث فيما يصدر عنه الإجماع وفيه مسائل:

الفصل الثالث فيما يصدر عنه الإجماع

الفصل الثالث فيما يصدر عنه الإجماع وفيه مسائل: المسألة الأولى مذهب الجماهير أنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن مستند شرعي نحو الأدلة، والأمارة. وقول قوم يجوز أن يحصل بالبخت والمصادفة. وقد تترجم المسألة بأنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن توقيف. وقال قوم يجوز أن يحصل عن توفيق. لنا وجوه: أحدها: أن القول في الدين بغير دلالة/ (41/ أ) وأمارة خطأ، فلو اتفقت الأمة عليه لكانوا قد اتفقوا على الخطأ، وأدلة الإجماع تنفيه. فإن قلت: متى يكون ذلك خطأ، إذا لم تتفق الأمة عليه، أم مطلقًا سواء اتفقت عليه أم لم تتفق؟

والأول مسلم والثاني ممنوع؛ وهذا لأن من يجوز ذلك مع القول بأن الأمة معصومة عن الخطأ يمنع أن يكون ذلك خطأ عند الاتفاق فتكون دعواه دعوى محل النزاع. قلت: القول في الدين بغير دليل وأمارة باطل قطعًا في الأصل ولذلك لو لم يحصل الإجماع عليه كان ذلك باطلاً وفاقًا، والإجماع لا يصير الباطل حقًا بل غاية تأثيره أن يصير المظنون مقطوعًا به. وأيضًا: إما أن يقال: كل مجتهد مصيب، أو يقال المصيب واحد فعلى الأول الحكم يتبع الاجتهاد، فحيث لا اجتهاد لا حكم يعتبر، فما حكموا به من غير اجتهاد غير معتبر، فيكونون مخطئين فيه، إذ لا نعني به إلا أنهم أثبتوا حكمًا غير معتبر، وعلى الثاني المصيب هو الذي صادف ذلك الحكم بناء على طريق، بدليل أنه لو أصاب ذلك الحكم بطريق الاتفاق فإنه غير مصيب وفاقًا، والمجموع ينتفي بانتفاء أحد جزئيه، فتنتفي الإصابة حيث لا طريق فيكون خطأ، ولا يمكن جعل الإجماع طريقًا إليه، لأنه متأخر عن التأدية، التي هي متأخرة عن الاجتهاد، الذي هو متأخر عن الطريق، فلو كان طريقًا إليه لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وهو محال. وثانيها: أن الأمة ليسوا بآكد حالاً من النبي المعصوم، لأن عصمتهم مستفادة من عصمته، فإذا لم يجز للنبي - عليه السلام - أن يحكم من غير دليل لم يجز للأمة ذلك أيضًا بل أولى. لا يقال: أن ذلك لدليل آخر [نحو] قوله تعالى: {وما ينطق عن

الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. ولم يدل مثله في حقهم، وإلا فمقتضى العصمة أن كل حكم يحكم به المعصوم ولو بغير دليل كان صوابًا، لأنا نقول: القياس عليه أو ما يدل على وجوب التأسي به يدل على ثبوت هذا الحكم في حقهم. وثالثها: لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن الاجتهاد شرطًا في القول بالحكم؛ لأن الإصابة حينئذ لا تتوقف على الاجتهاد وما هذا شأنه لا يكون شرطًا، لكن الأمة قبل ظهور المخالف مجمعة على اشتراطه مطلقًا من غير تفصيل بين حالة الإجماع، وغير حالة الإجماع فلا يجوز انعقاده بدونه. وقد استدل في المسألة بوجوه أخر ضعيفة. أحدها: أن عند فقد الدليل والاجتهاد الوصول إلى الحق غير لازم وحينئذ لم يمكن القطع بالإصابة. ووجه ضعفه: أن دعواه عند الإجماع دعوى حل النزاع، وعند عدمه لا يصير. سلمناه لكنه منقوض بما إذا وجد الدليل والاجتهاد، فإن الإصابة أيضًا غير لازم، لجواز الخطأ مع هذا فإنه عند الإجماع نقطع بالإصابة. وثانيها: أنه لو جاز أن يحكم الجميع من غير دليل وأمارة لجاز ذلك لكل واحد منهم، لأنهم إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد منهم به، لكن اللازم باطل بالإجماع فكذا الملزوم. وجوابه: مع أنه إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد منهم به

على الانفراد، بل جاز أن يحصل معًا كما فيما إذا كان المجتهدون منحصرين يشاهدون بعضهم البعض. سلمناه، لكن لا يلزم منه أن يجوز لكل واحد منهم ذلك وإن لم ينضم إليه الباقون، لجواز أن يكون جوازه له مشروطًا بضم الباقين إليه، فإنه يجوز أن يكون حكم المجموع الحاصل من الأفراد مخالفًا لها، كالخبر المتواتر، والإجماع الحاصل عن مستند فإنه إنما يحصل بأن يقول كل واحد منهم به، ومع ذلك لا يلزم أن يكون قول كل واحد منهم صحيحًا مقطوعًا به مع أن قول الكل كذلك. وثالثها: أن الحكم إذا لم يستند إلى دليل لا ينسب إلى الشارع وما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به. ووجه ضعفه: أنه إن عنى بقوله: لا ينسب إلى الشارع أنه غير مستفاد من دليل من أدلته فهذا مسلم، لكن لا نسلم أن ما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به، فإن عندنا ينقسم ذلك إلى ما يكون مجمعًا عليه فيجوز أخذه، وإلى ما لا يكون مجمعًا فلا يجوز أخذه، وإن عنى به أنه لا يصاب الحكم، فهذا غير مسلم بل دعواه دعوى محل النزاع. واحتجوا بوجهين: أحدهما: أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليل - أعنى به القطعي والظني - لكان ذلك الدليل هو الحجة، وحينئذ لا تبقى فائدة في جعل الإجماع حجة شرعية. وجوابه: أنه يقتضي منع انعقاد الإجماع عن دليل وهو خلاف الإجماع. سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أنه لا فائدة فيه، بل فيه فائدتان

وهما: جواز الأخذ بالحكم المجمع عليه من غير بحث عن وجود ذلك الدليل، وعن كيفية دلالته عليه، وحرمة المخالفة الجائزة قبله. وثانيهما: أنه وقع ذلك كإجماعهم على بيع المراضاة، وأجرة الحمام والحلاق والدلاك. وجوابه: منع أنه انعقد الإجماع على ذلك من غير دليل، وغاية ما يستدل عليه إنما هو بعدم الوجدان، لكنه لا يدل عليه، لجواز أن كان أنه دليل لكنه لم ينقل إلينا استغناء بالإجماع.

"المسألة الثانية" القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اتفقوا على جواز وقوعه عن دلالة

"المسألة الثانية" القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اتفقوا على جواز وقوعه عن دلالة. واختلفوا في جواز وقوعه عن أمارة: فجوزه الجماهير لكن اختلفوا في وقوعه: فمنهم من قال بوقوعه أيضًا وهم الجماهير. ومنهم من لم يقل به. والقائلون بالوقوع، اختلفوا في أنه هل تحرم مخالفته أم لا؟ مع إطباقهم على أنه حجة: فذهب الجماهير/ (42/ أ) إلى أنه تحرم مخالفته، ومنهم من نفى ذلك. وذهب الشيعة، وداود الظاهري، ومحمد بن جرير الطبري إلى امتناعه.

ومنهم من فصل فجوز بالجلية، دون الخفية. والمختار أنه وقع، وأنه تحرم مخالفته. أما الأول فهو أن الصحابة أجمعت في زمان عمر - رضي الله عنه - على أن حد الشارب ثمانون وهو بطريق الاجتهاد، إذ روي أن عمر - رضي الله عنه - شاور الصحابة في ذلك فقال علي - رضي الله عنه -: (أنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفترى ثمانون" وهذا تصريح منهم بأنهم إنما أثبتوا ذلك الحكم بالاجتهاد، وضرب من القياس، إذ مع وجود النص لا يتشبث بمثله، وحينئذ يعرف اندفاع ما يقال عليه: لعلهم أجمعوا عليه لنص لكنه لم ينقل استغناء بالإجماع. وأجمعوا أيضًا على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - بالأمارة، إذ ليس ذلك لا عن دليل لما تقدم، ولا عن دليل هو نص، وإلا لأظهروه كما أظهروا قوله - عليه السلام -: "الأئمة من قريش" بل ذلك أولى بصراحة دلالته على التعيين، كيف وقد صرح في بعض ما نقل بالقياس والاجتهاد

بعضهم: "رضيه رسول الله - عليه السلام - لديننا" يعني به تقديمه إياه في الصلاة "أفلا نرضاه لدنيانا؟ " وقال الآخر: إن تولوها أبا بكر - تجدوه قويًا في أمر الله ضعيفًا في بدنه" وإذا لم يكن بهاتين الطريقتين تعين أن يكون لأمارة وهو المطلوب. وأجمعوا أيضًا على جزاء الصيد بالاجتهاد وضرب من القياس، فإنهم إنما عينوه للتشبه إما في الصورة، أو في المعنى وكل ذلك قياس، بل أضعف من القياس الذي وقع النزاع فيه وهو قياس المعنى. وأما التمسك بمثل أن الأمة مجمعة على تحريم شحم الخنزير قياسًا على تحريمه، وأجمعت على إراقة الأدهان والسيالة إذا ماتت فيها فأرة قياسًا على السمن ففيه نظر، لأنه ليس بقياس ظني الذي وقع فيه النزاع، بل هو قياس قطعي وليس فيه النزاع. واحتجوا بوجوه: أحدها: أن الأمة مع كثرتها، واختلاف دواعيها - لا يجوز أن تجمعها الأمارة مع خفائها، كما لا يجوز أن تجمعهم شهوة طعام واحد في الساعة الواحدة على أكله، وكذا التكلم بالكلمة الواحدة على تكلمها، وهذا بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة، لأن الدليل قوي لا تختلف دلالته لغاية ظهورها، فلا تختلف فيها الأذهان فجاز أن تجمع، وهذا بخلاف الأمارة، فإنها تضطرب فيها الأذهان، والشبهة، وإن كانت دلالته ليست حقيقة لكنها شبيهة بالدلالة فلذلك اعتقدت دليلاً فكانت جارية مجراها. وجوابه: أن ذلك إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال، فأما فيما ظهر

فلا نسلم امتناعه فيه. سلمناه لكنه منقوض بالخبر الواحد، فإنه أيضًا غير مقطوع به مع أنه يجوز حصول الإجماع على مقتضاه. وثانيها: أن في الأمة من لا يعتقد جواز الحكم بالأمارة، فهو لا يستحيل أن لا يجمعوا على الحكم بسببها. وجوابه: أن الخلاف في جواز الحكم بالأمارة حادث لم يكن في العصر [الأول] لما سيأتي في القياس إن شاء الله تعالى أن العمل به كان مجمعًا عليه فيما بين الصحابة - رضي الله عنهم -. سلمناه لكنه يجوز أن لا يوجد واحد منهم في بعض الأعصار فيتصور انعقاد الإجماع به. سلمنا عدم خلو الزمان عنهم لكنه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت بها بناء على أنه أثبته بالدلالة. سلمنا عدم جواز اشتباه الأمارة بالدلالة، لكنه منقوص بخبر الواحد فإنه أيضًا مختلف فيه مع أنه يجوز أن يحصل الإجماع به وفاقًا: سلمنا سلامته عن هذا النقض لكنه منقوض بعموم المقطوع به فإنه أيضًا مختلف فيه مع أنه يجوز حصول الإجماع على مقتضاه وفاقًا. وثالثها: أن تجويزه يقتضي الجمع بين أحكام متنافية، لأن الحكم من حيث أنه صدر عن الاجتهاد يجوز مخالفته، ولا يفسق مخالفه، ولا يبدع ويحكم

عليه بأنه غير مقطوع به. ومن حيث أنه مجمع عليه بالضد من هذه الأحكام، فلو جاز حصول الإجماع عنه لزم حصول هذه الأحكام فيه، وأنه جمع بين الأحكام المتنافية فلا يجوز. وجوابه: أن الأحكام المترتبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية، فإذا صارت إجماعية زالت تلك الأحكام لزوال شرطها. سلمنا أنها غير مشروطة به، لكنه منقوض بالإجماع الصادر عن خبر الواحد، فإن جميع ما ذكروه ثابت فيه بعينه مع أنه يجوز ذلك وفاقًا. ورابعها: أن الإجماع أصل من أصول الأدلة، وهو معصوم عن الخطأ، والغلط والقياس فرع وعرضة للخطأ والغلط، فلا يجوز إسناده إليه. وجوابه: أنه إن عنى بقوله: أنه أصل من أصول الأدلة، أي هو دليل بنفسه من غير إسناد إلى شيء آخر فهذا باطل، بل حجيته مستفادة من الكتاب والسنة كالقياس، وهو محتاج إلى دليل في انعقاده في آحاد الصور لما تقدم أنه لا يجوز أن ينعقد عن تبخيت. وإن عنى به أنه أصل بالنسبة إلى الأحكام الفرعية فهذا مسلم، لكن القياس أيضًا أصل بهذا المعنى، وإنما هو فرع الكتاب والسنة، والإجماع أيضًا كذلك. وأما قوله: القياس عرضة للخطأ والغلط. قلنا: إن عنيتم به: أنه كذلك قبل الإجماع على القول بمقتضاه فهذا مسلم، لكن لم قلتم أنه لا يجوز إسناد الإجماع إليه فإن هذا أول المسألة.

ثم ليس هو إسناد للمعصوم إلى المعرض للخطأ، لأنا إذا ذاك تبينا أنه أسند الحكم إلى قياس صحيح مقطوع بصحته لا يجوز أن يكون خطأ فيكون ذلك إسناد لما لا يحتمل أن يكون خطأ/ (43/ أ) إلى ما لا يحتمل أن يكون خطأ. وإن عنيتم به: أنه كذلك مطلقًا سواء كان قبل الإجماع أو بعده فهذا ممنوع، وهذا لأنه عندنا غير محتمل للخطأ بعد الإجماع.

"المسألة الثالثة" الإجماع الموافق لدليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستندا إلى ذلك الدليل عند الجماهير

"المسألة الثالثة" الإجماع الموافق لدليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستندًا إلى ذلك الدليل عند الجماهير، لاحتمال أن يكون له دليل آخر وهو مستند إليه، لكنه لم ينقل إلينا استغناء بالإجماع. وقال أبو عبد الله البصري: "أنه يكون مستندًا إليه". فإن أراد به أنه كذلك [على سبيل الوجوب فهذا باطل، لما تقدم. وإن أراد به أنه كذلك] على سبيل غلبة الظن فهذا حق، إذ الأصل عدم دليل آخر سواه، وهذا إنما يتم لو قيل بحجية استصحاب الحال، وقد تقدم له نظير.

الفصل الرابع في المجمعين وفيه مسائل:

الفصل الرابع في المجمعين

الفصل الرابع في المجمعين وفيه مسائل: المسألة الأولى القائلون بأن الإجماع حجة اتفقوا على أنه لا يعتبر في الإجماع اتفاق جميع الأمة من وقت الرسول - عليه السلام - إلى يوم القيامة، وسببه ظاهر، فإنه لو اعتبر ذلك لسقطت فائدة شرعية كون الإجماع حجة، فإنه لو كان حجة حينئذ، فإنما يكون حجة إلى ما بعد يوم القيامة لاستحالة حصوله قبل يوم القيامة، وما بعده لا حاجة إليه لعدم الاحتياج إلى الاستدلال بل لا يتصور أن يكون حجة، لأن التكاليف بأسرها مرتفعة فيه. وأجمعوا أيضًا على أنه لا يعتبر فيه قول الخارج عن الملة؛ لأن الأدلة دالة على اعتبار قول المؤمنين والأمة لا غير، والأمة في عرف الشرع الذين قبلوا دين الرسول - عليه السلام - فمن كان خارجًا عن الملة لا يكون مؤمنًا، ولا من الأمة فلا يعتبر قوله، لعدم ما يدل على اعتباره. واتفقوا على اعتبار قول المجتهدين؛ لأن أدلة الأجماع متناولة لهم، ولم يدل دليل آخر على عدم إرادتهم، فوجب اعتبار قولهم وإن كان في بعضهم كالعاصي والمبتدع خلاف على ما تقدم. واختلفوا في اعتبار قول العوام:

فذهب الأكثرون إلى أنه لا عبرة به، لأن أدلة الإجماع وإن كانت متناولة لهم، لأنهم من المؤمنين والأمة، لكن أدلة أخر تدل على عدم إرادتهم منها كما سيأتي ذكرها. وذهب الأقلون إلى اعتباره، وهو مختار القاضي أبي بكر - رحمه الله -. احتج الأولون بوجوه: أحدها: أنه لو اعتبر قولهم، فإنما بعتبر، لاحتمال أن يكون قولهم صوابًا، فإن بتقدير أن يقطع بانتفاء احتمال الصواب عنه، فإنه لا يعتبر قولهم إذ لا معنى لاعتبار قول من يقطع بخطأ قوله، لكن لا يحتمل أن يكون قولهم صوابًا، لأن قولهم غير مستند إلى دليل وأمارة، إذ المعنى من استناد القول إلى الدليل أن يكون مستفادًا منه، واستفادة الأحكام من أدلتها تستدعي حصول شرائط الاجتهاد والاستدلال، والعامي عار عن ذلك، فيكون قولهم غير مستند إلى دليل، وكل قول غير مستند إلى دليل فإنه باطل فيكون قول

العامي باطلاً فلا يعتبر. وثانيها: أن العلماء إذا اتفقوا على شيء وخالفهم العوام في ذلك فلا شك أن خلافهم وقولهم بخلاف ذلك الحكم باطل، لما سبق، فلو كان قول العلماء أيضًا باطلاً: لزم أن يكون قول مجموع الأمة باطلاً بالنسبة إلى مسألة واحدة، ولكن غايته أنه باعتبارين مختلفين، فإن بطلان قول العوام باعتبار الطريق وبطلان قول العلماء باعتبار عدم مصادفة الحكم، وهذا على قولنا: المصيب واحد، وأما على قولنا: كل مجتهد مصيب [فإنه لا يتصور البطلان بهذا المعنى بل يتعين أن يكون البطلان في القولين] على الوجه الأول وبطلان قول مجموع الأمة بالنسبة إلى مسألة واحدة باطل، وإن كان ذلك باعتبارين، لأن أدلة الإجماع تنفي ذلك مطلقًا من غير فصل. وثالثها: أن العوام ليسوا من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقولهم كالصبي والمجنون. وما يذكر من الفرق بين المقيس والمقيس عليه فغير قادح، لأنه في عير محل الجمع. ورابعها: أن العامي يلزمه موافقة العلماء، ويحرم عليه مخالفتهم، فلا تكون مخالفته معتبرة، كالمجتهد إذا خالف بعد انعقاد الإجماع، أو بعد انقراض عصره على اختلاف القولين، فإنه لما وجب عليه موافقتهم لم تعتبر مخالفته لهم. وفي هذا الوجه نظر، فإن المجتهد إذا خالف خبر الواحد بناء على أنه لا يرى العمل به، وأجمع الباقون على مقتضاه، فإن ها هنا يحرم عليه مخالفته ونعصيه بسبب المخالفة مع أنه لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، فليس يلزم من حرمة المخالفة عدم اعتبارها، وأما في الصورة التي ذكروها فليس تعتبر المخالفة لعموم حرمة المخالفة، بل لخصوص مخالفة الإجماع.

وخامسها: لو اعتبر اتفاق العوام لم يتصور العلم بحصول الإجماع [حتى] في زمان الصحابة أيضًا؛ لأنهم متفرقون في الأقطار والنواحي بحيث يتعذر العلم باتفاقهم، لكثرتهم وعدم العلم بأعيانهم، بخلاف العلماء لا سيما في زمن الصحابة فإنهم كانوا منحصرين معلومين فيه. وسادسها: أن عوام الصحابة وخواصهم أجمعوا: على أنه لا عبرة بقول العوام في هذا الباب لا بالنسبة إلى الموافقة، ولا بالنسبة إلى المخالفة، واعتبار قولهم خلاف لإجماعهم فيكون باطلاً. وفي هذا الوجه أيضًا نظر؛ وهذا لأن المؤمنين من أهل البادية قد لا يعرفون أن الإجماع حجة، فضلاً من أنه لا يعتبر فيه قول العوام أو يعتبر، فكيف يمكن ادعاء إجماعهم على أنه لا يعتبر قول العوام؟ وسابعها: أن قول المجتهد بالنسبة إلى العوام كالنص بالنسبة إلى المجتهدين [فكما أن حجية النص مطلقًا لا يتوقف على رضا المجتهدين] فكذا حجية قولهم مطلقًا لا يتوقف على رضا العوام به. وما يقال على أكثر هذه الحجج المتقدمة: بأن قول العوام وإن كان باطلاً إذا لم يكن على/ (44/ أ) موافقة العلماء [إذ] هو غير مستند إلى دليل فيكون قولاً في الدين بالتشهي وهو باطل، لكن لم لا يجوز أن تكون موافقتهم للعلماء شرطًا في حجية قولهم على من يحدث بعدهم من العلماء فإن ما تقدم من الدلالة لا ينفي هذا الاحتمال؟ فهو ضعيف، أما أولاً: فلأنه مجرد احتمال دل الأصل على عدمه. وأما ثانيًا: فلأن الأصل عدم توقيف المقتضى على شيء، لأن على هذا

التقدير اتفاق العلماء هو الحجة لكن حجيته تتوقف على موافقة العوام لهم، وأما دلالة لفظ المؤمنين والأمة عليهم فإنما هي على وجه الجزئية كما تقدم، كان اعتبار موافقتهم على وجه الشرطية مجرد احتمال من غير دليل فيكون منفيًا لما تقدم من الوجهين. واحتجوا: بأن الأدلة التي تدل على أن الإجماع حجة متناولة للعوام حسب تناولها للمجتهد فوجب أن تكون مرادة، إذ الأصل في المتناول أن يكون مرادًا، وإذا كان العوام مرادًا منها وجب أن لا ينعقد إجماع بدون موافقتهم للعلماء، لأن ما يدل على ثبوت الحكم في الكل لا يدل على ثبوته في البعض بدونه، والأصل عدم دليل آخر. وجوابه: أن الأصل في المتناول وإن كان هو الإرادة، لكن قد يترك الأصل، لقيام الدلالة على عدم إرادته، وما ذكرنا من الأدلة دالة على أنهم غير مرادين من لفظ المؤمنين والأمة فوجب تخصيصهما بالمجتهدين. ثم اعلم أن المجتهد الذي اعتبرنا قوله ليس هو المجتهد كيف كان حتى لو كان مجتهدًا في فن يعتبر قوله في فن آخر أو في جميع الفنون، بل هو المجتهد مطلقًا، أو المجتهد في ذلك الفن الذي يحصل الإجماع على مسألة من مسائله. فأما لو كان مجتهدًا في فن فإنه لا يعتبر قوله في فن آخر؛ لأنه عامي بالنسبة إليه فعلى هذا المعتبر في مسائل الكلام إنما هو قول المتكلمين لا غير، وفي مسائل الفقه قول المتمكنين من الاجتهاد في مسائل الفقه لا قول المتكلمين، ومن يجري مجراهم. واختلفوا في الأصولي الذي ليس بفقيه، والفقيه الذي ليس بأصولي على أربعة أقوال:

أحدها: اعتبار قوليهما، نظرًا إلى ما لهما من الأهلية المناسبة بالنسبة إلى المسائل الفرعية التي لا توجد في العوام ولا في المتكلمين واللغويين والنحويين. وثانيها: عدم اعتبار قوليهما، لعدم أهلية الاجتهاد والتمكن التام الثابت لأهل الحل والعقد من المجتهدين. وثالثها: اعتبار قول الأصولي دون الفقيه الحافظ للأحكام، وهو الأولى، لأنه متمكن من الاجتهاد، واستباط الأحكام عن مداركها، إذ ليس من شرائط الاجتهاد حفظ الأحكام كما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى. وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله معتبرًا كغيره من المجتهدين. نعم التمكن التام كما هو حاصل للأصولي الحافظ للأحكام فإنه غير حاصل له لكن ذلك لا يخل برتبة الاجتهاد. ورابعها: اعتبار قول الفقيه الحافظ للأحكام دون الأصولي. ولا يتخيل فيه أنه إنما اعتبر قوله، لكونه أعرف بمواقع الاتفاق، والاختلاف، فعدم اتفاقه يدل على تقدم خلاف فيه إذ لو كان متفقًا عليه لما خالف وذلك يمنع من انعقاد الإجماع على رأي. لأنا لا نسلم أنه يدل عليه لجواز أن تكون المسألة غير واقعة في العصر الأول، أو وإن وقعت فيه لكن ربما لم تصل إليه مذاهب الناس فيه، وإنما

خالف بناء على دليل: إما في نفس الأمر، أو في ظنه أو لم يوافق، لعدم الظفر على الدليل، أو لعدم اهتدائه إلى وجه دلالة الدليل، فلا يدل عدم موافقته على تقدم من الخلاف، ثم عدم موافقته إنما يقدح في الإجماع أن لو كانت موافقته معتبرة، فإن بتقدير أن لا تكون موافقته معتبرة لا يكون عدم موافقته قادحًا في الإجماع وحينئذ يكون الاستدلال باعتبار عدم الموافقة دوران.

المسألة الثانية ذهب الأكثرون إلى أنه لا يشترط في المجمعين أن يكونوا بالغين حد التواتر

المسألة الثانية ذهب الأكثرون إلى أنه لا يشترط في المجمعين أن يكونوا بالغين حد التواتر؛ لأن أدلة الإجماع تدل على عصمة المؤمنين والأمة مطلقًا، من غير فصل بين أن يكونوا بالغين حد التواتر، أو ولم يكونوا بالغين إلى حده فوجب أن يثبت ذلك مطلقًا عملاً بإطلاق الأدلة. وذهب الأقلون إلى أنه يشترط ذلك: لكن منهم من زعم أن ذلك؛ لأنه لا يتصور أن ينقص عدد المسلمين عن عدد التواتر مادام التكليف بالشريعة باقيًا. ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان متصورًا لكن لا يقطع أن ما ذهب إليه دون عدد التواتر سبيل المؤمنين، لأن إخبارهم عن عن إيمانهم لا يفيد القطع بإيمانهم ولا بإيمان واحد منهم فلا تحرم مخالفته. ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن، ولا يشترط فيه ذلك بل يكفي فيه الظهور، لكن الإجماع إنما يكون حجة، لكونه كاشفًا عن دليل قاطع على ما تقدم تقريره في المسلك العقلي، والقاطع النقلي يجب أن يكون نقله متواترًا، وإلا لم يكن قاطعًا، فما يقوم مقام نقله متواترًا وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادرًا عن عدد التواتر وإلا لم يقطع بوجوده

كما إذا نقله صريحًا دون عدد التواتر، وهؤلاء لا يخصصون حجية الإجماع بشرعنا، ولا يشترطون أن يكون المجمعون مجتهدين، بل يزعمون أن اتفاق الخلق الكثير الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب حجة من أي ملة كانوا وكيف كانوا، لكنك قد عرفت ضعف دليلهم على الأصل الذي بنوا عليه اشتراط عدد التواتر في المجمعين. فإن قلت: فعلى رأي الأكثرين هل يشترط أن يكون المجمعون جمعًا أو لا يشترط ذلك حتى لو كان الباقي واحدًا من الأمة والمؤمنين أو من المجتهدين كان قوله حجة؟ قلت: اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون منهم إلى أنه حجة وهو مختار الأستاذ أبي إسحاق - رحمه الله - لأنه إذ ذاك سبيله/ (45/ أ) سبيل المؤمنين وسبيل الأمة فخالفه مخالف لسبيل المؤمنين فيدخل تحت الوعيد ولا نعني بكونه حجة سوى هذا، ولأن المقصود إنما هو عصمة الزمة والمؤمنين لا عصمة عدد مخصوص فإذا لم يبق منهم إلا واحد كان معصومًا عن الخطأ غير ذاهل عن الحق فكان قوله حجة. ومنهم من ذهب إلى أنه لا يكون حجة؛ لأن لفظ المؤمنين والأمة وإن لم يشعر باعتبار عدد التواتر لكنهما يشعران إشعارًا ظاهرًا باعتبار عدد الجمع، فإذا لم يبق عدد الجمع لم تكن الأدلة الواردة فيهما دالة على حجيته إلا على وجه التجوز، وأنه خلاف الأصل، لا سيما في هذا المقام؛ لأنه أريد منهما الحقيقة، فلو أريد منهما التجوز أيضًا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وأنه غير

جائز، وحيث أطلق الزمة على الواحد كما في قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله} فإنما هو على وجه التجوز بدليل عدم الاطراد. فإن قلت: كيف يعقل إمكان وقوع ما ذهب إليه الجماهير من أنه نقص عدد المجمعين عن عدد التواتر بل عن عدد الجمع يكون إجماعهم حجة مع بقاء التكليف بالشريعة، فإن صحة التكليف بالشريعة تنبني على صحة النبوة، وصحة النبوة تتوقف على النقل المتواتر عن وجوده عليه السلام وادعائه النبوة، وظهور المعجزة على يده وهو القرآن العظيم، فإذا لم يبق من المسلمين عدد التواتر والعياذ بالله - انقطع النقل المتواتر عما ذكر من الأمور، فيمتنع بقاء التكليف بالشريعة؟ قلت: إن قلنا: أنه لا يعتبر في الإجماع إلى أقوال المجتهدين فيعقل إمكان وقوع المسألة مع بقاء النقل المتواتر بالأمور المذكورة بالعوام ظاهر. وإن قلنا: أنه يعتبر فيه قول الجميع من العوام والمجتهدين فيعقل أيضًا إمكان وقوع المسألة مع العلم بتلك الأمور المذكورة إما بنقل من بقى من المسلمين وإن كانوا أقل من عدد التواتر بقرائن تحتف بخبرهم أو بنقل الكفار ذلك بأن ينقلوا بالتواتر وجوده ودعواه النبوة، وظهور القرآن على يده وإن كانوا ينقلون معه أنه كان كاذبًا في دعواه، وأن ما ظهر على يده ليس بمعجز بل كان أساطير الأولين.

المسألة الثالثة إجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر

المسألة الثالثة إجماع غير الصحابة حجة خلافًا لأهل الظاهر، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين. لنا: أدلة الإجماع، فإنها تدل على أن الإجماع حجة من غير فصل بين إجماع الصحابة وغيرهم، فوجب أن يكون الإجماع حجة مطلقًا من غير تقييد بإجماع مخصوص جريًا على إطلاق الأدلة. فإن قلت: لا نسلم أن أدلة الإجماع تتناول إجماع الصحابة وغير الصحابة حتى تكون دالة على حجيته مطلقًا؛ وهذا لأن أدلة الإجماع وارده بلفظ المؤمنين والأمة، وهما إنما يتناولان الموجودين فقط لما عرفت غير مرة، ولما لم يكن التابعون ومن بعدهم موجودين في ذلك الوقت لم تكن تلك الأدلة متناولة لهم فلا تكون دالة على أن إجماعهم حجة.

لا يقال: ما ذكرتم يقتضي أن لا يكون إجماع الصحابة بعد موتهم حجة؛ لأن لفز المؤمنين والأمة لا يصدقان عليهم بعد موتهم كما لا يصدقان على من سيوجد بعد ورودهما، فإذا لزم من عدم صدقهما على من سيوجد بعد ورودهما عدم حجية إجماعهم، لزم من عدم صدقهما عليهم بعد موتهم أن لا يكون إجماعهم حجة وهو خلاف الإجماع. لأنَّا نقول: إن أدلة الإجماع دلت على أن إجماع الصحابة حجة في حال حياتهم، ولا يستفاد من تلك الأدلة سوى هذا، فأما حجية إجماعهم بعد موتهم فمستفاد من إجماعهم على أن ما أجمعوا عليه حين يصدق عليهم لفظ المؤمنين والأمة وهو حال حياتهم فإنه حق واجب الاتباع في ذلك الزمان وفي سائر الأزمنة فوجب أن يكون ذلك كذلك، وإلا لزم أن لا يكون إجماعهم حال حياتهم واجب الاتباع وهو خلاف أدلة الإجماع، ولا نعني بكون إجماعهم حجة بعد موتهم سوى أنه واجب الاتباع بعد موتهم. قلت: المراد من المؤمنين والأمة الواردين في أدلة الإجماع الموجودين في كل عصر لا الموجودين وقت ورودهما فقط، بدليل أنه لا يشترط في المجمعين أن يكونوا جميع أولئك الذين كانوا موجودين عند ورود أدلة الإجماع وفاقًا، ولو كان المراد منه الموجودين وقت ورودهما فقط وجب أن يشترط ذلك، وحينئذ يلزم أن لا يقطع بحجيته إجماع من بقى من الصحابة بعد وفاة الرسول - عليه السلام - لأنه لم يعرف بقاء أولئك بأعيانهم إلى ما بعد وفاته عليه السلام، بل الذي يعلم موت بعضهم قبل وفاته - عليه السلام - فإن لم يكن هذا فلا أقل من الشك في ذلك، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، وهذا يقتضي أن لا يكون إجماع الصحابة حجة أيضًا وهو خلاف الإجماع.

واحتج الخصم بوجوه: أحدها: أن أدلة الإجماع منحصرة في الأدلة النقلية نحو قوله تعالى: {كنتم خير أمة} وقوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وغيرهما من الآيات التي تلوناها، والأخبار التي رويناها، وهي بأسرها لا تتناول إلا الصحابة، لأنهم هم المخاطبون وهم المؤمنون والأمة إذ ذاك وحينئذ يلزم أن لا يكون إجماع غيرهم حجة، وإلا لكان ذلك قولاً في الدين من غير حجة ودليل وهو باطل. وجوابه ما سبق من قبل. وثانيها: أن العلم بإجماع غير الصحابة متعذر، لتفرق المجتهدين في الأطراف بعد عصرهم، هذا إن قيل: أنه لا يعتبر في الإجماع إلا قول المجتهدين، وأما إن قيل المعتبر فيه قول الجميع من المجتهدين والعوام فالعلم به أظهر وما يتعذر/ (46/ أ) العلم به يستحيل أن يجعل حجة لعدم الفائدة فيه. وجوابه: أن النزاع في حجيته أن لو حصل، وحصل العلم به، وما ذكرتم لا ينفيه. وثالثها: أن الصحابة أجمعوا: على أن كل مسألة لا يكون مجمعًا عليها فيما بينهم - فإنه يجوز الاجتهاد فيها، فلو كان إجماع غيرهم حجة أيضًا لزم جواز الاجتهاد، وعدم جوازه في المسألة التي لم يكن مجمعًا عليها فيما بينهم، ويكون مجمعًا عليها فيما بين غيرهم وأنه باطل، لأنه جمع بين النقيضين.

وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك الإجماع كان مطلقًا بل هو مشروط بعدم حصول الإجماع عليها، ويجب المصير إلى ذلك جمعًا بين الدليلين. ورابعها: أن إجماع التابعين على مسألة لا بد وأن يكون لدليل لما سبق أن الإجماع من غير دليل غير متصور، وذلك الدليل ليس هو الإجماع وإلا لكانت تلك المسألة ثابتة بإجماع الصحابة لا التابعين، وليس هو القياس أيضًا، لأنه مختلف فيه فيما بينهم فيستحيل أن يكون متمسك الكل في إثبات الحكم وليس هو النص؛ لأنه لا يصل إليهم إلا من جهة الصحابة فلو كان ذلك نصًا معمولاً به لاستحال أن يتركه الصحابة بأسرهم ولا يعمل واحد منهم به. وجوابه: أن نقول: لم لا يجوز أن يكون دليلهم على ذلك الحكم هو القياس؟ قوله القياس مختلف فيه. قلنا لا نسلم ذلك في العصر الأول من التابعين بل ذلك الخلاف حصل فيما بعد فجاز أن يكون متمسك الكل إذ ذاك. سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لنص؟ قوله: لو كان ذلك للنص لاستحال أن لا يعمل واحد منهم به. قلنا: متى يستحيل ذلك، عند تنبههم لذلك النص ووجه دلالته ووقوع الواقعة أم مطلقًا؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع فلعلهم لم ينتبهوا لوجه دلالة النص، لعدم احتفائهم لاستنباط تلك الدلالة، لعدم وقوع تلك الواقعة في زمانهم وإن

تنبهوا لمتنه، أو وإن تنبهوا لوجه دلالته أيضًا لكن ربما لم تقع تلك الواقعة إذ ذاك فلم يتعرضوا لحكمها، وعادتهم ما كانت جارية بالتفريع وتقرير حكم الوقائع قبل وقوعها، كما هي عادة الأئمة الأربعة، ومن يجري مجراهم حتى يوجب ذلك التعرض للحكم وإن لم تقع الواقعة. سلمنا استحالته مطلقًا لكن جاز أن عمل به بعضهم دون الآخرين ثم أن التابعين اتفقوا على قول أولئك البعض الذين قالوا به، فإن منعوا مثل هذا في الإجماع فقد تقدم تقريره، وليس الواجب اتفاق كلهم على الحكم بمقتضى تلك الدلالة، فإن الدلالة الظنية لا يجب اتفاق كلهم على الحكم بمقتضى تلك الدلالة، فإن الدلالة الظنية لا يجب اتفاق الكل عليها. وخامسها: المسألة التي أجمع التابعون عليها إن كان مجمعًا عليها للصحابة كانت الحجة في إجماع الصحابة لا في إجماعهم، وإن لم يكن كذلك فإما أن تكون مختلفًا فيها، أو لم ينقل عنهم فيها قول. فإن كان الأول لم ينعقد إجماع التابعين على أحد ذينك القولين، لما تقدم من أنه لا ينعقد إجماع مع تقدم الخلاف، وإن كان الثاني وجب أيضًا [أن] لا ينعقد إجماعهم في تلك المسألة؛ لأنه يحتمل أن يكون لبعضهم فيها قول يخالف قول التابعين وإن لم ينقل إلينا، وشرط انعقاد الإجماع أن لا يتقدمه خلاف لما تقدم، وحينئذ لم ينعقد إجماعهم إذ الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا ينعقد الإجماع مع تقدم الخلاف، وهذا لأنا بينا انعقاده وحجته. سلمناه لكنه منقوض بإجماع الصحابة بعد موت بعضهم فإنه يحتمل أن

يكون للميت فيها قول وإن لم ينقل قوله إلى الباقين، ولا يقال: أن عدم النقل مع قرب العهد احتمال بعيد؛ لأن قرب العهد يعارضه عدم الحاجة إليه فإنه لا حاجة للباقين منهم إلى قول الماضين منهم حتى ينقل إليهم بخلاف النقل إلى التابعين فإنه وإن بعد العهد، لكن الحاجة ماسة إلى النقل إليهم، لأنه بالنسبة إليهم حجة أو هو مرجح لمأخذهم. وسادسها: الميت كالغائب، فإذا لم ينعقد إجماع مع الغائب وإن لم يكن [له] في المسألة قول، فكذا في صورة الميت وإن لم يكن له فيها قول. وجوابه: منع أنه كالغائب؛ وهذا لأن الغائب له أهلية القول والحكم موافقة ومخالفة ويمكن الرجوع إليه بخلاف الميت. سلمناه لكنه منقوض بإجماع الباقين منهم بعد موت واحد منهم فإنه بالاتفاق حجة مع أن الاحتمال المذكور قائم بعينه.

الفصل الخامس في بقية مسائل الإجماع وفيه مسائل:

الفصل الخامس في بقية مسائل الإجماع

الفصل الخامس في بقية مسائل الإجماع وفيه مسائل: المسألة الأولى الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة عند بعض أصحابنا، وأصحاب أبي حنيفة والحنابلة، وهو المختار. وذهب الباقون إلى أنه ليس بحجة، وهو اختيار الشيخ الغزالي. اعلم أن كل من قال: إن خبر الواحد يقبل في القطعيات، وأن أصل الإجماع حجة ظنية، أو أن أصله وإن لم يكن حجة ظنية، لكنه منقسم إلى قطعي وظني، وأن الظني منه مقبول حجة، فإنه يلزمه أن يقول بحجية هذا الإجماع. وأما من لم يقل بشيء من ذلك بل يقول: هو حجة قطعية وليس منه شيء ظني، فإنه يلزمه أن يرده ولا يقبله. وإذا عرف المأخذ سهل الاستدلال على القولين. فمن قبله يستدل عليه من النصوص بقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر

بالظاهر والله يتولى السرائر"، وقوله: "أقضى بالظاهر". ووجه الاستدلال به ظاهر: فإنه ذكر الظاهر معرفًا باللام، وأنه يتناول جميع الظواهر من مدارك الشرع. أما إن قيل: إن المفرد المعرف يفيد/ (47/ أ) العموم فظاهر. وأما إن لم نقل به، فلأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيعم الحكم لعموم علته. ومن المعقول: بأن الإجماع نوع من أنواع الحجج الشرعية فيجوز التمسك بمظنونه، كما يجوز بمعلومه قياسًا على خبر الرسول والقياس.

وبأنه يفيد ظن ثبوته لظن صدق الراوي، فكان العمل به واجبًا دفعًا للضرر المظنون. ومن رده يستدل عليه: بأنه لا قاطع يدل على حجية هذا الإجماع كما في خبر الواحد والقياس، فإن القواطع دلت على قبولهما [وحجيتهما] على ما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى، وما ذكرتم من الأدلة لا يفيد إلا الظن فلا يثبت بها أصل من أصول الفقه؛ لأن كل واحد من أصل أصول الفقه إنما ثبتت حجيته بقاطع. وجوابه: بمنع أن أصلاً من أصول الفقه إنما يثبت بالقاطع، وقد عرفت سنده فيما سلف. سلمناه لكن لا نسلم أنه لا قاطع على حجيته؛ لأن الإجماع القطعي منعقد على وجود العمل بمقتضى الظاهر، والتمسك به فيكون القاطع دالاً على وجوب التمسك به والعمل بمقتضاه. ولا يقال: إنه وإن دل على ما ذكرتم، لكنه لم يدل على وجوب التمسك بهذا الظاهر على سبيل الخصوصية، لأنه لو اعتبر ذلك لخرجت القواطع التي تدل على حجية القياس مثلاً أن تكون قواطع بالنسبة إلى كل واحد من الأقية فإنها لا تدل عليه على الخصوصية.

المسألة الثانية الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة عند الأكثرين خلافا لبعضهم

المسألة الثانية الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة عند الأكثرين خلافًا لبعضهم. لنا: ما تقدم من أدلة الإجماع؛ فإنه لا إشعار لها بالفرق بين الإجماع الصادر عن الاجتهاد، وبين غيره، بل هي على الإطلاق تدل على حجيته فوجب الجري على موجب الإطلاق. واحتجوا بوجهين: أحدهما: أنه لو كان هذا الإجماع حجة متبعة لزم جواز الاجتهاد في المسألة، وعدم جوازه فيها، من حيث أنهم اتفقوا على إثبات الحكم فيها بطريق الاجتهاد فيجب إثباته بطريق الاجتهاد اتباعًا لهم، وأنه يقتضي رفع الحرج عن الاجتهاد فيها، ومن حيث إنهم أجمعوا على الحكم فيها أنه لا يجوز الاجتهاد فيها وأنه تناقض بين. وجوابه: أنا لا نسلم أنه يجب إثباته بطريق الاجتهاد، وهذا لأنه إنما يجب ذلك أن لو وجب اتباعهم في كل الأمور وهو ممنوع، بل يجب اتباعهم في كل الأمور إلا ما خصه الدليل، وهذا ما خصه الدليل وهو دفع التناقض

وقد تقدم هذا فيما سلف. وثانيهما: أنهم حين كانوا مجتهدين فيها كانوا مجمعين على تسويغ القول فيها بمقتضى الاجتهاد وإن كان مخالفًا لقولهم، فلو جاز حصول الإجماع عن اجتهاد لزم تعارض الإجماعين وأنه باطل. وجوابه: ما سبق غير مرة من أن ذلك الإجماع كان مشروطًا بعدم حصول الإجماع على قول واحد.

المسألة الثالثة ذهب الجماهير إلى أنه لا يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع أثبت على خلافه، لأنه يستلزم تعارض دليلين قاطعين وأنه ممتنع

المسألة الثالثة ذهب الجماهير إلى أنه لا يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع أثبت على خلافه، لأنه يستلزم تعارض دليلين قاطعين وأنه ممتنع. وذهب أبو عبد الله البصري إلى أن ذلك غير ممتنع؛ لأنه لا امتناع في أن يجعل الإجماع على قول حجة قاطعة ما لم يطرأ عليه إجماع آخر، كما في الإجماع على تجويز الأخذ بكلا القولين وتجويز الاجتهاد، لكن لما أجمعوا على أن كل ما أجمعوا عليه على وجه البت، فإنه حق واجب العمل به في جميع الأعصار أمنًا من وقوع هذا الحائز. فعدم الجواز عنده مستفاد من الإجماع الثاني لا من الإجماع الأول. وعند الجماهير هو مستفاد من الإجماع الأول من غير حاجة إلى الإجماع الثاني. فالحاصل: أن نفس كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له بعده عند الجماهير. وعند أبي عبد الله البصري لا يقتضي ذلك، لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر. وعند هذا ظهر أن مأخذ أبي عبد الله البصري قوي.

المسألة الرابعة الإجماع لا يعارضه دليل؛ لأن ذلك إن كان ظنيا نحو القياس وخبر الواحد فظاهر، لأن الظني لا يعارض القطعي

المسألة الرابعة الإجماع لا يعارضه دليل؛ لأن ذلك إن كان ظنيًا نحو القياس وخبر الواحد فظاهر، لأن الظني لا يعارض القطعي. وإن كان قطعيًا فمحال، لأن تعارض دليلين قاطعين محال؛ لأنه يقتضي خطأ أحدهما. نعم لو تعارض ظاهر قول الرسول - عليه السلام - مثلاً، وظاهر قول أهل الإجماع، وعلم أن مراد أحدهما هو ظاهر كلامه، ولم يعلم ذلك من الآخر فإن أمكن تخصيصه به فعل وعمل بهما، وإلا قدم ما علم مراده، لاحتمال أن يكون المراد من الآخر غير ظاهره، ويجب المصير إليه دفعًا للتعارض. وأما إذا لم يعلم المراد من كل واحد منهما. فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر خصص به جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان، وقول أهل الإجماع لا يزيد على قول الشارع حتى لا يقلب التخصيص. وإن لم يمكن ذلك تعارضًا، لأنا نقطع أن المراد من أحدهما غير ظاهره، لكنا لا نعلم أنهما كذلك فلا جرم يتساقطان.

المسألة الخامسة الإجماع حجة في كل شيء لا تتوقف صحته عليه

المسألة الخامسة الإجماع حجة في كل شيء لا تتوقف صحته عليه، سواء كان من الأمور الدينية الأصلية العقلية، أعني بها: ما يستقل العقل بمعرفته كنفي الشريك، وكونه في غير جهة، وحدوث العالم؛ لأنه يمكن إثبات العلم بالصانع بحدوث الأعراض فهو غير متوقف على/ (48/ أ) حدوث العالم. أو السمعية أعني بها: ما لا يثبت إلا بالسمع، كرؤية الباري، على رأي من لا يرى دليل العقل عليه، وجميع الصفات السمعية، أو الفرعية كوجوب الصلاة، وواجباتها. ومن الأمور الدنيوية كالآراء في الحروب، وترتيب أمور الرعية، وتدبير الجيوش، وفيه خلاف جماعة من الأصوليين. واختلف فيه قول القاضي عبد الجبار: فتارة يختار حجيته، بناء على إطلاق أدلة الإجماع وهو متمسك الجماهير. وتارة يختار عدم حجيته، بناء على أن ذلك يختلف باختلاف المصالح المختلفة بحسب الأزمان، فلو قيل بحجيته فربما تختلف تلك المصلحة في بعض الأزمنة، وتصير المصلحة في غيره، فيلزم ترك المصلحة، وإثبات ما لا مصلحة فيه وهو محذور.

ومنهم من فصل بين ما يكون بعد استقرار الرأي وبين ما يكون قبله، فقال بحجية الأول دون الثاني. فأما ما تتوقف صحة الإجماع على صحته كصحة النبوة، وما يتوقف صحتها عليه كوجود الصانع، وكونه غير موجب بالذات، وكونه عالمًا بكل المعلومات، فلا يمكن إثباته به لأنه يلزم الدور وهو ممتنع. فإن قلت: ما ذكرتم من أنه يمكن إثبات نفي الشريك بالإجماع [بناء على أن صحة النبوة لا تتوقف عليه فلا تتوقف صحة الإجماع] عليه ممنوع؛ وهذا لأن القائلين بالشريك منهم من يثبت إلاهًا هاديًا خيرًا، وإلاهًا مضلاً شريرًا، وحينئذ يحتمل أن يكون الإله المضل خلق المعجزة على يد المتنبئ ليضل الناس، فلا تدل المعجزة على صدق مدعي النبوة إلا بعد نفي هذا الاحتمال، فحينئذ تتوقف صحة الإجماع على نفي [هذا] الاحتمال فلا يمكن إثباته به لما ذكرتم. قلت: احتمال خلق المعجزة على يد المتنبي للتضليل بعينه قائم على تقدير أن يكون الإله واحدًا؛ لأنه لا يتطرق إلى أفعاله التحسين والتقبيح فجاز أن يخلق المعجزة على يد المتنبئ للتضليل، فما هو جواب المعترض في هذه الصورة فهو بعينه جوابنا في صورة الشريك، وليس ذاك إلا أن هذا وإن كان جائزًا لكنا نقطع بانتفاء هذا الاحتمال، ونضطر إلى العلم بتصديقه وهو بعينه قائم في صورة الشريك. فلا تتوقف دلالة المعجزة على التصديق على نفي احتمال الشريك المضل فيمكن إثباته بالإجماع، وفيه نظر.

المسألة السادسة مذهب الجماهير امتناع ارتداد كل الأمة

المسألة السادسة مذهب الجماهير امتناع ارتداد كل الأمة. وقال قوم يجوز ذلك. احتج الجماهير بوجهين: أحدهما: أن الله تعالى أوجب على المكلفين اتباع سبيل المؤمنين مطلقًا، لآية المشاقة، ووجوب اتباع سبيلهم مشروط بوجود سبيلهم، لامتناع الأمر باتباع المعدوم، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، فوجود سبيلهم واجب بمعنى أنه لا بد من وجوده، وإلا لم يكن الأمر باتباع سبيلهم مطلقًا بل مقيد بحالة وجوده وهو خلاف آية المشاقة، فيمتنع ارتداد كل الأمة في زمن من الأزمان. وثانيهما: التمسك بنحو قوله - عليه السلام -: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" و"لا تجتع أمتي على الضلالة" و"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق". ووجه التمسك به ظاهر؛ فإن هذه الأحاديث ونحوها تقتضي عصمة مجموع الأمة عن الخطأ والضلالة وذلك يقتضي امتناع ارتدادهم.

واحتج المجوزون: بأن الأمة إذا ارتدت لم يكن سبيلهم إذ ذاك سبيل المؤمنين، ولا إجماعهم على الضلالة إجماع الأمة على الضلالة بخروجهم عن أن يكونوا أمة الرسول - عليه السلام - إذ ذاك لما تقدم من أن أمته في عرف الشرع من آمن به وصدقه، وإذا كان كذلك لم تكن هذه الأحاديث ونحوها متناولة لهم حتى تدل على عصمتهم. وأما بقية أدلة الإجماع فإنما تدل على عصمة المؤمنين ولم يكونوا إذ ذاك مؤمنين، فلا تدل على عصمتهم فتبقى على الجواز الأصلي العقلي، إذ لا نزاع في أن ذلك جائز عليهم عقلاً، وإنما النزاع في جوازه بحسب الشرع فإن من منع فإنما منع لأدلة شرعية، وقد بينا أنه لا دليل على امتناعه شرعًا فوجب أن يبقى على الجواز العقلي. وجوابه: أنهم كانوا قبل الارتداد مؤمنين، وأمة الرسول، فلو اتفقوا على الارتداد لصدق عليهم أن أمة محمد كلهم اتفقوا على الكفر والضلالة وكذا يصدق أن المؤمنين كلهم اتفقوا على الباطل والكفر وأدلة الإجماع تنفيه.

المسألة السابعة في أنه هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين، وكل واحد منهما مخطئ في مسألة أخرى غير مسألة صاحبه؟

المسألة السابعة في أنه هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين، وكل واحد منهما مخطئ في مسألة أخرى غير مسألة صاحبه؟ مثل: اتفاق شطر الأمة على أن الترتيب في الوضوء واجب، وفي الصلوات الفائتة غير واجب، واتفاق الشطر الآخر على أن الترتيب في الصلوات الفائتة واجب، وفي الوضوء غير واجب. اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز؛ لأن خطأهم في المسألتين لا يخرجهم من أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ، وهو منفي عنهم. وذهب الأقلون إلى تجويزه محتجين بأن الخطأ إنما يمتنع على كل الأمة لا على بعضهم، والمخطئ في كل واحد من المسألتين إنما هو بعض الأمة لا كلهم. [وجوابه: أنا لا نسلم أن المخطئ في كل واحد من المسألتين إنما هو بعض الأمة لا كلهم] لكن المخطئ في المسألتين جميعًا إنما هو كل الأمة وليس لأدلة الإجماع إشعار في تقييد نفي الخطأ عنهم بالنسبة إلى مسألة واحدة فقط، بل تقتضي نفيه عنهم مطلقًا سواء كان بالنسبة إلى مسألة واحدة، أو بالنسبة إلى مسألتين فينتفي عنهم مطلقًا عملاً بالأدلة.

المسألة الثامنة هل يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به؟

المسألة الثامنة هل يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به؟ اختلفوا/ (49/ أ) فيه: فذهب بعضهم إلى تجويزه محتجين: بأن عدم العلم بذلك الشيء لم يكن خطأ، إذ الخطأ في الشرعيات عبارة عن عدم مصادفة الحكم، أو عدم مصادفة طريقه. وهذا على رأي من يقول المصيب واحد، وأما على رأي المصوبة فبالثاني فقط، وعلى التقديرين لا يتصور الخطأ فيما نحن فيه، ضرورة أنه لا حكم فيه، فلا يلزم من إجماعهم على عدم العلم به إجماعهم على الخطأ فلا تكون أدلة الإجماع نافية له. وذهب البعض الآخرون إلى عدم تجويزه محتجين: بأنهم لو اجتمعوا عليه لكان عدم العلم به سبيلاً لهم فكان يجب اتباعهم فيه، فيحرم تحصيل العلم به، ضرورة أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، وهو ضعيف، إذ لمانع أن يمنع أن يكون عدم العلم به حينئذ سبيلاً لهم؛ وهذا لأن سبيل القوم ما كان من الأفعال الاختيارية لهم المتداولة فيما بينهم بالاتفاق بدليل أنه المتبادر إلى الفهم، وعدم العلم به ليس سبيلاً لهم على ما ذكرنا من التفسير، ضرورة أنه ليس عدم العلم به من أفعالهم الاختيارية ولو سلم أنه يصدق عليه حينئذ أنه سبيلهم، لكن نقول: أنه غير مراد من الآية كبعض ما هو من سبيلهم على ما تقدم في مسألة أن الإجماع حجة بدليل ما يعلم أن المقصود من وجوب اتباع سبيلهم إنما هو الحث على اتباع سبيلهم والجهل بما لا يحث عليه الشارع فلا يكون ذلك مرادًا من وجوب اتباع سبيلهم.

فرع هل يمكن وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به. اختلفوا فيه. والحق أن الخلاف فيه مرتب على الخلاف السابق، فمن لم يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لم يجوز هذا بالطريق الأولى. وأما من جوز ذلك فقد اختلفوا فيه: فمنهم من جوز ذلك أيضًا، ومنهم من لم يجوزه، ومنهم من فصل: فجوز فيما إذا كان عملهم موافقًا لمقتضاه دون ما ليس كذلك وهو الأولى لأنه لا يجوز ذهولهم عما كلفوا به وإلا لزم جواز إجماعهم على الخطأ وهو ممتنع. ووجه كون الخلاف فيه مرتبًا على الخلاف السابق: أن عدم التكليف ها هنا لأمر عارض، وهو عدم علمهم به، فأما في السابقة فبالأصالة.

المسألة التاسعة جاحد الحكم المجمع عليه من حيث أنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافا لبعض الفقهاء

المسألة التاسعة جاحد الحكم المجمع عليه من حيث أنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافًا لبعض الفقهاء. وإنما قيدنا بقولنا "من حيث أنه مجمع عليه" لأن من أنكر وجوب الصلوات الخمس وما يجري مجراها يكفر وهو مجمع عليه، لكن لا لأنه مجمع عليه، بل لأنه معلوم بالضرورة أنه من دين محمد - عليه السلام - وإنما قيدنا الإجماع بالقطع؛ لأن جاحد حكم الإجماع الظني لا يكفر وفاقًا. احتج الجماهير: بأن إنكار حكم المجمع عليه لا ينافي ماهية الإيمان والإسلام؛ لأن الإيمان عبارة عن تصديق الرسول فيما علم مجيئه به بالضرورة [فيكون الكفر عبارة عن عدم تصديقه فيما علم مجيئه به بالضرورة] وأصل الإجماع ليس مما علم مجيئه به ضرورة وإلا ارتفع الخلاف فيه واستغنى عن الاستدلال عليه، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه ليس كذلك.

ثم الذي يؤكد أن العلم يكون الإجماع حجة ليس معتبرًا في ماهية الإسلام: أن الرسول - عليه السلام - كان يحكم بصحة إسلام المتلفظ بكلمتي الشهادة من غير أن يعرف منه بأن يعرف أن الإجماع حجة أو يعرفه ذلك صريحًا إما في الحال، أو في المآل كغيره من الأمور المعتبرة في صحة الإيمان، بل لم يذكر هذه المسألة صريحًا طول عمره لأحد منهم وإلا لنقل ذلك آحادًا، أو تواترًا، ولو كان ذلك معتبرًا في الإيمان لما حكم بصحة ما لم يعرف منه ذلك أنه يعرف ذلك. وإذا لم يعلم مجيء الرسول - عليه السلام - بأصل الإجماع بالضرورة لم يكفر منكره، وإذا لم يكفر منكر أصل الإجماع فمنكر تفاريعه أولى أن لا يكفر، وهذا آخر الكلام في الإجماع.

النوع الثالث عشر: الكلام في الأخبار

النوع الثالث عشر الكلام في الأخبار وهو مرتب على مقدمة وفصول: أما المقدمة ففيها مسائل:

المسألة الأولى في حقيقة الخبر وحده

المسألة الأولى في حقيقة الخبر وحده الخبر حقيقة في القول المخصوص فقط عند نفاة الكلام النفساني. وحقيقة فيهما بالاشتراك اللفظي عند الأكثرين من مثبتيه. وحقيقة في الثاني فقط مجاز في الأول عند بعضهم كإمام الحرمين. والكلام فيه نفيًا وإثباتًا على نهج ما تقدم من الكلام في الكلام فليقاس عليه. واتفق الكل على أن إطلاقه على ما ينبئ عن شيء من الإشارات الآلية والقرائن الحالية، والدلائل المعنوية، كما في قول الشاعر: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب

وكما في قول الآخر: تخبرني العينان ما القلب كاتم. وكما في قولهم: "الغراب يخبر بكذا" مجاز، لأنه لا يفهم عند الإطلاق، بل إنما يفهم عند تقييد الاستعمال بها والقرائن، وهو دليل التجوز. وأما حده: فاختلفوا فيه: فزعم الإمام أنه غنى عن التحديد لضرورته. واستدل على ضرورته بوجهين: أحدهما: أم كل أحد يعلم - بالضرورة - معنى قول القائل: أنا موجود، أنا لست بمعدوم، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودًا ومعدومًا، ومطلق الخبر جزءٌ من الخبر الخاص، والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء، فلو كان تصور ما هية مطلق الخبر موقوفًا على الاكتساب، لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك، فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريًا، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه ضروري. وثانيهما:/ (50/ أ): أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر، ولولا أن هذه الحقائق متصوة تصورًا ضروريًا، وإلا لم يكن الأمر كذلك. ثم سأل نفسه وقال: "الخبر نوع من أنواع الألفاظ، وأنواع الألفاظ كيف

تكون ضرورية؟ لأنها تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، والضروري لا يكون كذلك". أجاب عنه: بأنه إن عنى بالخبر: الحكم الذهني فلا استبعاد في ادعاء بداهته، [وهو ظاهر] فإن ذلك لا يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة والأشخاص. وإن عنى به: اللفظ الدال على هذا المعنى فالإشكال زائل أيضًا، لأن هذا المعنى لما كان بدهىّ التصور كان مطلق اللفظ الدال عليه أيضًا بدهىّ التصور. والدليلان ضعيفان، والسؤال قوي، والجواب ضغيف، أما الأول، فلأنا لا نسلم بداهته من حيث خصوص الخبرية، بل من حيث الحصول والانتفاء لا غير، ولا يلزم منه تصوره، فإنه لا يلزم من حصول أمر تصوره. سلمناه لكن من حيث عموم يشبه الحصول والانتفاء، لا من حيث خصوص الخبرية وهو غيره، بدليل أنه يمكننا تعقله مع الذهول عن خصوص ماهية الخبرية. ثم الذي يؤكد هذا: أن العقلاء اختلفوا في أن الوجود هل هو عين الماهية أم لا؟ فلو كان تعقل تلك القضية بديهيًا من حيث لوجب أن يعلم بالبديهة كونه غير الماهية، ضرورة أن تعقل الخبرية يتوقف على تعقل المخبر عنه، والمخبر به، والنسبة بينهما. سلمنا ذلك لكن لا يلزم من بداهته من حيث خصوصية خبريته بداهة مطلق الخبرية، لأن أجزاء البديهية لا يجب أن تكون بدهية، لاحتمال أن تكون بداهة تلك بعد تعقل ذلك الجزء ولو بالكسب، وهو غير قادح في بداهتها كما تقدم في التصور.

وبهذا عرف ضعف الوجه الثاني؛ فإن ذلك التمييز الضروري إنما هو بعد معرفتهما لا مطلقًا، فلا يدل ذلك على أن معرفته بديهية، وإلا لزم أن تكون معرفة الأمر أيضًا بديهية، وهو خلاف الإجماع، فإن الإمام - رحمه الله - ساعدنا على أن الأمر يحد ولهذا حده هو أيضًا. وأما قوة السؤال فلا يخفى. وأما ضعف الجواب: فهو أنه إنما يستقيم أن لو علم بالبديهية أن لكل معنى، أو لكل معنى تمس الحاجة إلى التعبير عنه لفظ موضوع له دال عليه، ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن القسم الثاني لو صح أن يكون له لفظ دال عليه لا محالة فإنما يعلم صحته بالنظر لا بالبديهة. ومنهم من زعم أنه وأن لم يكن ضروريًا لكنه لا يحد لعسره. والأكثرون على أنه يحد، وهؤلاء اختلفوا في حده، وذكروا في حده عبارات: الأولى: وهي التي ذكرها أكثر المعتزلة نحو الجبائيين، والقاضي عبد الجبار وأستاذه: الخبر هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب. وقريب منه ما قيل فيه أيضًا هو: ما يدخله التصديق والتكذيب. وأورد عليه من وجوه:

أحدها: وهو المنقدح جدا وهو: أن الصدق والكذب نوعا الخبر؛ لأن مطلق الخبر ينقسم إليهما فقط كما هو رأي الأكثرية، أو إليهما وإلى غيرهما كما هو رأي الجاحظ. وعلى التقديرين فهما نوعا الخبر فلا يمكن معرفتهما إلا بعد معرفة مطلق الخبر، ضرورة أنه لا يمكن معرفة النوع إلا بعد معرفة الجنس فلو عرف مطلق الخبر بهما لزم الدور. وهو بعينه وارد على العبارة الثانية أيضا، ويختص بزائد؛ لأن التصديق والتكذيب عبارة: عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذبا، فقولنا: الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى قولنا: الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون ذلك تعريفا للخبر بالإخبار الذي لا يعرف إلا بعد موافقة الخبر وبالصدق والكذب. وثانيهما: أنه مشعر بحصول الصدق والكذب معا في خبر واحد وهو محال. وأجيب عنه: أن المراد من الواو: أو وهو التردد بين الأمرين، فاعترض عليه بأنه للإبهام، والحد للإيضاح، والجمع بينهما متناقض. وبأن خبر الله وخبر رسوله غير متردد بينهما بل هو متعين للصدق. فأجيب عن الأول: بأن المراد منه: أن ما يدخله أحدهما فهو خير جزما، وهذا لا تردد فيه، وإنما التردد في إتصافه بأحدهما عينا، وهو غير مأخوذ في الحد، وإنما المأخوذ هو الاعتبار الأول، لا غير فلا منافاة بينهما.

وأجيب عن الثاني: أن عدم التردد وتعين الصدق لأمر خارج عن الخبرية ومتقضى وضعه، وإلا فهو من حيث الخبرية متردد بينهما؛ ولهذا فإن من لا يعرف ذلك الدليل الخارجي جوز تردده بينهما. وثالثها: أن من قال: محمد ومسيلمة صادقان في ادعاء النبوة، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق، وإلا كان مسيلمة صادقا، وليس بكذب وإلا لكان محمد - عليه السلام - كاذبا. ومثله قول من كذب في جميع أخباره: كل أخباري كذب، فإن هذا ليس بصدق، وإلا لكان هذا الخبر كذبا، ضرورة أنه من جملة أخباره، وحينئذ يلزم اجتماع الصدق والكذب في خبر واحد وهو محال وليس بكذب وإلا كان جميع أخباره وهذا الخبر كذبا، أما الأول للفرض، وأما الثاني فللتقدير وحينئذ يلزم أن يكون صادقا في هذا الخبر، لأن جميع أخباره حينئذ تكون كذبا. وأجيب عن الأول: بأنه خبران في المعنى أحدهما صدق، والآخر كذب، وهو اختيار أبي هاشم. وقال الجبائي: إنا وإن سلمنا أنه خبر واحد لكنه كذب، لأنه مثبت للصدق لهما / (51/أ) وهو كذب وهو منقدح جدا.

وعن الثاني: أنا لا نسلم أنه ليس بصدق بل هو صدق، وأما قوله: فيلزم أنه كذب، لأنه من جملة أخباره ممنوع، وهذا إنما يلزم ذلك أن لو كان هذا الخبر من جملة المخبر عنه بهذا الخبر وهو ممنوع، وهذا لأنه حينئذ يلزم اتحاد الخبر والمخبر عنه وهو محال، بل المخبر عنه بهذا الخبر كل ما عدا هذا الخبر من أخباره وهو كذب فيصدق هذا. سلمنا لزوم اجتماع الصدق والكذب فيه لكن لا نسلم امتناعه، وهذا لأن اتصافه بالصدق والكذب حينئذ باعتبارين مختلفين، لأن صدقه من حيث إنه خبر، وكذبه من حيث إنه مخبر عنه ولا امتناع في عود الصدق والكذب إلى خبر واحد باعتبارين مختلفين. سلمنا امتناع كونه صدقا فلم لا يجوز أن يكون كذبا؟. قوله: يلزم أن يكون صدقا أيضا حينئذ. قلنا: نعم لكن باعتبارين مختلفين كما سبق. العبارة الثانية، وهي ما ذكره بعضهم فرارا من بعض ما يرد على الأولى: الخبر ما دخله الصدق أو الكذب. وقريب منه ما يقال: ما دخله التصديق أو التكذيب. ولا يخفى عليك ما يرد عليه ويندفع عنه مما سبق من الإشكالات. العبارة الثالثة: وهي ما ذكره أبو الحسين البصري: "أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور، إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتا".

واحترز بقوله: "بنفسه" عن الأمر، فإنه وإن أفاد وجوب الفعل لكن لا بنفسه، بل بواسطة استدعاء الأمر الفعل، لأن ماهية الأمر: استدعاء الفعل لا غير والصيغة لا تدل إلا على هذا القدر. ثم إنها تفيد وجوب الفعل بواسطة ذلك الاستدعاء تحصيلا لمقصود الحكم كما سبق تقريره في بعض مسالك أن الأمر للوجوب، وكذا القول في دلالة النهي على قبح المنهي عنه. ويمكن أن يقال: إنه احترز بقوله "بنفسه" عن مثل قائم؛ فإنه وإن أفاد نسبة أمر إلى أمر لكن لا بنفسه بل بواسطة الموضوع له، ولا يدفع هذا بأنه خرج بقوله "كلام" ضرورة أنه ليس بكلام فلا حاجة إلى قيد آخر يخرجه، لأن مثل هذه الكلمة عنده كلام فلا يخرج به. واعترض عليه بوجوه: أحدها: بالنسبة التقييدية نحو قولك: "الحيوان الناطق" حين لم يجعل الناطق خبرا، فإنه يفيد نسبة أمر إلى أمر مع أنه ليس بخبر، وإن أريد به أنه بحث يحسن معه السكوت، فهو إضمار في الحد وهو غير جائز، وإن صرح به كان الحد صحيحا، والإشكال مندفع. وثانيها: أنه غير جامع، لأن قولك "السواد. موجود" خبر مع أنه ليس فيه نسبة أمر إلى أمر آخى، إذ الوجود عند أبي الحسين عين الماهية. لا يقال: إنه لم يقل "نسبة أمر إلى أمر آخر" حتى يرد ذلك بل قال "نسبة أمر إلى أمر"، وأنه أعم مما ذكرتم، لانقسامه إليه، والى نسبة أمر إلى أمر وهو نفسه، لأن نسبة الشيء إلى نفسه غير معقولة فهي تدل على المغايرة لا محالة، وهذا الإشكال مختص بأبي الحسين غير داخل على من لم يقل إن الوجود عين الماهية.

ويمكن أن يجاب عنه على رأيه: بأن النسبة وإن دلت على المغايرة، لكنها حاصلة هنا، فإن التغاير اللفظي حاصل فيما أورده من الإشكال، ومطلق التغاير أعم من التغاير في اللفظ أو في المعنى. وثالثها: أن قوله: "نفيا أو إثباتا" يقتضي الدور، لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشيء، والإثبات هو الإخبار عن وجوده، فتتوقف معرفتها على معرفة الإخبار المتوقف على معرفة الخبر فتعريف الخبر بهما دور. ويمكن أن يجاب عنه: بأن قوله: "نفيا أو إثباتا"، يقتضي تحقق إضافة أمر إلى أمر أو نفيها لا الإخبار عن ثبوتها، أو نفيها، وحينئذ يندفع الدور المذكور، فإن ذلك إنما يلزم أن توقف معرفة النفي أو الإثبات على معرفة الإخبار، وأما إذا لم تتوقف عليه، وفرق بين معرفة الإخبار عن عدم الشيء، وبين معرفة عدم الشيء والدور إنما يلزم أن لو توقف معرفة النفي مثلا على الأول فأما إذا توقف على الثاني فقط فلا. والأولى في ذلك أن يقال: الخبر هو الكلام الذي يفيد نسبة معلوم إلى معلوم آخر محكوم عليه نفيا أو إثباتا مع قصد المتكلم الدلالة عليها. والمراد من الكلام: ما هو المعنى منه عند النحاة دون الأصوليين. وإنما قلنا: "نسبة معلوم إلى معلوم"، ليتناول النسب التي بين الموجودات والمعدومات. وإنما وصفنا المعلوم الثاني بآخر، تحقيقا لمعنى النسبة، فإن النسبة لا تعقل إلا بين اثنين. وإنما قلنا: "محكوم عليه" احترازا عن مثل قم، فإنه وإن أفاد نسبة معلوم إلى معلوم آخر لكنه لم يفد تحققها بالنسبة إلى محكوم آخر.

المسألة الثانية

وإنما قلنا: مع قصد المتكلم الدلالة عليها، ليخرج عنه صيغة الخبر الصادرة عن النائم، والساهي، والحاكي، والخبر الوارد بمعنى الأمر نحو قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} فإن كل ذلك لا يسمى خبرا حقيقة لعدم قصد الدلالة على النسبة المذكورة. المسألة الثانية قيل: لا بد في الخبر من الإرادة، فإن أريد به إرادة إصدار الصيغة للإخبار بمدلولها فهي ما قلناه واعتبرناه في الحد. وإن أريد به غيرها نحو إرادة المخبر عنه فهو باطل قطعا، أما في الماضي والحال فظاهر؛ لأن الإرادة لا تتعلق بما وقع، وأما في المستقبل فما عرفت في الأمر وهو هنا أظهر؛ إذ لا طلب حتى يتوهم تطابقه أو استلزامه للإرادة بخلاف الأمر. وأما أن الخبرية صفة معللة بالإرادة أم لا؟ فهي على خلاف السابق في الأمر. وأما أن مدلوله النسبة الخارجية، أو النسبة الذهنية فما / (52/أ) تقدم في اللغات. وعلى تقدير أن يكون مدلوله هو النسبة الذهنية فمن الظاهر أنه ليس نفس الاعتقاد، ولا ما هو مستلزما له، لأن الإنسان قد يخبر عما لا يعتقد فيه أصلا.

المسألة الثالثة ذهب الجماهير إلى أن الخبر لا يخلو عن كونه صدقا، أو كذبا

المسألة الثالثة ذهب الجماهير إلى أن الخبر لا يخلو عن كونه صدقا، أو كذبا؛ لأنه إما أن يكون مطابقا للمخبر عنه، أو لا، الأول صدق، والثاني كذب والعلم باستحالة حصول الواسطة بين الصدق والكذب بهذا التفسير ضروري. وقال الجاحظ: قد يخلو عنهما. والحق أن الخلاف في المسألة لفظي؛ لأنه إن عنى بالخبر الصدق، ما كان مطابقا للمخبر عنه - كيف ما كان - وبالكذب، ما لا يكون مطابقا - كيف ما كان - فالعلم باستحالة حصول الواسطة بينهما ضروري. وإن عنى بهما: ما يكون مطابق وغير مطابق لكن مع العلم بها، فإمكان حصول الواسطة بينهما معلوم أيضا بالضروري وهو ما لا يكون معلوما مطابقته وعدم مطابقته، فثبت أن الخلاف لفظي فعلى هذا الاحتجاج في المسألة بالحجج اللفظية:

احتج الجماهير: بأن الأمة مجمعة على تكذيب اليهود والنصارى وسائر الملل الباطلة، فما يخبرونه عن مذاهبهم الباطلة، مع قطعهم بأن فيهم من لا يعلم بطلانه بل هم الأكثر، فلو كان الكذب هو الخبر الغير المطابق مع العلم بأنه غير مطابق لما كان ذلك الإجماع صحيحا. فإن قلت: لا نسلم انعقاد الإجماع على تكذيبهم على وجه الحقيقة بل على وجه التجوز. ووجه التجوز هو: أنه لما كانت أدلة الإسلام وما يتبعه من الحق قوية جلية في غاية الجلاء كان حالهم في الإخبار عن ضد مدلولاتها شبيها بحال من أخبر عن الشيء مع العلم بفساده. قلت: ما ذكرتم وإن كان محتملا لكن الأصل في الإطلاق الحقيقة سواء كان الإطلاق من أهل الإجماع أو من غيره، فلما أجمعوا على تكذيبهم مع عدم علمهم به دل ظاهرا على أن الكذب هو الخبر الغير المطابق سواء كان مع العلم به أولا مع العلم به. واحتج الجاحظ بالنص والمعقول: أما النص فآيتان - أحدهما: قوله تعالى: حكاية عن الكفار: {أفترى على الله "كذبا" أم به جنة}. ووجه الاستدلال به: [هو أنهم] جعلوا إخباره عن نبوته إما كذبا، وإما جنونا، وإخباره عن نبوته حالة الجنون ليس كذبا؛ لأنه جعل قسيما للكذب، فقسيم الكذب لا يكون كذبا، وليس هو صدقا أيضا، لأنهم لم يعتقدوا مطابقته على التقديرين، فإخباره عن نبوته - عليه السلام - حالة

الجنون ليس بكذب ولا صدق وهو المطلوب. وجوابه: أن ما جعل في مقابلة الكذب يقتضي أن لا يكون كذبا، وذلك قد يكون بانتفاء أصل الخبرية مع بقاء صورة الخبرية، وقد يكون بانتفاء الكذبية مع بقاء أصل الخبرية، لأن المجموع المركب من أمرين ينتفي بانتفاء كل واحد من أجزائه، وبانتفاء أحد أجزائه، واستدلالكم إنما يتم أن لو كان الإخبار حالة الجنون ليس بكذب مع بقاء أصل الخبرية، فأما إذا لم يكن كذبا لانتفاء أصل الخبرية فلا، فلم قلتم: أن الأمر هنا ليس كذلك؟ فإن عندنا يعتبر ذلك في التحديد، ومعلوم أن الإخبار حالة الجنون لا يوجد فيه القصد المعتبر فلا يكون كذبا، لانتفاء أصل الخبرية، فلا يكون في الآية دلالة على أن الخبر قد ينفك عن كونه صدقا وكذبا، فإن ذلك مشروط ببقاء أصل الخبرية وهو فيما ذكروه ممنوع. وثانيهما: قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}. ووجه الاستدلال به هو: أنه تعالى كذبهم من أن خبرهم كان مطابقا للمخبر عنه فلو كان الخبر الصدق عبارة عن الخبر المطابق للمخبر عنه كيف كان لما حسن تكذيبهم، ضرورة أنهم صادقون فيه، أما إذا جعل الصدق عبارة عن الخبر المطابق مع اعتقاد أنه مطابق حسن تكذيبهم؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون مطابقة بل كانوا يعتقدون عدم مطابقته.

وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يحسن تكذيبهم حينئذ، ولا سلم أنهم صادقون فيه، وهذا لأن الشهادة هي الإخبار عن الشيء مع العلم به، أو مع العلم به، أو مع الظن به إن كان المشهود به مما يدخله الظن ويعتبر هو فيه، ولما لم يكن العلم بكونه رسولا حاصلا لهم لا جرم كذبهم الله تعالى فيما أخبروا عن أنفسهم بقوله: {نشهد إنك لرسول الله} فهو إذن خبر غير مطابق للمخبر عنه إذ المخبر عنه لهذا الخبر ليس هو نفس كونه رسولا حتى يلزم صدقه لكونه مطابقا، بل حصول العلم بكونه رسولا، ولما لم يكن هذا حاصلا لهم لا جرم كذبهم الله تعالى. سلمنا عدم حسن تكذيبهم حينئذ، لكن لا نسلم أنه يحسن تكذيبهم على رأيكم أيضا بل الإشكال وارد على المذهبين؛ وهذا لأنكم إن جعلتم الخبر الصدق بارة عن الخبر المطابق للمخبر عنه مع اعتقاد أنه كذلك، لكن ما جعلتم الكذب عبارة عما لا يكون كذلك حتى لا يلزم من انتفاء ذلك المجموع الكذب، بل جعلتم الكذب عبارة عن الخبر الغير المطابق مع اعتقاد أنه غير مطابق، وهو غير حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أنه مطابق إذ لا يشترط في الشهادة على هذا التقدير ما ذكرناه وإلا لحسن تكذيبهم / (53/أ)، وحينئذ يلزم أن لا يحسن تكذيبهم أيضا فما هو جوابكم عن هذا الطرف فهو جوابنا عن طرف الصدق. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن من أخبر عن الشيء بناء على غلبة ظنه به، ثم تبين خلافه لم يقل أحد أنه كذب في ذلك الخبر ولذلك لا يأثم به، ولا يستحق الذم على ذلك. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لم يقل أحد أنه كذب، بل يقال: إنه كذب لكنه

يعذر في كذبه، وعدم التأثيم. وعدم استحقاق الذم على ذلك لا يدل على عدم كذبه، لأن الإثم والذم ليسا على مجرد الكذب بل على الكذب بشرط القصد، ولما لم يحصل الكذب في تلك الصورة لا جرم لم يستحق الإثم والذم. ومنه يعرف الجواب أيضا عما يقال: إن من أخبر بأن زيدا في الدار مع اعتقاد أنه ليس فيها وكان فيها فإنه لا يوصف بكونه صادقا، ولذلك لا يستحق المدح والثواب على ذلك، فإنما نمنع الأول، ونسلم الثاني لكن لما سبق لا لأنه ليس بصدق. وثانيها: أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة، فلو كان الكذب عبارة عن الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه لزم تطرق الكذب إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله وهو ممتنع وفاقا. وجوابه: أنه إنما يلزم ما ذكرتم لو أريد منه مدلولاته الحقيقية فأما إذا لم يرد منه تلك المدلولات بل أريد منه المدلولات المجازية لم يلزم ذلك؛ ضرورة أنه مطابق بهذا المعنى، وإرادة المعنى المجازي من اللفظ ليس بكذب. وثالثها: أن الصدق جار مجرى العلم، والكذب جار مجرى الجهل فكما أن بين العلم والجهل واسطة وهو اعتقاد المقلد وجب أن يكون بين الصدق والكذب واسطة وهو ما ليس عن اعتقاد. وجوابه: أنا لا نسلم أن الصدق جار مجرى العلم، والكذب جار مجرى الجهل، وسنده ظاهر لا يخفى عليك.

سلمناه، لكن لا نزاع في أن الخبر الصادر لا عن اعتقاد مطابقا كان أو غير مطابق، واسطة بين الخير الصادر عن اعتقاد أنه مطابق للمخبر عنه مع أنه كذلك [وبين الخبر الصادر عن اعتقاد أنه غير مطابق المخبر عنه مع أنه كذلك]، كما أن الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب واسطة بين الاعتقاد المطابق الجازم لموجب، وبين الاعتقاد الجازم الغير المطابق فلا حاجة إلى إثباته بالقياس على ما ذكرتم لو أمكن إثباته به، وإنما النزاع في أن الصدق والكذب في الخبر هل هما بهذين المعنيين حتى يلزم حصول الواسطة بينهما، أو هما لمجرد المطابقة واللا مطابقة مع عدم اعتبار الاعتقاد حتى يلزم أن لا يكون بينهما واسطة؟ ومعلوم أن ذلك لا يمكن إثباته بالقياس على ما ذكرتم، فإن حاصله يرجع إلى أنه لما وضع العلم والجهل لمعنيين بحيث حصل الواسطة بينهما وجب أن يكون الأمر في الصدق والكذب كذلك. خاتمة: اعلم أن الخبر ينقسم إلى ما يقطع بصدقه، وإلى ما يقطع بكذبه، وإلى ما لا يقطع بصدقه ولا بكذبه - فلا جرم رتبنا الكلام في هذا النوع على ثلاثة فصول.

الفصل الأول "في الخبر الذي يقطع بصدقه"

الفصل الأول "في الخبر الذي يقطع بصدقه" وهو ينقسم إلى ما سبيله التواتر، أو غيره فلا جرم رتبنا هذا الفصل على قسمين:

القسم الأول في التواتر

القسم الأول في التواتر وفيه مسائل: المسألة الأولى في معنى التواتر لغة واصطلاحا: أما - لغة - فهو عبارة عن تعاقب أشياء واحدا بعد واحد بفترة بينهما، ومنه قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} أي: رسولا بعد رسول بفترة بينهما. وأما - اصطلاحا - فهو عبارة عن تعاقب الخبر من جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب. وليس ذكر التعاقب لكونه شرطا في الخبر المتواتر؛ فإن الذي يصل دفعة واحدة من جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب أيضا متواتر، وإنما هو بناء على الغالب، فإن الغالب إنما هو تواتره على التوالي والتعاقب. وأما اصطلاحا: فهو عبارة عن خبر جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.

المسألة الثانية الأكثرون على أن الخبر المتواتر بفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية والبراهمة

المسألة الثانية الأكثرون على أن الخبر المتواتر بفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية والبراهمة. ومنهم من فصل بين التواتر الذي يكون عن الأمور الموجودة حال تواترها كالإخبار عن البلدان النائية والحوادث الموجودة في زماننا، وبين التواتر عن الأمور الماضية المنقضية كالإخبار عن القرون السالفة فقال بإفادة النوع الأول، دون الثاني. لنا: أنا نجد أنفسنا جازمة مطمئنة بوجود البلاد النائية، والأشخاص الماضية من السلوك والعلماء والحكماء كوجود بختنصر، ووجود الشافعي.

وأبي حنيفة - رحمهما الله - ووجود بقراط، وسقراط جزما خاليا عن التردد والتشكك، كجزمنا بالمشاهدات، فيكون المنكر له كالمنكر للمشاهدات، فلا تباحث ولا تناظر إلا ما يناظر به منكر المشاهد من الحرق بالنار وما يجري مجراه. فإن قلت: تدعون جزم الأنفس وطمأنينتها بالمتوترات بالنسبة إلى من يعتقد أن التواتر يفيد العلم اليقيني، أو بالنسبة إلى الكل سواء اعتقد ذلك أو لم يعتقد؟ والأول مسلم، لكنه لا يفيد؛ لأن وجد أن الخصم من نفسه حكم ما يعتقد سببيته له لا يكون حجة على خصمه / (54/أ)، ولأنه معارض بمثله أبدا. والثاني ممنوع؛ وهذا فإنا لا نجد من أنفسنا وعند هذا نقول ليس الاستدلال بوجدان البعض على كونه ضروريا أولى من الاستدلال بعدم وجدان البعض الآخر على عدم كونه ضروريا، بل هذا أولى، لأنه لا يجوز أن يختلف العقلاء في الضروريات بعد الاشتراك في إثباتها.

سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن الجزم به كالجزم بالمشاهد، وهذا لأن القائلين بأنه يفيد العلم اختلفوا في أنه ضروري، أو نظري: ولو كان الجزم فيه كالجزم في المشاهد لما وقع هذا الاختلاف كما في المشاهد. سلمنا دلالة على ما ذكرتم على ما ذكرتم لكنه معارض بوجوه: أحدها: أنه لو أفاد العلم، فأما أن يفيد العلم الضروري أو النظري، والقسمان باطلان فبطل أن يفيد العلم، أما الملازمة فبينة، إذ لا يخلو العلم عن هذين النوعين، لأنه إن احتاج في حصوله إلى وسط يستلزمه فهو النظري، وإلا فهو الضروري، ومعلوم أنه لا واسطة بين النفي والإثبات. وأما بطلان اللازم فسيعرف من أدلة الفريقين الذين اختلفوا في أن العلم الحاصل عقيب التواتر نظري أو ضروري. [وثانيها: أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين] وعرضنا على عقولنا وجود جالينوس وجدنا [الجزم] الأول أقوى وأكمل من الجزم الثاني، وذلك يدل على تطرق احتمال في نقيضه وهو قادح في يقينيته.

وثالثها: أن جزمنا بالمتواترات ليس أقوى من جزمنا بأن ما نشاهده اليوم من الأولاد والعبيد والزوجات هم الذين شاهدناهم بالأمس، ثم إنه ليس بيقيني، لاحتمال أن يوجد أشخاص مساوية لأولئك في الشكل والصورة من كل الوجوه: إما للقادر المختار على ما هو مذهب المليين، أو للأشكال الفلكية الغريبة على ما هو رأي من ينكر القادر المختار، فثبت أن هذا الجزم ليس بيقيني، وإذا لم يكن هذا الجزم يقينيا فما هو مثله أو أضعف منه يجب أن لا يكون يقينيا أيضا أو ضروري. أولى أن لا يكون يقينيا. ورابعها: أن خبر كل واحد منهم لا يفيد العلم بل يحتمل أن يكون كاذبا فكذا خبر الكل، لأن كل واحد من الزنج لما كان أسوك كان الكل أيضا كذلك. وخامسها: لو جاز أن يخبر جماعة بما يفيد العلم، فلو أخبر جماعة أخرى مثلهم بنقيضه، فإن لم يفد العلم قولهم مع أنهم مثل الأولين لزم الترجيح من غير مرجح، وإن أفاد قولهم العلم كقول الأولين لزم اجتماع النقيضين. وسادسها: أنا نرى جمعا كثيرا متفرقين في شرق البلاد وغربها كاليهود، والنصارى، والمجوس، ينقلون أمروا على وجه التواتر يقطع ببطلانها، فلو كان خبر التواتر مفيدا للعلم لاستحال القطع ببطلانها بل وجب القطع بصحتها. لا يقال: إن ذلك لفقد شرط التواتر فيها نحو استواء الطرفين والواسطة؛ فإن اليهود لم يوجد فيهم استواء الواسطة، والنصارى لم يوجد فيهم استواء الطرفين؛ فإنهم كانوا قليلين في الابتداء وكذا المجوس؛ لأنا نقول: القوم يدعون صحة التواتر فيها، كادعاء غيرهم في أخبارهم المتواترة؛ لأن

الطريق إلى تصحيح التواتر للفرق ليس إلا أن أهل التواتر في كل زمان يخبرون عن الذين ينقلون منهم الخبر أنهم متصفون بصفات أهل التواتر، وأن كل ما ظهر بعد خفاء، وقوي بعد ضعف فلا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه ووقت حدوثه كسائر المذاهب المحدثة فلو كان ذلك الخبر كذبا موضوعا لاشتهر وضعه، ووقت وضعه ولما لم يظهر شيء من ذلك علمنا صحته، والقوم يدعون صحة تواترهم في تلك الأمور بهذين الطريقتين وتطرق الطعن والكذب إلى أحدهما يوجب تطرقه إلى الآخر. وما يقال: من أن اليهود قد قلوا في زمان بختنصر إلى أن لم يبق منهم عدد التواتر فضعيف؛ لأن فناء الأمم المتفرقة في شرق البلاد وغربها إلى هذا الحد بعيد جدا، ولأن شرع موسى - عليه السلام - كان منقولا بالتواتر إلى زمان عيسى - عليه السلام - ولهذا كان الناس مكلفين به، فلو لم يبق عددهم إلى عدد التواتر لما كان الأمر كذلك، وكذلك ما يقال في النصارى: أنهم كانوا قليلين في ابتداء الأمر لأن الناس أجمعوا على أن الناس كانوا مكلفين بشرع عيسى - عليه السلام - إلى زمان محمد - عليه السلام - فلو لم يكن شرعه منقولا ابتداء لما قام به الحجة فيما لا يقبل فيه غير المفيد لليقين كأصول الديانات، ولما كان الناس مخاطبين بأصوله وفروعه إلى زمان نبينا - عليه السلام - علمنا فساد ما ذكروه. وسابعها: لو حصل العلم عقيب التواتر المستجمع لشرائطه، فإما أن يكون الحصول بصفة الإمكان أو بصفة الوجوب، القسمان باطلان فبطل القول بالحصول وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن يحصل بصفة الإمكان لوجهين:

أحدهما: أن ترجح حصوله حيث حصل على لا حصوله حينئذ ترجح لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال. وثانيهما: أنه حينئذ لا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم لا محالة بل يجري حصوله عقيبه مجرى الأمور الاتفاقية، وما يكون كذلك امتنع الحكم عليه بكونه مفيدا، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحصل بصفة الوجوب؛ لأن المستلزم له حينئذ إما: قول كل واحد منهم أو قول المجموع، والأول باطل. أما أولا: فبالاتفاق، لأن قول الواحد لا يفيد العلم عند الخصم أيضا من الأفراد المتعاقبة لزم ما تقدم من المحذور وزيادة وهي قيام الصفة الموجودة. وأما ثانيا: فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد الغير المعصوم الذي لم تحتف به قرينة لا يفيد العلم. وأما ثالثا: فلأن تلك الإخبارات إن وجدت دفعة واحدة لزم اجتماع المؤثرات الكبيرة على الأثر الواحد / (55/أ) وهو ممتنع، وإن وجدت على التعاقب لزم نقض العلة العقلية وهو محال؛ لأنه إذا حصل العلم بالسابق استحال حصول ذلك العلم بعينه باللاحق لاستحالة إيجاد الموجود، واستحال أيضا وجود مثله به؛ لاستحالة الجمع بين المثلين، وحينئذ يلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن الاستلزام وهو المطلوب، والثاني أيضا باطل؛ أما أولا: فلأنه إن اشترط في ذلك حصول تلك الإخبارات دفعة واحدة لزم خلاف الإجماع؛ لأن كل من يقول الخبر المتواتر يفيد العلم لا يفرق بين أن يوجد دفعة واحدة أو على التعاقب بل الغالب فيه التعاقب، فالقول بأنه يفيد العلم ويشترط في إفادته العلم حصوله دفعة واحدة قول لم يقل به أحد، وإن لم يشترط فيه ذلك لزم جواز إسناد الأثر الوجودي إلى المعدوم؛ إذ ليس للمجموع وجود عند حصول الأثر على تقدير حصوله على وجه التعاقب لكن ذلك محال. وأما ثانيا: فلأن المستلزمية نقيض اللا مستلزمية التي هي عدمية فكانت

ثبوتية فالموصوف بها إن كان المجموع الموجود دفعة واحدة لزم قيام الصفة الواحدة بالأشياء الكثيرة وهو محال، وإن كان الموصوف بها المجموع الحاصل من الأفراد المتعاقبة لزم ما تقدم من المحصول وزيادة وهي قيام الصفة الموجودة بالمعدوم. وأما ثالثا: فلأنه إن لم يحصل عند الاجتماع أمر زائد على حالة الإنفراد وجب أن لا يفيد كما كان في حالة الانفراد وإن حصل فالمقتضى له ليس هو كل واحد من تلك الأفراد وإلا لوجب حصوله حالة الانفراد وحينئذ يلزم حصول العلم بخبر كل واحد منهم وهو ممتنع بل المجموع والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل، أو ينتهى إلى أن يكون المستلزم لذلك كل واحد من تلك الأفراد وهما ممتنعان. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المستلزم لذلك الهيئة الاجتماعية وما ذكرتم من الدليل لا يلتفت إليه بالنسبة إليها لو سلم تأتيه بالنسبة إليها لأنها معلومة الحصول [بالضرورة] لكل واحد فلا يلتفت إليه؟ قلت: فالهيئة الاجتماعية المستلزمة له إن كانت هي الهيئة الاجتماعية الخارجية وجب أن لا يحصل العلم بما يحصل من التواتر على التعاقب؛ ضرورة عدم حصولها في الخارج؛ لأن الهيئة الاجتماعية الخارجية تستدعي تحقق الأجزاء بأسرها في الخارج، وإن كانت هي الهيئة الاجتماعية الذهنية فهي أيضا باطلة؛ لأنها أمر عدمي والأمر العدمي لا يسلتزم الأمر الوجودي. وثامنها: أنه لو حصل العلم بخبر التواتر فالمستلزم له ليس آحاد الحروف وهو ظاهر جدا، ولا مجموعها؛ لأنه لا وجود للمجموع في الخارج ومستلزم الأمر الوجودي يجب أن يكون وجوديا، ولا الحرف الأخير بشرط

أن يكون مسبوقا بعيره من الحروف المعتبرة في الإفادة؛ لأن المسبوقية عدمية فيستحيل أن يكون جزء العلة أو شرطها، ولا هو بشرط وجود سائر الحروف [قبله؛ لأنه لا وجود لسائر الحروف عند وجود الحرف الأخير والشرط] يجب أن يكون مقارنا للمشروط. وتاسعها: أنه لو كان أعلم الضروري حاصلا من الخبر المتواتر لما خالفناكم مع كثرتنا وتفرقنا في الأطراف والنواحي مع إنصافنا حتى لا يتوهم التواطؤ على الإنكار وحتى لا يحمل ذلك على المكابرة والعناد. الجواب: عما ذكرتم من جهة الإجمال والتفصيل: أما من جهة الإجمال فهو أن ما ذكرتم تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب. أما من جهة الإجمال فهو أن ما ذكرتم تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب. وأما من جهة التفصيل فالجواب عن الأول: أنا ندعي ذلك بالنسبة إلى كل واحد من العقلاء سواء اعتقد ذلك أو لم يعتقده بدليل أن [من] لم يمارس شيئا من العلوم ولم يعرف قواعدها فإنه إذا سمع الخبر المتواتر اضطر إلى العلم بمدلوله، ولم يجد إلى التشكك فيه سبيلا، ولذلك لم يجد العامي من نفسه شكا بين وجود دمشق إلى شاهدها وبين بغداد التي ما شاهدها ولكن سمع بالتواتر وجودها. وأما أنكم لم تجدوا ذلك من أنفسكم [فلو صح هذا منكم فإنما هو بناء على ما تعتقدون في أنفسكم] من عدم إفادته العلم، وفرق بين عدم اعتقاد

إفادته العلم، وبين اعتقاد عدم إفادته العلم، ونحن إنما ادعينا ذلك بالنسبة إلى الأولين دون الآخرين. وعن الثاني ما تقدم من أن العاقل الذي لم يعتقد شيئا من الآراء والمذاهب فإنه لا يجد من نفسه تفاوتا بين ما شاهده، وبين ما سمع وجوده بالتواتر كما تقدم تمثيله في العامي، وأما كون ضرورته مختلفا فيها فذلك لا يدل على أن الجزم به ليس كالجزم في المشاهدات؛ لجواز أن يكون أصل الشيء معلوما بالضرورة بحيث يكون الجزم به مساويا لضروريات أخر ولا يكون وصفه كذلك. وكون ذلك العلم ضروريا أو نظريا كيفية من كيفيات ذلك العلم فجاز أن يكون الجزم به دونه. وعن الثالث: إنا نختار أنه يفيد العلم الضروري، وسنجيب عن أدلة القائلين بأنه نظري. وعن الرابع: أنا لو سلمنا أنه أقوى، فإنما كان أقوى، لأنه بديهي والعلوم البديهية لا تقبل احتمالا ما لا بحسب العادة، ولا بحسب العقل، بخلاف العلوم العادية فإنه وإن لم تحتمل احتمالا ما بحسب العادة، لكنها تحتمل بحسب العقل، والعلم الحاصل عقيب التواتر إنما هو بحسب العادة فإن الله تعالى أجرى عادته بخلقه عقيبه وبه خرج الجواب عن / (56/أ). الخامس: فإن احتماله النقيض بحسب العقل لا يقدح في يقينيته العادة فحينئذ يمنع أنه ليس بيقيني فما هو مثله يكون أيضا كذلك. وعن السادس: أن حكم المجموع المركب من الأفراد قد يكون مخالفا لحكم تلك الأفراد والعلم بذلك ضروري بعد الاستقراء.

وعن السابع: أنه فرض محال، فإنه مهما حصل في شيء يحصل التواتر بشرائطه فيه، وحينئذ يستحيل حصوله في نقيضه عندنا وحينئذ لا يمتنع أن يكون فرضه مستلزما لما ذكروه من المحال فإن المحال جاز أن يستلزم المحال. وعن الثامن: أن ذلك لفقد شرط صحة التواتر، وأما دعواهم صحة التواتر فيها كما فيما ينقلونه عن موسى - عليه السلام - أنه قال: "تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض" فبهت صريح؛ فإن اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام مع شدة حرصهم على الطعن في نبوته لم يذكروا ذلك مع تشبثهم بمطاعن لا أصل لها، ولو كان ذلك منقولا بالتواتر عن موسى عليه السلام لكان ذلك من أعظم المطاعن لهم وكيف لا؟ وقد نقل أنه وضع ذلك ابن الراوندي وعلمهم بأن يدعو التواتر فيه، ثم هذا يشكل على الخصم أيضا؛ لأنه وإن نازعنا في أن التواتر يفيد العلم لكنه لا ينازع في أنه يفيد الظن الغالب بل يساعد عليه، وما يدعون التواتر فيه ليس هو مظنون الصحة؛ بل هو مقطوع البطلان، فما هو جوابه بالنسبة إلى الظن فهو جوابنا بالنسبة إلى العلم وليس ذلك إلا أنه لم يوجد شروط صحة

التواتر فيها. وعن التاسع: أن نقول لم لا يجوز أن يحصل بصفة الإمكان؟ قوله في الوجه الأول: "لزم ترجيح احد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال". قلنا: العلم الحاصل عقيب التواتر إنما هو بخلق الله تعالى عندنا فجاز أن يخلقه عقيب تواتر دون تواتر، ولا نسلم امتناع ترجيح أحد الجائزين على الآخر بالنسبة إلى القادر المختار. قوله في الوجه الثاني: أن حصوله عقيبة حينئذ يجري مجرى الأمور الاتفاقية. قلنا: لا نسلم بل يجري مجرى ترتب المسبب على السبب الأثيري. سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون بصفة الوجوب؟ قوله: "والمستلزم له أن كان قول المجموع لزم كذا وكذا". قلنا: إنما يلزم ما ذكرتم من المحذور أن لو كانت الإخبارات مستلزمة للعمل بذواتها، لكن ذلك باطل بل بخلق الله تعالى العلم عقيب تلك الإخبارات، ومعلوم أن على هذا التقدير لا يلزم ما ذكرتم من المحذور وبه خرج الجواب عن العاشر أيضا. وعن الحادي عشر: أن مخالفتكم فيه لو كان يمنع من كونه ضروريا لكانت مخالفة السوفسطائية المنكرين للمحسوسات تمنع أيضا أن يكون العلم

المسألة الثالثة القائلون بأن التواتر يفيد العلم، اختلفوا في أن ذلك العلم ضروري أو نظري

بالمحسوسات ضروريا ولا جواب لكم [عنه] إلا أن مخالفة الشرذمة القليلة لا يقدح في الضروريات فهو بعينه جوابنا بالنسبة إلى المتواترات. وأما إنصافكم فبتقدير صحته لا يمنع من خطئكم، بل إنما يمنع من العناد والمكابرة ولسنا نحمل خلافكم عليه إن صح ما ادعيتم من إنصافكم. المسألة الثالثة القائلون بأن التواتر يفيد العلم، اختلفوا في أن ذلك العلم ضروري أو نظري [فذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين من الفريقين إلى أنه ضروري وهو الحق]. وذهب الكعبي، وأبو الحسين البصري من المعتزلة، والدقاق منا إلى أنه نظري، وهو قول إمام الحرمين، لأنه جعل العلم الحاصل عقيبه من باب العلم المستند إلى القرائن.

وقال الغزالي - رحمه الله -:"إن عنى بالضروري ما يكون حاصلا من غير توسط مقدمتين كقولنا الموجود لا يكون معدوما، والقديم لا يكون محدثا فهو غير ضروري؛ لأنه لا بد في حصوله من مقدمتين. إحداهما: أن هؤلاء المخبرين مع كثرتهم واختلاف أحوالهم، لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون إلا على الصدق. وثانيهما: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكن غاية ما في الباب أنه لا يفقتر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم، ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه. وإن عنى به ما يكون حاصلا من غير تشكل الواسطة المفضية إليه وإن كانت الواسطة حاضرة في الذهن فهو ضروري. وذهب المرتضى من الشيعة إلى التوقف. حجة الجماهير من وجوه: أحدها: أنه لو كان العلم الحاصل عقيب التواتر نظريا - لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر: كالصبيان، والبله، والعوام، ولما حصل لهم ذلك علمنا أنه ليس بنظري. واعترض عليه: بأنا لا نسلم أنه حاصل لمن ليس له أهلية النظر؛ وهذا لأن النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهو سهل حاصل للعوام والصبيان المميزين الذين يحصل لهم العلم بالمتوترات؛ ولذلك فإنهم يستنتجون علوما كثيرة من تركيب علوم قد حصل في عقولهم من البديهيات، والمحسوسات، والعرفيات المشهورات، وإنما هم ليسوا أهلا للنظر الذي مقدماته نظرية خفية. فأما النظر الذي ليس كذلك فلا نسلم أنهم ليسوا أهلا.

وجوابه: أنك ستعرف أن النظر في ذلك ليس بسهل، وأن مقدماته ليست بديهية ولا بمحسوسة، بل هو غامض يحتاج في تحصيله إلى مقدمات كثيرة نظرية خفية. وثانيها: أن العلم النظري يتشكك فيه الإنسان إذا شك بشبهة، [والعلم بخبر التواتر لا يتشكك فيه الإنسان وإن شكك بشبهة] فلا يكون نظريا. واعترض عليه بأن القابل للتشكيك / (57/أ) إنما هو العلم النظري المستفاد من المقدمات النظرية، فأما العلم النظري المستفاد من المقدمات الضرورية فلا نسلم أنه قابل للتشكيك. وجوابه: أنا سنبين أن المقدمات التي يتوقف عليها العلم الحاصل بخبر التواتر على رأي القائلين بأنه نظري ليست بضرورية. سلمناه لكنه يقتضي أن لا يكون شيء من العلوم النظرية لا يقبل التشكيك، ضرورة أن كل واحد منها مستفاد مما لا يقبل التشكيك؛ فإن المرتبة الأولى من مراتبها التي استفيدت من المقدمات الضرورية [لا تقبل التشكيك؛ لأنها مستفادة من المقدمات الضرورية] والمرتبة الثانية منها مستفادة من الذي لا يقبل التشكيك على الوجه الذي لا يقبل التشكيك؛ ضرورة أنه الوجه الذي استفيدت المرتبة الأولى به، والمستفاد من الذي لا يقبل التشكيك على الوجه الذي لا يقبل التشكيك. [لا يقبل التشكيك].

وثالثها: أن كل واحد يعلم بالضرورة أن علمه بوجود مكة وبغداد أقوى وأجلى من علمه بالمقدمات التي يستفاد منها هذا العلم على رأي القائلين بأنه نظري، وبناء القول الجلي على الضعيف غير معقول. ورابعها: لو كان نظريا لوجب أن لا يحصل عند الإضراب عن تحصيله والاعتراض عن النظر في مقدماته، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه ضروري. واعترض عليه بما سبق، وهو ها هنا أضعف؛ لأن النظري الذي يستفاد من المقدمات الضرورية لا بد فيه من توجيه الذهن إلى وجه استنتاجه عنها؛ لأن وجه الاستنتاج غير حاصل بالضرورة. وخامسها: لو كان نظريا لما اتفق العقلاء عليه؛ لأنه كما يستحيل اختلاف العقلاء في الضروريات يستحيل اتفاقهم في النظريات عادة ولما اتفق العقلاء عيه سوى شذوذ من الناس إما عنادا، وإما خطأ كما في المحسوسات علمنا أنه ليس بنظري. واحتج القائلون بأنه نظري بوجوه: أحدها: وهو ما ذكره أبو الحسين البصري وهو: أن الاستدلال عبارة عن ترتيب علوم أو ظنون يتوصل بها إلى علوم أو ظنون أخر فكل اعتقاد توقف وجوده على ترتيب اعتقادات أخر، فهو استدلالي، والعلم الواقع بخبر التواتر هذا سبيله؛ لأنا لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه إلا إذا علمنا

أنه لا داعي للمخبرين إلى الكذب، وأنهم لا يخبرون عن ظن وتخمين بل عن أمر محسوس لا لبس فيه، وأنه متى كان ذلك - استحال أن يكون الخبر كذبا، وإذا بطل يكون كذبا: تعين أن يكون صدقا فكان العلم بما أخبر به أهل التواتر نظريا. وجوابه: أنا لا نسلم أنه يتوقف على ما ذكرتم من الاستدلال؛ وهذا لأن العلم به حاصل للصبيان والبله مع أنهم لا يقدرون على ترتيب ما ذكرتم من المقدمات على الوجه الذي ذكرتموه، بل قل لا يحصل لهم الشعور بتلك المقدمات أصلا حالة العلم به، ولا بما به تصح تلك المقدمات فلو كان حصوله يتوقف على ما ذكرتم لاستحال حصوله لهم. فإن قلت: إنها حاصلة لهم على الترتيب وإن لم يشعروا بذلك. قلت: ما يكون حاصلا ولا يكون مشعورا به يكون بحيث لو نبه عليه لحصل الشعور به، ومن المعلوم أن الصبيان والبله لو نبهوا على تلك المقدمات، وعلى ما به تصح تلك المقدمات، وعلى ترتيبها لما حصل لهم [الشعور] بجمع ذلك، فلا يجوز أن يكون مستفادا منه. ولا يظن أنه لا يعتبر الشعور بما تصح به تلك المقدمات، فإن عند التنبيه على ما يقدح في تلك المقدمات مع عدم الشعور بما يزيل ذلك لم تبق تلك المقدمات يقينية، فلو كان العلم الحاصل بالتواتر مستفادا منها وجب أن لا يبقى ذلك العلم إذ ذاك يقينيا ولما بقي يقينيا غير مشكك فيه علمنا أنه غير مستفاد منها، نعم ربما يتعرضون لكثرة المخبرين وعدم كذبهم عندما يسألون عن كمية

العلم بما أخبروا به لكن ذلك لا يدل على ما ذكرتم؛ لجواز أن يكون ذلك إشارة إلى ما أجرى الله تعالى عادته من خلق العلم عقيب إخبار الخلق الكثير الذي لا يمكن تواطؤهم على الكذب عادة. وثانيها: لو كان العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضرورة - لكنا مضطرين إليه، بحيث لا يمكننا الخلو عنه؛ ضرورة أنه على مضادة العلم النظري الذي يمكن الخلو عنه، ولو كان كذلك لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين به على سبيل الاضطرار كما في سائر العلوم الضرورية، ولو كان كذلك لزم أن يكون العلم بكون ذلك العلم ضروريا كما في سائر اللضروريات، فكان يجب أن لا يكون مختلفا فيه بين العقلاء، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير ضروري. وجوابه: منع الملازمة الثانية؛ وهذا لأن العلم بكون ذلك العلم ضروريا كيفية من كيفيات ذلك العلم، ولا يعد في أن يكون أصل الشيء معلوما بالضرورة دون وصفه، وأما القياس على سائر الضروريات فقياس تمثيلي خال عن الجامع المناسب فضلا عن اليقيني؛ فإن كونه ضروريا وصف طردي ولا يعارض بمثله بأن يقال: لو كان نظريا لكان العلم به نظريا كما في سائر النظريات، لأنه لا يمكن نفي اللازم، إذ الخصم يمنعه وليس له لازم يستدل بنفيه على نفيه بخلاف نفي ضرورته، فإن الخصم ربما يساعد على أن العلم يكون ذلك العلم ضروريا ليس بضروري، فإن لم يساعد عليه فإن من لوازم كونه / (58/أ) ضروريا أن يكون متفقا عليه بين العقلاء، فيستدل بنفيه على نفي ضرورته وليس من لوازم كونه نظريا أن يكون متفقا عليه بين العقلاء حتى يمكن الاستدلال بنفيه على نفي كونه نظريا، ولو قيل: لو كان نظريا لعلم بالضرورة كونه نظريا كان أشد منه، لكنه غير لازم، لجواز أن يكون نظريا شبيها بالضرورة كالذي نحن فيه

[على أنا نمنع أنه لا يعلم بالضرورة كونه نظريا] على رأي الخصم. وثالثها: وهو مختار الكعبي وهو: أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس بالضرورة لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال، وبطلان اللازم [يدل] على بطلان الملزوم. وجوابه: منع الملازمة؛ فإنه لم يذكر عليها دليلا، وليست هي ضرورية حتى يسلم، ولئن قال: تسوية بين المتقابلين منعنا مطلق مطلوبيتها، ولو سلم لكن فيما فيه التقابل لا مطلقا، فلم قلتم وقوع التقابل بينهما من هذا الوجه؟ ورابعها: أنه لو كان ضروريا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء كما في الضروريات. وجوابه: ما سبق في المسألة المتقدمة. وخامسها: أن خبر التواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى ورسوله [بل هو إما مماثل لهما أو أدنى منهما، والعلم الحاصل عقيب خبر الله ورسوله] ليس علما ضروريا بالاتفاق فكذا ما هو مثله، أو أدنى منه. وجوابه: أنه إن عنى بقوله: ليس أقوى منه: أن كل واحد منهما لا

المسألة الرابعة استدل على أن خبر أهل التواتر صدق: بأن أهل التواتر إذا أخبروا عن شيء، فإما أن يكونوا قد أخبروا به مع علمهم بكونه صدقا، أو مع علمهم بكونه كذبا، أو لا مع علمهم بالصدق ولا بالكذب بل أخبروا به رجما بالغيب، والقسمان الأخيران باطلان فيتعين

يحتمل النقيض وليس خبر التواتر في هذا المعنى أقوى منهما فهذا مسلم، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون ضروريا؛ وهذا فإن سائر العلوم الضرورية مساوية للعلم الحاصل بخبر الله تعالى وخبر رسوله في هذا المعنى، ومع هذا لا يلزم منه نظرية تلك العلوم، أو ضرورته، هذا وإن عنى به غيره فليبينه حتى ننظر هل هو أقوى منهما في ذلك المعنى أم لا؟ وبتقدير أن لا يكون أقوى هل يلزم منه عدم ضرورته أم لا؟ المسألة الرابعة استدل على أن خبر أهل التواتر صدق: بأن أهل التواتر إذا أخبروا عن شيء، فإما أن يكونوا قد أخبروا به مع علمهم بكونه صدقا، أو مع علمهم بكونه كذبا، أو لا مع علمهم بالصدق ولا بالكذب بل أخبروا به رجما بالغيب، والقسمان الأخيران باطلان فيتعين الأول. وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن يكونوا قد أخبروا به مع علمهم بكونه كذبا، لأنهم حينئذ إما أن يكونوا قصدوا فعل ذلك الكذب لغرض أو لا لغرض، والثاني باطل، أما الأول: فلأن الفعل من غير غرض محال؛ لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وهو محال. وأما ثانيا: فلأنه وإن جوز ذلك في الجملة، لكن حصوله من جمع كثير محال عادة بالاتفاق، فإنه وإن جوز صدوره من واحد أو اثنين لكن

صدوره من جمع كثير محال عادة كاتفاق الجمع الكثير على أكل طعام واحد في ساعة معينة. وأما ثالثا: فلأنا وإن جوزنا ذلك لكن عندما لا يكون المانع من الفعل متحققا، وأما ها هنا فالمانع منه موجود وهو كونه كذبا فإن كونه كذبا جهة صرف اتفاقا سواء. قيل بالتحسين والتقبيح العقلي أولا، والفعل يستحيل وجوده مع المانع إلا لمعرض أقوى منه وهو معدوم هنا؛ إذ التقدير أنه لا غرض فيه والأول أيضا باطل؛ لأن ذلك الغرض إما نفس كونه كذبا وهو باطل؛ لأن نفس كونه كذبا جهة صرف وفاقا كما تقدم، ولا جهة دعاء. وأما غيره، وهو إما ديني، أو دنيوي وكل واحد منهما إما رغبة أو رهبة وكل واحد منهما إما أن يكون غرض الكل، أو البعض منها غرض البعض والبعض الآخر منها غرض البعض الآخر، وعلى التقديرات فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل أو لا بالتراسل، والأقسام بأسرها باطلة. أما أنه لا يجوز أن يكون الغرض دينيا رغبة كان أو رهبة، فلأن حرمة الكذب متفق عليه سواء كان بالشرع أو بالعقل، وهو صارف ديني، فيستحيل أن يكون داعيا دينيا رغبة كان أو رهبة وأما أنه لا يجوز أن يكون الغرض الرغبة الدنيوية فلأن ذلك الغرض إما رجاء عوض على الكذب، أو إسماع غريب وإن كان لا أصل له وهما باطلان؛ لأن كثيرا من الناس لا يرتضون الكذب ولا يقدمون عليه لهذين الغرضين. وأما أنه لا يجوز أن يكون الغرض الرهبة الدنيوية؛ فلأن الرهبة الدنيوية لا تكون إلا من السلطان ومن يجري مجراه، لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب، بل لا يقدر على جمعهم على أمر مباح والاستقراء يفيد العلم بذلك؛ ولهذا كثيرا ما يخوفهم على التحدث بكلام لا ينفعهم ولا يضرهم ثم إنهم يتحدثون به حتى يصير مشهورا فيما بينهم.

ولأنا نعلم أنه لا غرض للسلطان في كثير من الأمور المتواترة حتى يحملهم على التحدث عنه كذبا. وأما أنه لا يجوز أن يكون غرض بعضهم الديني رغبة كان أو رهبة، وغرض البعض الآخر الدنيوي رغبة كان أو رهبة سواء حصل بالتراسل، أو لا بالتراسل فلما تقدم من فساد القسمين البسيطين، فإن ذلك بعينه يدل على فساد المركب منهما؛ إذ الكلام في جماعة عظيمة أبعاضها جماعات عظيمة يمتنع تساوي أصولها في قوة هذا الدواعي. وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن يكونوا أخبروا به مع علمهم بصدقه، ولا مع علمهم بكذبه بل رجما بالغيب فلوجهين: أحدهما: أن ذلك إنما يتصور فيما لا يكون معلوما بالضرورة، فإن ما يكون معلوما بالضرورة فإن الإخبار عنه لا يتصور إلا عن علم بصدقه أو كذبه، وشرك خبر التواتر أن يكون المخبر عنه محسوسا معلوما بالضرورة فيستحيل الإخبار عنه لا مع العلم بصدقه ولا بكذبه. وثانيهما / (59/أ): أنا وإن جوزنا صدور الإخبار عن الشيء كذلك من واحد واثنين، لكن نقطع باستحالة من الخلق الكثير عادة فيستحيل وقوعه في خبر التواتر هذا إذا أخبر المخبرون عن مشاهدة، فأما إذا توسط واسطة أو الوسائط بين المشاهدين للمخبر عنه، وبين من لم يشاهدهم فإنه لا يحصل العلم بخبرهم إلا إذا علم أن الوسائط متصفون بالصفات المعتبرة في أهل التواتر، وذلك إنما يعلم طريقين: أحدهما: أن كل مرتبة من مراتب الوسائط يخبرون أن الذين أخبرونا بهذا الخبر كانوا متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر.

وثانيهما: أن كل ما ظهر بعد خفاء، وقوي بعد ضعف، فإنه لا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه، ووقت حدوثه، كمقالة "الجهمية" و"الكرامية" فإنهما لما حدثتنا بعد أن لم يكونا: لا جزم اشتهر بين الناس حدوثهما، ووقت حدوثهما، ولما لم يظهر ذلك فيما نقل بالتواتر علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمة هذا تمام استدلال من يقول أنه نظري. واعلم أنا إنما عدلنا عن الوجه الذي أورده الإمام نقلا عن أبي الحسين في صدر التقسيم في هذا الدليل ليلزم صدق الخبر المتواتر على المذهبين أعني مذهب الجماهير، ومذهب الجاحظ، فإنا لو أوردناه كما أورده بأنه: لو كان كذبا لكان المخبرون أما أن يكون ذكروه مع علمهم بكونه كذبا أو لا مع علمهم بذلك إلى آخر ما ذكر لم يصح التقسيم ولم يلزم منه صدقه على رأي

الجاحظ، ولا يخفى على منصف أن تقدير هذه المقدمات على وجه يلزم منه صدق الخبر المتواتر يقينا لو أمكن. فإن تقسيماته كلها غير مترددة بين النفي والإثبات، والدليل الدال على فساد الأقسام الغير مطلوبة غير يقيني لا يتأتى من الصبيان والبله ولا هو حاضر في ذهنهما مع أن العلم بخبر التواتر حاصل لهم، وهو دليل قاطع على أن العلم به غير مستفاد من هذه المقدمات، وكيف لا وكل واحد من الناس يقطع بأن علمه بما سمع من البلدان النائية والأشخاص الغائبة أظهر من علمه بصحة هذه المقدمات، وبناء الواضح الجلي على الخفي غير جائز في العقل. [تنبيه] ثم إن قيل: أن العلم الحاصل عقيب الخبر المتواتر نظري فهو بطريق التوليد والتولد عند القائلين بهما كما في سائر العلوم النظرية لا يتجه فيه خلاف على رأيهم كما في سائر العلوم النظرية. وأما إن قيل بأنه ضروري فهذا ينبغي أن يكون محل الخلاف فيما بينهم. فمن قائل نظر إلى أنه ضروري فهو كسائر البديهيات المخلوقة من جهة الله تعالى، ولأن كل ما لا ينسب إلى الجهة كالحركات، والاعتمادات، ولا له تأثير في النفس بالفعل والانفعال كالإغضاب، والإرعاب، والتهجين، والتخجيل، فإنه لا يولد في غير محله شيئا للاستقراء، والخبر المتواتر ليس من الأمور التي تنسب إلى الجهة، ولا يلازمه تأثر النفس به بالفعل والانفعال فوجب أن لا يولد علما. ومن قائل نظر إلى أنه مترتب على فعل اختياري للحيوان فوجب أن يكون بطريق التوليد والتولد كسائر المسببات المترتبة على أسبابها

المسألة الخامسة في شروط الخبر المتواتر

المسألة الخامسة في شروط الخبر المتواتر، وهي شروط ترجع إلى المخبرين، وإلى السامعين وكل واحد منها إما متفق عليه، وإما مختلف فيه: فأما ما يرجع إلى المخبرين وهو متفق عليه فأمور: أحدها: أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين به ولا ظانين. وثانيها: أن يكون ذلك العلم ضروريا مستفادا من الحس؛ لأن ما لا يكون كذلك يجوز دخول الغلظ والالتباس فيه لا جرم لا يحصل العلم به. وقال إمام الحرمين: "لا وجه لاشتراط الحس بل يكفي فيه العلم الضروري، فقد يخبرون عن ما علموه بالقرائن، وإليه ميل الإمام، إذ لم يشترط في ذلك سوى أنهم يعلمونه على سبيل الاضطرار". وما ذكره راجع إلى الحس أيضا؛ لأن القرائن التي تفيد العلم الضروري مستندة إلى الحس؛ ضرورة أنها لا تخلو عن أن تكون حالية، أو مقالية، وهما محسوستان. وأما القرائن العقلية فهي نظرية لا محالة؛ إذ لا يتصور التواتر فيما علم بالقرائن البديهية والنظرية وهي لا تفيد إلا علماً نظرياً.

وثالثها: أن يكونوا بالغين في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب. وهذه الأمور الثلاثة لا بد منها سواء أخبر المخبرون عن مشاهدة، أو لا عن مشاهدة بل عن سماع من آخرين. فأما إذا حصلت الوسائط فيعتبر شرط رابع وهو: استواء الطرفين والواسطة فيما ذكرنا من الأمور الثلاثة. وأما ما يرج إلى السامعين وهو متفق عليه فهو أن السامع غير عالم بما أخبر به اضطرارا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وكذا تحصيل تقويته محال؛ لأن العلم الضروري يستحيل أن يصير أقوى مما كان. ثم الطريق إلى العلم بتكامل هذه الشروط إنما هو حصول العلم بالمخبر عنه، فإن حصل العلم به علم وجود هذه الشرائط، وإن لم يحصل علم اختلالها وهذا على رأي الجماهير. فأما من يقول: أن العلم الحاصل عقيب التواتر نظري فلا يتجه هذا، بل يجب أن يكون العلم بحصول هذه الشرائط حاصلا عنده أولا حتى يحصل العلم بالمخبر عنه؛ ضرورة أنه مستفاد منها، وهذا أيضا يضعف القول بأنه نظري، ضرورة تعذر العلم بهذه الشرائط أولا في الأمور التي كثرت الوسائط فيها، فإن الواحد منا يعلم بوجود الوقائع المتقدمة / (60/أ) من غير أن يسمع ممن سمع منه إن سمع من جميع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وأنه سمع من الآخرين شأنهم ما ذكرناه إلى أن ينتهي إلى الذين شاهدوا ذلك

المسألة السادسة قد ذكرنا أن من شروطه أن يكون المخبرون عددا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فهذا القدر متفق عليه، لكن اختلفوا بعد ذلك في أنه هل له عدد معين أم لا؟

والاستدلال على العلم به بالطريقة الأخرى فضعيف جدا لا يخفى على كل ذي لب. وأما الشرائط المختلف فيها فلنذكرها في مسائل: المسألة السادسة قد ذكرنا أن من شروطه أن يكون المخبرون عددا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فهذا القدر متفق عليه، لكن اختلفوا بعد ذلك في أنه هل له عدد معين أم لا؟ فالجماهير على أنه ليس له عدد معين؛ لأنه لا عدد يفرض من ألف أو ألفين [إلا] وغير مستبعد في العقل صدور الكذب منهم، وأنه يتميز بزيادة واحد عن ناقصه في امتناع الكذب عنه، بل المرجع في حصول هذا الشرط وغيره إلى الوجدان، فإن وجد السامع نفسه عالما بما أخبر به على التواتر علم وجود هذا الشرط وغيره، وإلا علم اختلاله، أو اختلال غيره من الشرائط. وعند هذا ظهر أنه يتعذب الاستدلال بالتواتر على من لم يعترف بحصول العلم له؛ ضرورة أنه لا مرجع في حصول شرائطه إلا حصول العلم به فمن لم يحصل له العلم لا يمن الاستدلال به عليه. لكن من هؤلاء الجماهير من قطع في جانب النفي، وإن لم يقطع في جانب الإثبات، وقال، بعدم إفادة عدد معين له وتوقف في بعضه. قال القاضي أبو بكر - رحمه الله -:"أقطع بأن قول الأربعة لا يفيد العلم ألبتة وأتوقف في الخمسة".

واحتج عليه: بأنه لو حصل العلم بخبر أربعة صادقين ولم يحصل بخبر كل أربعة صادقين مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لزم الترجيح من غير مرجح وأنه ممتنع، ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن يحصل العلم بأحد الخبرين الصادرين عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب دون الآخر، واللازم باطل فالملزوم مثله، ولو حصل العلم بخبر كل أربعة صادقين لوجب أن يستغني القاضي عن التزكية في شهود الزنا؛ لأنه إن حصل له العلم بخبرهم عن الزنا الذي شاهدون وجب أن يستغني عن التزكية ضرورة حصول العلم الضروري بصدقهم، والتزكية إنما تراد لتقوية الظن بالصدق، وإن لم يحصل له ذلك وجب أيضا أن يستغني عن التزكية؛ لأنه حينئذ يقطع بكذبهم والذي قطع بكذبه لا يطلب تزكيته فكان يجب استغناؤه عن التزكية في الحالتين معا، لكن ليس الأمر كذلك بالإجماع؛ إذ الأمة أجمعت على أنه لا يجوز للقاضي أن يقطع بكذبهم ويردهم إن لم يضطر إلى صدقهم، بل يجب عليه أو يجوز عرضهم على المزكين، ثم إقامة الحد على المشهود عليه. ولا يخفى أن هذه الدلالة لا تتأتى في الخمسة؛ لأنه إن لم يضطر إلى العلم بصدقهم قطع بعدم صدقهم، ولا يلزم من القطع بعدم صدقهم عدم صدق الأربعة منهم؛ لجواز أن يكون الأربعة منهم شاهدوا الزنا دون الخامس فجاز أن يطلب تزكيتهم لبقاء النصاب. وعند هذا نقول للقاضي: "إن عنيت بقولك: أتوقف في الخمسة، التوقف في حصول العلم بقولهم وعدم حصوله، ولا يقطع بواحد منها فهذا صحيح لكن لا اختصاص لهذا التوقف في الخمسة، بل يتأتى في الألف والألفين؛ إذ لا نقطع نحن بحصول العلم بقولهم ولا بعد حصوله،

فكان يجب أن يتوقف في الكل بهذا المعنى. وإن عنى به: التوقف في جواز حصول العلم بقولهم كما في سائر الأعداد وعدم جوازه كما في الأربعة فهذا غير صحيح؛ لأنه إذا لم يتأت فيهم الدليل الدال على عدم جواز حصول العلم بقولهم يجب إلحاقهم بسائر الأعداد [التي] يجوز أن يحصل العلم بقولهم. واعترض على الدليل بمنع الملازمة: وأما قوله في الوجه الأول: أنه يلزم الترجيح من غير مرجح، فممنوع امتناعه بالنسبة إلى الفاعل المختار على ما عرف صحة ذلك من مذهبنا، والعلم الحاصل بخبر التواتر إنما هو بخلق الله تعالى لا بطريق التوليد حتى يكون الترجيح من غير مرجح ممتنعا. وأما قوله في الوجه الثاني: لجاز مثله في أحد الخبرين عن الجمع الكثير الذي لا يمكن تواطؤهم على الكذب دون الآخر فممنوع؛ وهذا لأنه يجوز أن تختلف في ذلك عادة الله تعالى فاطردت عادته بخلق العلم الضروري عقيب إخبار الجمع الكثير، ولم يطرد ذلك عقيب إخبار الجمع القليل؛ بل تختلف فيه عادته فتارة يخلق، وتارة لا يخلق، كما أن عادته مطردة بخلق الحفظ عقيب التكرار على البيت الواحد ألف مرة، ولم تطرد عادته بخلقه عقيب التكرار عليه مرة أو مرتين. سلمنا تسوي المثلين في العادة، لكن لا يلزم من خلق الله تعالى العلم عقيب إخبار الأربعة خلقه عقيب شهادة الأربعة؛ وهذا لأن الشهادة - وإن

كانت خبراً في المعنى - لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر، وذلك يقدح في مماثلتها مطلقا فلم يجب تساويهما في الحكم، فجاز أن يجري الله تعالى عادته بخلق العلم الضروري عندما يخبر المخبرون بلفظ الخبر والرواية، دون لفظ الشهادة، ولو سلم أن ما بينهما من التفاوت غير قادح في المثلية لكن كون الشهود يجتمعون عند أداء الشهادة في الغالب مظنة للاتفاق على الكذب، فلا جرم لم يحصل العلم لتمكن / (61/أ) هذا الاتهام في النفوس، بخلاف ما إذا أخبر المخبرون بلفظ الخبر، فإنهم يخبرون في الغالب متفرقين فيكون الاتهام زائلا فلا جرم يحصل العلم به. سلمنا صحة ما ذكرتم لكنه منقوض بعدد "أهل القسامة" فإنه يجوز حصول العلم بقولهم من أن ما ذكروه من الدليل آت إذ أمكن أن يقال: لو أفاد قول خمسين صادقين العلم لأفاد قول كل خمسين صادقين، ولو أفاد قول كل خمسين ذلك لاستغنى القاضي عن تحليف عدد أهل القسامة لأنه حصل العلم بقولهم فلا حاجة إلى تحليفهم؛ إذ التحليف إنما هو لتقوية ظن الصدق وإن لم يحصل له العلم بقولهم قطع بكذبهم فلا حاجة إلى التحليف أيضا. واعلم أن الاعتراض الأول قوي جدا، وأما الثاني فيمكن أن يجاب عنه: بأن ذلك لو كان قادحا في مماثلتهما وتساويهما في أن يحصل العلم الضروري عقيبهما لوجب أن لا يحصل القطع بالتسوية في ذلك بينما إذا صدر خبر بلفظ الشهادة، وبينما إذا صدر خبر آخر بلفظ الإخبار من الجمع الذي لا يمكن تواطؤهم على الكذب بعينه بتقدير حصول العلم عقيب الخبر الصادر بلفظ الإخبار واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله.

وأما الثالث فجوابه: أنا نفرض الكلام حيث تكون الأربعة الذين شهدوا على الزنا هم الذين أخبروا وحصل العلم بقولهم بعينهم مع التساوي في جميعا لأحوال من التفرق، وغيره إذ ليس من شرط الشهادة أن يكونوا مجتمعين لأدائها وأما الرابع فغير وارد؛ لأن المخبر عنه في قول كل واحد منهم غير المخبر عنه في قول الآخر سواء فرض ذلك من جهة المدعين أو من جهة المدعى عليهم، أما من جهة المدعين، فإن كل واحد منهم إنما يحلف بحسب ظنه وهو مدعاه ويخبر عنه خبره. وأما من جهة المدعى عليهم فإن كل واحد منهم إنما يحلف على أنه ما قتل ولا عرف قاتله فما أخبر عنه كل واحد منهم غير ما أخبر عنه الآخر. ومنهم من اعتبر في التواتر عددا معينا، وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال ذلك اثنا عشر عدد نقباء موسى - عليه السلام. قال الله تعالى: {وبعثنا منهم اثنى عشىر نقيبا}، وإنما خصهم بذلك؛ لأنه يحصل العلم بقولهم. ومنهم من قال: العشرون، وهو قول أبي الهذيل - لقوله تعالى:

المسألة السابعة لا يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد

{إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين}، وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم. ومنهم من قال: الأربعون، لقوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} نزلت في الأربعين، وأيضا اعتبر هذا العدد في الجمعة، وإنما خصهم بذلك لأنه يحصل العلم بخبرهم. ومنهم من قال: السبعون، لقوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم [ومنهم من قال ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم] للمشركين. ومنهم من قال عدد بيعة الرضوان. ولا يخفى على الناظر أن كل ذلك لا تعلق له بالمسألة، وليس فيها وجه بخيل فضلا عن أن يغلب الظن. المسألة السابعة لا يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد، خلافاً

المسألة الثامنة لا يشترط فيهم أن يكونوا مختلفي الأديان، والأنساب، والأوطان

لقوم؛ لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم، بل أهل المقصورة منه لو أخبروا عن سقوط الخطيب عن المنبر فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم. المسألة الثامنة لا يشترط فيهم أن يكونوا مختلفي الأديان، والأنساب، والأوطان، خلافا لليهود، فإنهم اشترطوا [أن لا يكونوا على دين واحد، وخلافا لقوم، فإنهم اشترطوا] أن لا يكون نسبهم واحدا، وأن لا يكون مسكنهم واحدا، والدليل على فساد اشتراط هذه الأمور أن قبيلة من القبائل التي اتفقت أديانهم وأنسابهم، وأوطانهم، لو أخبروا بواقعة وقعت من ناحيتهم، فإنه قد يحصل العلم بخبرهم، والعلم بذلك ضروري، فلو كان ما ذكروه من الأمور شرطا لامتنع حصول العلم بخبرهم. المسألة التاسعة لا يشترط أن يكون فيهم معصوم خلافا للشيعة ولابن الراوندي، فإنهم زعموا أنه يشترط أن يكون فيهم معصوم، لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل.

وأما ثانيا: فلأن المفيد للعلم حينئذ خبر المعصوم لا خبر أهل التواتر. ولا يشترط فيهم العدالة، ولا الإسلام، خلافا لقوم زعما منهم أنه لا يحصل العلم بما نقلته اليهود والنصارى على التواتر من الأمور الباطلة قطعا، وما ذلك إلا لأنهم كفرة فجرة، ولأن الكفر والفسق مظنة التحريف والكذب والافتراء، والإسلام والعدالة مظنة الصدق والتحقيق. وهو أيضا باطل؛ بما أنا نجد أنفسنا جازمة ببعض ما يخبر به جمع من الكفار والفساق من الوقائع التي تقع لهم، ولأن التواتر حاصل قبل الإسلام وأما ضعف دلالتهم فلا يخفى عليك. ولا يشترط فيهم أن لا يكونوا محمولين على الإخبار بالسيف خلافا لقوم فإنهم زعموا أنه يشترط ذلك فيهم دفعا للتهمة؛ إذ قد يكونوا حينئذ محمولين على الكذب. وهو باطل؛ لأنه إن حملوا على الصدق لم يمتنع حصول العلم بخبرهم [كما إذا لم يحملوا عليه، وإن حملوا على الكذب لم يحصل العلم بخبرهم] قطعا لفوات شركه، وهو إخبارهم عن أمر مخصوص معلوم قطعا. ولا يشترط أيضا أن يكون فيهم أهل الذلة والمسكنة خلافا لليهود، فإنهم

ذهبوا إلى اشتراطه، لزعمهم أنه لو لم يكن فيهم منهم لم يؤمن تواطؤهم على الكذب لغرض من الأغراض، بخلاف ما إذا كان فيهم منهم فإن خوف / (62/أ) مؤاخذتهم بالكذب يمنعهم عنه ويؤمن التواطؤ. وإنما ذهبوا إلى اشتراطه كيلا يثبت بالتواتر نقل معجزات نبينا وعيسى - عليهما السلام -؛ إذ ليس في ناقليها أهل الذلة والمسكنة؛ ضرورة أنه ليس في ناقليها أحد من اليهود، وهم أهل الذلة والمسكنة للآية، وهو باطل. أما أولا: فلأنهم إن عنوا بأهل الذلة والمسكنة أنفسهم فكأنهم قالوا: لا يحصل التواتر ما لم يكن في الناقلين أحد من اليهود، وبطلان هذا القول [من حيث] خلوه عن وجه مخيل وتحكمه لا يخفى على أحد. وإن عنوا به الفقراء والأخساء، والمساكين الضعفاء، الذين لا مطمع لهم في حصول الشرف والغنى فهذا لو سلم لكن لا يلزم منه حصول غرضهم؛ لأنه وجد في ناقلي معجزاتهما منهم كثير. وأما ثانيا: فلأنا نعلم أن استنكاف الأكابر والأشراف لشرفهم [وعظم مرتبتهم فيما بين الناس عن الكذب أكثر من استنكاف] من لا يعرف. ولا يذكر من الضعفاء والأخساء، فكان حصول العلم بخبرهم أولى وأجدر. وأما ثالثا: فلأن ما ذكروه من العلة إنما يتأتى فيما إذا كان المنقول

المسألة العاشرة لا يشترط في السامعين أن لا يكونوا على اعتقاد نفي موجب الخبر لشبهة، أو تقليد

بالتواتر مما يناسب غرضهم بوجه ما، فأما الذي لا يناسب ذلك فلا. وعند هذا نقول: إن حصل العلم بخبرهم علم عدم التواطؤ وانتفاء التهمة وإلا فيدل على اختلال شرط من شروطه. المسألة العاشرة لا يشترط في السامعين أن لا يكونوا على اعتقاد نفي موجب الخبر لشبهة، أو تقليد، خلافا للشريف المرتضى من الشيعة، وإنما شرط ذلك؛ لأن عنده الخبر على النص على إمامة علي - رضي الله عنه - متواتر، ثم لم يحصل العلم لبعض السامعين؛ لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة أو تقليد. ثم استدل على اشتراطه: بأن حصول العلم عقيب التواتر إنما هو بالعادة لا بطريق التوليد، فإنه ربما يتوهم حينئذ أنه لا مدخل لما ذكر من الشرط حتى يختلف فعله بحسب اختلافه، فجاز أن يختلف ذلك باختلاف أحوال السامعين، فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك، ولا يحصل له ذلك إذا اعتقد نقيضه. ثم أورد على نفسه بأنه يلزمكم على هذا أن تجوزوا صدق من أخبركم: بأنه لم يعلم وجود البلدان الكثيرة، والحوادث العظام بالأخبار المتواترة، لأجل تقليد، أو شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء. وأجاب عنه: بأنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور، ولا شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا، والتقليد لا بد وأن ينتهي إلى ما ليس عن تقليد دفعا للتسلسل والدور فلا يتصور فيه اعتقاد نفي موجب الخبر، فلا جرم لا يجوز صدقه. وهو باطل بما أنا قد نجد أنفسنا جازمة بما أخبر به أهل التواتر وإن سبق لنا

المسألة الحادية عشرة في أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالنسبة إلى سائر الأشخاص بإخبار عدد التواتر الذي حصل العلم بخبرهم عن واقعة بالنسبة إلى شخص أم لا؟

اعتقاد نفي موجبه فهذا هو القول في تمام شرائطه المتفق عليها والمختلف فيها. المسألة الحادية عشرة في أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالنسبة إلى سائر الأشخاص بإخبار عدد التواتر الذي حصل العلم بخبرهم عن واقعة بالنسبة إلى شخص أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب بعضهم كالقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري إلى وجوب الاطراد. وذهب الآخرون إلى عدم جوابه. واحتج الأولون: بأنه لو حصل العلم بخبرهم عن واقعة لشخص ولم يحصل بخبرهم الآخر، أو بذلك الخبر بعينه لشخص آخر لزم الترجيح من غير مرجح وإنه ممتنع، ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن لا يفيد العلم خبرهم الآخر بالنسبة إلى ذلك الشخص بعينه وأنه ممتنع. واحتج الآخرون: بأن الأخبار تختلف في إفادة العلم وعدم إفادته، بسبب ما تحتف به من القرائن الحالية، والمقالية سواء كانت تلك الأخبار أخبار

المسألة الثانية عشرة في التواتر المعنوي

آحاد أو لم تكن، وبسبب قوة فهم السامعين وسماعهم، وإذا كان كذلك لم يجب من حصول العلم لشخص بخبر عدد حصوله لسائر الأشخاص بسائر أخبارهم. وعند هذا ظهر أن الحق في ذلك أن يقال: إن كان حصول العلم في الصورة التي حصل العلم فيها بمجرد الخبر من غير احتفاف قرينة به لا من جهة المخبرين، ولا من جهة السامعين حالية كانت أو مقالية، كان الاطراد واجبا، وإن لم يكن بمجرده بل لانضمام أمر آخر إليه فلا يجب الاطراد. المسألة الثانية عشرة في التواتر المعنوي، اعلم أن الأخبار المختلفة الكثيرة الصادرة من عدد التواتر إذا اشتركت في معنى كلي بين تلك الأخبار الكثيرة، فإنه يصير ذلك المعنى الكلي متواترا من جهة المعنى. مثاله: الأخبار المروية عن سخاوة حاتم، وشجاعة علي - رضي الله عنه - فإنه روي في ذلك أخبار كثيرة وكل واحد منها وإن كان غير متواتر، لكن القدر المشترك بينهما وهو مطلق سخاوته، ومطلق شجاعته متواتر؛ لأن كل واحد من تلك الأخبار يدل بالمطابقة على جزئي من جزئيات سخاوته وشجاعته نحو هبته الخمسة من الدراهم، والعشرة من الدنانير، والعبيد، والإبل وقتله هذا وذاك، وشقه الصف، وقتل جماعة منهم، وكسر عساكر عديدة، وما يدل على الجزئي بالمطابقة يدل على الكلي المشترك فيه بالتضمن، فيصير ذلك المعنى المشترك فيه مرويا بالتواتر على وجه التضمن فهذا هو التواتر المعنوي

القسم الثاني من هذا الفصل

وأما ما يقال في تقرير هذا النوع: أنا نعلم قطعا أن كل تلك الأخبار ليس بأسرها كذبا بل لا بد وان يكون / (63/أ) واحد منها صدقا، ومتى ثبت صدق واحد منها ثبت كونه سخيا وشجاعا فضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون الشخص أعطى مرة، وقتل شخصا أن يكون سخيا وشجاعا، ولو سلم ذلك لكن غاية ما يلزم منه أنه صدق، ولا يلزم من صدقه أن يكون متواترا فإنه لم يتفق عليه عدد لم يكن تواطؤهم على الكذب لا بحسب الكلية، ولا بحسب الجزئية؛ إذ في هذه الطريقة لا ينظر إلى القدر المشترك بين تلك الأخبار، بل إلى خصوصية خبر واحد منها لكن لا بعينه بل هذا من جملة طرق صدق الخبر الغير المتواتر. والعجب من الإمام أنه عد هذه الطريقة من طرق صدق الخبر الغير المتواتر، ثم أنه ذكره طريقا في إثبات التواتر المعنوي. القسم الثاني من هذا الفصل في الأخبار التي سبيل صدقها غير التواتر وهو ينقسم إلى صنفين: متفق عليه، ومختلف فيه. أما الصنف الأول فأنواع: أحدها: الخبر الذي عرف مخبره بالضرورة. وثانيها: الخبر الذي عرف مخبره بالنظر والاستدلال.

وثالثها: خبر الله تعالى، وصدقه متفق عليه بين المليين وأرباب الديانات، لكنهم اختلفوا في الدلالة عليه فنفاة التحسين والتقبيح اختصوا بمسلك، ومثبتوهما اختصوا بمسلك آخر، ومسلكان آخران غير مختصين بأحد الفريقين بل لكل واحد منهما الاحتجاج بهما. فالمسلك الأول من مسلكي الفريقين وهو الأقوى وهو: أن الصدق صفة كمال، والكذب صفة نقص، وهو معلوم بالضرورة متفق عليه بين العقلاء والله تعالى منزه عن جميع النقائص باتفاق العقلاء، فوجب أن يكون منزها عن الكذب. ولأن النقص طبيعته طبيعة عدمية، ولا تطرق للعدمي إلى واجب الوجود، ولأنه لو لم يكن منزها عن الكذب لكان الواحد من الممكنات حال كونه صادقا أكمل [منه] تعالى وذلك معلوم البطلان بالضرورة. وثانيها: وهو إخبار الرسول - عليه السلام - عن امتناع الكذب عليه تعالى. واعترض على هذا المسلك بأن صدق الرسول - عليه السلام - مستفاد من صدق الله؛ ضرورة أن صدقه مستفاد من دلالة المعجزة على صدقه، ودلالة المعجزة على الصدق قائم مقام التصديق بالقول والتصديق بالقول إنما يفيد صدق المصدق أن لو كان المصدق صادقا، فلو استفيد صدق الله تعالى من صدق الرسول لزم الدور. وجوابه من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن دلالة المعجزة على [التصديق يتوقف على

صدقه تعالى، وهذا لأن دلالة المعجزة على] تصديقه فيما يدعيه من الرسالة نازلة منزلة قوله: "أنت رسولي" ومعلوم أن دلالة هذا على كونه رسولا حين قصد به الإنشاء كما في قول القائل "أنت وكيلي" لا يتوقف على الصدق؛ لأن الإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب. وحينئذ يندفع ما ذكرتم من الدور. فإن قلت: فعلى هذا لا يلزم صدق الرسول في كل ما يخبر عنه بل إنما يلزم منه صدقه فيما يدعيه من الرسالة؛ لأن قوله: "أنت رسولي" لا يدل إلا عليه؛ لأن كونه صادقا في جميع الأمور أمر حقيقي، والإنشاء لا مدخل له في الأمور الحقيقية بل تأثيره في الأمور الوضعية؛ فإذن لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقا في كل الأمور إلا من قبل كون الله تعالى صادقا، وحينئذ يلزم الدور المذكور. قلت: هذا الإلزام مشترك فإنا بتقدير أن نجعل دلالة المعجزة نازلة منزلة التصديق بالقول الخبري، فإنما نجعلها نازلة منزلته فيما يقترن به التحدي، والذي يقترن به التحدي إنا هو دعوى الرسالة وكونه مبعوثا من جهته تعالى، لا دعوى الصدق في كل الأمور فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذاك، وليس ذاك إلا أن الصدق في كل الأمور ضرورة الصدق في الرسالة، فإنه لو لم يثبت الصدق في كل الأمور إذا ذاك لم يحصل مقصود الرسالة، فإن المقصود منها إنما هو الدعوى إلى الله تعالى، وهي إنما تتحقق بالترغيب على ما به الدعوة، والترهيب على تركه الموقوفين على التبليغ منه

ومعلوم أنه لا يحصل هذا المقصود إلا إذا حصلت الثقة بما يبلغه منه تعالى، وذلك بالعصمة عن الكذب في جميع ما يقوله عنه تعالى فيثبت أنه لو لم يثبت الصدق في جميع الأمور لم يحصل مقصود الرسالة، وإذا لم يثبت مقصود الرسالة فكأنه لم تثبت الرسالة فثبت أن الصدق في جميع الأمور من ضرورة الصدق في الرسالة وحينئذ يندفع الدور. وثانيهما: وهو الأقوى أن التصديق بالمعجزة تصديق بالفعل والقرينة وذلك لا يتوقف على الصدق في المقال. ألا ترى أن المكذب في ادعاء الرسالة عن ملك إذا استدعى منه تصديقه فدام المكذبين وقال له: أيها الملك، إن كنت صادقا فيما أدعيه من الرسالة عنك وفيما بلغتهم عنك وكان الملك قد علم ذلك فخالف عادتك وقم من مقامك هذا ثلاثا واقعد، فإنه إذا فعل الملك ذلك اضطر الحاضرون إلى العلم بصدق ذلك المكذب في تلك الدعوى، وإن كان الملك ممن عهد منه الكذب، فثبت أن التصديق بالفعل والقرينة لا يتوقف على الصدق في المقال. وأيضا فإن الإنسان إذا أخبر عن غيره بأنه عطشان فلو صدقه ذلك الشخص بالقول لا يحصل القطع / (64/أ) بعطشه بل لا يحصل الظن إذا كان كذوبا، فأما إذا صدقه بالفعل والقرينة بأن يكون لسانه خارجا، والعرق يسيل منه، ووقع في ماء وشرب منه فإنه يحصل منه التصديق ولا يلزم من جعل التصديق بخلق المعجزة نازلا منزلة التصديق بالقول في إفادة الصدق، وجعله نازلا منزلته في اعتبار جميع الأمور المعتبرة فيه. وأما المسلك الذي اختص به أصحابنا في ذلك فهو: أن كلامه تعالى معنى قائم بذاته تعالى، ويستحيل الكذب في الكلام النفساني على

من يستحيل عليه الجهل؛ لأن الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، والجهل على الله محال فيستحيل عليه الكذب أيضا، وإذا استحال الكذب في الكلام النفساني استحال في هذا المسموع أيضا؛ ضرورة أنه معبر عنه ومطابق له. بقي أن يقال: فبماذا تعرف المطابقة؟ قلنا: بقول الرسول - عليه السلام - وصدق قول الرسول - عليه السلام - لا يتوقف على هذه المطابقة حتى يتوهم الدور؛ لأنه ليس معجزا بهذا الاعتبار وإلا لزم أن تكون سائر الكتب المنزلة معجزات وليس كذلك بل هو معجز باعتبارات أخر على ما عرف ذلك في موضعه وحينئذ لا يلزم الدور. فظهر أن هذه الحجة ليست مغالطة كما زعمه الإمام - رحمه الله -. فإن قلت: ما الدليل على أنه يستحيل الكذب في الكلام النفساني على من يستحيل عليه الجهل فإن هذا ليس بديهيا حتى لا تطلب بينته؟ قلت: لأن الكذب في الكلام النفساني هو أن يكون خبر غير مطابق قائما بنفس المتكلم ولا معنى للجهل إلا هذا. وأما المسلك الذي اختص به القائلون بالتحسين والتقبيح فهو: أن الكذب قبيح - والله تعالى - لا يفعل القبيح، لعلمه بقبحه واستغنائه عنه. واعترض عليه الإمام: بأنه ليس المراد من الكذب المحكوم عليه بالقبح

الخبر الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه - في الظاهر - وإن كان بحيث لو أضمر في زيادة أو قدر فيه نقصان أو تغيير صح، لأنه حينئذ يلزم كذب نحو قوله تعالى: {وأتيت من كل شيء}، وقوله تعالى: {خالق كل شيء} بل المراد منه الخبر الذي لا يكون مطابقا في الظاهر، ولا يمكن أن يصير مطابقا بسبب إضمار أو نقصان، أو تغيير، وحينئذ يصير الكذب المحكوم عليه بالقبح غير ممكن الوجود؛ لأنه لا خبر يفرض كونه كذبا إلا وهو محال متى أضمر فيه زيادة، أو قدر فيه نقصان، أو تغيير صار صدقا وحينئذ يرتفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة. ثم أورد على نفسه سؤالا وقال: لو كان المراد منه غير ظواهرها - لوجب أن يبينها الله تعالى -، وإلا لكان تلبيسا، وهو غير جائز وبتقدير أن يكون ذلك جائزا لم يكن في كلام الله تعالى فائدة فيكون عبثا وهو على الحكيم محال. وأجاب عن الأول: بأنه إن عنى بالتلبيس: الفعل الذي لا يحتمل إلا التجهيل فهو غير لازم؛ ضرورة احتمال الكلام لغير ظاهره، وإن عنى به الفعل الذي ظاهره التجهيل وإن كان محتملا لغيره فمثله لا نسلم أنه لا يجوز منه تعالى؛ وهذا لأن إنزال المتشابهات جائز منه بالاتفاق مع أن ظاهره التجهيل، وعن الثاني بأن العبث إنما يلزم لو لم يكن له تعالى فيه غرض ما وهو ممنوع؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون غرضه تعالى غير الظاهر كما في إنزال المتشابهات. فإن قلت: ذلك عندنا مشروط بقيام الدلالة على امتناع ما أشعر به ظاهر الكلام، وإلا لم يكن ذلك جائزا.

قلت: هب أنه كذلك، لكن لا يشترط علم سامع المتشابه بذلك الدليل وفاقا، فكذا ها هنا يجب أن يشترط علم سامع الظاهر الذي أريد منه غير الظاهر بذلك الدليل الذي يدل على امتناع إرادة ظاهرة، وحينئذ يرتفع الوثوق عن جميع ظواهر الكتاب والسنة؛ إذ لا سبيل إلى العلم بعدم ذلك الدليل الذي يدل على امتناع إرادة الظاهر منها، بل غايته أنه لم يوجد بعد الاستقراء والطلب لكن ذلك لا يدل على العدم. وهذا تمام كلامه في ضعف هذه الطريقة. ولقائل أن يقول: هذا الإشكال غير مختص بالقائلين بالتحسين والتقبيح بل هو وارد على المذهبين، فإن بتقدير أن يكون قبح الكذب شرعيا أمكن أن يقال: الكذب المحكوم عليه بالقبح شرعا، أما أن يكون هذا أو ذاك إلى آخر ما ذكر، ولم يدع القوم أن قبح الكذب إذا كان عقليا أمكن إجراء خطاب الله تعالى على ظاهره على القطع حتى يكون ما ذكروه واردا عليهم، ثم لم لا يجوز أن يقال: الكذب المحكوم عليه بالقبح هو الخبر الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه ظاهرا مع عدم إرادة المتكلم لذلك الغير الظاهر منه على وجه التجوز وهو غير ما ذكروه من القسمين وهو ممكن الوجود؟ ورابعها: خبر الرسول - عليه السلام، وصدقه أيضا متفق عليه بين أرباب الملل والديانات، ودليل صدقه في كل الأخبار ظهور المعجزة على يده وهو ظاهر إن اقترن التحدي به وإلا فبالعرض، أي بواسطة ثبوت الرسالة كما تقدم. وقال الشيخ الغزالي - رحمه الله -: (دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة ظهور المعجزة على يد الكذابين؛ لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الله عن تصديق رسوله) وهو [غير] مرضي؛ لأنه لا يلزم من إمكانه

عجزه عن تصديق رسله؛ وهذا لأن اللبس إنما يحصل من وقوعه على يد الكاذب، لا من إمكانه، فجاز أن يكون ممكنا لكنه يقطع بانتفائه فيحصل تصديق رسله مع إمكانه، وإنما يلزم ذلك لو لم يكن مقطوعا بالانتفاء. واعترض عليه بوجه آخر وهو: أنه إن كان يلزم من اقتداره تعالى على إظهار المعجزة على يد الكاذب عجزه [عن تصديق رسوله فكذا يلزم من عدم اقتداره على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه] عنه فلم كان نفى أحد العجزين عنه أولى من الآخر؟ وأيضا إذا فرض: أن / (65/أ) الله تعالى قادر على إظهار المعجز على يد الكاذب - فمع هذا الفرض - إن كان تصديق الرسول ممكنا لم يصح قوله: "أنه يلزم من إمكان ظهور المعجز على يد الكاذب عجزه عن تصديق رسله، وإن لم يكن ممكنا لم يلزم العجز؛ لأن العجز إنما يتحقق بالنسبة إلى الممكنات، فأما بالنسبة إلى المستحيلات فلا؛ وهذا لأنه لا يوصف الله تعالى بالعجز عن خلق نفسه. وأيضا: إذا استحال أن يقدر الله تعالى على تصديق رسله إلا إذا استحال منه إظهار المعجز على يد الكاذب: وجب أن ينظر - أولا - أن ذلك هل هو محال، أم لا؟ وأن [لا] يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهار المعجز على يد الكاذب؛ لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع وهو دور. سلمنا سلامته عن الدور، لكن لا نسلم أنه يستحيل ظهور المعجز على يد الكاذب، وما ذكرتم من الدلالة فهو معارض بما أنه ممكن في نفسه ومقدور الله تعالى في جميع الأوقات، ولم يقبح عليه فعله نظرا إلى ذاته فوجب أن يكون

كذلك عند ادعاء الكاذب، وإلا لزم أن ينقلب الممكن ممتنعا، والمقدور معجوزا. وفي هذه الاعتراضات نظر: أما الأول؛ فلأنا لا نسلم أنه يلزم من الحكم بعدم اقتداره على إظهار المعجز على يد الكاذب العجز حتى يقال: فلم كان نفي أحد العجزين عنه أولى من الآخر؟؛ وهذا لأن عد اقتداره عليه إنما هو على تقدير استحالته؛ إذ المستدل نفي إمكانه بما بين من الملازمة ونفي اللازم، ولا يتحقق العجز بالنسبة إلى المستحيل على ما اعترف به المعترض وإنما يلزم ذلك أن لو أثبت عدم اقتداره عليه على تقدير إمكانه وليس كذلك، ولا يمكن إيراده بالنسبة إلى الاستحالة بأن يقال: ليس الاستدلال بلزوم عدم اقتدار الله تعالى على تصديق رسله على استحالة ظهور المعجز على يد الكاذب على استحالة تصديق رسله؛ لأن إمكانه متفق عليه بين المليين القائلين بكونه تعالى قادرا، والكلام في خلق المعجز فرع أصل القدرة بخلاف [إمكان] إظهار المعجز على يد الكاذب، ولأنه وقع وهو دليل الإمكان بخلاف إظهار المعجز على يد الكاذب. سلمنا لزوم العجز على التقديرين لكن لزوم العجز عن إظهار المعجز على يد الكاذب أولى من لزوم العجز عن تصديق رسله؛ لأن عجز الحكيم عن مراده، أو ما هو من لوازمه أخل بكمال قدرته من عجزه عما لا يريده، ولهذا يعبر الإنسان بالأول دون الثاني. وأما الثاني؛ فلأنا لا نسلم أنه لا يلزم العجز على تقدير مجموع الأمرين وهو أن يكون الله تعالى قادرا على إظهار المعجز على يد الكاذب، وعدم

إمكان تصديق الرسل حينئذ؛ وهذا لأن لزوم العجز بالنسبة إلى المحال وإن كان محالا لكن هذا المجموع أيضا محال عندنا والمحال جاز أن يستلزم المحال. وأما الثالث فضعيف جدا؛ لأنه لا دور في الاستدلال بنقيض اللازم على نقيض الملزوم وإلا لبطل أحد شقي قياس التلازم حيث يكون الملزوم فرعا. وأما الرابع، فهو أن انقلاب الممكن إلى الامتناع الذاتي محال، فأما الامتناع العارضي فلا نسلم استحالته ألا ترى أن الشيء قد يكون ممكن الوجود ثم أنه يصير ممتنع الوجود عند وجود ما ينافيه. وخامسها: خبر مجموع الأمة عن الشيء إذ قد ثبت أن الإجماع حجة وذلك إنما يكون بعصمتهم عن الخطأ. وسادسها: خبر من صدقه الله تعالى أو صدقه رسوله أو مجموع الأمة. وسابعها: الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر إذا أخبر كل واحد منهم عن شيء غير ما أخبر به صاحبه - سواء كان الإخبار عن أمر وجداني أو غير فإنه لا بد وأن يقع فيها ما يكون صدقا، ولا يجوز أن يكون الكل كاذبا والعلم بذلك ضروري يجده الإنسان من نفسه والاستقراء أيضا يشهده ولذلك نقطع بأن في الأخبار المروية عن النبي - عليه السلام - على سبيل الآحاد ما هو قوله وهو صدق قطعا، وإن كنا لا نعرف ذلك بعينه. وثامنها: خبر من لم يصدق قط: "أنا كاذب" فإن هذا الخبر صادق قطعا؛ إذ لا يجوز أن يكون المخبر عنه لهذا الخبر هو نفسه وإلا لزم تأخر الشيء عن نفسه؛ ضرورة أن الخبر متأخر بالرتبة عن المخبر عنه بل ما قبله

المسألة الأولى اختلفوا في أن القرائن إذا احتفت بخبر الواحد، هل تدل على صدقه أم لا؟

وهو كاذب فيه فصدق في هذا وفيه بحث يأتي. الثاني فيما اختلف في صدقه من طرق صدق الخبر بالغير المتواتر وفيه مسائل. المسألة الأولى اختلفوا في أن القرائن إذا احتفت بخبر الواحد، هل تدل على صدقه أم لا؟ فذهب النظام، وإمام الحرمين، والغزالي، والإمام إلى أنه يفيد وهو المختار. وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد. احتج القائلون بأن احتفاف القرائن بالخبر يفيد العلم: بأن الإنسان إذا سمع أن السلطان تغير اليوم على وزيره، واغتاض منه وأهانه، ثم إنه رأى الوزير خارجا من باب داره ماشيا وعليه من الذل والمسكنة وأثر الخوف والخجل ما يناسب لما سمع، وحواليه أعوان السلطنة كالمرتمين عليه وهم ذاهبون به إلى صوب حبس السلطان، ورأى عدوه نزل في بيته، وتصرف في ماله وخدمه، ورآه يباشر شغله فإنه يقطع بصدق / (66/أ) ما سمع، ولا يجد من نفسه في ذلك شكا وارتيابا وإن شكك فيه، وكذلك إذا سمع من شخص أنه عطشان، ثم رأى منه العطش نحو يبس اللسان، وخروجه عن الفم،

وقصده الماء وشربه منه شيئا كثيرا ورجوعه بعد ذلك إلى الحالة الطبيعية، فإنه يقطع بصدق خبره، وأمثاله كثيرة لا تعد ولا تحصى والحال في ذلك تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والقرائن، ولا يمكن الجزم في قرائن معينة بأنها تفيد كذا بالنسبة إلى جميع الأشخاص وفي جميع الأزمان، بل قد لا تفي العبارة عن وصف القرائن التي تفيد العلم بالشيء، والأمر فيه أيضا موكول إلى الوجدان كما في الخبر المتواتر. واحتج المنكرون بوجوه: أحدها: أن الخبر المحتف بالقرائن لو أفاد العلم: فإما أن يفيده باعتبار نفس الخبر، وهو باطل. أما أولا: فلأن خبر الواحد لا يفيد العلم بوفاق بيننا وبين خصومنا. وأما ثانيا: فلما سيأتي من الأدلة على أن خبر الواحد لا يفيد العلم. أو يفيده باعتبار نفس القرائن، وحينئذ يلزم أن لا يكون للخبر فيه مدخل فيرجع حاصل النزاع إلى القرائن هل تفيد العلم، أم لا؟ وهو غير ما نحن فيه. أو يفيد مجموع الأمرين، أو أحدهما بشرط الآخر وهما باطلان أيضا؛ لأن القرائن وحدها تفيد العلم فإنه لو لم يوجد الخبر فيما ذكرتم من الصورتين، وفرض إنسان شاهد تلك الأحوال والقرائن فإنه يجزم في الأول بتغير السلطان على الوزير وغصبه عليه، وبعطش ذلك الشخص في الثانية، فلا يكون الخبر مع تلك القرائن مفيدا. وجوابه من وجوه: أحدها: أن المفيد للعم حيث اجتمع الخبر والقرائن إن كان مجموع

الأمرين أو أحدهما بشرط الآخر فقد حصل الفرض، وإن كان القرائن وحدها فذلك لا يجوز؛ لأن القرائن بدون الخبر إن لم تكن مستقلة بالإفادة فظاهر، وإن كانت مستقلة فكذلك؛ لأن الأثر إذا وجد عقيب مجموع يكون لكل واحد من أجزائه مدخل فيه لم يجز إحالته إلى بعضه، وإن كان بحيث يكون مستقلا بذلك لو وجد وجد منفردا عن الباقي، كما إذا حصل العلم عقيب مجموع قرائن عدة، فإنه لم يجز إحالته على بعض تلك القرائن، وإن كان بحيث لو وجد جد منفردا عن البقية لكان مستقلا بإفادة ذلك العلم. وثانيها: أن القرائن قل ما تعين نوعا من جني، وجزئيا من نوع، فإذا انضم إليه الخبر أفاد جزئيا معينا وهو غير مستفاد من القرائن. وثالثها: أن العلم الحاصل من القرائن والخبر آكد من العلم الحاصل بالقرائن وحدها، والعلم بذلك ضروري، وهذا العلم المؤكد يستحيل حصوله من تلك القرائن وحدها. وثانيها: أن الخبر مع القرائن التي يذكرها المخالف لو أفاد العلم لما جاز انكشافه عن الباطل، لكن اللازم باطل، لأنا إذا سمعنا الخبر عن موت إنسان، وشاهدنا القرائن التي يذكرها المخالف معه من البكاء عليه والصراح وشق الجيوب، وضرب الخدود، وإحضار الجنازة والأكفان والغسال فإنه ربما قد ينكشف أنه لم يمت وكان ذلك بناء على أنه أغمي عليه، أو لحقه سكتة، أو أظهر ذلك خوفا ممن أراد قتله في ذلك الوقت ولم يتمكن منه بعده. وجوابه: أن المخالف لم يعين مع الخبر قرائن معينة لإفادة العلم حتى يرد عليه ذلك، ولا يلزم من عدم حصول العلم في بعض صور القرائن في بعض الأحوال أن لا يحصل في شيء من صور القرائن في كل الأحوال بل الأمر فيه مختلف بحسب الوقائع والأحوال والأشخاص والعبرة في ذلك بحال سامع الخبر المحتف بالقرائن، فإن حصل له العلم علم أنه مفيد له وإلا فلا.

ولو ذكر بعضهم ما تقدم ذكره من القرائن لذلك فإنما هو بناء على أنه قد يفيد ذلك لبعض الأشخاص في بعض الأحوال، فعدم إفادة ذلك المجموع للعلم في عموم الأحوال لا يقدح في ذلك. وثالثها: أن الخبر مع القرائن لو أفاد العلم لوجب أن يحصل العلم بصدق مدعي النبوة إذا احتف بخبره القرائن، وحينئذ يجب الاستغناء عن المعجز وهو باطل. وجوابه: أنا نلتزم أن خبره المحتف بالقرائن يفيد العلم بصدقه؛ إذ المعجز من جملة القرائن عندنا، وحينئذ لا يلزم الاستغناء عنه، وليس كل قرينة تصلح لإفادة العلم مع كل خبر بل يختص بعض الأخبار ببعض القرائن، والإخبار عن النبوة كذلك فإنه اختص بقرينة المعجز. ورابعها: لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لما حصل العلم بخبر التواتر عند فقد القرائن، واللازم [باطل] إذ لا يشترط في خبر التواتر وجود القرائن وفاقا. وجوابه: أنه لا يلزم من قولنا: القرائن مع الخبر [قد تفيد العلم إنما هو المفيد لا غير سلمناه لكن لا نسلم أنه يمكن] انفكاك خبر التواتر عن القرائن؛ وهذا لأن من شرط خبر التواتر أن ينقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب لرغبة أو رهبة جامعة لهم أو التباس يعمهم وهو قرينة. سلمنا الانفكاك لكن لا نسلم أنه يفيد إذ ذاك. وخامسها: أنه لو أفاد خبر محتف بالقرائن العلم لأفاد كل خبر محتف بالقرائن كالخبر المتواتر، لكن اللازم باطل لما سبق أن / (67/أ) بعض الأخبار المحتف بالقرائن لا يفيده والملزوم مثله.

المسألة الثانية إذا أخبر واحد بحضرة جماعة كثيرة عن شيء محسوس بحيث لا يخفى عن مثلهم، وسكتوا عن تكذيبه كان ذلك دليلا على صدقه عند قوم، وخالف فيه آخرون

وجوابه: أنه إن عنى بقوله: "كل خبر محتف بالقرائن" كل خبر من أنواع الأخبار المحتف بالقرائن من كل نوع من أنواع القرائن، فالملازمة ممنوعة، والقياس على الخبر المتواتر غير مفيد؛ لأنه إن عنى بالخبر المتواتر ما يرويه أهل التواتر فالحكم فيه ممنوع، إذ ليس كل خبر يرويه أهل التواتر يفيد العلم، وإن عنى به ما يفيد العلم فليس هو على وزان ما نحن فيه. وسادسها: أن الخبر المحتف بالقرائن لو أفاد العلم فلو فرض خبر آخر مضاد له محتف بالقرائن فإن أفاد لزم اجتماع الضدين، وإن أفاد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح. وجوابه: أنه فرض محال، فإنه مهما أفاد خبر محتف بالقرائن العلم استحال أن يوجد خبر آخر محتف بالقرائن التي تفيد العلم مضاد له كما سبق في التواتر. المسألة الثانية إذا أخبر واحد بحضرة جماعة كثيرة عن شيء محسوس بحيث لا يخفى عن مثلهم، وسكتوا عن تكذيبه كان ذلك دليلا على صدقه عند قوم، وخالف فيه آخرون. احتج الأولون بأن سكوت الجماعة عن التكذيب لو لم يكن دليلا على الصدق لكان سكوتهم عنه لا يخلو إما أن يكون مع علمهم بكذبه، أو لا مع علمهم بكذبه والقسمان باطلان، فبطل أن لا يكون دليلا على الصدق.

أما بطلان القسم الأول، فلأن الداعي إلى التكذيب حاصل؛ لأن من سمع كذبا ظاهرا، وبهتا صريحا، وأراد الصبر عن تكذيبه فإنه يجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر، لا سيما حيث يكون السكوت مغلبا لظن الصدق، وجاريا مجرى الشهادة عليه، والمانع منه زائل؛ لأن ذلك المانع إما رغبة أو رهبة، والجمع العظيم لا يعمهم من الرغبة والرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه، لا من غير السلطان وهو ظاهر ولا منه لما سبق في الاستدلال على صدق خبر التواتر، وبتقدير أن يتصور ذلك منه لكن ليس النزاع محصورا في خبره بل لا فرق عند الخصم بين خبره وخبر غيره في أنه لا يفيد، فإذا ثبت ذلك بالنسبة إلى خبر غيره وجب أن يثبت بالنسبة إلى خبره؛ إذ لا قائل بالفصل بل بالطريق الأولى؛ لأن احتراز الأكابر عن الكذب أولى لما أنه يزرى بهم، ولأننا نفرض الكلام فيما ليس المانع من التكذيب موجودا، أو إذا كان الداعي إلى التكذيب حاصلا والمانع منه زائلا وجب أن يحصل التكذيب وإلا لزم تخلف المسبب عن السبب التام وهو ممتنع. وأما بطلان القسم الثاني؛ فلأنه يمتنع عادة، أن لا يطلع واحد منهم على كذبه. وإذا بطل القسمان وجب أن يكون دليلا على الصدق. أجاب الآخرون عنه: بأن مقصودهم من هذا الكلام إن كان إثبات غلبة الظن بصدقه فهو حق، وإن كان المقصود منه القطع فهو باطل؛ لأنه لا امتناع في أن لا يكون لهم اطلاع على تلك القضية، ولا نسلم أن العادة تحيل هذا بالنسبة إلى كل جمع، وكل قضية؛ وهذا لأنه لا امتناع في أن يغفل سكان أحد شقي المدينة عما وقع في شق الآخر من الأمور التي لا يحتفل به فكيف الجمع العظيم الحاضرون في مجلس واحد. سلمنا امتناع ذهول الكل، لكن العادة لا توجب علم الكل فلعل البعض منهم نحو الواحد والاثنين يعلم ذلك، وسكوت مثل هذا البعض عن

المسألة الثالثة إذا أخبر واحد بين يدي الرسول - عليه السلام -، وسكت الرسول - عليه السلام - عن تكذيبه، وعلم عدم ذهوله عليه السلام عما يقوله فهل يدل ذلك على صدقه أو لا؟

التكذيب لرغبة أو رهبة غير ممتنع عادة، وأما قولكم: نفرض الكلام حيث لا مانع من التكذيب فلا نسلم إمكانه على وجه القطع بل على وجه غلبة الظن وذلك لا يفيد القطع بالصدق. سلمنا وجوب علم الكل لكن لا نسلم امتناع سكوتهم لمانع، ولا نسلم أنه لا يعمهم من الرغبة والرهبة لما يحلمهم على الكتمان على وجه القطع، إذ لا امتناع في أن يكون المخبر ممن يخاف شره لسعاية، أو تقول، وافتراء فيسكتوا عن تذيبه. المسألة الثالثة إذا أخبر واحد بين يدي الرسول - عليه السلام -، وسكت الرسول - عليه السلام - عن تكذيبه، وعلم عدم ذهوله عليه السلام عما يقوله فهل يدل ذلك على صدقه أو لا؟ اختلفوا فيه: فذهب جمع إلى أنه يدل على صدقه مطلقا؛ لأنه لو كان كذبا لأنكره الرسول - عليه السلام - وإلا كان مقرا له على الكذب، وموهما لتصديقه وهو غير جائز منه - عليه السلام -. وأنكره بعضهم مطلقا، والحق فيه التفصيل وهو: أن ذلك الخبر إما أن يكون خبرا عن أمر ديني، أو دنيوي: فإن كان خبرا عن أمر ديني فهو يدل على صدقه لكن بشروط: أحدها: أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم؛ فإن بتقدير أن تقدم بيانه لا يكون السكوت دليل الصدق؛ لاحتمال أن يكون السكوت إنما كان

استغناء على ما تقدم من البيان؛ إذ لا يجب عليه - عليه السلام - بيان الشرائع في كل حين، وبالنسبة إلى كل أحد، وإلا لما بقي في الشريعة المحتملات، والمظنونات بل كان الكل متواترا. وثانيها: أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل؛ فإن بتقدير أن يكون ذلك الحكم مما لا يجوز تغيره اندفع احتمال النسخ فلم يكن المسكوت / (68/أ) موهما للتصديق. وثالثها: أن يكون ذلك المخبر ممن لم يعرف عناده للنبي - عليه السلام - وكفره به، فإن بتقدير أن يكون كذلك لم ينفع فيه الإنكار فلم يجب عليه [عليه] السلام إنكاره وبيانه بالنسبة إليه، ولا كان السكوت موهما للتصديق، وأما بالنسبة إلى غيره فلم يجب بيانه أيضا؛ لاحتمال أن يكون ذلك الوقت لم يكن وقت الحاجة إليه بالنسبة إلى الغير. وهذا تفريع على أنه لا يجوز منه تعمد صغيرة ولا كبيرة فإن جوز منه الصغائر فلينظر أن السكوت فيه وعدم الإنكار إن كان من باب الصغائر فلا يدل ذلك على صدقه على القطع، وإن غلب على الظن صدقه، وإن كان من باب الكبائر فيدل ذلك على صدقه. وإن كان خبرا عن أمر دنيوي فيدل أيضا على صدقه بشروط. أحدها: أن يستشهد بالنبي عليه السلام ويدعي عليه علمه بالمخبر عنه فإن بتقدير أن لا يستشهد به عليه السلام لا يكون السكوت دليل الصدق، أو لم يجيب عليه - عليه السلام - بيان الأمور الدنيوية وفيه نظر؛ لأنه وإن لم يجب عليه ذلك لكن يجب عليه الإنكار من حيث تعاطي الكذب وذلك يكفي فيه

المسألة الرابعة اجماع الأمة على موجب خبر لا يدل على القطع بصدقه

علمه [بالقضية ولا حاجة إلى اشتراط الاستشهاد. وثانيها: أن يعلم علمه]- عليه السلام - بالقضية؛ فإن بتعدير أن لا يعلم ذلك لا يكون السكوت دليل الصدق؛ لاحتمال أن يكون - عليه السلام - إنما سكت لكونه لم يعلم حقيقة الحال فيها. وثالثها: أن يكون المخبر ممن لا يعلم أنه لا ينفع فيه الإنكار، فإن بتقدير أن يعلم أنه لا ينفع فيه الإنكار سقط الأمر عن الإنكار عليه ثم هو تفريع على ما تقدم بيانه. المسألة الرابعة اجماع الأمة على موجب خبر لا يدل على القطع بصدقه خلافا للكرخي وأبي هاشم وأبي عبد الله البصري؛ لأنه يحتمل أن يكون عملهم لدليل آخر غايته أنه لم ينقل إلينا، لكن ذلك لا يدل على عدمه؛

لاحتمال أنه كان منقولا إليهم ولم ينقل إلينا اكتفاء بالإجماع، وهذا الاحتمال وإن أن ثابتا بالنسبة إلى الخبر الذي نقل إلينا، لكن الاحتمال لا يجب اطراده في جميع المحال الذي هو محتمل فيه. سلمنا عدم احتمال عمل كلهم بذلك الدليل الآخر لكن جاز أن يكون عمل بعضهم بهذا، وعمل البعض الآخر بذلك، وعمل بعض الأمة بخبر لا يوجب القطع بصحته. سلمنا أن كلهم عملوا به لكن لا نسلم أن ذلك يدل على صدقه؛ لأنه يجوز أن عملوا به وهو مظنون الصدق، فإن العمل بمظنون الصدق واجب وحينئذ لا يكون ذلك دليل الصدق. لا يقال: أنهم لما اتفقوا على العمل به دل ذلك على أنه لا يكون كذبا قطعا وإن كان قبله مظنون الصدق وإلا احتمل أن يكون إجماعهم خطأ؛ لأنا لا نسلم ذلك؛ وهذا لأنهم لما كلفوا بالعمل بموجب الظن كان العمل بما غلب على الظن صدقه صوابا سواء كان في نفسه كذلك أو لم يكن. احتج الخصم: بأن المعلوم من عادة أئمتنا فيما لم يقطعوا بصحته: أن لا يتفقوا على مدلوله بل يقبله البعض، ويرده البعض الآخر فلما اتفقوا عليه دل ذلك على أنه كان مقطوع الصحة عندهم. وجوابه: منع العلم بهذه العادة، وكيف يقال ذلك وقد علم أنهم قد يتفقون على مظنون الصدق كاتفاقهم على أخذ الجزية من المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف؟ وكاتفاقهم على ما روى الصديق: "الأنبياء يدفهون حيث يموتون" و"الأئمة من قريش" وما يجري مجراها.

المسألة الخامسة قال بعض الشيعة: بقاء النقل، مع توافر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعا

المسألة الخامسة قال بعض الشيعة: بقاء النقل، مع توافر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعا كخبر الغدير، المنزلة، فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توفر

دواعيهم على إبطالهما. وهو أيضا ضعيف؛ لأن المروي بالآحاد قد يشتهر بحيث يعجز العدو عن إخفائه، هذا إن تمسك بشهرة النقل، وإن تمسك بتسليم الخصم فهذا أيضا لا يدل على الصحة؛ لاحتمال أنه سلمه على وجه غلبة الظن بصدقه، لا على وجه القطع، ومن هذا نعرف أن مجموع الأمرين أيضا لا يفيد ذلك أيضا. سلمنا أنه يفيد ذلك لكن متى، عندما خلا عن المعارض لإشاعته واشتهاره، أو مطلقا؟. والأول مسلم، لكن لا يفيد؛ لأنه لم يوجد هذا الشرط فيما نحن فيه؛ لأن دواعي الشيعة على إشاعته وإفشائه قد حصلت وصارت صوارف بني أمية معارض بها، وكيف والترجيح للمعارض؛ لأن الناس إذا منعوا من إفشاء فضيلة شخص كانت محبتهم له، وحرصهم على إشاعة مناقبه ومآثره أشد مما إذا لم يمنعوا. ويؤكده ما قيل: (الإنسان حريص على ما منع) والثاني ممنوع؛ وهذا لأن الشيء مع وجود المعارض له لا يوجب أثره إلا بصفة الرجحان، وهو ممنوع بل هو من جهتنا كما تقدم.

المسألة السادسة اختلفوا في أن شطر الأمة إذا قبل الحديث وعمل بمقتضاه، أو احتج به في مسألة علمية، والشطر الآخر اشتغل بتأويله هل يدل ذلك على صحته على وجه القطع؟

المسألة السادسة اختلفوا في أن شطر الأمة إذا قبل الحديث وعمل بمقتضاه، أو احتج به في مسألة علمية، والشطر الآخر اشتغل بتأويله هل يدل ذلك على صحته على وجه القطع؟ الأكثرون على أن ذلك لا يدل عليه وهو الحق؛ لأن من قبله وعمل بمقتضاه لعله قبله لكونه مظنون الصدق، ولو فرض الحديث في المسألة العلمية فنقول: من أوله ولم يحتج به طعن فيه بأنه من باب الآحاد، إذ لا يجوز أن [يكون] مقطوعا به ويؤوله ولا معارض له. سلمنا أنه لم يطعن فيه، لكن عدم الطعن لا يفيد القطع بالصحة. وذهب الأقلون إلى أنه يدل عليه؛ لأنهم تلقوه بالقبول وذلك يفيد القطع بصحته، غاية ما في الباب أنه لم يعمل بمقتضاه بعضهم أو لم يحتج به، وذلك لا يقدح في متنه. [وجوابه: أنا لا نسلم أن تلقيهم بالقبول يفيد القطع بالصحة؛ لاحتمال أن يكون ذلك على وجه غلبة الظن بصدقه].

الفصل / (69/أ) الثاني من كتاب الأخبار في الخبر الذي يقطع بكذبه وفيه مسائل:

الفصل / (69/أ) الثاني من كتاب الأخبار

الفصل / (69/أ) الثاني من كتاب الأخبار في الخبر الذي يقطع بكذبه وفيه مسائل: المسألة الأولى الخبر الذي يكون على خلاف ما علم وجوده بالضرورة سواء كان المعلوم بالضرورة بديهيا، أو وجدانيا، أو حسيا، أو على خلاف ما علم وجوده بنظر العقل أو على خلاف ما علم وجوده بخبر الله تعالى، أو خبر رسوله، أو خبر مجموع الأمة وبالجملة كل خبر يكون على خلاف ما علم صدقه قطعا فهو كذب قطعا. والمعنى من كونه على خلافه هنا هو أن لا يمكن الجمع بينهما بوجه ما. ومن هذا الباب خبر من لم يكذب قط: "أنا كاذب" فإن هذا الخبر كذب قطعا؛ لأنه لا يجوز أن يكون المخبر عنه لهذا الخبر هو نفسه لما تقدم، فيكون ما تقدم من الأخبار وهو صادق فيه فيكذب هذا. واعترض عليه: بأن هذا وما تقدم في فصل خبر الصدق مبني على أنه لا يجوز اتحاد الخبر والمخبر عنه بكذبه وهو ممنوع، فإن قول من لم يتكلم في يوم قط: "أنا كاذب في هذا اليوم" خبر اتحد مع المخبر عنه بكذبه. وجوابه: أنه لا يجوز اتحادهما بكذبه، لأن رتبة المخبر عنه متقدمة على الخبر؛ بدليل أنه يصح أن يقال: وجد هذا فأخبر عنه، وإذا كان كذلك فلو جاز اتحادهما لزم تأخر المتقدم، أو تقدم المتأخر وهو محال، أو ما قاله في سند منعه: من أن قول من لم يتكلم في يوم قط: "أنا كاذب في هذا اليوم"

المسألة الثانية الواحد إذا انفرد بنقل ما لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله؛ إما لتعلق الدين به: كأصول الشرع، أو لغرابته: كسقوط المؤذن من المنارة بمشهد الجمع العظيم والجم الغفير، أولهما جميعا: كالمعجزات، ولم ينقله الباقون فهو أيضا مما يقطع بكذبه عند الج

خبر اتحد مع المخبر عنه بكذبه فممنوع؛ وهذا لأن كذبه عندنا إنما هو من جهة أن صدقه يتوقف على أن يكون قد صدر منه في ذلك اليوم خبر كذب متقدم على هذا الخبر، وليس كذل إذا لم يصدر منه في ذلك اليوم قبل هذا الخبر خبر كذب، وانتفاء هذا المجموع تارة يكون بانتفاء الكذب، وتارة بانتفاء أصل الخبر فيكون كذبا بهذا الاعتبار لا باعتبار نفسه. ومن هذا القبيل قول القائل: "كل أخباراتي كذب"، فإن هذا الخبر مقطوع بكذبه؛ لأنه إن صدق خبر من أخباره كذب هذا، وإن كذب الكل كذب هذا أيضا، وهو بمني على أن هذا الخبر من جملة المخبر عنه بهذا الخبر فإن لم يجوز هذا لم يلزم كذبه قطعا؛ لأنه يحتمل أن يكون كاذبا في كل ما تقدم من أخباره فيكون صادقا في هذا نعم لو فرض صدوره عمن لم تكن جميع أخباره المتقدمة كذبا كان كذبه مقطوعا به. المسألة الثانية الواحد إذا انفرد بنقل ما لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله؛ إما لتعلق الدين به: كأصول الشرع، أو لغرابته: كسقوط المؤذن من المنارة بمشهد الجمع العظيم والجم الغفير، أولهما جميعا: كالمعجزات، ولم ينقله الباقون فهو أيضا مما يقطع بكذبه عند الجماهير وهو الحق، خلافا للشيعة فإنهم جوزوا في مثل هذا أن لا يظهر لخوف وتقية زعما منهم أن النص على إمامة علي - رضي الله عنه - صحيح وإن لم ينقل نقلا متواترا لمانع. احتج الجماهير: بأنه لو جاز أن لا ينقل مثل هذا - لجاز أن يكون بين

بغداد والبصرة مدينة أكبر منهما مع أنه لم ينقل إلينا. ولجاز أن يقال: إن القرآن عورض لكنه لم ينقل إلينا بالتواتر. وأن الرسول أوجب زيارته كما أوجب الحج لكنه لم ينقل إلينا، ولما كانت هذه اللوازم باطلة: فكذا ملزومها. فإن قيل: نحن إنما جوزنا ذلك فيما نقله خوف وتقية، وفي كتمانه رغبة ورجاء عوض كما في النص على إمامته - رضي الله عنه - فإنه لم يزل منازعوه فيها متسولين على الناس وهم راجون منهم، وخائفون منهم، فجاز أن تحملهم الرغبة والرهبة على كتمان ذلك، فأما ما ذكرتم من الأمور فليس في كتمانه رغبة، ولا في إظهاره رهبة، فلا جرم لم يجز أن يتطابقوا على كتمانه. سلمنا أنه لا فرق لكن العلم بعدم تلك الأمور، إن لم يتوقف على العلم بأنه لو كان لنقل فقد سقط هذا الكلام، وإن توقف لم يكن العلم بعدم تلك الأمور ضروريا بل نظريا؛ لأنه لا يجوز توقيف الضروري على النظري، لكن ذلك باطل؛ لأن الناس كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة فكذا يعلمون بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما. سلمنا تجويز توقيفه عليه لكن ما ذكرتم أمثلة جزئية، والقاعدة الكلية لا تثبت بالأمثلة الجزئية، وإن قستم صورة المتنازع عليه فغير مفيد؛ لأنه قياس تمثيلي لا يفيد اليقين والمسألة علمية، وبتقدير أن يفيده، أو أن يكتفى فيها بالظن فهو أيضا غير مفيد بما تقدم من الفرق.

ثم ما ذكرتم معارض بصور أحدها: أن انشقاق القمر معجزة فتتوفر الدواعي على نقله لغرابته ولتعلق الدين به بل هو أعظم المعجزات وأعجبها؛ لأن سائر معجزات الأنبياء ونبينا - عليهم السلام - إنما هو التصرف في الأجسام العنصرى السفلى، والمخالف ربما يجوز عليها ما لا يجوز على الأجسام العلوى، ولم ينقل عن أحد منهم أنه أظهر معجزته فيما ثم أنه لم ينقل نقلا متواترا. وثانيها: أن تسبيح الحصا، وإشباع الخلق الكثير من الطعام

القليل، ونبوع الماء من بين الأصابع، وحنين الجذع إليه، وتسليم الغزالة عليه من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها ثم

إنها لم تنقل / (70/أ) متواترا. لا يقال: إن ذلك إنما [كان] كذلك لحصول الاستغناء [عن نقلها على وجه التواتر بنقل القرآن متواترا؛ لأنا لا نسلم حصول هذا الاستغناء] وهذا لأن كون القرآن معجزا أ/ر لا يعرف إلا بدقيق النظر، وأما العلم بكون ما تقدم من الأمور معجزا فعلم ضروري فكيف يحصل الاستغناء به عن نقلها؟ ولو جاز أن يجعل حصول المطلوب منه وإن كان مبنيا على نظر دقيق وفكر غامض سببا لفتور الدواعي عن نقل تلك الأمور جاز مثله فيما نحن فيه بأن يجعل دلالة قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} الآية، ودلالة خبر الغدير والمنزلة على إمامة علي - رضي الله عنه - سببا لفتور الدواعي عن نقل النص الجلي على إمامته - رضي الله عنه -.

وثالثها: أن إفراد الإقامة وتثنيتها، والجهر بالتسمية، ودخوله عليه السلام مكة عنوة أو صلحا، من أظهر الأمور وأجلاها ثم أنه لم ينقل نقلا

متواترا. ورابعها: أن كلام المسيح - عليه السلام - في المهد من أعظم الأمور التي تتوفر الدواعي على نقلها، والنصارى مع كثرتهم في شرق البلاد وغربها، ومع محبتهم فيه عليه السلام، ورغبتهم في إظهار معجزاته ومناقبه لم ينقلوا ذلك نقلا متواترا، وكذا معجزات أكثر الأنبياء المتقدمين، والوقائع العجيبة التي اتفقت لهم تتوفر الدواعي على نقلها مع أنها لم تنقل نقلا متواترا. الجواب عن الأول: أنه لا نزاع في أن ما ذكرتم هو مظنة الرغبة والرهبة وأما حديث البلدان وما يجري مجراها فليس كذلك، لكن نقول: إنه ما يستحيل عادة من الجماعة العظيمة كتمان ما لا رغبة في كتمانه، ولا رهبة في إظهاره، فكذا يستحيل عادة أن يعمهم رغبة ورهبة على كتمان ما يعلمونه لا سيما إذا علموا أن في إظهاره الثواب، وفي كتمانه العقاب، والناقلون هم السلف الصالح وهذا لا يصلح أن يكون جائزا أصلا. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن ذلك العلم ضروري، بمعنى أنه لا يحتاج في العلم به إلى حصول واسطة مؤدية إليه؛ وهذا فإن الناس إذا سئلوا عنه يعللونه بأنه لو كان لنقل كغيره من البلاد، ولو كان حاصلا من غير واسطة لما علل كما في سائر القضايا التي تحصل من غير واسطة، وإن كان ضرورياً

بمعنى أنه لا يحتاج في العلم به إلى اكتساب الواسطة وشكلها. وعن الثالث: أنا لا نثبت الحكم بالأمثلة المذكورة، بل نثبت ذلك بما ركب الله تعالى في الطباع من العلم العادي بذلك، وإنما ذكرنا تلك الأمثلة للتنبيه على ذلك. وعن المعارضة الأولى: أن الذين شاهدوا ذلك كانوا قليلين، لأنه من الآيات الليلية حدث حين الناس نيام، أو غافلون عنه لا سيما - حدث في لحظة كلمح بالبصر؛ ولهذا كثيرا ما يتفق الخسوف ولم ينتبه الناس له إذا لم يحدثوا به قبل وقوعه. والنبي - عليه السلام - ما دعاهم إلى ذلك حتى كانوا يترقبونه، ولا تمادى زمانه حتى ينبههم صياح المشاهدين وضجتهم كما في الخسوفات، فإن من لم يسمع بذلك قبل وقوعه فإنه ربما ينتبه له بسبب تسبيح المشاهدين وصياحهم، بل هو شديد الشبه بوقوع الصواعق في الليل فإنه قل من ينتبه له، وبه خرج الجواب عن المعارضة الثانية: فإن تلك الأمور وإن وقعت في النهار لكن بعضها في السفر الذي قل ما يتفق اجتماع الرفاق الكثير فيه في مكان واحد، لاشتغالهم بأشغال المسافرين وبعضها وإن كان في الحضر لكن ما كان في معرض التحدي مع المنكرين حتى كان يجتمع له الناس فلعل المشاهدين لتلك الأمور كانوا قليلين فلذلك لم يتواتر. وعن الثالث: أما حديث إفراد الإقامة وتثنيتها فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن المؤذن ربما كان يفرد مرة، ويثني أخرى فنقل بعضهم الإفراد

وأهمل التثنية، ونقل الآخرون التثنية وأهملوا الإفراد، لعلمهم أن التساهل في هذا هين لكونه لا يتعلق به أصل من أصول الدين لا نفيا ولا إثباتا، مع أن كلا من الفريقين سمع الإفراد والتثنية معا؛ إذ يبعد عادة احتمال اختصاص أحد الفريقين بسماع أحد الأمرين بعينه دائما، والآخر بسماع الأمر الآخر بعينه دائما حتى يقال أن كون كل واحد من الفريقين نقل ما سمع. وثانيهما: أنهم إنما لم يهتموا بنقلها، لما عرفوا أن [هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرا ولا بدعة ولما لم] يهتموا به وتساهلوا الأمر فيه نسوا ما سمعوه في زمن الرسول - عليه السلام - لا سيما وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة ثم الذين سمعوا ذلك انقرضوا فصارت الرواية من باب الآحاد. وأما الجهر بالتسمية فعنه أيضا جوابان: أحدهما: نحو ما سبق وهو أن فعله عليه السلام فيه كان مختلفا. وثانيهما: أنه عليه السلام ربما كان يخفي صوته في ابتداء القراءة، ثم يعلو صوته على التدريج فالقريب منه كان يسمع الجهر بالتسمية دون البعيد فنقل بعضهم الجهر دون الباقين. وأما دخوله عليه السلام مكة عنوة أو صلحا فالجواب عنه: أن / (71/أ) دخوله عنوة نقله الجمع الكثير والجم الغفير، وهو مستفاض مشهور، وإنما خالف بعضهم فيه لشبهة، وهي أنه - عليه السلام - أمر بأداء دية من قتله خالد بن الوليد، ولا يبعد ذلك من الآحاد، فإن الضروريات قد تنكرها

الشرذمة القليلة من الناس ولا يقدح ذلك في ضرورتها، وأيضا فإنهم لما رأوا في أنفسهم الضعف وفي النبي - عليه السلام - وأصحابه القوة وإشرافهم على الفتح سلموا له الأمر وجاؤا إليه قبل دخوله مكة، وخيلوا وأرجفوا بأنهم سلموا له الأمر صلحا، ولم يطلع كل أحد على ما جرى بينه - عليه السلام - وبينهم عند دخولهم عليه فربما أثر ذلك في أذهان بعضهم فنقلوا أنه دخلها صلحا، وإلا فأمارة دخوله قهرا ظاهرة، فإنه - عليه السلام - دخلها متسلحا بالألوية والأعلام مع بذل الأمان لمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة ودار أبي سفيان، ولو كان الدخول صلحا لم يكن لإعطاء الأمان بهذه الأمور معنى. وعن الرابع: أما كلام عيسى - عليه السلام - في المهد فإنما لم ينقل نقلا متواترا؛ لأنه [لم] يتكلم بحضرة عدد يحصل بنقله التواتر بل كان ذلك بحضرة نفر قليل، فلا جرم لم يحصل التواتر بخلاف سائر معجزاته نحو إبراء الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى، فإنه كان عند دعوى الرسالة في

المسألة الثالثة الخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار، فلم يوجد بعد الفحص والتفتيش في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة ولا يعرفه أحد من النقلة بوجه من الوجوه: علم قطعا أنه كذب

معرض التحدي بحضرة جمع عظيم، وقد تكرر ذلك منه مرارا وشاهد ذلك المصدق والمكذب فلذلك صار متواترا. وهو الجواب أيضا عن معجزات أكثر الأنبياء؛ فإن الذي شاهدوا تلك المعجزات ربما كانوا قليلين، فإنهم ما كانوا يظهرونها مستدلين بها على نبوتهم؛ إذ لم يدعوا إلى أنفسهم وإلى شريعتهم بل إلى شرائع من كان قبلهم من الأنبياء فهم كالخلفاء والأئمة لهم فذلك ما كان يجتمع لها الناس؛ فلذلك لم يتواتر نقله، ولو سلم أن المشاهدين كانوا عددا يحصل بنقلهم التواتر، وأنهم كانوا يظهرونها في معرض التحدي، لكنهم انقرضوا ولم يبق من أممهم بقية [حتى كان يبقى متواترا فلعله ما دام بقي من أممهم بقية] ثم صار من باب الآحاد؛ لانقراضهم وعدم الاعتناء من جاء بعدهم بنقله. فإن قلتم بمثل هذا الاحتمال في النص الجلي على إمامته - رضي الله عنه -[سقطت الحجة به لأنه يصير من باب الآحاد فلا يمكن الإثبات به] وهو الجواب بعينه عن الوقائع العجيبة التي اتفقت لهم وللأمم الماضية بل عدم نقلها وتواترها أولى؛ لأنه لم يتعلق به غرض من أغراض الدين، وهذا بخلاف النص الجلي على إمامة علي - رضي الله عنه - فإنه يتعلق به غرض أصلي من أغراض أصول الدين. المسألة الثالثة الخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار، فلم يوجد بعد الفحص والتفتيش في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة ولا يعرفه أحد من النقلة بوجه من الوجوه: علم قطعا أنه كذب، إذ لا طريق إلى حصوله إلى الخلف إلا من النقلة أو من الكتب، فإذا لم يوجد فيهما علم كذبه قطعاً.

المسألة الرابعة في أن الأخبار المروية عنه - عليه السلام - بالآحاد قد وقع فيها ما يقطع بكذبه

فأما قبل استقرار الأخبار كما هو في زمن الصحابة فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما لم يعرفه الباقون. المسألة الرابعة في أن الأخبار المروية عنه - عليه السلام - بالآحاد قد وقع فيها ما يقطع بكذبه. ويدل عليه وجوه: أحدها: ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "سيكذب علي" فهذا الخبر إن لم يكن قاله - عليه السلام -[فقد حصل الكذب فيما روي عنه آحادا؛ ضرورة أن الخبر مما روي عنه آحادا. وإن كان قاله عليه السلام] فلا بد وأن يقع مدلوله، وإلا لزم الكذب في كلامه وأنه ممتنع.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد منه: أن يقال فيه من الصفات ما ليس فيه، لا أنه ينقل عنه ما لم يقله؟ سلمنا أن المراد منه العموم، أو ما ذكرتم فقط، لكنه خبر واحد فلا يدل على وقوع مدلوله على سبيل القطع وإنما نحن في الخبر المقطوع بكذبه. قلت: الجواب عن الأول: أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لم يكن لتعليقه بالاستقبال معنى، فإنه كذب عليه في حال حياته بالمعنى الذي ذكرتم قيل: إنه ساحر، إنه كذاب، إنه مفتري، إنه مجنون ونحوه بل الكذب عليه بهذا المعنى كان في حال حياته عليه السلام أكثر، فإنه بعد وفاته قل المعاندون وكثر المصدقون له. وأيضا: الأمة فهمت منه ما ذكرنا فلو كان المراد ما ذكرتم لزم اتفاقهم على فهم ما ليس هو المراد منه وأنه خطأ ممتنع عليهم. وعن الثاني: أن وقوع الكذب عليه على التقديرين لازم، أعني تقدير كونه من كلامه - عليه السلام -، وتقدير أن لا يكون ذلك من كلامه، ومعلوم أنه لا خروج عن التقديرين فلا خروج عن أن يكذب عليه بالمعنى الذي ذكرناه. وثانيها: أنه حصل في الأخبار ما لا يمكن نسبته إليه - عليه السلام - للقطع بفساد مدلوله [ولعدم قبوله التأويل، وإذا كان كذلك لزم القطع بكونه كذبا. وثالثها:] ما روي عن بعضهم أنه قال: "نصف الحديث كذب" وهذا لا

يفيد القطع بالكذب عليه بل الظن الغالب به. ثم اعلم أن الكذب على الرسول - عليه السلام - ليس / (72/أ) واقعا من السلف على وجه التعدي، بل لو وقع ذلك منهم فإنما وقع على وجوه أخر: أحدها: أن أكثرهم كانوا يرون رواية الخبر بالمعنى، فربما كانوا يبدلون لفظا مكان لفظ آخر يرويه مرادفا له وهو في النفس الأمر ليس كذلك. وثانيها: أنهم ما كانوا يكتبون الأحاديث في الغالب، فإذا قدم العهد وطالت المدة، فربما نسي الراوي لفظ الرسول وفي خاطره لفظ آخر وهو يرى أن لفظ الرسول الذي سمعه منه مع أنه ليس كذلك. وثالثها: أنه ربما يروي بعض الحديث، لاعتقاده أنه تمام الحديث ويكون قد نسي الزيادة التي بها يصح الحديث. ورابعها: أنه ربما أدرك الرسول في أثناء الحديث، وهو يظن أنه تمام الحديث، فيرويه كذلك وهو بدون ما سبق لم يصح، أو ربما ظنه من كلامه

- عليه السلام - وهو ليس كذلك بل الرسول كان يحكي ذلك عن غيره ولهذا كان الرسول - عليه السلام - يستأنف الحديث إذا حس بداخل ليكمل له ما قيل ومن ذلك ما روي أنه - عليه السلام - قال: "الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار" فقالت عائشة: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حكاية عن غيره. وخامسها: أنه ربما خرج الحديث على سبب، وهو مقصور عليه، ويصح معناه به، دونه وما هذا سبيله ينبغي أن يروى مع سببه، فإذا لم يرو مع أوهم الخطأ والكذب، كما روى عنه - عليه السلام - أنه قال: "التاجر فاجر"

قالت عائشة - رضي الله عنها -: "إنما قال ذلك في تاجر دلس". وسادسها: أنه ربما كان يشتبه على الراوي كلام الرسول بكلام غيره، فيظن كلام الغير كلام الرسول - عليه السلام -، وهو نحو ما يروى أن الناس كانوا يحضرون عند أبي هريرة وهو يروي أخبار الرسول وهم بأعيانهم كانوا أيضا يحضرون عند كعب، وهو كان يروي أخبار اليهود فربما يلتبس عليهم ما سمعوا عن أبي هريرة بما سمعوا من كعب. وأما من الخلف فما ذكرناه مع زيادة وجوه أخر: أحدها: تعمد الكذب عليه تنفيرا للعقلاء عنه، وطعنا في دينه - عليه السلام - كما فعلته الملاحدة والزنادقة. وثانيها: تعمد الكذب للرغبة وطلب حطام الدنيا، كما وضعوا في ابتداء دولة بني العباس أخبارا تدل على إمامة العباس وبنيه.

وثالثها: تعمد الكذب عليه لترويج المذهب، فإن من مذهب الكرامية أنه إذا صح المذهب وظهر حقيقته جاز وضع الأخبار لتصحيحه؛ لأن فيه ترويج الحق، وقريب من هذا ما يحكى أن جمعا من الزهاد يرون وضع الأخبار في فضائل العبادات والأوقات، ويزعمون أن غرضهم من ذلك حمل الناس على العبادات، وحثهم على فعل الطاعات، فهو كالكذب المفضي إلى مصلحة الإصلاح بين الإثنين وهو جائز للحديث. ورابعها: تعمد الكذب عليه بناء على أن المسموع من غيره كالمسموع منه، نحو ما قيل: أن الإمامية يسندون إلى الرسول - عليه السلام - كلما صح عندهم عن بعض أئمتهم؛ لأنهم زعموا أن جعفر بن محمد الباقر قال:

"حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا حرج عليكم إذا سمعتم مني حديثا أن تقولوا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

الفصل الثالث في الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد وهو مرتب على أقسام:

الفصل الثالث في الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد

الفصل الثالث في الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد وهو مرتب على أقسام: القسم الأول في حقيقته وما يتعلق به من المسائل وفيه مسائل: المسألة الأولى في حقيقة خبر الواحد: أعلم أنه ليس المراد من خبر الواحد ما يرويه فقط، بل المراد منه: الخبر الذي لم ينته إلى حد التواتر سواء انتهى إلى حد الاستفاضة والشهرة، أو لم ينته إليه. فعلى هذا ينقسم خبر الواحد إلى مستفاض مشهور مفيد للظن الغالب المؤكد، وإلى ما ليس كذلك. وهو ينقسم إلى ما لا يفيد أصلا كخبر الفاسق والصبي الذي لا ثقة به، وإلى ما يفيد الظن كخبر العدل. وعند هذا نعرف فساد تعريف من عرف خبر الواحد بأنه: الذي يفيد الظن؛ فإنه غير منعكس لما تقدم، وغير مطرد أيضا، لأن القياس وغيره

المسألة/ الثانية: (73/أ) خبر الواحد العدل المتجرد عن القرائن لا يفيد العلم عند جماهير العلماء خلافا لبعض أصحاب الحديث

من أمارة الشيء يفيد ظن الشيء مع أنه ليس بخبر واحد. وذكر بعض المؤلفين من أصحابنا: أنه الذي لم ينته ناقلوه إلى حد الاستفاضة والشهرة، وهو ضعيف على رأي أصحابنا، وإنما هو يستقيم على رأي - أصحاب أبي حنيفة - رحمهم الله - لأنهم يفردون له أحكاما أصولية قريبا من أحكام الخبر المتواتر، أما أصحابنا فلا، ولأن خلاف الأصوليين في خبر الواحد غير مختص بغير المستفاض والمشهور من الأخبار بل هو مطرد فيه وفي غيره، وذلك يفيد أنه من جملة أقسام خبر المتواتر عندهم. المسألة/ الثانية: (73/أ) خبر الواحد العدل المتجرد عن القرائن لا يفيد العلم عند جماهير العلماء خلافا لبعض أصحاب الحديث. فهم إن أرادوا بقولهم: أنه يفيد العلم: أنه يفيد العلم بوجوب العمل

به، أو أنه يفيد العلم بمعنى الظن فلا نزاع فيه بيننا وبينهم وبه أشعر كلام بعضهم، إذ قال: يورث العلم الظاهر، ومعلوم أن المعلوم ليس له ظاهر فالمراد منه الظن. وإن أرادوا به: أنه يفيد الجزم بصدق مدلوله سواء كان على وجه الإطراد [كما نقل بعضهم عن الإمام أحمد، وبعض أهل الظاهر، أو لا على وجه الإطراد] بل في بعض أخبار الآحاد دون الكل كما نقل عن بعضهم فهذا باطل لوجوه: أحدها: أنه لو أفاد العلم، فإما أن يفيده بالنسبة إلى أشخاص معينين أو بالنسبة إلى كل الأشخاص، والقسمان باطلان فبطل أن يفيد العلم. أما الأول فلوجوه: أما أولا: فبالاتفاق. وأما ثانيا: فلأنه ترجيح من غير مرجح. وأما ثالثا: فبالقياس على خبر التواتر وسائر ما يفيد العلم من الأخبار والأدلة؛ فإنها لا تختص ببعض دون البعض الآخر. وأما الثاني: فلأنا مع كثرتنا وتفرقنا في شرق البلاد وغربها مطبقين على

أنا لا نجد ذلك من أنفسنا، ولو سمعنا ذلك الخبر من المنتهى إلى الغاية في العدالة، فإن كذبتمونا في ذلك حلفنا لكم بأيمان لا مخارج عنها، فإن كذبتمونا في ذلك أيضا فعلتم ما لا يليق مع أنكم لم تسلموا عن معارضة مثله في ادعاء وجدان العلم على أن تواطؤ مثل هؤلاء على الكذب يمتنع عادة. وثانيها: أنه لو أفاد العلم، فأما أن يجوزوا معه أن يخبر ثقتان بخبرين متنافيين، أولا يجوزوا ذلك، فإن كان الأول فعند حصولهما إن حصل العلم بخبريهما لزم اجتماع المتنافيين، وإن حصل بأحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح وأنه ممتنع، ولو جوز ذلك لزم أن لا يكون كل خبر ثقة مفيدا للعمل، وإن لم يحصل بقول كل أحد منهما فهو المطلوب. وإن كان الثاني فهو أيضا باطل؛ لأن الاستقراء يفيد القطع بالوقوع وهو دليل الجواز وزيادة، وإذا بطل القسمان بطل أن يقال: أنه يفيده. وثالثها: أنه لو أفاد العلم لما احتاج الحاكم إلى تزكية الشهود لما تقدم لكنه يحتاج فلا يفيده. ورابعها: لو أفاد خبر الواحد العلم لم يكن لاشتراط الشاهدين في البينة معنى، ضرورة أنه حصل العلم بقول الواحد، وليس فوق العلم مرتبة حتى يطلب تحصيله بضم شاهد آخر إليه، ولكان يقع الفناء عن المعجزة؛ إذا حصل العلم بنبوة يخبر عن نبوة نفسه لا سيما ممن لم يعهد منه قط كذب ولا فسق يخل الثقة به، والثاني باطل بالإجماع فالمقدم مثله. وخامسها: أن كل عاقل يجد من نفسه زيادة الظنون عند تعاقب الأخبار إليه إلى أن ينتهي إلى حد التواتر، ولو كان العلم حاصلا بقول الأول والثاني لما كان كذلك، إذ العلم لم يقبل التفاوت بحسب الزيادة والنقصان، وإن كان يقبل التفاوت بحسب الجلاء والخفاء؛ إذ لا فرق عندنا بين وجود بغداد وبين الصين مع أن الواصلين إلينا من بغداد والمخبرين عنها أكثر من الواصلين منه والمخبرين عنه.

وسادسها: أنه لو أفاد العلم، فإما أن يفيد علما ضروريا كما في التواتر وهو باطل بالاتفاق، أو علما نظريا وهو أيضا باطل، إذ لا قاطع يوجبه، أما أولا: فبالأصل. وأما ثانيا: فلأنا فتشنا وبحثنا ولم نجد في ذلك قاطعا ولا القائلون به؛ إذ لو وجدوه لأظهروه، إذ يمتنع عادة إخفاء الحجة من أحد الخصمين في معرض المناظرة، وما يذكرونه من الأدلة عليه لا يفيد الظن بذلك لما سنجيب عنه فضلا عن أن يفيد العلم، وهذه الطريقة وإن لم تفد العلم بعدم ذلك في نفس الأمر لما عرفت غير مرة لكنها تفيد العلم بعدم العلم بذلك من جهة العادة وهو كاف من أن لا يكون العلم به نظريا، إذ العلم بالشيء إذا كان نظريا وجب حصول العلم بموجبه، وإذا بطل أن يفيد العلم الضروري، أو النظري بطل أن يفيد العلم ضرورة أن العلم لا ينفك عن أحد هذين القسمين. وسابعها: أنه لو أفاد العلم لوجب تخطئة مخالفة وتفسيقه وتضليله إن كان مما يفسق فيه المخالف ويضلل ولو بالاجتهاد كما في أصول الدين، وكما في من خالف النص المقطوع به في الفروع بالاجتهاد، ولما حسن اختلاف العلماء في أن كل مجتهد مصيب أم لا في الحكم الشرعي الذي ورد فيه خير الواحد ولا قاطع فيه، ولجاز معارضة الخبر المتواتر به لكن اللوازم باطلة بالإجماع فالملازم مثله. واحتجوا بوجوه: أحدها: أن النصوص نحو قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ونحو قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ونحو قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} يدل على أن اتباع

الظن والقول بما لا يعلم منهي عنه، ثم أنتم ساعدتمونا، والأدلة أيضا على أنه يجب إتباع خبر الواحد في أحكام الشرع، فلو لم يكن خبرا لواحد مفيدا للعلم لما جاز اتباعه فضلا عن أن يجب ذلك. وجوابه من وجهين: أحدهما: أنه إن عنى بوجوب / (74/أ) إتباع خبر الواحد أنه يجب التصديق والقطع بصدق مدلوله فهو باطل، فأنا لا نقول به ولا الأدلة تدل عليه وإن عنى به أنه يجب العمل بمقتضاه فهذا مسلم لكن ما يدل عليه ليس بظني حتى يكون ذلك اتباعا للظن، بل هو قاطع عندنا فلا يكون اتباعه اتباعا للظن. وثانيهما: أن المراد مما ذكرتم من النصوص المنع من إتباع الظن فيما سبيله العلم لا غير نحو أصول الدين، وهذا وإن أوجب تخصيصا للعام، أو تقييدا للمطلق وهو خلاف الظاهر لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة. وثانيها: ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يستحلف الرواة سوى أبي بكر - رضي الله عنه -، وإنما لم يحلفه؛ لأن قوله كان يفيد العلم وبهذا يتمسك من فرق بين خبر وخبر. وجوابه: منعه بل إنما لم يحلفه؛ لأن ظنه بصدقه أكد من ظنه بصدق غيره ولا يلزم من تقوية أصل الظن تقوية الظن المؤكد. وثالثها: أنه لو لم يفد العلم لما أبيح قتل من أقر بالقتل، أو الزنا بعد الإحصان على نفسه، ولا بشهادة الإثنين بذلك، لاحتمال أن يكون كاذبا في إقراره، وأنهما كذبا في شهادتهما ولما وجبت الحدود [بأخبار الاحاد؛ لأن هذه الأمور يحتاط فيها، ونفيها متأيد بالبراءة الأصلية].

المسألة الثالثة ذهب الأكثرون في أنه يجوز ورود التعبد بخبر الواحد عقلا، خلافا لجماعة من المتكلمين

وجوابه: أنا لا نسلم أن كونها يحتاط فيها ومتأيدة بالبراءة الأصلية يقتضي عدم جواز إثباتها بالظنى؛ وهذا لأنه ليس معنى قولنا يحتاط فيها لأنه لا تثبت إلا بالعلم، بل إنه يراعى فيها ما لا يراعى في غيره فيحتاج فيه إلى مزيد ظن بالنسبة إلى غيره. ورابعها: لو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم لما كان الخبر الواحد المتواتر مفيدا له؛ لأنه إذا لم يحصل العلم بقول الأول منهم لم يحصل بقول الثاني والثالث وهكذا جميع أعداده واللازم باطل فالملزوم مثله. وجوابه: منع اللازم وما ذكره دلالة عليه فغير لازم؛ لأنه جاز أن لا يحصل بقول الأول والثاني، ولكن يحصل بقول المجموع، فإن حكم المجموع لا يجب أن يكون متساويا لحكم آحاده من كل الوجوه والعلم بذلك ضروري. المسألة الثالثة ذهب الأكثرون في أنه يجوز ورود التعبد بخبر الواحد عقلا، خلافا لجماعة من المتكلمين.

لنا وجوه: أحدها: أنه لو استحال فإما أن يستحيل لذاته، وهو باطل؛ لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرا إلى ذاته وهو ظاهر، أو لغيره وهو أيضا باطل. أما أولا: فلأنه لو فرضنا تصريح الشارع بذلك بأن يقول: مهما ظننتم صدق الخبر المروي عنه فاعلموا أني أوجبت عليكم العمل بمقتضاه لم يلزم منه لا لذاته، ولا لأمر خارجي محال. وأما ثانيا: فلأنه لو استحال لذلك فإنما هو لحصول المفسدة على تقدير كونه كذبا؛ لأن القول باستحالته لغيره بغير هذا المعنى باطل بالإجماع، لكن ذلك باطل أيضا. أما أولا: فلأن القول بالتحسين والتقبيح باطل، والتعليل بحصول المصالح والمفاسد العقلية في الشرع بدونه محال. واما ثانيا: فلأنه ورد الشرع بوجوب العمل على مقتضى الظن من غير اعتبار مطابقته لما هو الواقع في نفس الأمر كما فيما إذا ظن صدق الشاهد والمفتي، وظن جهة القبلة وظن الأسير دخول شهر رمضان، وظن دخول وقت الصلاة في يوم الغيم، ووجوب ركوب البحر، ودخول البراري، إذا ظن السلامة، والمداواة إذا ظن أنه لم يفض إلى الهلاك فلو كان احتمال الخطأ على تقدير كذبه مانعا من الوجوب والجواز لما ثبت الوجوب والجواز فيما ذكرنا من الصور، وحيث ورد دل على أنه غير مانع منه.

وثانيها: أنه إذا رتب وجوب العمل على ظن صدق خبر الواحد، فها هنا مدرك الوجوب هو ظن صدقه لا صدقه، وظن صدقه معلوم قطعا فكان مدرك الوجوب معلوم قطعا فلا يحتمل الغلط والخطأ فكان جائزا، كما إذا رتب وجوب العمل على العلم بصدق الخبر في المتواتر وغيره، وهذا هو المعنى من قول الأصوليين: "إن الحكم معلوم قطعا، والظن وقع في طريقه". وثالثها: أنا سنبين أنه وقع التكليف بالعمل بمقتضى خبر الواحد وذلك يدل على الجواز وزيادة. احتجوا بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، وقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا}. وجوابه ما سبق من الوجهين، ويخصه وجهان آخران: أحدهما: أنها لا تدل على عدم جواز ورود التعبد بالظن وهو الذي فيه النزاع بل لو دلت فإنما تدل على عدم الوقوع، ولا يلزم من عدم الوقوع عدم الجواز. وثانيهما: أنه لازم عليكم أيضا، فإن حكمكم بعدم جواز ورود التكليف بخبر الواحد اتباع للظن أيضا، إذ ليس عليه دليل قاطع فكان يجب أن لا يجوز وأما ادعاء أن عليه دليلا قاطعا مع أن ما يذكرونه لا يفيد الظن فضلا عن العلم مكابرة محضة.

وثانيها: أن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد، وإلا لزم العبث وهو منفي عن الحكيم، وتجويز الأمر باتباع خبر الواحد مع احتمال كونه كذبا مفضيا إلى سفك دم معصوم، واستحلال بضع محرم تجويز للأمر باتباع المفاسد وأنه ينفي البناء على المصالح ودفع المفاسد؛ ولهذا لم يجز ورود التكليف بالعلم بخبر الفاسق والصبي في الأحكام الشرعية وفاقا. ولا ينقض هذا بالشهادة، فإنه أيضا محتملة للكذب مع ورود التكليف / (75/أ) باتباعها؛ لأن الفرق بينهما حاصل من وجهين: أحدهما: أن الخبر يثبت شرعا عاما في حق الكل بخلاف الشهادة فإنها لا تثبت، بل هي شرط للإثبات لا في حق كل بل في أشخاص جزئية. وثانيهما: أن اتباع الشهادة من قبيل الضرورات التي لا يمكن الانفكاك عنها في الدين؛ إذ لا سبيل إلى إثبات الحقوق الجزئية المتعلقة بالأشخاص الجزئية إلى طريق قاطع، إذ التنصيص على ذلك من الشارع متعذر حتى يمكن أن يقال أنه كان يجب على الشارع تبليغ تلك النصوص إلى عدد التواتر، وكذا إشهاد الجمع العظيم الذي يحصل التواتر بقولهم؛ لأن ذلك لا يتهيأ في كل وقت وفي كل شخص وفي كل واقعة، ولأن اجتماعهم على تحمل الشهادة وأدائها مما يوهم بالتواطؤ على الكذب فربما لا يحصل العلم بقولهم فيفضي إلى ضياع الحقوق، بخلاف اتباع خبر الواحد فإنه ليس من الضرورات؛ إذ يمكن للشارع أن يبلغه إلى عدد التواتر، وبتقدير أن لا يجب عليه ذلك فلم يبلغه إليهم، أو وإن بلغه لكن ربما لم يبق متواترا فيما بعد كان يوجب علينا العمل بالبراءة الأصلية اليقينية وبالأقيسة اليقينية فلم يلزم من جواز ورود التعبد بالشهادة جواز ورود التعبد بخبر الواحد. ولا ينقض أيضا بورود التكليف باتباع قول المفتي مع أنه لا يفيد إلا الظن؛ لأن ذلك أيضا من قبيل الضرورات؛ إذ لا يمكن تكليف الخلق كلهم بتحصيل رتبة الاجتهاد لما فيه من اختلال مصالح العالم، ولعدم صلاحية الكل لذلك.

وجوابه: [أنه] عنى بقوله: إن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد أنها مبنية عليها عقلا فممنوع؛ وهذا لأنه قد تقدم القول ببطلان التحسين والتقبيح العقلي. وإن عنى بها: أنها مبنية عليها شرعا فمسلم، لكنه لا يفيد لكون النزاع في جوازه واستحالته إنما هو من جهة العقل لا من جهة الشرع. سلمنا لكن لما أوجب علينا العمل بما يغلب على الظن صدقه وإن كذب الخبر في نفسه لم يكن ذلك أمرا باتباع ما يجوز أن يكون مفسدة؛ لأن المأمور به هو اتباع ظن الصدق وهو معلوم قطعا يجده المجتهد من نفسه وعند وجوده من نفسه يوجب عليه العمل بمقتضاه وإلا لم يلزمه ذلك لاتباع صدق الخبر الذي هو محتمل فلم يلزم منه تجويز الأمر بالمفسدة. لا يقال: إن الفعل إذا لم يكن منشأ للمصلحة لم يصر بسبب كونه مظنونا منشأ للمصلحة؛ لأن الظن لا يصير ما ليس بمصلحة؛ لأنا نمنع ذلك، وكيف لا ومدارك الأحكام معرفات ولا امتناع في أن يجعل الظن معرفا لذلك. أما تجويز الأمر بالعمل بخبر الفاسق والصبي فلا نسلم امتناعه عقلا بل يجوز. سلمنا أنه لا يجوز، لكن لا نسلم لأجل احتمال كونه كذبا، بل لأنه لم يغلب على الظن صدقه. وثالثها: لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الأحكام الشرعية الفرعية، لجاز في الأصول بجامع حصول غلبة الظن بصدقه، واللازم باطل فالملزوم مثله.

وجوابه: منع الملازمة؛ وهذا لأن المطلوب في الأصول هو العلم واليقين وخبر الواحد لا يفيده كما تقدم، بخلاف الفروع فإنه يكفي فيها الظن وخبر الواحد يفيده، ومع اختلاف المناط لا يصح القياس. ورابعها: أن أخبار الآحاد قد تتعارض بحيث يمتنع ترجيح أحدها على الآخر، فلو جاز ورود التكليف بها لجاز ورود التكليف بما لا يمكن العمل به، ضرورة أنه لا يمكن العمل بها عند التعارض وعدم الترجيح. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يمكن العمل بها عند التعارض وعدم الترجيح وهذا لأنه يتخير المجتهد فيه فيعمل بأيهما شاء. سلمنا امتناعه لكن امتناع العمل بالشيء في بعض موارده لعلة تخصه لا يقتضي امتناع ورود التكليف بالعمل به حيث لا يمتنع العمل به. وخامسها: لو جاز أن يقول الله تعالى: (مهما غلب على ظنكم صدق راوي الخبر الواحد فاعلموا أني أوجبت عليكم العمل بمقتضاه) لجاز أن يقول: "مهما غلب ظنكم صدق مدعي النبوة فاعلموا أني أوجبت عليكم قبول قوله وشرعه"؛ لأنا في كلتا الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظن الذي هو أمر وجداني يجده كل عاقل من نفسه، واللازم باطل فالملزوم مثله. وجوابه: منع امتناع اللازم إذ ذاك، سلمناه لكن إنما كان كذلك؛ لأنه يعتبر أن يكون الدال على النبوة قاطعا بالإجماع، وفيما ذكرتم من الصورة وإن وجد القطع في الدال على وجوب الأخذ بقوله، لكنه لم يوجد في الدال على

المسألة / (76/أ) الرابعة القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في ورود التعبد به

نبوته إذ خبر الواحد لا يفيد القطع فلا جرم لم يجز ورود التكليف به؛ لعدم تحقق شرطه إذ ذاك بخلاف الفرعيات، فإنه لا يعتب في الدال عليها القطع لا في متنه ولا في دلالته عندنا، فإن قال الخصم أيضا به ظهر الفرق إجماعا وإلا فيصلح دفعا لنا. وسادسها: لو جاز ورود التعبد بمظنون كلام الرسول لجاز ورود التعبد بمظنون كلام الله تعالى والجامع دفع ضرر مظنون، وفيه تجويز إثبات كلام الله تعالى بنقل الآحاد وهو ممتنع. وجوابه: لا نسلم امتناع ذلك؛ وهذا لأن لام الله تعالى من حيث هو كلامه يجوز أن يثبت بنقل الآحاد، وإنما يمتنع إثبات القرآن بنقل الآحاد لخصوص كونه معجزا، فإن المعجز يجب أن ينقل متواترا لا لعموم كونه كلام الله تعالى. المسألة / (76/أ) الرابعة القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا اختلفوا في ورود التعبد به. فمنهم من قال: لم يرد التعبد به، لكن منهم من قال بذلك؛ لأنه لم يوجد في السمع ما يدل على ورود التعبد به فوجب نفيه؛ إذ لا يجوز إثبات الحكم الشرعي إلا بدليل شرعي، وليس هو من قبيل أن ما لا يوجد عليه دليل فإنه لا يجب نفيه، ومنهم من قال بذلك؛ لأنه وجد في السمع ما يدل على المنع من اتباعه، وهؤلاء قالوا بتحريم اتباعه كالقاشاني، وجماعة

من القدرية وجماعة من أهل الظاهر. ومنهم من قال بورود التعبد به، وهؤلاء اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه. واختلفوا في أن الدليل العقلي هل دل عليه أم لا؟ فذهب الأكثرون منا، ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى نفيه، وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية. وذهب الأقلون من الفريقين كابن سريج.

والقفال منا وأبي الحسين البصري من المعتزلة إلى أن الدليل العقلي دل عليه أيضا، وهو قول الإمام احمد بن حنبل. هذا كله في في أخبار الآحاد التي يثبت بها شرع عام، فأما ما ليس كذلك. كالإخبار عن الأمور الدنيوية، نحو الإخبار عن الأرباح، والأغذية، والأدوية، وفي الفتوى والشهادات فاتفق الكل على جواز العمل بها فيها. لنا: النص، والسنة المتواترة، والإجماع، والقياس، والمعقول. أما النص فآيات:

أحدها: قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعو إليهم لعلهم يحذرون}. ووجه الاحتجاج بها: إنه تعالى أوجب الحذر على القوم بإنذار الطائفة لهم، والطائفة هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم، والإنذار هو: الإخبار المخوف، ومتى كان كذلك لزم أن يكون خبر الواحد حجة. وإنما قلنا: أنه تعالى أوجب الحذر على القوم بإنذار الطائفة لهم لوجهين: أحدهما: أن المفسرين أطبقوا على أن كلمة "لعل" من الله للتحقيق؛ لأن الترجي في حقه محال. ثم إنه إن دخل على ما هو مضاف إلى الله تعالى حمل على التحقيق كما

في قوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}. وإن دخل على ما هو مضاف إلى المكلفين حمل على سبب التحقيق وهو الوجوب؛ ضرورة أنه لا يمكن حمله على نفس التحقيق، إذ قد لا يتحقق ذلك الشيء منهم، وذلك نحو قوله تعالى: {لعلهم يتقون} و {لعلكم بلقاء ربكم توقنون}. وثانيهما: أن قوله: {لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} يدل على طلب الحذر؛ لأن كلمة "لعل" للترجي، وهي في حق الله تعالى محال، والطلب لازم له؛ لأن من ترجى شيئا طلبه لا محالة، وإذا تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على المجاز الملازم له، وذلك الطلب إما يكون بمعنى ميل النفس وهو في حقه محال، فيكون بمعنى الطلب الذي هو الاستدعاء، وهو إما مع المنع من تركه، أولا مع المنع منه، والثاني باطل؛ لأن أحدا من الأمة لم يذهب إليه؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة أن العمل بخبر الواحد مندوب، وليس بواجب بل القائل فيه قائلان: أحدهما بالوجوب، والآخر بعدم الجواز، وإذا بطل الثاني تعين الأول وهو المطلوب. وإنما قلنا: أن الطائفة هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم لوجوه:

أحدها: أن الله تعالى طلب أن ينفر [من] كل فرقة طائفة، والثلاثة فرقة لوجهين: أحدهما: النقل عن أئمة اللغة، فإنهم قالوا: الفرقة: طائفة من الناس، ومعلوم أن الطائفة من الناس يصدق على الثلاثة. وثانيهما: أن الفرقة من فرق أو من فرق كالقطعة من قطع أو من قطع والكسرة من كسر أو كسر فكل شيء حصلت الفرقة أو التفريق فيه كان فرقة كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه كان قطعة، وكل ما حصل الكسر أو التكسير فيه كان كسرة، مقتضى هذا أن يكون الواحد والاثنان فرقة؛ لأنه يمكن أن يحصل فيه الفرقة حين يكون مع الآخر، ترك مقتضى هذا في هذه الآية أو مطلقا إن ثبت عنهم أنهم لا يطلقون على الواحد والإثنين فرقة للضرورة، فوجب أن يبقى فيما عداه معمولا به على الأصل، والطائفة من الثلاثة إما واحد أو الإثنان، وقد سبق أن قول الواحد والإثنين لا يفيد العلم فثبت أن المراد من الطائفة هنا قول من لا يفيد قوله العلم. وثانيها: أن الطائقة قد استعملت فيمن لا يفيد قولهم العلم كالثلاثة والأربعة، وفيمن يفيد قولهم العلم، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والتجوز، وهو إما أقل العدد، أو ما هو جزء منه. وثالثها: أنه لو كان المراد من الطائفة في الآية: العدد الذي يفيد قولهم العلم لوجب على الفرقة التي هم عدد التواتر، أو أزيد منه أن يخرجوا بأسرهم، أو العدد الذي يفيد قولهم العلم، لكن ذلك باطل بالإجماع؛ فإن أحدا من الأمة لم يقل بوجوب خروج أهل القرية بأسرهم للتفقه إذا كان بدونهم لم يحصل عدد التواتر، ولا بوجوب خروج أهل التواتر من بلد كبير إذا كان يكفيهم أن يتفقه لهم واحد أو اثنان.

وإنما قلنا: أن الإنذار هو الخبر المخوف فبالنقل والاستعمال، وكلاهما ظاهران. وإنما قلنا: أنه متى كان كذل لزم أن يكون خبر الواحد حجة؛ لأنه إذا روى الراوي خبرا مخوفا مقرونا بالوعيد، إما على فعل الشيء أو على تركه. فإن لم يجب الحذر عنه كان ذلك مخالفة للآية. وإن وجب لزم وجوب العمل بالخبر / (77/أ) في سائر الصور سواء كان مخوفا، أو لم يكن مخوفا؛ لئلا يلزم قول ثالث خلاف الإجماع، فإن الفرق بين الخبر المخوف، وبين الخبر الغير المخوف في وجوب العمل، وعدم وجود العمل قول لم يقل به أحد من الأمة، وإذا ثبت وجوب العمل بالخبر في سائر الصور لزم أن يكون خبر الواحد حجة؛ إذ لا نعني بكونه حجة سوى هذا. ولا يحتاج في تقدير دلالة هذا المسلك على المطلوب إلى إثبات وجوب الإنذار على المتفقه كما زعمه بعضهم إذ ذكره وهو مشعر باعتقاده وجوب ذكره وإلا لكان مستدركا، فإن المطلوب حاصل على تقدير وجوب الحذر عند الإنذار سواء وجب الإنذار أو لم يجب. فإن قلت: لا نسلم أن الآية تقتضي وجوب الحذر. وأما قولكم: لما تعذر حمل قوله تعالى: {لعلهم يحذرون} على حقيقته حمل على التحقيق، أو على سبب التحقيق، أو على الطلب الملازم للترجي فمبني على عدم مجاز آخر أولى مما ذكرتم وهو ممنوع.

سلمناه، لكن لا نسلم أن المراد من الطائفة هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم. أما ما ذكرتم من الوجه الأول من الدلالة عليه فمبني على أن كل ثلاثة فرقة وهو ممنوع، وما ذكرتم من الدلالة عليه فالوجه الأول منه ليس فيه دلالة؛ وهذا لأنا لا نسلم أن الطائفة من الناس يصدق على الثلاثة، ولو سلمنا لكم ذلك لسلمنا لكم المطلوب من غير حاجة إلى الاستدلال بأن كل ثلاثة فرقة. سلمناه لكن لعل مرادهم طائفة مخصوصة من الناس، ولا كل ما صدق عليه اسم الطائفة. وأما الثاني، فمعارض بما يقال: أن الشافعية فرقة واحدة، والحنفية فرقة واحدة لا فرق، ولو كان كل ثلاثة فرقة لما صح هذا النفي والإثبات. وأما الوجه الثاني فهو: أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل، لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الدليلين، فإن ما يدل على أن قول الواحد والإثنين لا يجوز العمل به، يدل على أن الطائفة ليست حقيقة في الواحد والإثنين. وأما الثالث، فمعارض أيضا: بأنه لو كان كل ثلاثة فرقة لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد للتفقه وهو خلاف الإجماع. سلمنا أن الطائفة [تصدق في أصل الوضع على] عدد لا يفيد قولهم العلم، لكن ليس هو المراد منها هنا؛ لأن قوله: {لينذروا} ضمير جمع وأقله ثلاثة، والطائفة من الفرقة واحد أو اثنان على ما ذكرتم، فيمتنع عود الضمير إليه فيجب حمله على مجموع الطوائف ولعلهم يبلغوا عدد التواتر. سلمناه لكن ما المراد من الإنذار في الآية؟ مطلق الإنذار، أو الإنذار المرتب على التفقه.

والأول ممنوع؛ وهذا فإن اللفظ وإن أن ظاهرا فيه من حيث الوضع لكن سياق الآية يدل على أن المراد منه الإنذار المرتب على التفقه؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، والإنذار المرتب على التفقه إنما هو الفتوى لا الرواية؛ لأن رواية غير الفقيه مقبولة بالاتفاق. والثاني مسلم ونحن نحمله على الإنذار الحاصل من الفتوى، وقول الواحد فيه مقبول بالاتفاق فإن قلت: الحمل على الفتوى يوجب تخصيص القوم بالعوام؛ إذ ليس لغيرهم العمل بفتوى الغير، والتخصيص خلاف الأصل فلا يصار إليه من غير دليل. قلت: الحمل على الرواية يوجب تخصيص القوم بالمجتهدين أيضا فلا يجوز لغيرهم العمل بالحديث المروي عنه - عليه السلام - فإن وظيفتهم التقليد فالتخصيص إن لزم فهو لازم على المذهبين، فلم قلتم أن تخصيصكم أولى وعليكم الترجيح؟ ثم أنه معنا؛ لأن التخصيص كلما كان أقل كان أولى وأوفق للأصل ولا شك أن المجتهد أقل من غيره، فإخراجه من إرادة اللفظ أولى من إخراج غيره. سلمنا أن المراد منه مطلق الإنذار، لكن لا شك أن مطلق الإنذار قدر مشترك بين الإنذار بالفتوى، وبين الإنذار بالرواية بدليل صحة تقسيمه إليهما، ولأن من أتى بفعل محرم، فروى له إنسان خبرا بأن فاعله في النار فقد يقال أنذره؛ لأنه أتاه بخبر مخوف، والأمر بالماهية الكلية المشتركة بين جزئيات كثيرة ليس أمرا بتلك الجزئيات بأسرها، ولا بشيء من جزئياتها عينا بل هو أمر بإدخال الماهية في الوجود، ويكفي في ذلك الإتيان بجزئي واحد من جزئياتها؛ لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك في الوجود، والقدر المشترك حاصل في كل جزئي من جزئياته، فإذا أدخله في الوجود فقد حصل المطلوب ونحن إذا قلنا بكون الفتوى حجة كان ذلك كاف في العمل بمقتضى النص فلا يبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية. سلمنا أن المراد من الإنذار: الرواية إما وحدها فقط، أو مع الفتوى لكن

لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإنذار من فعل شيء، أو تركه بناء على ما علم فيه من المصلحة والمفسدة العقليتين، أو الشرعيتين بناء على دليل آخر لا على هذا الخبر؟ سلمنا امتناعه، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه رواية أخبار الأولين، وما فعل الله تعالى بالمكذبين لأنبيائهم، ولأهل المعاصي للاتعاظ بها على ما قال الله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}. سلمنا أن المراد منه رواية الأخبار الشرعية، لكن لا نسلم أن وجوب الحذر بسبب رواية تلك الأخبار يوجب / (78/أ) العمل بها؛ وهذا لأنه لا يجوز أن يحذر عن ذلك الفعل إذ ذاك للاحتياط حتى إن كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى المفتي، وإن كان غيره نظر في سائر الأدلة فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك الفعل امتنع منه وإلا عاد إليه. قلت: الجواب عن الأول: أما كون الآية تقتضي وجوب الحذر فلما سبق. قوله: ذلك مبني على عدم مجاز آخر أولى منه وهو ممنوع. قلنا: الأصل عدم مجاز آخر، ولو سلم أن هناك مجازا آخر لكن ما ذكرناه أولى؛ إذ الأصل عدم ملازم آخر له. سلمنا أنها لا تقتضي وجوب الحذر، لكن لا يستراتب في أن قوله: {لعلهم

يحذرون} يقتضي حسن الحذر، وذلك يقتضي جواز العمل بخبر الواحد، وإذا لزم ذلك لزم وجوب العمل به، لئلا يلزم قول ثالث خلاف الإجماع، فإن منهم من يقول بوجوب العمل به، ومنهم من يقول بعدم جواز العمل به، فأما الجواز بلا وجوب فقول لم يقل به أحد. وأيضا: إن قوله: {لعلهم يحذرون} يقتضي إمكان تحقق الحذر. والحذر هو: التوقي عن المضرة، والمضرة إما عاجلية، أو آجلية. وليس المراد من الحذر: الحضر عن المرة العاجلية، لأن الفعل الذي يمنع خبر الواحد عنه قد لا يكون مضرا في الدنيا، فيتعين أن يكون المراد منه الحذر عن المضرة الآجلية، وإلا لزم أن لا يكون الحذر ممكنا، لأنه يلزم من انتفاد تحقق المضرة: انتفاء تحقق الحذر، والمضرة الآجلية هي العقاب، وإذا كان الفعل بحال يحذر عنه، فلا بد وأن يكون بحال يترتب العقاب على فعله ولا نعني بقولنا: "خير الواحد حجة" إلا أن الفعل الذي يمنع عنه خبر الواحد يكون فعله سببا للعقاب في الآخرة. وعن الثاني: أما المنع فمندفع لما تقدم من الدلالة. قوله: الوجه الأول: منه مبني على أن كل ثلاثة فرقة. قلنا: نعم. قوله: الوجه الأول من وجهي الدلالة على أن كل ثلاثة فرقة ليس فيه دلالة، لأنا لا نسلم أن الطائقة من الناس تصدق على الثلاثة. قلنا: الدليل عليه النقل والاستعمال: أما النقل فقال أئمة اللغة: "الطائفة من الشيء قطعة منه".

ومعلوم أن الثلاثة بل الواحد قطعة من الناس. وأما الاستعمال فقال الله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}. قال ابن عباس - رضي الله عنه - "الواحد فما فوقه طائفة". وهذا يصلح أن يكون دليلا ابتداء على أن الطائفة من الناس تصدق على ما دون عدد التواتر كصدقها على عدد التواتر من غير رد إلى بيان أن كل ثلاثة فرقة. قوله: سلمناه لكن لعل مرادهم: طائفة مخصوصة من الناس، لا كل ما تصدق عليه الطائفة. قلنا: الأصل في الإطلاق هو الحقيقة، والتخصيص والتقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه بمجرد الاحتمال. قوله: الوجه الثاني معارض بما يقال: إن الشافعية الحنفية فرقة واحدة قلنا: ذاك باعتبار المذهب الذي به امتازوا عن غيرهم، كما ورد في الحديث "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" فجعل صاحب مذهب واحد فرقة واحدة باعتبار المذهب، وأما بحسب الأشخاص فهم فرق عديدة. قوله على الوجه الثاني: أن المجاز وإن كان خلاف الأصل، لكنه يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، والجمع بين الدليلين مما يوجب المصير إليه. قلنا سنجيب عما تزعمون دليلا على أن قول الواحد أو الإثنين غير مقبول فلا يتحقق الجمع بين الدليلين.

قوله على الوجه الثالث: إنه معارض بما ذكرتم. قلنا: ترك العمل به في حق ما ذكرتم من الحكم فيبقى معمولا به في الباقي. فإن قلت: هذا يتأتى لنا أيضا بالنسبة إلى دلالتكم. قلنا: لا نسلم، وهذا لأنه إنما يتأتى لكم هذا أن لو دللتم على أن الطائفة لا تصدق على ما دون عدد التواتر، وسلم لكم ذلك الدليل حتى يمكنكم أن تقولوا: ترك العمل بمقتضاه بالنسبة إلى هذا الحكم فوجب أن يبقى معمولا به في الباقي. قوله: الطائقة وإن كان في أصل الوضع تصدق على ما دون عدد التواتر، لكن ليس ذاك هو المراد. قلنا: الأصل إرادة الحقيقة، وهو ما صدق عليه الطائفة، والتخصيص بعدد التواتر بخلاف الأصل. قوله: تعذر الحمل عليه، لأن قوله: {لينذروا} ضمير جمع. قلنا: لا نسلم أن ذلك مما يوجب امتناع الحمل عليه؛ وهذا لأن الضمير في قوله: {لينذروا} إنما يرجع إلى مجموع الطوائف وإذا قوبل مجموع الطوائف بمجموع الأقوام يقتضي [مقابلة كل واحد من الطائفة لكل واحد من الأقوام، لأن مقابلة الجمع بالجمع] يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فكون مجموع الطوائف عدد التواتر لا يضرنا، لأن الطائفة المنذرة لقومها إنما هي الطائفة [التي خرج منها، وهي دون عدد التواتر لما سبق لا مجموع الطوائف] التي تبلغ عدد التواتر بدليل قوله: {لينذروا قومهم إذا رجعوا

إليهم}، فإنه لا يقال حقيقة: فلان رجع إلى قومه إلا إذا كان فيهم أولا وهم منهم، فلا يكون مجموع الطوائف هو المنذر لكل قوم قوم من تلك الأقوام. وعن الثالث: أن التفقه في الزمان الأول ليس إلا سماع القرآن والأخبار وروايتها، ولهذا كان أكثرهم حفظا أكثرهم فقها، ولأنه ليس في ذلك العصر فروع مدونة حتى يكون طلبها وتعلمها تفقها، بل ليس إلا نصوص الكتاب والسنة. سلمنا أن التفقه ليس منحصرا فيه لكن لا شك أنه من التفقه. / (79/أ) سلمنا أنه ليس منه لكن الحمل على الفتوى متعذر للتخصيص المذكور. قوله: التخصيص لازم على المذهبين. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن الخبر كما يروى للمجتهد، فقد يروى لغيره، وإن كان لا يجوز له العمل بمقتضاه، لكن ليست فائدة الرواية منحصرة في العمل حتى يلزم من امتناعه امتناع الرواية له، فإنه قد يروى له لينزجر عن الفعل في الحال، ويصير ذلك داعيا له إلى الرجوع إلى المفتي في ثاني الحال، ولتقوية ظنه بحقية ما أفتاه، ولكونه يروي لغيره وهذا الأخير وإن كان ليس فيه إنذار لكنه من جملة فوائد الرواية لغير المجتهد. وعن الرابع من وجوه: أحدها: أن الأمر إذا كان بالقدر المشترك، والقدر المشترك في كل واحد من الجزئيات الداخلة تحته حاصل على السواء كان الإتيان بكل واحد منها جائزا نظرا إلى ذلك الدليل، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح فيكون العمل بخبر الواحد جائزا، ومتى لزم ذلك لزم أن يجب العمل به عينا؛ ضرورة أنه لا قائل بالفصل كما تقدم.

وثانيها: أن قبل ورود هذه الآية، إن كان الأمر بالفتوى واردا لم يجز حمل هذه الآية عليه؛ لأنه تكرار من غير فائدة. ولو جاز لفائدة التأكيد على بعد فإن تأكيد الخاص بالعام بعيد، لكن الحمل على غيره أولى؛ ضرورة أن الفائدة على هذا التقدير فائدة تأسيسية، وعلى التقدير الأول تأكيدية وإن لم يكن واردا وجب حمل الأمر على الصورتين، دفعا للإجمال وتكثيرا للفائدة. وثالثها: أنه رتب وجوب الحذر أو حسنه أو تجويزه على مسمى الإنذار الذي هو قدر مشترك بين الفتوى والإخبار فوجب أن يكون علة له لما ستعرف، وإذا كان علة له وجب أن يثبت الحكم أينما ثبتت العلة، وبهذا خرج الجواب عن الخامس والسادس. وعن السابع: أن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل إلا بعد أن يعلم جواز ذلك الفعل؛ إما بتطابق المسلمين على فعله، وإما بالاستغناء من جهة المفتي، وحينئذ لم يجب عليه الرجوع إلى المفتي ثانيا، وأما المجتهد فإنه لا يجب عليه التوقف عما يظنه جائزا بدليل حتى بالبراءة الأصلية عند سماع ما ليس بدليل بالإجماع، فلو وجب التوقف عند سماع خبر الواحد فإنما يكون لكونه دليلا وهو المطلوب. وثانيها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}. ووجه الاستدلال به من وجوه: أحدها: أن كون خبر الواحد خبر واحد وصف لازم له لا يمكن انفكاكه عنه، فلو اقتضى ذلك أن لا يكون مقبولا لم يجز تعليل عدم قبوله بكون راويه فاسقا؛ لأن كون راويه فاسقا وصف غير لازم له بل عرضي مفارق،

والوصف اللازم للشيء، إذا كان مستقلا باقتضاء الحكم له لم يجز تعليله بوصف عارض مفارق له شرعا، وعقلا، وعرفا: أما الأول؛ فلأنه لما لم يثبت القرآن بنقل الآحاد لم يجز تعليل ذلك بكون ناقله فاسقا. وأما الثاني، فلأنه لو علل به، فإما أن يعلل عين الحاصل باللام أو مثله، والأول تحصيل الحاصل، والثاني جمع بين المثلين. وأما الثالث؛ فلأنه يقبح أن يقال في العرف: "الميت لا يكتب، لعدم الدواة والقرطاس عنده" لكنه معلل به للآية، فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية لا سيما إذا كان مناسبا، ولأنه لو لم يكن علة لعدم القبول بل إنما لم يقبل رواية غير الواحد لكان الحكم الثابت في رواية الفاسق كالحكم في رواية غيره فإن من لا يقبل رواية الواحد الفاسق، ورواية غيره مجزوم بالرد فرواية الفاسق أيضا كذلك. وذلك خلاف صريح قوله تعالى: {فتبينوا} فدل على أنه علة له. وثانيها: أنا بينا أن مفهوم الشرط والصفة حجة، وذلك يدل على [أن] رواية العدل لا يجب فيها التبيين، ثم عدم التبيين إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله والأول باطل، وإلا لكان خبر العدل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهو خلاف الإجماع، وإذا بطل الأول تعين الثاني وهو المطلوب. واعترض على هذا وعلى أكثر هذا النوع من الاستدلال: بأن دلالته ظنية، والمسألة علمية فلا يجوز الاستدلال عليها بما لا يفيد القطع. وجوابه: أنه [إن] قيل: المسألة ظنية على ما هو رأي بعض الأصوليين في هذه المسألة وأمثالها فقد سقط هذا السؤال بالكلية.

وإن قيل: بأنها علمية على ما هو رأي أكثر المتقدمين فجوابه: أن المطلوب إفادة القطع من مجموع الأدلة الظنية التي نذكرها، لا القطع بكل واحد منها ولا امتناع في ذلك. واعترض عليه أيضا: بأن ما ذكرتم وإن دل على أن عدم القبول معلل يكون الراوي فاسقا لكن قوله تعالى: {أن تصيبوا قوما بجهالة} يدل على أنه معلل بعدم إفادته العلم؛ إذ الجهالة هنا عبارة عن عدم القطع بالشيء لا القطع بالشيء مع أنه ليس كذلك، فإن خبر الفاسق لا يفيد ذلك حتى يحسن أن يقال: أن تصيبوا قوما بجهالة، بل إنما يفيد النوع الأول، وخبر الواحد العدل يشاركه في ذلك فوجب أن لا يقبل. وجوابه: أن الظن كثيرا ما يطلق على العلم، والعلم على الظن. قال الله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} أي علموا. وقال: {وظنوا أنه واقع بهم} {وظنوا أنهم أحيط بهم}. وقال: {فإن علمتوهن مؤمنات} / (80/أ) أي ظننتموهن.

فالجهالة والجهل يستعمل فيما يقابل هذين المعنيين. فالمعنى من الجهالة هنا: ضد العلم الذي بمعنى الظن، فيكون عبارة عن عدم الظن، فالمعمل بخبر الفاسق عمل بجهالة؛ لأنه ليس فيه علم أي ظن. أما العلم بخبر الواحد العدل ليس عملا بجهالة؛ ضرورة أنه يفيد الظن فليس فيه جهالة بمعنى عدم الظن. وثالثها: وهو ما روي في نزول هذه الآية، وهو أن النبي - عليه السلام - بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا فرجع إليه، وأخبر أن الذين بعثه إليهم ارتدوا، وأرادوا قتله، فعزم - عليه السلام - على قتالهم وغزوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبره أنه ليس بعدل، فلو لم يجز العمل بناء على أخبار الآحاد لما جاز للنبي عليه السلام أن يعزم على قتالهم بناء على خبر. وما يقال: بأنا لا نسلم أنه - عليه السلام - عزم على قتالهم، فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الولي إليهم، وأمره بالتثبت في أمرهم، فانطلق حتى آتاهم ليلا فبعث عيونه، فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام، وأنهم سمعوا أذانهم فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى منهم ما يعجبه، فرجع إلى النبي - عليه السلام - وأخبره بذلك فليس بقادح.

يوضحه: بأنه ما بعثه إلا ليبني على أخباره ما ينبغي أن يعمل، وبإخباره وبإخبار من معه من الاثنين أو الثلاثة ليس يصير ذلك الخبر متواترا، فلو لم يجز العمل بناء على أخبار الآحاد لم يكن في بعثه فائدة، وبالجملة كون النبي - عليه السلام - يعمل في الغزوات والأسفار بناء على أخبار الآحاد كالمعلوم بالضرورة بعد استقراء سيره وأحوال أسفاره. وبهذا يعرف اندفاع ما يقال عليه: أن بتقدير أن يصح ذلك فإنه من باب أخبار الآحاد، فإثبات حجبيته بناء عليه إثبات للشيء بنفسه. وثالثها: قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية. ووجه الاستدلال بها: أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى فيكون كتمان الهدى محرما، فيكون الإظهار واجبا، ولا شك أن ما سمعه الواحد من النبي - عليه السلام - من أحكام الدين من جملة الهدي فيكون إظهاره واجبا، وإنما يكون إظهاره واجبا أن لو وجب علينا قبوله، وإلا لم يكن في إظهاره فائدة؛ فإن وجوده كعدمه حينئذ فلا يجب. فإن قيل: لعل المراد منه: التواعد للعدد الذين يفيد قولهم القطع، وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على المطلوب. سلمناه لكن المراد منه: ما أنزل من البينات والهدي مما يتلى من كتاب دون ما يوحى إليه من غير المتلو؛ لأنه المتبادر إلى الفهم من قوله: {ما أنزلنا} وحينئذ لا يكون فيه دلالة على المطلوب.

سلمنا أن المراد منه عموم ما أنزل إليه سواء كان متلوا أو لم يكن، لكن لا نسلم أنه يلزم من وجوب الإظهار وجوب القبول، ولا نسلم أنه لا فائدة سوى القبول بل إنما أوجب ذلك لكي يشتهر ويتواتر نقله فتقوم به الحجة فإنه لو لم يوجب إظهاره ربما يتوانى في فعله، فيؤدي إلى أن لا ينقل نقلا متواترا فتبطل حجيته، ثم الذي يدل على أنه لا يجب من وجوب الإظهار وجوب القبول، أنه يجب على الفاسق وجوب إظهار ما سمعه من الرسول ومن غيره، مع أنه لا يجب على السامع قبوله. قلنا: الجواب عن الأول: أنه خلاف الأصل؛ لأنه تقييد بما لا إشعار للفظ به؛ فإن اللفظ ظاهر في التوعد للجمع، ولا إشعار له بعدد التواتر فيكون تقييده بعدد التواتر خلاف الأصل، وبه خرج الجواب عن الثاني، فإنه تخصيص وتقييد. وأما قوله: لأنه وجد ما يوجب المصير إليه وهو التبادر فممنوع؛ وهذا لأنا وإن سلمنا أن الكتاب العزيز هو المتبادر من مطلق الإنزال والمنزل، لكن لا نسلم تبادره من قوله: {ما أنزلنا من البينات والهدى} ثم الذي يؤكد على أنه غير مختص بالكتاب العزيز، أن العلماء في كل الأعصار يستدلون بهذه الآية على حرمة كتمان العلم، ولو كان ذلك مختصا بالكتاب لما صح ذلك، ولأن حمل كلام الشارع على ما هو أعم أولى؛ لأنه أكثر فائدة. وعن الثالث: أنه إن لم يكن فيه فائدة سوى وجوب القبول فقد حصل الغرض، وإن كان فيه فائدة أخرى فلا شك أن ما ذكرناه فائدة أيضا بل هو المقصود بالذات والاشتهار والتواتر بالغرض، وحينئذ نقول: إنه يجب حمله على الفوائد بأسرها دفعا للإجمال، وتكثيراً للفوائد.

وأما قوله: يجب على الفاسق الإظهار مع أنه لا يجب القبول ففيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن كان عند غيره علم منه لم يجب أيضا الإظهار لأنه إذا لم تقم الحجة بقوله فلا فائدة في وجوب الإظهار عليه. سلمناه: لكن ذلك لمانع من وجوب القبول، وتخلف الحكم عن المقتضى لمانع لا يقدح فيه. وأما السنة المتواترة: فهي ما روي أنه - عليه السلام - كان يبعث رسله آحادا إلى البلاد والنواحي الشاسعة لتعليم الأحكام وتبليغ الأخبار، والناسخ والمنسوخ والمخصص والمخصوص، مثل ما بعث عليا ومعاذا، وعمر بن حزم إلى اليمن وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة، وعتاب بن أسيد إلى مكة، وكان يبعث سعاته في جباية الصدقات، وإعلام أرباب الأموال

بما يجب عليهم من الزكاة، مع علمنا بأنهم كانوا مكلفين بالطاعة والانقياد / (81/أ) لقبول قول المبعوث إليهم آحادا والعمل بمقتضى قوله، ولو كان خبر الواحد غير مقبول لما بعث إليهم آحادا، ولما أوجب عليهم قبول قولهم، ولما بطل اللازم بطل الملزوم. واعترض عليه: بأنا لا نسلم أنه كان يبعثهم لذلك، لكن للقضاء والفتوى، فأما لرواية الأخبار فممنوع، أو في غاية القلة، فلا تمس الحاجة إلى بعث من يروي الأخبار للاحتجاج والاستنباط، بخلاف العوام المحتاجين إلى الفتيا والقضاء فإنهم الجم الغفير، فكانت الحاجة ماسة إلى بعث المفتي والقاضي كيف وقد جاء ذلك مصرحا به في بعض الروايات كما في بعث علي ومعاذ إلى اليمن. سلمناه، لكنه إنما كان يبعث لكي يتواتر ما بعث به ذلك الواحد بإبلاغه وإبلاغ الآخرين بعده واحدا بعد واحد، فإن بعث عدد التواتر دفعة واحدة متعذر، أو متعسر، وبعد تواتره يكونون مكلفين به فأما قبله فلا. سلمنا دلالته على ما ذكرتم لكنه منقوض، بأنه - عليه السلام - كان يبعث رسله آحادا إلى الكفار أيضا، يدعوهم إلى الإيمان والإسلام، مثل ما روي أنه بعث إلى كسرى عبد الله بن حذاقة السهمي. والى الحبشة عمرو بن

أمية الضمري، وغيرهما إلى الشام ومصر، ولا يمكن أن يكون ذلك ذلك لتعريف الأحكام والأخبار المتضمنة لفروع الإسلام والإيمان فقط؛ لأنه لا يمكنهم الإتيان بها إلا بعد الإتيان بالإيمان، فتكليفهم بها دون إتيان الإيمان والإسلام تكليف بالمحال، فيكون لأصول الدين كالتوحيد وإثبات النبوة، وقد أجمعنا على أن خبر الواحد غير مقبول في أصول الدين، فما هو جوابكم في هذه الصورة فهو جوابنا في المتنازع فيه. ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن الإفتاء في الزمان الأول في الأغلب إنما هو برواية الأخبار، لاشتراكهم في العلم بما يتوقف عليه استبناط الأحكام من النصوص كالعلم باللغات، والنحو، والتصريف؛ ولهذا كانوا يسألون عند وقوع الواقعة من سمع منكم في هذه الواقعة من النبي - عليه السلام - شيئا، ويفزعون إلى رواية الخبر عند ذكر الحكم، ولو كان ذلك بطريق الإفتاء لما كان ذلك. وعن الثاني: أنه لو كان كما ذكرتم لكان ينبغي أن ينكر عليهم عدم الامتثال ما لم يتواتر، لكن ذلك خلاف المعلوم منه - عليه السلام - ومن المبعوث. وعن الثالث: أن دعوته المكلفين إلى التصديق بوجود الصانع ووحدانيته

وتصديق نفسه، وقد انتشر وتواتر من الواردين على المبعوث إليهم، بحيث كلهم علموا أنه ظهر بالحجاز من يدعي الرسالة لنفسه، ويدعو إلى الاعتراف بوجود الصانع، ووحدانيته، وبالبعث والنشور وتصديق نفسه، فهذا القدر كان معلوما لهم، وما كان الغرض من بعض الرسول إليهم آحادا تبليغ هذا القدر، ولا إثبات ما أمكن إثباته من هذا بالنقل كالبعث والنشور بقوله، لأن المطلوب فيه القطع والعلم، وقول الواحد غير مفيد وفاقا. وإنما كان يبعث إليهم المنبه على الأدلة العقلية على المطالب التي يستفاد منها، ويطلب المصير منهم إلى ذلك، وإعلامهم بما يلحقهم من الخزي والنكال في الدنيا والآخرة على تقدير استمرارهم على الكفر، وإنكارهم لما جاء به، ثم ليعلمهم أحكام ما جاء به إن اعترفوا به وليكون على بصيرة من حالهم أنهم آمنوا، أو لم يؤمنوا، ولا يمكن هذا الجواب فيما بعث لتعليم الأحكام برواية الأخبار؛ إذ لا يمكن ادعاء التواتر فيها، وليس فيها أدلة عقلية لينبههم عليها. وأما الإجماع: فهو أن أكثر الصحابة عملوا بخبر الواحد، ولم يصدر من الباقين في ذلك إنكار فكان إجماعا. أما الأول: فيدل عليه ما نقل عنهم بروايات مختلفة في الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والإحصاء أنهم عملوا بخبر الواحد، وكانوا يفزعون إليه في الوقائع، ويتركون لأجله البراءة الأصلية، والقياس، ويرون العمل به، فمن ذلك:

ما روي عن الصديق - رضي الله عنه - أنه احتج على الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير، ومنكم أمير بقوله: الأئمة من قريش مع أنه كان في واقعة عظيمة وربما يعتقد أنه لا يقبل في مثله إلا المتواتر أو المشهور، وهذه الرواية تكاد أن تكون متواترة. ومنه ما روي أنهم رجعوا في دفنه - عليه السلام - إلى ما رواه الصديق عنه وهو قوله: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون". ومنه ما روي عنه - رضي الله عنه - أنه رد فاطمة - رضي الله عنها - عما كان تطلب من الميراث، بما روي عن النبي - عليه السلام - أنه [قال: نحن] معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"، مع أنه مخصص لقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}. ومنه ما روي أنهم رجعوا في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها، ومقادير الديات إلى كتابه - عليه السلام - حتى روي أن عمر - رضي الله عنه - كان يجعل في الأصابع نصف الدية، ويفصل بينها، ويجعل في الإبهام خمسة عشر، وفي

السبابة والوسطى عشرة عشرة، وفي البنصر تسعة، وفي الخنصر ستة، فلما / (8/أ) روي له في كتاب عمرو بن حزم "أن في كل إصبع عشرة" رجع عن رأيه. ومنه ما روي: أن أبا بكر قبل خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في توريث الجدة السدس.

وعنه أيضاً أنه قضى بقضية بين اثنين، فأخبره بلال: أنه - عليه السلام - قضى فيها بخلاف قضائه فنقضه. ومنها: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ما أدري ما الذي أصنع في أمر المجوس، فإنهم ما أهل الكتاب، ولا هم عبدة الأصنام والأوثان، حتى روى له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - قضى فيه بغرة، فقال عمر - رضي الله عنه -: "لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره".

وروي عنه رواية أخرى أنه قال: "لو لم نسمع هذا كدنا نقضي فيه برأينا". وعنه أيضا: أنه كان يرى أن الدية للعاقلة، ولا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فأخبره الضحاك بن سفيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عن رأيه إليه. وعنه أيضا: أنه ترك رأيه في بلاد الطاعون لخبر عبد الرحمن بن عوف. ومنه ما روي عن عثمان وعلي أنهما عملا بخبر فريعة بنت مالك حين روت لهما.

فقالت: جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة، فقال - عليه السلام -: "امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك" ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء، فقالا: المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا، وتخرج نهارا إنه لم يكن لها من يقوم بأحوالها. ومنه رجوع جماهير الصحابة إلى قول عائشة - رضي الله عنها - في وجوب الغسل التقاء الختانين. ومنه رجوع ابن عباس عن قوله: إن الربا منحصر في النسيئة إلى خبر أبي سعيد الخدري حين عابه أسامة بن زيد.

ومنه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى فيه بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه السلام عن المخابرة فانتهينا عنها. ومنه ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا نفعني الله تعالى بما شاء أن ينفعني منه، فإذا حدثني غيره عنه حلفته فإذا حلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر فصدقته من غير حلف". ومنه ما روي عنه رضي الله عنه: أنه قبل رواية المقداد في حكم المذي.

ومنه ما روي: أنه عمل زيد بن ثابت بحديث امرأة من الأنصار أن النبي - عليه السلام - قال: "الحائض تنفر بلا وداع". ومنه ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة،

وأبا طلحة، وأبي بن كعب، شرابا إذ أتانا آت فقال: حرمت الخمر، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقتمت فكسرتها. ومنه عمل أهل قباء في التحويل عن القبلة بخبر الواحد الذي قال لهم: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة.

ومنه ما روي عن ابن عباس لما قيل له: "إن فلانا يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل أنه قال: "كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب فقال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر" فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل، وسماه عدو الله، وفيه نظر، فإن المسألة علمية لا يقبل فيها خبر الواحد، فلعل ذلك لقرائن احتفت به. ومنه ما روي عن أبي الدرداء أنه قال لمعاوية لما باع شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر من وزنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، فقال له معاوية: لا أرى به بأسا، فقال له الدرداء: من يعذرني بمعاوية أخبره عن الرسول عليه السلام، وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أبدا، فهذه الأخبار وأمثالها.

مما لا تعد ولا تحصى تدل على أنهم عملوا بأخبار الآحاد، وكما أن الصحابة انقرضوا على ذلك، فكذا التابعون ومن بعدهم. قال الشافعي - رضي الله عنه -: وجدنا علي بن الحسين يعول على أخبار الآحاد وكذلك محمد بن علي، وجبير بن مطعم، ونافع بن جبير، وخارجة بن زيد، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن

يسار، وعطاء بن يسار، وكذلك كان حال طاوس، ومجاهد، وسعيد ابن المسيب، وفقهاء الأمصار في جميع الأعصار إلى زمان ظهور المخالف.

وأما الثاني، وهو: أنه لم يصدر عن الباقين في ذلك إنكار، فلأنه لو صدر لنقل، ولو نقل لاشتهر وتواتر، فما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يصدر، وأما أنه حينئذ يكون إجماعا فلما تقدم. فإن قيل: إن ادعيتم العلم الضروري بسبب هذه الروايات فممنوعة. قال المرتضى: "إن الضرورة لا يختص بها البعض دون البعض، مع المشاركة في طريقها، والمخالفون نحو الإمامية، وشيوخ المعتزلة كالنظام وغيره، منكرون حصول هذا العلم الضروري مع اختلاطهم بأهل الأخبار، ومطالعة كتبهم، ويحلفون على ذلك، بل على عدم الظن بذلك أيضا، فإن كذبتموهم فعلتم ما لا يحسن وعورضتم بمثله، وإن ادعيتم العلم النظري، بالاستدلال بها، فلا نسلم أن الاستدلال بها يفيد ذلك، فإنكم ما بينتم وجه الاستدلال بها حتى / (83/أ) نعلم أنه هل تفيد ذلك أم لا؟ وإن ادعيتم الظن فهذا لو سلم يلزم منه الدور؛ لأن تلك الإخبارات حينئذ تكون أخبار آحاد، فالاستدلال بها على كون أخبار الآحاد حجة، يتوقف على كون أخبار الآحاد حجة، فلو أثبتت حجية أخبار الآحاد بها لزم الدور. سلمناه، لكن لا نسلم أنهم عملوا بها وهي أخبار آحاد مفيدة للظن فلعلهم عملوا بغيرها من الأدلة نحو النصوص المتواترة، والأقيسة الموافقة لها، يذكرونها عند سماع تلك الإخبارات أو بها وهي متواترة عندهم، ثم فتر نقلها فصارت آحادا عندنا، أو وإن كانت آحادا لكنها كانت تفيد القطع بسبب القرائن المحتفة بها من الحالية، أو المقالية. سلمناه لكن عمل بها بعضهم أو كلهم. والأول مسلم، ولا حجة فيه، والثاني ممنوع ولا يمكن دعواه. قوله: "عمل بها بعضهم وسكت الباقون عن الإنكار فكان حجة". قلنا: لا نسلم سكوت الباقين عنه.

قوله: لو وجد لنقل واشتهر. قلنا: لا نسلم أنه أنه لم ينقل ولم يشتهر؛ وهذا لأنه نقل عن بعضهم رده: روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه رد خبر المغيرة في توريث الجدة حتى أخبره بذلك أيضا محمد بن مسلمة. ورد هو وعمر - رضي الله عنهما - خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رد الحكم بن العاص حتى طالباه بمن يشهد له به.

ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان، وقال له: هات من يشهد لك به، وإلا أوجعت ظهرك حتى أتى بأبي سعيد الخدري وشهد له به. ورد هو أيضا خبر فاطمة بنت قيس وقال: "لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت" وهذا الاحتمال يثبت في جميع أخبار الآحاد. ورد على خبر أبي سنان الأشجعي في بروع بنت واشق وهي كانت

مفوضة وهو أنه قضى لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمهر المثل حين مات عنها زوجها قبل الدخول وقبل المفرض. وأيضا اشتهر منه أنه كان لا يقبل رواية أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر لما ثبت عنده من القرائن الحالية صدقه فيما يخبره لا لمجرد كونه واحدا عدلا، وإلا لقبل قول غيره من العدول كما قبل قوله، وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله.

فهذا الرد منهم يدل على أنهم لم يروا العمل بخبر الواحد وإلا لما ردوه. سلمنا أنهم سكتوا عن الإنكار، لكن لا نسلم أن السكوت يدل على الرضا وهذا لأن السكوت يحتمل وجوها أخر غير الرضا كما تقدم ذكره. سلمنا أنه يدل على الرضا، وهو يدل على انعقاد الإجماع، لكن على النوع الذي قبلوه وعملوا به، أو على سائر أنواعه. والأول مسلم، لكن لا يلزم منه حجية سائر أنواعه؛ لاحتمال أن يأمر الشارع بالعمل بذلك النوع دون سائر الأنواع، أو لأن اتفاقهم على قبوله يدل على صحته نفيا للخطأ عنهم، وهذا المعنى غير حاصل في سائر أنواعه فلم يلزم منه حجية سائر أنواعه. والثاني ممنوع، ولا يمكن دعواه؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنهم لم يعلموا بجميع أنواع الخبر، وحينئذ نقول: ذلك النوع غير معلوم لنا بعينه، فإذن لا نوع من أنواع الخبر الواحد إلا ويحتمل أن يكون ذلك النوع، ويحتمل أن لا يكون وحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من أنواعه حجة لوقوع التردد في حجيته. سلمنا أن النوع الذي عملوا به، وأجمعوا عليه معلوم لنا، لكن لا يلزم من جواز العمل لهم بذلك النوع، جواز العمل به لنا؛ وهذا لأنهم شاهدوا الرسول - عليه السلام -، وعرفوا مجاري كلماته، ومناهج رموزه وإشاراته، وعرفوا أحوال أولئك الرواة في العدالة وعدمها، وعرفوا قرائن صدقهم

فيما رووه من الأخبار، وإذا كان كذلك كان عملهم بذلك الأخبار إما بناء على القطع بصدقهم وإما بناء على الظن الأقوى بصدقهم، وعلى التقديرين لا يلزم منه وجوب العمل به أو جوازه لنا. لا يقال: من قال بحجية نوع منها في زمان ما قال بحجية كل أنواعه في كل الزمان، ومن لم يقل به لم يقل بذلك، فالقول بالفصل قول لم يقل به أحد. لأنا نقول: لا نسلم أنه قول لم يقل به أحد، ومن أين لنا طريق إلى حصول العلم أو الظن به؟ وهذا لأن العلماء تفرقوا في مشارق الأرض ومغاربها، فمن أين يحصل العلم بأنه قول لم يقل به أحد؟ وإنما يمكن حصول العلم بمثل هذا في زمان الصحابة - رضي الله عنهم -، فأما بعدهم فلا. سلمناه لكنه إجماع ظني، والمسلك على ما تزعمونه قطعي، فلا يجوز إثبات مقدماته به. الجواب عن الأول: أنا ندعي العلم الضروري به؛ وهذا فإن من خالط أهل الأخبار، وطالع كتبها اضطر إلى العلم به، كما سمع الأخبار الواردة في شجاعة علي، وسخاوة حاتم، فإنه يضطر إلى العلم به، وإن كان كل واحد من تلك الأخبار أحادا لا تفيد القطع، إلا أن القدر المشترك بينها متواتر من جهة المعنى فكذا ها هنا، فإنا نسلم أن كل واحد مما رويناه وغيره من هذا الباب، وإن كان آحادا لكن القدر المشترك بينها متواتر من جهة المعنى. قوله: "الضرورة لا يختص بها قوم دون قوم مع المشاركة في طريقها. قلنا: نعم، لكن لا نسلم أن الخصوم بأسرهم أنكروا ذلك، فإن منهم من اعترف بذلك، لكن زعم أن الإجماع ليس بحجة كالنظام، [وأما] الإمامية فليسوا بأسرهم مخالفين في هذه المسألة، فإن أبا جعفر الطوسي من الأصوليين،

وأتباعه / (84/أ) منهم وافقونا في ذلك، وأما الأخباريون منهم مع أن كثرة الشيعة منهم، يعولون في أصولهم على الأخبار المروية بالآحاد عن أئمتهم، فضلا عن الفروع، فلم يبق منكر لهذا العلم الضروري إلا شرذمة قليلة منهم نحو المرتضى وأتباعه، ولا يقدح في الضروريات إنكار الجمع القليل لها، كما في البديهيات والمحسوسات، فإن جحد المخالفين لا يقدح فيها. سلمنا أنه ليس بضروري، لكنه استدلال قطعي، فإنا وإن لم نقطع بصدق كل واحد من هذه الأخبار، لكن نعلم قطعا أن كلها ليس بكذب، بل نقطع أن فيها ما هو صحيح، وأي واحد منها صح، ثبت جواز عمل بعضهم به، والتقدير حينئذ كما سبق على تقدير صحة الكل. وعن الثاني: أن كون العمل إنما كان بتلك الأخبار لا بغيرها مصرح به في بعضها، كما في دية الجنين، فإنه قال: "لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره". وكما في دية الأصابع فإنه نقل أنه ترك رأيه لما سمع ما في كتاب عمرو بن حزم، وكما في حديث المخابرة، وفي حديث التقاء الختانين، ومستدل عليه بأمر يختص في بعضها، كما في حديث المغيرة فإن أبا بكر - رضي الله عنه - طلب منه من يشهد له، ولو كان ذلك بناء على دليل يذكر إذ ذاك، لما كان لذلك الطلب معنى، وكما في حديث الاستئذان، وبأمر عام في كلها، وهو: أنه لو كان ذلك بناء على دليل آخر لوجب ظهور ذلك الدليل، فإن الدين والعادة يوجبان ذلك. أما الدين: فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل عند سماع الخبر والعمل بموجبه يوهم إيهاما ظاهرا بل ظنا ظاهرا أنهم عملوا لأجله، كما هو في المقطوع، ولا شك أن ذلك غير جائز شرعا. وأما العادة: فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس عليهم،

لا سيما مدة طويلة، ثم زال عنهم ذلك اللبس لدليل يذكروه، أو لسماحة الخاطر برأي قادح فيه من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر به لا سيما عندما يكون عدم إظهاره موهما للباطل، ولا سيما من الجمع العظيم، والعلم به بعد الاستقراء ضروري، وأما كون العمل بها لقرائن احتفت بها، أو لكونها كانت متواترة عندهم والأصل ينفيه؛ إذ الأصل عدم القرينة، والأصل عدم التغيير. وعن الثالث من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن ذلك رد لخبر الواحد من حيث أنه خبر واحد، فإنهم وإن لم يقبلوا في بعض الصور خبر الواحد، لكنهم قبلوا خبر الاثنين، وقبلوا الخبر مع الحلف، وبهذا لا يخرج ذلك عن كونه خبر واحد بالتعريف الذي تقدم ذكره، وحيث لم يقبلوا أصلا كما في خبر فاطمة بنت قيس، وخبر أبي سنان الأشجعي، فإنما لم يقبلوه للتهمة. وأما قوله: الاحتمال المذكور في رد خبر فاطمة بنت قيس قائم في كل خبر واحد. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن مثل هذا لا يستعمل إلا فيما لا يغلب ظن الصدق، وأما الذي يغلب ظن الصدق لا يقال فيه ذلك، ونحن إنما نجوز العمل به إذا كان ظن صدقه راجحا على كونه كذبا، أو نقول: إن ذلك لخصوص كونه مخصصا لكتاب الله، أو ناسخا له، لا لعموم كونه خبر واحد ولعل عمر - رضي الله عنه - لا يرى تخصيص كتاب الله بخبر الواحد، فأما النسخ به فغير جائز عند الأكثرين. وثانيهما: أنا وإن سلمنا أنهم لم يعملوا به، لكن نقول: إن الذين نقلتم عنهم أنهم لم يعملوا به، هم الذين نقلنا عنهم أنهم عملوا به، فلا بد

من التوفيق بين النقلين صونا للتناقض، وما ذاك إلا أن القبول والعمل به محمول على ما وجد شرائط القبول والعمل به، والرد محمول على ما إذا لم يوجد ذلك. وعن الرابع ما تقدم في الإجماع. وعن الخامس: أنه يدل على قبول خبر الواحد العدل، وليس هناك شيء يمكن ضبط النوع المقبول به نحو كونه واردا في العبادات، أو في المعاملات، أو في الجنايات أو غيرها؛ لأنه وجد في كل نوع منها، ولا يمكن ضبطه بأنه النوع الذي قبلوه وعملوا به؛ لأن ذلك وصف يحصل له بعد القبول، فلا يجوز أن يكون ذلك ضابطا للقبول؛ ضرورة أن ضابط القبول يجب أن يكون متقدما على القبول. ومن هذا يعرف فساد قوله: أو لأن اتفاقهم على القبول يدل على صحته نفيا للخطأ عنهم؛ لأن ذلك إنما يعرف بعد القبول فلا يجوز أن يكون ذلك علة القبول. وعن السادس: هو ما سبق أنه لا قائل بالفصل. قوله: لا سبيل إلى العلم أو الظن به. قلنا: لا نسلم، وهذا لأن العلم به حاصل ظاهرا بعد استقراء الكتب المصنفة في هذا الباب، وعدم السماع من النقلة، فإنه لو قال به أحد لدونه في الكتب أو لتحدث به لتلامذته وأصحابه. وعن السابع: أنا لا نقول: إن المسلك قطعي، وكيف نقول ذلك مع قولنا: إن الإجماع السكوتي حجة ظنية وهو أحد مقدماته؟ وأما القياس: فهو أن الخبر الواحد - الذي لا يقطع بصحته بل يغلب على الظن صدقه - مقبول في الفتوى والشهادات والأمور الدنيوية، كالأرباح والأغذية، والأدوية، فوجب أن يكون مقبولا في الروايات. والجامع / (85/أ) تحصيل

المصلحة المظنونة، أو دفع المفسدة المظنونة، بل الرواية أولى بالقبول من الفتوى والشهادة. أما من الفتوى: فلأن كل ما يفرض من الاحتمالات الموجبة لعدم قبول خبر الواحد نحو كذب الراوي عمدا أو خطأ، وغلطه وعدم ضبطه، فهو بعينه حاصل في المفتى مع احتمالات أخر موجبة لعدم قبول الفتوى، نحو احتمال جهله بالأمور التي يتوقف عليها معرفة كيفية الاستدلال، وغلطه في وجه الاستدلال، فإن العارف بشرائط الاجتهاد قد يعرض له الغلط، ولا شك أن احتمال الخطأ في الفتوى بسبب الأمور التي يمتاز بها عن الرواية أكثر؛ لأنها صعبة الحصول يغلط فيها الأكثرون، فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد مع تطرق الخطأ إليه من وجوه عديدة فبأن تكون الرواية مقبولة مع أن تطرق الخطأ إليها أقل أولى. وأما من الشهادة؛ فلأن الشهادة لكونها تتضمن إثبات الحق على معين يحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية على تقدير القبول؛ لأن الاختلاف في الحكمة يدل على الاختلاف في الحكم، وذلك يدل على أن الشهادة أضيق بابا من الرواية، فإذا قبل فيها خبر من لا يفيد خبره العلم، فبأن يقبل في الرواية خبر من لا يفيد خبره العلم أولى وأحرى. فإن قلت الفرق بين الفتوى والشهادة، ورواية الواحد من وجهين: أحدهما: أن العمل بالفتوى والشهادة ضروري؛ لأنه لا يمكن تكليف كل واحد من المكلفين بتحصيل رتبة الاجتهاد؛ لأنه يؤدي إلى اختلال نظام العالم ولا طريق إلى تمييز المحق عن المبطل إلا بالشهادة؛ إذ التنصيص فيه من الشارع ممتنع، فيتعين أن يكون بالشهادة، ويتعذر أو يتعسر إشهاد الجمع الكثير الذين يفيد

خبرهم العلم في كل واقعة، فيكون بالفتوى والشهادة المظنونة ضروريا. وأما العمل بخبر الواحد فغير ضروري؛ لأنه إن وجد في الواقعة نص قاطع عمل به، وإلا رجع إلى البراءة الأصلية، ولا يلزم من جواز العمل بالظن الذي يحتمل الخطأ والغلط عند الضرورة أو الحاجة الماسة جواز العمل به عند عدمها. وثانيهما: أن قبول خبر الواحد يقتضي ثبوت الحكم في حق عامة المكلفين وقبول الفتوى والشهادة ليس كذلك، بل يقتضي ثبوته في حق جزئي معين، ولا يلزم من جواز العمل بالظن فيما فيه المفسدة القليلة جواز العمل به فيما فيه المفسدة الكثيرة. قلت: الجواب عن الأول: أنه لا ضرورة في الفتوى والشهادة أيضا لأنه إن وجد المفتون والشهود بحيث يفيد خبرهم العلم بفتواهم وشهادتهم، وإلا رجع إلى البراءة الأصلية، هذا ما قيل، وفيه نظر؛ لأن الرجوع إلى البراءة الأصلية إذ ذاك يقتضي إنسداد باب المعاملة، وعدم إثبات الحقوق، ضرورة أن شهادة الجمع الكثير الذي يفيد خبرهم العلم متعذر أو متعسر، وفيه اختلال نظام العالم. وعن الثاني: أن الفتوى والشهادة وإن أثبت كل واحد منهما الحكم في جزئي معين، لكن الحكم بشرعيتهما في حق كل شخص يقتضي ضرورة ذلك أيضا شرعا عاما فلا فرق. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون؛ لأن الراوي العدل إذا أخبر عن الرسول - عليه السلام - أنه أمر بهذا الفعل حصل ظن أنه وجد هذا الأمر، وعندنا مقدمة يقينية وهي: أن مخالفة أمر الرسول سبب

لاستحقاق العقاب، فحينئذ يحصل من مجموع هاتين المقدمتين، ظن أنا لو تركنا الأمر الذي أخبر عنه العدل لصرنا مستحقين للعقاب، فوجب أن يجب العمل به؛ لأنه إذا حصل الظن الراجح، والتجويز المرجوح لم يجز العمل بالمرجوح؛ لأنه ترجيح للمرجوح على الراجح وهو باطل بضرورة العقل فيتعين العمل بالراجح؛ إذ القسمان الباقيان ممتنعان؛ لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما. قلت: متى يجب ترجيح الظن الراجح على المرجوح، إذا لم يمكن تحصيل العلم به، أو مطلقا؟ والأول مسلم، لكن لا نسلم أنه لا يمكن تحصيل العلم بذلك الحكم المطنون الذي دل عليه خبر الواحد حتى يلزم العمل به؛ وهذا فإن الرجوع فيه إلى الكتاب، أو السنة المتواترة، أو القياس اليقيني أو البراءة الأصلية يفيد العلم به. والثاني ممنوع؛ وهذا فإن تجويز العمل به إذ ذاك تجويز العمل بما لا يؤمن أن يكون خطأ مع إمكان الاحتراز عنه، والعقل يأباه، فإذا أبى العقل تجويز العمل به، فكيف ظنك بوجوب العمل به؟ سلمنا أنه لا يمكن تحصيل العلم بهن لكن متى يجب العمل به إذا لم يمكن تحصيل ظن أقوى منه أو مطلقا؟ والأول مسلم، فلم قلت: أنه لا يمكن تحصيل ظن أقوى منه مما تقدم من المدارك حتى يلزم العمل به؟ والثاني ممنوع؛ وهذا فإن الاكتفاء بالأدنى مع القدرة على الأعلى مما يأباه العقل أيضا. سلمنا دليلكم لكنه منقوض بما أنه لا يجب على القاضي العمل بقول

الشاهد الواحد إذا غلب على ظنه صدقه، وكذا بقول الشاهدين في الزنا إذا غلب على ظنه صدقهما، وبما إذا غلب على الظن صدق مدعي النبوة، وبما / (86/أ) إذا غلب على الظن صدق الشاهدين وهما فاسقان، والراوي الفاسق من غير توبة من الفسق، بل لا يجوز العمل به في هذه الصورة كلها، ومنقوض أيضا بما إذا غلب على ظن الدهري واليهودي والنصراني قبح هذه الأعمال الشرعية، فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصورة مع أنه لا يجوز العمل به. فإن قلت: الظن إنما يعتبر حيث لم يقم الدليل على فساده، وفيما ذكرتم من الصور إنما لم يعتبر لقيام الدلالة على فساده فلا ينتقض ما ذكرنا. قلت فعلى هذا التقدير لا يتم دليلكم إلا إذا بينتم أنه لا قاطع يدل على فساد الظن الحاصل من خبر الواحد، فيصير نفي ما يدل على فساده جزءا من المقتضى، أو شرطا لاعتباره، وعلى التقديرين يجب عليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على فساده وأنتم ما فعلتم ذلك، كيف وقد وجد من العمومات ما يدل على عدم اعتبار الظن مطلقا. قلت: الجواب عن الأول: أنه يجب ترجيح الظن الراجح على المرجوح مطلقا؛ لأنه لو كان متوقفا عليه فقبله إلى أن يحصل مرتبة العلم إن لم يعمل به لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، أو ترجيح المرجوح على الراجح، وكل ذلك باطل، فما يفضى إليه أيضا كذلك، فالتوقف عليه باطل. وأما قوله: تجويز العمل به إذ ذاك تجويز العمل بما لا يؤمن أن يكون خطأ

مع إمكان الاحتراز عنه فممنوع أولا. سلمناه لكن لا نسلم أن العقل مما يأباه؛ وهذا لأن العقلاء لا يزالون يقدمون على الاحتمالات الراجحة المفضية إلى المصالح مع إمكان أن لا يكون كذلك، ومع إمكان أن يبنوا الأمر فيه على اليقين. وبه خرج الجواب عن الثاني أيضا. وعن الثالث: أن الأصل عدم ما يدل على فساده، وسنجيب عن العمومات الدالة على عدم اعتبار الظن، كيف وقد وجد ما يدل على اعتبار الظن الحاصل به وهو ما ذكرناه من الأدلة. وثانيها: وهو ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وغيره وهو: أن العقلاء يعلمون وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات، بدليل أنهم يذمون المريض إذا ترك شرب الدواء المر الذي أخبر عنه الطبيب بأنه نافع له، وكذا يذمون المسافر إذا سلك طريقا أخبر الثقة بأنها مخوفة، وإن كانت في القرب والحسن خيرا من غيرها، ولا يعلمون وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ولا علة لوجوبه سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل فإنه قد علم من حيث الجملة وجوب التحرز من المضار، وحسن اجتلاب المنافع، فإذا أخبرهم الثقة بحصول المضرة في شيء فإنهم يرون وجوب الاحتراز عنه؛ لأنهم ظنوا تفصيل ما علموه جملة، وكذا لو أخبرهم بحصول النفع في شيء، فإنهم يرون حسن اجتلابه، ولا ذاك إلا بما ذكرناه بدليل الدوران؛ فإن الحكم المذكور دار معه وجودا وعدما أما وجودا ففي الصور التي ذكرناها، وأما عدما حيث لم يعلموا من حيث الجملة، أو لم يظنوا من حيث التفصيل، وهذا المعنى بعينه حاصل في خبر الواحد؛ لأنه قد علم من حيث الجملة أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب فإذا أخبر الثقة بأنه عليه السلام أمر بهذا الفعل، حصل ظن تفصيلي أن تركه سبب لاستحقاق العقاب فوجب أن يجب العمل به.

وثالثها: طريقة الاحتياط، وتقريرها: أن صدق الراوي أغلب على الظن، فكان أقل احتمالا للخطأ فيجب المصير إليه، لقوله - عليه السلام -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". ورابعها: أن صدق الراوي ظاهر، فكان الحكم به واجبا، لقوله - عليه السلام -: "أقضى بالظاهر". وخامسها: أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب، وسنة متواترة وإجماع، وقياس قطعي ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت أكثر الوقائع عن الحكم الشرعي؛ ضرورة أنه لم يوجد في أكثر الوقائع الأدلة الشرعية القاطعة وهو ممتنع. وسادسها: أنه - عليه السلام - كان مبعوثا إلى الخلائق كلها. فلو لم يقبل خبر الواحد لتعذر إبلاغ الشرائع إلى الخلائق بأسرهم؛ ضرورة أنه يتعذر أن يخاطب الجميع بالمشافهة، وأن يبعث إليهم عدد التواتر، ولما بطل اللازم بطل الملزوم.

ولا يخفى عليك ضعف بعض هذه الوجوه، وما هو منها مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، وما هو غير مبني عليها، وبهذه الوجوه إنما يتمسك من يقول: إن الدليل العقلي دل أيضا على ورود التعبد بخبر الواحد دون من لم يقل به. واحتج المنكرون لوقوعه بالكتاب، والسنة، والمعقول: - أما الكتاب: فالآيات التي ذم فيها إتباع الظن وعدم العلم، وقد تقدم ذكرها وأجوبتها في المسألة المتقدمة. وأما السنة: فما روي أنه - عليه السلام - توقف في خبر ذي اليدين إلى أن شهد له أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وجوابه: أنه عليه السلام إنما توقف للتهمة، حيث انفرد بذلك مع حضور

غيره؛ فإن ذلك مما يوهم الغلط والسهو، فلما انتفت هذه التهمة بشهادتهما له قبل، ولو كان ذلك لكونه خبر واحد لما قبل عند شهادتهما له أيضا؛ لأنه لم يخرج خبره عند انضمام أخبارهما إليه عن أن يكون خبر واحد. وأما المعقول: فما تقدم من الوجوه العقلية في المسألة المتقدمة، وقد تقدم أجوبتها أيضا، والذي نزيده هنا وجهين: أحدهما: أن البراءة الأصلية يقينية، وخبر الواحد ظني، وترك اليقيني بالظني ترجيح للمرجوح / (87/أ) على الراجح وهو ممتنع بالبديهة. وجوابه: منع أن البراءة الأصلية يقينية بعد ورود التكاليف، بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل، فرفعها بخبر الواحد ليس رفعا لليقيني بالظني، بل رفعا للظني بالظني، وأنه غير ممتنع عقلا. وثانيهما: أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد فلا يجوز ذلك للمجتهد؛ للآيات الدالة على ذم التقليد، وكما لا يجوز له تقليد مجتهد آخر. وجوابه: منع أنه تقليد له؛ وهذا لأن قبول الخبر تقليد لصاحب الخبر لا للراوي. سلمناه لكن لا نسلم أنه لا يجوز. أما الآيات فمحمولة على التقليد في الأصول دون الفروع. وأما الحكم في المقيس عليه فممنوع. سلمناه لكن ذلك لتساويهما، وأما ما نحن فيه فليس كذلك، فإن المروي له ليس يساوي الراوي في العلم أو الظن بذلك الخبر.

القسم الثاني في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد

القسم الثاني في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد وهي تنقسم إلى متفق عليها، وإلى مختلف فيها، فنرتب هذا القسم على صنفين:

الصنف الأول "في الشرائط المتفق عليها"

الصنف الأول "في الشرائط المتفق عليها" وفيه مسائل:

المسألة الأولى يشترط أن يكون الراوي مكلفا

المسألة الأولى يشترط أن يكون الراوي مكلفا، فلا تقبل رواية المجنون والصبي مراهقا كان أو لم يكن، مميزا كان أو لم يكن. أما المجنون والصبي الذي لا يميز [فلعدم الضبط وعدم التمكن] من الاحتراز عن الخلل. وأما المميز المراهق وإن كان بينه وبين البلوغ زمان يسير، فلوجوه: أحدها: أن رواية الفاسق لا تقبل مع أنه يخاف أن يلحقه العقاب على الكذب؛ لكونه مكلفا بتركه، فرواية الصبي أولى أن لا تقبل مع أنه لا يخاف ذلك لعدم كونه مكلفا به. وثانيها: أنه لا يقبل قوله على نفسه لمعنى في نفسه، لا لحق الغير ولا لصيانة ما له، فأولى أن لا يقبل قوله على غيره كالمجنون. واحترزنا عما ذكرنا من القيد عن المحجور عليه لفلس، أو رق، أو سفه. وثالثها: أنه لا تحصل الثقة بقوله، فلا يجوز العمل به، كما في الأمور الدنيوية. ورابعها: أنه يعلم أنه غير ممنوع من الكذب فلا يحترز عنه؛ لعدم الزاجر والمانع عنه في حقه دنيا ودينا فلا يقبل.

وإنما يقبل إخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة، إما لأن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة الإمام. وإما لأنه يتعذر أو يتعسر معرفة ذلك من غيره، فلا يعرف إلا من جهته فيقبل للضرورة. وإما لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الإخبار عن طهارة نفسه وما يترتب عليه من الاقتداء به في الصلاة؛ لكون الرواية تثبت شرعا عاما على المكلفين بأسرهم، ولهذا يصح الاقتداء بالفاسق والمتعود بالكذب عند ظن الطهارة، ولا تقبل روايتهما وإن ظن صدقهما. وإما لأن منصب الرواية أعلى من منصب الإمامة فيحتاط فيه ما لا يحتاط في الإمامة. فإن قلت: هب أن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة الإمام لكن ظن كونه متطهرا شرط لصحة الاقتداء به، فلو لم يكن قوله مفيدا للظن لما صح الاقتداء به. قلت: نمنع أولا شرطية ذلك على التعيين، بل الشرط أحد الأمرين: إما تحقق الطهارة، أو ظنها، بدليل أنه لو ظن أنه غير متطهر فاقتدى به ثم تبين

أنه كان متطهرًا، فإنه ينبغي أن يصح الاقتداء به على رأي، كما لو ظن أنه خنثى فاقتدى به، ثم تبين أنه كان رجلا [فإنه يصح الاقتداء] على رأي فلو كان ذلك شرطا على التعيين لما صح. سلمناه لكن الظن المعتبر فيه دون الظن المعتبر في الرواية، فلا يلزم من قبول قوله في الظن الضعيف قبول قوله في الظن القوي. فإن قلت: أليس إن بعض العلماء كمالك - رضي الله عنه - يقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجنايات التي تجري بينهم، مع أن الشهادة يعتبر فيها ما لا يعتبر في الرواية كالحرية، والذكورة، والعدد فكان قبول روايتهم على رأيهم أولى؟ قلت: من قبل ذلك فإنما قبل لمسيس الحاجة والضرورة، لأن الجنايات تكثر فيما بينهم، والحاجة ماسة إلى معرفتها، وإشهاد من يقبل قوله مطلقا متعذر أو متعسر، لعدم حضورهم فيما بينهم في الغالب، فدعت الحاجة إلى القبول، لا لأن قولهم مفيد للظن ومعتبر على الإطلاق؛ ولهذا لم يعتبر قولهم على غيرهم. واعتبر أيضا في الجناية التي تجري بينهم لا في كل شيء وأن يكون ذلك قبل تفرقهم، ولو كان ذلك لأن قولهم مفيد للظن ومعتبر على الإطلاق لم يكن مقيدا بما ذكرنا من الأمور كغيرهم.

المسألة الثانية إذا كان صبيا عند التحمل، بالغا عند الرواية، متصفا بالشرائط المعتبرة في غيره عند الرواية فإنها تقبل

المسألة الثانية إذا كان صبيا عند التحمل، بالغا عند الرواية، متصفا بالشرائط المعتبرة في غيره عند الرواية فإنها تقبل، لوجوه: أحدها: إجماع الصحابة على قبول رواية ابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده. وثانيها: إجماع كل من بعدهم من السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس سماع الحديث، ولو لم يقبل ما تحملوه في حالة الصغر لم يكن للإحضار فائدة، كيف وأنهم أجمعوا أيضا على قبول ما تحملوه في حالة الصغر. وثالثها: القياس على الشهادة، فإن / (88/أ) ما تحمل من الشهادة في حالة الصبا، وأديت بعد البلوغ مقبولة بالإجماع، فكذا الرواية بل أولى؛ لما تقدم أنه يشترط في الشهادة ما لا يشترط في الرواية. ورابعها: أن إقدامه على الرواية في حال الكبر يدل ظاهرا على ضبطه للحديث الذي سمعه في حال الصغر فوجب أن يقبل؛ لأن الوازع عن

الكذب حاصل في حال الرواية، وهو الخوف من لحوق العقاب على الكذب، فلو لم يقبل وإنما لم يقبل لعدم ضبطه وهو منفي ظاهرا لما ذكرنا فوجب أن يقبل والله أعلم.

المسألة الثالثة يشترط أن يكون الراوي مسلما، فمن لا يكون كذلك ولم يكن من أهل قبلتنا كأهل الكتاب وغيرهم فإنه لا تقبل روايته إجماعا

المسألة الثالثة يشترط أن يكون الراوي مسلما، فمن لا يكون كذلك ولم يكن من أهل قبلتنا كأهل الكتاب وغيرهم فإنه لا تقبل روايته إجماعا، سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب، أو لم يعلم، وسواء علم أنه عدل في دينه، أو لم يعلم؛ لأن قبول الرواية منصب شريف، وتكرمة عظيمة، والكافر ليس أهلا لذلك. ومنهم من تمسك بقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق} الآية، والفاسق هو المقدم على الكبيرة، والكفر أعظم الكبائر، فوجب أن لا يقبل. ومنهم من قاس على المسلم الفاسق وقال: إذا لم تقبل رواية المسلم الفاسق فرواية الكافر أولى، وهما ضعيفان. أما الأول، فلأن الفاسق - في عرف الشرع - مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة. وأما الثاني، فلأن رواية الفاسق إنما لم تقبل؛ لأن إقدامه على الفسق مع اعتقاد تحريمه يدل على جرأته على فعل المحرمات، وهو يبطل الثقة به، وهو غير حاصل في حق الكافر الذي هو عدل في دينه. ولا يجاب عنه: بأنه لما ظهر تحريمه على وجه القطع بحيث لم يبق فيه ريب وشك جعل ذلك كاعتقاده للتحريم؛ لأن ذلك إنما يؤثر في مؤاخذته وعدم اعتبار جهله، لا أنه كاعتقاد التحريم في إبطال الثقة به.

وأما الذي لا يكون مسلما لكنه من أهل القبلة كالمجسم وغيره إذا كفرناه. فإن علم من مذهبه جواز الكذب لنصرة مذهبه أو لغيره لم تقبل روايته أيضا وفاقا، وإن لم يعلم ذلك بل علم أنه يحترز عن الكذب وغيره من المعاصي التي تقدح في الرواية كاحتراز العدل من المسلمين عنه فهل تقبل روايته أم لا؟ اختلفوا فيه: الأكثرون على أنه لا تقبل، وهو اختيار القاضي أبي بكر، والغزالي والقاضي عبد الجبار. وذهب الأقلون إلى أنه تقبل، وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام. احتج الأولون بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية وهذا الكافر فاسق؛ لأن الكفر أعظم مراتب الفسق فوجب أن لا يقبل. وأجيب بما تقدم.

ولا يحسن ممن يعلل رد خبر الفاسق؛ لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها أن يعول على الآية [في] رد خبر الكافر الذي هو من أهل القبلة مع أنه لا يعتقد تحريم ما اعتقده بل يعتقد حقيقته. ومن منع تخصيص الفاسق بالمسلم المقدم على الكبيرة وجب أن يقول بحجية الآية على رد خبر الكافر، سواء كان من أهل القبلة، أو لم يكن. فأما أن يرى حجيته في الكافر من أهل القبلة دون الكافر الذي هو ليس من أهل القبلة فلا يعقل له وجه. وثانيها: الإجماع، فإن المسلمين أجمعوا على عدم قبول رواية الكافر. وأجيب: بمنعه مطلقا، بل هو في رواية الكافر الذي ليس هو من أهل القبلة. [وثالثها: القياس على الكافر الذي ليس من أهل القبلة]. والجامع: أنه إنما لم يقبل ثمة؛ لأن قبول روايته تنفيذ لقوله على كل المسلمين، وهو منصب شريف، والكفر يقتضي الإذلال والإنكال، وبينهما منافاة. وهذا المعنى بعينه حاصل فيما نحن فيه، فوجب أن لا يقبل غاية ما في الباب أن هذا الكافر جاهل بكفره، لكن هذا لا يقتضي رجحان الأصل على الفرع حتى يصلح أن يكون فارقا، بل لو صح فإنما يصلح لأن يكون الفرع راجحا على الأصل، فإنه ضم جهلا آخر إلى كفره فهو أولى بأن يسلب منه هذا المنصب الشريف.

وأجيب بأن كفر الخارج عن الملة أغلظ وأشد من كفر المنتمي إليه، لكثرة مخالفته لقواعد الإسلام أصولا وفروعا، فإنه منكر لنبوة نبينا والقرآن، وما ينبني عليهما من الأصول والفروع، وقد يكون منكرا للصانع بخلاف الكافر المنتمي إلى الملة فإنه لا ينكر وجود الصانع، ويصدق بالنبوة والقرآن، ويزعم أن ما اعتقده هو الدين الذي جاء به - عليه السلام -، وإذا كان ذلك الكفر أغلظ وأشد كان أولى بالإذلال والإهانة، فلا يصح إلحاق غيره به مع ظهور الفارق المناسب. واحتج الأقلون بوجهين: أحدهما: أن المقتضى لقبول قوله قائم، وهو ظن صدقه؛ لأن اعتقاده لحرمة الكذي يزجره عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه، والمعارض المتفق عليه وهو كفر الكافر الذي ليس هو من أهل القبلة غير حاصل والأصل عدم معارض آخر فوجب قبول قوله. وأجيب: بمنع وجود المقتضى؛ وهذا لأن المقتضى عندنا هو ظن الصدق مع الإسلام وهو منتف. وثانيهما: وهو ما تمسك به أبو الحسين [وهو]: أن كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار أسلافنا: كالحسن، وقتادة.

وعمرو بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم وتكفير الصائر إليه. وأجيب: أنه لا يلزم من قبول بعضهم أن يكون مقبولا، فلعلهم يرون / (89/أ) قبول رواية المنتمي إلى الملة، ومذهبهم ليس بحجة على خصومهم. سلمنا حصول الإجماع على قبول روايتهم، لكن لا نسلم حصول الإجماع على كفرهم؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون الذين قبلوا روايتهم وإن حكموا بكفرهم لكن يرون قبول رواية المنتمي، وأما الذين ما أنكروا عليهم؛ فإنما لم ينكروا عليهم؛ لأنهم لا يرون كفرهم وإن كانوا لا يرون قبول رواية المنتمي، وحينئذ يحصل الإجماع على قبول روايتهم من غير إجماع على قبول رواية المنتمي.

المسألة الرابعة يشترط أن يكون الراوي عدلا

المسألة الرابعة يشترط أن يكون الراوي عدلا. ومعرفة كون الراوي عدلا يتوقف على معرفة العدالة، فاعلم أن العدالة عندنا: عبارة عن استقامة السيرة والدين. قال الشيخ الغزالي: "وحاصلها يرجع إلى أنها هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا، حتى تحصل الثقة بصدقه مما يخل بالتقوى من ارتكاب الكبائر، كالقتل والزنا، والإصرار على الصغائر لأنه من الكبائر، وما يخل بالمروءة من الصغائر كسرقة باقة من البقل، [والتطفيف في حبة قصدا، ومن المباح كالبول في الشارع] والأكل في الطريق، وصحبة الأرذال، وإفراط المزاح، وكل ما يؤمن معه جرأته على الكذب فهو قادح فيها لانتفاء ما ذكرنا من المجموع المركب من التقوى والمروءة. وإنما قلنا عندنا، لأن، لأن عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - وأتباعه ليس

عبارة عما ذكرنا؛ لأنه لو كان عبارة عن ذلك عندهم لما قبلوا رواية من لم يعرف منه سوى الإسلام مع عدم الفسق؛ لأنه لم يعرف منه استقامة السيرة والدين ويستحيل القبول بدون معرفة شرط القبول، بل هي عبارة عندهم عن الإسلام مع عدم العلم بالفسق، ولذلك قبلوا رواية من عرف منه ذلك ولم يعرف منه شيء آخر.

المسألة الخامسة الفاسق الذي ترد روايته وفاقا إنما هو الفاسق الذي يعلم فسقه، فأما الذي لا يعلم فسقه: فإن كان فسقه مظنونا قبلت روايته

المسألة الخامسة الفاسق الذي ترد روايته وفاقا إنما هو الفاسق الذي يعلم فسقه، فأما الذي لا يعلم فسقه: فإن كان فسقه مظنونا قبلت روايته. والأظهر أن فيه خلافا كما في الشهادة؛ إذ نقل وجه في الشهادة أنها ترد به، وذلك يتأتى في الرواية أيضا، إذ لا فرق بين الرواية والشهادة فيما يتعلق بالعدالة عندنا، وإن كان بينهما فرق في أمور أخر كاعتبار الحرية، والذكورة، والعدد، وكلام الإمام فيه صريح بحصول الاتفاق فيه، فلعله أراد اتفاق من خالف في الفسق المقطوع به كالقاضي أبي بكر وغيره قال الشافعي - رضي الله عنه -: "الحنفي إذا شرب النبيذ أقبل شهادته وأحده"، وهذا لأن إقدامه على ذلك ليس مما يدل على اجترائه على المعصية، لأنه أقدم عليه على ظن إباحته فلا تبطل الثقة به. [والدليل الدال على تحريمه ليس بقاطع حتى لا يعتبر ظنه معه] فيقبل. وإن أن فسقه مقطوعا به: فإن كان ممن يرى الكذب والتدين به فا خلاف في أنه لا تقبل روايته.

وإن لم يكن منهم: فذهب الشافعي والأكثرون إلى قبول روايته، وهو اختيار الغزالي والإمام وأبي الحسين البصري، قال الشافعي - رضي الله عنه -: "أقبل رواية أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية من الرافضة، فإنهم يرون الشهادة بالزوم لموافقيهم". وكون الخطابية من قبيل ما نحن فيه نظر، إذ المحكي عنهم في كتب المقالات ما يوجب تكفيرهم قطعا، فإن صح ذلك عنهم لم يكونوا من قبيل ما نحن فيه، بل من قبيل الكفرة من أهل القبلة فيكون الاستثناء منقطعا. وذهب الأقلون إلى أنه لا تقبل روايته، وهو اختيار القاضي أبي بكر والجبائي وأبي هاشم. احتج الأكثرون بوجوه: أحدها: أن خبر الفاسق الذي شأنه ما ذكرناه ظاهر الصدق؛ لأنه يرى الكذب قبيحا كغير من العدول، أو كفرا كما هو مذهب بعضهم، فيكون

اجتنابه عنه كاجتناب غيره أو أشد فيكون ظاهر الصدق، وحينئذ يجب العمل به بالنص، وهو قوله عليه السلام: "أحكم بالظاهر". وثانيها: الإجماع، فإن الصحابة والتابعين قبلوا أخبار قتلة عثمان والخوارج من غير نكير فيه فكان إجماعا. وفي هذا الإجماع ما سبق في الإجماع على قبول الرواية من الكافر من أهل القبلة. وثالثها: وهو الوجه المعقول: أن المقتضى لقبول روايته قائم وهو ظن صدقه؛ فإن صدقه راجح على كذبه لما سبق من أن تحرزه عن الكذب كتحرز غيره أو أشد والمعارض المتفق عليه منتف وهو الفسق الذي لا يؤمن معه الجرأة، على الكذب، والأصل عدم غيره فوجب أن يقبل عملا بالمقتضى. ورابعها: القياس على العدل والمظنون فسقه، والجامع رجحان الصدق على الكذب. احتج الأقلون بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ} الآية وهذا فاسق قطعا؛ إذ الكلام في الفسق المقطوع به، فكان مندرجا تحت الآية فلا يقبل، بخلاف المظنون فسقه في الإجماع، فإنه ليس بفاسق قطعا فلا يعلم اندراجه تحت الآية. وجوابه: أنه معلل بما علم من جرأته على فعل المحرم مع اعتقاد تحريمه الذي لا يؤمن معه جرأته على الكذب، وهذا المعنى غير حاصل فيما نحن فيه، فينتفي الحكم لانتفاء علته.

سلمنا أنه غير معلل بما ذكرنا بل / (90/أ) هو بمجرد الاسم لكنه منقوض بالمظنون فسقه. وأما قوله: لا يعلم اندارجه تحت الآية فمسلم، لكن المسألة ليست قطعية حتى يعتبر فيها ذلك بل ظنية، وحينئذ يكفي فيها ظن الاندراج وهو حاصل فينتقض. وثانيها: قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} ترك العمل به في خبر من ظهرت عدالته [وفي المظنون فسقه فوجب أن يبقى فيما عداه وجوابه ما] سبق أن العمل بخبر الواحد ليس عملا بالظن [بل بالقطع]. سلمناه لكن ما لأجله ترك العمل به فيما عداه حاصل فيه فوجب ترك العمل به فيه أيضا. وثالثها: أن ما لا دليل عليه يبقى على العدم الأصلي، وهذا لا دليل عليه فوجب أن يبقى على العدم الأصلي. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا دليل عليه فإن من ذكرناه دليل عليه، هذا في المخالف الذي لا يظهر عناده [فأما الذي يظهر عناده] فإنه لا تقبل روايته، وإن لم نكفره ونفسقه؛ لأن عناده كذب مع علمه بكونه كذبا وذلك يقتضي جرأته على الكذب فوجب أن لا يقبل.

المسألة السادسة يشترط أن يكون الراوي ضابطا لما سمعه، فرواية المغفل الذي لا يضبط حالة السماع، والذي يضبط فيها لكن يغلب عليه السهو والنسيان بعدها، والذي يتساوى فيه احتمال الذكر والسهو والنسيان غير مقبولة

المسألة السادسة يشترط أن يكون الراوي ضابطا لما سمعه، فرواية المغفل الذي لا يضبط حالة السماع، والذي يضبط فيها لكن يغلب عليه السهو والنسيان بعدها، والذي يتساوى فيه احتمال الذكر والسهو والنسيان غير مقبولة؛ لعدم حصول ظن الصدق وهو ظاهر غني عن البيان.

المسألة السابعة لا يقبل عندنا رواية من لم يعرف منه سوى الإسلام وعدم الفسق ظاهرا بل لا بد من خبرة باطنة بحاله، ومعرفة استقامة سيرته ودينه، أو تزكية من عرفت عدالته بالخبرة له

المسألة السابعة لا يقبل عندنا رواية من لم يعرف منه سوى الإسلام وعدم الفسق ظاهرا بل لا بد من خبرة باطنة بحاله، ومعرفة استقامة سيرته ودينه، أو تزكية من عرفت عدالته بالخبرة له، وهو مذهب الأكثرين من الفقهاء والأصوليين. وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - وأصحابه: يكفي في قبول الرواية الإسلام، والسلامة عن الفسق ظاهرا. احتج أصحابنا بوجوه: أحدها: أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد لقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا}، خالفناه في حق من اختبرناه بقوة الظن،

فيبقى فيما عداه على الأصل. وهو ضعيف لما تقدم. وثانيها: أنه مجهول الحال فلا تقبل روايته؛ دفعا لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات. وهو أيضا ضعيف؛ لأن احتمال الكذب غير مانع من القبول وإلا لما قبلت رواية من اختبرت عدالته؛ ضرورة أن احتمال الكذب فيه أيضا. وأما القياس على الشهادة في العقوبات لو سلم الحكم فيها فغير صحيح؛ لأن الشهادة يحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية لا سيما في العقوبات، والاختلاف في الحكم دليل على الاختلاف في الحكمة، ومع الاختلاف في الحكمة لا يصح القياس. وثالثها: أن قول المفتي إنما يقبل لو عرف بالاختبار بلوغه رتبة الاجتهاد، فكذا الراوي إنما تقبل روايته لو عرف بالاختبار عدالته. والجامع: أن الاجتهاد شرط قبول الفتوى، والعدالة شرط قبول الرواية. وهو ضعيف أيضا؛ لأن الاجتهاد إنما يعتبر في المفتي؛ لأنه لا طريق إلى الإصابة في الفتوى إلا به، ولا طريق إلى حصوله إلا بالاختبار؛ إذ ليس له سبب ظاهر ليستدل بحصوله على حصوله، بخلاف العدالة في الرواية فإنها إنا تعتبر بظن الصدق، وظن الصدق حاصل بالإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا، إذ الإسلام سبب ظاهر للمنع من الإقدام على الكذب فيستدل بحصوله على الامتناع من الكذب فيحصل ظن الصدق. ورابعها: أجمعنا على أنه لما كان الصبا والرق والكفر، وكونه محدودا في القذف مانعا من الشهادة: لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء ظاهرا فكذا الأمر في العدالة. والجامع: الاحتراز عن المفسدة المحتملة.

وهو أيضاً ضعيف؛ لأن العلم الظاهري بالعدالة بمعنى الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا حاصل، واشتراط العدالة بمعنى آخر ممنوع. سلمنا وجوب معرفة العدالة عن خبره في الشهادة فلم يجب في الرواية، وقياس الرواية على الشهادة غير صحيح لما تقدم ودعوى الإجماع على عدم الفصل بينهما ممنوع. وخامسها: إجماع الصحابة على رد رواية المجهول. رد عمر - رضي الله عنه - خبر فاطمة بنت قيس وقال: "كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت". ولو كان اختبر حالها لما قال ذلك. ورد علي - رضي الله عنه - خبر الأشجعي في المفوضة لما كان مجهول الحال واشتهر ذلك فيما بينهم ولم ينكره أحد فكان إجماعا. وهو أيضا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن الرد في تنك الصورتين لجهالة حال الراوي بل للتهمة، ولهذا قال: "لا ندري أصدقت أم كذبت"، إذ لا يقال مثل هذا إلا فيما لا يغلب على الظن صدقه، ومن ظهر إسلامه مع السلامة عن الفسق ظاهرا فإنه يغلب على الظن صدقه، وكذا الكلام في الأشجعي، ولهذا وصفه بما يدل على التهمة. والمعتمد في ذلك أن نقول: عدم الفسق في الراوي شرط لقبول روايته للآية، أو لأن كل ما يكون وجوده منافيا للشيء، كان عدمه شرطا له، فكل موضع لا يقطع بعدمه وجب أن لا يقبل؛ لأن الجهل بالشرط - يوجب الجهل

بالمشروط، ترك العمل به فيمن عرف حاله بالاختبار لقوة الظن فوجب أن / (91/أ) يبقى فيما عداه على الأصل. واحتج الخصم بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية. ووجه الاستدلال به: هو أنه تعالى علق الأمر بالتبين بالفسق، والمعلق عدم عند عدم المعلق عليه، فينتفي وجوب التبيين عند عدم العلم بالفسق، وعند ذلك إما يجب القبول وهو المطلوب، أو يجب صريح الرد وهو باطل؛ أما أولا: فبالاجماع. وأما ثانيا: فلأن مستور الحال لا يكون أسوأ حالا من الفاسق، فإذا وجب التثبت والتبيين في خبره فلو وجب صريح الرد في خبر المستور لزم أن يكون أسوأ حالا منه وهو باطل قطعا. وجوابه: أن الأمر بالتبيين غير معلق بمجيء من يعلم فسقه حتى يلزم انتفاؤه عند عدم العلم به بل هو معلق بمجيء الفاسق، فعلى هذا إنما ينتفي وجوب التبيين بطريق مفهوم الشرط عند عدم الفسق، وهو إنما يتحقق بالعلم بعدمه الذي لا سبيل إليه إلا بالاختبار والبحث عن حاله، لا بعدم العلم به، وفرق بين العلم بعدم الشيء وبين عدم العلم به. فالحاصل في مستور الحال إنما هو عدم العلم بفسقه، لا العلم بعدم فسقه فليس في الآية دلالة بطريق المفهوم على قبول روايته بل فيها دلالة على عدم قبول روايته على الوجه الذي قررناه.

وثانيها: أن الأصل عدم الفسق فكذا الظاهر، فإن الظاهر من حال المسلم الانتهاء عن المعاصي لا سيما عن الكبائر فوجب أن تقبل روايته لقوله عليه السلام: "أحكم بالظاهر" و "نحن نحكم بالظاهر". وجوابه: أنا لا نسلم أن الظاهر ما ذكرتم، إن كان الأصل ما ذكرتم بل الظاهر خلافه. ودليله: الاستقراء فلاا يبقى حينئذ تعويل على الأصل [فإنا لا نسلم ترجيح الأصل على الظاهر سلمنا تطابق الأصل] والظاهر، لكن إنما يعتبر ذلك إذا لم ين في النص إشارة إلى اعتبار ما يخالف حكمهما، فأما إذا كان فيه ذلك فلا، وهنا كذلك؛ لأنه اعتبر عدم الفسق في القبول بطريق المفهوم، واعتباره منافيا لاعتبار الأصل والظاهر. سلمنا اعتباره مطلقا لكن خص منه الشهادة في العقوبات وشهادة الواحد مع اليمين على رأي الخصم وشهادة الواحد، فيلزم من تخصيصه ثمة تخصيصه ها هنا، والجامع: دفع مفسدة الكذب المحتمل. سلمنا لكنه معارض بالأدلة الدالة على نفي اتباع الظنون، وعدم العلم وعند ذلك لا بد من تأويل أحد النصين، وليس تأويل تلك النصوص وإجراء ما ذكرتم من السنة على ظاهره أولى من العكس، وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون، ثم إنه معنا؛ لأن تلك النصوص متواترة المتن، وما ذكرتم ليس كذلك فكان تأويله أولى وأحرى. وثالثها: أنه عليه السلام قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال، مع

أنه لم يعلم منه سوى الإسلام، إذ لم يظهر سوى الإسلام، فالظاهر أنه لم يعلم منه سوى ذلك، فإذا جاز ذلك في الشهادة فالرواية أولى. وجوابه: أنا لا نسلم أنه عليه السلام لم يعلم منه سوى الإسلام، ولا نسلم أنه لم يظهر منه سوى الإسلام. ورابعها: إجماع الصحابة فإنهم قبلوا أخبار العبيد والنسوان، والأعراب المجاهيل من غير نكير فيما بينهم؛ لما ظهر من إسلامهم، ولم يظهر منهم فسق. وجوابه: أنا لا نسلم أنهم قبلوا روايتهم من غير أن يعلموا منهم سوى الإسلام؛ فإن هذا نفس المسألة. وخامسها: أنا أجمعنا على قبول خبر المسلم في كون اللحم لحم المذكى، وفي كون الماء في الحمام طاهرا، وفي كون الجارة المبيعة رقيقة له وهي غير

مزوجة، ولا معتدة، وفي كونه على الطهارة إذا أم بالناس، وفي غيرها من الصور فكذا ها هنا. والجامع: ظهور الظن الناشئ من الإسلام مع عدم الفسق. وجوابه: الفرق: وبيانه من حيث الإجمال والتفصيل. أما من حيث الإجمال: فلأن الأخبار في تلك الصور مقبولة مع الفسق بل ومع الكفر، وذلك يدل على افتراقهما في الحكمة؛ لأن الاختلاف في الحكم يدل على الاحتلاف في الحكمة، ومعه لا يصح القياس. وأما من حيث التفصيل، فلأن منصب الرواية عن الرسول - عليه السلام - أعلى رتبة من الأخبار في تلك الصور، لكونه يثبت شرعا عاما في حق كل المكلفين، بخلاف الإخبار في تلك الصور فإنه لا يثبت الحكم إلا في تلك الصورة الجزئية، فلا يلزم من قبول الأخبار في تلك الصور قبول الأخبار عن الرسول - عليه السلام -. وسادسها: أن الكافر إذا أسلم وروى عقيب إسلامه من غير مهلة فإنه يقبل، فكذا ما نحن فيه بل أولى؛ لأن طول مدته في الإسلام يوجب رسوخ أصول الإسلام وفروعه في قلبه فيكون احتمال الكذب أبعد. وجوابه: منع الحكم؛ وهذا لأنه يحتمل أن يكون كذوبا قبله فهو باق في طبعه بعد الإسلام، فلا يقبل إلا بعد الخبرة البحث عن حاله. سلمناه لكن الفرق ظاهر، وبيانه من وجهين: أحدهما: أن احتمال الفسق في مستور الحال أكثر من احتمال الفسق فيما إذا روى عقيب إسلامه؛ لأن كل فسق يحتمل في هذه الصورة فهو يحتمل في مستور الحال من غير عكس؛ لأن احتمال الفسق المتقدم الذي ترد به الرواية غير متصور فيما إذا روى عقيب الإسلام. وثانيهما: أن في ابتداء الإسلام تكون العزيمة مصممة مؤكدة على

الإتيان بالمأمورات، والانتهاء عن المنهيات، بخلاف الدوام؛ فإن فيه تفتر العزيمة، ويتطرق الملال الكلال على ما دل عليه الاستقراء في / (92/أ) حق كل من دخل ابتداء في أمر محبوب والتزمه، فإن شدة اهتمامه به إذ ذاك أكثر، فلا يلزم من قبول روايته عقيب إسلامه لقوة الظن بصدقه بسبب عدم الفسق قبول رايته في دوامه مع عدم ذلك الظن القوي.

"خاتمة لهذا الصنف"

"خاتمة لهذا الصنف" قد ذكرنا أنه لا بد من معرفة العدالة إما بالاختبار، أو بالتزكية على رأي أصحابنا. أما الاختبار فهو الأصل؛ إذ التزكية لا تثبت إلا به دفعا للتسلسل وهم إنما يحصل بطول الصحبة والمعاشرة في الحضر والسفر والمعاملة معه. وأما التزكية فتزكية من عرفت عدالته بالاختبار إما في أول المرتبة، أو بمراتب كما تقدم فلنذكر ها هنا مسائل الجرح والتعديل.

"المسألة الأولى" اختلفوا في اعتبار العدد في المزكى والجارح على ثلاثة أقوال

"المسألة الأولى" اختلفوا في اعتبار العدد في المزكى والجارح على ثلاثة أقوال: أحدها: اعتبار العدد فيهما سواء أن في الرواية أو في الشهادة وهو مذهب بعض المحدثين. وثانيها: أنه لا يعتبر العدد فيهما سواء كان في الشهادة، أو في الرواية وهو مذهب القاضي أبي بكر - رحمه الله -. وثالثها: أنه يعتبر العدد فيهما لكن في الشهادة، وأما في الرواية فيكتفى بواحد فيهما، وهو مذهب الأكثرين وهو الأصح؛ لا لأنه لا عهد في الشرع بأن شرط الشيء يزيد في الاحتياط والإثبات على مشروطه، بل إما يساويه وهو كثير، أو ينقص [عنه] كالإحصان، فإنه شرط لوجوب الرجم، وأنه يثبت بشهادة الاثنين من أن الزنا لا يثبت إلا بشهادة الأربعة فإذا قبلت رواية الواحد [فلأن تقبل تزكية الواحد أو جرحه فيها كان أولى] لأن غاية مرتبة الشرط أن يلحق بمشروطه.

فإن قلت: التزكية شهادة بدليل أنها ترد بالبعضية، والرق، والأنوثة فيعتبر فيها العدد كالشهادة. قلت: قد نسلم لكم أن التزكية شهادة في الشهادة، وإن كان في بعض ما ذكرتم نظر والتزكية شهادة في الشهادة لكن لا نسلم أنها شهادة مطلقا، سواء كان في الرواية، أو في الشهادة، ولا نسلم ثبوت ما ذكرتم من الأحكام في التزكية في الرواية؛ فإن يقبل فها تزكية العبد والمرأة والوالد والولد كما تقبل روايتهم، بل جعل التزكية إخبارا مطلاقا أقرب من جعلها شهادة مطلقا؛ بدليل أنه لا يشترط فيها لفظ الشهادة ولا الطلب وإن كانت في الشهادة؛ فإنه إذا شهد عند القاضي من لا يعرف القاضي عدالته فتوقف عن الحكم، فجاء من يعرف القاضي عدالته وزكاه من غير مسألة منه فإنه تقبل تزكيته، ولو كان ذلك شهادة لرده كما في الشهادة، ولأن جعلها شهادة مطلقا يستلزم خلاف قواعد الشرع، وهو رجحان الشرط على المشروط في طريق الإثبات، وأما جعله إخبارا مطلقا فلا يستلزم ذلك فكان أولى. ولا يعارض بأن جعلها شهادة أحوط فكان أولى؛ لأن إيماء الأدلة على قبول خبر الواحد يلغي اعتباره على أنه معارض بأن اعتباره أفضى إلى تضييع أوامر الله تعالى ونواهيه وهو محذور، بأنه يلزم منه مخالفة الأصل؛ إذ الأصل عدم الدليل على اعتبار قول الزائد على الواحد في التزكية، وهذا الأصل وإن كان متروكا في الواحد لكن لأنه لا يتصور التزكية بدون الواحد، ولوجود الإجماع على أنه لا بد من الواحد في التزكية تفريعا على الافتقار إليها.

المسألة الثانية اختلفوا في أنه هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل في قبولهما أم لا؟

المسألة الثانية اختلفوا في أنه هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل في قبولهما أم لا؟ فقال الشافعي - رضي الله عنه -: "يشترط ذكر سبب الجرح، دون التعديل؛ لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحا، لاختلاف مذاهب الناس فيه، وأما العدالة فسببها واحد لا اختلاف فيه" ولأن ذكر سبب العدالة يحتاج إلى أمور متعددة يتعذر ضبطها وذكرها، أو يتعسر بخلاف ذكر سبب الجرح فإنه ليس كذلك بل هو سهل، فلا يلزم من اشتراط سبب الجرح اشتراط ذكر سبب العدالة. ومنهم من عكس فشرط ذكر سبب العدالة، دون الجرح، محتجا بأن مطلق التعديل لا يحصل الثقة؛ لأن عادة الناس جارية بأن يتسارعوا إلى الثناء والمدح بناء على الظاهر، فلا بد من ذكر السبب بخلاف مطلق الجرح فإنه يبطل الثقة. ومنهم من شرط ذكر سببهما أخذا بمجامع كلام الفريقين. ومنهم من لم يشترط ذكر سببهما، وهو اختيار القاضي أبي بكر وغيره. واستدل عليه: بأن المزكى والجارح كل واحد منهما إن لم يكن عدلا أو

المسألة الثالثة في أن الجرح هل يقدم على التعديل أم لا؟

كان عدلا لكنه ليس بصيرا بهذا الشأن فلا اعتبار بقوله، وإن كان عدلا بصيرا فلا معنى لهذا السؤال، بل وجب الاكتفاء بمطلق تعديله وجرحه. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنه إذا كان عدلا وليس بصيرا فلا اعتبار بقوله؛ وهذا لأنه إذا كان عدلا، ولكنه لا يعرف بما يجرح به فأخبرنا بأنه رآه يزني أو يشرب مثلا، فإنه يحصل الجرح بقوله مع ذكر سببه. نعم لا اعتبار بقوله حينئذ إذا أطلق ولم يذكر السبب، فأما إذا ذكر ذلك فلا نسلم أنه لا غبرة بقوله. والصحيح: أنه إن عرفت عدالتهما وبصيرتهما بما به تحصل العدالة والجرح فلا يشترط ذكر سببهما؛ لأن الظاهر من حال المزكي العدل البصير بما به تحصل العدالة / (93/أ) أن لا يعدل جريا على عادة الناس بالتسارع إلى الثناء والمدح بناء على الظاهر بل [إنما يعدل] بناء على الخبرة الباطنة، وكذا الظاهر من حال الجارح العدل البصير بهذا الشأن أن لا يطلق الجرح إلا بما اتفق العلماء على كونه جارحا، دون ما اختلفوا فيه. وأما إن عرفت عدالتهما دون بصيرتهما، فها هنا يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل وهو اختيار الشيخ الغزالي - رحمه الله -. المسألة الثالثة في أن الجرح هل يقدم على التعديل أم لا؟ اعلم أن الجرح مهما كان مطلقا، أو كان معينا بذكر سببه، لكن فيما لم

يكن ضبطه مع ذلك، نحو أن يقول: رأيته يشرب، أو سمعت منه الكذب فإنه مقدم على التعديل سواء أن مطلقا أو بذكر أسبابه؛ لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل، ولا نفاها. فإن نفاها بطلت عدالته؛ لعلمنا بمجازفته وجزمه فيما لم يكن الجزم فيه، فإن المنفي لا يعلم. وإن كان معينا بذكر سبب ينضبط به، ويمكن بأن يعلم نحو أن يقول: رأيته قد قتل فلانا، فإن لم يتعرض المعدل لنفيه بل اقتصر على مطلق التعديل، أو ذكر معه سببه فإن الحكم ها هنا أيضا كما تقدم. وأما إذا تعرض لنفيه بأن يقول: "رأيته حيا" بعد ذلك فها هنا يتعرض الجرح مع التعديل، ويصار إلى الترجيح نحو كثرة العدد، وكثرة الضبط، وزيادة الورع وغيرها من التراجيح التي تتطرق إلى الرواية. وحيث قلنا بتقديم الجرح على التعديل، فإنه لا يرجح التعديل عليه بزيادة العدد وغيره من الترجيحات؛ لأن سبب التقديم إنما هو زيادة الاطلاع وذلك لا ينتفي بزيادة عدد المعدل، ومنهم من قال في هذه الصورة بترجيح المعدل عليه، وهو ضعيف لما تقدم.

المسألة الرابعة في مراتب التعديل

المسألة الرابعة في مراتب التعديل. اعلم أن التعديل قد يكون بالقول، وقد يكون بغيره. والأول على قسمين؛ لأنه إما أن يعدل مطلقا ولم يذكر سببه، نحو أن يقول: هو عدل رضا، أو يذكر معه سببه، نحو أن يقول: هو عدل رضا لأني عرفت منه كيت وكيت. فأما القسم الأول: فقد عرفت أنه مختلف فيه وأنه حيث يقبل على الأظهر، وأنه حيث لا يقبل. وأما القسم الثاني: فمتفق عليه، وهو راجح على الأول عند التعارض؛ لكونه متفقا عليه ولتمام البيان فيه. وأما النوع الثاني، وهو التعديل بغير القول فهذا على أقسام ثلاثة: أحدها: أن يحكم بشهادته، فهذا أيضا تعديل متفق عليه، لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده، إما على الإطلاق إن كان الحاكم لا يرى الحكم بشهادة الفاسق، وإن عرف منه الصدق والتحري فيه، [وأما بالنسبة إلى قبول قوله إن كان يرى ذلك في الفاسق الذي عرف منه الصدق والتحري فيه] فإنه إذا حكم بشهادة من ليس بعدل عنده يُفَسَّق.

وهذا القسم راجح على القسمين الأولين. أما ما يخصه بالنسبة إلى الأول منهما فهو أن هذا متفق عليه، وذاك مختلف فيه. وأما ما يعمهما فهو أن التعديل وإن كان تذكر أسبابه، فإنه يعقل اجتماعه مع ما يوجب عدم قبول القول مع إن ليس فيه إلزام على الغير، وأما الحكم بشهادته فإنه لا يعقل اجتماعه مع ما يوجب عدم قبول القول مع أن فيه إلزاما على الغير فكان ظن قبول القول فيه أكثر. وثانيها: أن يعمل بخبره، فإن علم أنه لا دليل له سوى ذلك الخبر كان ذلك تعديلا له؛ لأنه لا يجوز له العمل بخبر غير العدل، فلما عمل به دل ظاهرا على أنه عدل، ثم العامل بالخبر إن كان ممن يرى أن كل ما اختلف فيه أنه جارح، فهو جارح فهذا يكون تعديلا متفقا عليه، وإلا كان تعديلا بالنسبة إليه ومن هو على رأيه، ثم هو مرجوح بالنسبة إلى التعديل مع ذكر السبب، والتعديل بالحكم بالشهادة أما الأول، فلأنه يحتمل أن يكون ذلك بناء على مجرد الإسلام وعدم الفسق ظاهرا، وأن يكون بناء على تعديل غيره له من غير بيان السبب، والتعديل بذكر السبب لا يحتمل ذلك فكان راجحا عليه، وأما مرجوحيته بالنسبة إلى الثاني فظاهر؛ لأن المرجوح عن المرجوح بالنسبة إلى الشيء مرجوح بالنسبة إليه ولو سلم أن التعديل بذكر السبب مساويا للتعديل بالحكم بالشهادة على ما هو اختيار بعضهم فهو أيضا مرجوح بالنسبة إليه؛ لأن المرجوح بالنسبة إلى أحد المتساويين مرجوح بالنسبة إلى الآخر، وهو التعديل مطلقا من غير بيان السبب متقاربان. وثالثها: أن يروي عنه خبرا فهل هو تعديل له أم لا؟ اختلفوا فيه:

فمنهم من ذهب إلى أنه تعديل له مطلقا؛ إذ لو روى عمن عرف بالفسق كان غاشا في الدين، وعدالته تنفي ذلك ظاهرا. ومنهم من ذهب إلى أنه ليس بتعديل له مطلقا؛ لأنه لم يصدر منه سوى الرواية عنه وهي لا تدل على عدالته؛ لأن كثيرا منهم يروي عمن لو سئلوا عن عدالته لسكتوا عنه ولم يبينها له، ثم لا يلزم من أن لا يعرفه بالعدالة أن يعرفه بالفسق، فلعله لا يعرفه لا بهذا ولا بهذا وحينئذ لا نسلم أن يكون بالرواية عنه غاشا في الدين. سلمنا أنه يعرفه بالفسق لكن لا نسلم أيضا أنه حينئذ يكون غاشا بالرواية عنه؛ وهذا لأنه لم / (94/أ) يوجب العمل على غيره لكن قال: سمعت فلانا قال كذا وصدق فيه، فروى لما سمع عنه، ووكل البحث فيه إلى من أراد قبوله والعمل بمقتضاه، وإن عمل به بمجرد روايته من غير بحث عنه كان هو المقصر لا الراوي. ومنهم من فصل وقال: إن عرف من عادته، أو من صريح قوله أنه لا يروي إلا عن العدل، فهو تعديل له، وإلا فلا، وهو الصحيح؛ لأن

المسألة الخامسة ترك الحكم بشهادته، وترك العمل بروايته ليس جرحا، أي: ليس دليلا على الفسق، وإن كان دليلا على عدم اعتبار شهادته وروايته

روايته حينئذ مع ذلك القول أو صريح العادة يدل على عدالته حينئذ وهو مرجوح بالنسبة إلى كل ما تقدم من الطرق سوى مطلق التعديل. أما بالنسبة إلى التعديل بالحكم بالشهادة والتعديل بصريح القول مع ذكر أسباب العدالة فظاهر. وأما بالنسبة إلى العمل بمقتضى الرواية فكذلك أيضا؛ لأنهما يشتركان في أصل الرواية واختص هو بمزيد العمل به. وأما بالنسبة إلى مطلق التعديل من غير ذكر أسبابه، فلأن ما نحن فيه يحتمل أن يكون مع معرفة العدالة بذكر أسبابها، وأما مطلق العدالة فلا يحتمل ذلك فكان هو راجحا عليه. المسألة الخامسة ترك الحكم بشهادته، وترك العمل بروايته ليس جرحا، أي: ليس دليلا على الفسق، وإن كان دليلا على عدم اعتبار شهادته وروايته. أما الأول: فلأن ذلك محتمل لأمور أخر غير الفسق وهو ظاهر غني عن البيان. وأما الثاني: فلأنه لو ترك العمل به، أو الحكم بشهادته مع وجود سائر شرائطه لفسق به، وظاهر عدالته ينفيه، وكذا ترك الحكم بشهادته ليس دليلا على عدم اعتبار قوله في الرواية لجواز أن يكون ذلك لفقد شرط من الشرائط المختصة بالشهادة، وكذا ترك العمل بخبره ليس دليلا على عدم اعتبار قوله في الشهادة؛ لاحتمال أن يكون ذلك لتعارض دليل آخر له. نعم لو لم ينقدح وجه لتركه العمل بروايته سوى الفسق فهو كالجرح المطلق فإن قلنا: إنه يقدح قدح فيهما وإلا فلا.

المسألة السادسة في تعديل الصحابة

المسألة السادسة في تعديل الصحابة اعلم أن الذي تقدم أنه لا بد من البحث عن العدالة، ومعرفتها إما بالاختبار، أو بالتزكية في كل واحد من الرواة، فإنما هو في غير الصحابة فأما فيهم فلا، فإن الأصل فيهم العدالة عندنا إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد منهم لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت، فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم والفحص عنها وهو مذهب جمهور السلف والخلف. ومن الناس من زعم أن حكمهم في العدالة كحكم غيرهم فيجب البحث عنها ومعرفتها في كل واحد منهم.

ومنهم من زعم أن الأصل فيهم العدالة لكن في أول الأمر، فأما بعد أن ظهرت الفتن فيما بينهم فلا، بل حالهم فيها بعد ظهور الفتن فيما بينهم كحال غيرهم. ومنهم من زعم أن كل من قاتل عليا - رضي الله عنه - فهو فاسق مردود الرواية والشهادة؛ لخروجهم على الإمام الحق وقتالهم له. ومنهم من زعم أنه لا تقبل رواية واحد من الفريقين ولا شهادته؛ لأنا نقطع بفسق أحد الفريقين وهو غير معلوم وغير معين، فلا يتميز العدل عن الفاسق فيتعذر القبول. ومنهم من زعم أنه إذا انفرد أحد الفريقين بالرواية أو بالشهادة قبلت روايته وشهادته، لأن الأصل فيه العدالة وقد شككنا في فسقه فلا يزول حكمه بالشك كما في المياه والأحداث، أما إذا شاركه في ذلك مخالفة فلا يقبل، لأن فسق أحد الفريقين معلوم قطعا من غير تعيين فعارض يقين العدالة كما في الإناءين إذا تبين نجاسة أحدهما وهذا مذهب واصل بن عطاء. ومنهم من شك في فسق عثمان - رضي الله عنه - وقتلته.

وهذه المذاهب كلها باطلة سوى مذهب الجمهور فإنه الحق. والدليل عليه: أنا نكتفي في التعديل باختبار واحد منا، أو بتزكيته مع أنه لا يعلم إلا بعض الظواهر، ومع عدم عصمته عن الكذب فالاكتفاء بتزكية علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء مع عدم جواز الكذب عليه، وبتزكية رسوله مع عصمته عن الخطأ والكذب أولى. قال الله تعالى في حقهم: {لقد قضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} إلى آخر السورة. وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم}. وقال في حق الأنصار: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان} الآية. وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}. وقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ففيه نظر؛ من حيث إنه لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، وقد سبق في الإجماع أن المراد منهما مجموع الأمة من حيث المجموع، فلا يراد كل واحد منهم، وإلا لزم المحذور المذكور.

وقال - عليه السلام -: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث. وقال - عليه السلام -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". وقال - عليه السلام -: "لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". وقال: "إن الله تعالى اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا"، كيف ولو لم يرد هذا كله لكان ما اشتهر وتواتر من حالهم في / (95/أ) الهجرة والجهاد، وبذل المهج والأموال، وقتال الآباء والأولاد والأقرباء والأهل في موالاة الرسول ونصرته، واشتدادهم في أمور الدين بحيث لا تأخذهم في ذلك لومة لائم كافيا في القطع بعدالتهم.

وقد طعن فيهم قدما القدرية، والخوارج، وبالغوا فيه على ما هي كتبهم شاهدة بذلك، وتلك المطاعن كلها مروية بالآحاد غير مشتملة على شرائط القبول، وبتقدير صحتها فهي لا تعارض الكتاب والسنة المشهورة. وأما ما جرى بينهم من القتال والفتن فهو غير قادح في عدالتهم؛ لأنه كان بناء على الاجتهاد والتأويل، [وحينئذ إما أن يقال: إن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والباقي مخطئ في اجتهاده] وعلى التقديرين فهو غير قادح فيها؛ لأن ما اختلفوا فيه إن جعل من مسائل الاجتهاد فظاهر: لأنه حينئذ إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب فظاهر، وإن قلنا: المصيب واحد والباقي مخطئ فكذلك؛ لأنه حينئذ معذور غير آثم، فلا يخرجه خطأه عن العدالة. وأما إذا لم يجعل ما اختلفوا فيه من مسائل الاجتهاد بل نجعل قتلة عثمان، والذين خرجوا على علي - رضي الله عنهما - مخطئين قطعا فكذلك؛ لأنهم جهلوا خطاهم وفسقهم، وقد سبق أن الفاسق الذي لا يعلم فسقه لا ترد روايته به سواء كان كونه فسقا قطعا أو ظنا فلا يكون ذلك قادحا في عدالتهم، وهذا أقرب من حيث إنه جمع بين الدليلين، وأنه حسن الظن بهم، وأنه إتباع لمذهب السلف.

فإن قيل: أثبتم العدالة للصحابة مطلقا، فمن الصحابي حتى يعرف ثبوت العدالة له من غير بحث وفحص عن حاله. قلنا: اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون إلى أن الصحابي: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ولو ساعة سواء روى عنه، أو لم يرو عنه، وسواء اختص به اختصاص المصحوب أو لم يختص به. وهو مقتضى لفظ الصحبة من حيث الوضع، بدليل: أنه يصح تقسيم الصحبة إلى الصحبة ساعة، وإلى الصحبة مدة طويلة، فيقال: صحبه ساعة وصحبه طوال عمره، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركا، وكذا يصح أن يقال: صحبه ولم يأخذ عنه العلم، ولم يرو عنه، ويقال: صحبه وأخذ عنه العلم وروى عنه، ولأن القائل لو قال: صحبت فلانا فإنه يصح أن يقال له: أصحبته يوما، أو شهرا، أو سنة؟ وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أم لا؟ ولو كان لفظ الصحبة موضوعا لطول الصحبة والرواية عنه لما حسن هذا الاستفهام. وأما من حيث العرف، فإنه يقتضي طول الصحبة وكثرتها؛ إذ لا يطلق في العرف على من صحب إنسانا ساعة أنه صاحبه، وإنما يقال ذلك في المكاثر الملازم كما يقال: المزني صاحب الشافعي - رضي الله عنهما - وأبو

يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة - رضي الله عنهم -. وذهب الأقلون إلى أن الرؤية والصحبة القليلة غير كافية في صدق إطلاق الصحابي. وهؤلاء اختلفوا: فذهب الأكثرون منهم إلى أن الرؤية والصحبة الطويلة والاختصاص به كافية في صدق هذا الإطلاق سواء روى عنه - عليه السلام - أو لم يرو عنه. وذهب الأقلون إلى أنه يعتبر في صدق هذا الإطلاق مع ما ذكر من الأمور الرواية عنه أيضاً.

والخلاف لفظي والوضع يصحح مذهب الأولين، والعرف مذهب الآخرين. وعلى التقدير الأول تثبت الصحبة: بالنقل المتواتر، والنقل الصحيح من الآحاد، وبقوله: أنا رأيت النبي - عليه السلام -، وصحبته ساعة. وأما على التقدير الثاني فإنها تثبت بالطريقتين الأولتين، وأما بالطريقة الثالثة ففيه نظر، من حيث إنه يمكن إثباتها بطريق النقل، فلا تثبت بقوله مع أنه متهم فيه؛ لأنه يدعي رتبة لنفسه، وهذه التهمة وإن كانت قائمة في الأول، لكن قد يتعذر إثبات صحبة الساعة بالنقل، إذ قد لا يكون في تلك الساعة أحد حاضر غيره، أو وإن حضر فيها غيره، لكنه واحد أو اثنان لكن لم ينقل ذلك، فلو لم يثبت بقوله لتعذر إثباته بخلاف ما إذا طالت الصحبة، وكثر التردد في السفر والحضر وشاهده أقوام لا حصر لهم، فإنه ينقل ويشتهر فلا يثبت بقوله، وهذا كالمودع والوكيل إذا ادعيا الهلاك بسبب ظاهر، فإنه لا يسمع قولهما ما لم يقيما البينة على أصل السبب، لإمكان ذلك، بخلاف ما إذا ادعيا الهلاك بسبب لا يمكن إقامة البينة عليه فإنه يسمع قولهما.

الصنف الثاني

الصنف الثاني من هذا القسم فيما اختلف فيه أنه شرط وفيه مسائل:

المسألة الأولى مذهب الأكثرين أنه لا يشترط العدد في الراوي بل يقبل خبر الواحد العدل

المسألة الأولى مذهب الأكثرين أنه لا يشترط العدد في الراوي بل يقبل خبر الواحد العدل. خلافا للجبائي، فإنه قال: رواية الاثنين مقبولة مطلقا إلا في الزنا فإنه حكى عنه أنه لا يقبل فيه إلا رواية الأربعة، فأما رواية العدل الواحد فلا تقبل إلا إذا عضده ظاهر، أو قياس، أو عمل به بعض الصحابة أو كان فيهم منتشرا. لنا: أكثر ما سبق في أن خبر الواحد حجة. فإن قلت: ما سبق من إجماع الصحابة فإنما نعلم انعقاده على [قبول] خبر الواحد الذي هو بمعنى أنه ليس بمتواتر، لا بمعنى الذي راويه واحد، فإنا لا نسلم انعقاد الإجماع على قبول خبر الواحد بهذا المعنى؛ وهذا لأن كثيرا منهم لم يقبل خبر الواحد / (96/أ) بهذا المعنى فإن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة. وعمر لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه معه أبو سعيد الخدري. ورد هو أيضا خبر فاطمة بنت قيس. ورد هو وأبو بكر - رضي الله عنهما - خبر عثمان في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه من يشهد له بذلك.

قلت: ذلك للتهمة والارتياب في خصوص تلك الروايات، بدليل أنه نقل عنهم بعينه قبول خبر الواحد بهذا المعنى: إذ روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - عمل بخبر بلال وحده، وعمل عمر بخبر جمل بن مالك، وبخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، وعمل بخبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها، وعمل بخبر عبد الرحمن أيضا وترك رأيه في الدخول في بلاد الطاعون والخروج عنها. وكذا غيرهما من الصحابة، نحو علي فإنه كان يقبل خبر أبي بكر، وقبل خبر المقداد. وعثمان فإنه قبل خبر فريعة بنت مالك أخب أبي سعيد الخدري، وكذا الصحابة عملوا بأسرهم بخبر عائشة، وخبر أبي سعيد الخدري في الربا، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، فلو لم يحمل عدم القبول في تلك الصور على التهمة والارتياب لزم التناقض، وأنه ممتنع، وكيف لا وأنه مصرح به في بعضها. فإن قلت: لعل ذلك؛ لأن القياس والاجتهاد، أو ظاهر يعضده. قلت: كانوا يتركون الاجتهاد والأقيسة والظاهر بسبب تلك الإخبارات كما في خبر المخابرة فإنه ما كانوا يرون بها بأسا،، وكما في خبر أبي سعيد فإنه على خلاف القياس، وخلاف ظاهر قوله - عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" وكما في خبر عائشة، فإنه على خلاف ظاهر

قوله - عليه السلام -: "الماء من الماء". واحتج الخصم بأمور: أحدها: ما روي أنه - عليه السلام - لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن ذلك للتهمة؛ فإن الواقعة وقعت في محفل عظيم، والواجب في مثلها الاشتهار. وثانيهما: أنه لو دل على اعتبار العدد في الراوي، فإنما يدل على اعتبار الثلاثة: ذي اليدين والشيخين، فما دل ظاهر الحديث لا يقولون به، وما يقولون به لا يدل [عليه] ظاهر الحديث.

وثانيها: أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد لكونه لا يفيد إلا الظن، وقد قال تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} ترك العمل به في خبر العدلين، لكون الظن فيه أقوى فيبقى ما عداه على الأصل. وجوابه: ما تقدم غيره مرة. وثالثها: قياس الرواية على الشهادة، بل أولى؛ لأن الرواية تقتضي شرعا عاما، بخلاف الشهادة فإنه لا تقتضي ذلك، فإذا لم يقبل خبر الواحد في حق الواحد، فلأن لا يقبل في حق المكلفين بأسرهم بطريق الأولى. وجوابه: النقض بالحرية، فإنها معتبرة في الشهادة، غير معتبرة في الرواية وفاقا. فإن قلت: ذاك لأن الشهادة منصب فلا يليق بالعبد. قلت: المنصب في الرواية أكثر، والعلم بذلك ضروري بعد الاستقراء، وبالذكورة والبصر؛ فإنه يعتبر في الشهادة دون الرواية؛ إذ الصحابة كانت تروي عن عائشة - رضي الله عنهم - مع أنهم بالنسبة إليها كالعميان، لما أنها من وراء الحجاب. وباشتراط عدم القرابة والعداوة فإنه يشترط في الشهادة، ولا يشترط في الرواية، فإنه يجوز أن يروي الولد عن الوالد، ويروي له، وبالعكس ويجوز أن يروي العدو عن العدو ويروي له. فإن قلت: ذاك إنما كان لدفع التهمة، وتحققهما في الرواية لا يوجب تهمة؛ لأن حكم الرواية عام، لا يختص بشخص دون شخص حتى تؤثر فيه العداوة والقرابة فيشترط عدمهما. قلت: الرواية عن الشخص إثبات منصب له، فكان ينبغي أن لا يجوز للولد أن يروي عن والده لكونه متهما في إثبات هذا المنصب له كما لا يجوز أن يشهد له وكذا بالعكس.

المسألة الثانية لا يشترط في الراوي أن يكون معروف النسب

المسألة الثانية لا يشترط في الراوي أن يكون معروف النسب، بل إذا حصلت الشرائط المعتبرة المذكورة قبلت روايته وإن لم يكن له نسب، فضلا من أن يكون له نسب معروف خلافا لقوم. لنا اتفاق الصحابة على قبول رواية من لا يعرف نسبه، والنبي قبل شهادة الأعرابي، والظاهر أنه ما كان يعرف نسبه، فإذا قبلت الشهادة مع جهالة النسب، فلأن تقبل الرواية مع جهالته بالطريق الأولى والمعقول المتقدم. ولا تقاس جهالة النسب على جهالة العين، فإنه إذا روى عن مجهول العين لم تقبل، وإن قبلت رواية مجهول الصفة، فإن احتمال معرفته بالفسق ظاهرا منتف لأنه خال عن الجامع، وبتقدير تسليمه فالفرق قائم، وهو أن جهالة العين تتضمن الإخلال بشرط من شرائط قبول الرواية لأن من شرائط قبول الرواية معرفة سلامة الراوي عن الفسق ظاهرا، وهي مع جهالة العين متعذرة؛ ولهذا لو روي عن شخص وعينه باسمه، لكن له اسمان وهو بأحدهما مجروح، وبالآخر معدل وهو متردد بينهما لم تقبل روايته؛ لأجل التردد، وعدم معرفة سلامته عن الفسق ظاهرا، وإن كان يقبل لو أن لمعدل مشهور، بخلاف جهالة النسب، فإنها لا تؤثر في إخلال شيء من شرائطه فلا يلزم من عدم قبول الرواية في تلك الصورة عدم قبول الرواية في صورة جهالة النسب.

المسألة الثالثة لا يشترط/ كون الراوي فقيها

المسألة الثالثة لا يشترط/ كون الراوي فقيها سواء كانت روايته موافقة للقياس، أو مخالفة له، خلافا للحنفية فيما إذا كانت مخالفة له. (97/أ) لنا: ما تقدم من الأدلة في أن خبر الواحد حجة؛ لأن تلك الأدلة لا تفرق بين أن يكون الراوي فقيها، أو لم يكن فقيها. ويخصه ما روى عنه - عليه السلام - أنه قال: "نضر الله أمرا أسمع مقالتي فوعاها فأداها كما وعاها فرب حامل فقه ليس بفقيه". احتجوا بوجوه: أحدها: أن الدليل نحو قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} ينفي جواز العمل بخبر الواحد، خالفناه فيما إذا كان الراوي فقيها؛ لأن الاعتماد على روايته أوثق، فوجب أن يبقى ما عداه على الأصل. وجوابه من وجهين:

أحدهما: ما تقدم غير مرة. وثانيهما: أن يقتضي اعتبار الفقه في الراوي وإن لم يكن الخبر على خلاف القياس وهو باطل إجماعا. وثانيها: أن الخبر إذا كان على خلاف القياس ظن عدم وروده؛ لكونه يقتضي التعارض، وهو خلاف الأصل وذلك يقتضي عدم قبوله، لكن إذا سمعه الفقيه بحث عن متنه، وعن وجه دلالته، وعن كل ما يندفع به التعارض، فإذا لم يجد رواه حينئذ فيحصل ظن صدقه، بخلاف العامي فإنه لا ينتبه لذلك، فلا يبحث عن تلك الأمور، فلا يحصل ظن صدقه فلا يجب أن يقبل، بل يجب أن لا يقبل؛ لأن عدم وروده مظنون حينئذ، والعمل بالظن واجب لما سبق. وجوابه: أنه يقتضي اعتبار الفقه في الرواي مطلقا؛ لأنه إذا روى خبرا لا بد أن يكون معارضا لدليل آخر نحو: عموم الكتاب، أو السنة أو القياس أو خلاف ظاهر، أو البراءة الأصلية؛ إذ لا يخلو خبر عن معارضة أحد هذه الأشياء لكنه باطل بالإجماع. وثالثها: [أنا] وإن سلمنا أن الأصل صدق الراوي مطلقا، لكن الأصل أيضا أن لا يرد الخبر على مخالفة القياس، فإذا تعارضا تساقطا ولم يجز التمسك بواحد منهما. وجوابه: أن من التعارض تسليما بصحة أصل الخبر.

المسألة الرابعة الراوي إذا عرف منه التساهل في حديث الرسول فلا خلاف في أنه لا تقبل روايته

المسألة الرابعة الراوي إذا عرف منه التساهل في حديث الرسول فلا خلاف في أنه لا تقبل روايته. فأما إذا عرف منه التساهل في حديث غير الرسول، وعرف منه الاحتياط التام في حديثه - عليه السلام -: فإنه يقبل على الرأي الأظهر؛ لأنه يحصل ظن صدقه، ولا معارض له فوجب أن يقبل. المسألة الخامسة لا يشترط أن يكون عالما بالعربية، وبمعنى الخبر؛ لأن الحجة في لفظ الرسول، والأعجمي والعامي في العربية يمكنهما حفظ اللفظ ونقله كما في القرآن العظيم. المسألة السادسة ليس من شرط الراوي أن يكون مكثرا لسماع الحديث، ومكثرا للرواية ومشهورا بمجالسة المحدثين ومخالطتهم، فعلى هذا تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا، وإن لم يكن مشهورا بمجالستهم ومخالطتهم، كما قبلت الصحابة حديث أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا، نعم لو أكثر من الروايات مع أنه لا يعرف بمخالطتهم، أو أنه وإن عرف بذلك، لكن بمخالطة قليلة لا يمكن تحصيل ذلك العدد من الروايات في تلك المخالطة القليلة فإنه يتوجه الطعن إليها بأسرها.

المسألة السابعة راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث وأنكر الرواية [عنه] هل يقدح ذلك في رواية الفرع أم لا؟

المسألة السابعة راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث وأنكر الرواية [عنه] هل يقدح ذلك في رواية الفرع أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب أكثر الحنفية نحو الكرخي وغيره إلى أن ذلك يقدح في رواية الفرع مطلقا، سواء كان الإنكار إنكارا على وجه الجحود والتكذيب، أو على وجه التوقف والنسيان. ولأجل هذا لم يقبلوا حديث الزهري عن عروة عن عائشة وهو قوله - عليه السلام -: "أيما امرأة نكحت نفسه بغير إذن وليها فنكاحها باطل".

لأن الزهري قال: لا أعرفه، وحديث القضاء بالشاهد واليمين، فإنه روى ذلك عن سهيل بن أبي صالح وهو أنكر ذلك أيضا فقال: لا أعرفه.

وذهب الشافعي ومالك وأكثر المتكلمين نحو القاضي أبو بكر وغيره إلى التفصيل وقالوا: إن كان الإنكار إنكار جحود وتكذيب لم يقبل، وإلا قبل وهو المختار، وهو رواية عن أحمد، وفي الرواية الأخرى عنه يوافق الحنفية. فحصل الإجماع على عدم القبول إن كان راوي الأصل مكذبا للفرع جازما بغلطه في الرواية عنه، سواء كان الفرع جازما بالرواية عنه، أو لم يكن؛ وذلك لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، فلا بد وأن يكون أحدهما كاذبا إذ لا يمكن تصديقهما وذلك الواحد إما الأصل، أو الفرع، وعلى التقديرين يجب أن لا يقبل الحديث. وأما إذا كان [ذلك] الواحد هو الأصل، فلأن المروي عنه ليس أهلا للرواية عنه، وأما إذا كان هو الراوي، فلأن الراوي ليس أهلا للرواية لكن لا يصير بذلك واحد منهما بعينه مجروحا، وإن كان لا بعينه يصير مجروحا كالبينتين المتكاذبتين، وكما إذا حلف شخصان وقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فامرأته طالق، وقال الآخر عكسه، وأبهم الأمر ولم يتبين فإنه يجوز لكل واحد منهما غشيان امرأته، وإن كنا نقطع أن واحدا منهما طلقت امرأته لا بعينه [فإن الثابت في الأصل لا يرتفع بالشك.

وأما الثاني فلأنا نقطع أن واحدا منهما كاذب، وفائدته تظهر في قبول روايته] كل واحد منهما / (98/أ) وشهادته إذا انفرد، وعدم قبول روايته وشهادته مهما اجتمعا ولو كان في غير ذلك الحديث. وإنما الخلاف فيما إذا لم يكن راوي الأصل جازما بالتكذيب والغلط بل قال: لا أذكر أني حدثتك، أو أشك في ذلك، أو الأغلب على الظن أني ما حدثتك والفرع جازم بالرواية عنه، فأما إذا لم يكن الفرع جازما بالرواية عنه بل هو ظان به فإنه إذا لم يكن جازما به لم تقبل روايته وإن كان الشيخ مصدقا له؛ لفقد شرط الرواية، فإن من شرطها أن يكون الراوي جازما بها أو ظانا، وذلك بأن يقول: أظن أني سمعته منك، أو الأغلب على الظن أني سمعته منك، فإن كان راوي الأصل شاكا في ذلك بأن يقول: أشك في ذلك، أو أني لا أذكر ذلك فالأشبه أنه من جملة صور الخلاف. وأما إذا كان هو أيضا ظانا بعدم الرواية عنه بأن يقول: أظن أني ما حدثتك بذلك، أو الأغلب على الظن أني ما حدثتك فالأشبه أنه من جملة صور الوفاق على عدم القبول. والضابط فيه: أنه مهما يكون قول الأصل معادلا لقول الفرع فإنه من جملة صور الاتفاق، ومهما كان قول الفرع راجحا على قول الأصل فإنه من جملة صور الخلاف. ثم الدليل على ما ذهب إليه الجماهير وجوه: أحدها: الإجماع، فإن التابعين أجمعوا على قبول رواية الفرع مع

إنكار الأصل إنكار نسيان وتوقف؛ إذ روى أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى باليمين مع الشاهد، ثم نسيه سهيل، فكان يقول إذا روى هذا الحديث: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وان هذا شائعا فيما بينهم، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا. وفي هذا الإجماع نظر؛ من حيث أن ابا حنيفة - رضي الله عنه - مخالف في هذه المسألة، لأن تفاريعه تدل عليه ظاهرا، وهو تابعي فكيف ينعقد الإجماع مع مخالفته؟ اللهم إلا أن يثبتوا إجماع من قبله من التابعين فتكون حجيته وعدم حجيته [مخرجه على اشتراط انقراض العصر في الإجماع، وعدم اشتراطه] على أن إثباته كالمتعذر. وثانيها: وهو المعتمد في ذلك: أن المقتضى لقبول قول راوي الفرع موجود، وهو عدالته، وكون قوله مظنون الصدق، والمعارض الموجود وهو عدم معرفة راوي الأصل لذلك، وعدم تذكره له لا يصلح معارضا له؛ لأنه يمكن أن سمعه منه لكن نسيه وشذ عنه، فإن النسيان غالب على الإنسان ومن الذي يذكر جميع ما ذكر للناس طول عمره، وإذا كان كذلك وجب المصير إلى قبول قوله عملا بالمقتضى.

وثالثها: أنكم إما أن تقولوا: إن تصديق الأصل شرط لقبول رواية الفرع، أو لا تقولوا بذلك. فإن قلتم بذلك وجب أن لا تقبلوا الرواية عن الميت، والذي جن بعد أن روى الحديث؛ ضرورة أنه لم يوجد تصديقهما للفرع، لكنه باطل بالإجماع فالمستلزم له وهو اشتراطه أيضا كذلك، وإن لم تقولوا بذلك وجب أن تقبلوا رواية الفرع حيث يقول الأصل؛ لا أذكره ولا أعرفه؛ لأنه لم يخل ذلك إلا بتصديقه؛ إذ ليس في ذلك تكذيب له بدليل إمكان جمع التصديق والصدق معه، فإنه يصح منه أن يقول: ربما صدقت لكني لا أعرفه، أو لا أذكره، واستحالة اجتماع التصديق والصدق مع التكذيب. واحتجوا بوجوه: أحدها: بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الإبل فأجنبت فتمعكت في التراب، ثم سألت النبي - صلى الله عيه وسلم - فقال: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك" فلم يقبل عمر من عمار ما رواه مع أنه عدل عنده لما لم يتذكر ما ذكر إياه.

لا يقال: إن هذا ليس من قبيل ما نحن فيه، فإن عمارا لم يرو ذلك الخبر عن عمر - رضي الله عنهما - بل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس فيه دلالة على صورة النزاع؛ لأنا نقول: هب أنه كذلك، لكنا نقول: إذا لم يقبل هذا مع أنه لم يحصل فيه إنكار الأصل، فلأن لا يقبل ما أنكره الأصل بطريق الأولى؛ لأن اهتمام المستمع بما استمع أكثر من السامع الذي هو ليس من عهده الحديث في شيء، فإذا لم يتذكر هو مع التذكير مع شدة اهتمامه به كان ذلك أدل على عدم صحة الحديث من عدم تذكر السامع له، فإذا لم يقبل في هذه الصورة مع أن دلالته على عدم الصحة أقل، فلأن لا يقبل فيما إذا أن دلالته على عدم الصحة أكثر بطريق الأولى. وجوابه: أنه فرق بين أن لا يقبل الحديث أصلا، وبين أن لا يقبله من حصل له فيه شك وريب، ولعل عمر - رضي الله عنه - إنما لم يقبله؛ لأنه أن مشككا فيه من حيث إنه لم يتذكر مع التذكير ولا يلزم من عدم قبوله له لهذا الشك عدم قبول غيره له مع أنه لم يحصل له الشك، ونحن لا ننازعكم أن الشيخ إذا حصل له الشك في رواية الفرع من حيث إنه لم يتذكر مع التذكير لم يجز له الأخذ بروايته، وليس له العمل به، لكن لم قلتم: أن غيره لم يحصل له هذا الشك لم يجز له الأخذ به والعمل به فإن فيه النزاع. وثانيها / (99/): أن الدليل ينفي جواز الأخذ بخبر الواحد كما تقدم غير مرة، ترك العمل به فيما إذا لو يوجد فيه إنكار الأصل؛ لأن الظن بصدقه هناك أقوى فيبقى فيما عداه على الأصل.

وجوابه ما تقدم. وثالثها: قياس الرواية على الشهادة، فإن شاهد الأصل إذا أنكر شهادة الفرع عليه فقال: لا أذكرها ولا أعرفها فإنه لا يقبل وفاقا، فكذا في الرواية، والجامع بينهما: اختلال ظن الصدق الناشئ من تطرق التهمة إليهما بالإنكار. وجوابه: الفرق، وهو أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية، بدليل أنه يعتبر فيها من الشروط ما لا يعتبر في الرواية، فلا يلزم من اعتبار ذلك القدر من التهمة فيها اعتباره في الرواية مع أن بابها أوسع منها. ورابعها: أنه ليس للشيخ أن يعمل به، والراوي عنه فرعه فليس له أن يعمل به وإذا لم يعمل به الراوي لم يعمل به غيره بطريق الأولى. وجوابه: أنا لا نسلم أن الشيخ ليس له أن يعمل به، فإنه إذا حصل له ظن صدق الفرع فله أن يعمل به؛ ولهذا كثير من المحدثين يروون عمن روى عنهم إذا نسوا وغلب على ظنهم صدقهم، نعم ليس له أن يعمل به إذا لم يحصل له الظن بصدقه كما تقدم، لكن لا يلزم من هذا أن لا يعمل الراوي به ولا غيره إذا لم يحصل له هذا الشك والريب الذي حصل له.

القسم الثالث "فيما اختلف فيه في رد خبر الواحد" وفيه مسائل:

القسم الثالث "فيما اختلف فيه في رد خبر الواحد"

القسم الثالث "فيما اختلف فيه في رد خبر الواحد" وفيه مسائل: المسألة الأولى اعلم أن خبر الواحد إذا ورد مخالفا لدليل آخر، فإما أن يكون ذلك الدليل مقطوعا به، أو مظنونا. فإن كان الأول فهو إما عقلى أو سمعي. فإن كان عقليا نظر: فإن كان ذلك الخبر المخالف له قابلا للتأويل القريب الذي إذا سمعه أهل اللسان لم ينب عنه طبعه وجب تأويله، جمعا بين الدليلين، وإلا قطعنا بكذبه؛ لأن الدليل العقلي لا يحتمل الصرف عما دل عليه بوجه من الوجوه لا بالتخصيص، ولا بالتأويل، ولا بغيرهما فإذا لم يقطع بكذبه، أي أنه ليس من الشارع، لزم وقوع الكذب منه وأنه ممتنع. وإن كان الثاني وهو أن يكون ذلك الدليل القطعي سمعيا فلا يخلو إما أن تكون المخالفة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، أو يمكن، فإن لم يمكن الجمع بينهما فالحكم ما سبق، وإن كان ذلك الدليل قياسا. هذا إذا علم تأخير المظنون عن المقطوع أو لا يعلم التاريخ فيهما؛ إذ لا يجوز الحمل على النسخ، فإن نسخ المقطوع بالمظنون غير جائز شرعا، وان كان جائزا عقلا؛ إذ لا يمتنع عقلا أن يقول الشارع: كلفتكم أن تعملوا بالكتاب والسنة المتواترة ما دام أن لا يرد بعده ما يناقضه، فإذا ورد ذلك بعده فقد كلفتتكم أن تعملوا بالكتاب والسنة المتواترة ما دام أن لا يرد بعده ما يناقضه، فإذا ورد ذلك بعده فقد كلفتكم بمقتضاه، وإن كان مظنونا فإن علم تأخير المقطوع عنه حمل على أنه منسوخ به، ولا يقطع بكذبه مع عدم إمكان الجمع لتحقق شرط النسخ.

وبهذا يفارق ما نحن فيه الصورة التي لم يعلم التاريخ فيها، فإنه وإن أمكن في تلك الصورة أن يحمل على أن المظنون منسوخ بالمقطوع لكن لم يتحقق شرط النسخ فلا نقطع به بمجرد الاحتمال فإن كذب الراوي أيضا محتمل، بل ربما هو أهون من الحمل على النسخ مع عدم تحقق شرطه. وأما إذا كان يمكن الجمع بينهما بالتخصيص والتقييد، فإن كان ذلك بأن كان خبر الواحد عاما، أو مطلقا، أو المقطوع به خاصا أو مقيدا وجب تخصيصه، أو تقييده به وفاقا لا خلاف فيه، وإن كان عكسه فهو مبني على جواز تخصيص المقطوع بالمظنون، وعلى جواز تخصيص القياس وقد تقدم القول في أحدهما، وسيأتي في الآخر - إن شاء الله -. وإن كان الثاني وهو أن يكون ذلك الدليل ظنيا: فإما أن يكون من جنسه من أخبار الآحاد، أو من جنس القياس، فإن كان الأول فسواء كانت المخالفة بينهما على وجه يمكن الجمع بينهما، أو لا يمكن فإنه لا يصار إلى تكذيب أحدهما بل يصار إما إلى التأويل بتخصيصه أو غيره، أو إلى النسخ أو إلى الترجيح، أو إلى التعادل إن قيل بإمكانه بحسب مواقعها على ما ستعرف ذلك في الترجيح - إن شاء الله -. وإن كان الثاني فإن كانت المخالفة على وجه يمكن الجمع بينهما إما بأن يخصص خبر الواحد، أو يصرف عن ظاهره بوجه آخر من التأويل بالقياس فعل ذلك وفاقا، وإما بأن يخصص القياس بخبر الواحد فهذا مبني على جواز تخصيص العلة، فمن جوزه جعله كعكسه، ومن لم يجوزه جعله كما إذا كانت المخالفة على وجه لا يمكن الجمع بينهما. وإن كانت المخالفة على وجه لا يمكن الجمع بينهما، فأصل ذلك القياس إن كان أيضا خبر واحد مثله، وبقية مقدمات القياس أيضا ظنية فها هنا الخبر مقدم على القياس لا محالة، ولا ينبغي أن يكون هذا من صور الخلاف

وإن كان كلام بعضهم مشعرا بأنها من جملة صور الخلاف. وإن لم يكن كذلك بل هو ثابت إما بدليل مقطوع به والمقدمتان الباقيتان أعني كون الحكم معللا بتلك العله، وحصولها في الفرع ظنيتان، أو بخبر واحد راجح على ذلك الخبر والمقدمتان الباقيتان ظنيتان، أو أحدهما: وهو كون الحكم معللا بتلك العلة، فإن التنصيص على العله بقاطع مع ظن حكم الأصل لا يتصور، ففي هذه الصور / (100/أ) اختلفوا: فذهب الشافعي وجماعة نحو أحمد بن حنبل والكرخي إلى ترجيح الخبر على القياس مطلقا. وذهب مالك - رضي الله عنه - إلى ترجيح القياس مطلقاً.

وذهب القاضي أبو بكر إلى التوقف. ومنهم من ذهب إلى التفصيل، وذكروا فيه وجهين: أحدهما: أنه إن كان راوي الخبر عالما ضابطا غير متساهل فيما يرويه، وجب تقديم الخبر على القياس، وإلا فهو في محل الاجتهاد وهو مذهب عيسى بن أبان.

وثانيهما: وهو ما ذكره أبو الحسين البصري: "أن علة القياس إن كانت منصوصة وكان النص الدال عليها مقطوعا به كان القياس مقدما على الخير، وإن كانت المقدمة الثالثة ظنية؛ لأن النص على العلة كالنص على الحكم ولو كان الحكم مقطوعا به لم يعارضه الحكم المظنون، وهذا يستقيم إن قلنا: إن التنصيص على العلة لا يخرجه عن القياس، وإلا فليس هو من هذا الباب. وإن لم يكن النص الدال عليها مقطوعا به، فإما أن يكون الحكم في الأصل ثابتا بنص مقطوع به أو لا يكون، فإن كان الأول كان في محل الاجتهاد وإن كانت المقدمة الباقية قطعية، وهذا التقييد وأمثاله وإن لم يكن مصرحا به في كلامه لكنه مأخوذ من إشعار كلامه من حيث إنه أطلق، فإن ظهر عند المجتهد رجحان أمارة القياس على عدالة الراوي كان القياس مقدما على الخبر وإن ظهر عنده رجحان عدالة الراوي على أمارة القياس كان الخبر مقدما على القياس عنده ويختلف ذلك باختلاف اجتهاد المجتهدين، وإن كان الثاني كان الخبر مقدما على القياس وإن كانت المقدمة الثالثة وهي حصول العلة في الفرع قطعية؛ لأنه يساوي أصل القياس في الظن ويختص بأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه القياس من المقدمات الزائدة، وإن لم تكن علة القياس منصوصة بل هي مستنبطة فلا يخلو: إما أن يكون الحكم في الأصل ثابتا بنص مقطوع به، أو لم يكن فإن كان الأول فهو في محل الاجتهاد كما سبق في المنصوصة المظنونة، وقال: ينبغي أن يكون هذا محل الخلاف بين العلماء، وإن كان الثاني فالخبر راجح لما سبق في المنصوصة المظنونة.

ونقل عن الحنفية: أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل؛ ولذلك لم يقبلوا خبر المصراة وخبر القرعة في العتق في مرض الموت

وخبر التفليس. وليس المراد منه: الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع، فإنه لم يوجد شيء من هذا في هذه الصور، فإذن المراد منه قياس الأصول، فإن أرادوا به القياس المقطوع به فهو مما لا نزاع فيه، لكنهم مطالبون بتحقيقه في هذه الأمور، وإن أرادوا به القياس الظني فحينئذ يتحقق معهم النزاع أيضا كما هو مع غيرهم. احتج الأصحاب بوجوه: أحدها: التمسك بحديث معاذ، فإنه قدم فيه العمل بالسنة على الاجتهاد من غير فصل بين السنة المتواترة، والمروية بطريق الآحاد، وصوبه

عليه السلام حيث قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه الله ورسوله" ولو كان ذلك مختصا بالتواتر لبينه الرسول [ولم يتركه على إطلاقه، وإلا لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة] وأنه غير جائز، وتخصيص بعض الأقيسة عنه كالقياس القطعي، أو الذي نص عليه عليته بنص قاطع لو سلم الحكم فيه لا يوجب تخصيص ما ليس مثله من الأقيسة ضرورة تحقق الفرق بينهما. وثانيها: الإجماع، فإن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ترك اجتهاده بخبر الواحد: إذ روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه حكم بحكم برأيه، فلما سمع من بلال ما يناقضه من حديث الرسول نقضه. وروي عن عمر أنه قال في الجنين: "كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -." وعنه أنه ترك رأيه في المنع من توريث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك وترك رأيه أيضا في تفاوت دية الأصابع لاختلاف منافعها، لما أن سمع ما في كتاب عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرا من الإبل. وروي عنه أنه قال: "أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا".

فثبت أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ترك رأيه لخبر الواحد، ولم ينكره الباقون مع أنه كان شائعا ذائعا بينهم فكان إجماعا. فإن قلت: لا نسلم إجماع الصحابة على ذلك، وهذا لأن عدم إنكار الباقين إنما يدل على الرضا ظاهرا لو لم يوجد منهم صريح الرد، وقد وجد ذلك. فإن ابن عباس - رضي الله عنه - رد خبر أبي هريرة وهو قوله عليه السلام: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا" إذ قال: فما نصنع بمهراسنا؟ ووافقته في ذلك عائشة - رضي الله عنها - إذ

قالت: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذارا فما نصنع بالمهراس؟ وإنما كان ذلك لكونه مخالفا للقياس. ورد هو أيضا خبره الآخر وهو قوله عليه السلام: "الوضوء مما مسته النار" بالقياس وقال: "ألسنا نتوضأ بالماء الحميم، فكيف نتوضأ بما عنه

نتوضأ" وردت عائشة خبر ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو قوله - عليه السلام -: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" لمخالفة القياس، فإن القياس يقتضي أن لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر، فلا يكون عدم انكارهم دليلا / (101/أ) على الرضا، بل إنما لم ينكروا لكونه مجتهدا فيه، وليس للمجتهد أن ينكر على المجتهد الآخر إذا أدى اجتهاده إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاده، وحينئذ لا يكون الإجماع حاصلا على ذلك. قلت: أما الدليل على حصول الإجماع فما سبق. وأما ردهم الخبر لمخالفة القياس فممنوع، أما قول ابن عباس: فما نصنع بمهراسنا، فلا نسلم أنه رد للخبر بل هو وصف للمشقة في العمل بموجب الخبر لعظم المهراس، وهذا كما يقول الإنسان إذا وقع في أمر مشق لا مندوحة له عنه: ما نصنع به. سلمنا أنه رد للخبر لكن لا نسلم [أنه] لمخالفة القياس؛ وهذا لأنه ليس من الأصول مما يقتضي القياس عليه جواز غسل اليد من ذلك الإناء، حتى يقال: إنه رد الخبر لذلك.

سلمنا وجود القياس، لكن لا نسلم أنه رده لذلك القياس، بل لأنه لا يمكن الأخذ به من حيث إنه لا يمكن قلب المهراس لغسل اليد وذلك ليس قياسا، ولو سلم أنه قياس لكن لا نسلم أنه قياس مظنون. وأما رده خبر الوضوء مما سمته النار، فلا نسلم أنه بالقياس؛ بل لأنه منسوخ بخبر آخر وهو ما روي "أنه عليه السلام أكل كتف شاة وصلى ولم يتوضأ". أو بما روي أنه سأله رجل وقال: أنتوضأ من لحم الغنم؟ فقال عليه السلام: "إن شئت توضأ وإن شئت لا تتوضأ" هذا إن علم تراخيه، وإلا

فالأخذ بما روينا من قبيل الترجيح بعد التعارض، والقياس الذي ذكره إنما ذكره للترجيح، أو لتقوية اعتقاد النسخ، فإنه يقتضي عدم التكليف به. وبه خرج الجواب عن حديث ابن عمر - رضي الله عنه - فإنا لا نسلم أن عائشة إنما ردتها لأجل ما ذكروه من القياس، بل لصراحة نص الكتاب بخلافه وهو قوله تعالى: {ولا تزروا وازرة وزر أخرى}، فثبت أنه لم يوجد منهم رد الخبر للقياس فكان الإجماع حاصلا ظاهرا لما سبق. وثالثها: أن خبر الواحد أكثر إفادة للظن، وأقل احتمالا للخطأ من القياس فكان راجحا عليه. وإنما قلنا ذلك؛ لأن صحة ما دل عليه خبر الواحد ووجوب العمل به إنما يتوقف على ثلاث مقدمات لا غير: أحدها: ثبوته عن رسول الله - عليه السلام -. وثانيها: دلالاته على الحكم. وثالثها: أنه يجب العمل به. والمقدمة الأولى ظنية؛ إذ لا نقطع بصحة متنه؛ لأن عدالة الراوي في أصله مظنونة، وبتقدير ثبوتها فصحة هذا الخبر أيضا مظنون؛ إذ العدل قد يكذب لسهو، وغفلة، ونسيان، والمقدمتان الباقيتان يقينيتان؛ إذ الكلام فيما إذا كان خبر الواحد خاصا دالا على شيء واحد لا يمكن تخصيصه بالقياس. وأما صحة ما دل عليه القياس ووجوب العمل به، فإنه يتوقف على مقدمات كثيرة؛ لأن أصل ذلك القياس إن كان خبر الواحد فيتوقف على هذه

المقدمات الثلاث بعينها وزيادة، وهي المقدمات التي تختص بالقياس التي يذكرها، وإن كان دليلا مقطوعا به فالمقدمات الثلاث [فيه] أيضا مفتقر إليها، لكن غايته أنها تكون بأسرها يقينية فيزيد على الحكم الثابت بالخبر بكون المقدمات فيها بأسرها يقينية، وإحدى المقدمات في الخبر ظنية، لكن يتوقف بعد ذلك على مقدمات أخر: أحدها: كون الحكم في الأصل معللا بعلة. وثانيها: كونه معللا بالعلة الفلانية، وهذا يتوقف على كون ذلك الوصف صالحا للعلية، وأن لا يكون هناك ما يعارضه. وثالثها: وجود ذلك الوصف في الفرع. ورابعها: وجود شرائطها وارتفاع موانعها، وأن لا يكون هناك ما يعارضه. وخامسها: وجوب العمل به، وهذه المقدمة يقينية، والأربع الأول ظنية وما يكون متوقفا على أقل المقدمات، مع أن أكثرها يقينية يكون أكثر إفادة للظن، وأقل احتمالا للخطأ من الذي يكون متوقفا على أكثر المقدمات مع أن أكثرها ظنية، وإذا كان كذلك وجب أن يكون راجحا لما تقدم من الأدلة النقلية والعقلية. لا يقال: إن مراتب الظنون قد تتفاوت تفاوتا ظاهرا، فقد يكون الموقوف على ثلاث مقدمات أو أكثر، أكثر إفادة للظن من الموقوف على مقدمة واحدة لكون تلك المقدمات مظنونة بظنون قوية إليعاية وتلك المقدمة الواحدة مظنونة بظن ضعيف إلى غاية، وإذا كان كذلك فقد تعذر الحكم بالترجيح؛ بسبب قلة المقدمات مطلقا بل عندما لا يعارض ما في أحد الجانبين من الكيفية ما في

الجانب الآخر من الكمية، فكان ينبغي أن يكون الأمر فيه موكولا إلى نظر المجتهد كما قاله أبو الحسين البصري، من أنه في محل الاجتهاد، فإن ظهر رجحان أمارة عدالة الراوي ترجح الخبر وإلا فيتعارضان، أو يرجح القياس؛ لأنا نقول: لو خلينا والعقل لكان الأمر كما ذكرتم، في حديث معاذ، ولو كان ما ذكرتم من التفصيل جار في لبينه الرسول، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن ذلك الوقت كان وقت الحاجة إليه وهو ممتنع والصحابة كانوا يرجعون إلى الخبر من غير بحث عن أمارة القياس، وعن أمارة عدالة الراوي، ولو كان التفصيل / (102/أ) المذكور هو الحق لما جاز ذلك إلا بعد البحث عنه هذا ما قيل. وفيه نظر؛ من حيث إن النظر في الخبر إنما هو في المقدمة الظنية، فإن المقدمتين الباقيتين قطعيتان ليستا في محل الاجتهاد والنظر، وإذا كان كذلك فالنظر فيه إنما هو في عدالة الراوي، وأمارة صدقه، وذلك كان في الصحابة ظاهرا في غاية القوة لا سيما بالنسبة إليهم قبل ظهور الفتن فيما بينهم، فجاز أن يقال: إنهم [إنما] كانوا يتركون القياس لكون أمارة صدق الخبر ظاهرة جلية عندهم فلم يكن ذلك مانعا من التفصيل المذكور وهو بعينه آت في حديث معاذ من حيث إنه - عليه السلام - كان يعلم أنه ما كان تصل إليه السنة إلا منه شفاها، أو من الصحابة، فعلى الأول ثبوته عن الرسول يقيني، وعلى الثاني ظني، لكن الظني قوي، فلم يكن ذلك الوقت وقت الحاجة إلى التفصيل فلم يجب البيان فيه.

المسألة الثانية إذا روي عن الرسول - عليه السلام -: أنه فعل فعلا يخالف موجب خبر الواحد: فإن لم يكن لفظ الخبر متناولا له - عليه السلام -، ولا قامت الدلالة على أن حكمه وحكمنا فيه سواء لم يكن بينهما تناف فلا يرد به الخبر

المسألة الثانية إذا روي عن الرسول - عليه السلام -: أنه فعل فعلا يخالف موجب خبر الواحد: فإن لم يكن لفظ الخبر متناولا له - عليه السلام -، ولا قامت الدلالة على أن حكمه وحكمنا فيه سواء لم يكن بينهما تناف فلا يرد به الخبر. وإن كان متناولا له، أو قامت الدلالة على أن حكمه وحكمنا فيه سواء: فلا يخلو إما أن تكون المخالفة بينهما على وجه يمكن الجمع بينهما، أو لا يمكن: فإن أمكن صير إليه كما تقدم في باب التخصيص ولا يرد به الخبر، وإن لم يمكن فإن كان الفعل متواترا رجح على الخبر؛ ضرورة أن المقطوع راجح على المظنون. وإن لم يكن متواترا بل كلاهما مظنونان صير إلى الترجيح كما في سائر الأدلة الظنية. المسألة الثالثة عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده؛ لأن أكثر الأمة بعض الأمة، وقول بعض الأمة ليس بحجة، فلا يرد به الخبر، ومن زعم أن اتفاق الأكثر إجماع فيليق بمذهبه أن يرد به الخبر كما إذا انعقد الإجماع على خلافه، وأما عند الأكثرين القائلين بأنه ليس بإجماع فلا يرد به الخبر لكن أن يكون مرجحا عند التعارض.

المسألة الرابعة إذا انفرد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة، هل يوجب ذلك رد الزيادة [أم لا]

المسألة الرابعة إذا انفرد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة، هل يوجب ذلك رد الزيادة [أم لا]. وتحقيق الكلام فيه أن يقال: إن الحال فيه لا يخلو: إما أن يعلم أن المجلس واحد، أو متعدد، أو لا يعلم واحد منهما. فإن علم أن المجلس واحد باتفاقهم على ذلك، فها هنا اختلفوا: فمنهم من قبله سواء كانت الزيادة لفظية أو معنوية؛ لأنه عدل ثقة جازم بالرواية فوجب قبولها كما لو انفرد بنقل حديث عن جميع النقلة، ويحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك الحديث في ذلك المجلس مرتين، ولم يحضر في مرة الزيادة إلا ذلك الواحد، أو وإن ذكر مرة واحدة لكن الذين لم ينقلوا الزيادة ربما دخلوا في أثناء الكلام، وهذا يضعف إذا كانت الزيادة في آخر الحديث، أو وإن حضروا من أول المجلس إلى آخره لكن لعلة حدث في أثناء المجلس ما أوجب شغل خاطرهم به، ولم يصغوا إلى كلامه - عليه السلام - فذهلوا عن تلك الزيادة، وبقي ذلك الواحد مصغيا إلى كلامه، ولم يشتغل خاطره بما حدث، فلا جرم لم يذهل عن تلك الزيادة، أو إن لم يحدث ذلك، لكن لعله عرض لهم ألم أو جوع أو عطش مفرط، أو هم، أو فكر في أمر مهم شاغل لهم عن السماع في ساعة لطيفة فذهلوا عنها، ولم يعرض ذلك لذلك الواحد، أو إن لم يكن شيء من ذلك لكن لعلهم نسوها وغفلوا عنها، وهذه الأمور وإن كانت بعيدة، لكن تكذيب العدل، أو الحمل على أنه سها في ذلك، بأن توهم سماع تلك الزيادة مع أنه لم يسمعها، أو وإن سمعها لكن من

غير الرسول - عليه السلام - فتوهم سماعها منه فهو أبعد منها، فكان المصير إليها أقرب. ومنهم من رده؛ لأن السهو والنسيان على الواحد أقرب منهما على الجماعة، والمحامل المذكورة بعيدة جدا، ونحن لا نكذب العدل بل نحمله على أنه سها في سماع ما لم يسمع، وهذا وإن كان أبعد من تطرق السهو إلى ما سمع أنه لم يسمع، لكن يعارضه ما ذكرناه وهو أن سهو الجماعة أبعد من سهو الواحد، وإذا تعارضا تساقطا فوجب أن يبقى على الأصل وهو عدو وجوب القبول، وعدم صدورها منه عليه السلام. ومنهم من ذهب إلى التوقف؛ لأن في كل واحد من الاحتمالين بعدا كما سبق، والأصل وإن كان عدم الصدور، لكن الأصل أيضا صدق الراوي، وإذا تعارضا وجب التوقف. ومنهم من فصل وقال: إن الذين لم ينقلوا الزيادة إن كانوا جماعة لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة، ابتداء ودواما لم يقبل، وإلا قبلت. فعلى هذا إن كان الذين لم ينقلوا الزيادة اثنين أو ثلاثة والزيادة كلمة أو كلمتين لم يقدح ذلك في قبولها؛ لأنه قد يغفل مثلهم عن مثلها. وهذا كله إذا كان المنفرد بالزيادة واحدا [والذين لم ينقلوها جماعة،

فأما إذا كان / (103/أ) المنفرد بالزيادة واحدا] والساكت عنها أيضا واحدا فمن قبل ثمة، أو فصل، أو توقف، قبل ها هنا؛ لأن التوقف إنما كان لأجل بعد الاحتمالين وهما سهو الجماعة، والسهو في سماع ما لم يسمع، وقد زال أحدهما فوجب ثبوت مقتضى الآخر. فأما من لم يقبل ثمة، فمنهم من لم يقبله ها هنا أيضا، للتعارض ومنهم من قبله إلا أن يكون الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها. هذا كله فيما إذا لم تغير الزيادة إعراب الباقي. فأما إذا غيرت كما إذا روى أحد الراويين: "أدوا عن كل حر أو عبد صاعاً من بر".

ويروى الآخر "نصف صاع من بر". فالأكثرون على أنه لا تقبل للتعارض؛ لأن كل واحد منهما يروي ضد ما رواه الآخر فيكون نافيا له فيحصل التعارض فلا يقبل إلا بعد الترجيح وليس ذلك كما إذا لم تغير إعراب الباقي؛ لأن مع أحدهما زيادة علم ليس الآخر نافيا له فيقبل. خلافا لبعضهم كأبي عبد الله البصري فإنه قبلها ما إذا لم تغير إعراب

الباقي؛ لأن الموجب للقبول إنما هو زيادة العلم بذلك الزائد الذي لم ينفيه الساكت عنه، واختلاف الإعراب تابع للاختلاف في ذلك الزائد فلا يكون ذلك مانعا من القبول. وإن علم أن المجلس متعدد، فها هنا لا خلاف في أن الزيادة مقبولة سواء كانت الزيادة مغيرة لاعراب الباقي أو لم تكن، وسواء كان الساكت عنه، واحدا أو جماعة. وإن لم يعلم واحد منهما فالخلاف فيه ينبغي أن يكون مرتبا على الخلاف فيما إذا علم أن المجلس واحد. والأظهر القبول مطلقا؛ لأن المقتضى لقبول قوله وهو صدقه حاصل، والمعارض له غير متحقق لا قطعا ولا ظاهرا فوجب القبول. هذا كله فيما إذا كان المنفرد بالزيادة واحدا والساكت عنها غيره واحدا كان أو جماعة. فأما إذا اختلف رواية الواحد في ذلك: فإن روى مرة مع الزيادة وأخرى بدونها، فإن أسند الزيادة إلى مجلس غير مجلس الحديث الناقص قبلت الزيادة مطلقا كما فيما إذا تعدد الرواة. وإن أسندهما إلى مجلس واحد فإن غيرت الزيادة إعراب الباقي ولم يصرح بنسيانه في تلك المرة ولا بسهوه في مرة الزيادة تعرضت روايتاه كما في الروايين.

المسألة الخامسة إذا وجد خبر الواحد مخصصا أو مقيدا لعموم الكتاب، أو السنة المتواترة أو إطلاقه، ولم يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه هل يقبل أم لا؟

وإن لم تغير إعراب الباقي فإما أن تكون مرات رواية الزائد أقل من مرات رواية الناقص أو متساوية، أو زائدة. فإن كانت أقل لم تقبل الزيادة إلا أن يصرح بنسيانه وسهوه في المرات الكثيرة وبذكره لها في المرات القليلة فها هنا تقبل للتصريح بذلك؛ لأنه لا بد من حمل إحدى الروايتين على السهو؛ إذ تعمد الكذب بنفيه ظاهر عدالته، وحمل الأقل على السهو أولى. وإن كانتا متساويتين، أو كانت مرات الزيادة زائدة فها هنا تقبل لما تقدم من أن حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمله على توهم أنه سمع ما لم يسمعه هذا ما يعمهما، ويختص الثالث أن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه. المسألة الخامسة إذا وجد خبر الواحد مخصصا أو مقيدا لعموم الكتاب، أو السنة المتواترة أو إطلاقه، ولم يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه هل يقبل أم لا؟ قال القاضي عبد الجبار؛ يقبل؛ لأن الصحابة رفعت كثيرا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألا أنها هل كانت مقارنة أم لا؟ وهو الأولى؛ لأن حمله على كونه مخصصا مقبولا أولى من حمله على كونه ناسخا مردودا. فأما إذا علم مقارنته له فيقبل عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون. فأما إذا علم تراخيه عنه فمن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يقبله؛ لأنه لو قبل لقبل ناسخا وهو غير جاز، وأما من جوز ذلك فيقبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به، فأما إذا ورد بعده فلا يقبل وفاقاً.

المسألة السادسة الراوي إذا خالف ظاهر الحديث لم يقدح ذلك في وجوب الأخذ بظاهر الحديث عندنا وعند كثير من العلماء، وهو اختيار الكرخي

المسألة السادسة الراوي إذا خالف ظاهر الحديث لم يقدح ذلك في وجوب الأخذ بظاهر الحديث عندنا وعند كثير من العلماء، وهو اختيار الكرخي. وذهب أكثر الحنفية إلى أن ذلك يقدح فيه بل لا يجوز الأخذ به، ويجب الأخذ بمذهب الراوي؛ ولذلك حملوا خبر أبي هريرة في ولوغ الكلب، "أنه يغسل سبعا" على الندب؛ لأنه كان يقتصر على الثلاث.

قال القاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري: إنه إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه، إلا أنه علم بالضرورة أنه عليه السلام أراد ذلك الذي ذهب إليه من ذلك الخبر وجب المصير إليه. وإن لم يعلم ذلك، بل جوزنا: أن يكون قد صار إليه لنص، أو قياس وجب النظر في ذلك فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب المصير [إليه، وإن لم يقتص ذلك، أو لم نطلع على مأخذه وجب المصير إلى ظاهر] الخبر؛ وذلك لأن الحجة إنما هي كلام الرسول - عليه السلام -، لا مذهب الراوي فظاهر كلامه يدل على معنى غير ما ذهب إليه الراوي، فوجب المصير إليه دون مذهب الراوي.

فإن قلت: هب أن مذهبه ليس بحجة على غيره من المجتهدين لكن نقول: تركه لظاهر الخبر إن لم يكن لمستند راجح عليه قدح ذلك في عدالته، وذلك يوجب القدح في قبول روايته، وإن كان لمستند راجح عليه وجب المصير / (104/أ) إليه فدار الأمر بين أن يرد الخبر، وبين أن يؤخذ بمذهبه، فأما الأخذ بالخبر إذ ذاك فغير معقول. قلت: متى يقدح في عدالته تركه لظاهر الخبر إن لم يكن لمستند راجح عليه [إذا لم يكن راجحا] في ظنه أو في نفس الأمر؟ والأول مسلم، لكن لا يلزم منه أنه إذا كان راجحا في ظنه يجب اتباعه؛ لجواز أن يكون ظنه غير مطابق، بأن ظن ما ليس براجح راجحا لخطأ عرض له في الاجتهاد. والثاني ممنوع؛ وهذا فإن المجتهد لا يفسق لخطأ اجتهاده بظنه راجحا ما ليس براجح في نفس الأمر حتى ترد روايته بسببه، وكونه عدلا عالما بشرائط الاجتهاد لا يمنع من خطئه في الاجتهاد سهوا وغلطا، لا قطعا ولا ظاهرا، والالزام على المجتهد الآخر تقليده، لقوله - عليه السلام -: "أقضي بالظاهر" وقوله: "نحن نحكم بالظاهر"، وبتقدير أن يمنع منه ظاهرا لكن من الظاهر أن ظهوره يس كظهور دلالة الخبر فلا يجوز أن يترك به الخبر. وبهذا أيضا خرج الجواب عما يقال عليه: إن مخالفته له تدل على ضعف الرواية، أو أنه علم أنه منسوخ؛ لأنه يجوز أن تكون المخالفة بناء على الاجتهاد لا على ما ذكروه من الاحتمالين. فإن قلت: إذا لم يوجد ثمة ما يصلح أن يستند إليه الاجتهاد مما

يصلح أن يكون معارضا له لم يبق احتمال الاجتهاد، وحينئذ يتعين أن يكون لما تقدم من الاحتمالين؛ إذ دينه يمنعه من ترك العمل بما صح أنه من الرسول - عليه السلام - من غير أمر يصرفه عن ذلك. قلت: عدم وجداننا له لا يدل على عدمه عندنا؛ لاحتمال أنه كان حاصلا عنده إذ ذاك ولم ينقل إلينا. سلمناه لكن ربما ظن ضعف روايته بما ليس بضعيف، أو ظن نسخه لما لا ينسخ به، أو ربما نسى ما رواه، وذهب إلى ما ذهب إليه للبراءة الأصلية، أو لغيرها مما لا يصلح أن يكون معارضا بخبر الواحد ويصلح أن يكون مدركا لإثبات الحكم عند عدمه. ثم هو معارض بما أنه لو كان ذلك لضعف في روايته، أو للنسخ لبينة لأنه لا يجوز أن يروي ما في روايته ضعف إلا ويبينه، وإلا لكان ذلك تلبيسا منه، وكذلك لا يجوز أن يروي ما هو منسوخ من غير أن ينقل الناسخ. ولا يقال: إنه ربما اكتفى في ذلك بمخالفته؛ لأن مخالفته تحتمل وجوها أخر فلا يقوم ذلك مقام صريح النسخ والضعف. ثم إنهم وإن جروا على هذه القاعدة في خبر أبي هريرة، لكنهم خالفوها في خبر ابن عباس.

وهو أنه روى أن بريرة اشترتها عائشة وأعتقتها، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت تحت زوج. ومن مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - أن بيع الأمة فسخ لنكاحها فأخذوا بروايته، وتركوا مذهبه مع أن الفسخ في النكاح بعيد عن الاجتهاد والقياس عندهم فكان الظاهر أنه أخذه توقيفا. وأما إذا حمل الراوي الخبر على أحد محتملاته فهذا يحتمل وجهين:

المسألة السابعة إذا اقتضى خبر الواحد علما، وكان في الأدلة القاطعة ما يدل عليه لم يرد بل يجب قبوله

أحدهما: أن يكون ذلك بطريق التفسير للفظه فها هنا لا نعرف خلافا أن تفسيره أولى، ولا يتجه فيه خلاف. وثانيهما: أن يكون ذلك بطريق النظر والاجتهاد منه، فها هنا يحتمل أن يقال: أنه يجب اتباعه؛ لأن الظاهر من حال الرسول أن لا ينطق باللفظ المحتمل لمعنيين أو أكثر لتعريف الأحكام، وبيان الشريعة، إلا وقد ضم إليه ما بين المقصود منه من القرائن الحالية، أو المقالية، والظاهر من حال الراوي فهمه وابتاعه. ويحتمل أن يقال: أنه لا يجب اتباعه؛ لأنه يجوز أن يكون قد ذهب إليه لاجتهاده ونظره، وهو ليس بحجة على غيره من المجتهدين وهذا إذا انقدح لحمله على ذلك المحمل وجه الاجتهاد والنظر، فأما إذا لم ينقدح ذلك وجب اتباعه لا محالة كما في صورة التفسير. المسألة السابعة إذا اقتضى خبر الواحد علما، وكان في الأدلة القاطعة ما يدل عليه لم يرد بل يجب قبوله؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الرسول - عليه السلام - قاله واقتصر به على آحاد الناس، بناء على الدليل القاطع. وإن لم يكن في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده، سواء اقتضى مع العلم عملا، أو لا يقتضيه؛ لأنه لما كان التكليف فيه بالعلم، مع أنه ليس له صلاحية إفادة العلم: كان ذلك تكليفا بما لا يطاق، لكن لا يقطع بكذبه؛ لاحتمال أن يقال: إنه - عليه السلام - قصد بذلك إيجاب العلم على من شافهه، دون غيره، وهو جائز غير ممتنع. فأما إذا اقتضى العمل فهو مقبول عندنا، سواء كان مما تعم به البلوى، أو لم تعم.

خلافاً للحنفية فيما تعم به البلوى. ولهذا لم يقبلوا خبر نقض الوضوء بمس الذكر، وخبر رفع اليدين في الرفع من الركوع، وخبر الجهر بالتسمية.

ونقل الترجيح في الأذان والإفراد في الإقامة؛ لأن هذه الأمور مما تعم به البلوى. لنا: ما تقدم من الأدلة في أن خبر الواحد حجة؛ فإن تلك الأدلة تدل على حجية خبر الواحد من غير فصل بين ما تعم به البلوى، وبين ما لا تعم به البلوى حتى ما سبق من الإجماع؛ لأن من جملة الأخبار التي نقلنا أنهم قبلوها آحادا خبر المخابرة، والتقاء الختانين، وخبر توريث المرأة من دية زوجها، وخبر توريث الجدة السدس وكل ذلك مما تعم به البلوى. وأيضا فإنهم ناقضوا هذا الأصل حيث قبلوا / (105/أ) أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى كخبر القيء.

والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب الوتر، ووجوب الغسل من

غسل الميت وخبر غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، ونحو ذلك من أخبار الآحاد التي في شروط البياعات، والأنكحة، مع أن كل ذلك مما تعم به البلوى. احتجوا بوجوه:

أحدها: بإجماع الصحابة فإنهم روا أخبار الآحاد فيما تعم بهالبلوى: رد أبو بكر - رضي الله عنه - خبر المغيرة في توريث الجدة، ورد عمر خبر أبي موسى في الاستئذان ولم ينكر عليه الباقون فكان إجماعا. وجوابه: ما تقدم. وثانيها: أنه لو كان صحيحا: لنقل نقلا متواترا، أو مشهورا على ما زعموا أن المشهور أحد أقسام المتواتر فيقبل فيما تعم به البلوى؛ لأن الحاجة ماسة إلى معرفة حكمه، وذلك يقتضي أن يكون الرسول أشاعه وبلغه إلى أهل التواتر. وأوجب نقله على جهة التواتر مخافة أن لا يصل إلى من كلف به فلا يتمكن من العمل به، ومن جهة النقلة أيضا الدواعي متوفرة على نقله؛ لمسيس حاجة عموم الناس إليه ولا يجاب الرسول عليه السلام ذلك عليهم وما شأنه ذلك يجب أن يتواتر نقله، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه ليس بصحيح. وبهذا الطريق عرفنا أنه - عليه السلام - لم ينص على إمامة علي - رضي الله عنه - وأنه - عليه السلام - ما أوجب صوم شهر شوال وأن القرآن لم يعارض. وجوابه: أنا لا نسلم أن مسيس الحاجة إليه، ومخافة عدم الوصول إليهم يقتضي أن يكون الرسول أشاعه وبلغه إلى أهل التواتر؛ وهذا لأنه إنما يقتضي ذلك أن لو لم تندفع حاجتهم بنقل الآحاد كما في التكاليف العملية، وأن لو كانوا مكلفين به على جميع الأحوال، فإما على تقدير اندفاع الحاجة به بنقل الآحاد، وعلى تقدير كونهم مكلفين به بشرط بلوغه إليهم كما هو فيما لا تعم به البلوى، فلا نسلم أنه حينئذ يقتضي ذلك. وعند هذا نقول: إن نقل الآحاد فيه إنما يكون غير كاف؛ لكونه يدل على كذبه؛ إذ لو كان صدقا لوجب أن يتواتر نقله فيكون نقل الآحاد غير كاف فيه يتوقف على وجوب تواتره، فالاستدلال بوجوب تواتره على أن نقل الآحاد غير كاف فيه دور وهو ممتنع.

المسألة الثامنة يجوز للراوي أن ينقل الخبر بالمعنى

وبهذا يعرف أيضاً أن مسيس حاجة عموم الناس إليه لا يوفر دواعي النقلة على نقله بحيث يصير متواترا وتوافر الدواعي على نقل أمر جزئي فرعي ليس كتوفر الدواعي على نقل أمر كلي أصلي، فلا يلزم من صحة الاستدلال بعدم التواتر فيما ذكروه من الصور على كذبه صحة الاستدلال بعدم التواتر في فرع جزئي على كذب نقل الآحاد. وثالثها: أن الدليل ينفي قبول خبر الواحد لكونه اتباعا للظن ترك العمل به فيما لا تعم به البلوى لزيادة الظن فوجب أن يبقى فيما تعم به البلوى على الأصل. وجوابه ما تقدم غير مرة. المسألة الثامنة يجوز للراوي أن ينقل الخبر بالمعنى، وإذا نقله بالمعنى وجب قبوله، كما إذا نقل بلفظه عند الأئمة الأربعة، وأكثر الأئمة من الفقهاء، والمتكلمين نحو الحسن البصري وغيره، لكن بشرائط:

أحدها: أن يكون الراوي عارفا بدلالات الألفاظ، واختلاف مواقعها. وثانيها: أن تكون الترجمة مساوية للأصل [في الجلاء والخلفاء حتى لو كانت الترجمة غير قاصرة عن الأصل] في إفادة المعنى لكنها أجلى من الأصل أو أخفى منه لم يجز؛ لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وتارة بالمتشابه، لحكم وأسرار لا يعلمها إلا الله تعالى ورسوله، فلا يجوز تغييرها عن وضعها. ورابعها: أن لا يكون فيها زيادة ولا نقصان يضر مثله فيما إذا كان النقل باللفظ، فعند حصول هذه الشرائط يجوز النقل بالمعنى عند هؤلاء وإن كان الأولى النقل بلفظه. خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين فإنهم لم يجوزوا النقل بالمعنى أصلا.

وهو اختيار أبي بكر الرازي من الحنفية. احتج الجماهير بوجوه: أحدها: ما روي عنه - عليه السلام - أنه سئل عن ذلك فقال: "لا بأس إذا أصبتم المعنى". وثانيها: الإجماع، فإن الصحابة نقلوا القصة الواحدة، بألفاظ مختلفة

على ما هي كتب الأحاديث شاهدة بذلك، ومن الظاهر أن الرسول - عليه السلام - لم يذكر تلك القصة بتلك الألفاظ المختلفة في مجالس مختلفة بل ربما يقطع في بعضها، ولم ينكر بعضهم على بعض فيه فكان إجماعا. ويؤكده: ما روى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان إذا حدث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا أو نحوه ولم ينكر عليه أحد منهم. وثالثها: ما روي عن مكحول أنه قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع فقلنا: حدثنا حديثا ليس فيه تقديم ولا تأخير.

فغضب وقال: لا بأس إذا قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى. ورابعها: وهو الأقوى: أنا نعلم بالضرورة مما نقل الينا من أحوال الصحابة وسيرهم ومجاري عادتهم أنهم ما كانوا يكتبون الأخبار التي رووها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كانوا يكررونها ولا يدرسونها إلا / (106/أ) في المجلس الذي سمعوها منه، ولا في غيره كما كانوا يكتبون ويكررون ألفاظ القرآن، بل كما سمعوها تركوها، ثم أنهم ما رووها إلا بعد الأعصار والسنين عند وقوع الوقائع، وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ من غير تقديم وتأخير. وخامسها: أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم إجماعا، فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فبأن يجوز إبدال العربية بأخرى أولى؛ لأن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل من التفاوت بين العربية وترجمتها بالعجمية. وفي هذه الدلالة نظر؛ لأن ذلك الشرح والنقل جار مجرى الافتاء، فليس فيه ما يتعلق بنظر واجتهاد، بخلاف رواية الإخبار فإنه يتعلق بها اجتهاد المجتهدين، واختلاف الألفاظ مظنة لاختلاف المعاني، فجاز أن يمنع منه بناء

على المظنة، وأما الشرح للعجم بلسانهم فليس فيه هذه المظنة؛ إذ لا يجوز أن يستنبط من تلك العبارة أحكاما بل هي نفس الأحكام فلا يلزم من جواز الشرح للعجم بلسانهم جواز الرواية بعبارة أخرى. وسادسها: أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود بالذات في أخبار الرسول كما هو في القرآن العظيم لكونه معجزا؛ ولهذا كان الرسول عليه السلام يذكر القصة الواحدة في الكرات المتعددة بعبارات مختلفة بخلاف القرآن العظيم، فإنه كان يتبع فيه ما أوحي إليه من لفظه، بل المقصود إنما هو المعنى فإذا حصل ذلك بتمامه فلا يضر اختلاف الألفاظ. واحتجوا بوجوه: أحدها: ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، وإنما يقال أداها كما لو سمعها لو أدى اللفظ كما سمعه، ولأن الضمير في قوله "فأداها" يرجع إلى قوله "سمع مقالتي" وذلك لا يتناول غير اللفظ. وأيضا فإن قوله: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" إشارة إلى العلة التي لأجلها ينبغي أن تكون التأدية بعين الألفاظ المسموعة؛ وهذا لأن معناه - إن شاء الله - أن الأفقه ربما فطن بزيادة فقهه من فوائد اللفظ لما لا يفطن له

الراوي الفقيه فينبغي أن ينقل عين اللفظ. وجوابه من وجوه: أحدها: أنه ليس في الخبر ما يدل على أنه لا يجوز النقل بالمعنى، وإن كان فيه ما يدل على أن النقل بالألفاظ المسموعة أولى، ونحن نقول به؛ وهذا لأنه ليس فيه إلا الدعاء على ذلك الفعل وليس ذلك من خصائص الوجوب، بل من خصائص ما يكون فعله أولى سواء يجوز تركه أولا؛ وهذا لأنه ورد مثله حيث لا وجوب كقوله: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" وفي غيره، بل التوعد على الترك من خصائص الوجوب، وعلى الفعل من خصائص التحريم، وليس شيء منه في الخبر، فلا يدل على وجوب التأدية بالألفاظ المسموعة. وثانيها: أنا وإن سلمنا أنه يدل على المنع منه، لكن فيما يجوز أن تختلف دلالة اللفظين فيه أعني: الأصل، والترجمة؛ لأن تعليله على ما ذكرتم يدل عيه ونحن نقول به، فأما الذي يقطع فيه باتحاد دلالتهما فلا نسلم أنه يدل على المنع منه. وثالها: أن رواية هذا الخبر بعينه يدل على جواز النقل بالمعنى، لأنه روى: "نضر الله أمرأ" وروى: "رحم الله امرأ" وروي "فرب حمل فقه.

إلى من هو أفقه منه" وروي "حامل فقه غير فقيه" وروي: "لا فقه له" ومن الظاهر أنه - عيه السلام - ما كرره في مجالس مختلفة بهذه الألفاظ؛ إذ الأصل عدم تكرره منه. وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه روى هذا الخبر بألفاظ مختلفة تختلف معانيها، والنقل بالمعنى بمثل هذه الألفاظ لا يجوز وفاقا فالظاهر أن ذلك إنما كان؛ لأن كل واحد من الرواة ظن سماعه منه بتلك العبارة. ورابعها: أن من أدى تمام معنى كلام ال رجل فإنه يصح أن يقال: أدى كما سمع وإن اختلفت الألفاظ؛ ولذلك يقال: الشاهد والترجمان أديا كما سمعا، وإن كان لفظهما غير لفظ المشهود عليه، وغير لغة المترجم عنه. وفيه أيضا نظر من حيث أن ذلك يصح لو لم يكن في اللفظ ما يدل على اختصاص النقل بعين اللفظ المسموع وأما الخبر الذي نحن فيه فإنه وجد فيه ما

يدل عليه وهو التعليل وكون الضمير يرجع إلى المقالة المسموعة. وثانيها: أن تجويز نقل الخبر بالمعنى قد يؤدي إلى تغيير كلام الرسول تغييرا شديدا، أو بالكلية فوجب أن لا يجوز. بيانه: أن الراوي إذا أراد النقل بالمعنى فغايته أن يتحرى تحريا شديدا في طلب ألفاظ ترادف ألفاظ الرسول فإذا وجد ذلك نقله به، فربما كان ذلك اللفظ غير مرادف له وإن كان في اعتقاده أنه مرادف له، وكذلك قد يعتقد الإنسان أن هذه العبارة مرادفة لعبارة أخرى ثم إن غيره يتبين بينهما تفاوتا في المعنى، ولا سبيل له إلى القطع بأنه لا تفاوت بينهما في نفس الأمر بل غايته أنه يقطع بذلك في اعتقاده، فربما كان غير مطابق كما في نفس الأمر، ثم الحال في الراوي الثاني والثالث كالحال في الراوي الأول فيؤدي إلى التغيير الشديد / (107/أ)، وأما أنه عند هذا لا يجوز النقل بالمعنى فذلك ظاهر. وجوابه: أنا إنما نجوز له عند عدم احتمال التفاوت بين العبارتين كما إذا روى مكان قوله - عليه السلام -: "صبوا عليه ذنوبا من الماء" أريقوا عليه دلوا من الماء، فإنا نقطع أنه لا تفاوت بين العبارتين في المعنى لا سيما بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، فأما ما يحتمل أن يتفاوت ويحتاج في معرفة عدم

المسألة التاسعة الراوي إذا أراد نقل بعض الخبر وترك البعض الآخر، هل يجوز له ذلك أم لا؟

التفاوت إلى نظر واجتهاد فذلك مما لا يجوز. وثالها: أن خبر الرسول مما تعبدنا باتباعه [فلا يجوز تغييره وتبديله كالقرآن، وكلمات الأذان، والتشهد، والتكبير. وجوابه: أنه إن عنى بقوله: مما تعبدنا باتباعه] أي باتباع لفظه فهذا ممنوع، بل هو أول المسألة. وإن عنى به: أنه مما تعبدنا باتباع معناه فهذا مسلم، لكن لم يلزم منه اتباع لفظه، وفيما ذكرتم من الصور إنما يجب اتباع اللفظ؛ لكون التعبد ورد باتباع تلك الألفاظ بخصوصيتها لا لما ذكرتم من الجامع، فلا يلزم منه ثبوت ذلك الحكم فيما نحن فيه، إلا إذا بينتم أنه ورد التعبد هنا أيضا باتباع ألفاظ الرسول، وحينئذ تستغنون عن هذا القياس، بل إلحاق الرواية عن الغير بالشهادة على الشهادة أولى، ثم إن الشهادة على الشهادة لا يتعين فيها لفظ الشاهد الأصل فكذا ها هنا. المسألة التاسعة الراوي إذا أراد نقل بعض الخبر وترك البعض الآخر، هل يجوز له ذلك أم لا؟. والحق فيه أن يقال إن البعض إن كان متعلقا بالبعض لم يجز سواء كان التعلق تعلقا لفظيا كما في الاستثناء، والتقييد بالشرط والغاية والصفة،

المسألة العاشرة المرسل هل هو مقبول أم لا؟

أو معنوياً كما إذا كان المتعلق مذكورا بجملة مستقلة لا يتعلق المتعلق المذكور في الرواية بها في اللفظ كما في بيان التخصيص والنسخ، وبيان المجمل بجملة مستقلة؛ لأن نقل البعض دون البعض في هذه الصورة تحريف وتغيير للشرع، وموقع للمكلفين في الخطأ والجهل، فوجب أن لا يجوز ولا يعرف خلاف فيها. وإن لم يكن البعض متعلقا بالبعض لا لفظا ولا معنى. فمن جوز نقل الخبر بالمعنى جوزه لا محالة. وأما من لم يجوزه فهؤلاء اختلفوا: فالأكثرون منهم منعوه؛ للحديث فإنه يقتضي أن تكون التأدية كما سمع، وهو إنما سمع تمام الحديث فوجب أن ينقله بتمامه. والأقلون جوزوه؛ لأن ذلك إنما كان لمعنى هو غير حاصل فيما نحن فيه فوجب أن يجوز. المسألة العاشرة المرسل هل هو مقبول أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى أنه غير مقبول، وهو

قول القاضي أبي بكر - رحمه الله -. وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين وجماهير المعتزلة إلى أنه مقبول. وفصل بعضهم كعيسى بن أبان، فقال بقبول مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل دون مراسيل غيرهم. وصورته: أن يقول من لم يعاصر الرسول وكان ممن تقبل روايته: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أو قال من لم يعاصر الصحابة: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -.

فأما الصحابي إذا قال: قال رسول الله -، - فهو مقبول لا يتجه فيه خلاف؛ لأنه ظاهر في الرواية عنه - عليه السلام - وبتقدير أن يروي عن غيره من الصحابة فهو غير قادح في قبول روايته؛ لأن الأصل في الصحابة العدالة.

فأما احتمال روايته عن التابعي الذي يروي عن صحابي آخر، أو عمن لقي الرسول - عليه السلام - من الأعراب الذين لا صحبة لهم لو سلم أنهم ليسوا من الصحابة فمرفوض بالعادة؛ إذ لا يعهد منهم ذلك. فأما التابعي أو تابع التابعين إذا قال: قال فلان من الصحابة أو التابعين، وكان ممن عاصره ولقيه، وصحبه فهذا ظاهر في الرواية عنه، وهو يوجب قبول روايته فيقبل ظاهرا بناء عليه. ويحتمل أن يروى عن غيره، وهو يوجب عدم قبول روايته، لكنه مرجوح فلا يقدح في الظاهر، فلو علم أنه لم يرو عنه بل وصل إليه من غيره فهو مرسل مختلف فيه. احتج أصحابنا بوجهين: أحدهما: أن عدالة الأصل غير معلومة ها هنا فوجب أن لا تقبل، أما الأول؛ فلأن جهل الذات يستلزم جهل صفته، والعلم بذلك ضروري هو حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أنه لم يسم المروي عنه، والعدالة صفة من صفاته فيكون الجهل بها حاصلا. وأما الثاني؛ فلأن العدالة شرط قبول الرواية وفاقا وإن كان معناها مختلفا فيه، والجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط فوجب أن لا تقبل. فإن قيل: ما الذي تعنى بقولك: إن عدالة الأصل غير معلومة؟ إن عنيت به العلم بمعنى القطع فهذا مسلم، لكن بتقدير أن عرفناه بعينه فعدالته غير

معلومة أيضاً بهذا المعنى. [وإن عنيت به العلم بمعنى الظن فلا نسلم أن عدالته غير معلومة بهذا المعنى]. قوله: الجهل بالذات يستلزم الجهل بصفته. قلنا: إن عنيت به أن الجهل لكنه حقيقة الذات يستلزم الجهل بصفته فهذا ممنوع. وإن عنيت به أن الجهل به من كل الاعتبارات يستلزم الجهل بصفته فهذا مسلم، لكن لا نسلم أن الجهل به من كل الاعتبارات حاصل فيما نحن فيه؛ وهذا / (108/أ) لأنه معلوم باعتبار أنه مروي عنه؛ فإنه لما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمنا قطعا أنه يمتنع أن يوري عنه علمنا أنه وصل إليه من شخص آخر، وإلا لكان كاذبا مفتريا على الرسول وذلك يقدح في قبول روايته، فهو إذن معلوم بهذا الاعتبار، وإذا كان معلوما باعتبار ما لم يستلزم الجهل بصفته، فلم قلتم: إن العلم بها بمعنى الظن غير حاصل فيه؟ وعليكم البيان، لأنكم المستدلون. ثم إنا نتبرع في هذا المقام ونبين أن العلم بها بمعنى الظن حاصل؛ وذلك لأن نفس رواية العدل عن الشخص إن جعلت تعديلا له فظاهر، وإن لم تجعل تعديلا له وجب أن تكون الرواية على وجه الإرسال تعديلا له؛ وذلك لأن الظاهر من حال العدل الثقة إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون جازما بذلك، أو ظانا، وأنه لو ظن عدم صدوره من الرسول أو شك في ذلك لم يستجز من ينه أن ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ما ليس له أن ينقل عنه لا سيما بعبارة يفيد ظاهرها الجزم بثبوته عنه - عليه السلام -، لما فيه من الكذب والتلبيس على من سمع ذلك منه، ولا يحصل له ذلك إلا إذا حصل له ظن عدالة المروي عنه

فثبت أن إرساله بنبئ عن اعتقاد عدالته فيكون ذلك تعديلا منه كما في العمل بمقتضى روايته بل هذا أولى؛ لما فيه من الدلالة على الجزم بثبوته عنه - عليه السلام -. وأيضا: فإنه لما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد وجب على من سمع ذلك منه العمل بمقتضاه، وليس له ذلك إلا إذا علم أو ظن ثبوته منه، فيكون ذلك تعديلا منه فيكون ظن عدالته حاصلا ظاهرا فوجب القبول كما في غيره من الصور. سلمنا دلالتهما على ما ذكرتم لكنه معارض بالنص، والإجماع، والقياس. أما النص - فنحو قوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} ونحو قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ}، ولا يخفى وجه الاستدلال بهما مما سبق.

وأما الإجماع - فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على رواية المراسيل وقبولها. روى عن البراء بن عازب أنه قال: "ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه منه غير أنا لا نكذب". وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"، فلما روى له سعيد حديثه قال: هذا ما سمعته من الرسول وإنما حدثني به أسامة. وروى أيضا عنه - عليه السلام - أنه "ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة".

فلما روجع فيه قال أخبرني به أخي الفضل بن عباس. وكانوا يقبلون أخباره مع كثرتها مع أنه لم يسمع أكثرها من الرسول - عليه السلام - لصغر سنه حتى قيل: إنه لم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى أربعة أحاديث. وروى أبو هريرة عن النبي - عليه السلام -: "من أصبح جنبا فلا صوم له" وقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما أنكر ذلك عليه قال حدثني به الفضل بن عباس.

وروى ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من صلى على جنازة فله قيراط" فلما روجع فيه قال أخبرني به أبو هريرة. وكذلك التابعون فإنهم كانوا يرسلون الأخبار ويقبلونها: روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند فقال: "إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله يعني ابن مسعود فهو الذي حدثني عنه، وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني به جماعة عنه".

وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يرسل الأخبار، ومراسيله مقبولة عند أكثر من أنكر قبولها. وكذلك الحسن روي أنه أرسل حديثا فلما روجع فيه قال: "أخبرني به سبعون بدريا". وكذلك الشعبي وغيرهم من التابعين كانوا يرسلون الأخبار ويقبلونها من غير إنكار فيما بينهم فكان إجماعا. وأما القياس: فلأنه لو لم يقبل المرسل لما قبل ما يحتمل أن يكون مرسلا، فكان ينبغي إذا قال الراوي، "عن فلان" أن لا يقبل [لاحتمال أنه ما سمعه منه بل وصل إليه بواسطة فكان يجب أن لا يقبل] للجهل بعدالة الراوي.

الجواب: والذي تعني بقولك: أن عدالة الأصل غير معلومة؟ قلنا: نعني به أنها غير راجحة الوجود في الاعتقاد وهو قدر مشترك بين العلم والظن، وبانتفائه ينتفي العلم والظن. قوله: ما الذي تعني بقولك: إن الجهل بالذات يستلزم الجهل بالصفة؟ قلنا: نعنى به أن الجهل بالذات من كل الاعتبارات يستلزم الجهل بصفته والعلم بذلك ضروري. قوله: الجهل بالذات من كل الاعتبارات غير حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أنه معلوم باعتبار أنه مروي عنه، وإذا كان معلوما باعتبار ما لم يستلزم الجهل بصفته فلم قلتم إن العلم بعدالته غير حاصل؟ قلنا: الجهل بالذات من كل الاعتبارات كان حاصلا من قبل والعلم بذلك جلي لا يمكن إنكاره، ولم يوجد سوى رواية العدل عنه، فهو معلوم باعتبار أنه مروي عنه لا غير، لكن هذا الاعتبار لا يدل على العدالة ولا يشعر بها؛ إذ العدل قد يروى عمن لو سئل عنه توقف فيه أو جرحه، وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوا مرة، وجرحوه تارة، وقالوا لا ندري / (109/أ) أخرى، فإذن لا تدل الرواية على عدالة المروي عنه. وأيضا: لو كانت الرواية تدل على عدالة المروي عنه لوجب أن يكون الراوي مكذبا نفسه إذا جرحه وعد مناقضا لما سبق منه كما إذا عدله ثم جرحه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الرواية ليس تعديلا منه، بل الراوي ساكت عن تعديله موكل للبحث في ذلك إلى سامعه، ولا يجعل السكوت عن الجرح تعديلا بناء على أنه لو علم فيه جرحا لجرحه وإلا لكان السكوت عن التعديل جرحا؛ بناء على أنه لو علم فيه العدالة لعدله، ولو سلم أن الرواية عنه تعديل له لكن لا نسلم أن مطلق التعديل مقبول بل لا يقبل التعديل عندنا ما لم يذكر

السبب فلم قلتم أنه مقبول مطلقا؟ ولو سلم قبول مطلق العدالة لكن ذلك في معين لا نعرفه بفسق فأما في غير المعين فلا؛ لاحتمال أنه لو عينه لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل، ولا ينقض. هذا فيما إذا عينه وعدله؛ لأن هذا الاحتمال مندفع فيه فإنا إنما نرتب العدالة على تعديله أن لو لم نعرفه بفسق بعد التعيين. وقوله: إن إرساله ينبئ عن اعتقاد عدالته فيكون معدلا له بالإرسال. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفيد ظاهره الجزم بأن هذا القول قول الرسول - عليه السلام - وهو غير مراد قطعا؛ إذ لا علم بذلك، فيتعين أن يكون المراد منه أني سمعت أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أني أظن أنه - عليه السلام - قال بذلك فليسوا بإضمار الثاني أولى منا بإضمار الأول، وحينئذ لم يكن ذلك تعديلا له، لأنه لو صرح بقوله: إني سمعت أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيه تعديل له، وإضماره لا يزيد على صريحه، وإذا لم يكن أحد الإضمارين أولى من الآخر وجب عدم القبول؛ إذ الأصل عدم ثبوته منه، وعدم القبول إلا إذا وجدت الشرائط وهو ممنوع فيما نحن فيه. قوله في الوجه الثاني: إنه أوجب على السامع العمل بمقتضاه وليس له ذلك إلا إذا علم أو ظن [ثبوته من الرسول - عليه السلام -. قلنا: لا نسلم إنه أوجب عليه ما ذكرتم] بل بلغ إليهم أنه بلغ إليه ذلك حتى تبحثوا عن صحته فإن صح عملوا به وإلا فلا. أو نقول: روايته إنما توجب على الغير شيئا، أن لو ثبت كون الراوي

عدلا، فإذا بينتم كونه عدلا بكون روايته توجب على الغير شيئا لزم الدور وهو ممتنع. سلمنا صحتهما لكنهما منقوضان بشهادة الفرع، إذا لم يذكر الأصل فإن جميع ما ذكرتم في الوجهين قائم بعينه فيه، مع أنه لا تقبل شهادته إذا لم يذكر الأصل. وأما الجواب عن المعارضة الأولى: فهو أن الآيتين مخصوصتان بما إذا ذكر شيخه ولم يعدله وبقى مجهولا عندنا، فإنه لم تقبل روايته باتفاق كل من قال من الخصوم أن مجرد الرواية ليس تعديلا له، وإنما حصتا للجهالة وهي في صورة الإرسال أتم؛ لأن فيه جهالة العين والصفة؛ لأن من لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته بخلاف تلك الصورة فإن فيه جهالة الصفة فقط فإذا خصتا في تلك الصورة فلأن يلزم تخصيصهما فيما نحن فيه بالطريق الأولى، وبما إذا لم يذكر شاهد الفرع [شاهد الأصل]. وعن الإجماع: أنا لا نسلم انعقاد الإجماع عليه بل الذي صح إنما هو قبول البعض، فإما قبول الكل أو سكوت الباقين عن ذلك فممنوع؛ وهذا لأنهم باحثوا ابن عباس، وابن عمر، وأبا هريرة مع جلالة قدرهم، وعدم الشك والارتياب في عدالتهم ولو كانوا يرون قبوله لم يكن لهذا البحث معنى. وما يقال: إن المباحثة إنما كانت لطلب زيادة علة لم تكن حاصلة بالإرسال فباطل؛ لأن قوة الظن في الإرسال عندهم أكثر، ولهذا رجحه بعضهم على

المسند، والأكثرون سووا بينهما، وعلى التقديرين لا يتحقق طلب زيادة العلة فيه. سلمنا انعقاد الصحابة، لكن لا ننازعكم فيه لما سبق في صدر المسألة، فأما إجماع التابعين على ذلك فممنوع؛ وهذا لأن من الظاهر أنه لا يمكن ادعاء الإجماع القطعي في ذلك؛ لأن المسألة اجتهادية بالاتفاق، ولا قاطع في المسائل الاجتهادية بل لو أمكن فإنما هو ادعاء الإجماع السكوتي، لكن حصوله من التابعين مع تفرقهم في البلاد وعد اطلاع بعضهم على ما صدر من بعضهم بعيد جدا. سلمنا أنه لا يبعد حصول العلم به، لكن لا نسلم عدم إنكار الباقين وكيف يدعي ذلك مع ما نقل عن ابن سيرين أنه قال: "لا تقبلوا مراسيل الحسن، وأبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن رويا". فإن قلت: إن ذلك إنما كان للتهمة. قلت: فهذه التهمة قائمة في كل إرسال؛ لأنه إذا جاز للعدل أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا مع أن المروي عنه ليس بعدل لم يمكننا أن نستدل بإرساله على عدالته، اللهم إلا إذا عرف من عادته أنه لا يروي إلا عن عدل فنحن لا ننازعكم فيه بل هو عندنا مقبول أيضا كالسند. سلمنا حصول إجماعهم على قبول إرسالهم فلم قلت: إنه يلزم منه قبول

إرسال غيرهم؟ ولا يمكن ادعاء عدم الفصل بينهم وبين غيرهم؛ لأن بعض المنكرين قبل مراسيلهم أيضا لما سبق في صدر المسألة، بل قبل بعضهم مراسيل كل من هو من أئمة النقل دون مراسيل غيرهم. وعن / (110/أ) القياس: أنه ظاهر في الرواية عنه من غير واسطة، فإن من صحب شخصا وأطال صحبته معه إذا قال: "قال فلان" فإنه يفهم منه ظاهرا أنه سمعه منه من غير واسطة فيقبل بناء على الظاهر، ومتى لم يعلم ذلك، أو علم ذلك لكن علم من صريح قوله أنه لم يسمعه منه بل وصل إليه بواسطة لم يقبل حتى تثبت عدالة المروي عنه كما تقدم في صدر المسألة. وثانيهما: أنا أجمعنا على أن شاهد الفرع إذا لم يذكر الأصل وأرسل الشهادة إرسالا لم تقبل فكذا الرواية، والجامع بينهما: عدم معرفة عدالة الأصل التي هي شرط القبول، والإرسال لو كان دليلا عليها لما اختلفت دلالته بين أن يكون في الرواية وبين أن يكون في الشهادة، بل جعل الإرسال دليلا على التعديل في صورة الشهادة أولى من جعله دليلا عليه في صورة الرواية؛ لأن الشهادة يحتاط فيها ما لا يحتاط في الرواية، وعدالته تقتضي أن

يكون احتياطه أكثر فيما يكون احتياط الشارع فيه أكثر، فلولا جزمه بعدالته، أو غلبة ظنه بعدالته لما أرسل الشهادة إرسالا كما ذكرتم في الرواية، فلما أرسل دل على أنه جازم، أو ظان ظنا قويا بعدالته فكان يجب القبول كما لو صرح بتعديله ولما لم يقبل علمنا أنه لا دلالة له عليه. وبهذا يعرف اندفاع ما يقال من الفرق وهو: أن الشهادة تتضمن إثبات الحق على معين، والخبر يتضمن إثبات الحق في الجملة من غير تخصيص لمعين، ويدخل من التهمة في إثبات الحقوق على الأعيان ما لا يدخل في إثباتها في الجملة فجاز أن تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية، كما أكد باعتبار العدد، وعدم العداوة وغيرهما؛ لأن هذا بعينه يدل على أن الإرسال فيه أدل على التعديل كما تقدم على أن هذا معارض بوجه آخر وهو أن الخبر وإن لم يتضمن إثبات الحق على معين، لكن يقتضي إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أجدر من الاحتياط في إثبات الحق على واحد في زمان معين. فإن قلت: إنما يجب ذكر الأصل لأل تغريمهم عند رجوعهم عن الشهادة؛ فإنا لو لم نعرفهم بأعيانهم لم يكن تغريمهم عند رجوعهم. قلت: هذا باطل. أما أولا: فلأن الأصل والغالب عدم الرجوع، فوجب أن لا يجب باعتباره شيء؛ لأن ما يمكن أن يطرأ في شيء مع أن الأصل والغالب عدمه لا يوجب اعتبار أمر فيه بالاستقراء. وأما ثانيا: فلأن تغريمهم غير ممكن في كل صورة من صور رجوعهم حتى يجب لأجله تعيينهم؛ فإن تغريمهم غير ممكن فيما إذا كان المشهود به حقا من الحقوق التي لا تقابل بالمال، أو وإن كان مالا لكن حيث مات شاهد الأصل ولم يخلف لا درهماً ولا ديناراً.

وقد احتج على عدم قبول المرسل بوجوه أخر: أحدها: أنه لو جاز العمل بالمرسل لم يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم معنى. وهو ضعيف جدا. أما أولا: فلأن ذلك طريق الراوي في تحصيل المعرفة بعدالة المروي عنه، فإنه إنما يجوز له أن يرسل إذا غلب على ظنه عدالته وليس كل راو يعرف المروي عنه بالصحبة الطويلة، والخبرة الباطنة حتى يستغني عن البحث عن عدالتهم بذكر اسمه لمن يعرفه بالصحبة والخبرة الباطنة فيرسل الخبر من غير بحث عنه. وأما ثانيا: فلأن كون الشيء له طريق لا ينفي أن يكون له طريق آخر. وأما ثالثا: فلأنه إذا ذكر المروي عنه باسمه تمكن المجتهد من البحث عن عدالته، والظن الحاصل له بعدالته من فحصه بنفسه أقوى من الظن الحاصل له بعدالته بإرسال الراوي. وأما رابعا: فلأن الراوي وإن عرفه بعدالته لكن يحتمل أن يعرفه غيره بفسق فيعينه لئلا يكون ملبسا على من عرفه بفسق. وثانيها: أن الخبر خبران: تواتر وآحاد، فلو قال الراوي: أخبرني من لا أحصيهم عددا لا يصير بذلك ذلك الخبر متواترا، فكذا في الآحاد لا يصير بقوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجب القبول. وهو أيضاً ضعيف.

أما أولا: فلأن السامع عند سماع ذلك لا يقطع بصحة ذلك الخبر، والخبر المتواتر هو الذي يقطع السامع بصحته عند سماعه بخلاف خبر الواحد فإنه إذا غلب على الظن صدقه يجب قبوله، وقد يحصل ذلك بإرسال المرسل. وأما ثانيا: فلأن شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة وهو مقصود فيما فرضوه فلا يصير بذلك متواترا. وثالثها: لو جاز العمل بالمرسل لجاز في عصرنا، والملازمة بينة، فلو قال العدل في زماننا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجاز لنا أن نعمل به، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله. وهو أيضا ضعيف؛ لأنا لا نسلم صحة الملازمة؛ وهذا لأنه إنما لم يقبل في زماننا لغلبة الخلاف، وكثرة الوسائط، وقلة الاحتياط وهي ما كانت حاصلة في العصر الأول. سلمنا الملازمة لكن لا نسلم بطلان اللازم إذا لم نعلم تكذيب الحفاظ والكتب الصحاح المصنفة في هذا الفن، فأما إذا علم ذلك فإنما لم يعمل به للتكذيب لا للإرسال، فإنه لو أسنده ولم يوجد في صدور الرواة وبطون / (111/أ) الكتب المصنفة في هذا الفن لم يقبل أيضاً.

فروع الأول: قال الشافعي - رحمه الله -: "لا أقبل المرسل إلا إذا كان الذي أرسله مرة، أسنده أخرى، أو أسنده راو آخر، أو أرسله راو آخر ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر، أو عضده قول صحابي، أو فتوى أكثر أهل العلم، أو علم من عادته أنه لو نص لم ينص إلا على من يجب قبول خبره. قال: وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأني تتبعتها فوجدتها بهذه الشرائط. قال: ومن هذا حاله أحببت قبول مراسيله ولا أستطيع أن أقول: إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل. واعترض عليه: أنه لا معنى لقوله: لا أقبل المرسل إلا إذا أسنده هو أو راو آخر؛ لأنه حينئذ قبل المسند لا المرسل، ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا عضدته الحجة. واعلم أنه إذا أراد الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بقوله: إلا إذا أسنده، هو أو راو آخر إسنادا لا تقوم الحجة به وحده، فهذا الاعتراض ساقط، لكن يتوجه عليه اعتراض آخر وهو: أن ما ليس بحجة لا يصير حجة بانضياف ما ليس بحجة إليه، وهو الإشكال على بقية كلامه وسنجيب عنه. وإن أراد إسنادا تقوم الحجة به وحده، فهذا الاعتراض متجه وارد على كلامه لا يظهر وجه في اندفاعه. وأما قوله: لا أقبله إلا إذا أرسله راو آخر يعلم أن رجال أحدهما غير الآخر.

فالاعتراض عليه: أن ما ليس بحجة لا يصير حجة بانضياف ما ليس بحجة إليه إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد حاصلا عند الانضياف. واحترزنا بهذا القيد عن الشاهد الواحد إذا انظم إليه شاهد آخر فإنه يصير حجة؛ لأن المانع من كونه حجة عند الانفراد إنما هو الانفراد، وهو زائل عند الانضمام، وأما ما نحن فيه فليس كذلك بل المانع من كونه حجة وهو الجهل بعدالة المروي عنه قائم حالة انضياف الغير إليه. وأما قوله: إذا عضده قول صحابي فهذا إن كان تفريعا على أن قول الصحابي حجة توجه عليه الاعتراض الأوف، وإلا فالاعتراض الثاني. أما قوله: أو فتوى أكثر أهل العلم فيتوجه عليه الاعتراض الثاني؛ لأن فتوى أكثر أهل العلم ليس بحجة بالنسبة إلى المجتهد. وجوابه: أنا إذا جهلنا عدالة المروي عنه لم يحصل هناك ظن أو وإن حصل لكنه ظن ضعيف، فإذا انضمت إليه هذه الأمور حصل هناك الظن، أو قوى ذلك الظن الضعيف، وحينئذ يجب العمل به، للأدلة الدالة على وجوب العمل بالمظنون، ولا امتناع فيه؛ فإن الشيء قد لا يكون مستقلا بإفادة شيء، ثم إذا انظم إليه غيره أفاد مجموعهما ذلك الشيء كالقرينة الضعيفة لا يتصرف اللفظ عن حقيقته، وإذا انضمت إليها قرينة أخرى ضعيفة فربما يكون مجموعهما يصرفه عنها ونظائرها كثيرة فلا امتناع في أن لا يقبل المرسل وحده، ثم إذا انضم إليه ما تقدم من الأمور أفاد مجموعهما قدرا من الظن المعتبر فيكون المجموع معتبرا وحجة لا أنه يصير ذلك المرسل وحده حجة إذ ذاك فظهر بهذا سقوط السؤال.

الفرع الثاني: إذا أرسل الحديث وأسند غيره إسنادا تقوم الحجة به فلا شبهة في أنه مقبول سواء قبل المرسل أو لم يقبل؛ لأن إسناد الثقة يوجب القبول إذا لم يوجد مانع منه، وإرسال المرسل غير مانع منه؛ لأنه يجوز أن يكون أرسله؛ لأنه سمعه مرسلا، أو وان سمعه مسندا نسي شيخه وهو يعلم أنه ثقة في الجملة، أو وإن ذكره لكن لقوة ظنه بعدالته وصدقه أرسله ولم يسمه، وهب أنه أرسله مع أنه يرويه عن ضعيف أو يرويه عن فاسق مع علمه بفسقه لكن ذلك يقدح في قبول روايته لا في قبول رواية آخر مع الإسناد الصحيح فثبت أن إرسال غيره لا يقدح في قبول رواية المسند بحال. فأما إذا أسنده المرسل بعينه فإنه يكون مقبولا أيضا سواء كان مرات إسناده أكثر من مرات إرساله أو أقل خلافا لبعض المحدثين؛ لأنه يجوز أن يوجد فيه بعض ما سبق من الاحتمالات فلا يقدح إرساله في قبول إسناده. الفرع الثالث: إذا الحق الحديث بالنبي - عليه السلام -، وأوقفه غيره على الصحابي فهو متصل؛ لأنه يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول - عليه السلام - مرة، وذكر عن نفسه على سبيل الفتوى أخرى، فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه، أو وان كان كل واحد منهما سمعه أنه يرويه عن الرسول - عليه السلام - لكن نسي أحدهما ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه. فأما إذا أوصله الموقف بعينه فإنه متصل أيضا خلافا لبعض المحدثين؛ لأنه يجوز أن يكون قد سمعه من الصحابي يرويه عن النبي - عليه السلام - مرة وأخرى عن نفسه، أو وإن سمعه في المرتين أنه يصله بالرسول لكن نسي ذلك فظن أنه ذكر في إحداهما عن نفسه هذا كله فيما إذا كان الإرسال

والإيقاف / (112/أ) ومقابلتهما في أزمنة متقاربة، فأما إذا أرسله أو أوقفه زمانا طويلا، ثم أسنده أو أرسله بعد ذلك فإنه يبعد أن ينسى ذلك الزمان الطويل كله ثم يتذكره فيبعد جعله مسندا ومتصلا اللهم إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما قد نسيه في ذلك الزمان الطويل. الفرع الرابع: من دابه إرسال الأخبار إذا أسند خبرا، هل يقبل أم لا؟ اختلف فيه: من لم يقبل المراسيل فكثير منهم قبله؛ لأن إرساله يختص بالمراسيل دون المسند فوجب قبوله. ومنهم من لم يقبله وزعم أن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه فستره له والحالة هذه خيانة فلا يقبل خبره. وهو ضعيف؛ لأنه يحتمل أنه إنما أرسل فيما أرسل لأنه سمعه مرسلا، أو لقوة ظنه فيها لصدق الرواة، أو لأنه وجد فيها بعض ما سبق من المقويات، أو لأنه آثر الاختصار في الأكثر، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن الحمل على الخيانة. نعم لو علم ذلك من عادته لم يقبل مرسله وسنده إجماعا. ثم اختلف من قبل حديث المرسل، إذا أسنده كيف يقبله؟ فقال الشافعي - رضي الله عنه -: "لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه: حدثني أو سمعت فلانا، ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم محتمل لغير السماع منه كأخبرني أو عن فلان" وقال بعض المحدثين: "لا يقبل منه إلا إذا قال: سمعت فلانا" محدثين للمشافهة عندهم، وأخبرني متردد بين المشافهة، والإجازة وبين أن كتب إليه، ولعل هذا اصطلاح منهم، وإلا فمن جهة اللغة لا يظهر هذا الفرق.

المسألة الحادية عشرة في التدليس

المسألة الحادية عشرة في التدليس. إذا روى الراوي الخبر عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك الاسم، وذكره باسم آخر لا يعرف به، أو لم يذكره باسم أصلا بل أرسل الخبر إرسالا. فإن فعل ذلك؛ لأن المروي عنه ليس أهلا للرواية عنه فقد دلس على الناس فلا يقبل حديثه.

يقبل حديثه. وإن فعل ذلك لصغر سن المروي عنه، أو لأن المروي عنه مما اختلف في قبول روايته وهو يعتقد قبول روايته كأهل البدع والأهواء فلم يذكره باسمه حتى لا يوقع فيه ويطعن فلا يقدح ذلك في قبول روايته مطلقا، فأما ذلك الخبر هل يقبل أم لا؟ فمن يقول: يكفي في العدالة ظهور الإسلام وعدم الفسق ظاهرا يقبل ذلك الخبر. ومن لم يقبل بذلك بل يقول: لا بد من الفحص عن حاله واختبار باطنه بعد ظهور إسلامه فإنه يقبله إن قبل المرسل وإلا فلا؛ لأنه لا يتمكن من البحث عن عدالته حيث ذكره باسم لا يعرف به فصار كالمرسل.

القسم الرابع "في مسند الراوي وكيفية روايته"

القسم الرابع "في مسند الراوي وكيفية روايته" الراوي لا يخلو إما أن يكون صحابيا أو غير صحابي: فإن كان صحابيا فمراتب روايته سبع: المرتبة الأولى: أن يقول الصحابي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو أخبرني، أو حدثني، أو شافهني بكذا فهو خبر عن الرسول واجب القبول ولا خلاف فيه. المرتبة الثانية: أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا "فهذا ظاهره النقل عنه من غير واسطة. وليس نصا فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون وصل إليه بواسطة، وهو حجة على التقديرين على ما ذكرناه في المرسل. المرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي: "أمر النبي بكذا، ونهى عن كذا، فهذا نازل منزلة قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يقدح في حجية ذاك قدح في حجية هذا مع زيادة احتمال آخر يتطرق إلى هذا دون ذاك وهو: أن

ما حكاه ليس لفظ الرسول الذي فيه الحجة بل هو حكاية عنه، واختلاف مذاهب الناس في صيغ الأوامر والنواهي مشهور، فلعله ظن ما ليس بأمر ونهى أمرًا ونهيًا فحكى ما حكى، ومع هذا فالأكثرون على أنه حجة خلافًا لداود الظاهري وبعض المتكلمين. والصحيح ما عليه الأكثرون؛ لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا تيقن أن ما صدر منه من الصيغة أمر ونهى من غير خلاف، أو وإن صدر منه صيغة مختلف فيها لكنه علم مراده عليه السلام منها، لكونه- عليه السلام- ضم إليها ما يفيد أن مراده منها الأمر والنهي، وحينئذ يجب أن تكون حجة. فإن قلت: لا نسلم أنه لا يطلق تلك اللفظة إلا إذا تيقن كون ما صدر منه- عليه السلام- أمرًا ونهيًا؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون قد أطلق ذلك بناء على الظن الغالب. لا يقال أنه غير جائز لأنه حينئذ يكون الراوي قد أوجب على الناس ما يجوز أن لا يكون واجبًا عليهم، وهو مما ينافيه ظاهر عدالته؛ لأنا لا نسلم أنه أوجب عليهم حينئذ ما يجوز أن لا يكون واجبًا عليهم؛ وهذا لأنه إنما يلزم أن لو كانت هذه الصيغة حجة] فإثبات كون هذه الصيغة حجة [به دور. قلت: ما علم أنه لا يجب على المجتهد بل لا يجوز أن يتبع ظن مجتهد

آخر، فلو أطلق أمر النبي ونهيه الذي هو حجة على جميع الناس/ (113/أ) بناء على الظن الغالب مع أنه ليس بحجة إلا في حقه ومن تابعه من المقلدين لكن ملبسًا ومدلسًا على الناس وهو ما ينافيه ظاهر عدالته فيمتنع حمله عليه ظاهرًا، فوجب حمله على التيقن والتحقق وحينئذ يجب أن يكون حجة. المرتبة الرابعة: أن يقول الصحابي: "أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، وأوجب علينا كذا، وحرم علينا كذا، وأبيح لنا كذا". فالذي عليه الشافعي- رضي الله عنه- وأكثر الأئمة أن ذلك يفيد أن الآمر والناهي، والموجب والمحرم والمبيح هو الرسول فيكون حجة. وذهب الصيرفي والكرخي وجماعة من الأصوليين إلى] أن [ذلك متردد بين أمر الله الذى اشتمل عليه الكتاب، وبين أمر الرسول، وبين أمر مجموع الأمة، وبين أمر بعض الأئمة والولاة، وبين أن يكون قد قال ذلك بناء على الاستنباط لقياس أو غيره وأضافه إلى آمر وناهي إما لزعمه أن ذلك الدليل آمر وناهي، أو صاحب الشرع الذى نصب ذلك الذي استنبط منه آمر وناهي بذلك فلا يكون حجة عندهم؛ لأنه دائر بين أن يكون حجة وبين أن لا يكون حجة فلا يكون حجة بمجرد الاحتمال والأصل عدم الحجية. والصحيح ما ذهب إليه الجماهير ويدل عليه وجهان:

أحدهما: أن من التزم طاعة رئيس وعد من جملة الممتثلين لأوامره ونواهيه إذا قال: "أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا" "فهم منه أمر ذلك الرئيس ونهيه؛ ولذلك لو قال واحد من خدم السلطان: أمرنا بكذا فهم] كل أحد [منه أمر السلطان، والصحابي بالنسبة إلى الرسول كذلك الملتزم وزيادة، فوجب أن يفهم من قوله أمرنا بكذا أمر الرسول. وثانيهما: أن الظاهر من حال الصحابي أنه قصد بذلك أن يعلمنا الشرع لا أنه قصد به مجرد الإخبار عن ذلك، وحينئذ يجب حمله على أمر الرسول؛ لأنه لا يجوز أن يحمل على أمر بعض الأئمة والولاة؛ لأنه لا يستفاد من قولهم الشرع، ولا على ما فهمه من الدليل؛ لأن فهمه ليس بحجة إلا بالنسبة إلى من قلده من العوام، فلا يتحقق به حينئذ تعلم الشرع ولا على أمر مجموع الأمة؛ لأنه من الأمة وهو لا يأمر نفسه، ولا على أمر الله الذي اشتمل عليه الكتاب؛ لأنه ظاهر لكل أحد غير مختص به ومن عداه من الصحابة فلا يستفاد منه، وحينئذ يتعين أن يكون محمولًا على أمر الرسول. المرتبة الخامسة: أن يقول الصحابي- رضي الله عنه-: "من السنة كذا" كقول علي- رضي الله عنه-: "من السنه أن لا يقتل حر بعبد".

فالذي عليه الأكثرون أنه يفهم منه سنة الرسول فيكون حجة خلافًا للصيرفي والكرخي فإنهما ذهبا إلى أنه متردد بين سنته، وسنة غيره فلا يكون حجة. والصحيح ما ذهب إليه الأكثرون والدليل عليه ما تقدم من الوجهين. واحتج الخصم بوجهين: أحدهما: أن لفظ السنة غير مختص بالرسول بل هو مستعمل في سنته وسنة غيره قال- عليه السلام-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى". وقال- عليه السلام-: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حجة. وجوابه: أن المدعى أن السنة إذا أطلقت فهم منها سنة الرسول لا أنها لا تستعمل إلا في سنة الرسول، وما ذكرتم إنما يدل على نفي الثاني لا على

نفي الأول؛ ضرورة أن السنة فيما ذكرتم من الاستعمال غير مطلقة بل هي مضافة إلى أربابها، ولا بعد في أن يفهم عند إطلاق الشيء ما لا يفهم عند إضافته. فإن قلت: قد وردت مطلقة والمراد منها غير سنة الرسول كما في أثر علي رضي الله عنه- إذ نقل عنه-رضي الله عنه- أنه قال: "جلد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة" والمراد منه سنة عمر. قلت: لا نسلم أن المراد من قوله ما ذكرتم بل هو محمول على سنة الرسول؛ وهذا لأن الزيادة على الأربعين شرعت تعزيرًا لمظنة الافتراء، ولهذا قال علي- رضي الله عنه- لما شاوروه في ذلك: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون" ولا شك أن التعزير سنة سنها الرسول-عليه السلام-. وثانيهما: أن السنة مأخوذة من الاستنان وذلك غير مختص بشخص دون شخص، فحيث حصل فيه معنى الاستنان حصلت السنة فيه. وجوابه: ما سبق. وأيضًا: فإن صدق المشتق غير لازم لصدق المشتق منه ولو سلم ذلك، لكن يلزم منه صدقه بحسب اللغة لا بحسب العرف] والمدعى اختصاص السنة بالرسول بحسب العرف [عند الإطلاق وما ذكرتم لا ينفيه.

المرتبة السادسة: أن يقول الصحابي: عن النبي- عليه السلام-، الحق أنه ظاهر أنه سمعه منه- عليه السلام- فيكون حجة، وبتقدير أن أخبره به غيره من الصحابة فهو أيضًا حجة لما سبق في قوله: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ومنهم من ذهب إلى أنه ظاهر في أنه أخبره به إنسان آخر عنه- صلى الله عليه وسلم- وهو ساقط لما سبق في المرسل. المرتبة السابعة: أن يقول الصحابي: "كنا/ (114/ أ) نفعل كذا، أو كان يفعل كذا، أو كانوا يفعلون كذا"، كقول عائشة- رضي الله عنها-: "كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه". فالذي عليه الأكثرون أنه حجة؛ لأن الظاهر من حال الصحابي أنه قصد بذلك أن يعلمنا الشرع، ولم يكن كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد الرسول- عليه السلام- مع علمه بذلك: ومع أنه- عليه السلام ما كان ينكر عليهم. أو كان ذلك فعل مجموع الأمة؛ لأن فعل البعض منهم ليس حجة، وكونه بحيث يسوغ فيه الاجتهاد، وتجوز مخالفته عن طريق لا ينفي هذا

الاحتمال؛ لأن الإجماع المروي بطريق الآحاد ظني، ولو فرض تواتره لكنه لم يتعين لهذا الاحتمال بل هو متردد بينه وبين الاحتمال الأول فلذلك لم يكن] ذلك] إجماعًا قطعيًا. وأما إذا كان الراوي غير صحابي فمراتب روايته أيضًا سبع: المرتبة الأولى: وهي أعلاها وهي أن يقول الراوي: حدثني فلان، أو أخبرني، أو سمعت فلانًا يقول كذا، أو قال فلان. وإنما يجوز له ذلك إذا قرأ الشيخ عليه وقصد إسماعه لذلك الخبر إما وحده أو مع غيره، فأما إذا لم يقصد إسماعه لا وحده، ولا مع غيره، فليس له أن يقول: حدثني أو أخبرني؛ لأنه لم يحدثه ولم يخبره فلو قال ذلك لكان كاذبًا فيه، وله أن يقول: سمعته يقول كذا، أو قال فلان كذا أو محدث بذلك أو مخبر بذلك؛ لأنه صادق في ذلك كله، وأما السامع فإنه يلزمه العمل بذلك الخبر سواء قصد إسماعه، أو لم يقصد؛ لأنه غلب على ظنه أنه كلام الرسول، والعمل بالظن واجب، وأما أنه كيف يروي ذلك الخبر فالحال فيه كالحال في الراوي. المرتبة الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فإن غلب على الظن أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه، وإلا كان ينكره فهو كقوله: هذا صحيح

فيجب العمل به، ويجوز له الرواية خلافًا لبعض أهل الظاهر والمتكلمين. والمجوزون اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز أن يقول إلا قوله: قرأت عليه، أو قرئ عليه وأنا أسمع. والأكثرون على أنه يجوز له أن يقول معه: أخبرنا أو حدثنا فلان قراءة عليه، فإما أن يقول حدثنا أو أخبرنا فلان مطلقًا من غير أن يقول قراءة عليه فلا. وجوز الأقلون الكل حتى قوله: سمعته على ما دل عليه نقل الإمام، وكلام غيره يدل على أنه لا خلاف في سمعت.

وكذا الخلاف فيما إذا قال القارئ للشيخ بعد قراءة الحديث عليه: "أرويه عنك؟ فقال: نعم؛ فإن المتكلمين لم يجوزوا الرواية ها هنا أيضًا ولا يخفى أن الخلاف فيه أبعد من الأول. احتج الجماهير: بأنه حصل للقارئ غلبة الظن بأن ما قرأه على الشيخ كلام الرسول؛ إذ الكلام مفروض فيه فوجب أن يجب عليه العمل كما لو حدثه هو بذلك، ويجوز له الرواية بقوله: أخبرنا قراءة عليه؛ لأن الإخبار وإن كان حقيقة فيما يفيد الخبر من الألفاظ المسموعة على ما تقدم بيانه في أول هذا الباب وهو غير حاصل فيما نحن فيه، لكن لا نشك في أنه يصح استعماله على وجه التجوز فيما يفيد الخبر والعلم من غير الألفاظ على ما تقدم شواهده من الاستعمال، فإذا قال قرأت عليه صار هذا قرينة لفظية دالة على إرادة المجاز من قوله أخبرني وحدثني فوجب أن تصح روايته بهذا اللفظ؛ لأنه صادق في ذلك لأنه حاصل فيما نحن فيه إذ السكوت أفاده ذلك. وبهذا يعرف أنه لا يصح أن يقتصر على قوله أخبرني وحدثني، لأنه حينئذ يكون كاذبًا فيه لأنه ما أخبره ولا حدثه بلفظ. وما يقال: من أن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهو حاصل فيما نحن فيه؛ ضرورة أن السكوت أفاده ذلك فممنوع؛ لما تقدم أن الخبر حقيقة في القول المخصوص. فإن قلت: هب أنه حقيقة في القول المخصوص لكن لم لا يجوز أن يقال: إنه نقل إلى ما يفيد الخبر والعلم سواء كان لفظًا أو لم يكن، أو أنه استعمل

فيه على وجه التجوز كما ذكرتم ثم غلب استعماله فيه بحيث استغنى عن القرينة كما في سائر المجازات الغالبة؟ قلت: النقل إما عام أو خاص، وكلاهما ممنوعان فيما نحن فيه إذ النقل على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لدلالة وهي ممنوعة الحصول فيما نحن فيه، ثم الذي يدل على أنه النقل غير حاصل هو أنه لا يحصل إلا إذا ثبت اتفاق الكل عليه في العام، واتفاق كل أرباب ذلك الفن في الخاص وهو غير حاصل فيما نحن فيه؛ أما الأول فظاهر وأما الثاني: فلأن جماعة من المحدثين نازعوا في ذلك ومعه لا يتحقق النقل الخاص أيضًا بالنسبة إلى اصطلاحهم جميعًا اللهم إلا أن يكون المدعى اصطلاح جماعة منهم، وحينئذ لا يجوز استعماله مطلقًا فيما بينهم خاصة. المرتبة الثالثة: أن يقال للراوي بعد قراءة الحديث عليه: هل سمعت هذا الحديث عن فلان؟ فيقول نعم، أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه الأمر كما قرئ علىَّ فهذه المرتبة كالمرتبة الأولى في وجوب العمل به على السامع، وفي أن له أن يقول في روايته ما كان له أن يقول في المرتبة الأولى] من [قوله أخبرني، أو حدثني، أو سمعت فلانًا؛ لأنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يسمع من البائع أن يقول: بعت، وبين أن يسمع منه بعد قراءة كتاب البيع عليه أن يقول: الأمر كما/ (115/ أ) قرئ عليّ هذا ما دل عليه نقل الإمام، وكلام غيره يدل على أنه لا يجوز أن يقول: سمعته يقول. وهذه المرتبة أقوى من المرتبة الثانية، وإنما قدمناها عليها لأنها في مقابلة المرتبة الأولى في التقسيم. المرتبة الرابعة: أن يقال له بعد قراءة الحديث عليه: "هل سمعت هذا

الخبر؟ "فيشير برأسه، أو بأصبعه، فالإشارة- هاهنا- كالعبارة في وجوب العمل به، ولا يجوز أن يرويه عنه بقوله: حدثني، وأخبرني، وسمعته؛ لأنه ما حدثه ولا أخبره بشيء ولا سمع منه شيئًا، فلو قال ذلك لكان كاذبًا. وهذا التعليل لا يستقيم على رأي من يزعم أن الإخبار ما يفيد الخبر سواء كان لفظًا أو لم يكن الإشارة أفادته الخبر. والعجب من الإمام أنه علل في صورة السكوت بأن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد أفاد فله أن يقول: أخبرني، وحدثني، وفي هذه الصورة علل بما تقدم، وهو متناقض فإن من المعلوم أن الإشارة في إفادة الخبر والعلم كالسكوت بل أبلغ فإن فيه السكوت وزيادة فإذا جاز في تلك الصورة أن يقول: أخبرني، وحدثني فلأن يجوز في هذه الصورة بطريق الأولى. المرتبة الخامسة: أن يكتب إلى غيره: "بأني سمعت كذا من فلان" فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابة، إذا علم أنه كتابه، أو ظن أنه خطة جاز ذلك- أيضًا- لكن ليس له أن يقول: "سمعته أو حدثني؛ لأنه ما سمع وما حدث بلى يجوز له أن يقول: أخبرني؛ لأن من كتب إلى غيره كتابًا يعرفه فيه واقعة جاز له أن يقول: أخبرني. هذا ما نقله الإمام، وكلام الشيخ الغزالي وغيره يشعر بخلافه؛ فإن كلامه يدل على أنه لو رأى خط الشيخ: بأني سمعت عن فلان كذا فإنه لا

يجوز أن يروى عنه؛ لأنه روايته شهادة عليه بأنه قال] فلان [والخط لا يعرفه هذا. نعم يجوز له أن يقول: رأيت مكتوبًا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان؛ فإن الخط أيضًا يشبه الخط، ولو قطع بأنه خطه بأن سمع منه أنه قال: هذا خطي أو بطريق آخر، فإنه مع ذلك لا يجوز له أن يروى عنه مالم يسلطه على الرواية بصريح قوله، أو بقرائن تفيد ذلك؛ لأنه يجوز أن يكون قد سمعه ثم يتشكك فيه ولا يرى روايته عنه، فإنه ليس كل ما يسمعه الإنسان فإنه يرى نقله عنه ومعه كيف تجوز الرواية عنه. فإن جعل كونه كتب إليه قرينة دالة على التسليط على الرواية لم يكن بين كلاميهما تناقض وإلا فهو حاصل بينهما قطعًا، ولعل الإمام رأى أن ذلك قرينة في ذلك، وإلا فلا فائدة في أن يكتب إليه ذلك فإن مجرد الإخبار عن ذلك مما لا فائدة فيه، وإذا جاز له الرواية فإنما يقول أخبرني كتابة، أو حدثني كتابة، ولا يجوز أخبرني أو حدثني مطلقًا. المرتبة السادسة: المناولة، وهي أن يقول: خذ هذا الكتاب وحدث به عني، أو اروه عني فقد سمعته من فلان، أنه يجب على السامع العمل بما فيه، وله أن يروى عنه بقوله: ناولني فلان كذا، أو أخبرني، وحدثني مناولة وفاقا. وهل يجوز له أن يقتصر على قوله أخبرني أو حدثني؟

اختلفوا فيه: والأظهر أنه لا يجوز؛ لأنه يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب. ومنهم من جوزه كما فيما إذا قرأ عليه وهو ساكت بل هنا أولى؛ لأنه صدر منه هنا نطق يدل على صحته وعلى جواز الرواية عنه. فلو قال: خذ هذا الكتاب، أو ناوله بالفعل ولم يقل سمعته فاروه عني فأنه لا يجوز له عنه وفاقًا، ولا يجب عليه العمل] بما فيه. ولو قال: سمعت هذا الكتاب فاروه عني أو حدث به [عني] من غير أن يناوله الكتاب بالفعل [أو يقول: خذ هذا الكتاب فإنه يجوز له الرواية عنه وفاقا، ولا معنى للمناولة فهي زيادة تكلف أحدثها بعض المحدثين. أما لو قال: سمعت ما في هذا الكتاب سواء كان مع المناولة أو لم يكن معها من غير أن يقول فحدث به عني، أو فاروه عني هل يسلطه على الرواية أم لا؟ فصريح كلام الإمام يدل على أنه يسلطه عليها، وكلام غيره يدل على أنه لا يسلطه عليها وهو الأظهر؛ لأنه يجوز أن يكون قد سمع ثم تشكك، ومعه لا تجوز له الرواية فلا يروى عنه، ولو قال: حدث عني أو ارو عني [ما في الكتاب] ولم يقل له إني قد سمعته، أو ما يجرى مجراه مما تسلط

على الرواية فليس له أن يروي عنه؛ لأن شرط الرواية السماع أو ما يجري مجراه وهو غير حاصل فيه فلا يجوز لعدم شرطه، وإنما يجوز للشيخ ذلك إذا علم أن النسخة المشار إليها هي النسخة التي سمها بعينها، أو علم موافقتها لها بالمقابلة المتقنة فأما إذا [لم] يعلم ذلك لم يجز له ذلك، فعلى هذا إذا سمع الشيخ نسخة من كتاب البخاري مثلًا فليس له أن يقول النسبة إلى نسخة أخرى منه إلا بالشرط المتقدم، أولًا لأن النسخ تتفاوت، فعلى هذا لا ينبغي أن يروي إلا ما يقطع بسماعه وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يقطع أن ما أداه هو معنى ما سمعه من غير تفاوت أصلًا، فإن شك في شيء من ذلك لم تجز له الرواية. فإن قلت: فلو لم يقطع بالسماع، ولا هو متشكك [فيه بمعنى أنه متردد فيه ترددًا على السواء لكن] على ظنه السماع، أو إن كان قاطعًا بالسماع لكن لم يقطع الشيخ الذي سمع منه بل يغلب على ظنه أنه سمعه من معين فهل يجوز له روايته عنه أم لا؟ قلت: اختلفوا فيه: فمنهم من لم يجوز روايته، ولا العمل به؛ لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة فإنه إذا ظن أن زيدًا أقر أو باع أو نكح وغيرها من/ (116/ أ) التصرفات ولم يقطع به فإنه لا يجوز أن يشهد لعليه بذلك، وهذا إنما يستقيم إذا رواه مسندًا. فأما إذا رواه مرسلًا فينبغي أن يجوز فيما إذا قطع بالسماع ممن يقبل روايته على رأي من يقبل المرسل منهم. فإما إذا ظن أصل السماع فلا كما لا يجوز روايته مسندا إذا ظنه سنداً

عندهم فعلى هذا لو قطع في مائة حديث مثلًا بأن واحدًا منها سمعه من غير الشيخ الذي سمع الباقي منه، لكنه لم يعرفه بعينه فإنه لا يجوز له رواية شيء منها مسندًا لا إلى شيخ الأكثر ولا إلى شيخ ذلك الواحد؛ لأنه ما من واحد منها إلا يحتمل أن يكون سمعه من شيخ الأكثر أو من شيخ ذلك الواحد فلا يجوز أن يسنده إلى واحد بعينه. ومنهم من جوز الرواية بغلبة الظن والعمل به؛ لأن الاعتماد في هذا الباب إنما هو على غلبة الظن؛ ولهذا فإن الناس كانوا يعملون بكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أمور الصدقات وغيرها المبعوثة على يد آحاد الصحابة مع أن ما فيه مما لم يسمعه الحامل والمحمول [إليه وما ذاك إلا لحصول غلبة الظن بصدقه، وفي هذه الدلالة] نظر، أما أولًا: فلأنا لا نسلم أن الحامل ما كان سمع ما في الكتاب. سلمناه لكن يعلم قطعًا أن فيه كلامه فإذا أخبر هو للمحمول إليه بأنه كلام الرسول كان ذلك كسماع ما فيه فلا يكون العمل مجرد ظن السماع بل بالقطع بتحقق ما يجرى مجرى السماع. وإن كان مظنونا صدقه كما إذا سمع من الشيخ فإنه يقطع بالسماع وإن كان كون صادقًا فيه مظنونا. وأما ثانيًا: فلأن الدعوى عامة والدليل خاص إذ لا يدل ذلك على جواز الرواية والعمل به معًا بل لو دل فإنما يدل على الثاني دون الأول. المرتبة السابعة: الإجازة: وهي أن يقول: "أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو كل ما صح عندك أنه من مسموعاتي".

واختلفوا في جواز الرواية: فجوزها الأكثرون. ومنع منها الأقلون ونسب ذلك إلى أبي حنيفة- رضي الله عنه-. ومنهم من فصل فقال: إن كان المجيز والمستجيز كلاهما يعلمان ما في الكتاب من الأحاديث جاز وإلا فلا، وهو اختيار أبي بكر الرازي من الحنفية. فعلى هذا الإجازة بكل ما ثبت أنه من مسموع الشيوخ لا يجوز؛ ضرورة أنهما لا يعلمان جميع تلك الأحاديث، وإنما يجوز ذلك بالنسبة إلى كتاب معين بشرط أن يعلمان ما فيه من الأحاديث. واحتج للأولين بإجماع أهل الحديث عليه، وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم حصول الإجماع عليه وكيف ندعي ذلك مع حصول الخلاف فيه من المتقدمين والمتأخرين. والأولى في ذلك أن يقال: إنه ليس المراد من قول الشيخ أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أنه أجاز له أن يتحدث عنه بما لم يحدثه به؛ لأنه تجويز للكذب وهو خلاف عدالته، والتماسه خلاف عدالة السائل أيضًا، بل المراد منه: أني أحدثك أو أخبرك أني سمعت الكتاب الفلاني، فاروه عني،

وهذا المفهوم وإن كان غير مستفاد بحسب الوضع اللغوي، لكنه مستفاد منه بحسب الاصطلاح العرفي من حيث إن العادة جارية بأن الثقة لا يجيز لغيره أن يروي إلا ما سمعه وإذا كان كذلك وجب أن يجوز كما إذا قال: سمعت الكتاب الفلاني فاروه عني فإن ذلك جائز وفاقا فكذا هذا. ولقائل أن يقول: فالإجازة العامة من غير تعيين ما أجازه حينئذ ينبغي أن لا تصح؛ لأن قوله: أجزت لك أن تروي عني كل ما صح عندك أنه من مسموعاتي [جار مجرى قوله: سمعت كل ما صح عندك أنه من مسموعاتي] فاروه عني، وهذا لا يصح قبل العلم بذلك الذي صح عنده؛ لأنه جوز أن يصح عنده ما ليس بمسموع له أنه مسموع له فحينئذ يلزم إما كذبه فيما أخبره من أنه سمع كل ما صح عنده أنه سمع، أو يلزم أن ما ليس بمسموع له مسموع له وكلاهما باطلان. ويمكن أن يجاب عنه: بأن ما ذكرتم من الاحتمال وإن كان قائمًا فيه لكن مع ذلك يمكن أن يقال: إنه يجوز بناء على الظاهر، فإن الظاهر أنه لا يصح عند ما ليس بمسموع له أنه مسموع له، وقد يصح الشيء بناء على الاحتمال الظاهر، ولا يقدح فيه الاحتمال المرجوح. واحتج المانعون بوجوه: أحدها: أنه لو جازت الرواية بالإجازة لبطلت فائدة الرحلة، والتالي باطل فالمقدم مثله. وجوابه: منع الملازمة؛ وهذا فإن ما يستفاد من الرحلة من تحدث الشيخ بالحديث، ومن القراءة عليه، واعترافه أن الأمر كما قرئ عليه غير مستفاد من الإجازة. وثانيها: أنه لا معنى لإجازة الشيخ للرواية عنه؛ لأن الرواية عنه ليست

حقاً له حتى يتوقف على إجازته بل هو [حق] للشرع، فإن كانت الرواية عند حصول شرائطها جازت سواء أجاز أو لم يجز، ألا ترى أنه لو سمع منه الحديث وهو يتحدث به فإنه يجوز له الرواية عنه وإن منعه عنه، وإن كان عند عدم حصول شرائطها لم تجز الرواية عنه وإن أجازه ألف إجازة كما لو قال: أجزت لك أن تروي عني ما شئت من الأحاديث أو الأحاديث كلها. وجوابه: أنه يجوز أن يحصل بها شرط من شرائط الرواية فيجوز عندها ولا يجوز عند عدمها، وعدم ما يقوم مقامها وكيف لا وقد بينا أن قوله: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني يتضمن معنى سمعته. ولا يقال: لو كان صحة الرواية معتمدة على ما تضمنه من معنى السماح لوجب أن تجوز الرواية لو سمع منه قوله: سمعت الكتاب الفلاني؛ لأنا/ (117/ أ) نمنع الملازمة؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون حكم المجموع مخالفًا لحكم أفراده فلا يلزم من جواز الرواية عند السماع والإجازة جوازها عند السماع وحده. ثم السبب في هذا أنه يجوز أن يكون قد سمع لكن لا تجوز الرواية لخلل يعرفه فيها بخلاف ما إذا أجاز فإنه لا يبقى فيه هذا الاحتمال؛ لأن عدالته تمنع من إجازة رواية ما يعرف فيه الخلل. وثالثها: أنه قادر على أن يحدثه به فحيث لم يحدثه به دل على أنه غير صحيح عنده. وهو ظاهر الفساد غنى عن الإفساد. ورابعها: أنه لا طريق إلى الرواية عنه، فإنه لم يمكنه أن يقول: حدثنا

أو أخبرنا، أو سمعت منه؛ لأنه حينئذ يكون كاذبًا إذ لم يسمع منه شيئًا، ولم يخبره بشيء، ولم يحدثه بشيء وإذا لم يكن للرواية عنه طريق وجب أن لا يصح؛ لأن ما لا فائدة فيه وجب نفيه. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يجوز ذلك؛ وهذا لأن بعض المجوزين جوز الرواية بها وقد عرف سنده فيما تقدم. سلمناه لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون له طريق آخر، وإنما يلزم ذلك لو كانت الطرق منحصرة فيما ذكرتم من الألفاظ وهو ممنوع، ثم أنا نتبين أن لها طريقًا آخر وهو أن يقول: أخبرنا، أو حدثنا إجازة، أو أجازني فلان كذا، ولكن هذا آخر كلامنا في الإخبار.

النوع الرابع عشر الكلام في القياس وهو مرتب على مقدمة وأبواب:

النوع الرابع عشر: الكلام في القياس

النوع الرابع عشر الكلام في القياس وهو مرتب على مقدمة وأبواب: أما المقدمة ففيها مسائل: المسألة الأولى في تحقيق معنى القياس بحسب اللغة، وبحسب الاصطلاح. أما بحسب اللغة فهو: عبارة عن التقدير والمساواة، يقال: قست الأرض والثوب، إذا قدرته بالقصبة والذراع، ويقال: قست النعل بالنعل إذا حاذيته.

ثم من المعلوم أن هذا المفهوم لا يتحقق إلا بين شيئين؛ لأن تقدير الشيء بنفسه محال، فلا بد وأن يكون بشيء آخر، وكذا التسوية لا تعقل إلا بين المفهومين. وأما بحسب الاصطلاح، فقد ذكر له حدود أكثرها مزيفة نذكر بعضها فإنه لا يخلو من فائدة، ثم نذكر ما هو المختار في ذلك: فالأول ما قيل: إنه الدليل الموصل إلى الحق. وهو غير مانع؛ إذ يدخل تحته جميع مدارك الأحكام كالنص والإجماع والبراءة الأصلية. الثاني: هو العلم الواقع بالمعلوم على نظر. وهو غير جامع؛ إذ يخرج منه الأقيسة وهي أكثرها. وغير مانع أيضًا؛ فإنه يندرج تحته ما علم من النظر في دلالة النص، والإجماع، والقرائن الحالية أو المقالية، فإن العلم الواقع بالمعلوم على نظر حاصل في هذه الصور مع أن شيئًا منها ليس بقياس. سلمنا سلامته عما تقدم لكن العلم الواقع بالمعلوم على نظر ثمرة القياس،

وثمرة الشيء ليس نفس الشيء. الثالث: أنه عبارة عن إصابة الحق. وهو غير مانع؛ لما تقدم، وغير جامع؛ لأنه يخرج منه القياس الفاسد فإن القياس أعم من أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، اللهم إلا أن يعنى به حد الصحيح منه، ثم هو حكم القياس، لا نفسه، ثم هو مشعر بتقدم الحق فلا يستقيم على مذهب المصوبة. الرابع: أنه عبارة عن بذل الجهد في استخراج الحق. وهو غير مانع؛ لما تقدم، ولدخول الأدلة العلمية مع أنها ليست بقياس. وغير جامع أيضًا؛ لأنه يخرج عنه القياس الجلي الذي في غاية الجلاء، والقياس بالطريق الأولى فإنه ليس فيه بذل الجهد مع أنه قياس. والجهد يبذل في معرفة دليل حكم الأصل، وخلوه عن المعارض ليس بذلًا للجهد في استخراج الحكم حتى يكون باعتباره جامعًا له، وإلا لكان بذل الجهد في معرفة دلائل وجود الصانع، وإثبات النبوة بذلًا للجهد في المسائل الفرعية. ثم هو غير جامع من وجه آخر وهو أنه لا يتناول القياس الفاسد ثم بذل الجهد لازم للقياس لا نفس القياس.

الخامس: أنه عبارة عن التشبيه. وهو غير مانع؛ لأنه يدخل تحته تشبيه شيء بشيء في المقدار، أو في الصفات، كالألوان، والطعوم مع أنه ليس بقياس. سلمنا سلامته عن هذا لكنه خال عن ذكر أركانه فلا يكون حدًا بل لو صح لكان رسمًا، وهو وارد على كل ما تقدم. وقال القاضي أبو بكر وارتضاه جمهور المحققين منا أنه: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنه.

وإنما ذكر لفظ "المعلوم" ليتناول الموجود والمعدوم ممكنًا كان أو ممتنعًا، فإن القياس يجرى فيهما جميعًا. ولو ذكر لفظ "الشيء" لاختص بالموجود على رأينا وعلى رأي المعتزلة، وإن تناول المعدوم لكن المعدوم الممكن دون الممتنع فيخرج الفرع الممتنع عنه فلم يكن الحد حينئذ جامعًا، فأما المعلوم فإنه يتناول الموجود والمعدوم الممكن والممتنع عند الكل فكان الحد جامعًا. ولو ذكر لفظ "الفرع والأصل" لكان يوهم اختصاصه بالموجود والتعبير عنهما بالمعلومين أبعد عن الوهم الفاسد. وإنما احتاج إلى ذكر معلوم آخر؛ لأن القياس عبارة عن التقدير والمساواة، وذلك لا يعقل إلا بين أمرين، ولأنه لولا المعلوم الثاني الذي هو الأصل لكان إثبات الحكم في المعدوم الأول الذي هو الفرع تحكمًا محضًا. وإنما قال: في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ليتناول الحكم الوجودي والعدمي، فإن الحكم المثبت بالقياس قد يكون وجوديًا، وقد يكون عدميًا. وإنما قال: بأمر جامع؛ لأن القياس لا يتم بدونه؛ فإنه لو لم يكن بين الأصل والفرع جامع لم يكن حمل الفرع عليه أولى من حمله على أصل آخر مضاد له في/ (118/ أ) الحكم أو موافق له فحينئذ يلزم أن يكون حمله على أي أصل فرض تحكمًا محضًا.

وإنما ذكر من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنه؛ لأن الجامع قد يكون حكمًا شرعيًا، وقد يكون وصفًا حقيقيًا وغيره، وكل واحد منهما قد يكون نفيًا، وقد يكون إثباتًا على ما يأتي شرحه في فصل العلة فيكون متناولًا للكل. واعترض الإمام عليه بوجوه: أحدها: أنه إن أراد بقوله: "حمل معلوم على معلوم آخر" إثبات مثل حكم أحدهما للآخر فقوله بعد ذلك: "في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما" إعادة لعين ذلك فيكون تكريرًا من غير فائدة. وإن أراد غيره فلا بد من إفادة بيانه. وأيضًا فبتقدير أن يكون المراد منه شيئًا آخر، لكن لا يجوز ذكره في تعريف القياس؛ لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل حكم معلوم لمعلوم بأمر جامع، فلا حاجة إلى ذكر ذلك المفهوم الزائد الخارجي. وأجيب: بأن المراد من الحمل الاعتبار، وقال بعضهم: التشريك وهما متقاربان. وقوله: في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بيان تمامه الاعتبار، أو ما فيه التشريك، فإن اعتبار المعلوم بالمعلوم قد يكون من حيث ثبوت الحكم ونفيه، وقد يكون بغيره، وكذلك التشريك قد يكون في الحكم ونفيه، وقد يكون في غيره فهذا تفصيل للاعتبار والتشريك وحينئذ لا يلزم التكرار. وهذا إنما يدفع السؤال الأول دون الثاني، فإن ماهية القياس تتم بأن يقال:

إنه عبارة عن إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم بأمر جامع، وحينئذ لا حاجة إلى ذكر الحمل. ويمكن أن يجاب عنه: بأنه غير مستغنى عنه؛ ضرورة أنه قدر مشترك بين القياس وغيره فيكون كالجزء الجنسي، وما شأنه ذلك لا يستغنى عن ذكره غايته أن قولنا: إنه عبارة عن إثبات مثل حكم معلوم بمعلوم آخر يتضمنه، أو يستلزمه، لكنه حينئذ يكون مدلولًا عليه بالتضمن أو بالاستلزام فعلى التقدير الأول وإن كان الحد صحيحًا موجزًا لكن لم يعبر عنه بالدلالة المطابقة فإذا عبر عنه بلفظ يخصه كان معبرًا بالدلالة المطابقة فيكون أصرح وحينئذ لم يختل إلا الإيجاز، واختلاله غير مخل بالحد فإن لو أورد مكان الجنس القريب لم يختل به الحد. وأما على التقدير الثاني فالحد مختل؛ لأنه لا يجوز استعمال الدلالة الالتزامية في الحدود وعلى التقديرين لا يكون ذكر الحمل مخلًا بالحد. وثانيها: أن قوله: "في إثبات حكم لهما" مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس. وهو باطل، فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل، فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعًا على القياس لزم الدور. وجوابه: أنه ظاهر في أن ثبوت الحكم في المجموع من حيث هو المجموع مستند إلى القياس والأمر كذلك؛ ضرورة أن ثبوت الحكم في الفرع بالقياس وبه يثبت الحكم في المجموع من حيث المجموعية لا أن ثبوت الحكم في كل واحد منهما مستند إليه، وإن كان اللفظ مشعرًا بذلك إشعارًا مرجوحًا، فاستعمال مثل هذا اللفظ في الحد لا يخل به لاسيما عند قيام الدلالة على تعين مراده الظاهر، ولو سلم أنه ليس بظاهر فيه بل دلالته على الاحتمالين

على السواء، لكن لما علم عدم إرادة أحدهما قطعًا تعين أن يكون المراد منه الثاني، واستعمال الألفاظ المشتركة والمتواطئ المجمل إنما يمتنع استعماله في الحد لإخلاله بالفهم من حيث أنه متردد بين معانيه، وهو غير حاصل فيما نحن فيه لتعين أحد الاحتمالين للإرادة لقيام الدلالة على امتناع إرادة الاحتمال الثاني. وثالثها: أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد تثبت الصفة بالقياس أيضًا، كقولنا: "الله عالم" فيكون له علم قياسًا على الشاهد ولا نزاع في أنه قياس؛ لأن القياس أعم من القياس الشرعي، والقياس العقلي، وإذا كان كذلك فنقول: إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم، أو لا تكون. فإن كان الأول- كان قوله: "بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه" مكرر؛ لأن الصفة حينئذ تكون أحد أقسام الحكم فيكون ذكرها بعده تكرارًا. وإن كان الثاني- كان التعريف ناقصًا؛ لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت الحكم أو عدمه، ولم يذكر ما إذا كان الطلوب وجود صفة، أو عدمها فهذا التعريف إما زائد أو ناقص. وجوابه: أنه حد للقياس الشرعي لا لمطلق القياس حتى يرد ما ذكرتم، فالقياس الشرعي قد يكون حكمًا، وقد يكون صفة، ولا يكون المثبت به صفة فكذلك ذكر الصفة في الجامع، ولم يذكرها في قوله: إثبات حكم معلوم بمعلوم. ورابعها: المعتبر في ماهية القياس الجامع، لا أنواعه وأقسامه بدليل: أن

ماهية القياس قد تحصل منفكة عن كل واحد منهما بعينه، فلو كان المعتبر في تحققها جميع أقسامها أو واحد منها بعينه لاستحال ذلك. وأيضًا: لو كان ذلك معتبرًا لوجب ذكر جميع أنواع الحكم والصفة ولم يجز الاقتصار على ذكرهما من غير ذكر أقسامها وأنواعهما واللازم باطل فالملزوم مثله وحينئذ يلزم أن يكون ذكر الحكم والصفة فيه مستدركًا غير محتاج إليه. وجوابه: أن بيان أقسام الجامع وأنواعه إن كان غير محتاج إليه في حد القياس لكنه غير مفسد له أيضًا بل ليس فيه سوى التطويل لكن لفائدة التفصيل فلا يضر ذكره ولأنه لو (119/ أ) اقتصر على قوله: "بأمر جامع" فربما يعتقد أنه لن يندرج تحته القياس الذي جامعه الحكم وعدمه؛ لأن المتبادر من الجامع على إطلاقه إنما هو الصفة والحاد يرى أنه قياس معمول به فذكر في بيان الجامع الحكم دون الحكمة وأقسامها؛ لأنه ربما لا يرى صحة كون الحكمة جامعًا أو ليس في أقسامهما خلاف عند القائلين بهما وبعدهما، فكان في ذكر الأقسام الأربعة غنية عن البواقي. وخامسها: أن كلمة "أو" للإبهام، وماهية "كل" متعينة، والإبهام ينافي التعيين. وجوابه: أن المراد منه أن ما يكون من حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما بأحد هذه الأمور فهو قياس، وهذا لا إبهام فيه. وما يقال عليه: بأن المعتبر حينئذ ما هو ملزوم هذه الأمور وهو كونه جامعًا من حيث إنه جامع فيكون ذكر هذه الأمور وهو كونه جامعًا من حيث

أنه جامع فيكون ذكر هذه الزوائد لغوًا، فهو عود إلى السؤال الرابع وقد سبق جوابه، على أنه غير لازم، لجواز أن يكون كل واحد منهما جامعًا على البدلية بخصوصية. وسادسها: أنه لم يتناول القياس الفاسد، مع أنه قياس فلم يكن الحد جامعًا. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لم يتناول القياس الفاسد؛ وهذا لأنه ليس في قوله "بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة" ما يدل على أن ذلك الجامع جامع في نفس الأمر حتى يلزم ذلك، بل فيه إشعار بأن المراد منه ما يذكره الحامل الجامع، لأن قوله: "بأمر جامع بينهما" متعلق "بحمل معلوم على معلوم" والجامع الذي يتعلق بالحمل هو الذي يذكره الحامل لا الذي هو الجامع في نفس الأمر، وحينئذ يكون متناولًا للقياس الفاسد أيضًا لأن الجامع الذي يكره الحامل قد يكون جامعًا في نفس الأمر وقد لا يكون، وحينئذ يكون متناولًا للقياسين الصحيح والفاسد. سلمنا أنه لم يتناول الفاسد لكنه حد للقياس الصحيح لا لمطلق القياس فلا يقدح فيه خروجه عنه. وأورد بعضهم عليه إشكالًا آخر وزعم أنه لا محيص عنه وهو: "أن الحكم في الفرع نفيًا وإثباتًا متفرع على القياس إجماعًا، وليس بركن في القياس لأن نتيجة الدليل لا تكون ركنًا في الدليل، وإلا لزم الدور وهو ممتنع، فيلزم من أخذ إثبات الحكم ونفيه في الفرع في حد القياس أن يكو ركنًا في القياس، وهو دور ممتنع، وقد أخذه في حد القياس حيث قال: "في إثبات

حكم لهما أو نفيه عنهما "إشارة إلى الفرع والأصل" وهو ضعيف جدًا؛ لأن المأخوذ في حد القياس إنما هو الإثبات لا الثبوت الذي يترتب عليه وهو نتيجة القياس لا الإثبات فأنا لا نسلم أنه نتيجته؛ وهذا لأنه لو كان نتيجته لكان إما عين الثبوت وهو باطل بالضرورة؛ فإن الفرق معلوم بالضرورة بين الإثبات والثبوت وذلك يوجب التغاير أو غيره وهو أيضًا باطل؛ لأنه لا يعقل نتيجة القياس سوى ثبوت الحكم في الفرع. وقال أبو الحسين البصري: "القياس تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد". ولا يخفى أنه أشد تحريرًا من حد القاضي، فإنه لا يرد عليه أكثر ما أورد عليه. وأورد عليه إشكالًا وهو: أن قياس العكس قياس في اصطلاح الفقهاء؛ بدليل أنهم يسمونه قياسًا على ما هي عبارتهم شاهدة بذلك في مصنفاتهم، وليس فيه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم بل فيه تحصيل نقيض الحكم للافتراق في علة الحكم. مثاله: أن يقول الحنفي في إثبات أن الصوم شرط لصحة الاعتكاف: [لم يكن شرطًا لها] بالنذر كالصلاة؛ فإنها لما لم تكن شرطًا لصحة

الاعتكاف لم تكن شرطًا لها بالنذر. فالمطلوب في الفرع المتنازع فيه إنما هو اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل إنما هو عدم اشتراط الصلاة لصحة الاعتكاف وقد افترقا في علة الحكم؛ لأن العلة التي لأجلها لم تكن الصلاة شرطًا لصحة الاعتكاف هي أنها لم تكن شرطًا لها بالنذر، وهذه العلة غير حاصلة في الفرع؛ لأن الصوم شرط لصحة الاعتكاف بالنذر إجماعًا. وحاصل ما أجاب به عنه هو: أنا لا نسلم أنه قياس عندهم بطريقة الحقيقة بل تسميته به بطريق التجوز، وهذا لأن خاصية القياس غير حاصلة فيه، وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لما بينهما من المشابهة، ويؤكده: أنه لم يتبادر إلى الفهم من سماع مطلق القياس إلا قياس الطرد دون قياس العكس، والتبادر دليل الحقيقة.

وأجيب عنه بوجهين آخرين: أحدهما: وأنا وإن سلمنا أنه حقيقة فيه أيضًا لكنه مشترك بينهما بالاشتراك اللفظي، والمحدود إنما هو القياس بمعنى الطرد دون العكس، فلا يضر الحد كونه غير جامع لقياس العكس. وثانيهما: وهو ما ذكره الإمام: أن القياس الذي سميتموه "بقياس العكس" فهو في الحقيقة تمسك بنظم التلازم، وإثبات لإحدى مقدمتي التلازم بالقياس. فإنا نقول: لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف لم يصر شرطًا لها بالنذر لكنه يصير شرطًا لها بالنذر فهو شرط لها مطلقًا "فهذا تمسك بنظم التلازم، واللازم على انتفاء الملزوم/ (120/ أ) ثم إنا نثبت الملازمة بالقياس بأن نقول: أن ما لا يكون شرطًا لصحة الاعتكاف في نفسه لا يكون شرطًا لها بالنذر كما في الصلاة، ولا شك في أن هذا قياس الطرد، لا قياس العكس. وكذا قياس التلازم أيضًا قياس الطرد غايته أنه على تقدير تحقق الملزوم فلم يكن قياس العكس خارجًا عن الحد. واعلم أنه ليس في حد أبي الحسين ما يقدح فيه سوى أنه ذكر فيه لفظ الأصل والفرع وقد عرفت ما فيه، وأنه جعله عبارة عن تحصيل حكم الأصل في الفرع وهو محال، فإن حكم الأصل لا يمكن تحصيل عينه في الفرع بل الممكن تحصيل مثله فإذا أزيل عنه ذلك بقي الحد سليمًا عن القوادح. فالأولى أن يورد هكذا أنه: "تحصيل مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لاشتباههما في علة الحكم عند المثبت" وعند هذا لا يبقى فيه خلل ألبتة

فليكتفى به إذ لا مزيد عليه. وأما ما ذكره بعض المتأخرين من أنه "عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل". فقد يرد عليه ما قد عرفت في لفظ الأصل والفرع. وأنه غير جامع لأنه يخرج عنه القياس على العلة المنصوصة والمومئ إليها مع أن ذلك قياس. وأنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه الصور التي ساوت الأصل في العلة المستنبطة لكنها اختصت بوجود موانع، أو بفقد شرط من شرائطها مع أنه لا يتحقق فيها القياس، وهذا وإن كان مبنيًا على تخصيص العلة لكن قائله يقول به في الجملة. وأيضًا فإن القياس عمل المكلف واستواء الأصل والفرع في العلة المستنبطة ليس من عمل المكلف فلم يجز أن يجعل عبارة عن القياس.

المسألة الثانية في تعريف الأصل والفرع

المسألة الثانية في تعريف الأصل والفرع اعلم أنا إذا قسنا "الذرة" على "البر" في تحريم بيعه بجنسه متفاضلًا فالاحتمالات الممكنة فيما يمكن أن يجعل أصل القياس في هذه الصورة لا يزيد على أربعة: أحدها: أن أصل القياس هو "البر" وهو مذهب جماهير الفقهاء. وثانيها: أن أصل القياس هو حكمه، وهو مذهب جماعة من المحققين من الفقهاء والمتكلمين. وثالثها: أن أصل القياس هو النص الدال على ذلك الحكم وهو مذهب جماهير المتكلمين. ورابعها: أن أصل القياس هو علة ذلك الحكم وهي الطعم مع الجنس في مسألتنا على رأينا، وهذا الاحتمال لا نعرف أحدًا ذهب إليه وإن كان من جملة الأقسام الممكنة في ذلك وبعد هذه الاحتمالات لا يبقى في المسألة احتمال آخر البتة. وأما الفقهاء فقد احتجوا على صحة مذهبهم بوجهين: أحدهما: أن الأصل يطلق على الشيء باعتبارين: أحدهما: كونه بحيث ينبني عليه معرفة غيره فيقال: إنه أصل له سواء كانت معرفته غير مبنية على شيء آخر كمعرفة الله تعالى، فإنها أصل لمعرفة

الرسول من حيث إن معرفة الرسول [تنبني] على معرفة المرسل مع أنها مستقلة بنفسها غير مبنية على شيء آخر، أو لم يكن كذلك بل معرفته أيضًا مبنية على معرفة شيء آخر كمعرفة الرسول فإنها أصل لمعرفة الشريعة، وليست معرفته مستقلة بنفسها بل هي مبنية على معرفة الله تعالى من جنسه كما تقدم. وثانيهما: كونه بحيث لا تتوقف معرفته على معرفة شيء آخر من جنسه سواء توقف معرفة غيره من جنسه عليه أم لم يتوقف. مثال الأول: معرفة تحريم الربا في الأشياء الأربعة فإنه يقال: الأصل في تحريم الربا في المطعومات إنما هو الأشياء الأربعة. مثال الثاني: تحريم الربا في النقدين، وهذان الاعتباران حاصلان في المحل معًا، فإنه يتوقف معرفة حكمه وحكم غيره على معرفته، ولا يتوقف معرفته على معرفة شيء آخر فكان أصلًا. وثانيهما: أنه لو لم يكن الأصل هو البر لكان الأصل إما حكمه أو النص الدال عليه لئلا يلزم قول آخر لم يقل به أحد لكنهما باطلان. أما الأول: فلأن المحل موصوف والحكم صفة له فيكون تابعًا له فيكون تسمية المحل الموصوف به الأصل أولى من تسميته به. وأما الثاني: فلأنا لو فرضنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة، أو بالدليل العقلي لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعًا قياسيًا، ولو فرضنا أن النص دل على الحكم من غير تخصيص بصورة خاصة لم يمكن أن نفرع عليه الحكم تفريعًا قياسيًا، وإن أمكن ذلك تفريعًا نصيًا. وإذا كان كذلك لم يكن النص أصلًا للقياس، وإذا بطل هذان القولان

تعين أن يكون الأصل هو البر. واعلم أن الأقرب إنما هو قول من قال: إن الأصل هو الحكم؛ لأن النص الدال عليه لا يجوز أن يكون هو الأصل لما تقدم، ولأن النص طريق إلى إثبات الحكم فلو كان النص أصلا ًكذلك لكان قول الراوي أولى أن يكون أصلًا للقياس؛ لأنه طريق إلى ثبوت النص الذي هو طريق إلى الحكم فكان أولى بذلك منه، لكنه باطل بالاتفاق، فكذلك كون النص أصلًا. ولا يجوز أن يكون الأصل هو البر؛ لأنه لو لم يوجد البر أو وجد لكنه لم يوجد فيه الحكم لم يكن تفريع الحكم عليه، ولو وجد ذلك في غيره لأمكن تفريع القياس عليه، فإذن الحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر أصلًا بل على حكمه فلا يكون البر هو أصل القياس بل/ (121/ أ) حكمه. وبهذا ظهر ضعف الوجه الأول أن ما ذكروه أن معرفة حكم غيره تتوقف على معرفته باطل إن أرادوا به التوقف بالأصالة من غير وساطة شيء آخر، وإن أرادوا به التوقف بطريق التبعية فهو صحيح؛ فإن معرفة حكم غيره تتوقف على معرفة الحكم الحاصل فيه، ومعرفة الحكم الحاصل فيه تتوقف على معرفته، لكن ذلك لا يقتضي أن يكون هو أصل القياس بالذات بل بالعرض، وليس كلامنا فيه بل فيما هو أصل القياس بالذات من غير وساطة شيء آخر، ولو كان البر أصلًا بهذا الاعتبار لكان النص الدال على الحكم أصلًا أيضًا بهذا الاعتبار؛ فإن معرفة ذلك الحكم الذي هو أصل القياس تتوقف على معرفة النص الدال عليه بل تسمية النص أصلًا بهذا الاعتبار أولى من تسمية البر أصلًا؛ لأن توقف الحكم على النص كتوقف المعلول على العلة وتوقفه على البر توقف المشروط على الشرط، ومعلوم أن النوع الأول من التعلق والتوقف

أقوى وأشد فكان تسميته أصلًا أولى وأنتم لا تقولون به. ومنه أيضًا ظهر ضعف الوجه الثاني، فإن الحكم الحاصل في البر وإن كان تابعًا للبر والبر أصل له لكن ذلك يقتضي أن لا يكون الحكم أصلًا للقياس فإن الشيء قد يكون تابعًا لشيء ويكون أصلًا لغيره ولا يقتضي أيضًا أن يكون تسميته بالأصل بالنسبة إلى القياس أولى من تسمية حكمه به؛ وهذا لأن حكمه أصل للقياس من غير واسطة وهو أصل له بواسطة حكمه وما يثبت للشيء بغير واسطة يكون هو به أولى من الذي يثبت له بواسطته فيكون الحكم أولى بالأصالة من محله. ومما تقدم يعرف أن لقول الفقهاء والمتكلمين وجهًا أيضًا، فإنه ظهر أن كل واحد من المحل والنص أصل للحكم الذي هو أصل القياس وأصل الأصل أصل فيكون كل واحد منهما أصلًا بهذا الاعتبار وتسمية المتكلمين النص بالأصل وإن كان أولى من تسمية الفقهاء المحل به للوجه الذي تقدم لكن تسمية الفقهاء المحل بالأصل أولى من وجه آخر وهو أن كل واحد من النص والحكم متوقف على حصول المحل بخلاف حصول المحل فإنه غير متوقف لا على النص ولا على الحكم. وأما الفرع فهو محل الحكم المتنازع فيه عند الفقهاء، ونفس الحكم فيه عند جماهير المحققين وليت شعري بماذا يفسره المتكلم فإنه إن فسره بأحد التفسيرين المذكورين فإنه يلزم منه ضعف مذهبه؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الأصل ما يقابله إذ الفرع ما يقابل الأصل ويضاده، وإن فسره بالعلة فضعيف جدًا، لأن العلة أصل الحكم في المحل المتنازع فيه؛ فإنه ما لم يعلم العلة فيه أولًا، ثم يعلم الحكم فيه فهي بمنزلة النص الدال على الحكم في محل الوفاق فكانت أصلًا لا فرعًا وهي ليست فرعًا في محل النص من حيث إنها لا تعلم

إلا بعد العلم بالحكم فيه فإنه ما لم يعلم الحكم أولًا في محل النص لا يطلب علته ولا يمكن استنباطها ضرورة أنه لا طريق إلى استنباطها حيث لا حكم فإن طرق استنباطها كلها نحو الإيماء، والمناسبة، والدوران، والطرد وغيرها مخصوصة بصورة وجود الحكم لكن لا يمكن جعلها فرعًا بهذا الاعتبار، لأنه يقتضي اجتماع الأصل والفرع في محل واحد وهو باطل وفاقًا فثبت أنه لا يمكن جعل العلة فرعًا لا في محل الوفاق ولا في محل الخلاف بل هي أصل في محل الخلاف، وهذا إنما يتأتى على رأي من يجعل الحكم في محل النزاع فرعًا وهو الصحيح، فأما من يجعل المحل فرعًا فلا؛ لأن العلة ليست أصلًا للمحل بوجه من الوجوه حتى يمكن جعلها أصلًا في الفرع بل هي فرع له لكونها صفة له وهذا يضعف مذهب الفقهاء في أنهم جعلوا المحل فرعًا فإن العلة أصل في الفرع. ثم أعلم أنا قد ذكرنا أن لما ذهب إليه الفقهاء من تسمية المحل أصلًا وجهًا على تقدير أن يكون الأصل هو الحكم الحاصل في محل الوفاق فذلك الوجه يضعف في تسمية محل الخلاف فرعًا على تقدير أن يكون الفرع هو الحكم الحاصل في محل الخلاف؛ لأن محل الوفاق أصل للحكم الذي هو أصل القياس فيكون أصلًا للأصل فيكون أصلًا، لأن أصل الأصل أصل بخلاف محل الخلاف فإنه أصل الفرع فلا يلزم أن يكون فرعًا؛ لأن أصل الفرع لا يلزمه أن يكون فرعًا فكان تسمية محل الوفاق بالأصل أولى من تسمية محل الخلاف بالفرع.

وبالجملة النزاع في هذه المسألة آيل إلى اللفظ، والأظهر إنما هو مذهب المحققين لما عرفت، ونحن حيث أطلقنا لفظ الأصل والفرع في هذا الكتاب أردنا منهما ما أراده الفقهاء مساعدة لهم على مصطلحهم لئلا يلزم تغيير المألوف.

المسألة الثالثة اعلم أنا إذا علمنا أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا، وعلمنا حصول ذلك الوصف مع جميع ما يعتبر في اقتضائه لذلك الحكم في صورة النزاع علمنا حصول مثل ذلك الحكم في صورة النزاع، فهذا النوع من القياس مما لا نزاع فيه بين العقلاء بل الكل أطبقوا

المسألة الثالثة اعلم أنا إذا علمنا أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا، وعلمنا حصول ذلك الوصف مع جميع ما يعتبر في اقتضائه لذلك الحكم في صورة النزاع علمنا حصول مثل ذلك الحكم في صورة النزاع، فهذا النوع من القياس مما لا نزاع فيه بين العقلاء بل الكل أطبقوا على حجيته ووجوب اعتقاد نتيجته والعمل بمقتضاه على من علم ذلك وله أن يفتي به غيره. فأما/ (122/ أ) إذا كانت هاتان المقدمتان ظنيتين، أو إحداهما ظنية: كان حصول ذلك الحكم في صورة النزاع ظنيًا لا محالة. وهذا النوع من القياس لا نزاع في أنه لا يقبل العلم والجزم بالنتيجة بل إن كان ذلك في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على وجوب العمل به كما في الأدوية والأغذية والأسعار. وأما إذا كان في الأمور الشرعية فقد نقل الإمام أن هذا هو محل الخلاف. وكلام الشيخ الغزالي يقتضي التفصيل والفرق بينهما إذا كانتا ظنيتين، أو إحداهما ظنية؛ لأنه قال: "الاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم، أو في

تنقيح مناط الحكم، أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه. أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فهو النظر في معرفة وجود العلة في الصورة التي يراد إثبات الحكم فيها بعد أن كانت معلومة إما بنص أو إجماع. أما إذا كانت العلة معلومة بالنص فكالقبلة في وجوب استقبال جهتها فإنه علم كونها علة بقوله تعالى {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وتحققها في جهة معينة عند الاشتباه مظنون يظن ذلك بالنظر والاجتهاد في أماراتها. ومثله كون المثلية مناط وجوب الجزاء بقتل الصيد، فإنه معلوم بنص الكتاب، وأما تحققها في آحاد الصور الجزئية فمظنون بنوع من المقايسة والاجتهاد. أما إذا كانت العلة معلومة بالإجماع فكالقيمة، فإنها مناط وجوب ضمان المتلفات من ذوات القيم فهذا معلوم بالإجماع، وأما تحققها في آحاد العمور الجزئية فمظنون بقول المقومين المبني على الاجتهاد والتخمين. ونحو العدالة، فإن كونها مناط وجوب قبول الشهادة معلوم بالإجماع وتحققها في كل واحد من الشهود مظنون بالاجتهاد والاختبار.

وجعل من هذا القسم الاجتهاد في تعيين الإمام والقضاة، وتقدير التعزيريات، وأروش الجنايات، وكل ما علم وجوبه أو جوازه من حيث الجملة، وإنما النظر والاجتهاد في تعيينه وتقديره. وقال: لا نعرف خلافًا بين الأئمة في جواز هذا النوع من التصرف من المجتهدين وصحة الاحتجاج به، وهذا يدل على أنه إذا كانت المقدمة الأولى أعني كون الحكم معللًا بكذا قطعية، والثانية أعني تحققها في صورة النزاع ظنية فإنه ليس من صور المختلف فيه بين القائسين. وأما الاجتهاد في تنقيح مناط الحكم، فهو: الاجتهاد والنظر في تعيين السبب الذي ناط الشارع الحكم به بخلاف غيره من الأوصاف عن درجة الاعتبار. مثاله: أن الشارع أوجب على الأعرابي الذي أفطر في نهار رمضان بالوقاع مع أهله الكفارة، فينظر المجتهد في أن سبب وجوب الكفارة إما

الوقاع الخاص المحتف بخصوصيات شخصية لا توجد في غيره نحو كونه وقاع ذلك الشخص مع تلك المرأة في ذلك اليوم من رمضان تلك السنة فيحذف كل ذلك عن درجة الاعتبار بأدلة لائحة قطعية، أو الوقاع الخاص المحتف بخصوصيات نوعية، نحو كونه أعرابيًا، وكونه في رمضان مخصوص، وكونه مع المنكوحة فيحذف كل ذلك أيضًا حتى يتعدى الحكم إلى العجمي والتركي وإلى من أفطر في رمضان آخر وإلى من أفطر بالوقاع مع الأمة ومع الأجنبية، وهذا النوع من الحذف أيضًا لائح قطعي، أو مطلق الوقاع كونه وقاعًا أو بعموم كونه إفطارًا حتى لا يتعدى إلى الفطر بالأكل والشرب على الاحتمال الأول، ويتعدى إليه على الاحتمال الثاني. وهذا النوع من الحذف ظني لا قطعي وهو في محل الخلاف وكل هذا يسمى تنقيح المناط أعني ما إذا كان حذف غيره عن درجة الاعتبار قطعيًا أو ظنيًا، وحاصله يرجع إلى أن تصرف المجتهد فيه إنما هو في تعيين السبب الذي ناط الشارع الحكم دون استنباطه وتخريجه قال: وقد أقر به أكثر منكري القياس. وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: بجريانه في الحدود والكفارة مع أن القياس لا يجري عنده فيما وسماه استدلالًا فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأهل الظاهر لم يخف فساد كلامهم". وهذا ظاهر فيما إذا كان حذف ما عداه من الاعتبار قطعيًا، فأما إذا كان ظنيًا فلا؛ إذ لا يظهر بينه وبين القياس المختلف فيه فرق قادح يعول عليه. وأما الاجتهاد في تخريج المناط، فهو: الاجتهاد والنظر في إثبات أصل علة الحكم الذي دل النص والإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته لا بالصراحة ولا الإيماء، نحو تحريم الخمر، وتحريم الربا في البر والشعير،

فإنه ليس في قوله- عليه السلام-: "لا تبيعوا البر بالبر ولا الشعير بالشعير إلا سواء بسواء يدًا بيد" ما يدل على أن علة تحريم الربا فيهما الطعام وإن كان قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواًء بسواء" إيماء إليه لكن على هذا لا يتصور قياس مطعوم بمطعوم لاندراج الكل تحت النص، أو الكيل أو الوزن، أو القوت أو صلاحية الادخار، لكن المجتهدين نظروا واجتهدوا في استنباط علته بالطرق العقلية من المناسبة وغيرها فاستنبطوا علته، وقال كل واحد منهم بعلية مما أدى إليه اجتهاده، وكذلك الخمر فإنه ليس فيما يدل على تحريمها التعرض لعلته لكن استنبطوا علته بالاجتهاد والنظر فمن أدى اجتهاده إلى أن علة حرمتها كونها مسكرة حرم النبيذ، ومن أدى اجتهاده إلى اعتبار أمر آخر معه لم يحرم النبيذ، ضرورة أن ذلك المجموع غير حاصل فيه، وهذا النوع من الاجتهاد هو القياس المختلف فيه بين الناس على ما سيأتي من تفصيله. وإن كان طريق استنباط العلة السبر والتقسيم الذي يرجع حاصل تنقيح المناط إليه، لكن إذا كان ظنيًا، أما إذا كان قطعيًا فليس هو من قبيل القياس المختلف فيه.

فالحاصل من كلامه أن المقدمة الأولى إذا كانت قطعية- وهو كون الحكم معللًا بالعلة الفلانية والظن إنما هو في الثانية، فليس هو من قبيل القياس المختلف فيه، وكلام الإمام يقتضي أن الكل في محل الخلاف. تنبيه أعلم أنه [إن] أريد تحقيق المناط ما كان المناط معلومًا فيه من غير نظر من المجتهد، وإنما نظر المجتهد فيه في تحققه في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها على ما أشعر به ظاهر كلامه فليس نتصور وجوده في تنقيح المناط وتخريجه؛ ضرورة أن للمجتهد نظرًا في نفس المناط فيهما إما بتعيينه أو تخريجه. وإن أريد به ما يكون النظر في تحققه في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها سواء كان المناط معلومًا من غير نظر من المجتهد كما في تحقيق المناط على التفسير الأول. أو لا يكون معلومًا كذلك بل بالنظر والاستدلال كما في تنقيح المناط، أو مظنونًا كما في تخريج المناط فهو من لوازمهما لا يتم كل واحد منهما بدونه. وكذلك إن أريد بتنقيح المناط ما يكون السبب معلومًا بالنص، أو بإيمائه، أو إجماع، وإنما نظر المجتهد فيه في تعيينه بحذف غيره من العوارض المختلفة بطريق قطعي فهو أيضًا مباين لهما، وإن أريد به ما يكون النظر فيه في تعيين السبب سواء كان السبب مستنبطًا أو لم يكن وسواء كان الحذف بطريق قطعي أو لم يكن بطريق قطعي فهو لازم لتخريج المناط وتحقيقه على التفسير الثاني، أما تخريج المناط فغير لازم لهما لأن الخاص لا يلزم العام، فهذا تمام الكلام في المقدمة.

الباب الأول في بيان أن القياس حجة في الشرعيات

الأبواب

الباب الأول في بيان أن القياس حجة في الشرعيات والمعنى من كون القياس حجة أنه إذا حصل ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة بأن يغلب على الظن أن الحكم في تلك الصورة معلل بكذا، وغلب على الظن حصوله مع جميع ما يعتبر في اقتضائه الحكم في هذه الصورة فإنه يجب على من يحصل له هذا الظن العمل به في نفسه، وعليه أن يفتي به إذا استفتى فيه. وفيه مسائل: المسألة الأولى اعلم أن قبل الخوض في المقصود لا بد من بيان مذاهب الناس فيه، فإن التصديق مسبوق بالتصور، ولنورد المذاهب بتقسيم جامع متردد بين النفي والإثبات فنقول: التعبد بالقياس إما أن يكون ممتنعًا عقلًا إما على الإطلاق أي بالنسبة إلى الشرائع بأسرها، أو لا على الإطلاق، بل امتناعه عقلًا مخصوص بشرعنا، أو لا يكون ممتنعًا عقلًا، وحينئذ إما أن يكون واجبًا، أو جائزًا. والأول: مذهب جماعة من الشيعة والمعتزلة كأبي يحيى الإسكافي،

وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، على ما حكاه القاضي أبو الطيب عنهم، وأهل الظاهر على ما أشعر به نقل الإمام. وكلام الغزالي ومن تابعه مشعر بأن مذهب أهل الظاهر إنما هو عدم وقوع التعبد به لا استحالته. وهؤلاء فرق ثلاثة: إحداها: الذين قالوا: يمتنع أن يكون القياس طريقًا إلى العلم والظن. وثانيها: الذين قالوا: يجوز العمل بالظن، لكن زعموا أنه لا يجوز العمل بالظن. وثالثها: في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، والفتوى والشهادات، لأنها لا نهاية لتلك الصور، وأما ما ليس كذلك فإنه لا يجوز العمل به، وهذه طريقة أهل الظاهر.

والثاني: مذهب النظام فإنه خص امتناعه في شرعنا. والثالث: مذهب القفال منا وأبي الحسين البصري من المعتزلة. والرابع: مذهب جماهير الأعظم من الفقهاء والمتكلمين من السلف والخلف. وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: لم يقع التعبد به سمعًا. ومنهم من قال: وقع التعبد به سمعًا. والأولون اختلفوا: فمنهم من قال: كما لم يرد السمع بالتعبد به لم يرد بالمنع منه. ومنهم من قال: بل ورد السمع بالمنع منه. واتفق الفريقان على أنه لا يجوز العمل به سمعًا لعدم ما يدل على جواز العمل به سمعًا.

وأما الذين قالوا: وقع التعبد به (فمنهم من قال: وقع التعبد به) مطلقًا أي بجميع أنواع الأقيسة. ومنهم من لم يقل به، بل بنوع مخصوص كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، وما علم عليته أو بإيمائه. وهو اختيار القاشاني والنهرباني. وأما الذين قالوا بوقوع التعبد به مطلقًا، وهم جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين، فهؤلاء اختلفوا: فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن دلالة الدليل السمعي عليه قطيعة. وذهب الأقلون إلى أنها ظنية، وهو اختيار أبي الحسين البصري فهذا تمام الكلام في بيان مذاهب الناس. والمختار إنما هو جواز التعبد به عقلًا لا وجوبه، ووقوعه سمعًا مطلقًا. ولنبين ذلك في مسائل:

المسألة الثانية في إثبات جواز التعبد به عقل

المسألة الثانية في إثبات جواز التعبد به عقلًا. ويدل على وجوه: أحدها: أنه لو استحال ورود التعبد به، فإما أن يستحيل لذاته وهو باطل وفاقًا؛ لأن الاستحالة الذاتية منحصرة في الجمع بين المتنافيين وارتفاع النقيضين وما يجري مجراهما وما نحن فيه ليس كذلك. وأما أن يستحيل لغيره وهو أيضًا باطل؛ لأن الشارع إذا صرح به وقال: مهما غلب على ظنكم أن الحكم في الصورة الفلانية معلل بكذا، وغلب على ظنكم حصوله مع جميع ما يعتبر في اقتضائه الحكم فاعلموا أني أوجبت عليكم العمل به، فإنه لا يلزم منه محال ولا يقبح ذلك منه، والعلم بذلك ضروري، ولو كان مستحيلًا لما كان كذلك، وهذا الوجه ينفي استحالته مطلقًا سواء كان لذاته أو لغيره، ولأن ما يستحيل لغيره كان ممكنًا في نفسه قطعًا، وحينئذ يكون الخصم معترفًا بإمكانه ويدعي استحالته لأمر آخر، والأصل عدم ذلك الغير ولما بطل القسمان بطل أن يكون مستحيلًا. وثانيها: أنه لو كان مستحيلًا لعرفت استحالته إما بضرورة العقل وهو باطل قطعًا، أو بنظره، وهو أيضًا باطل؛ لما أنه ليس في أدلة القائلين به ما يعول عليه ولم يوجد على استحالته سوى ما يذكرونه وعدم الوجدان وإن لم يدل على عدم الوجود لكنه لا يدل على الوجود أيضًا فلا يجوز إثبات الاستحالة بمجرد الاحتمال. وثالثها: أن تجويز العمل بالقياس منشأ لمصلحة لا تنشأ من غيره، وهي الثواب الحاصل للمجتهد على الاجتهاد في هذا النوع؛ فإن فيه إتعاب القلب والدماغ بالفكر الذي لا يوجد في غيره من الاجتهادات ضرورة أن المقدمات فيه أكثر، والاستقراء يحققه وإتعابهما بعلمهما المختص بهما لا يتقاعد في

استحقاق الثواب عن إتعاب البدن بعلمه المختص به بل ذلك أزيد بدرجات عديدة على ما يشهد به ما ورد في فضيلة الفكر، وإذا كان منشأ للمصلحة لاسيما التي لا تحصل من غيره بالعقل لا نحيله بل نجوزه. ولقائل أن يقول: علته ليس كل ما فيه إتعاب القلب والدماغ بالفكر فيه الثواب بل في إتعابهما بالفكر في أمر هو جائز وقربة، فعلى هذا لا يمكن إثبات كون الفكر في القياس منشأ للمصلحة إلا إذا ثبت أن القياس جائز وقربه، فإثبات كونه جائزًا وقربه به دور فكان العمل به جائزًا. بيان الأول: أن من غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بكذا، ثم ظن أن ذلك الوصف مع جميع ما يعتبر في اقتضائه الحكم في صورة أخرى فإنه يغلب على ظنه أن حكم تلك الصورة مثل حكم الصورة الأولى، وعنده مقدمة أخرى يقينية بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن ترك العمل بذلك الحكم في تلك الصورة سبب للعقاب فثبت أن العمل بالقياس يفيد دفع الضرر المظنون. بيان الثاني من وجهين: أحدهما: أن العقل يقتضي ببديهته أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين، ولا يمكن الخروج عنهما بل لا بد من ترجيح أحدهما وفعله، ويقضي أيضًا ببديهته أن ترجيح ما غلب على الظن خلوه عن المضرة على ما ليس كذلك أولى من عكسه فكيف ترجيح ما غلب على الظن اشتماله على النفع على ما غلب على الظن اشتماله على المضرة ولا معنى لكون العمل بالقياس جائزًا عقلًا سوى هذا. وثانيهما: أن العقل يقضي بجواز فعل ما ليس فيه أمارة المفسدة والمضرة وإن لم يكن فيه أمارة المصلحة والنفع وإلا لما ثبت الجواز العقلي في شيء من الصور، وإذا قضى بالجواز فيما لا مصلحة فيه ولا نفع فلأن يقضى بالجواز

فيما فيه النفع والمصلحة بالطريق الأولى. فإن قيل: دليلكم مبني على حصول الظنون وهو ممنوع؛ وهذا لأنه يتوقف على تعليل أفعال الله تعالى والمصالح، وعلى تحقيق القول بالعلة الشرعية، وعلى عدم اختصاص الحكم بمحله، والكلام في هذا سيأتي. سلمناه لكن متى يجوز العمل به إذا لم يكن هناك طريق يقيني أم مطلقًا؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع؛ وهذا لأن العقل لا يسوغ سلوك الطريق الذي لا يؤمن فيه من الخطأ مع التمكن من سلوك الطريق الذي يؤمن فيه من الخطأ، فعلى هذا لا يلزم جواز العمل به إلا إذا بينتم أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ولا قول إمام معصوم ما يدل على ذلك الحكم يقينًا وأنتم ما فعلتم ذلك. سلمنا عدم الطريق اليقيني لكن متى يجوز العمل به إذا لم يكن هناك طريق آخر أرجح منه في إفادة الظن الغالب أم مطلقًا؟ والأول مسلم لكن لا نسلم حصول هذا الشرط؛ وهذا لأن أكثر البراءة الأصلية طريق إلى معرفة الحكم في الفرع، وهي أقوى دلالة على الحكم من القياس. والثاني ممنوع؛ وهذا لأن تجويز العمل به إذ ذاك تجويز الاقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما وأنه غير جائز. سلمنا عدم طريق آخر أقوى منه وصحة دليلكم، لكنه منقوض بما أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بقول العبيد والنسوان والصبيان والمراهقين، والواحد

العدل والاثنين في الزنا وإن حصل له ظن صدقهم، وبما أنه لا يجوز تصديق مدعي النبوة، وإن حصل ظن صدقه باستقراء صدقه، وبما أنه لا يجوز للمجتهد العمل بالمصالح المرسلة وإن أفادته ظن الحكم وبما أنه لا يجوز للمكلف العمل بالأمارات المميزة المغلبة للظن فيما إذا اختلطت أخته بأجنبيات محصورات، وفيما إذا اختلطت المذبوحة بالميتات، وبما إذا غلب على ظنه صدق مدعي الشيء من غير بينة فإن الظن الغالب قد/ (124/ أ) يحصل في هذه الصور مع أنه لا يجوز العمل به. فإن قلت: ما ذكرتم من الظنون يجوز ورود التعبد بها عقلًا أيضًا عندنا، وإنما لم يتعبد بها في تلك الصور؛ لقيام الأدلة القاطعة أو الراجحة على عدم اعتبار تلك الأنواع من الظنون وهو غير حاصل فيما نحن فيه فلم ينتقض الدليل. قلت: فعلى هذا الظن الناشئ من القياس إنما يعتبر إذا لم يوجد دليل على فساده فيصير عدم ما يدل على فساده جزأ من الدليل، فعليكم أن تبينوا أنه لم يوجد دليل على فساد القياس حتى يتم دليلكم ضرورة أنه لا يتم الدليل إذا أخل بجزئه وأنتم ما فعلتم ذلك ولو حاولتم ذلك لنا تيسر لكم؛ لأن عدم الوجدان لا يدل على العدم ولو تيسر لكم ذلك لاستغنيتم عن الدليل المذكور؛ لأنه يكفي ذلك في جوازه إما لأن ما لا دليل عليه وجب نفيه، أو لأن ما لا دليل عليه وإن لم يجب نفيه لكن لا يجوز إثباته؛ لأن القول بالشيء بلا دليل باطل فيكون القول باستحالته باطل فيلزم الجواز إما وحده أو في ضمن الوجوب. سلمنا سلامته عن النقض لكنه معارض بوجوه:

أحدها: وهو حجة من منع من القياس في شرعنا خاصة وهو أن مدار القياس على أن الصورتين إذا تساويًا في المصلحة والحكمة وجب استواؤهما في الحكم، ومهما اختلفتا في ذلك اختلفتا في الحكم وهو مقتضى العقل فإن (العقل) يقضي بالتسوية بين المتماثلات في أحكامها، وبالاختلاف بين المختلفات في أحكامها فيستحيل فيه القياس عقلًا. أما المقدمة الأولى فبينة. وأما الثاني فبيانه بصور: أحدها: أنه لا فرق بين الأزمنة والأمكنة في الشرف والأحكام مع استوائها في الماهية والحقيقة. وثانيها: أنه أوجب الغسل من بول الصبية، ولم يوجب ذلك من بول الصبي بل أوجب الرش عليه. وثالثها: أنه أوجب الغسل من المنى مع أنه طاهر، دون الرجيع مع أنه نجس وأنتن منه. ورابعها: أنه أبطل الصوم بإنزاله عمدًا دون البول والمذي والودي مع أن الكل نجس أو أنجس منه. وخامسها: جوز القصر في السفر في الصلاة الرباعية دون الثنائية. وسادسها: أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أعظم قدرًا من الصوم. وسابعها: نهانا عن إرسال السبع على مثله، وأقوى منه، ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة.

وثامنها: أنه حرم النظر إلى شعور الشوهاء، مع أنها لا تفتن الرجال الشبان البتة وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع أنها تفتن الشيخ. وتاسعها: جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن، والمائة من الجواري الحسان لا يحصن. وعاشرها: قطع سارق القليل، دون غاصب الكثير مع أنه أولى بالزجر. وحادي عشرها: جلد بالقذف بالزنا، ولم يجلد بالقذف بالكفر مع أنه أعظم جريمة. وثاني عشرها: قبل شهادة الاثنين في القتل والكفر، دون الزنا مع أن كل واحد منهما أعظم منه. وثالث عشرها: جلد قاذف الحر الفاسق، دون قاذف العبد العفيف. ورابع عشرها: فرق في العدة بين الطلاق والموت، مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما. وخامس عشرها: جعل استبراء الأمة بحيضة واحدة، والحرة المطلقة بثلاث حيض مع أن حال الرحم لا يختلف بالحرية والرقية. وسادس عشرها: يخرج الريح من موضع الغائط ولم يوجب تطهيره، وأوجب تطهير مواضع أخر بسببه مع أن تطهير ذلك الموضع أولى. وسابع عشرها: أثبت الفراش في ملك النكاح بمجرده ولم يثبته في ملك اليمين بمجرده بل لا يثبته مع الإقرار بالوطء على رأي البعض مع أنه أقوى منه. وثامن عشرها: جعل كفارة الظهار الإعتاق، أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا مرتبًا، وجعل كفارة اليمين مخيرًا بين الإعتاق أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن عجز عن ذلك فصيام ثلاثة أيام مع أن هتك حرمة اسم الله أعظم جريمة من العود في الظهار، وأيضًا فإن التخيير بين

الشيئين يدل على استوائهما في الحكمة والمصلحة، فالتخيير بين الإعتاق والإطعام في كفارة اليمين يدل على استوائهما في المصلحة والحكمة، والترتيب بين الإعتاق وإطعام ستين مسكينًا يدل على رجحان الإعتاق في المصلحة، فإن كان الواقع التفاوت في المصلحة والحكمة فكيف وقع التخيير بينهما؟ وإن كان الواقع التساوي فكيف الترتيب بينه وبين إطعام ستين مسكينًا؟ وكذا سوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في نهار رمضان والظهار مع أنه أعظم جريمة منهما وكل ذلك يدل على عدم رعاية المصالح والحكم في الأحكام وهو ينافي تجويز القياس. وتاسع عشرها: أنه سوى بين قتل الصيد عمدًا وخطأ في إيجاب الضمان، مع أنه في قتله عمدًا إثمًا فكان أولى بتغليظ الإثم عليه. العشرون: أنه سوى بين جريمة الردة والزنا حيث رتب عليهما القتل بل موجب الزنا أعظم عند بعض العلماء حيث قال: الزاني المحصن يجلد ويرجم مع أن الكفر أعظم جريمة من/ (125/ أ) الزنا فثبت بهذه الوجوه أن أحكام شرعنا قد تختلف بين المتماثلات، وقد تتفق بين المختلفات وذلك ينافي القول بتجويز القياس فيه عقلًا. وثانيها: أن البراءة الأصلية معلومة والحكم المثبت بالقياس، إن كان على وفق البراءة الأصلية كان في البراءة الأصلية غنية عنه فلم يكن في إثبات كون القياس حجة فائدة. وإن كان على خلافها كان القياس حينئذ معارضًا للبراءة الأصلية لكن البراءة الأصلية دليل قاطع، والقياس ليس كذلك بل هو دليل ظني، والظني

إذا عارض القاطع كان الظني متروكًا غير معمول به فكان العمل بالقياس حينئذ يكون باطلًا، وهذه وما يأتي بعدها حجج من عم المنع في كل الشرائع. وثالثها: أن القياس في حجيته في الدوام فيما يتمسك به من المسائل يحتاج إلى أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان عليه وهو ظاهر، وحينئذ نقول: الحكم المثبت بالقياس إن كان نفيًا على وفق استصحاب كان في الاستصحاب غنية عنه، فلم يكن في إثبات حجيته فائدة بل هو عبث، وإن كان إثباتًا على خلاف حكم الاستصحاب لم يجز إثباته بالقياس؛ لأن أصل القياس يقتضي نفيه، وإذا وقع التعارض بين الأصل والفرع كان راجحًا على الفرع. لا يقال: هذا يقتضي نصب الأدلة المختلفة على مدلول واحد لأنا لا نسلم ذلك؛ وهذا لأن ما ذكرناه من الدليل لا ينفي نصب الدليلين إذا كانا مستقلين لا يحتاج أحدهما إلى الآخر، بل إنما ينفي نصب دليلين أحدهما مستقل بالإثبات غير محتاج إلى الآخر، والآخر محتاج إليه وهو جزؤه فإن التمسك بالمحتاج تطويل من غير فائدة فكان عبثًا. ورابعها: أن القياس الشرعي لا يتم حجة إلا إذا ثبت القول بالعلة الشرعية، لكن القول بالعلة الشرعية باطل على ما سيأتي فكان القول بالقياس باطلًا. وخامسها: أن القياس قبيح فيقبح ورود التعبد به. بيان المقدمة الأولى: أنه لا يفيد إلا الظن وهو ضد العلم الذي هو حسن وضد الحسن قبيح فيكون الظن قبيحًا، ومستلزم القبيح ومفيده قبيح فيكون القياس قبيحًا.

بيان الثاني ظاهر. وسادسها: لو كان القياس حجة لكانت العلة أصلًا للحكم من حيث إنه لا يمكن إثباته إلا بها لكنها فرع الحكم ضرورة أنه لا سبيل إلى الاطلاع عليها واستنباطها إلا بعد العلم بالحكم فلا يكون القياس حجة. وسابعها: أن القياس لا يفيد إلا الظن، والظن قد يخطئ ويصيب والأمر به لأمر بما لا يؤمن أن يكون خطأ وهو غير جائز على الحكيم. وثامنها: أن التنصيص على الأحكام الكلية بحيث يندرج تحتها الأحكام الجزئية ممكن للشارع وهو أظهر في باب بيان الحكم من القياس، والعلم بذلك ضروري فالاقتصار على القياس دون النص اقتصار على أدون البيانين مع القدرة على أعلاهما، وهو غير جائز (لأن) في كمال البيان إزاحة عذر المكلف وقطع موانعه ودوافعه فيكون "كاللطف" واللطف واجب على ما تقدم فيكون كمال البيان واجبًا فلم يجز الاقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على الأعلى. وبهذا القيد خرج الفتوى والشهادة وقيم المتلفات وأروش الجنايات والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح وأمور الأغذية والأدوية؛ لأن التنصيص على أحكام هذه الأمور غير ممكن فلم يكن الاكتفاء فيه بالظن اكتفاء بأدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما. وتاسعها: أن حكم الشارع عندكم هو خطابه المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير على ما تقدم تعريفه في صدر الكتاب، والفرع مما لم يرد فيه خطاب الله تعالى؛ إذ الكلام في مثل هذا الفرع فإذا لم يخبر الله عن

حكم الفرع وجب الجزم بعدم الحكم الغير الأصلي فيه؛ لأن انتقاء الحد يوجب انتفاء المحدود. وعاشرها: أن الحكم في الأصل غير ثابت بالعلة؛ لأن العلة مظنونة والحكم مقطوع والمقطوع لا يثبت بالمظنون، ولأن العلة مستنبطة من الحكم في الأصل ومتفرعة عليه لما سبق أنه لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد العلم بالحكم فلو كانت العلة مثبتة للحكم لزم الدور؛ لأنه حينئذ يصير الحكم فرعًا لها بل بالنص والنص غير حاصل في الفرع فامتنع إثبات ذلك الحكم فيه لانتفاء سببه، ويمتنع إثباته فيه بطريق غير طريق الأصل؛ لأنه حينئذ لم يكن فرعًا له بل هو أصل مستقل ينفسه. وحادي عشرها: أن رعاية المصالح واجبة على الله تعالى، ولا مصلحة في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله تعالى بل يجوز إنه نقيض حكمه تعالى. وثاني عشرها: أن القول بالقياس يقتضي ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع وهو باطل عندكم، فالقول بالقياس باطل؛ لأن مستلزم الباطل باطل. بيان الأول هو: أن المقتضي للحكم هو الوصف المتضمن للحكمة والمصلحة المسمى بالعلة وهو حاصل قبل ورود الشرع فوجب ثبوت الحكم وإلا لزم انفكاك العلة عن المعلول وهو باطل. وثالث عشرها: أن القياس لا بد له من علة فتلك العلة إما منصوصة، أو مستنبطة.

فإن كان الأول فنحن ربما نجوز ورود التعبد به بل نقول بوقوع التعبد به. وإن كان الثاني فيحتمل أن لا تكون تلك المستنبطة علة؛ إما لأن ذلك الحكم غير معلل بعلة أصلًا، أو وإن كان معللًا لكنه بغيرها/ (126/ أ) ويحتمل أن يكون علة وحينئذ يحتمل أن تكون حاصلة في الفرع ويحتمل أن لا تكون حاصلة فيه، وبتقدير أن تكون حاصلة فيه فيحتمل أنه فقد شرط من شرائطها، أو وجد مانع من موانع حكمها، ويحتمل أن لا يكون كذلك وحينئذ يجوز العمل به لكن وقوع احتمال من خمس احتمالات أغلب على الظن من وقوع احتمال بعينه، فعدم جواز العمل به أغلب على الظن من جواز العمل به وما يكون كذلك لا يجوز ورود التعبد به. ورابع عشرها: أن تصويب الناظرين فيه يقتضي اجتماع النقيضين وهو ممتنع، وتصويب أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح وهو أيضًا ممتنع، وترجيح أحدهما لا بعينه أيضًا ممتنع؛ ولأن ما لا تعين له لا وجود له فكان العمل بالقياس ممتنعًا؛ لأن ما لا ينفك عن الممتنع فهو ممتنع. وخامس عشرها: أن تجويز العمل بالقياس يتضمن تجويز الإخبار بالظن الناشئ من الأمارات؛ لأنه إذا استنبط العلة وغلب على ظنه أنها علة الحكم أخبر أنها علة الحكم وأن الحكم متعلق بها لكن ذلك غير جائز، ألا ترى أن من ظن أن إنسانًا في الدار بالأمارات لم يجز له أن يخبر أنه في الدار مالم يقطع بتظاهر الأمارات وتوافرها. وسادس عشرها: لو جاز عقلًا ورود التعبد بالقياس في فروع الشريعة لجاز في أصولها بجامع ظن المصلحة. وسابع عشرها: أن أحكام الشرع من العبادات وغيرها ألطاف ومصالح

وذلك مما لا يهتدى إليه بالأمارات. وثامن عشرها: لو جاز ورود التعبد بالقياس في حقنا لجاز ورود التعبد به في حق الرسول- عليه السلام- ولجاز أن يقع به النسخ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وتاسع عشرها: لو جاز أن يعمل بالقياس لجاز أن يعمل به مع وجود النص وحكم العقل عند من يقول منكم أن للعقل حكمًا واللازم باطل إجماعًا فالملزوم مثله. العشرون: القياس فعل لنا ولاشيء من الأحكام بفعل فلا شيء من القياس بحكم، ومن يرى جواز التعبد به يجعله حكمًا شرعيًا، وقد يورد على وجه آخر وهو أن القياس فعلنا ولا يجوز تعلق المصلحة بفعلنا فلا يجوز تعلق المصلحة بالقياس فلا يجوز ورود التعبد به لخلوه عن المصلحة.

الجواب قوله: دليلكم مبني على حصول الظنون. قلنا: نعم. قوله: وهو ممنوع. قلنا: الكلام في ذلك وفيما ذكرتم في سنده ما سيأتي في تلك المحال. قوله: يجوز العمل به لكن عند عدم التمكن من سلوك الطريق اليقيني. قلنا: يجوز العمل به مطلقًا أما عند عدم التمكن فلما سلمتم، وأما مع التمكن من سلوك الطريق اليقيني فلوجهين: أحدهما: أنه إذا حصل له غلبة الظن بخلو أحد الطرفين من النقيضين عن المفسدة فإلى أن يحصل له العلم بذلك الطرف أو بغيره لو لم يجز العمل به لزم إما الخلو عن النقيضين، أو جواز العمل بالمرجوح، أو تكليف ما لا يطاق، واللوازم باطلة فالملزوم مثله. وثانيهما: أنه لو لم يجز ورود التعبد بالعمل بغلبة الظن مع التمكن من سلوك الطريق اليقيني لم يجز ورود التعبد بالعمل بأخبار الآحاد، والنصوص الظنية مع إمكان النصوص القطعية في متنها ودلالتها، ومع إمكان أن يخلق الله لهم علمًا ضروريًا بالأحكام، وبهما خرج الجواب عن السؤال الثالث. وأما ما ذكروه في سند المنع من أن العقل يمنع من سلوك الطريق الذي لا يؤمن فيه من الخطأ مع التمكن من سلوك الطريق الآمن. فالجواب عنه: بعد تسليم الحكم بالفرق بين ما نحن فيه وبين تلك الصورة، وهو [أن] الامتناع من سلوكهما ممكن والخلو عن النقيضين غير ممكن، ولأن العلم بالطريق الآمن حاصل حال العلم بالطريق الذي لا يؤمن فيه من الخطأ بخلاف ما نحن فيه، فإن العلم بأحد الطرفين قد لا يكون

حاصلًا عند حصول غلبة الظن بأحد الطريقين وإن كان متمكنًا من تحصيل العلم به. وأما النقوض فالجواب عنها ما سبق، ولا نسلم أن عدم ما يدل على عدم اعتبار الناشئ من القياس جزءًا من الدليل فإنه ليس كل ما يمنع وجوده من مقتضي الدليل كان عدمه جزءًا من الدليل فإن عدم المعارض كذلك وليس هو جزءًا من الدليل بالاتفاق بل هو من قبيل عدم المعارض ولا يلزم المستدل التعرض لبيان عدم المعارض وفاقًا ولو سلم وجوبه كفانا في ذلك التمسك بالعدم الأصلي وبهذا خرج الجواب عن قوله: ولو حاول ذلك لما تيسر لكم ذلك. وأما قوله: ولو تيسر لكم ذلك لاستغنيتم عن الدليل المذكور فممنوع، وما ذكرتم من الدلالة عليه من الأصلين والأصل الأول ضعيف على ما عرف ضعفه في محله والثاني معارض بمثله ولو منع عدم دلالة الدليل على عدم الجواز بناء على ما سبق من الأدلة لصار هذا الدليل غير مستقل بل هو جزء الدليل. وعن المعارضة الأولى: أنا لا نسلم أن ما ذكرتم يمنع من جواز ورود التعبد بالقياس في شرعنا فيما وجدت فيه شرائط القياس وارتفاع موانعه وهذا لأن في تلك الصورة إنما لم يجز القياس فيه؛ لأنه لم يوجد فيها شرائط القياس، فإن من جملة شرائط القياس أن يكون الحكم في الأصل معللًا بعلة، وأن تكون تلك العلة حاصلة في الفرع وهي غير حاصلة فيما ذكرتم من/ (127/ أ) الصور؛ إذ الحكم في أكثر تلك الصور غير معلل بعلة، وإن وجد في بعضها معنى يصلح أن يكون علة لكنه غير معلل به في نظر الشرع، فإنه ليس كل مناسب يظهر للعقل يجب أن يكون الحكم معللًا به في نظر الشرع بل لا يكون معللًا أصلًا، وأما التي يكون الحكم فيها معللًا بعلة فإنما

لم يثبت الحكم فيما ذكروه من الشبيه؛ لأنه لم توجد تلك العلة فيه كما في وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، وكما في وجوب غسل بول الصبية دون الصبي على رأي من يعلل الحكم فيه، أو وإن ثبت تلك العلة فيه لكن وجد فيه معنى آخر أولى بالاعتبار وهو يقتضي تارة عدم ذلك الحكم، وتارة ضد ذلك الحكم كما في جواز إرسال السبع على البهيمة الضعيفة دون مثله من السبع. وأما حيث جمع بين المختلفات، فإنما جمع ولأن الحكم مضاف إلى المشترك بينهما وإن وجد الفرق بينهما فإنه ليس كل موضع وجد فيه الفرق الصالح لأن يضاف الحكم إلى ذلك المجموع أعني ما به الاشتراك وما به الافتراق أن لا يكون الحكم مضافًا إلى المشترك. نعم ذلك هو الأصل لكن قد يأتي الحكم على خلاف الأصل. سلمنا حصول شرائط القياس فيها لكن قد يرد الحكم على خلاف القياس وهو غير قادح في القياس فورود تلك الأحكام على خلاف القياس في تلك الصور النادرة بالنسبة إلى ما يجري فيه القياس لا يقدح في جواز ورود التعبد بالقياس في شرعنا.

وعن الثانية والثالثة: النقض بجواز العمل بالنصوص الظنية في الأمور الدنيوية، ويخص الأول بمنع أن التمسك بالبراءة الأصلية يفيد القطع؛ وهذا لأن استصحاب الحال حجة ظنية لا قطعية. وعن الرابعة: ما سيأتي من تفسير العلة الشرعية بمفهوم ملخص محصل. وعن الخامسة: أنه مبني على التحسين والتقبيح وأنه باطل. سلمناه لكنه منقوض بالأمور المتقدمة، ومعارض بما أنه تعالى، خالق أضداد العلم وفاقًا، فلو كانت قبيحة لما جاز ذلك منه تعالى، لأن عندهم لا يجوز أن يخلق الله تعالى القبيح. وعن السادسة: أن العلة أصل للحكم لكن في الفرع دون الأصل، وفرعية العلة للحكم في الأصل لا يستلزم نفي أصالتها في الفرع فلا يلزم منه عدم حجية القياس.

وعن السابعة: أنا لا نسلم إمكان الخطأ فيه؛ وهذا لأن الشارع لما أوجب على المجتهد العمل بما غلب على ظنه كان عمله بظنه الغالب صوابًا قطعًا وإن كان متعلق الظن على خلافه. سلمناه لكنه منقوض بالأمور المتقدمة. وعن الثامنة: أنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح. وأنها باطلة عندنا. سلمناه لكن لا نسلم أن اللطف واجب والكلام فيه ما تقدم في الإجماع، لكنه منقوض بالبيان بالنصوص الظنية مع القدرة على التنصيص على وجه لا يتطرق إليه احتمال فإنه اقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما. وعن التاسعة من وجهين: أحدهما: النص الذي هو [خبر عن حكم الأصل بطريق المطابقة] خبر عن حكم الفرع بطريق الالتزام. وثانيهما: أنا لا أعمل بالقياس ما لم يدلنا قاطع من نص أو إجماع على وجوب التعبد به؛ فإن العقل لا يقضي إلا بجواز التعبد به فذلك القاطع مع القياس إخبار عن حكم الفرع. وعن العاشرة: أن الحكم في الفرع وإن سلم أنه ثابت بطريق غير طريق الأصل، فإن الحكم في الفرع ثابت بالعلة وفي الأصل بالنص أو بالإجماع لكن لا يخرج بسبب هذا عن أن يكون فرعًا؛ وهذا لأن الحكم في الفرع فرع العلة، والعلة فرع الحكم في الأصل، وفرع الفرع فرع، فالفرع فرع الأصل، وإن ثبت حكمه بطريق غير طريق الأصل.

وعن الحادية عشرة: بمنع المتقدمين، ولو سلمنا فالنقض بما تقدم من الأمور. وعن الثانية عشرة: أنا لا نقول: إن علل الشرع موجبة للأحكام حتى يلزم ما ذكرتم بل هي بواعث وأمارات، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور؛ لأنه يجوز أن يكون الشيء باعثًا على الشيء في وقت دون وقت، وكذلك يجوز أن يكون الشيء أمارة للشيء في وقت دون وقت. سلمنا أنها موجبات لكن بجعل الشارع لا بذواتها، وحينئذ لا يلزم أيضًا ما ذكرتم من المجذور. وعن الثالثة عشر: أن المعنى من كون القياس يجوز أن يكون متعبدًا به هو أن يجوز أن يقول الشارع للمجتهد: مهما غلب على ظنك أن الحكم في الأصل معلل بكذا، وغلب على ظنك حصوله في الفرع بتمامه فأعلم أنك مأمور بأن تثبت الحكم على الفرع وتعمل به، فمهما عمل بذلك عند حصول الظن المذكور كان مصيبًا وآتيًا بما تعبد به سواء كان الظن مطابقًا لمتعلقه، أو لم يكن، وحينئذ لم يكن احتمالات الخطأ فيه متعددة راجحة على احتمالات الصواب، بل احتمال الصواب بحصول هذا الظن، واحتمال الخطأ بانخرامه، وحينئذ لم يكن ما ذكرتم قادحًا في جواز ورود التعبد به؛ لأن ذلك مبني على تعدد احتمالات الخطأ المغلب على الظن وقوعه على وجه الخطأ. وعن الرابعة عشرة: أنا لا نسلم أن تصويب الناظرين فيه يقتضب اجتماع النقيضين؛ وهذا لأن من شرط اجتماع النقيضين اتحاد النسبة وهو غير حاصل فيما نحن فيه. سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون المصيب واحدًا معينًا عند الله تعالى غير معين عندنا وهو/ (128/ أ) من صادف حكم الله تعالى؟ ولا نسلم أنه يلزم منه الترجيح من غير مرجح. سلمناه لكنه منقوض بالاجتهاد في النصوص الظنية.

وعن الخامسة عشرة: منع انتفاء اللازم؛ وهذا فإنه إذا سمع من واحد كون زيد في الدار جاز له الإخبار عن ذلك مع أن قول الواحد لم يفده علمًا وإنما أفاده الظن بذلك، فكذا إذا غلب على ظنه وجوده في الدار بالأمارة نعم لو أخبر عن ذلك على وجه القطع لم يجز لا في صورة السماع ولا في صورة الأمارة. وعن السادسة عشر: أنا لا نسلم انتفاء اللازم؛ وهذا فإن الجواز العقلي قد يسلمه وإن كان الواقع خلافه. سلمنا انتفاءه لكن الفرق ظاهر وهو أن المطلوب في الأصول العلم والقياس التمثيلي لا يفيده بخلاف فروع الشريعة، فإن المطلوب فيها الظن وهو يفيده. وعن السابعة عشرة: بمنع المقدمتين، ثم بالنقض ببعض ما تقدم من الأمور. وعن الثامنة عشرة: بمنع الملازمة، وما الدليل عليها؟ سلمناها لكن لا نسلم بطلان اللازم الأول؛ وهذا لأن الرسول- عليه السلام- كان متعبدًا بالاجتهاد عندنا، وكذا بطلان اللازم الثاني بالنسبة إلى الحكم الثابت بالقياس إذا وجدت شرائط النسخ في أحد القياسين. وأما بالنسبة إلى الحكم الثابت بالنص فإنما لم يجز؛ لأنه لم يوجد شرط قبول القياس، فإن من شرط قبول القياس أن لا يرده النص. وعن التاسعة عشرة: أنه إن عنى بالنص النص الموافق للقياس فلا نسلم بطلان اللازم؛ فإن القياس عندنا حجة مع النص الموافق له، وإن عنى به

النص المخالف فنمنع الملازمة وسنده ما تقدم. وأما من يقول من القائلين بالقياس بأن للعقل حكمًا فليس ذلك بلازم عليه؛ لأنه إنما يقول بذلك ما ليس فيه دليل شرعي، فإذا وجد دليل شرعي على خلاف العقل سقط حكمه عنده. وعن العشرين: أنا لا نسلم أن القياس فعل لنا؛ وهذا لأنه ليس في القياس من تصرفنا شيء سوى الاستدلال على علية الوصف في الأصل؛ إذ الحكم والوصف والأمارات الدالة على عليته ليس شيء منه من تصرفنا، فإن كانت العلة أيضًا منصوصة سقط هذا القدر من التصرف في الأصل أيضًا وبيان وجوده في الفرع، فإن كان القياس يصير فعلًا لنا بسبب هذا القدر من التصرف وجب أن يكون النص فعلًا لنا، ضرورة أنه لا بد فيه من الاستدلال، وبيان وجه دلالته على المطلوب بل ربما يكون هذا النوع من التصرف أعنى الاستدلال في بعض النصوص أكثر من بعض الأقيسة واللازم باطل فكذا الملزوم.

المسألة الثالثة في أنه لا يجب وقوع التعبد بالقياس عقلا

المسألة الثالثة في أنه لا يجب وقوع التعبد بالقياس عقلًا خلافًا للقفال منا وأبي الحسين البصري من المعتزلة. لنا: أن القول بوجوب التعبد به عقلًا مبني على قاعدة التحسين والتقبيح وقد أبطلناها فبطل ما ينبني عليها. سلمنا صحتها لكن نقول: نحن لا نجد في العقل ما يدل على وجوب التعبد به فوجب نفيه، أو أن لا يجوز إثباته فمن ادعى ذلك فعليه بيان دليله لينظر هل يدل عليه أم لا. احتجوا بوجوه: أحدها: أن أحكام الشرع غير مختص بصورة دون صورة، وبشخص دون شخص إلا على الندور؛ ولهذا كان الأنبياء (عليهم السلام) مأمورين بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها، فلا يمكن التنصيص عليها لعدم إحاطة العلم بها، ولعدم إحاطة النصوص بها، فيجب أن يكون لهم طريق صالح لإثبات الحكم فيما لا نهاية له، وليس إلا القياس. وجوابه: منع عدم إمكان التنصيص على ما لا نهاية له باعتبار أمر واحد شامل له نحو أن يقول: كل مطعوم ربوي، فإن آحاد المطعومات وإن

كانت لا نهاية لها فهي بأسرها مندرجة تحت هذا النص، فثبوت الربا في تلك الآحاد التي لا نهاية لها والحالة هذه بالنص لا بالقياس. والاجتهاد الذي يتطرق إلى بعض الجزئيات المترددة بين الجنسين في أنه من أي الجنسين منهما فليس هو من قبيل القياس حتى يمكن أن يقال: أنه لا غنى عن القياس حينئذ أيضًا بل لابد منه؛ لأن ذلك الاجتهاد ليس من قبيل القياس بل هو من قبيل تحقيق المناط وهو ليس من قبيل [القياس المختلف فيه على ما عرفت ذلك من قبل] هذا إن أراد بقوله الصور لا نهاية لها: الصور الجزئية المندرجة تحت الجنس الذي هو معنى عام. وإن أراد به أن نفس الأجناس التي يثبت الحكم الشرعي فيها لا نهاية لها فهذا ممنوع؛ وهذا لأن الأجناس متناهية عندنا، ولو سلم أنها غير متناهية فالتي يثبت فيها الحكم الشرعي على خلاف البراءة الأصلية متناهية. سلمنا عدم التباهي، لكن لا نسلم عدم اختصاص الحكم بالبعض دون البعض حينئذ، ولا نسلم أن الأنبياء عليهم السلام حينئذ كانوا مأمورين بتعميم الحكم في كل الصور بل في الذي يقدر على تبليغه بطريق المخاطبة فيها. سلمناه لكن لا نسلم أنه لا طريق إلى ذلك إلا بالقياس؛ وهذا لأن البراءة الأصلية طريق إلى ذلك أيضًا وهي أولى لما عرفت. وثانيها: أن العقل لما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية بواسطة مناسبة الأحكام لعللها مناسبة عقلية مصلحية وذلك يقتضي وجوب

ورود التعبد بالقياس وإلا لزم تجويز حصول العلم بالعلة مع جواز أن لا يحصل العلم بالمعلول. وجوابه: منع دلالة العقل على/ (129/ أ) العلل الشرعية؛ وهذا لأن دلالته عليها فرع التحسين والتقبيح العقلي وهو باطل، ولا نسلم وجوب مناسبة الأحكام لعللها مناسبة عقلية ومصلحية؛ وهذا فإن من الأحكام ما لا يناسب عللها أصلًا، فضلًا عن أن تناسب عللها مناسبة عقلية بل تعرف عليه علتها بغير المناسبة، ولو سلم انحصار طريق المعرفة في المناسبة، لكن لا نسلم وجوب مناسبتها لها مناسبة عقلية مصلحية بل وجوب مناسبتها لها بحسب مقاصد الشرع، ولو سلم ذلك لكن لا نسلم اقتضاء تلك العلل لتلك الأحكام لذواتها حتى يلزم استحالة تخلف المعلول عنها بل بجعل الشارع إياها علة بأن اعتبر تلك المناسبة العقلية وجعلها أمارة على العلية وحينئذ لا يلزم استحالة التخلف لعدم تحقيق العلية قبل الشرع. وثالثها: أن القياس يفيد دفع الضرر المظنون لما تقدم فاقتضى العقل وجوب العمل به دفعًا للمضرة كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط ميله وتخلخل بنيانه. وجوابه: منع حكم الأصل عقلًا.

المسالة الرابعة في أن التعبد بالقياس واقع سمعا

المسالة الرابعة في أن التعبد بالقياس واقع سمعًا. ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الألباب}. ووجه الاستدلال به: أنه أمر بالاعتبار وهو المجاوزة والانتقال عن الشيء إلى غيره؛ لأنه مأخوذ من "العبور" الذي هو عبارة عن المجاوزة عن الشيء والانتقال عنه إلى غيره بالنقل والاستعمال. أما النقل فظاهر. وأما الاستعمال فنحو قولهم: "عبرت النهر" و"عبرت على فلان" أي تجاوزته، ومنه يقال: "المعبر" للموضع الذي يعبر عليه، و"المعبر" السفينة التي يعبر فيها كأنها أداة العبور، والعبرة، الدمعة سميت بذلك، لأنها تعبر الجفن ولا تستقر فيه "وعبر الرؤيا وعبرها" أي جاوزها إلى ما يناسبها، فثبت أن العبور عبارة عن النقل والمجاوزة بالنقل والاستعمال فيكون حقيقة فيه، إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة. وإذا كان عبارة عنه حقيقة لم يكن عبارة عن غيره بطريق الحقيقة دفعًا للاشتراك، وهذا المعنى متحقق في القياس؛ لأن فيه الانتقال من حكم الفرع

فيكون القياس مأمورًا به، ولا نعني بكون التعبد بالقياس واقعًا سوى هذا. فإن قيل: لا نسلم أنه أمر بالاعتبار بمعنى الطلب، بل بمعنى الإذن فيه والإباحة، فإن الأمر حقيقة في الإباحة؛ وهذا لأنها أعم من الطلب وجعل اللفظ حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في الخاص على ما عرف ذلك. سلمنا أنه (ليس) [حقيقة] فيه، لكنه قد يرد لذلك كما في قوله تعالى: {إذا حللتم فاصطادوا} فلم لا يجوز أن يكون هو المراد منه فيما نحن فيه؟ سلمنا أن المراد منه الطلب، لكن لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة والانتقال، وما ذكرتم من الدلالة وإن دل على أنه حقيقة فيه فقط، لكن عندنا ما يدل على انه ليس كذلك، وهذا لأنه عبارة عن الاتعاظ ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه أسبق إلى الفهم عند الإطلاق وهو دليل الحقيقة. وثانيها: أنه أستعمل في الاتعاظ، قال الله تعالى: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} و {إن لكم في الأنعام لعبرة} والمراد به: الاتعاظ، ويقال: "السعيد من اعتبر بغيره" أي من أتعظ، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

وثالثها: أنه لا يطلق على القائس أنه معتبر بل يصح نفيه عنه إذا لم يكن متعظًا ومتفكرًا في أمر معاده فيقال: إنه قائس غير معتبر، ولا يصح ذلك في المتعظ الغير القائس في الفروع، وذلك يدل على أنه حقيقة في الاتعاظ دون مجرد المجاوزة والانتقال، فإن صحة النفي دليل التجوز على ما تقدم، وإذا كان حقيقة في الاتعاظ وجب أن لا يكون حقيقة في المجاوزة والانتقال فقط قطعًا بل يلزم أن لا يكون حقيقة فيه أصلًا، وإلا لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل لما ذكرتم. سلمنا أنه حقيقة فيه لكن إنما يحمل اللفظ على حقيقته إذا لم يوجد قرينة صارفة عنها، فأما بتقدير وجود القرينة فلا، وقد وجدت القرينة الصارفة فيما نحن فيه وهي سياق الآية فإن قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} يمنع من حمل قوله: (فاعتبروا) على القياس لعدم حسن ترتيبه عليه؛ إذ لا يحسن أن يقال: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" فقيسوا في الفروع، وإذا لم يحمل على حقيقته حمل على مجازه وهو الاتعاظ إما لتعينه، أو لأنه يحسن ترتيبه عليه فيحمل عليه إلى أن يظهر له معارض. سلمنا عدم القرينة الصارفة عن الحقيقة إلى المجاز بل هو محمول على حقيقته، لكن لا نسلم أنه يلزم منه كون القياس الشرعي مأمورًا به وإن وجد فيه معنى المجاوزة والانتقال؛ وهذا لأن مطلق المجاوزة والانتقال قدر مشترك بين القياس الشرعي، والقياس العقلي، وبين الاستدلال بالنص على مدلوله؛

لأن فيه العبور والانتقال منه إلى مدلوله، وبين البراءة الأصلية وبين الاتعاظ والدال على القدر المشترك بين الصور الكثيرة لا دلالة على ما به يمتاز كل واحدة من تلك الصور عن الأخرى لا بالمطابقة، ولا بالتضمن، فلا دلالة لقوله تعالى: {فاعتبروا} على وجوب العمل بتلك الصور بأسرها، ولا/ (???/ أ) على واحد منها علي التعيين بل على واحد منها لا بعينه من جهة أنه من ضرورة الإتيان بالمأمور به، فإن الإتيان بالقدر المشترك غير ممكن إلا في ضمن واحد من جزئياته ضرورة أنه لا وجود له في الخارج إلا في ضمن الجزئيات فإذا أوجب العمل بجزئي من جزئياته وأتى به كفى ذلك في سقوط التكليف به، وقد أوتي بهذا المسمى في ضمن الاتعاظ والاستدلال بالأدلة القاطعة، والنصوص الظنية والبراءة الأصلية مع وجود العمل بهذه الأشياء فلا حاجة إلى إيجاب العمل بالقياس لامتثال هذا الأمر. ولا يقال: ليس البعض أولى من البعض، فإما أن لا يجب شيء منها وهو باطل. أما أولًا: فبالإجماع. وأما ثانيًا: فلأنه يفضى إلى إلغاء الأمر بالكلية. أو يجب الكل وهو المقصود؛ لأنا نمنع ذلك؛ وهذا لأن ما يفيده إجماعًا ويحسن ترتيبه على سياق الآية أولى وليس ذلك إلا الاتعاظ. سلمنا أنه يفيد كون القياس مأمورًا به في الجملة لكن لا يلزم منه أن يكون جميع أنواع القياس مأمورًا به حتى القياس المتنازع فيه وهو القياس الظني في الأحكام الشرعية التي لم ينص على علتها لأن القياس أعم من القياس القطعي (أو) العقلي، أو الشرعي، أو الظني، والظني أعم من أن يكون

في الأمور الدينية، أو في الأمور الدنيوية، والذى في الأمور الدينية أعم من الذي لم ينص على علتها، أو من الذي نص على علتها، والدال على العام غير دال على الأفراد الداخلة تحته لما سبق، وليس في الصيغة ما يدل على العموم فيكفي في العمل به العمل بقياس واحد من أنواع الأقيسة لما سبق، وقد عمل بأنواع من الأقيسة نحو القياس القطعي والقياس الذي نص على العلة فيه، وقياس تحريم الضرب علي تحريم التأفيف، وقياس الفروع على الأصول في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص، فلا يبقى في النص دلالة على وجوب العمل بالقياس المتنازع فيه. سلمنا أنه يوجد في الصيغة ما يدل على العموم لكن الحمل على العموم متعذر، لأنه يفضى إلى التناقض؛ لأن قياس الفرع على الأصل في الحكم يقتضي ثبوت الحكم في الفرع، وقياسه عليه في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص يقتضي عدم ثبوت الحكم فيه فلو حمل على العموم لزم ثبوت الحكم وعدمه في الفرع وأنه متناقض، ثم ليس تخصيصه بالنسبة إلى أحد القسمين لإبقاء الآخر مرادًا منه أولى من العكس، وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون، ثم أنه معنا، فإن قياسه عليه في أن لا يستفاد حكمه إلا من النص عمل بالاحتياط واحتراز عن الظن الذي "لا يغنى من الحق شيئًا". سلمنا إمكان الحمل على العموم، لكنه غير محمول عليه إجماعًا إذ خص عنه بعض الأقيسة نحو القياس في الأحكام التعبدية، والأحكام المنصوصة، والقياس فيما تتعادل فيه الأمارات، والقياس فيما كلفنا فيه باليقين، وفي الأحكام المستفادة من تنصيص العبد مع التصريح بالتعليل كما إذا قال: "أعتنق غانمًا لسواده" أو "بع هذا العبد لسرقته" فإنه لا يجوز أن يقاس عليه العبد الآخر المشارك لهما في السواد أو في السرقة في جواز الإعتاق، أو البيع، والقياس فيما وجد فيه النص المقتضى عللًا خلاف حكم القياس فتكون الآية مخصوصة، والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما تقدم

تقريره. سلمنا أنه يبقى حجة، لكن الآية تدل على المطلوب دلالة قطعية أو ظنية؟ والأول ممنوع، ولا يمكن دعواه؛ وهذا لأن دلالته مبنية على المقدمات الظنية، والمبني على الظني ظني. والثاني مسلم لكن المسألة علمية لا يمكن التمسك بها في المسألة العلمية. سلمنا أن دلالتها قطعية لكنها خطاب مع الموجودين، فاختص بالحاضرين في عصر الرسول- عليه السلام-. سلمنا عدم اختصاصها بهم لكنها أمر والأمر لا يفيد التكرار، بل يكفي فيه الإتيان بالمأمور به مرة واحدة فإذا عمل بالقياس مرة كفى ذلك في سقوط التكليف به فلم قلتم أنه متعبد به على الدوام؟ الجواب عن الأول من وجهين: أحدمها: أنا بينا أن الأمر حقيقة في الوجوب وأما ما ذكره من الدليل على أن جعله حقيقة في الإباحة أولى فهو معارض بما أنا لو جعلناه حقيقة في الوجوب أمكن جعله مجازًا في الترجيح وجواز الفعل لكونهما لازمين له،

ولو جعلناه حقيقة في جواز الفعل والإذن فيه لم يكن جعله مجازًا فيهما فكان جعله حقيقة في الوجوب أولى. وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن الأمر حقيقة في الإباحة لكن يلزم منه أيضًا حصول المقصود؛ لأنه حينئذ يجوز العمل بالقياس وكل من قال بجواز العمل به قال بورود التعبد به وبحجيته فالقول بجواز العمل به مع عدم حجيته قول على خلاف الإجماع فكان باطلًا، وبه خرج الجواب عن الثاني، ويخصه أن المجاز خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا عند القرينة الصارفة عن الأصل والأصل عدمها. قوله: لا نسلم أن الاعتبار عبارة عن المجاوزة والانتقال. قلنا: دليله ما تقدم. قوله: إنه حقيقة في الاتعاظ. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه يجوز أن يقال: فلان اعتبر فاتعظ ولو كان الاعتبار عبارة عن الاتعاظ لما جاز ذلك؛ لأن ترتيب الشيء على نفسه محال. قوله في الوجه الأول:/ (131/ أ) إنه أسبق إلى الفهم عند إطلاق الاعتبار. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن الاعتبار حاصل في الاتعاظ وغيره على ما ستعرف ذلك، والخاص لا يتبادر إلي الفهم عند إطلاق العام إلا بعرف جار وأنه خلاف الأصل. قوله في الوجه الثاني: أنه استعمل في الاتعاظ.

قلنا مسلم لكن لا لخصوص الاتعاظ بل لعموم المجاورة والانتقال وهو لا يضرنا؛ لأنه لا يلزم منه أن يكون حقيقة في الاتعاظ لخصوصه مع أنه مستعمل في حقيقته. قوله في الوجه الثالث: أنه لا يطلق المعتبر على القائس بل يصح نفيه عنه. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه يصح أن يقال: إن فلانًا يعتبر الأشياء العقلية بغيرها، فهو معتبر في هذا الباب. سلمنا أنه لا يطلق عليه لكن لا يدل ذلك على أنه ليس بحقيقة فيه باعتبار ما فيه من المجاوزة والانتقال؛ لأن اللفظ العام قد لا يستعمل بإطلاقه في بعض ما يدخل تحته كالحيوان في الإنسان، هذا لو سلم أن عدم إطلاق اللفظ على معنى يدل على أنه ليس بحقيقة فيه بحسب الخصوصية، فإن فيه كلامًا من حيث إن الحقيقة قد تهجر لموانع، وأما صحة النفي فلا نسلم أنه يدل على التجوز والكلام فيه مر في اللغات. سلمنا لكن لا نسلم صحة النفي مطلقًا بل لخصوص كونه قائسًا أي القائس لخصوص كونه قائسًا غير معتبر، ولا يلزم منه صحة النفي باعتبار ما فيه من المجاوزة والانتقال. سلمنا صحة النفي مطلقًا لكن على وجه الحقيقة أو على وجه المجاز؟ والأول ممنوع؛ وهذا لأنا بينا أن فيه معنى الاعتبار فكيف يصح نفيه عنه على وجه الحقيقة، والثاني مسلم لكن لا يدل ذلك على أنه مجاز فيه، فإنه يصح سلب الإنسان عن قليل المروءة والدين مع أنه ليس بمجاز فيه بل هو إنسان حقيقة، ثم المسوغ لهذا النفي أن المقصود الأعظم من الاعتبار إنما هو العمل

للمعاد، فالاتعاظ أشرف الجزيئات الداخلة تحت الاعتبار، فإذا لم يأت بما هو المقصود الأعظم والجزئي الأشرف صح أن يقال: إنه غير معتبر على سبيل التجوز كما يصح أن يقال لمن لا يتدبر في الآيات "إنه أعمى وأصم". سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أنه حقيقة في الاتعاظ لكن ما ذكرنا يدل على حقيقة في المجاوزة والانتقال، وإذا حصل التعارض بين الدليلين وجب المصير إلى الترجيح وهو معنا؛ لأنا لو جعلناه حقيقة في المجاوزة والانتقال لكان اللفظ مستعملًا في القياس والاتعاظ وغيرهما مما فيه معنى المجاوزة والانتقال على سبيل التواطؤ [لأن] في الاتعاظ معنى المجاوزة والانتقال، فإن الإنسان ما لم يستدل بحال الغير على نفسه لا يكون متعظًا، ولو جعلناه حقيقة في الاتعاظ بحسب الخصوصية كان استعماله في غيره إن كان بطريق الحقيقة لزم الاشتراك، وإن كان بطريق التجوز لزم المجاز وهما على خلاف الأصل، فكان جعله حقيقة في المجاوزة والانتقال أولى. قوله: وجدت القرينة الصارفة عن الحقيقة. قلنا لا نسلم؛ وهذا لأن الأصل عدم تلك القرينة، وإنما لا يحسن الأمر بترتيب القياس في الفروع عليه؛ لأنه لا مناسبة بين خصوص القياس وبين قوله {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} وإن كان هو داخلًا تحت مطلق الاعتبار فلا يلزم منه أن لا يكون مرادًا منه بهذا الاعتبار وإن كان يلزم منه أن لا يكون مرادًا بخصوص كونه قياسًا لكنا لا ندعى ذلك وإنما

ندعي إرادته باعتبار عام، ولا نسلم أن ترتيب ذلك العام لا يحسن عليه، ألا ترى أنه لو قال: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا في كل الأمور في هذا وغيره" كان حسنًا، كما إذا سئل عن مسألة فأجاب بما يتناول تلك المسألة وغيرها كان حسنًا. قوله: الأمر بالاعتبار ليس أمرًا بجميع الجزيئات الداخلة تحته ولا بواحد معين منها. قلنا: إنه وإن لم يفد تعميم الزمر بجميع الجزيئات الداخلة تحته بحسب اللفظ لكنه يفيده بحسب المعنى؛ لأن ترتيب الحكم علي المسمى يشعر بعلية ذلك المسمى لذلك الحكم، وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارًا فيلزم أن يكون كل اعتبار مأمورًا به. لا يقال: أن هذا إثبات القياس بالقياس، أو نقول بعبارة أخرى: أن هذا نوع من أنواع القياس فثبوته يتوقف على ثبوت أصل القياس، وإثبات أصل القياس به دور؛ لأنا نقول: إنه قال بحجية هذا النوع من القياس لكون العلة فيه معلومة بالإيماء من لم يقل بحجية أصل القياس فيصح إثباته به بالنسبة إليه، فأما بالنسبة إلى من أنكر ذلك بالكلية فلا، لأنه يمنع ذلك. وقد أجيب عنه بوجه آخر وهو: أنه يحسن أن يقال: "اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني، وقد ثبت في باب العموم أن الاستثناء (يخرج) من الكلام ما لولاه لدخل فيه وهو ضعيف؛ أما أولًا: فلأنه ينتقض بالأمر بكل ماهية كلية فإنه يتأتى فيه هذا النوع من الاستثناء نحو أن يقول: صل إلا الصلاة الفلانية، وبع إلا البيع بالغبن الفاحش، واشتر إلا الشراء الفلاني مع أن الأمر بالماهية الكلية لا يكون أمرًا بجميع الجزيئات الداخلة تحتها.

وأما ثانيًا: فلأنه ينتقض باستثناء كل واحد من الأوقات بدلًا عن الآخر عن مطلق الأمر مع أنه [لا] يقتضي التكرار. فإن قلت: لا نسلم أنه عند الاستثناء/ (???/ أ) لا يفيد التكرار بل يفيده لقرينة الاستثناء وإن لم يفده قبله. قلت: فنحن نقول مثله في الاعتبار، فلم قلت: إنه قبل الاستثناء يفيده وما ورد الاستثناء فيه من الشارع حتى يقال: إنه أراد منه العموم بقرينة الاستثناء؟ ويمكن أن يجاب عنه بوجه آخر وهو: أن الأمر بالماهية الكلية وإن لم يقتض الأمر بجميع الجزيئات بدلًا عن الآخر عند عدم القرينة المعينة لواحد منها أو لجميعها، لأنه يقتضي الإتيان بواحد منها لا بعينه منها لما سبق، وذلك يقتضي ما ذكرنا من التخيير، ثم التخيير بينهما يقتضي جواز فعل كل واحد منها، وإذا جاز فعل القياس وجب أن يجب فعله؛ لأن جواز فعله مع عدم وجوبه خلاف الإجماع فكان باطلًا. قوله: سلمنا أنه يفيد كون القياس مأمورًا به في الجملة لكن لم يلزم منه كون القياس المختلف مأمورًا به؟ قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: ما تقدم. وثانيهما: أنه إن أراد الشارع منه عموم ما فيه الاعتبار، أو عموم الأقيسة فقد حصل الغرض، وإن أراد منه نوعًا معينًا من القياس فالظاهر أن المراد منه القياس الشرعي قطعيًا كان، أو ظنيًا، منصوصًا كان علته، أو لم يكن؛ لأن الظاهر من حال الشارع أنه إنما يخاطبنا بالأمور الشرعية دون غيرها، ولا

يجوز أن يكون المراد منه ما تكون العلة فيه منصوصة فقط؛ لأنه قد يمنع منه أنه من قبيل القياس بل من قبيل ما نص فيه على الحكم، ولو سلم أنه من قبيل القياس لكنه نادر جدًا وحمل كلام الشارع على ما تعم فائدته أولى فيكون الحمل على القياس الشرعي الذى يندرج تحته المتنازع فيه وغيره أولى. وبه يعلم أنه لا يجوز الحمل على القياس القطعي فقط. قوله: الحمل على العموم متعذر للتناقض. قلنا: نعم إن الأمر كما ذكرتم لكن نقول: لا يجوز أن يراد منه اعتبار الفرع بالأصل في أن لا يستفاد حكمه إلا من النص كما في الأصل لا وحده ولا مع الاعتبار في اثبات الحكم، اما الأول فلوجهين: أحدهما: أن الاعتبار المراد من الآية لا بد وأن يكون مناسبًا لما قبل الآية, فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن لا يكون مخالفًا للمقصود، وإلا كان الكلام ركيكًا سمجًا يصان كلام الله تعالى عن مثله بل كلام الفصحاء، والذي يناسب ما قبل الآية إنما هو الاعتبار في الحكم [لا] عدمه وإلا صار معنى الآية: يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فلا تحكموا بهذا الحكم في حق غيرهم إلا إذا ورد النص في حقهم كما ورد في حق هؤلاء ومعلوم أن ذلك غير مناسب بل هو مخالف للمقصود منه فكان باطلًا. وثانيهما: أن المتبادر منه ومن أمثاله نحو أن يقول السيد لعبده بعد أن ضرب عبدًا آخر له على ذنب صدر منه: اعتبر به الاعتبار في الحكم، لا الاعتبار في المنع من الحكم، والتبادر دليل على أنه حقيقة فيه فوجب حمله عليه.

وأما الثاني فلما ذكرتم من التناقض المذكور، وإذا لم يجز أن يكون مرادًا من النص سقط ما ذكره من الترجيح فإنه فرع احتمال الإرادة. قوله: إنه عام [مخصوص وهو غير حجة قلنا: قد بينا أنه حجة. قوله: دلالته ظنية]. قلنا: مسلم لكن المسألة عندنا ظنية. قوله: إنه خطاب مع الموجودين فاختص بهم. قلنا: نعم يختص بهم اذ ذاك، فأما بعد وجود آخرين وفهمهم وبلوغهم فلا نسلم الاختصاص بل هو عام في حق الكل. سلمنا أنه لا يتناولهم من حيث اللفظ لكن نقول: يلزم ثبوت هذا الحكم في حق غيرهم أيضًا لوجوه: أحدهما: انعقاد الإجماع على أن ما ثبت في حقهم بخطاب المشافهة فإنه ثابت في حق من يوجد بعدهم إذا لم يوجد دليل منفصل على تخصيصهم به. وثانيهما: أنه إذا جاز لهم القياس جاز لغيرهم ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وثالثهما: أنه إذا جاز لهم القياس مع إمكان مراجعتهم إلى الرسول- عليه السلام- في الوقائع فلأن يجوز لنا مع الناس عن ذلك بالطريق الأولى. قوله: إنه أمر وهو لا يفيد التكرار.

قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه لما كان عامًا في جميع الأقيسة وجب أن يكون متناولًا لجميع الأوقات، وإلا قدح ذلك في كونه عامًا متناولًا للكل. فالحاصل أن الأمر لا يفيد التكرار إذا لم تدل قرينة منفصلة على إرادة التكرار منه، فأما إذا دلت القرينة على ذلك فلا، والعموم قرينة دالة على إرادة التكرار. وثانيهما: أنه إذا جاز العمل به مرة جاز العمل به في كل وقت ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وثانيها: ما روى عن النبي- عليه السلام- أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيًا: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسوله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فقال- عليه السلام-: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يحبه الله ورسوله "أو بالهدى" أو لما يرضاه "على اختلاف الرواية. ووجه الاستدلال به: هو أن الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في الطلب، فذلك الطلب إما من النصوص جلية أو خفية وهو باطل؛ لأن العمل بالاجتهاد معلق بعدم الوجدان في الكتاب والسنة، وعدم الوجدان فيهما إنما يتحقق بعدم وجدان الجلي والخفي فيهما؛ لأن وجد أن الجلي أو الخفي في الكتاب أو السنة وجد أن في أحدهما فنفى الوجدان ينفي وجدانهما؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم على/ (133/ أ) ما بينا ذلك، فلو كان المراد

من قوله: (أجتهد رأيي) الاجتهاد في النصوص الجلية أو الخفية [لزم الوجدان في الكتاب أو السنة حالة عدم الوجدان فيهما وهو] جمع بين النقيضين، أو من العقل فيما يقتضيه من الأحكام بتحسينه وتقبيحه وهو أيضًا باطل؛ لما ثبت من بطلان التحسين والتقبيح، أو من البراءة الأصلية وهو أيضًا باطل؛ لأنه لا يتحقق فيها معنى الاجتهاد وهو استفراغ الوسع في الطلب؛ لأن البراءة الأصلية معلومة لكل أحد من غير استفراغ الوسع فهو إذن من القياس. ويؤكده: ما سنبين أن الرأي هو القياس. ويؤكده أيضًا: ما روى عنه- عليه السلام- أنه حين أنفذ معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال: "لهما بم تقضيان؟ فقالا: إذا لم نجد الحكم في الكتاب ولا في السنة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به "فقال- عليه السلام-: أصبتما، صرحا فيه بالعمل

بالقياس، وصوبهما الرسول- عليه السلام-، فدل على أنه حجة فهو حجة مستقلة ويؤكد لكون القياس مرادًا من قوله: (أجتهد رأيي). وقد روى أيضًا أن الرسول- عليه السلام- قال لابن مسعود (اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما، فإن لم تجد الحكم فيهما فاجتهد برأيك). والاحتجاج مثل ما تقدم في حديث معاذ. فإن قيل: لا نسلم صحة الحديث، وبيانه من وجوه: أحدهما: أنه مرسل، وقد ثبت أن المرسل ليس بحجة. سلمنا أنه مسند لكنه مسند إلى مجاهيل، إذ روى الحديث عن أناس مجاهيل من أهل حمص، وقد بينا أنه لا تقبل رواية المجاهيل. وثانيها: أنه روى على وجه آخر لا يمكن الجمع بينه وبينما رويتم وهو أنه لما قال معاذ- رضي الله عنه-: "اجتهد رأيي" قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب إلى، اكتب إليك"، إذ الواقعة واحدة فكان الجمع بينهما متغدرًا. وثالثها: أنه مشتمل على الخطأ فوجب أن لا يكون صحيحًا.

بيان الأول من وجوه: أحدها: أن فيه قوله: (فإن لم تجد في كتاب الله) وهو يناقض قوله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}. وثانيها: أنه يقتضي أنه عليه السلام سأله عما يقضي بعد أن نصبه للقضاء، وذلك غير جائر؛ لأن جواز توليته للقضاء مشروط بصلاحيته للقضاء، وهذه الصلاحية إنما تثبت لو علم كونه عالمًا بالشيء الذي يجب أن يقضي به، والشيء الذي لا يجوز أن يقضي به. وثالثها: أنه يقتضي تجويز الاجتهاد في زمن الرسول- عليه السلام- وأنه غير جائز لما سيأتي. ورابعها: أنه يقتضي أن لا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم الوجدان في الكتاب والسنة، وهو باطل عندكم؛ لأن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز عندكم. بيان الثاني ظاهر. ورابعها: أنه ورد في إثبات القياس والاجتهاد، وأنه أصل عظيم في الشرع، والدواعي تكون متوفرة على نقل ما هذا شأنه، وما يكون كذلك وجب بلوغه إلى حد التواتر والاشتهار، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير صحيح. سلمنا صحته لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في كون القياس حجة

إذ المسألة قطعية. سلمنا صحة التمسك بخبر الواحد في هذه المسألة، لكن لا نسلم أن المراد من قوله: (أجتهد رأيي) هو القياس، ولا يلزم من خروج النص والعقل والبراءة الأصلية تعينه للإرادة منه، وهذا لأنه يحتمل أن يكون المراد منه مدركًا آخر نحو المصالح المرسلة، أو التمسك بطريقة الاحتياط أو بتنزيل اللفظ على أكثر مفهوماته، أو أقل مفهوماته، أو قول الشارع "احكم فإنك لا تحكم الا بالحق". سلمنا أن المراد منه القياس الشرعي لكن يكفي في العمل بمقتضاه إثبات نوع منه، ونحن نقول به، فإن القياس القطعي عندنا حجة، والقياس الذي نص على علته، أو القياس الذي هو كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف حجة أيضًا عند بعض أصحابنا، فلم قلتم أنه يقتضي أن يكون جميع أنواع القياس حجة؟ سلمنا جواز العمل بجميع أنواع القياس لكن في زمان الرسول أو مطلقًا؟ أعنى به سواء كان في زمانه أو بعده، والأول مسلم، لكن لا يلزم منه حجيته في زماننا، والثاني ممنوع؛ وهذا لأن شرط العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنة [وذلك إنما يتحقق في زمان حياة الرسول عليه السلام]؛ لعدم استقرار الشرع، فأما بعد نزول قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} فإن ذلك متعذر؛ لأن الدين إنما يكون كاملًا لو بين فيه جميع ما يحتاج إليه، وذلك إنما يكون بالتنصيص على كليات الأحكام، فإذا كان جميع الأحكام موجودة في الكتاب والسنة تعذر بالقياس لفقد شرطه.

الجواب قوله: إنه مرسل. سلمناه لكن الأمة تلقته بالقبول، ومثله من المراسيل حجة قوله رواه الحديث مجاهيل. قلنا: الجواب عنه من وجوه: أحدها: أنا نمنع ذلك؛ وهذا لأنه روى ذلك عن جماعة من أصحاب معاذ، وأصحاب معاذ مشهورون باتباعه في دينه وورعه وذلك يثبت صحته. وثانيها: هب أنا نسلم أن أولئك الجماعة مجاهيل، لكن قد روى بطريق أخرى تثبت به الحجة إذ قد رواه عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ. وثالثها: هب أنه لم تصح طريقة أخرى في روايته لكن الأمة تلقته بالقبول، فإن منهم من قبله واحتج به على كون القياس حجة. ومنهم من قبله ولكنه أوله ومثله حجة وإن كان رواية مجاهيل.

نعم هذا لا يفيد بالصحة، لكن لا يلزم منه أن لا يفيد ظن الصحة الذي يتوقف عليه الاحتجاج فقط. قوله ثانيًا: روى الحديث على وجه آخر لا يمكن الجمع بينه وبين ما رويتم. قلنا: لا نسلم صحة تلك الرواية؛ لأنها تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة فكانت باطلة. سلمنا صحته لكن لا نسلم أنه لا يمكن الجمع بينهما، وهذا لأنا وإن سلمنا أن الواقعة واحدة لكن يمكن الجمع بينهما بأن يصرف قوله "أجتهد رأيي" إلى الوقائع التي لا تحتمل التأخير، وقوله: (أكتب إلي أكتب إليك) تصرف إلى التي تحتمل التأخير. سلمنا أنه لا يمكن الجمع بينهما لكن روايتنا مشهورة بين المحدثين والفقهاء، وروايتكم غربية لم يذكرها المعتبرون من المحدثين فلا تعارضها. قوله: إنه مشتمل على الخطأ. قلنا: لا نسلم. قوله: لأنه يناقض [قوله تعالى: {ولا رطب ولا يابس} وقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} قلنا:] لا نسلم؛ وهذا لأنه ليس المراد من الآية المذكورة أن بيان كل شيء في الكتاب، فإن ذلك خلاف ما

علم بالضرورة، فإن من المعلوم بالضرورة أنه غير مشتمل على علم الهندسة والحاسبات، وكثير من الأحكام الظنية بل من الفرعية كتفاريع الحيض والنفاس، بل البيع والإجارة مع مسيس الحاجة إليهما. فإن قلت: المراد من النص- إن شاء الله تعالى- أنه ليس شيء مما يحتاج إليه في الأمور الدينية ألا وهو مبين في الكتاب إما بصراحته أو بواسطة بيان مداركه، فعلى هذا خرج عنه العلوم الهندسية والحسابية والطبية؛ لأنها ليست من العلوم الدينية، وأما التفاريع الذي ذكرتم فلا نسلم أنه غير مبين فيه بل هو مبين فيه بواسطة؛ وهذا لأنه بين فيه وجوب الأخذ بقول الرسول والإجماع وأحكام تلك التفاريع مبين في السنة والإجماع فيكون مبينًا في الكتاب. قلت: فحينئذ اندفع التناقض؛ لأن الكتاب لما دل على وجوب الأخذ بالسنة، والسنة دلت على وجوب الأخذ بالقياس، والقياس دل على الأحكام المثبتة به دل الكتاب على تلك الأحكام بهذه الواسطة، والمراد من عدم الواجدان في الكتاب عدم الوجدان بالصراحة ضرورة أن ما وجد في السنة والقياس وجد في الكتاب بالواسطة. قوله: إنه يقتضي أنه عليه السلام سأله عما يقضي به بعد أن نصبه للقضاء وأنه غير جائز. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن المراد من قوله حين بعثه، أي حين عزم على بعثه، فإن إطلاق اسم السبب على السبب مجاز مشهور كثير لاستعمال. سلمناه، لكن لا نسلم أنه غير جائز إذا كان على وجه التأكيد أو لتحصيل العلم بما أخبر به فإنه ليس الخبر كالعيان.

قوله: إنه يقتضي تجويز الاجتهاد في زمان الرسول. قلنا: نعم وما المانع منه لا سيما في حق البعيد في الواقعة التي لا تحتمل التأخير؟ قوله: إنه يقتضي أن لا يجوز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس. قلنا: من لم يقل من القائلين بكون القياس حجة بمفهوم الشرط، أو قال به لكن لم يجوز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس فقد سقط عنه هذا السؤال بالكلية، وإن كان يرد عليه أعني من قال بمفهوم الشرط وعدم تخصيصهم بالقياس مثل هذا السؤال بالنسبة إلى السنة. وأما من قال بهما فيجيب عنه: بأن المراد منه عدم وجدان ما يدل على الحكم من غير معارضة، وهذا وإن كان تخصيصًا لكن يجب المصير إليه وإلا لزم أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة متواترةً كانت أو آحادًا وأنه خلاف الإجماع. ولقائل أن يقول: لم يلزم من تخصيص العام في موضع لدليل تخصيصه حيث لم يوجد الدليل، فلا يلزم من تخصيص قوله: "فإن لم تجد أولًا تخصيصه ثانيًا، فإن ذلك إنما كان لقوه السنة المتواترة مع كونه جمعًا بين الدليلين [وهو غير حاصل في صورة القياس ولا يمكن أن يقال فيه: صير إليه لكونه جمعًا بين الدليلين]، لأن ذلك يتوقف على كونه دليلًا، فإثبات كونه دليلًا به دور، وبتقدير أن يثبت كونه دليلًا فليس هو كالسنة فضلًا عن أن

يكون كالمتواترة منها، ولو قيل يصار جمعًا بين هذا وبين الدليل الدال على كون القياس حجة خرج هذا عن أن يكون دليلًا مستقلًا، فالأولى أن يعدل عن هذا، ويقال: هذا وإن كان تخصيصًا لكن يجب المصير إليه؛ لأن الظاهر إرادة المعنى الواحد منهما، ولأن الحمل على التخصيص أهون من تكذيب الراوي وإبطال الحديث بالكلية. قوله: الحديث ورد في واقعة عظيمة فكان يجب أن يكون مشهورًا متواترًا. قلنا: أما الشهرة فحاصلة، وأما وجوب بلوغه إلى حد التواتر فممنوع؛ وهذا لما سبق أن خبر الواحد مقبول فيما تعم به البلوى ولو سلم أنه لا يقبل لكن لا نسلم وجوب بلوغه إلى حد التواتر؛ وهذا فإن من لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يشترط فيه البلوغ إلى حد التواتر بعينه، بل أحد الأمرين: أما التواتر، أو الشهرة، فإن الخبر المشهور عنده مقبول فيما تعم به البلوى وهي حاصلة في خبرنا فوجب قبوله على الرأيين. قوله: إنه خبر واحد/ (135/ أ) فلا يجوز التمسك به في المسألة العلمية. قلنا: لا نسلم أن المسألة قطعية بل هي عندنا ظنية. سلمنا أن المسألة قطعية لكن ليس المطلوب من كل واحد مما يذكر من الأدلة عليه العلم بل من مجموعة فكونه وحده لا يفيد القطع لا يقدح فيه. قوله: لا يلزم من خروج النص، والعقل، والبراءة الأصلية منه أن يكون المراد منه القياس.

قلنا: إن [كل] من قال: إن المراد منه مدرك آخر غير النص والعقل والبراءة الأصلية قال: أن المراد منه القياس، فالقول بأن المراد منه مدرك آخر غير القياس قول على خلاف الإجماع فكان باطلًا. قوله: المراد منه القياس القطعي، والذي نص على علته، وقياس تحريم الضرب على تحريم تأفيفه. قلنا: النبي- علية السلام- إنما سكت عند قوله: "اجتهد رأيي" لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام، وإلا لما سكت كما في ذكر الكتاب والسنة ولو حمل قوله (أجتهد رأيي) على ما ذكرتم من الأقيسة لم يكن ذلك وافيًا بأقل القليل منها، فإن القياس القطعي في الشرعيات في غاية القلة، والقياسان الباقيان وإن كانا أكثر منها لكنهما أيضًا قليلين لعلهما لا يفيان بإثبات عشر عشير الأحكام: فكان يجب أن لا يسكت الرسول علية السلام، ولما سكت دل ذلك على أنه واف وليس هو إلا القياس المطلق الشامل للظني والقطعي والمجلي والخفي، والمعنوي والشبيه، وهذا يصلح أن يكون جوابًا عن السؤال الذي قبل هذا السؤال وإن لم يذكره ثمة. وعن الأخير ما سبق في المسلك الذي قبل هذا ويخصه: أنا نمنع أن إكمال الدين إنما يكون بالتنصيص على كليات الأحكام فقط بل هو بيان جميع ما يحتاج إليه في الدين، ثم البيان قد يكون بلا واسطة كما في التنصيص، وقد يكون بواسطة كما إذا بين المدارك للأحكام فلم قلتم: إنه لا يحصل ذلك إلا إذا كان البيان بلا واسطة؟ وحينئذ لا يكون إكمال الدين منافيًا للعمل بالقياس. وثالثها: ما روى أن عمر- رضي الله عنه- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

قبلة الصائم؟ فقال عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟ ". ووجه الاستدلال: أنه عليه السلام استعمل القياس، من حيث إنه قاس مقدمة الجماع وهى القبلة على مقدمة الأكل وهي المضمضة في أنه لا يحصل الإفطار بها، كما لا يحصل بالمضمضة بجامع عدم حصول المقصود منهما، وإذا استعمله الرسول- عليه السلام- وجب أن يكون حجة لوجوه: أحدهما: لما سبق أن التأسي به واجب. وثانيها: أن قوله: "أرأيت" خرج مخرج التقرير، فلولا أنه قد تمهد عند عمر- رضي الله عنه- أن القياس حجة لما حسن هذا الاستعمال، ألا ترى أن الإنسان لو حكم بحكم من الكتاب أو السنة ثم سأله عن ذلك من لا يعتقد الكتاب والسنة لم يجز له أن يقول له في جوابه: أليس أن الله تعالى قد قال في [كتابه] كذا وكذا؟ أو الرسول قال كذا وكذا؟ وإنما يحسن ذلك أن لو تقدر عنه حجيتهما، ولو سلم انه يحسن ذلك لكن لا نشك في أنه لا يحسن ذلك إذا كان المجيب لا يعتقد ذلك، فكان ذلك دالًا على أن

الرسول كان يعتقد حجيته فوجب أن يكون حجة في نفس الأمر، وإلا لزم أن يكون اعتقاده خطأ وهو باطل. وثالثها: أنه إذا جاز للرسول- عليه السلام- العمل به جاز لغيره؛ ضرورة أنه لا قائل بالفصل. ونحوه ما روى أن امرأة من خثعم جاءت إلى الرسول- عليه السلام- وقالت: يا رسول الله: إن فريضة الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يحج فان حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه ذلك؟ فقالت: نعم، فقال- عليه السلام- فدين الله أحق بالقضاء".

ووجه الاستدلال به: أنه عليه السلام ألحق دين الله الذي هو الحج بدين الآدمي في حصول النفع بالقضاء. لا يقال: إنه نبه على العلة ومثل هذا القياس قد تلتزم حجيته؛ لما سبق أن بعضهم قال بحجية ما نص على عليته، أو أومئ إليها؛ لأنا نقول: إن عنى بالتنبيه أنه ذكر العلة بلفظ صريح أو أومئ إليها فهذا ممنوع؛ وهذا لأنه ليس في الحديثين ما يدل على أن علة الحكم في الأصل كذا، وإن عنى به أنه ذكرا مفسرًا عليه يتبادر منه فهم العلة فهذا مسلم، لكن لا نسلم أن هذا ملحق بالتنصيص على العلة فإن ذكر أصل القياس لا يكون تنصيصًا على العلة. فإن قلت: نحن نسلم أنه عليه السلام ألحق القبلة بالمضمضة وألحق الحج بالدين لكن لا نسلم أن ذلك بطريق القياس بل لعل ذلك بطريق النص. قلت: المتبادر إلى الفهم منه الإلحاق بطريق القياس؛ لأنه يفهم منه الجامع على الوجه الذي تقدم تقريره فلو كان ذلك بطريق النص لما فهم ذلك. وأيضًا لا معنى للإلحاق بطريق النص إلا أن ينص على الحكم في هذه الصورة كما نص في تلك الصورة فيجمع بينهما/ (136/ أ) في الحكم والتنصيص وحينئذ يكفي أن يقول: الحكم هنا على ما نص في المضمضة أو على ما بين فيها، وحينئذ يصير قوله: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربًا" ضائعًا.

ورابعها: الأحاديث التي تشتمل على تعليل كثير من الأحكام، نحو قوله عليه السلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر: أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم فقال عليه السلام: "فلا إذن". وقوله في حق المحرم الذي وقصت به راحلته: "لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبًا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا".

وقوله في شهداء أحد: "زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشحب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك". وقوله عليه السلام: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده). وقوله في الهرة: (أنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات).

وقوله- عليه السلام- في الصيد: (فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله). وقوله عليه السلام: (أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي) و (الرأي) هو تشبيه شيء بشيء، جعل علة الحكم المشابهة. وقوله- عليه السلام-: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل

الدافة ألا فادخروها)، وأمثالها كثيرة. ووجه الاستدلال بها: أنه لا بد وأن يكون للتعليل فائدة زائدة على أصل ثبوت الحكم وإلا لزم العبث وهو التطويل من غير فائدة، وأنها إما اتباع الحكم أينما تثبت العلة أو وجه الاطلاع على الحكمة في تلك الصورة فقط. والأول اعتراف بصحة القياس، والثاني قول بإثبات العلة القاصرة وأنه يصحح القول بالقياس مطلقًا؛ لأن القول بالجواز ثمة مع عدم الجواز في المتعدية خلاف الإجماع والمعقول. وخامسها: الإجماع، وهو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين وتقريره: أن العمل بالقياس [مجمع عليه بين الصحابة فكل ما كان مجمعًا عليه بينهم فهو حق فالعمل بالقياس حق.

بيان المقدمة الأولى]: العمل بالقياس كان شائعًا ذائغًا فيما بين الصحابة من غير إنكار يصدر من أحد منهم فكان إجماعًا على ما تقدم تقريره في فصل الإجماع. وإنما قلنا: إن العمل بالقياس كان شائعًا ذائعًا فيما بينهم. روي عن الصديق- رضي الله عنه- أنه قال حين سئل عن الكلالة: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان". والرأي هو القياس لوجهين: أحدهما: أنه يقال: أقلت هذا برأيك أم بالنص؟ فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر وذلك يدل على أن الرأي لا يتناول القول بالنص جليًا كان أو خفيًا، وإذا كان المراد من الرأي غير النص وجب أن يكون المراد منه القياس لما

سبق في حديث معاذ. وثانيهما: أنه يسمي أصحاب القياس كأصحاب أبي حنيفة أصحاب الرأي ويجعلونه مقابلًا لأصحاب الحديث وذلك يدل على أن الرأي هو القياس. وروي عنه أيضًا: أنه ورث أم الأم، فجاءت أم الأب فقال لها: لا أجد لك في كتاب الله ولا في سنة رسوله شيئًا، فقال له بعض الأنصار: لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت" فرجع إلى التشريك بينهما في السدس، وليس ذلك الا بطريق القياس. وروي عنه أيضًا أن كان يسوى في القسمة حتى قال له عمر- رضي الله

عنه-: "كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ قال أبو بكر- رضي الله عنه-: "إنما أسلموا لله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ" ولما انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهما، ومعلوم أنه ليس مستندهما في ذلك إلا القياس، وأنه أثبت عقد الإمامة بالعهد قياسًا على عقدها بالبيعة، والصحابة كلهم رضوا به وما خالفه أحد في ذلك. وليس مستنده في إثباته بالعهد سوى القياس من حيث إنهم جعلوا تعيين الإمام كتعيين الأمة في البيعة. وروى- عمر رضي الله عنه- أنه قال في الجد: "أقضي فيه برأيي وأقول برأي". وروى أنه قضى فيه بآراء مختلفة. وروي عنه أنه قال في الجنين لما سمع الحديث: "لولا هذا لقضينا فيه برأينا". ونقل عنه أيضًا أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "اعرف الأشياه والنظائر" وفى رواية الأمثال وقس الأمور برأيك" وهذا صريح في الباب.

وروي عنه أنه شرك بين إخوة الأب والأم وبين إخوة الأم في الثلث في المسألة الحمارية لما سمع قول إخوة الأب والأم: هب أن أبانا كان حمارًا ألسنا من أم واحدة؟ ومعلوم أنه ليس ذلك بنص وإلا لما قضى بخلافه، ثم رجع عند سماع قولهم: "هب أن أبانا كان حمارًا ألسنا من أم واحدة". وروي عنه أنه أنكر على سمرة حين أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور، وخللها وباعها محتجًا بالقياس على الشحم إذ قال: قاتل الله سمرة أما علم أنه قال عليه السلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها".

قاس الخمر على الشحم في أن تحريمها تحريم لثمنها. ] وروى عنه- رضي الله عنه- أنه جلد أبا بكرة حد القذف حيث جاء شاهدًا على الزنا ولم يكمل النصاب قياسًا على القاذف [، إذ الشاهد لا يعد قاذفًا حتى يكون مندرجًا تحت النص. واشتهر عنه- رضي الله عنه- أنه كان يقول في كثير من الوقائع: هذا ما رأى عمر، وهذا ما أرى الله عمر، وروى عنه انه ورث المبتوتة بالرأي. ولما تردد في قتل الجماعة بالواحد قال له علي- رضي الله عنه-: "أرأيت لو اشترك نفر من سرقة أكنت تقطعهم؟ قال: نعم فكذا هذا"

فرجع عمر- رضي الله عنه- إلى مقتضى هذا القياس. وروى عن عثمان- رضي الله عنه- أنه قال لعمر في بعض الوقائع: "إن اتبعت رأيك فرأيك رشيد، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان". والاستدلال به بلفظ الرأي كما تقدم. وأيضًا لو كان في المسالة نص لما صوبهما، وكان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول: لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضاء الصالحين وإن لم يكن شيء من ذلك فاجتهد رأيك".

وروي عن علي- رضي الله عنه- أنه قال في شارب الخمر: "إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون فحدوه حده". جعل مظنة الشيء قائمًا مقام الشيء وهو قياس. وروى عنه- رضي الله عنه- أنه قال: سألني عمر عن الخيار فقلت: إن اختارت زوجها فهي واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحده بائن فقال عمر- رضي الله عنه-: لا بل إن اختارت نفسها فهي واحدة وزوجها أحق بها، قال: فتابعته فلما أفضى الأمر إلي علمت أني أسأل عن ذلك فعدت إلى قولي فقيل لي: لرأيك مع رأي غيرك أحب إلينا من رأيك وحدك". وعنه- رضي الله عنه- أنه قال في أمهات الأولاد: "اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن، وقد رأيت الآن بيعهن فقال له عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك". ويروي عنه وعن عثمان أيضًا توريث المبتوتة بالرأي.

وروي عنه أنه قال لعمر في قصة المجهضة، أما المأثم فأرجو أن يكون منحطًا عنك، وأما الدية فأرى عليك غرة عبد أو أمه". وروي عنه عبد الله بن مسعود أنه قال في قصة بروع بنت واشق بعد أن استمهل شهرًا فيها: "أحكم فيها برأي فإن أصبت فمن الله ورسوله وإن أخطأت فمني والشيطان الرجيم والله ورسوله بريئان عنه". وعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه أنكر على علي بن أبي

طالب- رضي الله عنه- حين أوجب دية الأصابع مختلفة لاختلاف منافعها وقال: ألا اعتبرها بالأسنان. وعنه أنه قال لزيد بن ثابت حين ورث الأم ثلث ما بقى في مسألة زوج وأبوين: أنت وجدت في كتاب الله ثلث ما يبقى؟ فقال زيد: أقول برأيي وتقول برأيك. وعنه أيضًا أنه قال له في مسألة الجد مع الأخوة: "ألا يتق الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا"، ومعلوم أنه ليس إنكاره، على تسميته ابنًا وعدم تسميته ابنا وعدم تسميه الجد أبًا؛ لأنه ما سمي الابن ابنًا بطريق الحقيقة، وعبد الله بن عباس لا يذهب عليه من تقدمه في معرفة لسان العرب أن الجد لا يسمى أبا بطريق الحقيقة بل على وجه التجوز، ولهذا يصح نفى اسم الأب عنه فيقال: ليس هو أبًا للميت ولكنه جده حتى ينكر عليه ذلك، بل أنكر عليه من حيث إنه جعل ابن الابن في حكم الابن في الحجب ولم يجعل أب الأب في حكم الحجب فيه، ومعلوم أن ذلك ما كان بالنص بل بالقياس؛

لأنه أومأ إلى وجه الجامع ولو كان ذلك لمخالفة النص لأومأ إليه وذكر النص الذي خالفه. وروي عنهم أنهم اختلفوا في مسائل وقالوا فيها أقوالًا لا يمكن أن تكون تلك الأقوال إلا عن القياس وذلك يدل على أنهم عملوا بالقياس، واعلم أن تلك المسائل كثيرة يطول استقصاؤها فلنذكر بعضها: أحدها: أنهم اختلفوا فيما إذا قال الرجل لامرأته: أنت على حرام: فقال أبو بكر وعمر وعائشة: إنها يمين تلتزم فيه الكفارة. وقال علي وزيد وابن عمر هو طلاق ثلاث. وقال ابن مسعود هو طلاق واحد. وعلى هذا ما اختلفوا في أنه بائن أو رجعى. وعن ابن عباس أنه ظهار. وعن بعضهم أنه إيلاء.

وعن مسروق: أنه ليس بشيء، لأنه تحريم لما أحل الله تعالى وصار كما قالوا لقصعة من الشريد: "هذا على حرام" فأنه ليس بشيء وفاقًا فكذا هذا. وروي هذا القول أيضًا عن علي- رضي الله عنه-. وثانيها: أنهم اختلفوا في الجد مع الأخوة: فبعضهم حجب الأخوة بالجد. وبعضهم ورثهم معه، وهؤلاء اختلفوا. فمنهم من جعل الجد كأحدهم يقاسمهم ما لم ينقص حقه عن الثلث عندما لا يكون معهم ذو فرض، فإن نقص حقه عن الثلث أخذ الثلث وقسم الباقي عليهم؛ لأن الجد والأم إذا اجتمعا أخذ الجد مثلى ما أخذه الأم؛ لأنها لا تأخذ إلا الثلث، ثم الأخوة لا ينقصون الأم من السدس فوجب أن لا ينقصون الجد من ضعف السدس وإن كان معه ذو فرض آخر فيجعلون له خير الأمور الثلاثة من المقاسمة أو ثلث ما بقى من المال بعد أخراج فرائض/ (138/ أ) أصحاب الفروض أو سدس جميع المال؛ لأن أبناء الميت لا ينقصون الجد عن السدس فأخوته أولى أن لا ينقصوه عنه. ومنهم من لم يقل بهذا التفصيل بل ذهب إلى غيره. وكان عمر- رضي الله عنه- قضى في الجد بقضايا مختلفة ونقل عنه أنه

أوصى في مرض موته أن لا ينقل عنه فيه شيء. وثالثها: أنهم اختلفوا في المسألة المعروفة "بالخرقاء" وهي أم وأخت وجد: فذهب زيد بن ثابت: أن للأم الثلث والباقي يقسم بين الجد والأخت أثلاثًا. وعند الصديق- رضي الله عنه- للأم الثلث والباقي للجد. وعند عمر- رضي الله عنه- للأخت النصف وللأم ثلث ما يبقى والباقي للجد. وعند عثمان- رضي الله عنه-: لكل واحد منهم الثلث. وعند علي- رضي الله عنه- للأخت النصف وللأم الثلث وللجد السدس. وعند ابن مسعود- رضي الله عنه-: للأخت النصف، والباقي بين الجد والأم بالسوية.

ويروى عنه غير هذا مثل مذهب عمر- رضي الله عنه-. ورابعها: أنهم اختلفوا في المشركة: فذهب بعضهم إلي التشريك بين أخوة الأب والأم وبين أخوة الأم فيما هو فرضهم وهو الثلث, ولهذا تسمى بالمشركة. وذهب بعضهم إلى أنه لا شيء لأخوة الأب والأم؛ لأنهم عصبات والعصبة إنما تأخذ إذا فضل من أصحاب الفروض وهنا لما يفضل شيء فلم تأخذ. وخامسها: أنهم اختلفوا في الخلع في أنه هل هو طلاق أم فسخ؟ فذهب عمر وعلي- رضي الله عنهما- إلى أنه طلاق.

وذهب ابن عباس وغيره إلى أنه فسخ. وعن عثمان- رضي الله عنه- روايتان مثل المذهبين وأمثال هذه المسائل كثيرة لاسيما في الفرائض فنقول: اختلافهم وأقاويلهم المختلفة فيها إما لا لدليل وهو باطل؛ لأن القول في الدين بغير دليل باطل جلي الباطلان فلا يظن بهم ارتكابه. أو لدليل وهو: إما العقل, وهو أيضًا باطل, لما تقدم من بطلان التحسين والتقبيح, ولأن من الظاهر أن العقل لا يستقل بمعرفة ما يوجب القول بهذه الوجوه المختلفة لا ضرورةً ولا نظرًا فلا يكون القول بها بناء عليه. أو البراءة الأصلية وهو أيضًا باطل؛ لأن حكمها في المسألة شيء واحد, وهذه أقاويل مختلفة، أكثرها يخالف حكمها فيستحيل أن يكون بناء عليها. أو النص قولًا كان أو فعلًا جليًا كان أو خفيًا، أو مفهومه موافقًا كان أو مخالفًا، أو غيره من وجوه دلالته, وهو أيضًا باطل؛ لأنه لو كان كذلك لأظهروه إقامة للعذر وردًا على المخالف وإرشادًا إلى الحق جريًا على ما هي

العادة لهم؛ إذ عادتهم جارية بتعظيم نصوص الرسول- عليه السلام- واستعظام مخالفتها، وبشدة الفحص عنها والحث على نقلها وإشاعتها حتى نقلوا منها ما لا يتعلق بها غرض شرعي على ما هي كتب الأحاديث شاهدة بذلك، وذلك يوجب نقل ما يتعلق بالأحكام الشرعية المختلف فيها مع جري المباحثة والمفاوضة في تلك المسائل فيما بينهم بالطريق الأولى بل العادة تحيل كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف عن الجمع الكثير مطلقًا فكيف عمن لا تأخذهم في الله لومة لائم ولو أظهروه لنقل واشتهر لما سبق ولو اشتهر لعرفه المحدثون والفقهاء وهذا ظاهر؛ لأنه لا معنى لاشتهاره إلا أن يكون مشتهرًا فيما بين العلماء، ولما لم يكن كذلك؛ لأنا لم نجد بعد البحث الشديد، والطلب التام من كتبهم، ولم نسمع من أحد منهم مع المخالطة معهم، والسؤال عنهم علمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل بناء على النصوص, فإذا بطل ذلك وجب أن تكون تلك الأقاويل بناء على الأقيسة وذلك هو المطلوب، فثبت بهذه الروايات والاختلافات أن العمل بالقياس كان شائعًا ذائعًا فيما بينهم. وأما أنه لم يصدر عن أحدهم الإنكار على ذلك فلأنه لو صدر لنقل؛ لأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا فلو أنكره أحد منهم وخالفه لنقل، ولأن توفر الدواعي على نقل الإنكار على مثل هذا الأصل العظيم والاختلاف فيه أكثر من نقله في المسائل الفرعية كما في العول، والربا، والاختلاف في مسألة الحرام، وغيرها فإذا نقل ذلك فهذا أولى، ولو نقل لاشتهر ولعرفه العلماء، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يوجد الإنكار. وأما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون مجمعًا عليه فالدليل عليه: أن سكوتهم إما أن يقال: إنه كان لغير الرضا نحو الخوف، والتقية، أو النظر

والتروي، أو لأن غيره أولى بالإنكار، أو لغيره من الاحتمالات التي تقدمت في كون السكوت لغير الرضا أو للرضا. القسم الأول باطل، أما أنه لا يجوز أن يكون للخوف والتقية؛ فلأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق وأنهم لا تأخذهم في ذلك لومة لائم لاسيما فيما لا يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل، وكيف يحتمل هناك الخوف والتقية مع ما علم من حالهم أنهم يرون الإنكار في محله إرشادًا، ويفرحون بالإرشاد والتنبيه على الحق، ولهذا قال عمر- رضي الله عنه-: "لولا علي لهلك عمر". وأيضًا، فلأن بعضهم خالف البعض في كثير من المسائل ولو كان هناك خوف مانع من ذلك لما وقع ذلك. لا يقال: القياس أصل عظيم نفيًا وإثباتًا فكان الاختلاف والإنكار في/ (139/ أ) ذلك أصعب فربما يكون الإنكار في ذلك سببًا للعداوة دون تفاريع الفقه، لأنا نقول: هذا يقتضي بأن الإنكار في ذلك أولى؛ لأن

المحذور فيه أكثر ونحن نعلم من حالهم أن كلما كان المنكر أعظم كان همهم لإزالته أشد، وإنكارهم عليه أكثر فهذا بأن يكون لنا أولى من أن يكون علينا، وأيضًا تعارض الكيفية بالكمية، فإن القياس وإن كان أصلًا عظيمًا لكن النزاع فيه نزاع في مسألة واحدة، والنزاع فيما خالفوا من المسائل نزاع في مسائل كثيرة، ونحن لا نسلم أنه بتلك الكيفية يصير أولى بعدم الإنكار من تلك المسائل بأسرها. وأما أنه لا يجوز أن يكون للنظر والتروي؛ فلأن ذلك وإن كان محتملًا في أول الأمر لكنه خلاف الظاهر بعد انقضاء المدة المديدة، والأعصار الطويلة في مسألة واحدة لاسيما من جماعة عظيمة موفقين بالغين في الفطنة والذكاء. وأما أنه لا يجوز أن يكون سكوتهم عن الإنكار لأن غيرهما أولى به؛ فلأنه إن لم يجوز السكوت لمثل هذا العذر، لأنه يفضى إلى التواكل فقد سقط هذا الاحتمال بالكلية، وإن جوز فكذلك؛ لأنه إن لم يحصل هناك واحد هو أولى بالإنكار كان اتفاقهم على هذا الاعتقاد وترك الإنكار اتفاقًا على الخطأ، وهو باطل وإن حصل فالظاهر إنكاره وإلا لزم اتفاقهم على ترك الإنكار وهو خطأ فلزم اتفاقهم على الخطأ أيضًا. وأما أنه لا يجوز أن يكون لغيره من الاحتمالات نحو أن يقال: أنه كان في تواطئهم ما يمنع من إظهار الإنكار مع ظهور قرائن السخط عليهم [أو] أنهم كانوا ينتظرون فرصة التمكن ولا يرون المبادرة إليه مصلحة، أو لأنهم ربما ظنوا أنهم لو أنكروا لم يلتفت إليهم ولحقهم بسببه ذل لما تقدم، وأما امتناعهم عن ذلك لاحتمال أنهم يرون أن كل مجتهد مصيب فباطل أيضًا؛ أما أولًا: فلأن هذه المسألة ليست من المسائل الاجتهادية. وأما ثانيًا: فلأن ذلك يمتنع من الإنكار على وجه التوبيخ والتثريب، فأما

على وجه الإرشاد والعرض على أن غيره أولى منه فلا بدليل وقوعه في كثير من المسائل الفرعية وإذا بطل القسم الأول تعين أن يكون سكوتهم للرضا وحينئذ يلزم أن يكون العمل بالقياس مجمعًا عليه فيما بين الصحابة فوجب أن يكون حقًا لما تقدم من أن الإجماع حجة. فإن قيل: لا نسلم أن أحدًا من الصحابة عمل بالقياس؛ وهذا لأن عملهم بذلك إنما يثبت على وجه القطع بتقدير القطع بصحة متن ما ذكرتم من الروايات وهو ممنوع؛ فإن الروايات المذكورة لم تنته إلى حد التواتر، وإلا حصل العلم بصحتها للكل، أعني الموافق والمخالف، ولما لم يكون كذلك علمنا أنه لم ينته إلى حد التواتر وحينئذ لم يمكن القطع بصحة متنها. لا يقال: الأمة في هذه الروايات على قولين: منهم من قبلها، واعترف بدلالتها على القياس. ومنهم من أولها، وذلك يقتضي اتفاقهم على صحة متنها؛ لأنا نقول: قد مر أن ذلك لا يفيد القطع بصحة المتن، وإن كان يفيد غلبة الظن بصحته، وبتقدير دلالتها على المطلوب على وجه القطع وهو أيضًا ممنوع؛ لإن حاصل ما ذكرتم من الاستدلال عليه إنما هو الاستدلال بلفظ الرأي، واختلافهم وكثرة أقاويلهم في المسائل المختلف فيها، وشيء منهما لا يدل عليه على وجه القطع. أما الأول: فلأنا لا نسلم أن الرأي هو القياس، وما ذكرتم من الدلالة عليه في الوجه الأول فغايته أنه يدل على أنه ليس من قبيل النص، ولا يلزم من ذلك أن يكون قياسًا، لاحتمال أن يكون المراد منه مدركًا آخر غير النص والقياس.

وأما الوجه الثاني وهو تسمية أصحاب القياس بأصحاب الرأي فلا يدل أيضًا على أن الرأي في أصل وضعه للقياس؛ لاحتمال أن يكون ذلك للعرف الطارئ إما خاصًا أو عامًا. سلمنا دلالة ما ذكرتم على أن الرأي هو القياس لكن عندنا ما يدل على أنه ليس في أصل وضعه للقياس، وهو: أن الرأي مصدر قولهم رأي يرى رؤية [وذلك] يدل على أن الرأي بمعنى الرؤية، فلو كان حقيقة في القياس أيضًا لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل. وإذا ثبت أنه في أصل وضعه ليس للقياس وجب أن لا يكون له بطريق النقل أيضًا؛ لأنه خلاف الأصل، ولأن قولنا: "فلان يرى" لا يفيد أنه يقيس؛ بدليل أنه يصح استعماله فيما يعتقده الإنسان من مدلولات النص، ودليل العقل؛ إذ يصح أن يقال: فلان يرى عدم جواز بيع الرطب بالتمر، ويرى جريان الربا في الأشياء الستة مع أن هذين الحكمين مدلولا النص، وإذا كان قولنا: يرى لا يفيد ذلك مع أنه مشتق منه وجب أن لا يفيد هو أيضًا ذلك؛ لأن المشتق لا بد وأن يدل على ما دل عليه المشتق منه. سلمنا دلالة ما ذكرتم عليه لكن دلالة ظنية، أو قطعية؟ والأول مسلم لكنها لا تفيد، والثاني ممنوع.

وأما اختلافهم في تلك المسائل وغيرها فلا نسلم أنه كان بناء على القياس، ولم لا يجوز أن يكون ذلك لنصوص ظنت دليلًا عليها سواء أصابوا في ذلك أو أخطأوا، أو لوجوه دلالتها من/ (140/ أ) مفهومها الموافق، أو المخالف، أو إشارتها، أو اقتضائها، وحمل المطلق منها على المقيد، وترجيح الخاص منها على العام، وترجيح الواحد منها على الآخر بوجوه من التراجيح الخفية؟ قوله: لو كان كذلك لأظهروه. قلنا: متى يجب ذلك إذا كان ما تمسكوا به ظاهرًا جلى الدلالة قاطع المتن، أو قريبًا منه يغلب على الظن انتفاع السامع به، أو مطلقًا؟ والأول مسلم، فلعل ما تمسكوا به في تلك المسائل لم يكن بهذه الصفات ولذلك لم يظهروه. والثاني ممنوع؛ وهذا فإن بتقدير أن يكون ضعيف المتن، خفى الدلالة، لا فائدة في إظهاره إذ الخصم ربما ينازع في متنه، وفي دلالته فلا فائدة في إظهاره فلا يجب ذلك. سلمنا ذلك لكنه معارض بمثله، فإنه لو كان ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه لأجل القياس لأظهروه، لكنهم لم يظهروا ذلك وإلا لنقل واشتهر، ووصل إلى الموافق والمخالف، ولما لم يكن كذلك علمنا أنهم لم يظهروه كما ذكرتم في النص حذو القذة بالقذة فلم يكن ذلك للقياس فليس الاستدلال بهذا الطريق على نفي النص أولى من الاستدلال به على نفى القياس وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون.

سلمنا وجوب الإظهار لكن لا نسلم أنهم لم يظهروه. قوله: لو أظهروه لنقل واشتهر. قلت: لا نسلم؛ وهذا لأنه ليس من الوقائع الكبار التي يمتنع أن لا تتوفر الدواعي على نقلها، وحينئذ يجوز أن لا ينقل. قوله: نعلم من حالهم شدة الحث على نقل النصوص حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به غرض فهذا أولى بذلك. قلنا: هذا يقتضي أولوية النقل لا وجوبه، فلم قلتم أنه يجب نقله [فلعله لم ينقل وإن كان أولى بالنقل]. سلمنا وجوب نقله لكن من السلف أو مطلقًا؟ والأول مسلم، لكن ذلك لا يوجب وصوله إليه لاحتمال أن يقال: إنهم نقلوا ذلك لكن الخلف أخلوا بذلك النقل. والثاني ممنوع؛ وهذا فإن شدة الاهتمام على النقل إنما هو معلوم من حال السلف دون الخلف، وأما نقل ما لا يتعلق به غرض لا يرد نقضًا؛ لأنا لا نقول: أن كل ما لا تتوفر الدواعي على نقله فإنه يمتنع نقله [حتى يرد ذلك نقضًا علينا بل نقول: إنه لا يجب نقله] وهو غير مستلزم له؛ لأن العام لا يستلزم الخاص. سلمنا أنه مما تتوفر الدواعي على نقله، لكن ندعي أن ذلك مما يقتضي نقله متواترًا، أو ندعي أنه يقتضي نقله في الجملة ولو بطريق الآحاد، والأول ممنوع؛ وهذا لأن ساذر معجزات الرسول- عليه السلام- غير القرآن العظيم مع جلالة قدرها، وغرابة أمرها لم تنقل نقلًا متواترًا.

والثاني مسلم، لكن لم قلت: إنه ما نقل بطريق الآحاد فلعله نقل بطريق الآحاد لكنه ما وصل إلينا فإنه ليس كل ما نقل بطريق الآحاد وجب وصوله إلينا. سلمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل بناء على النص، لكن لم قلتم أنهم قالوها بناء على القياس، وما الدليل على نفى الواسطة؟ وهذا لأن الواسطة حاصلة بينهما وهي ما عرفت من قبل. سلمنا أن بعضهم عمل بالقياس لكن لا نسلم أنه لم يصدر عن أحد منهم الإنكار على ذلك. قوله: لو صدر لنقل. قلنا: لا نسلم وقد عرفت سنده. قوله: توفر الدواعي على نقل الإنكار فيه أكثر من نقله في مسألة العول والربا ومن نقل الخلاف في مسألة الحرام وأمثالها. قلنا: أولًا لا نسلم ذلك؛ وهذا لأن مسيس الحاجة إلى معرفة أن العول هذا هو جارٍ في قسمة المواريث أم لا؟ وأن ربا الفضل هل هو جارٍ في المطعومات أو المكيلات والموزونات أم لا؟ أكثر من معرفة كون القياس جاريًا في الأحكام أم لا؟ وهذا [لأن] النوع الأول يحتاج إلى معرفته المجتهد وغيره في كل وقت ولحظة بخلاف الثاني، فإنه لو احتيج إليه فإنه لا يحتاج إليه إلا المجتهد على الندور، ولأنه إنما نقل إنكارهم في مسألة العول وربا الفضل؛ لأنه وقع على موافقة النص الصريح والإجماع، والإنكار في مسألة القياس ليس كذلك فإنا لا ندعي في هذا المقام أن صريح نص يقتضي المنع من القياس حتى يقال: إن إنكاره أيضًا موافق للنص، بل ندعي أنه لا دليل على

جواز العمل به وحينئذ يكون توفر الدواعي على نقله أكثر ولا يلزم من نقل ذلك الإنكار نقل الإنكار في القياس. سلمنا أن توفر الدواعي على نقله أكثر لكن ذلك لا يوجب نقله وإن كان يوجب أن يكون أولى في النقل كما تقدم. سلمنا أنه يوجب نقله لكن لا نسلم أنه لم ينقل إلينا؛ وهذا لأنه نقل إلينا إنكارهم العمل بالقياس تارة، (و) أخرى إنكارهم العمل بالرأي، والرأي هو القياس على ما ذكرتم: روى عمر- رضي الله عنه- أنه قال: إياكم والمكايلة، قيل: وما المكايلة؟ قال: "المقايسة". وعن شريح أنه قال: كتب إلي عمر- رضي الله عنه- وهو يومئذ قاض من قبله: "اقض بما في كتاب الله فإن جاءك ما ليس فيه، فاقض بما في سنة رسوله، فإن جاءك ما ليس فيها، فاقض بما اجتمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد فلا عليك أن تقضي" ولو كان غير هذه النكتة مدركًا لما قال ذلك.

وعن علي- رضي الله عنه- أنه قال: "لو كان هذا الدين مأخوذًا بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره"، ونقل هذا بعينه عن/ (141/ أ) عثمان- رضي الله عنه- أيضًا. وقال ابن مسعود: "يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤوسًا جهالًا يقيسون الأمور برأيهم". وقال أيضًا: "إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرًا مما حرم الله وحرمتم كثيرًا مما أحل الله". وقال ابن عباس- رضي الله عنه-: "إياكم والمقاييس، فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس".

ومثله نقل عن التابعين. قال الشعبي: "إن أخذتم بالقياس، أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال". وقال لرجل: "لعلك من القائسين". وقال ابن سيرين يذم القياس، ويقول: "أول من قاس إبليس". وقال مسروق: "لا أقيس شيئًا بشيء، أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها" هذا كله إنكارهم للعمل بالقياس. وأما إنكارهم العمل بالرأي فقد روى لنا عنهم أيضًا: قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-: "أي سماء تظلمني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي؟ ".

وعن عمر رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا". وعنه: "من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه". ويروي هذا عن علي- رضي الله عنه- أيضًا. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-:"إن الله تعالى لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه في دينه، ولو جعل ذلك لأحد لجعل ذلك لنبيه لكن قال لنبيه: {احكم بينهم بما أنزل الله} ولم يقل:"بما رأيت". وقال ابن عمر- رضي الله عنهما- السنة بما سنه الرسول- عليه السلام- لا تجعلوا الرأي سنًة للمسلمين". وعنه أيضًا: "اتهموا الرأي على الدين فإن الرأي منا تكلف وظن، وأن

الظن لا يغني من الحق شيئًا". وعنه أيضًا: "إن قومًا يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون". وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: (أخبر زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتواه بالرأي في مسألة العينة". وعن الشعبي أنه قال: "ما أخبرك عن أصحاب أحمد فأقبله، وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش". سلمنا إن بعضهم عمل بالقياس، ولم يظهر عن أحد منهم الإنكار في ذلك لكن لا نسلم أنه يحصل الإجماع بذلك. قوله: "السكوت لم يكن عن خوف وتقية لما علم من شدة انقيادهم للحق وأنهم لا تأخذهم في ذلك لومه لائم، قلنا: لا نسلم أنه خوف ولا تقية. قال النظام في هذا المقام: "الصحابة ما أجمعوا على القياس بل العامل به قوم معدودون وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وأبو موسى، وناس قليلون من أصاغر الصحابة، والتابعون ما كانوا عاملين به، ولكن لما كان منهم عمر وعثمان

وعلي، وهؤلاء سلاطين الصحابة، ومعهم الرغبة والرهبة، شاع ذلك في الدهماء، وانقادت لهم العوام وجاز للباقين السكوت على التقية؛ لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول فيه". قال: والذي يدل عليه: أنه قال في الفتيا عبد الله بن عباس والعباس أكبر منه، ولم يقل في الفتيا شيئًا من غير عجزٍ ولا عي ولا غيبة عن شيء شهد ابنه. وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير، والزبير أعظم منه، ولم يقل فيه شيئًا. وكان أبو عبيدة ومعاذ بن جبل بالشام، فقال معاذ ولم يقل أبو عبيدة مع أن أبا عبيدة أعظم منه، إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبو عبيدة أمين هذه الأمة). وكيف يقال: إن الخوف والتقية زائلة مع أنا نعلم أن الرجل إذا اختار مذهبًا، فلو أن غيره أبطل عليه ذلك المذهب فإنه يشق عليه غاية المشقة ويصير ذلك سببًا للعداوة الشديدة.

وكيف يقال: إنهم ما كانوا يمتنعون عن إظهار الحق بسبب الخوف والتقية مع أن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: "هبته ولقد كان والله مهيبًا. سلمنا حصول الإجماع بذلك، لكن نوع واحد من أنواع الأقيسة أو على جميع أنواعها؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع ولا يمكن دعواه، ثم لا نوع إلا ويحتمل هو ذلك النوع ويحتمل أن لا يكون؛ لأنه لم ينقل إلينا النوع الذي أجمعوا عليه بعينه، وحينئذ يصير كل أنواعه مشكوكًا فيه في أنه حجة أم لا؟ فلا يجوز التمسك بشيء من أنواعه. سلمنا حصول الإجماع على نوع معين، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك النوع هو القياس الذي نص على عليته، أو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإن أمثال هذا القياس حجة عندنا؟ سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس مطلقًا لكن في زمان الصحابة أم مطلقًا؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع، وهذا لما سبق غير مرة. وأيضًا فإنهم شاهدوا الرسول والوحي- فربما عرفوا بقرائن الأحوال: أن المراد من الحكم الخاص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة، فلا جرم جاز منهم تعدية الحكم إلى غيرها من الصور، وأما غيرهم لما لم يكونوا مثلهم في هذا المعنى فلم يجوز لهم ذلك؟

سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل به مطلقًا لكن لا نسلم أن الإجماع حجة. سلمنا أنه حجة لكن ظنية والمسألة علمية فلا يجوز التمسك به عليها. سلمنا دلالة ما ذكرتم على جواز العمل بالقياس لكنه معارض بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول/ (142/ أ). أما الكتاب: فنحو قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، {ولا تقف ما ليس لك به علم} والحكم بالقياس قول بما لا يعلم، واقتفاء لما لا يعلم. وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} و {إن بعض الظن إثم} والقياس لا يفيد إلا الظن، فلو كان ما أفاده القياس حقًا لكان الظن أغنى من الحق شيئًا، وهو مناقض لمدلول النص. وقوله: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فهاتان الآيتان تدلان على اشتمال الكتاب على كل الأحكام، ومع وجود الحكم في الكتاب لا يجوز القياس.

وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله؛ لأنه حكم بغير قولهما. وقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وقوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله تعالى وبغير ما أراه الله. وقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله} والمراد الرد إلى قول الله وإلى قول الرسول، والرد إلى القياس رد إلى غير القولين. وأما السنة فخبران: أحدهما: ما روي عن عمر- رضي الله عنه- عن النبي-عليه السلام- أنه قال: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام".

وهو إنكار صريح على العمل بالقياس. وثانيهما: ما رواه أبو هريرة عن النبي- عليه السلام- أنه "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، وبرهة بسنة رسوله، وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وأضلوا" وهو أيضًا يدل على عدم جواز العمل بالقياس. وأما الإجماع: فهو أنه نقل عن بعض الصحابة بل عن كثير منهم التصريح بذم الرأي والقياس- على ما تقدم بيانه- ولم يظهر من الباقين الإنكار على ذلك فكان إجماعًا بعين ما ذكرتم. وأيضًا: فإن المشهور المستفاض أن مذهب أهل البيت إنكار القياس وذم من يعمل به، وقد تقدم أن إجماع العترة حجة. وأما المعقول، فهو: أن لو وقع التعبد بالقياس في الشريعة لما كان الاختلاف والتنازع منهيًا عنه، لكنه منهي عنه والعمل بالقياس غير جائز. أما بيان الملازمة: فهو: أن العمل بالقياس يقتضي اتباع الأمارات، وذلك يقتضي وقوع الاختلاف- لا محالة- للاستقراء، ولأن اختلاف العقلاء في الضروريات ممتنع أو بعيد فكذلك اتفاقهم في الظنيات ممتنع أو بعيد.

وأما بيان انتفاء اللازم: فهو بقوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا}. وأيضًا فإن الرجل إذا قال: "أعتقت غنمًا لسواده، فقيسوا عليه" لم يعتق سائر عبيده السود، فضلًا عما إذا لم يصرح بالأمر بالقياس وذلك يدل على عدم وقوع التعبد بالقياس في الشريعة ولا يعتق سائر عبيده كما إذا قال أعتقت كل عبد أسود لي. الجواب قوله: لا نسلم أن أحدًا من الصحابة عمل بالقياس. قلنا: هذا منع مكابرة، فإن من المعلوم بالضرورة بعد مطالعة كتب الأخبار والآثار والفقه ومطالعة ما نقل عنهم من الاختلاف والإلحاقات والتشبيهات في المسائل المتقدمة وغيرها نحو ما نقل عن علي- رضي الله عنه- أنه شبه الجد والأخوة بغصني شجرة، وشبههما زيد بن ثابت

بجدولي نهر فشركا بينهما. وألحق علي- رضي الله عنه- الشارب بالقاذف، والقاتل بالسارق. وألحق عمر- رضي الله عنه- مرة الجد بالأب فلم يعط شيئًا. وألحقه ابن عباس- رضي الله عنهما- به فأنكر على زيد في عدم الإلحاق وقال: (ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا) ومن المعلوم أن الإنكار ليس لكونه لا يسميه أبًا مجازًا، فإن ترك التجوز لا يوجب الإنكار والنسبة إلى مفارقة التقوى وفاقًا، فأما ترك القياس الشرعي لا سيما الجلي منه فإنه يوجب الإنكار والنسبة إلى مفارقة التقوى، لكون الترك بمقتضى الدليل عند خلوه عن المعارض محرمًا، فأما ترك التجوز مع وجود ما يوجب حسنه ليس بمحرم وفاقًا، وغيرها من الإلحاقات والتشبهات عمل بعضهم بالقياس فإن كل واحد من هذه الروايات وإن لم تكن متواترة لكنا نعلم قطعًا أن كلها ليست بكاذبة وأن شيئًا منها

صحيح وأي واحد منها صح لزم حصول العلم الضروري بعمل بعضهم بالقياس. والمخالف أيضًا ما أنكر عمل بعضهم بالقياس بل هو معترف بذلك كما سبق من النظام، ولكن تارة يمنع أن الإجماع حجة، وتارة يمنع عدم الإنكار من الباقين، وتارة يمنع أن يكون الإجماع السكوتي حجة، فأما عمل بعضهم بالقياس فلا، وبهذا خرج الجواب أيضًا عن قوله: إن دلالتها على المطلوب ليست قطعية؛ لأن تلك الروايات بأسرها مشتركة في الدلالة على أن بعضهم عمل القياس ويرى العمل بالقياس فيرجح حاصل دلالتها على ذلك إلى/ (143/ أ) التواتر المعنوي وهو قطعي. قوله: لا نسلم أن الرأي هو القياس. قلنا: الدليل عليه ما تقدم. قوله على الوجه الأول: أنه لا يدل على أنه القياس، وإن دل على أنه غير النصر. قلنا: قد ذكرنا أنه يلزم من ذلك أن يكون الرأي هو القياس لأن كل من قال: الرأي مدرك آخر غير النص قال: إنه القياس، فالقول بأن الرأي مدرك آخر غير النص والقياس خلاف الإجماع. قوله على الوجه الثاني: إنه يدل على أن الرأي في أصل وضعه للقياس. قلنا: نحن لا ندعي ذلك بل ندعي أنه للقياس إما في الأصل وضعه، أو بطريق النقل من الشرع، أو من العرف العام، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.

قوله: النقل والاشتراك خلاف الأصل. قلنا: مسلم لكنه يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، والدليل وهو الإجماع قام على أن الرأي عبارة عن القياس، وهذا لأنا روينا عنهم كلامًا كثيرًا أنهم عملوا بالرأي وقلنا الرأي هو القياس، وأنتم رويتم عنهم أيضًا كلامًا كثيرًا في ذم الرأي وقلتم الرأي هو القياس، وساعدناكم على ذلك، وذلك يدل على أن الرأي هو القياس وفاقًا، فأما أن ذلك باعتبار أصل وضعه، أو باعتبار النقل فذلك مما لا حاجة لنا إليه وإن كان الأظهر أن ذلك بطريق النقل. قوله: قولنا: "فلان يرى" لا يفيد أنه يقيس وذلك يدل على أن الرأي ليس هو القياس. قلنا: لا نسلم أنه مشتق من الرأي الذي هو بمعنى القياس بل هو عندنا مشتق من الرأي بمعنى الرؤية فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ قوله: دلالة ما ذكرتم عليه قطعية أم ظنية، قلنا: قطعية وتقريره على ما تقدم. سلمنا أنها ليست قطعية بل هي ظنية لكن لا نسلم أنها لا تفيد، وهذا لأن المسألة عندنا ظنية على ما سبق غير مرة وعند هذا القول: هب أن الروايات المذكورة غير مقطوع بها بصحة المتن، وغير مقطوعة الدلالة على المطلوب لكن لا نزاع في أنها تفيد الظن، فإنها لا تقصر عن خبر الواحد

فيجوز أن يتمسك بها في المسألة. قوله: لا نسلم أن أختلافهم في تلك المسائل كان بناًء على القياس، قلنا كما تقدم. قوله: فلعل ما تمسكوا به في تلك المسائل ليس بظاهر يغلب على الظن انتفاع السامع به. قلنا: الدليل الذي ليس لظاهر لا يجوز التمسك به كالمجمل بل لابد أن يكون ظاهر الدلالة على المطلوب إما بنفسه، أو بغيره من البيان الذي يظهره، ولا يشترط في قبول النص أن يكون قاطع المتن أو قريبًا منه، بل ما يغلب على الظن صحة متنه لما ثبت أن رواية الآحاد مقبولة فإن كانت بحيث يغلب على الظن صحة متنه وهو ظاهر الدلالة جاز التمسك به ويجب إظهاره وإن لم يكن بهذه الحيثية لم يجز التمسك به [ولم يجب] إظهاره فلم يختلف حكم النص في جواز التسمك به وعدم وجود الإظهار. قوله: لو كان ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه لأجل القياس لأظهروه أيضًا كما ذكرتم في صورة النص. قلنا: نعم لكن لا نسلم أنهم لم يظهروه؛ وهذا لأن منهم من أظهر ذلك وصرح به كأبي بكر- رضي الله عنه- فإنه صرح بعلة التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم حيث قال: "إنما الدنيا بلاغ" وكعلي في حد شارب الخمر حيث قال: "إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون".

وكعثمان وعبد الرحمن بن عوف في قصة المجهضة حيث ألحقا عمر بالمؤدب وقالا: " وليس على المؤدب شيء". وكعلي وزيد بن ثابت وابن عباس في مسألة الجد مع الأخوة على ما تقدم ذكره. وكما في حديث ابن عباس رضي الله عنه في دية الأصابع، فإنه لما أنكر على علي- رضي الله عنه- صرح بالقياس فقال: "ألا اعتبرها بالأسنان". وكمسروق في مسألة الحرام فإنه صرح بالقياس على قصعة من الثريد. ومنهم من نبه عليه كما في مسألة المشركة وكما في مسألة الجدة حيث قال بعض الأنصار لأبي بكر-رضي الله عنه-: تركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت. وكما في قول علي لعمر- رضي الله عنهما-: أرأيت لو اشترك نفر في سرقة أكنت تقطعهم. وكما في حديث عمر في قياسه الخمور على الشحوم فإنه نبه على أن علة تحريم ثمنها تحريمها. ومنهم من اعتمد على فهم سامع الحكم؛ فإنه يفهم منه علية مأخذه، إذ الحكم قد يبنى عن علته وهذا كما في مسالة الحرام فإنهم جعلوا حكمه حكم الطلاق، أو الظهار، أو اليمين أو الإيلاء على ما هو مذكور في بعض المصنفات لكونه لفظًا موضوعًا للتحريم فيؤثر فيه إذا توجه إلى الزوجة كما في هذه المسائل.

ثم إن من جعله طلاقًا ثلاثًا نزله على أعلى مراتب التحريم أخذًا بالاحتياط وهو بالثلاث ومن جعله طلاقًا واحدًا نزله على أدنى مراتب التحريم وهو بالواحد [ثم] أخذًا بالمتيقن منه وتركًا بالمشكوك فيه، ثم من جعله بائنًا نزله على نهاية مراتب التحريم الذي يحصل بالواحد، ومن جعله رجعيًا نزله على أول مراتبه، ومن جعله ظهارًا فإنما جعله كذلك لكونه مشابهًا له في اقتضاء التحريم، ثم إنه ليس من صرائح الطلاق حتى يجعل طلاقًا من غير نية ولا نية معه؛ إذ الكلام فيه حتى يقع الطلاق على وجه الكناية/ (144/ أ) ثم لا يمكن جعله يمينًا؛ لأن اليمين لا تحرم. ولو سلم أنها تحرم لكن كفارة الظهار أغلظ فجعله ظهارا أخذًا بالاحتياط. ومن جعله يمينًا، فلأن اليمين عنده تحرم فيكون مشابهًا لها في اقتضاء التحريم؛ لأن اليمين عنده تحرم فأوجب فيه كفارتهما أخذًا بالأقل أو بالآية وهي قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وإن كانت دلالتها على صورة النزاع ضعيفة من حيث إنه ليس فيها ما يدل على أن التحريم كان بقوله: أنت على حرام فلعله كان باليمين فحينئذ يكون غير متناول لصورة النزاع.

ومن جعله إيلاءً قال: إنه شابهه من حيث إنه منع نفسه عن وطئها فأشبه المولى فهذه المشابهات والمآخذ ظاهرة تفهم من الحكم بأدنى تأمل فلعلهم لم يظهروها لهذا السبب. سلمنا أنهم لهم يظهروه لكن الفرق بين النص والقياس ظاهر فلا يلزم من [وجوب إظهار النص] وجوب إظهار القياس وبيانه من وجوه: أحدها: أن النص يجب اتباعه ومخالفه مخطئ بالاتفاق بخلاف القياس، فأنه لا يجب اتباعه بل لا يجوز؛ إذ لا يجوز فيه التقليد وليس مخالفه مخطئًا، فإن عندنا أن كل مجتهد مصيب. وثانيها: أن إنكارهم على مخالف النص فوق إنكارهم على مخالف القياس فلم يلزم من ترك أقل الانكارين ترك أعظمهما. وثالثها: أن النص يمكن الإخبار عنه بكل حال من غير عسر لكونه مضبوط وغير محتاج إلى بيان مقدمات كثيرة بخلاف القياس، فإنه قد يتعذر التعبير عنه لتعذر التعبير عن الجامع الذي أفاده ظن الحكم، ولهذا فان المقوم قد يتعذر عليه التعبير عما يفيده ظن القيمة، والمتأخرون من الاصوليين إنما يعبرون عن أصناف الجامع لكون المتأخر في كل علم يلخص ما لا يلخصه المتقدم فيه ويحتاج إلى مقدمات كثيرة من تعليل حكم الأصل، وحصول علته في الفرع، ووجود الشرائط، وارتفاع الموانع، وكل هذه المقدمات قد تكون ممنوعة فلا يحصل الغرض من ذكره، فلا يلزم من وجوب إظهار النص وجوب إظهار القياس.

قوله: إنه ليس من الوقائع العظام التي يمتنع أن لا تتوفر الدواعي على نقلها. قلنا: هب أنه كذلك، لكنه لا يقدح في ادعاء نقل الآحاد وإنما يقدح في ادعاء النقل المتواتر ونحن ما ادعينا وإنما ادعينا نقله آحادًا للعادة والاستقراء. قوله: هذا يقتضي أولوية النقل لا وجوبه. قلنا: أولوية النقل بلا وجوب محال على ما عرف في مسألة التحسين والتقبيح وغيرها. قوله: شدة الاهتمام على نقل النصوص إنما عرفت من عادة السلف دون الخلف. قلنا: لو حصل النقل من السلف ولم يحصل من الخلف لكانوا مجمعين على كتمان الحق وهو يقتضي جواز إجماعهم على الباطل ودليل الإجماع ينفيه، ولأن أطباق الجمع العظيم على عدم النقل مستحيل عادة لا سيما فيما لا يتعلق الفرض بعدم نقله. قوله: ندعي نقله متواترًا وآحادًا. قلنا: عرف الجواب عنه من قبل. قوله: فلعله نقل بطريق الآحاد لكنه ما وصل إلينا. قلنا: المعنى من نقله ووصوله إلينا أن يكون حاصلًا في صدور الرواة والعلماء أو في بطون الدفاتر المصنفة في هذا الباب، فإذا لم يوجد شيء من ذلك لم يكن منقولًا فيلزم إجماع أهل عصر من الأعصار على إخلال نقله وهو ممتنع لما سبق.

قوله: هب أنهم ما قالوا تلك الأقاويل بناء على النصوص فلم قلتم أن تلك الأقاويل كانت بناء على القياس؟ قلنا: للإجماع فإن كل من قال: أن تلك الأقاويل ما كانت بناء على النصوص جلية كانت أو خفية، وعلى البراءة الأصلية قال: إنها كانت بناء على الأقيسة، فالقول بإثبات مدارك أخر لها إذ ذاك قول على خلاف الإجماع فيكون باطلًا، وأيضًا فإن المدارك الأخر التي هي مختلفة بين العلماء ليس لبعضها مدخل في تلك الأقاويل، وبعضها لم يف بتلك الأقاويل فلم يجز أن تكون مبنية عليها. قوله: لا نسلم عدم حصول الإنكار عن أحد منهم على ذلك. قلنا: كما تقدم. قوله: لا نسلم أنه من الوقائع العظام. قلنا: سبق الجواب. قوله: لا نسلم أن توفر الدواعي على نقل الإنكار فيه أكثر من مسألة العول والربا. قلنا: الدليل عليه ما سبق. قوله: أولًا: في سند المنع: مسيس الحاجة إلى معرفة حكم تلك المسائل أكثر. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه لو اعتبر احتياج المجتهد والمقلد إلى المسائل المحتاجة إلى معرفة كون القياس حجة أم لا كان الاحتياج إلى معرفة كون القياس حجة أكثر لا محالة وتزيد بأن الخلاف فيه أشد محذورًا، ولهذا يضلل المخالف فيه. قوله: ثانيًا: الإنكار في تلك المسائل وقع على موافقة النص الصريح. قلنا: القول في الدين بغير دليل مقطوع البطلان، فلو لم يكن في الشرع دليل يدل على أن القياس مدرك شرعي كان القول بالقياس قولًا في الدين بغير

دليل. فكان إنكاره موافقًا للدليل المقطوع به فكان أولى بالنقل. قوله: سلمنا/ (145/ أ) أن توفر الدواعي على نقله أكثر لكن ذلك لا يوجب نقله بل يقتضى الأولوية. قلنا سبق الجواب عنه. قوله: قد نقل إنكارهم العمل بالقياس وذم من يعمل به. قلنا: الذين نقلتم عنهم إنكار العمل بالقياس والمنع منه وذم من يعمل به هم الذين نقلنا عنهم القول بالقياس والرأي صريحًا، ودللنا أيضًا على ذهابهم إلى العمل به في المسائل المذكورة فلابد من التوفيق دفعًا للتناقض، وجمعًا بين الروايتين وذلك بأن يحمل ما ذكرتم من الروايات على الأقيسة التي لا توجد شرائطها، وتحمل الروايات الدالة على جواز العمل به على الأقيسة المستجمعة لشرائطها، وعند هذا نعرف أنه ليس لهم أن يقولوا: إن الروايات الدالة على الذم والمنع منه صريحة بخلاف الروايات الدالة على جواز العمل به فتكون روايات المنع راجحة فيعمل بها لزيادة الرجحان؛ لأنا بينا أن

رواياتنا أيضًا صريحة وتزيد بالدلالة المعنوية على جواز العمل به كما ذكرنا في المسائل المختلف فيها، فتكون روايتنا راجحة فإن لم يكن كذلك فلا أقل من التساوي وحينئذ يتعين التوفيق كما تقدم. فإن قلت: هنا توفيق آخر وهو: أن بعضهم كان قائلًا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرًا، ثم لما انقلب المنكر مقرًا انقلب المقر منكرًا وحينئذ يكون كل واحد منهم قائلًا بالقياس ومنكرًا له من غير تناقض، وتكون الروايتان صحيحتين مع أنه لا يحصل الإجماع على صحته، فلم قلتم أن ما ذكرتم من التوفيق أولى؟ قلت: ما ذكرنا من التوفيق أولى لوجهتين: أحدهما: أنه لو وقع ذلك لنقل واشتهر؛ لأنه من الأمور الغريبة والعجيبة، أو كان في لفظ أحد منهم إشعار بالرجوع عن ذلك كما نقل عنهم في بعض المسائل الرجوع عنها ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يقع. وثانيهما: أن توفيقنا يقتضي بقاء ما كان على ما كان، وتوفيقكم لا يقتضى ذلك بل يقتضى التغيير فكان توفيقنا أولى. قوله: لا نسلم عدم الخوف والتقية. قلنا: قد ذكرنا الدليل عليه. وأما قول النظام: بأن العامل بالقياس إنما هو بعضهم. قلنا: مسلم، لكن سكت الباقون فكان إجماعًا كما تقدم، ونحن في هذا المقام ما ادعينا عمل الكل به حتى يكون ذلك قادحًا في غرضنا. قوله: هم سلاطين الصحابة معهم الرغبة والرهبة.

قلنا: مثل هذا ما كان يمنعهم من المخالفة بدليل أنهم خالفوه في كثير من المسائل كما تقدم. قوله: نحن نعلم أن الرجل العظيم إذا اختار مذهبًا فلو أن غيره أبطل عليه ذلك شق عليه. قلنا: ذلك إنما يكون إذا كان الغرض منه التخطئة وإظهار المزية الفاضلة، فأما إذا كان الغرض منه بيان الحق والإرشاد فلا نسلم ذلك بالنسبة إلى المنصف من الخلف فضلًا عن السلف. قوله: قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: "هبته ولقد كان والله مهيبا". ما يدل على حصول الخوف والتقية؛ لاحتمال أنه هابه لعظم مرتبته في العلم فلا يقدر على تقرير ما عنده، وإن كان ما عنده حقًا ولهذا فإنا نرى المتعلم لا يقدر على تقرير ما عنده عند كثير قدر في العلم لمهابته، ويقدر على ذلك عند أقرانه ونظراته، ومثل هذا المانع لا يدوم إلى آخر العمر ولا يفرض في حق الكل حتى يفرض مثله في السكوت عن الإنكار عن القياس. قوله: حصول الإجماع على كل أنواعه ممنوع، وعلى بعض أنواعه مسلم لكنه لا يفيد. قلنا: الإجماع منعقد على حجية القياس المناسب لا محالة وذلك؛ لأن النوع الذي أجمعوا عليه إن كان هو القياس المناسب فقد حصل الغرض، وإن كان غيره من غير ما نص على علته، ومن غير قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، فإن من المعلوم أنهما غير حاصلين في المسائل المختلف فيها فإنه يلزم منه انعقاد الإجماع على حجية القياس المناسب؛ إذ القول بانعقاد

الإجماع ثمة مع عدم الانعقاد ها هنا باطل وفاقًا، ومنه يعرف الجواب عن قوله: إن ذلك النوع هو نحو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. قوله: إنما يدل على انعقاد الإجماع على جواز العمل به في زمان الصحابة لا غير. قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه لما ثبت أنهم أجمعوا عليه في ذلك الزمان ثبت أنه حق فيه لا يجوز لأحد مخالفتهم في عصر من الأعصار، إذ المجمع عليه على وجه البت لا تجوز مخالفته في وقت ما، وحينئذ يلزم منه أنه حق في سائر الأزمان لا تجوز مخالفته. وثانيهما: أن كل من قال بحجيته في زمان ما من أزمنة شرعنا قال بحجيته في كل زمان فالقول بالفصل بين الزمان قول مخالف للإجماع فكان باطلًا. قوله: لا نسلم أن/ (146/أ) الإجماع السكوتي حجة. قلنا: قد ثبت ذلك. قوله: إنه حجة ظنية والمسألة قطعية. قلنا: ذكرنا غير مرة أن المسألة عندنا ظنية غير قطعية ولو سلم فالجواب ما تقدم في الأوامر وغيرها. وعن المعارضة بالآيات الأربع: الأول من وجوه: أحدها: أنا لا نسلم أن القول بالحكم بالقياس قول بما لا يعلم أو بالظن

وهذا لأنه لما دل القاطع على وجوب العمل بمقتضى الظن الحاصل من القياس كان وجوب الحكم بمقتضى ذلك الظن معلومًا لا مظنونًا. وثانيها: أنها محمولة على الظن الغير المعتبر بأن يكون في المسائل العلمية، أو وإن كان في المسائل الظنية لكن بطرق غير معتبرة، وهذا وإن كان تقييدًا وتخصيصًا لكنه يجب المصير إلى ذلك جمعًا بين الأدلة. وثالثها: أنها حجة على الخصم أيضًا، فإن القول ببطلان القياس ليس معلومًا بل هو مظنون؛ ضرورة أنه لا قاطع على فساده فوجب أن لا يجوز القول به. وعن الآيتين اللتين بعدها ما تقدم في حديث معاذ. وعن الآية السابعة: أنا لا نسلم أن الحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله؛ وهذا لأنه إنما يكون الحكم بالقياس تقدمًا بين يدي الله ورسوله إن لم يكن القياس متعبدًا به بقول الله وقول رسوله وهو ممنوع وحينئذ يكون الاحتجاج بالآية على كونه تقديمًا بين يدي الله ورسوله متوقفًا على عدم كونه متعبدًا به، فإثبات عدم التعبد به دور. وعن الثامنة والتاسعة: بمنع أن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله، أو بغير ما أراه الله تعالى وسنده ظاهر مما تقدم. وعن العاشرة: بمنع أن الرد إلى القياس ليس ردًا إلى قول الله وقول رسوله لما سبق. وعن الخبرين: أنهما محمولان على القياس الفاسد جمعًا بين ما ذكرنا من الأحاديث الدالة على جواز العمل بالقياس. وأما عن الإجماع: فما سبق أن ما روى عنهم في ذم القياس فهو غير مصروف إلى مطلق القياس، بل إلى القياس الفاسد، فحينئذ يكون الإجماع

منعقدًا على عدم جواز العمل بالقياس الفاسد ونحن نقول به لا على مطلق القياس المتناول للصحيح والفاسد. وأما إجماع العترة فممنوع أيضًا؛ وهذا لأنه نقل الزيدية عنهم جواز العمل بالقياس. سلمنا سلامته عن المعارض لكن لا نسلم أن إجماعهم حجة وقد تقدم بيان ذلك. وعن الوجه الأول من المعقول: أنا لا نسلم أن مطلق الاختلاف والتنازع منهي عنه؛ وهذا لأن الاختلاف قد يكون رحمة ولهذا روى عن الرسول- عليه السلام- أنه قال: (اختلاف أمتي رحمة) فكيف يكون منهيًا عنه؟

بل المراد من النهي عن الاختلاف والتنازع حيث ورد إنما هو الاختلاف والتنازع فيما فيه الحق متعين لقاطع كمسائل الأصول نحو إثبات الصانع، والتوحيد وإثبات المعاد والمبدأ وغيرها، فأما ما لا يتعين الحق فيه في واحد بعينه كالمسائل الاجتهادية، أو أن تعين لكن بأدلة ظنية فلا نسلم أن الاختلاف فيه منهي عنه. ويؤكده أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل كثيرة من المسائل الفرعية وكذا التابعون ومن بعدهم هلم جرًا إلى زماننا هذا ولم ينكر أحد من الأمة عليهم، فلو كان ذلك منهيًا عنه لكانوا مجمعين على الباطل وهو ممتنع فالملزوم مثله، وكذا المراد منه التنازع والاختلاف الصادر من غير أهل لذلك الاختلاف، وكذا الاختلاف والتنازع الصادر عن عصبية وتقليد وعناد، وهذا وإن كان تقييدًا للمطلق، أو تخصيصًا للعام لكنه يجب المصير إليه جمعًا بين الدليلين. سلمناه لكنه منقوض بالعمل بالأدلة العقلية والنصوص التي ليست قاطعة المتن والدلالة معًا مع أن الخصم يجوز التمسك بها. وعن الثاني: أنا لو سلمنا الحكم فيه فإنه لا يدل على عدم التعبد بالقياس في أحكام الله تعالى بل إنما يدل على عدم التعبد به في تصرفات العبيد ونحن ما ادعينا ذلك، وليس هو لازم لثبوت القياس في أحكامه تعالى لا قطعًا، ولا ظاهرًا؛ لأنه لو صرح بذلك لم يلزم منه مخالفة ظاهر وإلا لزم التعارض

بينه وبين التصريح وأنه خلاف الأصل، وإن أريد إثباته في أحكامه تعالى بالقياس عليه فذلك إبطال للقياس بالقياس وهو باطل، وإن كان بطريق آخر فاذكروه لينظر فيه. سلمنا سلامته عن هذا الطعن لكن الفرق بين أحكام الله تعالى وبين أحكام العبيد حاصل. وبيانه: من حيث الإجمال والتفصيل: أما الأول: فلأنه لو نص الله تعالى على الحكم وقال: قيسوا عليه فإنه لا نزاع في جواز القياس عليه بخلاف العبد على ما سلمنا لكم ذلك، والاختلاف في الحكم دليل على الاختلاف/ (147/أ) في الحكمة. وأما الثاني فمن وجهين: أحدهما: أن حقوق العباد مبنية على الشح والضنة لكثرة حاجاتهم وسرعة رجوعهم عن دواعيهم وصوارفهم، بخلاف أحكام الله تعالى فإنها على الضد من ذلك فلا يلزم من عدم جريان القياس في أحكام العبيد وتصرفاتهم عدم جريانه في أحكامه تعالى. وثانيهما: أن الشارع إنما جعل القياس متعبدًا به لكون الوقائع لا نهاية لها توجد شيئًا فشيئًا والتنصيص على الكل متعذر، وكذا مراجعة الشارع فيما يقع منها في كل زمان، والتكليف بمقتضى البراءة الأصلية يقتضى نفي الابتلاء الذي هو مقصود الشارع من الشريعة في أكثر الأحكام وهذه المعاني بأسرها منتفية في أحكام العبيد وتصرفاتهم فلا يلزم من وقوع التعبد بالقياس في أحكامه تعالى وقوعه في تصرفات العبيد.

المسألة الرابعة النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس

المسألة الرابعة النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس وإن لم يرد التعبد به عند الإمام أحمد، وجماعة من فقهائنا وفقهاء الحنفية كالكرخى وأبى بكر الرازي، وجماعة من المعتزلة كأبي الحسين البصري والقاشاني والنهربانى والنظام على ما حكي عنه الأكثرون. وكلام الشيخ الغزالي- رحمة الله- في النقل عنه صريح في أنه يرى تعميم الحكم في جميع موارد العلة بطريق اللفظ والعموم، ولا شك في أنه مخالف لنقل الأكثرين ومناف له، فإن التعميم بطريق القياس لا يجامع التعميم بطريق اللفظ فحينئذ لا يكون ذلك أمرًا بالقياس عنده وإن كان الحكم ثابتًا عنده في غير الصورة التي نص عليها.

وذهب المحققون من أصحابنا كالأستاذ أبى إسحاق الإسفرايينى والغزالي والإمام وغيرهم وجماعة من أهل الظاهر وجماعة من المعتزلة كجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وغيرهما إلى أنه لا يفيد ذلك. وفصل أبو عبد الله البصرى بين أن تكون العلة علة لفعل أو علة الترك: فقال في النوع الأول لا يفيد وفي الثاني يفيد. والمختار: أن ذلك لا يفيد ثبوت الحكم في غير الصورة التي نص عليها

لا بطريق اللفظ، ولا بطريق أنه يفيد الأمر بالقياس. أما الأول فالدليل عليه: أنا نعلم بالضرورة من اللغة أن قوله: "حرمت الخمر لكونها مسكرة" غير موضوع لتحريم كل سكر بل هو موضوع لتحريم الخمر لعلة كونها مسكرة وحرمة ما عدا الخمر من المسكرات ليس جزءًا من هذا المفهوم، والعلم بذلك أيضًا ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون دلالته على تحريم كل مسكر لفظية، ضرورة أن الدلالة اللفظية منحصرة في هذين النوعين على رأى، وفي الدلالة المطابقية على رأي. والذي يؤكده: أن الرجل إذا قال: أعتقت غانمًا لسواده وله عبيد أخر سود، فإنهم لا يعتقون عليه وفاقًا، ولو كانت دلالته لفظية قائمة مقام قوله: أعتقت كل عبيدي السود لما كان كذلك بل كانوا يعتقون عليه من غير اعتبار نية ولا علم بقصده. وأما الثاني: فلأن قوله: "حرمت الخمر لكونها مسكرة" يحتمل أن تكون علة حرمته مطلق الإسكار، ويحتمل أن تكون إسكارها؛ وهذا لأن لله تعالى أن يجعل إسكار الخمر لخصوصيته علة التحريم؟ إما لأنه تعالى [علم فيه مفسدة لا توجد في غيره، أو وإن لم يكن كذلك لكن لله أن يجعله علة بالتحريم] ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الإسكار، وإذا احتمل واحتمل لم يجز التعبد به إلا بأمر مستأنف بالقياس. فإن قيل: نحن لا ننازعكم أن قوله: حرمت الخمر لكونها مسكرة غير موضوع في أصل اللغة لتحريم كل سكر لكن لم لا يجوز أن يقال: أنه منقول في عرف الاستعمال إلى تحريم كل مسكر.

ثم الذي يدل عليه: أن الرجل إذا قال لغيره: حرمت عليك السم لكونها قاتلًا، ثم أنه أباح له قاتلًا آخر مما لا يطلق عليه السم فإنه يعد مناقضًا في ذلك، ولولا أنه متناول له لما كان كذلك، وإنما لا يعتق سائر عبيده السود إذا قال: أعتقت غانمًا لسواده وإن كانت دلالته لفظية؛ لأنه غير صريح في ذلك، وكذلك لو نوى ذلك عتقوا عليه على رأى. سلمنا أنه لا يدل عليه بطريق المطابقة والتضمن فلم لا يجوز أن يقال: أنه يدل عليه بطريق الالتزام؟ وقوله: الدلالة اللفظية منحصرة في النوعين. قلنا: المعنى من قولنا: أنه يدل عليه بطريق اللفظ هنا هو أنه مستفاد من اللفظ، أو من فهم معناه عند سماعه ولاشك أن الدلالة اللفظية بهذا المعنى حاصلة كقولنا: حرمت الخمر لكونها مسكرة على تحريم كل مسكر؛ إذ يفهم منه العلة ويلزم من فهم العلة تعميم الحكم أينما وجدت العلة، وليس هذا قولًا بطريقة القياس فإن القياس ليس من/ (148/ أ) الدلالة الالتزامية في شيء. سلمنا أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ فلم لا يجوز أن يقال: إنه يدل عليه بطريق أنه يفيد الأمر بالقياس؟ قوله: يحتمل أن تكون العلة إسكار الخمر لا مطلق الإسكار. قلنا: لا نسلم احتماله؛ وهذا لأنه لو احتمل ذلك لاحتمل مثله في العلل العقلية حتى يمكن أن يقال: النقل إنما يوجب الهوى لكونه في هذا المحل المخصوص فإذا لم يكن فيه لا يوجبه.

سلمنا احتماله في الجملة لكن العرف أسقط اعتباره؛ فإنه إذا قال الأب لابنه: لا تأكل الطعام لأنه مهلك، فهم منه المنع من تناول كل مهلك، ولو كان لخصوصية المحل مدخل لما فهم ذلك، وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت مثله في الشرع؛ إذ الأصل تطابق العرف والشرع، لقوله- عليه السلام-: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن). سلمنا أن العرف لم يسقطه بالكلية لكنه خلاف الغالب، وخلاف الأصل والظاهر فوجب عدم اعتباره إلحاقًا بالغالب والأصل والظاهر. أما الأول، فلأن الغالب في العلل منصوصة كانت أو مستنبطة إنما هو التعدية بها دون الاقتصار على محالها بالاستقراء. وأما الثاني، فلأن الأصل والظاهر في العلل أن تكون مناسبة للحكم؛ لأن العلة بمعنى الباعث والباعث هو المناسب، ولأن التعليل إنما هو لفائدة أن لا يكون الحكم متعبدًا به فيكون أدعى إلى القبول والعمل به، ولفائدة تعميم الحكم، وهاتان الفائدتان إنما تحصلان لو عدى بها الحكم [دون أن يقتصر بذلك المحل، وخصوصية الإسكار غير مناسب ولا يحصل بها تعميم الحكم] ضرورة أنها غير مشتركة بينها وبين غيرها فيكون التعليل بها على خلاف الظاهر والأصل. سلمنا دلالة دليلكم، لكن فيما إذا قال: حرمت الخمر لكونها مسكرة، أما إذا قال: حرمت الخمر وعلة حرمة الخمر هي الإسكار، فإنا لا نسلم الدلالة فيه، وظاهر أنه لا يبقى فيه ذلك الاحتمال؛ إذ لا إضافة فيه الإسكار إلى الخمر.

سلمنا دلالة دليلكم مطلقا لكنه معارض بوجوه: أحدها: أنه لو كان المراد منه خصوصية إسكار الخمر لم يكن في ذكر العلة فائدة؛ لأن كون الخمر مسكرة وصف لازم لها غير مفارق فكان يكفيه أن يقول: حرمت الخمر من غير تعرض لعلية. وثانيها: أن اعتبار خصوصية المحل في العلية يقتضى امتناع القول بالقياس فكان باطلًا. وثالثها: أن قول الشارع: حرمت الخمر لكونها مسكرة، أو ما يجرى مجراه يقتضى إضافة الحرمة إلى الإسكار، من حيث إنه رتب الحكم على الوصف وأنه مشعر بالعلية فوجب أن يترتب الحكم عليه أينما وجد. ورابعها: أن التنبيه على العلة كما في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} يوجب إلحاق ما عداه من الأذى به فالتصريح بالعلة أولى بذلك. واحتج أبو عبد الله البصري على ما ذهب إليه من التفصيل: بأن من ترك أكل رمانة لحموضتها فإنه يجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة. وأما من أكل رمانة لحموضتها فإنه لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة.

الجواب قوله: لم لا يجوز أن يقال: أنه منقول في عرف الاستعمال إلى تحريم كل مسكر. قلنا: النقل خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه والأصل خلافه. قوله: من حرم السم لكونه قاتلًا ثم أباح قاتلًا آخر يعد مناقضًا. قلنا: لا نسلم. سلمناه لكن بقرينة كون الحياة مطلوب البقاء، وكون الضرر مطلوبة الانتفاء ولا نسلم حصول مثل هذا المعنى في العلة الشرعية؛ وهذا فإن الشارع قد يحرم شيئًا ويبيح مثله، ويوجب شيئًا ويحرم مثله، كما سبق في شبه النظام، وذلك إما لأنه علم اختصاص أحد المثلين بمصلحة أو مفسدة ليس توجد في الآخر، أو لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. سلمنا انتفاء القرينة لكن ذلك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ ونحن في هذا المقام في دلالته من جهة اللفظ لا في دلالته من جهة المعنى. قوله: لو نوى عتق جميع السودان عتقوا عليه على رأى. قلنا: هذا المذهب باطل فلا يمكن التخريج عليه. قوله: لم لا يجوز أن يقال: أنه يدل بطريق الالتزام؟ قلنا: قد ذكرنا أنه يحتمل أن تكون العلة إنما هي إسكار الخمر لا مطلق

الإسكار، ومن المعلوم أن تحريم كل مسكر غير لازم لهذا المعنى لا قطعًا ولا ظاهرًا، فلا يصح أن يدل عليه بطريق الالتزام حينئذ، نعم لو ثبت أن العلة إنما هي مطلق الإسكار لا إسكار الخمر بخصوصه يصح ذلك لكنه ممنوع. قوله: لا نسلم احتماله. قلنا: الدليل عليه: أنه لو صرح بإرادة هذا الاحتمال من ذلك اللفظ لم يخطئه العارف/ (149/ أ) باللسان، ولولا أنه محتمل للفظ لخطئ فيه. قوله: لو احتمل ذلك في العلة الشرعية لاحتمل مثله في العلة العقلية كما في النقل. قلنا: إن فسرت العلة العقلية بما يتأتى فيه هذا الاحتمال [فلا نسلم امتناعه فيه من حيث هو ذلك الاحتمال] ومن حيث هو ذلك التفسير. وإن فسرت بما لا يتأتى فيه الاحتمال المذكور كما يقال في المثال المذكور: النقل معنى يقتضي الهوى فإنه حينئذ يستحيل فرضه بدون الهوى ظهر الفرق. قوله: العرف أسقط هذا الاحتمال. قلنا: مطلقًا أم ما فيه القرينة كما فيما ذكرتم من المثال؟ والأول ممنوع، والثاني مسلم. قوله: أنه خلاف الغالب والظاهر والأصل. قلنا: مسلم لكن الإلحاق حينئذ بدليل وجوب التعبد بالقياس لا بالتنصيص، وذلك لأنه إنما يجب العمل بالغالب والظاهر والأصل لكون كل واحد منها مما يفيد الظن الغالب ويكون العمل به واجبًا.

وهذا الدليل بعينه يوجب العمل بالقياس فيكون التنصيص على العلة لا يقتضى الإلحاق إلا بالدليل على وجوب التعبد بالقياس وهو ما ادعيناه. قوله: لا يتأتى ما ذكرتم من الاحتمال فيما رذا قال: علة حرمة الخمر الإسكار. قلنا: نحن نسلم أن في هذه الصورة أينما حصل الإسكار حصلت الحرمة، لكن لا بطريق القياس بل بطريق الاستدلال من النص من حيث إنه جعل مطلق الإسكار علة تحريم الخمر وهو حاصل في كل مسكر، فيلزم ثبوت الحرمة في كل مسكر. قوله: لو كان المراد منه خصوصية الإسكار لم يكن في ذكر العلة فائدة. قلنا: لا نسلم بل فيه فائدة وهى ما تقدم من أنه يفيد زوال الحكم عند زوال العلة، فإن كان لخصوصية المحل مناسبة في موضع ما فيكون فيه فائدة أخرى وهى: كون الحكم معقول المعنى فيكون أدعى إلى القبول والعمل به. قوله: إن اعتبار خصوصية المحل في العلية يوجب القول بامتناع القياس. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه حيث دل دليل على أنه لا اعتبار لخصوصية المحل يكون القياس جاريًا فيه. قوله: رتب الحكم على الوصف وأنه مشعر بالعلية. قلنا: مسلم لكن لا نسلم أنه رتب على مطلق الإسكار حتى يعم الحكم بعمومه بل هو عندنا مرتب على إسكار الخمر فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ فإن قلت خصوصية المحل غير مناسب.

قلت: لا نسلم اشتراطه في إشعار العلية فيما نحن فيه. سلمناه لكنه دليل خارجي غير التنصيص. قوله: التنبيه على العلة يقتضى الإلحاق بالتصريح بذلك أولى. قلنا: التعميم مستفاد بكون التنبيه وقع على العلة العامة فإن فرض أنه وقع التنبيه على العلة على وجه يحتمل أن تكون مخصوصة بمحل خاص فلا نسلم أن يقتضى الإلحاق إذ ذاك. وعن وجه التفصيل بمنع قوله: أنه يجب عليه ترك أكل كل رمانة حامضة؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون الداعي إلى الترك حموضة تلك الرمانة لا مطلق الحموضة. فإن قيل: الداعية إلى الفعل أو الترك لا يكون إلا لغرض ولا غرض في ترك أكل رمانة لحموضتها المخصوصة. قلنا: لو سلم لكم ذلك فإنما يتأتى ذلك في حق من أفعاله معللة بتحصيل المصالح، ودفع المفاسد، فأما بالنسبة إلى أفعال الله سبحانه وتعالى فلا نسلم ذلك؛ فإن أفعاله تعالى عندنا غير معللة بالأغراض. سلمناه لكنه لأمر آخر غير التنصيص، ولا نزاع فيه وإنما النزاع أن مجرد التنصيص هل يدل عليه أم لا؟ سلمنا المقدمة الأولى لكن لا نسلم الفرق بين الفعل والترك. قوله: إن أكل رمانة حامضة فإنه لا يجب عليه أكل كل رمانة حامضة.

قلنا: لا نسلم ذلك لكن إنما لا يجب عليه ذلك؛ لأن شرائط العلة منقودة؛ وهذا فإن حموضتها وإن كانت علة أكلها لكن بشرط الاشتهاء الصادق، وخلو المعدة عن الرمان، وعلمه أو ظنه تضرره بأكلها وهذه الشرائط بأسرها غير حاصلة بالنسبة إلى أكل الرمانة الثانية فلذلك لم يجب أكلها.

المسألة الخامسة المسكوت عنه قد يكون أولى بالحكم من المنصوص عليه

المسألة الخامسة المسكوت عنه قد يكون أولى بالحكم من المنصوص عليه. أما في جانب النفي فكما في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} فإن ضربهما الذي هو مسكوت عنه أولى بالتحريم من أف الذي هو منصوص عليه. وأما في جانب الإثبات فكقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} فهذه تفيد تأدية ما دون الدينار بالطريق الأولى. وقد يكون مثله فيه من غير تفاوت ألبتة كما في قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} فإن العبيد في معناها. وكما في قوله- عليه السلام-: (من أعتق شركًا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه) فإن الأمة في معناه في هذا الحكم.

وكما في قوله - عليه السلام-: (أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق/ (150/ أ) بمتاعه) فإن المرأة في معناه. وكما في قوله- عليه السلام-: (من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فإن الأمة المبيعة في معناه. وله نظائر أخر، وهذا النوع يسمى بالقياس في معنى الأصل وكل واحد من هذين النوعين ينقسم إلى قطعي، وإلى ظني أي: ما يعرف قطعًا أنه أولى بالحكم أو مثله، أو يعرف ذلك ظنًا. فالقطعي من النوع [الأول] هو نحو ما ذكرناه. وأما الظني منه فنحو ما روى عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "إذا وجبت الكفارة في قتل الخطأ فبأن تجب في العمد بالطريق الأولى لكونه أولى بالمؤاخذة والزجر". ونحو ما يقال: أنه إذا وجبت الكفارة في غير يمين الغموس مع أنه اثمه أقل فلأن تجب في يمين الغموس بالطريق الأولى، وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى؛ لأن الكفر فسق وزيادة، وإذا أخذت الجزية من الكتابي فمن

الوثني أولى؛ لأنه كافر مع زيادة جهل، وهذا النوع ظني غير قطعي؛ لأنه لا يبعد أن يقال: إن الكفارة تجب في قتل الخطأ تكفيرًا لما صدر من الخاطئ من التقصير وعدم التحفظ والاحتراز، فلا شك في أنه أقل محذورًا من قتل العمد والعدوان، ولا يلزم من كون الشيء رافعًا لأقل المحذووين أن يكون رافعًا لأكثرهما، ونحو هذا الاحتمال بعينه آت في يمين غير الغموس مع يمين الغموس. وكذا لا يبعد أن يقال: إنما ردت شهادة الفاسق؛ لأن إقدامه على الفسق مع اعتقاد تحريمه يدل على جرأته على المعاصي والكذب فلا تحصل الثقة بقوله بخلاف الكافر فإنه لم يقدم عليه مع علمه بتحريمه بل يعتقد حقيته، فلا يبطل ذلك الثقة بقوله وكيف يبطل ذلك وكفره يمنعه من الكذب؛ إذ الكلام في الكافر الذي يعتقد تحريم الكذب في كفره. وكذا لا يبعد أن يقال: إن كفر أهل الكتاب أخف من كفر الوثني، وأخذ الجزية نوع احترام وتخفيف، فلا يلزم من جواز أخذها على الكفر الأخف جواز أخذها على الكفر الأغلظ، ومع هذه الاحتمالات القريبة لا يحصل الجزم به، بل قد تحصل غلبة الظن به لبعض المجتهدين؛ ولهذا كان مختلفًا فيه بين العلماء المعتبرين بخلاف القسم الأول فإنه غير مختلف فيه بينهم. والقطعي من النوع الثاني هو مثل ما ذكرناه. وأما الظني منه فنحو ما يقال: إنه إذا وجب الحد في الزنا فاللواطة مثله؛ إذ هو أيضًا إيلاج فرج مشتهى طبعًا محرم قطعًا. وإذ حرم الخمر فالنبيذ مثله؛ إذ هو أيضًا مسكر ففي بادئ النظر تظهر المماثلة بينهما، إذ الوصف

المناسب الظاهر مشترك بينهما، لكن لا يبعد أن يقال: إن الميل إلى الزنا لما كان عامًا من الجانبين كان احتياجه إلى الزاجر أكثر من اللواطة الذي ليس كذلك. ولما كان قليل الخمر يدعو إلى كثيرها الذي هو مكسب المفسدة كانت الحاجة إلى تحريم عينها أكثر من النبيذ الذي ليس كذلك، فمع هذا الفارق لا يمكن القطع بالإلحاق لكن يحصل الظن الغالب بالمماثلة في الحكم لبعض المجتهدين بناء على ما ذكرنا من الوصف الجامع. وقد يكون المسكوت عنه دون المنصوص في ثبوت الحكم فيه كإلحاق التفاح بالأشياء الستة في تحريم الربا، أو إلحاق الجص أو النورة بها فيه. واتفق الأصوليون على أنه لا مستند لثبوت الحكم في المسكوت عنه في هذا النوع الأخير إلا القياس. وأما في النوعين الأولين فقد اختلفوا فيه: فذهب أكثر أصحابنا إلى أن الحكم في المسكوت عنه ثابت في النوع الأول بالدلالة اللفظية. وذهب الباقون إلى أنه ثابت بالقياس. وأما في النوع الثاني فذهب أصحابنا إلى أن الحكم ثابت فيه بالقياس،

وذهب الحنفية إلى أنه غير ثابت بل بالاستدلال أي هو استدلال على تحرير مناط الحكم، وحذف الحشو منه عن درجة الاعتبار؛ ولهذا أوجبوا على المفطر في نهار رمضان بالأكل أو الشرب الكفارة اعتبارًا بالجامع، ولكن لا بطريق القياس عليه؛ إذ القياس عندهم غير جار في الكفارات والحدود، ولكن بطريق الاستدلال. واحتج من قال: بأن الحكم في النوع الأول ثابت بالدلالة اللفظية دون القياس بوجوه: أحدها: أن العارف باللسان إذا سمع أمثال هذه الصيغ فإنه يتبادر إلى فهمه ثبوت الحكم في محل المسكوت كما هو في محل النطق بل بالطريق الأولى، وذلك يدل على أنها حقيقة في المجموع معًا إما بحسب الوضع الأصلي أو النقل العرفي وأيما كان يحصل المقصود. وثانيها: أن العرب وضعت هذه الصيغ لتأكيد الحكم في محل السكوت، بدليل أنهم يفزعون إليها عندما أرادوا التعبير عنه، ألا ترى أنهم إذا أرادوا التعبير على وجه المبالغة عن كون أحد الفرسين سابقًا على الآخر قالوا: "إن هذا/ (151/ أ) الفرس لا يلحق غبار ذلك الفرس، وإذا أرادوا التعبير عن كون الرجل فقيرًا لا شيء له قالوا: لا سبد له ولا لبدا، وقالوا: "لا يملك النقير والقطمير" أو ما يجري مجراهما، ولو كانت تلك الصيغ غير

موضوعة لذلك في لغتهم لما فزعوا إليها. وأجيب عنهما: بأن ذلك من حيث المعنى والقصد دون اللفظ وستعرف سنده. وثالثها: أنه لو كان ذلك مستفادًا من القياس لوجب أن لا يقول بذلك من لم يقل بصحة القياس، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مستفاد من القياس، وإذا لم يكن مستفادًا من القياس تعين أن يكون مستفادًا من اللفظ لئلا يلزم قول ثالث خلاف الإجماع. وأجيب عنه: بأن الخلاف في القياس الظني لا يقدح في القياس اليقيني والقياس فيما نحن فيه يقيني، ولو فرض الكلام في القسم الظني منه فنحن نمنع حصول الاتفاق فيه. ورابعها: وهو ما عول عليه بعضهم، وهو: أنه لا يشترط في القياس أن تكون العلة أشد مناسبة للحكم في الفرع من مناسبتها له في الأصل [و] ما يتخيل علة في هذا النوع من الاستدلال يشترط فيه ذلك فلا يكون قياسًا. وهو أيضًا ضعيف؛ لجواز أن يكون قياسًا خاصًا، ولا يلزم من عدم اشتراط الشيء في مطلق القياس عدم اشتراطه في القياس الخاص. وخامسها: أن الفرع في القياس غير مشتمل على الأصل، ولا هو جزء منه ألبتة إجماعًا، وما يتخيل فرعًا من هذا النوع من الاستدلال فإنه قد يكون مشتملًا على ما يتخيل فيه أصلًا وهو جزء منه، وذلك في نحو قوله

تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} فإنه يدل بالطريق الأولى على رؤية ما عمل من الخير ما هو أكبر من مثقال ذرة وهو فرع في هذه الصورة، ومثقال ذرة الذي هو الأصل جزء منه، وهو مشتمل عليه، وكذا في قولهم: "فلان لا يملك حبة" فإنه يفيد أنه لا يملك ما زاد على الحبة، وهو مشتمل على الحبة والحبة جزء منه فلا يكون هذا النوع قياسًا. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنه إن ادعى في المقدمة الأولى كلية منعناها، وهذا فإن هذه الصورة من جملة صور القياس عند الخصم وقد وجد فيها ما ذكر من الوصف وإن ادعاهما جزئية أو مهملة فلا يفيد، سلمناها كلية لكن الخصم قد يسلم أن اللفظ يدل عليه في مثل هذه الصور بواسطة الفحوى فلم قلتم أن الأمر كذلك فيما ليس هو مثله؟ ودعوى الإجماع على عدم التفصيل ممنوع. وسادسها: أنه يلزم أن لا يعلم العاقل ثبوت الحكم في المسكوت عنه لو منع من القياس الشرعي. وأجيب أنه إن علم الغرض وما هو المقصود من الكلام كان القياس فيه حينئذ يقينيًا فلم يؤثر المنع من الظني فيه، وإن لم يعلم ذلك فإنه يلزم صحة أن لا يعلم ذلك حينئذ بل عند عدم ورود التعبد بالقياس أيضًا. وسابعها: أنا أجمعنا أن قولهم: "فلان مؤتمن على القنطار" يفيد في العرف أنه مؤتمن مطلقًا. "وفلان لا يملك حبة" يفيد فيه أن لا يملك شيئًا ألبتة وإنما حكم بذلك فيهما لتبادر الفهم إليه عند سماع اللفظ وهذا المعنى حاصل في أمثالهما، فوجب أن يحكم بذلك في الكل. وأجيب بمنع ما ذكروه من الإفادة؛ وهذا لأنه إنما يفيد أنه مؤتمن فيما دون القنطار لكونه موجودا في القنطار فتكون دلالته عليه بالتضمن، فأما فيما فوقه فلا نسلم ذلك فيه.

وكذا قولهم: "لا يملك حبة" يفيد أنه لا يملك ما زاد عليها لكونها موجودة فيما زاد عليها فأما فيما دونها فلا نسلم أنه يفيد نفي ما ملكه عنه. سلمناه لكن النقل العرفي خلاف الأصل فيقتصر في محل الضرورة ولا ضرورة في أمثالهما فلا يجوز الحكم بذلك فيها. واحتج الباقون بوجوه: أحدها: لو كانت دلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب من جهة اللفظ لوجب أن لا يفتقر في معرفة ذلك إلى معرفة ما هو المقصود من الكلام، وما لأجله سيق إليه من تعظيم الأبوين، وكف أنواع الأذى عنهم كما في سائر الدلالة اللفظية، ولما لم يكن كذلك بل يحكم بتحريمه إجماعًا إلا بعد معرفة ذلك علمنا أنه غير مستفاد من جهة اللفظ. وثانيها: أنه لو كانت دلالته لفظية لما حسن من الملك أن ينهي الجلاد وعبيده وخدمه عن التأفيف وصفع والده الذي نازعه في الملك ويأمرهم بقتله [كما] لا يحسن منه أن يأمرهم بقتله ثم ينهاهم عنه، ولما حسن ذلك باتفاق العقلاء علمنا أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ. وثالثها: أنه لو كانت دلالته عليه لفظية فإما أن يدل عليه بحسب الوضع اللغوي، وهو باطل؛ لأنا نعلم بالضرورة أن التأفيف غير موضوع بالضرب، ولا لمفهوم يكون الضرب جزءًا منه فلم يكن المنع منه منعًا عن الضرب بحسب الوضع اللغوي، أو بحسب الوضع العرفي/ (152/ أ) وهو أيضًا باطل؛ لأن النقل العرفي خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه والأصل

عدمها. واعلم أنه إن أريد بدلالته اللفظية: أن اللفظ يدل عليه بطريق المطابقة، أو بطريق التضمن فهذا باطل لما سبق من الوجوه. وإن أريد بها: أن اللفظ يدل عليه بواسطة الفحوى فهذا حق والوجوه المذكورة غير قادحة فيه. أما الأول فلاحتمال أن يقال: إن معرفة مقصود الكلام وما لأجله سيق شرط تحقق دلالة الفحوى وبه يعرف اندفاع الوجه الثاني أيضًا. وأما الثالث فإنه لا دلالة فيه ألبته على إبطال هذا الاحتمال بل على إبطال دلالة المطابقة والتضمن لا غير. وعند هذا يعرف أن الدلالة اللفظية بهذا التفسير لا ينافي كونه قياسًا بمعنى إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لعله جامعة بينهما نعم ليس هو من الأقيسة المألوفة بين الفقهاء التي تحتاج إلى فكر واستنباط على ولا يفيد إلا الظن؛ إذ العلة فيه جلية متبادرة إلى الفهم لا تحتاج إلى الاستنباط وهي مفيدة للقطع. وأما النوع الثاني، فدليل أصحابنا القائلين بكونه قياسًا ظاهرًا، وأما الذين سموه بالاستدلال فزعموا أن القياس في اللغة هو التسوية مطلقًا، وفي الشرع تسوية مخصوصة على ما تقدم بيانه وهي إنما تعقل بين الشيئين فما جمع بين الشيئين بجامع يكون قياسًا، وأما الذي يتعرض فيه لنفي فارق ونفي المباينة فهو شيء واحد فلا يعقل ذلك فيه بل هو استدلال من حيث إنه استدلال على تحرير مناط الحكم.

وهو ضعيف؛ لأنه إن نظر إلى العلة فهي واحدة في الصورتين أعنى الصورة التي ذكر الجامع فيها، والتي تعرض فيها لنفي الفارق. وإن نظر إلى ما فيه العلة فهما صورتان مختلفتان؛ إذ صورة الإفطار بالجماع غير صورة الإفطار بالأكل والشراب قطعًا؛ غاية ما في الباب إنه يظن اتحاد العلة في الصورة الأولى بالمناسبة أو بغيرها من الطرق من غير تعرض لنفي ما عداها فيحصل الجمع بين الصورتين بالقصد الأول، وفي الثانية تعلم العلة لنفي ما عداها من درجة الاعتبار باستقراء أحكام الشرع فيحصل نفي الفارق بين الصورتين بالقصد الأول، ويحصل الجمع بينهما بالقصد الثاني، وذلك لا يخرجه كونه قياسًا. وبالجملة النزاع في المسألتين آيل إلى اللفظ إذ لا يترتب على هذا الاختلاف فائدة معنوية.

الباب الثاني في الركن الأول من أركان القياس وهو الأصل

الباب الثاني في الركن الأول من أركان القياس وهو الأصل

الباب الثاني في الركن الأول من أركان القياس وهو الأصل وهو يستحق التقديم على غيره من الأركان؛ لأنه أصل الحكم الذي هو أصل العلة التي هي أصل الفرع لكونه محتاجًا إليها في ثبوت الحكم. وفيه مسائل: المسألة الأولى في شرائط الأصل وهي ثمانية: الشرط الأول: أن يكون الحكم الذي قصدت تعديته إلى الفرع ثابتًا فيه؛ فإنه لو لم يكن ثابتًا فيه بأن لم يشرع فيه ابتداء أو وإن شرع فيه لكن نسخ لم يمكن بناء حكم الفرع عليه؛ لأن كون الشيء مبنيًا على الغير صفة له، وتحقق الصفة يستدعي تحقق الموصوف، فإذا لم يكن الموصوف ثابتا لم تكن الصفة أيضًا ثابتة له، ولأنه إذا لم يكن الحكم في الأصل ثابتًا أمكن توجيه المنع عليه فلا ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته. الثاني: أن يكون الحكم شرعيًا، واحترزنا به عن الحكم العقلي واللغوي فإنا بتقدير أن يجري القياس التمثيلي فيهما فإنه ليس قياسًا شرعيًا بل عقليًا

ولغويًا وكلامنا في القياس الشرعي. الثالث: أن يكون الطريق إلى معرفته سمعيًا، وهذا على رأينا ظاهر؛ لأن ما لا يكون طريق معرفته سمعيًا لا يكون حكمًا شرعيًا. وأما على رأي من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي فاحترزوا به عن الحكم الشرعي الذي طريق معرفته العقل. واحتجوا على اعتبار هذا الشرط: بأنه لو كان طريق معرفة ذلك الحكم في الأصل العقل لكان طريق معرفته- في الفرع- أيضًا العقل وحينئذ يصير القياس عقليًا، لا سمعيًا، وكلامنا في القياس السمعي. وهذا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن الكلام في القياس السمعي بل في القياس الذي يفيد حكمًا شرعيًا أعم من أن يكون سمعيًا أو عقليًا. سلمناه لكن معرفة الحكم في الفرع لا يتوقف على معرفة الحكم في الأصل فقط حتى يلزم من كون طريق معرفته في الأصل عقليًا كون طريق معرفته في الفرع عقليًا أيضًا، بل يتوقف على معرفته حكم الأصل وعلى كون ذلك الحكم معللًا بالوصف الفلاني، وعلى معرفة حصول ذلك الوصف بتمامه في الفرع فبتقدير أن تكون المعرفة [الأولى] عقلية يحتمل أن تكون الباقيتان سمعيتين، وحينئذ لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بعد معرفة تينك المقدمتين السمعيتين، والموقوف على السمعي سمعي فيكون القياس سمعيًا، فلم يلزم الخلف على هذا التقدير. الرابع: أن لا يكون حكم/ (154/ أ) الأصل ثباتًا بالقياس على أصل

آخر، وهذا على رأي أصحابنا والحنفية. وخالف فيه بعض المعتزلة، والحنابلة حيث لم يشترطوا ذلك. ثم الذي يدل على اشتراطه هو: أن العلة التي يرد بها الفرع المتنازع فيه إلى أصله، إما أن تكون عين العلة التي يرد بها ذلك الأصل إلى أصله، أو غيرها. فإن كان الأول: كان رد الفرع بتلك العلة إلى أصل أصله أولى لئلا يلزم التطويل من غير فائدة، فأن الخصم إذا منع الحكم فيما قاس عليه الفرع فإنه يحتاج أن يرده إلى أصله بغير تلك العلة فيلزم التطويل لا محالة من غير فائدة، مثله: كما لو قيل من جانبنا: الوضوء عبادة فيشترط فيه النية قياسًا على الغسل، ثم نقيس الغسل في أن يشترط فيه النية على الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة، فرد الوضوء إلى الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة أولًا أولى.

وإن كان الثاني فهو أيضًا باطل؛ أما أولًا: فلأن العلة التي يلحق بها الفرع إلى أصله إن كانت معتبرة بنص الشارع، أو بإيمائه، أو بالإجماع فحينئذ يمكن إثبات حكم الفرع بتلك العلة المعتبرة من غير حاجة إلى القياس على أصله الممنوع حكمه، ثم القياس على أصله المتفق عليه حكمه وذلك بأن يقال: هذا الوصف علة لهذا الحكم بالنص أو بإيمانه، أو بالإجماع وهو حاصل في هذه الصورة فيلزم ثبوت الحكم فيه فيكون قياس الفرع على أصله، ثم إثبات حكم أصله بالقياس على أصل أصله تطويل من غير فائدة. وإن كانت معتبرة بالمناسبة عرية عن اقتران الحكم في محل الوفاق لا محالة وإلا كان القياس على الأصل ممنوع حكمه مع وجود تطويل من غير فائدة، وحينئذ يلزم أن لا يجوز الحكم بها؛ لأن الحكم بالمناسب المرسل الذي لم يشهد الشارع له بالاعتبار غير جائز. وأما ثانيًا: فلأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وهو باطل لما سيأتي. وأما ثالثًا: فلأن الحكم في أصل الفرع إنما يثبت بالعلة الموجودة فيه وفي أصله، ومتى توصلنا إلى ثبوت الحكم فيه بتلك العلة: امتنع تعليله بالعلة الموجودة فيه وفي الفرع، لأن تلك العلة إنما تعرف علته فيه بعد أن يعرف ثبوت ذلك الحكم فيه بعلة أخرى، فيكون عديم الأثر: فيكون التعليل به باطلًا. مثاله: كما لو قيل من جانبنا في فسخ النكاح بالجذام أو البرص: عيب يثبت به الفسخ في البيع، فيثبت به في الفسخ النكاح قياسًا على الرتق

والقرن، ثم لو منع الحكم فيهما يقيسهما على الجب والعنة بجامع فوات عضو الاستمتاع، هذا كله إذا كان حكم أصل الفرع ممنوعًا عند الخصم مقبولًا عند المستدل. فأما إذا كان على العكس من هذا: فإن كان الغرض من القياس ظن الحكم في المقيس والعمل به والإفتاء به لم يصح؛ لأن القائس لم يعتقد الحكم في المقيس عليه فلا يعتقد عليه الوصف الجامع بينهما فلا يصح القياس بدونهما. وإن كان الغرض منه إلزام الخصم صح القياس ويحصل الغرض. وطريقه: أن يقول المستدل: هذا الوصف هو علة الحكم في المقيس عليه عندك، إما للاتفاق عليه، أو بشهادة المناسبة مع الاقتران وهو حاصل في صورة النزاع، فيلزمك الاعتراف بثبوت الحكم فيه وإلا لزم نقض العلة؛ ضرورة أن الحكم متخلف عنها في صورة النزاع من غير معارض، ولا معنى لنقض العلة إلا هذا وحينئذ يلزم إبطال تعليل الحكم بها في المقيس عليه، ويلزم من هذا ثبوت الحكم في صورة النزاع؛ ضرورة أن القول بعدم الحكم فيهما منتف بالإجماع. ومن هذا نعرف أيضًا فساد ما ذهب إليه بعض المتأخرين من أن هذا القياس ممتنع.

وإن كان الغرض منه إلزام الخصم [محتجًا بأنه: وإن كان الحكم في الأصل معللًا بالوصف المذكور غير أن حاصل الإلزام يرجع إلى إلزام الخصم بالتخطئة في الفرع] بإثبات خلاف حكمه ضرورة تصويبه في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور وتصويبه في حكم الفرع. الخامس: أن لا يكون دليل الأصل بعينه دليل الفرع لأنه حينئذ لم يكن جعل أحدهما أصلًا والآخر فرعًا أولى من العكس. مثاله: أن لو قيل من جانبنا: للسفرجل مطعوم فيجري فيه الربا قياسًا على البر، ثم استدل على غلبة الطعم بقوله -عليه السلام-: (لا تبيعوا الطعام بالطعام) الحديث. أو قيل: فضل القاتل القتيل بفضيلة الإسلام فلا يقتل به، كما لو قتل المسلم الحربي ثم استدل على غلبة الكفر لذلك بقوله -عليه السلام- "لا يقتل مؤمن بكافر" وله نظائر أخر. السادس: أن لا يكون حكم الأصل متأخرًا عن حكم الفرع وهو: كقياس الضوء على التيمم في اشتراط النية؛ لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد

الهجرة، والتعبد بالوضوء كان قبله. وهذا يستقيم إذا لم يكن للفرع دليل سوى القياس/ (155/ أ) على ذلك الأصل المتأخر؛ لأن قبل ذلك الأصل المتأخر إن كان الحكم ثابتًا في الفرع مع أنه لا دليل عليه سوى القياس عليه، لزم تكليف ما لا يطاق. وإن لم يكن ثابتًا قبله بل شرع عنده لم يكن حكم الفرع حينئذ متقدمًا على حكم الأصل فلم يكن ذلك من مسألتنا، وأما إذا كان عليه دليل آخر سوى القياس عليه جاز؛ لأن المحذور المذكور زائل، وترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز. السابع: أن يكون الحكم متفقًا عليه. والدليل على اشتراطه أنه لو كان ممنوعًا لاحتاج القائس إلى إثباته عند توجه المنع فيكون الشروع فيه انتقالًا من مسألة إلى مسألة أخرى. وما ذكرنا من أن شرط الأصل أن لا يكون حكمه ثابتًا بالقياس على أصل آخر لا يغني عن هذا الشرط، لجواز أن يكون كذلك مع وقوع الاختلاف فيه ولا هذا الشرط يغني عنه، وهذا أيضًا ظاهر. ثم اختلفوا في كيفية الاتفاق عليه: فشرط بعضهم أن يكون متفقًا عليه بين الخصمين فقط. [وشرط البعض الآخر أن يكون متفقًا عليه بين الأمة، وإلا فإن كان متفقًا عليه بين الخصمين فقط] لم يصح القياس عليه وسموا هذا النوع من

القياس بالقياس الركب. والصحيح: أن القياس المركب أخص من هذا، وهو أن يكون الحكم متفقًا عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفتين، كما في قياس حلى البالغة على حلى الصبية، فأن عدم الوجوب في حلي الصبية متفق عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفتين، فإن عندما لعله كونه حليًا، وعندهم لعلة كونه مالًا للصبية، وكلام بعضهم يشعر إشعارًا ظاهرًا بأنه يشترط مع ذلك أن لا يكون الحكم مجمعًا عليه بين الأمة، ولا منصوصًا عليه، وكلام البعض الآخرين لاسيما الجدليين منهم ساكت عنه بل إطلاقهم ينفي ذلك. الثامن: أن لا يكون حكم الأصل خارجا عن قاعدة القياس. واعلم أن وصف الحكم بكونه خارجًا عن قاعدة القياس: تارة يكون باعتبار كونه غير معقول المعنى وإن شرع ابتداء من غير أن يقطع حكمه عن أصول أخر ويستثنى عنها. وتارة يكون باعتبار كونه متقطعا عن أصول أخر ومستثنى عنها [وإن عقل معناه، وعند هذا يظهر أن ما يكون مقتطعا عن أصول أخر ومستثنى عنها عنها ...] وهو غير معقول المعنى فهو خارج عن قاعدة القياس باعتبارين، وأن ما شرع ابتداء وهو معقول المعنى فهو غير خارج عن قاعدة القياس باعتبار ما لكن منه ما وجد في المعنى في غيره [فيقاس عليه، ومنه ما لا يوجد المعنى المعقول فيه في غيره] كما سيأتي:

مثاله فلا يقاس عليه (لا) لأنه خارج عن قاعدة القياس بل لأنه لم يوجد له فرع فتعذر القياس فيه لفقد الفرع لا لفقد الأصل، ولا لفقد شرط من شروطه والحكم فيه يشبه الحكم المعلل بالعلة القاصرة. وإن وقع في كلام بعضهم عد هذا القسم من جملة أقسام الخارج عن القياس كما وقع في كلام الشيخ الغزالي- رحمه الله- فهو نوع من التجوز العيد وكيف لا وقد صرح الشيخ الغزالي- رحمه الله- أن تسمية القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها مع تعذر القياس عليها بالخارج عن القياس مجاز. فتحصلنا مما ذكرناه على أقسام خمسة من أقسام الخارج عن قاعدة القياس وغير الخارج عنها: أحدها: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يقتطع عن أصول أخر ولا يعقل معناها كأعداد الركعات، ونصب الزكوات، ومقادير الحدود والكفارات، وهذا القسم يمتنع القياس عليها لفقد العلة التي هي ركن القياس. قال الغزالي: "وتسميته بالخارج عن القياس مجاز؛ لأنه لم يسبقها عموم قياس يمنع منها، ولا يستثنى عن أصول أخر حتى يسمى بالخارج عن

القياس بل معناه أنه ليس بمنقاس". وثانيها: ما شرع على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة والأصول الممهدة المتقررة ولا يعقل معناه، ولا يقال [على] هذا القسم أيضًا لفقد العلة ولإبطال التخصيص المعلوم بالنص بالقياس. وتسميته بالخارج عن القياس والمستثنى عنه حقيقة لا شك في ذلك، وذلك كتخصيص الرسول خزيمة بقبول شهادته وحده.

وتخصيصه أبا بردة بجواز أن يضحى بالعناق بقوله: (تجزئ عنك ولا تجزئ عن غيرك).

وثالثها: ما شرع على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة ومخالفًا للأصول الممهدة وهو معقول المعنى، فهذا القسم يشبه أن يكون هو المختلف فيه بين العلماء: فذهب أكثر أصحابنا وبعض الحنفية إلى جواز القياس عليه مطلقًا. وقال الكرخى: لا يجوز إلا لإحدى خصال ثلاث: إحداها: أن يكون قد نص على علية ذلك الحكم. مثاله: قوله- عليه السلام-: "إنها من الطوافين (عليكم) والطوافات" فإن القياس يقتضي أن يكون سؤر الهرة كسؤر سائر السباع، فلما حكم بطهارتها وعلله بما جاز أن يقاس عليه سائر الحشرات. وثانيها: أن تجتمع الأمة على تعليل ذلك الحكم، وإن اختلفوا في علته، ويلزمهم على/ (156/ أ) هذا أن يجيزوا قياس الكلام ناسيًا في الصلاة على

الأكل ناسيًا في الصوم في عدم الإفساد، إذ الإجماع ينعقد على أن ذلك معلل بعذر النسيان. وثالثها: أن يكون القياس عليه موافقًا للقياس على أصول آخر، وهو كالتحالف في البيع عند اختلاف المتابعين في اليمين فإنه وإن كان مخالفًا لقياس الأصول؛ لأن قياس الأصول يقتضي أن القول قول المنكر، لكن أصل آخر يوافقه وهو أنه ملك المبيع عليه فالقول قول من ملك عليه كالشفيع مع المشترى، ولذلك قسنا الإجازة عليه. مثال ما شرع على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة ومخالفًا للأصول الممهدة: ما شرع [من تجويز بيع الرطب بالتمر في العرايا فإنه على خلاف قاعدة] الربا عندنا ونعلم أنه لم يشرع ناسخًا لها بل على وجه الاستثناء والاقتطاع عنها لحاجة المحاويج فنقيس العنب على الرطب لأنا نراه في معناه. وكذلك ما شرع من رد المصراة ورد صاع من التمر معها بدل اللبن الموجود في ضرعها، فإنه ما شرع هادمًا لقاعدة ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة لكنه على وجه الاستثناء والاقتطاع عن تلك القاعدة لمسيس الحاجة إليه؛ وذلك لأن اللبن الكائن في الضرع لدى البيع اختلط بالحادث بعده ولا يمكن التمييز بينهما، ولا إلى معرفة القدر الموجود في الضرع لدى البيع،

وكان الأمر فيه متعلقًا بمطعوم يقرب الأمر فيه خلص الشارع المتبايعين من المنازعة والوقوع في ورطة الجهل بالتقدير بصاع من التمر، لكونه مطعومًا مثله يعم وجوده في بلادهم وقيمتهما متقاربتين، كما قدر دية الجنين بغرة عبد أو أمة مع اختلاف الجنين بالذكورة والأنوثة، ولما عقلنا هذا المعنى لا جرم قلنا: أنه لو رد المصراة بعيب آخر غير التصرية رد معها أيضًا صاعا من التمر بدل اللبن [الموجود في الضرع ولا شك أنه قياس؛ إذ الخبر ورد فيما إذا ردت المصراة بعيب التصرية فإلحاق عيب آخر] بها في وجوب الضمان بالتمر يكون على وجه القياس. ومثاله من أصلهم: أن التوضأ بنبيذ التمر ورد على خلاف قياس الأصول ولم يقيسوا عليه نبيذ الزبيب مع إيماء اللفظ إلى العلة وحصولها فيه. ثم الإمام- رحمه الله- ذكر في ذلك تفصيلًا، وقال: "الحق أن يقال: ما ورد بخلاف قياس الأصول، إما أن يكون دليله مقطوعًا به، أو لا يكون مقطوعًا به. فإن كان الأول: كان أصلًا بنفسه؛ لأن مرادنا بالأصل في هذا الموضع: هذا، فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهدين القياسين. يؤكده: أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعًا من قياس يخالفه؛ لأن العموم أقوى من القياس على العموم. وإن كان الثاني فإن لم تكن علته منصوصة ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على الأصول: فلا شبهة أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه؛ لأن القياس على ما طريق حكمه معلوم أولى من القياس على ما طريق

حكمه غير معلوم. وإن كانت منصوصة: فالأقرب أنه يستوي القياسان، لأن القياس على الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم، وإن طريق علته غير معلوم، وإن طريق علته غير معلوم وهذا القياس طريق حكمه مظنون، وطريق علته معلوم، وكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة". وفيه نظر، أما أولًا: فلأنه إن عنى بقوله: أن مرادنا بالأصل في هذا الموضع هذا اصطلاح نفسه، فلا يناقش في ذلك، لكن الخصم يمنع أن يكون مثل هذا الأصل يقاس عليه، ويمنع أن القياس عليه كالقياس على غيره، فإن كل مصادرة على المطلوب، وعند هذا يظهر أن قوله: "يؤكده ش ليس محمولًا على ظاهره؛ لأن ما سبقه ليس دليلًا حتى يكون ذلك تأكيدًا له، ثم قوله: "أن العموم إذا لم يمنع من قياسه يخصه، فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعًا من قياس يخالفه، لأن العموم أقوى من القياس على العموم ممنوع؛ وهذا لأن عموم القياس أقوى من العموم؛ لأنه غير قابل للتخصيص بناء على عدم جواز تخصيص العلة، والعموم قابل لذلك وفاقًا،

فكان هو أقوى، وإذا كان عموم القياس أقوى من العموم لم يلزم من عدم منع العموم كقياس تخطئة عدم منع القياس من القياس على ما يخالفه. وإن عنى به إصلاح المختلفين في هذه المسألة فممنوع؛ وهذا لأن الأصل ما يقاس عليه، فمن منع القياس على المعدول عن سنن القياس سواء ثبت بدليل مقطوع به، أو غير مقطوع به كيف يكون هذا أصلا عنده. وإن ذكر ذلك ضابطًا على مذهب القائلين بجواز القياس على المعدول عن سنن القياس فليس كذلك أيضًا؛ لأنه [لو] ثبت المعدول عن سنن القياس بدليل ظني وعقل معناه/ (157/ أ) والمعدول عنه بدليل قطعي جاز القياس عليه عندهم أيضًا يدل عليه تفاريعهم، فإن رد المصراة ورد صاع من التمر معها بدلًا عن اللبن الموجود في الضرع ثبت بدليل ظني، وهو مخالف لما ثبت بدليل قطعي وهو الإجماع: من أن ضمان المثلى بالمثل، وضمان المتقوم بالقيمة، واللبن إن كان من ذوات الأمثال كان ينبغي أن يكون الواجب فيه مثله، وإن كان من ذوات القيم كان ينبغي أن يكون الواجب فيه القيمة، فإيجاب صاع من التمر مخالف للقاعدة على التقديرين مع أنه يجوز القياس عليه كما تقدم. وأما ثانيًا: فلأن قوله: وإن كانت علته منصوصة [فالأقرب أنه يستوي القياسان، إن أراد به أن يثبت ذلك النص بطريق قطعي وهو الذي يدل عليه آخر كلامه فتستحيل المسألة]؛ لأن كون دليل الحكم ظنيًا مع أن النص الدال على علته قطعي محال ضرورة أنه مهما علم النص الدال على علة الحكم كان الحكم معلومًا قطعًا، فدليله قطعي لا محالة، وإن أراد به أعم من ذلك أي: سواء ثبت ذلك النص بطريق قطعي أو ظني بطل قوله في آخر كلامه: "وهذا القياس طريق حكمه مظنون، وطريق علته معلوم".

والأولى أن يقال: في الضابط: أن ما ثبت على خلاف الأصول وعقل معناه ووجد في غيره جاز القياس عليه، ما لم يظهر من الشارع قصد تخصيص الحكم بذلك المحل، وما لم يترجح قياس الأصول عليه، فإن ترجح بما يترجح بعض الأقيسة على البعض لم يجز القياس عليه، لحصول المعارض الراجح لا لأنه لم يصلح أن يقاس عليه. ثم الدليل على جواز القياس عليه والحالة هذه: أنه حكم شرعي معقول المعنى معلل به إما بالنص أو بالطريق العقلي فجاز القياس عليه كالقياس على غيره من الأصول الغير المعدول به عن سنن القياس. فإن قلت: القياس على المعدول عن سنن القياس تكثير لمخالفة الدليل؛ لأن قياس الأصول يقتضي أن يكون حكم المعدول عن سنن القياس كحكمه، لكن النص أخرجه عنه فيبقى ما عداه على وفقه فإخراج غيره عن حكمه تكثير لمخالفته بخلاف القياس على الأصول الغير المعدول بها عن سنن القياس فإنه لا يلزم منه مخالفة الدليل. قلت: لا نسلم أن القياس على الأصول الغير المعدول بها عن سنن القياس والحالة هذه لا يلزم منه مخالفة الدليل؛ وهذا لأنه إذا اقتضى النص إخراج ما ورد فيه ودل نص آخر أو أمارة عقلية على علته اقتضى إخراج ما وجد فيه ذلك المعنى، فإلحاقه بالأصول الغير المعدول بها مخالفة لهذا الدليل، ثم ليس مخالفة لأجل عدم تكثير تلك المخالفة أولى من العكس بل العكس أولى؛ لأن زيادة المخالفة أقل محذورًا من أصل المخالفة، ألا ترى أن زيادة التخصيص قد ثبتت بما لا يثبت به أصل التخصيص عند كثير من الأصوليين، ولأن تأثر الضعيف المباشر أقرب عند العقل من تأثر الغير المباشر فكان الإلحاق بالمعدول أولى من الإلحاق بالأصول.

ورابعها: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يقتطع عن أصول أخر، وهي معقولة المعنى لكنها عديمة النظير، وذلك بأن لا يكون له نظير خارج عما يتناوله الدليل الدال على تلك الأحكام فلا يقاس عليها لتعذر الفرع الذي هو ركن من أركان القياس، وتسمية هذا بالخارج بعيد جدًا. مثاله: رخصة القصر لعذر السفر فإنه معلل بالمشقة المخصوصة وهي غير حاصلة في حق غير المسافر الذي تناوله النص فقط لا غير إذ لا يمكن إنكار أصل تعليله، فإن المشقة مناسبة ظاهرة لذلك الحكم، ولا يمكن تعليله بمطلق المشقة، وإلا لوجب ثبوته في حق المريض فلم يبق إلا تعليله بالمشقة المخصوصة التي هي غير حاصلة في حق الغير. ونحوه أيضًا: رخصة المسح على الخفين، فإنه معلل بمسيس الحاجة إلي استصحابه، وعسر نزعه في كل وقت لا يمكن إنكار ذلك، ولكن لا يساويه في هذا المعنى شيء مما يشبهه من بعض الوجوه كالعمامة والقفازين، وما لا يستر جميع القدم، فلذلك لم يجز قياس شيء منها عليه. ومنه شرعية القسامة، فإنه معلل بشرف الدم، ولا يوجد ذلك في غيره، فالحاصل أن تعذر القياس في هذا النوع لتعذر الفرع، لا لكونه خارجًا عن القياس لا بمعنى أنه غير معقول المعنى، ولا بمعنى انه مقتطع عن أصول أخر، وعند هذا ظهر خطأ قول من يقول من الفقهاء: إن توقيت الإجازة مثلا خارج عن قياس الأصول، كالبيع والنكاح، لأنه ليس جعل أحدهما أصلًا والآخر خارجًا عنه أولى من العكس، بل كل واحد منها أصل بنفسه لا نظير له.

وخامسها: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير اقتطاع عن اصول أخر، وهى معقولة المعنى، ولها نظير، وفروع، فهذا هو الذى يجرى فيه القياس باتفاق القائسين/ (158/ أ) وهو قم غير خارج عن قاعدة القياس باعتبار ما وبوجه من الوجوه.

المسألة الثانية لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه

المسألة الثانية لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بحنب الخصوصية نوعية كانت أو شخصية، بل كل حكم انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه فإنه يجوز أن يقاس عليه. والدليل: [ما سبق من أدلة كون القياس حجة، فإنها تدل على جواز القياس عليه مطلقًا] من غير اعتبار هذا الشرط، ولأن الصحابة حين قاسوا في مسألة الحرام، وحد شارب الخمر، وغيرهما لم يعتبروا هذا الشرط بدليل انهم ما بحثوا عنه أصلًا في موضع ما بدليل عدم نقله. وخالف فيه عثمان البتى فإنه زعم أنه لا يقاس على الأصل حتى تقوم الدلالة على جواز القياس عليه.

فإن أراد به: الدلالة عليه بحسب الشخصية فباطل قطعًا ـ وان أراد به حسب النوع فيقرب مذهبه من مذهب الحنفية في آن الحدود والكفارات، والمقدرات، والرخص، والمعدول عن قياس الأصول لا يقاس عليه، ويزيد بزيادة غير معتبرة في ذلك؛ لأن حاصل ما ذكروه في ذلك يرجع إلى أنهم اعتبروا أن لا يدل دليل على عدم جواز القياس على الأصل بحسب النوع، لأن كون تلك الأحكام في مظنة أن لا يعقل معناها دليل على عدم جواز القياس عليها [وهو يعتبر أن يدل دليل على جواز القياس] على كل أصل بحسب النوع، ولا شك في أنه غير معتبر لما تقدم من الدليل.

المسألة الثالثة لا يشترط في الأصل أن يكون قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل

المسألة الثالثة لا يشترط في الأصل أن يكون قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل، أو وإن ثبتت علته عنها بالنص، بل لو ثبت ذلك بالطرق العقلية الظنية جاز القياس عليه بما سبق من الأدلة. وخالف فيه بشر المريسى وزعم أنه لا يقاس على أصل حتى يدل نص على عين علة ذلك الحكم، أو انعقد الإجماع على كون حكمه معللًا، وهر باطل أيضًا، لما سبق. وكذلك لا يشترط في الأصل أن لا يكون محصورًا بالعدد بل يجوز القياس عليه سواء كان محصورًا أو لم يكن محصورًا. وقال قوم: المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه، ولهذا قالوا: لا يجوز القياس على جواز قتل الفواسق الخمس في الحل والحرم لأنهن محصورات في قوله عليه السلام: خمس يقتلن في الحل والحرم).

ثم الدليل على جواز القياس عليه ما سبق من الادلة فإنها تدل على جواز القياس مطلقًا من غير اعتبار هذا الشرط. وما يقال: بأنه لو امتنع القياس عليه لامتنع القياس على الاشياء الستة في تحريم الربا ضرورة حصرها في قوله عليه السلام: (لا تبيعوا البر بالبر) إلى آخره ضعيف؛ لأنهن غير محصورات باسم العدد، بل هي محصورات في الذكر وليس هو محل النزاع، بل النزاع فيما إذا كان الاصل محصورًا في اللفظ في عدد معين. واحتجوا: بأن مفهوم العدد حجة وذلك يدل على نفي الحكم عما عداه. وجوابه: منع أن مثل هذا المفهوم من العدد حجة. سلمناه لكن القياس أقوى من المفهوم. واحتجوا ايضًا: بأن جواز القياس عليه يبطل الحصر فلم يجز، كما إذا كان القياس يرفع شيئًا من مدلولات النص الدال على حكم الاصل. وجوابه: منع أن القياس عليه يرفع شيئًا من مدلولات النص بحسب الدلالة النطقية بل لو أبطل فإنما يبطل ما دل عليه بحسب المفهوم وقد تقدم جوابه.

الباب الثالث في الركن الثاني وهو الحكم وفيه مسائل:

الباب الثالث في الركن الثاني وهو الحكم

الباب الثالث في الركن الثاني وهو الحكم وفيه مسائل: المسألة الأولى في شرطه. وهو أن يكون شرعيًا، لم يتعبد فيه بالعلم. وقد عرفت فيما سبق فائدة القيد الأول. وأما قولنا: لم يتعبد فيه بالعلم، فاحترزنا به عما يتعبد فيه بالعلم كإثبات كون خبر الواحد حجة بالقياس على قبول الشهادة والفتوى على رأى من يزعم أنه من المسائل العلمية، وكون الاجتهاد جائزًا في طلب الحكم الشرعي قياسًا على جواز الاجتهاد في طلب القبلة؛ وذلك لان القياس التمثيلي [لم يفد] إلا الظن إذ تحصيل العلم بالمقدمتين أعنى كون هذا الحكم معللًا بالعلة الفلانية، وحصول تمام تلك العلة في صورة الفرع متعذر أو متعسر فإثبات المسألة العلمية به إثبات للعلمى بالظنى وهو ممتنع فلو حصل العلم بالمقدمتين على الندور لم يمتنع إثباته بالقياس التمثيلي لكنه لا يكون قياسًا شرعيًا مختلفًا فيه وهذا يستقيم إن أريد [به] تعريف الحكم

الذي هو ركن في القياس الظني الذى هو مختلف فيه، فأما إن أريد به تعريف الحكم الذى هو ركن في القياس كيف كان لا يستقيم ذلك بل يجب [حذف] قيد العلم عنه.

المسألة الثانية اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس أم لا؟

المسألة الثانية اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه. فاختار المحققون: بأنه يعرف "بقياس الدلالة" لا "بقياس العلة". وقياس الدلالة هو: أن يستدل بانتفاء آثار الشيء وانتفاء خواصه على عدمه. ويدخل تحته: الاستدلال بانتفاء الحكم/ (159 / أ) عن الشيء على انتفائه عن مثله؛ لأن من جملة خواص الشيء أنه مهما ثبت لشيء ثبت لمثله. فأما بقياس العلة فلا؛ لأن العدم الأصلي أزلي، والعلة حادثة بعده فلا يعلل بها. وهذا إنما يتم بأمرين: أحدهما: أن عدم العلة لا يكون علة العدم، فإن بتقدير أن يجوز ذلك فإن عدم العلة أزلي أيضًا فجاز أن يعلل به العدم الأصلي الذى هو أزلي، إذ الأزلي لا يمتنع تعليله بالأزلي الموجب. وثانيهما: أن لا يكون المراد من العلة الشرعية "المعرف" فإن بتقدير أن

يراد منها جاز ايضًا؛ لأن المتأخر يجوز أن يعرف المتقدم هذا كله في العدم الأصلي. فأما الطارئ فإنه يجرى فيه القياسان وفاقًا؛ لأنه حكم شرعي حادث فهو كسائر الأحكام الوجودية يجرى فيه قياس العلة.

المسألة الثالثة ذهب أصحابنا إلى أن القياس يجري في أسباب الأحكام كما يجري في الأحكام خلافا للحنفية

المسألة الثالثة ذهب أصحابنا إلى أن القياس يجري في أسباب الأحكام كما يجري في الأحكام خلافًا للحنفية. مثاله: أن نقيس اللواط على الزنا في كونه موجبًا للحد، ونقيس النباش على السارق في كونه موجبًا للقطع. ووجه إيراده أن نقول: إنما كان الزنا سببًا لوجوب الحد لكونه إيلاج فرج في فرج محرم قطعًا، مشتهى طبعًا، وهو حاصل بعينه في اللواط، فوجب جعله سببًا لوجوب الحد لوجود علة السببية فيه وإن كان لا يسمى بالزنا. ثم الدليل على جريان القياس في الأسباب هو: أن السببية حكم شرعي على ما عرف ذلك من قبل، فماذا عقلت علتها ووجد في صورة أخرى لم يتناولها النص الذى ثبت به السببية في الأصل وجب إلحاقها به لأدلة القياس

نحو قوله: {فاعتبروا}، وحديت معاذ، والوجه المعقول وأمثالها، وقياسًا على الأحكام التي هي عين السببية. فإن قلت: دليلكم على جريان القياس في الأسباب مبني على تعقل علة مستقيمة صالحة لأن تعلل بها السببية، ولا نسلم حصول هذا الشرط فيها بل هو لازم الانتفاء عندنا؛ وهذا لأن علة السببية إنما هي الحكمة، وهي ثمرة الحكم المتأخرة عن الحكم المتأخر عن السبب فلا يصلح لأن تعلل بها السببية، وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه بمرتبتين. سلمنا سلامتها عن هذا الطعن لكن لا تصلح للعلية من وجه آخر وهى: كونها خفية مضطربة غير مضبوطة، ولهذا لا يجوز تعليل الحكم بها. سلمنا حصول الشرط ودلالة ما ذكرتم من الدليل على المطلوب لكنه معارض بوجهين: أحدهما: أنه لو جرى القياس في الأسباب لكانت الأسباب معللة بعلة ضرورة أن لا يعقل القياس بدون العلة، ولكانت تلك العلة هي الحكمة إما في أول المرتبة أو بالآخرة، وإلا لو كان لوصف آخر كان الكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو باطل، فوجب الانتهاء بالآخرة إلى الحكمة، فثبت أنه لو جرى القياس فيها لكانت معللة بالحكمة لكن ذلك باطل؛ لأن تلك الحكمة إن كانت منضبطة بنفسها ظاهرة غير مضطربة وجوزنا تعليل الحكم بها كانت مستقلة باقتضاء الحكم المرتب على السبب فلا حاجة إلى توسط الوصف الذى هو سبب الاستغناء عنه، ولكونه قد يكون منشأ لزيادة الغلط، وإن لم يكن كذلك لم يجز تعليل السببية بها؛ لأن ذلك لم إن كان بانتفاء الضبط والظهور وحصول الاضطراب والخفاء فظاهر، وإن كان بانتفاء جواز تعليل

الحكم بها فكذلك ضرورة أن السببية حكم من أحكام الشرع. وثانيهما: أن قياس الشيء على الشيء يقتضى أن يكون بينهما وصف مشترك هو علة الحكم ضرورة أن القياس لا يقعل بدون العلة المشتركة، فلو قسنا مثلًا اللواط على الزنا في كونه موجبًا للحد فلابد وأن يكون بينهما وصف مشترك هو علة للموجبة والسببية، وحينئذ يكون السبب ذلك المشترك لا الزنا على سبيل الخصوصية فيخرج كل واحد من الزنا واللواط موجبًا وسببًا؛ لأن الحكم لما استند إلى المشترك بينهما استحال أن يكون معه مستندًا إلى خصوصية كل واحد منهما، وقد علم أن من شرط القياس بقاء حكم الأصل وهو زائل؛ لأن المقيس عليه حينئذ يخرج أن يكون مقيسًا عليه، فإذن جريان القياس في الأسباب يقتضى أن لا يكون السبب الذى هو أصل سببًا هذا خلف. ولا ينقض هذا بالقياس في الأحكام؛ لأن ذلك لا ينافي كون الأصل فيه اصلًا؛ لأن الأصل في قياس الأحكام غير موجب للحكم وإضافة الموجبة إلى القدر المشترك بينه وبين الفرع لا ينافي كونه اصلًا بخلاف السبب فإنه موجب للحكم فإضافة الموجبة إلى القدر المشترك منافية/ (160/ 1) للإضافة إلى السبب الذى هو الأصل على سبيل الخصوصية. لا يقال: يجوز أن يكون المشترك له تأثير في عملية الوصفين، وليس له تأثير في الحكم فلا يلزم من اشتراك الوصفين في وصف موجب للسببية أن يكون هو السبب؛ لأنا نقول هذا باطل؛ لأن ما يصلح لعلية العلة كان صالحًا لعلية الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة.

الجواب قوله: الدليل مبني على تعقل العلة. قلنا: نعم وكيف لا فإن تعقل ماهية القياس بدون تعقل العلة ممتنع. قوله: لا نسلم حصول هذا الشرط فيها. قلنا: الدليل عليه هو: أنا نجد في الزنا وصفا مناسبا لكونه سببًا لوجوب الحد وهو ما تقدم ذكره وهو بعينه حاصل في اللواط، ولا شك في صلاحيته للموجبية، ولا معنى لكون العلة صالحة لأن تعلل بها السببية إلا أن يكون وصفًا مناسبًا للموجبة. فإن قلت: فعلى هذا لم يكن الزنا سببًا بل السبب هو ذلك المشترك. قلت: الجواب عنه ما هو الجواب عن المعارضة الثانية وسيأتي: سلمنا أنا لا نجد بين الأسباب وصفًا مشتركًا يصلح للعلية فلم لا يجوز أن يكون معللًا بالحكمة؟ قوله: الحكمة ثمرة الحكم فتكون متأخرة عنه فلا يجوز التعليل بها. قلنا: إذا كان علل الشرع معرفات جاز تعليل المتقدم بالمتأخر لما تقدم غير مرة. سلما امتناع ذلك، لكن التعليل إنما هو الحاجة إلى حصول الحكمة وهى متقدمة على الحكم كما يقال: اتجر لحصول الغني فإن الغني كان يحصل بعد التجارة لكن الحاجة إلى حصوله متقدمة على التجارة، وهو مطرد في كل العلة الغائبة.

ولهذا قيل: إن أول الفكر أخر العمل. قوله: الحكمة خفية مضطربة فلا يجوز التعليل بها. قلنا: سيأتي الجواب عنه في مسألة جواز تعليل الحكم بالحكمة. قوله في المعارضة الأولى: لو جرى القياس في الأسباب لكانت معللة بالحكمة. قلنا ممنوع؛ وهذا لأنه يجوز أن تكون معللة بالوصف كما تقدم والتسلسل غير لازم، لأنا لا نقول بوجوب تعليل الأسباب بل بجوازه فجاز أن يكون السبب معللًا بوصف مشترك بينه وبين غيره ولا يكون ذلك الوصف معللًا بوصف آخر وحينئذ لا يلزم التسلسل. سلمنا الانتهاء بالآخرة الى الحكمة، لكن لا نسلم بطلان التعليل بها. قوله: لأن تلك الحكمة إن كانت ظاهرة منضبطة بنفسها غير مضطربة وجوز تعليل الحكم بها كانت مستقلة باقتضاء الحكم المرتب على السبب فلم يحتج إلى توسط السبب للاستغناء عنه. قلنا: إنه وإن جوز تعليل الحكم بالحكمة، لكن التعليل بالوصف لكونه أظهر وأضبط جائز بالإجماع فلم يكن توسطه غير محتاج إليه. سلمنا انه حينئذ غير محتاج إليه، لكن لا نسلم أنه اذا لم يجز تعليل الحكم بها لم يجز تعليل السببية بها؛ وهذا لأنه يجوز أن يقال: إنما لا يجوز تعليل الحكم بها لكون الوصف أغنى عنها، وأما السببية لما لم يوجد فيها ما يوجب الاستغناء عنه لا جرم جاز التعليل بها، والمراد من الحكم في قولنا:

إنه لا يجوز تعليل الحكم بها الحكم الذى هو غير السببية وإلا لزم جواز تعليل السببية على التقدير الأول من غير حاجة إلى بيان عدم الاحتياج إلى توسط الوصف. قوله في المعارضة الثانية: لا بد وأن يكون بينهما وصف مشترك. قلنا: اولًا: لا نسلم ذلك وهذا؛ لأنه يجوز أن يكون المشترك هو الحكمة لا الوصف. سلمناه لكن لا نسلم امتناعه. قوله: لأن السبب والموجب حينئذ هو ذلك المشترك لا الزنا وحينئذ يلزم أن لا يبقى السبب سببًا. قلنا: لا نسلم لزوم ذلك؛ وهذا لأن الذى يلزم منه هو أن ذلك المشترك يكون سبب السبب، فلم قلتم أنه يلزم منه أن يكون سبب الحكم حتى يلزم ما ذكرتم؟ سلمناه لكن لا نسلم أنه يلزم منه أن لا يبقى السبب سببًا [بل الذى يلزم منه هو أن لا يبقى مورد النص وهو الزنا في مثالنا سببًا] بخصوصيته بعد البحث والاطلاع على ذلك المشترك لكن لا نسلم امتناعه؛ فإن هذا شأن كل إلحاق يكون بإلغاء الفارق، ألا ترى أنكم لما ألحقتم الإفطار بالأكل والشرب بالجماع بإلغاء الفارق قلتم: إن ذلك الحكم وهو وجوب الكفارة ليس هو حكم الجماع بل هو حكم الجماع بل هو حكم الإفطار فلم يبق مورد النص موجبًا للحكم بل الموجب له هو مطلق الإفطار فكذا ما نحن فيه حذو القذة بالقذة، غاية ما في الباب أنكم لا تسمون هذا النوع من الإلحاق قياسًا بل تسمونه استدلالًا، وذلك نزاع لفظي غير قادح في المعنى، فإنا نجري مثل هذا

النوع من الإلحاق في الأسباب سواء سمى قياسًا، أو استدلالًا، فإن ساعدتمونا فقد حصل الغرض وإلا صرتم محجوجين بما تقدم من الأدلة.

المسألة الرابعة ذهب أصحابنا وأكثر الأثمة إلى: أنه يجوز إثبات الحدود/ (161/ أ) والكفارات، والرخص، والتقديرات بالأقيسة خلافا لأبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله تعالى -

المسألة الرابعة ذهب أصحابنا وأكثر الأثمة إلى: أنه يجوز إثبات الحدود/ (161/ أ) والكفارات، والرخص، والتقديرات بالأقيسة خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله تعالى -. لنا: ما تقدم من أدلة القياس، فإنه يدل على جواز القياس في الأحكام الشرعية مطلقًا من غير فصل بين باب وباب، فالتخصيص بباب دون باب خلاف لإطلاق تلك الأدلة فكان باطلًا. ويخص المسألة ما روى أن الصحابة اجتهدوا في حد شارب الخمر فقال على - رضى الله عنه -: "أراه ثمانين، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون" ولا شك في أنه قياس؛ إذ ليس هو من قبيل الاجتهاد في النص، والبراءة الأصلية، ولا هو إجماع فهو إذن قياس، ثم إن أحدًا منهم لم ينكر عليه في أنه كيف يثبت الحد بالقياس بل ارتضوه وعملوا به فكان ذلك إجماعًا منهم على جواز القياس في الحدود.

فإن قيل: تدعى أن تلك الأدلة تدل على جريان القياس في الأحكام الشرعية مطلقًا سواء وجدت أركان القياس وشرائطه أو لم توجد، أو تدعى أن دلالتها عليه إنما هي عند حصول الأركان والشرائط، والأول ظاهر ولا يقوله عاقل، والثاني مسلم، لكن لا نسلم إمكان حصولها فيما نحن فيه. سلمناه لكن لا نسلم حصولها فيما نحن فيه؛ وهذا لأن الحدود والكفارات، والتقديرات أمور مقدرة لا يهتدى العقل إلى تعقل المعنى الموجب لتقديرها فلا تعقل فيها العلة، وحينئذ لا يمكن أن يجرى القياس فيها. وأما الرخص فهي منح من الله تعالى فلا يتعدى بها عن مواردها، وحينئذ يمتنع أن يقاس عليها، ثم ما ذكرتم معارض بوجهين: أحدهما: أن القياس لا يفيد القطع بل يفيد الظن، فيحتمل أن يكون الأمر على خلاف ما اقتضاه وذلك شبهة وهى مسقطة للحد بعد ثبوت سببه للحديث، والإجماع فكيف يجوز إثبات سببه بالشبهة؟ وثانيهما: أن مدار القياس على الجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، على ما تبين ذلك من قبل، وشرعية الكفارات والحدود على خلاف هذا، فإن القاف بالزنا يوجد الحد، والقذف بالكفر مع أنه أعظم جريمة من الزنا لا يوجبه، والسرقة توجب القطع، ومكاتبة الكفار بما يطلع على عورات المسلمين مع أنها أعظم جريمة من السرقة لا توجبه، والقتل يوجب الكفارة، والكفر مع أنه أعظم جريمة منه لا يوجبها، والظهار لكونه منكرًا من القول وزورًا يوجب الكفارة، والشهادة بالزور في حقوق الله تعالى او في حقوق العباد مع حصول ما ذكر من العلة فيها لا يوجبها فيمتنع جريان القياس فيها.

الجواب عن الأول هو: أنا ندعى جريان القياس فيها عند حصول الأركان والشرائط. قوله: إمكان حصول ذلك فيها ممنوع. قلنا: الدليل عليه هو: أن صريح العقل حاكم بأنه لا متناع في أن يشرع الشارع الحد أو الكفارة في صورة لأمر مناسب، ثم أنه يوجد ذلك المناسب في صورة اخرى، فليس وضع الحد والكفارة منافيًا لهذا المعنى حتى يمتنع لأجله. قوله: هب أنه ممكن لكنه غير حاصل. قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه حينئذ ارتفع النزاع الأصولي؛ فإنا لا نجوز القياس في شيء من الأحكام الشرعية بدون حصول الشرائط والأركان بل عند حصولهما، فإن جوزتم فيها القياس عند حصول شرائطه وأركانه فحينئذ حصل الوفاق، فإما ادعاؤكم بعد هذا أنه غير حاصل فيها، فذلك إنما ثبت بعد البحث والاستقراء أن عن كل واحدة من مسائلها، فإن وجدت العلة صح القياس فيها، وإلا فلا كغيرها من المسائل، فلا فرق حينئذ بين مسائل هذا الباب وبين غيره من هذا الوجه فيجب التسوية بينها وبين غيرها في جريان القياس. وثانيهما: أن نبين [معنى] مناسب في الصور التي ورد النص فيها بوجوب الكفارة أو الحد ولا معنى لعلة الحكم إلا المعنى المخيل الذى يغلب

على الظن أنه ما شرع الحكم إلا لأجله، ثم نبين وجوده في صورة النزاع فيلزم ثبوت وجوب الكفارة أو الحد في صورة النزاع كما في سائر الأحكام. مثاله: أن نقول: الحد إنما وجب في شرب الخمر لكونه مزيلًا للعقل الذى هو مناط التكليف، ووازع الإنسان عن فعل القبائح والمناهي والتسبب إلى إزالة هذا الأمر الشريف مناسب للزجر والمناسبة مع الاقتران يفيد ظن العلية، فيلزم أن يكون هذا هو العلة في وجوب الحد، ثم أن هذا المعنى حاصل في شرب النبيذ فوجب أن يجب فيه الحد أيضًا. وعند هذا ظهر أن حصول أركان القياس وشرائطه في هذا الباب كما هو في سائر الأبواب فلا معنى للتفرقة بينهما ومنع حصولهما فيما نحن فيه. قوله: الرخص منح من الله فلا يقاس عليها. قلنا: شرعية الشرائع بأسرها منح من الله تعالى فكان ينبغي أن لا يجري القياس في شيء من أحكامها. وعن المعارضة الأولى: النقض بخبر الواحد فإنه لا يفيد القطع ويحتمل أن يكون الأمر على خلافه مع أنه يجوز إثبات الحدود والكفارات/ (162/ 1) به عندكم أيضًا، والنقض بالقصاص أيضًا، فإنه يجوز إثباته بالقياس عندكم مع أنه يدرأ بالشبهات. سلمنا سلامته عن النقض لكن وجوب العمل بالقياس لما كان معلومًا بالقاطع لم يحتمل أن يكون ذلك خطأ.

وعن الثانية ما تقدم في جواب شبهة النظام ثم [أعلم] أن الشافعي- رضى الله عنه- ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال: "أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى تعدوها إلى الاستحسان، فإنهم زعموا في شهود الزوايا أن المشهود عليه يجب رجمه إن كان محصنًا وإلا فالجلد استحسانًا مع أنه خلاف العقل- فلأن يعمل بما يوافق العقل كان أولى. واعلم ان هذا يصير نقضًا عليهم لو فسروا الاستحسان بالقياس أو يقولون أنه وإن كان مغايرًا له لكنه أضعف منه، فأما إذا لم يفسروا به ولا يثبتونه مدركًا أضعف من القياس فلا يتم. وأما في " الكفارات" فقد قاسوا الإفطار بالأكل والشرب، على الإفطار بالوقاع، وقاسوا قتل الصيد ناسيًا على قتله عمدًا مع تقيد النص به في قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم} وهذا نقض عليهم بحسب ما هو الواقع في نفس الأمر فإن الحق [أن] هذا النوع من الإلحاق أعنى به ما يكون بإلغاء الفارق قياس في نفس الأمر وإن لم

يعتقده القوم ذلك [ولا يسمونه به] بل يسمونه استدلالًا؛ لأنه لا معنى للقياس إلا إلحاق المسكوت بالمنطوق به لعلة شاملة لهما سواء علمت العلة أو ظنت بالمناسبة أو بالدوران أو إلغاء الغير بطريق السبر والتقسيم وليس لهم أن يقولوا: إن القياس فيما ذكرتم من الصورتين يقيني ونحن إنما نمنع من جريان القياس فيما نحن فيه، فأما اليقيني فإنه جار في جميع الأحكام؛ لأن من المعلوم أن القياس فيهما ليس يقينيًا، فإن لخصوصية كونه إفطارًا بالجماع، وكونه قتلًا متعمدًا مناسبة ظاهرة لإيجاب الكفارة والجزاء من حيث إن الامتناع عن الجماع عند هيجان شهوته أشق على النفس من الامتناع عن الأكل والشرب عند اشتهائهما، فربما لا تنزجر النفس عنه بمجرد وازع الدين فيحتاج معه إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل والشرب، فإنه لكون الاصطبار عنهما لا يشق على النفس تلك المشقة اكتفى فيهما بمجرد وازع الدين، ومن حيث إن الجناية مع التعمد أعظم جريمة من الجناية خطأ بدليل حصول الإثم في الأولى دون الثانية، فلا يلزم من وجوب البدل والجزاء في أعظم الجنايتين وجوبه في أصغرهما ومع ظهور هذا الفارق المناسب كيف يمكن ادعاء أن هذا القياس يقيني. وأما المقدرات، فهو كتقدير النصاب والزكاة والمواقيت في الصلاة فقد قاسوا فيها أيضًا كما في تقديراتهم في "الدلو والبئر" فإن ذلك ليس عن

نص ولا إجماع ولا عن أثر فيكون عن قياس ولو صح في البعض منها أثر كما يزعمه القوم فلا شك في أن ذلك لم يصح في جميع مسائلها فيكون القول بذلك في البعض الآخر بالقياس. وأما المعدول عن القياس، فقد قاسوا فيه أيضًا، فإن الوضوء بنبيذ التمر ورد على خلاف القياس، ولهذا لم يلحقوا نبيذ الزبيب به مع إيماء اللفظ إلى العلة الموجودة فيه وهو قوله - عليه السلام -: (ثمرة طيبة وماء طيب)

وقد ألحقوا به الغسل. وكون القهقهة حدثًا في الصلاة أيضًا على خلاف قياس الأحداث ولهذا لم يقيسوا عليه صلاة الجنازة ثم أنهم ألحقوا النفل بالفرائض وليس ذلك إلا بطريق القياس. وأما الرخص، فقد قاسوا فيها أيضًا، فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص، ثم أنهم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت، أو معتادة، وانتهوا فيها إلى نفى إيجاب استعمال الأحجار وجعلوه أصلًا لغير ذلك المحل حتى قالوا: يعفى بقدره من النجاسة في أي عضو كان. وأما إثباتهم الرخصة في سفر المعصية، فليس ذلك من قبيل القياس حتى يرد عليهم أن يقال: أنهم قاسوا في الرخص وأثبتوا به الرخصة حيث يقتضى القياس نفيها؛ فإن القياس يقتضى أن لا يترخص العاصي بسفره من حيث إن

القصر والفطر في السفر إعانة، والمعصية لا تناسب الإعانة، بل هو من قبل الاستدلال بإطلاق النصوص المثبتة لتلك الرخص.

المسألة الخامسة ذهب أصحابنا إلى أنه يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس خلافا للحنفية والجبائي من المعتزلة

المسألة الخامسة ذهب أصحابنا إلى أنه يجوز إثبات أصول العبادات بالقياس خلافًا للحنفية والجبائي من المعتزلة، وبنوا عليه أنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس. لنا: أدلة القياس، والقياس على سائر الاحكام بجامع ما يشتركان فيه من المصالح الناشئة من القياس. وأيضًا إن لم يجوزوا القياس فيها، فإما: لأنه لم يعقل فيها المعنى فهذا باطل لما تقدم، أو لأن القياس لا يفيد إلا الظن والمعتبر فيها القطع فهو أيضًا باطل، لأنه منتقض بقبول خبر الواحد فيها، وعدم قبوله بعيد جدًا، وبالوتر، إذ لم يوجد فيه القطع، [ولا نسلم اعتبار القطع/ (167 / أ) فيها]، ولا نسلم أنه كان يجب على الرسول إبلاغه مبينًا بيانًا شافيًا إلى أهل التواتر حتى يصير متواترًا، أو وإن جاز الأخذ بالظن فيها لكن مع ذلك لا يجوز القياس فيها فهو أيضًا باطل لأنه تحكم محض. فإن قيل: لو اكتفى في أصول العبادات بالظن نفيًا وإثباتًا لم يكن لنا سبيل إلى القطع بعدم وجوب الصلاة السادسة، وعدم وجوب صوم شوال، لاحتمال أن يقال: أنه عليه السلام بينه لآحاد الناس ثم أنهم أخلوا بنقله. قلنا: المعتمد في نفى ذلك إجماع الأمة.

احتجوا: بأنه لو جرى القياس فيها لأمكن إثبات عبادة مستقلة قياسًا على العبادات المشروعة بجامع المصالح المتعلقة بالعبادات. قلنا: ليس ذلك من القياس في شيء بل هو تشريع غير جائز من المجتهدين.

المسألة السادسة الأمور العادية والخلقية: كأقل الحيض وأكثره، وأقل مدة الحمل وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس

المسألة السادسة الأمور العادية والخلقية: كأقل الحيض وأكثره، وأقل مدة الحمل وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس. وكذا ما لا يطلب فيه الظن بل المطلوب فيه العلم لا يجوز إثباته بالقياس. ومنه ما لا يتعلق به عمل كقران النبي وإفراده، ودخوله مكة عنوةً أو صلحًا لا يجوز إثباته بالقياس. وفى المثال نظر والدليل عليه: أن المطلوب من القياس إنما هو الظن الناشئ من تعليل الحكم بعلة، وحصولها في الفرع وذلك غير حاصل في بعض الصور، وغير مطلوب في البعض الأخر فلم يجز القياس فيها. بيان الأول: أن أسباب الأمور العادية والخلقية غير معلومة ولا مظنونة وأن الظن غير مطلوب في المطالب العلمية فلم يجز القياس فيهما.

المسألة السابعة يجوز أن تثبت الأحكام الشرعية بأسرها بالنصوص

المسألة السابعة يجوز أن تثبت الأحكام الشرعية بأسرها بالنصوص؛ إذ لا امتناع في أن ينص الشارع على الأحكام الكلية بحيث لا يشذ فرد من افرادها عنها. وأما إثباتها بالقياس فممتنع لوجهين: أحدهما: أن القياس لا يتم إلا بعد ثبوت حكم الاصل فإثبات حكمه إما بالنص، أو بالقياس فإن كان الأول فقد حصل الغرض، وهو أنه لم يمكن إثبات كلها بالقياس، وإن كان الثاني فالكلام في أصله كالكلام فيه فيلزم إما التسلسل، أو الدور وهما محالان، فيلزم إثبات حكم الأصل بالآخرة بغير القياس، وهو المطلوب. وثانيهما: أن جملة من الأحكام تعبدية لا يعقل معناها كمقادير العبادات، وكيفياتها، وكمياتها، ومواقيتها، ونصب الزكوات،.فإثبات تلك الأحكام بالقياس غير ممكن. واحتج المخالف: بأن الأحكام من حيث الحكم متماثلة، وما صح على الشيء صح على مثله، وإذا جاز إثبات بعض منها بالقياس جاز إثبات البعض الآخر به. وجوابه: النقض بأفراد الأنواع المختلفة المندرجة تحت جنس واحد فإنها متماثلة من حيث الجنس مع أنه لا يصح على كلها ما صح على بعضها.

المسألة الثامنة قد عرفت مما سبق من أدلة القياس أن القياس مأمور به، فهو إذن إما واجب، أو مندوب

المسألة الثامنة قد عرفت مما سبق من أدلة القياس أن القياس مأمور به، فهو إذن إما واجب، أو مندوب، لإجماع القائلين بالقياس على أنه ليس بمباح متساوي الفعل والترك، والواجب إما واجب على العين، أو على الكفاية. ولا شك أنه ليس بواجب على العين على كل المكلفين بل على بعضهم وهو من نزل به الواقعة من المجتهدين ولم يجد فيها نصًا ولا إجماعًا، فإنه يتعين عليه الاجتهاد [إذ لا يجوز له ان يقلد الغير، أو نزلت بمكلف ولم يوجد هناك مجتهد إلا واحد فإنه يتعين عليه الاجتهاد]. وأما وجوبه على الكفاية فهو بالنسبة إلى المجتهدين عند نزول الواقعة بشخص دون غيرهم من سائر المكلفين، فإنه لو ترك الكل لأثموا دون غيرهم من المكلفين. وأما ندبيته فهو أيضًا بالنسبة إليهم لكن قبل نزول الواقعة [ليكون حاضر الجواب عند نزول الواقعة]. وهل يصف بكونه دينًا لله تعالى؟ اختلفوا فيه: فوصفه به بعضهم كالقاضي عبد الجبار.

وأنكره بعضهم كأبي الهذيل. وفصل بعضهم كالجبائي بين ما إذا كان واجبًا، وبين ما إذا كان ندبًا فوصفه بذلك فيما إذا كان واجبًا دون ما إذا كان ندبًا. والحق: أنه إن عنى بكونه دينًا لله أن اعتقاد التعبد به معتبر في تحقق الدين كما في الأركان الخمسة، وكما في النصوص حتى يكفر منكروه، فإن ما يكون شأنه ذلك يوصف بكونه دينًا كما في قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} إلى قوله: {وذلك دين القيمة} فالقياس ليس بدين؛ إذ لا يكفر منكروه، وإن عنى به ما يكون مشروعًا في الدين فإن غير المشروع يقال: إنه ليس من الدين كما في قوله عليه السلام: (من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه) فالقياس يوصف بكونه دينًا مطلقًا.

خاتمة ذهب الأكثرون إلى صحة القياس في العقليات، وأنكره الغلاة من الحشوية والظاهرية، ومنكروا النظر. ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد، وبناء الغائب على الشاهد وما يجرى مجراهما. واتفق القائلون به على أنه لا بد فيه من جامع عقلي، وإلا لكان الجمع تحكمًا محضًا فكان باطلًا، وهو كقياس أهل البدع والضلال نحو

المشبهة فإنهم قالوا: فاعل فوجب أن يكون على شكل وصورة كما في الشاهد. ونحو الدهرية فإنهم قالوا: لا نعقل في الشاهد موجودًا ليس/ (164 / أ) في الجهة ولا في الحيز، ولا في داخل العالم ولا في خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا يناسب موجودًا ألبتة فوجب أن يكون في الغائب كذلك، فهذان القياسان وأمثالهما من أقيستهم خالية عن الجامع ثم حصروا الجامع في العلة، والحقيقة والشرط، والدليل. أما الجمع بالعلة: فكقول أصحابنا: كون العالم عالمًا في الشاهد معلل بالعلم فوجب أن [يكون] في الغائب كذلك. واعترض عليه بانه غير مطابق؛ لأن هذا جمع بالمعلول لا بالعلة فإنه جمع فيه بين الشاهد والغائب بكونه عالمًا، وهو معلول العلم لا علته. والمثال المطابق له أن يقال على رأى أصحابنا: أن كون الشيء يصح أن يكون مرئيًا في الشاهد معلل بالوجود فكذا في الغائب. وأما الجمع بالحقيقة فكقول أصحابنا: حقيقة العالم في الشاهد من له العلم فوجب أن يكون في الغائب كذلك.

[وأما الجمع بالشرط فهو أيضًا كقولهم: العلم في الشاهد مشروط بالحياة، فوجب أن يكون في الغائب كذلك]. واعترض عليه: بأن هذا جمع بالمشروط لا بالشرط، فإن كونه عالماً وهو الذي وقع به الجمع مشروط لا شرط. والمثال المطابق لذلك كقول المعتزلة: شرط صحة كون الشيء مرئيًا في الشاهد أن يكون مقابلًا وفي حكم المقابل، فوجب أن يكون في الغائب كذلك. وأما الجمع بالدليل فهو كقول أصحابنا والمعتزلة ملي الفلاسفة: الإتقان والتخصيص يدلان على العلم والإرادة في الشاهد فكذا في الغائب. ثم المحققون على أن هذا القياس ظني غير مفيد للقطع في الأكثر. وقال إمام الحرمين: "إنه باطل، واستدل عليه بأن الإلحاق إن لم يكن بجامع كان تحكمًا محضًا كما ذكر فكان باطلًا، وإن كان لجامع فلا شك أن الجمع بالعلة والحقيقة أقوى من الجمع بالأخرين وهما باطلان؛ لأن الجمع بهما مبني على القول بالحال وهو باطل". وقال الإمام: "الجمع بالعلة أقوى من الكل وهو غير مفيد للقطع؛ لأن إفادته للقطع متوقف على حصول القطع لنا بأن الحكم في الأصل ثبت لعلة كذا، وأن تلك العلة بتمامها حاصلة في صورة كذا لأنهما مقدمتا القياس،

فإذا لم يكونا قطعيتين استحال حصول القطع بالنتيجة، وعند حصول القطع بهاتين المقدمتين يحصل القطع بالنتيجة؛ لأن المعنى من حصول العلة بتمامها أن لك ما لا بد منه في ثبوت الحكم بتلك العلة حاصل فلو لم يحصل القطع بثبوت الحكم في تلك الصورة لكان ذلك لاحتمال تخلف الحكم عنها في تلك الصورة لكن ذلك باطل؛ لأن ذلك يقتضي ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو ممتنع؛ لأن استلزام تلك العلة للحكم في الأصل دون الفرع مع أنه لم يختلف حالهما في الصورتين لا بحسب انضمام شيء إليه، ولا بحسب زوال شيء عنه ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح لكن حصول القطع بهاتين المقدمتين أمر صعب؛ لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الاصل لكن المثلان لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا غير ذاك، وذاك غير [هذا] فيكون كل واحد منهما غير الأخر فالاثنان واحد هذا خلف، وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلة، وفي الجانب الآخر يكون مانعًا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع بحصول تمام العلة في الفرع على التفسير المذكور، نعم لو قامت الدلالة القاطعة على أن ما به الامتياز لا مدخل له في اقتضاء العلة للحكم حصل القطع بثبوت الحكم لكن لا يكاد يوجد ذلك في العقليات الحقيقية التي لا تختلف باختلاف تفسير اللفظ، نحو قول القائل: العالم في الشاهد من له العلم فكذا في الغائب؛ لأنا لا نعني بالعالم إلا من له العلم، ومعلوم أن هذا لا يختلف موجبه بحسب الواجب والممكن. ثم القائلون به ذكروا في تعيين العلة طرقًا:

أولها وهو أقواها: الدوران الذهني، وإن لم يكن خارجيًا كقولهم: متى عرفنا كون التكليف تكليفًا بالمحال عرفنا قبحه وإن لم نعرف شيئًا آخر، ومتى لم نعرف ذلك لم نعرف قبحه وإن عرفنا سائر صفاته، فإذن العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه تكليفًا بالمحال في الذهن، فهذا الدوران الذهني يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح ليس إلا تعيين كونه تكليفًا بالمحال لا غير. وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم أنه لما لزم من العلم به العلم بقبحه ومن عدم العلم به وإن علمنا سائر صفاته عدم العلم بقبحه لزم أن يكون المؤثر في القبح إنما هو كونه تكليفًا بالمحال وما الدليل عليه فإنه ليس العلم به بديهيًا لحصول التفاوت بينه وبين سائر البديهيات بل يكون نظريًا وحينئذ يحتاج إلى الدليل. سلمنا قيام الدلالة عليه لكن المقدمة الأولى منقوضة بالإضافات [فإنا متى علمنا كون الشخص أبا علمنا كون شخص آخر ابنًا له] ومتى علمنا كون الشخص ابنًا علمنا كون شخص آخر ابًا له مع أنه يستحيل أن يكون احدهما/ (165/ أ) علة للآخر فإن المضافين معًا والعلة يجب أن تكون قبل المعلول، والمقدمة الثانية مقيدة بقيد يتعذر حصول القطع به، لأنه لا يمكن القطع بها إلا إذا عرفنا سائر صفاته فإن بتقدير أن يكون بعض صفاته غير معلوم لنا لم يكن القطع معه بأن العلم بسائر صفاته [فإن بتقدير أن يكون بعض صفاته] غير كونه تكليفًا بالمحال لم يستلزم العلم بقبحه لجواز أن يكون العلم بذلك البعض يستلزم العلم بقبحه لكن لا يمكننا القطع بذلك لجواز أن يكون له صفات لا نعرفها. سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك يدل على عدم علية تلك الصفات وما

الدليل عليه. فإن قلت: لأن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول فكل شيء لا يستلزم العلم به بشيء آخر لا يكون ذلك الشيء علة له. قلت: في هذا نظر عرف في موضعه. وثانيها: الدوران الخارجي وقد عرفت فيما تقدم انه لا يفيد إلا الظن. وثالثها: التقسيم المنتشر، فإذا قيل لهم لم لا يجوز أن تكون العلة أمرًا آخر غير ما ذكرتم؟ قالوا: اجتهدنا في طلبه وبالغنا في فحصه فما وجدناه، وعدم الوجدان بعد البحث الشديد والفحص البليغ يدل على عدم الوجود كالمبصر إذا طلب شيئًا في الدار ونظر إلى جميع جوانبها في النهار فلم يجده فإنه يقطع بعدم وجوده فيها. وهذا ضعيف جدًا؛ أما أولًا: فلأن عدم الوحدان لا يدل على العدم إذ رب موجود ما وجدناه بعد البحث والاستقصاء التام. والقياس على الصورة المذكورة قياس من غير جامع وبتقدير تحققه فهو إثبات للقياس بالقياس وهو باطل، وبتقدير صحته فالفرق ظاهر جدًا وهو أن جوانب الدار محصورة مضبوطة فإذا طلب فيها مع الإمعان فلم يجده فربما يقطع بعدم الوجود بخلاف نظر العقل فإنه في غير محصور ومضبوط فلا يحصل له القطع بعدم الوجود. فإن قلت: فالمسألة المنظور فيها أيضًا محصورة مضبوطة؟ قلت: ما لها من الصفات الصالحة للعلية غير محصورة ولا مضبوطة فلم يفد ضبط أصل المسألة.

نهاية الوصول في دراية الأصول للشيخ/ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي الهندي أصل هذا الكتاب رسالتي دكتوراه من جامعة الإمام بالرياض د/ صالح بن سليمان اليوسف د/ سعد بن سالم السويح المجلد الثامن المكتبة التجارية بمكة المكرمة

الباب الرابع في الركن الثالث

الباب الرابع في الركن الثالث وهو العلة

الباب الرابع في الركن الثالث وهو العلة. وهو مرتب على أقسام: القسم الأول: في الطرق الدالة على كون الوصف علة الحكم، وفيه مقدمة وفصول: أما المقدمة ففي تفسير العلة: اعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد من العلة الشرعية: ما يكون مؤثرًا في الحكم لذاته. أما أولًا: فلما تقدم من إبطال القول بالتحسين والتقبيح. وأما ثانيًا: فلأن الحكم قديم، والوصف حادث فيستحيل تعليله به.

وأما ثالثًا: فلأن ترك الواجب سبب للعقاب فلو كان معللًا به بمعنى أنه مؤثر فيه لزم أن يكون العدم علة الوجود وهو ممتنع، ولا يجعل فعل الضد المؤثر وهو وجودي؛ لأنا نمنع ملازمته للترك؛ إذ يجوز خلو القادر عن فعل الشيء، وضده كما هو رأى أبى هاشم وأبى الحسين. سلمناه لكن المستلزم للعقاب بالذات إنما هو عدم فعل الواجب لا فعل الضد؛ بدليل أنه لو فرض عدم فعل الواجب بدونه استلزم العقاب، ولو فرض فعل الضد بدون ترك الواجب لما استلزم ذلك والعلة هو المستلزم بالذات لا بالعرض فيكون الترك علة وهو ممتنع، وكذا التقدير فيما إذا كان القيد العدمي جزء علة الوجود كما في قولنا: "القتل العمد العدوان سبب للقصاص" فإن العدوانية قيد عدمي؛ إذ معناها أنه غير مستحق عليه، ولا يجعل شرطًا حتى لا يرد ذلك؛ لأنه كما لا يجوز جعل العدم جزء علة الوجود لا يجوز جعله شرط علته؛ لما أنه يلزم منه أن يكون العدم علة الوجود؛ إذ العلية أمر وجودي وهي حاصلة عند حصوله، ومنتفية عند انتفائه، ولا سبب له سواه فيضاف إليه فيكون علة، وفى هذا نظر لا يخفى. وأما رابعًا: فلأن العلل الشرعية لو كانت مؤثرات لذواتها لما جاز أن يجتمع على المعلول الواحد علل مستقلة، كما في العقلية على ما عرف ذلك في محله، لكنه جائز على ما ستعرف ذلك فوجب أن لا تكون مؤثرة لذواتها. ولا يجوز أن تكون العلة الشرعية بمعنى: الباعث.

أما أولا: فلأن ذلك في حق الله تعالى محال؛ لأن من فعل فعلًا لغرض فإنه لابد وأن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله؛ إذ لو لم يكن أولى لم يكن ذلك غرضًا له، والعلم بذلك ضروري بعد الاستقراء والتجربة، وإذا كان حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى وكان حصول تلك الأولوية متوقفة على فعل ذلك الفعل، كان حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير فتكون ممكنة غير واجبة لذاته ضرورة أن كل ما يتوقف على الغير فإنه يكون ممكن [فيكون كماله تعالى ممكنًا] غير واجب لذاته وهو ممتنع قطعًا. وما يقال: من أن حصول ذلك الغرض ولا حصوله وان كان بالنسبة إليه على التسوية لكن بالنسبة إلى غيره ليس كذلك بل حصوله لهم أولى فيفعل الله تعالى لا لغرضه؛ بل لغرضهم وحينئذ لا يلزم منه استكمال ذاته تعالى بصفة ممكنة لا يفيد/ (166 /أ)، لأن التقسيم المذكور آت فيه بأن يقال: فعله لذلك الفعل لتحصيل غرضهم إن كان أولى له من لا فعله جاء حديث الاستكمال، وان لم يكن فتحصيل ذلك الغرض إن كان لتحصيل غرض آخر لهم كان الكلام فيه كالكلام في الأول، ولزم التسلسل وهو ممتنع، وإن لم يكن لغرض آخر لهم مع أنه ليس له فيه أولوية استحال أن يكون غرضًا لما تقدم. وأيضًا: فإن من يعلل أفعاله تعالى بالمصالح ودفع القبائح (استحال أن لا يجعل له غرضًا فيه إذ عنده يصير بترك المصالح وفعل القبائح) مستحقًا للذم غير مستحق للإلهية ومع هذا كيف يقال ليس له فيه غرض؟. وأما ثانيًا: فلأن العلم الضروري حاصل بعد الاستقراء أنه لا غرض إلا

حصول اللذة، أو دفع الألم، أو ما يكون وسيلة إليهما، ولما امتنع على الله تعالى اللذة والألم استحال أن يكون له غرض، وبتقدير عدم امتناع ذلك عليه فإنه يستحيل أن تكون فاعليته تعالى لشيء لغرض تحصيل اللذة أو دفع الألم؛ لأن الله تعالى قادر عليهما ابتداء من غير وساطة شيء، وإذا كان كذلك يستحيل أن فاعليته تعالى لشيء لدفع الألم وجلب اللذة. أما أولًا: فلأن توسيط ما لا يتوقف الفعل عليه في تحصيله مما لا فائدة فيه وهو عبث وهو على الحكيم محال. وأما ثانيًا: فلأنه يلزم ان لا تكون الواسطة واسطة للشيء [إذ المعنى من كون الشيء واسطة للشيء] وهو أن حصوله بطريق وساطته، فإذا كان الله تعالى قادرا على تحصيل ذلك الغرض ابتداء كما هو قادر على تحصيله بطريق الوسائط لم تكن الواسطة واسطة. وأما ثالثا: فلأن العلة الغائية علة لعلة الفاعلية ومعلول لها في الخارج، فيجب أن يكون بينهما ارتباط العلية بالمعلولية، ولما لم يكن كذلك حينئذ إذ لا يلزم من حصول ذلك الغرض في الخارج حصول ذلك الفعل حينئذ. ولا يلزم من عدم الفعل عدمه علمنا أنه لا يجوز تعليل ذلك الفعل بحصول ذلك الغرض حينئذ. وإذا بطل تفسير العلة الشرعية بالموجب لذاته، وبالباعث تعين تفسيرها إما "بالمعرف" لا بمعنى أنها تعرفنا حكم الأصل؛ فإن ذلك معرف بالنص بل حكم الفرع، لكن يخدشه ما هو المشهور من قول أصحابنا:

من أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينهما وبين الفرع مع أنه غير معرف بها. وأما "بالموجب لا لذاته بل يجعل الشارع إياه موجبًا للأحكام" وهو قريب لا باس به، وجواب اعتراض الإمام على هذا قد عرف في أول الكتاب.

الفصل الأول

الفصل الأول: في الطرق النقلية الدالة على علية الوصف وهي عديدة: أحدها: الإجماع بأن يذكر ما يدل على حصول الإجماع قطعًا بأن ينقل نقلًا متواترًا بصريح مجموع الأمة في عصر من الأعصار بأن الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني، أو يذكر ما يدل عليه ظنًا كما إذا نقل أن بعضهم قال: بأن [الوصف] الفلاني علة الحكم الفلاني مع علم الباقين بذلك، وعدم إنكارهم عليه، ولا يلزم من إجماعهم على عليه وصف أن لا يقع خلاف معها لجواز أن يكون وجودها في الأصل أو في الفرع متنازع فيه، أو يكون في حصول شرطها أو مانعها نزع، وهذا على رأى من يجوز تخصيص العلة، فأما إذا وقع الاتفاق على ذلك كله فلا يتصور مع الخلاف. وثانيها: النص وهو ينقسم إلى صريح، كقولنا: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لمؤثر كذا أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، أو من أجل كذا

قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}. وقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة" وما يجرى مجراها في التصريح بالتأثير. وإلى ظاهر يحتمل غيرها، وهو بدخول الحروف الموضوعة للتعليل وهى "اللام" كقولنا: "ثبت لكذا" قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. وكونها لغير التعليل في مثل قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس} فإن ذلك ليس غرضًا وفاقًا؛ فإن الناس على قولين: منهم من لم يعلل أفعال الله تعالى بشيء أصلًا. ومنهم من يعللها بالمصالح.

فأما تعليلها بالمضار والعقوبات فذلك مما لم يقل به أحد من العقلاء. وفي قول الشاعر: لدوا للموت ... وابنوا للخراب لا يحتمل العلية بأن الولادة والبناء ليس لغرض الموت والخراب. وفي قول المصلى: أصلي لله تعالى. فإن ذات الله لا تصلح أن تكون غرضا للصلاة، وفي قولهم: ثبت هذا الحكم لعلة كذا، فإنها لو كانت للعلية لزم التكرار لا ينفي كونها ظاهرة في التعليل كما في سائر الألفاظ المستعملة في مجازاتها فإن ذلك لا ينفي كونها ظواهر في حقائقها. فإن قلت: لا نزع في أن استعمالها في غير التعليل لا ينفي كونها ظاهرة في التعليل لو ثبت كون الكلام حقيقة في التعليل لكن ما ثبت ذلك بعد، فإن غاية ما استدللتم عليه إنما هو الاستعمال وقد عارضناه باستعمالات أخر، فليس الاستدلال بذلك الاستعمال على كونها حقيقة في التعليل ومجازًا في غيره أولى من الاستدلال لما ذكرنا من الاستعمال على أنه حقيقة في غيره ومجاز فيه. قلت: الاستدلال بما ذكرنا من الاستعمال أولى لأنه/ (167 /أ) موافق

لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليل، ولكونه اسبق إلى الفهم، ولأنه لو جعل حقيقة في التعليل أمكن جعلها مجازا في الصيرورة، والتخصيص بنفي التشريك كما في الشعر وقول المصلى، لأن العلية يلزمها الصيرورة والتخصيص، ولو جعلت حقيقة فيهما لم يمكن جعلها مجازا في التعليل لعدم ملازمته لهما. وثانيهما: الباء كقوله تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وقوله: {جزاءً بما كانوا يعملون}. وقول الإمام يفيد كونها للتعليل مجازا إذ قال: إذ أصل "الباء" للإلصاق، وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك فحسن استعمالها [فيه مجاز، وهو مخالف لما ذكره غيره ولما اشعر به كلامه] أيضًا إذ صرح أن دلالة "اللام" و "إن" و "الباء" على التعليل ظاهر به من غير تفرقة يهما، ثم إنه صرح أن دلالة اللام على التعليل بطريق الحقيقة وذلك يشعر بالتسوية في الدلالة، ولأن دلالة المجاز لا تكون ظاهرة إلا بطريق غلبة الاستعمال أو القرينة، فكان يجب عليه أن يقيد ظهور دلالته بغلبة الاستعمال لا في أصل الوضع. وثالثها: إنَّ كقوله: "إنها من الطوافين أو الطوافات" وكقوله: "إنها دم عرق انفجرت".

ورابعها: كي، قال الله تعالى: {كيلا يكون دولةً بين الأغنياء منكم}. وثالثها: الإيماء والتنبيه، وهو يدل على العلية بطريق الدلالة الالتزامية؛ لأنه تفهم العلية فيه من جهة المعنى لا من جهة اللفظ؛ إذ اللفظ لو كان موضوعًا لها لم تكن دلالته من قبيل الإيماء بل كان صريحًا في ذلك وهو أنواع: النوع الأول: بأن يذكر حكمًا ووصفًا ومدخل إلغاء على أحدهما فهو إذن على وجهين. أحدهما: اذ يذكر الحكم أولًا ثم الوصف بعده مع إلغاء كقوله- عليه السلام - في المحرم الذي وقصت به ناقته: (لا تقربوه طيبًا فإنه يحشر يوم

القيامة ملبيًا). وثانيهما: عكسه وهو تارة في كلام الله تعالى كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}. وتارة في كلام الرسول عليه السلام كقوله- عليه السلام: (ملكت نفسك فاختاري) وقوله: (من أحيا أرضًا ميتة فهي له). وتارة في كلام الراوي كقوله: (سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد) (وزنى

ماعز فرجم). ثم الوجه الثاني أقوى دلالة على العلية من الوجه الأول؛ لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة، ثم ما كان من الوجهين من كلام الله تعالى، أو كلام رسوله فإنه أقوى دلالة على العلية من كلام الراوي من

الوجهين؛ لأنه يتطرق إلى كلام الراوي من الخلل ما لا يتطرق إلى كلام الشارع. وقيل: إن ما كان منه من كلام الله تعالى فهو أقوى دلالة من كلام الرسول- عليه السلام -، وفيه نظر: من حيث إن الرسول معصوم عن الخطأ والغلط فيما يتعلق بتبليغ الأحكام والتشريع فلا يتطرق عليه خلل لا بحسب السهو والنسيان، ولا بسبب الظن الخطأ فلا فرق بخلاف الراوي فإنه غير معصوم عن ذلك كله. وكلام الراوي الفقيه أقوى دلالة من كلام الراوي الغير الفقيه؛ لأن احتمال الخطأ في الثاني أكثر. ثم قيل: الدليل على أن هذا النوع من الإيماء يفيد العلية: هو أن الفاء في اللغة للتعقيب على ما تقدم بيان ذلك في اللغات فدخولها على الحكم بعد الوصف يقتضى ثبوت الحكم عقيب الوصف فيلزم أن يكون الوصف سببًا له؛ إذ لا معنى لكون الوصف سببًا للحكم إلا أنه يثبت الحكم عقيبه. وفي هذه الدلالة نظر؛ لأنا نسلم أن كل سبب يعقبه الحكم لكن لا نسلم أن كل ما يعقبه الحكم سبب، فإن القضية الكلية لا تنعكس كنفسها فلابد من دلالة منفصلة على ذلك. ثم الذي يسند به هذا الاحتمال هو أن الحكم يعقب ملازم السبب مع أنه ليس بسبب، ثم دلالة هذا النوع من الإيماء دلالة ظاهرية لتخلف الحكم في بعض محاله وهو حيث تكون الفاء بمعنى الواو.

النوع الثاني: أن يحكم الرسول- عليه السلام- بحكم في محل- عند علمه بصفة فيه- فيغلب على الظن أن تلك الصفة علة لذلك الحكم. مثاله: ما روى أن أعرابيًا جاء إلى الرسول- عليه السلام- فقال: هلكت وأهلكت، فقال له الرسول- عليه السلام-: ماذا صنعت؛ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عامدًا، فقال- عليه السلام-: أعتق رقبة) فيظن أن الإفطار بالوقاع في نهار رمضان [سبب] لوجوب عتق الرقبة. والدليل عليه: أن ما ذكره الرسول- عليه السلام- من الكلام يصلح أن يكون جوابًا عن سؤال السائل، والغالب من الكلام الذي يصلح أن يكون جوابًا عن السؤال أن يكون جوابًا عنه للاستقراء وإن كان يحتمل أن يكون جوابًا عن سؤال آخر، أو ابتداء كلام منه، أو زجرًا له عن الكلام [على] ما لا يخفي أمثلتها فيغلب على الظن أن ما ذكره الرسول - عليه السلام جواب عن السؤال إلحاقًا للفرد بالأعم والأغلب، ولأنه لو لم يكن جوابًا عنه لزم إخلاء السؤال عن الجواب، وتأخير البيان عن وقت الحاجة وأنه غير جائز. وما يقال عليه: لعله- عليه السلام- عرف أنه لا حاجة/ (167/أ) للمكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلم يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهو وإن كان محتملًا لكن احتمال مرجوح لكونه نادرًا؛ إذ الغالب من السؤال أن يكون في وقت الحاجة، والظاهر عدم معرفة الرسول حال السائل وإذا كان ما ذكره الرسول جوابًا عن السؤال كان السؤال معادًا في الجواب تقديرًا فيصير تقدير الكلام: واقعت في نهار رمضان فكفر، فيرجع

هذا النوع إلى النوع الأول في أصل الدلالة، لكنه أضعف منه في الدلالة؛ لما أن الفاء وإعادة السؤال مقدر فيه، والمقدر وإن ساوى المحقق في أصل الثبوت لكنه لا يساويه في القوة، وما وقع من هذا النوع في كلام الراوي فهو حجة أيضًا؛ لأن معرفة كون الكلام المذكور بعد السؤال جوابًا عنه، أو ليس بجواب عنه أمر سهل لا يحتاج فيه الى تدقيق النظر، والظاهر من حال الراوي العدل لاسيما الخبير بهذا الشأن بأن لا يجزم بكونه جوابًا إلا ويكون قد عرف ذلك معرفة لا يرتاب فيها. النوع الثالث: أن يذكر الشارع مع الحكم [وصفًا] لو لم يكن الحكم معللًا به لما كان في ذكره فائدة وهو يفيد ظن العلية؛ لأنه لو لم يكن علة الحكم لكان ذكره عبثًا لا فائدة فيه، وذلك مما لا يوجد في كلام العقلاء إلا على سبيل الندور إن وجد، ويعد ذلك سقطًا من الكلام فكيف يوجد ذلك في كلام الله تعالى وكلام رسوله؟ فيغلب على الظن عليته وهو على أقسام: أحدها: أن يذكر الحكم لدفع إشكال يرد على حكمه في محل آخر ويردفه بوصف فيغلب على الظن أن ذلك الوصف علة ذلك الحكم كما روى أنه- عليه السلام- امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل له: إنك تدخل على بني فلأن وعندهم هرة، فقال- عليه السلام-: (إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات) فلو لم يكن لكونها من الطوافين أثر في الطهارة لم يكن في ذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة.

وثانيها: أن يذكر وصفًا ظاهرًا في محل الحكم ابتداء من غير سؤال لا حاجة إلى ذكره لو لم يكن مؤثرًا في الحكم كقوله- عليه السلام- في حديث ابن مسعود ليلة الجن حين توضأ بماء كان قد نبذ فيه تميرات لاجتذاب ملوحة الماء: (ثمرة طيبة وماء طهور). وثالثها: أن يسأل الرسول- عليه السلام عن حكم شيء فيسال- عليه السلام- عن وصف له فإذا أخبر عنه حكم فيه بحكم فيفيد ان ذلك الوصف علة الحكم. مثاله: ما روى أنه- عليه السلام- سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال- عليه السلام-: (أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فقال- عليه السلام: فلا، إذن) فلو لم يكن نقصان الرطب بالجفاف علة منع بيعه رطبًا لم يكن للسؤال عنه وذكر الحكم بعده فائدة، وهو يدل على العلية بوجهين آخرين: أحدهما: أنه رتب الحكم على الوصف بالفاء. وثانيهما: أنه قرنه بإذن وهى من صيغ التعليل. ورابعها: أن يسأل- عليه السلام- عن حكم واقعة فيقرر- عليه السلام على حكم نظير لها، وينبه على وجه الشبه بذكر وصف مشترك بينهما فيفيد أن ذلك الوصف علة ذلك الحكم. ومثاله قوله- عليه السلام- لعمر حين سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟ " وما قيل إن هذا ليس من قبيل ما نحن فيه؛ إذ ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعًا من الإفطار بل غايته أن لا يفطر بل هو نقض لما توهمه عمر من إفساد مقدمة الإفساد ضعيف؛ لأن قوله- عليه السلام-: (أرأيت لو

تمضمضت بماء ثم مججته كنت شاربه) تنبيهًا على الوصف المشترك بين المضمضة والقبلة وهو عدم حصول المقصود منهما وهو يصلح أن يكون علة؛ إذ لا يشترط المناسبة في الوصف المومئ إليه على ما سيأتي ذلك على ما شاهد عليه هذا القائل فإنه اختار أنه لا يشترط المناسبة في إيماء غير ذكر الجامع الوصف المناسب، وبتقدير اشتراطها فإنه لا يشترط ظهور الحكمة بل يكفى في ذلك أن يكون الوصف مظنة لذلك، وما ذكر من الجامع كذلك فيصلح أن يكون علة فيكون من قبيل ما نحن فيه. وقوله للخثعمية حين سألته عن حجها لأبيها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه؟ فقالت: نعم فقال - عليه السلام -: فدين الله أحق بالقضاء" فأجاب عن الواقعتين المسئولتين بتقرير الحكم في نظيرتهما على وجه الشبه بذكر وصف مشترك بينهما وهو عدم حصول ما هو المطلوب من المقدمتين وكون كل واحد منهما دينا، ولو لم يفد هذا الكلام علية المشترك لما حصل الجواب عن المسؤول بهذا الكلام فيلزم أن يقال: إنه- عليه السلام- ما أجاب عن السؤال وأخر البيان عن وقت الحاجة واشتغل بالعبث؛ إذ الاشتغال بالكلام الخالي عن الفائدة عبث وكل ذلك غير لائق بآحاد العقلاء فكيف بالنبي- عليه السلام -. النوع الرابع: أن يفرق الشارع بين الشيئين في الحكم بذكر صفة، وذلك يفيد أن تلك الصفة علة التفرقة؛ إذ التفرقة لا بد لها من علة إذ لو لم تكن تلك الصفة علة التفرقة لم يكن لذكرها إذ ذاك فائدة بل فيه مفسدة وهو إيهام ما ليس بعلة علة/ (169 / أ).

وهذا النوع ينقسم إلى ما يكون حكم أحدهما مذكورًا في خطاب [وحكم الآخر في خطاب آخر كقوله - عليه السلام -: (القاتل لا يرث) فإنه قد تقدم بيان الوارث وإرثهم في خطاب آخر،] وإنما في هذا الخطاب بيان أن القاتل منهم لا يرث، وإلى ما يكون حكمهما مذكورًا في خطاب واحد هو يقع على أوجه: أحدها: أن تقع التفرقة فيه بلفظ الشرط والجزاء كقوله- عليه السلام -: (لا تبيعوا البر بالبر) إلى قوله (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد). وثانيها: أن تقع التفرقة بلفظ الغاية كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}. وثالثها: أن تقع التفرقة بلفظ الاستثناء كقوله تعالى: {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}. ورابعها: أن تقع التفرقة بلفظ الاستدراك كقوله تعالى: {لا يؤاخذكم

الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}. وخامسها: أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر، كقوله- عليه السلام -: (للراجل سهم وللفارس سهمان). النوع الخامس: أمر الشارع في أثناء خطابه بترك شيء أجنبي عما لأجله أصدر ذلك الخطاب يفيد أنه إنما أمر بتركه لكونه مانعًا من تحصيل ذلك الغرض فعلة نهيه إنما هو كونه مانعًا منه. والدليل عليه: أنا لو لم نقدر ذلك لكان النهي عنه والحالة هذه غير جائز لكونه يخل بجزالة الكلام وفصاحته، بل يخل: بجنسه لكونه معدودًا من ركاكة الكلام واضطرابه، وذلك مما يجب تنزيه الشارع عنه. مثاله: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم

الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فالآية أصدرت لبيان وجوب الجمعة وأحكامها والحث على فعلها، فالأمر بترك البيع في خلال هذا الخطاب مع أنه لا يناسب أوله وآخره لو لم يكن لكون الاشتغال به مانعًا من السعي إليها لما حسن. النوع السادس: ترتيب الحكم على الاسم المشتق فإنه يدل على علية ما منه الاشتقاق. فهذه جملة أقسام الإيماءات التي تستفاد من اللفظ.

فروع الأول: لا تشترط المناسبة في علية الوصف المومئ إليه في كل ما تقدم من أقسام الإيماء عند المحققين. وقال قوم: تشترط في كلها. وقيل: تشترط في النوع السادس لنا وجوه: أحدها: أن الوصف المومئ إليه الخالي من المناسبة إن لم يكن علة الحكم فإما أن لا يكون للحكم علة، أو يكون له علة أخرى غير ذلك الوصف المومئ إليه [والقسمان باطلان فبطل أن لا يكون الوصف المومئ إليه علة]، وإنما قلنا: أنه لا يجوز أن لا يكون للحكم علة أصلًا لوجهين: أحدهما: أن الحكم مع علته أكثر فائدة مما إذا لم يكن كذلك، وحمل تصرفات الشارع على ما هو أكثر فائدة أولى. وثانيهما: أن الحكم بدون العلة والغرض عبث، وهو على الله تعالى محال؛ وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون غير هذا الوصف علة؛ لأن غير هذا الوصف كان معدومًا، والأصل بقاء ما كان على ما كان فيغلب على الظن بقاؤه على العدم استصحابًا للحال. وثانيها: الرجل إذا قال: "أكرم الجهال، وأهن العلماء" فإنه يستقبح قوله في العرف، فهذا الاستقباح لا يخلو إما أن يكون لأجل أنه فهم منه:

أنه جعل الجاهل مستحقًا للإكرام، والعالم مستحقًا للإهانة في الجملة، أو لأنه فهم منه أنه جعل الجاهل مستحقًا للإكرام لجهله، وجعل العالم مستحقًا للإهانة لعلمه، والأول باطل؛ لأن ذلك لا يقتضى الاستقباح؛ إذ الجاهل قد يستحق الإكرام لنسبه وكرمه وشجاعته، والعالم قد يستحق الإهانة لفسقه وبخله وخيانته فيتعين الأول، وذلك يدل على أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وإن لم يكن الوصف مناسبًا للحكم، إذ الجهل لا يناسب الإكرام مع أنه فهم من هذا الكلام العلية، ولذلك استقبح وإلا لم يكن للاستقباح معنى، وإذا فهمت العلية منه في هذه الصورة [وجب أن يكون حقيقة فيها لما سبق غير مرة وإذا كان حقيقة فيها] وجب أن لا يكون حقيقة في غيرها وإلا لزم الاشتراك في هذا النوع من التركيب وأنه خلاف الأصل، وفي التزام التجوز في غيرها تسليم للمقصود، ولأنه لا قائل بالفصل بين صورة وصورة. لا يقال: الاستقباح إنما هو لأجل أنه أثبت الحكم مع المانع له؛ فإن الجهل مانع من الإكرام، فإثبات الإكرام معه إثبات للحكم مع المانع له وأنه قبيح؛ لأنا لا نسلم أن الجهل مانع منه إذ المانع من الشيء هو الذي لا يحسن التصريح بالجمع بينه وبين ما هو مانع له، وليس الجهل مع الإكرام للجاهل بهذه المناسبة؛ لأنه لو قال: أكرم الجاهل لشجاعته، أو لكرمه فإنه لا يقبح ذلك ولو كان مانعًا له مطلقًا لما حسن ذلك. وثالثها: أنه يفهم السببية من مثل قوله- عليه السلام -: (من مس ذكره فليتوضأ) وإن لم يناسب الوصف الحكم ووجود المشروط بدون الشرط محال.

الفرع الثاني ثم دلالة هذه الأقسام/ (170 /أ) من الإيماءات على علية الوصف المذكور إنما هي دلالة ظاهرية، إلا ما كان منها بصيغة الشرط والجزاء ورتب الحكم فيه بالفاء نحو قوله - عليه السلام -: (من بدل دينه فاقتلوه). فإنه يدل قطعًا على أن المرتب عليه معتبر في الحكم أما أن ذلك الاعتبار على أي وجه هو بطريق العلية، أو جزؤ العلية، أو شرط العلية، أو كون ذلك الوصف متضمنًا للعلة بطريق الملازمة فذلك مما يدل عليه قطعًا بل قد يدل على بعضها بطريق الظهور دون الاحتمالات الأخر على سبيل الاختلاف بحسب المحال، ثم تلك الدلالة الظاهرية قد تترك لقيام الدليل الدال على أن ذلك الوصف بخصوصيته غير معتبر بل المعتبر ما يتضمنه من المعنى المشترك بينه وبين غيره، فالعلة بالحقيقة إنما هو ذلك المعنى المشترك والوصف المذكور علة بمعنى أنه مشتمل عليه. مثاله: قوله عليه السلام: (لا يقضى القاضي وهو غضبان).

ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب، لكن لما علم أن اليسير منه لا يمنع القضاء؛ لأنه لا يمنع من استيفاء الفكر، وأن الجوع المفرط، والألم المفرط يمنعان من القضاء؛ لأنهما يمنعان من استيفاء الفكر علم أن الغضب ليس هو العلة بل العلة ما يشوش الفكر. وما يقال: من أن الغضب علة لكونه مشوشًا فغير سديد؛ لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجودًا وعدمًا، وانقطع عن الغضب وجودًا وعدمًا وليس بين ما يشوش الفكر وبين الغضب ملازمة لوجود كل واحد منهما منفكًا عن الآخر لم يكن للحكم بكون الغضب علة معنى لو أطلق على الغضب اسم العلة على وجه التجوز لما أنه مشتمل على العلة كان ذلك جائزًا.

الفرع الثالث اعلم أن ما تقدم من أقسام الإيماءات إنما هو فيما [إذا كان الحكم والوصف مذكورين بالصراحة، وأما إذا لم يكن كذلك، فإما أن يكون الحكم] مذكورًا بالصراحة والوصف مستنبط منه أو عكسه. فإن كان الأول فلا إيماء له وفاقًا. وصرح بعضهم بنقل الخلاف فيه أيضًا وهو بعيد من جهة النقل والمعنى؛ لأنه يقتضى أن تكون العلة والإيماء متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر. وإن كان الثاني وهو: أن يكون الوصف مذكورًا بالصراحة والحكم مستنبط منه كالصحة المستنبطة من حل البيع والنكاح وأمثالها، فإن حل البيع والنكاح مصرح به في النص، والصحة غير مصرح بها لكنها مستنبطة منه. ووجه الاستنباط: أن نقول: يلزم من حله صحته؛ إذ لو لم يكن صحيحًا لما ترتب عليه آثاره إذ هو معنى نفي الصحة، وحينئذ يكون تعاطيه عبثًا إذ العبث هو الفعل الخالي عن الفائدة، [والعبث لا بوصف بالحل فيلزم من عدم الصحة عدم الحل لكن عدم الحل غير ثابت ضرورة ثبوت الحل] فيلزم انتفاء عدم الصحة، ويلزم منه ثبوت الصحة [فثبوت الحل يستلزم ثبوت الصحة فهل للنص الدال على ثبوت الحل إيماء إلى ثبوت الصحة؟].

اختلفوا فيه: فذهب قوم إلى إثباته وهو الأولى؛ لأن الصحة لازمة للحل على ما تقرر ذلك فالحل مدلول اللفظ بطريق الوضع؛ فاللفظ الدال عليه بطريق الوضع يدل على إرادة ثبوت الصحة بطريق الالتزام ضرورة كونها لازمة للمسمى فيكون للنص إيماء إليه كما إذا كان الحكم والوصف مذكورين بالمطابقة فإنه لا اختلاف بينهما إلا في طريق الثبوت وذلك لا يقتضى الاختلاف في أصل الثبوت وفيما يلزمه من الأحكام. وذهب الآخرون إلى نفيه محتجين: بأن الحكم إذا كان مذكورًا بالصراحة والوصف مستنبط منه كما هو في أكثر الأقيسة لم يكن للنص الدال على الحكم إيماء إلى ذلك الوصف وفاقًا فكذا ما نحن فيه. وجوابه: أنه قياس خال عن الجامع. سلمنا الجامع لكن الفرق حاصل وهو أن وجود الوصف غير لازم من الحكم المصرح به ولا مناسبته له لثبوته قبل الشرع فلم يكن للنص الدال على الحكم دلالة على الوصف لا بطريق الوضع، ولا بطريق الالتزام فلم يكن له إليه إيماء بخلاف النص الدال على الوصف فإن له دلالة على الحكم المستنبط اللازم له بطريق الالتزام فلم يلزم من كون هذا من قبيل الإيماء أن يكون عكسه كذلك.

الفصل الثاني في إثبات العلية بالمناسبة والإخالة

الفصل الثاني في إثبات العلية بالمناسبة والإخالة وهي من الطرق العقلية

الفصل الثاني في إثبات العلية بالمناسبة والإخالة وهي من الطرق العقلية. وفيه مسائل: المسألة الأولى في تعريف المناسب: المناسبة في اللغة عبارة عن الملائمة، يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة أي تلائم جمعهما في سلك واحد، ويقال: فلان لا تناسب أفعاله أقواله أي لا تلائم حيث تكون أفعاله مخالفة لأقواله، فالمناسب في اللغة: الملائم. وأما في الاصطلاح: فقال من لم يعلل أفعال الله تعالى: إنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات". ومن يعللها قال: "إنه الذي يفضى إلى ما/ (171/أ) يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاءً". والمراد من التحصيل: جلب المنفعة، وهى عبارة عن اللذة وما يكون طريقًا إليها.

إزالة المضرة، وهى الألم وما يكون طريقًا إليه. ولا حاجة إلى تعريف اللذة والألم لكونهما من الأمور الوجدانية. وقيل في أحدهما: "اللذة إدراك الملائم، والألم: "إدراك المنافي" وهو لا يخلو عن شائبة الدور. ثم كون التعريف الأول تعريف من لم يعلل أفعال الله تعالى ظاهر؛ إذ لا سبيل إلى تعريفه على هذا التقدير بملائمة غرضه تعالى لتنزهه عن الأغراض، ولا بملائمة غرض الإنسان وبموافقته؛ لأنه حينئذ يكون معللًا بذلك وهذا القائل لا يقول به فلم يبق إلا أن يقال: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء بفعله على مجارى العادة تحصيل مقصود مخصوص، أو ما يكون بحيث إذا رؤى العاقل فعل فعلًا مخصوصًا يقال أنه فعله لكذا، وكذا كون التعريف الثاني تعرف من يعلل أفعال الله تعالى بالمصالح ظاهر؛ إذ اعتبار إفضائه إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاءً تصريح بالتعليل. وقيل المناسب: "ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول". قيل عليه: إن إثبات كون الوصف مناسبًا بهذا التفسير على الخصم متعذر إذ الخصم ربما يقول: إن عقلي لا يتلقى هذا المعنى بالقبول، والاستدلال على بقبول عقل غيري له ليس أولى من الاستدلال على غيري بعدم قبول عقلي له، وعلى هذا بنى هذا القائل امتناع إثبات العلة على الخصم في مقام النظر وقال: المناسبة تفيد الناظر؛ لأنه لا يكابر نفسه دون المناظر؛ لاحتمال أنه مكابر في نفسه ويظهر من نفسه خلافه حتى لا يخرج عن أن يكون أهلًا للمناظرة، فإن

المكابر ليس أهلًا للمناظرة وفاقًا. ولقائل أن يقول عليه: أن كون الشيء بحيث لا يمكن إثباته على الخصم [لا يقدح فيه وإلا لزم القدح في عدم اعتبار عدد معين في أهل التواتر لأن اعتباره بما يحصل العلم مما يتعذر إثباته على الخصم] فإن الخصم ربما يقول: لم يحصل لي العلم بمضمون هذا الخبر فلم يثبت عندي تواتره، وليس الاستدلال على بحصول العلم لغيري أولى من الاستدلال على غيري بعدم حصول العلم لي، نعم لو أمكن رد الشيء بحيث ينتفع به الناظر والمناظر معًا كان أولى. والحق: أنه وإن عرفت المناسبة بحيث يمكن إثباتها على الخصم لكن قد يكون من أمارات العلة المصححة لها ما لا يمكن التعبير عنها، وإثبات علية هذا النوع متعذر على الخصم قطعًا. وقال الخلافيون: المناسبة مباشرة الفعل الصالح لحكمه ومصلحة، أو صلاحية الفعل لحكمة ومصلحة. التعريف الأول إنما يستقيم على رأى من يعلل أفعال الله تعالى بالمصالح والحكم، والثاني يستقيم على الرأيين معًا. وقيل: المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم

على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا من شرع ذلك الحكم نفيا ًكان أو إثباتًا. وهو ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه اعتبر في ماهية المناسبة ما هو خارج عنها وهو اقتران الحكم للوصف وهو خارج عن ماهية المناسب بدليل أنه يقال: المناسبة مع الاقتران دليل العلية، ولو كان الاقتران داخلًا في الماهية لما صح هذا. فإن قلت: لا نسلم أنه اعتبر اقتران الحكم للوصف في ماهية المناسب، بل اعتبر فيه كونه بحيث يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا من شرع ذلك الحكم، ولا يلزم منه أن يكون ترتيب الحكم معتبرًا في ماهيته. قلت: يجب الاحتراز في التعريفات عن مثل هذه العنايات. سلمنا إرادة مثل هذه العنايات لكن إن عنى بقوله: يلزم من ترتيب الحكم على وفقه كيت وكيت أنه يلزم ذلك من ترتيب ما يقتضيه الوصف من الحكم بحسب مناسبة له فحينئذ يلزم تعريف الشيء بنفسه؛ لأن تعريف المناسب إنما هو باعتبار مناسبته فتعريفه بالمناسبة تعريف للشيء بنفسه. وإن عنى به غيره فليبينه. سلمنا ذلك لكن لا حاجة إلى هذا القيد بل يكفى أن يقال: المناسب وصف ظاهر منضبط يلزم من حصوله حصول الحكم المستلزم لحصول ما يصلح

أن يكون مقصودًا للشارع والمقارنة إنما تراد لاعتبار المناسبة لا لتحقق ماهيتها، وأما أنه يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع فذلك زائد على ماهية المناسبة فذكره في الحد نقص فيه. وثانيهما: أنه غير جامع؛ لأن التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة جائز على/ (172/أ) ما اختاره قائل هذا الحد، والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق المناسبة.

المسألة الثانية اعلم أن الحكم إذا شرع للمناسبة فلابد وأن يكون محصلا للمصلحة أو دافعا للمفسدة، أو محصلا للمصلحة ودافعا للمفسدة معا

المسألة الثانية اعلم أن الحكم إذا شرع للمناسبة فلابد وأن يكون محصلًا للمصلحة أو دافعًا للمفسدة، أو محصلًا للمصلحة ودافعًا للمفسدة معًا سواء علل أفعال الله أو لم تعلل [ثم كونه محصلًا] أو دافعًا إما يقيني أو ظني، أو يستوى فيه الأمران أعنى الحصول [أو] اللاحصول أو يترجح اللاحصول على الحصول فهذه أقسام: أحدهما: ما يكون محصلًا للمصلحة يقينًا كالحكم بصحة البيع لحصول الملك وصحة التصرف. وثانيها: ما يكون كذلك ظنًا كشرعية وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان لإبقاء النفوس المعصومة، وصيانةً لها عن التلف، فإن ذلك ليس مقطوع الحصول؛ إذ يحصل إهلاكها مع شرعية القصاص لكن يغلب على الظن حصوله، إذ الظاهر من حال العاقل أنه لا يقدم على القتل إذا علم أنه يقتل بسببه. وثالثها: ما يستوى فيه الأمران قيل: هو كشرعية وجوب الحد على شارب الخمر فإنه محصل لمصلحة حفظ العقل، لكن كونه كذلك يستوى فيه الأمران أعنى الوجود والعدم؛ لأنا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومة لكثرة المقدمين عليه من غير ترجيح وغلبة لأحد الفريقين في العادة وفيه نظر، ذلك أنا لو سلمنا ذلك فإنما كان كذلك للتهاون والتسامح في إقامة الحد فأما مع

إقامته فلا، ونحن إنما نعتبر كونه مفضيًا إلى المقصود أو لا يكون مفضيًا إليه على تقدير رعاية المشروع، فأما بمجرد تشريع الحكم مع قطع النظر عن ذلك فلا. ورابعها: ما يكون حصول المقصود منه مرجوحًا كشرعية نكاح الآيسة لمصلحة التوالد والتناسل، فإنه وإن كان ممكنًا عقلًا لكنه بعيد على مجرى العادة فكان مرجوحًا. ولا يخفى أن الأول أقوى المراتب، ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع. والأولان لا نزاع فيهما عند القائلين بالقياس. وأما الثالث والرابع مختلف فيهما، والأصح أنه يجوز التعليل بهما إذا كان ذلك في آحاد الصور الشاذة، وكان ذلك الوصف في أغلب الصور من الجنس مفضيًا إلى المقصود وإلا فلا. والدليل عليه ما تقدم من جواز شرعية نكاح الآيسة لغرض التناسل وكذا تحقق رخصة السفر في حق الملك المترفه الذي لم يتحقق بالنسبة إليه مشقة، وكذا غيرهما من المظان الذي رتب الحكم عليها مع انتفاء ما هو مظنة له. فإما إذا قطع بخلوه عنه لم يجز التعليل به خلافًا للحنفية، وهو كلحوق نسب المشرقي من زوجته المغربية التي لم يرها، وكوجوب الاستبراء

في الجارية التي اشتراها في المجلس بعد أن باعها فيه، فإنا نعلم قطعًا عدم العلوق منه، وكذا نعلم براءة رحمها من ماء غيره، والدليل عليه: أنه غير محتمل في هذه الصورة فلا يكون الوصف مفضيًا إليه قطعًا، وما شأنه كذلك لا يكون مناسبًا فلا يصح التعليل به. وعلى هذا القياس تكون الأمثلة في جانب دفع المفسدة، فإن الحكم بفساد النكاح والبيع في الأنكحة والبياعات الفاسدة يدفع المفسدة الناشئة من الحكم بصحتهما قطعًا، والحكم بوجوب حد الزنا يدفع مفسدة الزنا ظنًا غالبًا، والحكم بوجوب التعزيز في الصغائر التي تدعو النفس إليه غالبًا مما يستوي فيه الأمران، والحكم برد الشهادة بتكثير اللعب بالشطرنج يفضى إلى دفع المفسدة الناشئة من القليل منه على سبيل المرجوحية.

المسألة الثالثة في تقسيم المناسب

المسألة الثالثة في تقسيم المناسب. وهو من وجوه: أحدها: أن المناسب إما حقيقي، وإما إقناعي، ويظهر لك معنى الحقيقي عند تفسيرنا الإقناعي إذ قيل: بضدها تتبين الأشياء. والحقيقي إما لمصلحة تتعلق بالدنيا، أو لمصلحة تتعلق بالآخرة أولهما. أما الأول فهو على أقسام: وذلك لأن رعاية تلك المصلحة، إما أن تكون في محل الضرورة أو لا تكون، والتي لا تكون في محل الضرورة فإما أن تكون تابعة ومكملة للتي في محل الضرورة [أو لا تكون، والتي لا تكون مكملة للتي في محل الضرورة] فإما أن تكون في محل الحاجة أو لا تكون في محل الحاجة، والتي لا تكون في محل الحاجة فإما أن تكون مكملة للتي في محل الحاجة [أو لا تكون كذلك بل هي جارية مجرى التحسينات والتزيينات، وهي إما أن تكون على] خلاف قاعدة معتبرة أو لا، فهذه أقسام ستة: أولها: التي في محل الضرورة، وهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي لا تختلف فيها الشرائع والملل بل هي مطبقة على حفظها

ورعايتها وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والنسب والمال. أما الدين فقط حفظ بشرع قتل المرتد، وقتال الكفار، وكون الذمي لا يقتل ولا يقاتل لا يخل بهذا المقصود؛ لأنه استسلم لأحكام الشرع فليس له دعوة باطنًا، ولا شوكة ظاهرًا يفسد على الناس دينهم بخلاف الحربى. وأما النفس فقد حفظت بشرع القصاص قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}. وأما العقل فقد حفظ بتحريم المسكر وترتيب الحد على شربه/ (173/ أ) وأما النسل والنسب فقد حفظ بتحريم اللواط والزنا، وشرع الحد والعقوبة على فعليهما؛ إذ المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب، المفضي إلى انقطاع التعهد عن الأولاد المفضي إلى إهلاكهم. وأما المال فقد حفظ بتحريم الغصب والاختلاس والسرقة وشرع الزواجر والحد على تعاطيها، فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية التي هي أعلى مراتب المصالح والمناسبات. وثانيها: التي تكون مكملة للضرورية، وذلك كالمبالغة في حفظ الدين

بتحريم البدعة، وعقوبة المبتدع الداعي إليها، وكالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب قليل المسكر وترتيب الحد عليه، وكالمبالغة في حفظ النسب والنسل بتحريم النظر والمس وترتيب الزجر على ذلك. وثالثها: التي تكون في محل الحاجة فكتمكين الولي من تزويج الصغيرة؛ فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال لكن الحاجة داعية إلى ذلك، إذ الكفء الموافق لا يوجد في كل حال، فلو لم يقيده بالنكاح فربما فات لا إلى بدل عند الحاجة إليه، ومثلا تجويز البيع والإجارة وغيرهما في عموم الأحوال وإن كان منه ما ينتهي إلى حد الضرورة كتمكين الولي من شراء الطعام والملبوس للصغير الذي في معرض التلف من الجوع والبرد وكتمكينه من استئجار المرضعة له. ورابعها: التي تكون مكملة للتي في محل الحاجة وهي كرعاية الكفاءة، ومهر المثل في تزويج الصغيرة، فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده، وإن كان أصل الحاجة حاصلة بدون ذلك. وخامسها: التي تكون جارية مجرى التحسينات من غير أن تعارضها قاعدة معتبرة كتحريم تناول المستخبثات، وسلب أهلية الشهادة عن العبيد. أما الأول: فلأن تناولها من جملة المستقبحات فيكون اجتنابها من المستحسنات، وتحريمها مما يفضى إلى الاجتناب فيكون من المستحسنات. وأما الثاني: فلأن العبد نازل القدر، وضيع المنزلة على ما لا يخفي

تعليل ذلك، والشهادة منصب شريف فلا يليق بحاله جريًا على ما اعتاده الناس من محاسن العادات فإنهم يرون إثبات المنصب الشريف لو ضيع الحال من قبيح التصرفات. وأما سلب ولايته على من يلي أمره لو كان حرًا فليس من هذا القبيل، بل هو من قبيل الحاجات لمناسبة المصلحة؛ إذ الولاية عليه تستدعي الفراغ والخلو عن الأشغال حتى يتفرغ للنظر في حاله وقضاء مهماته في غالب الأوقات، والعبد غير متفرغ لذلك لاشتغاله بخدمة السيد، ولو فرض الخلو عنها في أكثر الأوقات فإنه لا يناسب الإثبات أيضًا؛ إذ لا يؤمن عن ذلك في كل وقت لما أنه تحت تسخيره في كل وقت بخلاف الشهادة فإنها لا تتفق في غالب الأوقات بل في نادره. وسادسها: التي من قبيل التحسينات لكنها تعارضها قاعدة معتبرة وهي "كالكتابة" فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات ومعدودة من المكرمات لكنها في الحقيقة بيع الرجل ما له بماله وهو غير معقول. وأما القسم الثاني: فهو ما يتعلق بالمصالح الأخروية، وهي المصالح التي يحصل برعايتها تزكية النفوس عن الرذائل، وتحليتها بالفضائل، وتهذيب الأخلاق، وحصول الثواب ودفع العقاب في الدار الآخرة. وأما القسم الثالث وهو ما يتعلق بالمصالح الدنيوية والأخروية معًا، فهي التي يحصل برعايتها بعض ما تقدم من مصالح الدنيوية والأخروية كإيجاب الكفارات، فإنه يحصل به الزجر عن تعاطي تلك الأفعال التي بسببها وجبت الكفارات، ويحصل تكفير الذنوب، وتلافى التقصير الذي حصل له من

فعلها ثم اعلم أنه قد يقع في كل قسم من هذه الأقسام ما يظهر كونه منه، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه. أما الأول فهو كوجوب القصاص بالقتل بالمثقل، فإنه يظهر أنه من قبيل المصلحة الضرورية في حفظ النفوس؛ لأنه لو لم يوجب القصاص به لما حصل حفظ النفوس وأن شرع القصاص في المحدد؛ لأن كل من يريد أن يقتل انسانًا فإنه يعدل عن المحدد الى المثقل، دفعًا للقصاص عن نفسه؛ إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد حتى يمكن أن يقال إنه لا يكثر به القتل بسبب تلك المؤنة كما يكثر في المحدد فعدم وجوب القصاص فيه لا يفضى الى الهرج والمرج كما في المحدد بل كان المثقل أسهل من المحدد لوجوده من غير عوض، فكل شرع روعي فيه حفظ النفوس لا يجوز أن يخلو عن وجوب القصاص بالمثقل. وأما الثاني فهو ما لا يظهر كونه من ذلك القسم، وهذا ينقسم إلى ما يظهر منه أنه ليس من ذلك القسم [وإلى ما لا يظهر منه ذلك أيضًا بل يتساوى فيه الأمران أعنى كونه من ذلك القسم] أو ليس منه. أما الأول: فهو كإيجاب القصاص بالقتل بغرز الإبرة في غير مقتل بحيث لا يعقب ألمًا وورمًا ظاهرًا، فإنه يظهر منه أنه ليس من قبيل رعاية المصالح الضرورية؛ إذ لا يفضى ذلك إلى إهدار النفوس إلا على الندور فلم يكن إيجاب القصاص فيه من قبيل رعاية المصالح الضرورية في حفظ النفوس. وأما الثاني/ (174/أ) فهو كإيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه

يحتمل أن يكون من قبيل رعاية المصلحة الضرورية؛ إذ لو لم يوجب ذلك لأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك، ليدفع عن نفسه القصاص وحينئذ تبطل فائدة شرعية القصاص. ويحتمل أن لا يكون منه؛ لأنه يحتاج فيه إلى أن يشاركه فيه غيره والظاهر من حال ذلك الغير أن لا يساعده عليه فلم تكن المصلحة في وجوب القصاص ها هنا كالمصلحة في وجوب القصاص في المنفرد. وأما المناسب الإقناعي فهو الذي يظهر منه في بادئ الأمر أنه مناسب لكن إذا بحث عنه حق البحث يظهر أنه غير مناسب. مثاله: ما يقوله أصحابنا في عدم جواز بيع الكلب والسرقين، قياسًا على الخمر والميتة والعذرة: إن كون الشيء نجسًا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع إعزاز له فالجمع بينهما متناقض، فإذا كان هذا الوصف يناسب عدم جواز البيع، وقد اقترن هذا الحكم به في المقيس عليه وجب أن يكون هذا الوصف علة لعدم جواز البيع؛ لأن المناسبة مع الاقتران دليل العلية، ثم

ثم الوصف حاصل في الفرع فوجب أن لا يجوز البيع، فهذا وإن كان يظهر منه المناسبة في أول الأمر، لكنه عند حصول إمعان النظر فيه يظهر أنه ليس كذلك؛ إذ لا معنى لكون الشيء نجسًا إلا أنه لا تجوز الصلاة معه، ولا مناسبة بين هذا المعنى وبين عدم جواز البيع. وثانيها: الوصف المناسب بحسب شهادة الشرع لاعتباره وعدم اعتباره ينقسم إلي ثلاثة أقسام: وذلك لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو لا يعلم ذلك، وحينئذ إما أن يعلم أنه ألغاه أو لا يعلم واحد منهما. وأما الأول فهو على أقسام: وذلك لأنه إما أن يعلم أنه اعتبره الشارع بخصوص وصفه، أو بعموم وصفه، أو بهما معًا. وعلى التقديرات الثلاثة فإما أن يكون في عين الحكم، أو في جنسه أو فيهما معًا، فإذا ضربت الثلاثة الأول في الثلاثة الأخيرة حصلت أقسام تسعة فهذه الأقسام بحسب القسمة العقلية، وأما الواقع منها في الشرع فإنما هو أقسام خمسة هي: أولها: ما عرف اعتباره في الشرع بخصوص الوصف في خصوص الحكم، وبعموم الوصف في عموم الحكم، وهو كقياس القتل بالمثقل على الجارح في وجوب القصاص بجامع كونه قتلًا عمدًا عدوانًا، وأنه قد عرف تأثير خصوص كونه قتلًا عمدًا عدوانًا في خصوص الحكم، وهو وجوب القصاص في النفس في المحدد، وعرف تأثير جنسه وهو عموم كونه جناية على المحل المعصوم في عموم الحكم وهو وجوب القصاص كما في الأطراف،

وهذا القسم يسمى بالمناسب الملائم وهو متفق عليه بين القائسين. وثانيها: ما عرف اعتباره بخصوص كونه وصفًا في خصوص الحكم وهو كقياس تحريم النبيذ على تحريم الخمر بجامع كونها مسكرة، فإنه عرف تأثير. وصف الإسكار في التحريم في الخمر، ولم يعرف تأثيره في جنس الحكم، ولا تأثير جنسه في عين الحكم، ولا تأثير جنسه في جنسه. ولا يخفي عليك أن انتفاء هذه الأقسام تارة بانتفاء التأثير، وتارة بانتفاء الجنسية، وهذا القسم يسمي بالمناسب الغير الملائم، وبالمناسب الغريب، وهذا على تقدير أن لا يرد فيه نص ولا إيماء دال على كون السكر علة التحريم فأما على تقدير ورود ذلك خرج هذا عن أن يكون من هذا القسم إذ عرفت عليته حينئذ بالنص أو بالإيماء لا بالمناسبة، وهذا القسم مختلف فيه بين القائسين: فمنهم من أنكر العمل به. ومنهم من اعترف به وهو الأولي؛ لأنه يفيد ظن العلية؛ إذ لا تفاوت بين السكر وبين الحرمتين، واختلاف المحل لا مدخل له في الحكم ظاهرًا فأينما ثبت السكر ثبت التحريم، ولأن الحكم لا بد له من علة إذ الحكم بلا علة إما ممتنع عقلًا أو عادةً- على اختلاف المذهبين- وتلك العلة إما ظاهرة لنا أو غير ظاهرة لنا، الثاني باطل؛ لأنه يلزم منه كون ذلك الحكم تعبديًا وهو خلاف الأصل وفاقًا، فيتعين الثاني، ولزم منه أن يكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وهو المطلوب. وثالثها: ما عرف اعتباره بخصوص كونه وصفًا في عموم الحكم، وهو

كقياس تقديم الأخوة من الأب والأم على الأخوة من الأب في النكاح على تقديمهم عليهم في الإرث والصلاة، فإن الأخوة من الأب والأم نوع واحد في الصورتين ولم يعرف تأثيره في التقديم في ولاية النكاح لكن عرف تأثيره في جنسه وهو التقديم عليهم فيما يثبت لكل واحد منهما عند عدم الآخر كما في الإرث والصلاة. وهذا القسم دون الثاني؛ لأن الاختلاف بين الخاصين أقل من الاختلاف بين الخاص والعام، فكان ظن العلية في الأول أكثر. ورابعها: عكسه وهو ما عرف اعتباره بعموم الوصفية في خصوص الحكم، وهو كقياس إسقاط القضاء عن الحائض على إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر تعليلًا بالمشقة، والمشقة جنس وإسقاط قضاء الصلاة/ (175/ أ) نوع واحد يشتمل على صنفين، إسقاط قضاء الكل وإسقاط قضاء البعض، وقد ظهر تأثيرها في هذا النوع ضرورة تأثيرها في إسقاط قضاء الركعتين. وهذا القسم والثالث متقاربان لكن الثالث أولي؛ لأن الإبهام في العلة أكثر محذورًا من الإبهام في المعلول. وخامسها: ما عرف اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم وهو كتعليل [كون] حد الشرب ثمانين بأنه مظنة القذف ضرورة أنه مظنة الافتراء فوجب أن يقام مقامه قياسًا على الخلوة، فإنها لما كانت مظنة الوطء، أقيمت

مقامه في الحرمة فكذا ما نحن فيه، والجامع كون كل واحد منهما مظنة. ثم قد عرف أن الجنس ينقسم إلى عال ليس فوقه جنس، وإلي متوسط فوقه وتحته جنس، وإلي سافل ليس تحته جنس وفوقه جنس [فأعم أوصاف الوصف هو كونه وصفًا يناط به الحكم فيندرج تحته المناسب وغيره وأخص منه المناسب] فيخرج منه غيره، وأخص منه الضروري فيخرج منه ما ليس بضروري، وأخص من الضروري في حفظ الدين أو النفس فيخرج منه ما عداه، وأعم أوصاف الحكم هو كونه حكمًا شرعيًا، وأخص منه كونه واجبًا أو ندبًا أو محرمًا، وأخص منه كونه عبادة وغيرها، وأخص منها كونه صلاة وغيرها، وأخص منها الفرض والنقل هكذا وقع في كلام بعضهم، ولا يستقيم ذلك إلا إذا حمل الخصوص على الخصوص من وجه دون وجه، وإلا لزم حصول الوجوب في صلاة النفل ضرورة أن العام حاصل في الخاص وهو ممتنع. ثم كل ما كان الخصوص فيه أكثر من جهة الوصف والحكم من هذه المراتب كان ظن كونه معتبرًا في ذلك الحكم أكثر. وأما القسم الثاني وهو المناسب الذي يعلم أن الشارع ألغاه فهو كقول بعض العلماء لبعض الملوك لما سأله عما ذا يجب عليه وقد أفطر في نهار رمضان بالوقاع عمدًا؟ يجب عليك صوم شهرين متتابعين. فقيل له: أليس أن هذه الكفارة مرتبة أولها العتق فهلا أمرته بذلك مع سعة قدرته عليه؟ فقال: لو أمرته بذلك لهان عليه الأمر فربما كان لا ينزجر عن ذلك، وأقدم

على مثله مرات أخر واستحقر ذلك في قضاء شهوة الوقاع، فكانت المصلحة في إيجاب صوم الشهرين لينزجر عن مثله كرة أخرى، فهذا وإن كان مناسبًا لكن ألغاه الشارع ولم يلتفت إليه حيث أوجب هذه الكفارة بصريح النص [مرتبة من غير فصل بين المكلفين والقول به مخالفة للنص*] فيكون باطلًا، وكيف لا وفتح هذا الباب يفضى إلي [تغيير] قواعد الشرع وقوانينها عند تغير الأحوال هذا مع ما أنه يتضمن مفسدة تربو على ما تخيله من المصلحة وهي عدم الثقة للمكلفين بمقول العلماء وعدم الاعتماد على فتواهم، فإنه إذا عرف ذلك من صنيعهم لم يحصل الظن بصدقهم فيما يفتون به، وذلك يفضى أن لا يعمل العامي بالشرع أصلًا. وأما القسم الثالث وهو المناسب الذي لا يعلم أن الشارع اعتبره أو ألغاه فهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار بطريق من الطرق وهذا هو المسمى (بالمصالح المرسلة) وستعرف هل هي حجة أم لا؟ واعلم أن هذا إنما يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفًا مصلحيًا

وإلا فعموم كونه وصفًا مصلحيًا مشهود له بالاعتبار، فلا يتصور أن لا يشهد له أصل معين باعتباره بل كل الأصول تشهد له بذلك الاعتبار.

التقسيم الثالث المناسب إما مؤثر أو غير مؤثر، وغير المؤثر إما ملائم أو غير ملائم، وغير الملائم إما غريب، أو مرسل، أو ملغى؛ وذلك لأن المناسب إما معتبر أو غير معتبر والمعتبر إما عين الوصف في عين الحكم، أو عينه في جنسه أو جنسه في عين الحكم أو جنسه فإن كان الأول والثاني فإما أن يكون اعتباره فيهما بالنص أو بالإجماع أو بالإيماء والتنبيه أو لا بل بالمناسبة أو غيرها من الطرق العقلية. فإن كان الأول فهو المؤثر يسمى بذلك لأنه ظهر تأثيره فيهما فلا يحتاج فيه إلى المناسبة، وهو كتعليل الولاية في النكاح بالصغر دون البكارة. فإنه قد ظهر تأثيره في الولاية عليه في عين النكاح بالإجماع. ومنهم من قال: إن ما يعرف اعتباره بالإيماء والشبه فليس بمؤثر بل هو ملائم أو غريب. وإن كان الثاني فالأول منهما هو المناسب الغريب وهو كالمسكر في تحريم الخمر على الوجه الذي تقدم ذكره، والثاني منهما هو الملائم، وإن كان الثالث والرابع فهما أيضًا معدودان من الملائم. وغير المعتبر إما ملغى وهو الذي ثبت أنه ألغاه الشارع كما تقدم مثاله، أو غير ملغى هو المناسب المرسل وهو إن ثبت عدم مجانسة جنسه القريب فمردود وفاقًا وإلا فمختلف فيه على ما سيأتي شرح ذلك- إن شاء الله تعالى-.

التقسيم الرابع المناسب إما محصل للمصلحة الدنيوية أو الدينية أو لهما معًا. أما الأول فإما أن يكون محصلًا لأصل المقصود، أو تكميل المقصود وكل واحد منهما إما محصل له في الابتداء أو في الدوام فهو إذن أقسام أربعة: أولهما/ (176/ أ): ما يحصل أصل المقصود ابتداءً، وهو كالبيع والنكاح والإجارة الصادرة من الأهل المضافة إلى المحل، فإنها تحصل ما يترتب عليها من المقاصد الأصلية كملك العين والبضع، والمنفعة. وثانيها: ما يحصل أصل المقصود دوامًا وهو كشرعية القصاص في القطع والقتل فإنه يحصل المقصود الأصلي وهو حفظ النفس لكن في الدوام. وثالثها: ما يحصل تكميل المقصود في الابتداء كاشتراط طهارة البدن والمكان، وتوجه القبلة، وستر العورة في الصلاة؛ وذلك لأن المقصود الأصلي من الصلاة إنما هو تعظيم الرب سبحانه وتعالى، وكون العبد ذاكرًا في كل ساعة بأن له خالقًا يستحق العبادة والتعظيم، ولا شك في أن هذا المقصود يكمل باشتراط هذه الأمور في ابتداء الشروع. ورابعها: ما يحصل المقصود التكميلي وهو كاشتراط عدم الكلام في الدوام، فإنه لو أبيح له ذلك لأخل بكمال التعظيم في الدوام.

المسألة الرابعة في أن مناسبة المصلحة تبطل وتحرم بمناسبة مفسدة مساوية أو راجحة، وقال قوم لا تبطل وهو اختيار الإمام

المسألة الرابعة في أن مناسبة المصلحة تبطل وتحرم بمناسبة مفسدة مساوية أو راجحة، وقال قوم لا تبطل وهو اختيار الإمام. [والمعني] من انخرامها وبطلانها: أن لا يقضى العقل بمناسبتها للحكم إذ ذاك فلا يكون لها أثر في اقتضاء الأحكام، لا أنه يلزم خلو الوصف عن استلزام المصلحة وذهابها عنه فإن ذلك لا يكون تعارضًا. لنا وجوه: أحدهما: أنه لو لم تبطل مناسبة المصلحة بمناسبة مفسدة مساوية أو راجحة لكانت معمولة بها إذ هو معناه أو لازمه، وحينئذ إن عمل بها وحدها يلزم إما ترجيح أحد المتساوين على الآخر، أو ترجيح [المرجوح على الراجح]، وكلاهما ممتنع عقلًا، أو بهما معًا وحينئذ يلزم الجمع بين الأحكام المتضادة وهو ممتنع أو خلاف الأصل. وثانيها: أن العقلاء لا يعدون فعل ما فيه مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها مصلحة بل يعدونه عبثًا، والعبث غير معدود من المناسب فلا يكون فعله مناسبًا. وثالثها: أن صريح العقل حاكم بأن دفع المفسدة أهم من جلب المصلحة

ومقدم عليها، واستقراء الشريعة يدل عليه أيضًا، ويلزم من هذا أن لا يجوز العمل بمناسبة المصلحة المعارضة بمناسبة المفسدة المساوية أو الراجحة لئلا يلزم ترك الأهم والعمل بالمهم أو التسوية بينهما. ورابعها: القياس على الدليل، فإنه إذا عارضه دليل آخر راجح أو مساوٍ له في صحة المتن والدلالة فإنه وإن لم تبطل دلالته لكن لا يجوز العمل به ولو بوجه ما فكذا ها هنا والجامع عدم إفادة الظن بمقتضاه. واحتجوا بوجوه: أحدهما: أن المناسبتين المتعارضتين إن كانت متساويتين لم يكن إبطال أحدهما بالأخرى أولى من العكس، فأما أن يبطل كل واحد منهما بالآخر وهو محال؛ لأن علة بطلان كل واحد منهما حينئذ إنما هو وجود الآخر، والعلة مع المعلول، فلو بطل كل واحد منهما بالآخر لزم أن يكون وجود كل واحد منهما مع بطلان الآخر فيلزم أن يكونا موجودين حال كونهما معدومين وهو محال، أو لا يبطل واحد منهما بالآخر حال التعارض وهو المطلوب. وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فها هنا لا يلزم التفاسد أيضًا؛ لأنه لو لزم ذلك لزم أن يكون بينهما منافاة فإن [الشيء إذا لم يكن منافيًا للشيء لم يلزم من حصوله انعدام ذلك الشيء لكن لا منافاة] بينما لما بينا جواز اجتماعهما في القسم الأول، وحينئذ لم يلزم اندفاع إحداهما بالأخرى. ولأن الراجحة إذا عارضت المرجوحة ونفتها، فإما أن ينتفي منها شيء لأجل معارضة المرجوحة أو لا ينتفي والقسمان باطلان فبطل التعارض. أما الأول فلوجهين:

أحدهما: أنه لو انتفى من الراجحة شيء فمن الظاهر أنه لا ينتفي إلا قدر المرجوحة وإلا لزم الانتفاء أو الترجيح بلا سبب لكن ذلك باطل لما سبق في المتساويين. وثانيهما: أنه ليس انتفاء بعض الراجح بالمرجوحة وبقاء بعضه أولى من انتفاء الباقي وبقاء المنتفي، فإما أن ينتفي الكل وهو باطل لما سبق، أو لا ينتفي منه شيء، وهو أيضًا باطل لما سيأتي في القسم الثاني ولأنه يلزم منه خلاف التقدير. وأما القسم الثاني وهو أن لا ينتفي من الراجحة شيء فهو أيضًا باطل؛ لأنه يلزم أن تكون المفسدة المعارضة بالمصلحة المرجوحة كالمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة وهو باطل قطعًا. وجوابه: أنا لا نسلم أن على تقدير تساوي المناسبتين ليس إبطال أحدهما بالأخرى أولى من العكس؛ وهذا لأن إبطال مناسبة المفسدة أولى لما أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وإبطال مناسبة المصلحة بأعمال مناسبة المفسدة [أولى لما أن دفع المفسدة] بأن لا يفعل ذلك الفعل للمصلحة حتى لا توجد المفسدة، ولما أن العقلاء يعدون فعل ما فيه مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها عبثًا وسفهًا فإن من سلك مسلكًا يفوت درهمًا ويحصل آخر مثله أو أقل منه فإنهم يعدونه عابثًا وسفيهًا. قوله في/ (177/ أ) القسم الثاني: إنه لا منافاة بينهما فلا يلزم التفاسد. قلنا: نعم لا منافاة بين المناسبتين من حيث إنه يجوز أن يكون الفعل الواحد مشتملًا على المصلحة والمفسدة معًا، لكن بينهما منافاة بالغرض وهي

منافاة الإفضاء إلى المقصود؛ فإن جلب المصلحة وإن كان مقصودًا لكن دفع المفسدة أيضًا مقصود، وفعله لغرض الإفضاء إلى المصلحة يفضى إلى حصول المفسدة، وتركه لأجل دفع المفسدة يفضى إلى ترك المصلحة وكل واحد منهما لا يحصل على وجه يكون مقصودًا فكان بينهما منافاة من هذا الوجه. وثانيها: أن الشارع قد رتب على الشيء الواحد أحكامًا مختلفة لما فيه من المناسبة المختلفة كما في الصلاة في الدار المغصوبة والبيع في وقت النداء، فإنه قد رتب عليهما الثواب والملك من حيث الصلاة والبيع، ورتب عليهما العقاب من حيث كونها في الغصب، وكونه في وقت النداء فرتب [على جهتى المصلحة والمفسدة مقتضاهما وذلك] يدل على إعمالها وعدم بطلانهما بتعارضهما من حيث إن المصلحة والمفسدة إن كانتا متعارضتين بأن كانتا متساويتين وجب أن يندفع كل واحد منهما بالآخر، فلا تبقى مصلحة ولا مفسدة وحينئذ يجب أن لا يترتب عليهما مقتضاهما وقد ترتب هذا خلف. وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فيكون الحاصل حينئذ مقتضى الراجح دون المرجوح فكان يجب أيضًا أن لا يترتب الأمران عليهما معًا وقد ترتبا هذا خلف. وجوابه: أن هذا ليس من قبيل ما نحن فيه؛ وهذا لأن النزاع إنما هو فيما إذا كانت المناسبتان لازمتين لفعل الشيء بحيث لا ينفك الشيء عنهما وما نحن فيه ليس كذلك؛ لأن مناسبة كون الصلاة في الدار المغصوبة يقتضى عدم صحتها غير لازمة لفعل الصلاة من حيث هي صلاة، كما أن مناسبة كونها صلاة سببًا للثواب لازمة لها وكذا القول في الصلاة الثانية فلم يحصل

التعارض بينهما، إذ لا تعارض بين مقتضى الذاتي والخارجي فكان الواجب في مثله ترتيب حكم كل واحد منهما. وثالثهما: أن السلطان إذا ظفر على جاسوس عدوه المنازع له في مملكته، فإنه يحسن منه أن يعاقبه، أو يقتله زجرًا له ولأمثاله عن مثل صنيعه، ويحسن منه أيضًا أن يعفو عنه ويحسن إليه إما للاستهانة بعدوه، أو لقصد كشف أسراره أو ترغيبًا لأعوانه إلى نفسه وأي الأمرين منهما فعل فإنه لا يعد خارجًا عن [مقتضي المناسبة والحكمة، وإن كانت المناسبتان متساويتين أو إحداهما أرجح من الأخرى وإن لزم منه] فوات مقصود الأمر الثاني. وجوابه: منع حسن ذلك على الإطلاق بل إنما يحسن منه فعل الراجح منهما حتى لو فعل المرجوح لم يعد تصرفه مناسبًا موافقًا لتصرفات العقلاء. ورابعها: أن العقلاء يقولون في فعل معين إن الإتيان به مصلحة في كذا لولا ما فيه من المفسدة الفلانية، ولولا صحة اجتماع وجهي المصلحة والمفسدة في شيء واحد وإلا لما صح هذا. وجوابه: أنه يصح اجتماع جهتي المصلحة والمفسدة لما بينا أنه لا منافاة بينهما، لكن لا يلزم من ذلك أن لا تبطل بالمعارضة لجواز أن يبطل لما بينهما من المنافاة بالغرض كما تقدم. وخامسها: أن المجتهد قد يظهر له تقديم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث لاختصاصه بقوة القرابة، فإن قرابة الأخوة من الأب قد

تفوت بقرابة الأمومة التي لها مدخل في الإرث، وقد يظهر له التسوية لاشتراكهما في القرابة التي تثبت العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة التي لا مدخل لها في التعصيب، وبأي الاحتمالين منهما حكم وأفتى فالعقل يقتضي تساوي النظر من غير احتياج إلى الترجيح بأنه غير خارج عن المناسبة ومقتضي الحكمة، ولو كانت المناسبة تبطل بالمعارضة لما جاز ذلك إلا بعد الترجيح، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها لا تبطل بالمعارضة. وجوابه: منع كونه غير خارج عن مقتضي المناسبة والحكمة مطلقًا، بل إنما يعد مناسبًا وآتيًا بمقتضي الحكمة أن لو حكم بما غلب على ظنه رجحانه، أما مطلقًا فلا. واعلم أن كل من قال بجواز تخصيص العلة فلابد له من القول ببقاء المناسبتين واجتماع جهتي المصلحة والمفسدة؛ وذلك لأن القول بجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المنازع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمناسبة راجحة أو مساوية أو مرجوحة فإن كان الأول أو الثاني فقد لزم منه تحقق مناسبة المقتضي المرجوحة أو المتساوية وإلا فقد كان الحكم منتفيًا لانتفاء المقتضى لا لوجود المانع؛ فإن المقتضى إذا لم يكن مناسبًا لم يكن مقتضيًا، فكان الانتفاء مضافًا إليه لما عرف أن إضافة انتفاء الحكم إلى عدم المقتضي أولى من إضافة انتفائه إلى وجود المانع لكنه خلف؛ إذ التقدير: أن انتفاء الحكم إنما هو لوجود المانع، وإن كان الثالث فقد لزم انتفاء الحكم بمناسبة المانع المرجوحة إذ لو لم يكن مناسبًا أصلًا مع أن انتفاء الحكم مضاف إليه لم تكن المناسبة شرطًا/ (178/ أ) في العلة؛ إذ المانع علة عدم الحكم فجاز إثبات الحكم بما ليس بمناسب مع انتفاء جهة الأخرى للعلية هذا خلف.

وأما من لم يقل بجواز تخصيص العلة: فمنهم من يقول ببطلان المناسبة بالمعارضة والعمل بأحدهما عندها إنما هو بالترجيح. ومنهم من لم يقل بذلك كالإمام فإنه لا يرى تخصيص العلة وقال ببقاء المناسبتين عند التعارض. تنبيه إذا عرفت أن المناسبة تبطل بالمعارضة فعند التعارض لا يعمل بأحدهما إلا بالترجيح، والترجيح قد يكون تفصيليًا يختلف باختلاف المسائل ولا يمكن إيراده في هذا المقام، وقد يكون احتماليًا لا يختلف باختلاف المسائل فيطرد في الكل وهو كما يقال: الحكم في الأصل مضاف إلى المصلحة الفلانية، وهي راجحة على ما عارضها من المفسدة وإلا لزم أحد الأمور الثلاثة وهو: إما أن يكون الحكم مضافًا إلى عين تلك المصلحة المرجوحة، أو إلى مصلحة أخرى غير تلك المصلحة المرجوحة، أو لا يكون مضافًا إلى مصلحة أصلًا بل يكون الحكم تعبديًا والأقسام الثلاثة باطلة فبطل أن لا تكون المصلحة راجحة. أما الأول؛ فلأن العمل بالمرجوح مع وجود الراجح غير جائز؛ لأنا إنما نتكلم تفريعًا على أن المناسبة تبطل بالمعارضة، فكان يجب أن لا يرتب في صورة تلك المصلحة المرجوحة حكم، وحيث رتب الحكم دل على أنه غير مضاف إلى المصلحة المرجوحة. أما الثاني فلأنا بحثنا وفتشنا فلم نجد فيه غير ذلك الوصف المشتمل على المصلحة الفلانية وذلك يدل ظاهرًا على عدم حصوله فيه.

وأما الثالث: فلأن الحكم التعبدي نادر وإلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى، ولأن الحكم الذي عقل معناه أقرب إلى القبول، وأدعى إلي الانقياد، فكان أفضي إلى تحصيل المقصود من شرع الحكم والشارع حكيم، والحكيم إذا كان لحصول مقصوده طريقان سلك ما هو أفضي إلى حصول المقصود فيغلب على الظن شرعيته على هذا الوجه. لا يقال: عدم وجدان وصف آخر مع البحث الشديد والتفتيش البليغ وإن دل على رجحان تلك المصلحة على ما يعارضها من المفسدة لكن عدم وجدان ما به يترجح على معارضها بعد البحث والتفتيش البليغين يدل على عدم رجحانها فليس اعتبار أحد البحثين أولى من العكس. قلت: بل اعتبار بحثنا أولى؛ لأن بحثنا إنما هو عن وصف صالح للتعليل وذلك لا يتعدى عن محل الحكم وهو متحد، وبحثكم إنما هو عما به الترجيح وهو غير منحصر في محل الحكم؛ فإن الترجيح قد يكون بأمور تعود إلى ذات العلة، وقد يكون بأمور خارجة عنها، ومعلوم أن الحاصل بعد البحث الشديد [عن الشيء] المنحصر في محل واحد وعدم وجدانه، أما العلم بعدم وجوده أو الظن الغالب القريب من القطع بخلاف الظن الحاصل بعد البحث عن الشيء الغير المنحصر فإنه ليس كذلك فكان اعتبار بحثنا أولى. فإن قلت: ما به الترجيح يجب أن يكون في محل الحكم وإلا لم يتحقق به الترجيح في محل الحكم وحينئذ لا فرق. سلمنا تعدد محل بحث الترجيح واتحاد محل بحث الوصف لكن الظن الحاصل بعد البحثين يحتمل أن يكون متساويًا. ويحتمل أن يكون متفاوتًا فعلى التقديرين من هذه الثلاثة يكون انتفاء رجحان ظن عدم وصف آخر حاصلًا وعلى التقدير الواحد يكون رجحان ظن العدم حاصلًا ولا شك أن ما

يقع على تقديرين من الثلاثة يكون أغلب مما يقع على تقدير واحد من الثلاثة فكان ظن عدم الرجحان أغلب. قلت: الجواب عن الأول بمنع الملازمة فإنا لا نسلم أن ما به الترجيح إذا لم يكن في محل الحكم لم يحصل به الترجيح في محل الحكم؛ وهذا لأنه قد يرجع أحد النصين أو أحد القياسين أو إحدى العلتين بسبب أمور خارجية عن ذاتهما كما شهد به استقراء باب التراجيح. فإن قال: بأن تلك الأمور لابد وأن توجب قوة في [محل] الحكم وإلا لم تصلح للترجيح غاية ما في الباب أنه بطريق الوساطة والترجيح أبدًا إنما يكون بما هو في محل الحكم. قلت: فيكفينا هذا القدر من الفرق وهو أن الموجب للقوة التي حصل بها الترجيح في محله غير منحصر في محل واحد بخلاف الوصف الموجب للحكم فإن محله منحصر فكان غلبة الظن بعدمه بعد التفتيش أكثر. وعن الثاني أن ذلك إنما يلزم فيما إذا كانت الاحتمالات كلها متساوية فأما إذا كان بعضها أظهر وأغلب فلا نسلم ذلك، ألا ترى أن الغالب على الإنسان إنما هو الصحة ولانتفائها أسباب عديدة مع أنه لا يغلب على الظن وقوعه في المرض، وكذلك الربح في التجارة هو الغالب ولانتفائه أسباب عديدة ولا يغلب على الظن وقوع التاجر في الخسارة.

المسألة الخامسة في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على كون الوصف علة الحكم

المسألة الخامسة في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على كون الوصف علة الحكم. فنقول: الدليل على ذلك وجهان: أحدهما وهو مبنى على مقدمات: إحداهما: هي أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، يدل عليها وجوه: أحدها: الإجماع وتقريره من وجهين: أحدهما: أن العقلاء مجمعون على أنه تعالى حكيم، والحكيم هو الذي [يكون] فعله لمصلحة فمن يفعل لا لمصلحة سواء كان لمفسدة أو لم يكن لها أيضًا لم يعد حكيمًا/ (179/ أ). وثانيهما: أن أئمة الأمصار في جميع الأعصار من أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله لا تخلو عن حكم مقصودة عائدة إلى العبيد لاستحالة عودها إلى الله تعالى، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما يقوله القائلون بالتحسين والتقبيح، أو بحكم التفضل والوقوع كما يقوله من لم يقل به. وفي هذا التقرير نظر؛ وذلك لأن من لم يقل من الأئمة بالقياس ربما لا يساعده على هذا، فإن الأحكام عنده غير معقولة المعنى بل ربما زعم بعضهم أنها على خلاف المعقول فكيف يحصل منهم الإجماع على ما ذكر؟ نعم يصح ذلك على رأى القائلين بالقياس.

وثانيها: أن تخصيص الواقعة المعينة بحكم معين إن لم يكن لمرجح لزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال، وإن كان لمرجح فذلك المرجح يستحيل أن يعود إلى الله تعالى. أما أولًا: فبالإجماع. وأما ثانيًا: فلأنه حينئذ يلزم أن يكون مستكملًا بذلك المرجح لأن كل من كان فاعليته لأمر يعود إلى نفسه كان ناقصًا في نفسه مستكملًا بذلك الأمر وهو ممتنع في حقه تعالى فيتعين أن يكون لمرجح يعود إلى العبيد، وهو إما المصلحة أو المفسدة، أو لا المصلحة ولا المفسدة، والقسمان الأخيران باطلان بالإجماع فيتعين الأول. فإن قلت: ففعله لأمر يعود إلى العبيد إن لم يكن له فيه غرض بل وجوده وعدمه بالنسبة إلي سواء لزم الترجيح من غير مرجح، وإن كان له فيه غرض عاد حديث الاستكمال. قلت: غرض الإحسان إلى المحتاجين لا يعده العقلاء نقصًا بخلاف غرض النفس فإنه يعد نقصًا. وثالثها: لو شرع الله تعالى الأحكام لا لمصلحة تعود إليه تعالى ولا إلى العبيد لكان إما عابثًا أو ظالمًا؛ لأنه إن لم يفعله لغرض ما لزم الأول، أو لغرض إضرارهم لزم الثاني وهما باطلان. أما أولًا فبالإجماع فإن العقلاء بأسرهم أجمعوا على أنه تعالى ليس بعابث ولا ظالم. وأما ثانيًا: فلقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا}، {ربنا

ما خلقت هذا باطلًا} وقوله تعالى: {وما الله يريد ظلمًا للعالمين} وقوله: {وما ربك بظلام للعبيد}. وأما ثالثًا: فلأن العبث والظلم صفتا نقص وهو على الله تعالى محال. ورابعها: الاستدلال بكل ما في القرآن والأحاديث من النصوص الدالة على أنه تعالى رحيم رؤوف، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن الرسول كان رحمة للعالمين، وأنه كان هدى لهم، وأنه كان رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين وأنه لم يشرع ما فيه ضررهم، وأنه لم يرد بهم العسر بل يريد لهم العسر، ولم يشرع لهم ما فيه حرجهم، وأنه تعالى ما بعثه إلا بالحنيفية السمحة السهلة نحو قوله تعالى: {إن ربك من بعدها لرؤوف رحيم} وقوله: {ربنا وسعت كل شيء رحمة} وقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة) فهذه النصوص وأمثالها

تدل على أن التكاليف بأسرها للمصالح فإن تكليف العمل بما لا فائدة فيه في غاية العسر والحرج والمشقة وليس فيه رأفة ورحمة به فيه أضرار. وخامسها: أن الله تعالى خلق الإنسان للعبادة لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلابد أن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل مصالحه، ودفع مضاره ليصير فارغ البال حسن الحال متمكنًا من الامتثال، لتجرده من الأشغال، فإذن كونه مكلفًا يقتضى ظن رعايته فيما يتعلق به حالًا ومآلًا، وتكليفه بما لا مصلحة له فيه ليس من رعايته في شيء فينا في كونه مكلفًا. وسادسها: أنه تعالى خلق الإنسان مكرمًا مشرفًا قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بنى آدم} وتكليف المكرم بما لا فائدة فيه لا يلائم تكريمه بل ينافيه، وأما تكليفه بما فيه فائدته يلائم تكريمه، وأفعال الحكيم يجب أن يلائم بعضها بعضًا، فإذن كونه مكرمًا مشرفًا يقتضي ظن أنه لو كلف لم يكلف إلا بما فيه مصلحة. فثبت بهذه الوجوه أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، ولكن ذلك إما بطريق الوجوب كما يقوله الفقهاء من أهل السنة بخلاف المتكلمين منهم فإنهم

لم يقولوا بتعليل أحكامه وأفعاله تعالى بالمصالح لا بطريق الوجوب، ولا بطريق الجواز أصلًا وهو اللائق بأصولهم. وثانيها: هو أن هذا الحكم مشتمل على هذه الجهة من المصلحة وهي ظاهرة؛ لأنا إنما نحكم بكون الحكم مشروعًا للمصلحة الفلانية إذا رأينا الحكم مشتملًا عليها. وثالثها: هي أنا لما علمنا أن الحكم مشروع للمصلحة، وعلمنا أن الحكم الفلاني مشتمل على المصلحة الفلانية غلب على ظننا أنه إنما شرع لأجل تلك المصلحة ويدل عليه وجهان: أحدهما: أن الحكم لا يجوز أن يكون مشروعًا لا لمصلحة لما تقدم فيكون مشروعًا لها، وهي إما المصلحة الظاهرة لنا، أو غيرها. والثاني باطل؛ لأن الأصل عدم مصلحة/ (180/ أ) أخرى وعدم الإضافة إليها فيتعين الأول وهو المطلوب. وثانيهما: أنا إذا اعتقدنا في ملك أنه لا يحكم إلا بمصلحته، ثم رأيناه قد حكم بحكم في محل معين يحصل منه مصلحة معينة، فإنه يغلب على ظننا أنه إنما حكم لأجل حصول تلك المصلحة، وإن أمكن أن يكون هناك مصلحة أخرى، وإذا كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون بالنسبة إلى الغائب كذلك لوجود العلة بعينها في حق الغائب، فإن العلة لذلك الظن الغالب [ليس إلا حصول تينك المقدمتين بدليل الدوران فإن الظن الغالب] حاصل عند حصولهما وغير حاصل عند فقدهما، وهما حاصلتان في حق الغائب إذ الكلام فيه بعد أن ثبت أنه لا يحكم لا لمصلحة وأن هذه مصلحة، فثبت بهذا الدليل أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية.

وثانيهما: في بيان أن المناسبة دالة على العلية وإن لم نقل بوجوب تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح. والدليل عليه هو: أنا لما تأملنا الشرائع وجدنا المصالح والأحكام مقترنين لا ينفك أحدهما عن الأخرى، وذلك يقتضى حصول غلبة الظن بحصول أحدهما عند حصول الأخرى؛ لأن وقوع الشيء مرارًا كثيرة على وجه مخصوص يقتضي ظن أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه المخصوص. ألا ترى أن دوران الأفلاك، وطلوع الكواكب وغروبها، وبقائها على أوضاع مخصوصة غير واجب أن يكون كذلك على رأى المليين، مع أنه قد يجزم بأنه لا يقع إلا على ذلك الوجه المخصوص؛ لما أن الله تعالى أجرى عادته بإيقاع كل واحد منها على وجه مخصوص، وعلى هذا أيضًا الجزم بترتيب جميع المسببات على أسبابها مع أن ذلك ليس على سبيل الوجوب، لما عرف أن ترتبها عليها إنما هو بخلق الله تعالى، فثبت أن المناسبة تفيد ظن العلية وإن لم تعلل أفعال الله تعالى وأحكامه، وإذا ثبت أن المناسبة تفيد ظن العلية لزم أن يجب العمل به للأدلة التي تقدمت في أن العمل بالظن واجب. فإن قيل: لا نسلم أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بالمصالح ولا نسلم انعقاد الإجماع على ذلك، وكيف يدعى ذلك مع أن مذهب جماهير المتكلمين من أهل السنة أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى، فإن عندهم أن كل من فعل فعلًا لغرض سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أو إلى الغير فإنه يكون حصوله بالنسبة إليه أولى، وإذا كان كذلك فيكون ناقصًا في نفسه مستكملًا بغيره، وهو في حق الله تعالى محال. أما الوجه الأول وهو الاستدلال بكونه حكيمًا على ذلك فضعيف؛ وهذا

لأنا لا نسلم أن الحكيم هو الذي يكون فعله لمصلحة بل هو الذي يكون فعله متقنًا محكمًا، والمراد من كون فعله محكمًا: أنه واقع على الترتيب العجيب، والتأليف اللطيف لا أنه مشتمل على المصلحة، أو هو الذي لا يصدر عنه ما لا ينبغي، وصدور ما لا ينبغي في حقه تعالى محال؛ لأن ذلك إنما يكون بالتصرف في ملك الغير أو التصرف في ملك نفسه بما لا يأمره الشارع به، وهما في حق الله تعالى غير متصورين. وأما الوجه الثاني فضعيف أيضًا؛ إذ لا يلزم من إجماع الفقهاء عليه مع مخالفة المتكلمين لهم أن يكون مجمعًا عليه وحجة عليهم وعلى غيرهم من المخالفين؛ فإن هذه المسألة من مسائل الكلام لا من تفاريع الفقه حتى يستدل بإجماعهم على غيرهم. وأما الوجه الثاني فالاعتراض عليه هو أن نقول: إن ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح إن جاز بالنسبة إلى القادر المختار فقد سقط الدليل، وإن لم يجز فحينئذ إما أن يقال: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة لهم، وعلى التقديرين لا يمكن القول بتعليل أفعال الله بالمصالح. أما على الأول، فلأن الكفر والمعاصي كلها حينئذ تكون واقعة بخلق الله تعالى، ومع القول بذلك لا يمكن تعليل أفعاله تعالى بالمصالح. وأما على الثاني؛ فلأن العبد المتمكن من فعل المعصية وخلقها إن لم يكن متمكنًا من تركها، كان العبد مضطرًا إلى فعلها ثم ما به الاضطرار ليس منه. وإلا لكان متمكنًا من تركها بسبب ترك فعل ما به الاضطرار، ونحن نتكلم على خلاف هذا التقدير فيكون ما به الاضطرار من فعل الله تعالى، فيكون الله تعالى قد فعل شيئًا أوجب ذلك صدور المعصية من العبد ويمتنع عقلًا انفكاك العبد منه، ومع هذا لا يمكن القول بتعليل أفعال الله تعالى بالمصالح، وإن كان متمكنًا من تركها فرجحان فاعليته على تاركيته لابد وأن يكون لمرجح؛ لأنا نتكلم على تقدير أنه لا يجوز ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير

مرجح وذلك المرجح لا يجوز أن يكون منه وإلا كان الكلام في فاعليته لذلك المرجح كما في الأول فلا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجح من جهة الله تعالى بحسب الفعل عنده لما عرفت ذلك آنفًا، وحينئذ يلزم من أنه تعالى خلق في العبد شيئًا أوجب فعل المعصية ولا يتمكن من تركها، ومعه لا يصح القول بتعليل أفعال الله تعالى بالمصالح، فثبت أن على أحد التقديرين الدليل ساقط وعلى التقدير الثاني لا يمكن القول بتعليل أفعاله تعالى بالمصالح. وأما الوجه الثالث: فلا نسلم أن الفعل الخالي عن المصلحة عبث وما الدليل عليه. سلمناه لكن لا يلزم منه أن يكون الله تعالى عابثًا؛ وهذا لأن أساسي الله توقيفية فلا يجوز/ (181/ أ) تسميته بذلك وإن صدر منه هذا النوع من الفعل، ولا نسلم أن بتقدير قصد إضرارهم يكون ظالمًا؛ وهذا لأن الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير وهو في حقه تعالى محال. ثم ما ذكرتم معارض بوجوه: أحدهما: ما تقدم اعتراضًا على الوجه الثاني فإنه يمكن أن يكون في المسألة دليلًا ابتداء. وثانيها: أن تعليل أفعاله تعالى بالأغراض يقتضى نفى كونه فاعلًا مختارًا فكان باطلًا. بيان الأول: [أن] عند ظهور حصول الغرض إن لم يتمكن من ترك ذلك الفعل فقد لزم أن يكون مضطرًا إلى فعله، ولا شك أن الاضطرار ينافي الاختيار، وإنن كان متمكنًا من تركه أيضًا فقد أمكن الفعل مرة والترك أخرى فرجحان الفاعلية على التاركية إن توقف على غرض آخر كان الكلام فيه كما

في الأول ولزم التسلسل وهو محال، وإن لم يتوقف لم تكن فاعليته متوقفة على غرض وهو المطلوب. وثالثها: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ إذ لو كانت مخلوقة لهم لوجب أن يكونوا عالمين بتفاصيلها لكنه ليس كذلك فيلزم أن لا تكون مخلوقة لهم، وبيان الملازمة وانتفاء اللازم مستقصى في الكلام. ورابعها: أن الإمكان مصحح للمقدورية فمقدور العبد مقدور لله تعالى، وحينئذ يجب وقوعه بقدرة الله تعالى؛ إذ لا يجوز أن يقع بقدرة الله وبقدرة العبد؛ لأنه حينئذ يلزم الاستغناء عنها حالة الافتقار إليهما وهو محال، ولا أن لا يقع بهما، لأنه يلزم أن يقع بهما ولا بقدرة العبد لأنها ضعيفة، فإضافة الوقوع إلى القوى أقوى فيتعين أن تقع بقدرة الله تعالى. وخامسها: لو قدر العبد على بعض الممكنات لقدر على كلها لما سبق أن المصحح للمقدروية إنما هو الإمكان وهو مشترك بين الكل لكن اللازم باطل فالملزوم مثله. وسادسها: لو كانت أفعال الله تعالى معللة بالأغراض فتلك الأغراض إن كانت قديمة، لزم من قدمها قدم الفعل والمفعول، وإن كانت حادثة فإن توقف حدوثها على حدوث غرض آخر لزم التسلسل وإلا فهو المطلوب. وسابعها: بعض ما تقدم وما يأتي من الأدلة الدالة على صحة تكليف ما لا يطاق، فإن كل ذلك ينفي القول بتعليل أفعال الله تعالى بالمصالح. وثامنها: أن حكم الله تعالى قديم على ما تقدم تعريفه، والغرض حادث وإلا لزم القول بقديم آخر غير ذات الله تعالى وصفاته وهو باطل باتفاق المسلمين فلم يجز تعليله به وإلا لزم جواز تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع. وتاسعها: أن إحداث العالم في وقت مخصوص دون ما قبله أو بعده لا

يجوز أن يكون لغرض ممكن إذ لا وجود لشيء من الممكنات قبل خلق العالم؛ إذ لو كان موجودًا لكان الشيء موجودًا قبل كونه موجودًا ضرورة أنه من جملة العالم وهو محال، وإذا كان كذلك فلا وقت ولا زمان إذ ذاك حتى يمكن أن يقال: أن الإيجاد في ذلك الوقت إنما كان لأجل كون ذلك الوقت منشأ للمصلحة، ولا واجب إذ الواجب لا يجوز أن يكون غرضًا من الفعل لأن الغرض معلول العلل الثلاثة في الوجود الخارجي والواجب لا يجوز أن يكون معلولًا. وعاشرها: أن الحكم والمصالح متأخرة عن شرع الحكم والمتأخر عن الحكم لا تكون علة الحكم. وحادي عشرها: أن كل حكمة تعرض ومصلحة تطلب فإن الله تعالى قادر على تحصيلها من غير وساطة الأحكام، فيكون توسيطها زيادة تعب وعناء على المكلف فيكون منفيًا لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من خرج} وبأمثاله من النصوص، وعبث أيضًا وهو أيضًا ممتنع الثبوت في حقه تعالى لما تقدم. وثاني عشرها: أن الله تعالى خلق بعض الكفار فقيرًا شقيًا بحيث يكون في الدنيا من أول العمر إلى آخره في المحنة والتعب الشديد الذي يتمني معه الموت في كل لحظة، وهو في الآخرة في العقاب الأليم وفي العذاب المقيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا شك أن الله تعالى كان عالمًا في الأزل بأن خلقه إياه وتكليفه بالإيمان لم ينفعه شيئًا بل يصير ذلك سببًا لمحنته وبلائه وأن إبقاءه على العدم الأصلي خير له، ومع هذا كيف يمكن أن يقال أنه تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة للعباد. وثالث عشرها: أنه تعالى خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب

وسائر الصفات الذميمة، نحو الحقد والحسد حتى صدر منهم بسببها أنواع الفساد والشرور فيما يتعلق بهم وبغيرهم، مع أنه تعالى قادر على أن يخلقهم بحيث لا يصدر عنهم شيء من ذلك كما إذا خلقهم ابتداء في الجنة وأغناهم عن القبائح الذميمة بالمشتهيات الحسية، وما يقال: بأنه إنما فعل ذلك؛ لأن يعطيهم العوض، ولأن يكون لطفًا لمكلف آخر فضعيف؛ لأنه لو أعطى ما هو عوض ابتداء من غير تعب ونصب لكان أشد رعاية لمصلحتهم وأكثر إحسانًا إليهم، وتعذيب الحيوان المخصوص لأجل أن يكون لطفًا لآخر لا يرضى به عاقل. ورابع عشرها: أن أفعاله وأحكامه تعالى لو كانت معللة بالمصالح فإما أن يكون بحيث يمكن انفكاكها عنها أو لا يمكن، والقسمان باطلان/ (182/ أ) فبطل القول بالمقارنة، أما الأول؛ فلأنه لو فرض الفعل خاليًا عنها لوجب أن يكون الفعل عبثًا؛ لأن كل فعل ثبت تعليله بالمصلحة فإذا فرض خاليًا عنها فإنه يوصف بذلك كما [في] فعل العبد بخلاف ما إذا كان فعله لا للمصلحة بل بمحض الإرداة والاختيار فإنه إذ ذاك يمنع وصفه بذلك. وأما الثاني، فلأنه يقتضي أن يكون الباري تعالى مضطرًا في فعله وأن لا يكون متفضلًا على خلقه بتحصيل مقاصدهم ومآربهم وكل ذلك خلاف النصوص وإجماع السلف، ولأن الفقهاء مساعدون على فساد هذا القسم. وخامس عشرها: لو كانت معللة بالمصالح فإما أن يكون مع وجوب التعليل وهو باطل؛ لأنه لو ترك ذلك لتوجه إليه السؤال؛ لأن كل من ترك ما وجب عليه فإنه يتوجه عليه أن يقال: لم تركته بالاستقراء لكن ذلك باطل؛ لقوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أولا مع وجوب التعليل، وهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ يمكن خلو الفعل عن المصلحة ويعود

ما تقدم من المحذور هو كون الفعل عبثًا. وسادس عشرها: أنه تعالى مكن العبيد من فعل المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش مع علمه تعالى بذلك وقدرته على منعهم من ذلك، وذلك ينفي تعليل أفعاله تعالى بالمصالح. وسابع عشرها: أن متعلق التكليف في النهي [إما نفس أن لا يفعل، أو فعل الضد، وعلى التقديرين يلزم أن يكون التكليف بمتعلق النهي] تكليف ما لا يطاق. أما على التقدير الأول فلأن نفس أن لا يفعل نفي محض، وعدم صرف والقدرة صفة مؤثرة فالجمع بينهما متناقض، ولأن هذا المفهوم مستمر من الأزل إلى وقت التكليف فتأثير القدرة فيه تأثير في تحصيل الحاصل وهو محال. وأما على التقدير الثاني فلأن المكلف قد يكون غافلًا عن ضد المنهي عنه حال النهي فيكون التكليف به إذ ذاك تكليف بالمغفول عنه وهو تكليف ما لا يطاق. وثامن عشرها: لو كانت أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بالمصالح لوجب أن لا يوجد شر وفساد في العالم، لكن الثاني باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة هو: أنه إن لم يكن لغير الله تعالى فعل في العالم فظاهر، لأنه حينئذ جميع ما يحصل في العالم إنما هو بفعل الله وفعله إنما هو للمصلحة فوجب ترتبها عليه فيلزم أن لا يحصل شر وفساد، وإن كان لغيره تعالى فعل فلا شك أن ذلك الفعل فلا يحصل إلا بأقدار الله تعالى لذلك الغير عليه، واقداره إنما هو فعله فهو لمصلحة فوجب أن تترتب المصلحة عليه، ولا يترتب عليه شر وفساد وإلا لم يكن فعله لمحض المصلحة بل لها وللمفسدة المساوية أو

الغالبة؛ ضرورة أنه ليس الغالب في العالم إنما هو المصلحة بل هو الشر والفساد، وحينئذ يلزم أن لا يكون فعله معللًا بالمصلحة ضرورة أن مجموع تلك المصلحة والمفسدة ليست مصلحة بل إما عبث أو مفسدة. فإن قلت: اقداره تعالى إياه إنما هو للمصلحة وما يترتب عليه من المفاسد فإنما هو بسوء اختيار المكلف. قلت: فاختيار المكلف إن كان من فعله تعالى عاد المحذور المذكور، وإن كان من فعل العبد فالكلام في اقداره عليه كما في الأول، فيلزم إما التسلسل وهو محال، أو لزوم الشر والفساد من فعله تعالى. وتاسع عشرها: لو كانت أفعاله تعالى معللة بالمصالح لما أمات الأنبياء والخلفاء الراشدين، وأنظر إبليس وسلطه على بني آدم فيأتيهم من حيث لا يرونه، ولما ملك الملوك الجبابرة الظلمة وسلطهم على الضعفاء والصالحين، ولما أوجب تخليد أهل النار؛ إذ لا مصلحة في شيء من ذلك، أو وإن كان فيه مصلحة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى ما فيه من المفسدة والعقوبة. والعشرون: أن التكليف بمعرفة وجود الصانع متوجه نحو المكلف وهو إن كان حال العلم به فيلزم تحصيل الحاصل وهو محال، أو حال عدم العلم به وهو أيضًا محال؛ لأن في تلك الحالة يستحيل أن يعرف تكليفه إياه؛ لأن العلم بذلك يستدعى العلم بالمكلف فحالة الجهل به يستحيل العلم بذلك، وإذا استحال أن يعرف تكليفه إياه كان التكليف إليه متوجهًا إليه حالة الجهل به وإنه تكليف ما لا يطاق. فثبت بهذه الوجوه أن أفعال الله تعالى وأحكامه غير معللة بالمصالح، وحينئذ لا يغلب على الظن كون الأحكام مشروعة للمصالح وإن رأيناها مقترنة معها.

وأما الكلام على الدليل على المقدمة الثالثة فهو أن الدليل الأول مبني على أن استحصاب الحال حجة وسيأتي الكلام فيه أيضًا. سلمنا حجيته في الجملة لكن لا نسلم أن الموجب لذلك الظن ليس إلا تينك المقدمتين بل هما مع ما نعلمه من أمرين آخرين من الإنسان وهما كون الإنسان بطبعه يميل إلى جلب المصالح ودفع المضار وهذا المعني غير موجود في حق الله تعالى؛ فإن الله تعالى منزه عن ذلك وكونه يراعي النوع المخصص من الحاجة، وليس المطلوب دفع عموم الحاجة حيث كان دفع الحاجة مطلوبًا وإلا لاندفعت الحاجات كلها، بل دفع الحاجة الخاصة، فلا جرم عند العلم بذلك يحصل الظن/ (183/ أ) بأن الإنسان إنما فعل الفعل الفلاني لأجل كذا، وليس هذا النوع من العلم حاصلًا من جهة الله، فلا جرم لم يجب حصول ذلك الظن بل المعلوم منه تعالى خلافه؛ بدليل اختلاف أفعاله وأحكامه بالنسبة إلى الأزمان والأشخاص. سلمنا أن ما ذكرتم يدل على صحة قولكم لكنه معارض بوجوه: أحدهما: أن الحكم لو كان معللًا فإما أن يكون معللًا بالحكمة وهو باطل؛ لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها، أو بالوصف وهو أيضًا باطل. أما أولًا: فلأن الوصف إنما يكون علة لاشتماله على الحكمة بدليل أنه لو لم يتضمنها لم يجز جعله علة، ولما بطل أن تكون الحكمة علة بطل أن يكون متضمنها لأجلها يكون علة. وأما ثانيًا: فلأن الحكمة حينئذ تكون على علته فيعود ما تقدم من المحذور. وثانيها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه غير معللة بدفع حاجة العبيد؛ إذ

لو كانت معللة به لاندفعت الحاجات بأسرها؛ لأن الحاجات كلها مشتركة في كونها حاجة ومتباينة بخصوصياتها، وتلك الخصوصيات يجب أن لا تكون حاجة وإلا لما حصل بها الامتياز، كما أنها مندرجة تحت الحاجة المشتركة بين الكل حينئذ، فإذا ثبت أن الأحكام شرعت لدفع الحاجة وثبت أن الحاجات كلها مشتركة في كونها حاجة لزم دفع الحاجات كلها لكنها غير مندفعة بأسرها وهو ظاهر، فبطل كونها معللة به. وثالثها: أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه يقتضي توقيف المقتضي على الشرط أو تخلف الحكم عنه لمانع كلاهما على خلاف الأصل فالتعليل بدفع الحاجة على خلاف الأصل. بيان الملازمة: أن أحكام الشرع من قبلنا كانت حسنة في تلك الشرائع؛ ولذلك كانت معمولة بها ثم صارت قبيحة في زمان شريعتنا؛ ولذلك حسن نسخها، ولا يجوز أن يكون ذلك من مقتضيات ماهية ذلك الفعل من حيث هو؛ لأن ماهية الفعل الواحد لا يقتضي حكمين مختلفين بحسب ماهيته، بل ذلك لأن اقتضاءه لذلك الحكم كان مشروطًا بشرط لم يوجد في زمننا، أو لأنه وجد في زماننا ما يمنعه من اقتضائه، وإنما كان يلزم أحد ما ذكرنا من الأمرين. ورابعها: لو كانت الأحكام مشروعة لتحصيل المصالح لحصلت المصالح قطعًا ضرورة أن الحكيم القادر لا يسلك ما يحتمل أن لا يؤدي إلى المقصود مع قدرته على سلوك ما يؤدي إليه جزمًا لكن المصالح غير حاصلة قطعًا بدليل أن الزنا والسرقة وغير ذلك من الأحكام المشروعة لمصالحها قد تتخلف عنها، ولو كانت حاصلة على وجه القطع لما تخلفت في شيء من الصور، ولما تخلفت دل على أنها لم تشرع لها.

الجواب: اعلم أن ما ذكرتم من الاعتراضات والمعارضات وإن كان قويًا أمكن الجواب عن بعضه، لكنه بأسره وارد على الدليل الأول دون الثاني واعتمادنا في إثبات هذا المطلوب إنما هو على الدليل الثاني، ولا يرد شيء منها [عليه] فلا حاجة إلى تكلف الأجوبة عن تلك الاعتراضات والمعارضات. وأما الجواب عن المعارضة الأولى من معارضات الحكم فمن وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن الحكمة غير منضبطة بل قد تكون منضبطة وبها يجوز التعليل عند بعضهم. سلمناه لكن لا نسلم أن الحكمة إذا لم تصلح للعلية لم يكن الوصف المشتمل عليها يصلح للعلية؛ وهذا لأن عدم صلاحيتها للعلية إنما هي لكونها غير مضبوطة، وهذا المعني زائل عندما تكون الحكمة متضمن الوصف فلا يلزم منه عدم صلاحية الوصف للعلية. قوله في الوجه الثاني: (إن الحكمة علة لعلية الوصف فيعود المحذور المذكور). قلنا: نعم لكن عندما تكون متضمن الوصف وحينئذ يلزم المحذور المذكور وثانيهما: النقض بأفعالنا وفيه نظر. وعن الثانية: النقض بأفعالنا، وأيضًا: فإن قولنا: الحكم معلل بدفع الحاجة لا نعني به ما صدق عليه أنه حاجة بل نعني به حاجة مخصوصة تختص بكل باب ونوع بل بمسألة بخلاف مطلق الحاجة فإنه مشترك بين الكل فلا يلزم اندفاع الحاجات بأسرها. وعن الثالثة: النقص بأفعالنا، وأيضًا: فإنه مبنى على تحسين الفعل وتقبيحه وقد مضى إبطالهما.

وعن الرابعة: منع أنه غير حاصل قطعًا بل هو حاصل قطعًا وذلك لأنه ليس المقصود من شرع الحكم ترتب الحكمة عليه في كل صورة من صوره بل تكثير ذلك النوع من المصلحة أو تقليل ذلك النوع من المفسدة التي يترتب عليه، وهو حاصل قطعًا. وأيضًا: فإنه يجوز أن يكون المقصود من شرع الحكم هو كون تلك الحكمة والمصلحة بحيث تترتب على ذلك الحكم ظاهرًا ولا شك في أن هذا مصلحة وهو حاصل قطعًا.

......................................................................................

الفصل الثالث

الفصل الثالث في قياس الشبه

الفصل الثالث في قياس الشبه. وفيه مسائل: المسألة الأولى في تعريف ماهيته، وذكروا له حدودًا: أحدها: أنه عبارة عن إلحاق الفرع المتردد بين أصلين لمشابهته بإحداهما لمشابهة له في أكثر صفات مناط الحكم، وهو كقياس العبد على الحر في وجوب كمال قيمته بقطع الأطراف التي يوجب قطعها في الحر كمال الدية من حيث إنه يشبه الحر في كونه آدميًا مكلفًا/ (184/ أ) فاهمًا للخطاب مثابًا ومعاقبًا، وهو إن شابه غيره من الحيوان من حيث إنه مملوك يباع ويشتري، فكان مقتضاه أن يجب أرش ما نقص بالغة ما بلغ لكن مشابهته للحر أكثر، فإلحاقه به بكثرة الشبه [قياس الشبه]. ولهذا يسميه الشافعي- رضي الله عنه-: "قياس غلبة الأشباه" وهو غير مانع؛ لأنه يدخل تحته ما ليس منه وهو بعض أنواع القياس المناسب، وهو ما يكون مشابهته للأصلين بمناسب، ويكون مشابهته لأحدهما في أكثر الصفات مع أن المناسب قسيم الشبه. وأيضًا: اعتبار كثرة المشابهة مشعر بأن ذلك من باب ترجيح أحد

القياسين على الآخر وهو غير داخل في ماهية القياس. ومنهم من قال: إنه عبارة عما عرف مناط الحكم فيه قطعًا إلا أنه يحتاج إلى النظر في تحققه في آحاد الصور. وهو كطلب المثل في جزاء الصيد؛ فإن وجوب المثل معلوم قطعًا بالنص وغيره، لكن تحققه في آحاد الحيوانات يحتاج إلى الاجتهاد. وهو فاسد قطعًا؛ لأن هذا النوع من الاجتهاد معلوم وقوع التعبد به، واعترف به أكثر منكري القياس وهو مسمي (بتحقيق المناط) على ما تقدم ذكره في صدر القياس، وقياس الشبه ليس كذلك فكيف يكون هو؟ وأيضًا: فإن النظر في قياس الشبه في أصل العلة واستنباطها وتحققها، والنظر في تحقق المناط إنما هو في تحققها فقط؛ إذ العلة فيه معلومة بالنص أو الإجماع، فكيف يكون أحدهما الآخر. وأيضًا النظر فيما ذكر من المثال [من] تحقيق المناط إنما هو في الأشبه؛ وذلك لأن النعم لا تماثل الصيد فيكون محمولًا على الأشبه بالمثل، بخلاف قياس الشبه فإن النظر فيه في أصل الشبه الذي هو مناط الحكم. وقيل ما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال، إلا أن أحدهما أغلب من الآخر، فالحكم بالأغلب حكم لغلبة الأشباه. وهو كعقد الخلع والكتابة فإن فيهما مشابهة المعاوضات والتعليقات فإلحاقهما بالأغلب قياس غلبة الأشباه.

وهو أيضًا غير مانع؛ لأنه يشمل المناسب وغيره؛ لأن الذي فيه المناطان المختلفان لا على سبيل الكمال أعم من أن يكون ذلك المناط مناسبًا أو غير مناسب. وأيضًا فإن إلحاقه بالغالب غير خارج عن التعليل بالمناسب. وقال القاضي أبو بكر- رحمه الله-: الوصف إما أن يكون مناسبًا للحكم بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته، لكنه يكون مستلزمًا لما يناسبه بذاته وإما لا يناسبه بذاته ولا يستلزم ما يناسبه، والأول المناسب. والثاني الشبه، والثالث الطرد. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنه غير مانع إذ يدخل تحته قياس الدلالة على ما ستعرفه. وقيل: الوصف إذا لم يناسب الحكم لكن عرف تأثير جنسه القريب [في الجنس القريب] لذلك الحكم هو الشبه لأنه من حيث إنه غير مناسب يظن أنه غير معتبر، ومن حيث إنه عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم مع أن غيره من الأوصاف ليس كذلك يظن أنه أولى بالاعتبار، فتردد بين أن يكون معتبرًا، وبين أن لا يكون معتبرًا، لكن اعتباره أغلب ولعله السبب في تسميته بقياس غلبة الأشباه كما نقلناه عن الشافعي- رضي الله عنه-.

وقيل: ما توهم المناسبة من غير إطلاع عليها بعد البحث التام ممن هو من أهل الإطلاع عليها. وتقريره: أن الوصف المعلل به لا يخلو: إما أن تظهر فيه المناسبة، أو لا تظهر فالأول: القياس المناسب، والثاني لا يخلو: إما أن يعهد من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام، أو لم يعهد، والأول هو الشبه، والثاني الطرد، فهو من حيث [إنه لم يوقف على مناسبته بعد البحث التام ربما يجزم بعدم مناسبته] ومن حيث إنه يعهد من الشارع الالتفات إليه يوجب التوقف عن الجزم بعدم مناسبته، فهو والمناسب يشتركان في كون كل واحد منهما غير مجزوم [بعدم مناسبته وهو والطرد يشتركان في كون كل واحد غير مجزوم] بالمناسبة، فهو مرتبة بين المناسب والطرد وهو دون المناسب وفوق الطرد، وفيه شبه من كل منهما ولعله السبب في تسميته قياس الشبه أو غلبة الأشباه كما سبق. مثاله: قول الشافعي في الاستدلال في مسألة إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة [فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإن الجامع هو كون كل واحد منهما طهارة] لأجل الصلاة ومناسبتها لتعين الماء فيها غير ظاهرة بعد توغل البحث عنه لكن عهد التفات الشارع إليها في بعض الأحكام كمس المصحف، والطواف، وذلك يوهم اشتمالها على المناسبة. واعلم أن هذا وما ذكرناه قبله أقرب ما قيل في تعريف قياس الشبه.

المسألة الثانية في إقامة الدلالة على أنه حجة إذا اقترن به الحكم

المسألة الثانية في إقامة الدلالة على أنه حجة إذا اقترن به الحكم. والخلاف فيه مع القاضي أبي بكر وغيره. لنا: أنه يفيد ظن العلية فوجب أن يكون حجة؛ وإنما قلنا: إنه يفيد ظن العلية؛ لأن الحكم إذا كان ثابتًا في محل ولم يعلم هناك وصف مناسب بل علم حصول الوصف التشبهي على أحد الوجوه الثلاثة المذكورة في تفسيره أخيرًا/ (185/ أ) مع أوصاف أخر طردية، فإما أن يقال: إن الحكم غير معلل بمصلحة أصلًا، وهو باطل لما تقدم أو هو معلل بمصلحة وهو الحق، وحينئذ إما أن يقال: تلك المصلحة إما أن توجد في ضمن الوصف الشبهي أو في ضمن الوصف الطردي؛ إذ لا يعلم هناك وصف

مناسب مستقل بعد البحث التام عنه فلم يجز إثباتها في ضمنه؛ لانعقاد الإجماع على أن إثبات الحكم الشرعي لا يجوز باحتمال وجود مدرك له بل لابد وأن يكون لمدرك معلوم، ولو جاز مثل ذلك لكن لا شك في أنه على خلاف الأصل؛ إذ الأصل [عدم] وجود وصف آخر هناك غير ما علم لكن الثاني باطل. أما أولًا: فبالإجماع؛ لأن من لم يجوز التعليل بالشبه لم يجوز التعليل بالطرد، ومن جوزهما لم يجوز إحالة الحكم إلى الطرد مع وجود الشبه، وإحالة الحكم إلى الطرد مع وجود الشبه قول خلاف الإجماع. وأما ثانيًا: فلأن الشبه إما مستلزم للمناسبة على ما ذكره القاضي أو موهم له على ما ذكرناه أخيرًا، أو هو عبارة عن ما عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم على ما ذكرناه في التعريف الذي قبل الأخير وشيء من ذلك غير حاصل في الوصف الطردي فكان ظن كون الوصف الشبهي يتضمن تلك المصلحة أكثر، فلم يجز استناده إلى الوصف الطردي؛ إذ العمل بالظن المرجوح مع الظن الراجح غير جائز. وأما أنه إذا أفاد ظن العلية وجب العمل به، فلما تقدم من الأدلة أن العلم بالظن واجب. احتجوا بوجوه: أحدها: أن الدليل يدل على عدم جواز التمسك بالعلة المظنونة على ما تقدم تقريره، ترك العلم به في العلة المناسبة لزيادة الظن فوجب أن يبقي ماعداها على الأصل.

وجوابه: ما سبق غير مرة. وثانيها: أن الوصف الذي سميتموه شبهًا إن كان مناسبًا فهو مقبول بالاتفاق، وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق. وجوابه: أنا لا نسلم أن غير المناسب طرد مردود بالاتفاق؛ وهذا لأن غير المناسب ينقسم عندنا إلى شبه، وطرد، فالطرد مردود بالاتفاق، فلم قلت أن الشبه مردود وهذا أول المسألة؟ وثالثها: أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا بالشبه. وجوابه: أنه لا يلزم من نفي مدرك مخصوص نفي المدرك مطلقًا [ولا يلزم من عدم عمل الصحابة لهذا النوع من القياس عدم غيره من المدارك] فلا يلزم من عدم عملهم به عدم جواز العمل به لجواز أن يدل عليه مدرك آخر كما ذكرناه وغيره.

المسألة الثالثة ذهب بعض أصحابنا أن الوصف الشبهي إذا لم يعرف تأثير عينه في عين الحكم بل عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم لا يكون حجة. وخالفه الباقون وهو المختار

المسألة الثالثة ذهب بعض أصحابنا أن الوصف الشبهي إذا لم يعرف تأثير عينه في عين الحكم بل عرف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم لا يكون حجة. وخالفه الباقون وهو المختار. وهذا النزاع إنما يتصور إذا لم يفسر الشبه بالتفسير الذي قبل التفسير الأخير، فأما إذا فسر به فلا، فإنه عين الشبه فلا يتصور النزاع في حجيته على تقدير حجية الشبه. لنا: أنه وإن لم يفد الظن الذي يفيده ما عرف تأثير عينه في عين الحكم، لكنه يفيد قدرًا من الظن؛ لأنا لما عرفنا أن الحكم لابد له من علة، وأن العلة: إما هذا الوصف، أو غيره ثم رأينا أن جنس هذا الوصف أثر في جنس ذلك الحكم، ولم نر هذا لمعنى حاصلًا في غيره من الأوصاف ولا شك أن ميل القلب إلى كون ذلك الوصف على أقوى من ميله إلى غيره والعمل بأقوى الظنين واجب فالعمل بهذا الظن واجب. احتج الخصم بوجهين: أحدهما: أن الظن الحاصل من تأثير عين الوصف الشبهي في عين الحكم ضعيف جدًا؛ ولهذا لم يقل بحجيته أكثر الأصوليين، فإذا انحط عن هذه الرتبة إلى رتبة تأثير جنسه في جنس الحكم لم يبق منه شيء، أو وإن بقى منه شيء يسير لكنه لم يجز العمل به، كما لم يجز العلم بالظن الذي ينشأ من أدني خيال وقرينة.

وجوابه: أنا لا نسلم أن الظن الحاصل من تأثير عينه في عين الحكم ضعيف جدًا، وما الدليل عليه؟ واختلاف الأصوليين في حجيته لا يدل على ذلك لجواز أن يكون الظن في نفسه قويًا لكن حصل لهم أقوى منه بعدم حجيته، على أنه لا يستدل على ضعف مأخذ الخصم بمخالفة خصمه. سلمنا أنه ضعيف لكن لا نسلم أن ضعفه بمثابة لو انحط منه إلى رتبة تأثير جنسه في جنس الحكم لم يبق منه ما يجوز العمل به، فإنا لا نسلم أنه يكون كالظن الحاصل من أدني الخيال. وثانيهما: أن الظن الحاصل من تأثير جنسه في جنس الحكم أضعف من [الظن] الحاصل من المناسب المرسل، وهو ليس بحجة، فما دونه أولى، وهذا بخلاف الظن الحاصل من تأثير جنس الوصف المناسب في جنس الحكم فإنه أقوى من الظن الحاصل من المناسب المرسل، فلا يلزم من عدم حجته عدم حجيته. وجوابه: النقض بما إذا عرف تأثير عين الوصف الشبهي في عين الحكم؛ فإن الظن الحاصل منه أقل من المناسب المرسل من حيث إن مناسبته ظاهرة، ومناسبة الشبهي ليست كذلك مع أنه حجة باتفاق بيننا وبين الخصم. فإن قلت: الظن الحاصل من المناسب المرسل وإن كان أقوى من الظن الحاصل من القياس الشبهي من الوجه الذي ذكرتموه لكنه يقوى بوجه آخر، وهو كونه ملتفت إليه من جهة الشارع بخلاف المناسب المرسل. قلت: فهذا المعني حاصل فيما نحن فيه، فإنه غير ملتفت إليه أيضًا؛ لأن/ (186/ أ) كونه بحيث أثر جنسه القريب في الجنس القريب للحكم اعتبار له والتفات إليه كما في غيره، فلم قلت أنه ليس كذلك؟ فإن ذلك أول المسألة.

الفصل الرابع في الدوران

الفصل الرابع في الدوران ويسمى بالطرد والعكس

الفصل الرابع في الدوران ويسمى بالطرد والعكس. ومعناه: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، وينعدم عند عدمه وهو المسمي بالدوران الوجودي والعدمي. فإن كان بحيث يوجد عند وجود الوصف ولا ينعدم عند عدمه فهو المسمي بالدوران الوجودي، والطرد أو بالعكس ويسمي بالدوران العدمي والعكس. والكلام في هذا الفصل إنما هو في الدوران الوجودي والعدمي، وقد يسمي بالدوران المطلق. وهو يقع على وجهين: أحدهما: أن يقع ذلك في صورة واحدة كالتحريم مع السكر في العصير؛ فإنه لما لم يكن مسكرًا في أول الأمر لم يكن حرامًا، فلما حدث السكر فيه حدثت الحرمة فيه، ثم لما زال السكر عنه بأن صار خلا زالت الحرمة عنه. وثانيهما: أن يوجد ذلك في صورتين: وهو كوجوب الزكاة مع ملك نصاب كامل تام في صورة أحد النقدين ملكًا تامًا رقبةً ويدًا، وعدمه مع عدم شيء منها كما في ثياب البذلة والمهنة، وعبيد الخدمة فإنه لا تجب فيها الزكاة

لفقد شيء مما ذكرناه. واختلف الأصوليون في أنه هل يفيد العلية أم لا؟ فذهب الجمهور كالقاضي أبي بكر وغيره إلى أنه يفيد ظن العلية بشرط عدم المزاحم، وهو المختار. وذهب بعض المعتزلة إلى أنه يفيد يقين العلية. وذهب الباقون من أصحابنا وغيرهم إلى أنه لا يفيد العلية ولا يقينها وهو اختيار الغزالي- رحمه الله-. لنا وجوه: أحدها: أن العقلاء بأسرهم مع اختلاف عقائدهم وآرائهم يفزعون إلى التجربة في أمر الأدوية والأغذية، فإنهم لما رأوا أن الأثر الفلاني يحصل عند استعمال الدواء الفلاني ولم يحصل عند عدم استعماله، فزعوا إليه عندما أرادوا تحصيل ذلك الأثر، ولولا غلب على ظنهم أنه السبب لذلك الأثر لما فزعوا إليه عند إرادة تحصيله كما لم يفزعوا إلى غيره.

وثانيها: أن الحكم لابد له من علة على ما سبق، فتلك العلة إما الذي دار الحكم معه وجودًا وعدمًا، أو غيره، الثاني باطل. أما أولًا: فلأن الأصل عدم ذلك الغير. وأما ثانيًا: فلأن ذلك الغير إن كان موجودًا قبل الحكم لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل، وإن لم يكن موجودًا قبله لم يكن على لذلك الحكم إذ ذاك والأصل بقاؤه على عدم عليته، فيحصل ظن عدم عليته، وإذا حصل ظن عدم علية ذلك الغير حصل ظن عليه ما دار معه الحكم وجودًا وعدمًا لا محالة. وأما ثالثًا: فلأن ذلك الغير إن لم يصلح للعلية لم يجز جعله علة، وإن صلح لم يكن مسألتنا، لأنه حينئذ حصل هناك مزاحم ونحن إنما ندعى علية المدار عند عدم المزاحم فلم تكن تلك الصورة مسألتنا. ولا يقال: الحكم كما دار مع ذلك الوصف وجودًا وعدمًا، فكذا دار مع تعينه وحصوله في ذلك المحل، فحينئذ يكون المزاحم حاصلًا فلم تجز الإضافة إلى الوصف، أو يقال: مجموع الوصف مع التعين والحصول في ذلك المحل على عملًا بالدورانين، وعلى هذا التقدير لا يجوز تعديته عن ذلك المحل؛ لأن نقول: التعين والحصول في المحل أمران عديمان؛ إذ لو كانا وجوديين لزم أن يكون للتعين تعين أخر، وللحصول في المحل حصول آخر فيلزم التسلسل، ضرورة أن التعين حينئذ يشارك سائر التعينات في كونه تعينًا ويمتاز عنها بخصوصيته، وكذا الحصول في المحل فإنه حينئذ يكون له حصول في المحل؛ إذ ليس هو جوهر قائم بنفسه، وهو معلوم بالضرورة، فيكون له حصول في المحل، فثبت أنهما أمران عديمان وإذا كانا كذلك فلا يجوز أن يكونا

[جزئي] علة ولا مزاحمًا لها. وثالثها: أن الناس إذا شاهدوا من إنسان أنه يغضب عند الدعاء باسم مخصوص، وإذا دعى بغيره لم يغضب، وتكرر ذلك مرة بعد أخرى، فإنه يحصل لهم ظن أنه إنما يغضب لكونه يدعى بذلك الاسم المخصوص؛ ولهذا لو سئلوا عن ذلك لعللوا به، حتى إن الصبيان الذين هم ليسوا من أهل النظر والفكر يعلمون ذلك؛ ولهذا إذا أرادوا إغضابه يدعونه بذلك الاسم المخصوص متتبعين له في الدروب والسكك، ويعللونه به عند السؤال عن ذلك، ولولا أن الدوران يفيد ظن العلية وإلا لما حصل لهم ذلك الظن. وأيضًا: إذا ثبت أن الدوران في هذه الصورة يفيد ظن العلية، وجب أن يكون في غيرها كذلك أما أولًا، فلقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} والعدل هو التسوية، ولم تحصل التسوية بينهما إلا إذا اشترك كلها في إفادة الظن بالعلية. وأما ثانيًا: فلأن الأصل أن يترتب الحكم على المقتضي والمقتضي لذلك الظن على ما تقدم إنما هو الدوران فوجب أن يثبت ذلك الظن حيث يثبت الدوران.

احتجوا بوجوه: أحدها: أنه لا معني للدوران إلا الطرد والعكس، والطرد وحده لا يفيد العلية، لأن حاصله يرجع إلى سلامة الوصف عن النقض، وسلامته عن مفسد واحد لا يوجب سلامته عن/ (186/ أ) كل مفسدة، ولو سلم ذلك لكن لا يلزم من سلامة الشيء عن مفسدات الشيء صحته لذلك، فإنه كما يعتبر في كون الوصف علة عدم مفسدات العلة يعتبر أيضًا وجود المقتضي لعليته، بل اعتبار هذا مقدم على اعتبار ذلك، والطرد من حيث هو طرد لا إشعار له بالعلية ألبتة، بل إشعاره بعد النقض كما تقدم، فثبت أن الطرد وحده لا يفيد العلية، والعكس غير معتبر في العلل الشرعية وفاقًا فمجموعها أيضًا كذلك. وجوابه: إن حكم المجموع قد يخالف الآحاد، فلا يلزم من عدم علية كل واحد منهما عدم علية المجموع، ألا ترى أن كل واحد من أجزاء العلة ليس بعلة مع أن مجموعها علة. وثانيها: أن الحكم في صور الدورانات الوجودية والعديمة ما دار مع المشترك بين تلك الصور فقط بل معه وما يخص كلا منهما، فلو دل الدوران على العلية فإنما يدل على علية المجموع الذي هو غير مشترك بين الصور كلها فيتعذر الاستدلال به على العلية، فالحاصل أن ما دل الدوران على عليته، أنتم لا تقولون بعليته، وما تقولون بعليته لا يدل الدوران على عليته.

وجوابه: إن جعل الدوران مفيدًا لعلية المشترك أولى، لأن المختص إن لم يصلح للعلية فظاهر، وإن صلح فكذلك؛ لكونه أكثر فائدة، ولجهة ورود الأمر بالقياس. لا يقال: التعليل بالمجموع المركب من المشترك والمختص أولى؛ لأن فيه تعدد مدارك الحكم وهو أولى من المتحد؛ لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم، لأنا نقول: يعارضه أن التعليل بالمشترك تعليل العلة المتعدية. والمطردة والمنعكسة وهو أولى مما ليس كذلك. وثالثها: أن الدوران قد حصل في مواضع ولا علية، وذلك يدل على أنه غير مفيد للعلية. بيان الأول: أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا مع أن المعلول ليس بعلة وأحد المعلولين المتساويين يدور مع الآخر ولا علية، والفصل يدور مع معلول النوع كلوازم معلولات النوع ولا علية؛ لأن المعلوم لا يصير علة علته، وكذا تدور مع العلية مع جزء العلة وشرطها ولا علية، وذات الله تعالى وصفاته متلازمان نفيًا وإثباتًا ولا علية هناك على رأينا، وكذا الجوهر والعرض والمتلازمان، والحوادث مع الزمان والمكان يتلازمان من غير علية أحدهما للآخر، وكذا غيرها من الصور التي يوجد الدوران فيها منفكًا عن العلية مما يطول استقصاؤها فثبت أن الدوران حاصل في محال من غير علية. بيان الثاني من وجهين: أحدهما: لو كان الدوران مفيدًا للعلية مع أنه يوجد في بعض الصور منفكًا عنها، فإما أن يقال: أن تخلف العلية عنه لمانع أو لا لمانع، والقسمان باطلان فبطل أن يكون الدوران مفيدًا للعلية. أما الأول، فلأنه يلزم منه التعارض وهو خلاف الأصل. وأما الثاني، فلأنه يلزم منه تخلف المقتضي عن المقتضي لا لمانع وذلك يقدح في كونه مقتضيًا، وأيضًا فإن كونه مقتضيًا للعلية في بعض الصور دون

البعض مع أن اقتضاءه لها لم يتوقف على شرط إذ لو كان اقتضاؤه متوقفًا عليه لم يكن الدوران وحده مفيدًا للعلية بل الدوران مع ذلك الشرط وليس كلامنا فيه بل في الدوران وحده. ولو سلم أن كلامنا في مطلق الدوران الذي يحتمل أن يكون مع الشرط أو بدونه لكن توقيف المقتضي على الشرط على خلاف الأصل يقتضي ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال. وثانيهما: أن بعض الدورانات إذا لم يكن مفيدًا للعلية وجب أن يكون البعض الآخر كذلك لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} والعدل هو التسوية ولن تحصل التسوية بين الدورانات كلها حينئذ إلا بأن يكون شيء منها مفيدًا للعلية. وجوابه: أنا لا نسلم أن الدوران الذي ندعيه أنه دليل العلية قد وجد في بعض الصور منفكًا عن العلية وهذا لأن الدوران الذي ندعيه أنه دليل العلية هو الدوران الذي لم يقم دليل على عدم علية المدار فيه، والخالي عن المزاحم، وما ذكرتم من الصورة التي تخلف عنه العلية فليس كذلك فلم يقدح ذلك في كون الدوران الذي ندعيه أنه دليل العلية، وهذا هو الجواب بعينه عما ذكره في تقرير المقدمة الثانية من لزوم أن لا يكون المقتضي مقتضيًا [ولزوم ترجيح أحد الجانبين على الآخر. قوله: توقيف المقتضي] على الشرط خلاف الأصل.

قلنا: نعم لكن دل الدليل عليه وهو كونه جمعًا بين الدليلين فوجب المصير إليه. ورابعها: أن المدار يجوز أن يكون وصفًا لازمًا للعلة وليس هو العلة، كالرائحة الفائحة اللازمة للشدة المطرية، ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بطريق نحو الأصل، أو السبر والتقسيم، وحينئذ يلزم الانتقال من طريق الدوران إلى طريق السبر والتقسيم، وهو كاف في الاستدلال على العلة فيضيع التعرض لطريقة الدوران. وجوابه: لو كان احتياج الدوران إلى بيان عدم وصف آخر بالأصل، أو لعدم/ (188/ أ) الوجدان بعد البحث والطلب الشديد قادحًا في كونه طريقًا إلى الظن بالعلة لقدح ذلك في أكثر الأدلة كالمناسبة وغيرها، لأن المستدل إذا أبدى مناسبة وصف أو ذكر دليلًا على الحكم فللخصم أن يقول: إنما يعمل بكل وحد منهما لو سلما عن المعارض ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالأصل أو بالسبر والتقسيم، ويلزم من ذلك الانتقال من تلك الطريقة إلى غيرها، وهو كاف في الدلالة على المطلوب، وأيضًا: فإن كون ذلك المدار وصفًا لازمًا للعلية، وأن العلة حينئذ تكون غيره احتمال مرجوح لا يقدح في ظن علية ذلك الوصف المدار؛ فإنا إذا رأينا دوران حكم مع وصف وجودًا وعدمًا مع صلاحيته للعلية مع عدم علمنا بوصف آخر غلب على ظننا بكون ذلك الوصف علة وأن احتمال أن تكون العلة غيره وأنه لازم لتلك العلة احتمالًا مرجوحًا والعمل بالظن واجب فيكون العمل بذلك الوصف واجبًا ولا نعني بكون الدوران حجة سوى هذا وحينئذ لا حاجة للمستدل إلى دفع ذلك الاحتمال المرجوح؛ لأن طالب الظن ليس عليه دفع الاحتمالات المرجوحة وإنما ذلك على طالب اليقين فلا حاجة له إلى التمسك بالسبر والتقسيم وغيره.

الفصل الخامس في السبر والتقسيم

الفصل الخامس في السبر والتقسيم

الفصل الخامس في السبر والتقسيم السبر في اللغة: هو الاختبار، يقال: سبرته أي اختبرته، ومنه يقال: للميل الذي يختبر به الجرح المسبار. وإنما سمي هذا النوع الآتي من الكلام بالسبر والتقسيم؛ لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر كل واحد منها في أنه هل يصلح للعلية أم لا؟ ثم اعلم أن التقسيم إما أن يكون دائرًا بين النفي والإثبات وهو التقسيم المنحصر، وإما أن لا يكون دائرًا كذلك وهو التقسيم المنتشر. أما الأول: فهو لإفادته العلم حجة في العليات والعمليات قطعًا من غير خلاف إن كان الدليل الدال على نفي علة ما عدا الوصف المعين فيه قطعيًا أيضًا وإلا فهو والتقسيم الثاني سواء كان الدليل الدال على نفي علية ما عدا المعين فيه قطعيًا أو ظنيًا حجة في العمليات لإفادته الظن فقط دون العلميات.

طريق إيراد النوع الأول هو أن يقال: الحكم إما أن يكون معللًا بعلة أو لا يكون. الثاني باطل فيتعين الأول، وتلك العلة إما الوصف الفلاني أو غيره، والثاني باطل ويذكر على ذلك دليلًا قاطعًا من إجماع أو نص، وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدًا أو على وجه التغليب، وأما الأقسام الثلاثة الباقية المفيدة للظن فيمكن أن توجد بأسرها فيها. وطريق إيراد هذا القسم الظني المسمي بالمنتشر هو أن يقال: الحكم إما أن يكون معللًا، أو لا يكون، والثاني باطل؛ إما لما سبق من الإجماع على أن أحكام الله تعالى بأسرها معللة بالمصالح إن صح ذلك الإجماع، أو لإجماع الفقهاء والمعتزلة على ذلك، وإن اختلفوا في المأخذ كما عرفت ذلك من قبل، ولو سلم عدم انعقاد الإجماع على ذلك، لكن كونه غير معلل بالمصلحة على خلاف الغالب المألوف من أحكام الشرع بدليل الاستقراء، وذلك يدل ظاهرًا على أن ذلك الحكم معلل وهذا كاف في هذا المقام؛ إذ المطلوب إنما هو الظن وهو توجيه. ثم تلك العلة إما ظاهرة لنا أو غير ظاهرة لنا، الثاني باطل. أما أولًا: فلأن ذلك يبطل فائدة التعليل إذ فائدته توسع طرق معرفة الأحكام، وشرعية انقياد المكلف له وتلقيه بالقبول على وفق داعية الطبع من غير تأبي من جهة النفس وهي بأسرها غير حاصلة فيما خفيت علته. وأما ثانيًا: فلأن الغالب في العلل المعللة بها الأحكام إنما هو الظهور واندراج الفرد تحت الأعم والأغلب أغلب على الظن [فيكون كونها ظاهرة أغلب على الظن].

وأما ثالثًا: فلأن الحكم إذا كان معقول المعنى كان على وفق المعتاد من تصرفات العقلاء وأهل العرف، والأصل مطابقة الشرع للعقل والعرف، وإذا بطل الثاني تعين الأول، وحينئذ نقول: العلة إما هذا الوصف، أو ذلك الوصف، أو الوصف الفلاني؛ إذ الأصل عدم ما عداها، ولأن المجتهد ناظر في الأوصاف الحاصلة في محل الحكم فإذا لم يجد بعد البحث الشديد والطلب الأكيد إلا ما ذكر من الأوصاف الثلاثة أو الأربعة غلب على ظنه أنه لم يكن هناك وصف آخر غير ما ذكر، فإذا أخبر بذلك غلب على الظن صدقه؛ لأنه عارف سليم الحس والعقل عدل ثقة، وحينئذ يحصل الظن بانحصار صفات محل الحكم فيما ذكره المجتهد وأخبر أنه لم يجد سواه فإذا نفي بعد ذلك بدليل قاطع أو ظني علية ماعدا الذي ادعي عليته غلب على الظن أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم والعمل بالظن واجب لما سبق فيكون هذا النوع حجة. وضابط هذا النوع الظني: هو أن لا يكون الدليل الدال على انحصار الصفات في محل الحكم ونفي علية ما عدا الوصف المعين قاطعًا سواء كانا ظنيين أو أحدهما. فإن قلت: لا نسلم حصر الصفات فيما ذكر فلعل له صفات أخر. قوله: بحث وطلب فما وجد. قلنا: لا نسلم فلعله لم يبحث ولم يطلب/ (189/ أ) وأخبر بذلك كذبًا ترويجًا أو طلبًا للغلبة. سلمناه لكن ربما وجده ولكن لعله ستره للعليتين السابقتين. سلمنا أنه لم يجده لكن عدم وجدانه لا يدل على عدمه.

سلمنا أنه يدل على ذلك بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى غيره. سلمنا أنه يدل عليه مطلقًا لكن لعل الخصم وجد فيه صفات أخر أو ما يدل عليها فحينئذ لا تعتبر تلك الدلالة بالنسبة إليه لعلمه بما يضاده. سلمناه لكن لا نسلم فساد غير ما عين للعلية. سلمناه لكن كل واحد منها لا مجموع اثنين أو ثلاثة منها. سلمنا فسادها مجموعًا ومفردًا، لكن لا نسلم أنه يلزم منه علية ما عين؛ وهذا إنما يلزم ذلك أن لو كان الحكم هناك معقول المعني وهو ممنوع. سلمنا أنه معقول المعني لكن لا يلزم من عدم علية غير ذلك الوصف عليته؛ لأن عدم علية غيره من قبيل إبطال المعارض ولا يلزم من عدم معارضة علية الشيء عليته في نفسه. سلمنا علية الباقي بمعني أن غيره ليس بعلة لكن لم لا يجوز أن ينقسم الباقي إلى قسمين وتكون العلة أحد قسميه. قلت: الجواب عن الأول: أن ما تقدم من الوجهين دليل على انحصار الصفات فيما ذكر ظاهرًا. قوله: لعله لم يبحث ولم يطلب. قلنا: الظاهر من حال المسلم العدل الثقة إنما هو الصدق لا الترويج والغلبة لاسيما فيما [لا] يتسامح بالكذب فيه كالإخبار عن حكم الله تعالى ولاسيما ممن شرفه الله تعالى برتبة الاجتهاد في الدين، وبه خرج الجواب عن الثاني، فإن الستر بعد الوجدان خيانة من المجتهد في الدين وهو بعيد منه.

وعن الثالث: أنه لا يدل عليه قطعًا لكن يدل عليه ظنًا، والاستقراء يفيد العلم الضروري بذلك. وعن الرابع: أن عدم جودانه بعد البحث الشديد والطلب الأكيد أفاد له الظن بالعدم فإذا أخبر عن ذلك مع أن ظاهر حاله الصدق أفاد لغيره الظن أيضًا كما في سائر الأخبار اللهم [إلا] إذا اتهمه بالخيانة لكن سبق أن الظاهر عدمها. وعن الخامس: أن الظاهر من حال الخصم أنه لو وجدها أو وجد عليها دليلًا لأظهره إفحامًا لخصمه، ونصرة لنفسه، وإبرازًا لعلم مست الحاجة إلى إبرازه فلو ادعى علمه بها طولب ببيانها فإن لم يبين مع إمكان البيان لم يلتفت إلى دعواه لظهور عناده فيه فلو بين واستدل المستدل على إفساده بدليل لم يعد منقطعًا فيما ادعاه من الحصر ظاهرًا وإفساد غير الوصف الذي عينه. وعن السادس: أن الكلام حيث يتبين إفسادها بدليل من الأدلة التي تدل على عدم علية الوصف نحو النقض وعدم التأثير وغيرها من الطرق الدالة على عدم العلية. وقال الإمام رحمه الله: بلى لا يمكن إفسادها بعدم المناسبة لأنه حينئذ يحتاج إلى أن يبين خلو ما يدعيه علة عن هذا المفسد وذلك لا يتم إلا ببيان مناسبته، ولو بين ذلك لاستغنى عن طريقة السبر والتقسيم. قيل عليه: إن كان بيان عدم مناسبة [الصفات المحذوفة بعد تسليم المعترض مناسبة كل واحد من الصفات المحذوفة وغيرها لم يسمع منه منع مناسبة] الباقي لكونه منعًا لما سلمه فلا يجب على المستدل بيان مناسبة

الوصف الثاني. وإن كان قبل تسليم مناسبة تلك الصفات، فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي وهو ترجيح سبره على سبر المعترض لموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور، والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات وهو ضعيف؛ أما أولًا: فلأن ذلك كلام على سند المنع وهو قد لا يكون جوابًا عن المنع؛ وهذا لأن المعترض تارة يمنع مناسبة الوصف المستبقي فقط من غير أن يسنده إلى شيء وتارة يسنده إلى شيء نحو الأصل بأن يقول: بأن الأصل عدم المناسبة، أو يقول: بحثت وسبرت فما وجدت فيه المناسبة [فإذا قال المستدل: بحثت وسبرت فوجدت فيه المناسبة] وسبري راجح على سبرك لما تقدم كان ذلك كلامًا على سند المنع لا على المنع. وأما ثانيًا: فلأنه إذا ادعى المناسبة في الوصف المستبقي ورجحه على غيره، طولب ببيانها فإن لم يبين واقتصر على قوله: بحثت ووجدت فيه المناسبة، ولم يبينها تفصيلًا لم يصغ إليه ولم يكتف منه بهذا القدر، وإن اكتفينا بهذا في جانب النفي لأنه لا كلفة في الإظهار بعد الوجدان فيكون في عدم بيانها وسترها معاندا أو لأنا لو اكتفينا منه بهذا القدر لاكتفينا منه في كل مسألة خلافية أن يقول ابتداء بحثت وفتشت فوجدت على حكم المسألة دليلًا، إذ الظاهر من حال المجتهد العدل إنما هو الصدق ولا قائل به وإنما اكتفينا منه بهذا في النفي لأنه لا طريق إليه إلا ذلك. وأما ثالثًا: فلأنا لو سلمنا الاكتفاء بهذا القدر فهو أيضًا بيان للمناسبة في الوصف المستبقي، غايته أنه على وجه جملي فلا يكون ذلك مافيًا/ (190/ أ)

لقول القائل: إنه لا يتم ذلك إلا ببيان مناسبة الوصف المستبقى فبطل قول المعترض عليه أن له طريقًا صالحًا في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي فإن ما ذكره بيان للمناسبة في الوصف المستبقي غايته أنه على وجه جملي. واعترض على طريقة عدم التأثير [المسمي] بالإلغاء أيضًا: بأن ذلك لا يتم إلا أن يبين أن الحكم ثابت بالوصف المستبقي في صورة دون سائر الصفات المحذوفة لكن لا يكفي في ذلك أن يبين أنه يوجد الحكم مع الوصف المستبقي مع انتفاء الأوصاف المحذوفة، فإنه لو كفى ذلك لكفى في أصل القياس فلم يكن إلى البحث والسبر وسائر طرق العلية حاجة فإذن لابد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة [وعند ذلك لابد وأن يشرع المستدل في بيان الاستدلال ببعض طرق إثبات العلة] فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في الأصل الأول فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار وأمكن أن يكون ذلك أصلًا [لعلته] وتبينًا أن الأصل الأول لا حاجة إليه فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار تطويلًا بلا فائدة وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال من طريق إلى آخر في إثبات كون الوصف علة الحكم وهو قبيح في مقام النظر، وفيه نظر من حيث إن الصورة التي يتبين فيها إلغاء الأوصاف المحذوفة قد تكون متعددة فلا يمكن جعل كل واحد منها أصلًا لعلته إذا لم يجتمع في واحد منها جميع تلك الأوصاف المحذوفة فلم تستقل بالاعتبار فيكون أصل العلة محل السبر والتقسيم الذي اجتمع فيه الأوصاف المحذوفة والمستبقى ومحل

الإلغاء هو تلك الصور. وعن السابع: أنه باطل بالإجماع إذ الكلام حيث انعقد الإجماع على أنه لا يعتبر في ثبوت الحكم مجموع تلك الصفات. وعن الثامن: أنه يلزم منه علية ذلك المعين وإلا لزم أن لا يكون الحكم معللًا، أو يكون معللًا بما لا يعقل وكلاهما باطلان لما تقدم. وعن التاسع: أنه لا يلزم علية ذلك الوصف من ذلك الوجه الذي ذكرتم بل من حيث أنه لو لم يكن ذلك الوصف علة إذ ذاك لزم أحد ما تقدم من المحذور. وعن العاشر: أنه على خلاف الإجماع، لأن المخالف لم يقل بعلية ذلك الوصف أصلًا، والمستدل بقول بعليته مطلقًا فالقول بعلية أحد مسمى ذلك الوصف دون الآخر قول لم يقل به أحد.

الفصل السادس في الطرد

الفصل السادس في الطرد

الفصل السادس في الطرد والمعنى منه: الوصف الذي لا يكون مناسبًا، ولا مستلزمًا للمناسب ويكون الحكم حاصلًا معه في جميع صور حصوله غير صورة النزاع فإن في حصوله معه فيها النزاع، هذا هو المراد من الجريان والاطراد على قول الأكثر. ومنهم من قال: لا يشترط ذلك بل يكفي في علية الوصف الطردي أن يكون الحكم مقارنًا له ولو في صورة واحدة. واختلف العلماء في حجية الوصف الطردي: فمن قال: المطرد المنعكس ليس بحجة قال بعدم حجية المطرد بالطريق الأولى. وأما من قال بحجيته فقد اختلفوا في حجية المطرد: فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة مطلقًا.

وذهب بعضهم إلى أنه حجة مطلقًا. ومنهم من فصل [وقال] بحجيته بالتفسير الأول دون التفسير الثاني. احتج من نفي حجيته مطلقًا بوجوه: أحدها: أنه يستدل على الاطراد بصحة العلة في نفسها فيقال: هذه علة فتكون مطردة وإلا لزم نقضها وأنه خلاف الأصل فلو استدل على صحة العلة بالاطراد لزم الدور. وثانيها: أنه إنما يعتبر الاطراد أن لو كان الاطراد اطراد علة، فإن اطراد غير العلة غير معتبر فيكون اعتبار الاطراد بالعلة فلو اعتبرت العلة بالاطراد لزم الدور.

وفيهما نظر من حيث إنه يصح أن يستدل على أثر الشيء بصحة الشيء في نفسه، وأن يستدل على صحته في نفسه بأثره مع أن ما ذكرتم من الدور حاصل فيه، وكذا قد يمكن أن يعتبر الأثر بالمؤثر مع صحة اعتبار المؤثر بالأثر. وثالثها: إن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم وهذا المفهوم لا يتحقق إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل مع الوصف في صورة النزاع، [فإذن ثبوت الاطراد يتوقف على ثبوت الحكم في صورة النزاع، فلو أثبت الحكم في صورة النزاع] بالاطراد لزم الدور. وهو ضعيف؛ لأنا لا نستدل على ثبوت الحكم في صورة النزاع بمصاحبته للوصف في كل الصور حتى يلزم [ما ذكرتم، بل يستدل عليه بمصاحبته له في كل صورة غير صورة النزاع وحينئذ لا يلزم ما ذكره من الدور]، وليس الاطراد عبارة عما ذكره حتى يقال أن ذلك ليس استدلالًا بالاطراد بل هو عبارة عما تقدم تفسيره. ورابعها: أن حاصل الاستدلال بالاطراد راجع إلى الاستدلال بالمقارنة، لكن المقارنة وحدها لا تدل/ (191/ أ) على العلية فإن الجوهر مع العرض يتلازمان ولا علية، وكذا الحد مع المحدود والذات مع الصفات والحوادث مع الزمان والمكان، فإن المقارنة حاصلة في هذه الصور من غير علية. وهو أيضًا ضعيف. أما أولًا: فلأنا ندعى عليه المقارن الذي لم يدل دليل على عدم عليته، وما ذكرتم من الصور ليس كذلك.

وأما ثانيًا: فلأنا وإن سلمنا عدم دلالة الدليل على عدم العلية في تلك الصور لكن تخلف الحكم عن الدليل الظاهري في بعض الصور لا يقدح في دلالته كما في الغيم الرطب، فإنه دليل وجود المطر وإن تخلف عنه في بعض الصور. وخامسها: أن المطرد فعل الطارد، ولا شيء من العلل الشرعية بفعل الإنسان، فلا شيء من الطرد بعلة. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن الطرد فعل الطارد؛ وهذا لأن الطرد عبارة عن حصول الحكم في جميع محال الوصف غير صورة النزاع، وذلك ليس بفعل الإنسان بل بفعل الشارع. نعم حصول الحكم في محل الاجتهاد يتعلق بفعله لأن حيث إنه عدى الحكم من الأصل إليه بجامع مشترك بينهما، وهو الوصف الطردي، لكن ذلك بعد ثبوت علية الطرد في غير محل النزاع، وحينئذ لا يلزم أن يكون الطرد من فعل الإنسان. وسادسها: أن الوصف الطردي ليس فيه إلا سلامته عن النقض وهو من مفسدات العلة، ولا يلزم من سلامة الشيء عن مفسدات العلة أن يكون علة، وهو أيضًا من جنس ما تقدم؛ لأنا لا نستدل على عليته من هذه الجهة بل من جهة أن السلامة من النقض من أمارات العلية. وسابعها: أن الاستدلال بالطرد على كون الوصف علة تصحيح للدعوى بالدعوى؛ فإن كون ذلك الوصف علة في الأصل دعوى، وكونه علة في غيره دعوى أخرى، فتصحيح الأولي بالثانية تصحيح للدعوى بالدعوى.

وهو أيضًا من نظائر ما تقدم؛ فإن الدليل على كون الوصف الطردي علة ليس هو كونه علة في الفرع حتى يلزم ما ذكره، بل هو كونه مقارنًا للحكم في جميع محاله غير صورة النزاع، وذلك ليس دعوى تحتاج إلى الدليل، فإن ذلك ثابت بالإجماع أو بالنص، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور. واحتج من قال بحجيته مطلقًا بوجهين: أحدهما: أن هذا الحكم لابد له من علة لما تقدم، وغير هذا الوصف ليس بعلة إذ الأصل عدمه، وعدم عليته فتعين أن يكون هو العلة. وجوابه: أن ظن انتفاء الغير إنما يوجب ظن عليته أن لو كان هو صالحًا للعلية في نفسه وهو ممنوع، فإن ما لا يكون مناسبًا ولا مستلزمًا للمناسب، ولا مطردًا ولا منعكسًا لم يصلح للعلية عند الخصم فلم قلتم أنه ليس كذلك فإن ذلك أول المسألة؟ وثانيها: أنا إذا علمنا أن الحكم لابد له من علة، وعلمنا حصول هذا الوصف ولم نعلم غيره، ظننا كون هذا الوصف علة لهذا الحكم؛ إذ لو لم يحصل هذا الظن فإما أن يكون لأجل أن ذلك الحكم لا يستند إلى علة، وهو باطل [لأنه يناقض العلم الأول، أو لأجل أنه يستند إلى غيره] وهو أيضًا باطل؛ لأن إسناده إلى غيره يقتضي الشعور بالغير، والشعور بالغير حال عدم تحقق الشعور بالغير محال. وجوابه: أنه لا منافاة بين عدم الشعور بالغير على سبيل التفصيل وبين الشعور به على سبيل الإجمال، واللازم إنما هو الشعور بالغير على سبيل

الإجمال والمقدر أولًا إنما هو الشعور به على سبيل التفصيل. واحتج من قال أنه حجة على التفسير الأول دون الثاني. أما على الأول فمن وجهين: أحدهما: أن الإنسان إذا رأى فرس القاضي واقفًا على باب الأمير، غلب على ظنه كون القاضي في دار الأمير، وما ذاك إلا للاطراد. وثانيهما: أن الاستقراء يشهد أن النادر في كل باب يلحق بالغالب فإذا علم مقارنة الحكم للوصف في أكثر الصور، ووقع النزاع في مقارنته له في صورة النزاع وجب أن يلحق بالأكثر إلحاقًا للصورة الواحدة بأكثر الصور. وجوابه: أنه لا ينكر ظن إلحاقه بالأكثر، لكن لم قلت أنه يفيد ظن علية ذلك الوصف، فإنه يجوز أن يلحق من غير علية، كما إذا رأينا شخصًا من بعض البلاد، وكان الغالب على أهله بعض المذاهب، أو الألوان فإنا نحكم أن ذلك الشخص على ذلك المذهب أو على ذلك اللون مع عدم العلية بينهما. وأما أنه ليس بحجة على التفسير الثاني فمن وجهين: أحدهما: أن الحكم بكون ذلك الوصف على مع أنه ليس بمناسب ولا يستلزم له ومع كونه مساويًا لسائر الصفات، قول في الدين بمجرد التشهي فيكون باطلًا. أما أولًا: فلقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة

واتبعوا الشهوات}. وأما ثانيها: فبالإجماع. وجوابه: منع المساواة فإن المقارنة مرجحة فإن فرض وصف آخر مقارن غير متعد ترجح المتعدي لورود الأمر بالقياس، أو/ (192/ أ) متعد إلى فرع آخر فيكون ذلك معارضًا له، فيجب على المستدل للترجيح وإن كان متعديًا إلى ذلك الفرع الذي ادعي المستدل ثبوت الحكم فيه لم يكن معارضًا له إذ يجوز قيام معرف واحد. وثانيهما: أن القول بحجيته يفتح باب الهذيان: كقولهم في مسألة إزالة النجاسة: مائع لا تبني القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن. وكقولهم: في أن وطء الثيب لا يمنع الرد بالعيب، شروع في نافذ فلا يمنع الرد بالعيب كالشروع في الدرب النافذ. وكقولهم: سعي بين جبلين فلا يكون ركنًا كالسعي بين غيرهما من الجبلين وأمثالهما من الهذيان. وجوابه: أنا لا ندعي أن مجرد المقارنة كيف ما كانت تفيد العلية بل يشترط أن لا يحصل هناك وصف آخر هو أولى بالرعاية، وهذا الشرط غير حاصل فيما ذكرتم من المثال فإنه حصل هناك ما هو أولى بالاعتبار من الوصف الذي ذكرتم وهو كون الدهن لزجًا، غير مزيل للنجاسة، ولما زال شرط العلية لا جرم لم تفد المقارنة ظن العلية. فإن قلت: فعلى هذا يجب على المستدل بالطرد أن يتعرض لنفي

الأوصاف التي هي أولى بالاعتبار حتى يتم استدلاله. قلت: لا يجب ذلك عليه؛ لأنه من قبيل نفي المعارض، ولا يجب على المستدل بيان نفي المعارض، وهو شرط ثبوت الحكم لا شرط الدلالة، وإنما يجب على المستدل بيان شرائط الدلالة لا بيان شرائط ثبوت الحكم. وإذا قد ظهر ضعف دلائل المذاهب الثلاثة وجب التوقف.

الفصل السابع في تنقيح المناط

الفصل السابع في تنقيح المناط

الفصل السابع في تنقيح المناط وقد عرفت فيما سبق أن إلحاق المسكوت عنه [بالمنصوص عليه] بإلغاء الفارق يسمى تنقيح المناط، وهو أن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا، وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له. وهذا الذي يسميه الحنفية بالاستدلال، ويفرقون بينه وبين القياس بأن يخصصون اسم القياس بما يكون الإلحاق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غلبة الظن، والاستدلال بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع حتى أجروه مجري القطعيات في النسخ به ونسخه فجوزوا الزيادة على النص به، ولم يجوزوا نسخه بخير الواحد. والحق أن تنقيح المناط قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس وهو عام يتناوله وغيره، وكل واحد من القياسين أعني ما يكون الإلحاق بذكر الجامع وبإلغاء الفارق يحتمل أن يكون ظنيًا وهو الأكثر إذ قلما يوجد الدليل القاطع على أن الجامع علة، أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العلية، وقد يكون قطعيًا بأن يوجد ذلك فيه، نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي فيه الإلحاق بذكر الجامع لكن ليس ذلك فرقًا في المعنى بل في

الوقوع، وحينئذ ظهر أنه لا فرق بينهما في المعني. ثم اعلم أنه يمكن إيراد تنقيح المناط على وجهين: أحدهما وهو الأقوى: أن هذا الحكم لابد له من علة لما تقدم، فتلك العلة إما المشترك بين الأصل والفرع، أو المختص بالأصل، وهذا الثاني باطل؛ لأن الفارق ملغي فيتعين الأول، وحينئذ يلزم ثبوت الحكم في الفرع لثبوت علته فيه. وثانيهما: أن هذا الحكم لابد له من محل، وهو إما المشترك، أو المختص والمجموع المركب من المشترك والمختص داخل في هذا القسم؛ لأنه لم يوجد في غيره لكن لا يجوز أن يكون هو المختص، لأن الفرق ملغي فوجب أن يكون محله المشترك، ويلزم من هذا ثبوت الحكم في الفرع ضرورة حصوله في الفرع. وهذا ضعيف؛ لأنه لا يلزم من وجود المحل وجود الحال فيه فلأن لا يلزم من تعميم المحل تعميم الحال فيه من الصفة أو الحكم بالطريق الأولى.

الفصل الثامن

الفصل الثامن فيما ظن أنه من طرق إثبات العلة وليس كذلك

الفصل الثامن فيما ظن أنه من طرق إثبات العلة وليس كذلك وهو طرق: أحدها: زعم بعض الأصوليين، أن عجز الخصم عن إفساد كون الوصف على دليل على كونه علة. وهو فاسد؛ لأنه ليس جعل العجز عن الإفساد دليلًا على الصحة أولى من جعل العجز عن التصحيح دليلًا على الفساد، بل هذا أولى؛ لأنه لا يوجب إثبات ما لا نهاية له بخلاف الطريقة الأولى فإنها تقتضي إثبات ما لا نهاية له: فإن ما لا نعرف دليلًا على فساده لا نهاية له فإن من جملته الأعداد ولا نهاية لها، وحينئذ إما أن يحكم بكلا الطريقتين وهو باطل: أما أولًا: فلأنه خلاف الإجماع. وأما ثانيًا: فلأنه يلزم من ذلك إثبات ما لا نهاية له وهو ممتنع. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن يكون الشيء الواحد علة، وأن لا يكون علة وهو ممتنع وتعارض الدليلين الظنيين وإن كان جائزًا لكنه خلاف الأصل لاسيما في الأشياء العديدة، أو لا يحكم بواحد منهما وهو المطلوب. وثانيهما: قال بعضهم: يجوز الإلحاق بمجرد الاشتراك في الوصف المطلق العام، وأطبق الجماهير على فساده من حيث إن ذلك يقتضي ثبوت أحكام/ (193/ أ) متناقضة في الفرع الواحد؛ لأن ما من فرع يفرض إلا ويشبه أصولًا كثيرة متناقضة الأحكام في أوصاف عامة، فلو جاز إلحاق الفرع بالأصل بمجرد الاشتراك في الوصف العام لجاز إلحاق كل فرع بكل الأصول؛ إذ ليس إلحاقه ببعضها أولى من إلحاقه بالبعض الآخر، وحينئذ يلزم ثبوت

الأحكام المتناقضة في كل واحد من الفروع، ولأن ذلك يفضى إلى التسوية بين المجتهد والعامي في إثبات الأحكام الشرعية في الوقائع الحادثة؛ لأن ما من عامي جاهل يفرض إلا ويعلم أن هذا الفرع يشبه أصلًا من الأصول في وصف عام فيثبت حكمه فيه لاشتراكهما في ذلك الوصف العام. واحتجوا: بقول عمر- رضي الله عنه-: (اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك) ويكفي في كون الشيء شبيهًا بشيء أو نظيرًا له الاشتراك في وصف واحد. وقوله: (قس الأمور) عام مرتب على ذلك فوجب أن يجوز القياس بكل وصف مشترك يتحقق به الشبه والنظارة. وجوابه: منع تحقق المشابهة والنظارة بمجرد الاشتراك في الأوصاف العامة؛ وهذا لأن الضدين والنقيضين قد يشتركان في الأوصاف العامة نحو المذكورية والمعلومية والمخبرية مع أنه لا يعد أحدهما شبيهًا ونظيرًا للآخر بل لابد من الاشتراك بوصف خاص. سلمناه لكنه عام وتخصيص العموم بالإجماع جائز إجماعًا، وقد أجمع السلف على أنه لابد في الإلحاق من الاشتراك بوصف خاص، بدليل أنهم كانوا يتوقفون في حكم المسألة الحادث، وما كانوا يلحقونها بأن أصل اتفق بعد عجزهم عن إلحاقها بما يشاركها في وصف خاص، ولو كان الإلحاق جائزًا بمطلق الوصف لما كان للتوقف إذ ذاك معنى. وثالثها: قال بعضهم: إثبات الحكم في الفرع موافقًا لأصل تسوية بينهما في ذلك فيكون مأمورًا به [لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} وعبور

من حكم الأصل إلى الفرع فيكون مأمرا به] لقوله تعالى: {فاعتبروا} وهو ضعيف جدًا. أما أولًا: فلأن العدل ليس هو عبارة عن مجرد التسوية في كل فعل وحكم، كيف اتفق وإلا لزم أن تكون المباحات، والمكروهات والمحرمات، مأمورًا بها حيث يحصل بها التسوية، بل هي عبارة عن التسوية المخصوصة التي أمر الشارع بالتسوية فيه، وحينئذ يتوقف كونه عدلًا مأمورًا به على تحقق التسوية المخصوصة، فلو أثبت كونه عدلًا مأمورًا به بالتسوية لزم الدور وهو ممتنع. وهذا الكلام بعينه يتوجه على الاستدلال بالآية الثانية. وأما ثانيًا: فلأن غاية ما في الباب أنه تمسك بعموم اللفظ، وتخصيص العموم بالإجماع جائز، وأجمع السلف على أنه لابد في القياس الذي هو عبور من حكم الأصل إلى الفرع من دلالة ما على تعين الوصف للعلية بدليل ما سبق.

القسم الثاني

الفصل الأول في النقض

القسم الثاني من الطرق الدالة على أن الوصف لا يجوز أن يكون علة الحكم

القسم الثاني من الطرق الدالة على أن الوصف لا يجوز أن يكون علة الحكم وفيه فصول: الفصل الأول في النقض وهو عبارة عن وجود الوصف مع عدم الحكم. وفيه مسائل:

المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك هل يقدح في علية الوصف أم لا؟

المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك هل يقدح في علية الوصف أم لا؟ فقال الأكثرون: أنه لا يقدح إذا كان النقض واردًا على سبيل الاستثناء، أو كان تخلف الحكم لمانع، وإن كان في العلة المستنبطة، وهو مذهب أكثر أصحاب الأئمة الثلاثة. وذهب أكثر أصحابنا إلى أنه يقدح في علية الوصف وهو اختيار أبي الحسين البصري. ومنهم من فصل فقال: أنه لا يقدح في المنصوصة، ويقدح في المستنبطة. ثم من قال بالقدح فيهما مع وجود المانع فلا شك أنه يقول: إن التخلف لا لمانع يقدح في عليته بالطريق الأولى.

وأما الذين قالوا: لا يقدح ذلك في العلية فقد اختلفوا فيه: فقال الأكثرون: أنه يقدح في عليته. وذهب بعضهم إلى أنه لا يقدح فيها. ولا يبعد التفصيل بين المنصوصة والمستنبطة في ذلك بأن يقال: لا يقدح في المنصوصة، ويقدح في المستنبطة، وإطلاق البعض يشعر بذلك إشعارًا ظاهرًا. وذكر الشيخ الغزالي في ذلك تفصيلًا آخر فقال: تخلف الحكم عن العلة يفرض على ثلاثة أوجه: الأول: أن يفرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقضًا، وهو ينقسم إلى ما يظهر أنه ورد مستثني عن القياس وإلى ما لا يظهر ذلك فيه، فما ظهر أنه مستثني عن القياس مع استيفاء قاعدة القياس فلا يفسد

العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى فتكون علة في غير محل الاستثناء، ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة. مثال الوارد على العلة المقطوعة: إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة، فإن علة إيجاب المثل في المثليات إنما هو تماثل الأجزاء، والشرع لما أوجب صاعًا من التمر في المصراة لم ينقص هذه العلة؛ إذ عليها التعويل في الضمانات، ولكن استثنى هذه الصورة، فهذا الاستثناء وأمثاله لا يبين لمجتهد فساد هذه العلة، ولا ينبغي أن يكلف المناظر الاحتراز عنه حتى نقول/ (193/ أ) في علته: تماثل أجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل؛ لأن هذا تكلف قبيح، وكذلك صدور الجناية من الشخص علة وجوب الغرامة عليه، فورود ضرب الدية على العاقلة في بعض الجنايات لا يفسد هذه العلة ولكنه استثنى هذه الصورة فتخصصت لعلة بما وراءها. ومثال ما ورد على العلة المظنونة: مسألة العرايا فإنها لا تنقض التعليل بالطعم؛ إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا، ودليل كونه مستنثى: أنه يرد على كل علة كالكيل وغيره. وكذلك إذا قلنا: عبادة مفروضة فتفتقر إلى تعيين النية، لم تنتقض بالحج فإنه ورد على خلاف قياس العبادات؛ لأنه لو أهل بإهلال زيد صح ولا يعهد مثله. أما إذا لم يرد مورد لاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على العلة المنصوصة

أو على غيرها. فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف به قيد على العلة، ويتبين أن ما ذكرناه لم يكن تمام العلة. مثاله قولنا: خارج فتنتقض الطهارة أخذًا من قوله عليه السلام: " الوضوء مما يخرج". ثم بان أنه لم يتوضأ عن الحجامة، فيعلم أن العلة بتمامها لم يذكرها في الحديث، وأن العلة إنما هو الخارج من السبيلين، فكان ما ذكر من مطلق الخروج إنما هو بعض العلة، فالعلة إن كانت منصوصة ولم يرد النقض مورد الاستثناء، لم يتصور إلا كذلك. وإن لم يكن كذلك فيجب تأويل التعليل؛ إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل، أو وإن أريد منه ذلك لكن لا للحكم المذكور بل لحكم آخر كقوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} ثم علل ذلك بقوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} ومن المعلوم أنه ليس كل من يشاقق الله ورسوله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة، ولا يمكن أن يقال: إنه علة في حقهم خاصة؛ لأن هذا يعد تهافتا في الكلام فإذا الحكم

المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور بل وهو لازمه أو جزؤه الأعم هو كونه عذابًا، ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه معذب أما بخراب البيت، أو بغيره، وهذا وإن كان خلاف الظاهر وتأويلا للنص لكن يجب المصير إليه لئلا يكون الكلام منتقضًا. أما إذا ورد على العلة المظنونة لا في معرض الاستثناء وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإخالة أن كانت العلة مخيلة، أو من طريق الشبه إن كانت شبهًا فهذا يبين أن ما ذكرناه لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقض، أما إذا كانت العلة مخيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلًا علي فساد العلة و [أمكن] أن يكون معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبهية يفصلها عن غير مجراها فهذا يجب الاحتراز عنه بينهم في الجدل للناظر لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقد في هذه العلل الانتقاض والفساد أو التخصيص؟ وهذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد ما غلب على ظنه. مثاله: قولنا: أن صوم رمضان يفتقر إلى تبييت النية؛ لأن النية لا تنعطف على ما مضى، وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ، فينتفض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة بسبب التطوع، ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثني رخصة لتكثير النوافل؛ ولهذا سامح الشرع في التطوع بما لا يسامح به في الفرض، فيكون وصف الفرضية فاصلًا بين مجري العلة وموقفها، ويكون ذلك وصفًا شبهيًا اعتبر في استعمال المخيل وتمييز مجراه عن موقفه، ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي أيضًا، فأكثر العلل

المخيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب وعلى هذا أصل العلة، وهذا التردد إنما ينقدح في معني مؤثر لا يحتاج إلى شهادة الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثرة بالاتفاق فإن قولنا: إن كل الصوم واجب وأن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية فإن كانت العلة مناسبة بحيث يفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد بصحتها ثبوت الحكم في موضع واحد على وفقه فتنتقض هذه الشهادة بتخلف الحكم عنه في موضع آخر فإن إثبات الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع [فقطع الحكم أيضًا يدل على أعراض الشرع عنه، وقول القائل: إني أتبعه إلا في محل إعراض الشرع] بالنص ليس هو بأولى من قول من قال: أعرض عنه إلا في محل اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم، وعلى الجملة يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة واستثناء صورة عنها، ولكن إذا لم يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة أن يكون لفساد/ (194/ أ) العلة واحتمل أن يكون لتخصيص العلة، فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإبطالها، وإن كانت مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحكم في موضع على وفقها، فينقطع هذا الظن بإعراض الشرع عن إثباتها في موضع وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة تبيت النية كان ذلك في محل الاجتهاد. الوجه الثاني لانتفاء العلة: أن تنتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى دافعة. مثاله: قولنا: إن علة رق الولد ملك الأم، ثم المغرور بحرية جارية ينعقد ولده حرًا، وقد وجد رق الأم وانتفي رق الولد لكن هذا انعدام بطريق الاندفاع بعلة دافعة مع كمال العلة المرقة بدليل أن الغرم يجب على المغرور، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لما وجبت قيمة الولد فهذا النمط لا يرد

نقضًا على المناظر ولا يتبين للناظر فساد في العلة؛ لأن الحكم هاهنا كأنه حصل تقديرًا. الوجه الثالث: أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها، وشرطها، وأهلها. كقولنا: السرقة علة القطع، وقد وجد في النباش فيجب القطع فقيل: يبطل هذا بسرقة ما دون النصاب، وسرقة الصبي وبالسرقة من غير الحرز. أو نقول البيع علة الملك وقد جرى فليثبت الملك في زمان الخيار فقيل: هذا باطل ببيع المستولدة، والموقوف، والمرهون، وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت إليه المجتهد؛ لأن نظره في تحقق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره، أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه، أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس [عليه] البحث عن المحل والشرط؟ هذا مما اختلف فيه الجدليون. وهذا تمام كلامه فيما يتعلق بهذا التفصيل، وهو مما لا بأس به وإن كان في بعضه نظر. والمختار وهو أن التخلف إن كان لمانع سواء كان في المنصوصة المظنونة، أو في المستنبطة، أو كان على وجه الاستثناء في المنصوصة المقطوعة لم يقدح وإلا قدح. أما إن التخلف أن كان للمانع فلا يقدح في العلية فلوجوه: أحدها: أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية، وقد وجد في الأصل الوصف

المناسب [لثبوت الحكم مقترنًا معه، وفي صورة النقض الوصف المناسب] لعدم الحكم مقترنًا معه فلو قلنا: أن تخصيص العلة لمانع لا يقدح في العلية لكنا عملنا بهذين الأصلين، وإن كنا خالفنا أصلًا آخر وهو أن الأصل أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضي إذ إحالة انتفاء الحكم إلى المانع يستلزم التعارض الذي هو خلاف الأصل، ومستلزم خلاف الأصل خلاف الأصل، ولو قلنا: بأن تخصيص العلة يقدح في العلية [لكنا خالفنا ذينك الأصلين وإن كنا عملنا بأصل واحد وهو] ما تقدم، ومعلوم أن أعمال الأصلين أولى من أعمال أصل واحد. فإن قلت: لا نسلم أن مجرد المناسبة مع الاقتران دليل العلية بل هما مع الاطراد، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور. قلت: سيأتي الجواب عنه في الجواب عن حجج المخالفين. وثانيها: أن العقل والعرف يتطابقان على أن الحكم قد يتخلف في الصور للمانع، ولذلك فإن العقلاء وأهل العرف يعرفون ذلك في تعليلهم ألا ترى أن الإنسان قد يعطي للفقير درهمًا ويعلله بفقره، فإذا منع فقيرًا آخر فقيل له في ذلك، فيعلل منعه إياه بفسقه ولم يقبح هذان التعليلان منه لا بحسب العقل، ولا بحسب العرف، ولو كان تخصيص العلة غير جائز لقبح التعليلان، وإذا ثبت أن ذلك جائز في العرف وجب أن يجوز في الشرع لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وثالثها: أن العلة لا تخلو إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة، فإن كان الأول

فإما أن يجعل التنصيص عليها تنصيصًا على الحكم، أو لا يجعل ذلك بل يجعل كالتنصيص على علته [و] على التقديرين يجب أن لا يكون التخصيص قادحًا في العلية كما أن تخصيص عموم النص لا يقدح على النافي، وإن كانت مستنبطة فكذلك؛ لأنه ليس في أدلة الاستنباط إلا أن هذا الوصف علة، فإما أنه لا يجوز أن أن يتخلف الحكم عنه لمانع أو فقد شرط فليس فيه دلالة على ذلك أصلًا، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون التخصيص لمانع قادحًا في علية الوصف، فإن ما يقدح في شيء لابد وأن يكون منافيًا لوجه دلالة الدليل على ذلك الشيء من كل الوجوه أو من بعضه، أو يكون منافيًا لما اقتضاه ذلك الدليل من الحكم. فإن قلت: هذا ينتقض بما إذا كان تخلف الحكم لا لمانع ولا لفقد شرط فإن ما ذكرتم من الاعتبار حاصل فيه مع أنكم سلمتم أنه يقدح في عليته. قلت: لا نسلم حصول ذلك الاعتبار فيه؛ وهذا لأن تجويز تخلف/ (199/ أ) الحكم عن العلة من غير مانع وفقد شرط ينافي معنى العلية التي هي مدلول دليل العلية؛ لأنه لا معنى لكون الوصف علة للحكم إلا أنه يستلزم الحكم ويعلق به أينما وجد بشروطه بلا مانع، وتخلف الحكم لا لسبب ينافي هذا المعنى ورود التعبد بالقياس من حيث إنها لا يمكن الاستدلال بحصوله على حصول الحكم بل يحتاج فيه إلى منفصل بخلاف ما إذا كان التخلف لسبب فإنه لا ينافي كل ذلك كما في صورة وجود المعارض للدليل الدال على الحكم فإنه يستلزم حصول المدلول عند عدم المعارض ومعه لا يستلزم ولا يقدح ذلك في كونه دليلًا ولو تخلف عنه عند عدمه لقدح ذلك في كونه دليلًا على الحكم.

ورابعها: أن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة، روى عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه كان يقول: "هذا حكم معدول به عن القياس". وعن ابن عباس- رضي الله عنه- مثله، واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان إجماعًا، ومن الظاهر أنه لا يجوز أن يتناول [ذلك صور التخصيص بلا سبب لأنه يلزم حينئذ أن يكون الحكم] بذلك الحكم المعدول به عن القياس لا عن دليل بل بمجرد التشهي وهو باطل قطعًا؛ فإن الحكم لا عن دليل باطل فكيف إذا كان على مخالفة دليل آخر فيتعين أن يكون المراد منه ما إذا كان ذلك لمانع يقتضي ذلك الحكم المعدول به عن سنن القياس. وما يقال عليه: وهو أنهم، وإن قالوا بذلك لكنهم لم يقولوا بأن ذلك القياس حجة فهو وإن كان إشكالًا قويًا على هذا المسلك. لكن يمكن أن يجاب عنه بأن نقول: إنه أطلق عليه القياس وهو يشعر إشعارًا ظاهرًا بكونه حجة، وتسميته بذلك اعتبارًا بما كان قبل ذلك الحكم المعدول به مجاز على خلاف الأصل والقياس الغير المعمول به من المنسوخ والفاسد لا نسلم أن يسمي قياسًا إذ ذاك على الإطلاق في العرف، وإن سمى به مقيدًا. وخامسها: أن اقتضاء العلة للحكم في محل، إن لم يتوقف على اقتضائه في محل آخر فقد حصل الغرض وهو أن يكون مقتضيًا له في محل وإن لم يكن مقتضيًا له في محل آخر وإلا لكان متوقفًا عليه، ونحن نتكلم على خلاف

هذا التقدير، وإن توقف فلا يخلو إما أن يكون الاقتضاء في محل آخر يتوقف على الاقتضاء في المحل المتوقف عليه أولا، والأول باطل لأنه يلزم الدور، والثاني أيضًا باطل لأنه يلزم ترجيح أحدهما على الآخر من غير مرجح، وهو أيضًا ممتنع، ولما بطل القسمان بطل القول بالتوقف. وهذا ضعيف لما تقدم في باب العموم، ولما أنه يقتضي جواز التخصيص وإن لم يكن لمانع وفقد شرط. وسادسها: أن الوصف المناسب بعد التخصيص يفيد ظن ثبوت الحكم فإنا إذا عرفنا أن العالم مستحق للإكرام مطلوب البقاء غلب على ظننا حرمة قتله، وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية القتل فضلًا عن عدم كونه قاتلًا قتلًا عمدًا عدوانًا للمكافئ مع أنه مخصوص بهذه الصورة، فلو كان عدم القتل المذكور جزءًا من المقتضي لما حصل الظن بحرمة قتله بمجرد العلم لكونه عالما ولما لم يكن كذلك بل حصل الظن بحرمة قتله بمجرد العلم بكونه عالمًا علمنا أن عدم القتل المذكور ليس جزءًا من المقتضي، وإذا ثبت أنه يفيد ظن ثبوت الحكم لزم العمل به لما تقدم أن العمل بالظن واجب. وما ذكر جواب عن هذا وهو: أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة التخصيص قيد على العلة فليس بجواب عنه؛ لأنا بينا أنه يحصل لنا غلبة الظن بالحكم وأن لم يخطر ببالنا ذلك العدم فانعطاف القيد إنما يكون بعد خطران الفرق الناشئ من خطر أن ذلك العدم فلم يكن ذلك القيد جزأ من المقتضي. وسابعها: أن استقراء الشريعة يدل على جواز تخصيص العلة لمعني يقتضي ذلك، فإنه قلما تثبت فيها قاعدة ممهدة لعلة معلومة أو مظنونة إلا وقد ورد فيها ما يخصها لمعنى فيه، أما ما ورد على خلاف العلة المعلومة فيجوز أن

إتلاف المثلى سبب لوجوب المثل وإتلاف ذوات القيم سبب لوجود القيمة وهو معلوم في الشريعة قطعًا مع أنه ورد في المصراة ما يخالفه، ولم يبطل تلك القاعدة لورود ذلك الحكم على خلافها وفاقًا وكذلك كون الجناية سببًا لوجوب غرامتها على فاعلها أو منتسبها معلوم، مع أنه ورد وجوب الدية على العاقلة في القتل الخطأ ولم يبطل تلك القاعدة بسببها إجماعًا لما كان ذلك واردًا على وجه الاستثناء لمعني فيه. وأما ما ورد على العلة المظنونة فنحو العرايا، وبيع الجفنة بالجفنتين على مذهب أبي حنيفة- رضي الله عنه- والعتق تحت الحر على مذهب الشافعي- رضي الله عنه- مع أن ظاهر قوله عليه السلام: "ملكت بضعك فاختاري" يدل على أن ملك البضع سبب للاختيار، ولو قيل بأن مطلق إتلاف المثلى أو ذوات القيم ليس سببًا لوجوب المثل أو القيمة بل في غير المصراة لتطرق مثله في كل ما يدعي علة بأن يقال: إنما هو علة في غير محل النزاع ولا نسلم عليته فيه، فإن المناسبة والاقتران ما دل على عليته إلا في الأصل وحينئذ ينسد باب الاستدلال بالعلة على الحكم في المتنازع فيه فثبت/ (196/ أ) أن استقراء الشريعة يدل على جواز تخصيص العلة معلومة كانت أو مظنونة لمعاني توجد في صورة التخصيص وذلك هو المطلوب. وثامنها: لو لم يجز تخصيص العلة للزم أن يكون العدم جزء علة الوجود في كثير من الصور لكن الثاني باطل فالمقدم مثله. أما بيان الملازمة: فهو أنه إذا لم يجز تخصيص العلة لم يتصور انتفاء الحكم عن محل لانتفاء علته، فإن توقيف الاقتضاء على حصول الشرط أو عدم المانع حينئذ يكون باطلًا بل مجموع ما يتوقف عليه الحكم هو العلة، فإذا رأينا

صورًا يتوقف ثبوت الحكم فيها على الإعدام لزمنا أن نقول أن تلك الإعدام أجزاء لتلك العلل، أما بيان بطلان الثاني فلوجهين: أحدهما: أن العلية صفة ثبوتية فيستحيل قيامها بما ليس موجودًا وما جزؤه العدم ليس بموجود، لأن المركب من الوجودي والعدمي عدمي. وثانيهما: أن العلية مبنية على التأثير وما جزؤه العدم لا يؤثر. فإن قلت: العلة عندنا مفسرة بالمعرف، والعدم لا يمتنع أن يكون معرفًا فضلًا عن أن يكون جزء المعرف كما في انتفاء معارض المعجزة فإنه جزء دلالة المعجزة على الصدق. سلمنا أن العلة مفسرة بغيره، لكن لا نسلم أنه يلزم أن يكون الإعدام في تلك الصورة التي يتوقف الحكم عليها أجزاء للعلل، ولم لا يجوز أن تكون كاشفة عن أمور أخر وجودية تنضم إلى العلل ويصير المجموع علة الحكم. قلت: الجواب عن الأول هو: أن البحث في أن تخصيص العلة هل هو جائز أم لا؟ ينبغي أن يكون مبنيًا على كون العلة مفسرة بغير المعرف فإن بتقدير أن تكون العلة مفسرة بالمعرف لا يتجه هذا البحث وأن خروج المعروف عن كونه معرفًا في بعض الصور لا يقتضي خروجه عن كونه معرفًا في البعض الآخر كما في العام المخصوص، ولم يظهر بينه وبين العلة حينئذ فرق، فإذا لم يقدح التخصيص في حجية العام لم يقدح في العلية بهذا التفسير، فأما إذا كانت مفسرة بغيره فإنه يتجه ذلك من حيث إنها حينئذ تشبه العلل العقلية وتخصيصها وانتقاضها غير جائز فكذا ما يشبهه، وكلامهم يشعر بهذا إشعارًا ظاهرًا فإنهم قاسوا العلل الشرعية على العلل العقلية، ولما فرق

بينهما بأن العلل العقلية موجبة لذواتها، وعلل الشرع ليست كذلك بل هي أمارة، والأمارة قد تكون أمارة في الحال، ولا تكون أمارة في حالة أخرى والعلل العقلية لا يجوز أن تكون علة في زمان دون زمان. أجاب بعضهم: بأنها وإن لم تكن موجبة لذواتها لكنها موجبة بجعل الشارع إياها فوجب أن تجري مجراها. وأجاب البعض الآخر: بأن العلل العقلية إنما كانت كذلك لكونها علة، والعلة الشرعية علة فوجب أن تكون كذلك، وإنما لم يجب وجود حكمها عند وجودها إذا لم تكن علة كما قبل الشرع أو بعد نسخها فغما ما دام هو علة فلا يجوز أن يتخلف الحكم عنها فإذا تخلف دل على بطلانها، ومعلوم أن هذا الكلام كله يدل على أن هذا البحث مبني على أنها مفسرة بغير المعرف. سلمنا أنه غير مبني عليه لكن لا يجوز جعل العدم جزء العلة وإن كان بمعنى المعرف وإلا لوجب ذكره عند المناظرة ضرورة أنه لابد من ذكر العلة وهو بدون الجزء محال لكن لا يدب ذكره لا في- العلة ولا في العام المخصوص وفاقًا فلا يكون جزءًا منه. وما يقال عليه: إن ذلك أمر يتعلق بالاصطلاح وإلا فالتمسك بالعام لا يجوز إلا بعد ظن عدم المخصص ضعيف؛ لأن الأصل أن يكون الاصطلاح مطابقًا للواقع في نفس الأمر. سلمنا أن ذلك ليس بأصل لكن لا نسلم أنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم المخصص فإنه يجوز التمسك بالعام ابتداء ما لم يظهر المخصص على ما تقدم تقريره فإن أريد به ظن عدمه بالأصل فهذا القدر حاصل في نفي المعارض الذي ليس بمخصص مع أن نفيه ليس جزءًا من الدليل وفاقًا.

وعن الثاني وهو مما عول عليه أكثر المانعين من تخصيص العلة في الجواب عن إلزام جعل العدم جزء علة الوجود، وهو: أن الأصل عدم ذلك الأمر الوجودي لاسيما بوصف كونه ملازمًا لذلك العدم. وأيضًا: فإن ما لا دليل عليه وإن كان لا يجب القطع بنفيه عن نفسه لكن لا شك في أنه يحصل الظن بنفيه، والظن كاف في هذه المسألة إذ هي ظنية. سلمنا أنه لا يحصل العلم والا الظن وأنه مجرد احتمال لكن لا شك في أنه لا يجوز إثبات الحكم على مجرد الاحتمال سواء كان الحكم قطعيًا أو ظنيًا، فلا يجوز أن يبني على ذلك الأمر الذي لم يدل عليه دليل عدم جواز تخصيص العلة. فإن قلت: نحن لا نبني عدم جواز التخصيص على ذلك الاحتمال بل يقطع به استدلال الخصم، فإنه لما قال القول بعدم جواز تخصيص العلة يقتضي أن يكون العدم جزء علة الوجود منعنا ذلك فأسندناه إلى ذلك الاحتمال ومجرد الاحتمال كاف في ذلك وعلى المستدل إبطاله. سلمناه لكن لا نسلم أنه لا يدل عليه دليل وأي شيء تعني به؟ تعني به: أنه لا يدل عليه دليل تفصيلي فهذا مسلم، لكن/ (197/ أ) لا يلزم منه أن لا يدل عليه دليل لجواز أن يدل عليه دليل إجمالي. وإن عنيت به: أنه لا يدل عليه دليل فهذا ممنوع؛ وهذا لأن لما دل على أن تخصيص العلة غير جائز ودل الدليل على أن الحكم يتوقف على أمور عدمية في كثير من الصور، وأنها لا يجوز أن تكون أجزاء علل الوجود لزم أن يقال أنها كاشفة عن أمور وجودية تنضم إلى الحاصل من قبل ويصير المجموع علة الحكم حتى يلزم الجمع بين الأدلة ولا يلزم بطلان واحد منها.

قلت: الجواب عن الأول: أن مجرد الاحتمال إنما يكفي في دفع ما يرد على الخصم إذا كان له في المسألة دليل آخر يصلح أن يبني اجتهاده عليه، فأما إذا لم يكن في المسألة دليل آخر بل لا تصح تلك المسألة إلا بذلك الاحتمال كما هو في مثالنا فلا نسلم أنه يكتفي بذلك القدر وهذا لأن الناظر هو المجتهد وهو لا يجوز له أن يبني اجتهاده على مجرد الاحتمال، فكذا للمناظر فيما يتخذه مذهبًا، نعم له ذلك في دفع ما يرد عليه من المحذور لكن بشرط أن لا يكون ذلك الاحتمال معتمدة فيما ذهب إليه. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن الدليل دل على [أن] تخصيص العلة غير جائز وسنجيب عن كل ما يذكره الخصم من الدلالة عليه. سلمناه لكن لو لم نجوز تخصيص العلة لزم أيضًا الترك بمقتضي الدليل ما تقدم تقريره في الوجه الأول فلم كان ذلك النوع من الجمع بين الدليلين أولى من هذا النوع وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون في هذا المقام؟. ثم أنه معنا؛ لأن ترك العلم بالمناسبة والاقتران يقتضي رفع ذات العلة، وأما ترك دليل عدم جواز التخصيص يقتضي رفع وصف العلة وهو الاطراد ومعلوم أن ما يرفع ذات الشيء أشد محذورًا مما يرفع وصفه. احتجوا بوجوه: أحدها: أن اقتضاء العلة للحكم أن لم يعتبر فيه انتفاء المعارض فحينئذ يحصل الحكم سواء حصل المعارض أو لم يحصل عملًا بالعلة السالمة عن معارضة ما ينفي اقتضاؤها للحكم لكن ذلك باطل؛ لأنه يقتضي أن لا يكون المعارض معارضها، وإن اعتبر لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض وذلك يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة بل بعضها.

وهو ضعيف لأنا وإن سلمنا أنه لا يعتبر في اقتضاء العلة للحكم عدم المعارض لكن لا يلزم منه وجود الحكم معه لجواز أن يكون انتفاؤه معتبرًا في وجود الحكم وإن لم يكن معتبرًا في الاقتضاء، فإن الاقتضاء غير حصول الحكم فلا يلزم من أن يكون الانتفاء غير معتبر في الاقتضاء غير معتبر في حصول الحكم، ولهذا حصول المعارض لا ينفي اقتضاء الدليل للمدلول، وإن كان ينفي حصول المدلول وهذا يسهل دفعه بأن يردد في حصول الحكم عنها فيقال: حصول الحكم عن العلة أن لم يعتبر فيه انتفاء المعارض [لم يكن المعارض] معارضها، وإنما الذي يضعفه هو الاعتراض على القسم الثاني ولا محيص عنه سواء ردد في الاقتضاء أو في حصول الحكم عنه، وهو أنا لا نسلم أنه أن اعتبر فيه انتفاء المعارض لم يكن الحاصل قبل انتفاء المعارض تمام العلة بل بعضها وما الدليل عليه، وهذا فإن من جوز تخصيص العلة جوز أن تكون ذات العلة حاصلة وإن لم يكن الحكم حاصلًا معها لفقد شرط أو وجود مانع فادعاء كون الحاصل قبل انتفاء المعارض لم يكن تمام العلة ادعاء نفس المتنازع فيه من غير دليل. لا يقال: العدم لا يجوز أن يكون شرط العلة على ما تقدم تقريره أيضًا فلا يجوز أن يجعل انتفاء المعارض شرطًا لأنا نقول: لو لم يجز جعله شرطًا لم يجز جعله جزءًا بالطريق الأولى. فإن قلت: نحن لا نجعله جزءًا بل نجعله [كاشفًا عنه قلت: قد سبق الجواب عنه، سلمناه لكن نحن أيضًا لا نجعله شرطًا بل] كاشفًا عن أمر وجودي آخر وهو شرط. وثانيها: وهو ما ذكره أبو الحسين البصري وهو: أن تخصيص العلة مما يمنع [كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن كونها جهة المصلحة أو

لا يظن] ذلك لكن ذلك باطل؛ لأن العلة فائدتها كونها توجب العلم أو الظن بثبوت الحكم في غير الأصل مما يشاركه من الصور فيها وإلا ففي الأصل لا حاجة إليها لثبوت الحكم فيه بالنص، وإذا لم يحصل هذا بطل كونه علة. بيان أنه يمنع كونها أمارة على الحكم: أنا إذا علمنا أن علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلًا هو كونه موزونًا، ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلًا مثلا مع أنه موزون فلا يخلو: أما أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته أو بنص، فإن علمنا إباحته بعلة أخرى يقاس بها الرصاص على أصل ثبت فيه ذلك الحكم لكونه أبيض مثلا فإنا إذا علمنا في شيء أنه موزون وشككنا في كونه أبيض مثلا لم نعلم قبح بيعه متفاضلًا ما لمنتعلم أنه ليس بأبيض كما لو شككنا في كونه موزونًا فظهر أنه لا يعلم بعد التخصيص تحريم بيع شيء متفاضلًا لكونه موزونًا فقط فبطل أن يكون كونه موزونًا [وحدة علة بل كونه موزونًا] مع كونه غير أبيض، وإن علمنا إباحته بالنص فالكلام بالنص فالكلام فيه كما في القسم الأول. وجوابه: قريب مما مر عن الوجه الأول، وهو أنا نسلم أنه مما انتفى الحكم عن العلة في بعض الصور لمعارض فما لم يعلم أو يظن انتفاء ذلك المعارض في غيره من الصور لا يمكننا إثبات ذلك الحكم فيه لكن لم قلتم أنه يلزم منه أن يكون انتفاء ذلك المعارض/ (198/ أ) داخلًا في ذات العلة بل جاز أن يكون شرطًا، هذا بعد تسليم انتفاء اللازم وفي مقدماته كلام ستعرفه في مسألة أن التعليل بالعلة القاصرة يجوز. وثالثها: أن بين كون المقتضي مقتضيًا اقتضاءً حقيقيًا بالفعل وبين كون المانع مانعًا منعًا حقيقيًا بالفعل منافاة بالذات، وشرط طريان أحد الضدين انتفاء

الضد الآخر، ولا يجوز أن يكون انتفاء الأول لطريان اللاحق وإلا وقع الدور، فلما كان شرط كون المانع مانعًا بالفعل خروج المقتضي عن أن يكون مقتضيًا بالفعل لم يجز أن يكون خروج المقتضي كونه مقتضيًا بالفعل [بالمانع وإلا لزم الدور فيكون خروجه عن أن يكون مقتضيًا بالفعل] بذاته وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك فإنه لا يصلح للعلية. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنه إن عنى بالشرط ما ينعدم المشروط عند عدمه لم يلزم من كون طريان الثاني مشروطًا بانتفاء الأول، وكون انتفاء الأول مشروطًا بطريان الثاني الدور، وكذلك لم يلزم من كون المانع مانعًا بالفعل مشروطًا بخروج المقتضي عن كونه مقتضيًا، وخروج المقتضي عن كونه مقتضيًا بالفعل مشروطًا بكون المانع بالفعل الدور؛ لأن المتلازمين والمتضايفين بهذه المثابة مع عدم امتناعهما، وإن عنى به معني يتقدم على المشروط ولو بالرتبة فلا نسلم تحقق الشرطية بهذا المعنى فيما ذكره من الموضعين، والذي نحققه أن انتفاء أحد النقيضين هو عين وجود الآخر وإلا لزم الواسطة بينهما وهو ممتنع فلو كان أحد المتنافين مشروطًا بانتفاء الآخر لزم أن يكون الشيء مشروطًا بنفسه وهو محال. ورابعها: وهو أن الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم وفي صورة التخصيص مع عدمه، ووجوده مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه على لذلك الحكم هناك لكن وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم، ثم أن الوصف الحاصل في الفرع كما

أنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو أيضًا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص فليس إلحاقه بأحدهما أولى ومن إلحاقه بالثاني ولما تعارضا لم يجز إلحاقه بواحد منهما فلم يجز الحكم عليه بالعلية. وجوابه: أنا لا نسلم أن وجود الوصف مع عدم الحكم يقتضي ظن عدم عليته له مطلقًا فضلًا عن أن يقتضي القطع بعدم عليته؛ وهذا لأنا لما جوزنا انتفاء الحكم المانع وجدنا في صورة التخصيص معني مناسبًا لعدم الحكم غلب على الظن إحالة ذلك النفي إلى ذلك المعني فيبقي ظن علية الوصف كما كان. سلمنا التعارض لكن الترجيح معنا فإن [الأصل في] الوصف مع الاقتران أن يكون على فعند ذلك إذا رأينا الحكم متخلفًا عنه في صورة وعثرنا في تلك الصورة على أمر يصلح أن يكون مانعًا وجب إحالة ذلك التخلف على المانع عملًا بالمناسبة والاقتران. أجاب المانعون عنه: أن الأصل ترتب الحكم على المقتضي، فحيث لم يترتب الحكم عليه وجب الحكم بأنه ليس بعلة، عملا بهذا الأصل فصار هذا الأصل معارضًا للأصل الذي ذكرتموه، وإذا تعارضا وجب الرجوع إلى ما كان عليه أولًا وهو عدم العلية. قال المجوزون: الترجيح معنا من وجهين: الأول: أنا إذا اعتقدنا أن هذا الوصف ليس بعلة يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع الاقتران من كل وجه. وأما إذا اعتقدنا أنه علة عملنا بما ذكرتم من الأصل من بعض الوجوه؛ لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور، ولا شك أن ترك العمل

بالدليل من وجه دون وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه. الثاني: وهو أن الوصف الذي ندعي كونه مانعًا في صورة التخصيص يناسب انتفاء الحكم، والانتفاء حاصل معه فيغلب على الظن أن علة ذلك الانتفاء إنما هو ذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول: معكم أصل واحد، وهو أن الأصل ترتب الحكم على العلة، ومعنا أصلان: أحدهما: أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل علة لثبوت الحكم فيه. الثاني: أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون المانع علة لانتفاء الحكم فيها، ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل بالأصل الواحد. أجاب المانعون عن الأول: بأنا لا نسلم حينئذ أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية بل عندنا: المناسبة مع الاقتران والاطراد دليل العلية، فإن حذفتم الاطراد عن درجة الاعتبار فهو أول المسألة. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله بالمانع؛ لأن ذلك الانتفاء كان حاصلًا قبل حصول ذلك المانع، والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيًا. أجاب المجوزون عن الأول من وجهين: أحدهما: أن ما ذكرنا من الدليل في باب المناسبة يفيد أنها مع الاقتران [تفيد ظن العلية من غير إشعار باعتبار الاطراد وذلك يفيد أنها مع الاقتران] دليل العلية من غير اعتبار الاطراد وإلا لزم الترك بمقتضي ذلك الدليل، والأصل عدم دليل آخر يدل على اعتباره، وبتقدير حصول ذلك فإنه لا

ينافي ما هو المطلوب في هذا المقام، إذ المطلوب في هذا المقام أن لو لم نقل بعلية الوصف مع المناسبة والاقتران لزم الترك بالدليل وهو حاصل إذ يترك/ (199/ أ) الدليل الذي تقدم ذكره حينئذ. وثانيهما: هب أن ذلك الدليل لم يفد ذلك لكن نقول: إلا أن الدليل على أن المناسبة مع الاقتران يفيد ظن العلية هو أنا إذا رأينا الوصف مناسبًا والحكم مقترنًا به فإنه غلب على الظن بأول النظر إليه أنه علة مع قطع النظر عن البحث في أن الحكم هل هو مقارن له في جميع محاله أم لا؟ والعلم بهذا جلي بعد الاستقراء والتجربة، ولو كان الاطراد جزء دليل العلية لاستحال حصول الظن بالعلية بدونه، ثم الذي تحقق أن الاطراد غير داخل في ماهية دليل العلية هو أن حاصله يرجع إلى السلامة عن النقض المعارض لدليل العلية، وعدم المعارض غير داخل في ماهية المعارض الآخر وإلا لم يتصور المعارض. وعن الثاني أيضًا من وجهين: أحدهما: أن العلة الشرعية معرفة لا يمتنع تعليل المتقدم بالمتأخر بهذا التفسير. وهذا الجواب ضعيف لما تقدم أن البحث في هذه المسألة بناء على أن العلة مفسرة بغير المعرف [ويؤكده: ما أورد عليه بأن العلة إذا كانت مفسرة بالمعرف] لم يمتنع من تعليل ذلك الانتفاء بعدم المقتضي تعليله بعدم المانع أيضًا لجواز أن يجتمع على المطلوب الواحد دليلان معرفان: أحدهما وجودي، والآخر عدمي، ولا يتصور النزاع في المسألة حينئذ

وإنما يجوز اجتماع العلل على المعلول الواحد بمعني المعرف لا بغيره. وثانيهما: أن المانع ليس علة للانتفاء الحاصل قبله، بل هو علة منع الحكم من الدخول في الوجود بعد أن كان بعرضية الدخول فيه ولا نسلم بعدم هذا المعني عليه، وما ذكر الإمام عليه من الاعتراض وهو: أن المعلل بالمانع يستحيل أن يكون إعدام شيء؛ لأن ذلك يستدعي سابقة الوجود، وها هنا لم يوجد الحكم ألبتة فيستحيل إعدامه، وحينئذ يلزم أن يكون المستند إلى المانع إنما هو العدم السابق وحينئذ يلزم المحذور المذكور. فضعيف؛ لأنا وإن سلمنا أن تأثير المانع ليس في إعدام شيء موجود، لكن لا يلزم منه أن يكون المستند إليه ليس إلا العدم السابق الذي يعبر عنه بالانتفاء، لجواز أن يكون المستند إليه المنع من الدخول بعد أن كان بعرضيته وهو الذي يعبر عنه بالنفي، ولا شك أن هذا المعني مغاير للمعنيين السابقين أعني إعدام شيء أو الانتفاء الأصلي. وخامسها: وهو أن تعليل نفي الحكم بالمانع وفوات الشرط في صورة التخصيص يتوقف على وجود المقتضي، فإن بتقدير أن لا يكون المقتضي موجودًا فيها كان عدم الحكم معللًا فيها بعدم المقتضي لا بالمانع وفوات الشرط ووجود المقتضي فيها يتوقف على وجود المانع وفوات الشرط؛ فإن بتقدير أن لا يكون المانع موجودًا فيها ولا يكون الشرط فائتًا فيها لم يكن المقتضي موجودًا فيها، ضرورة أن عدم الحكم فيها حينئذ مضاف إلى عدم المقتضي وإلا لكان الحكم حاصلًا فيها، وإذا توقف كل واحد من وجود المقتضي ووجود المانع على الآخر كان دورًا محالًا، وهو إنما لزم من التعليل بالمانع وفوات الشرط في صورة التخصيص فكان ممتنعًا. وجوابه: أنا وإن سلمنا التوقف من الجانبين مع أن فيه كلامًا ستعرفه في

مسألة أن التعليل بالمانع هل يتوقف على وجود المقتضي أم لا؟ ومن حيث أنه يمكن أن يعرف وجود المقتضي بالمناسبة والاقتران أو غيره من الطرق مع قطع النظر عن وجود المانع، وكيف لا وتوقفه عليه يقتضي بطلان كون المناسبة مع الاقتران طريقًا إلى معرفة المقتضي، وكذا غيره من الطرق يقتضي توقف أحد المعارضين على الآخر، ومعلوم أن أحد المعارضين لا يتوقف على الآخر لكن توقف المعية لا توقف التقدم والتأخر، والممتنع إنما هو الثاني دون الأول، فلم قلتم أن الممتنع هو اللازم، وما ذكرتم من الدلالة لا يدل عليه لتأتيها في المتلازمين والمتضايفين. وسادسها: القياس على العلل العقلية والجامع وهو كون الحكم متعلقا بكل واحد منهما وأنهما علة. وجوابه: منع الحكم في المقيس عليه، فإن تخلف الحكم عن العلل العقلية جائز عندنا لفقد الشرط أو وجود المانع على ما عرف ذلك في موضعه. سلمناه لكن الفرق بينهما حاصل وهو أنها مقتضية للحكم بذاتها والعلل الشرعية ليست كذلك بل هي علل بوضع الشارع لها فلا يمتنع أن وضعها بحيث يتخلف عنها الحكم لفقد الشرط أو وجود مانع، فلا يقدح ذلك في الوضع. وسابعها: طريق صحة العلة الشرعية اطرادها وهو أن يجري معها حكمها، فإذا لم يطرد لم يصح لانتفاء طريق صحتها. وجوابه: أنه إن عنى به انحصار طريق صحتها في الاطراد فهذا ممنوع؛ وهذا فإن عندنا طرق صحتها متعددة كما سبق.

وإن عنى به أنه من جملة طرقها فهذا لو سلم لم يلزم منه انتفاء طريق صحتها عند انتفائه؛ لأن لصحتها طرقًا أخر فلا يلزم من عدم اطرادها انتفاء طريق صحتها. وأيضًا: فإنه إن عني بالاطراد جريان حكمها في جميع صور حصولها سواء وجد هناك مانع أو لم يوجد فلا نسلم أنه بهذا التفسير من جملة طرقها؛ فإن هذا عندنا ممتنع فكيف يكون طريقًا إلى معرفة العلة وإن عني به جريان حكمها في جميع الصور التي وجدت فيها شرائطها وارتفعت موانعها فهذا/ (200/ أ) مسلم لكن لا نسلم أنها لم تطرد بهذا التفسير. وثامنها: أن العلة في القياس طريق إلى إثبات الحكم في الفروع، فإذا وجدت في الفرعين امتنع أن يكون طريقًا إلى العلم بحكم أحدهما دون الآخر كما في الإدراكات والأدلة العقلية. وجوابه: أن وجودها في الفرعين لو كان على حد سواء لزم ما ذكرتم فأما إذا لم يكن كذلك بل وجدت في النقض مع المانع أو مع فقد الشرط ووجد في الفرع الآخر بدونها لم يلزم ذلك، وكذا الحكم في الإدراكات والأدلة العقلية، فإن الإدراك إنما يحصل إذا وجد مع أسبابها بشرائطها وارتفاع موانعها، فأما بدون ذلك فلا. سلمناه لكن الفرق بين المقيس والمقيس عليه ثابت وهو ما تقدم. وتاسعها: لو لم يجب حصول الحكم حيث حصلت العلة فأما أن لا يجب حصوله في شيء من صور حصولها وهو باطل قطعًا، أو يجب في البعض دون البعض فيلزم الترجيح من غير مرجح وهو ممتنع فيتعين أن يقال: إنه يحب حصوله حيث حصلت.

[وجوابه: منع لزوم الترجيح من غير مرحج وسنده غير خاف مما سبق] وعاشرها: أنكم وافقتموها في المعني ونازعتمونا في اللفظ والنزاع فيه لا يليق بذوي التحصيل والتحقيق، فإن لكل أحد أن يفسر لفظه بما شاء. بيان ذلك: أنا أجمعنا على أنه يعتبر في ثبوت الحكم في جميع مجاري علته وجود شرائطها وعدم موانعها ومعارضها، بقي النزاع في أن تلك الأمور التي يتوقف عليها حصول الحكم من العلة هي تسمي جزؤ العلة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في محض اللفظ. وجوابه: أنا لا نسلم أن النزاع إنما هو في محض اللفظ بل في المعني؛ وهذا لأن الذين يجوزون تخصيص العلة لفقد الشرط أو وجود مانع يجوزون أن يكون عدم المانع شرطًا وأن يكون الشرط عدميًا، وإن فسرنا العلة بالموجب والداعي ولا يشترط فيه المناسبة ولا ذكره في ابتداء التعليل. وأما الذين لا يجوزون تخصيص العلة فإنهم لا يجوزون أن يكون العدم أو العدمي جزؤ العلة بل هو كاشف عن أمر آخر وجودي ينضم إلى غيره من الأجزاء ويصير المجموع علة ما سبق. وهذا إذا فسرت العلة بغير المعرف. أما إذا فسرت بالمعرف على ما ذكره الإمام في هذا المقام فإنهم يجوزون أن يكون العدم جزء العلة لكنه يجب البحث عن مناسبته فإن وجدوه مناسبًا صححوا العلة وإلا أبطلوها. وأما الدليل على أن تخلف الحكم عن العلة [من غير مانع أو فقد شرط]

يقدح في عليته فهو أن العلة إذا وجدت بتمامها بحيث لا يفتقد شيء مما يتوقف عليه صدور الحكم عنها، ولم يوجب الحكم في بعض الصور وأوجبته في البعض الآخر لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر وهو محال، وأيضًا المناسبة مع الاقتران وإن دل على أن الوصف علة الحكم ظاهرًا لكن التخلف بدون ظهور ما يصلح أن يكون مستندًا للعدم أيضًا يدل على عدم العلية ظاهرًا بالاستقراء، وحينئذ يتعارض الظاهران ووجب الرجوع إلى ما كان عليه الوصف في نفسه من قبل وهو عدم العلية. احتجوا بوجهين: أحدهما: أن العلل الشرعية أمارات على الأحكام، فوجودها في بعض الصور دون حكمها وإن كان من غير مانع لا يقدح في كونها أمارات على الأحكام؛ إذ ليس من شرط الأمارة أن يصحبها الحكم ولا يتخلف عنها أصلًا، وإلا لكان دليلًا قاطعًا لا أمارة ولهذا تخلف المطر في بعض الأوقات عن الغيم الرطب في الشتاء لا يقدح في كونه أمارة على نزول المطر ونحوه من النظائر كثير. وجوابه: أنا لا نسلم أن تخلف الحكم عن الأمارة في بعض الصور لا يقدح في كونها أمارة. قوله: لو صحبها الحكم في كل الصور لم تكن أمارة بل قاطعًا. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن القاطع هو الذي لا يجوز أن ينفك الحكم عنه [ولو لمانع لا أنه الذي لا ينفك الحكم عنه]؛ فإن الدليل الظني قد لا ينفك الحكم عنه وإن كان يجوز أن ينفك عنه لمانع، وما ذكره من المثال فأنا لا نسلم أنه لا يقدح ذلك في غلبة الظن في كونه أمارة على نزول المطر، وإنما

يقدح ذلك فيه وفي سائر الأمارات إذا غلب على ظنه حصول ما يلازم انتفاء الحكم في صورة التخلف فأما إذا لم يحصل ذلك فلا نسلم أنه لا يقدح ذلك فيه. ثم الذي يؤيد ما ذكرنا من الاحتمال هو أن الدليل الذي دل على كون الأمارة أمارة للحكم الفلاني أما أن اعتبر في كونها أمارة صورًا مخصوصة وصفة مخصوصة، وهيئة مخصوصة، أو لم يعتبر ذلك بل دل على أنها أمارة في سائر الصور كيف ما حصلت فإن كان الأول لم يكن تخلف الحكم في غير تلك الصور، وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الأمارة بل عن بعضها؛ وفي غير تلك الصفة والهيئة تخلف الحكم عن الأمارة بل عن بعضها؛ لأن تلك الخصوصيات معتبرة في ماهية تلك الأمارة حينئذ وإن كان الثاني امتنع التخلف وإلا لزم الترك بمقتضي دليل الأمارة وهو باطل. وثانيهما: أن العلة المستنبطة أمارة فجاز تخصيصها كالمنصوصة. وجوابه: منع حكم الأصل من غير مانع واستثناء وأن/ (201/ أ) قاس عليهما فالفرق واضح.

المسألة الثانية القائلون بأن تخلف الحكم عن الوصف لمانع أو لغير مانع لا يقدح في عليته اتفقوا على أن تخلفه كذلك عن حكمة الوصف لا يقدح في عليته. فأما القائلون بأن تخلفه عن الوصف يقدح في عليته اختلفوا في أن تخلفه عن حكمه المقصودة هل يقدح في عليته أم لا

المسألة الثانية القائلون بأن تخلف الحكم عن الوصف لمانع أو لغير مانع لا يقدح في عليته اتفقوا على أن تخلفه كذلك عن حكمة الوصف لا يقدح في عليته. فأما القائلون بأن تخلفه عن الوصف يقدح في عليته اختلفوا في أن تخلفه عن حكمه المقصودة هل يقدح في عليته أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أنه يقدح محتجًا بأن الحكمة هي المقصودة من شرع الحكم دون الوصف المشتمل عليها فإذا كان تخلف الحكم [عن الوصف قادحًا في عليته مع أنه ليس بمقصود بالذات فلأن يكون تخلف الحكم] عن المقصود بالذات منه قادحًا في عليته بالطريق الأولى. فإن قلت: لو تحقق التخلف عن الحكمة المقصودة في ضمن الوصف لزم ما ذكرتم، فأما إذا لم يتحقق ذلك وهو الغالب فإن الغالب أن الحكمة غير منضبطة فيحتمل أن يكون التخلف عن حكمه هي أنقص مقدارًا من مقدار الحكمة المقصودة من الوصف، فحينئذ لا يكون التخلف حاصلًا عن الحكمة المقصودة في ضمن الوصف فلا يلزم ما ذكرتم. قلت: مقدار الحكمة المتخلف عنها عن كان مثل مقدار الحكمة المقصودة من الوصف أو زائدًا عليه لزم ما ذكرنا، وإلا لم يلزم كما ذكرتم لكن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال بعينه فيغلب على الظن توجه النقض وبطلان عليته، والعمل بغلبة الظن واجب على ما تقدم تقريره فيلزم ابطال عليته. ولقائل أن يقول: هذا إنما يلزم أن لو كانت الحكمة التي تخلف الحكم عنها من نوع الحكمة المقصودة من الوصف، فأما إذا لم يكن كذلك كما في المسألة

المشهورة التي تذكر مثالًا لهذه المسألة وهي: أن الحنفي إذا قاس العاصي بسفره في إثبات الرخصة له على العاصي في سفره بجامع المشقة التي في السفر وبين مناسبتها للترخص، فنوقض بالحمال وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر لم يلزم ذلك؛ لأن المشقتين نوعان مختلفان، ومع اختلاف النوع لا يمكن اعتبار المقدار، نعم لو تحقق مشقة السفر في صورة من الصور مع عدم الترخص توجه البحث المذكور. وذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يقدح محتجين بأن علية الوصف قد تحققت وفاقًا وبشهادة المناسبة والاقتران، وتخلفه عن مقدار الحكمة المقصودة من الوصف مشكوك فيه؛ إذ يحتمل أن تكون الحكمة التي تخلف الحكم عنها نوعًا آخر كما تقدم، أو وأن كانا نوعًا واحدًا لكن يحتمل أن يكون مقدار الحكمة التي تخلف الحكم عنها أقل من مقدار التي جعل لأجلها الوصف علة، فيصير احتمالي الخصم معارضين بهذين الاحتمالين فحينئذ يقع الشك في تخلفه عن ذلك المقدار، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد بقائه علة ابقاء لما كان على ما كان. وأيضًا: لو كان تخلف الحكم عن الحكمة يقدح في علية الوصف لكان تخلف الحكم عن الوصف يقدح في علية الحكمة لو جوزنا التعليل بها لتساويهما في ذلك لكن اللازم باطل لجواز أن يكون الوصف مظنة الحكمة غير واجب الاشتمال عليها فيمكن عراه عنها، فقد لا يلزمه الحكم، ومعلوم أن خلوه عن الحكم بهذا المعني لا يقدح في علية الحكمة فإنها علة بالذات على التحقيق فأينما تحققت تحقق معها فلا يتصور خلوها عن الحكم. وفيهما نظر لا يخفي على المتأمل، والحق في ذلك أن يقال: إن الحكمتين

أعني ما تخلف الحكم عنها، وما اشتمل عليه الوصف إن كانتا من نوع واحد ولم يظهر نقصان مقدار التخلف عنها عن مقدار التي في ضمن الوصف قدح [في عليته] وإلا فلا.

المسألة الثالثة القائلون بتخصيص العلة اختلفوا في أنه هل يجب على المستدل ابتداء التعرض لنفي المانع، أم لا؟

المسألة الثالثة القائلون بتخصيص العلة اختلفوا في أنه هل يجب على المستدل ابتداء التعرض لنفي المانع، أم لا؟ فذهب الأكثرون منهم إلى أنه لا يجب ذلك وهو الحق؛ لأن المستدل مطالب بذكر الدليل فقط، وليس ذلك إلا الوصف أو حكمته. وأما نفي المانع فليس له مدخل في الإيجاب والتأثير، فلم يكن منه في شيء بل هو من قبيل نفي المعارض فلم يجب ذكره كما في نفي سائر المعارض، ولأنا لو أوجبنا ذكره في ابتداء الاستدلال فأما أن يجب نفي المانع المتفق عليه وهو باطل. أما أولًا: فلأنه لا فائدة فيه، إذ من المعلوم أنه منفي عن الصورة التي وقع النزاع فيها؛ إذ يستحيل وقوع النزاع مع تحقق المانع المتفق عليه. وأما ثانيًا: فلأنه لا يحصل به الغرض أذ لا يلزم من نفيه ثبوت الحكم، لاحتمال أن يكون له مانع آخر، أو يجب نفي جميع الموانع وهو أيضًا باطل، أما أولًا فبالاتفاق. وأما ثالثًا: فلأن ايجابه ضرر وعسر؛ إذ لا يجوز له ذلك إلا بعد أن يحصل له غلبة الظن بذلك بعد الاستقراء والتفتيش التام، ولا يكفي في ذلك التمسك بالأصل من غير فحس كما في حق المجتهد، ولما بطل القسمان بطل القول بوجوب التعرض للنفي. ومنهم من أوجب ذلك محتجًا بأن المستدل مطالب بما يكون معرفًا للحكم، والمعرف للحكم ليس ذلك الوصف فقط بل هو مع عدم المانع وإذا كان كذلك وجب ذكرهما معًا، مقتضي هذا الدليل وجوب الغرض لنفي كل الموانع في الابتداء إلا أن إيجاب ذلك لما يفضي إلى العسر والمشقة كما ذكرتم لم يكن القول به لمعارضة الأدلة النافية للعسر والحرج إياه فأما ذكر المانع المتفق عليه لا يفضي إلى ذلك فوجب ذكره. وجوابه: النقض بنفي مخصص العام ونفي غيره من المعارض.

المسألة الرابعة القائلون بعدم تخصيص العلة اختلفوا في النقض إذا كان واردا على سبيل الاستثناء

المسألة الرابعة القائلون بعدم تخصيص العلة اختلفوا في النقض إذا كان واردًا على سبيل الاستثناء. فمنهم من قال: أنه لا يقدح في العلة وإن كانت العلة مظنونة وإنما يعلم وروده على سبيل الاستثناء إذا كان واردًا على جميع المذاهب وحينئذ يصير كالوارد على العلة المعلومة. ومنهم من قال: أنه يقدح فيها [ثم] في وجوبه الاحتراز عنه في اللفظ خلاف، والأظهر الوجوب ليكون الكلام مضبوطًا غير منتشر فإنه إذا ذكره مطلقًا أورد عليه تلك الصورة نقضًا فيحتاج إلى الجواب عنه، فأما إذا ذكره في أول الأمر سقط عنه هذه الكلفة. ومنهم من لم يوجب ذكره كما في المانع، ولأنه خارج عن نفس العلة وإلا لم يتصور فيه خلاف إذ لا خلاف في أنه يجب ذكر جميع أجزاء العلة فلم يجب ذكره كغيره من الأمور الأجنبية مما يتوقف عليه الحكم وما لا يتوقف عليه، ثم النقض الوارد على سبيل الاستثناء ليس يجب أن يكون معقول المعني حتى تكون المسألة السابقة تغني عن ذكر هذه المسألة.

المسألة الخامسة في الكسر وهو نقض يرد على بعض أوصاف العلة

المسألة الخامسة في الكسر وهو نقض يرد على بعض أوصاف العلة. وهو كقولنا في مسألة اشتراط النية في الوضوء: طهارة عن حدث فوجب أن يشترط فيه النية كالتيمم. فيقوله الخصم: هذا منقوض بإزالة النجاسة فإنها طهارة عن نجاسة ولا يشترط فيها النية ولا أثر لقيد كونه حدثًا. وكقولنا في صلاة الخوف: صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قياسًا على صلاة الأمن. فيقول: هذا منقوض بصوم الحائض فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، ولا أثر لخصوصية كون العبادة صلاة. وهو مردود غير مقبول عند جماهير المحققين إلا إذا بين الخصم الغاء القيد الذي وقع به الاحتراز عن النقض، وأنه لا تأثير له في الحكم لا باعتبار انفراده، ولا باعتبار ضمه إلى الوصف الآخر فإنه حينئذ يكون مقبولًا؛ لأن الخصم إن بقي مستمرًا على التعليل بالمجموع كان ذلك قدحًا في تمام العلة بعد التأثير وإن علل بالجزء وحده كان ذلك قدحًا في تمام العلة بالنقض. لا يقال: إنه وإن لم يكن للجزء تأثير في الحكم المعلل بالمجموع الحاصل من ذلك الوصف وغيره لكن لم لا يجوز أن يدخل في التعليل لكن يحترز به عن النقض، ولا يلزم من عدم مناسبته وتأثيره في الحكم أن لا يدخل في التعليل،

المسألة السادسة في كيفية دفع النقض

لأنا نقول: إدخاله في التعليل لفائدة الاحتراز به متوقف على كونه جزء العلة، فإن بتقدير أن لا يكون جزء العلة لم يندفع به النقض الوارد على العلة؛ إذ العلة وأجزاؤها حينئذ ما عداه وهو أجنبي بالنسبة إلى ماهية العلة وأجزائها والنقض لا يندفع بأمر أجنبي فإذا ثبت أنه ليس جزء العلة لم يمكن الاحتراز به عن النقض لاستحالة وجود التوقف بدون المتوقف عليه، وهذا التقرير أولى من تقرير إلزام الدور وهو كما يقال: إمكان الاحتراز به يتوقف على كونه جزءًا، وكونه جزءًا يتوقف على إمكان الاحتراز به فيلزم الدور لأن ذلك لو سلم للزم منه الدور وهو غير ممتنع. المسألة السادسة في كيفية دفع النقض. وليس له طريق إلا أحد الأمرين: أحدهما: المنع من حصول تمام العلة في صورة النقض. وثانيهما: المنع من عدم الحكم فيها. أما القسم الأول ففيه أبحاث: أحدهما: أن المستدل إذا منع حصول وجود العلة في صورة النقض فهل يمكن المعترض من إقامة الدلالة عليه أم لا؟ اختلفوا فيه: الأكثرون أنه لا يمكن؛ لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى إذ وجود العلة في صورة النقض مسألة أخرى غير التي أقام المستدل عليها الدليل والعلم بذلك ضروري، ولأن فيه قلب القاعدة، فإن المعترض يصير مستدلًا،

والمستدل يصير معترضًا، فلو قال المعترض: ما ذكرت من الدلالة على وجود العلة في الفرع فهو بعينه دالة على وجود العلة في صورة النقض، فهذا لو صح كان ذلك نقضًا لدليل وجود العلة في الفرع لا على كون ذلك الوصف علة للحكم فيكون انتقالًا من السؤال الأول إلى غيره فيعد منقطعًا. نعم لو قال ذلك ابتداء، أو قال: يلزمك أحد بالأمرين إما نقض العلة أو نقض الدليل الدال على وجودها في الفرع كان مسموعًا متجهًا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه. ومنهم من قال: يمكن من ذلك مطلقًا؛ لأنه لو لم يمكن منه فربما يفضي ذلك إلى عدم حصول فائدة المناظرة بل إلى المكابرة والعناد، فإن المستدل قد يستمر على المنع من وجود العلة في صورة النقض مع ظهور وجودها فيها، فلا سبيل إلى الدفع إلا بإقامة الدلالة عليه، ولأن فيه/ (203/ أ) تحقيق النقض فهو إذن من متمماته فله ذلك توسعة للطريق إلى ما رام من إبطال كلام خصمه. ومنهم من قال: أن تعين ذلك طريقًا للمعترض في قدح كلام المستدل مكن منه، وإن كان هناك طريق آخر أولى منه في القدح في كلامه لم يمكن منه. ومنهم من قال: إن كانت العلة حكمًا شرعيًا لم يمكن منه وإلا مكن لانتشار

الكلام في الحكم الشرعي جدًا بخلاف غيره فإن الأمر فيه قريب. ثانيهما: ثم اعلم أن المنع من وجود العلة في صورة النقض لا يكون جزافًا ومكابرة بل يكون بناء على وجود قيد مناسب أو مؤثر في العلة وهو غير حاصل في صورة النقض، وذلك القيد لا يخلو إما أن يكون جليًا أو خفيًا: فإن كان جليًا كقولنا في الحلي: مال معد لاستعمال مباح فوجب أن لا تجب الزكاة فيه كثياب البذلة وعبيد الخدمة، فإن نقض بالحلي المحذور فاندفاع النقض به ظاهر، لأنه غير معد لاستعمال مباح. وكقولنا: طهارة عن حدث، فيشترط فيها النية كالتيمم، فنقض بالطهارة عن النجاسة، فاندفاع النقض به أيضًا ظاهر فإن الحدث ليس هو النجاسة. وإن كان خفيًا فإما أن يكون معناه واحدًا، أو متعددًا، إما بطريق التواطؤ، أو بطريق الاشتراك، فهذه أقسام ثلاثة.

أولها: أن يكون معناه واحدًا كقولنا في السلم الحال: عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه كالبيع، فلو نقض بالكتابة، فدفعه بأن يقال: أنها ليست عقد معاوضة؛ إذ هي بيع مال الإنسان بمال نفسه وهو غير جائز، بل هي عقد إرفاق، ولهذا لا يختل مقصودها لفساد العوض. وكقولنا في قصر الصلاة: رخصة شرعت للتخفيف فلا يجب الأخذ به كالإفطار في الصوم، فينقض بأكل الميتة حال الاضطرار. ودفعه أن يقال: لا نسلم أنه حيث يجب شرع للتخفيف، بل للضرورة وقيام البينة. وثانيها: أن يكون معناه متعددا بطريق التواطؤ كقولنا في الصوم: عبادة متكررة، فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة. فينقض بالحج، فإنه يتكرر على الأشخاص. ودفعه بأن المراد من التكرار التكرار بحسب الأزمان والأشخاص، أو بحسب الأزمان، وما ذكرتم من النقض ليس كذلك بل هو متكرر بحسب الأشخاص فقط. وكقولنا في مسألة أنه يحج عن الميت المستطيع وإن لم يوص: أنه حق لازم عليه فوجب أن يقض عنه سواء أوصى أولم يوص كالدين، فنقض بالصلاة والصوم. ودفعه بعد تسليم الحكم وعدم الفرق الإجمالي بأن يقال: الحق اللازم مقدم على الحق المالي وعلى غيره بالتواطؤ، والأول هو المراد في هذا المقام دون الثاني الذي هو المراد من النقض.

وثالثها: كقولنا: جمع الطلاق في القرؤ الواحد فلا يكون مبتدعًا كما لو طلقها- ثلاثًا- في قرء واحد، مع الرجعة بين التطليقتين. فنقض بما لو طلقها ثلاثًا في الحيض، فإنه جمع الطلاق في القرء الواحد مع أنه يكون مبتدعًا وفاقًا. ودفعه بأن يقال: المراد من القرؤ ها هنا الطهر. وما يقال: من أنه يدفع أيضًا بتفسير اللفظ، كما يقال في المتولد بين الظبي والغنم: حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه بحال، [وبين ما لا يجب فيه، فوجب أن لا تجب فيه الزكاة قياسًا على ما إذا كانت الأمهات ظبيًا، فنقض بالمتولد بين السائمة والمعلوفة من البقر والغنم، فدفع بأنه لا يصدق المعلوفة أنه لا تجب فيه الزكاة بحال] فإنها إذا أسمت تجب فيها الزكاة ويكون اللفظ لا يتناوله بحسب العرف أو بحسب الشرع وكل ذلك داخل فيما تقدم يعرف ذلك بالتأمل. وثالثها: في أنه هل يجوز دفع النقض بالقيد الطردي أم لا؟ اعلم أن الذين جوزوا التعليل به فقد اتفقوا على جواز ذلك، وأما الذين منعوا منه فقد اختلفوا فيه: والأكثرون منهم منعوا منه وهو الحق؛ لأنه إذا لم يكن لذلك القيد مدخل في المناسبة لم يصلح أن يجعل جزء العلة، [لأن جزء العلة يجب أن يكون له مدخل في المناسبة فإذا لم يجز أن يجعل جزء العلة] لم يجز دفع النقض به لما عرفت من قبل، ولأنه لو جاز دفعه بالقيد الطردي لجاز دفعه

بنعيق الغراب، وصرير الباب، والوقت والزمان واللازم باطل فالملزوم مثله، وهذا إنما يتجه ويرد على التفسير الثاني الطردي. ومنهم من جوزه محتجًا: بأن الشيء وحده ربما لا يكون مؤثرًا في الشيء ولكن مع شيء آخر قد يكون مؤثرًا فيه، وحينئذ يجوز أن يدفع به النقض. وجوابه: أنه يجوز ذلك لو أنه حصل بشرائطه، وقد ذكرنا أن شرطه مفقود فوجب أن لا يصح. وأما القسم الثاني، وهو دفع النقض بمنع عدم الحكم ففيه أبحاث أيضًا: البحث الأول: [المستدل] إذا منع عدم الحكم في صورة النقض ففي تمكين المعترض من إقامة الدلالة عليه ما سبق من المذاهب الثلاثة: الأول في منع وجود العلة في صورة النقض. الثاني عدم الحكم إن كان متفقًا عليه بين المستدل وخصمه توجه النقض لا محالة، وكذا إن كان مذهبًا للمستدل فقط لأنه إذا لم يف بمقتضي علته/ (204/ أ) في الاطراد فلأن لا يجب على غيره كان أولى. وإن كان مذهبًا لخصمه فقط ما نقول: هذا الوصف مما لا يطرد على أصلي فإنه ثابت في الصورة العلانية، والحكم غير ثابت فيها عندي فلا يلزمني الانقياد إليه، ثم يتوجه النقض على المستدل؛ لأن خلاف الخصم في تلك المسألة كخلافه في المسألة المتنازع فيها وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معًا. الثالث: المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرًا بأن يكون الحكم ثابتًا فيها جزمًا على رأي المستدل إن كان مجتهدًا، أو على رأي إمامه إن كان مقلدًا

ناصرًا لمذهبه، أو على أحد قوليه غير المرجوع عنه، أو على أحد قولي أصحابه المستخرجين على قواعد مذهبه أولا يعرف له فيها نص لا بإثبات الحكم ولا بنفيه كان له أن يمنع عدم الحكم فيها إذ ظاهر ما ذكر من القياس وعلته يقتضي أن يكون حجة فله أن يتمسك به لما لم يعلم له نقضًا، وليس له أن يلتزم فيها الحكم [بمقتضي العلة لأنه ليس له أن يثبت المذهب لصاحبه بالقياس. وقيل: إذا اقتضي علته ثبوت الحكم] فيما لا يعرف لإمامه فيه نصًا لم يتمسك به بل ينبغي أن يتوقف فيه لئلا يكون متمسكًا بالعلة المنقوضة. وقيل: له أن يلتزم الحكم بمقتضي علته في تلك الصورة لأن ظاهر علته يقتضي ثبوت الحكم فيها. وقد يكون خفيًا وهو على وجوه: أحدها: كقولنا في السلم الحال: عقد معاوضة، فلا يكون الأجل من شرطه كالبيع. فإذا نقض بالإجارة قلنا: ليس الأجل بشرط في الإجارة بل هو تقدير للمعقود عليه. وثانيها: كقولنا في الإجارة: عقد معاوضة، فلا ينفسخ بالموت كالبيع. فلو نقض بالنكاح. قلنا: لا نسلم أن النكاح يبطل بالموت وينفسخ؛ وهذا لأنه لو كان فسخًا لكان إذا حصل قبل الدخول كان مشطرًا للصداق أو مسقطًا له بالكلية، وليس كذلك بل يتقرر به المهر كما في الوطء فليس هو بفسخ بل هو نهايته وغايته، وذهاب الشيء لانتهائه إلى غايته لا يكون فسخًا وبطلانًا.

وثالثها: كقولنا فيما إذا قال الرجل أنت طالق ونوى ثلاثًا صح؛ لأنه نوى ما يحتمله اللفظ فوجب أن تعتبر نيته كما إذا قال: أنت طالق طلاقًا، فإذا نقض بما إذا نوى بقوله: أنت طالق طلاقًا عن وثاق فإنه لا تعتبر نيته. قلنا: لا نسلم بل تعتبر نيته فيما بينه وبين الله تعالى. الرابع: المقصود من تعليل الحكم إما إثباته ونفيه معًا، أو أحدهما. فإن كان الأول وجب أن يكون الحكم مطردًا ومنعكسًا مع علته كالحد مع المحدود فمتى ثبت عند عدمه أو عدم عند ثبوته كان النقض متوجهًا عليه، وإن كان الثاني فالحكم إما أن يكون مجملًا، أو مفصلًا، وكل واحد منهما إما في طرف الثبوت، أو في طرف الانتفاء فهذه أقسام أربعة: الأول: إثبات الحكم مجملًا ومعناه: أنه يدعي ثبوت الحكم ولو في صورة واحدة، فهذا لا ينتقض بالنفي مفصلًا- وهو النفي عن صورة معينة؛ لأن ثبوت الحكم مجملًا يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي في صورة معينة أخرى بل يناقضه نفي الحكم مجملًا. مثاله: قولنا في وجوب الزكاة في مال الصبي: إنه حر مسلم مالك النصاب فتجب الزكاة في ماله كالبالغ، فإذا نقض بالحلي، وثياب البذلة، وعبيد الخدمة لم يتجه لما عرفت. الثاني: نفي الحكم مجملًا- ومعناه: أنه لا يثبت الحكم في صورة ألبتة وكان قياس ما سبق [في الإثبات أن يكون معناه نفي الحكم عن صورة واحدة وذلك لا يقتضي نفي الحكم] عن كل الصور كما لا يقتضي هذا المفهوم

في الإثبات في كل الصور ولكن لعلمهم إنما اصطلحوا عليه؛ لأنه يفهم من قولنا: نفي الشيء مجملًا ما يفهم من قولنا: نفاه مطلقًا وهو يفهم منه عموم النفي بخلاف قولنا: أثبته مطلقًا فإنه يفهم منه في الأكثر إثباته في الجملة وبالجملة هو الاصطلاح ليس فيه كبير أمر ويناقض نفي الحكم مجملًا إثباته مفصلًا، لأن نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية. مثاله: قول القائل فيما إذا قطع مملوك طرف مملوك آخر: إنهما مملوكان فلا يجري القصاص بينهما كالصغيرين. فنقض بجريان القصاص [في النفس. الثالث: إثبات الحكم مفصلًا ومعناه إثبات الحكم] في صورة معينة ويناقضه نفي الحكم مجملًا لا نفي الحكم مفصلًا، لأن الجزئيتين لا تتناقضان. مثاله: قول الحنفي في جريان القصاص بين المسلم والكافر الذمي في حالة العمد: أنهما محقونا الدم فوجب أن يجري بينهما القصاص كالمسلمين وينقضه بالأب والابن فإنه لا يجري بينهما قصاص بحال، ولا يناقضه إذا بين عدم جريان القصاص بينهما حالة الخطأ لما عرفت. الرابع: نفي الحكم مفصلًا لا يناقضه إثباته مجملًا ولا إثباته مفصلًا لما تقدم من أن الجزئيتين لا يتناقضان؛ فإن نفي الحكم مفصلًا معناه نفي الحكم في صورة معينة [وإثبات الحكم مفصلًا معناه ثبوته في صورة معينة] فهما جزئيتان فلا يتناقضان [لكن] يناقضه الإثبات العام فإن نقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية.

وينبغي أن يعد هذا القسم مع الأقسام المذكورة فإن المدعي قد يكون إثبات الحكم على وجه التعميم وحينئذ يناقضه نفي/ (205/ أ) الحكم مفصلًا ومثاله لا يخفي مما سبق. البحث الخامس: الحكم إذا كان ثابتًا تقديرًا لا تحقيقيًا، فإنه يكون دافعًا للنقض على الرأي الأظهر فإن المقدر كالمحقق في ثبوت ما يترتب من الأحكام على المحقق فإذا كان كذلك وجب أن يكون دافعًا للنقض كما إذا كان متحققًا. مثاله: قولنا ملك الأم علة لرق الولد، فإذا نقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية إذ ينعقد الولد حرًا. قيل: لا نسلم أنه لم يثبت الرق فيه ألبتة بل حصل ثم اندفع بدليل أنه يجب غرم قيمة الولد، لولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع وإلا لما وجبت قيمة الولد.

الفصل الثاني في عدم التأثير والعكس

الفصل الثاني في عدم التأثير والعكس

الفصل الثاني في عدم التأثير والعكس وفيه مسائل: المسألة الأولى في معناهما: قال الإمام: "عدم التأثير عبارة عما إذا كان الحكم يبقي بدون ما فرض على له. وأما العكس "فهو عبارة عن حصول مثل ذلك الحكم في صورة أخرى، لعلة تخالف العلة الأولى. وهما غير مرضيان؛ لأن قوله: يبقي الحكم بدون ما فرض علة له إن عني به: أنه كذلك في المحل الذي ادعي أنه علة فيه وهو ظاهر المراد من قوله فذلك غير لازم؛ لأن عدم التأثير قد يكون بأن يبين أن الحكم يثبت في غير ذلك المحل بدون ما جعل علة له. وإن عني به أنه كذلك في غير ذلك المحل فقط فهو ظاهر الفساد؛ لأنه إذا بين أن الحكم يبقي في ذلك المحل بعينه بدون ما جعل علة له كان ذلك عدم التأثير بالطريق الأولي. وإن عني به المفهوم العام الشامل لهذين المفهومين المندرجين تحته فهو أيضًا باطل؛ لأن العكس أيضًا كذلك؛ إذ ليس من شرط العكس أن يحصل مثل ذلك الحكم في صورة أخرى بل لو حصل في تلك الصورة بعينها لعلة أخرى

المسألة الثانية في أن عدم التأثير يقدح في العلية

كان ذلك عكسًا أيضًا وهو أبلغ في بيان العكس، وحينئذ لم يتميز أحدهما عن الآخر. فالأولى أن يقال: أن عدم التأثير عبارة عن جعل ما يستغني الحكم عنه علة أو جزء علة ويلزمه أن يبقي الحكم بعد عدمه. وأما العكس فهو عبارة عن انتفاء الحكم لانتفاء ما جعل علة الحكم أو لانتفاء العلة. وإنما قلنا ذلك ولم نقل لانتفاء علته [لأنه] يقتضي أو يشعر بانتفاء جميع علته. ولا نزاع في أن العكس بهذا المعني معتبر فعلي هذا عدم الحكم لازم في عدم التأثير إن لم يكن هناك علة أخرى غير ما جعل علة للحكم وجد أو انتفي؛ إذ لا يجوز أن يثبت الحكم بلا علة، ولا بالمذكور لعدم صلاحيته للعلية لعدم المناسبة [و] التأثير والشبه وغيرها من أمارات العلية وهو غير لازم في العكس فإنه لو قدر عدم على أخرى فإن الحكم قد يثبت بالمذكور لكونه علة له في نفسه. المسألة الثانية في أن عدم التأثير يقدح في العلية، والدليل عليه: أن الحكم لما كان حاصلًا قبل ذلك الوصف ضرورة أنه قديم، والوصف حادث، ويبقي بعده أيضًا علمنا أنه مستغنٍ عن ذلك الوصف، والمستغني عن الشيء لا يكون

المسألة الثالثة في أن العكس غير واجب في العلة عقلية كانت أو شرعية

معللًا به. فإن قلت: ذلك إنما يلزم في العلة بمعني "المؤثر" أو الداعي أما بمعني "المعرف" فلا؛ وهذا لأن الباري تعالى كان موجودًا قبل العالم، ويبقي كذلك بعد فنائه مع أنه معرف لوجوده تعالى. قلت: إن ذلك وإن كان جائزًا في مطلق المعرف لكنه غير جائز في الأحكام الشرعية وإلا لزم التكليف لما لا يطاق؛ لأن الحكم بعد ذهاب الوصف لا دليل عليه، والتكليف بما لا دليل عليه تكليف لما لا يطاق ولأن الوصف إذا لم يكن مؤثرًا ولا مناسبًا ولا شبه فيه ولا غيره من أمارات العلية كان وصفًا طرديا بالتفسير الثاني، وقد ثبت أنه لا يجوز التعليل به، فلا يجوز بالوصف الذي شأنه ما ذكرناه، فيكون عدم التأثير قادحًا في العلية. المسألة الثالثة في أن العكس غير واجب في العلة عقلية كانت أو شرعية عند المعتزلة وبعض أصحابنا كالإمام، وقال قوم أنه واجب مطلقًا. ومنهم من فصل بين العقلية والشرعية فأوجب في الأول دون الثاني وهو قول أكثر أصحابنا. ومنهم من قال يجب ذلك في المستنبطة دون المنصوصة. وقال الشيخ الغزالي- رحمه الله-:" الوجه في المسألة وهو أن يقال: الحكم إن لم يكن له إلا علة واحدة فالعكس لازم لا لأن انتفاء العلة يوجب

انتفاء الحكم [بل] لأن الحكم لابد له من علة، فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو نفي الحكم لكان ثابتًا من غير علة، وإن كان له علل فلا يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم، بل إنما يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء جميعها وينبغي أن لا يكون في هذا خلاف ونزاع لأحد". وعند هذا يظهر أن هذه المسألة فرع مسألة: أنه هل يجوز تعليل الحكم الواحد يعلل مختلفة أم لا؟ وسيأتي الكلام في ذلك نفيًا وإثباتًا فلا حاجة إلى أن تفرد هذه المسألة بالكلام وحدها. وأما ما استدل به الإمام على جواز ذلك في العلل العقلية، وهو: أن المختلفين يشتركان في كون كل واحد منهما مخالفًا للآخر، وتلك المخالفة من لوازم ماهيتهما، ولوازم الماهية معلولات [الماهية] على ما عرف ذلك في الكلام، وحينئذ يلزم أن يكون قد اجتمع على ذلك الاختلاف/ (206/ أ) الذي هو أمر واحد علتان مختلفان وهما الماهيتان المختلفتان. فضعيف. أما أولًا: فلأنا لا نسلم أن ذلك الاختلاف أمر واحد؛ وهذا لأن مخالفة هذا لصاحبه غير مخالفة صاحبه لهذا والمعلل بكل واحد منها خصوصية مخالفته لا مطلق المخالفة، ولا نسلم أن إطلاق المخالفة عليهما بالتواطؤ، بل هو بالاشتراك اللفظي. سلمناه لكن لا نسلم أن لوازم الماهية معلولاتها وما ذكر من الأدلة عليه فقد عرف ضعفه في محله.

فإن قلت: العلل الشرعية أدلة على الأحكام ولا شك أنه لا يلزم من انتفاء الدليل على الشيء انتفاؤه في نفسه، وحينئذ لا يلزم من انتفاء العلة انتفاء حكمها وإن كانت واحدة. قلت: سبق الجواب عنه من قبل. فإن قلت: غاية ما ذكرتم ثمة أنه حينئذ ينفي الحكم بلا دليل وأنه يستلزم التكليف بما لا يطاق. فنقول: التكليف بما لا يطاق إنما يلزم أن لو كان الحكم إذ ذاك مكلف به وهو ممنوع فجاز أن يكون الحكم ثابتًا إذ ذاك فلا يكون مكلفًا به. قلت: المعني من انتفاء الحكم عند انتفاء العلة إذا كانت واحدة انتفاء العلم أو الظن وانتفاؤه في نفسه على وجه يصح أن يكون مكلفًا به لا انتفاؤه في نفسه مطلقًا.

الفصل الثالث في القلب

الفصل الثالث في القلب

الفصل الثالث في القلب وفيه مسائل: المسألة الأولى في حقيقته. قيل: هو عبارة عن بيان أن ما ذكره المستدل يدل عليه. وينبغي أن يزاد عليه في تلك المسألة بعينها. وعلى ذلك الوجه حتى يستقيم، وإلا لم يكن مانعًا إذ يدخل تحته ما يدل عليه في غير المسألة التي هو استدل به عليها أو في تلك المسألة بعينها لكن على غير ذلك الوجه. مثل أن يستدل المستدل بنص بطريق الحقيقة، والمعترض يستدل به عليه في تلك المسألة بطريق التجوز فإن ذلك لا يسمي قلبًا وفاقًا. وقال الإمام: "هو عبارة عن أن يعلق على العلة المذكورة في قياس نقيض الحكم المذكور فيه، ويرد إلى ذلك الأصل بعينه. وإنما شرطنا اتحاد الأصل، لأنه لو رد إلى أصل آخر لكان حكم ذلك الأصل الآخر إما أن يكون حاصلًا في الأصل الأول، أو لا يكون. فإن كان الأول: كان رده إليه أولى؛ لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك العلة فيه، ويمكنه منع وجودها في أصل آخر.

المسألة الثانية

وإن كان الثاني: كان أصل القياس الأول نقضًا على تلك العلة؛ لأن ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم ذلك الحكم. وهذا غير جامع لأنه مخرج منه ما يكون من القلب في غير القياس، ومعلوم أن القلب غير مختص بالقياس، فإن أراد تعريف نوع خاص منه وهو الذي يكون في القياس صح. إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي يبحث فيه في هذا المقام فإنما يبحث فيما يتعلق بالقلب المختص بالقياس دون غيره. المسألة الثانية اعلم أن من الناس من أنكر إمكان القلب على الوجه الذي تقدم تعريفه محتجًا بوجهين: أحدهما: أن الحكمين أعني ما يثبته المستدل وما يثبته القالب إن لم يتنافيا فلا قلب؛ إذ لا امتناع في أن تكون العلة الواحدة مقتضية لحكمين غير متنافين فلا تفسد به العلة، وهذا يعرفك فائدة قوله في التعريف: نقيض الحكم المذكور وإن تنافيا استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه، فلا يكون قلبًا؛ إذ لابد فيه من الرد إلى ذلك الأصل بعينه. وجوابه: أن الحكمين غير متنافيين لذاتهما فلا جرم يصح اجتماعهما في الأصل، لكن دل دليل منفصل على امتناع اجتماعهما في الفرع إذا أثبت القالب الحكم الآخر في الفرع بالرد إلى الأصل ومشهادة اعتباره امتنع ثبوت الحكم الأول فيه؛ لما عرفت أن الحكمين في الفرع لا يجتمعان لدلالة منفصلة، وهذا الكلام كما هو جواب عن شبهة منكر القلب فهو ابتداء دليل على إمكان القلب. وثانيهما: أن العلة المستنبطة يجب أن تكون مناسبة للحكم، والشيء

الواحد لا يناسب المختلفين فضلًا عن أن يناسب المتنافيين. وجوابه: أنا نمنع وجوب مناسبتها؛ وهذا لأنه يجوز أن تعرف علية الوصف بغير المناسبة. سلمناه لكن يجوز أن تكون المناسبة إقناعية ولما قلب القالب ظهر إقناعية الأولى. ثم اعلم أن القلب معارضة خاصة، فعلى هذا للمستدل أن يتكلم عليه بكل ما للمعترض أن يتكلم على دليل المستدل من منع الحكم في الأصل، والقدح في علته بالنقض، وعدم التأثير، وسائر القوادح، حتى القلب فله أن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القلب مناقضًا لحكمه الذي ادعاه أولًا، وإذا قلب قلبه فسد قلبه وسلم للمستدل أصل القياس الذي ذكره أولًا. مثاله: قولنا في بيع الفضولي: تصرف للغير من غير إذنه فوجب أن يصح كالشراء. فيقلبه القالب بأن يقول: تصرف للغير من غير إذنه فينبغي أن لا يلغو تصرفه كالشراء فإنه لا يلغو بل يصح في حق المباشر، وإذا لم يلغو وجب أن يصح في حق المالك، ضرورة أنه لا قائل بالفصل. فيقلبه المستدل بأن يقول: تصرف للغير من غير إذنه فوجب أن لا يصح بالنسبة إلى ذلك الغير، [كالشراء فإنه لا يصح بالنسبة إلى من اشتري له] [مطلقًا ضرورة أنه لا قائل بالفصل].

المسألة الثالثة في أقسام القلب

وفي هذا المثال نظر من حيث إن المدعي في القياس الأول إن كان عدم الصحة مطلقًا فيمنع الخصم ثبوت هذا الحكم في الأصل، وإن كان في حق ذلك الغير فيرجع قلب القلب إلى عين الأول/ (207/ أ) ومن الناس من أنكر أن يكون القلب معارضة، بل هو إفساد العلة، فعلي هذا ليس للمستدل أن يتكلم على قلبه بكل ما للقالب أن يتكلم على دليل المستدل لما تقدم في النقض، ثم امتياز القلب عن مطلق المعارضة إنما هو بأمرين لا غير: أحدهما: أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة، وفي سائر المعارضات يمكن. وثانيهما: أنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل؛ لأن أصل القالب وفرعه هما أصل المستدل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات. المسألة الثالثة في أقسام القلب: اعلم أن كل واحد من الحكمين المذكورين في قياس المستدل وقلب المعترض إما أن يكونا مفصلين، أو مجملين، أو أحدهما مفصلًا والآخر مجملًا. والمفصلان لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما يدل على فساد مذهب الخصم صريحًا أو ضمنًا، أو يكون أحدهما يدل صريحًا والآخر ضمنًا أي بواسطة فهذه أقسام خمسة. أولها: وهو ما يكون الحكمان مفصلين وكل واحد منهما يدل على فساد مذهب الخصم وهذا ينقسم إلى قسمين:

لأنه إما أن يدل مع ذلك على صحة مذهب نفسه صريحًا أو لا. مثال الذي لا يدل على صحة مذهب نفسه صريحًا قولنا في مسح الرأس: عضو من أعضاء الوضوء، فلا يتقدر بالربع كغيره من الأعضاء. فيقول الخصم [في قلبه: عضو من أعضاء الوضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه الاسم] كغيره من الأعضاء فإن كل واحد من هذين الحكمين يدل صريحًا على إبطال مذهب الخصم، ولا يدل على صحة مذهب نفسه، فإن عدم التقدير بالربع لا يدل صريحًا على الاكتفاء بأقل ما ينطلق عليه الاسم، وكذلك عدم الاكتفاء بأقل ما ينطلق عليه الاسم لا يدل صريحًا على التقدير بالربع، نعم يدل عليه بواسطة اتفاق الإمامين على أحد الحكمين ونفي ما عداهما. مثال الذي على الأمرين معًا بطريق الصراحة، قولنا في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، فيقول الخصم: طهارة لا تراد لأجل الصلاة فتجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإنه يجوز بالتيمم، فإن كل واحد من هذين الحكمين يدل على الأمرين جميعًا. وثانيها: وهو ما يكون كل واحد منهما يدل على بطلان مذهب الخصم بواسطة كقول الحنيفة في صحة بيع الغائب: عقد معاوضة مع عدم رؤية

المعقود عليه فوجب أن يتمكن المشتري من الفسخ إذا وجد به برصًا أو جنونًا كما في النكاح، فنقول فوجب أن لا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح، فإنه يلزم من التمكن من الفسخ انعقاد البيع قطعًا، ويلزم من عدم ثبوت الخيار عدم انعقاده؛ ضرورة أنه لا قائل بالانعقاد مع عدم خيار الرؤية. وثالثها: وهو ما يكون أحدهما يدل صريحًا والآخر بواسطة، وهو كقولهم في هذه المسألة: عقد معاوضة فينعقد مع عدم رؤية المعقود عليه كالنكاح فنقول كما قلنا في المثال الأول. ورابعها: وهو ما يكون الحكمان مجملين وذلك لا يصح، لاستحالة اجتماع الشيئين المتنافيين. مثاله: قولهم في الاعتكاف: لبث في مكان مخصوص، فاحتاج إلى معني يصير به قربة كالوقوف، فنقول: فلم يحتج إلى معني يصير به قربة كالوقوف فإن الحكمين لا يوجدان في الأصل صريحًا إذ الوقوف يحتاج إلى معني يصير به قربة. وخامسها: وهو ما يكون أحدهما مجملًا والآخر مفصلًا وذلك يصح كما في المثال المتقدم، فإنهم إذا قالوا فيه ما تقدم وقرروه: بأنه يلزم من ذلك كون الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف؛ لأن كل من قال باشتراط معني في كون الاعتكاف يقع عبادة قال أنه هو الصوم، فالقوم باشتراط معني غير ذلك فيه خلاف الإجماع فنقول نحن: لبث في مكان مخصص فوجب أن يشترط الصوم في كونه عباده كالوقوف.

ثم اعلم أن منهم (من) لم يقبل القلب المفصل الذي يدل بواسطة في معارضة الذي يدل مفصلًا من غير واسطة، وكذا القلب المجمل في معارضة الذي يدل مفصلًا لاحتياج كل واحد منهما إلى مقدمة لا يحتاج إليه دليل المعلل وهو حق إن قيل القلب: معارضة كما أن الدليل الذي تكون مقدماته أكثر مرجوحًا بالنسبة إلى الذي لا يكون كذلك، هذا أن كان عدم قبوله لكونه مرجوحًا، فإن الدليل المرجوح لا يكون مقبولًا مع وجود الراجح وإن كان ذلك لكونه ليس بدليل إذ ذاك فلا وهو ظاهر. واعلم أن من القلب ما يسمي "قلب التسوية" وهو إنما يقع في القسم الخامس لأن من ضرورة التسوية الإجمال؛ ولهذا لم يقبله من لم يقبل القلب المجمل، وبعض من قبله لم يقبله أيضًا؛ لأن مقصود القالب من التسوية مناقض لما في الأصل فإنه يقصد التسوية بينهما في [عدم الصحة والثابت في الأصل التسوية بينهما] في الصحة وبه قدح أيضًا في تسميته التسوية، وهو ضعيف فإن القياس على الأصل إنما هو من حيث عدم الاختلاف، وهو ثابت فيه لكن عدم اختلاف الأصل في ثبوت الصحة فيهما وفي الفرع في عدم ثبوت الصحة فيهما وهو [ثابت فيه لكونه عدم اختلاف الأصل] غير مناف لاشتراك في أصل الاستواء. مثاله: قول الحنيفة في طلاق المكره: مكلف مالك للطلاق، فيقع طلاقه كالمختار. فنقول: مكلف مالك للطلاق فينبغي أن يستوي إيقاعه وإقراره كالمختار.

ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه؛ لأن إقراره غير معتبر وفاقًا، فوجب أن/ (208/ أ) لا يعتبر طلاقه، وإلا لم تحصل التسوية بينهما، فيكون هذا إنما يدل على الحكم المدعي بواسطة اتفاق الإمامين على أن إقراره غير معتبر كما في القلب المجمل على ما عرفت ذلك من قبل. ثم لا يخفي عليك أن أعلى مراتب القلب ما يدل على بطلان مذهب الخصم وإثبات مذهب نفسه صريحًا [ثم ما يدل على بطلان مذهب خصمه صريحًا، ثم ما يدل على إثبات مذهبه صريحًا] ثم ما يدل عليهما، أو على أحدهما ضمنًا.

الفصل الرابع في القول بالموجب

الفصل الرابع في القول بالموجب

الفصل الرابع في القول بالموجب قال الإمام: وهو عبارة عن: تسليم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف. وهو غير جامع؛ إذ لا يتناول غير القياس، والأولى أن تبدل العلة بالدليل حتى يتناوله. وهو قادح في الدليل؛ لأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي رام إثباته أو نفيه. ثم اعلم أن القول بالموجب إما أن يورد على دليل يثبت به المستدل مذهبه، أو يبطل به مذهب الخصم.

فإن كان الأول: فإما أن يكون المطلوب إثبات الحكم [عامًا أو خاصًا] فإن كان الأول لم يتصور فيه إيراد القول بالموجب عليه نفيًا كان أو إثباتًا، لأنه لابد فيه من التزام موجب الدليل عامًا أو خاصًا، فإذا التزمه على العموم استحال بقاء الخلاف بعده، وإن التزمه في صورة خاصة لم يكن [ذلك] قولا بالموجب. مثاله من القياس والحكم مثبت في قولنا في إثبات وجوب القيام في السفينة في الصلاة: إن القيام فرض يجب في الصلاة في غير السفينة فوجب في السفينة أيضا كالقراءة، فلو قال المعترض: أقول بموجبه في المصلي في السفينة إذا كانت واقفة لم يستقم؛ لأن الذي التزمه المعترض ليس هو موجب قياس المستدل؛ لأن موجبه وجوب القيام في الصلاة في السفينة مطلقًا أي على جميع الأحوال. مثاله من النفي قولنا: مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كالدهن فلو قال الخصم: أقول بموجبه في المائع النجس لم يصح؛ لأن الذي التزمه ليس موجب دليله؛ لأن موجبه نفي إزالة الخبث عنه في جميع الأحوال. وإن كان الثاني وهو أن يكون المطلوب إثبات الحكم [على جهة الخصوص فيتصور ذلك فيه سواء كان إثباتًا، أو نفيًا، أما إذا كان إثباتًا فبأن يكون المطلوب إثبات الحكم] في النوع أو في حالة مخصوصة واللازم من دليل

المستدل إثباته في صورة ما من الجنس أو على الإطلاق أي في الجملة. مثال الأول: ما قيل في وجوب الزكاة في الخيل: حيوان تجوز المسابقة عليه فتجب فيه الزكاة كالإبل، فيقول الخصم: أقول بموجبه إذ تجب فيه زكاة التجارة، والنزاع إنما هو في زكاة العين، ودليلك إنما يقتضي وجوب الزكاة في الجملة، هذا لو سلم أن زكاة التجارة يصدق فيه قولنا فتجب فيه الزكاة ولو قال المستدل أن هذا [ليس] قولًا بالموجب؛ لأن كلامنا في زكاة العين، والألف واللام التي في لفظ الزكاة المذكورة في القياس للعهد فينصرف إليه، وحينئذ لا يكون ما التزمه قولا بالموجب لم يستقم؛ لأن العبرة بدلالة الألفاظ لا بالقرائن، وشيء من ألفاظ القياس من العلة وغيرها لا يتأتي ذلك بل يصدق عليه فكان قولًا بالموجب. فإن قلت: فأي فرق بين هذا وبين ما تقدم من المثال وقد قلتم أن ذلك ليس قولًا بالموجب؟ قلت: لأن قولنا فرض يجب في الصلاة في غير السفينة فيجب في السفينة ظاهر في وجوبه في السفينة في جميع الأحوال، فالتزامه في بعض أحوال السفينة وهو حال وقوفها لم يكن قولًا بموجبه بخلاف قولنا: فتجب فيه الزكاة فإنه ليس ظاهرًا في زكاة العين بحسب جوهر لفظه، ولا في جميع أنواع الزكاة، ولا يراد ذلك منه حتى يكون التزام وجوب بعض أنواعه حينئذ ليس قولًا بالموجب، بل هو ظاهر في وجوب ما يصدق عليه أنه زكاة، فإذا التزم بعض أنواعها كزكاة التجارة فقد التزم موجب الدليل فكان قولًا بالموجب، وكلام بعضهم يدل على أن هذا النوع من الالتزام قول بالموجب أيضًا، لكن ما ذكرناه أظهر وإن كان محتملًا لما ذكروه.

مثال الثاني نحو قول الحنفية في مال الضمان والمغصوب والضال: أنه لو وجبت الزكاة فيها لوجب أداؤها، لأنه مال وجبت الزكاة فيه فيجب أداؤها [كغيره من الأموال الزكاتية، فيقول الخصم: أقول بموجبه أنه يجب أداؤها] إذا وجده والكلام فيما قبله ودليلك لا يفيده. ونحو قولنا في الملتجئ إلى الحرم: أنه وجد سبب جواز استيفاء القصاص فكان [استيفاؤه جائزًا كما في حق غيره، فيقول الخصم: أقول بموجبه فإن] استيفاء القصاص جائزًا لا نزاع في ذلك، وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم وما ذكره لا يفيده. وأما إذا كان نفيًا فيتصور ذلك أيضًا فيه على قياس ما سبق في الإثبات كقولنا في القهقهة: أنها غير ناقضة للوضوء خارج الصلاة، وكذا في الصلاة كغيرها/ (209/ أ) من الأفعال نحو الأكل والكلام، فيقول الخصم: أقول بموجبه أنها لا تنقض في صلاة الجنازة. وإن كان الثاني وهو أن يكون القول بالموجب يورد على دليل يبطل به مذهب الخصم وهو على قسمين:

أحدهما: أن يكون المطلوب نفي الحكم، واللازم من دليل المستدل نفي كون شيء معين موجبًا له كقولنا في القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص [كالتفاوت في المتوسل إليه، فيقول الخصم: أقول بموجبه وهو أن التفاوت في الوسيلة لا يمتنع وجوب القصاص] فلم لا يمنع القصاص بشيء آخر نحو وجود مانع آخر، أو فقد شرط، أو عدم المقتضي؟ وما ذكرته لا يفيد امتناع شيء من ذلك. وثانيهما: أن يكون المطلوب نفي علية ما هو علة الحكم عند الخصم واللازم من القياس نفي علية ملزوم علته، كقولنا في أن الإجارة لا تنفسخ بالموت: بأن الموت معني يزيل التكليف فلا تنفسخ به الإجارة كالجنون، فيقول الخصم: أقول بموجبه، لا تنفسخ بالموت، وإنما تنفسخ عنده لزوال الملك، ولهذا لو باع العين المستأجرة ورضي المستأجر بالبيع انفسخت الإجارة، والقول بالموجب غير متصور في الأصل، لأن القياس ما ذكر لإثبات الحكم فيه فلم يتصور فيه القول بالموجب. واختلفوا في أنه هل يجب على المعترض إبداء سند القول بالموجب أم لا اختلفوا فيه: فذهب بعضهم: إلى أنه يجب لكونه أقرب إلى ضبط الكلام وصونه عن الخبط؛ وذلك لأنا لو لم نوجب ذلك عليه لم نأمن منه أن يورد القول بالموجب وإن كان ما أبطله المستدل هو مأخذ مذهبهم عنادًا، أو قصدًا لإبطال كلام المستدل بخلاف ما إذا أوجبنا عليه ذلك فإنه لا يقدم على ذلك خوفًا من ظهور

عناده ومكابرته. وذهب الآخرون إلى أنه لا يجب عليه ذلك؛ لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ مذهبه فيصدق فيما يقوله كما في غيره من الأخبار على أنه لا فائدة فيه؛ فإنه لو أوجب عليه ذلك فأبداه فأما أن يمكن المستدل من الاعتراض عليه، أو لا يمكن، والأول باطل، لما فيه من انتشار الكلام وقلب الموضوع، فإنه حينئذ يصير المستدل معترضًا والمعترض مستدلًا، والثاني يحصل المقصود؛ لأنه إذا علم أنه لا يعترض عليه فيما يقول فربما يقول ما لا يصح من جعل ما ليس بعلة علة. ثم الجواب عن القول بالموجب بوجوه: أحدها: أن يبين المعلل أن الذي التزم فيه المعترض القول بموجب دليله هو صورة النزاع، أو من جملة صورها إما بالنقل الصريح عن كتاب معتبر لهم، أو عن إمام لهم اتفق على علمه وعدالته، أو بأنه مشهور بالخلاف، أو أن مأخذه عند الخصم كذا وهو حاصل فيما دل عليه كلام المعلل. وثانيها: أن يتبين أنه وإن لم يكن محل الخلاف لكن يلزم منه الحكم في محل الخلاف كما إذا استدل على أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي، فقال المعترض أقول بموجبه فإنه عندي غير جائز بل هو واجب، فيقول المستدل: يلزم من عدم الجواز عدم الوجوب قطعًا؛ إذ المراد من الجواز المنفي رفع الحرج عن الفعل لا الإباحة، ولا شك جزؤ الواجب ويلزم من انتفاء جزئه انتفاؤه قطعًا، وهذان الجوابان يختصان بما إذا كان القول بالموجب يصرف الخلاف إلى غير ما دل عليه ظاهر كلام المستدل. وثالثها: أن يقول: إن هذا إنما يكون قولًا بالموجب إذا لم يكن كلامي يجري على ظاهره كما تقدم من المثال لكن ذلك باطل وهو على خلاف الأصل

فلم تكن تلك الصورة قولًا بالموجب. ورابعها: أن يقول: إن هذا ليس قولًا بالموجب؛ لأنه إنما يكون كذلك أن لو كان تمام موجب الدليل حاصلًا فيه، لكنه غير حاصل فيه لأنه فقد عنه المعني الفلاني وهو مدلول الدليل لفظًا أو معني لو أمكنه بيان ذلك.

الفصل الخامس في الفرق

الفصل الخامس في الفرق

الفصل الخامس في الفرق وفيه مسائل: المسألة الأولى اعلم أن الفرق عبارة عن إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون على مستقلة للحكم، أو جزء علته. واختلفوا في قبوله وقدحه في العلة: فقبله بعضهم وقال بقدحه في العلة وهو المختار. ومنع منه الباقون. والكلام فيه نفيًا وإثباتًا مبني على أنه يجوز تعليل الحكم لواحد بعلتين أم لا؟ فلنتكلم فيه: المسألة الثانية يجوز تعليل الحكم الواحد نوعًا المختلف شخصًا بعلل مختلفة وفاقًا، وذلك نحو أن يعلل إباحة قتل شخص بردته. [والآخر بالقصاص، والآخر بالزنا بعد الإحصان. واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلل مختلفة نحو

إباحة قتل الشخص الواحد بردته] وقتله الموجب للقصاص: فمنهم من منع ذلك مطلقًا، قيل هو اختيار القاضي أبي بكر وإمام الحرمين. وقد نقل عن القاضي جوازه مطلقًا، والتفصيل بين المنصوصة والمستنبطة. والأشهر عن الإمام أنه يجوز عقلًا لكنه/ (210/ أ) لم يقع شرعًا. ومنهم من جوز ذلك مطلقًا وهو مذهب أكثر الفقهاء. ومنهم من فصل فجوز ذلك في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر والغزالي والإمام. ومنهم من عكس.

احتج الأولون بوجوه: أحدها: أنه لو كان الحكم الواحد معللًا بعلل مختلفة، لم يخل إما أن يستقل كل واحد منها بالتعليل، أو لا يستقل واحد منها بل به لا يتم إلا بمجموعها، أو يستقل أحدها به دون البواقي، والأقسام الثلاثة باطلة، والتعليل بالعلل المختلفة باطل. أما الأول: فلأنه لا معني لكون الوصف علة مستقلة إلا أنه علة له دون غيره، فلو كان كل واحدة منها علة مستقلة بالتعليل بهذا التفسير، لزم أن لا يكون كل واحدة منها علة، فضلًا عن أن تكون مستقلة. وأما الثاني: فهو أيضًا باطل؛ لأنه على نقيض ما فرض من الملزوم فكان باطلًا وبتقدير أن لا يكون باطلًا فالمقصود حاصل؛ لأنه حينئذ لا يكون ذلك الحكم معللًا إلا بعلة واحدة. وأما الثالث: فهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ يلزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر وهو باطل، وبتقدير أن لا يكون باطلًا فالمقصود حاصل على ما عرف ذلك من قبل. وهذا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أنه لا معني لكون الوصف علة مستقلة للحكم إلا ما ذكرتم، بل معناه أنه لو وجد منفردًا لكان مقتضيًا له من غير حاجة إلى غيره ومعلوم أن اللفظ منطبق على هذا المفهوم وحينئذ لم يلزم ما ذكرتم من المحذور وما يقال في جوابه: بأن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد، والتقسيم في حالة الاجتماع، فعلي ما سبق ضعيف أيضًا؛ لأنه ليس معني قولنا: "لو وجد منفردًا [أنه لو وجد منفردًا] حالة

الاجتماع حتى يكون فرض حالة الاجتماع منافيًا له بل معناه: أن العلة المستقلة مآلها هذه الحيثية ومعلوم أن فرض حالة الاجتماع لا ينافي هذا المفهوم، وحينئذ حاصل الكلام يرجع إلى أنه لم لا يجوز أن يكون الحكم معللًا بكل واحد من العلل المختلفة التي شأنها أنه لو وجدت واحدة منها وحدها لاستقلت بالاتحاد؟ ومعلوم أن التقسيم المذكور في الدليل لا يبطل هذا الاحتمال. وثانيها: أنه لو كان الحكم عند اجتماع العلل معللًا بكل واحدة منها لزم أن لا يكون معللا بكل واحدة منها، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن المعلول مع العلة المستقلة يصير واجب الثبوت بها غنيًا عن غيرها، والغني عن الشيء لا يكون معللًا به، فلو كان الحكم الواحد معللا بكل واحدة من العلل المستقلة لزم أن يكون غنيًا عن كل واحدة منها، وحينئذ يلزم أن لا يكون معللًا بكل واحدة منها هذا خلف. وزيف بأن هذا إنما يلزم إذا فسرت العلة بغير المعرف، فأما إذا فسرت به فلا فإن اجتماع المعرفات المستقلة على معرف واحد جائز. وثالثها: أن جواز تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة يفضي إلى أحد الأمور الثلاثة: وهو إما تحصيل الحاصل، أو اجتماع المثلين، أو نقص العلة والأمور كلها باطلة فبطل التعليل بأكثر من علة واحدة. بيان الملازمة: أن [أي] علة من تلف العلل إذا وجدت فلابد وأن تقتضي [حصول الحكم، وإلا لحكم النقض من غير مانع وهو باطل لما تقدم. فإذا حصلت العلة الثانية فإن اقتضي] حصول ذلك الحكم بعينه، لزم تحصيل

الحاصل، أو مثله لزم اجتماع المثلين، أو غيرهما أو لم يقتض شيئًا لزم النقض. وجوابه: أنه لا ينفي حيث تحصل العلل دفعة واحدة ويكون الحكم معللًا بكل واحدة منها. سلمناه لكن الحكم للحاصل بالعلة السابقة إنما يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة إذا فسرت العلة "بالمؤثر"، فأما إذا فسرت "بالمعرف" فلا نسلم امتناعه. سلمنا امتناعه مطلقًا، لكن النقض لمانع وهو غير ممتنع على ما تقدم تقريره فإن حصول الحكم أولًا مانع من حصول ثانيًا. ورابعها: أن العلة يحب أن تكون مناسبة، ومناسبة الواحد للمختلفين تقتضي مساواته لهما، ومساواته لهما يقتضي مخالفته لنفسه؛ لأن المساوي لمختلفين مختلف، وهو محال فالملزوم مثله. وجوابه: أنا لا نسلم أن العلة يجب أن تكون مناسبة، وقد عرفت سنده فيما تقدم. سلمناه كلن لا تسلم امتناع مخالفة الشيء لنفسه باعتبارين مختلفين. سلمناه لكن لم يجوز أن تشترك العلتان في جهة واحدة وتتحقق المناسبة بينهما وبين الحكم بحسب تلك الجهة. وخامسها: لو جاز اجتماع العلل على الحكم الواحد، فإما أن تكون كل واحدة من تلك العلل تؤثر في كل الحكم، أو في بعضه، والقسمان باطلان فبطل الاجتماع.

أما الأول، فلأنه حينئذ يلزم إيقاع الواقع وتحصيل الحاصل؛ لأن ذلك الحكم لما حصل بواحدة منها فلو حصل بالأخرى لزم ما تقدم. وأما الثاني فلوجوه: أحدها: أن الحكم الواحد لا يتبعض. وثانيها: أن ذلك يقتضي أن يكون معلول كل واحدة منها غير معلول الآخر، فلم يحصل الاجتماع على معلول/ (211/ أ) واحد [وهو خروج عن المسألة. وثالثها: أن ذلك يقتضي أن لا يكون كل واحدة منها مستقلة] وهو خروج عن المسألة أيضًا. وجوابه: لا يخفي مما تقدم. وسادسها: الإجماع، وتقريره: أن الأئمة تعلقوا بالترجيح في كون العلة المرجحة هي العلة بعد ذكر دلالتهم على صحة عللهم، واكتفوا بذلك عن ذكر الدلالة على بطلان مذهب مخالفهم كما في ربا الفضل وغيره ولو كان التعليل بأكثر من العلة والحدة جائزًا لم يفد ذلك؛ إذ لا يفيد الرجيح سوى ظهور العلة، ومن جوز التعليل بأكثر من الواحدة لم يذكر أن يكون بعضها أكثر من البعض. وجوابه: أن ذلك بإجماع من القائسين وليس فيه الحجة بل في إجماع مجموع الأمة سلمناه كلن الترجيح متضمنًا للإبطال إذ لا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح.

وهذا فيه نظر. سلمناه لكن حيث أجمعوا على أن العلة فيه واحدة. واحتج المجوزون بوجوه: أحدهما: أن العلل إذا اجتمعت في الشخص الواحد كالقتل والردة والزنا. فإما أن يقال: أن الحكم لا يثبت فيه أصلًا، وهو باطل قطعًا. أو يثبت بواحدة معينة منها، وهو أيضًا باطل؛ لأنه يلزم الترجيح من غير مرجح. أو بواحدة لا بعينها، وهو أيضًا باطل؛ لأن ما لا تعين له لا وجود له في نفسه، وما لا وجود له لا يصلح أن يكون علة. أو بمجموعها، وهو أيضًا باطل؛ لأنه حينئذ يكون كل واحدة منها جزء العلة وليس كلامنا فيه. فيتعين أن يكون الحكم معللًا بكل واحدة منها. لا يقال: العلل أن ترتبت فالحكم معلل بالسابق منها، وشيء من تلك المفاسد المذكورة غير لازم حينئذ وإلا فجواز وجودها دفعة واحدة ممنوع؛ لأنا نقول: منع جواز وجودها دفعة واحدة منع مكابرة؛ وهذا لأنا نعلم قطعًا أنه لا منافاة بين تلك الأمور، فيصح اجتماعها ووجودها دفعة واحدة. ثم استقراء الأسباب والأحكام يحققه؛ إذ يمكن أن يصدر من الواحد في ساعة [واحدة] الزنا والردة معًا، وكذلك قد يوجد اللمس والمس معًا كما إذا مس الرجل فرج المرأة، وكذلك يمكن أن يحرم [وطء] المرأة لحيض وإحرام يوجدان منها معًا، وكذلك لحيض واعتداد، أو لإحرام واعتداد

أو بكلها، والأقوى أنك إذا جمعت لبن أختك وزوجة أخيك وأوجرت به المرتضعة فإنها تحرم عليك؛ لأنك خالها وعمها فهذه الصور تدل على وقوع اجتماع الأسباب دفعة واحدة فضلًا عن جوازه. وحينئذ نسرد ما ذكرنا من التقسيم فيه ونبطل كلها بما تقدم سوى كون الحكم معللًا بكل واحدة منها. وأما الاستدلال بهذه الصور على المطلوب، وهو كون الحكم معللًا بعلتين من غير ما تقدم من التقسيم فضعيف؛ لأن الخصم يمنع ذلك إذ ليس فيه دلالة على ذلك بل ليس فيه دلالة إلا على أن السببين أو أكثر قد اجتمع على الحكم، فأما أن ذلك الحكم معلل بكل واحدة منها [أو بواحدة منها] فلا. فإن قلت: هذه الدلالة إنما تتم أن لو كان الحكم الحاصل في المحل عند وجود تلك الأسباب معًا حكم واحد وهو ممنوع، بل هناك أحكام متعددة بحسب تعدد تلك العلل؛ وهذا لأن جواز القتل بسبب الردة غير جوازه بسبب القصاص، وغير جوازه بسبب الزنا بدليل: أنه إذا رجع إلى الإسلام سقط عنه قتل الردة، وبقي عليه القتل بسبب القصاص والزنا وإذا عفي عنه سقط الأول وبقي الثاني، ولو كان الحكم واحدًا لاستحال ذلك. وأيضًا: فإن القتل بسبب القصاص حق للآدمي، يجوز أن يسقطه وله أحكام تخصه، نحو أن له بدلًا، وأنه يستوفي بما قتل وأن إسقاطه مندوب إليه، والقتل بسبب الردة ليس لسقوطه سبب الرجوع إلى الإسلام،

وله أحكام تخصه، نحو: أن يقدم عليه إلا بعد الاستتابة وأنه يجب استيفاؤه، وأنه يقتل بالسيف، والقتل بسبب الزنا ليس لسقوطه طريق أصلًا، وله أحكام تخصه، نحو: أنه يدرأ بالشبهة وأنه لا يستوفي إلا بالرجم، وأنه إذا هرب لا يتبع، واختلاف هذه الأحكام يدل على اختلاف متعلقاتها. قلت: الدليل على أن الحكم واحد هو: أن النكاح أمر واحد وحياة الشخص الواحد واحدة، ومقابل الواحد واحد، فتحريمه وإزالتها واحد، والإذن في إزالة الواحد واحد، فجواز القتل أمر واحد وإذا ثبت أن تحريم النكاح وجواز القتل كل واحد منهما واحد في نفسه فنقول عند اجتماع الأسباب عليه: لو اختلف في نفسه لزم اختلاف ماهية الشيء لحصول أمر عارضي خارج عن ماهيته فإن السبب وحصوله وحده أو مع غيره، خارج عن ماهية السبب الذي هو الحكم لكن ذلك باطل قطعًا، نعم الذي سيحصل للحكم عند اجتماع الأسباب زائدًا على الذي يحصل له عند واحد منها إنما هو تعدد الإضافة، وهو الزائل عند زوال واحد منها لا نفس الحكم كما ذكرتم، فإن ذلك ممنوع لما تقدم، والأحكام المختلفة التي ذكروها فلم لا يجوز أن يقال: بعضها/ (212/ أ) عارضة الحكم ككونه حق الله أو حق العبد، وبعضها تابعة لتجديد تلك الإضافة المتجددة وحينئذ لا يلزم اختلاف الحكم في نفسه. ثم الذي يحققه: أنا إذا علمنا جواز القتل بسبب، ثم طرأ عليه سبب آخر له، فإنه لا يتغير الاعتقاد الأول ولم يحصل لنا العلم بتجدد أمر له سوى كونه مضافًا إليه ولا شك أنه خارج عن ماهيته، ولو كان الحكم مختلفًا لما كان كذلك. وهذا الجواب بعينه عما ذكر من الوجهين في الدلالة على تعدد الأحكام

على أنهما لا يأتيان فيما تقدم من صورة إيجار اللبن. فإن قلت: هب أنه يمكن اجتماع الأسباب وأن الحكم واحد، لكن لم لا يجوز أن يقال: إن تلك الأسباب تشترك في أمر واحد والعلة إنما هو ذلك المشترك. قلت: هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض محرم للوطء، وكذلك العدة والإحرام فالقول بأن العلة هي القدر المشترك بينه وبين غيره مخالف لهذا الإجماع فكان باطلًا. ولأن بعض هذه الأمور أمر حقيقي، وبعضها أمر اعتباري ولا اشتراك بينهما إلا في عموم أنه أمر ما، أو ما يجري مجراه الذي لا يمكن جعله علة الحكم وإلا لانتقض بالطم والرم. وثانيها: أن علل الشرع أمارات ومعرفات، ويجوز اجتماع المعرفات والأمارات على شيء واحد فكذا العلل.

وثالثها: أنه لو امتنع ذلك: فأما أن يمتنع لكون اجتماع العلل دفعة واحدة ممتنعاً، وهو باطل لما تقدم. أو لامتناع مقارنة الحكم مع العلل، بناء على أنه يجوز أن يكون شرط صحة مقارنته لعلة مع العلل عدم الأخرى وهو أيضًا باطل. أو أولًا: فلأنه خلاف الواقع، فإن الواقع مقارنة الحكم للعلل، أي هو حاصل حيث كانت العلل حاصلة، وهذا لا شك فيه ولا ريب، وإنما النزاع في أنه معلل بواحد منها، أو بكلها، وذلك لا يقدح في أصل الحصول معها. وأما ثانيًا: فلأن الأمة مجمعة على أن الحيض والعدة والإحرام كل واحد منها على لتحريم الوطء مطلقًا، وذلك يفيد أن كل واحد منها على سواء وجد الآخر أو لم يوجد. وأما ثالثًا: فلأنه يقتضي أن يكون القيد العدمي شرطًا لعلية العلة وهو باطل كما عرفت آنفًا. وإذا ثبت هذا فنقول: إذا كان كل واحد منها علة له سواء وجد الآخر أو لم يوجد وجب صحة مقارنته لكلها لصحة مقارنة الحكم لعلته أو لامتناع انفراده مع اجتماعها، وهو أيضًا باطل؛ لأن ذلك الامتناع ليس بذاتي له، وإلا لكان كل من تصور هذا الاحتمال تصور امتناعه، لاستحالة تصور الشيء بدون ما هو ذاتي له فلو كان ممتنعًا لكان امتناعه لغيره، لكن الأصل عدم ذلك الغير، فوجب أن لا يكون ممتنعًا فيكون جائزًا وهو المطلوب.

واحتج من لم يجوز ذلك في المستنبطة بوجوه: أحدها: وهو ما ذكره الإمام: "أن الإنسان إذا أعطي فقيهًا فقيرًا قريبًا، احتمل أن يكون الداعي إلى الإعطاء كونه فقيهًا فقط، أو فقيرًا فقط، أو كونه قريبًا فقط، أو مجموعها أو مجموع اثنين منها، وهذه الاحتمالات متنافية؛ لأن قولنا: الداعي إلى الإعطاء هو الفقر [لا غير] ينافي أن يكون غير الفقر داعيًا، أو جزءًا من الداعي، وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية فإن بقيت على حد التساوي امتنع حصول الظن بواحد منها على التعيين: فلا يجوز الحكم بكونه علة. وإن ترجح بعضها، فذلك الترجيح يحصل بأمر وراء "المناسبة والاقتران"؛ لأن ذلك مشترك بين هذه الاحتمالات وحينئذ يكون الراجح هو العلة دون المرجوح وهو ضعيف؛ وهذا لأنا نسلم أن احتمال كونه أعطاه لفقره فقط ينافي احتمال كونه أعطاه لفقهه فقط، لكن لم قلتم: إن احتمال كونه أعطاه لفقره ينافي احتمال كونه أعطاه لفقهه أيضًا كما في المنصوصة؟ ولا نسلم أن هذا في قوة ذاك، وأين الدليل عليه؟ ثم الذي يدل على أنه ليس في قوة ذلك هو: أنه يمكن تقسيمه إليه، وإلى ما ذكرنا، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا بين القسمين: فإن قلت: ذاك بحسب اللغة، أما بحسب العرف فلا لأن قولنا: أعطاه لفقره يفيد في العرف أنه أعطاه له لا لغيره بدليل أن من أراد تكذيبه ومناقضته فإنه يقول: أعطاه لفقهه، ولولا أنه يفيد نفي غيره وإلا لما جاز ذلك. قلت: لا نسلم ذلك؛ وهذا لأن الأصل عدم التغيير، وأما التكذيب

والمناقضة فلا نسلم أن ذلك على الإطلاق، بل حيث عرف المقصود. سلمناه لكن لا يدل على المقصود، لاحتمال أن ذلك بطريق النقل للفظ عن وضعه الأصلي، لا لأنه لا يجوز تعليل الحكم بعلتين مختلفتين. وثانيها: أن الصحابة والأئمة من بعدهم أجمعوا على قبول الفرق: وذلك يدل على أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين. بيان الأول: بما روى أن عمر- رضي الله عنه- لما شاور عبد الرحمن في قضية المجهضة قال له عبد الرحمن: إنك مؤدب ولا أري عليك شيئًا، وشاور عليا أيضًا في ذلك فقال له- رضي الله عنه- إن لم يجتهد فقد غشك، وإن اجتهد أخطأ، أري عليك الغرة. ووجه الاستدلال به: أن عبد الرحمن- رضي الله عنه- شبهه بالتأديب والتأديب لكونه مشروعًا/ (213/ أ) مستحقًا يقتضي أن لا يجب بسببه شيء وإن أفضي إلى الهلاك كالحدود، وأن عليا- رضي الله عنه- فرق بينه وبين سائر الزاجرات من الحدود بأن التعزيرات المستحقة والتأديبات المندوبة إنما تجوز بشرط سلامة العاقبة فإذا انتهي إلى الهلاك علمنا فوات شرطه، فلا جرم وجب الضمان بخلاف الحدود المقدرة فإنها تجوز مطلقًا، ولم ينكر عليه أحد منهم فكان إجماعًا على ما تقدم بيانه في الإجماع. بيان الثاني: ظاهر، فإنه لو جاز تعليل الحكم بعلتين لم يكن الفرق قادحًا فيما ذكره الخصم من الجامع، فإنه يجوز حينئذ أن يكون الحكم في الأصل ثابتًا بكل واحد من الجامع والفارق، أو بالجامع ومجموع الجامع والفارق، ويمكن أن يجاب عنه ببعض ما سبق في حجة المانعين مطلقًا.

وثالثها: أن مستند ظن علية المستنبطة إنما هو المناسبة، والاقتران وما يجري مجراه، فإذا وجد ذلك بعينه في وصف آخر لم يكن حصول ظن العلة في أحد الوصفين أولى من حصوله في الآخر، فأما أن لا يحصل أصلًا في كل واحد منهما ولا في مجموعهما وهو باطل، أو يحصل في مجموعهما وحينئذ تكون العلة مجموعهما لا كل واحد منهما، أو يحصل في كل واحد منهما، وهو أيضًا باطل؛ فإنا نجد من أنفسنا اختلال ظن علية الوصف عند الشعور بوصف آخر مناسب لذلك الحكم ولو كان مفيدًا لعلية كل واحد من الوصفين لما اختل ذلك الظن كما في المنصوصتين، فإن الشارع إذا نص على علية وصف الحكم ثم نص على علية وصف آخر فإنه لا يختل ذلك الظن. واحتج من قال بالعكس: أن المنصوصة قطعية فأشبهت العلة العقلية واجتماعها على معلول واحد، شخصي غير جائز، فهذا بخلاف المستنبطة فإنها ظنية فيصح أن يكون كل واحد منهما علة كما أن سبب ظن العلل حاصل في كل واحد من الوصفين. وجوابه: واضح مما تقدم. وأيضًا فإن العلة العقلية إنما لا يجوز اجتماعها على المعلول الواحد لكونها موجبة لا لكونها قطعية، وكونها قطعية لا يقتضي كونها موجبة فلا يلزم من عدم جواز اجتماع تلك العلل العقلية عدم جواز العلل المنصوصة وإن كانت قطعية، ثم هذا لا يتأتي فيما إذا كان النص الدال على علية الوصف من باب الآحاد فإنها منصوصة أيضًا وليست بقطعية.

المسألة الثالثة القائلون بكون الفرق يقدح في العلية اختلفوا في أنه هل هو من تمامه ولوازمه نفيه عن الفرع أم لا؟

المسألة الثالثة القائلون بكون الفرق يقدح في العلية اختلفوا في أنه هل هو من تمامه ولوازمه نفيه عن الفرع أم لا؟ اختلفوا فيه: فمنهم من أوجب ذلك على الفارق؛ لأن مقصود الفرق أن تفترق الصورتان وذلك بيان وجوده في إحدى الصورتين دون الأخرى. ومنهم من لم يوجب ذلك عليه؛ لأنه إن لم يكن موجودًا في الفرع فلا معني لإيجاب ذلك عليه، وإن كان موجودًا فيه فيفتقر المعلل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق وإلا فينقطع الجامع، وهذا فيه نظر بين. ومنهم من فصل فقال: إن صرح في إيراد الفرق بالاقتران بين الأصل والفرع فلابد من نفيه عنه، وإن لم يصرح به بل قصد به بيان أن دليله غير تام بأن يقول: دليلك غير مستقل بالدلالة على المطلوب؛ لأن الدليل دل على أنه لابد من إدراج ذلك الوصف الذي هو الفرق في الدليل حتى يكون دليلًا، وإن كان غير موجود في الفرع فلا يثبت الحكم فيه لعدم حصول الدليل فيه، وإن كان حاصلًا فيه كان الحكم بمجموع الوصفين لا بما ذكرت من الجامع وحده فلا يجب ذلك عليه. هذا كله فيما إذا كان المقيس عليه واحدًا. فأما إذا كان متعددًا فمنهم من منع ذلك لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بواحد منها.

ومنهم من جوز ذلك؛ لأن ذلك من باب تكثير الأدلة وهو أقوى في إفادة الظن. ثم المجوزون اختلفوا في أنه إذا فرق المعترض بين أصل واحد وبين الفرع هل يكفيه ذلك أم لا؟ بل يحتاج إلى أن يفرق بين الفرع وبين كل واحد منها: فذهب قوم إلى أنه يكفيه ذلك، وهو الأصح، لأن إلحاق الفرع بتلك الأصول بأسرها غرض المستدل وإلا لم يعدده وهو غير حاصل، ضرورة أنه لم يكن ملحقًا بالأصل الذي فرق المعترض بينه وبين الفرع فلم يكن ملحقًا بها بأسرها، وحينئذ يحصل غرض المعترض وهو إبطال ما رام المستدل إثباته. ومنهم من قال: لا يكفيه ذلك بل يحتاج إلى أن يفرق بين الفرع وبين كل واحد من تلك الأصول، لأن القياس على كل واحد من تلك الأصول مستقل في إفادة المطلوب، فإذا خرج بعض تلك الأقيسة بالفرق عن إفادته فقد بقي الثاني مفيدًا للمطلوب فيحصل غرض المستدل. واعلم أنه أن كان غرض المستدل من الأقيسة المتعددة إثبات المطلوب بصفة الرجحان وغلبه الظن المخصوص فالفرق المذكور قادح في غرضه، ومحصل لغرض المعترض، وإن كان غرضه إثبات أصل المطلوب أي إثباته برجحان ما فيهما بقي قياس/ (214/ أ) واحد أو أكثر منه سليمًا عن الفرق لم يقدح ذلك في غرضه ولا يحصل به غرض المستدل. ثم الذين لم يكتفوا بالفرق بين الفرع وأصل واحد بل أوجبوا ذكره بينه وبين جميع تلك الأصول اختلفوا في أنه هل يجب أن يكون ذلك الفرق واحدًا لئلا ينتشر الكلام وليكون موافقًا للمستدل فإنه ذكر جامعًا واحدًا في أقيسته على جميع تلك الأصول أم يجوز أن يكون متعددًا؟ فمنهم من ذهب إلى الاحتمال الأول.

ومنهم من ذهب إلى الثاني وهو الأولي؛ إذ الأول يتعذر في الأكثر فيلزم سد باب القدح على المعترض. ثم إذا ذكر المعترض الفرق بين الفرع وبين الأصول واحدًا كان أو متعددًا فهل يكفي للمستدل أن يجيب عنه بالنسبة إلى أصل واحد أو بالنسبة إلى جميع تلك الأصول؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال: بالاحتمال الأول مصيرًا منه بأنه لو قاس عليه فقط في أول الأمر لكان كافيًا له فكذا في الجواب. ومنهم من قال: لا يكفيه ذلك؛ لأنه التزم صحة القياس على كل تلك الأصول فيلزمه أن يجيب بحيث تصح كل تلك الأصول. ومنه يعرف أنه لو فرق بين الفرع وبين بعض [تلك] الأصول هل يجب عليه الجواب أم لا.

المسألة الرابعة

المسألة الرابعة في الجواب عن الفرق وهو من وجوه: أحدها: منع وجود ذلك الوصف الذي أبداه فارقًا في الأصل. وثانيها: المطالبة بتأثير الوصف إن كان طريق إثبات العلة من جهة المستدل غير السبر والتقسيم، فإن كان هو فلا؛ لأنه لما ظهر وصف آخر في المحل يجب على المستدل نفي عليته حتى تثبت علية وصفه. وثالثها: أن يبين أنه ملغي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم الذي يحاول إثباته وإن كان مناسبًا كالذكورة في باب العتق. ورابعها: أن يبين أن وصفه قد استقل بالحكم في صوره دون وصف المعترض، فعند ذلك يلزم عدم اعتباره؛ لأن اعتباره علة يستلزم عدم اعتبار المستقل، واعتبار غير المستقل، وهو ممتنع، واعتباره جزؤ على يقتضي عدم اعتبار ما ثبت اعتباره استقلالًا لفوات ما لم يثبت اعتباره علة ولا جزؤ علة، وهو أيضًا ممتنع فإن بين المعترض في تلك الصورة أيضًا وصفًا آخر غير ما عارض به في الأصل فلابد من إبطاله أيضًا، وإلا لم يثبت استقلال ما ذكر من الوصف لاحتمال أن يكون الحكم فيه ثابتًا بالمجموع أو بوصف المعترض. وخامسها: أن يرجح عليته على علة المعترض بما ستعرف من تراجيح العلل، نحو أن يكون الوصف ظاهرًا حقيقيًا منضبطًا متعديًا وغيرها من التراجيح.

القسم الثالث

القسم الثالث في أمور ظنت أنها تفسد العلة مع أنها ليست

القسم الثالث في أمور ظنت أنها تفسد العلة مع أنها ليست كذلك وفيها مسائل: المسألة الأولى في تقسيم العلة وهو من وجوه: أولها: أن علة الحكم إما محله الذي يثبت فيه. أو جزء من ماهيته وإما العام أو الخاص. أو خارج عن ماهيته. والخارج: إما عقلي، أو عرفي، أو شرعي، أو لغوي. والعقلي: إما نفس المصلحة أو المفسدة وهو التعليل بالحكمة كقولنا: شرع القصاص تحصيلًا لصيانة النفوس عن الإتلاف، وحرمت الخمر دفعًا لمفاسده. وأما أمارتها كقولنا: جهالة أحد العوضين موجب لفساد البيع فإن الفساد في الحقيقة إنما هو معلل بتعذر التسليم، والجهالة أمارة عليه. وإما صفة حقيقية كقولنا: مطعوم فيكون ربويًا. أو صفة إضافية كقولنا: مكيل فيكون ربويًا.

أو صفة سلبية كقولنا: في طلاق المكره لم يرض به فلا يقع. أو ما يتركب من الحقيقية والإضافية كقولنا: بيع صدر من الأهل في المحل. أو ما يتركب من الحقيقية والسلبية كقولنا: قتل بغير حق. أو ما يرتكب من الإضافية والسلبية كقولنا: مكيل ليس من الجنس فيجوز فيه التفاضل. أو ما يتركب من الثلاثة كقولنا: قتل عمد عدوان. وأما العرفي فكقولنا: هذا عيب عرفا فيثبت به الرد. وأما الشرعي فكقولنا في المشاع: يجوز بيعه فيجوز رهنه وهبته. وأما اللغوي فكقولنا في النبيذ: إنه مسمي بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب، وكقولنا في اللواط: إنه مسمي بالزنا فيجب فيه الحد كما في القبل. ثم اعلم أن التعليل بالمحل، أو بجزئه الخاص إنما يكون في العلة القاصرة؛ لاستحالة وجود خصوصية المحل، أو جزئه الخاص في غيره، وأما بجزئه العام المشترك بينه وبين غيره فإنه لا يكون إلا في المتعدية. التقسيم الثاني: الوصف المجعول علة إما أن لا يكون فعل المكلف أو يكون فعله.

والأول إما أن يكون لازمًا: ككون البر مطعومًا. أو لا يكون لازمًا: وهو إما أصلي حاصل بمقتضي الخلقة والطبيعة كالبكارة لولاية الإجبار، أو لا يكون كذلك، بل هو طارئ بحسب العادة: كانقلاب العصير خمرًا أو الخمر خلًا. أما القسم الثاني وهو أن يكون الوصف المجعول علة من فعل المكلف فهو إما أن يكون فعل واحد منهم كقتله، وردته، أو لا يكون كذلك بل هو بفعل أهل العرف ككون البر مكيلًا. التقسيم الثالث: الحكم والعلة/ (215/ أ) إما أن يكون ثبوتيتين أو عدميتين، أو تكون العلة ثبوتية والحكم عدميًا، أو بالعكس. مثال الأول: ثبوت الربا لعلة الطعم. مثال الثاني: عدم صحة البيع لعد الرضا. وهذا القسمان لا نزاع فيهما هكذا ذكره الإمام. وفيه نظر: فإن من يجعل العلية ثبوتية ينبغي أن لا يجوز ثباتها بالعدم سواء كان علة للحكم الثبوتي أو العدمي. مثال الثالث: عدم وجوب الزكاة لثبوت الدين، وهذا القسم الذي تسميه الفقهاء تعليلًا بالمانع وهو مبني على جواز تخصيص العلة. اختلفوا في أنه هل من شرطه وجود المقتضي أم لا؟ مثال الرابع: استقرار الملك عدم الفسخ في زمن الخيار وهذا القسم مما اختلف فيه أيضًا، المشهور عدم الجواز. التقسيم الرابع: العلة إما أن تكون ذات أوصاف، كقولنا: قتل عمد

المسألة الثانية اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم، أو جزئه الخاص

عدوان. في جواز التعليل به خلاف يأتي، أو لا يكون كذلك، كقولنا: التفاح مطعوم فيكون ربويًا. ثم كل واحد منهما إما أن يظن وجوده، أو يعلم، إما ضرورة أو نظرًا وأمثالتها لا تخفي على المحصل. المسألة الثانية اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم، أو جزئه الخاص: فمنهم من جوزه، ومنهم من منعه. والحق: أنه مبني على جواز تعليل الحكم بالعلة القاصرة، فإن جوز ذلك جوز هنا سواء عرفت عليته بنص أو بغيره؛ إذ لا يبعد أن يقول الشارع: حرمت الربا في البر لكونه برًا، أو يعرف مناسبة محل الحكم له لاشتماله على حكمة داعية إلى إثبات ذلك الحكم فيه. لا نظر إلي ما يقال: أنه لو جاز ذلك لكان الشيء الواحد قابلًا وفاعلًا معًا؛ لأنا لا نسلم استحالة ذلك، واستحالته مبنية على أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، وهو باطل قطعًا، وما ذكر على ذلك من الدليل فليس بشيء، وقد عرفت ذلك في موضعه، ولأن ذلك يتأتي إلا في المحل البسيط، أما المركب فلا وإن لم يجوز تعليل الحكم بالقاصرة لم يجوز هذا؛ لأن محل الحكم أو جزئه الخاص يستحيل أن يوجد في غيره.

المسألة الثالثة الحق أنه لا يجوز أن تكون علة الحكم في الأصل بمعني الأمارة

المسألة الثالثة الحق أنه لا يجوز أن تكون علة الحكم في الأصل بمعني الأمارة؛ وذلك لأنا وإن جوزنا تعليل حكم الأصل بالعلة، فإنما يجوز بمعني الباعث، أو المؤثر بجعل الشارع إياه مؤثرًا، لا بمعني المؤثر بذاته، ولا بمعني المعرف، فإن حكم الأصل قد عرف بالنص، والاطلاع على العلة إنما هو بعده، ولو جوزنا تعليله بمعني المعرف لزم الدور، ولزم أيضًا أن لا يكون فيه فائدة أصلاً، فكان عبثًا باطلًا بخلاف الفرع، فإنه يجوز أن تكون العلة فيه بمعني الأمارة؛ إذ لا يلزم هذا المحذور فيه، ولأنه لما عرف حكمة حكم الأصل وعرفت أمارتها ووجدناها في صورة أمكن جعلها علة لكونها معرفة لوجود الحكمة فيه كما في الوصف المشتمل على الحكمة.

المسألة الرابعة يجوز التعليل بالحكمة عند قوم. وقال قوم لا يجوز

المسألة الرابعة يجوز التعليل بالحكمة عند قوم. وقال قوم لا يجوز.

ومنهم من فصل فقال: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها، وإلا فلا، وهو المختار. أما الأول فالدليل عليه من وجوه: أحدها: أنا إذا ظننا أن الحكم في المحل الفلاني إنما ثبت لحكمة كذا، ثم ظننا حصول تلك الحكمة في محل آخر، فإنه يغلب على ظننا ثبوت ذلك الحكم في ذلك المحل الآخر، والعمل بالظن واجب لما سبق، ولا نعني بكون التعليل بالحكمة جائزًا سوي هذا. ومعلوم أن هذا لا يتأتي إلا إذا كانت الحكمة مضبوطة يمكن معرفة مقاديرها، فإنها إذا كانت غير مضبوطة لا يمكن معرفة مقاديرها فيتعذر حصول الظن بالمقدمتين. وثانيها: أنا أجمعنا على أن الوصف الحقيقي إنما يكون علة لاشتماله على الحكمة، وإن كانت تلك الحكمة خفية غير منضبطة، فإذن علية الوصف لعلية الحكمة، وهي علة العلة فأولي أن تكون علة الحكم، مقتضي هذا أن يجوز التعليل بالحكمة، وإن كانت خفية، ترك العمل به في الحكمة الخفية المضطربة لخفائها وعدم ضبطها، فوجب أن يجوز التعليل بالحكمة المضبوطة الظاهرة كما يجوز بالوصف الحقيقي بل أولي؛ لأن عليتها بالأصالة وعلية الوصف بالعرض. وثالثها: أن التعليل بالحكمة جائز عرفًا؛ إذ يقال: إنما أعطي الأمير لدفع

حاجة الفقير، وإنما فعل كذا لمصلحة كذا، أو لدفع مفسدة كذا فوجب أن يجوز شرعًا للحديث. وأما الثاني فالدليل عليه من وجهين: أحدهما: أنه لو جاز التعليل بالحكمة مطلقًا لما جاز التعليل بالوصف لكن ذلك جائز بالإجماع، فوجب أن لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقًا، بيان الملازمة: أن العلة بمعني الداعي إلى الحكم، أو المؤثر فيه إما بجعل الشارع مؤثرًا فيه، أو بذاته على اختلاف فيه، أو بمعني المعرف، إنما هو الحكمة، لا الوصف، والعلم بذلك جلي غني عن البيان، فإنه وإن فسرت العلة بالمعرف فلا شك في أنه يعتبر فيها المناسبة وهي بالحكمة، إذ الوصف لا يكون مناسبًا ما لم يعرف اشتماله على الحكمة فالتعليل بالوصف إنما هو لكونه مشتملًا على الحكمة فعليته لعلية/ (216/ أ) الحكمة، فلو جاز التعليل بالحكمة مطلقًا لما جاز التعليل بالوصف، لأن كل ما يقدح في التعليل بالحكمة يقدح في التعليل بالوصف من غير عكس، ضرورة أن القادح في الأصل قادح في الفرع من غير عكس، فالتعليل بالوصف مع إمكان التعليل بالحكمة تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة، وزيادة مشقة وحرج على المكلف من حيث أنه يجب عليه البحث عنه والنظر فيه، وكل ذلك ينافي مقتضي حكمة الشارع ونصوصه النافية للحرج والمشقة. وثانيهما: أن الحكمة إذا كانت خفية مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص، والأزمان، والأحوال، فإنه لا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم إلا بالبحث الشديد، والنظر الدقيق، ونحن نعلم بالاستقراء من ذات الشارع رد الناس في مثل هذا إلى المظان الظاهرة الجلية دفعًا للتخبيط، وإزالة

التغليظ، ونفيًا للحرج والمشقة والعسر والضرر، ألا تري أن المشقة لما لم تنضبط ويختلف الناس باختلاف الأشخاص والأحوال رد الشارع في جواز القصر والفطر بسببها إلى مظنتها في الغالب وهو السفر الطويل، وكذا وجوب الاعتداد لبراءة الرحم منوط بالوطء الذي هو مظنة شغل الرحم بالماء لا بحقيقة الشغل؛ لأن ذلك مما يعسر الاطلاع عليه وأمثاله كثيرة في الشرع. فإن قلت: لا نزاع في أنه إذا حصل ظن أن الحكم في الأصل معلل بحكمة كذا، وحصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخري حصل ظن حصول ذلك الحكم في تلك الصورة، لكن لا نسلم إمكان حصول الظنين، وما الدليل عليه؟ ثم الذي يدل على امتناع حصول ذلك هو أن حاصل التعليل بالحكمة راجع إلى التعليل بحاجة تحصيل المصلحة ودفع المفسدة، فالحكم لو كان معللًا بها، فإما أن يكون معللًا بمطلق الحاجة المحصلة، أو الدافعة، أو بالحاجة المخصوصة منها. والأول باطل وإلا لكان حيث تحقق منه الحاجة تحقق الحكم وهو خلاف الإجماع والاستقراء. والثاني أيضاً باطل؛ لأن الحاجة أمر باطن خفي فلا يمكن الوقوف على مقاديرها، وامتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها عن المرتبة الأخرى، وحينئذ يتعذر التعليل بها؛ إذ التعليل بالحاجة المخصوصة يستدعي تعقلها وتميزها عما عداها؛ ضرورة أن التصديق بالشيء مسبوق بتصوره. ولو سلمنا إمكان حصول الظنين لكن بعسر وحرج أو بدونه، والأول مسلم لكن التكليف بطلب مثله مدفوع بالنصوص النافية للعسر والحرج فلا يجوز التعليل به والثاني ممنوع.

سلمنا دلالة ما ذكرتم على المطلوب لكنه معارض بوجوه: أحدها: لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلبها؛ لأن القياس مأمور به على ما عرفت ذلك من قبل، وهو لا يتم بدون وجدان العلة ووجدانها متوقف على الطلب، وما يتوقف عليه المأمور به المطلق وكان مقدورًا للمكلف فهو مأمور به، فيكون طلبها مأمورًا به فيكون طلب الحكمة مأمورًا به، لكن طلبها غير مأمور به؛ لأن الحكمة راجعة إلى الحاجة إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد وهي مما يخفي ويزيد وينقص فلا تكون ظاهرة ولا منضبطة، وما هذا شأنه [لا يعلم] إلا بمشقة شديدة وكلفة كلفة، وما يكون كذلك وجب أن لا يكون مأمورًا به بالنصوص النافية للحرج والمشقة. وثانيها: أن استقراء أحكام الشرع يدل: على أن الحكم غير معلل بالحكم، بل بالأوصاف المشتملة عليها، بدليل أنا لو فرضنا حصول تلك الحكم بدون تلك الأوصاف [لم تترتب تلك الأحكام عليها، ولو فرضنا حصول تلك الأوصاف] بدون الحكم ترتبت تلك الأحكام عليها، وذلك يدل ظاهرًا على أن الحكم غير معلل بالحكمة. وثالثها: أن مقتضي الدليل عدم جواز التمسك بالعلة المظنونة؛ لما تقدم آنفًا، ترك ذلك في الأوصاف الجلية المضبوطة لمسيس الحاجة وظهورها، فوجب أن يبقي ما عداها على الأصل. ورابعها: أن الحكمة متأخرة الحصول عن الحكم ولا شيء من العلة بمتأخر عنه فلا شيء من الحكمة بعلة.

قلت: قوله: ما الدليل على إمكان حصول الظنين. قلنا: من الظاهر أن الحكمة إذا كانت ظاهرة مضبوطة كان الظن بحصولها كالظن بحصول الوصف إذا لم يزد الوصف عليها حينئذ بما يوجب سهولة حصول الظن أو العلم به، نعم إذا كانت الحكمة خفية مضطربة كان تحصيل الظن أو العلم بحصولها صعب عسر لا أنه غير ممكن. وبهذا خرج الجواب عما ذكر من الدلالة على امتناع حصول الظن بها؛ لأنا نمنع أن الحكمة الظاهرة المضبوطة لا يمكن الوقوف عليها، على أن ما ذكر من الدلالة منقوض بالوصف، فإنه لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة الحكم، والمعني بذلك: أنا نستدل بكون الوصف مشتملًا على [المصلحة على كونه علة فلا يخلو إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على] مطلق المصلحة وهو باطل، وإلا لكان كل وصف مشتمل على المصلحة كيف كانت علة لذلك الحكم أو على مصلحة مخصوصة/ (217/ أ) معينة، وحينئذ نقول: لا جائز أن تكون تلك المصلحة بحيث لا يمكن الاطلاع عليها وإلا امتنع الاستدلال بمناسبة الوصف على عليته للحكم لما تقدم أنه لا معني لمناسبة الوصف للحكم إلا اشتماله على المصلحة الملائمة للحكم وثبت أنه لا يجوز أن تكون تلك المصلحة مطلق المصلحة فيتعين أن تكون مصلحة مخصوصة معينة، فلو لم تكن تلك المصلحة بحيث يكون الاطلاع عليها ممكنًا لما أمكن الاستدلال بالوصف المناسب على عليته، وإذا بطل هذا القسم تعين أن تكون تلك المصلحة بحيث يكون الاطلاع عليها ممكنًا، وحينئذ ينتقض الدليل. فظهر بهذا بطلان قولهم: إن الحاجة أمر خفي لا يمكن الوقوف عليها. وبه خرج الجواب أيضًا عن قوله: إنه وإن أمكن حصول الظنين لكن يعسر حصولهما؛ فإنا نمنع ذلك أولًا لما سبق، وننقضه ثانيًا بما تقدم وهو الجواب

بعينه عن المعارضة الأولى. وعن الثانية: نمنع أن الأحكام غير المعللة بالحكم والمصالح؛ وهذا لأن كثيرًا من الأحكام معلل بالحكم وحدها نحو: وجوب التوسط في إقامة الحد بين المهلك وغير الزاجر، ووجوب إقامة التعزير وإساقطه وقدره، وكذا الفرق بين العمل القليل والكثير في الصلاة وكذا الفرق بين الأكل اليسير والكثير ناسيًا في الصوم على رأي وأمثاله كثيرة، نعم التعليل بالأوصاف أكثر؛ لأنها أقرب إلى الضبط والاطلاع عليها أسهل. وعن الثالثة: ما تقدم غير مرة. وعن الرابعة: أنها متأخرة عن الحكم في الوجود الخارجي، لا في الوجود الذهني وهي علة فيه؛ لأنها علة بمعني الباعث، وإن فسرت العلة بمعنى المعرف توجه المنع إلى المقدمة الثانية مع ما تقدم

تنبيه القائلون بجواز التعليل بالحكمة إذا قيل لهم إن الحكمة مجهولة القدر في غالب الأمر وإن كانت جلية في نفسها، فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع، دون حاجته في أثنائه وانتهائه، وإذا كان كذلك لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود في الفرع فلم يصح القياس لعدم الظن بحصول العلة في الفرع. فمنهم من أجاب هذا: بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين؛ لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة، وفي الفرع قدر معين، وكل مقدارين من نوع واحد لابد وأن يكون بينهما قدر معين مشترك بينهما، وذلك القدر يناسب التعليل به لكونه مصلحة مطلوبة الوجود. فإذا نقض ذلك عليهم بأن يقال: المصلحة الفلانية مصلحة وحاجة مع إنها غير معتبرة في الحكم. أجابوا: بأنا إنما عللنا الحكم بالقدر المشترك بين الأصل والفرع ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك بينهما حاصل في صورة النقض. قال الأمام: وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه يحتمل أن لا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل، والحاصل في الفرع اشتراك إلا في نفس كونه مصلحة، والتعليل بمسمى المصلحة غير ممكن، وإلا لحصل النقض المذكور وأمثاله من المصالح المنفكة عن الحكم. وأما وجود قدر مشترك زائد على نفس كونه مصلحة فذلك غير معلوم ولا مظنون والتعليل بمثله غير جائز.

المسألة الخامسة ذهب جمع إلى جواز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا

واعلم أن هذا التضعيف ضعيف؛ لأن ما ذكره من الاحتمال وإن كان جائزًا لكنه غير واجب، والمنع لا يندفع بمجرد الاحتمال، بل لابد من الدلالة على أنه لا مشترك بينهما إلا نفس كونه مصلحة حتى يتحقق النقض ويمكن أن يورد الاعتراض على الجواب بحيث لا يرد عليه هذا التضعيف بأن يقال: إنه إن عنى بقوله: إنه لابد وأن يكون بين الأصل والفرع مقدار معين مشترك بينهما مقدارا وائدا على مسمى المصلحة بحيث لا ينتقض ممنوع، ولابد من الدلالة عليه. وإن عنى به: نفس الاشتراك في مسمى المصلحة أو مقدارا زائدا على نفس مسمى المصلحة لكن ليس بحيث لا ينفك الحكم عنه لزم النقض المذكور ومعلوم أن هذا الكلام لا يرد عليه التضعيف المذكور. المسألة الخامسة ذهب جمع إلى جواز التعليل بالعدم ثبوتيا كان الحكم أو عدميا. ومنع قوم منه إذا كان الحكم ثبوتيا. احتج الأولون بوجوه: أحدها: أنه لا معنى للعلة إلا المعرف، على ما تقدم تقريره، وهو غير

مناف للعدم، فإن العدم قد يعرف وجود الحكم الثبوتى؛ فإن عدم امتثال العبد لأوامر سيده يعرفنا سخطه عليه، والحكم العدمى فإن عدم العلة يعرفنا عدم المعلوم وكذا عدم اللازم، وعدم الشرط يعرفنا عدم الملزوم وعدم المشروط، وإذا كان كذلك وجب أن يصح قيام العلية بالعدم كما بالموجود. وثانيها: أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات، والدوران يفيد ظن العلية على ما تقدم تقريره، والعمل بالظن واجب، فيكون العمل بهذا القياس واجبا. وثالثها: لو لم يجز أن يكون العدم علة، فأما لأن العلية ثبوتية ويستحيل قيام الصفة الثبوتية بما ليس بثابت، وهو باطل. أما أولا: فلأن العلية ليست ثبوتية؛ وإلا فإن كانت واجبة لذاتها لم تفتقر إلى معروضها وموصوفها، أو كانت ممكنة/ (218/أ) لذاتها فتفتقر إلى مؤثر يؤثر فيها، والكلام في علية تلك العلة كالكلام في الأول ولزم التسلسل. وأما ثانيا: فلأنها لو كانت وجودية فإن كانت قديمة، لزم امتناع قيامها بالمحدثات، ولزم أيضا قدم المعلول، وإن كانت محدثة لزم أن يكون لها موجدا، والكلام في عليته كالكلام في الأول ولزم التسلسل. وأما ثالثا: فلأن العلية من الأمور النسبية والإضافية، وقد ثبت أنه لا وجود لها في الأعيان. وأما رابعا: فلأن المخالف والعرف يساعدان على أنه يجوز أن يكون العدم علة العدم؛ إذ يجوز أن يقال: لم يعص أمره فلم يسخط عليه، ولم يره فلم

يسلم عليه، ولو كانت العلبة ثبوتية لاستحال قيامها بالعدم سواء كانت علة للعدم أو الثبوت، أو لأن العلية تقتضي التأثير والإيجاب وذلك في العدم لا يعقل فهو أيضا باطل لما سبق آنفا أنه لا معنى للعلة إلا لكونها معرفة للحكم، وقد عرفت أن ذلك جائز على العدم أو لمعنى آخر، وهو أيضا باطل؛ لأن الأصل عدمه، ولأن كل من قال بعدم جوازه فإنما قال به بناء على الاحتمالين المذكورين فالقول بفساده بناء على احتمال آخر قول مخالف للإجماع فكان باطلا، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل القول بعدم جوازه فوجب القول بصحته. واحتج المانعون منه بوجوه: أحدها: أن العلية ثبوتية، ضرورة أنها نقيض "اللا علية" المحمولة على العدم، والمحمول على العدم عدمي، وإلا لزم كون العدم موصوفا بالثبوت وهو يفضى إلى القول بالسفسطة. ومقتضى النفي ثبوت، فوجب أن تكون العلية ثبوتية، وإذا كان كذلك استحال اتصاف العدم بها. وجوابه: أن الاستدلال بصورة النفي على الوجود يتوقف على العلم بأن ذلك المفهوم قبل دخول حرف النفي وجوديا، فإن بتقدير أن لا يعلم ذلك بل يجوز أن يكون عدميا، كان مفهومه حينئد بعد دخول حرف النفي وجوديا، ضرورة أن عدم العدم ثبوت وإذا كان كذلك كان العلم بكون ذلك المفهوم وجوديا قبل العلم بوجه دلالة صورة النفي على الوجود، فلو استدللنا بصورة النفي على الوجود لزم أن يكون العلم به حاصلا قبل العلم بالوجود؛ ضرورة أن العلم بالدليل وبدلالته قبل العلم بالمدلوم فيلزم الدور وهو ممتنع.

سلمنا صحة دلالته لكنه منقوض بالامتناع، والامتناع مع أنه ليس بوجودي قطعا. سلمنا المقدمتين، لكنه منقوض بالعدم إذا كان علة العدم، فإن جميع ما ذكروا آت فيه مع أنه يجوز أن يكون العدم علة العدم وفاقا. وثانيها: أنه يصح أن يقال: أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر؟ ولو لم يكن الحدوث متوقفا على وجود شيء لما صح هذا الكلام، كما لو قال: "أي رجل مات حتى مرض هذا" حيث لم يكن مرض المشار إليه متوقفا على موت رجل. وجوابه: أنا لا نسلم أن صحته واستقامته بناء على خصوصية الوجود بل لعموم الحدوث، ألا ترى أنه لو قال: أي شيء حدث حتى حدث هذا الأمر، استقام الكلام أيضا، وحدوث الأمر يعم الوجود والعدم؛ ولهذا يصح أن يقال: أي شيء عدم مما كان حتى وجدها الأمر. وثالثها: أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة بأي معنى كان وإلا لما صح الحكم عليها بكونها علة، والتمييز: عبارة عن كون واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا توجد خصوصيته في الآخر وإلا لما كان متميزا، لكن ذلك غير معقول في العدم لأنه نفى صرف وعدم محض. وأيضا لو جاز وقوع التمييز فيه لجاز أن يكون ما نراه من المحسوسات المتميزة بعضها عن البعض إعداما صرفا؛ إذ لا طريق إلى العلم بوجودها إلا ذلك، ويلزم أيضا إنسداد باب إثبات الصانع تعالى؛ لأنه حينئذ يجوز أن يقال: المؤثر في العالم عدم صرف ونفي محض؛ لأنه حينئذ يجوز أن يتميز عن غيره بصفات مخصوصة كما هو على تقدير الوجود.

وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك غير معقول في الإعلام، وهذا لما سبق أن التمييز في الإعدام واقع؛ فإن عدم اللازم يتميز عن عدم الملزوم بكون ذلك يستلزم عدم الملزوم، وعدم الملزوم لا يستلزم ذلك، وكذا عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه. ولا نسلم أنه يلزم تجويز كون هذه المحسوسات إعداما؛ وهذا لأنا لا نقطع بوجودها بمجرد تميزها، بل تميزها بصفات محسوسة نحو الأكون، والألوان، ولا نسلم أنه يلزم انسداد باب إثبات الصانع؛ وهذا فإن مجرد التميز غير كاف في ذلك بل لا يصلح ذلك طريقا إلى العلم بالوجود، لما سبق، بل طريقه في حقه تعالى مشاهدة آثاره من مخلوقاته ومصنوعاته. ورابعها: أن العدم لو كان علة لكان له نسبة مخصوصة، وإلا لم يكن باقتضاء حكم دون حكم، في وقت دون وقت أولى من العكس وحينئذ يلزم أن يكون العدم محل النسبة المخصوصة وهى وجودية؛ لأنها نقيض للانتساب الذى هو عدمي فيكون محل الصفة الوجودية فتكون موجودة فيلزم أن يكون العدم موجودا وهو محال. وجوابه: ما سبق/ (219/أ) ولو سلم دلالة ما ذكره على ذلك لكنه معارض بما يدل على أن النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان. وخامسها: أن المجتهد يجب عليه سبر الأوصاف التى تصلح للعلية وفاقا، ولا يجب عليه سبر الأوصاف العدمية؛ لكونها غير متناهية فلا شيء من الأوصاف التي تصلح للعلية بعدمية.

وجوابه: منع المقدمة الثانية؛ وهذا فأنا لا نسلم أنه لا يجب عليه سبر ما يتخيل المناسبة فيه، أو الدوران، أو ما يقرب من العلية. وسلمناه لكن ذلك لتعذره؛ لأن العدمات لما كانت غير متناهية تعذر سبرها. وسادسها: العدم ليس من سعي الإنسان فلا يترتب عليه حكم لقوله تعالى} وأن ليس للإنسان إلا ما سعى {، لا يقال: هذا ينتقض بجميع المناهي، فإنا مكلفون فيها بالامتناع، ونثاب عليه، ويترتب عليه أحكام؛ لأنا نقول: قد ثبت أن ذلك تكليف بفعل الضد، لا بنفس أن لا تفعل الذى هو عدم محض بل ذلك يترتب عليه. وأجيب عنه: بأنه لو كان كذلك لكان الممتنع عن الفعل فاعلا للفعل وهو محال. وهو ضعيف؛ أما أولا: فلأنه مناقض لما اختاره هذا المجيب من أن متعلق التكليف في النهي إنما هو فعل الضد لا نفس أن لا تفعل، وأيضا لا محال في أن يكون الإنسان ممتنعا عن فعل ويكون فاعلا لفعل آخر، بل جوابه: أنه ليس من شرط ما يترتب عليه الحكم من العلل أن يكون من سعي الإنسان فإن كثيرا من العلل ليس من فعل الإنسان وسعيه، سلمناه لكن العدم الطارئ قد يكون من سعيه.

وسابعها: أن العلة في الأصل لابد وأن تكون بمعنى الباعث على ما تقدم تقريره، والباعث ما يكون محصلا للمصلحة أو تكميلها، أو دافعا للمفسدة أو تقليلها، فإذا كان الحكم ثابتا بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض، فلابد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدورا للمكلف إيجادا وإعداما، وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيدا للغرض؛ لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب والعدم المحض لا انتساب له إلى الحكم. ومقصوده، فلا يكون مفضيا إلى المقصود من شرع الحكم فيمتنع التعليل به. وجوابه: أنه إن عنى بالعدم المحض، العدم الأصلي الذي لا يخصص ولا تمييز فيه بوجه من الوجوه فمسلم أنه لا انتساب له إلى شيء لكن لا يلزم من نفي علته علية مطلق العدم الذي وقع النزاع فيه. وإن عنى به أنه الذي يصدق عليه أنه لا شيء ولا ذات متقررة ولا ثابتة فممنوع أنه لا انتساب له إلى الحكم أو إلى غيره؛ وهذا لأن الأعدام المضافة ليست أشياء ولا ذوات متقررة مع أن لها انتسابا وإضافة. سلمنا كل ما ذكرتم لكنه إنما ينفي تعليل حكم الأصل به دون تعليل حكم الفرع؛ فإنه لا يجب أن تكون العلة فيه بمعنى الباعث بل يجوز أن تكون بمعنى الأمارة. تنبيه التعليل بالوصف الإضافي جائز إن قيل بوجود الإضافات وإلا فينبني على جواز التعليل بالعدم، فإن جوز ذلك جاز هذا وإلا فلا، وأما أدلة كونها وجودية أو عدمية فقد عرفت في علم آخر.

المسألة السادسة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي

المسألة السادسة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي: فذهب الأكثرون إلى تجويزه، ومنع منه الأقلون. احتج الأولون: بأن الحكم قد يدور مع الحكم الآخر وجودا وعدما، وقد ثبت أن الدوران يفيد ظن العلية. ولأن العلة بمعنى المعرف، ولا بعد في أن يجعل حكم معرفا لحكم آخر، بأن يقول الشارع: مهما رأيتم أني أثبت الحكم الفلاني في الصورة الفلانية فاعلموا أني أثبت الحكم الفلاني فيها أيضا. واحتج المانعون بوجوه: أحدها: أن العلة إن فسرت "بالمؤثر" أو "بالداعي" فمن الظاهر أن الحكم لا يجوز أن يكون علة بهما، وإن فسرت بمعنى"المعرف" فكذلك لما سبق من أن حكم الأصل لا يجوز أن يكون معللا بمعنى الأمارة. وجوابه: أنا لا نسلم امتناع تعليل الحكم به إن فسرت العلة بالداعي؛ وهذا لأن أحد الحكمين قد يكون داعيا إلى الآخر ومناسبا له من غير عكس فيجوز أن يكون علة له بمعنى الداعي المناسب.

سلمنا امتناع هذا القسم لكن لم لا يجوز إن يكون بمعنى "المعرف" لكن في الفرع لا في الأصل وما ذكرتم على امنتاع هذا القسم دليلا. وثانيها: أن الحكم الذى جعل علة إن كان متقدما على الحكم الذى جعل معلولا له لم يصلح أن يكون علة له، وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة وهو غير جائز، ولو سلم جوازه لكن لا نشك في أنه خلاف الأصل فلا يجوز إثبات العلة بهذه الصفة إلا عند قيام الدليل عليه. وإن كان متأخرا عنه لم يصلح للعلية أيضا؛ لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم. وإن كان مقارنا له فيحتمل أن يكون الحكم الذى جعل علة معلولا، والحكم الذى جعل معلولا علة، ويحتمل أن يكون على العكس؛ لأنه ليس لأحدهما مزية على الآخر حتى يتعين به أن يكون علة في نفسه، فعلى التقديرات الثلاثة، الأول لا يكون علة ولا يصلح للعلية، وعلى (220/أ) التقدير الرابع صلح لذلك، ولا يخفى أن وقوع احتمال واحد بعينه أندر من وقوع احتمال من احتمالات ثلاثة، ولأنه يحتمل أن لا يكون حكم الأصل معللا، وبتقدير أن يكون معللا لكن بالصفة أو بالحكمة لا بالحكم وبتقدير أن يكون بالحكم، لكن لا بذلك الحكم بل بحكم آخر فيه، وبتقدير أن لا يكون معللا بحكم آخر فيه لكن يجوز أن يكون هو علة لما جعل علة له، فعلى هذه التقديرات الخمسة لا يكون ذلك الحكم علة، وعلى السادس يكون علة، ولا شك أن وقوع احتمال من احتمالات خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد بعينه. وجوابه: أنا لا نسلم] أن المتأخر لا يكون علة للمتقدم بمعنى "المعرف"؛

وهذا المعرف يجوز أن يكون متأخرا عن المعرف كالمحدثات بالنسبة إلى القديم. سلمنا امتناع هذا القسم لكن لا نسلم [امنتاع قسم المقارنة. قوله: ليس جعل أحدهما علة والآخر معلولا أولى من العكس. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن أحد الحكمين قد يكون مناسبا للآخر من غير عكس فيكون جعله علة له أولى، ومنه يعرف بطلان قوله: لا مزية لأحدهما على الآخر حتى يتعين للعلية. وثالثها: أن شرط العلة التقدم على المعلوم وهو مجهول فيما نحن فيه، فإذا شرط العلية غير معلوم فلا يجوز إثباته علة إذ ذاك. وجوابه: منع المقدمة الأولى وسنده قد سبق. ورابعها: إذا أثبت الشارع حكمين في صورة واحدة معا، فليس لأحدهما مزية على الآخر لا في الوجود ولا الافتقار ولا في المعلومية فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس، فإما أن لا يكون واحد منهما علة للآخر وهو المطلوب، أو يجعل] كل [واحد منهما علة الآخر وهو دور ممتنع. وجوابه: بعض ما تقدم، فإنا لا نسلم امتناع الدور فيه؛ وهذا لأن العلة هي "المعرف" ولا امتناع في كون كل واحد من الشيئين معرفاً للآخر.

المسالة السابعة التعليل بالأوصاف العرفية

فرع القائلون بجواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي اختلفوا في جواز تعليل الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي. فمنهم من جوز ذلك وهو الحق؛ لأن المراد من العلة المعرف ولا يبعد أن يكون الحكم الشرعي يعرف الحكم الحقيقي، فأما إذا فسرت العلة بالموجب أو الداعي فإنه لا يجوز؛ وهذا ظاهر بين جدا. ومنهم من منع فإن كان ذلك بناء على أن العلة عنده مفسرة بغير المعرف فهو حق لكن لا نزاع فيه على هذا التقدير، وإن كان ذلك مطلقا سواء فسرت العلة بالمعرف أو بغيره فهو باطل لما سبق. مثاله: أن يعلك إثبات الحياة فى الشعر بأنه يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح فيكون حيا كاليد. المسالة السابعة التعليل بالأوصاف العرفية حيث يتأتى كما في الكفارة وغيرها، وهي كالشرف والخسة، والكمال والنقصان، جائز إذا كان مطردا مضبوطا مميزا عن غيره ليعلم حصول ذلك العرف في زمان الرسول صلي الله عليه وسلم أو حصول الإجماع عليه؛ فإن بتقدير أن لا يطرد في كل الأوقات، أو في كل الأقطار لم يعلم ذلك فلا يجوز التعليل به وإنما اشترط الضبط المذكور لكي أمكن تعقله على وجه يتميز بهويته. عن غيره، وأمكن تعدية الحكم بسببه.

المسألة الثامنة التعليل بالوصف المركب جائز عند المعظم، وقال بعضهم لا يجوز

المسألة الثامنة التعليل بالوصف المركب جائز عند المعظم، وقال بعضهم لا يجوز. لنا أن ما يدل على علية الوصف من الدوران والسبر والتقسيم والمناسبة مع الاقتران لا يختص بمفرد بل دلالته عليه وعلى المركب على حد سواء، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أن يدل شيء من ذلك على أن الوصف المركب علة الحكم فكان علة عملا بالدليل كما في المفرد. احتج من منع ذلك بوجوه: أحدهما: أن جواز ذلك يفضي إلى نقض العلة العقلية فكان باطلا. بيان الأول: أن الماهية المركبة لو كانت علة لزم أن يكون عدم كل واحد من أجزائها علة مستقلة لعدم تلك العلية ضرورة انعدامها عند انعدام كل واحد منها؛ لأن العلية صفة من صفات تلك الماهية فيكون وجودها متوقفا على حصول الماهية المتوقفة على أجزائها التى عند عدم كل واحد منها تنعدم الماهية ضرورة انعدام المتوقف بانعدام المتوقف عليه.

بيان الثاني: أنه إذا انعدام جزء فقد انعدمت تلك العلية، فإذا عدم جزء آخر يستحيل انعدامها لاستحالة انعدام المعدوم، فقد حصل نقض العلة لما تقدم أن عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة] لعدم عليتها. بيان الثالث: أن كون عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة [لانعدام علية تلك الماهية أمر حقيقي سواء كان عليه الشيء عقلية أو شرعية. بيان الرابع: ظاهر على ما عرفت أن التخلف عن العلل العقلية محال في التحسين والتقبيح. فإن قلت: هذا الدليل يقتضي أن لا توجد ماهية] مركبة [لما ذكرتم من التقرير بعينه؛ فإن عدم كل واحد من أجزائه علة لعدم تلك الماهية المركبة فإذا انعدم جزء انعدمت تلك الماهية فإذا انعدم جزء آخر لم يحصل انعدام تلك الماهية لأن تحصيل الحاصل محال فيلزم نقض العلة العقلية. قلت: أجيب بالفرق، وهو أن الماهية: عبارة عن نفس تلك الأجزاء مجموعة فلم يكن عدم شيء من تلك الأجزاء علة لعدم شيء آخر. أما علية الوصف المركب فهي زائدة على ذات الماهية المركبة، وعدمها معلل بعدم كل واحد من أجزاء الماهية فظهر الفرق. وهذا فيه نظر من حيث إن تقرير الدلالة/ (221/أ) يدل على أن عدم الماهية أمر يترتب على عدم كل واحد من أجزائها، فكيف يكون مع ذلك

عدم كل واحد من أجزائها عين عدمها؟ وجوابه: أنا لا نسلم أن عدم كل واحد من تلك الأجزاء علة لعدم تلك العلية؛ وهذا لأنه لو كان كذلك لكان العدم علة وهو ممنوع، ولأنه لا يلزم من عدم العلية إذ ذاك أن يكون ذلك العدم علة لجواز أن يكون ذلك لعدم تحقق الشرط وعدم الشرط ليس بعلة. سلمنا أن العدم يصلح أن تكون علة في الجملة، لكن لا نسلم أن عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة لعدم عليتها؛ وهذا لأن وجود تلك الأجزاء] شرط لتحقق تلك العلية بها، فانتفاء كل واحد منها انتفاء [شرط تحقق العلة فانتفاؤها لانتفاء شرطها لا للعلة. سلمنا ذلك لكن دليلكم إنما يستقيم أن لو كانت العلية زائدة على الماهية وهو ممنوع؛ وهذا لأنها لو كانت زائدة لكانت معلولة للماهية فكانت علية الماهية لها بعلية أخرى؛ ضرورة أن المعلوم لا يصدر إلا عن علة وهي بالعلية وحينئذ يلزم التسلسل. سلمناه لكنه يقتضي أن لا تكون للماهية المركبة صفة من الصفات وهو باطل قطعا. وثانيها: أن كل واحد من تلك الأوصاف عند انفرادها ليس بعلة، فعند الاجتماع إن لم يحدث لها صفة زائدة على حالة الانفراد لم تكن علة حالة الاجتماع لما لم تكن علة حالة الانفراد، وإن حدثت فتلك الصفة إما العلية، أو ما يقتضيها، فإن كان فالمقتضي لها إما

كل واحد من أجزائها وهو باطل؛ لأنه حينئذ يلزم أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء علة مستقلة، أو مجموعها وهو أيضا باطل؛ لأن كون المجموع مقتضيا للعلية مع آحادها غير مقتض لها إن لم يكن لأمر آخر زائد على حالة الانفراد لم يكن مقتضيا لها كما كان حالة الانفراد، وإن كان لأمر كان الكلام فيه كالكلام في الأول ولزم التسلسل. وإن كان الثاني والثالث فالكلام فيهما على نهج ما سبق في العلية ويخص الثالث أنها حينئذ تكون أجنبية عن العلية فلم يكن حصول العلية عندها أولى من حصولها عند حصول سائر الحوادث. وجوابه: النقض بالهيئة الاجتماعية، والتفصيل هو أنها حدثت لحدوث الانضمام الحاصل من الفاعل المختار وحينئذ لا يلزم التسلسل. وثالثها: أن العلة صفة زائدة على ذات العلة بدليل أنه يمكن تعقل الذات مع الجهل بكونها علة، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم، ولأن العلية معنى من المعاني، والذات جوهر أو جسم فلم يكن عينه وحينئذ لو اتصفت الماهية المركبة بها فإما أن يقال: قامت بكل واحدة من تلك الصفات علية على حدة وهو باطل، أما أولا: فلأنه جينئذ يلزم أن تكون كل واحدة من تلك الصفات علة مستقلة بنفسها وهو خلاف المفروض. وأما ثانيا: فلأنه يلزم قيام الصفة الواحدة بمحال كثيرة. أو قامت بمجموعها علية واحدة لمعنى أنه قام ببعضها جزؤ وببعضها الآخر جزء آخر، وهو أيضا باطل؛] لأنه يقتضي أن يكون للعلية ثلث وربع ونصف، أو قامت بواحدة منها وهو أيضا باطل [لأنه حينئذ يلزم أن

تكون تلك الصفة بعينها هي العلة دون ما عداها من الصفات ولما بطلت هذه الأقسام بطلت قيام العلية بالماهية المركبة. وجوابه:] أنه [إنما يلزم أن لو كانت العلية صفة ثبوتية، وهو باطل وإلا لزم التسلسل كما سبق، ولأنها لو كانت ثبوتية لزم قيام العرض بالعرض لما أن المعاني تنصرف بالعلية، ولأنها إضافية ولا وجود لها في الأعيان، ولأن معنى العلة المعرف فكأن الشارع قال: مهما وجدت هذه الصفات مجموعة فاعلموا أن الحكم الفلاني حاصل في ذلك المحل ومعلوم أن هذا لا يقتضي قيام الصفة الحقيقية بها حتى يتأتى التقسيم المذكور، ولأن معنى العلة الباعث، وهو أيضا لا يقتضي أن تكون الصفات متصفة بصفة حقيقية. سلمناه لكنه منقوض بما وضعت الألفاظ المركبة من الخبرية، والاستخبارية والأمرية، والوعدية، والوعيدية. ورابعها: أن الماهية المركبة لو كانت علة لزم اجتماع العلل على معلوم واحد واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة: هو أن عدم كل واحدة من تلك الصفات علة لانعدام العلية على ما تقدم تقريره من قبل فإذا فرض انعدام تلك الصفات بأسرها دفعة واحدة لزم اجتماع العلل على معلوم واحد. بيان امنتاع اللازم: ما تقدم غيره مرة. وجوابه لا يخفى مما سبق ها هنا وفيما تقدم. وخامسها: أن كل واحد من تلك الأوصاف إن كان مناسبا للحكم كان كل واحد منها علة للأقتران والمناسبة وهو على خلاف الأصل وأيضاً: فإنه

يلزم منه اجتماع العلل الكثيرة على معلوم واحد وإن لم يكن شيء منها مناسبا لم يكن المجموع الحاصل منها] مناسبا [لأن ضم ما لا يناسب إلى غير المناسب لا يوجب المناسبة فلم يكن المجموع مناسبا فلم يصلح للعلية. وإن كان البعض منها مناسبا] دون البعض الآخر [كان المناسب وحده علة ولم يكن لغيره مدخل في العلية فلم يكن المجموع المركب علة بل البعض منه. وجوابه: أنا لا نسلم إذا لم يكن كل واحد منها مناسبا لم يكن المجموع المركب منه مناسبا؛ وهذا لأنه يجوز أن يثبت للمركب ما ليس لمفرداته. سلمنا أن ما ليس بمناسب بوجه ما لا يتألف منه مناسب لكن/ (222/أ) لم لا يجوز أن يكون كل واحد منها مناسبا بوجه ما، وإن كان غير تام المناسبة، وأنه يتألف منها تام المناسبة فيكون علة. وأعلم أنه لا سبيل إلى إنكار جواز كون الماهية المركبة علة فإن استقراء الشرع يدل على وجوب وقوعه، فإن كون القصاص واجبا في القتل العمد العدوان دون الخطأ لا يمكن أن يستنبط منه علة بسيطة نحو القتل وحده، أو العمدية وحدها، أو العدوانية وحدها، وكذلك كون الربا جاريا في المطعوم بجنسه، أو في المكيل، أو الموزون بجنسه لا يمكن أن يجعل أحد الوصفين علة مستقلة لذلك بل مجموع الوصفين أو أحدهما بشرط الآخر، وفي الجملة أن أكثر أحكام الشرع غير ثابت على إطلاقها بل بقيود معتبرة فيها واستنباط العلة البسيطة من مثل هذه الأحكام غير ممكن فيلزم المصير إما إلى كون تلك الأحكام تعبدية وهو على خلاف الأصل، أو تجويز استخراج العلة المركبة وهو المطلوب.

المسألة التاسعة أطبق الكل على أن العلة المنصوصة أو المجمع عليها يجوز أن تكون قاصرة، وأختلفوا في المستنبطة

المسألة التاسعة أطبق الكل على أن العلة المنصوصة أو المجمع عليها يجوز أن تكون قاصرة، وأختلفوا في المستنبطة: فذهب أصحابنا، والحنابلة، وأكثر المتكلمين نحو القاضي منا،

والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري إلى أنها يجوز أن تكون قاصرة أيضا، وذهبت الحنفية وأبو عبد الله البصري والكرخي إلى امتناعها. احتج الأولون بوجوه: أحدها: أن صحة تعدية العلة إلى الفرع فرع صحتها في نفسها فلو توقفت صحتها في نفسها] على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وهو ممتنع وإذا لم تتوقف صحتها في نفسها [على صحة التعدية في نفسها فتصح نفسها وإن لم تصح تعديتها إلى الفرع وهو المطلوب. فإن قلت: لا يلزم من عدم توقف صحتها نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع صحتها في نفسها وإن لم تصح التعدية بها؛ لجواز أن تكون صحتها في نفسها متوقفة على وجودها في الفرع، وهو غير موقوف على صحتها في نفسها فلا يلزم الدور، ولا يظن أن صحة تعديتها إلى الفرع هو عين وجودها فيه؛ لأن المعني من صحة التعدية إلى الفرع ثبوت الحكم بها في الفرع، أو صلاحية الثبوت بها، ومعلوم أن هذا يتوقف على صحة كونها علة في

نفسها، فلو كانت صحة كونها علة يتوقف على هذا لزم الدور. وأما وجودها في المحل الذي جعل فرعا فلا يتوقف على صحة كونها علة في نفس الأمر فلا دور، ولو أراد بصحة تعديتها إلى الفرع وجودها فيه منعنا لزوم الدور لما سبق. سلمنا لزوم الدور لكن دور معية أو غيره، والأول مسلم لكن لا نسلم امتناعه بل هو صحيح ثابت كما في المتلازمين والمضافين والثاني ممنوع وما الدليل عليه؟ قلت: أجيب عن الأول: بأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه لاستحالة حلول الشيء الواحد في محلين بل يكون مثله، وإذا كان كذلك فنقول: كل ما يحصل من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول عند عدم حلول مثله في محل آخر لأن حكم الشيء حكم مثله، وإذا أمكن حصول تلك الأمور حينئذ فبتقدير تحققها وجب أن تكون علة لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور. واعترض عليه بمنع عليتها باعتبار تلك الصفات فقط بل بها وبوجود مثلها في غير الأصل، فإن لم يعتبر هذا بناء أنه لا مدخل له في تحقق المناسبة أو لشيء آخر فهو أول المسألة. ويمكن أن يجاب عنه: بأن العلية لا يجوز أن تكون بمجموع تلك الصفات وبحصول مثلها في غير الأصل، بل يجب أن تكون بمجموع تلك الصفات

ضرورة أن الحصول في الشيء أمر عدمي على ما تقرر ذلك في موضعه، والأمور الثبوتية لا يجوز أن تكون بالأمور العدمية على ما تقدم تقريره، ولأن العلة القاصرة لا يجوز أن تكون بمعنى المعرف؛ لأن حكم الأصل معلوم بالنص لا بها ولا فرع له حتى يعرف حكمه، بل إما أن يكون بمعنى الباعث، أو بمعنى الموجب بجعل الشارع إياه موجبا؛ إذ الإيجاب الذاتي باطل ببطلان التحسين والتقبيح، وعلى المعنيين لا يجوز أن يكون لحصول مثلها في محل آخر تأثير في العلية، أما بمعنى الباعث فظاهر؛ لأن الباعث للشارع على الحكم إنما هو جهة المصلحة أو المفسدة: إما باعتبار نفسهما على رأي من يجوز التعليل بنفس الحكم، أو باعتبار المشتمل عليهما على رأي من لم يجوز ذلك، ومعلوم أن حصول مثلها في محل آخر لا تأثير له في تحصيل جهة المصلحة أو دفع المفسدة فلم تكن العلية بالمجموع المركب منها ومن غيرها، وأما بالمعنى الثاني فلأن ذلك راجع إلى الأول أيضا؛ لأن الباعث للشارع على جعله علة إنما هو جهة المصلحة أو المفسدة، ومعلوم أن حصول مثلها في محل آخر لا مدخل له في تحصيل مثلها في محل آخر. وعن الثاني أنه ليس بدور معية، والدليل عليه هو: أن صحة تعديتها إلى الفرع فرع صحتها في نفسها بدليل صحة دخول كلمة ثم عليه؛ إذ يصح أن يقال: صحت العلة في نفسها ثم عديت، أو عديت بعد أن صحت ولو كانا معا لما صح بهذا القول؛ إذ لا يجوز إدخال كلمة ثم ما بين المضافين والمتلازمين، فلا يجوز أن يقال: حصلت الأبوة ثم البنوة، ولا يقال أيضا: حصل العلو ثم السفل وبالعكس.

وثانيها: أنا أجمعنا على أن العلة المنصوصة والمجمع عليها بجوز أن تكون قاصرة، فكذا المستنبطة إذ لا فرق بينهما سوى/ (223/أ) أنه نص عليها أو أجمع عليها، وذلك لا يوجب تفرقة في صحة ثبوت العلية وعدمها بل المستنبطة أولى؛ لأن التنصيص على العلة ربما يوهم الأمر بالقياس مع تعذره في القاصرة، والمستنبطة ليس فيها هذا المحذور فكانت أولى بالجواز. وثالثها: أن طرق العقلية الدالة على العلية من المناسبة والسبر والتقسيم والدوران وجودا وعدما قد يدل على علية الوصف القاصرة، فوجب أن يكون علة كغيره لحصول غلبة الظن فيهما على حد سواء. ورابعها: أنها لو امتنعت فإما أن تمتنع لذاتها وهو باطل قطعا، أو لامتناع مدركها وهو أيضا باطل لما سبق، أو لعدم فائدتها لو سلم أن ذلك يقتضي الامتناع وهو أيضا باطل؛ لأن فيه فوائد. أحدها: معرفة الباعث على الحكم الشرعي وكونه مطابقا لوجه الحكمة والمصلحة، وهذه فائدة معتبرة؛ لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل، فيكون أفضى إلى حصول مقصود الشارع من شرعية ذلك الحكم ضرورة أنه حينئذ يكون أفضى إلى الحصول. وثانيها: أنه يفيد عدم الحكم؛ لأنه يفيد المنع من القياس عليه، فإنه إذا علم أن الحكم في الأصل معلل بعلة قاصرة امتنع القياس عليه. فإن قلت: هذه الفائدة حاصلة بأن لا يجد الحكم معللا بمتعدية وهو أعم من أن يكون معللا بقاصرة، أو لا يكون معللا أصلا، أو وإن كان معللا بها لكنا لا نجد بعد البحث الشديد، فلم تكن تلك الفائدة فائدتها فلم تكن فائدته. قلت: بتقدير أن يوجد في الأصل وصف مناسب للحكم متعد فإنه تمتنع

تعدية الحكم به إلا بشرط الترجيح، ولو لم يكن الحكم معللا بالقاصرة لزم تعدية الحكم بالمتعدية من غير شريطة فكان المنع من القياس في هذه الصورة إنما جاء من التعليل بالقاصرة لا غير. فإن قلت: هذا إنما يلزم أن لو جاز التعليل بالقاصرة مع وجود المتعدية وهو ممنوع فإنه وإن جوز التعليل بالقاصرة لكن عندما لا يمكن التعليل بالمتعدية فأما مع وجود المتعدية فلا نسلم ذلك. قلت: لو كان التعليل بالقاصرة مشروطا بعدم المتعدية لما تصور وقوع التعارض بينهما، لكن القائلون بتجويز التعليل بالقاصرة أطبقوا على جواز وقوع التعارض بينهما لكن رجح قوم منهم المتعدية، والباقون سووا بينهما ولو كان التعليل بالقاصرة مشروطا بعدم المتعدية لما تصور وقوع التعارض وجريان الترجيح بينهما. وثالثها: أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشيء فأنا إذا علمنا الحكم ثم اطلعنا على علته صرنا عالمين أو ظانين لما كنا عنه غافلين، وذلك كمال النفوس ومحبوب القلوب، أو لشيء آخر ولابد من بيانه لينظر هل هو مقتض للبطلان أم لا؟ وأيضا الأصل عدم اقتضائه لذلك وعدم وجوده وإذا انتفي مدارك البطلان وجب أن يقال: أنه يصح التعليل به. احتجوا بوجوه: أحدها: أن الدليل ينفى القول بالعلة المظنونة، ترك العمل به في المتعدية لكثرة فوائدها فوجب أن يبقى ما عداها على الأصل. وجوابه: أنه لما وجب العمل بالمظنون قطعا كان العمل به عملا بالمقطوع

لا بالمظنون وأيضا يجب حمل تلك الأدلة على ما المطلوب فيه القطع لا الظن جمعا بينه وبين الأدلة الدالة على جواز العمل بالمظنون ولئلا يلزم التخصيص فإن العمل الظن جائز في كثير من الصور وفاقا. وثانيها: أنه لا فائدة فيها، وما لا فائدة فيه كان نصبه عبثا، وهو على الحكيم محال. بيان الأول: أن فائدة العلة إنما هو معرفة الحكم، والقاصرة ليس فيها ذلك؛ لأن معرفة حكم الأصل إنما هو بالنص لا بالعلة وليس يوجد في غيره حتى يعرف منها حكمه فثبت أنه لا فائدة فيه. بيان الثاني: طاهر. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا فائدة فيها، وقد عرفت أن فيها فوائد. سلمنا أنه لا فائدة فيها، لكن لم قلتم أن مالا فائدة فيه يكون عبثا باطلا؟ فإنه لا يمتنع عقلا أنه تكون باعثة على الحكم في نفس الأمر، أو مؤثرة فيه وإن لم ينتفع الطالب لها، ويكون الطالب لها طالبا لما لا ينتفع به. فإن قلت: فائدة الخاصة للعلة إنما هو إثبات الحكم فإذا لم يحصل ذلك وجب القول بالبطلان كالبيع والنكاح فإنه إذا لم يحصل منهما حل البضع وجواز التصرفات في المبيع وجب القول ببطلانهما. قلت: إن عنيتم ببطلانها أنه لا يثبت لها حكم في غير محل النص فهذا مسلم وإن عنى بذلك أنها ليست مؤثرة أو باعثة للشارع على الحكم في نفس الأمر فهذا باطل، وما ذكرتم لا يدل على بطلانها بهذين المعنيين، ونحن لا نعني بكونها صحيحة سوى أحد هذين المعنيين، ولهذا المعنى قلنا: إن حكم الأصل معلل بعلة لا بمعنى المعرف، فإن العلة لم تعرفنا في الأصل حكماً.

سلمنا أن ما لا فائدة فيه يكون عبثا لا يجوز إثباته لكن متى قبل أن يعلم كونه كذلك أو بعد أن يعلم كونه كذلك؟ والأول/ (224/أ) ممنوع والثاني مسلم، وها هنا المجتهد الطالب للعلة لا يعلم ذلك إلا بعد أن يعثر عليه، وحينئذ لا يمكنه منع نفسه عن معرفتها لكونه خارجا عن وسعه. وسلمناه لكنه منقوض بالمنصوصة والمجمع عليها. وثالثها: أن العلة الشرعية أمارة فلابد وأن تكون كاشفة عن شيء، والقاصرة لا تكشف عن شيء من الأحكام فلا تكون أمارة فلا تكون علة. وجوابه] لا يخفى [مما سبق.

المسألة العاشرة اتفقوا على التعليل بمجرد الاسم غير جائز

المسألة العاشرة اتفقوا على التعليل بمجرد الاسم غير جائز، وهو كتعليل وجوب الحد في الزنا بكون العرب سمته بالزنا حتى يتعدى هذا الحكم إلى كل ما يسمى بالزنا، فلو ثبت أن اللواط يسمى بالزنا ثبت هذا الحكم فيه لاندراجه تحت الآية؛ فإن هذا النوع من الاستدلال صحيح، بل لأن علة وجوب الحد حاصلة فيه. ونحو تعليل تحريم الخمر بكون العرب منه خمرا. ثم الدليل عليه هو: أنا نعلم بالضرورة أنه لا أثر لمجرد التسمية في إثبات الحكم، ونفيه فلا يكون علة. وإن عنى به التعليل بمسمى الاسم نحو كونه مخامرا للعقل فذلك صحيح، لأنه تعليل بالوصف لا بالاسم.

المسألة الحادية عشرة

المسألة الحادية عشرة ذهب أصحابنا إلى أن الحكم أن الحكم في مورد النص ثابت بالعلة، وهذا ليس على إطلاقه فإن الحكم في بعض موارد النص غير ثابت بالعلة؛ لأن الحكم قد يكون تعبديا لا يعقل به معنى فيستحيل أن يقال أنه هناك ثابت بالعلة لا يقال: جاز أن يكون ثابتا بالعلة وإن لم يعقل له ثمة معنى فلا منافاة بينهما؛ لأنا نقول معنى قولنا: لا يعقل له علة عام يشمل ما إذا كان هناك علة ونحن لا نعقلها، وما إذا لم يكن هناك علة أصلا، وهذا القسم الثاني جائز على رأى فقهائنا، فإنهم وإن قالوا بجواز تعليل أفعال الله تعالى لكن لا يوجبون تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه في جميع الموارد بالحكم والمصالح، بل يجوز لله تعالى أن يشرع من الأحكام ما لا علة له أصلا، وإذا كان كذلك فيستحيل أن يقال معه أن الحكم في جميع موارد النص يكون ثابتا بالعلة] بل المراد منه أنه ثابت بالعلة [حيث يجعل أصلا للقياس، فإنه ما لم يعقل فيه معنى يصلح أن يكون علة وما لم يدل عليه دليل لا يمكن جعله أصلا للقياس. وذهبت الحنفية إلى أن ثابت بالنص دون العلة، محتجين عليه بوجوه: أحدها: أن الحكم معلوم، والعلة مظنونة، ضرورة أنها مستنبطة بطريق لا يفيد إلا الظن، والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم.

وثانيها: أنه لو كان الحكم ثابتا فيه بالعلة لكانت العلة أصلا له كما في الفرع، لكنه ليس كذلك بل هي فرع له كما تقدم في أول الباب فلا يكون ثابتا بالعلة، وبعبارة أخرى إن العلة في الأصل فرع الحكم كما سبق فتكون مفتقرة إليه ضرورة افتقار الفرع إلى الأصل، فلو كان الحكم ثابتا بها في الأصل لكان مفتقرا إليها ضرورة افتقار الحكم إلى العلة وحينئذ يلزم الدور وهو ممتنع. وثالثها: أن الحكم المنصوص عليه قد يكون بحيث يكفر جاحده والحكم الثابت بالعلة المستنبطة لا يكفر جاحده فلا يكون الحكم المنصوص عليه ثابتا بالعلة. واعلم أن الجواب عن هذه الأدلة يظهر عن تلخيص الخلاف في المسالة. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة آيل إلى الخلاف اللفظي؛ لأنه إن عنى بالعلة: المؤثر] يجعل الشارع إياه مؤثرا، والداعي إلى الحكم والباعث عليه فلا شك أن [كونه منصوصا عليه لا ينافى أن يكون معللا بهذا المعنى، والأدلة المذكورة لا تدل على فساد التعليل بهذا المعنى يظهر ذلك بأدنى تأمل وبهذا المعنى قال أصحابنا: أن الحكم المنصوص عليه ثابتا بالعلة، ولا ظن أن الخصم ينكره. وأن عنى بالعلة "المعرف" فلا شك أن كونه منصوصا عليه ينافي التعليل بالعلة بهذا المعنى، والخصم إنما ينكر كونه معللا بالعلة بهذا المعنى، وأصحابنا لا ينكرون ذلك، والأدلة المذكورة تدل على فساد هذا الاحتمال فقط، وعلى هذا التقدير لا يبقى في المسالة خلاف معنوي.

المسألة الثانية عشرة ذهب الأكثرون إلى إنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة، خلافا للأقلين من المتأخرين

المسألة الثانية عشرة ذهب الأكثرون إلى إنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة، خلافا للأقلين من المتأخرين. مثاله: قول من يقول: جواز التصرفات نحو البيع والهبة والوقف والإعتاق معلل بالملك، ولا وجود له في نظر العقل، والحس فيقدر له وجود في نظر الشرع لئلا يلزم أن يكون الحكم معللا بما لا وجود له حقيقة ولا تقديرا، فيكون عدما محضا، ونفيا صرفا، وهو ممتنع. فنقول: الملك معنى مقدر شرعي في المحل، أثره جواز التصرفات المذكورة وغيرها. ومنه أيضا قول القائل: الملك الحاصل عقيب البيع والشراء حادث، ضروره أنه ما كان حاصلا من قبل فلابد له من سبب وهو قوله: بعت واشتريت ولا وجود لهما حقيقة لأنهما مركبان من الحروف المتوالية، التى من شأنها أن يبقى كل واحد منها عند وجود الآخر، فإذا ليس لهما وجود حقيقي، فيجب أن يقدر لهما وجود تقديري في نظر الشارع، فإنه لما حكم بحصول الملك الحادث عند تمام التلفظ بهما مع/ (225/أ) أنه ليس لهما وجود حقيقى فلابد أن يكون ذلك بناء على الوجود التقديري؛ لئلا يلزم وجود السبب عند عدم المسبب حقيقة وتقديرا وهو ممتنع، وهذا في جانب المؤثر. فأما في جانب الأثر فنحو الدين، فإنه أثر سبب من الأسباب نحو

الاستدانة، أو الإتلاف الذي يوجب الغرم والضمان، وأثر التملك بعوض في الذمة، وليس هو السبب شرع] ابتداء [الأمر وهو ظاهر، فيقدرون الذين موجدا في ذمة المديون، لكون الدائن متمكنا من طلبه، وطلب ما ليس له وجود لا عقلا، ولا حسا، ولا شرعا محال. وزيف الإمام هذا بأن قال: أن الوجوب إما أن يكون مفردا بمجرد تعلق خطاب الشرع على ما هو مذهبنا. أو يكون الفعل في نفسه بحيث يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذم على ما هو مذهب المعتزلة. فإن كان الأول: لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث يكون علة؛ لأن ذلك التعلق قديم أزلي، فكيف يكون معللا بالمحدث. وإن كان الثاني: فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة فلا حاجة فيه إلى بقاء الحروف. وأيضا فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع، والحروف لو وجدت مجتمعة لخرجت عن أن تكون كلاما، فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي حصل منها قوله: "بعت واشتريت" لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام. وقال أيضا: أما تقدير المال في الذمة فهو ساقط جدا، لأنه لا معنى لكون الدين في الذمة إلا أن الشارع مكن الدائن من مطالبة المديون بذلك القدر من المال إما حالا، أو استقبالا، فهذا القدر معقول شرعا وعرفا، فلا حاجة له إلى تقدير وجود المال في الذمة.

وفيه نظر، أما الأول: فلأن الحكم عندنا ليس مجرد تعلق الخطاب، وإلا لزم أن يكون حادثا، فإن التعليق حادث، وقد اعترف الإمام به. وأيضا: فإنه فسر الحكم في أوله كتابه بالخطاب المتعلق بأفعال المكلفين فإنه غير مجرد التعلق. فكيف يكون الشيء الواحد عبارة عن نفس الغيرين. سلمنا صحة تفسير الحكم بمجرد التعلق، لكن لا نسلم أنه لا حاجة له حينئذ إلى معنى محدث؛ وهذا لأنه حينئذ يكون حادثا فيكون مفتقرا إلى سبب حادث، ثم هو منقوض بالأحكام المعللة بالأسباب والعلل الحادثة، فإن ما ذكره ينفي الجواز لا الحاجة فقط. فإن قال: معنى التعليل في تلك الصور التعريف. قيل بمثله فيما نحن فيه، فعند هذا يرد عليه أن يقال: الأمر الاعتباري لا يكون أشد محذورا من العدم، فإذا جاز التعليل بالعدم بمعنى المعرف جاز التعليل بالأمر الاعتباري بذلك المعنى أيضا؛ لأنه مثله أو أولى منه بذلك. وأما الثاني: فهو ضعيف أيضا؛ لأنه يقتضي أن لا يجوز التعليل بالوصف؛ لأنه يمكن أن يقال: المؤثر في الحكم جهات المصلحة [و] المفسدة، فلا حاجه فيه إلى الوصف وهو خلاف الإجماع؛ لأن التعليل بالوصف جائز اجماعا، سواء جاز التعليل بالحكمة أو لم يجز. وأما الثالث: فهو أيضا من نسق ما تقدم؛ إذ ليس معنى قولنا: أن التقرير يجب أن يكون على وفق الواقع أن المقدر يعطي حكم الواقع أن لو كان موجودا حتى يلزم ما ذكرتم، بل معناه: أنه يعطي حكم سبب موجود. سلمنا ذلك لكن ذلك فى غير ما قدر فيه فإنه لو أعطى فى ذلك أيضاً حكم

المسألة الثالثة عشرة في تقسيم العلة باعتبارات أخر غير ما تقدم

والواقع لم يبق للتقدير معنى وفائدة، وأما قوله: لا معنى للدين إلا أن الشرع مكنه من المطالبة بذلك القدر من المال إما حالا أو مالا فغير جيد؛ لأن ما ذكره أثر الدين لا نفسه، وأثر الشيء غير الشيء، فلا يكون الدين عبارة عنه، نعم لا حاجة إلى تقدير وجوده في الذمة لأن المطالبة الثابتة حالة عدمه لا يقتضي ذلك. المسألة الثالثة عشرة في تقسيم العلة باعتبارات أخر غير ما تقدم وهو من وجوه: أحدها: العلة لا يخلو إما أن يكون لها حكم واحد، أو لا يكون لها حكم واحد بل يكون حكمها متعددا، وحينئذ اما أن تكون متماثلة أو مختلفة، أو متضادة. فهذه أقسام أربعة: أحدها: أن يكون حكمها واحدا، وهو كالقتل الخطأ إذا اعتبرته بالنسبة إلى ذات واحد فإن حكمه إيجاب الدية فقط. وثانيها: أن يكون حكمها متعددا لكنها متماثلة وهذا إما أن يكون في ذات واحدة، أو في ذاتين. والأول: محال؛ لاستحالة اجتماع المثلين. والثاني: جائز وهو كالقتل الخطأ إذا اعتبرته بالنسبة إلى ذاتين فإنه يوجب لكل واحد منهما ما لا على القاتل. وثالثها: وهو أن يكون لها أحكام مختلفة، غير متضادة، وهذا جائز سواء كان بالنسبة إلى ذات واحدة كالحيض يوجب تحريم الصوم والصلاة والإحرام بالحج والوطء، أو بالنسبة إلى ذاتين وهو ظاهر.

ورابعها: أن يكون لها أحكام متضادة، وهذا لا يتصور، وهذا لا يتصور إلا أن يكون في محلين مختلفين، أو وإن كان في محل واحد] لكن بشرطين مختلفين لا يمكن اجتماعهما وإلا لزم اجتماع الضدين، أو الترجيح من غير مرجح، أو أن لا تكون العلة علة، وكل ذلك محال. بيانه: أنه لو لم يكن اقتضاؤها للحكمين المتضادين في محلين مختلفين لكان في محل واحد [أو فى محلين متماثلين، والاختلاف بالتعين والتشخص لا مدخل له في اختلاف الحكم فيرجع ذلك إلى/ (226/أ) اتحاد المحل، ثم بعد هذا لو لم يكن اقتضاؤها لهما بشرطين لا يمكن اجتماعهما لكان إما أن يكون بشرط واحد أو بشرطين يمكن اجتماعهما وحينئذ إن اقتضاهما فقد لزم الأمر الأول، أو يقتضي واحدا منها بعينه فقد لزم الأمر الثاني، أولا يقتضي واحدا منها فقد لزم الأمر الثالث. مثال ما إذا كان في محلين مختلفين: ذبح المحرم فإنه في الصيد يحرم أكله وفى غيره يحلل. مثال ما إذا كان بشرطين مختلفين لا يمكن اجتماعهما: ذبح المسلم الصيد بشرط كونه حلالا يوجب حل أكله وبشرط كونه محرما يوجب تحريم أكله. وثانيها: أن العلة قد يكون اقتضاؤها لمعلولها موقوفا على شرط مثل الزنا فإنه لا يوجب الرجم إلا بشرط الاحصان وقد لا يكون كذلك وهو كالزنا بالنسبة إلى وجود الجلد. وثالثها: العلة قد تثبت الحكم ابتداء فقط كنية التجارة في وجوب زكاتها فإنها إذا قارنت ابتداء حصول الملك الحاصل بعوض أثبته، وإن قاربت بعده لم تؤثر وقد تثبته ابتداء ودواما كنية الفيئة فإنها تثبت عدم الوجوب ابتداء ودواما، وقد تكون العلة قوية على الدفع دون الرفع كالعدة، وقد تكون قوية عليهما

المسألة الرابعة عشرة اعلم أن الاستدلال قد يكون بذات العلة على الحكم، وقد يكون بعلية الحكم للحكم عليه

كالرضاع في إبطال النكاح. تنبيه: شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم، وإلا لم يكن اقتضاء حصول الحكم لشيء أولى من اقتضائه، وحينئذ إما أن لا يقتضي له ولا لغيره وهو باطل؛ لأنه يقتضي له ولا لغيره وهو باطل؛ لأنه يقتضي [أن لا تكون العلة علة، أو يقتضي له ولغيره وهو أيضا باطل، لأنه يقتضي [أن تكون العلة علة عامة مثبتة لذلك الحكم في كل المحال، وهو محال، ولما كان عدم الاختصاص يستلزم هذه الأقسام الباطلة كان باطلا. المسألة الرابعة عشرة اعلم أن الاستدلال قد يكون بذات العلة على الحكم، وقد يكون بعلية الحكم للحكم عليه. أما الاستدلال بذات العلة على الحكم فصحيح، وهو كما يقال: قتل عمد عدوان، فيجب القصاص به. وأما الاستدلال بعلية العلة للحكم على الحكم ففاسد؛ لأن علية العلة للحكم يتوقف على اقتضاء العلة للحكم، وكونه مترتبا عليها لولا المانع، بحيث يجب أن يكون فلو استفيد اقتضاؤها بها وترتبه عليها من العلية لزم الدور. واحتج الإمام على هذا المقام بأن العلية أمر إضافي يتوقف ثبوتها على ثبوت

المضافين، فيتوقف على ثبوت الحكم فإثبات الحكم بها دور. فاعترض عليه. بأن صدق قول القائل: القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف لا على وجود القتل، ولا على وجود القصاص وحينئذ لا يلزم الدور. سلمناه لكن العلة لما فسرت بالمعرف انقطع الدور، ومراده منه انقطع الدور الممتنع وإلا فلزوم الدور على تقدير تفسير العلة بالمعرف أيضا ظاهر، وإنما الدور في المعرفات غير ممتنع وهما متجهان، لأن النسبة لا تقتضي تحقق المنتسبين في الخارج، بل في الذهن كما عرفت ذلك غير مرة، وهما غير واردين على ما حررنا من الدلالة وهو ظاهر. ] فإن [قلت: يرد على ما ذكرتم أن يقال: إنا لا نسلم أن علية العلة تتوقف على اقتضاء العلة للحكم وكونه بحيث يجب أن يكون مترتبا عليها لولا المانع؛ وهذا لأنه لا معنى للعلية إلا هذا وحينئذ لا يتصور أن يقال: إنه متوقف عليه؛ لأن توقف الشيء على الشيء يقتضي ثبوت المغايرة بينهما فحيث لا مغايرة لا يعقل ذلك. ] قلت [الدليل على أنه غيره: أن اقتضاء الشيء للحكم وكونه مترتبا عليه لولا المعارض أعم من أن يكون ذلك بطريق العلية أو غيرها، نعم إذا أضيف الاقتضاء إلى العلة تخصص، لكن ذلك لا يقتضي أن يكون عينه؛ فإن هذا التخصيص خارج عن ماهية الاقتضاء وداخل في ماهية العلية فهما متغايران، ولئن سلم أنه عينه لكن نقول: أن يكون الحكم مترتبا على العلة وكونها مقتضية له إما أن يكون عين العلة أو غيرها، فإن كان الأول لزم

المسألة الخامسة عشرة اعلم أن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع

الاستدلال بالشيء على نفسه وهو ممتنع، وإن كان غيرها لزم الدور على ما سبق، فعلى التقديرين الاستدلال بالعلية على ثبوت الحكم وترتبه على العلة ممتنع وهو المقصود، والاستدلال بعلية العلة له صورتان: إحدهما: أن يقال: سببه وجوب القصاص حاصل فيجب القصاص. وثانيها: أن يقال: قتل عمد عدوان سبب لوجوب القصاص حاصل فيجب القصاص ففي الأول يجعل نفس السببية علة ودليلا، وفي الثانية جزء العلة جزؤ الدليل وكلاهما باطلان كما سبق. المسألة الخامسة عشرة اعلم أن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي يسمى تعليلا بالمانع. واختلفوا في أنه هل يشترط في صحة هذا التعليل بيان وجود المقتضي أم لا؟ فذهب جمع إلى اشتراطه. وأباه الآخرون. ولا يخفى عليك أن هذا الخلاف إنما يتأتى إذا جوزنا تخصيص العلة فأما إذا لم نجوز ذلك فلا يتصور هذا الخلاف؛ لأن التعليل بالمانع حينئذ لا يتصور

فضلا عن أن يكون مشروطا ببيان وجود المقتضى أم لا، وكذا الخلاف فيما إذا علل عدم الحكم بفوات شرط. احتج الأولون بوجوه: أحدها: أن الأحكام مشروعة لمصالح الخلق على ما تقدم تقريره، فما لا مصلحة فيه لا فائدة في شرعه، وما لا فائدة في/ (227/أ) شرعه يكون انتفاؤه لانتفاء فائدته، سواء وجد هناك ما يقتضي عدمه أو لم يوجد. وفرق بين عدم الحكم لعدم المقتضى، وبين عدم الحكم لمقتضى العدم، فإن الأول نفى للمقتضي، والثاني إثبات له، وهو غير مستلزم له وإذا كان كذلك كان عدم الحكم لعدم المقتضي لا لوجود المانع فما لم يوجد المقتضي للإثبات كان نفي الحكم للمانع أو للشرط ممتنعا. وجوابه: أنا نسلم أن عدمه لعدم المقتضي، لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي أن لا يكون عدمه لوجود المانع، وما الدليل عليه؟ فإن قلت: الدليل عليه وهو أنه يلزم منه إثبات الثابت وتحصيل الحاصل وهو ممتنع. قلت: لا نسلم لزوم هذا الذي يدل على تعليله بالمانع أنه لو لم يكن معللا به أيضا لزم الترك بالمناسبة والاقتران، وأنه خلاف الأصل، ولأن علل الشرع أدلة ومعرفات فلا يمتنع اجتماعها على مدلول واحد] ومعرف واحد [فلا يلزم من تعليله بعدم المقتضي امتناع تعليله بوجود المانع.

وثانيها: أنه لو علل عدم الحكم بالمانع فإما أن تعليل به العدم الأصلي وهو باطل. أما أولا: فلأن العدم الأصلي واجب أزلي والواجب لا يعلل. وأما ثانيا: فلأنه كان حاصلا قبل المانع، والشرع الحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد، أو العدم المتجدد وفيه تسليم المقصود؛ لأن تجدد عدم الحكم لا يحصل إلا بأحد أمرين. أحدهما: أن يكون عدم الحكم بعد وجوده. وثانيهما: أن يكون الحكم بفرضية الدخول فمنعه المانع من الدخول، وعلى التقديرين لا يتحقق ذلك إلا عند قيام المقتضي. وجوابه: منع امتناع تعليل المتقدم بالمتأخر بمعنى المعرف ومنع كون الواجب لا يعلل بذلك المعنى. سلمنا امتناع هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون الملل المتجدد. قوله: ذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنا لا نعني بالعدم المتجدد إلا أنه حصل لنا العلم بعدم الحكم من قبل الشرع، ومعلوم أن هذا لا يقتضي تحقق المقتضي. وثالثها: أن عدم الحكم معلل بعدم المقتضي وفاقا، فلو علل بالمانع إذ ذاك أيضا فإما نفس ذلك العدم، أو مثله وهما باطلان، لما فيه من تحصيل الحاصل واجتماع المثلين أو غيرهما، وفيه تسليم المقصود، أو خلاف الغرض لا غيرهما، إما العدم المتجدد، أو ثبوت الحكم. وجوابه ما سبق في الأول.

ورابعها: أن إسناد انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضي أظهر عند العقل من إسناد انتفائه إلى وجود المانع. أما أولا: فلأنه أعم وأغلب. وأما ثانيا: فلأنه لا يتوقف ذلك إلا على عدم المقتضي، وأما إسناد انتفائه إلى وجود المانع فيتوقف على وجود المانع ومناسبته واقتران العدم معه، ثم الوجود يتوقف على مقدمات لا يتوقف عليها العدم والمتوقف على أقل المقدمات أظهر عند العقل من المتوقف على أكثرها فثبت أن إسناد انتفاء الحكم إلى عدم المقتضي أظهر عند العقل من إسناد انتفائه إلى وجود المانع، وحينئذ إن كان ظن عدم المقتضي أقوى من ظن وجود المانع أو مثله لم يجز التعليل بالمانع؛ لأنه حينئذ يكون ظن عدم المقتضي أرجح من ظن وجود المانع، أما في الصورة الأولى فظاهر، وأما في الثانية فلأنهما لما استويا فى الظن واختص عدم المقتضي بمزية، وهي أن ظن إسناد عدم الحكم إليه أظهر من ظن إسناد إلى وجود المانع كان ظن تعليل العدم بعدم المقتضى أظهر من ظن تعليله بوجود المانع، وإذا كان كذلك لم يجز التعليل بوجود المانع؛ لأن مع وجود العلة الراجحة لم يجز التعليل بالعلة المرجوحة، وإن كان ظن عدم المقتضي مرجوحا بالنسبة إلى ظن وجود المانع جاز التعليل بالمانع، بل وجب لكن ذلك يتضمن رجحان ظن وجود المقتضي؛ لأن ظن عدمه لما كان مرجوحا وجب أن يكون ظن وجوده راجحا، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فيكون التعليل بالمانع يتوقف على بيان رجحان وجود المقتضي وهو المطلوب. وجوابه: أن مجرد العلم أو الظن بوجود المانع يقتضي ظن عدم الحكم، بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التى ذكرتموها. وخامسها: أن التعليل بالمانع يتوقف على بيان وجود المقتضي في العرف فوجب أن يكون في الشرع كذلك.

بيان الأول: أن من قال في طير القفص: إنما لا يطير، لأن القفص يمنعه، فهذا التعليل موقوف على العلم أو الظن يكون الطير حيا قادرا على الطيران، فإن بتقدير أن يكون ميتا، أو كان مقصوص الجناح امتنع هذا التعليل ونظائره كثيرة. بيان الثاني بالحديث المشهور. وجوابه: منع توقف التعليل عليه في العرف؛ وهذا لأن العرف في ذلك مختلف، فتارة يتوقف عليه كما في المثال الذي ذكرتم، وتارة لا يتوقف عليه كما إذا علمنا أو ظننا وجود سبع في طريق شخص، فإن/ (228/أ) هذا القدر كاف في حصول الظن في أن ذلك الشخص لا يحضر، وأإن لم يخطر ببالنا سلامة أعضائه، وأن له داعية الحضور، ويمكن أن يجعل هذا مع الحديث المشهور الذى تمسك به الخصم دليلا في المسألة ابتداء. واحتج الآخرون بوجوه: أحدهما: أن بين المقتضي والمانع عنادا وتضادا، والشيء لا يتقوى بضده ومعانده بل يضعف فإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه وهو حال وجود المقتضي، فلأن يجوز حال قوته وهو حال عدم المقتضي بالطريق الأولى. ولقائل أن يقول: لا يلزم من جواز تعليل عدم الحكم بالمانع حال وجود المقتضي الذي هو شرط التعليل به] جواز تعليله به حال عدم المقتضي الذي هو مناف لتعليله به [وأما كونه قويا إذ ذاك ضعيف حال وجوده فممنوع أولاً؛

وهذا لأن وجود المقتضي لما كان شرط تأثيره في عدم الحكم استحال أن يقال إنه يضعف إذ ذاك؛ لأن الشيء لا يضعف حال وجود شرط تأثيره. سلمناه لكن لا يلزم منه أيضا عدم الجواز؛ لأن المأخذ في هذا ليس هو القوة والضعف حتى يلزم ما ذكرتم بل غيرهما كما عرفت مما تقدم فلا يلزم ما ذكروه. وثانيها: أن توقيف اقتضاء المقتضي على شرط خلاف الأصل لا سيما إذا كان ذلك الشرط يستلزم خلاف أصل آخر، ولا شك أن المانع مقتضي لعدم الحكم فتوقيف اقتضائه بعدم الحكم على وجود المقتضي الذي يستلزم التعارض الذي هو خلاف الأصل بينه وبين نفسه خلاف الأصل وهذه الحجة لا بأس بها. وثالثها: أن الوصف الوجودي إذا كان مناسبا للحكم العدمي أو كان دائرا معه وجودا وعدما حصل لنا ظن عليته له والعمل بالظن واجب، فيكون العمل بعليته واجبا ولا نعني بكونه علة سوى هذا. وجوابه: منع حصول الظن بذلك مطلقا، بل إذا لم يكن شرط، أو أن كان له شرط لكن إذا وجد شرائط تأثيره فلم قلتم أن ذلك حاصل هاهنا، ثم أنه لا يمكنكم إلا إذا بينتم أن وجود المقتضي ليس بشرط له فالاستدلال به على عدم اشتراط وجود المقتضي دور.

فرع ثم أن شرطنا بيان وجود المقتضي في التعليل بالمانع فلا يجب على المستدل في الفرع موجودا فيه لم يكن الحكم ثابتا فيه وهو المطلوب. وإن كان موجودا فيه كان ذلك لمصلحة كذا، أو دفع حاجة كذا، وهذا المعنى حاصل في الأصل، والعدم ثابت فيه بالإجماع، فيكون عدم الحكم فيه معللا بالمانع وأنه حاصل في الفرع فيلزم عدم الحكم في صورة الفرع. تنبيه شرط بعضهم أن يكون الاتفاق حاصلا على وجود الوصف الذي جعل علة الحكم في الأصل. وهو ضعيف؛ لأنه لما أمكن لإثباته بالدليل حصل الغرض ولأنه ليس شرط حصول الاتفاق على هذه المقدمة من مقدمات القياس أولى من اشتراطه في غيرها] بل ربما يكون غيرها [أولى بذلك لمدار القياس عليه. والحق أن وجود ذلك قد يكون معلوما بالضرورة، وقد يكون بالنظر، وقد يكون مظنونا بالأمارة الموجبة لها.

خاتمة لهذا القسم بمسائل في أحكام العلة لم يتقدم ذكرها

خاتمة لهذا القسم بمسائل في أحكام العلة لم يتقدم ذكرها فيما قدمنا من الأقسام. المسألة الأولى ذهب الجماهير إلى أن العلة الواحدة الشرعية يجوز أن تكون علة لحكمين مختلفين شرعيين معا، خلافا لبعضهم. والدليل على جوازه هو: أن العلة إن فسرت بالمعرف فجوازه ظاهر؛ لأن الشيء الواحد يجوز أن يكون معرفا لمختلفين. وإن فسرت بالباعث فلا يمتنع أيضا؛ لأن الوصف الواحد قد يكون باعثا على حكمين مختلفين لمناسبته لهما بأمر مشترك بينهما، وإلا فمناسبة الواحد لمختلفين لخصوصهما ممتنع، وهو كمناسبة الزنا لتحريمه، ووجوب الحد عليه ومناسبة القتل العمد العدوان لوجوب القصاص، وحرمان الميراث ووجوب الكفارة على رأينا. وإن فسرت بالموجب وكانت العلة مركبة لم يمتنع ذلك أيضا؛ لجواز أن يكون الموجب المركب مصدرا لأثرين مختلفين كما في العلل العقلية المركبة، وإن كانت بسيطة فكذلك؛ لأنه لا يمتنع أن تكون العلة البسيطة موجبة لأثرين مختلفين؛ إذ القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد باطل قطعا على أن القول بكون العلة الشرعية موجبة باطل. وأيضا: الوقوع دليل الجواز وزيادة قد وقع ذلك في الشرع كما تقدم. وأيضا: فإن مجرد عقد النكاح علة لإباحة الوطء، وعلة لجريان التوارث بينهما] بشرط الموت، وموجب للصداق وموجب لحرمتها على أصول

الزوج [وفروعه ولحرمة أمها عليه، ولا شك في أن هذه الأحكام مختلفة بالنوع وله نظائر كثيرة. واحتج المخالف: بأنها لو كانت علة لحكمين مختلفين لكانت مناسبة لهما لكن ذلك باطل؛ لأن المعنى من مناسبة الوصف للحكم أن ترتبه عليه كاف في حصول مقصوده، فلو كان الوصف الواحد مناسبا لحكمين فمن حيث إنه مناسب لأحدهما يجب أن يكفي ترتبه عليه في حصول المقصود، ومن حيث إنه مناسب لهما وجب أن لا يكفي ذلك بل لابد في ذلك من ترتيبهما عليه فوجب أن يكفي أحدهما في ذلك، وأن لا يكفي أحدهما، هذا خلف فما/ (229/أ) أفضى إليه يجب أن يكون كذلك. وأيضا: لو ناسبهما بجهة واحدة فهو ممتنع؛ لأن الشيء الواحد لا يناسب المختلفين لخصوصهما، أو بجهتين مختلفتين فحينئذ يلزم أن تكون العلة مختلفة، لأن كل واحدة من تينك الجهتين المختلفتين هي العلة بالحقيقة إلا أنها قامتا بذات واحدة. وجواب الأول: أنا لا نسلم أن المعنى من كون الوصف مناسبا للحكم ما ذكرتم مطلقا، بل ذاك إذا كان ما ترتب عليه كل المناسب، فإما إذا كان بعض المناسب فلا، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور. وعن الثاني: ما تقدم وهو أنه لا يلزم من عدم مناسبة الجهة الواحدة المختلفتين بحصوصهما عدم مناسبتها لهما مطلقا، لجواز أن تكون مناسبة لهما باعتبار أمر مشترك بينهما، واستلزم الوصف له يقتضي استلزام ذينك المختلفين لكونهما لا ينفكان عنه.

المسألة الثانية الوصف الذي جعل علة الحكم بمعنى الباعث لا شتمالها على الحكمة يجب أن لا يمكن بمثابة يلزم منه إثبات الحكم، أو نفيه مع القطع

المسألة الثانية الوصف الذي جعل علة الحكم بمعنى الباعث لا شتمالها على الحكمة يجب أن لا يمكن بمثابة يلزم منه إثبات الحكم، أو نفيه مع القطع بانتفاء الحكمة أو تحققها في صورة. مثاله: ضبط الحنفية لما يجب به القصاص وعدمه بالجرح وعدمه أو نفيه. فنقول: لا شك في أن القصاص إنما وجب لصيانة النفس المعصومة عن الفوات، فلو ضبط وجوبه وعدم وجوبه بمجرد الجرح للزم وجوب القصاص في حق من جرح ولم يقتل، أو قتل بما يقتل قطعا أو غالبا ولم يخرج ممتنع لكونه يخالف] مقتضى الحكمة التي في صيانة النفس. فإن قلت: الأول غير لازم لأنا لا نضبطه [بمجرد الجرح، بل بجرح يؤدي إلى القتل، أو يحصل عقيبه فوات النفس، وذلك غير حاصل في الصورة التى فوضتموها. قلت: نحن إنما نورد ذلك على من أطلق القول في ذلك على ما هو المشهور من أصحابكم، فأما من قيده بما ذكرتم، فيرد عليه ما إذا جرح من غير قصد إلى الفعل، أو وأن قصد الجرح لكنه لا يقتل فلا يحصل فوات النفس عقيبه على الندرو، كما إذا غرز إبرة في العقب ومات عقبه من غير أن يعقبه ألم ولا ورم، فها هنا حصل فوات النفس عقيب الجرح مع عدم وجوب القصاص، ولو التزم الخصم وجوب القصاص في هذه الصورة فبعيد جداً.

فإن قلت: هذا لازم عليكم أيضا، فإن من مذهبكم أن الاستبراء واجب وإن كانت الجارية الميبعة بكرا، أو صغيرة، أو آيسة، ففى هذه الصورة قد أثبتم الحكم لتحقق ضابط الحكمة وهو تجدد الملك مع القطع بانتفاء الحكمة وهى الاحتراز عن اختلاط المائين فما هو جوابكم هنا فهو جوابنا فيما أوردتم علينا. قلت: بمنع الحكم فيها أولا على رأي لبعض أصحابنا، ولو سلم فإنما كان كذلك لإطلاق الحديث الوارد في هذا الباب من غير فصل بين البكر والموطؤة وبين الآيسة وغيرها، فلو خلينا والمناسبة ما كان لنا أن نجعل الضابط بحيث يلزم منه ثبوت الحكم مع القطع بانتفاء الحكمة عنه، لكن الشرع لما رتب الحكم على الضابط المشتمل على الحكمة على الإطلاق من غير فصل بين أفرادها وجب علينا أن نجريه على إطلاقه؛ لأنه إن لم تجوز أن يستنبط من الحكم الملول عليه بالنص علة على وجه يرفعه بالكلية أو يخصصه فظاهر، وإن جوزنا الثاني دون الأول فكذلك؛ لأنه قد تأكد إطلاقه بإيمانه حيث قال مرتبا على حصول الملك: (ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض) فإن ذلك يدل على علية حصول الملك بوجوب الاستبراء من

المناسبة لقوة الإيماء، كما أن الإيماء قد يترك لقوة المناسبة، فإذا اجتمع الإيماء مع الإطلاق فلأن تترك المناسبة بالطريق الأولى. وأيضا: إذا ظهر تأثير الوصف الحكم في الأصل، فإنا نعدي به الحكم إلى الفرع، وإن لم تظهر لنا مناسبته ونرجحه على الوصف الذى ظهرت لنا مناسبته ولا يكون مؤثرا، وإذا كنا نترك المناسبة لأجل التأثير في الفرع الذى ما يتناوله النص فلأن نتركها في الصورة التى يتناولها النص مع التأثير كان أولى. فإن قلت: لا نسلم أنه لا يجوز به الضبط؛ وهذا لأنه وإن كان بمثابة يلزم منه ثبوت الحكم في صورة بدون حكمة ذلك الضابط في الأصل، لكن يجوز أن يكون ضابطا لحكمة أخرى في تلك الصورة التي ليست فيها حكمة الأصل فحينئذ لا يلزم أن يكون ثبوت الحكم في تلك الصورة خاليا عن الحكمة فلا يلزم منه مخالفة مقتضى الحكمة. قلت: كلامنا فيما إذا كان يلزم منه ثبوت الحكم مع القطع بانتفاء مسمى الحكمة، فالألف واللام في الحكمة في قولنا: يجب أن يكون بمثابة يلزم منه إثبات الحكم أو نفيه مع القطع بانتفاء الحكمة أو تحقيقها إنما هو لتعريف الماهية لا للعهد، وحينئذ يلزم سقوط هذا الاعتراض بالكلية. سلمنا أنهما للعهد لكن نقول: هذا الاحتمال باطل؛ لأن كون ذلك الضابط يختص في كل صورة بحكمة مخالفة لحكمة الصورة الأخرى أما أن يكون لذاته أو لازم لذاته أو لغيرهما والأول باطل؛ لأنه حينئذ يلزم اشتراك

تلك الصور في تلك الحكم ضرورة اشتراكها في موجبها وهو/ (230/أ) خلف مخالف للفرض والثاني أيضا باطل؛ لأن ذلك الغير إما أن يكون مختصا بكل واحدة من تلك الصور، أو لا يكون كذلك، فإن كان الأول فحينئذ يكون الضابط لكل واحد من تلك الحكم مجموع الأمرين مما به الاشتراك ومما به الاختصاص، فيكون ضابط الحكمة مختلفا وليس كلامنا فيه بل فيما إذا كان الضابط واحدا والحكم مختلفه فيكون خلفا. وإن كان الثاني فإما أن يكون مشتركا بينها بأسرها وحينئذ يلزم الاشتراك في الحكم أيضا لما سبق، أو لا يكون كذلك بل كان أجنبيا عنها بأسرها وحينئذ تكون نسبته لكل واحد من تلك الصور على السوية فليس اختصاص ذلك الضابط مع ذلك الأمر بحكمة في صورة أولى من اختصاصه معه بتلك الحكمة في صورة أخرى وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، وحينئذ إما أن يختص بتلك الحكمة في كل الصور أو لا يختص بها في شيء منها وكل واحد منهما باطل فما أفضى إليه يكون أيضاً كذلك.

المسألة الثالثة قيل الوصف الذي جعل ضابطا لحكمته يجب أن يكون جامعا للحكمة

المسألة الثالثة قيل الوصف الذي جعل ضابطا لحكمته يجب أن يكون جامعا للحكمة بحيث لا توجد الحكمة في صورة بدونه قطعا؛ لأنه لو وجدنا في صورة بدونه فإما أن يثبت الحكم المرتب على الضابط المشتمل عليها في تلك الصورة، أو لا يثبت فإن كان الأول لزم أن تكون الحكمة هي العلة دون الضابط، وأنه يكون مستغني عنه؛ لأن الحكم إذا كان بحيث يوجد بوجود الحكمة وينتفي بانتفائها كانت الحكمة هي العلة ويكون الضابط مستغني عنه فيمتنع نصبه ضابطا، وإن كان الثاني لزم إلغاء عين الحكمة التي لأجلها يثبت الحكم وهي ممتنع لما فيه من عدم اعتبار] المقصود [الأصلي واعتبار الفرع الذي هو غير مقصود. واعلم أن كلام في هذه المسألة ينبغي أن يبني على الكلام في مسألتين وهما: أن التعليل بعلتين مختلفتين هل هو جائز أم لا؟ وأن التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط هل هو جائز أم لا؟ فمن جوز ذلك لزمه تجويز ما نحن فيه ولا يتأتى عليه الدليل المذكور، ومن لم يجوز ذلك لزمه امتناع ما نحن فيه لتأتى الدليل المذكور عليه. مثاله: ضبط الحنفية العمدية باستعمال الجارح، فإنه يلزم منه إهمال العمدية مع تيقن وجودها وذلك فيما أصاب رأس الإنسان بصخرة عظيمة] أ [وألقاء في بحر مغرق أو نار محرقة لا خلاص منها.

المسألة الرابعة المشهور أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلة متأخرة عنه في الوجود

المسألة الرابعة المشهور أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلة متأخرة عنه في الوجود. وقيل بجوازه. وهو الحق إن أريد بالعلة المعرف؛ لأنه لا يمتنع تأخر المعرف عن المعرف. وإن أريد بالعلة الباعث أو الموجب سواء كان بجعل الشارع أو بذاته فلا. لكن قد تقدم أنه لا يجوز تعليل حكم الأصل بالأمارة فحينئذ يلزم أن لا يجوز تعليل حكم الأصل بالعلة المتأخرة عنه في الوجود لكن لا لكونها متأخرة، بل لكونها لا يجوز أن تكون معرفة فأما في غيره فيجوز. فإن قلت: إنما جوزتم ذلك في الفرع؛ لأنه يجوز أن تكون العلة فيه بمعنى المعرف، لكن فائدة العلة إنما هو التعريف وذلك غير حاصل فيما نحن فيه، فإن الحكم معلوم فيه قبل علته فيمتنع لامتناع فائدته. قلت: ينتقض ذلك بجواز اجتماع المعرفات على المعرف الواحد، وبجواز اجتماع الأدلة على المدلول الواحد، فكل ما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا

ها هنا، وعند هذا تعرف أنه لا يمتنع أيضًا تعليل حكم الأصل بالعلة بمعنى الأمارة؛ لأن غاية ما يلزم فيه إنما هو اجتماع المعرفين على حكم الأصل النص والعلة وذلك مما لا امتناع فيه. فإن قلت: هب أنه لا يمتنع من هذا الوجه، لكنه يمتنع من وجه أخر، وهو أن الحكم إن كان ثابتًا قبل العلة المتأخرة عنه لا لعلة لزم ثبوت الحكم في غير الأصل لا لعلة وهو ممتنع؛ لامتناع ثبوت الحكم من غير تحقق مدرك من مداركه وإن كان ثابتًا بعلة أخرى كانت معه فحينئذ يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين وأنتم بينتم امتناعه وبتقدير جوازه فإنما تجوز ذلك إذا وجدتا معًا فأما إذا ترتبتا فلا يعقل ذلك فيه؛ لأن الحكم معلل فيه بالأولى دون الثانية. قلت: وإن لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين جاز ما نحن فيه ولا يلزم منه ثبوت الحكم من غير تحقق مدرك من مداركه؛ فإن المدرك في الفرع غير منحصر في العلة حتى يلزم من انتفائها انتفاء الحكم أو ثبوته من غير مدرك؛ وهذا فإنه يجوز أن يكون الحكم معلومًا بالبقاء على العدم الأصلي ثم يعلل ذلك بأمر وجودي مناسب له، ومعلوم أن البقاء على العدم الأصلي ليس بعلة وهو مدرك من مدارك الأحكام، ولا يظن أن المعلل بالأمر الوجودي غير المعلل بالبقاء على العدم الأصلي؛ لأن المعلل بالأول إنما [هو] عدم متجدد وهو عدم ما كان بفرضية الدخول في الوجود وهو غير العدم الأصلي؛ لأنا بينا أن التعليل بالمانع لا يتوقف على وجود المقتضى. مثاله تعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون فإن الولاية ثابتة للأب قبل عروض الجنون فهل يجوز أن تعلل بالجنون أم لا؟ فعلى ما تقدم والله أعلم.

المسألة الخامسة: (231/ أ) العلة المستنبطة من الحكم يجب أن لا ترجع إليه بالإبطال، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا في الأصل

المسألة الخامسة: (231/ أ) العلة المستنبطة من الحكم يجب أن لا ترجع إليه بالإبطال، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا في الأصل، فإن العلة إنما تستنبط من حكم الأصل لا غير. والدليل عليه: أن العلة فرع لهذا الحكم والفرع لا يرجع إلى أصله بالإبطال، وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال؛ لأن إبطال الأصل إبطال فرع، إبطال الشيء نفسه محال. هذا صحيح أن عنى بذلك إبطاله بالكلية، فأما إذا لزم منه تخصيص الحكم ببعض الأفراد دون البعض فينبغي أن يجوز؛ لأنه كتخصيص العلة بحكم نص آخر وهو جائز، فكذا هذا، وإن كان بينهما فرق لطيف لا ينتهي إلى درجة أن لا يجوز القول بذلك معه. مثاله: تعليل الحنفية وجوب الزكاة في نصابها بدفع حاجة الفقير مطلقًا، فإن ذلك يرفع وجوب الشاة بعينها الذي دل عليه صريح النص وهو الحكم الذي استنبط العلة منه. فإن قلت: نحن لم نستنبط العلة المذكورة من ذلك النص وأمثاله بل من النصوص المطلقة نحو قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} وقوله -عليه السلام -: "هاتوا بربع عشور أموالكم" وعلى هذا التقدير لا يكون في العلة

ما يرجع إلى أصله بالإبطال فإن الحكم الذي استنبطت العلة منه إنما هو مطلق الوجوب لا وجوب شيء مخصوص. قلت: استنباط مطلق دفع حاجة الفقير منه ممكن أما دفع حاجته بقدر مخصوص من المال منه فعير ممكن، والتمسك إنما وقع الثاني دون الأول، فلم يمكن استنباطه إلا عن النصوص الموجبة لمقدار معين نحو قوله عليه السلام: "في كل أربعين شاةٍ شاة".

المسألة السادسة شرط قوم أن العلة المستنبطة يجب أن لا يكون مخصصة لعموم القرآن والسنة المتواترة، وهو بناء على أنه لا يجوز تخصيصها بالقياس، وقد بينا صحته، وفساده يعرف من ذلك، وأن لا تكون معارضة لعلة أخرى [تقضي نقيض حكمها، وهذا إن عنى به أن لا تكون معارضة لعلة أخرى] كيف كانت فهذا مما لا وجه له؛ لأن بتقدير أن تكون راجحة على ما يعارضها من العلة لا مانع من استنباطها وجعلها علة، ولا يظن أن كون تخصيص العلة غير جائز من هذا؛ لأن تلك مسألة وما نحن فيه مسألة؛ لأن ما نحن فيه ليس من شرطه أن تكون العلة معمولة بها في صورة. وإن عنى به أن لا تكون معارضة لعلة أخرى راجحة عليها فهذا وإن كان شرائط صحة لعلة المعمول بها لكن ليس من شرائط صحة العلة في ذاتها، فإن العلة المرجوحة والدليل المرجوح لا يخرجان بسبب المرجوحية عن أن يكون علة أو دليلاً وإلا لما تصور التعارض إلا بين الدليلين المتساويين. وأن لا تكون متضمنة لإثبات زيادة على النص وهذا أن عنوا به أن لا تكون [متضمنة لإثبات] زيادة منافية لمقتضى النص فهذا صحيح، وإن عنوا به أن لا تكون متضمنة لإثبات زيادة على النص كيف كانت الزيادة فهذا باطل، لأنا بينا أن الزيادة على النص كيف كانت الزيادة فهذا باطل؛ لأنا بينا أن

الزيادة على النص ليس بنسخ وأن تكون مستنبطة من أصل مقطوع بحكمه وهو باطل؛ لأنه يجوز القياس على الذي ثبت حكمه بدليل ظني بخبر الواحد، والبراءة الأصلية، والعموم، والمفهوم، وغيرها. وأن تكون موجودة في الفرع قطعًا، أي يعلم ذلك على وجه القطع وهو أيضًا باطل؛ لأنه من جملة مقدمات القياس فجاز أن يكون ظنيًا كغيره من المقدمات، وأن لا تكون مخالفة لمذهب الصحابي، وهو أيضًا باطل؛ لأنه ليس بحجة [وبتقدير كونه حجة] لكن لا نسلم أنه يكون راجحًا على القياس، وبتقدير أن يكون حجة لكن يجوز أن يكون مستنده في ذلك علة مستنبطة من أصل آخر أيضًا فلم يكن مشروطًا بعدم مخالفة فرع مثله.

الباب الخامس في الركن الرابع وهو الفرع

الباب الخامس في الركن الرابع وهو الفرع

الباب الخامس في الركن الرابع وهو الفرع وهو الذي يراد ثبوت الحكم فيه وله شروط: الشرط الأول: أن تكون العلة الموجودة فيه يجب أن تكون مثل علة حكم الأصل من غير تفاوت -ألبتة -لا في الماهية ولا في القدر، أي في النقصان فأما في الزيادة فقد لا تضر بل تكون أولى بالحكم، كما في قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف بجامع الإهانة والإخلال بالتعظيم. وقولنا: "من غير تفاوت في الماهية" جار مجرى التوكيد والتوضيح؛ لأن قولنا: مثل علة حكم الأصل ينبئ عن هذا؛ لأن المثل لا يكن إلا إذا كان غير متفاوت في الماهية، ويندرج تحت ما ذكرنا أيضًا ما إذا قيس نوع على نوع آخر كقياس وجوب القصاص في القطع على وجوب القصاص في القتل بجامع ما يشتركان من الجناية المشتركة بينهما؛ لأن التعدية حينئذ تكون بعلة مثل علة حكم الأصل فإن ما يوجد في الفرع من الجناية المشتركة بينه وبين الأصل يكون مثل الموجودة منها في الأصل. ويندرج أيضًا تحت قياس العكس لأن تعدية الحكم فيه من الأصل إلى الفرع على تقدير نقيض المدعى فيه إنما هو بعلة مثل علة الأصل. الثاني: أن يكون/ (232/ أ) حكم الفرع مثل حكم الأصل، إما نوعًا كقياس وجوب القصاص في النفس في صورة القتل بالمثقل على وجوب

القصاص في صورة القتل بالمحدد، أو جنسًا كقياس إثبات ولاية النكاح على الثيب الصغيرة بالقياس على إثبات الولاية في مالها، فإن المماثلة إنما هو في جنس الولاية لا في نوعها، واعتبار هذا القيد على ما ذكرنا في حد القياس ظاهر؛ فإنا ذكرنا فيه أنه إثبات مثل حكم معلوم آخر وهذا لا يتحقق إلا إذا كان حكم الفرع مثل حكم الأصل. ومنهم من استدل على اشتراطه بأن قال: الأحكام غير مشروعة لذواتها بل لما يترتب عليها من المصالح ومقاصد العباد سواء ظهر المقصود أو لم يظهر. فإذا كان حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل علمنا أن ما يحصل به من المقصود مثل ما يحصل من حكم الأصل ضرورة اتحاد الوسيلة فيجب إثباته. وأما إذا كان حكم الفرع مخالفًا لحكم الأصل مع أنها لوسيلة إلى تحصيل المقصود، فإفضاؤه إلى الحكمة المطلوبة يجب أن يكون مخالفًا لإفضاء حكم الأصل إليها إذ المخالفة بينهما في الإفضاء أما أن يكون لزيادة في إفضاء حكم الأصل إليها، أو في إفضاء حكم الفرع. فإن كان الأول فلا يلزم من شرع الحكم في الأصل رعاية لأصل المقصود وزيادة الإفضاء إليه، شرع الحكم في الفرع تحصيلاً لأصل المقصود [دون زيادة الإفضاء إليه؛ لأن زيادة الإفضاء إلى المقصود] مقصودة في نظر العقلاء وأهل العرف. وإن كان الثاني فهو ممتنع؛ لأنا أجمعنا على امتناع ثبوت مثل حكم الفرع في الأصل، وعند ذلك فتنصيص الشارع على حكم الأصل دون حكم الفرع يدل على أن حكم الأصل أفضى إلى المقصود من حكم الفرع، وإلا فلو كان

الفرع أفضى إلى المقصود من حكم الأصل لكان أولى بالتنصيص عليه. وفي هذه الدلالة نظر؛ ذلك لأنا نسلم أنه إذا كان حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل علمنا أن ما يحصل به من المقصود مثل ما يحصل من حكم الأصل لكن لماذا يلزم منه إثبات مثل الحكم؟ فإن قلت: لأن ذلك المقصود مقصود للشارع وهذا الحكم وسيلة إليه فيجب إثباته ليحصل مقصود الشارع. قلت: نسلم أن ذلك المقصود مقصود للشارع في الجملة لكن قد حصل ذلك حيث حصل في الأصل، فلم قلت أنه مقصود له على وجه التكرر حتى يلزم منه إثبات ما هو وسيلة إليه في غير الأصل، فالحاصل أن ما ذكره راجع إلى الاستدلال بحصول مقاصد [الدلائل على تقدير ثبوت] الوسائل على ثبوتها وهو فاسد؛ لأنه يمكن أن يقال: دفع حاجة الفقير مقصود للشارع من وجوب الزكاة في المال، فبتقدير أن تجب الزكاة في المال ثابتًا يحصل هذا المقصود فوجب أن يجب. وأيضًا: قوله: مع أنه الوسيلة إلى تحصيل المقصود فإفضاؤه إلى الحكمة المطلوبة يجب أن يكون مخالفًا لإفضاء حكم الأصل إليها. إن عنى به أنه يكون وسيلة إلى تحصيل مثل مقصود الأصل فهو غير لازم؛ لأن بتقدير أن يكون حكم الفرع مخالفًا لحكم الأصل لا يجب أن يكون وسيلة إلى مثل ذات المقصود. وإن عنى به: أنه يكون وسيلة إلى تحصيل مقصود من مقاصده، أما مثله، أو مخالفًا لما أن الحكم لا يشرع لا لمقصود فهذا مسلم، لكن التقسيم المرت

على هذا القسم غير منحصر؛ لأنه حينئذ يجوز أن يكون إفضاؤه إلى الحكمة المطلوبة منه [مخالفًا في النوع لإفضاء حكم الأصل إلى الحكمة المطلوبة منه] في الأصل وحينئذ لا تنحصر الأقسام المحتملة على هذا التقدير فيما ذكره من الأمرين؛ لأن بتقدير أن يكون الحكم مخالفًا له في النوع والإفضاء إلى المصلحة أيضًا مخالفًا له في النوع لا يجب أن يكون ذلك إما لزيادة في إفضاء حكم الأصل إليها، أو في إفضاء حكم الفرع إليها؛ لأن ذلك إنما يجب بعد الإيجاد في النوع، أما مع المخالفة في النوعية فلا. فإن قلت: صريح قولكم هنا يدل على أن كون حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل شرط، وظاهر ما ذكرتم في حد القياس يقتضى أنه ركن فإنكم ذكرتم فيه أنه إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، وإنما يذكر في الحد الأركان دون الشرط، ولأنه لا يتصور القياس بدون هذا القيد، فإنه لو أثبت في الفرع حكم من غير اعتبار ثبوته بمحل آخر لم يكن ذلك من القياس في شيء، وإن أثبت باعتبار ثبوته في محل آخر لزمت المماثلة وإن أثبت فيه حكم باعتبار ثبوت حكم آخر في محل آخر فإن لم يكن ذلك لعلة جامعة بينهما لزم التحكم؛ إذ ليس ثبوت ذلك الحكم فيه أولى من ثبوت حكم آخر فيه باعتبار ثبوته في محل ما وأن كان لجامع؛ إذ الجامع الواحد يجوز أن يكون مثبتًا لحكمين مختلفين على ما تقدم تقريره، فحينئذ ما عرف عليه ذلك الجامع لذينك الحكمين من ذلك المحل قطعًا؛ إذ ليس الحكم الذي أثبت في الفرع مقارن له في ذلك المحل بل بمحل آخر؛ إذ مجرد المناسبة لا يفيد ظن العلية ما لم يقارنها الحكم وهو المعنى من اعتبارها وحينئذ يصير ذلك المحل أصل القياس في الحقيقة وحصلت المماثلة ولو أثبتت عليه وصف في/ (233/ أ) صورة بالمناسبة مع الاقتران أو بالدوران أو بغيرهما ثم أثبت الحكم في صورة النزاع بما ثبت كون ذلك الوصف على من غير إلحاق إلى تلك الصورة بل بقاعدة كلية

بأن يقال: هذا الوصف علة لما ثبت، وكل ما ثبتت العلة فيه يجب ثبوت الحكم فيه: فيجب ثبوت الحكم في هذه الصورة لثبوت العلة فيه، فنحن نمنع أن يكون ذلك قياسًا لما سيأتي، هذا إذا عرفت عليه الجامع بالاستنباط، أما إذا عرفت بالتنصيص فإن كان ذلك في صورة مخصوصة بأن قال: علة هذا الحكم هذا الوصف لزمت المماثلة أيضًا، وإن لم يكن كذلك بل نص على العلية مطلقًا بأن: قال علة الحكم الفلاني الوصف الفلاني فنحن لا نسلم أن إثبات ذلك الحكم في موارد ذلك الوصف قياس؛ وهذا لأن ما نحن فيه وهو قياس الفقهاء قياس تمثيلي، وهذا الذي ذكرتموه من الصورة ليس منه في شيء؛ لأنه ليس فيه إلحاق صورة بصورة بل هو إثبات للحكم في صورة جزئية بقاعدة كلية، وهو قياس المقدمتين والنتيجة فحينئذ كون حكم الفرع مثلا لحكم الأصل ركن في القياس لا شرط. قلت: لا منافاة بين ما ذكرتم وبين ما ذكرنا؛ فإن ما ذكرنا هو أنه شرط الفرع، وما ذكرناه من التحديد وما ذكرتم من الدلالة يقتضى أن يكون ركنًا في القياس، ولا امتناع في أن يكون الشيء ركنًا لمجموع ويكون شرطًا لبعض أجزائه كقراءة الفاتحة فإنها ركن في الصلاة، وشرط لصحة القيام، وكذلك التشهد بالنسبة إلى القعود بل أركان الصلاة كلها بهذه المثابة فإن بعضها شرط لصحة بعضها بمعنى أن صحة بعضها لا يوجد بدون صحة البعض الآخر. الشرط الثالث: أن يكون خاليًا عن معارض راجح يقتضى نقيض ما اقتضته علة القياس، وهذا على رأى من يجوز تخصيص العلة، فأما من لم يجوز ذلك فلا يتصور اعتباره على رأيه، وهذا في الحقيقة ليس شرطًا للفرع الذي يقاس بل للفرع الذي يثبت فيه الحكم بمقتضى القياس. الرابع: أن لا يكون حكم الفرع منصوصًا عليه، وهذا ظاهر إذا كان ذلك

الحكم المنصوص عليه على خلاف القياس وإلا لزم تقديم القياس على النص وهو ممتنع، فأما إذا كان على موافقته، فإما أن يكون النص الدال على ثبوت حكم الفرع بعينه الذي دل على حكم الأصل أو غيره. فإن كان الأول فالقياس ينبغي أن يكون باطلاً أيضًا؛ لأنه ليس جعل تلك الصورة أصلاً والأخرى فرعًا أولى من العكس؛ لأن نسبة دلالة النص على حكمها على السواء؛ لأن التمسك به مستدرك؛ لأنه لا يفيد فائدة زائدة أصلاً، ولأنه جار مجرى إثبات حكم الأصل بالعلة المستنبطة فيكون إثباتًا للأصل بالفرع، فإن العلة في محل النص فرع والحكم أصل على ما تقدم بيانه. وأما إذا كان غيره فالقياس جائز فيه عند الأكثرين؛ لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز لإفادة زيادة الظن بخلاف ما إذا كان النص الدال على حكم الأصل والفرع واحد فإن القياس في هذه الصورة لا يفيد زيادة الظن أصلاً؛ لأن العلة المستنبطة من الحكم الذي هو ثابت في الأصل والفرع بمقتضى نص واحد على حد سواء فرعه فلا يفوته؛ لأن الفرع لا يؤكد أصله، بخلاف ما إذا كان النص الدال على حكميهما متغايرين فإن العلة المستنبطة من حكم الأصل ما هي فرع الحكم الثابت في الفرع لنصه. ومنع بعضهم من قياس المنصوص عليه مطلقًا محتجين بقصة معاذ -رضي الله عنه -فإنها تدل على مشروعيته عند فقدان النص، وتدل على عدم مشروعيته عند وجدان النص؛ لأن الحكم في حديث معاذ -رضي الله عنه -معلق بكلمة إن، وقد ثبت أن المعلق بكلمة إن عدم عند عدمه، فدل على أن الحكم بالقياس عند وجدان النص غير جائز، وبأن الدليل ينفي العمل

بالقياس لما سبق غيره مرة، ترك العمل به في صورة فقدان النص للضرورة فيبقى ما عداه على الأصل، وبالقياس على ما إذا كان حكم الفرع المنصوص عليه مخالفًا أو موافقًا لكنه ثابت بنص واحد. وجوابه الأول: بمنع أن مفهومه الشرط حجة، وهذا لا يستقيم على رأينا. سلمناه لكن المراد منه وجوب الحكم بقرينة توليته القضاء، وبقرينة قوله: (فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسنة رسوله) فإن الحكم بالسنة جائز مطلقًا سواء وجد في الكتاب ما يدل عليه أو لم يوجد، وبالإجماع، وحينئذ لا يبقى فيه دلالة على المطلوب؛ لأن النزاع إنما هو في الجواز لا في الوجوب، ونحن نقول: إن وجوب الحكم بالقياس مشروط بعدم وجدان النص، فأما عند وجوده لا يجب الحكم بالقياس عندنا وإنما هو جائز فليس فيه دلالة على المطلوب. سلمنا إطلاقه لكنه يدل عليه بطرق المفهوم وهو ضعيف بالنسبة إلى دلالة المنطوق، ودلالة المعقول، فوجب ترجح دلالة عموم قوله تعالى: {فاعتبروا} ودلالة ما ذكرنا من المعقول هنا، والذي ذكر على أن القياس حجة/ (234/ أ) عليه. وعن الثاني: ما سبق غير مرة. وعن الثالث: بالفرق أما بينه وبينما إذا كان الحكم مخالفًا فظاهر وأما بينه وبين الصورة الثانية فما تقدم من الإشارة إليه والكلام في شرطية هذا ما تقدم فيما قبله. الخامس: أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتًا [قبل الأصل؛ لأنه لو كان

كذلك للزم أن يكون الحكم في الفرع ثابتًا] بلا دليل؛ ضرورة أن دليله إنما هو القياس على ذلك الأصل فقط؛ إذ الكلام مفروض في فرع شأنه هذا وهو ممتنع، أما إذا كان على حكم الفرع دليل آخر وذكر ذلك على سبيل الإلزام على الخصم فلا يمتنع ذلك. وشرط بعضهم كأبى هاشم واتباعه أن الحكم في الفرع يجب أن يكون معلومًا بالنص في الجملة لا تفصيلاً والمطلوب [بالقياس تفصيله فلولا العلم بورود ميراث الجد] وإلا لما جاز استعمال القياس في توريثه مع الإخوة، وهو باطل. أما أولاً: فلأن أدلة القياس تنفيه. وأما ثانيًا: فلأن الصحابة قاسوا "أنت على حرام" على الطلاق واليمين، والظهار، ولم يوجد في ذلك نص يدل على الحكم لا جملة ولا تفصيلاً. خاتمة لهذا النوع في بيان أنواع الأقيسة وأصنافها وإن تقدم ذكر بعضها. وبيانها بتقسيمات: القسمة الأولى: القياس إما أن يكون بذكر الجامع، أو بإلغاء الفارق، فإن كان الأول فذلك الجامع إن كان هو العلة فهو المسمى بقياس العلة سمى بذلك لكون المذكور في الجمع بين الأصل والفرع نفس العلة.

مثاله. قولنا في القتل بالمثقل: قتل عمد عدوان فيجب في القصاص كما في صورة الجارح، وإن كان الجامع وصفًا لازمًا من لوازم العلة، أو أثرًا من آثارها، أو حكمًا من أحكامها فهو المسمى بقياس الدلالة، سمى بذلك لكون المذكور في الجمع بينهما دليل العلة لا نفسها. مثال الأول: قياس تحريم النبيذ [على] تحريم الخمر بجامع الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة، وهي ليست نفس العلة بل هي لازمة من لوازمها. مثال الثاني: كقولنا في القتل بالمثقل: قتل أثم به صاحبه من حيث كونه قتلاً، فوجب فيه القصاص كما في الجارح فكونه أثم به ليس هو نفس العلة بل هو أثر من آثارها. مثال الثالث: كقولنا في مسألة قطع الأيدي باليد الواحدة: إنه قطع موجب لوجب الدية عليهم [فيكون موجبًا لوجوب القصاص] عليهم كما لو قتل جماعة واحدًا فوجب الدية على المباشر ليس نفس العلة الموجبة للقصاص بل هو حكم من أحكام العلة الموجبة للقصاص بدليل أطرادها وانعكاسها، كما في القتل العمد العدوان والقتل الخطأ، وشبه العمد فإلحاق صورة القطع بالقتل في وجوب القصاص بجامع ما يشتركان فيه من وجوب الدية على القاتل يكون من باب قياس الدلالة. ومن هذا الباب الاستدلال على الشيء بآثاره وخواصه وإن لم يعقل هناك علة كقولنا في الوتر: صلاة تؤدى على الراحلة من غير أذان ولا إقامة فلا يكون فرضًا كسائر النوافل.

وإن كان الثاني فهو المسمى بالقياس في معنى الأصل [كإلحاق البول في الكوز وصبه في الماء الدائم بالبول فيه في النهى] عنه وقد سبق أنه يسمى بتنقيح المناط أيضًا. القسمة الثانية: القياس ينقسم إلى مؤثر، وملائم. أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين. أحدها: ما أثر عين الوصف في عين الحكم، أو في جنسه، أو جنس الوصف في عين الحكم. وثانيهما: ما كانت العلة فيه منصوصة بالتصريح، أو الإيماء أو مجمعًا، ولا يخفى عليك أن بين التفسيرين عمومًا وخصوصًا من وجه دون وجه. وأما الملائم، فهو: ما أثر جنس الوصف في جنس الحكم. ومنهم من قال: الملائم أقسام ثلاثة، هذا [وما أثر عين الوصف في جنس الحكم، أو جنس الوصف في عين الحكم والمؤثر قسم واحد وهو] ما أثر عين الوصف في عين الحكم وقد سبق بعض هذا.

القسمة الثالثة: القياس ينقسم إلى: ما يكون ثبوت الحكم في الفرع مساويًا لثبوته في الأصل ويسمى بالقياس في معنى الأصل وقد سبق مثاله. وإلى ما لا يكون كذلك، وهو ينقسم إلى قسمين؛ لأنه إما أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أولى من الأصل، أو لا يكون كذلك بل يكون أدنى، والأول يسمى بالقياس بالطريق الأولى سواء كان قطعيًا أو ظنيًا على ما سبق مثالهما. والثاني يسمى بالقياس مطلقًا من غير تقييد. ولذلك اختلف في كون القسمين السابقين قياسًا أم لا، بخلاف هذا القسم فإنه أطبق الكل على كونه قياسًا. مثاله: كقياس تحريم النبيذ على تحريم الخمر، وكقياس سائر المطعومات على الأشياء الستة. وقد ينقسم القياس إلى جلى. وإلى خفي. فالجلى القسمان الأولان وما كانت العلة فيه منصوصه. والخفى القسم الثالث وقد تقدم للجلى والخفى تفاسير أخرى في باب التخصيص بعضها مضاف للمذكور هنا، وبعضه مخالف له. القسمة الرابعة: القياس إما أن تكون العلة فيه منصوصة، أو مستنبطة فالأول يسمى بالقياس المنصوص [عليه. والثاني لا يخلو إما أن يكون طريق استنباطها المناسبة] والإخالة أو السير

والتقسيم، [أو الشبه، أو/ (235/ أ) الطرد والعكس أو الطرد فقط. فالأول يسمى قياس المناسبة وقياس الإخالة. والثاني يسمى قياس السبر والتقسيم] والثالث يسمى بقياس الشبه. والرابع قياس الدوران والاطراد والانعكاس. والخامس يسمى بالقياس الطردي. القسمة الخامسة: القياس ينقسم إلى قياس التلازم، وإلى غيره. فالأول هو الذي صرح فيه بصيغة الشرطية، كقولنا: لو وجبت الزكاة في حلى البالغة لوجبت في حلى الصبية؛ لأن وجوب الزكاة في حلى البالغة إنما كان لدفع حاجة الفقير، أو لصيانة المال للمناسبة والاقتران، وهذا المعنى بعينه حاصل في صورة النقض فيلزم من الوجوب في صورة النزاع الوجوب فيها، لكن اللازم منتف فيلزم انتفاء الملزوم. وقال الإمام: "يمكن أن يعبر قياس التلازم بعبارة أخرى أشد تلخيصًا من الذي تقدم، وهي أن يقال: ثبوت الحكم في الفرع يفضى إلى محذور، فوجب أن لا يثبت دفعًا للمحذور؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لو ثبت الحكم في الفرع فأما أن يكون الحكم [معللاً] بالمشترك بينه وبين النقض أو لا يكون معللاً به بل بغيره؛ إذ لا يجوز أن لا يكون معللاً أصلاً وإلا لما صح القياس؛ إذ القياس فرع تعليل الحكم. فإن كان الأول لزم النقض، إذ المشترك موجود في صورة النقض والحكم غير حاصل فيه.

وإن كان الثاني لزم النقض أيضًا؛ فإن المناسبة مع الاقتران دليل العلية فحصولهما بدون العلية يوجب النقض. وفي كون هذا أشد تلخيصًا من الأول نظر. والثاني هو الذي لم يصرح فيه بصيغته وأقسامه قد عرف مما تقدم. القسمة السادسة: القياس ينقسم إلى ما يكون الحكم في الأصل المقيس عليه ثابتًا بعلتين مختلفتين كعدم وجوب الزكاة في حلى الصبية حين يقاس عليه حلى البالغة، فيقال: حلى معد لاستعمال أمر مباح، فلا يجب فيه الزكاة كحلى الصبية، أو لا يكون كذلك كما لو قيس الحلى المتنازع فيه على ثياب البذلة والمهنة وعبيد الخدمة. والأول يسمى بالقياس المركب لثبوت الحكم فيه بعلتين مختلفتين، فالحكم وإن كان ثابتًا في نفس الأمر بواحدة منهما عند كل واحد من المجتهدين لكن الاتفاق عليه ما حصل إلا بمجموعهما، فلعله سمى مركبًا بهذا الاعتبار وهو يكون في النفي تارة كما سبق وهو الأكثر، وفي الإثبات أخرى كقولنا في ولاية الإجبار على البكر البالغة: بكر فوجب أن يثبت عليها ولاية الإجبار كما في البكر الصغيرة. واختلفت في حجيته فالأكثرون على أنه ليس بحجة؛ لأنه لا يجدي نفعًا؛ إذ الخصم يسلم أن الحكم في الأصل ثابت لكن يمنع أن يكون ثابتًا بالموجود في الفرع بل بالمختص بالأصل، فحينئذ يحتاج المستدل إلى أن يثبت عليته بالمناسبة والاقتران أو بغيرهما من الطرق، وهو انتقال مسألة إلى أخرى وهو أيضًا بعينه موجود في علة الخصم فإن بين ذلك في صورة أخرى لا يتأتى للخصم فيها مثله فليقس عليه لئلا يطول الكلام من غير فائدة.

النوع الخامس عشر: في الاعتراضات [وأجوبتها]

ولأن المعتمد في القياس إنما هو عمل الصحابة ولم ينتقل عنهم التمسك بالقياس المركب فلم يجز التمسك به. وذهب الأقلون إلى أنه حجة يجوز التمسك به، وعليه المتأخرون من الخلافين. واحتجوا عليه بأدلة القياس المطلقة والعامة فإنها لم تفرق بين قياس وقياس فوجب اندراج الكل تحتها، ولا يخفى ضعف هذا التمسك والثاني يسمى بالقياس على الإطلاق وبالأقيسة البسيطة مقابلة له بالمركب ولن هذا آخر كلامنا في القياس. النوع الخامس عشر في الاعتراضات [وأجوبتها] وهي تنقسم إلى صحيحة، وفاسدة. أما الصحيحة فهي وجوه عديدة: الأول: الاستفسار، وهو: طلب شرح مدلول اللفظ. وضابط ما يصح عنه الاستفسار هو: ما لا يفهم معناه إما لإجماله أو لغرابته، ولهذا قيل: إن كل ما فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام.

وهذا لأن الاستفهام طلب القيم، وهو عند حصوله أو سبب حصوله باطل؛ أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فلأن وجود سببه يدل ظاهرًا على وجوده وطلبه إذ ذاك طلب الحاصل، وهو ممتنع، وبتقدير أن لا يكون الفهم حاصلاً فإنه يكون من تقصيره، أو لعدم قابليته، وإلا لم يكن ذلك البيان كافيًا وعلى التقديرين ليس له الاستفهام إذ لا يزيل ذلك بيانه الثاني وإلا فبيانه الأول أزال ذلك لكونه مثله في كونه بيانًا له. وهذا السؤال متجه، وإن كان بعض المتأخرين من الجدليين أنكره؛ لأن التصديق فرع التصور، فلو لم يكن معنى اللفظ معلومًا عنده لم يمكنه منع دلالة الدليل على المتنازع فيه، ولا نسلمهما؛ لأن المنع أو التسليم عن عماية باطل، ومن هذا نعرف أن هذا السؤال [مقدم] بالرتبة على غيره من/ (236/ أ) الأسئلة فلا جرم استحق التقديم وضعًا. وصيغته: "ما" وما يجرى مجراه في السؤال عن التصور عن مدلول اللفظ نحو قولك: إيش تعنى من هذا اللفظ؟، أو هل المراد منه هذا وذاك؟ فإن قلت: ينبغي أن لا يقبل هذا السؤال؛ لأن اللفظ لا يخلو إما أن لا يكون فيه الإجمال، أو يكون، وعلى التقديرين يجب أن لا يقبل أما إن كان الواقع هو الأول؛ فلأن السؤال حينئذ يكون باطلاً لما سبق، ولأن طلب التفسير مع أن اللفظ مفسر نوع من العناد فكان باطلاً.

وأما إن كان الواقع هو الثاني، فلأنه حينئذ يجب بيان نفيه على المستدل؛ لأن شرط دلالة الدليل أن لا يكون مجملاً وبيان شرط الدلالة على المستدل فلا فائدة في هذا السؤال فكان باطلاً. قلت: نختار من القسمين القسم الثاني، وإنما لا يجب على المستدل بيان نفى الإجمال في كل واحدة من آحاد الصور وإن كانت الدلالة متوقفة على نفيه؛ لأن الأصل عدم الإجمال فلا يجب عليه بيان نفى الإجمال في كل واحدة من الصور اعتمادًا على الأصل، فإذا استفسره المعترض فله أيضًا دفعه بأن يقول: سؤال الاستفسار يقتضى تحقق الإجمال والأصل عدمه، فإذا بين المعترض إجماله بأن بين تردده بين احتمالين، أو بين أنه مشترك بين المعنيين، وإن لم يبين تساويهما؛ إذ الأصل عدم الترجيح أو لأن ذلك مما يشق، فعلى المستدل إذ ذاك بيان نفيه إما بأن يقول: أحد الاحتمالين بعينه راجح بناء على أنه حقيقة اللفظ، والآخر مجازه، أو الحقيقة راجحة بناء على أنها الأصل في الكلام، أو بناء على أنه الغالب في الاستعمال أما لغة، أو عرفًا، أو شرعًا، أو بأن يبين أن مراده من الاحتمالين إنما هو هذا دون ذاك ولا يكفى في ذلك أن يقول يجب اعتقاد رجحان الاحتمالين دفعًا للإجمال عن الكلام؛ لأن ذلك لا يعين ما هو المراد منهما، هذا كله إذا كان سبب الاستفسار الإجمال. أما إذا كان سببه غرابة اللفظ، فليس له إلا أن يعين المراد أو يقول هذا اللفظ مشهور متداول فيما بينهم إذا كان كذلك، وذلك يدل ظاهرًا على أن

معناه مشهور فيما بينهم فلا يجب عليه بيانه، ولا يكفيه في حسن السؤال عدم معرفته إن كان اللفظ مشهورًا فيما بينهم؛ لأن ذلك يضاف إلى تقصيره، أو بلادته، وحينئذ لا يحسن منه هذا السؤال. الاعتراض الثاني أن يمنع كون هذا الحكم مما يمكن إثباته بالقياس، وهذا السؤال إذا توجه على المستدل أي بأن كان ذلك الحكم في نفس الأمر كذلك، أو عند المناظرين فليس له الجواب وتعين انقطاعه، وهو على ضروب وأنحاء: أحدهما: أن يكون ذلك الحكم مما لا مدخل للقياس فيه ألبتة بالاتفاق سواء كان القياس قطعيًا أو ظنيًا. مثاله: إثبات كون التسمية آية من الفاتحة، أو إثبات كونها ليست بآية منها؛ لأن طريق إثبات القرآن ليس إلا النقل المتواتر؛ لأنه معجزة الرسول الدالة على صدقه، فيجب أن تكون مقطوعة المتن والدلالة، وذلك لا يحصل

بالقياس بل بالنقل المتواتر، ولأنه أصل الشريعة من غير جهة المعجزة أيضًا؛ إذ أصول الأحكام والأركان مذكورة فيه فيجب أن يكون مقطوعًا به من هذا الوجه أيضًا. والمراد من هذا القياس قياس المعنى. وأما قياس الدلالة فلا يمتنع إجراؤه فيه لكن لا يفيد القطع، وذلك كاستدلال أصحابنا في أن التسمية آية من آية القرآن: بأنها مكتوبة بخط المصحف في أوائل السور من غير نكير، بل النكير حذفها عنها مع أنهم كانوا يجردون المصاحف عما ليس منه كالتأمين حتى عن الأعشار، والنقط، وذلك إن لم يفدنا القطع بكونها من القرآن فلا أقل من أن يفيد الظن الغالب بكونها منه، والمسألة لقوة الشبهة فيها من الجانبين منعت من حصول القطع فيها، وكذلك منعت من التكفير من الجانبين. وثانيها: أن يكون الحكم مما يراد فيه القطع لا الظن، والقياس المستعمل في إثباته لا يفيده، بأن لم تكن مقدماته قطيعة كأكثر المباحث الكلامية، كما يقال: الفعل في الشاهد لا لغرض، أو لغرض الإيلام عيب قبيح فوجب أن يكون في الغائب كذلك، والجامع كون الفاعل فاعلاً بالاختيار، ويلزم من هذا أن لا يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والمعاصي، إذ ليس له في خلقه غرض لا بالنسبة إلى ما يرجع إليه سبحنه وتعالى، ولا بالنسبة إلى العبد؛ لأنه ليس له في ذلك مصلحة، ولا يقع لا عاجلاً ولا آجلاً بل محض المضرة والإيلام، وذلك لا يصلح أن يكون غرضًا، ويلزم من هذا أن لا يكون خالقًا لأفعال العباد، ولأن تكون أفعاله معللة بالمصالح ويلزم أن يتطرق

التحسين والتقبيح إلى أفعاله تعالى، وهذه المباحث كلها يراد فيها القطع، والقياس المستعمل فيه لا يفيده. وثالثها: أن يكون الحكم المثبت بالقياس قاعدة من قواعد أصول الفقه ككون خبر الواحد حجة بالقياس على قبول الفتوى والشهادات وككون إجماع غير الصحابة حجه بالقياس على إجماع الصحابة، وككون القياس حجة بالقياس على الاجتهاد/ (237/ أ) في طلب القبلة، فإن كان المطلوب في هذه القواعد فالقياس فيها باطل كما فيما ذكر من قبل، وإن اكتفى فيها بالظن ساغ القياس فيها كما في غيرها من الظنيات، وقد تقدم أن الأكثرين من الأقدمين على أن هذه القواعد يجب أن تكون معلومة، وأن أدلتها تكون معلومة، وأن أدلتها يجب أن تكون قاطعة فلا يجرى فيها القياس. ورابعها: أن يكون الحكم المثبت بالقياس من أمور الخلقة والعادة، كإثبات الحيض للحامل بالقياس على الحائل بجامع جواز الاستحاضة عليهما فقد ذكرنا من قبل أن ما طريقة العادة والخلقة لا يجرى فيها القياس؛ لأن أسبابها غير معلومة، ولا مظنونة، فيتعذر جريان القياس فيه، وبالجملة: إن الحكم مهما كان لا يجرى فيه بالقياس بالاتفاق، أو عند المستدل لما تقدم من الأسباب، أو غيره نحو أن لا يكون المقيس عليه صالحًا لذلك: بأن كان منسوخًا، أو كان الحكم خاصًا في تلك الصورة، أو نحو أن لا تعقل فيه علة مناسبة، أو شبهية، أو طردية عند من يقول بهما، فإنه لا يمكن إثباته بالقياس [فإذا حاول المستدل إثباته بالقياس] وتوجه إليه المنع فليس له الجواب وتعين انقطاعه، فأما إذا كان الحكم مما لا يجرى فيه القياس عند الخصم دون المستدل فله أن يثبت ذلك بالقياس، فإن توجه إليه المنع فله أن يجب عنه بالدلالة على جواز جريان القياس فيه.

الاعتراض الثالث فساد الاعتبار. ومعناه: أن ما ذكره من القياس أو تركيبه فاسد الاعتبار، كما إذا كان القياس مخالفًا للنص، أو للإجماع، أو كان أحد مقدماته كذلك؛ لعدم صحة الاحتجاج به حينئذ، أو كان الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس كما تقدم ذكره، أو كان تركيبه مشعرًا بنقيض الحكم المطلوب، ويختص هذا القسم [بفساد] الوضع. ومثاله: إلحاق المصراة بغيرها من المعيب في حكم الرد وعدمه، ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع؛ لأن هذا القياس مخالف لصريح النص الوارد فيها.

وأما إلحاق الفرع بالأصل الذي الفرق بينه وبين الفرع، وإن كان ظاهرًا جدًا فليس من هذا القبيل على الأظهر؛ لأن سؤال "الفرق" سؤال مستقل قادح في كون المشترك علة فلم تصح فيه العلة، بخلاف ما نحن فيه فإنه ما رد القياس لكون مقدماته ما صحت في ذاتها، بل لمخالفة القياس أو أحد مقدماته لمقتضى النص أو الإجماع. وهذا السؤال يمكن أن يتقدم على سؤال المنوعات؛ لأنه لما كان فاسد الاعتبار أغنى ذلك عن منع مقدماته، ويمكن أن يتأخر؛ لأن المستدل يطالب أولاً بتصحيح مقدمات ما ادعاه من صحة القياس، فإذا قام بذلك فبعد ذلك إن أمكن إثبات مقتضاه أثبت وإلا رد لعدم اعتباره. وسبيل الجواب عن هذا السؤال: بالطعن في سند النص، وبمنع ظهور دلالته على ما يلزم منه فساد اعتبار القياس إن أمكن، أو تأويله، أو القول بالموجب، أو المعارضة بنص آخر ليسلم له القياس، أو أن يبين أن القياس في قوة النص كما في مفهوم الموافقة؛ ولهذا جاز النسخ به كما بالنص فحينئذ تجرى فيه الترجيحات فإن كان له ما يرجحه على ذلك النص سقط سؤال عدم اعتبار القياس عنه وإلا لزمه ذلك.

الاعتراض الرابع فساد الوضع. اعلم أن ينبغي أن يعرف أولاً معنى صحة وضع القياس حتى يسهل معرفة فساد وضع القياس؛ لأن فساد الوضع ضد صحة الوضع، ومعرفة الضد يعين على معرفة الضد الآخر لاسيما إذا كان عدميًا، فإن معرفة الملكات تتقدم على معرفة إعدامها. فصحة وضع القياس: أن يكون على هيئة صالحة بحيث يترتب عليه ذلك الحكم سواء كان على هيئة يصلح لأن يترتب عليه ضد ذلك الحكم من النفي، أو الإثبات، أو التخفيف، أو التغليظ، أو غيرهما، أو لم يصلح ذلك أيضًا. مثال الثاني: ما إذا كان المذكور في القياس وصفًا لا يصلح للعلية نحو الوصف الطردي إذا قلنا لا يجوز التعليل به. مثال الأول: ما إذا كان المذكور في القياس وصفًا مشعرًا بضد ذلك الحكم إما في النفي كقولنا في أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة: لفظ ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كلفظ الإجازة، فإن كون غير النكاح ينعقد به يقتضى انعقاد النكاح به لا عدمه؛ لأن اعتبار يقتضى الاعتبار لا عدم الاعتبار.

وفي هذا المثال نظر من حيث أنه ليس فيه إلا مناسبة الاعتبار بالاعتبار لا أن فيه وصفًا يشعر بانعقاده. والأولى أن يذكر له مثال آخر، وهو كقولنا في بيع المعاطاة في المحقرات: بيع لم يوجد فيه سوى الرضا فوجب أن لا ينعقد كما في غير المحقرات، فإن حصول الرضا مما يناسب الانعقاد لا عدمه. وكقولنا: مسح فيسن فيه التكرار كالاستطابة، فيقال: المسح يشعر بكراهة التكرار كما في الخف. وأما في التخفيف فكقول الحنفية: القتل العمد العدوان كبيرة محضة وجناية عظيمة، فلا تجب فيه الكفارة كما في غيره من الكبائر نحو الردة والفرار من الزحف فإن كونه كبيرة محضة وجناية عظيمة يناسب التغليظ لا التخفيف. وأما في التضييق والتوسيع/ (238/ أ) فهو كقولهم في أن وجوب أداء الزكاة على التراخي: مال وجب على وجه الارتفاق لدفع الحاجة فوجب أن يكون على التراخي كالدية على العاقلة، فإن كونه وجب لدفع الحاجة يقتضى أن يكون واجبًا على الفور لا على التراخي. ثم اعلم أن بين هذا السؤال [وما قبله] عمومًا وخصوصًا مطلقًا فإن كل ما كان فاسد الوضع كان فاسد الاعتبار من غير عكس فقد عرف ذلك مما سبق. وقيل على كون فساد الوضع سؤالاً مستقلاً بنفسه: بأن اقتضاء الوصف لنقيض الحكم المرتب عليه إما أن يدعى أنه مناسب لنقيض الحكم من الجهة

التي تمسك بها المستدل، أو من جهة أخرى، فإن كان ذلك من الجهة التي تمسك بها المستدل فيلزم أن يكون الوصف غير مناسب لحكمه؛ ضرورة أن الوصف الواحد لا يناسب حكمين متنافين من جهة واحدة فيرجع حاصله إلى القدح في المناسبة، وهو عدم التأثير لا أنه سؤال آخر. وإن كان ذلك من جهة أخرى فلا يمنع مناسبة وصف المستدل لحكمه من الجهة التي تمسك بها، ثم لا يخلو إما أن يكون كل واحدة من المناسبتين معتبرة في صورة، أو لا يكون كل واحد منهما معتبرة أو تكون إحداهما معتبرة دون الأخرى، فإن كان الأول فحاصله يرجع إلى سؤال المعارضة لا أنه سؤال آخر فيجب على المستدل الترجيح، وإن كان الثاني خرج كل واحدة منهما أن يكون دليلاً، فلم يكن وصف المستدل مشعرًا بنقيض الحكم المرتب عليه، وإن كان الثالث فتلك إما مناسبة المستدل، أو المعترض، فإن كان الأول كان ما ذكر من المناسبة مشعرًا بترتيب الحكم هو مطلوب المستدل دون حكم المعترض فلم يكن مشعرًا بنقيض الحكم [الذي المطلوب، وإن كان الثاني كان المعتبر مناسبة المعترض لا المستدل فلم تكن مناسبة المستدل مشعرًا بنقيض الحكم] المطلوب إذ مجرد المناسبة غير كافية في الإشعار بترتيب الحكم أو نقيضه عليه بل لابد وأن يكون مع المناسبة معتبرًا أيضًا. وجوابه: أنه ليس فساد الوضع منحصرًا فيما إذا كان الوصف مشعرًا بنقيض الحكم المطلوب حتى يكون القدح فيه قدحًا في فساد الوضع، بل هو أعم منه لما سبق أنه ينقسم إلى قسمين. سلمناه فلم لا يجوز أن يكون من جهة واحدة. قوله: إن مناسبة الواحد من جهة واحدة لمختلفين محال. قلنا: نعم إذا كان حقيقتين، فأما إذا كانتا إقناعيتين، أو أحدهما إقناعية

والأخرى حقيقية فلا نسلم إحالته سلمناه فلم لا يجوز أن يكون من جهتين مختلفتين. قوله: فإن كانت المناسبة من جهتين معتبرتين فحاصله يرجع إلى سؤال المعارضة. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن سؤال المعارضة أعم منه، والعام ليس عين الخاص فحينئذ يكون له أن يورد ذلك تارة على وجه المعارضة، وتارة على وجه فساد الوضع ويختلف جواب المستدل عنه بحسب اختلاف الإيرادين. فعلى الأول يجيب بالترجيح وبالمعارضة وبالقدح في مناسبته. وعلى الثاني يتعين الأخير. سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن تكون المناسبة الحقيقية المعتبرة إنما هي مناسبة المعترض، ومناسبة المستدل ليست مناسبة حقيقية معتبرة بل إقناعية فعند بيان جهة مناسبة المعترض يتبين أن ما ذكره من الوصف مشعر بنقيض حكمه فيكون فاسد الوضع. الاعتراض الخامس المنع: وهو متطرق إلى جميع مقدمات القياس، فتارة يمنع حكم الأصل وتارة يمنع كونه معللاً [وبتقدير كونه معللاً يمنه كونه معللاً] بالوصف الذي أبداه إما لعدم صلاحيته للعلية، وبتقدير صلاحيته لها لكن يمنع كونه معللاً به لاحتمال أن يكون معللاً بغيره، وبتقدير أن يكون معللاً به لكن يمنع

وجوده في الأصل، وبتقدير وجوده فيه يمنع كونه وصفًا متعديًا بل هو قاصر على تلك الصورة، وبتقدير كونه متعديًا يمنع كونه حاصلاً في الفرع فهذه ممنوعات محضة تتوجه إلى مقدمات القياس، وأجوبتها بإزالة تلك الممنوعات بطرقها المشهور، وقد تقدم ذكر أكثرها [مثل الجواب عن المنع الثاني والثالث] أن يبين [أن] في المحل وصفًا مناسبًا فيقول: لو لم يكن الحكم معللاً به، فإما أن لا يكون معللاً أصلاً، أو يكون معللاً بغيره، والأول باطل لما تقدم في باب المناسبة من أن الأحكام معللة بالحكم والمصالح، والثاني أيضًا باطل؛ إذ الأصل عدم وصف آخر ولو أبدى المعترض وصفًا آخر فجوابه بالترجيح على ما ستعرف ذلك. غير أن العلماء اختلفوا في أن منع الحكم إذا توجه على المستدل هل يصير منقطعًا أم له أن يجيب عنه بالدلالة على إثباته كغيره من المنوعات؟ فذهب جمع إلى انقطاعه، لأنه إن لم يجب عنه فظاهر، وإن جاب عنه للدلالة عليه فكذلك؛ لأنه شرع أولاً في الدلالة على حكم الفرع والآن عدل عنه، وشرع في الدلالة على حكم الأصل فصار كما لو شرع في إقامة الدلالة على مسألة ثم انتقل عنها إلى مسألة أخرى [أ] وإلى دلالة [أخرى] فإنه يصير منقطعًا وفاقًا فكذا ها هنا/ (239/ أ). وذهب جمع إلى أنه لا يصير منقطعًا بذلك بل له أن يجيب عنه بالدلالة

على إثباته كغيره من المنوعات، وهو الأظهر [لأنه] لما شرع في الدلالة على إثبات حكم الفرع فقد التزم الشروع في إثبات ما هو من لوازمه كما في غيره من المقدمات فإنه لو وجه إليه منع كون الوصف الذي أبداه علة وحاصلاً في الأصل أو في الفرع فإنه يجيب عنه بإقامة الدلالة [عليه وفاقًا فكذا ها هنا لأن كل واحدة من هذه المقدمات ركن] من أركان القياس فلا يصير بالمشروع في إقامة الدلالة على حكم الأصل منقطعًا بخلاف ما لو شرع في مسألة أخرى، أو في دلالة أخرى؛ لأن كل واحد منهما ليس من لوازم ما شرع فيه أولاً بل هو أمر أجنبي عن فيكون بالشروع فيه يصير منقطعًا، أما إقامة الدلالة على ثبوت حكم الأصل فهو من لوازم إثبات الحكم في الفرع عند توجه المنع إليه فلا يصير به منقطعًا. ومنهم من فصل فقال: إن كان منع الحكم ظاهرًا بأن لا يكون فيه إبهام ومشابهة ولم يختلف قول إمامه في ذلك، كما لو قيس ولوغ الخنزير على ولوغ الكلب في وجوب الغسل سبع مرات بجامع كونه [نجس العين] فيقول الخصم: إن الحكم في ولوغ الكلب غير ثابت عندي بل الواجب غسله ثلاثًا كسائر النجاسات الحكمية فإنه يصير منقطعًا. وإن لم يكن ظاهرًا كما إذا قاس الحنفي الإجازة على النكاح في أنه ينفسخ بموت أحد العاقدين فيقول: عقد على المنفعة فيبطل بموت أحد العاقدين كالنكاح، فنقول: لا نسلم أن النكاح يبطل بموت أحد العاقدين بل الموت منتهى النكاح، هذا هو المذهب عندنا، والاستحسان عندكم، لأن

لأبي حنيفة -رضي الله عنه -في المسألة قياسًا واستحسانًا فالقياس أنه يبطل به، والاستحسان أنه لا يبطل به بل ينتهي أن غايته فهذا خفي فإن بين البطلان والانتهاء اشتراكًا ظاهرًا، وفرقًا خفيًا، فإنه لا يصير منقطعًا، وهذا اختيار اأستاذ أبى إسحاق. وقال الشيخ الغزالي -رحمه الله -: "يتبع في ذلك عرف المكان الذي هو فيه، ومصطلح أهله في ذلك، فإن كانوا يعدون ذلك انقطاعًا فإنه يصير به منقطعًا وإلا فلا، وقد نقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه لا يصير به منقطعًا، ولا يجب عليه ذكر الدلالة على الحكم أيضًا بل له أن يقول. إنما قست على أصلى. وهذا بعيد جدًا: لأن القياس على أصل غير ثابت حكمه عند الخصم لا بطريق الاعتقاد ولا بطريق الدلالة عليه لا ينتهض دليلاً على الخصم، نعم يستقيم ذلك إذا فرع على مذهب نفسه لكن لا يتصور في ذلك منع ولا تسليم [فإن قلت]: إذا كان اللفظ الدال على ثبوت حكم الأصل عامًا وهو ينقسم إلى ممنوع الحكم، وغير ممنوع الحكم، فإذا منعه الخصم بناء على أن الحكم غير ثابت في جميع أفراد العام وليس للمستدل دليل على إثبات ذلك الحكم على سبيل العموم فهل يصير بذلك منقطعًا، أم له أن يقول: إنما قست على تلك الأفراد التي ثبت الحكم فيها دون الجميع أو وإن قست على جميع تلك الأفراد لكن إذا خرج بعض تلك الأفراد عن أن يكون أصلاً بقى الباقي صالحًا لذلك فلا يبطل قياسي بالكلية. [قلت]: الأشبه أنه لا يصير منقطعًا بمجرده وله أن يجيب عن منعه بالاحتمال الأول دون الثاني، وذلك لأنه لما قاس على جميع تلك الأفراد ولم يصح له ذلك كمن ادعى دلالة

الدليل على المطلوب من وجهين ولم يصح له إلا وجه واحد فإنه يصير به منقطعًا فكذا [هنا]. واعلم أنه إذا كان في المسألة روايتان عن إمام الخصم، أو عن بعض أصحابه فله أن يمنع الحكم بناء على إحدى الروايتين، وللمستدل هنا طريق آخر في الجواب بأن يقول: إنما قست على أشهر الروايتين وعلى المذهب المفتى به، والرواية الأخرى غريبة، والمناظرة تقع على المذهب المفتى به، وعلى المشهور. ثم إذا ذكر المستدل الدلالة على الحكم. فمنهم من حكم بانقطاع المعترض لتبين فساد المنع، وتعذر الاعتراض منه على دليل المستدل لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي في أول النظر. ومنهم من قال: لا يعد منقطعًا، ولا يمنع من الاعتراض على الدليل، ولا يكتفي من المستدل بما يدعيه دليلاً على الحكم وإلا لم يكن لقبول منع الحكم مع تمكين المستدل من الاستدلال عليه معنى، فإنه إذا علم أنه لا يمكن المعترض من الاعتراض على ما يذكر من الدليل على الحكم فإنه ربما يذكر ما ليس [دليلاً عليه] ومن جملة المنوع القوية منع وصف العلة، كقولنا في أن إفساد صوم رمضان بالأكل والشرب لا يوجب الكفارة: الكفارة شرعت زجرًا عن ارتكاب الجماع الذي هو محذور الصوم فجب أن يختص به كالحد.

فيقول المعترض. لا نسلم أن الكفارة شرعت زجرًا عن الجماع الذي هو محذور الصوم بخصوصيته، بل زجرًا عن الإفطار الذي هو محذور الصوم وهو شامل للموضعين أعنى الجماع والإفطار. ونحوه أيضًا قولنا: فيما إذا قتل المسلم الذمي: قتل غير مكافٍ له فوجب أن لا يجب عليه القصاص كما إذا قتل الحربي، فيقول الخصم: لا نسلم أنه قتل غير مكاف له؛ وهذا لأن المكافأة في جميع الأمور غير معتبرة وفاقًا/ (240/ أ) بل في بعضها، فلم قلت أن الإسلام مما يجب رعاية المكافأة فيه حتى لا يجب القصاص، وسبيل الجواب فيه: أن يبين أن ذلك الوصف حاصل في العلة معتبر فيها مثلاً أن يقول في المثال الأول: أنه عليه السلام رتب الكفارة على الجماع لأن الأعرابي لما سأل عن ذلك أوجب عليه الكفارة كان نازلاً منزلة قوله: جامعت في نهار رمضان فكفر، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية على ما سبق تقريره فوجب أن تكون العلة هو الجماع بخصوصيته لا الإفطار بعمومه؛ لأنه لم يترتب على عموم الإفطار. ونحوه أيضًا في المثال الثاني، فإنه (لما) قال عليه السلام: "لا يقتل مسلم بكافر" دل على أنه لا يقتل لكونه مسلما لما سبق، وللمناسبة فوجب أن لا يكون الكافر مكافئًا له. الاعتراض السادس التقسيم. وهو في الاصطلاح: عبارة عن تردد اللفظ بين احتمالين متساويين أحدهما مسلم لا يحصل المقصود، والآخر ممنوع وهو يحصل المقصود. أما إنه يجب أن يكون مترددًا بين معنيين فلأن معنى التقسيم ينبئ عنه، فإن اللفظ إذا لم يكن مترددًا بين احتمالين لم يكن للتقسيم والترديد فيه معنى وأما الثاني فلأنه لو لم يكن الاحتمالان متساويين بل كان اللفظ في أحدهما

أظهر لم يكن للتقسيم فيه وجه أيضًا بل يجب حمله على ظاهره ممنوعًا كان أو مسلمًا لما ثبت من وجوب حمل الألفاظ على ظواهرها. وأما إنه يجب أن يكون أحدهم مسلمًا لا يحصل المقصود والآخر ممنوعًا يحصل المقصود، فلأن كلاهما لو كانا مسلمين يحصلان المقصود أو لم يحصلاه لم يكن للتقسيم معنى أيضًا؛ لأن المقصود حاصل على التقديرين [أو غير حاصل على التقديرين] ويلتحق بهذا القسم أعنى ما إذا كان أحدهما مسلمًا والآخر ممنوعًا [ما] إذا كانا يحصلان المقصود لكن يرد على أحدهما من القوادح والاعتراضات خلاف ما يرد على الآخر؛ لأن له حينئذ غرضًا صالحًا في التقسيم وهو إيراد تلك الاعتراضات عليه، فإنه ربما لا يقدر على الجواب عنها فينقطع. مثاله: أن يستدل على وجوب الزكاة في مال الضمان [أي المدفون الضائع] بأنه وجد فيه ملك نصاب كامل معد للنماء بأحد الإعدادين أعنى إعداد الله تعالى كما في الذهب والفضة، وإعداد العبد كما في مال التجارة، وهو سبب لجوب الزكاة بالدوران، أو بالمناسبة، فتجب فيه الزكاة عملاً بالسبب. فيقول المعترض: السبب مطلق الملك، أو الملك رقبة ويدًا، والأول ممنوع، والثاني مسلم، وهو مقصود في صورة النزاع، ثم يقدح في دورانه ومناسبته بالمزاحم والفارق.

ونحوه أيضًا لو قيل في الاسندلال على ثبوت الملك للمشترى في رمان الخيار إنه سبب ثبوت الملك للمشترى فوجب أن يثبت، ويبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل المضاف إلى الحل. فيقول المعترض: السبب مطلق البيع، أو البيع المطلق الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع، والثاني مسلم، لكنه مفقود في صورة النزاع ضرورة أنه مشروط بالخيار. ثم لو منع المعترض في سؤال التقسيم بناء على أن اللفظ غير محتمل للمعنيين فيكفيه في تصحيحه أن يبين إطلاق اللفظ بإزاء الاحتمالين، ولا يجب عليه أن يبين تساويهما؛ لأن ذلك تفصيلاً مما يتعذر أو يتعسر، ولو فرض أنه يبين ذلك لكن من المعلوم أن ذلك لا يكون بيانًا لتساويهما من كل الوجوه بل لو أمكن ذلك فإنه يكون من وجه فللمستدل أن يقول: فلم قلت: إنهما يتساويان من كل الوجوه فجاز أن يحصل التفاوت بينهما من وجه آخر. وأما بيانه على وجه الإجمال؛ فلأنه يمكنه أن يقول: التفاوت يستدعى ترجح أحدهما على الآخر وزيادة عليه، والأصل عدم تلك الزيادة والرجحان، وفيه نظر من حيث إنه معارض بما أنه احتمال نادر إذ الغالب إنما هو التفاوت، ولأن التفاوت يحصل بطريقتين، والتساوي بطريق واحد فكان وقوعه أغلب على الظن وإذا أثبت المستدل المقتضى لثبوت الحكم فلا يصح من المعترض سؤال التقسيم بالنسبة إلى وجود المانع وعدمه بأن يقول: متى يلزم ترتب الحكم عليه إذا لم يكن معه مانع أو مطلقًا سواء كان معه المانع أو لم يكن؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع، فلم قلت: إنه لا مانع معه فيما ذكرت من الصورة لأنه ليس على المستدل بيان انتفاء الموانع والمعارض لما فيه من الحرج والمشقة، نعم لو بين المعترض وجود المانع في تلك الصورة فهو إشارة إلى المعارضة فيجب على المستدل الجواب عنه لكنه جواب عن سؤال المعارضة

[لا] عن سؤال التقسيم وأما الجواب عن سؤال التقسيم فمن وجوه: أحدها: أن يبين أن اللفظ في اللغة موضوع لهذا المعنى وهو الذي يريد إثباته إما بالنقل الصريح عن أئمة اللغة، أو ببيان الشارع المعصوم عن الكذب والخطأ، أو بالاستعمال؛ فإن/ (241/ أ) الاستعمال دليل الحقيقة على ما تقدم في اللغة بيانه، وحينئذ يلزم أن لا يكون موضوعًا لمعنى آخر وإلا لزم الاشتراك وهو على خلاف الأصل، وحينئذ يحصل الغرض سواء كان مستعملاً في معنى آخر بطريق التجوز أو لم يكن، أما إذا لم يكن مستعملاً فيه فظاهر، وأما إذا كان مستعملاً، فكذلك لأن المجاز ليس مساويًا للحقيقة فلم يحصل التساوي، فلم يصح سؤال التقسيم، وإن ادعى كون ذلك المجاز راجحًا يعرف الاستعمال فدفعه بالأصل؛ إذ كون المجاز بحيث يصير راجحًا على الحقيقة خلاف الأصل لاستلزامه هجران الحقيقة وصيرورتها مهجورة. وثانيها: أنه لم يمكنه ادعاء كون اللفظ حقيقة في ذلك المعنى بحسب الوضع الأصلي بأن كان وضعه لغيره معلومًا بطريق النقل أو غيره فيدعى كونه حقيقة فيه بحسب النقل إما من الشارع أو من أهل العرف، أو يدعى أنه ظاهر فيه بحسب عرف الاستعمال كما في الألفاظ الشرعية، والعرفية العامة، والمجازات الراجحة بعرف الاستعمال، وهذه الأشياء وإن كانت خلاف الأصل لكنها قد تقع فثبت به المدعى لكن يحتاج في ذلك إلى إقامة الدلالة عليه فإن الخصم ينفيها بالأصل كما تقدم. وثالثها: أن يدعى ظهور أحد احتمالي اللفظ بسبب ما انضم إليه من القرينة في لفظ المستدل إن كانت هناك قرينة لفظية وإلا فيدعى قرينة عقلية أو حالية إن

أمكن ادعاؤهما ويختلف ذلك بحسب المسائل التي يقع الكلام فيها. ورابعها: أن يقول: يجب اعتقاد كون اللفظ ظاهرًا في هذا المعنى أعنى المعنى الذي يدعيه المستدل؛ لأنه لو لم يكن ظاهرًا فيه، فإما أن تكون دلالته عليه وعلى غيره على السوية وهو باطل؛ لأنه يقتضى الإجمال وهو على خلاف الأصل فما يفضى إليه يكون أيضًا على خلاف الأصل، أو لا يكون كذلك بل دلالته على غيره أرجح من دلالته على ذلك المعنى وهو أيضًا باطل؛ لأنه خلاف الإجماع إذ الخصم يزعم أنه مجمل بالنسبة إلى المعنيين والمستدل يزعم أنه ظاهر فيما يدعيه فالقول أنه ظاهر في غيره خلاف إجماعهم. وخامسها: أن يبين أن للفظ احتمالاً آخر غير ما يعرض له المعترض بالمنع والتسليم وهو مراده وهو ظاهر فيه. وهذا الجواب إنما يتأتى إذا أورد المعترض السؤال بحيث يلزم منه الإجمال بين المعنيين، كما إذ قال: هذا اللفظ مشترك بين هذين المعنيين فإن أردت به هذا فمسلم لكن لا يحصل الغرض، وإن أردت به المعنى الآخر فممنوع، أما إذا أورده على غير هذا الوجه كما إذا قال: إن أردت به هذا المعنى فمسلم وإن أردت به غيره فممنوع؛ فإن على هذا التقدير لا يلزم أن يكون ما عداه أمرًا وحدًا مساويًا له بل جاز أن يكون ما عداه أمور كثيرة وحينئذ لا يصح هذا الجواب.

الاعتراض السابع المطالبة بتصحيح العلة. وهي عبارة عن منع كون الوصف المدعى علة. واعلم أن هذا المنع وإن كان من جملة الممنوعات التي تقدمت الإشارة إليها، وإلى أجوبتها على سبيل الإجمال لكن إنما أفردناها لأن بعضهم منع كون هذا السؤال سؤالاً صحيحًا محتجين بوجوه: أحدها: أنه لو قبل هذا السؤال في الوصف الذي أبداه المستدل، وأوجبنا عليه ذكر الدلالة عليه لقبل أيضًا فيما يذكره دليلاً عليه، وهكذا في الثالث الرابع، ولزم أن يتسلسل ولا ينقطع، وهو ممتنع لإفضائه إلى الخبط وعسر الضبط. وجوابه: أنه ينقطع لو ذكر ما يفيد غلبة الظن بعليته من الإيماء، والمناسبة والدوران وغيرها من الطرق الدالة على علية الوصف، ولا يمكنه أن يمنع ذلك علية ما يكون كذلك، لما ثبت أن تلك الطرق دالة على العلية، ولو قال: إن تلك الطرق إنما تفيد غلبة الظن بالعلية فلم قلت: إن ما غلب على الظن عليته علة؟ قلنا: لانعقاد الإجماع على وجوب العمل بغلبة الظن، ولا نعنى بكونة علة سوى أنه يجب علينا أن نعمل بمقتضاه من إثبات الحكم عليه أو نفيه، وحينئذ لا يبقى له كلام متوجه ألبتة. وثانيها: أن حاصل هذا السؤال يرجع إلى طلب المناسبة والإخالة، وهي

شرط العلة، ولا يجب على المستدل بيان شرائط العلة للحرج والمشقة فإنها كثيرة نحو أن لا تكون منتقضة ولا معارضة وغيرهما من الشرائط وجوابه: أنا نمنع أن المناسبة والإخالة شرط للعلة التي تثبت عليته بها بل هي جزء العلية، ويجب على المستدل الدلالة على وجود العلة وهو مفتقر إلى بيان وجود أجزائها. سلمناه أنه شرط لكن الشرط على قسمين: شرط لذات العلة، شرط لتأثيرها، ويجب على المستدل بيان النوع الأول؛ ضرورة توقف وجود الذات عليه دون النوع الثاني، وما نحن فيه من قبيل النوع الأول دون الثاني بخلاف ما ذكرتم. وثالثها: أنه لا معنى للقياس سوى رد الفرع إلى الأصل بجامع، وقد أتى به المستدل وخرج عن وظيفته، فوجب أن لا يطالب بشيء آخر وعلى المعترض القدح في ذلك إن أراد. وجوابه: منع أنه لا معنى للقياس سوى ما ذكرتم؛ وهذا لأن مطلق الجامع غير معتبر فيه، بل المعتبر الجامع الصالح للعلية وهو الذي يغلب/ (242/ أ) على الظن كونه علة. ورابعها: أن حاصل القياس يرجع إلى تشبيه الفرع بالأصل وقد حصل ذلك بما ذكرنا من الجامع والشبه حجة. وجوابه: ما سبق من أن مطلق المشابهة غير كافية بل لابد من مشابهة يغلب على الظن عليته. وخامسها: الأصل أن كل ما ثبت الحكم معه في الأصل أن يكون علة، فمن ادعى أن الوصف الجامع ليس بعلة احتاج إلى بيانه.

وجوابه: منع أن ما ذكرتم هو الأصل بل الأصل أن كل ما ثبت معه الحكم في الأصل من الأوصاف المناسبة، أو المومئ إليها بنوع من أنواع الإيماءات أن يكون علة لا مطلق الوصف. وسادسها: أنا بحثنا فلم نجد سوى هذه العلة، والأصل عدم غيره فعلى المعترض القدح فيها بإبداء غيرها. وجوابه: أنه إن حكم بذلك بعد طلب وبحث شديد فهو طريق من طرق العلة، فيكون ذلك جوابًا عن سؤال المطالبة وهو يعد قبولاً لا ردًا له، وإن حكم بذلك في أول الأمر لم يصلح هذا دليلاً على الرد إذ القول الغير المطابق لا عبرة به. وسابعها: أن علة الأصل لابد وأن يكون متنازعًا فيها ليتصور الخلاف في الفرع؛ إذ ليس الكلام في وجوده في الفرع، وذلك إنما يكون إذا لم يكن فيها ما يوجب الاتفاق على عليته ولو ظهرت مناسبته مع الاقتران لحصل الاتفاق عل عليته فلم يتصور النزاع. وجوابه: منع انحصار النزاع فيما ذكروه؛ لجواز أن يكون النزاع حاصلاً مع ظهور المناسبة والاقتران، بناء على حصول وصف آخر مناسب لذلك الحكم أيضًا. وثامنها: أن عجز المعترض عن الاعتراض على ذلك الوصف المذكور دليل صحته كالمعجزة، وحينئذ يكون المنع من صحته منعًا مع وجود دليل صحته وهو غير مقبول. وجوابه: ما مضى في القياس، وهو أن العجز عن القدح لو كان دليلاً على الصحة لكان العجز عن التصحيح دليلاً على الفساد فيلزم أن يكون ذلك الوصف صحيحًا وفاسدًا معًا؛ ضرورة عجز كل واحد من المستدل والمعترض من التصحيح والإفساد. سلمناه لكن لا نسلم أن المعترض عجز عن القدح فيه، وكونه لا يقدح فيه

لغرض صحيح وهو أن المنع أسهل من المعارضة لا يدل ذلك على عجزه عنه. وتاسعها: أن هذا الوصف مطرد، لم يتخلف الحكم عنه في صورة من الصور فكان صحيحًا. وجوابه: أنه إن اكتفى بالطرد فهذا جواب عن سؤال المطالبة لا رد له، وإن لم يكتف به لم يصلح هذا دليلاً على الطرد. وعاشرها: ما تقدم في القياس من أن إلحاق الفرع بالأصل في الحكم بمجرد الوصف المشترك بينهما تسوية بينهما في الحكم واعتبار الفرع بالأصل فوجب أن يكون مأمورًا به لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} وكقوله {فاعتبروا}. وجوابه: أيضًا سبق ثمة، وإذا ظهر ضعف أدلة الخصم فلنذكر ما يدل على صحة هذا السؤال فنقول: الدليل عليه من وجوه: أحدها: إثبات الحكم في الفرع مما لا يمكن إسناده إلى مجرد ثبوت الحكم في الأصل من غير جامع بينهما فلابد إذن من الجامع، ثم الجامع يجب أن يكون بمعنى الباعث لما تقدم من أن تعليل حكم الأصل بالوصف بمعنى الأمارة غير جائز، ومطلق الوصف غير باعث، وكذا الوصف الطردي، فيمتنع الإلحاق بمطلق الوصف، والوصف الطردي، فلو لم يقبل سؤال مطالبة تأثير الوصف لأفضى ذلك إلى الإلحاق بمطلق الأوصاف، لعلم المستدل بذلك أنه لا يطالب ببيان تأثيره، وحينئذ لا يبقى لاشتراط أن يكون الوصف مناسبًا أو مؤثرًا أو مومئ إليه معنى.

وثانيها: أن السؤال الصحيح هو الذي به يتبين فقد أمر من الأمور المعتبرة في ماهية القياس وأركانه ووجوده وسؤال مطالبة تأثير الوصف كذلك؛ لأنه إن لم يبينه المستدل فيتبين فقده، وإن بينه فيتبين وجوده فوجب أن يكون صحيحًا كسائر الأسئلة التي شأنها ما ذكرناه. وثالثها: أن الأصل عدم جواز التمسك بالقياس لعدم دلالة الدليل عليه، ولعدم جواز العمل بالظن لما تقدم من النصوص الدالة على عدم جواز العمل بالظن، خالفناه في القياس الذي كانت العلة فيه مناسبة أو مؤثرة، لإجماع الصحابة فجب أن يبقى ما عداه على الأصل، فإذا ثبت أن سؤال المطالبة سؤال صحيح فيحتاج إلى الجواب. جوابه: بإظهار المناسبة والإخالة في الوصف، أو بإظهار تأثيره أو بكونه مومئ إليه، أو بكونه خاصة الحكم، أو أثرًا من آثاره، أو ببيان أن ما عداه لا مدخل له في الحكم، أو غيرها من الطرق الدالة على علية الوصف. الاعتراض الثامن سؤال عدم التأثير. ومعرفته تتوقف على معرفة التأثير، وهو: عبارة عن ظهور مناسبة العلة

في نفسها: أو ظهور مناسبتها في اعتبار الشرع في غير محل النزاع وعند هذا ظهر أنه لا يعترض بعدم التأثير على العلة المنصوصة أو المجمع عليها؛ لظهور تأثيرها بالنص أو الإجماع، فإن الحكم يزول بزوالها لا محاله وهو عبارة عن جعل ما ليس بعلة، ولا جزء علة لعدم ظهور مناسبة وشبهه، وما يقوم مقامها علة الحكم أو جزء علته، وعند هذا يظهر الفرق بينه وبين العكس، ومغايرته له، وإن زعم بعضهم أن لا فرق بينهما؛ لأن في صورة العكس انتفى العلة والحكم وإن لم يجب انتفاؤه/ (243/ أ) فيه لكن لوجود علة أخرى، وأما في صورة عدم التأثير المنتفى ليس بعلة ولا جزء علة والحكم إنما هو باق ببقاء علته، ولنذكر الآن أقسامه، وأحكامه، وطريق الانفصال عنه حيث أمكن. أما أقسامه فقد قسمه أرباب النظر أقسامًا عدة. أحدها: عدم التأثير في الوصف، وهو: أن يجعل الوصف الذي لا يصلح للعلية، ولا لجزء العلة علة، أو جزء علة، ويلزمه عدم الانعكاس قطعًا، أي لا يلزم من زواله زوال الحكم. مثاله: أن يقال في أذان صلاة الصبح: صلاة لا يجوز قصرها، فلا يجوز تقديم أذانها على وقتها كصلاة المغرب، فإن عدم جواز القصر لا يصلح للعلية، ولا لجزء العلة للحكم المذكور.

وثانيها: عدم التأثير في الأصل والفرع جميعًا، كقول من قال في اعتبار العدد في الاستجمار بالأحجار: عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية، فينبغي أن يعتبر فيها العدد قياسًا على رمى الحجارة، وإذا اعتبر فيه العدد وجب أن يكون ثلاثة؛ ضرورة أنه لا قائل بالفصل، فقولنا: لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والفرع معًا. وثالثها: عدم التأثير في الأصل دون الفرع، كقولنا في منع نكاح الأمة الكتابية: أمة كافرة فلا تنكح، كالأمة المجوسية فكونها أمة لا أثر له في الأصل؛ لأن نكاح المجوسية غير جائز مطلقًا أمة كانت أو حرة، لكن له تأثير في الفرع. واختلف في هذا النوع. فرده بعضهم كالأستاذ أبى إسحاق الإسفرايينى على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين. وأكثر المحققين على قبوله أي في بيان عدم التأثير بناء على امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين، وقد تقدم الكلام في هذا الأصل نفيًا وإثباتًا. ورابعها: عدم التأثير في الفرع دون الأصل وهو على قسمين: أحدهما: أن يذكر وصف في الفرع يتحقق الخلاف فيه بدونه كقولهم: نوى صوم رمضان قبل الزوال فجب أن يصح كما لو نوى من الليل.

فقيل: كونه من رمضان لا مدخل له في تحقق الخلاف؛ إذ يتحقق الخلاف فيه بدونه، فإنه لو نوى مطلق الصوم كان فيه الخلاف أيضًا. وهذا أيضًا مما اختلف في قبوله؛ فرده بعضهم، وقبله بعضهم، والخلاف في قبوله ورده مبنى على جواز الغرض في الدليل، وعدم جوازه ولما كان المختار جواز الغرض في الدليل لا جرم كان المختار قبول هذا النوع. وثانيهما: أن يلحق الفرع بالأصل بوصف لا تأثير له على إطلاقه في الفرع وفاقًا، كقولنا في إثبات ولاية الفسخ في النكاح بالعيوب الخمسة: عيب ينقض الرغبة في المعقود عليه: فوجب أن تثبت به ولاية الفسخ كما في البيع، فالوصف المذكور في الإلحاق لا تأثير له في الفرع على إطلاقه وفاقًا، ولهذا لا يثبت الخيار في النكاح بكل عيب شأنه ما ذكر إجماعًا. وخامسها: عدم التأثير في الحكم، وهو أن يذكر في الدليل وصفًا لا تأثير له في الحكم المعلل به، كما إذا قيل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا: طائفة مشركة، فلا يجب عليهم الضمان بتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب، فالإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفى الضمان وإثباته وفاقًا فإن من أوجب الضمان أوجب مطلقًا سواء كان الإتلاف في دار الحرب أو في غيرها، ومن نفاه نفاه مطلقًا سواء كان الإتلاف في دار الحرب أو في غيرها. والفرق بين هذا وبين الثاني فرق ما بين العام والخاص لأنه يلزم من أن لا يكون له تأثير [في الحكم أن لا يكون له تأثير] في الأصل والفرع من غير

عكس، وربما زعم بعضهم اتحادهما؛ ولهذا لم يذكر القسم الثاني، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الخامس أعم منه فهو يغني عنه. ثم اعلم أن عدم التأثير في الوصف حاصله راجع إلى سؤال المطالبة فجوابه جواب سؤال المطالبة. وأما عدم التأثير في الأصل والفرع معًا فجوابه أن يبين تأثيره فيهما أو في أحدهما إن أمكن وإلا فيبين فائدته في دفع النقض كما في المثال الذى ذكرناه، فإنه لو لم نقيده بقولنا: لم يتقدمها معصية لورد رجم الزاني نقضًا عليه، فإن لم يتيسر له ذلك فقد لزمه سؤال عدم التأثير وحينئذ يصير منقطعًا. وقيل: إن بين تأثيره ولو في أصل آخر غير ما قاس عليه كفى وعُدَّ مجيبا عنه. وأما عدم التأثير في الأصل فجوابه وجهان: أحدهما: بيان جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين، وهذا ليس جوابًا عنه بعد القبول بل هو دفع له من أصله، فإنه مهما ثبت جواز هذا لم يصح سؤال عدم التأثير في الأصل أصلًا؛ لجواز أن يكون الزائل علة، ويكون الحكم ثابتا بعده بعلة أخرى فلم يظهر عدم تأثيرها في الأصل. وثانيهما: أن حاصله أعني عدم التأثير راجع إلى المعارضة في الأصل فجوابه جواب المعارضة في الأصل من غير تفاوت. وأما عدم التأثير في الفرع فجوابه بفوائد الفرض في الدليل فإن تلك الفوائد

تدل على أنه ليس عديم التأثير. ويخص القسم الثاني منه أن يقال: إنا وإن أجمعنا على أنه لا تأثير له في الفرع على عمومه، لكن ما حصل الإجماع على أن (244/ أ) لا تأثير لخصوصه فيه، فاللفظ وإن كان عاما جاز أن يراد منه الخاص، إما لأنه جائز الإرادة من ذلك العام وهو موجب لها، وإما بطريق أن يزاد قيد آخر فيه، نحو أن يقال في مثالنا: عيب ينقض الرغبة في المعقود عليه، لفوات معظم المقصود منه فوجب أن تثبت به ولاية الفسخ كما في البيع. واعلم أن هذا لو ذكره ابتداء صح ومنع من ورود هذا السؤال؛ لأنا نمنع أن يكون هذا الوصف لا تأثير له في الفرع حينئذ، لأنه ثبت بالحديث خيار الفسخ وفاقا وليس ذلك إلا لفوات معظم المقصود من العقد، وإن ذكره بعد ورود السؤال فالظاهر أنه يعد منقطعا، لأنا بينا أن ما ذكره أولا ليس بعلة بل العلة مجموع الوصف. وأما عدم التأثير في الحكم فهو راجع إما إلى عدم التأثير في الوصف أو إلى سؤال الإلغاء، لأنه إن كان طرديا لزم الأول، وإن كان مؤثرًا لزم الثاني، وعلى التقديرين فجوابه جوابه.

الاعتراض التاسع القدح في مناسبة الوصف المعلل به، وذلك بأن يبين أن مناسبته للحكم ليست حقيقية، بل إقناعية، أو بأن يبين إلغاء الشارع لها، أو لعدم اقترانها بالحكم، أو بأن يستلزم مفسدة راجحة، أو مساوية للمصلحة. وجوابه: ببيان المناسبة الحقيقية لو أمكن والقدح في الإلغاء وبيان الاقتران والترجيح إجمالاً وتفصيلاً. الاعتراض العاشر القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى ما علل به من المصلحة المقصودة، وذلك قد يكون ببيان عدم إفضائه إليه، وقد يكون ببيان إفضائه إلى ضده. كما لو عللت حرمة المصاهرة على التأبيد بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء المؤدي إلى الفجور، فإذا حرمت بالحرمة المؤبدة انسد باب الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر المفضية إلى الفجور. فيقول المعترض: هذا الحكم غير صالح لإفضائه إلى هذا المقصود؛ لإفضائه إلى ضده، وذلك لأن سد باب النكاح أفضى إلى وقوع الفجور، إما لأن الإنسان حريص على ما منع، وإما لأنه يتعين طريقا إلى وقوعه؟ فإن ما لوقوعه طريق واحد وقوعه بذلك الطريق أغلب مما لوقوعه طريقان. وجوابه: أن الحرمة المؤبدة مما يمنع من النظر إلى المرأة بشهوة والهم بهما

عادة فيصير كالطبعي بممر الأيام ولهذا قيل: العادة طبيعة خامسة فيصير كالأمهات فيكون أفضى إلى سد باب الفجور. الاعتراض الحادي عشر الاعتراض بكون الوصف المعلل به الحكم باطنا خفيا، كما لو علل صحة البيع في المعاطاة بالرضا، أو كما لو علل الحكم بالقصد كما في ضمان الوديعة بمجرد نية القطع والخيانة. وطريق ايراده أن يقال: إن الشارع جعل الأوصاف التي تعلل بها الأحكام معرفات لها فوجب أن تكون جلية ظاهرة، وإلا لما حصل الغرض وهو تعريف الأحكام بها، وذلك يغلب على الظن عدم سلوك الشارع هذا المسلك فلم يجز التعليل به. وأيضًا خفى فلو كان الوصف أيضا خفيا لزم تعريف الخفي بالخفي وهو ممتنع. وجوابه: أنه إن ضبط الرضا أو القصد بما يدل عليه من الصيغ الظاهرة، والأفعال والقرائن الظاهرة لم يلزم ما ذكرتم من المحذور. وقريب من هذا: الاعتراض بعدم انضباط الوصف المعلل به، كالتعليل

بالحكم، والمصالح كالتعليل بالزجر والرح والحرج والمشقة، وقد تقدم الكلام فيه وفى الاعتراض بالنقض، والكسر، والعكس والفرق، والقلب، والقول بالموجب على سبيل الاستقصاء في باب القياس، فلا حاجة إلى الإعادة. الاعتراض الثاني عشر سؤال المعارضة. وهو إما في الأصل أو في الفرع. أما في الأصل فقد تقدم الكلام فيه سؤالا وجوابا، إذ هي عبارة عن الفَرْق وجوابه. ويندرج تحته سؤال التعدية وجوابه، وهو: أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به، ثم يقول للمستدل: ما عللت به، وإن تعدى إلى الفرع المختلف فيه، فكذا ما عللت به يتعدى إلى فرع آخر مختلف وليس أحدهما أولى من الآخر. مثاله: قول بعض أصحابنا في إجبار البكر البالغة: بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة. فيعارضه الخصم بالصغر ويقول: الحكم في الأصل ثابت بالصغر عندي لا بالبكارة وهى وإن تعدت إلى البكر البالغ فالصغر أيضًا متعد إلى الثيب

الصغيرة، وكل واحدة من الصورتين مختلف فيه فليس أحدهما [أولى]، من الآخر. ومن الناس من قال: إن سؤال الفرق عبارة عن المعارضة في الأصل أو الفرع. ومنهم من قال: إنه عبارة عنهما معًا حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقًا وهما ضعيفان، لأن المعارضة في الفرع إن كان لمعنى موجود فيه يقتضى نقيض حكم الأصل كان ذلك تعليلاً بالمانع، وليس ذلك من الفرق في شيء؛ لأن ما علل به حكم الأصل حاصل في الفرع لكن وجد معنى آخر مانع من ثبوت ذلك الحكم فيه، وإن كان لدليل من خارج فكذلك؛ لأن ذلك لا يقتضى القدح في أشتراك الأصل والفرع في المعنى الذى لأجله ثبت الحكم في الفرع فلا يجوز أن يجعل عبارة عنهما. وأما/ (245/ أ) المعارضة في الفرع فهي: أن يعارض حكم الفرع بما يقتضى نقيضه إما بنص، أو ظاهر، أو بقياس، أو بوجود مانع، أو بفوات شرط ثبوت الحكم فيه بطريق القياس، نحو أن لا يكون مجمعًا عليه فيحتاج إلى تقريره هذه الدلائل، وبيان وجه دلالتها على نحو ما كان يحتاج إليه المستدل. واختلفوا أيضًا في قبوله فرده بعضهم لا سيما المتأخرون من الجدليين محتجين: بأن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت، وهو ظاهر إلا في صورة ما إذا كانت المعارضة بفوات الشرط فإنا نتبين عدم تمام دلالته أو ذاك، وإذا تمت دلالته فقد وفي بما التزم في الاستدلال فهو بعد ذلك مخير إن شاء سمع المعارضة، وإن شاء لم يسمع كاستدلال مستأنف.

وأيضًا فإن حق المعترض أن يكون هادما لا بانيا، والمعارضة في حكم الفرع بناء لا هدم، بخلاف المعارضة في الأصل فإن حاصلها يرجع إلى منع المقدمة، وهو كون الحكم معللاً بما ذكر من الوصف وهو مقدمة من مقدمات قياس المستدل، فلا يلزم من قبول المعارضة في الأصل قبول المعارضة في الفرع. وقبله الباقون وهم الأكثرون؛ لأنه وإن لم يكن هدما لكن يلزم منه هدم ما بناه المستدل بمعارضة دليله بدليله، ولا حجر عليه في سلوك طرق الهدم لاسيما إذا تعين المعارضة له بان كانت مقدمات دليل المستدل صحية فحينئذ لو لم تقبل المعارضة في الفرع لبطلت فائدة المناظرة واختلت فائدة البحث والمحاورة. وجوابه: دفعه بالقدح فيه بكل ما يقدح به في الدليل وبالمعارضة، فإن لم يكن فبالترجيح على الأصح. ومنهم من أنكر قبول الترجيح، لأن ما ذكره المعترض وإن ثبت أنه مرجوح بالنسبة إلى ما ذكره المستدل، لكن لا يخرج بذلك عن أن يكون اعتراضا على الدليل فيحتاج إلى الجواب. وهو ضعيف جدًا؛ لأن الاعتراض المرجوح لا يجب الجواب عنه اكتفاء بظهور وجه الدلالة وهل يجب على المستدل أن يذكر في دليله ما يومئ إلى الترجيح؟

منهم من يوجب ذلك محتجا بأن المناظرة تلو الاجتهاد، والاجتهاد يتوقف عليه، فوجب أن يكون الأمر في المناظرة كذلك فيكون الترجيح جوابه يتم به الاجتهاد فيكون جزؤ الدليل، فلو لم يذكره المستدل لم يكن ذكر تمام الدليل بل بعضه. واعلم أن هذا يتجه إذا كان الدليل المعارض لحكم الفرع معلومًا للمجتهد، أو كان ظاهرًا جليًا، فأما إذا كان خفيا غير معلومًا له فلا؛ لأنه لا يجب عليه الترجيح بالنسبة إلى ما لا يعلمه في الاجتهاد فضلاً عن أن يكون [في المناظرة، فالحاصل أن المناظر تلو المجتهد فما يجب عليه في إثبات الحكم يجب، على المناظر في المناظرة]. ومنهم من لم يوجب ذلك لما في تكليف ذكره من الحرج والمشقة. ومنهم من فصل فقال: إن كان الترجيح بأمور خارجية نحو تكثير الأدلة، أو كون الحكم حظرًا، أو إباحة، أو غير ذلك، فلا يجب، صان لم يكن كذلك بل لأمور عائدة إلى ذات العلة بأن يكون ما به الترجيح صفات لذات العلة فيجب ذكره ذاكرًا لتمام الدليل بخلاف النوع الأول فإنه أمر خارج عن الدليل لا يتوقف عليه الدليل، لا في ذاته ولا في صفاته بل يتوقف عليه إعماله لا غير.

الاعتراض الثالث عشر اختلاف ضابط الأصل والفرع مع اتحاد حكمتهما. مثاله: قولنا في شهود القصاص بالزور: تسببوا إلى القتل عمدًا عدوانا، فلزمهم القصاص زجرًا لهم عن التسبب كالمكره فيعترض عليه بان الحكمة في الأصل إنما هو الإكراه، وضابط الحكمة في الفرع وإنما هو الشهادة، وهما وإن اشتركا في مقصود الزجر لكن لا يمكن تعديه الحكم به وحده، لاحتمال أن ما وجد من التسبب في ضابط الأصل راجح على ما وجد منه في ضابط الفرع ولا بما يتضمنه من الضابط؛ لأنه لا اشتراك فيه ويمتنع الإلحاق دونه. وجوابه: إما بان يبين أن التعليل إنما هو بعموم ما اشتراك فيه الضابطان من التسبب إلى القتل المضبوط عرفًا، أو بأن يبين أن إفضاء ضابط الفرع إليه مثل إفضاء ضابط الأصل إليه، أو راجح عليه، وحينئذ يلزم أن يكون: أولى بثبوت الحكم. مثاله في مسألتنا: أن نقول: إن الإغراء على القتل بالشهادة الموجبة لاستحقاقه أفضى لاستحقاقه أفضى إليه من الإكراه عليه، لما في الأول من الميل الطبيعي إلى التشفي والانتقام، مع كونه جائزًا مسلطًا عليه عرفًا، وعقلاً، وشرعا دون الثاني، وبالجملة يبين تساوى الإفضائين أو غلبة إفضاء الفرع إليه مما يساعد عليه في كل مسألة.

الاعتراض الرابع عشر اختلاف جنس المصلحة مع اتحاد الضابط في الأصل والفرع. مثاله: قولنا في مسألة اللواط: أولج فرجًا في فرج مشتهىً طبعًا محرمًا شرعًا، فيجب عليه الحد كما في الزاني، فيعترض عليه: بأن الضابط وإن كان متحدًا لكن الحكمة مختلفة فإن الحكمة في اللواط إنما هو صيانة النفس عن رذيلة اللياطة، وهي مخالفة لحكمة الأصل، وهو دفع محذور اختلاط المياه واشتباه الأنساب المفضي إلى ضياع الصبي وهلاكه وهو مؤد إلى انقطاع نسل جنس الإنسان، فإذن لا يلزم من اعتبار ضابط الأصل لما لزمه/ (246/ أ) من الحكمة المخصوصة اعتباره في الفرع للزوم حكمة أخرى إياه؛ لجواز أن لا تقوم الحكمة الثانية مقام الحكمة الأولى في نظر الشارع. وجوابه: أن يبين أن حكمة الفرع مثل حكمة الأصل أو أكثر محذورًا منها كما في مسألتنا، فإن الزنا وإن كان يؤدى إلى ضياع المولود المؤدى الى انقطاع النسل، لكن اللواط يؤدى إلى عدم الولادة بالكلية، وهو أفضى إلى انقطاع النسل من الضياع المؤدى إليه، فيلزم أن يكون أولى بوجوب الحد منه، فإن لم يكن أولى فلا أقل من اشتراكهما في وجوب الحد الزاجر عنهما، أو أن يبين مناسبة القدر المشترك بين الحكمتين للحكم فيكون الحكم معللاً به، فإن فرق بين الأصل والفرع بالقدر الذى يمتاز الأصل عن الفرع، فجوابه: حذفه عن درجة الاعتبار بطرقه التي سبقت الإشارة إليها.

الاعتراض الخامس عشر اختلاف حكم الأصل والفرع. وتقريره أن يقال: حكم الفرع مخالف لحكم الأصل فلا يصح معه القياس، فإن من شرط القياس اتحاد الحكم؛ لأنه عبارة عن تحصيل مثل حكم الأصل في الفرع، ومعلوم أن ذلك لا يتحقق بدون الاتحاد. وجوابه: ببيان اتحاد الحكمين نوعا أو جنسا، كقياس صحة البيع على صحة النكاح فيما لم يره المشترى وكقياس وجوب تعيين نية الصوم على وجوب تعيين نية الصلاة في النوع الأول. فإن الاختلاف إنما هو راجع إلى محل الحكم، وهو غير مضر للقياس بل [هو]، شرطه فإن الفرع ما لم يكن مخالفًا للأصل لم يصح القياس، وكقياس قطع الأيدي باليد الواحدة على قتل الجماعة بالنفس الواحدة في النوع الثاني؛ فإن الحكم متحدان بالجنس دون النوع، فإن القطع نوع، والقتل نوع آخر، ويشملها الجراح، فإن لم يمكن بيان الاتحاد نوعًا أو جنسًا كما إذا كان أحد الحكمين إثباتًا والآخر نفيًا، أو كان أحدهما إيجابا والآخر تحريما، فحينئذ يكون السؤال لازمًا. ثم هذه الأسئلة كلها واردة على قياس جامعه معنى مناسب فأما الذى لا يكون كذلك كقياس الشبه، أو قياس الدلالة، أو غيرهما مما سبق من أنواع الأقيسة فلا بل يرد عليها بعضها، ولا يخفى على المحصل الفطن تمييز ما يرد

منها على كل واحد من أنول الأقيسة وما لا يرد، فلذلك أعرضنا عن ذكر ذلك. فإن قلت: هل يجوز أن تورد هذه الأسئلة كلها معا أم يجب الترتيب فيها، وبتقدير أن يجب الترتيب فيها، فما الذى يجب أن يقدم منها وما الذي يجب أن يؤخر؟ قلت: الأسئلة لا تخلو إما أن تكون من نوع واحد كالنقوض، والمعارضات بان يورد السائل نقوضًا كثيرة على علة المستدل، أو تعارض علته بمعاني عديدة في الأصل [ثم] كل واحد منها يصلح أن يكون علة، أو جزؤ علة، أو من نوعن كالمطالبة مع المعارضة، أو النقض معهما، فإن كان الأول فقد اتفقوا على جواز الجمع فيه؛ إذ لا يلزم منه تناقض ولا نزول من سؤال إلى سؤال آخر، وإذا كان الثاني فإن كان غير مترتبة كالنقض مع عدم التأثير فإن كل واحد منها يقدح في أن الوصف المذكور علة ولا ترتيب بينهما؛ إذ يجوز أن يقال: ما ذكرت من الوصف ليس بعلة لأنه منقوض أو لكونه غير مؤثر فقد ذهب الأكثرون إلي جواز الجمع بينهما كما سبق، ومنع منه الأقلون للانتشار، ويلزمهم ذلك في النوع الأول. وإن كانت [مترتبة كالمعارضة مع منع وجود الوصف في الأصل أو كالمنع مع المطالبة فإن المعارضة والمطالبة إنما تكون، بعد تسليم وجود الوصف في الأصل، أو كالاستفسار مع المنع فإن المنع بعد فهم المعنى فقد ذهب الأكثرون

إلى عدم جواز الجمع بينهما؛ لأن الاعتراض بالسؤال المتأخر منها مشعر بتسليم متعلق السؤال الأول إذ لو بقى السائل مصرًا على السؤال الأول لم يتوجه السؤال الذى بعده بالرتبة فحينئذ لا يستحق إلا جواب السؤال الأخير. وذهب الباقون إلى جوازه أيضا. وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق وهو الحق وعليه العمل في الكتب والمصنفات لأن السؤال الثاني والثالث وإن أشعر بتسليم متعلق السؤال الأول لكن تقديرًا لا تحقيقًا، كما هو الدأب في إيراد الاعتراضات في المصنفات فهو إن صرح بذلك بان قال بعد منع وجود الوصف في الأصل: ولئن سلمنا ذلك، لكن لا نسلم مناسبته للحكم، ولئن سلمنا المناسبة لكن هنا مناسب آخر، فلم قلتم: إن ما ذكرتم هو العلة فلا شك أن ذلك على تقدير التسليم فلا يضره الانتقال من السؤال إلى ما بعده، وإن لم يصرح بذلك نزل عليه لاحتماله لاسيما وقد جرت العادة بذلك. وأما الذى يجب أن يقدم على الكل سؤال الاستفسار؛ لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ استحال منه المنع، أو المعارضة، والأسئلة كلها ترجع إليهما، ثم بعده سؤال فساد الاعتبار. لأنه نظر في فساد الدليل من حيث الجملة، وما بعده أخص منه [وهو]، نظر في فساده من حيث التفصيل، والأول مقدم على الثاني لسهولة إقضائه إلى الغرض، ولكنه يبطل أصل الدليل بالكلية بخلاف غيره ثم بعده فساد الوضع، لأنه/ (247/ 1) أخص منه

والنظر في العام مقدم على الخاص، ثم بعده سؤال المنوع، ولا يخفى عليك ترتيب بعضها على البعض. ثم بعده النقض وعدم التأثير والعكس على رأى من جعل عدمه قادحا في العلية، ولا ترتيب بين هذه الثلاثة؛ لأن كل واحد منها يقدح في العلة، والكسر مؤخر عن النقض، ولا يخفى عليك تعليله، ثم بعده المعارضة في الأصل هكذا قيل، وعلل بوجهن. أحدهما: أن النقض معارض لدليل العلية، والمعارضة في الأصل معارضة لنفس العلة فكان متأخراً عن المعارض لدليل العلية. وفيه نظر، وهذا لأن النقض وإن كان معارضا للدليل الذى يدل على علية الوصف من حيث أنه يبقى علية الوصف الذى دل ذلك الدليل على عليته، لكن المعارضة في الأصل أيضا كذلك فإنها تبقى علية ذلك الوصف فتكون معارضة للدليل الدال على عليته ففي كل واحد منها منافاة العلية ومعارضة الدليل الدال على علية الوصف فلم يظهر الفرق بينهما من هذه الجهة. وثانيهما: أن النقض لأبطال العلة، والمعارضة في الأصل لإبطال استقلالها. وفيه أيضا نظر؛ لأن النقض والمعارضة في الأصل كل واحد منهما يدل على عدم علية الوصف على سبيل الاستقلال؛ فإن من الظاهر أنه ليس في النقض ما يدل على أن الوصف المذكور لا يصلح أن يكون جزؤ العلة وحينئذ تكون الدلالة على عدم علية الوصف على سبيل الاستقلال أعم من أن تكون بطريق الإبطال، أي: يبطل بالكلية بحيث لا يكون له مدخل في العلية، أو بطريق عدم الاستقلال، أي ويكون له مدخل في العلية والدال على العام لا يدل على الخاص لا بطريق المطابقة ولا بطريق الالتزام.

وعلى هذا التقدير لا يظهر الفرق بينهما من هذا الوجه. ثم هذا التعليل يقتضى تقديم المعارضة في الأصل على النقض؛ لأن الإبطال أخص من عدم الاستقلال، والنظر في العام مقدم على الخاص، اللهم إلا أن يريد بعدم الاستقلال أن يكون له مدخل في العلية فحينئذ تحصل المباينة بينهما لكن ينبغي أن يقدم أيضا ككون النقض أخص بالنظر إلى إبطال العلية وإن لم يكن أخص منه بالنظر إلى المفهوم، وإذا بطل هذا فالحق أحد القولين وهو إما أنه لا ترتيب بينهما؛ لأن كل واحد منها قادح في علية الوصف على سبيل الاستقلال كما سبق، أو أن المعارضة في الأصل مقدم على النقض؛ لأنها نظر إلى إبطال العلية في المحل. الأصلي، والنقض نظر إلى إبطالها بالنسبة إلى غير محلها الأصلي، ومعلوم أن الأول أقدم، فهذا ما خطر بالبال في الحال والله أعلم بالصواب. ثم المعارضة فد تكون في الأصل، وقد تكون في الفرع، ولا شك أن الأول أقدم. وأما القلب، والقول بالموجب فيؤخر كل واحد منهما عن الذى تقدم ذكره من الأسئلة؟ لأن كل واحد منهما يورد بعد تسليم كل ما يتوقف عليه إفادة الدليل للحكم بخلاف ما تقدم، والقلب مقدم على القول بالموجب وهو ظاهر. ثم لا يخفى عليك مما تقدم ترتيب بقية الأسئلة بالنسبة إلى ما ذكرنا من الأسئلة وبالنسبة إلى البعض منها إلى البعض، ولكن هذا آخر كلامنا في الأسئلة فإنه وإن لم يكن من هذا الفن لكن أوردنا البعض منها لئلا يخلو الكتاب عن هذه الفائدة، وأما الاستقصاء فيه فأليق بفن الجدل فإنه منه.

النوع السادس عشر: الكلام في التعادل والتراجيح

النوع السادس عشر الكلام في التعادل والتراجيح وهو مرتب على قسمين:- القسم الأول في التعادل وفيه مسائل. المسألة الأولى أطبق الكل على أن تعادل القاطعين المتنافيين عقليين كانا أو نقليين غير جائزة لأن مدلول الدليل القطعي يجب أن يكون حاصلاً، فلو جوزنا تعادل القاطعين لزم حصول مدلوليهما وهو جمع بين المتنافيين وهو ممتنع.

واختلفوا في تعادل الأمارتين:- فمنعه الإمام أحمد، والكرخى، وجمع من فقهائنا. وجوزه الباقون من الفقهاء والمتكلمين. وهؤلاء اختلفوا في حكمه عند وقوعه على ثلاثة مذاهب: أحدهما: إن حكمه، التخيير، وهو اختيار القاضي أبى بكر، وأبى على، وأبي هاشم.

وثانيها أن حكمه التساقط، ويجب الرجوع في ذلك إلى غيرهما. وهو البراءة الأصلية، هو مذهب كثر الفقهاء منهم وثالثها: وهو القول بالتفصيل: وهو أن هذا التعارض والتعادل إن وقع بالنسبة إلى الواجبات فحكمه التخيير، فإن التخيير بين الواجبات في الشرع غير ممتنع كما في وجوب الحقاق، وبنات لبون، وكما في خصال الكفارة. وإن وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط فقط والرجوع إلى البراءة الأصلية، هذا هو النقل المشهور. وكلام الشيخ الغزالي - رحمه الله - يدل على أن من قال: المصيب واحد والباقون مخطئون لم يجوزوا تعادل الأمارتين، وأما الذين قالوا: كل مجتهد مصيب فهؤلاء اختلفوا فيه؛ لأنه قال: (إذا تعارض دليلان عند المجتهد، وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلاً من موضع آخر وتخير فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون: هذا لعجز المجتهد وإلا فليس في/ (248/ أ) أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح فلزم التوقف، أو الاخذ بالاحتياط، أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح [وأما المصوبة فاختلفوا فيه).

فقوله. فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح]، يدل بصراحته على ما قلناه واختار الإمام أن تعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد ككون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة، غير واقع شرعا. هذا صريح كلامه ودليله يدل أيضا على عدم جواز وقوعه شرعا، فإن ما ذكره من الدلائل لا يختص بامتناع الوقوع. والأغلب على الظن أن مراده من [قوله. غير واقع شرعا أنه غير جائز الوقوع شرعا وأن تعادلهما في] فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهتا القبلة. واحتج المانعون منه مطلقا بوجوه: أحدهما: لو جار تعادل الأمارتين على حكمين متنافيين شرعا فليفرض واقعا إذ الجائز لا يلزم من فرض وقوعه محال، فعند وقوع هذا التعارض إما أن يعمل بهما وهو محال، لأنه يقتضى الجمع بين المتنافيين، أو لا يعمل بواحد منهما وهو أيضا باطل. أما أولاً: فلأنه- يلزم الترك بالدليليين. وأما ثانيًا: فلأنه يلزم أن يكون وضعهما عبثا لكون العمل بهما غير ممكن، أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو أيضا باطل، لكونه تحكمًا محضا، وقولاً في الدين بالتشهى، وترجيحًا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، أو يعمل بأحدهما لا على التعيين بل على التخيير وهو أيضاً باطل.

أما أولاً: فلأن التخيير بين المباح وغيره يقتضى ترجيح أمارة الإباحة بعينها؛ لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ذلك ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها وقد تقدم إفساده. وأما ثانيا: فلأنه يلزم أن يكون المكلف مخيرًا في المسالة الاجتهادية وهو باطل بالإجماع. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم أن يكون الأمر بالنسبة إلى الحاكم والمفتي كذلك وحينئذ يلزم عدم فصل الخصومة ودوام المنازعة، ولزم تخييرًا لعامي في الأحكام الشرعية وكل ذلك ممتنع. واعترض عليه: بأنه لم لا يجوز أن يعمل بإحدى الأمارتين على التعين، لكون العمل بهما أحوط، أو لكون العمل بها أخذًا بالأقل؟ وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من أنه تحكم، أو ترجيح من غير مرجح. سلمنا فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يعمل بإحداهما لا على التعيين قوله أولا: ذلك ترجيح لأمارة الإباحة بعينه. قلنا: ممنوع؛ وهذا لأن التخيير بين الفعل والترك مطلقا هو الاباحة، وأما التخيير بينهما بناء على الدليلين الذين يدل أحدهما على الحظر والأخر على الإباحة فلا؛ إذ يجوز من الشارع أن يقول للمكلف: أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة، أو بأمارة الحظر، إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل. وإن أخذت بأمارة الحظر فقد حرمت عليك الفعل ويصرح له بأن الفعل على

أحد التقديرين مباح وعلى الآخر حرام، ولو كان ذلك إباحة للفعل لما جاز ذلك كما لو صرح له بالإباحة ثم صرح له بالحرمة ويؤكده، أنه يجب عليه اعتقاد الإباحة على تقدير الأخذ بأمارتها، ويجب اعتقاد الحرمة على تقدير الأخذ بأمارتها، ولو كان ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد. ومثاله في الشرع: أن المسافر مخير بين أن يصلى أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فلو صلى أربعا وقع الكل فرضا، ولو صلى ركعتين وقعتا أيضا فريضتين، ولا يقال: [إنه]، لما خير بين فعل الركعتين وبن تركهما كانتا مباحتين. وكذلك من استحق أربعة دراهم على غيره، فقال: تصدقت عليك بدرهمين إن قبلتَ، وإن لم تقبل، وأبيت قبلت الكل عن الدين الواجب [فإذا أتى بالأربع وأخذه المستحق كان كله واقعا عن الدين الواجب]، مع أنه كان يجوز للمديون أن يأتي به وأن لا يأتي به. فالحاصل أن كون الشيء يجوز فعله وتركه بناء على [أمرين]، يثبت أحدهما فعله، والآخر تركه كالمقتضى والنافي لا يقتضى أن يكون ذلك الفعل مباحًا وإن فعله بناء على - المقتضى له أو تركه بناء [على النافي فكذا ما نحن فيه، فإن المكلف إذا ترك الجمع بين الأختين بناءً على] قوله

تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} لا يقال: إنه ترك أمرأ مباحًا مع أنه كان يجوز أن يجمع بناء على قوله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} ولذلك قال عثمان - رضى الله عنه: (أحلتهما آية، وحرمتهما آية). سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والاباحة أما عند تعارض الحظر والوجوب لم يلزم ذلك: إذ لم يمكن أن يقال: إن التخيير بينهما ترجيح لأمارة الإباحة بعينها فلم يكن دليلكم متناولاً لكل الصور. قوله ثانيا: يلزم تخيير المكلف في المسائل الاجتهادية. قلنا: نعم وانعقاد الإجماع على بطلانه مطلقا ممنوع بل على بطلانه عند الترجيح لا يمنع منه فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع، وأما عند تعارض الأدلة وتساويهما فلا. قوله ثالثا: أنه يلزم أن يكون الأمر بالنسبة إلى الحاكم والمفتي كذلك قلنا: لا نسلم وستعرف تفصيل/ (1/ 249) الأمر فيه. سلمنا فساد القول بالتخيير، فلم لا يجوز أن يقال بتساقطهما والرجوع إلى

البراءة الأصلية؟ قوله: لأن وضعهما حينئذ عبث. قلنا: هذا مبنى على قاعدة التحسين والتقبيح وقد ثبت بطلانها. سلمناه لكن لم لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها، ثم هو منقوض بالتعادل الذهني وهو جائز بالاتفاق، ثم أن ما ذكرتم من الدليل يشكل بما إذا أفتى مفتيان: أحدهما بالحل، والآخر بالحرمة، ولم يظهر رجحان أحدهما على الآخر في ظن المستفتي، فإن قولهما بالنسبة إلى العامي كالأمارتين. وأجيب عنه: أما عن الاول فهو أنه غير وارد على صورة النزاع، فإن النزاع إنما هو حيث تكون الامارتان متعادلتين وذلك ينفى أن تكون إحداهما راجحة على الأخرى سواء كان ذلك الرجحان لأمر يرجع إلى ما في نفسها أو غير ها. وأما عن الثاني، فهو أن المحظور هو الذى يمنع من فعله، والمباح هو الذى لا يمنع منه، فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر عن فعله فلا يبقى حظر ألبتة ولا معنى للإباحة إلا ذلك. وهو ضعيف لانا نمنع ذلك، وهذا لأنه ما ارتفع الحجر عن فعله مطلقا بل أن أخذ بأمارة الإباحة، فأما إذا أخذ بأمارة الحظر فلا، والمباح هو الذى جاز فعله وتركه مطلقا من غير شريطة، وهذا لا يجوز فعله إلا إذا قصد الأخذ بأمارة الإباحة فلم يلزم أن يكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها.

ثم قال المجيب: وأما ما يقال في سند المنع لم لا يجوز أن يقال من أنه محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر، ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة فهو باطل بوجهين: أحدهما: أن الأمارتين لا يخلو أما يقتضيا حرمة الفعل وإباحته باعتبارين مختلفين، أو باعتبار واحد: والأول باطل، لأنه غير مسألتنا التي نحن فيها، لأن ما نحن فيه هو أن تقوم الأمارتان على إباحة شيء واحد وحظره، وعلى التقدير الذى قالوه قامت أمارة الإباحة على شيء، وأمارة الحظر على شيء، لأنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل، وعند الأخذ بأمارة الإباحة يباح الفعل، فمعناه: أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة، وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الإباحة فالأمارتان إنما قامتا على شيئين غير متلازمين، لا على شيء واحد، وليس كلامنا فيه، بل كلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين على شيء واحد، وإذا بطل هذا القسم تعين القسم الثاني، وإذا رفعنا الحجر عن ماهية ذلك الفعل كان ذلك إباحة، فيكون [ذلك]، ترجيحا لأحدى الأمارتين بعينها، وإن لم نرفع الحجر عنه كان ذلك حظرًا، فيكون ترجيحا لأمارة الحرمة بعينها. وثانيهما: أنه أن عنى بالأخذ بإحدى الأمارتين: اعتقاد رجحانها فهذا باطل. أما أولاً: فلأنها إذا لم تكن راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا. وأما ثانيًا: فلأنا نفرض الكلام فيما إذا حصل ظن أو علم بأنه رجحان ففي

هذه الصورة نمنع حصول اعتقاد الرجحان. وإن عنى به العزم على الإتيان بمقتضاها، فذلك العزم إن كان عزما جازما بحيث يتصل به الفعل لا محالة، كان الفعل حينئذ واجب الوقوع فيمتنع ورود الإباحة والحظر فيه؛ لأنه يكون ذلك إذنًا في ايقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن إيقاع ما يجب وقوعه. وإن لم يكن عزما جازما فحينئذ يجوز له الرجوع، لأنه إذا عزم عزما غير جازم على الترك مثلاً - فإذا أراد الرجوع عن هذا العزم، وقصد الإقدام على الفعل جاز له ذلك، فعلم أن ما ذكروه فاسد. وهذان الجوابان ضعيفان، أما الأول: فلأنه لا يلزم من قولنا: أنه يحرم عليه الفعل عند الأخذ بأمارة الحرمة، ويباح له عند الأخذ بأمارة الإباحة أن تكون الأمارتان قائمتين على حرمة الفعل وإباحته بما ذكرتم من الاعتبارين المختلفين، وهذا لأن الأخذ بإحدى الأمارتين إنما يكون بعد تمام دلالتها على الحظر أو الإباحة، فلو كانت دلالتها على الحظر أو الإباحة معتبرة بالأخذ بها لزم الدور. ولا نسلم أن معنى قولنا: إنه يحرم الفعل إذا أخذ بأمارة الحرمة ويباح إذا أخذ بأمارة الإباحة ما ذكرتم وسنده ما سبق معناه: أنه إن قصد المكلف العمل بأمارة الحرمة حرم عليه الفعل، لأن دلالتها على الحرمة حال أخذ أمارة الحرمة، وكذا القول في جانب الإباحة وهو ظاهر غنى عن تطويل البيان. وأما الثاني فهو أيضا ضعيف؛ وهذا لأنا نختار مما ذكرتم من المعنين المعنى الثالث. قوله: إن كان ذلك العزم جازما فيمتنع ورود التكليف فيه ممنوع؛ وهذا

لأن تكليف ما لا يطاق جائز باتفاق بيننا وبينك [سلمنا امتناعه لكن المأمور إنما يصير مأمورًا عندنا]، وعندك حال المباشرة لا قبله مع أن الفعل إذ ذاك واجب الو قوع. سلمنا سلامته عن النقض لكن الجزم على الفعل الناشئ من قصد الامتثال لا ينافى التكليف به وإلا لزم بطلان التكاليف بأسرها، بل الذى ينافيه ورود التكليف عليه إذ ذاك، وما نحن فيه ليس كذلك فإن الجزم على الفعل إنما يحصل بعد قصد الامتثال بمقتضى إحدى الأمارتين وهو لا ينافى التكليف. سلمنا فساد هذا/ (1/ 250) القسم أيضا فلم لا يجوز أن يكون المراد منه العزم الغير الجازم. قوله: فحينئذ يجوز له الرجوع عنه، فيلزم أن يكون ذلك الذى عزم عليه من الفعل أو الترك حراما أو مباحا، وأن أتى بغيره بقصد امتثال إحدى الأمارتين وهو باطل. قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد من الأخذ بإحدى الأمارتين العزم الذى ذكرتم بشرط أن يتصل به الفعل أو الترك بقصد الامتثال، فإذا لم يوجد هذا الشرط لم يوجد الأخذ بإحدى الأمارتين الذى عنده يحرم الفعل أو يباح فلا يلزم حينئذ ما ذكرتم من المحذور. وأجيب عن الثالث أيضا بوجهين: أحدهما: أنه إذا ثبت ذلك عند تعارض أمارتي الحظر والإباحة وجب أن يثبت في غيره أيضا ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وثانيهما: أن الإباحة منافية للوجوب والحظر، فعند تعادل أمارتي الوجوب

والحظر لو حصلت الإباحة لكان ذلك قولا بتساقطهما، وإثبات الحكم لم يدل عليه دليلاً أصلاً. وهذا ضعيف، لأنه بناء على ما سبق وقد عرفت ضعفه وأجيب عن قوله: لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية: بأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوصل به إلى المدلول، فإذا كان هو في ذاته بحيث يمنع التوصل به إلى الحكم كان خاليا عن المقصود الأصلي منه، ولا معنى للعبث إلا ذلك. وهذا بخلاف التعارض الذهني، فإنه لما كان بحيث يمكن التوصل إلى رجحان إحدى الأمارتين لم يكن واضعهما عابثا بل غايته أنا لقصورنا وتقصيرنا ما انتفعنا به. وبه خرج الجواب أيضا عن الأخير، ويخصه أن ذلك للضرورة فإنه لا طريق للعامي سواه إذ ذاك لجهله بطريق التراجيح، وإذا عرفت ضعف بعض هذه الأجوبة عرفت توجه الاعتراض على الدليل فيكون الدليل مقدوحًا. وثانيها: أن لله تعالى في كل واقعة حكما واحدًا على ما سيأتي تقريره، والخصم مساعد عليه أيضا، فلو تعادلت الأمارتان الدالتان على النفي والإثبات لزم من ذلك التضليل والحيرة في إصابة الحق وهو ممتنع على الشارع الحكيم، فإن الحكيم إذا كان له طريقان في تحصيل الغرض سلك أفضاهما إلى حصول الغرض، ولا شك أن نصب الأمارة الراجحة أفضى إلى إصابة الحق. وجوابه: أنا وأن سلمنا أن الحكم في الواقعة واحد، لكن لا نسلم أنه يلزم منه امتناع تعادل الأمارتين. قوله: يلزم منه التضليل والحيرة في إصابة الحق.

قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه إنما يلزم ذلك أن لو كان مكلفا بإصابة ما هو الحكم عند الله تعالى وليس كذلك، بل بما غلب على ظنه فإن لم يغلب على ظنه شيء كما في صورة التعادل كان الواجب عليه التخيير، أو التساقط هو حكم الله تعالى. [وثالثها: أن إحدى الأمارتين تدل على الوجوب بعينه والأخرى تدل على الحظر بعينه وهذا في الحكمين المتنافيين، أو تدل إحدى الأمارتين على وجوب شيء بعينه والأخرى تدل على وجوب شيء آخر بعينه، وهذا في الفعلين المتنافيين والحكم واحد والقول بالتخيير سواء كان بالنسبة إلى الحكمين أو بالنسبة إلى الفعلين مخالف لمقتضى الأمارتين معا فكان باطلاً، وكذا القول بتساقطهما، لأنه يلزم منه الترك بالدليلين. وجوابه: أن أمارة وجوب الفعل يقتضى وجوبه فقط، أما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه، وعلى هذا التقدير لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين وكذا القول في الحكمي المتنافيين فإن أمارة الوجوب دلت على الوجوب بعينه، وأما المنع من الإخلال به على كل حال والرجوع إلى غيره فموقوف على عدم الدلالة على حكم آخر يعادل الأمارتين. واحتج المجوزون له مطلقا بوجوه: أحدهما: أنه لو امتنع تعادل الأمارتين فأما أن يمتنع لذاته وهو باطل؛ لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته عقلاً، أو لدليل خارجي عقليًا كان، أو نقليا وهو أيضا باطل؛ إذ الأصل عدمه فمن أدعى فعليه بيانه. وثانيها: أنا أجمعنا على جواز التعادل الذهني، فوجب أن يجوز أيضًا

التعادل الخارجي أيضًا. وأجيب عن الأول: بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد، وأن ليس أولى من إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز. وعن الثاني: بأنه قياس خال عن الجامع سلمناه لكن الفرق ظاهر وهو ما تقدم. وثالثها: أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين، أو ثبوت الحكمين المتنافيين في الفعل الواحد يقتضى إيجاب الضدين، وذلك يقتضى إيجاب كل واحد منهما على سبيل البدلية، ولا معنى للتخيير إلا ذلك. وجوابه: أنه لا نزاع في جواز ذلك، وإنما النزاع في أنه هل يجوز أن تتعادل الأمارتان على الحكمين المتنافيين أو على الفعلين المتنافيين والحكم واحد، وما ذكرتم لا يفيده. وإذا ظهر ضعف مأخذ الجانبين وجب التوقف وإن كان الأقرب إنما هو القول بالجواز. وأما الإمام - رحمه الله - فقال: "أما تعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد فهو جائز في الجملة، لكنه غير واقع في الشرع. أما أنه جائز في الجملة، فلأنه/ (251/ أ) يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفي والإثبات، وتستوى عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الأخر. وأما أنه في الشرع غير واقع فقد احتج عليه بما تقدم من الوجه الأول في

حجة المانعين منه مطلقًا. ومن الظاهر أن ذلك لا يختص بعدم الوقوع بل يدل على عدم الجواز الشرعي أيضًا، نعم لا يدل على عدم جوازه عقلاً، وأما تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد فهو جائز ومقتضاه التخيير. والدليل على جوازه وقوعه في صور: إحداها: قوله عليه السلام في زكاة الابل: (في كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة)، فمن ملك مائتين فقد ملك أربع خمسينات، وخمس أربعينات، فإن أخرج الحقاقَ فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله عليه السلام: (في كل خمسين حقة). وأن أخرج بنات اللبون فقد عمل بالحديث الأخر وليس أحدهما أولى من الآخر فيتخير بينهما. وثانيها: من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء منها، لأنه كيف فعل فقد يستقبل شيئا من الكعبة. وثالثها: أن الولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه، ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا، ولو أطعم أحدهما مات الآخر، فها هنا هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك الأخر، أو بالعكس ولا سبيل إلا التخيير.

المسألة الثانية القائلون بجواز هذا التعادل [قالوا: إن وقع هذا التعادل]، للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير، أو التساقط والرجوع إلى غيرهما

ولقائل أن يقول: لا نزاع في وقوع مثل هذا التخيير في الشرع، وإنما النزاع في أنه هل يجوز أن تتعادل الأمارتان في فعلين متنافيين والحكم واحد بحسب النوع، وبحسب متعلقه، كما إذا دلت أمارة على أن هذه الجهة جهة القبلة أو تدل أمارة أخرى أن الجهة الأخرى هي جهة القبلة، وتتعادل الأمارتان، وما ذكرتم الصور ليس مما فيه النزاع في شيء، أما الأول: فلأن الحكم إن كان واحدًا فيها بحسب النوع لكن ليس واحدًا بحسب متعلقه، فإن وجوب الحقة غير وجوب بنت اللبون. وأما الثاني والثالث فهما من أقسام الواجب المخير لا مما نحن فيه، فإن التخيير فيما نحن فيه هو أن ينشا من تعادل الأمارتين اللتين تدل كل واحدة منهما على واحد بعينه، ومعلوم أن ما ذكرتم من الصورتين ليس كذلك، فإنه ليس أمارة على وجوب استقبال جانب من الكعبة بعينه، وأمارة أخرى تدل على استقبال الجانب الآخر، وكذلك ليس أمارة تدل على وجوب إرضاع صبى بعينه، وأمارة أخرى تدل على وجوب إرضاع الصبى الآخر فليسا هما من صور النزاع. المسألة الثانية القائلون بجواز هذا التعادل [قالوا: إن وقع هذا التعادل]، للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير، أو التساقط والرجوع إلى غيرهما. ومنهم من نقل فيه الوقف أيضًا كما في التعادل الذهني وهو بعيد جدًا، إذ الوقف فيه لا إلى غاية؛ إذ لا يرجى فيه ظهور الرجحان وإلا لم تكن مسألتنا

بخلاف التعادل الذهني فإنه يوقف فيه إلى أن يظهر المرجح. وإن وقع للمفتي كان حكمه أن يخير المستفتي في العمل بأيهما شاء، هذا ما ذكره الإمام. ومنهم من نقل أنه يجب عليه أن يجزم بمقتضى أحدهما دفعا للتخيير عن المستفتي. وهذا فيه نظر؛ لأنه ليس في التخيير بين الأخذ بأي الحكمين شاء تخير. والأظهر أن المفتي فيه بالخيار بين أن يجزم له الفتيا، وبين أن يخيره إذ ليس في كل واحد منهما مخالفة دليل ولا فساد فيسوغ له الأمران ولأن الحاكم يجب عليه الجزم على ما ذكره والعامل لنفسه مخير على ما تقدم والمفتي داثر بينهما فينبغي أن يسوغ له الامران نظرًا إلى الجانبين، وإن وقع للحاكم وجب عليه التعين لا غير، لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات فلو خير الخصمين لم تنقطع خصومتهما، لأن كل واحد منهما يختار الذى هو أوفق له، وليس كذلك حال المفتي. فإن قلت: فهل للحاكم أن يقضى في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين، بعد أن كان قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى؟ قلت: لا يمتنع ذلك عقلاً، كما إذا استوى عنده جهتا القبلة، فإن له أن يصلى مرة إلى جهة، ومرة إلى جهة أخرى. وكما إذا تغير اجتهاده فإنه إذا قضى بحكم في قضية ثم تغير اجتهاده فيها إذا وقعت مرة أخرى فإنه يجب عليه أن يحكم بما أدى إليه اجتهاده ثانية لكن منع منه دليل شرعي، وهو ما روى أنه عليه السلام قال لأبي بكرة:

المسألة الثالثة المجتهد إذا نقل عنه قولان كالوجوب والتحريم مثلا

"لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين". فأما ما روى عن عمر- رضى الله عنه- أنه قضى في مسألة الحمارية بحكمين، وقال: (ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى) فيجوز أن يكون ذلك من باب تغير الاجتهاد بأن ظن في المرة الأولى قوة إحدى الأمارتين وفى المرة الثانية ظن قوة الأمارة الأخرى. المسألة الثالثة المجتهد إذا نقل عنه قولان كالوجوب والتحريم مثلاً، فإن كانا في مسألتين مختلفتين كالوجوب في العبادات، والتحريم في المعاملات، أو كانا في مسالة واحدة لكن بالنسبة إلى حكمين مختلفين لا منافاة بينهما كالتحريم، ووجوب الحد كما في الزنا والسرقة/ (252/ أ) والقذف، أو كانا في فعلين متضادين على سبيل البدلية كوجوب غسل الرجلين ووجوب مسحهما، أو غير متضادين كوجوب الوضوء وتحريم استعمال الماء المغصوب فكل ذلك جائز بالاتفاق وهو ظاهر لا غبار عديه، وإنما النزاع في أنه هل يجوز أن يصدر عنه قولان في حكمين متنافيين على سبيل البدلية في شيء واحد، في وقت واحد من غير أن

يرجح أحدهما على الأخر أم لا؟ فمن جوز تعادل الأمارتين جوز ذلك، ومن لم يجوز ذلك لم يجوز هذا. فإن قلت: التعادل الذهني جائز وفاقا فهلا - جوز - ذلك بناء عليه. قلت. حكمه إذ ذاك التوقف، أو التساقط والرجوع إلى غيرهما، وأما التخيير فبعيد لعلمه بأن أحدهما راجح قطعا ويجب العمل به دون المرجوح، فإنه لا يجوز العمل به، وإن جوز التخيير حينئذ فهو قول واحد وهو التخيير وليس هو قولن متنافيين فلم يجز تخريجه على التعادل الذهني، والتخيير بينهما حينئذ بعيد وإن نقله بعضهم. إذا عرفت هذا فنقول: المجتهد إذا نقل له قولان في مسالة واحدة بالنسبة إلى حكمين متنافيين، فأما أن يكون القولان منصوصين، أو لا يكونا منصوصين. فإن كان الأول إما أن يكونا في موضعين بأن ينص في كتاب بتحريم الشيء، وفى كتاب آخر بتحليله أو في موضع واحد. فإن كلان الأول فإما أن يعلم التاريخ بينهما أو لا يعلم. فإن علم كان الثاني رجوعا عن الأول ظاهرًا. وإنما قلنا ظاهرًا؛ لأنه يحتمل أن يكون القول هو الأول هو الراجح عنده، وإنما أبدى الثاني على وجه الاحتمال، أي: أنه محتمل في الجملة في المسالة وإن كان مرجوحا عنده بالنسبة إلى القول الأول. وإن لم يعلم التاريخ حكى عنه القولان، ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه، وإن علم أن أحدهما مرجوع عنه لا بعينه ظاهرًا، ولا يخفى

عليك أنه لا يجوز العمل بأحدهما إذ ذاك قبل التبين. وإن كانا في موضع واحد بان يقول. في المسألة قولان، فإن ذكر عقيب ذلك ما يشعر بتقوية أحدهما نحو أن يقول: هذا أشبه، أو هذا أمثل، أو هذا أوفق، أو ما يجرى مجراها، أو يفرع على أحدهما دون الآخر فهو قوله؛ لأن قول المجتهد ليس إلا ما يترجح عنده. وإن لم يذكر شيئا من ذلك فإن ذكر القولين في معرض الحكاية لأقوال الغير فلا يكون القولان قولين له بل ذكرهما على سبيل الحكاية ليرجح أحدهما الناظر في المسالة، وإن لم يذكرهما في معرض الحكاية فيكون القولان له ظاهرًا. فمن لم يجوز تعادل الأمارتين لم يجوز هذا، ومن جوز ذلك جوز هذا لاحتمال صدور القولين عن الأمارتين المتساويتين، ثم من الظاهر أنه ليس مضمونهما معا حقي عنده،، فإن اعتقاد التحريم والوجوب مثلاً معا محال بل ذلك على سبيل البدلية فليس له في المسالة قولان بل قول واحد. ومنهم من زعم أن له قولين وحكمهما التخيير، وهو ضعيف؛ لأنا لو سلمنا القول به مع أن ميه كلاما فهو قول واحد لا قولين متنافيين، فإن من خير بين خصال الكفارة لا يقال: إن له في الكفارة أقوالا، بل الحق أن ذلك يدل على تردده في المسالة وتوقفه في حكمها وليس للمتردد والشاك في المسالة قول فضلاً عن أن يكون له فيها قولان، ولا يجوز أن ينسب إليه القولان على سبيل الحقيقة؛ لأن قول الإنسان على سبيل الحقيقة هو ما يقول به، وقد ظهر أنه لا يجوز أن يقول بهما ولا بأحدهما عبثا بل على سبيل البدلية، والذى يقال في مثل هذا: إن لفلان قولين في المسالة فهو على سبيل التجوز

من حيث إنه يقول بهذين الاحتمالين في المسألة على سبيل البدلية لوجدان دليلهما المتساويين دون سائر الاحتمالات. وإن لم يكونا منصوصين فإما أن يكون أحدهما منصوصًا والأخر منقولاً من نظيره المنصوص عليه وهو كالب ما يقع من هذا الجنس، أو كلاهما منقولين من مسألتين منصوصتين هما نظير في المنقول إليها في وجه معتبر. فإن كان الأول فإن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يلزم أن يكون قوله في تلك المسالة قولاً في هذه المسالة؛ لاحتمال أنه ذهب إلى ذلك الفرق فلم يجز نسبة ذلك القول إليه في هذه المسألة، وكذلك القول فيما إذا كان القولان منقولين من مسألتين منصوصتين. وإن لم يكن بينهما فرق أصلاً فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين قوله في الأخرى، وإنما قلنا الظاهر؛ لأنه جاز أن نص عليها عند الذهول من نظيره تلك المسألة فلم يمكن أن يقال إن ذلك القول قوله؛ لأن قول الإنسان في الشيء يستدعي أن يكون الشيء معقولاً له، نعم هو لازم قوله لكن لازم القول قد لا يكون قول الإنسان بمعنى أنه يقول به ويرتضيه، وحينئذ إما أن يكون التاريخ معلومًا أو لم يكن والحكم على كل واحد/ (253/ أ) من التقديرين ما سبق في القولين المنصوصين. فأما الأقوال المحكية عن الشافعي- رضى الله عنه- في المسألة الواحدة فهو يحتمل وجوها: أحدها: وهو الأكثر أنه قد نص على حكم في كتبه القديمة، وفى كتبه الجديدة نص على حكم آخر، والناس نقلوهما من غير تعرض لبيان القديم والجديد للاطلاع على مأخذيهما لا للإفتاء، فإن الجديد ناسخ للقديم فلا يحل الإفتاء به، اللهم إلا إذا نص على رجحانه على الجديد.

ولا يخفى على من له أدنى فطانة أن هذا يدل على علو شانه في العلم والورع. أما الأول: فلأن ذلك يدل على أنه كان في طول عمره مشتغلاً بالطلب والبحث والنظر في أدلة الأحكام، وإلا لما عثر على الأكثر على أدلة أقوى من الأدلة الأولى. ولا يحال ذلك إلى اختلاف الاجتهاد مع اتحاد الدليل حتى يقال: إن ذلك يدل على ضعف نظره أولاً؛ لأن صلاحية الدليل الواحد للدلالة على الحكمين المتنافيين في شيء واحد في غاية الندور ولا يجوز إحالة الأكثر إليه، ولو سلم ذلك فذلك أيضا يدل على علو شأنه في العلم إذ يدل على أنه كان [مشتغلاً بالعلم طول عمره، من حيث إنه كان باحثًا عن الأدلة، وعن وجوه دلالتها طول عمره حتى كان يظهر له وجه بعد وجه. وأما الثاني: فلأنه يدل على أنه كان، متبعًا للحق دائرًا معه حيث دار؛ لأنه متى لاح له حقية شيء، بوجه معتبر أقوى من الوجه الأول اتبعه وأظهره، وأنه ما كان يتعصب لنصرة قوله، وترويج مذهبه، بل كان منتهى أمله وطلبه اتباع الحق وإرشاد الخلق إليه. وثانيها: أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد، وفص على الترجيح، كقوله في بعض ما ذكر فيه قولن: أن هذا أصح، أو أولى، أو أشبه، أو أقيس، أو بهذا أقول. أو نته عليه كما إذا فرع على أحد القولين دون الآخر فإن ذلك يدل على أن الذى فرع عليه أقوى عنده، أو كما إذا ذكر أحد القولين أولاً أو ما يشبه ذلك، ثم أن الناقل نقل القولين فقط فلم يذكر ما ذكره من الترجيح، إما لعدم اطلاعه عليه لكونه مذكورًا في آخر كلامه وهو لم ينته إليه، أو وإن كان

قد انتهى إليه لكن لم يتنبه له للملالة أو غيرها، أو وإن تنبه له لكنه لم يذكره اختصارًا للمصنف ولعل هذا هو السبب الأكثر في هذا الباب. وثالثها: أنه وإن ذكر في المسألة الواحدة قولن في وقت واحد، لكن لم يقل: قولان لي، بل قال: فيها قولان، فلعل القولين لغيره وإنما ذكرهما في كتابه على سبيل الحكاية كما تقدم ذكره ليطلع فيه عليهما وعلى مأخذهما، وإيضاح القول في كل واحد منهما وعليهما. وأيضًا فإنه قد يلوح للإنسان ما ينوى أحد ذينك القولين لكن لا يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث، خارق للإجماع، فإذا نقل القولين عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع، ثم أن الناقل ذكر القولين ونسبهما إليه- رضى الله عنه- لظنه كذلك فهذا لا يكون عيبا على الإمام الشافعي- رضى الله عنه- بل على الناقل حيث جزم بالنسبة إليه مع احتمال أن لا يكون كذلك. وأيضًا: فإنه يحتمل أن يكون المراد من القولين: الاحتمالين وإنما سماهما قوفي وذكرهما دون ما عماهما من الاحتمالات، لانهما بحيث يمكن القول بهما دون ما عداهما من الاحتمالات فإنه قد يكون ظاهر البطلان. فأما الاحتمالان المذكوران فإنهما قويان، بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة، ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق بالنظر الدقيق فلا جرم أفردهما بالذكر، دون سائر الاحتمالات الممكنة في المسالة. فالحاصل أن تسميتها قولين مجاز باعتبار الصلاحية والصيرورة أي أنهما صالحان لان يكونا قولن وأنهما يمكن أن يصيرا قولين وهو أحد أسباب المجاز القوية. ورابعها: أن ينص على القولين من غير أن يرجح أحدهما على الأخر بناء على تساوى أمارتيهما إما في ذهنه أو في الخارج إن جوز ذلك ولم يوجد

من الإمام الشافعي - رضي الله عنه- قولان على هذا الوجه أعنى من غير ترجيح منه لأحدهما إلا في سبعة عشر مسالة على ما ينقل ذلك عن الشيخ أبى حامد الإسفراييني - رحمة الله تعالى. وهذا أيضًا يدل على كمال علمه ودينه. أما الأول: فلأن كل من كان أغوص نظرًا، وأدق فكرًا، وأكثر إحاطة بالأصول والفروع، وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات عنده أكثر. فأما الإصرار على الوجه الواحد طول العمر وعدم التردد بين محتملات المسالة في المسائل الظنية، والمباحثات الغير يقينية فذلك لا يكون إلا من جمود الطبع، وقلة الفطنة، وكلال القريحة، وعدم الاحاطة بشرائط الأدلة والاستدلال، وعدم الوقوف على الأسئلة القادحة، والاعتراضات المنقدحة. وأما الثاني فمن وجهين: أحدهما: أنه لما لم يظهر له في المسألة وجه الرجحان بين محتمليهما لم يستنكف من/ (254/ أ) الاعتراف بعدم العلم، ولم يشتغل بالترويج والمداهنة، بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه، ومعلوم أن مثل هذا لا يصدر إلا عن الدين المتين، ولهذا عد المسلمون وأئمة الدين من فضائل عمر- رضي

الله عنه- ومناقبه ما روى عنه من اعترافه بعدم العلم في كثير من المسائل. وثانيهما: أنه لم يقل ابتداء، إني لا أعرف هذه المسائل حتى لا يحمل ذلك على تقصيره في طلب أدلته ومرجحاته بل بين حكمها لكن تردد بين احتمالين فيها لكونه وجد المسألة واقعة بين الأصلين، دائرة بين الدلالتين القويتين، فبين وجه وقوعها بينهما، وكيفية مشابهتها لهما، وترددها بين تينك الدلالتين القويتين، ثم لما لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة ليكون ذلك باعثا له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح، ولا يخفى أن هذا هو اللائق بالدين المتن، والعقل الرزين. فظهر من هذا أن ترديد القولين أو الأقوال في المسألة ليس عيبًا ولا تقصيرًا في الاجتهاد كما اعتقده بعض المتعصبين بل هو من الفضائل العلية والمناقب السنية كما تقدم تقريره. القاطعين لزم حصول مدلوليهما وهو جمع بين المتنافيين وهو ممتنع.

واختلفوا في تعادل الأمارتين:- فمنعه الإمام أحمد، والكرخي، وجمع من فقهائنا. وجوزه الباقون من الفقهاء، والمتكلمين. وهؤلاء اختلفوا في حكيمه عند وقوعه على ثلاثة مذاهب:- أحدها: أن حكمه له التخيير، وهو اختبار القاض أبى بكر، وأبى على، وأبى هاشم. وثانيها: أن حكمه التساقط، ويجب الرجوع في ذلك إلى غيرهما، وهو البراعة الاصلية، وهو مذهب أكثر الفقهاء منهم.

القسم الثاني في التراجيح

القسم الثاني في التراجيح وفيه فصول:

الفصل الأول في مقدمات التراجيح

الفصل الأول في مقدمات التراجيح وفيه مسائل:

المسالة الأولى: في حد الترجيح

المسالة الأولى: في حد الترجيح قال الإمام: هو عبارة عن تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر. قال. وإنما قلنا: "طريقين، لأنه لا يصح الترجيح بين الأمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين، لأنه لو انفرد كل واحد منهما، فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق". وهذا فيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه جعل الترجيح عبارة عن التقوية التي هي مستندة إلى الشارع أو المجتهد حقيقة، أو إلى ما به الترجيح مجازًا، وهو وإن كان موافقًا

وملائمًا لمعنى الترجيح من جهة اللغة، لكنه غير ملائم له بحسب الاصطلاح، فإنه في الاصطلاح: عبارة عن نفس ما به الترجيح، فلا يجوز أن يجعل عبارة عن التقوية. وثانيهما: أنه قال: [ليعلم الأقوى، وهو ليس بشرط، بل المشترط أحد الأمرين، وهو إما العلم أو الظن، فكان من حقه أن يقول]، ليعلم الأقوى أو يظن، فإن ظن القوة كاف فيه كما في أصل الدلالة. وقال بعضهم: هو عبارة عن اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر. وهذا وإن كان ما يرد عليه الإشكالان المتقدمان، لكن يرد عليه، وهو: أنه لا يعرف كون ذلك المقترن موجبا للعمل إلا إذا عرف مرجحًا، فإن بتقدير أن لا يكون مرجحا لا يجوز العمل به، فلو عرف الترجيح به لزم الدور. وأيضًا جعل عبارة عن الاقتران، وهو ليس كذلك. وقيل: هو عبارة عن زيادة وضوح يرجع إلى مآخذ أحد الدليلين بما لا يستقل دليلاً. وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن زيادة الوضوح ليس نفس الترجيح بل هو مستفاد من دلالته، فلا يجوز أن يجعل عبارة عنه.

المسألة الثانية ذهب الأكثرون إلى وجوب العمل بالراجح سواء كان الترجيح معلوما أو مظنونا

وأيضًا يخرج عنه الترجيح بكثرة الأدلة على رأينا. والأولى في ذلك أن يقال: هو عبارة عمها يحصل به تقوية أحد الطريقين المتعارضين على الآخر فيظن أو يعلم الأقوى فيعمل به. وهذا يتناول الترجيح بالأدلة المستقلة وغيرها. وإنما جعلناه عبارة عما يحصل به التقوية [لا نفس التقوية]، لئلا يرد الأشكال المذكور. وإنما قلنا: طريقين لأنه، لا يصح الترجيح بين الأمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين، فإنه لو أنفرد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح للطريق على ما ليس بطريق. وإنما قلنا: المتعارضين، لأن الترجيح إنما يتطرق إلى الدليل عند التعارض لا عند عدمه. وقولنا: فيظن أو يعلم بيان لأثر التقوية فإنه إذا لم يحصل شيء منهما لم تحصل التقوية. وإنما قلنا: أحدهما ليندفع الإشكال المذكور. المسألة الثانية ذهب الأكثرون إلى وجوب العمل بالراجح سواء كان الترجيح معلومًا أو مظنونًا.

وقال بعضهم كالقاضي أبى بكر- رحمه الله تعالى- لا يجوز العمل بالترجيح المظنون. قال القاضي: أنا أقبل الترجيح المقطوع به وألازمه وأتابعه، فأما المظنون فأرده وأخالفه، لأن الأصل المقرر أن لا يجوز إتباع شيء من الظنون، لأنه عرضة الأغاليط والخطأ إلا أنا نعتبر الظنون المستقلة بأنفسها لانعقاد إجماع الصحابة- رضى الله عنهم- عليها، إذ لنا في الأولين أسوة حسنة، وهم اعتبروا الظنون المستقلة، فما وراء الإجماع بقى على الأصل، والترجيح عمل يظن لا يستقل بنفسه دليلاً، وانعقاد الإجماع على ما يستقل ليس انعقادًا على ما لا يستقل، فإذا لم يكن مجمعًا عليه لا يجوز اعتباره واتباعه. وأيضًا: فإن كل مجتهد مصيب على ما سيأتي تقديره فلا يتحقق الترجيح فيه بخلاف المقطوع به فإن الحق فيه واحد/ (255/ أ) فما كان أقرب إلى المقصود كان أحق بتحقيق الترجيح فيه. وجوابه: أن الإجماع منعقد عل! وجوب العمل بالظن [الذى لا يستقل كما انعقد على وجوب العمل بالظن] المستقل كما سيأتي تقريره.

احتج الجماهير بوجوه: أحدها: إجماع الصحابة- رضى الله عنهم- عليه فإنهم قدموا خبر عائشة في التقاء الختانين وعلى خبر أبى هريرة في قوله: (الماء من الماء). وقدموا خبر من روت من أزواجه: "أنه كان يصبح جنبًا" على ما رواه أبو هريرة " أن من أصبح جنبًا فلا صوم له". وقوى أبو بكر- رضى الله عنه- خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة. وقوى عمو- رضى الله عنه- خبر أبي موسى في الاستئذان، بموافقة أبى سعيد الخدري. وقوى على -رضى الله عنه- خبر أبى بكر حيث لم يحلفه ويحلف غيره. وهذه الصور الثلاثة وإن كان ليس فيها تعارض لكن المقصود أنهم عملوا بالظن الذى لا يستقل كما عملوا بالظن المستقل. وأما ما احتج به في هذا المقام: بانهم ما كانوا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها. وكذلك الاحتجاج بحديث معاذ- رضي الله عنه-. ووجه الاستدلال به أنه- رضى الله عنه- قدم بعض الأدلة على البعض، وقرره النبي عليه السلام على ذلك، وذلك يدل على وجوب العمل بالراجح، فليس بحجة على صورة النزاع، لأنه لا نزاع في ترتيب الأدلة فإن الكتاب مقدم على السنة. وهى مقدمة على القياس كما نطق به صريح الحديث، وهذا القسم هو المسمى بالترجيح المقطوع به، ولا نزل فيه كما تقدم

ذكره، وإنما النزاع في الترجيح المظنون، وهو الترجيح بالأوصاف والأحوال، وبكثرة الأدلة على رأى، وما ذكر من الاحتجاج المقدم ذكره فليس منه في شيء ألبتة. وثانيها: أن الدليلين إذا تعارضا لم يرجح أحدهما على الآخر فالعقلاء يوجبون العمل بالراجح، ولا يجوزون العدول عنه حتى لو عدل عنه أحد سفهوا رأيه، واستقبحوا تصرفه، فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن!، ولأن الأصل تطابق الشرع والعرف فإن التغيير خلاف الأصل. وثالثها: لو لم يعمل بالراجح فقط، فإما أن يعمل بالمرجوح فقط، وهو باطل، لأنه يلزم منه ترجيح المرجوح على الراجح وهو ممتنع في بدائه العقول، أو يعمل بهما وهو أيضًا باطل [لأنه يلزم الجمع بين الضدين، أو لا يعمل بواحد منها وهو أيضا باطل] لأنه يلزم منه تعطيل الدليلين وهو على خلاف الأصل. واحتج الخصم بأمرين:- أحدهما: التمسك بعمومات القياس نحو قوله تعالى: {فاعتبروا}. وقول محاذ (أجتهد رأى)، وقوله عليه السلام "اقض بالظاهر". ووجه التمسك بها ظاهر.

وجوابه: أنه استدلال وقياس في مقابلة الإجماع والدلائل الجلية فلا يقبل. سلمناه لكن خرج عن زيادة الظن الذى حصل من القياس الجلي، ومن القياس الذى نص على عليته، وزيادة الظنون التي حصلت من كون اللفظ حقيقة وظاهرًا في معنى، فكذا ما نحن فيه بجامع زيادة الظن. وثانيهما: أن الترجيح لو اعتبر في الأمارات لاعتبر في البينات في الأقضية والحكومات، بجامع ترجيح الأظهر على الظاهر، لكن اللازم باطل بالاتفاق فالملزوم مثله. وجوابه: بعض ما سبق، ويخصه منع بطلان اللازم، وهذا لأن الترجيح في البينات معتبر أيضًا عند بعض القائلين بالترجيح المظنون كمالك- رضى الله عنه، والشافعي- رضى الله عنه. على قول له. سلمناه لكن لا يلزم من عدم اعتبار الأظهرية في البينات عدم اعتباره في الأمارات، لأن اعتباره في البينات يفضي إلى بقاء النزل لا إلى غاية وأمد، فإنه إذا أتام أحدهما شاهدين فربما يقيم الأخر ثلاثة شهود، ثم يرجع الأول يقيم شاهدين آخرين حتى يصير شهوده أربع وهلم جرا، فلم يحصل فصل الخصومة، والحاكم إنما نصب لفصل الخصومة، فلما كان اعتباره في البينات مناقضا ومنافيا لما لأجله نصب الحكام وشرع الشهود لا جرم لم يعتبر بخلاف الأمارات، فإنه لا يلزم منه هذا المحذور فلا جرم اعتبر عملاً بالمقتضى، وهو زيادة الظن وزوال المانع.

المسألة الثالثة لا يتطرق الترجيح إلى الأدلة القطعية

المسألة الثالثة لا يتطرق الترجيح إلى الأدلة القطعية لوجوه*: أحدهما: أن لا الترجيح على ما ذكرناه إنما يتطرق إلى الدليل بعد التعارض، ولا تعارض بين القاطعين ولا ترجيح. ولقائل أن يقول: التعارض بين القاطعين حاصل في الأذهان فإنه قد يتعارض عند الإنسان دليلان قاطعان/ (256/ أ) بحيث يعجز عن القدح في أحدهما، وأن كلان يعلم أن أحدهما في نفس الأمر باطل قطعًا، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتطرق الترجيح إليها بناء على هذا التعارض كما في الإمارات، فإنه ليس من شرط تطرق الترجيح إلى الأمارات أن تكون متعادلة في نفس الأمر بل لا يتصور جريان الترجيح في المتعادلين في نفس الأمر وإلا لم تكن متعادلة؟ وثانيها: أن الترجيح عبارة عق التقوية، والعلم اليقيني لا يقبل التقوية، لأنه إن كلان بحيث يحتمل النقيض ولو على احتمال بعيد جدًا كان ظنًا لا علمًا لأن كان بحيث لا يحتمله البتة لم يقبل التقوية. وثالثها: أن شرط الدليل القطعي أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية، أو لازمة عنها لزومًا ضروريًا، إما بواسطة واحدة، أو بوسائط، شأن كل واحد منها ذلك، وعلى التقديرين يلزم أن لا يقبل احتمال النقيض فلا يقبل التقوية.

بيانه: أن هذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة: أحدها: العلم الضروري بحقية المقدمات إما ابتداء، أو استنادًا. وثانيها: العلم الضروري بصحة تركيبها. وثالثها: العلم الضروري بلزوم النتيجة عنها. رابعها: العلم الضروري بأن اللازم عن الضروري بطريق ضروري ضروري. ولا شك أن هذه العلوم الأربعة لا تحصل في دليلي النقيضين معًا، وإلا لحصل النقيضان، فلا يقبلا التقوية الترجيح. ولقائل أن يقول: هب أن حصول هذه العلوم الاربعة في دليلي النقيضين محال، لكن قد يحصل في الذهن اعتقاد حصول هذه العلوم الاربعة في دليلي النقيضين وذلك حيث يعجز الإنسان في القدح في مقدمات الدليل، وفى صحة تركيبها وفى لزوم النتيجة [عنها مع علمه]، بأن اللازم عن الضروري بطريق ضروري ضروري فلم لا يجوز بطريق الترجيح إلى الدليل بناء على هذا الاعتقاد.

المسألة الرابعة المشهور أن العقليات لا يتطرق الترجيح إليها

المسألة الرابعة المشهور أن العقليات لا يتطرق الترجيح إليها. وهذا على الإطلاق غير صحيح، فإن من العقليات ما هو ظني، وما هو تقليدي كاعتقادات العوام فإن اكتفى منهم بذلك تطرق إليها الترجيح كما في تقليد الفتوى وإلا فلا، وكذا القول فيما هو ظنى. نعم القطعيات منها لا تقبل الترجيح [لكنه ليس مخصوصا به بل القطعيات الشرعيات أيضا لا تقبل الترجيح]، كما سبق. المسالة الخامسة ذهب الشافعي ومالك- رضي الله عنهما- إلى أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة، خلافًا للحنفية. ومن جملة صور المسألة ترجيح الخبر بكثرة الرواة.

لنا وجوه: أحدها: أن الظن الحاصل يقول الأكثر أقوى، والأقوى يتعين العمل به، فيكون العمل الأكثر متعينًا ولا نعنى بقولنا: يرجح الخبر بكثرة الرواة سوى هذا. بيان الأول بوجوه: أحدها: ما روى عنه عليه السلام أنه لم يعمل بخبر ذي اليدين حتى أخبره بذلك غيره، وما ذاك إلا لأنه غلب على ظنه عليه السلام صدق المجموع. وثانيها: إجماع الصحابة على ذلك: رد أبو بكر- رضى الله عنه- خبر المغيرة في توريث الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة فحينئذ قبله. ورد عمر- رضى الله عنه- خبر أبى موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري، ولولا إن لكثرة الرواة أثرًا في قوة الظن، وإلا لما كان كذلك ثم أنه لم ينكر عليهما أحد فكان إجماعًا. وفى هذا الاستدلال نظر من جهة أنه غير وارد على محل النزاع، فإن محل النزل هو: أن يفيد قول الواحد ظنا معتبرًا في وجوب العمل به، ثم يرجح عليه الخبر الأخر لكثرة رواته، وما ذكرتم من الصورتين فلا نسلم

أنه أفاد قول الواحد ظنا معتبرًا في وجوب العمل، وهذا لأنه لو أفاد لما جاز لهم توقيف الأمر على شهادة الآخر، بل إنما توقف النبي- عليه السلام- وأبو بكر وعمر، لأن قول الواحد ما أفاد لهم الظن المعتبر في وجوب العمل به لأجل التهمة فلما شهد الأخر بذلك زالت التهمة، وبهذا أجيب عنه عن احتجاج من احتج بهذا على إجماع الصحابة على رد خبر الواحد، وحينئذ يكون الاستدلال به غير وارد على محل النزاع. وثالثها: أن الرواة إذا كثروا جدًا حصل بقولهم العلم، فالعدد الذى هو أقرب إلى تلك الكثرة كثر افادة للظن وإلا لما حصل اليقين بالانتهاء إلى تلك الكثرة، ضرورة عدم حصول ما بعد تلك المرتبة من الظن وإن لكل عدد من إعداد تلك الكثرة [قدر من الظن إلى أن ينتهى إلى العلم بتلك الكثرة]. ورابعها: أن قول الواحد يفيد قدرًا من الظن، فإذا انضم إليه الأخر فإن حصلت زيادة بسببه فقد حصل الغرض، وإن لم يحصل لزم أن يكون الشيء/ (257/ أ) مع غيره كهو لا مع غيره، ولزم أيضا اجتماع المؤثرين المستقلين على الاثر الواحد، ولزم أيضا جواز أن لا يحصل بانضمام الثالث والرابع زيادة على ذلك، وحينئذ يلزم عدم إفادة عدد التواتر لليقين واللوازم ممتعة فالملزوم مثله. وخامسها: أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد منه، وكذا بعده عن الغلط والسهو والنسيان كثر من بعد الواحد عنهما، وحينئذ يلزم أن يكون الظن الحاصل بقوله أقوى من الظن الحاصل بقول الواحد. وسادسها: أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره. وسابعها: إذا تعارض دليلان فلابد وأن يكونا متساويين في القوة في ذهن

من عنده التعارض وإلا لما كانا متعارضين فإذا وجد دليل آخر يساوى أحدهما في القوة موافق له فمجموعهما لابد وأن يكون زائدًا على ذلك الآخر في القوة، لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما، وكل واحد منهما مساوي لذلك الآخر، والأعظم من المساوي أعظم. فثبت بهذه الوجوه أن الظن الحاصل بقوله أكثر أقوى. وإنما قلنا: إنه يتعين العمل بالأقوى، لأنا أجمعنا على وجوب العمل بالأقوى الذى حصل من الأدلة المختلفة المراتب كالكتاب، والسنة، والقياس، وعلى وجوب العمل بالأقوى الذى حصل من الدليل الذى ترجيحه بالقوة، وبحسب وصف يعود إليه، وإنما كان ذلك واجبا لزيادة القوة والظن في أحد الجانبين، وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة الأدلة فيتعين وجوب العمل به. وما يقال: من الفرق بين الترجيح بكثرة الأدلة وبين الترجيح بالقوة والوصف الذى يعود إليه وهو أن الزيادة حصلت مع المزيد عليه في محل واحد بخلاف الترجيح بكثرة الأدلة فإنه ما حصلت الزيادة مع المزيد عليه في محل واحد فضعيف جدًا، لأنه غير مناسب ولا مؤثر فإنا نعلم بالضرورة أنه لا أثر لذلك والفرق يجب أن يكون كذلك. وثانيها: أن مخالفة الدليل خلاف الأصل، فكان تكثيرها أكثر مخالفة للأصل فإذا وجد دليلان في أحد الجانبين، وفى الجانب الأخر دليل واحد كانت مخالفة الدليلين أكثر مخالفة للأصل من مخالفة الدليل الواحد فكان أكثر محذورًا منه، فلو لم يحصل الترجيح بكثرة الدليل لجاز ترك الدليلين وحينئذ يلزم وقوع ذلك القدر الزائد من المحذور من غير صبب ولا معارض وأنه ممتنع.

وثالثها: إذا حصل التعارض بين دليل ودليلين فالعقلاء يوجبون الأخذ بموجب الدليلين حتى أن من عدل عنهما وأخذ بموجب الدليل الواحد سفهوا رأيه واستقبحوا تصرفه، ألا ترى أن الإنسان إذا قصد السفر إلى جانب فاخبره عدلان بان الطريق مخوف، وأخبره عدل بانه آمن فإنه إذا سلكه وأصابه مخافة سفه العقلاء رأيه وذموه ولم يعذروه، بخلاف ما إذا كان الأمر على العكس، فإنه إذا سلكه ولحقه مكروه لم يسفه رأيه وأعذره كل واحد، وإذا كان كذلك في العرف وجب أن يكون في الشرع كذلك لما سبق من الحديث والوجه المعقول. واحتج الخصم بأمور: أحدها: الخبر، وهو قوله عليه السلام: "نحن نحكم الظاهر" فالحديث - بإيمائه- يلغى زيادة الظهور من حيث أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعليته، ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل، لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل واحد، والقوى حال اجتماعها تكون أقوى منها حال تفرقها، بخلاف الترجيح بكثرة الدليل فإن هناك الزيادة في محل والمزيد عليه في محل آخر فلا يحصل كمال القوة لعدم الاجتماع في محل واحد. وجوابه: أنه إنما ترك العمل به في الترجيح بالقوة لما فيه من غلبة الظن وزيادته على ما يقابله فوجب أن يكون الأمر كذلك في الترجيح بكثرة الأدلة. قوله: الترجيح بالقوة يحصل الزيادة مع المزيد عليه في [محل واحد فيحصل بسبب الاجتماع قوة. قلنا. نحن نعلم أنه وإن كان] محل الزيادة مغايرًا لمحل الأصل لكن المجموع يؤثر في تقوية الظن الذى هو المطلوب من قوة الدليل كما أن الزيادة

مع المزيد عليه في محل واحد مؤثر/ (258/ أ) في تقوية الظن المطلوب منه، فإنه إذا أخبونا عدل عن واقعة حصل لنا ظن، [فإذا أخبرنا عدل آخر صار ذلك الظن أقوى]، مما كان، ولا تزال القوة تزداد بزيادة المخبرين حتى تنتهى إلى العلم كما في صورة الترجيح بالقوة فلا فرق بينهما من حيث أنهما يفيدان الظن القوى الذى هو المطلوب من قوة الدليل، والفرق بينهما من غير هذا الوجه لا يضر لأنه فرق في غير محل الجمع. وثانيها: القياس، وهو أنا أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في الشهادات والفتوى فكذا هاهنا، والجامع دفع الضرر الناشئ من اعتبار الأظهرية على الظهور. وجوابه: منع الحكم فيها، أما في الشهادة فقد عرفت الخلاف فيهما، وأما في الفتوى، فلأن كثيرًا منهم جوز ترجيح الفتوى بالكثرة أيضًا. ولو سلم الحكم فيهما فالفرق بينه وبن الشهادة ما تقدم، والفرق بينه وبن الفتوى أنه يعسر على العامي الترجيح فحط عنه بابه، وأن كان منه ما هو سهل، ولهذا يجوز للعامي أن يقلد المفضول ويعمل بقوله، وليس للمجتهد أن يعمل بالدليل المرجوح، والافتراق في الحكم دليل على الافتراق في الحكمة. وثالثها. أنا أجمعنا على أن خبو الواحد مقدم على الأقيسة الكثيرة، وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة. وجوابه: منع الحكم إن كانت أصول تلك الأقيسة متعددة، وإن كان أصل تلك الأقيسة شيئا واحدًا فالخبر مقدم عليها، لكن في الحقيقة يلزم تقدمه على

المسألة السادسة إذا تعارض دليلان فإن لم يمكن العمل بكل واحد منهما بوجه دون وجه صير إلى الترجيح

القياس الواحد، لأن تلك الأقيسة حينئذ لا تختلف، إذ لا يجوز تعليل الحكما لواحد بعتلتين مختلفتين. المسألة السادسة إذا تعارض دليلان فإن لم يمكن العمل بكل واحد منهما بوجه دون وجه صير إلى الترجيح. وإن أمكن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه صير إليه، لأنه أولى من العمل بأحدهما دون الثاني، إذ فيه إعمال الدليلين والإعمال أولى من الإهمال، ولأنا إذا عملنا بكل واحد منها بوجه دون وجه فقد تركنا في كل واحد منهما الدلالة التبعية، لأن دلالة اللفظ على بعض مفهومه تابعة لدلالته على كل مفهومه. وإذا عملنا بأحدهما وتركنا الأخر بالكلية فقد تركنا الدلالة الأصلية لأن دلالة اللفظ على كل مفهومه دلالة أصلية؛ ومعلوم أن ترك الدلالة التبعية وإن كانت متعددة أولى من ترك الدلالة الأصلية، فظهر أن العمل بكل [واحد]، منهما بوجه دون وجه أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر بالكلية.

ثم نقول: العمل بكل واحد منهما بوجه دون وجه يكون على ثلاثة أنول. أحدهما: الاشتراك والتوزيع- إن كان ذلك الشيء قبل التعارض يقبل ذلك كما في تعارض البينتين على قول القسمة، وكما في اثنين تداعيًا دارًا بيدهما فإنه يقسم بينهما نصفين، لأن يد كل واحد منهما دليل ظاهر على ملكه لها، فإذا تعارضا وأمكن التوزيع والاشتراك قسم بينهما نصفين. وثانيها: أن يقتضى كل واحد منهما أحكاما فيعمل بكل واحد منهما في بعض الأحكام كما في قياس الجناية على الرقيق على الجناية على الحيوانات وسائر الأموال بجامع كونه مالا من حيث إنه يباع ويشرى، وتتعلق به الأغراض المالية، وكقياس الجناية عليه على الجناية على الحر بجامع كونه آدميًا حرًا مكلفا، وبالمشابهة في الصورة، فمقتضى قياس الأول أن يكون الواجب في إتلاف نفسه قيمته بالغة ما بلغت كما في الأموال الغير المثلية، وفى الجناية على أطرافه أرش ما نقص بالغة ما بلغت، ومقتضى القياس الثاني أن يكون الواجب في إتلاف نفسه الدية وإن زادت على قيمته كما في الحر لكن ينقض منه شيء يسير نحو عشرة دراهم لكوته أنقض حالا منه حتى لا يلزم المساواة كما يقول أبو حنيفة- رضى الله عنه- وفى الجناية على أطرافه ما هو الواجب على أطراف الحر وإن زادت على مجموع قيمته فاعمل الشافعي- رضى الله عنه- القياس الأول في الجناية على النفس دون الأطراف فقال: يجب في إتلافه قيمته بالغة ما بلغت لان زادت على دية الحر، وأعمل القياس الثاني في/ (259/ أ) الجناية على الأطراف دون النفس فقال: جراح العبد في قيمته كجراح الحر في ديته، وإلا كان الواجب في الأطراف على مقتضى القياس الأول أرش ما نقص سواء زاد على دية الحر أو نقص عنها، فاعمل كل واحد

من القياسين في حكم دون الذين يقتضيهما، فهذا ما حضرني من مثال هذا النوع. وثالثها: العامان إذا تعارضا: يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور دون البعض كقوله- عليه السلام-: "ألا أنبئكم بخير الشهداء قيل: نعم يا رسول الله، قال: أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد، وقوله عليه السلام في حديث آخر: [ثم]، يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد

المسألة السابعة إذا تعارض نصان فإما أن يكونا عامين، أو خاصين. أو أحدهما عاما والآخر خاصا

فيعمل بالأول في حقوق الله تعالى، وبالثاني في حقوق العباد. ومثاله من العموم البدلية قوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس} والمراد منه الأخ والأخت من الأم. وقوله تعالى: {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} والمراد الأخ والأخت من الأب والأم. المسألة السابعة إذا تعارض نصان فإما أن يكونا عامين، أو خاصين. أو أحدهما عامًا والآخر خاصًا. أو كل واحد منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر، فهذه أربعة أنواع: النوع الأول وهو أن يكونا عامين. فإما أن يكونا معلومين. أو مظنونين. أو أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا، فهذه أصناف ثلاثة. الأول: أن يكون معلومين: فإما أن يكون التاريخ معلومًا.

أو لا يكون معلومًا. فإن كان الأول، فأما أن يكون أحدهما متقدما والآخر متأخرًا أو كانا متقارنين. فإن كان الأول: فإما أن يكون حكم المتقدم قابلاً للنسخ. أو لم يكن. فإن كان الأول كان المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين، أو خبرين، أو أحدهما آية والآخر خبرًا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس، فأما من لا يجوز ذلك فيمتنع عنده النسخ في هذا القسم الأخير. وإن كان الثاني وهو أن يكون حكم المتقدم غير قابل للنسخ فيتساقطان، ويجب الرجوع إلى غيرهما. وإن كانا متقارنين، وكان الحكم قابلا للنسخ فحكمه التخيير إن أمكن فإنه إذا تعذر الجمع، والترجيح إذ المعلوم لا يقبل الترجيح لا بحسب الإسناد ولا بحسب الحكم نحو أن يكون الحكم حظرًا، أو مثبتًا أو شرعيًا، لأنه يقتضى طرح المعلوم بالكلية تعين القول به هذا كله إذا كان التاريخ معلومًا. فأما إذا لم يكن معلومًا فإن كان الحكم قابلا للنسخ فها هنا يجب الرجوع إلى غيرهما، لأنه يجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر فيكون ناسخًا لحكم الآخر، وأن يكون هو المتقدم فيكون منسوخًا بالآخر فلم يجز تقديم أحدهما على الآخر فيجب الرجوع إلى غيرهما. وإن لم يكن الحكم قابلاً للنسخ كان الحكم فيه كما إذا علم تقدم أحدهما على الآخر وهو الحكم في المتقارنين أن أمكن. الصنف الثاني: وهو أن يكونا مظنونين.

فإن علم تقدم أحدهما على الآخر وكان الحكم قابلاً للنسخ نسخ المتأخر المتقدم. وإن لم لكن الحكم قابلاً للنسخ وجب الرجوع إلى الترجيح. وإن لم يعلم ذلك سواء علمت المقارنة أو لم تعلم المقارنة أيضًا وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل بالأقوى. وإن تساويا كان حكمه ما تقدم في تعادل الأمارتين. هذا كله إذا كان الحكم قابلاً للنسخ، فأما إذا لم يكن قابلاً للنسخ تعين الترجيح بكل حال. الصنف الثالث: أن يكون أحدهما معلوما، والأخر مظنونًا. فإما أن يعلم تقدم أحدهما على الاخر، أو لم يعلم. فإن علم وكان المظنون متقدما كان المعلوم المتأخر ناسخا للمتقدم. وإن كان المعلوم متقدمًا لم ينسخه المظنون المتأخر لاستحالة نبخ المعلوم بالمظنون فيعمل بالمعلوم تقديما للمعلوم على المظنون. وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الأخر وجب العمل بالمعلوم سواء علمت المقارنة أو لم تعلم وسنده ظاهر.

النوع الثاني أن يكونا خاصين: فإما أن يكونا معلومي، أو مظنونين أو أحدهما معلوما والأخر مظنونًا والحكم في هذه الأصناف الثلاثة ما تقدم في الأصناف الثلاثة من/ (260/ أ) النوع الأول. النوع الثالث أن يكون أحدهما عامًا، والآخر خاصًا نحو قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} مع قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} فإما أن يكونا معلومين، أو مظنونين أو أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا فهذه أيضًا أصناف ثلاثة: أحدها: أن يكونا معلومين فأما أن يعلم تقدم أحدهما على الأخر أو لم يعلم فإن كان الأول فإن علم تقدم العام وتأخر الخاص فإن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام كان الخاص المتأخر مخصصًا للعام المتقدم. وإن ورد بعد حضور وقته كان ناسخا لحكم العام في ذلك الفرد الذى تناوله الخاص، إذ لا يجوز تأخير بيان التخصيص [إلى بعد حضور وقت العمل بالعام وفاقا، وأما من لا يجوز تأخير بيان التخصيص]، عن وقت الخطاب

فعنده في الصورتين يكون الخاص ناسخًا لحكم العام في ذلك الفرد، وعلى هذا جرى كلام الإمام في المحصول، لأنه حكم على الإطلاق من غير ما ذكرنا من التفصيل أن الخاص يكون ناسخًا لحكم العام. وإن علم تقدم الخاص وتأخر العام عنه فعندنا يبني العام على الخاص، وعند الحنفية ينسخه. وإن كان. الثاني وأن لا يعلم تقدم أحدهما على الأخر، فإما أن يعلم تقارنهما أو لا يعلم ذلك، فإن كان الأول خص العام بالخاص وفاقًا أما عندنا فظاهر، وأما عندهم فلانتفاء شرط النسخ وهو التأخر. وإن كان الثاني فعندنا يبنى العام على الخاص وعندهم يتوقف فيه ولا يخفى تعليله وقد سبق ذكره أيضًا. وثانيها: أن يكونا مظنونين فالحكم فيه كما إذا كانا معلومين من غير تفاوت البتة. وثالثها: أن يكون أحدهما معلومًا، والأخر مظنونًا. قال الإمام: فهاهنا قد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون، إلا إذا كان المعلوم عامًا، والمظنون خاصًا ووردا معًا، وذلك مثل تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد والقياس، وقد ذكرنا أقوال الناس فيها في باب العموم. وهو غير مرضى من حيث إنه أشعر كلامه أن ما ذكره من الحكم

مختص بما إذا كان ورودهما معا لكنه ليس كذلك وبيانه من وجهن: أحدهما: لو تأخر الخاص المظنون عن العام المعلوم وكان قيل حضور وقت العمل بالعام المعلوم كان أيضًا مخصصًا وكان اختلاف الناس فيه كما في المتقارنين، نعم يستقيم ذلك على مذهب المعتزلة على ما تقدم ذكره. وثانيهما: لو تقدم الخاص المظنون على العام المعلوم فإنه يبنى العام عليه عندنا، وهو تقديم الخاص المظنون على العام المعلوم مع إنهما لم يردا معًا وعند هذا عرفت أن الحكم في هذا الصنف تقديم المعلوم على المظنون إلا في هذه الصور الثلاثة: الصورة التي ذكرها الإمام رحمه الله تعالى والصورتين اللتين ذكرناهما. وعند الحنفية تستثنى الصورتان الصورة التي ذكرها الإمام والتي ذكرناها أولاً دون الثالثة، لأن العام المتأخر عنده ينسخ الخاص المتقدم فهو تقديم للعام. النوع الرابع أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه كقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} مع قوله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} فإن الآية الأولى خاصة في الأختين عامة في الجمع في ملك النكاح وفى ملك اليمن، والثانية عامة في الأختين وغيرهما خاصة في ملك اليمن. وكقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".

نهيه عليه السلام عن الصلاة في الأوقات المكروهة، فإن الحديث خاص في صلاة القضاء، عام في الأوقات، والثاني عام في الصلاة، خاص في الأوقات. فأما أن يكونا معلومين أو مظنونين، أو يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونًا، فهذه أصناف ثلاثة: أحدها: أن يكونا معلومين فإن علم تقدم أحدهما على الآخر كان المتأخر ناسخًا للمتقدم عند من يقول: إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم بل

ها هنا أولى، لأنه لم يتلخص خصوص الأول. وأما عند من لا يقول به فاللائق بمذهبه أن لا يقول بالنسخ في هذا الصنف كما في الأول من جهة الخصوص وفى الثاني من جهة العموم، ولا بالتخصيص، لأنه/ (261/ أ) لم يتمحض خصوص المتأخر حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر، بل اللائق بمذهبه أن يذهب إلى الترجيح وإن لم يعلم ذلك سواء علم التفاوت أو لم يعلم ذلك أيضًا فاللائق بالمذهبين أن يصار إلى الترجيح لكن لا بقوة الإسناد لأنهما معلومان بل يكون أحدهما حظرًا والأخر إباحة، أو يكون أحدهما مثبتًا والأخر منفيًا، أو شرعيًا والآخر عقليًا، لأن الحكم بذلك طريقة الاجتهاد وليس في ترجيح أحدهما على الأخر إطراح الآخر بخلاف ما إذا كانا معلومين وكانا عامين أو خاصين فإنه لا يجوز الترجيح بذلك على ما تقدم ذكره لأن فيه اطراح الأخر بالكلية وحيث لا يوجد المرجح فالحكم ما سبق في التعادل. وثانيها: أن يكونا مظنونين فإما أن يعلم تقدم أحدهما على الأخر أو لم يعلم سواء، علم التفاوت أو جهل ذلك أيضًا، والحكم في كل هذه الأقسام مثل ما تقدم إلا في الترجيح بقوة الإسناد فإنه جار ها هنا لكونهما مظنونين فإن لم يحصل الترجيح فالحكم ما سبق. وثالثها: أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونًا فإن علم تقدم المعلوم على المظنون عمل بالمعلوم لكونه معلومًا، وإن علم تأخره عنه عمل به أيضًا لكن لكونه ناسخًا وهذا على رأى من رأى نسخ الخاص بالعام، وأما على رأينا فالعمل بالمعلوم لكونه معلوما فإن النسخ متعذر على رأينا كما في الأول من جهة الخصوص وفى الثاني من جهة العموم، وإن لم يعلم ذلك سواء علم التفاوت أو جهل ذلك أيضًا فالحكم بالمعلوم لكونه معلومًا، وحيث قدم المعلوم على المظنون لكونه معلومًا لا لكونه ناسخًا فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمنه الحكم من إثبات حكم شرعي أو غير فقد يحصل التعارض وحيث حصل

التعارض فالحكم ما قدمنا. وفى هذا نظر من حيث إن الترجيح بكون الحكم حظرًا، أو نفيًا، أو شرعيًا من باب ترجيح المظنون وترجيح المعلوم على المظنون من باب ترجيح المقطوع كما في ترتيب الأدلة فكيف يعارضه؟

الفصل الثاني في تراجيح الأخبار

الفصل الثاني في تراجيح الأخبار

الفصل الثاني في تراجيح الأخبار وفيه مسائل: المسألة الأولى في ترجيح الخبر بكيفية السند وهو بأنواع: النوع الأول الترجيح بكثرة الرواة، وعلو الإسناد، وورع الراوي وهو من وجوه: أولهما: الترجيح بكثرة الرواة، وقد تقدم بيانه. وثانيها: بعلو الإسناد، فإنه متى قلت الوسائط كان احتمال الكذب والخطأ والغلط والسهو والنسيان أقل، فيكون ظن صدقه أكثر فيكون أرجح، لأنه لا نعنى بكون الدليل أرجح إلا أن إفادته للظن أكثر فهو من هذا الوجه وإن كان أرجح، لكنه مرجوح من وجه آخر وهو عزة وجوده، فإن كان بحيث لا يعز وجود مثله فيكون راجحًا من غير معارضة عزة الوجود. وثالثها: بكون راوي أحد الخبرين عدلاً، والآخر مستورًا، وهذا على رأي من يقبل رواية المستور دون من لا يقبلها.

ورابعاً: بكون راوي أحد الخبرين ظهرت عدالته بالاختبار، والأخر بالتزكية فإنه ليس الخبر كالعيان. وخامسها: بكون عدالة راوي أحد الخبرين عرفت باختبار الصحبة الطويلة، والآخر بالصحبة القصيرة. وسادسها: بكون عدالته ظهرت بتزكية جمع عظيم، والآخر بجمع قليل. وسابعها: بكونه مشهورًا بالعدالة والثقة دون الأخر. فإن عرفت عدالة راوي أحد الخبرين بالشهرة، والأخر بالاختبار فهو في محل النظر من حيث إن الظن الحاصل من الاختبار قد يكون أقوى من الاشتهار. وثامنها: بكون عدالة راوي أحد الخبرين ظهرت بتزكية من كان أكثر بحثًا عن أحوال الناس، أو بتزكية الرجل الأعلم الأورع، وعدالة راوي الخبر الأخر ظهرت بتزكية من ليس كذلك. وتاسعها: بكون عدالته عرفت بالتزكية مع ذكر أسباب العدالة دون الأخر. وعاشرها: بكون راوية غير مبتدع، وهذا فيه نظر، لأن بدعته إذا كان بذهابه إلى أن الكذب كفر أو كبيرة كان ظن صدقه أكثر. وحادي عشرها: تزكية الراوي بالعمل بما رواه راجحه على تزكيته بالرواية عنه أن جعلت الرواية عنه تزكية له، ومن هذا يعرف أنه إذا عمل أحد الروايين بما روى والأخر خالف ما روى كان ما روى الأول راجحًا (262/ أ)

على ما روى الثاني. وثاني عشرها: تزكية العدل ذي المنصب العلى راجحه على تزكية من ليس كذلك لأن منصبه يمنعه من الكذب كما يمنعه دينه. تنبيهان أحدهما: أعلم أن واحدًا مما ذكرناه من التراجيح لو حصل في مرتبة من مراتب الرواية أعنى الابتداء والواسطة والدوام كان ذلك الخبر راجحًا على ما لم يحصل فيه ذلك المرجح". وثانيهما: أنه قد يقع التعارض بين هذه المرجحات كما بين كثرة الرواة مثلاً وبين قوة عدالة الراوي وشهوتها، فرب عدل أقوى في النفس من عدلين فينبغي أن يعتمد المجتهد في ذلك على ما يغلب على ظنه، وكذلك إذا ظهرت عدالة راوي بتزكية جمع قليل لكن بخبرة باطنه، وعدالة الأخر بتزكية جمع كثير لكن لا في مثل تلك الخبرة الباطنة، فإن الأول ربما يغلب على ظن صدقه فليحكم المجتهد فيه وأمثاله ظنه. النوع الثاني الترجيح الحاصل بعلم الراوي وهو من وجوه: أحدها: أن يكون أحد الراوين عالماً، سواء كان عالما بالفقه أو بالأصول، والآخر ليس بعالم، فرواية العالم راجحة سواء كانت الرواية باللفظ

أو بالمعنى خلافاً لقوم في الأول. لنا: أن العالم يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز، فإذا سمع كلامًا لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته، وسبب نزوله، فحينئذ يطلع على الأمر الذى يزول به الإشكال، بخلاف من هو جاهل فإنه لا ينتبه لمحل الإشكال، ولا يبحث عنه، ولا يسأل عن مقدمته ولا عن سبب نزوله فينقل القدر الذى سمعه فربما كان ذلك القدر وحده سبب للضلال. وثانيها: الأعلم إذا روى كانت روايته راجحة على رواية العالم، كما في الأورع بالنسبة إلى الورع. وسببه: زيادة الثقة بخبوه وغلبة الظن بنفي خطئه وغلطه. وثالثها: رواية العالم بالعربية أولى من رواية من هو جاهل بها، لافي العالم بها [يتمكن من التحفظ]، عن مواقع الزلل والخطأ، دون غير العالم بها فكان الوثوق بروايته أكثر. ويحتمل أن يقال: هي مرجوحة، لأن الواقف على اللسان يعتمد على معرفته، ولا يبالغ في الحفظ اعتمادًا على خاطره، بخلاف الجاهل باللسان فإنه يكون خائفا من الذهول عنه والخطأ فيه فيبالغ في الحفظ. فعلى الأول رواية الأعلم بها راجحة على رواية العالم بها كما مضى في الفقه. وعلى الثاني روايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية العالم بها على قياس رواية الجاهل بها.

ورابعها: أن يكون أحد الراويين صاحب الواقعة فيما يرويه، فيكون خبره راجحًا على خبره من ليس كذلك. وبهذا رجحت الصحابة- رضى الله عنهم- خبر عائشة- رضى الله عنها- في التقاء الختانين على خبر أبى هريرة: (الماء من الماء). ورجح الشافعي- رضى الله عنه- خبر أبى رافع، على خبر

ابن عباس في تزويج ميمونة أنه عليه السلام نكحها وهو محرم، لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة. وخامسها: أن يكون أحد الراويين أقرب إلى النبي- عليه السلام- حالة سماعه الخبر الذى يرويه من الآخر فروايته راجحة على رواية الأخر مطلقًا، وهو كرواية ابن عمر إفراد النبي- عليه السلام- بالحج، وكرواية الآخر القران، إذ روى أنه، رضى الله عنه- كان تحت ناقته- عليه السلام- وأنه سمع احرامه بالإفراد. وسادسها: أحد الراويين مخالطته للمحدثين أكثر، فروايته راجحة على

رواية من ليس كذلك وكميته ظاهرة. وسابعها: أن يكون أحد الراوين حالة روايته عالما بروايته عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه، والآخر معتمد على نسخة سماعه فرواية الأول أولى. وثامنها: أن يكون طويق أحد الراويين أقوى، وذلك بأن يروى ما يقل فيه اللبس كما إذا روى أنه شاهد زيدًا ببغداد وقت الظهر، والآخر روى أنه شاهده وقت السحو بالبصرة، فرواية الأول أولى لقلة الاشتباه واللبس فيه بخلاف رواية الثاني. تنبيه اعلم أنه قد يقع التعارض بين التراجيح الحاصلة من هذا النوع، وبين التراجيح الحاصلة من النوع الأول/ (263/ أ) فلا يجب القطع برجحان النوع الأول على الثاني بناء على أن الورع في هذا الباب أكثر اعتبارًا من العلم، بدليل أن فاقده لا تقبل روايته، وفاقد العلم إذا كان ورعا تقبل روايته، لأن الظنون قد تختلف إذ ذاك فينبغي أن يعتمد المجتهد في ذلك غلبة ظنه لا غير. النوع الثالث الترجيح الحاصل بسبب الحفظ والذكاء والضبط، والمعنى منه شدة تحفظه لما حفظ وهو من وجوه:- أحدهما: رواية الحافظ [راجحة على رواية من ليس بحافظ.

وثانيها: رواية] الأحفظ راجحة على رواية من ليس كذلك [وسببها ظاهر]. وثالثها: [رواية الذكي راجحة على رواية من ليس كذلك]. ورابعها: رواية الأذكى راجحة على رواية الذكي لما تقدم. وخامسها: رواية الضابط راجحة على رواية من ليس كذلك. وسادسها: رواية الأضبط راجحة على رواية الضابط. وسابعها: إذا كان أحدهما أسرع حفظًا، وأسرع نسيانًا، والأخر أبطأ حفظًا، وأبطأ نسيانًا، فهما متعارضان، ويحتمل أن يقال: الثاني أولى، لأن نسيانه بعد التحفظ بطيء، وهو إنما يروى بعد الحفظ فبقاؤه بعد الحفظ أغلب على الظن، ولأن الاستقراء يحققه فإن انتفاع صاحب هذا الطبع بما حفظ من العلوم أكثر من الانتفاع صاحب الطبع الأول لما حفظه منها، ولا يخفى أنه إذا كان أحدهما أسرع حفظًا وأشد ضبطًا، والأخر ليس كذلك بان يكون أبطأ حفظًا [وأقل ضبطًا، ومعناه أسرع نسيانًا، أو يكون أسرع حفظًا وأسرع نسيانًا، فإن رواية الأول راجحة على الكل، وأن رواية القسمين الأخيرين راجحة على رواية القسم الثالث، والكلام في القسمين الباقين ما تقدم. والمراد من قلة الضبط وكثرة النسيان في هذه الأقسام: هو الذى لا يمنع من قبول الرواية على ما تقدم بيانه في كتاب الإخبار. وثامنها: أن يكون أحدهما كثر حفظا لألفاظ الرسول، فإن روايته راجحة

على رواية من ليس كذلك، إذ الغالب فيما يرويه أن يكون لفظ الرسول والحجة في الحقيقة ليست إلا في لفظه- عليه السلام-. وتاسعها: أن يكون أحدهما أقوى حفظا لكلامه- عليه السلام- فإن روايته راجحة على رواية من ليس كذلك. وعاشرها. أن يكون أحد الراوين جازما فيما يرويه، والآخر ظانًا فيه فرواية الجا زم. أولى. وحادي عشرها: أن يكون أحد الراوين قد اختلط عقله في بعض الأوقات أو جن ثم لا يدرى أنه روي هذا الخبر حال سلامة العقل، أو حال اختلاله، والآخر ليس كذلك بل لم يزل سليم العقل فرواية الثاني أولى. وثاني عشرها: أن يكون أحد الراوين يعول على حفظه فيما يرويه، والآخر يعول على المكتوب، فرواية الأول أولى، وفيه احتمال من حيث إن النسيان والغلط يتطرق إلى المحفوظ كثيرًا بخلاف المكتوب، فإنه لا يخاف عليه إلا من جهة الالتباس بخط آخر فإن الخط يشبه الخط لكنه نادر فيكون ظن عدم التغيير أكثر لاسيما فيما لا غرض فيه. النوع الرابع الترجيح الحاصل من الاشتهار وهو من وجوه: أحدها: أن يكون الراوي من كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة، لأن دينه كما يمنعه من الكذب، فكذا منصبه العالي يمنعه عنه ولذلك كان على- رضى الله عنه- يحلف الرواة، وكان يقبل رواية الصديق من غير تحليف.

وثانيها: رواية غير المدلس راجحة على رواية المدلس إن كان بحيث تقبل روايته، صالا فليس هو من باب الترجيح. وثالثها: رواية من اشتهر باسم واحد راجحة على رواية ذي الاسمين، لاحتمال أنه مجروح بأحدهما. ورابعها: معروف النسب روايته راجحة على رواية مجهول النسب. وخامسها: أن يكون في رواية أحد الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم ضعفاء، ويصعب التمييز فيترجح على رواية الخبر الذى ليس كذلك. النوع الخامس الترجيح الراجع إلى زمان الرواية وتحمله الاسلام وهو من وجوه: أحدها: إذا كان أحد الراوين مقدم الإسلام، فروايته راجحة على متأخر الإسلام، إذ صدقه أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام.

وثانيها: إذا كان أحد الراويين يحتمل أن يكون إسلامه متقدمًا (264/ أ) على راوي الخبر الأخر، ويحتمل أن يكون معه ولا يحتمل تأخر إسلامه عن إسلامه فرواية محتمل التقدم راجحة على رواية الآخر وكميته ظاهرة من نظائره. وثالثها: إذا كان أحد الراويين روي في زمان الصبا، وغير زمان الصبا والآخر لم يرو إلا في زمان البلوغ، فرواية الثاني راجحة على رواية الأول. ورابعها: إذا كان أحد الراوين قد تحمل الحديث في زمان الصبا وزمان البلوغ لكن لم يرو إلا في زمان البلوغ، والآخر لم يتحمل ولم يرو إلا في زمان البلوغ فرواية الثاني راجحة على رواية الأول. وخامسها: من احتمل فيه هذان الوجهان كانت روايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يحملها. وسادسها: من روى في حالة الكفر والإسلام فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو إلا في حالة الإسلام. وسابعها: من تحمل في حال الكفر والإسلام لكن لم يرو إلا في حالة الإسلام فروايته مرجوحة بالنسبة إلى من لم يحتمل إلا في حالة الإسلام. وثامنها: من احتمل فيه هذان الوجهان كانت روايته مرجوحة بالنسبة إلى من لم يحتملها، وعنده التعارض بين التراجيح الحاصلة في هذه الأنواع أو من الأنواع التي يأتي ذكرها ينبغي أن يحكم المجتهد ظنه، إذ التنصيص على جميعها مما يمتنع للتطويل البالغ إلى الغاية.

المسألة الثانية في ترجيح الخبر بكيفية الرواية

المسألة الثانية في ترجيح الخبر بكيفية الرواية، وهو من وجوه: أحدها: إذا كان أحد الخبرين متواترًا، والآخر أحادًا فالمتواتر أولى لإفادته اليقن، ولو سلم أنه لا يفيده فهو أيضا أولى، لأن الظن فيه أغلب فعلى الأول يكون الترجيح من باب المقطوع، وعلى الثاني من باب المظنون. وثانيها: أن يقع الخلاف في أحدهما أنه موقوف على الراوي، أو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأخر لم يقع فيه هذا الخلاف، بل اتفقوا كلى أنه رفوع إليه عليه السلام فالثاني أولى. وثالثها: أن يكون أحد الخبرين منسوبًا إلى النبي- عليه السلام- قولاً، والأخر اجتهادًا بأن يروى: أنه وقع ذلك في مجلسه- عليه السلام- فلم

ينكر عليه فالأول أولى، لأنه أقل احتمالاً لما ينافى الحجية. ورابعها: أن يذكر أحد الراوين سبب نزول ذلك الحكم الذى تضمنه الخبر، ولم يذكره الآخر فرواية الأول راجحة على رواية الثاني لأنه يدل على شدة اهتمامه بمعرفة ذلك الحكم. وخامسها: أن يروى أحد الراويين الخبر بلفظه، والآخر بمعناه، أو يحتمل أن يكون تد. رواه بمعناه فراوية الأول أولى. وسادسها: أن يروى أحد الراوين حديثا يعاضده سياقه، أو حديث آخر، والآخر يروى ما ليسن كذلك فرواية الأول أولى. وسابعها: الحديث الذى لم ينكره راوي الأصل راجح على الذى ينكره راوي الأصل إذا كان ذلك الإنكار لا يوجب الرد، فأما إذا أوجب ذلك فليس هو حينئذ من هذا الباب، وتد عرفت في باب الإخبار الانكار الذى يوجب الرد والذى لا يوجبه. وثامنها: أن يكون أحد الحديثين مرويا بطريق العنعنة، والأخر مروى بطريق الشهرة، أو بالإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين، فالأول أولى، لأنه أغلب على الظن صدقه بالنسبة إلى الثاني، ولا يخفى تعليله، وإذا وقع التعارض بين ما طريقه الشهرة، وبين ما طريقه الإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين: فإن لم يكن ذلك الكتاب من الكتب المشهورة لهم فالثاني أولى، لأن احتمال تطرق الكذب إليه أبعد ولهذا فإن كثيرًا من المشاهير كذلك ومردود عندهم. وتاسعها: إذا كان أحدهما مسندًا إلى كتاب مشهور والأخر ليس كذلك

فالأول أولى، وإذا كان كلاهما مسندين إلى كتابين مشهورين لكن أحدهما محكوم عليه بالصحة كالصحيحين، والأخر ليس كذلك كسنن أبى داود فالأول أولى. وعاشرها: ما طريق روايته قراءة الشيخ عليه راجح على ما طريقه ليس كذلك، وما طريق روايته قراءته على الشيخ راجح على ما طريق روايته [المناولة، أو الإجازة، أو الكتابة، وما طريق روايته المناولة راجح على ما طريق روايته]، الإجارة، أو الكتابة، لأن المناولة إجازة وزيادة، فإنه يقول فيها: خذ هذا الكتاب وحدث به عنى، فقد سمعته من فلان وهذا إجازة/ (265/ أ) وزيادة، وما طريق روايته الإجارة راجح على ما طريق روايته الكتابة، وهو أن ترى على الكتاب خط الشيخ بالسماع والإذن له بالحديث عنه، لأن الخط يشبه الخط، ولا يؤمن فيه من التزوير بخلاف ما إذا سمع ذلك من الشيخ. وحادي عشرها: ما طريق روايته السماع من غير حجاب راجح على ما طريق روايته السماع بحجاب، وذلك كرواية القاسم بن محمد عن عائشة - رضى الله عنهم- من غير حجاب، لأنها عمة له: أن بريرة أعتقت وكان

زوجها عبداً راجحة على رواية من روى عنها أن زوجها حر، لأنه سمعها منها من وراء حجاب وكيته ظاهرة. وثاني عشرها: إذا كانت احدى الروايتين قد اختلف فيها، والأخرى لم يختلف فيها فالثانية أولى للاتفاق.

وثالث عشرها: المسند راجح على المرسل أن قبل المرسل، وقال قوم نحو عيسى بن أبان: المرسل أولى. وقال قوم منه القاضي عبد الجبار: أنهما يستويان. لنا: أن عدالة المروى عنه في صورة الإرسال معلومة لرجل واحد، وهو الذى روى عنه، وفى صورة الإسناد عدالته معلومة لكل أحد لكونه متمكنا من البحث عن أسباب جرحه وعدالته، ولا يخفى أن من لم تظهر عدالته إلا لرجل واحد مرجوح بالنسبة إلى من تظهر عدالته لكل أحد لاحتمال أن يكون قد يخفى حال الرجل على إنسان واحد، ويبعد ذلك على الكل فثبت أن المسند أولى.

واحتج من قال بترجيح المرسل على المسند بوجهين: أحدهما: أن الراوي العدل إذا أسند الخبر وذكر المروى عنه فإنه لم يحكم بصحة الخبر، ولم يزد على حكاية أن فلانا زعم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك الخبر فليس فيه قطع ولا غلبة ظن، بصحته بخلاف ما إذا أرسل الثقة فإنه حكم على ذلك الخبر بالصحة، وحكم على الرسول بانه قال، فيكون حاكمًا عليه: عليه السلام- بالتحليل، أو التحريم، وذلك لا يكون إلا عن قطع، أو قريب من القطع، فكان الظن بصدق الخبر في صورة الإرسال أكثر. وجوابه: أن قوله: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يمكن إيراده علا ظاهره، لأنه يقتضى الجزم بصحة خبر الواحد، وهو جهل غير جائز على العدل العالم، فوجب حمله على أن المراد منه. إني أظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك الخبر، وإذا كان كذلك كان الإسناد أولى منه، لأن في صورة الإسناد يحصل ظن العدالة للكل، وفى كحورة الإرسال لا يحصل ذلك الظن إلا للواحد، ومعلوم أن ما تشهد له الظنون الكثيرة أولى مما يشهد له الظن الواحد. وثانيهما: روى عن الحسن- رحمه الله تعالى- أنه قال: (حدثني أربعة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث، تركتهم وقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ووجه الاستدلال به ظاهر فإنه أخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط غلبة الظن. وجوابه: ما سبق. ويخصه أن هذا يقتضى أن تكون مراسيل الحسن مقبولة وراجحة لا كل المراسيل، ونحق ربما نقول به أنه إذا علم من حال الراوي أنه لا يروي إلا عن عدل، ولا يوسل إلا إذا كان ظنه أغلب من صور الإسناد أن مرسله راجح على المسند. واحتج القاضي على صحة ما ذهب إليه: أن في صورة الإسناد حصل نوع من القوة وهو أن عدالة المروى عنه معلومة للسامع لتمكنه من البحث عنها، وفى صورة الإرسال حصل نوع آخر من القوة وهو أنه حصل للراوي غلبة الظن بعدالة المروى عنه وإلا لما أرسل فيستويان ويتعارضان. وجوابه: منع التساوي، وهذا فإن الظن بعدالة المروى عنه في صورة الإسناد أكثر، لكون السامع بحث عنها واختبرها لإرسال الراوي عنه كالتزكية له، وقد بينا أن العدالة المظنونة بالبحث والاختبار راجحة على المظنونة بالتزكية. فروع ثلاثة أحدها: لو صح رجحان المرسل على المسند فإنما يصح حيث يقول الراوي: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأما إذا لم يقل ذلك بل قال ما يحتمله كقوله: عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فالأظهر أنه لا يترجح عليه، لأنه في معنى المسند، ولهذا قبله من لم يقبل المرسل.

وأما ما قيل: إنه في معنى قوله [روى] عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذلك يوجب المرجوحية أو الرد، لأنه ظاهر/ (266/ أ) أنه بلغه من سماع ولم يذكر عمن بلغه، ولم يصدر منه ما ينبى عن حصول غلبة الظن له فلم تقبل روايته. وثانيها: مراسيل الصحابة إن جعلت من صورة الخلاف فهو أولى من مراسيل التابعين وغيره، لأن الظاهر روايته من بعضهم، ومراسيل التابعين أولى من غيرهم، لأن الظاهر روايته عن الصحابي، والصحابة كلهم عدول على ما تقدم تقريره، وكل ما علم من مراسيل أن الوسائط فيه أقل فهو راجح على ما لم يعلم ذلك فيه، فعلى هذا مراسيل كل عصر أولى من مراسيل عصر بعده. وثالثها: إذا علم من حال الشخص العدل أنه لا يرسل إلا إذا كان المروى عنه عد، كمراسيل سعيد بن المسيب فهو والمسند سواء، وأما إذا علم من حاله أنه لا يرسل إلا إذا حصلت له غلبة الظن بصدق الخبر فمرسله راجح على مسنده.

خاتمة رجح قوم الخبر بالحرية والذكورة قياسًا على الشهادة وفيه احتمال ظاهر

المسألة الثالثة في الترجيح بحال وروده

المسألة الثالثة في الترجيح بحال وروده، وهو من وجوه: أحدها: الخبر المدني راجح على المكي اعتبارًا بالغالب، فإن الغالب على المكيات التقدم والمتأخر منها عن المدنيات فقليل جدًا، والفرد المتردد بين الغالب والنادر يلحق بالغالب أبدًا. وثانيها. ما يحتمل أن يكون مدنيًا راجح على ما لا يحتمل ذلك بل هو مكى قطعًا. وثالثها: الخبر الذى يظهر وروده بعد قوة الرسول وعلو شانه راجح على الذى لا يكون كذلك، لأن ذلك يدل على تأخره، فإن قوة الرسول وعلو شانه كان في آخر أمره- عليه السلام. قال الإمام: ما ليس كذلك ينقسم إلى قسمين: أحدهما: ما يعلم من حاله أنه ورد في حال الضعف. وثانيهما: ما لا يعلم ذلك من حاله أيضا، فتقديم ما علم أنه ورد في حال القوة على الأول مسلم، وعلى الثاني ممنوع. وهو مندفع، لأن ما يحتمل الراجح راجح على ما لا يحتمله، وما يقطع برجحانه راجح على ما يحتمله. ومن هذا يعرف أن الثاني من القسمين

راجح على الأول منهما، ولأنه حكم في أمثاله بالتقديم. ورابعها: أن يكون راوي أحد الخبرين متأخّر الإسلام، ويعلم أن سماعه كان بعد إسلامه، وراوي الخبر الأخر متقدم الإسلام، فيقدم الأول، لأنه أظهر تأخرًا. والأولى أن يفصل فيقال: المتقدم اذا كان موجودًا مع المتأخر لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر. فأما إذا علمنا أنه مات المتقدم قبل إسلام المتأخر، "أو علمنا أن أكثر روايات المتقدم متقدمة على روايات المتأخر منها هنا نحكم برجحان روايات المتأخر على روايات المتقدم،" لأن النادر يلحق بالغالب، وحيث لا تقدم روايات المتأخر على المتقدم فروايات المتقدم أولى لسبق الإسلام كما تقدم ذلك في الترجيح بأحوال الراوي. وخامسها: أن يحصل إسلام الراوين معًا كإسلام خالد وعمرو بن العاص، لكن يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه، ولا يعلم ذلك في سماع الآخر، فيقدم الأول، لأنه أظهر تأخرًا. وهذا يستقيم لو كان ذلك الخبر الذى وقع التعارض فيه على ما ذكر من الوصف، أو كان يعلم أن كثر روايات أحدهما كان سماعه بعد إسلامه، فإما إذا لم يكن على هذين الوجهين فلا يستقيم ذلك

وسادسها: أن يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ مضيق "والآخر خاليا عن التاريخ بل ورد مطلقا فالأول أولى، لأن المؤرخ بتاريخ مضيق "أظهر تأخرًا عن المطلق. مثاله: (ما روى أنه عليه السلام صلى بالناس في مرضه الذى توفى فيه قاعدًا والناس قيامًا فهذا يقتضى جواز اقتداء القائم بالقاعد. ما روى عنه- عليه السلام- أنه قال: إذا صلى الإمام قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين فيقتضى عدم جواز ذلك فرجحنا الأول، لأنه كان

في آخر أحوال الرسول عليه السلام، وأما الآخر فيحتمل أنه كان قبل المرض. وسابعها: إذا كان أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ متقدم، والآخر خاليا عنه فالخالي عنه أولى، لأنه أشبه بالمتأخر. وثامنها: أن يكون أحد الخبرين واردأ في حادثة كان الرسول- عليه السلام- يغلظ فيها زجرًا لهم عن العادات القديمة، ثم خفف فيها نوع تخفيف فيرجح التخفيف على التغليظ، لأنه أظهر تأخرًا. وأعترض عليه: بأنه- عليه السلام- ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه وهو في آخر الأمر، وأما التخفيف فكان أول أمره- عليه السلام- فسيجب أن يرجح التغليظ. وجوابه: منع المقدمتين فإن كثيرًا من التغليظات، شرع أول الأمر، وكثيراً

المسألة الرابعة في ترجيح الخبر باعتبار اللفظ

من التخفيفات شرع آخر الأمر بل الأكثر منها كان في آخر الأمر بالاستقراء. وتاسعها: إذا كان أحد الخبرين عاما غير وارد على سبب بل ورد ابتداء والآخر وارد على سبب، فالوارد على السبب أولى، لأنه إن قيل: الوارد على السبب مختص به فظاهر، لأنه حينئذ يكون خاصا والخاص مقدم على العام، وإن لم يقل به فكذلك، لأن دلالته على السبب الذى ورد عليه أقوى، ولهذا لا يجوز تخصيصه بالنسبة إليه والأقوى راجح، ومن الظاهر أن هذا الترجيح إنما يتأتى بالنسبة إلى ذلك السبب، " وأما بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرجة تحت العامين فلا. والمراد من قولهم: العام الوارد على السبب راجح أي بالنسبة إلى السبب" لا بالنسبة إلى سائر الأفراد وإن كان كلامهم مطلقا غير مقيد بصورة دون صورة. لكن الدلالة تفيد. واعلم أن بعض هذه الوجوه قد تفيد ظنًا قويًا، وبعضها ظنا ضعيفًا جداً، وعند تعارض بعضها للبعض ينبغي أن يعتمد المجتهد على ما يفيده ظنا غالبًا. المسألة الرابعة في ترجيح الخبر باعتبار اللفظ، وهو من وجوه: أحدها: أن يكون أحد الخبرين عن لفظ النبي- عليه السلام- وصيغته، والآخر عن فعله، فخبر اللفظ أولى، لأن دلالة اللفظ غير مختلف فيها،

ودلالة الفعل مختلف فيها فكان الأول أولى، ولأن ما يفعله الرسول- عليه السلام- يحتمل أن يكون مختصًا به، ويحتمل أن لا يختص به ولا يتميز أحدها عن الآخر إلا بمنفصل، بخلاف اللفظ فإنه متميز في نفسه، فإن منه ما لا يحتمل أن يكون مختصا به، وهو كما ورد بخطاب المشافهة، أو بصيغة العموم، أو غيرهما، ومنه ما لا يحتمل إلا التخصيص به، ومنه ما يحتملها وهو قليل جدًا بخلاف الفعل فإن جميع أنواعه محتمل لذلك، فكان الإبهام فيه أكثر فيه أكثر فكان الأول أولى، ولأن المختص به من أفعاله كثر من أقواله، ولأن تطرق الغفلة إلى الإنسان في فعله أكثر منها في كلامه ولهذا قل ما يتكلم به الإنسان غافلاً بخلاف الفعل. وثانيها: أن يكون اللفظ في أحد الخبرين بعيدًا عن الاستعمال، وفيه ركاكة، وفى الخبر الآخر اللفظ المستعمل الفصيح،- فالخبر المشتمل على الألفاظ المستعملة الفصيحة الأولى إن قبل غير المستعمل الركيك وإلا فليس هو مما نحن فيه. وثالثها: قيل الأفصح مقدم على الفضيح على قياس ما تقدم. وقيل: لا، لأن الفصيح لا يجب أن يكون كل كلامه أفصح، ولهذا نرى تفاوتا في فصاحة آيات القرآن. ورابعها: أن يكون أحدهما عاما والآخر خاصًا، فالخاص مقدم على العام وقد سبق تقريره.

وخامسها: قيل: يقدم يكون بلفظ الخبر حقيقة، لأنه يكون أظهر دلالة من المجاز. وهذا ليس على إطلاقه، فإن المجاز إذا كان غالبا كان أظهر دلالة منها فلا تقدم الحقيقة عليه. وأما ما قيل: بان المجاز المستعار أظهر دلالة من الحقيقة أيضا فإن قولنا: فلان بحر أقوى من دلالة قولنا: سخى فليس بجيد، لأنه ليس المعنى من قولنا: أظهر دلالة أقوى دلالة، أو أبلغ دلالة، بل المراد منه: أن تبادر الحقيقة إلى الفهم أكثر، ولا نسلم أن الاستعارة كذلك فضلاً عن أن يكون أظهر منها. وسادسها: أن يكون أحد الخبرين مشتملاً على الحقيقة الظاهرة المعروفة بمعناها لكثرة ناقليها، "أو لكون ناقليها"، أقوى وأتقى من ناقلي الخبر الآخر فالأول أولى. وسابعها: أن يكون أحد الخبرين مشتملاً على حقيقة حصل الاتفاق على كونها موضوعة لمسماها، دون الخبر الآخر فالأول راجح. [وثامنها: الخبر الذي لا يشتمل على اللفظ المشترك، أو الإضمار، أو النقل راجح] على الذي يشتمل على أحدها، وأي واحد منها خير من الباقي فذلك قد عرفته في اللغات.

وتاسعها: الخبر المشتمل على الحقيقة الشرعية، أو العرفية أولى من المشتمل على الحقيقة اللغوية، وهذا يستقيم إذا كان اللفظ واحدًا لكن في أحد الخبرين يدل على المعنى الشرعي وفي الخر على المعنى اللغوي، أما إذا كان لفظان أحدهما حقيقة شرعية في خبر، والآخر حقيقة لغوية في خبر آخر ولم ينقله الشرع عن عرف اللغة إلى عرفه فلا نسلم ترجح الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية، بل الحقيقة اللغوية أولى، وهذا لان الحقيقة اللغوية إذا لم ينقلها الشرع فهي لغوية لا شرعية عرفية معا لتقرير الشرع والعرف على المعنى اللغوي بخلاف الحقيقة الشرعية فإنها شرعية فقط وليس لغوى ولا عرفي، والنقل خلاف الأصل فكان اللفظ اللغوي أولى. وعاشرها: إذا تعارض مجازان أو كثر فقد عرفت أنهما أولى في باب اللغات فلا حاجة إلى الإعادة. وحادي محشرها: إذا تعارض خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين والأخر يمكن العمل به بمجاز واحد فالثاني أولى سبق غير مرة. وثاني عشرها: العام الذى لم يدخله التخصيص أولى من الذى دخله التخصيص، لأنه مجاز، ولأنه اختلف في حجته بخلاف الأول فإنه حقيقة ولم يختلف في حجيته. ويمكن أن يقال: أنه لان كان مرجوحا من هذا الوجه لكنه راجح من وجه آخر وهو أنه خاص بالنسبة إلى ذلك العام الذى لم يدخله التخصيص والخاص أولى من العام فكان ما دخله التخصيص أولى.

وثالث عشرها: أن يكون أحد اللفظين يدل على المراد من وجهي، والآخر من وجه واحد فيقدم الخبر الذى يشتمل على اللفظ الأول على الخبر الذى يشتمل على اللفظ الثاني، لأن الظن الحاصل منه أقوى لتعدد جهة الدلالة. ورابع عشرها: أن يكون أحد الحكمين مذكورًا مع علته، والأخر ليس كذلك فالأول أولى. ومن هذا القبيل أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب، والآخر ليس كذلك سواء كان معلقا بمجرد الاسم أو لم يكن معلقا به، لأنه أبعد عن الكذب والافتراء، ولأن الانقياد لذلك الحكم أكثر من الانقياد للحكم المجرد عن ذكر العلة وعن المعنى المناسب فكان أولى. وخامس عشرها: أن يكون أحد الخبرين يتضمن التنصيص على الحكم مع اعتباره بمحل آخر، والأخر ليس كذلك، فالأول راجح على الثاني في المشبه والمشبه به جميعا، لأن اعتبار محل بمحل آخر إشارة إلى وجود علة جامعة. مثاله: قول الحنفية في قوله- عليه السلام- " أيما إهاب دبغ فقد ظهر"، كالخمر تخلل فتحل رجحانه في المشبَّه على قوله- عليه السلام- "لا تنتفعوا

من الميتة بإهاب ولا عصبٍ "وفى المشبه به في مسألة تخليل الخمر على قوله (أرقها). وسادس عشرها: أن تكون دلالة أحدها مؤكدة، ودلالة الآخر غير مؤكدة، فالمؤكدة أولى كقوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" فإنه راجح على ما ترويه الحنفية من قوله

عليه السلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها " لو سلم دلالته على المطلوب. وسابع عشرها: أن يكون أحدها تنصيصًا على الحكم، مع ذكر المقتضى لضده والأخر ليس كذلك بل ليس فيه إلا ضد ذلك الحكم سواء كان معه ذكر المقتضى له أو لم يكن. مثاله: قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" فإنه راجح على ما ورد من الحديث الدال على تحريم زيارة القبور أو كراهته،

ولأن تقديم هذا يقتضى نسخ الحكم الشرعي غير الجواز الثابت بالعمل مرتين، وتقديم الآخر يقتضى نسخ الحكم مرة أعنى غير الجواز العقلي فكان أقل نسخا فكان أولى. وثامن عشرها: أن يكون أحد الخبرين مقرونا بنوع من التهديد فإنه يقدم على ما لا يكون كذلك، كقوله عليه السلام، "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" وكذلك لو كان في أحدهما زيادة تهديد. وتاسع عشرها: المنطوق راجح على المفهوم، أعنى مفهوم المخالفة، وإلا فمفهوم الموافقة قد يترجح على المنطوق، هذا إن جعل مفهوم المخالفة حجة، وهذا إذا لم يكن المفهوم خاصا والمنطوق عاما فإن بتقدير أن يكون كذلك فالمفهوم راجح عليه، ولهذا يخص به على ما تقدم تقريره فكان أولى.

ويلزم من هذا أن مفهوم الموافقة راجح على مفهوم المخالفة، ويمكن أن يرجح مفهوم المخالفة عليه بوجهين:- أحدهما: أنه لا يتوقف على فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان وجوده في محل السكوت بخلاف مفهوم الموافقة. وثانيهما: أن فائدته تأسيسية بخلاف مفهوم الموافقة. العشرون: أن يكون أحد الخبرين يقتضى الحكم بواسطة، والآخر يقتضى بغير واسطة، فالذي يقتضيه بغير واسطة أولى، لأن كلما قلت الوسائط الظنية كان الظن أكثر فيكون الظن بثبوت مدلول ما دل بغير واسطة أكثر فيكون أولى. مثاله. قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" [الحديث فإنه إنما يدل على بطلان نكاحها إذا نكحت نفسها بإذن وليها بواسطة الإجماع فلا قائل بالفصل فإنه يقال فيه: إذا بطل نكاحها إذا نكحت بغير إذن وليها]، بالحديث وجب أن يبطل إذا نكحت بإذن وليها أيضا ضرورة أنه لا قائل بالفصل، والحديث الأخر الذى رويناه لهم وهو قوله - عليه السلام-: (الأيم أحق بنفسها من وليها، فإنه يدل بغير واسطة على صحة نكاحها إذا نكحت نفسها فكان هذا أولى. الحادي والعشرون: أن يكون أحد الخبرين أمرًا، والأخر نهيًا فالنهي أولى، لأن طلب الترك فيه أشد من طلب الفعل في الأمر، ولهذا فإن كثيرًا ممن قال: الأمر لا يفيد التكرار، قال: النهى يفيده ولأن المطلوب فيه ترك المفسدة، وفى الأمو جلب المنفعة، والأول مقدم على الثاني عرفًا وشرعًا.

أما الأول فظاهر، فإن من به مرض وهو قادر على كسب المال لو اشتغل به دون إزالة المرض فإن العقلاء. يستقبحون رأيه ويعدونه من الحمقى البالغين في الحماقة. وأما الثاني، فلأن القتال يصير فرض عين إذا قصدنا الكفار لكون ذلك دفعا للمفسدة ويصير فرض كفاية إذا قصدناهم لكون ذلك جلبا للنفع، ولأن الإجمال في النهي أقل لقلة محامله وهو التحريم فقط، أو الكراهة فقط، أو كل واحد منهما أما بطريق البدلية، أو بطريق المعية على. اختلاف في اللفظ المشترك، أو القدر المشترك بينهما بخلاف الأمر فإن محامله كثيرة على ما عرفت ذلك في اللغات، وما لا إجمال فيه أو قل فهو أولى من الذى فيه الإجمال أو كثر فيه الإجمال. ولأن الإتيان بمقتضاه أسهل من الإتيان بمقتضى الأمر فكان أولى لقوله عليه السلام، "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" الحديث. الثاني والعشرون إذا كان أحد الخبرين أمرًا والآخر مبيحًا فالمبيح أولى. وقيل بترجيح الأول. احتج القائلون بترجيح الإباحة بوجوه: إحداها: أنه لو رجح الأمر على المبيح لزم منه تعطيل المبيح بالكلية، ولو رجح المبيح عليه لزم تأويل الأمر بصرفه عن ظاهره إلى المحل البعيد وهو الإباحة، ومعلوم أن التأويل أولى من التعطيل.

وهو ضعيف لأنا لا نسلم أنه لو رجح الأمر على المبيح لزم التعطيل، وهذا لأنه يمكن حمل المبيح على جواز التعطيل فقط، وحينئذ لا يكون منافيا للأمر، وحينئذ لا يلزم منه التعطيل بل يلزم منه التأويل فاستويا. لا يقال: المبيح دل على جواز الفعل وعلى جواز الترك بصراحته نحو قوله: يجوز لك أن تفعل الفعل الفلاني، ويجوز لك أن تتركه وتأويل مثل ذلك لمه بالحمل على الجواز فقط غير جائز، لأنا نقول: ليس من شرط المبيح أن يكون واردأ على تلك الصيغة بل جاز أن يرد بلفظ الإباحة نحو أن يقال: أبحت لك الفعل الفلاني "، وقبوله للتأويل المذكور كقبول الأمر فلا فرق. وثانيها: أنه لا إجمال في الإباحة لكون المعنى متحدًا فيها بخلاف الأمر فإن فيه الإجمال لتعدد معناه فكان الأول أولى. وثالثها: أن المبيح قد يمكن العمل بمقتضاه على تقديرين على تقدير مساواته للآخر ورجحانه عليه، أما على التقدير الثاني فظاهر، وإما على التقدير الأول فلأنه يتخير بين الأخذ بمقتضى الأمر وبين الأخذ بمقتضى الإباحة وهو تخيير بين الفعل والترك وهو ترجيح الإباحة، وأما الأمر فإنه لا يمكن العمل به إلا عند ترجيحه، وما يمكن العمل به على تقديرين أولى مما لا يمكن العمل به إلا على تقدير واحد. وهو أيضًا ضعيف، لأن التخيير الحاصل بين الفعل والترك عند التعارض غير التخيير الحاصل بين الفعل والترك عند ترجيح المبيح فإن الأول مشروط بالأخذ بالمبيح دون الأخذ بالأمر فإن عند الأخذ به لا يجوز له الترك فلا يكون ذلك ترجيحا للمبيح بعينه. ورابعها: أن المبيح أسهل بخلاف الأمر فكان أولى لما سبق.

وخامسها: أن العمل بالمبيح بتقدير أن يكون الفعل مقصودًا للمكلف لا يخل بالمقصود لكونه جائزًا الفعل له، والعمل بالأمر يخل بالمقصود بتقدير أن يكون الترك مقصودًا للمكلف ضرورة أنه غير جائز الترك حينئذ فكان المبيح أولى. واحتج من قال بترجيح الأمر بوجهين. أحدهما: أن ذلك أحوط فيجب المصير إليه لقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وثانيهما: أن العمل بالأمر حمل لكلام الشارع على الحكم التكليفي والشرعي، والعمل بالمبيح حمل لكلامه على ما ليس كذلك لما سبق أن المباح ليس حكما شرعيا، ولا هو من التكليف فكان الأول أولى. الثالث والعشرون: إذا كان أحد الخبرين أمرأ والأخر خبرًا فالخبر أولى لوجوه: أحدها: أنه لا إجمال فيه لاتحاد معناه بخلاف الأمر، فإن فيه الإجمال لتعدد المعنى فكان الأول أولى. وثانيها: أن الخبر أقوى في الدلالة؛ ولهذا امتنع نسخه على بعض الآراء بخلاف الأمر وهذا ضعيف، لان الخبر الذي لا يجوز نسخه إنما هو الخبر الذى لا يتضمن إثبات الحكم الشرعي، فأما الذى يتضمنه فذلك يجوز نسخه وفاقا كما تقدم ذكره، نعم هو أقوى دلالة من وجه آخر وهو أن دلالة الخبر على الثبوت والتحقق أقوى من دلالة غيره عليه.

وثالثها: أنه لو لم يعمل بالخبر لزم الخلف في خبر الشارع وهو ممتنع، ولو لم يعمل بمقتضى الأمر لم يلزم من جهة الشارع خلف ولا نقض، غاية ما يلزم فوات مقصود الشارع، وهو حاصل في الخبر الذى يتضمن إثبات الحكم الشرعي مع زيادة محذور وهو الخلف في خبره فكان الخبر الأول دفعًا لزيادة المحذور. [الرابع والعشرون: أن يكون أحدهما نهيا والآخر مبيحًا، فالمبيح مقدم لبعض ما مر في الأمر]. الخامس والعشرون: أن يكون أحدهما خبرًا والأخر نهيًا، فالأول أولى لما مر في الأمر. السادس والعشرون: أن يكون أحدهما خبرًا والأخر مبيحًا، فالخبر أولى لبعض ما مر السابع والعشرون: أن ما ليس فيه دلالة الاقتضاء راجح على ما فيه دلالة الاقتضاء وهو ظاهر، وما فيه دلالة الاقتضاء سواء كان ضرورة صدق المتكلم، أو ضرورة وقوع الملفوظ به شوعًا أو عقلاً راجح على المجاز والإضمار وما فيه دلالة الاقتضاء ضرورة صدق المتكلم راجح على ما فيه دلالة الاقتضاء ضرورة وقوع الملفوظ به شرعًا وما لديه دلالة الاقتضاء ضرورة وقوع الملفوظ به عقلاً راجح على ما فيه دلالة الأحكام ظاهر.

الثامن والعشرون: دلالة الاقتضاء راجحة على دلالة "الإشارة والتنبيه والإيماء ومفهوم المخالفة، ودلالة الإشارة والتنبيه والإيماء راجحة على دلالة مفهوم المخالفة. التاسع والعشرون: دلالة الإيماء الذى يلزم منه العبث لو لم يكن الوصف المذكور فيه علة للحكم راجحة على بقية الدلالة من الإيماء، ولا يخفى رجحان بعضها على بعض بما سبق. الثلاثون: العام المخصوص أولى من الخاص والعام المؤولين، لكثرة التخصيص، وقلة التأويل، والكثرة تدل على قلة المفسدة، والخاص المؤول أولى من العام المؤول، والمقيد أولى من المطلق، والمطلق أولى من العام، والعام المخصوص أولى من المطلق المؤول، وما فيه جهتا العموم والخصوص هو أولى من العام المخصوص، وما فيه جهة الإطلاق والتقييد فهو أولى مما فيه الإطلاق فقط، والمقيد راجح على المطلق وعلى المقيد من وجه دون وجه، والنكرة المنفية من جهة العموم أولى من جميع أنواع العموم من الشرط والجزاء والجمع المحلى بالألف واللام، والثاني أولى من الثالث وهو أولى من بقية أنواع العموم نحو اسم الجنس، والمفرد المعرف، والجمع المنكر عند القائلين به، وما فيه عموم البدلية أولى مما فيه عموم الشمول لأنه أقرب إلى الخصوص، واسم الجنس المحلى بالألف واللام أولى من المفرد المحلى بالألف واللام. الحادي والثلاثون: غير المضطرب أولى من المضطرب.

الثاني والثلاثون: أن يكون أحد الخبرين مشتملاً على زيادة لم يتعرض الآخر لها. مثل ما روى عنه- عليه السلام- "أنه كبر في صلاة العيد سبعًا" فإنه يقدم على ما روى عنه- عليه السلام- أنه كبر فيها أربعاً،

لاشتماله على زيادة علم ربما خفى على الآخر. الثالث والثلاثون: الإجماع الذى يفيد الظن مقدم على النص الذى يفيده، لأنهما لان اشتركا في إفادة الظن لكن الإجماع مأمون عن النسخ بخلاف النص. ويمكن أن يقال: أن النص يترجح من وجه آخر وهو أنه أصل والإجماع فرعه. الرابع والثلاثون: الإجماع المتفق عليه أولى من المختلف فيه، فعلى هذا الإجماع الذى اشتمل على قول كل الأمة من المجتهدين والعوام، أولى من الذى اشتمل على قول المجتهدين فقط. والإجماع المشتمل على قول أهل الحل والعقد، وقول الفقهاء الذين ليسوا أصوليين، أو الأصوليين الذين ليسوا فقهاء دون قول العوام أولى من الإجماع المشتمل على قول أهل الحل والعقد وقول العوام فقط، لأن الظن في الصورة الأولى أكثر لمعرفتهم بالأحكام الشرعية أو بأصولها بخلاف الثاني فإن العوام ليس لهم تلك المعرفة، والمشتمل على قول الأصولي أولى من المشتمل على قول الفقهاء، لتمكن الأصولي من استنباط الأحكام من أصولها دون الفقيه، وإجماع الصحابة أولى من إجماع غيرهم، لأن عدالتهم ثابتة بتأكيد الله تعالى ورسوله- عليه السلام- بخلاف عدالة غيرهم، ولأنه متفق عليه بين القائلين بكون الإجماع حجة، ولأن اطلاعهم على أدلة الأحكام وعلى ناسخها ومنسوخها أقرب من اطلاع غيرهم، ولأن رغبتهم على تحقيق

الحق وإبطال الباطل أثمد من الغير فكان قولهم أقرب إلى الحق. لإجماع التابعين أولى من إجماع غيرهم لبعض ما معبق، ولقوله عليه السلام: (خير القرون القرن الذى أنا فيه ثم الذى يليه ثم الذى يليه" ومنه يعرف الترجيح في بقية الإجماعات فلا نطول بالذكر. واعلم أن هذا لا يتصور في الإجماعين القاطعين، لأنه لا ترجيح بين القاطعين، ولأنه لا يتصور التعارض بينهما بل لو تصور ذلك في نما يتصور بين الإجماعين الظنيين وإنما تكلمنا في ترجيح بعض الإجماعات على البعض في هذه المسالة مع أنها مترجمة في ترجيح الخبر باعتبار اللفظ، لأنا تكلمنا في ترجيح الإجماع على الخبر الذى يفيد الظن باعتبار دلالته اللفظية، فتكلمنا في بقية الإجماعات لئلا يفود له فصل آخر. الخامس والثلاثون: إذا تعارض خبران ودلالة ألفاظهما على حكميهما متساويان في إفادة الظن لكن أحدهما تكد بدلالة سياق الكلام، مهو راجح على غير المتأكد، وكذا إذا ترجح أحدهما بكونه مقطوع المتن. السادس والثلاثون: الخبر الذى إعرابه مرافق لقاعدة العربية أولى من الذى يخالفه ولو بوجه ما. السابع والثلاثون: الخبر الذى لفظه أو معنى لفظه أشهر راجح على الذى ليس كذلك. الثامن والثلاثون: الخبر المشتمل على لغة قريش، أو أهل نجد راجح على الذى ليس كذلك. التاسع والثلاثون. ما دل من غير تقديم ولا تأخير راجح على الذي يدل كذلك.

المسألة الخامسة في ترجيح الخبر باعتبار مدلوله وهو الحكم

الأربعون: دلالة الاقتضاء راجح على مفهوم المخالفة لكونه متفقا عليه، ولكونه محتاجا إليه لضرورة الكلام، وكذا على مفهوم الموافقة، لأنه لو لم يعمل بدلالة الاقتضاء لتعطل النص ضرورة أنه من ضرورة الكلام بخلاف مفهوم الموافقة فإنه إن لم يعمل به كان النص معمولا به في محل النطق فكان الأول أولى. المسألة الخامسة في ترجيح الخبر باعتبار مدلوله وهو الحكم وهو من وجوه: أحدها: إذا كان أحد الخبرين مقَررًا لحكم الأصل، والثاني ناقلا فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل. وذهب بعضهم واختاره الإمام أنه يجب ترجيح المقرر. مثاله: خبر من روى عنه عليه السلام "أنه سئل عنه فقال" (إذ مس أحدكم ذكره فليتوضأ "، وخبر من روى عنه عليه السلام [أنه سئل عنه] فقال: (هل هو إلا بضعة منك، فإن الأول ناقل عن حكم الأصل والثاني مقرر.

احتج الأولون بوجوه: أحدها: أن في تقديم المقرر على الناقل زيادة النسخ، لأنه إنما يقدم عليه بناء على تأخره عن المقرر وحينئذ يلزم النسخ مرتين، لان الناقل نسخ حكم العقل، ثم أن المقرر أزال حكم الناقل فيلزم النسخ مرتين لكن أحدهما عقلي، والثاني شرعي، بخلاف ما إذا قدمنا الناقل فإنه لم يلزم منه إلا النسخ مرة واحدة، لأنه حينئذ إنما يقدم على المقرر بناء على تأخره عنه، وحينئذ يكون المقرر واردًا أولا مؤكدًا لحكم العقل، ثم أن الناقل ورد بعده مزيلاً لحكمه فلم يلزم النسخ إلا مرة واحدة فكان أولى. وأجيب عنه: بانا لا نسلم أنه يلزم من تقديم المقرر تكثير النسخ، وهذا لان دلالة العقل مشروطة بعدم دليل السمع، فإذا وجد لا يبقى دليل العقل لزوال ضرطه فلم يكن دليل السمع مزيلاً لحكم العقل، بل مبينا لانتهائه، فلا يكون ذلك خلاف الأصل. وأيضًا: فإن ما ذكرتم معارض بوجه آخر، وهر: أنا لو جعلنا المبقى حكما مقدما في الورود لكان المنسوخ حكما ثابتا بدليلين: العقل والخبر وهو أشد مخالفة من النسخ مرتن لأنه يلزم منه نسخ الأقوى

بالأضعف، وهو غير جائز. بخلاف ما إذا قدمنا الناقل في الورود فإنه لا يلزم منه هذا المحذور فكان تقدير تقدم الناقل في الورود أولى. وهو ضعيف. أما الأول: فلان هذا الاحتمال بعينه قائم في نسخ الحكم الشرعي لاسيما عند هذا القائل فإن النسخ عنده عبارة عن: بيان انتهاء مدة الحكم، وليس هو عبارة عن إزالة الحكم ورفعه فكان ينبغي أن لا يكون خلاف الأصل، وأيضا؛ توقيف دلالة الدليل على الشرط خلاف الأصل فيما يفضى إليه أيضا خلاف الأصل. وأما الثاني: فلان ما ذكر من دلالة العقل مشروطة بعدم، دليل السمع يقتضى أن لا يكون دليل العقل دالاً على ذلك الحكم عند ورود المقرر، فإنه دليل سمعي فينبغي أن تنتفي دلالة العقل على الحكم عند وروده لزوال شرطه فلم يلزم نسخ الأقوى بالأضعف، ولئن سلم أن دلالته غير مشروطه بعدم دليل السمع، بل دلالته باقية بعد وروده لكن لا يصير الحكم قطعيا إذا كان الذى صرد من الدليل السمعي ظنيا بسبب دلالتهما عليه بل يبقى ظنيا، وحينئذ لا نسلم أنه لا يجوز نسخه بالظني الذى هو أضعف منه، فإن الضعف والقوة إذا كانا من نوعين مختلفين كما في العلم والظن لا يجوز نسخ الأقوى بالأضعف، فأما إذا كانا من نوع واحد كما إذا أفاد دليل ظني ظنًا قويا ثم ورد بعده ظني آخر يقتضى نسخه، فانه وإن كان أضعف منه فإنه يجوز النسخ به، وأيضا: فإن دليلكم منتقض بما إذا علم تقدم ورود المقرر وتأخر الناقل فإنه لا خلاف في تقديمه على المقرر مع أنه يلزم ما ذكرتم من المحذور وهو نسخ الأقوى بالأضعف.

وثانيها: أنا لو اعتبرنا الناقل لكنا استفدنا منه ما لا يعلم من غيره ولو اعتبرنا المبقى لكنا استفدنا منه ما يعلم من غيره وهو العقل فكان اعتبار الناقل أولى. وأجيب عنه: بانه يقتضي تقديم المقور فانا لو قدمنا الناقل عليه لكان المقرر قد ورد قبل الناقل وحينئذ يكون المستفاد منه حكمًا يتمكن العقل من معرفته ولو قدمنا المقرر لكان الناقل قد ورد قبله فيكون المستفاد من كل واحد منهما حينئذ حكما لا يمكن معرفته من غيره فكان تقديم المقور أولى وستعرف ما عليه من الكلام. وثالثها: أن الناقل معه زيادة علم فكان أولى بالاعتبار. وجوابه: أن الفائدة في تقديم المقرر أكثر لأنه حينئذ يستفاد من كل واحد منهما حين وروده ما لا يعلم إلا منه فكان أولى. واحتج من قال بتقديم المقرر. بانا لو قدمنا الناقل فإنما نقدمه لكوننا نقدر وروده بعد المقرر وحينئذ يكون ورود المقرر قبل الناقل فيكون واردأ حيث لا يحتاج إليه وليس له فائدة إلا التأكيد والتقرير ولو قدمناه فإنما نقدمه لكوننا نقدر وروده بعد الناقل وحينئذ يكون واردأ حيث يحتاج إليه وتكون فائدته التأسيس فكان الحمل عليه أولى لما تقدم غير مرة أن حمل كلام الشارع على الفائدة التأسيسية أولى. وجوابه: أنا لا نسلم حينئذ يكون واردأ حيث لا يحتاج إليه، وهذا لأن كون ذلك الحكم شرعيا يحتاج إليه وهو إنما يصير شرعيا إذا قوره الشارع على ما كان عليه أو نقله، ولهذا كان قبل التقرير يجوز رفعه بكل دليل شرعي كالقياس وغيره، فأما بعده فلا يجوز إلا بنص من جنسه أو أقوى منه كالمتواتر

وحينئذ يكون واردا في محل الحاجة وتكون فائدته بالنسبة إلى كون ذلك الحكم شرعيا فائدة تأسيسية كما في الناقل فلم يكن الحمل على أنه ورد بعد الناقل أولى من الحمل على أنه ورد قبله بل هذا أولى، لأنهما اشتركا في إثبات الفائدة التأسيسية وزاد هذا على الاحتمال الأول بقلة النسخ. سلمنا عدم حصول الفائدة التأسيسية من المقرر على "تقدير" تقدمه لكن لا يعارض هذا مفسدة زيادة النسخ فكان تقديم الناقل أولى. فإن قلت: كلامكم في الدلالة من الجانبين يشعر بأن العمل الناقل أو المقرر على اختلاف المذهبين من باب الناسخ " فهل هو من بابه، أو من باب الترجيح؟ وبتقدير أن يكون من باب الناسخ" كيف أوردتموه في باب الترجيح فإن العمل بالناسخ ليس من باب الترجيح؟ قلت: قال القاضي عبد الجبار: أنه ليس من باب الترجيح، واستدل عليه بوجهيها: الأول: أنا نعمل بالناقل على أنه ناسخ، والعمل بالناسخ ليس من باب الترجيح. الثاني: أن العمل بالناقل لو كان من باب الترجيح لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه، لأن هذا حكم كل خبرين رجح أحدهما على الآخر، ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل لكنا إنما نحكم بحكم الأصل لدلالة العقل لا لأجل الخبر.

وهما ضعيفان: أما الأول: فلأنا لا نقطع على أن الناقل أو المقرر متأخر وناسخ حيث يقدم أحدهما على الأخر حتى يكون العمل بأحدهما إذ ذاك من باب النسخ، بل نقول: الظاهر ذلك لئلا تلزم المفسدة المذكورة في الدلالتين وإن كان يجوز أن لا يكون كذلك فهو إذن داخل في باب الأولى وهو ترجيح. وأما الثاني: فلانا لا نسلم أنه لولا الخبر الناقل لكان العمل بحكم الأصل كدلالة العقل بل للخبر المقرر لحكم الأصل، ألا ترى أنا نجعله حكما شرعيا، ولهذا لا يصح دفعه إلا بما يصح به رفع الحكم الشرعي فلولا أنه بعد ورود الخبر صار شرعيًا، وإلا لما كان كذلك. وإذا ظهر ضعف الوجهين بطل أن يكون العمل بأحدهما من باب النسخ بل الحق أنه من باب الترجيح. وثانيها: إذا كان أحد الخبرين إثباتًا والأخر نفيًا وهما شرعيان كخبر بلال وأسامة فإن أحدهما روى أنه عليه السلام دخل البيت وصلى، وروى؛ الأخر أنه عليه السلام دخل البيت ولم يصل، فالنافي مقدم على المثبت عند

قوم. والمثبت مقدم على النافي عند الفقهاء. وفصل بعضهم كإمام الحرمين فقال: (النافي أن ذكر لفظا معناه النفي فهما سواء)، وأن نفى الفعل أو القول كقوله: لم يفعل أو لم يقل فالمثبت مقدم. وفال القاضي عبد الجبار. أنهما سواء وضرب لذلك أمثلة ثلاثة: أحدها: أن يقتضى العقل حظر الفعل، ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه. وثانيها: أن يقتضى العقل وجوب الفعل، ثم ورد خبران في حظره وإباحته. وثالثها: أن يقتضى العقل إباحة العقل، ثم ورد خبران في وجوبه وحظره. واعلم أن الحكم بتسويتهما حيث يكون للعقل فيه حكم كما في الأمثلة التي ضربها القاضي غير مستقيم على رأيه ورأى أصحابه، لأن العقل إذا اقتضى الحظر مثلاً كما في المثال الأول الذى ضربه ثم ورد فيه خبران أحدهما يقتضى الوجوب وثانيهما يقتضى الإباحة، فالوجوب ناقل عن الحظر من

وجهين وهو جواز الفعل، وعدم جواز الترك، والإباحة ناقل من وجه واحد وهو جواز الفعل. فمن رجح المقرر على الناقل يجب أن يرجح خبر الإباحة لأنه مقرر للحظر من وجه وهو جواز الترك، لاذا كان فيه التقرير من وجه كان راجحا، لأن ما فيه جهة الرجحان راجح على ما ليس فيه جهة الرجحان. ومن رجح الناقل ينبغي أن يرجح خبر الوجوب؛ لأنه ناقل من الحظر من وجهن: وهو جواز الفعل وعدم جواز الترك، فكان راجحا على خبر الإباحة لتعدد جهة الرجحان فيه.، وعلى هذا القياس الكلام في المثالين الباقين، إن كان كل واحد من المثبت والنافي مقررًا من وجه وناقلا من وجه كما إذا اقتضى العقل الإباحة، وأحد الخبرين يقتضى الوجوب والأخر الحظر فإنهما يستويان لاجتماع جهتي الرجحانية والمرجوحية في كل واحد منهما فظهر أن القول بالتسوية بينهما غير لائق بأصول المعتزلة، نعم يليق ذلك بأصول أصحابنا بمعنى أنه لا ينافيه، لا أنه يجب أن يكون كذلك. واحتج القاضي على التسوية بان المثبت معه زيادة غلم، والثاني متأكد بالأصل فيستويان. وجوابه: أن كونه مشتملا على زيادة علم راجح على ما ذكرتم، لأن نسيان ما جرى والذهول عنه أقرب من تخيل ما لم يجر جاريًا. واحتج من قدم النافي: بان تقرير وروده بعد المثبت يفيد فائدة تأسيسية، وتقدير وروده قبله يفيد فائدة تأكيدية فكان الحمل على الأول أولى لما مر غير مرة. وهو غير آت في جميع الصور، لأنه غير آت فيما قدمناه من المثال فتكون

الدعوى عامة والدليل خاصا، وهو باطل، سلمناه لكن لا نسلم أن على التقدير الثاني يفيد فائدة تأكيدية وقد عرفت سنده فيما تقدم. واحتج من فصَّل: بأن الذى يبقى إن كان نقل لفظًا معناه النفي إذا نقل أنه لا يحل، ونقل الأخر أنه يحل فهما سواء لأن كل واحد منهما مثبت، وإن لم يكن كذلك بل أثبت أحدهما فعلا أو قولاً، ونفاه الأخر فها هنا المثبت أولى لما تقدم. احتج من قدم الإثبات بأن المثبت مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق والنافي غير مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق والغالب من الشارع أنه لا يتولى إلا بيان الحكم الشرعي. وهو أبضا ضعيف. أما أولاً: فلما عرفت أن التقرير على العدم الأصلي حكم شرعي. وأما ثانيًا: فلأن الحكم الشرعي غير مقصود بالذات وإنما هو مقصود للحكمة التي تترتب عليه فهو. مقصود بكونه وسيلة إليها، وإذا كان كذلك فالحكمة التي تترتب على الإثبات كما هي مقصودة، فكذا الحكمة التي تترتب على النفي فلا يفترق الحال بين النفي والإثبات. وأما ثالثًا: فلان التقرير على العدم الأصلي والإبقاء على ما كان عليه الشيء من الشارع أكثر من التغيير فعلى هذا الخبر المقرر للنفي الأصلي يكون أولى من المغير. وثالثها: إذا تعارض خبران في إثبات الحظر والإباحة وكانا شرعيين: فذهب أكثر الفقهاء نحو طائفة من فقهائنا والحنفية كأبي بكر

الرازي والإمام أحمد بن حنبل والكرخي إلى أن خبو الحظر أولى. وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى أنهما يستويان. احتج الأولون بوجوه: أحدها: ما روى عنه عليه السلام أنه قال:" ما اجتمع الحلال والحرام إلا وقد غلب الحرام الحلال). وقوله عليه السلام:؛"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". ووجه الاستدلال بالأول ظاهر، فإنه قد اجتمع في الفعل ما حمله وما يحرمه، فوجب أن يغلب ما يحرمه للحديث، وكذا الثاني فإن جواز ترك الفعل الذى نحن ميه مما لا يريب، لأنه إن كان حرامًا كان الترك واجبا، وإن كان مباحًا كان جائزًا بخلاف جواز فعله فإنه مما يريب، فإن بتقدير أن يكون حرامًا لا يجوز دفله فوجب تركه للأمر بترك ما يريب.

فإن قلت: المراد من الخبر الأول: ما اجتمع فيه جهتا الحل والحرمة كالمتولد بين ما يؤكل لحمه وبين ما لا يؤكل، وكالذي جهلَ حاله أنه مذبوح، أو ميت، فإن كونه مذبوحًا يوجب حقه وكونه ميتًا يوجب حرمته، وكما إذا اشتبه المذبوح بالميتة فإن كونه مذبوحًا يوجب حله، وكونه مشتبهًا بالميتة يوجب حرمته فوجب تركه، فأما ما لا يكون كذلك مثل ما نحن فيه فإنه ليس في الفعل جهتا الحل والحرمة بل ورد فيه خبران أحدهما يوجب حله والآخر حرمته، وليس يجب أن يكون ذلك بناء على جهتين فيه فإنه لو كان بناء على ذلك لقلنا به، وإذا كان كذلك فلا نسلم أن الخبر يقتضي حرمه الفعل الذى نحن فيه. قلت: لا فرق بين جهتي الحل والحرمة وبن الخبرين، فإن تنيك الجهتين لا توجبان الحل والحرمة لذاتيها لمساعدة الخصم عليه، أو لبطلان قاعدة التحسن والتقبيح إن لم يساعد عليه، واذا كان كذلك فما عرف كونهما جهتي الحل والحرمة إلا بالنص، فإذا كان اجتماعهما موجبًا للحرمة فلان يكون اجتماع الخبرين موجبا لذلك بالطريق الأولى. فإن قلت: الجهتان حاصلتان على ذلك الشيء حصو، حقيقا وموجبهما للحرمة والحل فيه متحقق معا، بخلاف الخبرين فإنهما غير حاصلين فيه إلا على سبيل البدلية واقتضاؤهما للحل والحرمة غير متحقق معًا بل الذى يتحقق غالبًا أن أحدهما منسوج بالأخر، ولا يلزم من حرمة ما فيه جهتا الحل والحرمة حرمة ما ورد فيه خبر الحل والحرمة. قلت: هذا لو استقام فإنما يستقيم في المثال الأول دون المثالين الباقيين، فإن الذي شك فيه أنه مذبوح أو ميت لم يتحقق فيه إلا أحد الأمرين، وكذا فيما إذا اشتبه المذبوح بالميتة فإن ما هو ميت فهو ميت لم يتحقق فيه الذبح،

وما هو مذبوح فهو كذلك لم يتحقق فيه الموت غاية ما يقال: إن الموجب لحرمته ليس هو كونه ميتا بل كونه مشتبهًا بالميت وهو حاصل فيه، وكذا ليس الموجب لحرمته هو كونه ميتًا بل كونه مشكوكًا فيه غير معلوم الحال وهو حاصل فيه، وهو بعينه حاصل فيما نحن فيه فإن الموجب لحرمته هو كونه مقولا فيه بالحرمة، والموجب لإباحته هو كونه مقولاً فيه بالإباحة، وهذان الوصفان حاصلان فيه حسب حصوله في غيره فلم يظهر فرق بينه وبينما حصل فيه جهتا الحل والحرمة. وثانيها: ما روى عن عثمان- رضى الله عنه- أنه قال في الأختين المملوكتين: "أحلتمها آية، وحرمتهما آية، والتحريم أولى" واشتهر ذلك عنه وشاع ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعًا. وثالثها: أن من طلق إحدى نسائه، ونسيها يحرم عليه وطء جميع نسائه، وكذلك لو أعتق إحدى إمائه، وكذا لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية أو المحرم لها، أو المذبوحة بالميتة، ففي هذه الصور كلها تغلب الحرمة على الحل، فكذا ما نحن فيه بجامع أن تغليب الحرمة على الحل يدفع ضرر خوف العقاب عن النفس. ورابعها: أنه متردد بين أن يرتكب المحرم، أو يترك المباح، فكان ترك المباح أولى احتياطا وترجيحا لدفع المفسدة على غيره فإنه قد يترجح على تحصيل المصلحة فكيف لا يترجح على ما لا مصلحة في فعله ولا في تركه، وأما المفسدة الناشئة من الاعتقاد فمشترك، فإن بتقدير أن يعتقد الإباحة وهو

محرم كان اعتقاده جهلاً، كما أنه لو اعتقد التحريم وهو مباح كان جهلاً. واحتج الذي رجح الإباحة على التحريم بوجهين: أحدهما: أنه لو عمل بما مقتضاه الإباحة لم يلزم منه فوات مقصود الحظر فيما يتعلق بالامتناع عنه، لأن الغالب أنه إن كان مباحًا فلابد وأن يكون لمفسدة ظاهرة، وعند ذلك فالغالب اطلاع المكلف عليه وامتناعه عنه؛ لأنه قادر على الامتناع عنه، والداعي إليه موجود لاطلاعه على ما فيه من المفسدة فيبعد لزوم المحذور ويحصل ما هو المقصود منه وهو الامتناع عنه، ولو عمل بما مقتضاه التحريم لزم منه فوات مقصود الإباحة فيما يتعلق بجواز فعله وتركه لأنه حينئذ لم يقدم عليه لان رأى في فعله ما يدعوه إليه فحينئذ يفوت المقصود. وجوابه: أنه مبنى على وجوب تعليل الأحكام ورعاية المصالح وهو باطل عندنا. سلمناه لكنه متناقض لأنه لا يعمل بما مقتضاه الإباحة إلا وليس في الفعل مفسدة ظاهرة موجبة للتحريم، لأن بتقدير أن يكون كذلك لا يجوز الحكم بكونه مباحا فبتقدير مفسدة ظاهرة فيه على تقدير كونه مباحا في نفس الأمر متناقض. وثانيهما: أن الإباحة تستفاد من التخيير قطعا بخلاف استفادة الحرمة من النهى لتردده بين الحرمة والكراهة فكان الأول أولى لعدم الإجمال. وهو ضعيف، لأنه ليس من ضرورة الحرمة أن تكون مستفادة من النهي،

بل جاز أن تكون مستفادة من صراحة لفظ التحريم والحظر وغيرهما من الألفاظ التي لا إجمال فيها. ورابعها: إذا تعارض خبران في إثبات الحظر والكراهة، أو الندب " أو الوجوب فخبر الحظر أولى، أما بالنسبة إلى خبر الكراهة والندب فظاهر، وأما بالنسبة إلى خبر الوجوب فذلك لوجهين: أحدهما: أن الوجوب يعتمد على تحصيل المصلحة، والتحريم يعتمد على دفع المفسدة، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أكثر وأتم من تحصيل المصالح، ولهذا فإن الدواعي تنبعث لدفع المفسدة وإن كانت قليلة، ولا تنبعث لتحصيل المصلحة إلا إذا كانت معتبرة. وأيضًا: فإن الشارع رتب من العقوبات والزواجر على فعل المحرم ما لا يترتبه على ترك الواجب، فإن الرجم والقتل مرتب على زنا المحصن والقتل العمد والعدوان والجلد والتغريب مرتب على الزنا، وقطع اليد على السرقة، ولم يترتب مثله على ترك الحج والصوم والزكاة، نعم القتل مرتب على ترك الصلاة على مذهب الإمام الشافعي- رضى الله عنه- على خلاف قياس سائر الفرائض للنص وهو نادر، وإذا كان كذلك كان ترجيح خبر الحظر أولى. وثانيهما: أن ما هو المقصود من التحريم يحصل بالترك بسهولة من غير كلفة عمل ومن غير قصد، بخلاف ما هو المقصود من الواجب فإنه لا يحصل إلا بكلفة العمل والقصد، ولهذا كان تحريم الشيء يقتضى الامتناع عنه دائما بخلاف إيجابه فإنه لا يقتضى فعله دائما، وإذا كان كذلك كلان المصير إلى الأخذ بما يقتضى التحريم أولى لنفى الحرج والمشقة، ولكونه أفضى إلى حصول مقصود الشارع. وخامسها: إذا تعارض خبران وأحدهما يقتضي الوجوب، والآخر يقتضي

الندب أو الإباحة، أو الكراهة، فالمقتضى للوجوب أولى. أما أولاً. فلطريقة الاحتياط. وأما ثانيًا: فلان اهتمام الشارع بالواجب أكثر لكثرة ما يترتب على فعله من المصالح وعلى تركه من المفاسد بخلاف الأحكام الثلاثة، وكذا اهتمام العقلاء بفعل ما لابد منه أكثر من اهتمامهم بفعل ما عنه بد، فكان الأول أولى. وأما ثالثًا: فلان داعية المكلف إلى فعل الواجب أكثر من فعل الندب، أو الإباحة، أو ترك الكراهة لأنه يحرص عليه من وجهين: أحدهما: بالثواب الكثير والأجر الجزيل على فعله. وثانيهما: بالعقاب على تركه بخلاف الأحكام الثلاثة فإنه ليس في واحد منها مثل هذا التحريض، فكان الأخذ بما يقتضى الوجوب أولى. وإذا وقع التعارض بين خبري الندب والكراهة فخبر الكراهة أولى لبعض ما سبق. وإذا وقع التعارض بين خبري الندب والإباحة صبر الندب أولى لبعض ما سبق. ويمكن أن يرجح خبر الإباحة عليه بكونه متأيدًا بالأصل في جانب الفعل والترك، وبكونه أعم وأسهل من حيث أنه مفوض إلى خبرة المكلف، ومن حيث أنه لا إجمال في الصيغة الدالة عليه بخلاف الندب فأنه يثبت بصيغة الأمر وفيها الإجمال، وقد عرفت ما على هذا من الكلام. وسادسها: إذا كان أحد الخبرين يثبت حكمًا معقولاً، والآخر غير معقود،

فالأول أولى، لأن انقياد المكلف له أكثر فيكون أسرع إلى القبول، وأفضى إلى الوقوع فيكون حصول مقصود الشارع أتم وأكمل، ولهذا لو دار الحكم بين أن يكون معقول المعنى، وبين أن يكون غير معقول المعنى، كان المصير إلى كونه معقول المعنى أولى. وأيضا: فإن معقول المعنى كثر فائدة وعائدة من غير معقول المعنى من جهة أنه يمكن الإلحاق بطريق القياس دون الثاني فكان الأول أولى. فإن قلت: الثواب بتلقي الحكم الذى هو غير معقول المعنى أكثر لزيادة المشقة من جهة أن الطبع ينافي قبوله فقبوله له مع إباء الطبع كثر مشقة فيكون كثر ثوابا للحديث. قلت: اعتبار مقصود الشارع أولى، وقد ذكرنا أن حصول مقصود الشارع على تقدير كونه معقول المعنى أتم وكمل فكان اعتباره أولى من حصول زيادة الثواب للمكلف على أن ذلك معارض بما أنه ربما ينفر طبعه عن قبوله والعياذ بالله فيكفر. وسابعها: إذا كان أحد الخبرين موجبا لحكمين، والأخر موجبا لحكم واحد، فالذي يوجب حكمين أولى، لأنه يشتمل على زيادة لم ينفها الثاني فكان اعتباره أولى، ولأن ترجيح الثاني عليه يقتضى إبطال أحد حكمي الأول المدلول عليه بصريح اللفظ، وترجيح الأول لا يقتضى بطلان شيء من منطوق الثاني فكان أولى. وثامنها: المثبت للطلاق والعتاق يقدم على النافي لهما [عند قوم منهم الكرخي.

وقال بعضهم: يسوى بينهما. وقيل: يقدم النافي] احتج الأولون: بأن ملك النكاح واليمن مشروع على خلاف الأصل، فيكون مزيلهما على وفق الأصل، والخبر المتؤيد بموافقة الأصل راجح على الذى على خلافه. واحتج الذي قال بالتسوية بينهما: بأن كونه مثبتًا للطلاق والعتاق يوجب الرجحان لما ذكرتم، وكون الخبر الأخر نافيًا يقتضي رجحانه لما تقدم أن النافي للحكم أولى من المثبت فاستويا. واحتي من قدم النافي: بأن النافي لهما على وفق الدليل الشرعي المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين، فكان أولى بالنسبة إلى المثبت لهما وإن كانا على وفق الأصل، لأن مرافقة الدليل الشرعي أولى. وتاسعها: المثبت للحكم الوضعي أولى من المثبت للحكم التكليفي. وقيل بالعكس واحتج من قال بالأول: أن الحكم الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحكم التكليفي من أهلية المخاطب، وفهمه، وتمكنه من الفعل فكان أولى، لأن غير المتوقف أولى من المتوقف. واحتج من رجح الحكم التكليفي: بانه كثر مثوبة، وأنه مقصود الشارع بالذات، وأنه أكثر من الأحكام فكان أولى.

وعاشرها: النافي للحد والقصاص مقدم على المثبت لهما عند قوم وأنكره المتكلمون. احتج الأولون من وجوه: أحدها: الحد ضرر، فيكون النافي له راجحا. ثانيها: أن ورود الخبر في نفى الحد مع المعارض له يفيد شبهة فيه، وإذا حصلت الشبهة سقط الحد لقوله- عليه السلام-: "ادرؤوا الحدود بالشبهات وفيه نظر، إذ يمكن أن يقال: إن هذا ليس تقديًما للنافي بل هو إسقاط للخد للشبهة، غاية ما في الباب أن المنافي موجب

للشبهة عند وجود المعارض له وهو غير مقتضى النافي، لأن مقتضاه عدم وجود الحد بالأصالة، وهذا يقتضى سقوطه للشبهة وهو غير نفى الوجوب بالأصالة، اللهم إلا أن يراد بالنافي للحد أعم من أن يكون نافيا له بالأصالة، أو بطريق الشبهة فحينئذ ربما يتجه ذلك. وثالثها: إذا كلان الحد يسقط بتعارض البينتين مع ثبوته في أصل الشرع فلان يسقط بتعارض الخبرين في الجملة، ولم يتقدم له ثبوت أصلا كان أولى، وهذا يؤكد ما ذكرنا من الاعتراض على الدليل المتقدم، فإن هذا يشعر إشعارًا ظاهرًا بان السقوط للشبهة يقتضى ثبوت أصل الحد والنافي إنما هو لأصله فلم يكن السقوط للشبهة عملا بالنافي بل يستلزمه، وأما الاعتراض على هذا الدليل الثالث: فهو أنه لا نزل في سقوط الحد؛ إذ المخالف لا يقول بتقديم المثبت بل هما متساويان [عنده] لكن نقول: إنه من جهة تعارض الدليلين فإن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ويجب الرجوع إلى غيرهما إن كلان هناك دليل شرعي آخر دالا بقى الأمر على ما كان عليه في الأصل فيلزم نفى الحد لكنه ليس ذلك تقديما للنافي، على المثبت، وأما تقديم النافي على المثبت فإنما يكون لو حصل عدم الحكم بالنافي لا بالبقاء على العدم الأصلي حتى يصير عدم وجوب الحد حكما شرعيا لا يجوز رفعه إلا بما يرفع الحكم الشرعي، ومعلوم أن الدليل المذكور لا يفيده فلا يفيد المدعي، نعم لو قال المخالف يتقدى المثبت بناء على أنه مثبت للحكم الشرعي فيكون أولى من النافي الذى هو مقرر للحكم العقلي فربما اتجه هذا. رابعها: أن النافي متأيد بالأصل فوجب أن يكون راجحًا.

وحادي عشرها: إذا كان حكم أحد الخبرين أخف، وحكم الخبر الآخر أثقل فقيل: إذا الأول أولى، وقيل بالعكس. احتج الأولون. بأن الشريعة مبناها على التخفيف على ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة. والاستقراء يدل عليه أيضا: فإن أكثر أحكام الشرائع سهل غير مشق على المكلف؛ بحيث يحتاج فيه إلى بذل جهده واستفراغ وسعه فيغلب ذلك على الظن بان هذا الحكم يكون مشروعًا على وجه السهولة والخفة، فإن ما جهل حاله من أفراد النوع الواحد يلحق بالأكثر منه. والمعقول يدل أيضا على أن الأخف أولى، لأن الله كريم رحيم غنى عن العباد وطاعتهم ومن يكعون كذلك لا يشرع في حق عبيده الضعاف المحتاجين ما يثقل عليهم ويذهب طاقتهم. واحتج النافون: بما روى "أن الحق ثقيل مرى، والباطل خفيف". وبأنه أكثر ثوابا لزيادة المشقة، ولأن الغالب تأخره عن الأخف لكونه يدل

على أنه في حال ظهوره، وقوته عليه السلام وهو في آخر الأمر، ولكون العادة جارية أن من قصد تحصيل مصلحة بفعل من الأفعال، ولم تحصل به فإنه يقصده بما هو أعلى منه في التحصيل، والغالب أن الأثقل أعلى من الأخف إذا كانا من نوع واحد في تحصيل ما هو المقصود من ذلك النوع. وقولنا: ولم يحصل به: احترزنا به عما إذا حصل به المقصود فإنه لا يمكن إزالته إلا بطريق النسخ بالأثقل والأخف. الجواب عن الأول: أنه لا دلالة فيه؛ إذ لا يلزم من كون كل الحق ثقيلاً أن يكون كل الثقيل حقًا ولو أحد جزئه لم يفد، لأنا نسلم أن بعض الثقيل حق لكن لا يحصل به المطلوب. وعن الثاني: أن اعتبار مقصود الشارع أولى، وبتقدير أن يرجع الأخف كان ذلك أفضى إلى الوقوع وفى ذلك حصول مقصود الشارع [أولى، وبتقدير. وعن الثالث: أن التثقيل والتشديد كلان في أول الأمر أكثر لقطع المألوف والعادة. وعن الرابع: أنه كما يجوز النسخ بعد حصول المقصود فكذا يجوز قبله، لكن بعد حضور وقت العمل به فجار أن يكون الأخف متأخرًا. وثاني عشرهما: أن يكون حكم أحد الخبرين مما لا تعم به البلوى، أو الآخر مما تعم به البلوى، "وكل واحد منهما خبر واحد، فالأول راجح على الثاني؛ لأن الأول متفق عليه بين القائلين بأخبار الآحاد، والثاني مختلف فيه فيكون أولى، ولأنه أبعد عن احتمال الكذب بخلاف الثاني فإن تفرد الواحد

المسالة السادسة في ترجيح الخبر بالأمور الخارجية

بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله مما يقرب إلى احتمال كونه كذبًا فكان الأول أولى. المسالة السادسة في ترجيح الخبر بالأمور الخارجية وهو من وجوه: أحدها: أن يكون أحد الخبرين موافقا لدليل آخر من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس، أو عقل، أو حس، أو غيرها من المدارك، والأخر غير موافق لشيء منها،. فالموافق أولى وقد تقدم تقريره. وثانيها: أن يترك بعض أئمة الصحابة العمل بأحد الخبرين، أو راوي

الخبر، أو أهل المدينة، أو أكثر الأمة، أو عملوا على خلافه، والخبر لا يجوز إخفاؤه عليهم، والآخر ليس كذلك، فالثاني راجح على الأول خلافا لبعضهم كالغزالي في غير أهل المدينة، فإن ما ليس بدليل لا تكون موافقته مرجحه عندهم. والحق أنه يصلح أن يكون مرجحا وكميته ظاهرة هذا إذا لم يجعل ترك بعض الصحابة أو أهل المدينة الخبر دليلاً على نسخه، أو أنه لا أصل له وهو الحق، وكذا اتفاق الأكثر على مقتضى الخبر لا يجعل إجماعًا، فأما إذا جعل كذلك في الكل فليس هو من هذا القبيل بل هو من باب تقديم الدليل على ما ليس بدليل، وإذا اعتضد كل واحد من الدليلين بغير ما اعتضد به الأخر، لكن ما عضد أحدهما راجح على ما عضده الأخر، فما عضده الراجح راجح على ما ليس كذلك، فعلى هذا لو عملن بكل واحد من الخبرين بعض الأمة لكن أحد البعضين أعرف بمواقع الوحى والتنزيل، وبكيفية الدلالة والتأويل، فما وافقه البعض الذى شأنه ما ذكرنا أولى من الذى ليس كذلك، وكذلك إذا كان كل واحد من الخبرين مؤولا لكن أخد التأويلين بعيد، والآخر قريب، أو دليل تأويل أحدهما راجح على الأخر. وثالثها: إذا دل أحد الخبرين على الحكم وعلته، والأخر على الحكم فقط أو على العلة فقط، فما دله على الأمرين راجح على ما دل على أحلى هما، أما بالنسبة إلى الأول فلانه يوجب سرعة الانقياد وسهولة القبول فيحصل حينئذ مطلوب الشارع من تحصيل ذلك الفعل من المكلفين. وأما بالنسبة إلى الثاني فقط، فلان اقتضاء العلة الحكم يوقف على وجود الشرائط وانتقاه الموانع فلا يحصل ظن الحكم إلا بعد الشرائط وانتفاء الموانع

بخلاف ما إذا كان كل واحد منهما مصرحا به فإنه لا يحتاج إلى هذا النظر فكان أولى. وأما بالنسبة إليهما، فلان كل واحد من الحكم وعلته مذكور بصراحته في الأول بخلاف الصورتين الباقيتين فكان أولى، وأما إذا كان في أحد. الخبرين الحكم مذكورًا فقط وفى الأخر العلة فقط فالظاهر أن الذى ذكر فيه الحكم أولى أصول العلم بالمقصود وانتفاء وجوب " النظر المذكور فيه وإن كلان الآخر يترجح عليه باقتضاء سرعة الانقياد وسهولة القبول، وما دل على الحكم أو العلة: بجهتين فهو أولى من الذى دل عليه بجهة واحدة، وكذا ما دل على العلة بجهة أقوى من جهة دلالة الأخر عليها. رابعها: الذى دل على الحكم بصيغة الإخبار أولى من الذي ليس كذلك، والذى دل بخطاب المشافهة راجح على الذى ليس كذلك، هذا بالنسبة إلى المخاطبين، وأما بالنسبة إلى غيرهم: فالذي ليس كذلك أولى، لأن خطاب المشافهة مختص بالحاضرين من وجهين: أحدهما: من جهة الاسم. وثانيهما: من جهة خطاب المشافهة وما ليس كذلك يختص بالموجودين من جهة الاسم لا غير فكان أولى. وخامسها: أن يكون أحد الخبرين مما يجوز أن يتطرق إليه النسخ، أو قد اختلف في جواز تطرقه إليه، والآخر مما لا يجوز أن يتطرق إليه فالثاني أولى لقلة تطرق الاحتمالات المزيلة إليه. وسادسها: أن يكون أحد الخبرين عامًا قد عمل به في بعض الصور والآخر

عام لم يعمل به في صورة ما، فالعمل بالثاني أولى، لأنه لو لم يعمل به وعمل بالعام الأول لزم تعطيل هذا العام، ولو عمل بالعام الثاني لم يلزم منه تعطيل العام الأول فكان العمل بالعام الثاني أولى. فإن قلت: العام الذى عمل به قد يغلب على الظن زيادة اعتباره فكان العمل به أولى. قلت: المحافظة على صون الكلام عن التعطيل أولى من المحافظة على العمل بزيادة الاعتبار فكان العمل بالعام الذى لم يعمل به في صورة أولى. وسابعها: أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم الذى وقع النزل فيه والأخر لم يقصد به ذلك ولكن يلزم منه الحكم، فالذي قصد به بيان الحكم أولى. مثاله: قوله عليه السلام:" أيما إهاب دبغ فقد طهر" ولم يفرق فيه بين ما يؤكل لحمه، وبين ما لا يؤكل لحمه، فدلالة عمومه على طهارة جلد ما لا يؤكل لحمه أولى من دلالة نهيه- عليه السلام- عن افتراش جلود السباع على نجاسته، لأنه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة، وليس أيضًا من ضرورة النهى عن الافتراش الحكم بالنجاسة لجواز أن ينهى عنه للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها. ومن هذا النوع قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} في قوله تعالى: {أو ملكت أيمانكم} فإن دلالة الآية الأولى على تحريم

الجمع بينهما في الوطء سواء كان بملك النكاح أو بملك اليمن أولى من دلالة قوله تعالى "إلا ما ملكت أيمانكم" على جواز الجمع في الوطء بملك اليمين، لأن هذه الآية ما سيقت لبيان حكم الجمع. وثامنها: إذا كان أحد الخبرين على وفق الاحتياط أو أقرب إليه دون الآخر فالأول أولى، لأنه أقرب إلى تحصيل المصلحة، ودفع المفسدة وهو قريب من الترجيح بكثرة الأدلة. وتاسعها. إذا كان أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة دون الآخر فالثاني أولى مثاله: (ما روى من أمر الرسول- عليه السلام- الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة) وما روى الصحابة عنه- عليه السلام- (أنه كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لكن من بول أو غائط أو نوم " ولم يذكر فيه القهقهة، فكان هذا أولى، إذ ليس فيه ما يوجب غضًا من منصبهم بخلاف ما ذكر من الحديث، فان فيه تجهيلهم ونسبتهم إلى الضحك في الصلاة مع عدم الاستغراق بها. وعاشرها: إذا تضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر فالأول أولى. مثاله (ما روى أن بريرة اعتقت تحت عبد) وروى أنها (اعتقت تحت حر)

فالراوية الأولى أولى، لأن ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره وليس يعقل في الحر. وحادي عشرها: ما إذا كان أحد الخبرين مقرنًا بتفسير الراوي قولاً كان أو فعلاً دون الأخر، فالمقترن أولى، لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما وثاني عشرها: الخبر الذى تلقته الأمة بالقبول أولى من الذى ليس كذلك. واعلم أن بعض هذه الترجيحات قد تورث ظنا قويا، وبعضها ظنا ضعيفا، فعند التساوي في الكمية ينبغي أن تعتبر الكيفية، فإن تساويا في ذلك أيضا فوجودهما كعدمهما فيطلب ترجيح آخر، وأن اختلفا في ذلك فيجب أن يعمل بالذي يفيد ظنا قويا، وعند الاختلاف فيهما ينبغي أن يقابل ما في أحد الجانبين بالكمية بما في الجانب الأخر من الكيفية فعند ذلك إن حصل ظن من أحد الجانبين أقوى من ظن جانب الأخر عمل به وإلا طلب ترجيح آخر.

الفصل الثالث في ترجيح القياس بحسب علته وفيه مسائل

الفصل الثالث في ترجيح القياس بحسب علته

الفصل الثالث في ترجيح القياس بحسب علته وفيه مسائل: المسألة الأولى في ترجيح القياس بحسب ماهية علته، واعتمد بعضهم في ذلك على أمرين: أحدهما: أن العلة كلما كانت كثر مشابهة للعلة العقلية فهي أولى. وثانيهما: أن كل ما كان متفقًا عليه فهو أولى مما لم يكن كذلك، وكلما كان الاختلاف فيه أقل راجح من الذى ليس كذلك. أما الأول ففيه نظر من جهة أن العلة الشرعية غير مفسرة بالموجب حتى يمكن الترجيح بسبب المشابهة بالعلل العقلية بل هي مفسرة بالمعرَّف، وحينئذ لا يمكن اعتبارها بالعلل العقلية. وأما الثاني فحقٌ أن كل ما كان متفقًا عليه فهو أولى مما كان مختلفًا فيه، لكلن لا نسلم أن كل ما كان الخلاف فيه أقل فهو أولى، وهذا لأن هذا يصدق فيما إذا كان المخالف في المسألة ما دون نصف الأمة وفى المسألة الأخرى نصف الأمة، والترجيح بمثل هذا غير مسلم، وهذا لأنه لا يفيد القطع بالصحة ولا زيادة الظن بها، فإن الخطأ في أكثر هو أكثر بخلاف ما إذا كان متفقًا عليه فإنه يفيد القطع بصحة العلة، فحينئذ تقل المقدمات الظنية في ذلك القياس فيحصل غلبة الظن بصحة القياس فيكون أولى.

وإذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل ونقول. ترجيح العلة يمكن أن يكون بوجوه: أحدها: أن يكون الوصف الحقيقي علة في أحد القياسين دون القياس الآخر، فالذي فيه الوصف الحقيقي علة أولى من سائر الأقسام نحو التعليل بالحكمة، والحكم الشرعي، لأن جواز التعليل به متفق عليه بين القائسين بخلاف سائر الأقسام فإنه فيه مختلف فيه فكان أولى، ولأنه أشبه بالعلل العقلية فكان أولى. وثانيها: التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم، والوصف الإضافي، والحكم الشرعي، والوصف التقديري، لأن العدم لا يكون علة للحكم إلا إذا علم اشتماله على الحكمة فيكون الداعي إلى شرع الحكم في الحقيقة إنما هو الحكمة بخصوصيته، وإذا كانت العلة هي الحكمة لا ذلك العدم لأن التعليل بالحكمة أولى أو مقتضي هذا الدليل أن يكون التعليل بالحكمة أولى، ومقتض هذا الدليل أن يكون التعليل بالحكمة راجحًا على التعليل بالوصف الوجودي الحقيقي، لكن التعليل بالحقيقي راجح عليه من جهة كونه منضبطًا، ولهذا كان متفقا عليه بخلاف التعليل بالحكمة والحاجة فإنه غير منضبط ولهذا كان مختلفا فيه والعدم لا ينضبط بنفسه بل بالإضافة إلى الوجود فهو كالحكمة من هذا الوجه والحكم الشرعي علة بمعنى الأمارة، والتعليل بالعلة بمعنى الحكمة أولى من التعليل بالعلة بمعنى الأمارة لسرعة قبول الطباع وحصول المصالح المترتبة عليه، وأما الإضافي فإن جعلت الإضافيات من الأمور العدمية فالكلام فيه ما تقدم في الوصف العدمي، وإن جعلت الأمور الوجودية فهو

كالحكم الشرعي لأنه ليس فيه معنى مناسب فهو علة بمعنى الأمارة فكان التعليل بالمعنى المناسب أولى. وأما الوصف التقديري فهو الكعدمى لأنه معدوم في الخارج وإنما قدر له وجود لضرورة فما يخرجه ذلك عن كونه عدميا، ولأن التعليل بالحكمة الذى يعبر عنه أيضا التعليل بالمصلحة والحاجة تعليل بنفس المؤثر، والتعليل بالعدم والحكم الشرعي والوصف الإضافي والتقديري ليس كذلك فكان أولى، مقتضى هذا الدليل أن يترجح على الوصف الوجودي لكن ترك العمل به للإجماع فيبقى معمولاً به في غيره، ولأن الحكمة أشبه بالعلل العقلية من الحكم الشرعي والإضافيات والوصف التقديري فكان التعليل بها أولى من هذه الثلاثة. وثالثها: التعليل بالعدم أولى من الإضافيات إن جعلت أمورًا عدمية، لأنه أشبه بالعلل العقلية، ولكونه مناسبا، وأما الإضافي فقلما بكون كدلك، وأما إن جعلت أمورًا وجودية فالكلام فيه كما في الحكم الشرعي وسيأتي. ورابعها: التعليل بالعدم أولى من التعليل بالحكم الشرعي. أما أولاً: فلانه مناسب والحكم الشرعي علة بمعنى الأمارة كما تقدم، ولأنه أشبه بالعلل العقلية. واحتج من قال: أن الحكم الشرعي أولى بأن الحكم الشرعي أشبه بالوجود. ويمكن أن يجاب عنه بمنعه، وهذا لأن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية، ولهذا يجوز تبدلها وتغيرها بحسب الأشخاص والأزمان، والأمور الاعتبارية

أمور عدمية وفي هذا أيضًا نظر من جهة أنه عبارة عن الخطاب المتعلق ولا شك أن الكلام أمر وجودي. وخامسها. التعليل بالعدم أولى من التعليل بالوصف التقديري لأنه عدمي أيضًا ما تقدم، ويزيد عليه بمحذور آخر وهو أنه أعطى حكم الموجود، ولأن الوصف العدمي أشبه بالعلل العقلية من الوصف التقديري فكان أولى. وسادسها. التعليل بالوصف الإضافي أولى من الحكم الشرعي إن جعل وجوديًا لأنهما يشتركان في كونهما علتين بمعنى الأمارة. وزاد عليه الإضافي بكونه وجوديًا، وفيه نظر وهو ما تقدم فإن جعل الشرعي أيضا أمراً وجوديا فهما حينئذ سواء بل ربما يكون الحكم الشرعي أولى للكثرة. وسابعها: التعليل بالحكم الشرعي أولى من الوصف التقديري للكثرة وللوجود إن جعل وجوديًا، ولقلة المحذور أن جعل عدميا، ومق هذا يعرف أن الوصف الإضافي أولى منه وإن جعل عدميًا. وثامنها: تعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من الأقسام الثلاثة لأن العلية والمعلولية وصفان وجوديان، فحملها على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم موجودًا وهو خلاف الأصل. وتعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي أولى من القسمين الباقيين للمشابهة

هكذا ذكره الإمام موجودًا وهو خلاف الأصل، وفيه نظر؛ لأن مخالفة الأصل فيه أكثر من القسمين الباقيين فكان يجب أن يكون مرجوحًا بالنسبة إليهما، لكن لعل هذا لزيادة المشابهة والمناسبة وإلا فمخالفة الأصل فيه أكثر لكن زيادة المناسبة والمشابهة لا تقاوم مخالفة الأصل فضلاً عن أن تترجح عليه، ولان العلية والمعلولية صفتان وجوديتان على ما ذكر فيستحيل قيامهما بالمعدومين، فإن لم يقتض ذلك عدم جواز هذا القسم فلا أقل من أن يقضى المرجوحية. وتعليل العدمي بالوجودي أولى من عكسه؛ لأن المحذور في عكسه أشد لحصوله في أشرف الجهتين وهو العلية، ولأن الناس اختلفوا في أن الإعدام هل يجوز أن يكون أثرًا أم لا؟ ولم يختلف أحد من العقلاء في أن العدم لا يجوز أن يكون مؤثرًا في الوجود، ولان كونه مؤثرًا ينافى كونه معدوما، وكونه أثرًا لا ينافى كونه معدوما فظهر أن المحذور في عكسه أشد. وتاسعها: التعليل بالعلة المفردة أولى من، التعليل بالعلة المركبة. أما أولاً: فلكونه متفقا عليه بين القائسين والثاني مختلف فيه. وأما ثانيًا: فلان احتمال وجوده أكثر ضرورة أنه لا يتوقف على ما يتوقف عليه المركبة من وجود أجزائها. وأما ثالثًا: فلان احتمال عدمه أقل من المركبة ضرورة أن المركبة من هذين الذى هو أول درجات التركيب ينعدم باحتمالات ثلاثة، والمفرد لا ينعدم إلا باحتمال واحد فكان التعليل بالمفردة أولى.

المسألة الثانية في ترجيح القياس بحسب الدليل الدال على وجود علته

وأما رابعاً: فلأنه أقرب إلى الضبط. وعاشرها: العلة بمعنى الباعث أولى من العلة بمعنى الأمارة لكونه متفقًا عليه، ولأن قبول الطباع لها أكثر، ولان فعل حكمه أسهل وأيسر. المسألة الثانية في ترجيح القياس بحسب الدليل الدال على وجود علته واعلم أن العلة التي علم وجودها مقدمة على ما ظن وجودها سواء كان العلم بوجودها بديهيا أو ضروريا، أو نظريًا، عقليًا كان، أو نقليًا أو مركبا منهما، وسواء قلت المقدمات أو كثرت، وهذا ظاهر لا شك فيه، وليس هو من قبيل ما نحن فيه من الترجيحات، وإنما الغرض أن ما علم وجوده بطريق من هذه الطرق هل يترجح على ما علم وجوده بطريق آخر من هذه الطرق آم لا؟ مثلاً: ما علم وجوده بطريق البداهة، أو الحس، هل يترجح على ما علم وجوده بالنظر والاستدلال أم لا؟ فذهب بعضهم وهم الأكثرون إلى أنه لا يجري الترجيح بين العلتين المعلومتين، سواء كانت إحداهما معلومة بالبديهة والأخرى بالنظر والاستدلال، وهذا على قياس ما سبق في النص فإنا قد ذكرنا أنه لا يجرى الترجيح بين المعلومات بناء على أنه لا يقبل احتمال النقيض فلا يقبل التقوية. وكلام أبى الحسين يدل على أن العلة المعلومة تقبل الترجيح، ولا شك في جريان ذلك في النص وإلا فلا فرق فعلى هذا لا شك أن البديهيات والحسيات راجحة على النظريات.

وأما أن البديهيات تترجح على الحسيات، أو الحسيات تترجح على البديهيات فهذا في محل النظر، ولا شك أن عند هذا القائل تترجح بعض البديهيات على البعض، وكذا الضروريات. والضابط: أن كل ما كان أجلى وأظهر عند العقل فهو راجح على ما ليس كذلك، وكذا النظريات يترجح بعضها على البعض عند هذا القائل، فإن كل ما كانت مقدماته أجلى وأقل كان راجحًا على ما ليس كذلك، فإن اختلفا في الجلاء والقلة فالاعتبار بما يفيد سكون النفس إليه إذ لا يمكن اعتبار الزيادة إذ لا زيادة بعد القطع بعدم احتمال النقيض. واحتج من قال بالترجيح: بأن الضروري والبديهي لا يقبل الشك والشبهة، والنظري يقبلهما فكان البديهي أولى. أجاب الإمام عنه: بأن النظري واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له كما أن البديهي واجب الحصول تصور طرفيه. وكما أن النظري يزول عند زوال أحد الأمور التي لا بد فيه في حصول مجموع مقدماته المنتجة له فكذلك الضروري يزول عند زوال [أحد] التصورات التي لا بد منها. فإذن لا فرق في وجوب الجزم عند حصول موجباته بين البابين، بل الفرق: أن النظري يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضروري، فلا جرم كان زوال النظري أكثر من زوال البديهي. فأما في وجوب وامتناع العدم عند حصول كل ما لا بد منه فلا فرق بين البديهي والنظري البتة. وفيه نظر، لأن النظري وإن كان واجب الحصول عند حضور موجباته،

لكن تلك الموجبات أمور كثيرة من التصورات والتصديقات فالذي يمتاز به النظري عن البديهي أنه كما يتوقف على التصورات يتوقف على التصديقات أيضا بخلاف البديهي فإنه غير متوقف على التصديقات، وكل واحد من تلك التصديقات إن لم يكن بديهية تقبل الشك والشبهة والطريق الذي يؤدي إلى المطلوب قد يفيد ذلك أيضًا إذ قد يكون ذلك الطريق غير ضروري التأدية وإذا كان كذلك كان النظري متوقفا على أمور كثيرة، والضروري على أمور قليلة وما يتوقف على الأقل أولى مما يتوقف على الأكثر. فإن قلت: ما يتوقف على الأقل إنما يترجح على ما يتوقف على الأكثر إذا كان كل واحد من المتوقف عليه أو بعضها ظنيًا؛ وهذا لأنه معلل بما أن احتمال تطرق العدم إلى ما يتوقف على الأكثر أكثر، ومعلوم أن ذلك لا يتأتى إلا إذا كان كل واحد من المتوقف عليه أو بعضها ظنيا، فأما إذا كان واحد منه يقينيا كما في النظريات اليقينية فلا نسلم ذلك. قلت: ليس اليقين فيما لا يقبل الشك والشبهة كاليقين فيما يقبلهما، فإن الإنسان يجد من نفسه تفرقة بين علمه بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أعظم من الجزء، وبين علمه بثبوت الجوهر الفرد والخلاء وغيرهما من المسائل النظرية اليقينية مع أن كل واحد منها يقيني على اعتقاده. لا يقال: إنه وإن اعتقد ذلك في نفسه، لكنه ليس كذلك في نفس الأمر. قلت: فجاز مثله في كل نظري فلم يحصل الجزم بشيء منها، وأما إذا

كان الدليل الدال على وجود العلة ظنيا فقد قيل: كلما كانت المقدمات المنتجة له أقل فهو أولى. وهو غير مرضى على إطلاقه؛ لأنه قد تكون المقدمات المنتجة له أقل وهو مرجوح بالنسبة إلى ما تكون مقدماته كثر لكون كل واحد من تلك المقدمات مظنونًا ظنًا قويًا، وأما المقدمات القليلة فتكون مظنونة ظنًا ضعيفًا بل الأقل إنما يرجح إذا ساوى أكثر في كيفية الظن أو وإن نقص عنه في الكيفية لكن نقصانًا لا يعدله ما في الجانب الأخر من الكمية فظهر أن هذا الكلام على إطلاقه غير مرضى بل المعتبر في ذلك: أن كل ما يفيد ظنًا راجح من الذى يفيده الآخر فهو أولى ويختلف ذلك بقلة المقدمات وكثرتها وضعفها وقوتها. إذا عرفت فنقول: الدليل الظني الذى يدل على وجود العلة إما أن يكون نصا، أو إجماعا، أو قياسا، أما القياس فالكلام فيه كما في الأول، ولا يتسلسل، بل ينتهى إلى النص أو الإجماع. أما النص فالكلام في ترجيحه قد سبق. وأما الإجماع فإن كانا قطعيين قال الإمام: لم يقبل الترجيح بناء على أن القطعيات لم تقبل الترجيح وهو غير مرضى، لأنه يستحيل حصوله التعارض بين الإجماعين القطعين لاقتضاء ذلك أن يكون أحدهما خطا وباطلاً وهو غير جائز على الإجماع بخلاف النص فإنه يحتمل أن يكون أحدهما منسوخا والآخر ناسخا، وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا لم يقبل الترجيح أيضًا، لأن تقديم المعلوم على المظنون ليس من باب الترجيح الذى نحن فيه وهو الترجيح المظنون، وأما إذا كانا ظنيين فهما في محل الترجيح وقد سبق الكلام في ترجيح الإجماعات الظنية فلا حاجة إلى الإعادة وما لم نذكره منه فيعلم مما ذكر فعلى هذا إذا عارض الخصم قياس المستدل بقياس آخر وكان وجود

المسألة الثالثة في ترجيح القياس بسبب الدليل الدال على علية الوصف في الأصل

[الأمر]، الذي جعل علة الحكم في الأصل في أحد القياسين معلوما وفى الآخر مظنونا كان الأول أولى لما ثبت أن القياس الذى بعض مقدماته معلوم راجح على ما يكون كل مقدماته مظنونًا. المسألة الثالثة في ترجيح القياس بسبب الدليل الدال على علية الوصف في الأصل وهو من وجوه: أحدها: ما نص على عليته كقوله: علة الحكم هذا، أو ثبت الحكم لعلة هذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا فهو مقدم على كل ما عداه من الطرق الدالة على علية الوصف عقليًا كان أو نقليًا، لأنه نص في الباب لا يحتمل النقيض فكان أولى. وثانيها: ما نص على علته بألفاظ ظاهرة في إفادة العلية، كاللام، وإن، والباء، فهو مقدم على غيره من الطرق العقلية "والنقلية سوى. طريقة النص لأنه ظاهر جدًا في العلية، ثم اللام منها مقدم على الباء، لأن؛ لأنه أظهر منهما في التعليل؛ لأن الباء قد تكون للإلصاق وقد تفيد كونه محكومًا به كقولك: أنا أقضى بالظاهر، وغير ذلك من المحامل التي تقدم ذكرها في اللغات، وإن للتأكيد وهي قليلة الاستعمال في التعليل بخلاف اللام فإنها كثيرة الاستعمال في التعليل قليلة المحامل في غير التعليل فكان أولى منهما، ثم الباء مقدم على إن، لكونها كثر استعمالا في التعليل من إن للاستقراء

وثالثها: الأظهر أن الإيماءات راجحة على الطرق العقلية عند من لا يشترط المناسبة في الوصف المومى إليه، وأما من يشترط ذلك فالذي يليق بمذهبه أنه يرجح بعض الطرق العقلية عليها كالمناسبة لأنها تستقل بإثبات العلية بخلاف الإيماء، فإنه لا يستقل بذلك بدونها فكانت أولى. ونقل الإمام اتفاق الجمهور على أن ما ظهرت عليته بالإيماء، راجح على ما ظهرت عليته بالطرق العقلية مطلقًا من غير فصل، ثم قال: وفى هذا نظر، ذلك لأن الإيماء [لما]، لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية فلابد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ، ولما بحثنا ولم نجد شيئا يدل على عليته إلا أحد أمور ثلاثة: المناسبة، والدوران، والسبر على ما مر شرح ذلك في باب الإيماءات. وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة كانت هي الأصل، والأصل لا محالة أقوى من الفرع، فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات. وهو ضعيف من وجهين: أحدهما: أن ما ذكره هو من الدليل وهو استقباح أهل العرف قول القائل: كرم الجاهل، وأهن العالم على أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية دليل آخر غير هذه الثلاثة فلم يلزم افتقار دلالة الإيماءات إلى الطرق الثلاثة لا محالة فلا يلزم كون الطرق العقلية أصلاً لها فلا يلزم رجحان الطرق العقلية عليها. وثانيهما: أنه اختار أنه لا يشترط في الوصف المومى إليه المناسبة ولا في

غيره من وجوه الإيماءات ولم يشترط فيه الدوران والسبر وفاقا، فجاز أن توجد عليته بدون هذه الطرق الثلاثة فلم يستقم قوله: لم نجد شيئا يدل على عليته سوى أحد الثلاثة المذكورة. رابعها: أن فرعنا على عدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه فلا شك أن الوصف المومى إليه إذا كلان مناسبا فهو راجح على ما لا يكون مناسبا للانتقال عليه، ولإجماع الطريقتين المستقلتين فيه. وخامسها: إيماء الدلالة اليقينية راجحة على إيماء الدلالة الظنية، لما سبق أن الدليل الذى بعض مقدماته يقيني، والبعض ظني راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيا، وأما إذا ثبت علية الوصفين بإيماء الدليلين الظنين فأي ما كلان منهما راجحا على الأخر راجح على إيماء الآخر وقد عرفت ذلك فيما سبق من الكلام في ترجيح النصوص الظنية. وسادسها: الإيماء الذى يلزم من ترك العمل به العبث والحشو في الكلام أولى من غيره نحو ما رتب فيه الحكم على الوصف بغاء التعقيب، لأنه يلزم منه العبث والإلغاء في كلام الشارع وهو أشد محذورًا من غيره، وبالجملة الكلام في ترجيح وجوه الإيماءات باسرها بعضها على بعض يطول، لأنها أقسام عديدة تندرج تحت كل واحد منها أقسام كثيرة، وقد سبق الكلام في بعض أقسامها في فصل الإيماء وهنا فلا يخفى الكلام في الباقي منها بعد الإحاطة بما سبق. وسابعها: ما دل على عليته المناسبة فهو أولى من الذى دل على عليته الدوران.

وقال قوم: ما دل على عليته الدوران فهو أولى، وعبروا عنه: بان العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك. لنا وجهان: أحدهما: أن المناسبة علة لعلية العلة، فتأثير العلة في الحكم لمناسبتها وليس الدوران كذلك. أما أولاً: فلان الدوران أمارة العلية لا نفس ما به العلية. وأما ثانيًا: فلان الدوران ليس من لوارم العلية، لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت العلة منفكة عن الدوران العدمي وإن كانت غير منفكة عن الدوران الوجودي، وإذا كانت موجودة مع المانع كانت منفكة عن الدورانين أعنى الدوران الوجودي والعدمي وكذلك الدوران ينفك عن العلة وذلك في فصل الدوران، وإذا كان كذلك الاستدلال بالمناسبة على العلية أولى. وثانيهما: أن الظن الحاصل بعلية الوصف من المناسبة كثر من الدوران. للاستقراء فوجب أن يجب العمل بالمناسب لما سبق غير مرة ولا نعنى برجحانه سوى هذا. واحتج الخصم بوجوه: أحدها: [أن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فتكون أولى. وجوابه]: أنا لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية، وهذا لأن الاختلاف بين المختلفات، والتضاد بين المتضادات معللة بماهية كل واحد

من المختلفين والمتضادين وهو أمر وجودي وحينئذ يكون العكس غير واجب. سلمناه لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى، وهذا لأن العقلية موجبة، والشرعية معرفة أو داعية، وعلى التقديرين بينهما فرق في المعنى فلم يمكن اعتبار الشرعية بالعقلية. سلمنا أن المطردة والمنعكسة أولى لكن متى إذا كانت مع ذلك مناسبة أم مطلقا سواء كانت مناسبة أو لا تكون مناسبة؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ وهذا لأن الطرد غير معتبر، والعكس غير واجب في العلل الشرعية، مقتضى هذا أن لا يكون الدوران حجة ترك العمل به في الدوران الخالي عن المعارض المتناسب فيبقى معمولاً به عنده. وثانيها: أن علل الشرع مُعَرِّفات، والطرد والعكس أدخل في التعريف من المناسبة، ضرورة أنه يعوف من جهتي الوجود والعدم فكان أولى. وجوابه: منعه، وهذا لأن المناسبة والحكمة وحدها وإن كانت غير منضبطة في نفسها لكن إذا تضمنها الوصف صارت منضبطة به فيكون معرفا مضبوطا، وهو أيضا يعوف من الجهتين، لأنه لما دل الدليل على أنه لا يجوز التعليل بالطردي دل انتفاء المناسبة على العدم فحينئذ يمتنع أن يكون الدوران أدخل في التعريف منها. سلمناه لكنه معارض بما في المناسبة من الفوائد نحو سرعة قبول الطباع، فإن الأحكام المعللة بالمناسبة والحكمة أقرب إلى الطبع من الأحكام التعبدية وإذعان المكلفين لها، وكون فعلهما غير ثقيل على فاعليه. وثالثها: أنهم أجمعوا على صحة المطرد والمنعكس، ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة فكان المتفق عليه أولى.

وجوابه: أن المناسب أيضا متفق عليه بين القائسين، وما ذكرتم يقتضى رجحان المناسب المطرد والمنعكس على المناسب المطرد غير المنعكس، أو رجحان المطرد المنعكس غير المناسب على المطرد الذى لا يكون مناسبا ولا منعكسا، ولا يقتضى رجحان المطرد المنعكس الغير مناسب على المناسب المطرد الغير المنعكس. وثامنها: المناسبة أقوى من التأثير؟ لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا الوصف في نوع الحكم أو في جنسه، وكون الشيء مؤثرًا في شيء لا يوجب كونه مؤثرًا فيما يشاركه في جنسه أو في فرعه بخلاف كون الوصف مناسبًا فإنه يؤثر بمناسبته لا لشيء آخر فكان أولى. ولأن المناسبة لا تفتقر إلى كونه مؤثرًا؛ لأنه يجوز أن يكون الوصف مناسبًا أو علة من غير أن يكون مؤثرًا وكونه مؤثرًا يفتقر إلى المناسبة فكانت كنية عنه فكانت أولى. وتاسعها: إذا كان طريق علية أحد الوصفين المناسبة وطريق علية الوصف الآخر السبر والتقسيم، فما كان طريق عليته المناسبة أولى خلافا لقوم، وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع به فإن العمل به متعين، وليس هو من قبيل الترجيح لما عرفت أن تقديم المقطوع به على المظنون ليس من قبيل الترجيح المظنون، بل في السبر المظنون الذى كل مقدماته ظني، فأما الذى يكون بعض مقدماته ظنيا والبعض قطعيا فذلك يختلف باختلاف القطع والظن، فإن كان الظن الحاصل من السبر الذى بعض مقدماته قطعيا كثر من الظن الحاصل من لمناسبة فهو أولى [وإلا فهما متساويان أو المناسبة أولى].

احتج الأولون بوجوه: أحدها: السبر والتقسيم يفتقر إلى ثلاث مقدمات، لأنه لا يتم إلا إذا دل دليل على أن الحكم في الأصل معلل، وأن العلة إما هذا الوصف أو ذاك، وإنه ليس ذاك فيتعين/ (285/ 1) هذا فهذه ثلاث مقدمات لابد للسبر منها، فالذي يدل على هذه الثلاثة ليس نصا قاطعا صريح الدلالة وإلا لكانت المقدمات قطعية وليس كلامنا في السبر الذى مقدماته قطعية بل إما نص ظني، أو إيماء، أو طرق عقلية من المناسبة أو الدوران أو غيرهما [فإن كانت طرقا عقلية فإما أن تكون تلك الطرق المناسبة أو غيرها فإن كانت هي المناسبة أو غيرها] فإن كانت هي المناسبة فهي أولى من السبر. أما أولاً: فلافتقار السبر إليها حينئذ واستغنائها عنه. وأما ثانيا. فلأن المناسبة وحدها كافية في إثبات الحكم في صورة إثبات الحكم بالمناسبة وهى غير كافية وحدها في صورة إثبات الحكم بالسبر فكانت المناسبة أولى. وأما إن كانت تلك الطرق غيرها فالمناسبة أيضا أولى. لأنها أولى من سائر الطرق العقلية مع أنها [وحدها]، كافية في إثبات الحكم. وإن كان دليل تلك المقدمات الإيماء فإن شرط في الوصف المومي إليه المناسبة فالمناسبة أولى لما تقدم، وإن لم يشترط فكذلك لقلة المقدمات في المناسبة وكثرتها في السبر، فإن مع تلك المقدمات الثلاث يحتاج إلى مقدمات الإيماء الذى يدل على تلك المقدمات الثلاث ومجموعها يزيد على مقدمات المناسبة فكانت المناسبة الأولى.

ومن هذا يعرف أيضا رجحان المناسبة على السبر إذا كان دليل مقدماته نصا ظنيا، لأن دلالته عليها تتوقف على مقدمات آخر نحو بيان صحة متنه، وكيفية دلالته، وعدم سائر الاحتمالات التي تقدح في الدلالة اللفظية تحو عدم التخصيص، والمجاز، والنسخ، فتكثر مقدمات السبر؛ ولهذا رجحنا دلالة القياس على دلالة عموم اللفظ حتى جوزنا تخصيصه به وإن كان متنه قاطعا، وإذا كان كذلك كانت المناسبة أولى. وثانيها: القياس على تقديم دلالة القياس على دلالة عموم النص وإن كان متنه قاطعا بل بالطريق الأولى فإنه إذا قدم القياس على عموم دلالة النص وإن كان متنه قاطعا مع أن مقدمات النص أقل من مقدمات القياس فلأن تقدم المناسبة التي مقدماتها أقل على السبر الذى مقدماته أثر بالطريق الأولى. وثالثها: أن الاستدلال بالمناسبة على العلة استدلال بالوصف اللازم على الملزوم، لأن العلة لابد وأن تكون مناسبة، أو شبيهة، والاستدلال بالسبر ليس كذلك فكان الأول أولى. واحتج الخصم: بأن المناسبة إنما تفيد ظن العلية وليس فيها دلالة على المعارض بخلاف السبر والتقسيم فإنه يفيد ظن علية الوصف ونفى معارضه، ولا شك أن ثبوت الحكم بالمناسبة في الفرع كما يتوقف على وجود معنى مقتضى له في الأصل يتوقف على نفى ما يعارضه فيه فكان السبر أولى لتكلفه ببيان الأمرين جميعا. وجوابه: أنا نمنع أنه ليس في صورة التعليل بالمناسبة دلالة على نفى المعارض؛ وهذا لان المناسبة لما دلت على علية الوصف المناسب المعن وثبت أن التعليل بعلتين مستنبطتين غير جائز لزم منه عدم جواز التعليل بغير ذلك

الوصف فمجموع هذين الأمرين يدل على ذلك. سلمنا أنه ليس فيها دلالة على نفى المعارض من هذا الوجه لكن ظن نفى المعارض حاصل باستصحاب العدم الأصلي في صورة التعليل [بالمناسبة في الفرع]، ففي صورة التعليل بالمناسبة يحصل ظن علية الوصف، ويحصل ظن عدم المعارض مع فوائد التعليل بالمناسبة التي تقدم ذكرها غاية ما في الباب أنه لا يحصل ظن عدم المعارض من نفس المناسبة بل بدليل آخر ملازم لها، ربئ صورة السبر التقسيم لا تحصل تلك الفوائد لكن يحصل ظنه نفى المعارض من نفس الدليل، ومن المعلوم أنه ليس في ذلك ما يعارض تلك الفوائد فكان الإثبات بالمناسبة أولى. سلمنا أنه ليس في صورة التعليل بالمناسبة دلالة على نفس المعارض لا من نفس المناسبة ولا من غيرها لكن هذه الفائدة معارضة بفوائد التعليل بالمناسبة فلم قلتم أن تلك الفائدة راجحة على هذه الفوائد وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون ثم إنه معناة لأن تلك الفوائد متعددة وهذه فائدة واحدة والواحدة لا تعارض المتعددة إلا إذا كانت تلك تزيد/ (286/ أ) على مجموعها وهو خلاف الظاهر فمن ادعى ذلك فعليه بيانه على أنا نقول: المحذور في ترك المناسبة أشد من المحذور في ترك السبر؛ لأن في الأول ترك المناسبة التي هي شرط العلية بعد ظهورها بطريق تفصيلي وفى الثاني تركها بعد ظن وجودها بدليل غير تفصيلي، ومعلوم أن ذلك أشد محذروًا من هذا فكان إعمال المناسبة أولى، واذا ظهر رجحان المناسبة بالنسبة إلى الدوران والمؤثر والسبر والتقسيم كان رجحانه بالنسبة إلى الطرق الباقية نحو الشبه والطرد أظهر، ثم المناسبات مع اشتراكها في الرجحان على غيرها تختلف مراتبها ويترجح بعضها على

بعض فلنتكلم في أقسامها فنقول: المناسبة التي في محل الضرورة راجحة على التي في محل الحاجة والزينة والتتمة، والتي من كمالات المصالح الضرورية راجحة على التي من أصول الحاجات هي وإن كانت تابعة والتي من أصول الحاجات أصلية مستقلة كنها ملحقة بأصلها التي في محل الضرورة ولهذا أعطيت حكمها، إلا ترى أنه يجب من الحد بشرب جرعة من الخمر ما يجب بشرب ما يسكر منها، وكذا ما يكون من كمالات الحاجة راجحة على التي في محل التتمة والزينة. ثم التي في محل الضرورة كحفظ الدين راجحة على غيرها من المصالح الضرورية كحفظ النفس والعقل؛ لأن مقصوده وثمرته نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين، ومعلوم أن شيئا من بقية الضروريات لا يجدى هذا النفع، ولأن سائر المقاصد والمطالب كحفظ النفس والعقل والنسب مقصودة من أجله على ما قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون}. لا يقال: المناسبة التي في محل الضرورة كحفظ النفس أولى، لأن ذلك حق الآدمي، وحفظ الدين حق الله تعالى، وحق الآدمي مقدم على حق الله تعالى، لأنه مبنى على الشح والمضايقة، وحق الله تعالى مبنى على المسامحة والمساهلة، ولأن التحامل على جانب الغنى الكريم المستغنى عن كل شيء أولى من التحامل على جانب الفقير اللئيم المحتاج إلى كل شيء؛ ولهذا كان حق الآدمي مقدما على حق الله تعالى لما ازدحم الحقان في محل واحد وتعذر استيفاؤهما منه كما في الزكاة على الأظهر وكما إذا ارتد وقتل عمداً عدوانًا

فإنه يقتل قصاصا لا على ارتداد، بل لو أمكن الاستيفاء لكن مع مشقة فإنه أيضا يقدم جانبه كما في حق المسافر فإنه أسقط عنه ركعتان [وتحتم الصوم]، وتحتم الوضوء وغيرها من رخص السفر مراعاة لحقه ومحافظة لتخصيص مصلحته من غير مشقة، وكذا في حق المريض فإنه لان أمكنه الصلاة قائما والصوم لكن مع نوع من المشقة الشديدة المذهلة عن سنن الصوم والصلاة، فإنه يجوز له الإفطار والصلاة قاعدًا، وبالجملة فمراعاة جانب العبد عند الازدحام وعند المشقة معلومة من استقراء الشرائع. لأنا نقول: ما ذكرتم كله يدل على أن فروع الدين كلها مبنية على المساهلة والمسامحة ولا نهل فيه، ولا يدل ذلك على أن أصله كذلك بل كل ذلك إنما شرع كذلك لبقاء أصل الدين وحفظه فإنه لو بنيت على الشح والمضايقة ربما أفضى ذلك إلى عدم قبول أصل الدين، أو إلى الخروج عنه لعظم المشقة وعدم الطاقة بتكاليفه. ثم كيف يقاس أصل الدين بفروعه مع اشتداد الشارع في أصله دون فروعه فإنه أباح الدماء والأموال، وجوز أسر الأولاد والأهل، وسوغ كل عقوبة ونكال في مفارقة أصله وعدم قبوله، ولم يرتب شيئا من ذلك على فروعه إلا القتل على ترك الصلاة على مذهب الشافعي - رضى الله عنه- على خلاف الأصل، ولهذا اضطربت الأقوال في أنه متى يقتل أبترك صلاة واحدة، أو بصلاتين، أو أكثر من ذلك؟ وعلى الأقوال كلها يشترط أن يستمر على امتناع قضائها، ثم أنا لا نسلم أن تقديم ما يوجب حفظ الدين إنما هو لكونه حقا لته تعالى فقط بل هو مراعاة لجانب العبد فإنه بفواته تفوته السعادة الأبدية والعصمة/ (287/ أ) الدنياوية، والله سبحانه وتعالى لا يضره

كفر ولا كفران ولا يسره شكر ولا إيمان، بل هما بالنسبة إليه سيان، وإنما هو لمصلحة العبد، وليس فروع الإسلام كذلك، فإنه وإن فاته بفواتها الثواب العظيم والأجر الجسيم، لكن لا يحصل له العقاب الدائم والخزي الأبدي فلا تساوى بل لا تقارب مفسدة فواتها بمفسدة فوات أصل الدين فكان حفظه عليه أولى وأنفع من حفظ نفسه عليه. ثم التي في محل الضرورة لحفظ النفس أولى من الثلاثة الباقية وهو ظاهر غنى عن البيان، ثم التي في محل الضرورة لحفظ الأنساب، ثم التي في محل الضرورة لحفظ العقل، ثم التي في محل الضرورة لحفظ المال، ولا يخفى عليك تعليل هذه الأحكام بعد الإحاطة بما سلف في باب المناسبة في تعليل هذه الضرورات، ثم الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبا لنوع الحكم، وقد يكون مناسبا لجنسه، وقد يكون جنسه مناسبا لنوع الحكم، وقد يكون مناسبا لجنسه، ولا يخفى أن القسم الأول مقدم على الثلاثة الباقية، وأن القسم الرابع مؤخر عن الثلاثة الأول، وإنما الكلام في القسمين المتوسطين. فقال الإمام: هما كالمتعارضين. والأظهر: أن ما يكون نوع الوصف مناسبا لجنس ألحكم فهو أولى من العكس لحصول الخصوصية، وقلة الإبهام في أشرف الجهتين وهى العلية دون عكسه، ثم الأجناس والأنواع تختلف مراتبها فكل ما كان أقرب إلى الخصوصية وقلة الإبهام فهو أولى من الذى ليس كذلك، ثم كل واحد من

هذه الأقسام ما تكون مناسبته جلية، ومنه ما تكون خفية، ولا شك أن الجلية أولى من الخفية، وقد عرفت فيما سبق ما معنى الجلية وما معنى الخفية. وأما المناسبات التي تقع في محل الحاجة، فكل ما كان مسيس الحاجة إليه أكثر فهو أولى من الذى ليس كذلك، وكذا ما يقع في محل الزينة والتتمة فكل ما كان مقصود الباب فيه أكثر وأتم فهو أولى، هذا كله في ترجيح المناسبات بعضها على بعض بحسب ذواتها وماهياتها. وقد ترجح بأمور خارجية عنها: نحو أن المناسبة المتأيدة بغيرها من الطرق نحو الإيماء والدوران والسبر والمؤثر راجحة على ما لا تكون كذلك وهو راجع إلى الترجيح بمثرة الأدلة، وكالمناسبة الخالية عن المعارض راجحة على التي ليست كذلك إن قلنا المناسبة لا تبطل بالمعارضة، وكالمناسبة التي تناسب الحكم من جهتين راجحة على التي ليست كذلك بل تناسبه من جهة واحدة فعلى هذا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح، وكالمناسبة الغير المتخصصة راجحة على المتخصصة وكل ما كان التخصيص أقل كان أولى. وعاشرها. إذا كأن طريق إحدى العلتين السبر، والأخرى الدوران، فما كان طريقه السبر أولى، لإفادته تعين العلة ونفى المعارض وهو راجح على بقية الطرق، والظاهر أن الدوران راجح على المؤثر والشبه، ولا شك في رجحانه على الطرد وفى المؤثر والشبه نظر وهما راجحان على الطرد قطعًا. وحادي عشرها: أن يكون نفى الفارق بين الأصل والفرع مقطوعا به في إحدى القياسين، وفى الآخر مظنونا، فما قطع فيه بنفي الفارق فهو أولى لكونه قياسًا إحدى مقدماته قطعية.

وثاني عشرها: إذا كان طريق علة أحد القياسين إجماعا، والآخر، النص، أو الإيماء، أو غيرهما فما طريق علته الإجماع فهو أولى، لكون الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ والنص محتمل لذلك. وثالث عشرها: إذا كان طريق علة أحد القياسين الدوران الحاصل في صورة واحدة، وطريق علة الآخر الدرزان الحاصل في صورتن فالأول أولى، لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورتين، ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان الظن أقوى. أما الأول: فلأنا نقطع فيه بعدم علته ما عدا ذلك الوصف الذى وجد الحكم عند وجوده، والعدم عند عدمه وإلا لزم وجود/ (288/ أ) العلة بدون الحكم وليس كذلك في الصورتين، إذ لا يمكن القطع بذلك، ألا ترى أن الحنفي إذا قال في مسالة الحلى [كونه]، ذهبا موجب للزكاة، لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه، وثياب البذلة والمهنة وعبيد الخدمة لما لم يكن ذهبا لم تجب فيها الزكاة لم يمكن القطع بان ما عدا كونه ذهبا [ليس علة لوجوب الزكاة لاحتمال أن يكون للتركيب من كونه ذهبا]، وكونه مُعَدًا للنماء بإعداد الله تعالى غير مصروف عنه إلى جهة الاستعمال علة لوجوب الزكاة ولا شك أنه غير كونه ذهبا، وأما الثاني فظاهر. ورابع عشرها: الدوران المعتضد بالمناسبة أو المؤثرية أو الشبه راجح على ما ليس كذلك وهو ظاهر.

المسألة الرابعة في ترجيح القياس بسبب وصف العلة

وخامس عشرها: الدوران الوجودي والعدمي المسمى بالطرد والعكس راجح على الدوران [الوجودي فقط وهو المسمى بالطرد وعلى الدوران] العدمي فقط وهو المسمى بالعكس، والدوران الوجودي راجح على العدمي لأن العكس غير معتبر ولو اعتبر كان اعتبار الطرد أولى لأنه متفق عليه. وسادس عشرها: الشبه في الحكم الشرعي والصورة راجح على الشبه بأحدهما، أما إذا كان أحد القياسين باعتبار المشابهة في الحكم، والآخر باعتبار المشابهة في الصورة فإيهما أولى وأرجح؟ اختلفوا فيه: فبعضهم رجح الثاني وهو الشبه في الصورة؛ لأنها أشبه بالعلل العقلية. وبعضهم رجح الأول؛ لأن اعتبار الحكم الشرعي بالحكم الشرعي أولى. والحق أن ما غلب على الظن أنه مناط ذلك الحكم فالإلحاق به أولى. المسألة الرابعة في ترجيح القياس بسبب وصف العلة وهو من وجوه: أحدها: العلة المطردة أولى من المتخصصة؛ لأنها متفق عليها، ولأن العام الغير المخصوص لما كان أولى من المخصوص كانت العلة العامة التي هي مجرأة على العموم والاطراد أولى من المتخصصة بالطريق الاولى. ثم المتخصصة لمانع أو لفقد شرط أولى من التي لا يعقل في تخصصها ذلك والمتخصصة على سبيل الاستثناء أولى من التي ليست كذلك. وثانيها: العلة المتعدية أولى من العلة الغير المتعدية، والمتعدية إلى الأكثر

أولى من المتعدية إلى الأقل. وثالثها: العلة الغير المنكسرة أولى من المنكسرة وتعليلهما مما سبق من أنه متفق عليهما. ورابعها: العلة المطردة والمنعكسة أولى من غير المنعكسة لما سبق. وخامسها: المطردة فقط أولى من المنعكسة فقط؛ لأن اعتبار الاطراد متفق عليه بخلاف الانعكاس فإن اعتباره مختلف فيه. وسادسها: العلة التي وجدت مع الحكم أولى من التي وجدت قبل الحكم ثم وجد الحكم بعدها ومن التي وجدت بعد الحكم؛ لأنه متفق عليها والباقيتان ليستا كذلك، وأما أن آية واحدة من هاتين الاثنتين أولى وأرجح فهو في محل النظر. فيحتمل أن يقال: إن الأولى أولى؛ لأن غاية ما يلزم منه إنما هو تخصيص العلة والخلاف في تخصيص العلة مشهور. وأما الثاني فالخلاف فيه غير مشهور فإن المشهور إنما هو عدم جواز ذلك. ويحتمل أن يقال: إن الثانية أولى؛ لأن الأصح أن العلة مفسرة بمعنى المُعرَّف وتأخر المعرِّف عن المعرَّف غير ممتنع ولا بعيد. وسابعها: إذا كانت إحدى العلتين متضمنة للحكمة لم توجد بدونها، والأخرى مظنة لها قد توجد بدونها فالأولى أولى. وثامنها: ضابط الحكمة إذا كان جامعا مانعًا أولى من الضابط الذى ليس كذلك. وتاسعها: العلة التي لا ينعكس أصلها أولى من التي ينعكس أصلها، والمعنى من الأصل هنا كل واحد من النص والحكم فلو اقتضت رفع الحكم أو بعضه أو رفع شيء من مقتضى النص كانت عاكسة. وعاشرها: العلة التي لا توجب حكما على خلاف نص، أو أثر، أو

قياس، أو احتياط، أو تفسير [أو قياس]، الراوي، أو غيرها من الطرق المستقلة، أو المرجحة، أو كانت مستنبطة من أصول عدة، أو لم يكن لها في الأصل مزاحم أولى من التي لا تكون كذلك. وحادي عشرها: إذا كانت علة أحد القياسين مناسبة لضد الحكم المطلوب من وجه، وعلة الآخر ليس كذلك فالثاني أولى. وثاني عشرها: العلة/ (289/ أ) التي تكون أفضى إلى تحصيل مقصودها أولى من التي لا تكون كذلك. وثالث عشرها: العلة التي تتضمن مقصودًا يعم المكلفين أولى من التي تتضمن مقصودًا لا يعمهم بل يرجع إلى آحادهم. ورابع عشرها: المستنبطة من الحكم الذى يثبت على خلاف القياس مرجوحة بالنسبة إلى المستنبطة من الحكم الذى لا يكون كذلك. وخامس عشرها: الترجيح باعتبار الحكم الذى توجبه، والكلام فيه ما سبق في النص ولا حاجة إلى الإعادة.

الفصل الرابع في ترجيح القياس بسبب حكم الأصل

الفصل الرابع في ترجيح القياس بسبب حكم الأصل اعلم أنه لابد للحكم في الأصل من دليل فإما أن يكون ذلك الدليل قطعيا أو ظنيًا، وعلى التقديرين فدليل حكم الأصل في القياس الثاني إما أن يكون قطعيا، أو ظنيا، فهذه أقسام ثلاثة يجب البحث عنها: فإن كان الدليلان قطعيين فإن قلنا: بجريان الترجيح بين القطعيات جرى بين دليليهما الترجيح فما يكون دليله أجلى وأرجح عند العقل فهو راجح. وإن لم نقل بجريان الترجيح بين القطعيات فإن كان دليل أحدهما إجماعا والأخر نصًا قاطعًا في متنه ودلالته كان ما دليله الإجماع راجحًا على الأخر؛ لأنهما وإن اشتركا في القطع في صحة المتن والدلالة لكن النص قابل للنسخ، والإجماع لا يقبله فكان أولى، وهذا على رأي من يقول: أن الإجماع حجة قاطعة، وأما من لا يرى ذلك فلا، وإن لم يكنن كذلك بل كلاهما نصان تعارضا. وإن كان الدليلان ظنيين فإما أن يكونا لفظتين، أو إجماعين، أو قياسين إن جوز أن يكون حكم الأصل ثابتًا بالقياس أو مختلفين. فإن كانا لفظين جرى بينهما الترجيح، وقد عرفت تراجيح النصوص فلا حاجة إلى الإعادة. وان كانا إجماعين جرى بينهما الترجيح أيضًا، [وقد عرفت أيضًا التراجيح بين الإجماعات الظنية.

وإن كانا قياسين جرى بينهما الترجيح أيضًا، وقد عرفت بعض ما يترجح به القياس، وستعرف الباقي إن شاء الله تعالى. وإن كانا مختلفين فإن كان أحدهما نصا ظنيا والآخر إجماعا ظنيا قيل: ما كان دليله الإجماع راجح؛ لأنه لا يقبل النسخ، والتخصيص، والدليل اللفظي يقبلهما، وهذا صحيح لكن بشرط التساوي في الدلالة، فأما إذا اختلفا في ذلك فالحق أنه يتبع فيه الاجتهاد، فما تكون إفادته للظن أكثر فهو أولى، فإن الإجماع وإن لم يقبل النسخ والتخصيص لكن ربما تضعف دلالته على المطلوب بالنسبة إلى الدلالة اللفظية فقد يجبر النقص بالزيادة وقد لا يجبر فيقع فيه الاجتهاد. وإن كان أحدهما نصًا أو إجماعًا، والأخر قياسًا كان ما دليله النص أو الإجماع راجح على ما دليله القياس؛ لأن الذين جوزوا أن يكون حكم الأصل ثابتًا بالقياس اتفقوا على أن الأصل الذى ثبت حكمه بالنص أو بالإجماع أولى منه لكونه متفقًا عليه، ولأن الذى ثبت حكمه بالقياس لابد وأن ينتهى بالأخرة إلى ما ثبت حكمه بالنص وإلا لزم التسلسل، وهو ممتنع، فيكون الذى ثبت حكمه بالنص أصله والفرع لا يكون أقوى من الأصل. وكذا ما ثبت حكمه بالإجماع راجح على ما ثبت حكمه بالقياس، وأن كان [دليل حكم أصل أحد القياسين قطعيًا]، ودليل حكم أصل القياس الأخر ظنيا عمل بالأول؛ لأنه قياس أحد مقدماته قطعي والأخر كل مقدماته

ظني فترجح عليه لما سبق، لكن بشرط أن لا يزيد مجموع الظنيات على الذى بعض مقدماته قطعي في زيادة إفادة الظن بان يكون كل واحد من مقدماته قوية والمقدمات الظنية في ذلك القياس الذى ثبت حكم أصله بدليل قطعي ضعيف بحيث يكون ظن القياس المركب منها أضعف من ظن ذلك القياس الآخر هذا هو الكلام الكلى في هذا الباب ولا باس أن نذكر بعض تفاريعه مفصلاً فنقول: ترجيح القياس باعتبار حكم الأصل من وجوه: أحدها: إذا كان حكم الأصل في أحد القياسين غير ممنوع، وحكم الأصل في القياس الأخر ممنوع، فالقياس الذى حكم أصله غير ممنوع أولى؛ لأن ما يتطرق من الخلل بسبب منع حكم الأصل في/ (290/ أ) القياس الثاني منتف عنه فكان أغلب على الظن فكان أولى. وثانيها. إذا كان حكم الأصل في أحد القياسين مقطوعا به أو كان ثابتًا بدليل ظني راجح نحو إيماء الخبر المتواتر، وفى القياس الأخر حكم الأصل مظنونًا أو كان ثابتًا بدليل ظني مروح نحو إيماء خبر الواحد والإيماءان متساويان كان الأول أولى. وثالثها: إذا كان حكم الأصل في أحد القياسين مما اختلف في نسخه وفى الأخر غير مختلف فيه في ذلك بل أطبقوا على ثبوته كان الثاني أولى. ورابعها: القياس الذى حكم أصله غير معدول عن سق القياس راجح على الذى حكم أصله معدول عنه، وتعليله ظاهر، وكلما كان العدول فيه أكثر كان أضعف. وخامسها: القياس الذى قام على تعليل حكم أصله وعلى جواز القياس عليه دليل خاص أولى من الذى ليس كذلك. وسادسها: القياس الذى حكم أصله معلل بالاتفاق راجح على الذى اختلف في تعليل حكم أصله، وكذا القياس الذى اتفق على جواز القياس على أصله أولى من الذى اختلف في جواز القياس على حكم أصله.

وسابعها: القياس الذى حكم أصله على وفق أصول أخر راجح على الذى ليس كذلك، وكلما كانت الموافقة للأصول أكثر كان أرجح. وثامنها: القياس الذى حكم أصله [مما تعم به البلوى وهو ثابت بخبر الواحد مرجوح بالنسبة إلى القياس الذى حكم أصله، مما لا تعم به البلوى، أو مما تعم به البلوى لكنه ثابت بدليل قاطع وعلى هذا فقس غير المذكور [على المذكور]، وإذا اختلف جهتا القوة والضعف في كل واحد من حكمي الأصل، للقياسين كما إذا كان حكم أصل أحد القياسين مجمعًا عليه لكنه معدول عن سنن القياس، وحكم أصل القياس الثاني غير مجمع عليه بل هو ثابت بدليل ظني لكنه غير معدول عن سق القياس فليتبع المجتهد فيه اجتهاده فكل ما يفيده غلبة الظن اتبعه. وأما ترجيح القياس بسبب كيفية حكم أصله فهو على ما سبق في النص فلا حاجة إلى الإعادة فعلى هذا القياس الذى يثبت الحظر مثلاً راجح على الذى يثبت الإباحة، وكذا القياس الذى يثبت العتق والطلاق راجح على الذى يثبت الرق والنكاح كما سبق في ترجيح النص بسبب حكمه.

الفصل الخامس في ترجيح القياس بسبب الفرع

الفصل الخامس في ترجيح القياس بسبب الفرع وهو من وجوه أحدها: القياس الذى لا يلزم من ثبوت مقتضاه وهو الحكم في الفرع محذور كتخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو ترك العمل بظاهر أو حقيقة، أو معارضة قياس آخر له راجح على الذى يلزم من ثبوت مقتضاه شيء من ذلك وكميته ظاهرة. وثانيها: القياس الذى يثبت الحكم في كل الفروع أولى من الذى يثبت في بعض الفروع دون البعض؛ لأنه حينئذ يلزم تخصيص العلة وهو جهة المرجوحية كما تقدم. وثالثها: القياس الذى يشارك فرعه أصله في عين الحكم وعين العلة راجح على القياس الذى لا يكون كذلك وهو أقسام ثلاثة: أحدها: ما شارك فرعه أصله في عين العلة وجنس الحكم. وثانيها: عكسه. وثالثها: ما يشارك فرعه أصله في العلة وجنس الحكم. والقسم الأول من الأقسام الثلاثة أولى من القسمين الباقين، والقسم الثاني منها أولى من الثالث. وتعليل هذه الأقسام ظاهر: أما الأول: فلأن التعدية باعتبار الاشتراك [في المعنى الأخص أغلب على الظن من التعدية باعتبار الاشتراك] في المعنى الأعم وأما الثاني: فلأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هو باعتبار تعدية العلة فهي الأصل في التعدية والحكم فرعها باعتبار خصوصها أولى.

وأما الثالث بالنسبة إلى الرابع فلحصول الخصوص في الحكم الذى هو معلول العلة بخلاف القسم الرابع فإن العموم حاصل فيه في جهتي العلة والمعلول فكان الثالث أولى من الرابع. ورابعها: القياس الذى فرعه متأخر عن أصله أولى من الذى فرعه متقدم على أصله. وخامسها: القياس الذى علم وجود العلة في فرعه أولى من الذى ظن وجودها فيه، والذى ظن وجودها فيه ظنا غالبا أولى من الذى لا يكون كذلك. وسادسًا: القياس الذى دل النص على ثبوت الحكم في فرعه جملة لا تفصيلاً أولى من الذى لا يكون كذلك؛ لأن الأول متفق عليه بين القائسين دون الثاني، ولأن ظن ثبوت الحكم/ (291/ أ) فيه أكثر فيكون أولى. وسابعها: القياس الذى لا يلزم من ثبوت الحكم في فرعه بطلان الحصر الذى في دليل أصله أولى من الذى يلزم منه ذلك. مثاله: قوله عليه السلام: "خمس يقتلن في الحل والحرم" فقياس جواز قتل مؤذ آخر في الحل والحرم عليهن يبطل الحصر المذكور فيكون مرجوحا بالنسبة إلى قياس آخر يقتضى عدم جواز قتله. وثامنها: القياس الذى لا يوجد في فرعه معنى مناسب يقتضى عدم ثبوت الحكم المطلوب من القياس ولو من وجه أولى من الذى لا يكون كذلك.

وتاسعها: القياس الذى له فروع كثيرة أولى من الذى لا يكون كذلك؛ لأنه تكثر فائدتها فيكون أولى. ومنهم أنكر الترجيح بهذا محتجا بوجوه: أحدها: أن كثرة الفروع ليست أمرًا شرعيًا، والترجيح إنما هو بكثرة [الفوائد الشرعية، وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم ذلك بل هو عندنا بكثرة الفوائد] الشرعية أو بما يلزم منه كثرة الفوائد الشرعية وها هنا كذلك فيكون أولى [بسبب كثرة مدلوله]. وثانيها: لو كان القياس مرجوحًا بسبب كثرة فروعه لكان النص أيضا مرجحًا بسبب كثرة مدلوله فيلزم أن يكون العام أولى من الخاص. وجوابه: أنه إنما لم يرجح الخطاب بكثرة مدلوله؛ لأنه يلزم منه إلغاء الخاص بالكلية، وتقديم الخاص عليه لا يلزم منه ذلك فكان الجمع بين الدليلين أولى بخلاف القياس فإنه إذا انتهى الأمر فيه إلى الترجيح فإنه لابد من إلغاء أحدهما لا محالة فكان إلغاء ما هو أقل فائدة أولى. وثالثها: التعدية فرع الصحة، والأصل لا يرجح بالفرع. وجوابه: منعه؛ وهذا فإن الاصل قد يرجح بكثرة فروعه لكونها دالة على قوته ولو قيل هكذا: التعدية فرع الصحة في الأصل فلو توقفت صحتها في الأصل على التعدية لزم الدور. فجوابه: ما تقدم من ضعف هذا الدليل في القياس في مسالة جواز التعليل بالعلة القاصرة، ويخصه ها هنا جواب آخر وهو أنا نسلم أن كثرة التعدية فرع الصحة في الأصل لكن لا نسلم توقف صحتها في الأصل على كثرة التعدية،

وهذا لأن العلة صحيحة وإنما الكلام في الرجحان ولا يلزم من كونها مرجوحة كونها غير صحيحة بل المرجوحية فرع الصحة ومستلزمها فبطل الدور. وعاشرها: القياس الذى يرد الفرع إلى ما هو من جنسه أولى من القياس الذى يرده إلى غير جنسه. مئاله: قياس الحنفية الحلى على التبر أولى من قياسه على سائر ما ينتفع به ويستعمل في الحاجات من الأموال كثياب البذلة والمهنة، وعبيد الخدمة، والخيول المسومة؛ لأن القياس الأول يرده إلى ما هو من جنسه [والثاني يرده إلى غير جنسه]. باعتبار وصف عرضي خارجي وهو كونه مستعملاً في الحاجات ومنتفعا به، والاتحاد بين المتجانس، أتم من الاتحاد بين المتغايرين في الجنسية المتحدين في وصف عرضي خارجي، ومهما كان الاتحاد أتم كان ظن الاشتراك في الحكم أكثر فكان أولى. وأعلم أن بعض هذه الوجوه قد يناسب إيراده في الفصل الذى أوردناه، وقد يناسب إيراده في غير ذلك الفصل، وإنما أوردناه حيث أوردناه، إما لأنه أكثر مناسبة، أو بطريق الاتفاق، والأمر في ذلك قريب.

النوع السابع عشر: في الاجتهاد

النوع السابع عشر في الاجتهاد وهو مرتب على مقدمة وفصول: أما المقدمة: ففي تفسير الاجتهاد والمجتهد فيه: أما الأول: فهو في اللغة عبارة: عن استفراغ الوسع في أي فعل كان. وأعلم أن قولنا: في أي فعل كان ظاهره العموم نظرًا إلى لفظه، لكنه متخصص بقولنا: هو عبارة عن استفراغ الوسع، فإن هذا لا يتحقق في كل فعل، بل إنما يتحقق ذلك في أفعال المشقة، والأعمال التي تستلزم الكلفة، فهذا هو المراد منه؛ ولهذا يقال: استفرغ وسعه في حمل الحمل أو الحجر، وفى العدو، والكلام الكثير، ولا يقال: استفرغ الوسع في حمل الرغيف، أو في حمل المنديل، ولا في الكلام القليل؛ لما أن استفرغ الوسع لا يتحقق في/ (292/ أ) ذلك. وأما في اصطلاح الأصوليين فهو: عبارة عن استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم، مع استفراغ اوسع فيه. واحترزنا بقولنا: فيما لا يلحقه، وإن استفرغ الوسع في النظر، في طلب الحق فيها إذا لم يصادف الحق على المشهور الذى عليه الجمهور. فإن قلت: هذه الفائدة حاصلة بقولنا، فيما لا يلحقه فيه دوم فإن مسائل الاصول يلحق فيها اللوم مهما لم يصادف الحق سواء استفرغ الوسع أو

يستفرغ، فما الفائدة في ذكر قوده: مع استفراغ الوسع فيه؟ قلت: لو لم يذكر ذلك القيد، واقتصر على ما ذكرتم لم يكن الحد جامعًا لأن كان مانعًا، بل لا يكون متناولا لشيء من المسائل الاجتهادية؛ وهذا لأنه ليس اللوم منتفيًا عن المسائل الاجتهادية مطلقا فإنه إذا لم يستفرغ الوسع في النظر فيها فإنه يلام مطلقا على المذهبين، أعنى المصوبة، والقائلين بأن المصيب واحد، وأن صادف حكم الله تعالى على رأى هؤلاء، فلو اقتصر على ما ذكرتم لاقتضى ذلك انتقاء، للوم عنها مطلقا، فلم يكن متناولا لشيء منها فلم يكن الحد جامعًا فكان باطلاً. وقيل: هو عبارة عن استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجزَ عن المزيد فيه، ولا يخفى الاحترازات التي فيها. وفيه نظر من حيث إنه غير مانع؛ لأنه يندرج تحته ما فيه قاطع ولم يحس الطالب به وهو استفراغ وسعه في طلب حكمه بحيث إنه أحس من نفسه العجز عن المزيد فيه، وهو ليس باجتهاد، وإلا لكانت المسالة مجتهدًا فيها لكنه ليس كذلك لوجود القاطع فيها.

وأما المجتهد فيه، فهو: كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع. فالحكم كالجنس يتناول الحكم الشرعي وغيره. وأيضًا: احتراز عن الصفات الحقيقية. واحترزنا بالشرعي عن الحكم العقلي والحسى. واحترزنا بقولنا: ليس فيه قاطع عن وجوب الصلوات، والزكوات وأمثالهما مما اتفقت الأمة عليه من جليات الشرع. وعن الذى فيه القاطع لكن ظن أنه ليس فيه قاطع واستفرغ الوسع طلب حكمه فإنه ليس من المجتهد فيه. أما أولاً: فلأنه ينقض حكم الحاكم ولو كان مجتهدًا فيه لما كان كذلك. وأما ثانيًا: فلأن كون المسالة مجتهدًا فيها ليس أمرًا نسبيًا حتى يكون بالنسبة إلى شخص لم يعلم وجود القاطع فيها مجتهدًا فيها، وبالنسبة إلى شخص علم ذلك ليس كذلك. وقال أبو الحسين البصرى: (المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون في الأحكام الشرعية).

قال الإمام- رحمه الله-: وهذا ضعيف؛ لأن جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة اجتهادية، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور. وفى هذا التضعيف نظر؛ لأن التعريف إنما وقع بالاختلاف لا بجواز الاختلاف وهو غيره، ومثله لا يتأتى في نفس الاختلاف. لأنا نمنع أن الاختلاف فيها مشروط بكون المسالة اجتهادية، وهذا لأنه قد يقع الاختلاف في الأحكام الشرعية في غير المسألة الاجتهادية، لكن على هذا التقدير يرد عليه أن يكون غير مانع لما ذكرته من وقوع الاختلاف في غير المسائل الاجتهادية.

الفصل الأول في المجتهد

الفصل الأول في المجتهد وفيه مسائل:

المسألة الأولى اختلفوا في أن الرسول- عليه السلام- هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه

المسألة الأولى اختلفوا في أن الرسول- عليه السلام- هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه: فذهب الشافعي وكثر أصحابه، والإمام أحمد، والقاضي أبو يوسف والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصرى إلى جواز ذلك. ثم منهم من قطع بوقوع التعبد بهذا الجائز، ومنهم من لم يقطع به. وذهب أبو على، وأبو هاشم إلى أنه لم يكن متعبدًا به.

ومنهم من فصل بين الأحكام الشرعية، وبين أمور الحرب فجوزه في الثاني دون الأول. وتوقف فيه جمهور من المحققين. احتج الأولون بوجوه: أحدهما: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} أمر بالاعتبار لأولى الأبصار على العموم/ (293/ أ) فكان عليه السلام مندرجا تحته؛ لأنه عليه السلام- أعلى الناس بصيرة، وأكثرهم إصابة، لكثرة اطلاعه على شرائط القباس، وما يجب وما يجوز فيها، وذلك يقتضى اندراجه تحته بالطريق الأولى، فإن لم تكن الأولوية حاصلة فلا أقل من المساواة فكان مأمورًا بالقياس فكان [متعبدًا]، بالقياس فكان فاعلاً له، وإلا قدح ذلك في عصمته، وهذا التقرير لمن قطع بوقوع التعبد به [ووقوعه منه، فإن كل من قطع بوقوع التعبد به]، قال بوقوعه منه، وأما من قال بالجواز الشرعي ولم يقطع بوقوع التعبد به يحتاج أن يقول: أدنى درجات الأمر أن يكون للإباحة فيحمل عليها؛ إما لأنه حقيقة فيها، أو حمل اللفظ على أقل مفهوماته فيكون الاعتبار جائزًا منه وهو المطلوب.

وثانيها. قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} وهو صريح بوقوع التعبد بالحكم بما أراه الله تعالى وهو يعم ما أراه بطريق التنصيص، أو بطريق الاستنباط من النص فيحمل عليها فوجب أن يكون مأمورًا بالحكم بالطريقتين وهو المطلوب. وثالثها: قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} وهو إنما يكون فيما يفعل بالرأي؛ لأن ما هو منصوص عليه فعله متعين فلم يكن للمشاورة فيه معنى. لا يقال: المراد منه الآراء والحروب والأمور الدنياوية. قلت: إنه تقييد للإطلاق فيكون خلاف الأصل لا بصار إليه إلا لدليل. ورابعها: قوله تعالى في قصة داود: {ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكمًا وعلمًا} ومن الظاهر أن مثله لا يستعمل في المنصوص عليه فكان دور في الاجتهاد والرأي، وإذا ثبت جواز ذلك في حقهم ثبت أيضًا في حق نبينا ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وخامسها: ما يروى عنه- عليه السلام- أنه قال: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدي".

ومثله لا يقال ديما كان بالوحى. وروى عنه عليه السلام أنه كان يقضى في القضية. والقرآن ينزل والحكم بغير القرآن، وهو لا يكون إلا بالاجتهاد. وهذا فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون بوحى غير متلو ولا شك أنه غير القرآن. ومن هذا الجنس التمسك على المسالة بقوله- عليه السلام-: [(كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) وقوله: عليه السلام (كنت نهيتكم عن تحريم)] الأضاحي لأجل الدافة ألا فأدخروها" فإنه يجوز أن يكون كل واحد من الحكمين الناسخ والمنسوخ بوحى غير متلو. وسادسها: أنه إذا غلب على ظنه- عليه السلام- كون الحكم في الأصل معللاً بوصف، ثم علم أو ظن- عليه السلام- حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أن يظن أن حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل، وترجيح الراجح عبى المرجوح من مقتضيات بدائه العقول، وهذا

يقتضي أن يجب عليه العمل بالقياس. ولقائل أن يقول: لا نزل في أن ترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بدائه المحقول، لكن لم لا يجوز أن يقال: لا يجوز له العمل بهذا الراجح لقدرته على ما هو أرجح منه؟ وهو النص فإن عند القدرة على الارجح لا يجوز العمل بالراجح؟ وسابعها. أن السنن مضافة إلى الرسول- عليه السلام- ولو كان الكل بالوحى لم يبق لتلك الإضافة معنى كما أن الشافعي- رضي الله عنه- مثلا إذا أثبت حكما بصراحة النص بحيث لا يحتاج فيه إلى اجتهاد وفكر فإنه لا يقال فيه: إن ذلك مذهب الشافعي- رضى الله عنه- ولهذا لم يحسن أن يقال: مذهب الشافعي- رضى الله عنه- وجوب الصلوات الخمس ووجوب صوم رمضان فأما إذا أثبته بضرب من الاجتهاد والنظر فإنه يقال فيه ذلك فكذا مانحن فيه. وهذا ليس بقوى؛ لاحتمال أن يقال: إنه إنما يضاف إليه- عليه السلام- لأن كان منصوصًا عليه، لكونه لم يشرع مثل ذلك لغيره فصحت الإضافة معتمدة على الاختصاص، وإنما لا يضاف إلى الشافعي- رضى الله عنه- ما ذكرتم لأنه لا اختصاص له به؛ ولهذا لو أثبت حكما مختصا به فإنه يضاف إليه وإن كان بصريح النص كما لو أثبت حكما بنص صريح بحيث لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد والنظر واعتقد غيره نسخ ذلك النص فإنه يضاف ذلك الحكم/ (294/ أ) إليه وإن لم يكن فيه اجتهاد ونظر، لما أنه مختص به.

وثامنها: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا، لقوله عليه السلام: "أفضل الأعمال أحمزها" أي أشقها، فلو لم يعمل الرسول عليه السلام بالاجتهاد مع أن أمته عملوا به لزم أن يكون آحاد الأمة مختصا بفضيلة لا توجد فيه فيلزم أن يكون آحاد الأمة أفضل منه في تلك الفضيلة وهو محال لأن آحاد الأمة لا يكون أفضل منه في شيء أصلاً. لا يقال: إن هذا إنما يمتنع إن لو لم يكن الرسول- عليه السلام- متصفا بفضيلة أخرى أعلى منها بآرائه، فأما إذا كان متصفا بآرائه بفضيلة أخرى أعلى منها فلا نسلم امتناعه وها هنا كذلك، لأنه متصف باستدراك الأحكام من جهة الوحى، وهذا المنصب أعلى من رتبة استدراك الأحكام بطريق الاجتهاد. سلمناه، لكن يقتضى أن لا يعمل الرسول- عليه السلام- إلا بالاجتهاد، ضرورة أن ذلك أفضل لكونه أشق؛ لأنا نقول: الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أنه لا معنى للنبوة إلا إبلاع أثناء الله تعالى وأحكامه بطريق الوحى إلى خلقه، وحينئذ يصير تقدير كلامكم: إنه إنما يمتنع ذلك إن لو لم يكن الرسول رسولاً، فأما بتقدير ذلك فلا نسلم امتناعه، ومعلوم أن ذلك

باطل من جهة اللفظ والمعنى. وثانيهما: أن استدراك الاحكام بطريق الوحى، وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم، ولا يظهر فيه أثر دقة الخاطر، وجودة القريحة، وإذا كان هذا نوعا مفردًا من الفضيلة لم يجز خلو الوصول عنها بالكلية. وعن الثاني: أن ذلك غير ممكن؟ لأن العمل بالاجتهاد في كل الشريعة ممتنع، لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالتنصيص على أحكام الأصول، وإذا كان كذلك كان العمل بالاجتهاد في كل الشريعة [ممتنعًا]. ولقائل: أن يقول: هب أن العمل به كل الشريعة]، متعذر لكن لا يمتنع العمل به في كثر الشريعة وهو ما عدا الأصول المنصوصة عليها، فكان يجب أن لا يعمل في أكثر إلا بالاجتهاد، ومعلوم أن ذلك غير متعذر، لكنه ليس كذلك، فإن أكثر أحكام الشرع ليس صادرًا عن اجتهاد الرسول وفاقًا فالأولى في ذلك أن يقال: مقتضى هذا الدليل إن يكون الامو كما ذكوتم ترك العمل به في الأكثر فوجب أن يبقى. معمولاً به في الأقل. وتاسعها: قوله عليه السلام: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهذا يوجب أن يكون له في الاجتهاد في الأحكام الشرعية ليرثوا عنه، إذ لو ثبت ذلك لهم

ابتداء لم يكونوا وارثين عنه في ذلك. وفيه نظر، وهذا لأنا قد نسلم أن قولنا: فلان وارث فلان يقتضى أن جميع ما للمورث يكون للوارث، لكن لا نسلم أن جميع ما للوارث يكون من الموروث، فلم يلزم من جواز العمل بالاجتهاد للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء جوازه لهم- عليهم السلام-. فإن قلت: الظاهر من قوله- عليه السلام- "العلماء ورثة الأنبياء"، أنهم ورثته فيما اختصوا به من العلم مطلقًا وحينئذ لو لم تكن علومهم الاجتهادية مورثة عن الأنبياء لكان ذلك تقييدًا للمطلق، وتخصيصًا للعام من غير ضرورة، وهو خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لدليل. قلت: لا نسلم المعنى على ما ذكرتم فضلاً عن أن يكون ذلك ظاهره وهذا لأن معناه: أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء من العلوم وعلى هذا التقدير، وإن كان يلزم منه التخصيص ضرورة أنهم ليسوا ورثته في العلوم التي هي مختصمة بالنبوة، لكنه خير من المجاز الذي ذكرتموه؛ فإن ما ذكرتم ليس حقيقة اللفظ بدليل أنه لا يفهم من قول القائل: زيد وارث عمرو وأنه وارثه فيما اختص [به، بل الذى يفهم منه أن زيدًا وارث عمرو فيما اختص]، بعمرو.

سلمنا أن علومهم الاجتهادية موروثة من الأنبياء، لكن لا يلزم من حصول هذه العلوم لهم جواز العمل بالاجتهاد وهذا هو المتنازع فيه دون الأول، وهذا كما أنه يجوز أن يحصل للمجتهد العلوم الاجتهادية، ثم لا يجوز له العمل في بعض المسائل لاقتداره على تحصيل العلم به، أو الظن بطريق النص، فكذا / (295/أ) في حق الأنبياء- عليهم السلام- لاقتدارهم على معرفة الأحكام بطريق الوحى. وعاشرها: أنه صدر منه أحكام اجتهادية، وهو دليل الجواز والوقوع وإلا فدح ذلك في عصمته. بيان الأول بصور أحدها: أنه قال في مكة؛ لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها فقال العباس: إلا الإذخر فقال- عليه السلام-: "إلا الإذخر" ومعلوم أن الوحي لم ينزل في تلك الحالة بالاستثناء؛ لقلة ذلك

الزمان، ولعدم إمارة الوحى فكان الاستثناء بالاجتهاد. وثانيها: أنه أمر يوم فتح مكة بقتل مقيس بن صبابة. وابن أبى سرح. وإن وجدا متعلقين بأستار الكعبة [مع تقدم قوله: "من تعلق بالشار الكعبة فهو آمن]،، ثم أنه- عليه السلام- عفى عن ابن أبي سرح

بشفاعة عثمان فكان ذلك بالاجتهاد، إذ لو كان ذلك بالتنصيص لما عفى عنه إلا بوحى آخر، وهو لم يوجد لما سبق من الوجهين، ولأن النسخ خلاف الأصل ولا يحمل عليه بمجرد الاحتمال. وثالثها: أنه أمر بالنداء يوم فتح مكة (أن لا هجرة بعد الفتح)، فنودى حتى استفاض ذلك، فبينما المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع بن مسعود بالعباس شفيعًا ليجعله مهاجرًا بعد الفتح فقال عليه السلام: "اشفع عمي ولا

هجرة بعد الفتح" ولم يكن ذلك بالوحى لما سبق فكان ذلك بالاجتهاد فثبت أنه صدر منه أحكام اجتهادية في الشرع وهو المطلوب. وفى هذا الوجه نظر ستعوف ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما الذى يدل على جواز اجتهاده في أمور الحرب وقوعه منه، فإنه اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر. فكان يراجعهم في تلك الحالة، وذلك لا

يكون إلا عن اجتهاد. ويؤكده: ما عاتبه الله في ذلك بقوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} الآية. ولو كان بطريق الوحى لما عوتب على ذلك. وأيضًا قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} يدل على أن ذلك الإذن كان عن اجتهاد إذ لو كان بالوحى لما كان ذنبًا أو تركًا للأولى فما كان يحسن أن يقال: {عفا الله عنك}، ولأن ذلك لو كان بالوحى لكان امتثاله يوجب إاستحقاق المدح والثناء لا الذم والتوبيخ. وأيضًا: روى أن بعض الصحابة راجعه في منزل نزلة، فقال. إن كان هذا بوحي فالسمع والطاعة، وإلا فليس هو بمنزل مكيدة، فقال: بل الرأي نرحل عنها.

وهذا يدل بصراحته على أن ذلك ليس بوحى. ولأنه رحل عنها بقوله، ولو كان عن وحى لما رحل عنها بقوله، ولما جاز له أيضا مراجعته فهو إذن عن اجتهاد. واحتج المانعون منه بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحي} دلت الآية على أن [كل]، ما ينطق به فهو عن وحى، ترك العمل بها في النطق بالأمور العادية فوجب أن يبقى معمولاً بها في الأحكام الشرعية، ولا يحسن أن نتمسك بصدر الآية فإن من الظاهر أن النطق عن الاجتهاد ليس بهوى، لأن النطق عن الهوى مذموم، والنطق عن الاجتهاد والنظر مأمور به، وإنما الذى يحسن التمسك منها إنما هو بقوله: {إن هو إلا وحي يوحى}. وجوابه: أنه إنما يتناول النطق دون اجتهاده الذى هو من فعله لا من نطقه، والنزل إنما هو في الاجتهاد. سلمناه لكن لما أمر بالاجتهاد والابلاغ بمقتضاه والعمل به لم يكن ذلك نطقا بغير الوحى بل هو به.

وثانيها: قوله تعالى: {إن أتبع إلا ما يوحى إلى} وذلك يقتضى أن لا يتبع الحكم الصادر عن الاجتهاد. وجوابه: ما تقدم، ويخصه أن المراد منه: القرآن أي ما أتلو عليكم منه إلا ما يوحى إلى بقرينة قوله: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي}. وثالثها: أنه لا يجوز مراجعته في الأحكام الشرعية لقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية وبالإجماع أيضًا، ويجوز مراجعته فى اجتهاده ورأية؛ لما روى أنه نزل منزلاً فقال بعض الصحابة: إن كان هذا عن وحي فالسمع والطاعة وإلا فليس هو بمنزل مكيدة، ولم ينكر- عليه السلام- عليه بل روى أنه رحل عنها، فيكون ذلك دليلاً على جواز مراجعته في اجتهاده ورأيه فيلزم أن لا يكون شيء من الأحكام الشرعية عن اجتهاد ورأى. وجوابه:/ (296/ أ) منع جواز مراجعته فيما يصدر عن اجتهاده ورأيه مطلقًا بل إنما يجوز في الآراء والحروب، فلم قلتم أنه يحوز في الأحكام الشرعية الصادرة عن اجتهاد ورأى؟. ورابعها: أن مخالفه عليه السلام يكفر بما تلونا من الآية، ومخالفه في الأحكام الاجتهادية لا يكفر لقوله- عليه السلام-: (من اجتهد فأصاب فله

أجران ومن أخطأ فله أجر واحد). ومن له أجر في عمل لا يكفر به وفاقا فليس شيء من أحكامه عن اجتهاد. وجوابه: منع أن مخالفة في الأحكام الاجتهادية لا يكفر؛ وهذا لأن الحكم الاجتهادي وإن كان مظنونًا لكن الرسول- عليه السلام- لما أفتى به صار مقطوعًا به. لأنه لا يجوز أن يقو على الخطأ كما أن الحكم الاجتهادي إذا صار مجمعا عليه صار مقطوعًا به، واجتهاده- عليه السلام-، وتقريره- عليه "السلام- لا يتقاصر عن إجماع مجموع الأمة على الحكم الاجتهادي [فإن عصمتهم]، نتيجة عصمته- عليه السلام-، والحديث محمول على الخطأ في الحكم الاجتهادي الذي لم يصو مقطوعًا به؛ بدليل أن الحكم الاجتهادي إذا صار مجمعًا عليه لم يستحق مخالفه على ذلك أجرًا بل ربما يضلل ويفسق.

وخامسها: لو كان شيء من الأحكام الشرعية صادرًا عن اجتهاده لجاز أن يخالف فيه؛ لأن ذلك من لوازم الحكم الاجتهادي، ولجاز أن يحصل لمخالفه أجر لما تقدم من الحديث لكنه باطل بالإجماع، فوجب أن لا يكون شيء من الأحكام الشرعية مشروعا بطريق الاجتهاد من جهته عليه السلام. وجوابه: منع أن ذلك من لوارم الحكم الاجتهادي مطلقًا بل هو من لوازم الحكم الاجتهادي المظنون، فأما إذا صار مقطوعا به فلا. وسادسها: لو كان مأمورًا بالاجتهاد في الأحكام الشرعية لكان عاملاً به، وإلا قدح ذلك في عصمته، ولو كان عمل به لأظهره، لئلا يكون موهما شرعيته بطريق الوحى فإنه أكثر، والفرد يلحق بالأعم والأغلب فيكون مغريًا على الجهل، ولكن ليقتضي به فما فعل ذلك في غيره، ولما توقف في شيء عن الأحكام الذى سئل عنه على الوحى لتمكنه من معرفة الحكم فيه بطريق الاجتهاد والعقل وإلا كان مؤخرًا للبيان عن وقت الحاجة، فإن القدرة على تحصيل الشيء قد تجعل كحصول الشيء، كما جعلت القدرة على تحصيل الماء كحصوله في عدم جواز التيمم، وهو غير جائز لكن- عليه السلام- توقف عليه في كثير من المسائل كما في مسائل الظهار

واللعان فدل على أنه غير مشروع في حقه. وجوابه: لعله إنما لم يظهره صريحا لعلمه- عليه السلام- بمعرفة الأمة ذلك من الأدلة التي ذكرناها على ذلك. سلمنا أنه لابد من الاظهار لكن لا نسلم أنه لم يظهره فلعله أظهره صريحا لكنه لم ينقل لندرته. سلمنا أنه لابد من النقل لكن لا نسلم أنه لم ينقل؛ وهذا فإنه نقل طويق الاجتهاد في حديث الخثعمية، وفي حديث عمر في قبلة الصائم، فلعل ذلك كان طويقه في معرفة ذلك الحكم فلما سئل عنه أجاب عنه بطريق اجتهاده. وأما توقفه على الوحى فلعله كان في الأحكام التي لا مجال للاجتهاد فيها. يؤكده: أنه إنما نقل عنه- عليه السلام- التوقف في الأصول المستقلة التي لا يمكن أن تقاس على أصول أخر بجامع معتبر بل لا يعقل معناها كما في الظهار واللعان وغيرهما دون تفاريع المسائل للأصول المستقلة. سلمنا إمكان الاجتهاد فيما توقف فيه لكن الاجتهاد إنما. يسوغ حيث علم أو ظن العجز عن وجدان النص، فلعله- عليه السلام- كان يتوقف ريثما يعلم

أو يظن أن الله تعالى لم ينزل عليه الوحى وحينئذ لم يكن مؤخرًا للبيان عن وقت الحاجة. وسابعها: لو جاز له الاجتهاد في الأحكام الشرعية لجاز لجبريل- عليه السلام-. وحينئذ لا يعرف أن هذا الشرع الذى جاءنا به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحي الله تعالى، أو من اجتهاد جبريل- عليه السلام-. وجوابه: أنه قياس خال عن الجامع، ثم الفرق ظاهر غنى عن البيان. سلمنا عدم الفرق لكنه احتمال مدفوع بالإجماع. وثامنها: أن تجويزه له يورث التهمة في حقه وهى أنه ربما يعتقد أته- عليه السلام- هو الواضع / (297/أ) للشريعة من تلقاء نفسه وهو مما يوجب النفرة ويخل بمقصود البعثة وهو باطل قطعًا. وجوابه: أن التهمة إنما تتأتي إذ لو أمكن وضع الشويعة بالاجتهاد لكن ذلك معلوم الامتناع، فتكون التهمة زائلةً محنه لعدم إمكانه. سلمناه لكن التهمة زائلة عنه في وضع الشريعة بالرأي والاجتهاد بالمعجزات الدالة على صدقه في كل ما يدعيه، ومعلوم أنه ادعى أن هذه الشريعة من جهة الله تعالى بالوحى والتنزيل لا من تلقاء نفسه فيلزم أن يكون صادقًا فيه فتكون التهمة زائلة. وتاسعها: أن الاجتهاد مشروط بعدم النص، وهذا الشموط مفقود في حقه

عليه السلام لأنه ما من حالة إلا ويتوقع نزول الوحى فيها، وإمكان نزول الوحي في حقه كإمكان وجدان النص في حقنا فما لم يحصل له اليأس عن نزول الوحي لا يجوز له الاجتهاد كما لا يجوز لنا الاجتهاد ما لم يحصل لنا اليأس عن وجدان النص. وجوابه: منع أن إمكان نزول الوحى في حقه كإمكان وجدان النص في حقنا؛ وهذا لأن الأصل في كل معدوم دوامه واستمراره، وليس الأصل عدم وجدان الموجود، ولأن شرط صحة العمل بالاجتهاد عدم وجود، لا عدم وجدانه، غاية ما في الباب أنه إذا لم يجده جاز له العمل بالاجتهاد للضرورة، ولهذا لو علم وجود النص بعد ذلك تبينا بطلان الاجتهاد من أصله، وليس كذلك في صورة توقع نزول الوحي والنص فإنه لا يبطل العمل به إلا من حين نزول الوحي. سلمناه لكن لا يشترط في اليأس من نزوله أن يحصل له القطع بذلك بل يكفي فيه غلبة الظن فلعله- عليه السلام- ما كان يجتهد حتى يحصل له الظن بعدم نزول الوحي في تلك الواقعة. وعاشرها: أجمعنا على أنه لا يجوز له أن يخبر ما لا يعلم كونه صدقًا وإذ غلب على ظنه صدقه، فكذا لا يجوز له أن يحكم بما لا يعلم كونه صوابًا وحقًا وإن غلب على ظنه صوابًا وحقًا. وجوابه. أنه قياس خال عن الجامع.

سلمناه لكن الفرق بينهما حاصل وبيانه من حيث الإجمال والتفصيل. أما الإجمالي فهو: أن الإخبار بما لا يعلم كونه صدقا لا يؤمن فيه عن الكذب الذى هو عبارة عن الاخبار عن الشيء خلافًا ما هو عليه، وذلك مما لا يجوز الإقدام عليه لأحد من الأمة فضلاً عن النبي- عليه السلام- بخلاف الحكم بطريق الاجتهاد فإنه وإن اختلف في جوازه للنبي- عليه السلام- لكنه جائز للامة وفاقا، والاختلاف في الحكم دليل على الاختلاف في الحكمة. وأما من حيث التفصيل فهو: أن الحكم بطريق الاجتهاد مما علم كونه صوابًا وحقًا لا محالة أما على قولنا: كل مجتهد مصيب فظاهر، وأما على قولنا: المصيب واحد فكذلك؛ لأن المجتهد مأمور بالعمل بما غلب على ظنه أنه حكم الله في حقه، فيكون العمل بمقتضى ما غلب على الظن حقصا وصوابًا قطعًا. سلمنا احتمال الخطأ للمجتهد في الجملة لكن الرسول ممنوع عنه؛ وهذا لأنا وإن جوزنا له الاجتهاد لكن لا يجوز له أن يخطئ في اجتهاده فليس هو كالخبر الذي لا يؤمن من فيه عن الكذب.

فرع إذا جوزنا له الاجتهاد فالحق عندنا أنه لا يجوز له أن يخطئ. وقال أكثر أصحابنا يجوز لكن بشرط أن لا يقر عليه. لنا: أن تجويز الخطا عليه غض من منصبه فوجب أن لا يجوز. وأيضًا: فإن اجتهاده بتشريع الأحكام جار مجرى إبلاغ تشريعه لكما لا يجوز عليه الخطأ في ذلك فكذا فيما نحن فيه. واحتج الإمام- رحمه الله تعالى- على ذلك: بأنا مأمورون لاتباعه في الحكم لقوله تعالى. {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدا في أنفسهم حرجًا مما قضيت} فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ وذلك ينافي كونه خطأ.

ولقائل أن يقول: الأمر باتباعه إنما يكون بعد أن يقر عليه، فأما قبله فلا يتصور ذلك. إذ المعنى منه أنه لا يقر عليه بحيث إن / (298/ أ) يحكم به وبشرعه بل ينبه عليه قبل ذلك والخصم لا يجوز أن يقر عليه فلم ينتهض ما ذكره دليلاً عليه. واحتج على ذلك أيضًا: بأن مجموع الأمة معصومة عن الخطأ في اجتهادها فكذلك النبي عليه السلام بل بالطريق الأولى؟ لأن عصمتهم مستفادة من عصمته- عليه السلام-، ولأنه أكرم عند الله تعالى منهم. وفيه أيضًا نظر؛ من حيث إن ذلك إنما لا يجوز لأن الأمة لو أخطأت لم يمكن أن يقال: إنهم لا يقرون على ذلك لانقطاع الوحى بعد الرسول عليه السلام فيفضى ذلك إلى أن يبقى الخطأ شرعًا دائمًا، وليس كذلك في حق الرسول- عليه السلام-، فإنه إذا اتفق ذلك منه- عليه السلام- نبه عليه بالتنزيل والوحي فافترقا. واحتج الخصم بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} والعفو لا يكون إلا عن خطأ. وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك كان عن اجتهاد. سلمناه لكن ذلك في أمر الأمراء والحروب والمصالح الدنيوية، والخصم ربما يجوز ذلك، فلم قلت: يجوز مثله في الأحكام؟

سلمناه، لكن لا نسلم أن العفو لا يكون إلا عن خطأ، فلم لا يجوز أن يكون عن ترك الأولى؟ فإن سيئات المقربين حسنات الأبرار. وثانيها: قوله تعالى في أسارى بدر: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} وقال عليه السلام "لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب".

وهذا يدل على أنه عليه السلام أخطأ في أخذ الفداء. وجوابه: بعض ما سبق. وثالثها: قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم} فلما جاز الخطأ على غيره جاز أيضًا عليه. وجوابه: أنه لا يلزم من التساوي في البشرية التساوي في جواز الخطأ، فإن الافتراق بينه- عليه السلام- وبين غيره من البشر واقع في أمور كثيرة. ورأسها: قوله عليه السلام: "إنكم لتختصمون لدى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار"، فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه لم يفد هذا.

وجوابه: أن ذلك ليس مما نحن فيه [في] شيء؛ لأن الحديث محمول على إقامة شهادة الزور ونحوها، وهو ليس من اجتهاده- عليه السلام- في شيء. وخامسها: أنه يجوز أن يغلط في أفعاله، فيجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين. وجوابه: منع الحكم في الأصل. سلمناه لكنه قياس خال عن الجامع. سلمنا حصول الجامع لكن يجوز عليه الخطأ والغلط في أفعاله، ولا يجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين. وجوابه: منع الحكم في الأصل. سلمناه لكنه قياس خال عن الجامع. سلمنا حصول الجامع لكن يجوز عليه الخطأ والغلط في أفعاله، ولا يجوز ذلك في أقواله فيما يتعلق في الإبلاغ عن الله تعالى، وتشريع الشريعة التي أوحى بها إليه وفاقًا، فليس الأقوال كالأفعال فلم يصح قياسها عليه.

المسألة الثانية اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد الرسول- عليه السلام

المسألة الثانية اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد الرسول- عليه السلام. فأما عصره- عليه السلام- فقد اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مطلقا وهو المختار. ومنهم من منع منه مطلقًا. ومنهم من فصل. وهؤلاء فرق. أحدهما: الذين قالوا بجواز ذلك للغائبين عن حضرة الرسول من القضاة والولاة دون الحاضرين. وثانيها: الذين جوزوا ذلك للغائبين مطلقا دون الحاضرين.

وثالثها: الذين قالوا بجواز ذلك مطلقًا إذا لم يوجد من ذلك منع فأما إذا وجد ذلك فلا. وهذا ليس بمرض؛ لأن ما بعده أيضًا كذلك فلم يكن له خصوصية بزمانه عليه السلام ورابعها: الذين قالوا: إن ورد الاذن بذلك جاز وإلا فلا، ثم منهم من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه، منزلة الإذن، ومنهم من لم ينزله منزلته بل اعتبر صريح الإذن فيه. ثم القائلون بجواز الاجتهاد اختلفوا في وقوع التعبد به سمعًا. فمنهم من قال. إن الاجتهاد كان متعبدًا [به]، للحاضرين والغائبين وهو المختار ومنهم من منعه مطلقًا كأبي علي وأبي هاشم. ومنهم من توقف في ذلك بالنسبة إلى الفريقين. ومنهم من توقف في حق الحاضرين دون الغائبين وهذا اختيار والقاضي عبد الجبار.

والدليل على جوازه مطلقًا: أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لا من جهة العقل، ولا من جهة الشرع؛ إذ لا يلزم من قول الرسول عليه السلام لبعض من حضره: لقد أوحى [إلى]، أنك مأمور بالاجتهاد، ومأمور بأن تعمل بما غلب على ظنك محال/ (299/ أ) لا من جهة العقل، ولا من جهة الشرع لا لذاته وهو [ظاهر]، جدًا، ولا لغيره إذ الأصل عدمه فمن ادعى فعليه البيان، فوجب أن يثبت جوازه إذ لا معنى للجائز إلا ذلك. وأيضًا: إن ما جار به الحكم في غير حضرة الرسول جاز به الحكم في حضرته كالكتاب والسنة. واحتج الخصم بوجوه: أحدها: أن الاجتهاد في معرض الخطأ والغلط، والنص آمن منه، ومن هو في عصره- عليه السلام- قادر على التوصل إلى الحكم بطريق النص، وحينئذ يكون آمنًا من الخطأ والغلط، وسلوك الطريق المخوف مع القدرة على سلوك الطريق الآمن قبيح عقلاً، والقبيح غير جائز عقلاً. وجوابه: منع المقدمة الأولى؛ وهذا لأن الشرع لما قال له: أنت مأمور بالاجتهاد وبالعمل بما غلب على ظنك كان آمنا من الغلط، لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيًا بما أمر به. سلمنا لكن لا نسلم أنه قادر على التوصل إلى النص؛ وهذا لأن ورود النص ليس باختيار المكلف ومسألته، بل جار أن يسال عن القضية ولا يرد فيها نص بأن يؤمر بالعمل فيها بما يغلب على ظنه، ولا يمكنكم نفى هذا الاحتمال إلا إذا أثبتم نفى جواز الاجتهاد فبيان نفي جواز الاجتهاد بناء على

نفي هذا الاحتمال دور. سلمناه لكن لا نسلم أن ترك العمل بمقتضى الاحتياط قبيح. سلمناه لكن لا نسلم أن القبيح غير جائز عقلاً. وثانيها: أن الصحابة- رضى الله عنهم- كانوا يفزعون إلى الرسول- عليه السلام- عند حدوث الوقائع، ولو كلان الاجتهاد جائزًا لهم لرجعوا إليه وحينئذ يجب أن ينقل كاجتهادهم بعده- عليه السلام-. وجوابه: لعل ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولو سلم ظهور ذلك لكن سلوك إحدى الطريقتين المفضية إلى المقصود على سبيل السهولة لا يقتضي امتناع إفضاء الطريقة الأخرى إلى المقصود. سلمناه لكن لا نسلم أنهم ما رجعوا إليه؛ فلعلهم رجعوا إليه وإنما سألوا الرسول- عليه السلام- بعد اجتهادهم، ليتأكد اجتهادهم بنص الرسول- عليه السلام- ولم تنقل تلك الاجتهادات، إما لقلتها، أو لأنهم لم يظهروها، أو اكتفاء بالنص. وثالثها: أن الحكم بالاجتهاد في حضرة الرسول- عليه السلام- يعد من باب التعاطي والافتيات عليه فوجب أن لا يجوز. وجوابه: أنا لا نسلم أنه معدود منه وإنما يعد ذلك أن لو كان ذلك بغير الإذن، فأما إذا كان بإذنه كان ذلك امتثالاً لأمره [لا] افتياتًا.

وأما الدليل على وقوع التعبد به سمعا فمن وجوه: أحدها: قول الصديق- رضى الله عنه- لأبي قتادة: (لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه) فقال- عليه السلام-: "صدق" صدقه في فتواه ولم يكن ذلك عن نص وإلا لم يكن لتصديقه معنى، ولكان الصديق أسنده لكونه أقرب إلى الإذعان والانقياد فهو إذن عق رأيه واجتهاده. وثانيها: ما روى عنه- عليه السلام- أنه حكم سعد بن معاذ في بنى قريظة، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي نسائهم وذراريهم، فقال عليه

السلام: "لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة". وثالثها. ما روى عنه- عليه السلام- أنه قد أمر لعمرو بن العاص وعقبة ابن عامر أن يحكما بين خصمين وقال لهما: [إن أصبتما فلكما عشر

حسنات وأن أخطأتما فلكما حسنة واحدة. وقد روى على غير هذا الوجه؛ وهو صريح الدلالة في جواز الاجتهاد بحضرته بالإذن. وأما ما يدل على جواز ذلك للغائب عن حضرته فقصة معاذ حين بعثه قاضيًا إلى اليمن، وعتاب بن أسيد حين ولاه مكة. فإن قلت: هذه أخبار آحاد فلا تفيد القطع فلا يجوز التمسك بها فيما نحن فيه، لأنها من المسائل العلمية. سلمناه لكن إنما يدل على من منع ذلك مطلقًا، فأما من جوز ذلك بشرط الإذن فلا. سلمناه لكنها أخبار خاصة في حق بعض الناس فلا يثبت بها جواز الاجتهاد على سبيل العموم. قلت: هذه الأخبار وإن كانت أخبار أحاد لكن تلقته الأمه بالقبول فجاز أن يقال أنها تفيد القطع للاتفاق عليه. سلمنا أن كل واحد منها لا يفيد القطع لكن لم/ (300/ أ) قلت: إن مجموع [ما ورد] في هذا الباب لا يفيد

القطع فالمقصود إفادة القطع من مجموعها لا من كل واحد منها. سلمناه لكن المدعى إنما هو حصول الظن لا القطع. وأما قوله. إنها تفيد جوازه بشرط الإذن. قلنا: بل تفيد جوازه مطلقًا فإن حديث أبى بكر- رضى الله عنه- يدل على المطلوب مطلقًا، لأنه ما كان مسبوقًا بالإذن. قوله: لا يثبت به الجواز في حق عموم الناس. قلنا: بل يثبت، وهذا لأنه إذا ثبت جواز في حق بعض من عاصره ممن هو بحضرته عليه السلام ثبت ذلك في حق غيرهم ضرورة أنه لا قائل بالفصل. سلمنا عدم دلالته على العموم، لكن ليس المطلوب ذلك بل المطلوب بيان وقوع الاجتهاد ممن هو بحضرته، سواء كان بالإذن أو بغيره وقد ثبت فيكون المطلوب حاصلاً). وأما الاستدلال على المسألة بقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} من حيث إنه كان- عليه السلام- مأمورًا بالمشاورة، ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم فضعيف، لاحتمال أن يقال: إن ذلك في الحروب والآراء ومصالح الدنيا لا في أحكام الشرع.

المسأله الثالثة في شرائط المجتهد

المسأله الثالثة في شرائط المجتهد أعلم أن المعتبر في ذلك أن يكون المكلف متمكنًا من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الشرعية، ولا تحصل له هذه المكنة إلا بأمور: أحدها. أن يكون عارفًا بمعاني الألفاظ ومقتضياتها؟ لأنه لو لم يعرف ذلك لم يفهم منه شيئًا، ولما كان اللفظ قد يفيد معنى بحسب المطابقة، أو التضمن أو الالتزام، وكل واحد منهما إما بحسب الوضع اللغوي أو العرفي، أو الشرعي، وجب أن يعرف هذه الدلالات بهذه الاعتبارات، وكذلك يجب عليه أن يعوف سائر وجوه دلالات اللفظ كدلالة اقتضائه، وإشارته، وايمائه، ومفهومه المخالف، والموافق، وكذلك يجب عليه أن يعرف [ما يتعلق بها من أحكام هذه الدلالة نحو أن يعرف]، ما يجوز منها أن يجتمع صمع مع الأخرى، وما لا يجوز، وأن التي يجوز الاجتماع بينها يجب أن يحصل اللفظ عليها بأسرها عند تجرده عن القرينة المعينة لإحدى الدلالات منها.

وثانيها: أن يعرف من حال المخاطب أنه يعنى باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرد عق القرينة العينة، وإن كان معها قرينة مما تقتضيه القرينة؛ لأنه لولا ذلك لما حصل الوثوق بشيء من الأحكام، ولا بالخبر ولا بالوعد والوعيد، لجواز أن يقال: إنه عنى بالخطاب الذى يدل ظاهره على حكم أو خبر أو وعد أو وعيد غير ظاهره مع أنه لم ينبه عليه. واختلفوا في طريق العلم إلى ذلك: فقالت المعتزلة: إنما يعرف ذلك بحكمة المتكلم، أو بعصمته أما الأول فمبنى على أنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بغنائه عنه، ومتى كان كذلك يستحيل منه فعله لعدم الداعي إليه. وأما أصحابنا لما لم يقولوا بالتحسين والتقبيح العقلي لم يمكنهم بناء ذلك عليه بل قالوا: إنا وإن جوزنا ذلك من الله تعالى بناء أنه لم يقبح شيء من الله تعالى بل كل شيء منه، لكن مع ذلك بأنه لم يقع فإن حسن الشيء لا يقتضى وقوعه، وهذا كما أنا نجوز انقلاب ماء الأدوية دمًا عبيطًا، وانقلاب الأحجار ذهبًا إبريزًار، وتولد الإنسان الشيخ من الأبوين دفعة، ومع ذلك فإنا نقطع بأنه لا يقع فكذا ما نحن فيه، فإنا وإن جوزنا من الله تعالى كل شيء، لكن الله تعالى خلق فينا علمًا ضروريًا بأنه لا يعنى من هذه الألفاظ إلا ظواهرها، فلذلك آمنا من وقوع التلبيس.

تنبيه قد عرفت أن اللفظ إذا كان معه قرينة كان المراد منه ما تدل عليه القرينة فيجب على المجتهد أن يبحث عن القرينة إلى أن يغلب على الظن وجودها أو عدمها فيعمل بمقتضاها إن وجدها وإلا فيما يقتضيه اللفظ ظاهرًا. ثم القرينة قد تكون سمعية، وقد تكون غير سمعية، وهى إما عقلية، أو حالية. أما السمعية فهي تبين جواز ما يراد من اللفظ، وما لا يراد منه، وتبين أيضًا ما هو المراد منه، وما هو غير المراد منه بخلاف القرينة العقلية فإنها لا تبين إلا الجواز دون الوقوع. ثم السمعية إما مخصصة، وإما معممة، والمخصصة إما مخصصة للأعيان وهو المسمى بالتخصيص، وإما للأزمان وهو المسمى بالنسخ. والمعممة/ (301، أ) هي التي تقتضي تعميم الخاص وهو القياس. وأما القرينة الحالية فإنها تبين الوقوع دون الجواز إذ لا دلالة للأقوال على ما يجوز من الأحوال وما لا يجوز منها، نعم لها دلالة على الوقوع بسبب شهادة الحال ثم الدلائل السمعية [وقرائنها السمعية] والحالية قد تكون غائبة عن المجتهد، فلابد وأن يكون لنقلها إليه طريق وهى: إما الأحاد، أو التواتر، والأول يفيد الظن، والثاني يفيد القطع، لكن بشرائط [ولابد وأن يكون عارفا بشرائط] كل واحد من الطريقتين.

وثالثها: أن يكون عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وبطرق استنباطاتها [منها]، ووجوه دلالتها وشرائطها. ثم قيل: مدارك الأحكام أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل فلابد من العلم بهذه الأربعة، ولابد معها من أربعة أخرى اثنان مقدمان، واثنان متممان، فهذه العلوم الثمانية لابد من بيانها، وبيان القدر الذى لابد للمجتهد من معرفته. فأما كتاب الفه تعالى فلا يشترط معرفة جميعه، بل ما يتعلق منه بالأحكام، وهو خمسمائة آية، ولا يشترط حفظها، بل يكفى أن يكون عارفا بمواقعها حتى يطلب منها الآية التي يحتاج إليها عند نزول الواقعة. وأما السنة فلا يشترط أيضًا معرفة جميعها، بل ما يتعلق منها بالأحكام وهي مع كثرتها مضبوطة في الكتب المصنفة في هذا الفن، ثم لا يشترط حفظها بل معرفة مواقعها حتى يطلب منها الحاجة إليها. وأما الإجماع فينبغي أن يكون عالمًا بمواقعة، حتى لا يفتى بخلاف الإجماع، وطريق ذلك: أن لا يفتى إلا بشيء يوافق قول واحد من العلماء المتقدمين، أو يغلب على ظنه أنه واقعة وقعت في هذا العصر وليس فيها

خوض للمتقدمين. وأما العقل، فيعرف البرامة الأصلية، ويعرف أنا مكلفون بالتمسك به ما دام لم يرد [دليل]، ناقل من النص، أو إجماع، أو غيرهما، فهذه هي العلوم المعتبرة بالمدارك الأربعة، وأعلم أن هذا ما ذكره الشيخ الغزالي، ونقله الامام عنه، ووافقه على ذلك، ولم يذكر فيه القياس، فإن كان ذلك باء على أنه متفرع [من الكتاب]، والسنة فالإجماع والعقل أيضًا كذلك، فكان يجب أن يذكرهما، وإن كان ذلك بناء على أنه ليس بمدرك فكونه حجة ينفي ذلك، بل هو أيضًا مدرك من المدارك فينبغي أيضًا أن يكون المجتهد عارفًا به، وبأنواعه، وأقسامه، وشرائطه المعتبرة والطرق الدالة على العلة فيه. وأما العلمان المقدمان: فأحدهما: علم شرائط الحد والبرهان، والعلم المتكفل ببيان ذلك هو المنطق، ولا يشترط في ذلك أن يكون بالغًا إلى الغاية القصوى، نحو أن يعرف نوادر الحد، وأن يعرف طرق الإنتاجات البعيدة من المتصلات، والمنفصلات، والمختلطات، بل يكفي أن يكون في المرتبة الوسطى من ذلك. وثانيهما: معرفة النحو واللغة والتصريف، [لأن شرعنا]، عربي فلا يمكن التوصل إليه إلا بفهم كلام العرب، وقد تقدم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يشترط في ذلك أن يكون بالغًا إلى حد

الأصمعي، والخليل، وسيبويه، بل يكفى في ذلك أن يكون عارفًا بأوضاع العرب بحيث يميز العبارة الصحيحة عن الفاسدة، والراجحة عن المرجوحة، فإنه يجب حمل كلام الله وكلام رسوله على ما هو الراجح لأن كان عكسه مرجوحًا جائزًا في كلام العرب، وبحيث يميز بين دلالة المطابقة، والتضمين، والالتزام، وبين المفرد والمركب وسائر الاقسام التي ذكرناها في اللغات. وأما المتممان: فأحدهما: يعم الكتاب والسنة وهو علم الناسخ والمنسوخ، وأسباب

النزول في النصوص الأحكامية. وثانيهما: مختص بالسنة وهو علم الجرح والتعديل، ومعرفة أحوال الرجال، ومعرفة الصحيح منها عن غيره من المطعون والمردود وغيرهما، ولا يشترط في ذلك أن يعرف ذلك بالنظر، والاختبار، والتواتر فإن كل ذلك متعذر أو متعسر في الذين درجوا، وطالت مدتهم، وكثرة الوسائط بيننا وبينهم بل يكفى في ذلك أن يعرف بالتقليد بتقليد الائمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم/ (302/ أ) كالإمام أحمد، وصاحبي الصحيحين مسلم والبخاري وأمثالهم- رحمهم الله تعالى-. ولا يشترط معرفة علم الكلام بل يكفى أن يعرف منه ما يصح به إسلامه كوجود الرب تعالى وتوحيده، وكونه عالمًا بكل المعلومات، وقادرًا على كل المقدورات، وكونه حيًا مؤيدًا، وما يتوقف عليه صحة التكليف ككونه متكلمًا آمرًا وناهيًا، ولا يشترط معرفة هذه الأشياء بالدليل والبرهان بل يكفي فيه التقليد لأنه يصح إسلام المقلد على الأصح، ويصح منه الاستدلال بالأدلة الشرعية إذ ذاك ولا يعتبر فيه سوى الإسلام، والتمكن من استنباط الأحكام

عن الأدلة وهو حاصل إذ ذاك. وأما تفاريع الفقه فغير معتبر معرفتها؛ لأن هذه التفاريع فرع الاجتهاد، فلو اعتبرت معرفتها فيه لزم اشتراط الفرع في الأصل وأنه دور. واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في معرفة أصول الفقه كان منصبه أتم وأعلى في الاجتهاد، لأنه قد ظهر مما تقدم ذكره أن أهم العلوم في الاجتهاد إنما هو علم أصول الفقه، وإذا كان الانسان فيه أكمل لزم منه أن يكون منصبه في الاستدلال والاجتهاد أتم وأعلى، ثم ضبط القدر الذي لا تحصل صنعة الاجتهاد بدونه كالأمر المتعذر، وإنما يتبين القدر المعتبر منه فيه بنوع من التقريب وهو الذى تقدمت الاشارة إليه.

المسألة الرابعة اختلفوا في أن صفة الاجتهاد هل تحصل في فن دون فن أم لا؟

المسألة الرابعة اختلفوا في أن صفة الاجتهاد هل تحصل في فن دون فن أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد بالنسبة إلى فن، دون فن، بل بالنسبة إلى مسألة دون مسألة، خلافًا لبعضهم. لنا: أن الغالب أن أصول فن لا توجد في فن آخر لا سيما الأجنبي منه غاية المجانبة، فإذا عرف ما ورد فيه من النصوص، والاجماع، والقياس، وعلم كيفية استنباط أحكام ذلك الفن من تلك الأصول وجب أن تحصل له صفة الاجتهاد بالنسبة إلى ذلك الفن ليتمكن من الاجتهاد فيه كالمجتهد المطلق. غاية ما في الباب أن يقال: لعله شذ منه شيء، ولكن النادر لا عبرة به كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب، فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه شيء بل أشياء ولهذا نقل عن مالك- رحمه الله تعالى- أنه سئل عن أربعين

مسألة فقال في ست وثلاثين منهاك لا أدري، مع جلالة قدره، وإطباق الخلق كلهم على علو رتبته في الاجتهاد المطلق.

الفصل الثاني في المجتهد فيه وفيه مسائل:

الفصل الثاني في المجتهد فيه

الفصل الثاني في المجتهد فيه وفيه مسائل: المسألة الأولى ذهب الجماهير إلى أنه ليس كل مجهد في الأصول مصيبًا، وأن الإثم غير محطوط عنه إذا لم يصادف ما هو الواقع، وإن بالغ في الاجتهاد والنظر سواء كان مدركه عقليًا كحدوث العالم، وخلق الأعمال، وعلى هذا كل العقليات لأن لم تكن من مسائل الأصول، أو شرعيًا لا بمعنى أنه يعرف بمدرك شرعي فإنه حينئذ يلزم أن يكون كثو مسائل أصول الدين شرعيًا؛ لأن له أيضًا مدركًا شرعيًا بل يعنى أنه لا يعرف إلا بمدرك شرعي كعذاب القبور حشر الأجساد، ومن صفات الرب كالسمع والبصر وكونه مرئيًا عند من يجعلها سمعية. ونقل عن الجاحظ، وعبيد الله بن حسين العنبري: أن كل مجتهد في

الأصول مصيب. فإن أرادا بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد فقد خرجا عن غريزة العقل، وانخراطًا في سلك: {أولئك كالأنعام بل هم أضل}. وإن أرادا به نفي الحرج والإثم، والخروج عن عهدة التكليف، فهذا وإن كان معقولاً غير مخالف لقضية العقل لكنه خروج عن المنقول، ومخالف للأدلة النقلية. ومعنى كونه مصيبًا هو أنه مصيب بما كلف [به]، مما هو داخل تحت وسعه وقدرته وهو بذل جهده ووسعه في النظر والاجتهاد. احتج الجماهير بوجوه: أحدها: قوله تعالى. {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}، وقوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} وقوله تعالى/ [303/ أ]: {ويحسبون أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون} وغيرها من الآيات الدالة على ذم الكفار بسبب عقائدهم. ووجه التمسك بها: أنه ذمهم على عقائدهم وظنونهم وتواعدهم على ذلك

بالنار من غير فصل بين المعاند وغيره مع استحالة كون كلهم معاندين عادة فلو كان المجتهد متهم معذورًا لما كان كذلك. فإن قيل: الذم إنما توجه على الكافر، والكافر إنما هو الساتر؛ إذ الكفر في اللغة هو: الستر ومنه يقال للمزارع: كافر ويقال: ليل كافو ساتو، ومنه قيل: كفر النجوم ظلامها، والأصل عدم التغيير، وهو إنما يصدق على الذى عرف الحق وستره، فأما الذى ما عرف ذلك بك عرف أن ما عدا دينه الذي هو عليه بلطل فلا يصدق عديه أنه كافر؛ إذ لا يصدق عليه أنه ساتر. سلمنا أنه يصدق عليه لكن يجب تخصيصه عنه لما سنذكر من الدلالة عليه. سلمنا عدم التخصيص لكن إنما ذمهم على ظنهم، فلعلهم ما عولوا في أنظارهم على ما هو دليل عندهم وفي اعتقادهم وإن كان شبهة في نفس الأمر فإن الشبهة دليل في اعتقاد من اشتبه عليه، ولوكان ما تمسكوا به شبهة لكان يجب أن يفيد لهم العلم، ولما لم يكن كذلك دل على أنهم عولوا على ما اعتقدوه أنه يفيد الظن مع أن المطالب يقينية فلا جرم ذمهم. قلنا: لا نزاع أن الكفر في اللغة قد جاء بمعنى الستر، لكنا ندعي أنه صار في عرف الشرع حقيقة في من انتحل دينًا مخصوصًا سواء عرفه حقًا أو باطلاً، والتغيير وان كان خلاف الأصل لكنه يصار إليه عند قيام الدلالة عليه وها هنا كذلك: أما أولاً: فلتبادر الذهن إليه عند سماع لفظ الكافر من غير فهم معنى الستر. وأما ثانيًا: فلأن كثيرًا من العوام يعرفون معنى الكافر مع أنهم لم يعرفوا

أنه في أصل اللغة للستر. وأما ثالثًا: فبالإجماع؛ إذ الإجماع منعقد على إطلاقه على من انتحل دينًا مخصوصًا سواء كان مقلدًا فيه، أو مجتهدًا، أو معاندًا. ولا نسلم أنه إنما يصدق على من عرف الحق وستره؛ وهذا لأن ستر الشيء لا يتوقف على العلم به، ألا ترى أن من بسط ثوبًا في مكان وكان فيه شيء لم يبصره يقال: ستره بالثوب. قوله: يجب تخصيصه. قلنا: إنه خلاف الأصل. وأما ما يذكرونه من الأدلة فسيأتي جوابه. قوله: لعل متمسكهم في الاجتهاد أدلة ظنية. قلنا: يستحيل ذلك عادة فإن كون كل الكفرة أطبقوا على التمسك بما يشبه الدليل الظني دون ما يشبه الدليل الذى يفيد العلم يستحيل عادة، ثم كون بعضهم بل أكثرهم جازمين بصحة ما هم عليه من الاعتقادات الفاسدة ينفى ذلك، وأيضًا: فلان ما ذكروه يقضي عدم توجه الذم إليهم على تقدير أن يكون اعتقادهم بناء على الشبهة التي توجب قوة تلك الاعتقادات الفاسدة وهو معلوم الفساد بالضرورة. وثانيها: أنا نعلم بالضرورة أنه- عليه السلام- كان يكلف اليهود والنصارى وسائر أصناف الكفار بالأيمان به وبما أنزل اليه، وذمهم على ترك ذلك وإصرارهم على عقائدهم، وأباح قتلهم وأسرهم وأسر أولادهم ونسائهم، ورمى ديارهم بالنار والمنجنيق وغير ذلك من أنواع التنكيل والتعذيب من غير فصل بين المعاند والمجتهد والمقلد مع أنا نعلم بالضرورة أن كلهم ما كانوا معاندين بل المعاند أقلهم، وهذا لأن الأحبار منهم والقسيسين العارفين للكتاب

كما أنزل من غير تبديل وتحريف في غاية القلة، وهم الذين وصفهم الله تعالى بالعناد حيث قال تعالى: {الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} وقليل من غيرهم كما روى عن بعض المشركين أنه كان يعترف بنبوته في الباطن وما كان يؤمن به للعار؛ فلو كان غير المعاند منهم، أو المجتهد منهم معذورًا لما جاز ذلك منه- عليه السلام. واعترض عليه: بأنا لا نسلم أنه- عليه السلام- ذمهم وأباح قتلهم وأسرهم وغير ذلك من العقوبات لاعتقادهم الغير المطابق/ (304/ أ) ولجهلهم، بل لتركهم التعلم بما علموا، أو عدم توجيههم نظرهم وفكوهم فيمأ دعوا إليه ونبهوا عليه، وإصرارهم على عقائده هم الأولى مع أنهم أرشدوا إلى دلائل العقائد الحقة. وأجيب عنه: أن حمل ذلك على أن كلهم [تركوا]، التعلم وأعرضوا عما أرشدوا إليه وأصروا على عقائدهم الأولة مع أنهم نبهوا على طرق العقائد الحقة متعذر العادة، كما أن حمل ذلك على كون كلهم معاندين متعذر عادة، فلم يبق إلا الحمل على أن بعضهم كانوا مقلدة وهم الأكثرون، وبعضهم كانوا معاندين وهم الأقلون، وبعضهم كانوا مجتهدين ومعتقدين حقيته بناء على شبه اعتقدوها دلائل ككثر اليهود، فإنهم يحتجون على حقية دينهم باستحالة نسخه بما يدل عليه من المعقول أو المنقول، وكذلك غيرهم من الكفار من أهل الملة وغيرهم، ولأنا نعلم بالضرورة من حال النبي والصحابة أنه لو جاءهم واحد من الكفرة وقال [لهم]، ظهر لي حقية ديني بناء على

الدلائل القاطعة في زعمه، وهى شبهة في نفس الأمر، فإنه- عليه السلام- ما كان يعذره ولا الصحابة بل كانوا بوبخونه ويذمونه ويبيحون قتله وقتاله كغيره من الكفار بل ربما كان كفره عندهم أعظم من كفر المقلدة، وبالجملة عدم اعذار الكفرة على العموم سواء كانوا مجتهدين أو غير مجتهدين معلوم من دين محمد عليه السلام ويؤكده العمومات التي تدل على أن الكفر والشرك لا يغفر مطلقًا نحو قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} فلم يفصل فيه بين من شركه وكفره عن اجتهاد ونظر، وبين من ليس كذلك. وثالثها: الاجماع فإن الأمة من السلف قبل ظهور المخالف أجمعت على ذم من كفر عن نظر واستدلال وتوبيخه كالفلاسفة والمجسمة، وعلى إباحة قتلهم، وربما كان عندهم أن كفرهم أعظم وأشد من كفو المقلدة، ولو كان المجتهد في الأصول معذورًا لكان إجماعهم خطا وهو ممتنع. وما يقال عليه. أنه كيف يمكن ادعاء الإجماع في محل الخلاف فهو ساقط؛ لأنا ندعى الاجماع قبل ظهور المخالف فلا يكون ما ذكروه قادحا فيه. رابعها: أن الله تعالى وضع على هذه المطالب أعنى المطالب الأصولية أدلة قاطعة، ومكن المكلفين من معرفتها، فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم، ترك العمل به في حق المقلد لكون اعتقاده مطابقا فوجب أن يبقى ما عداه على الأصل. فإن قلت: أنا لا نسلم بأنه تعالى وضح على هذه المطالب أدلة قاطعة

وهذا لأنا نرى الخلق مختلفين في المطالب الأصولية، وإذا نظرنا في أدلة المخالفين في هذه المسائل وأنصفنا لم نجد واحدًا منهم مكابرًا قائلاً بما يقطع العقل بفساده. سلمناه لكن نسلم أن ذلك يقتضى أن لا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم وهذا لأن العلم لو حصل منها لا حصل إلا بفكر متعب ونظر دقيق، وكونه تعالى رؤوفًا رحيمًا والشريعة المبعوثة سمحة سهلة مما ينفي ذلك وحينئذ نقول: لم لا يجوز أن يقال: أنهم إنما أمروا بالاعتقاد الذى غلب على ظنهم أنه صواب سواء كان مطابقًا أو غير مطابقًا، وعلى هذا التقدير يكون الآتي به معذورًا). ثم الذى يدل على أن التكليف لم يقع إلا بالظن الغالب وجهان: أحدهما: أن حصول اليقين الذي لا يحتمل النقيض ألبتة بوجه ما إنما يكون من الدليل الموكب من المقدمات البديهية توكيبا معلوم الصحة بالبديهية وهذا نادر عزيز جدًا، لا يفي به إلا الفرد بعد الفرد، والاستقواء يحققه، فلا يجوز أن يكون ذلك ما كلف به عامة الخلق الذين هم عاجزون عن مثل هذا النظر، فإن منهم من ليس له صلاحية أدنى العلوم فكيف يمكنه اتيان مثل هذا النظر لاسيما في المطالب الإلهية التي هي غريبة عن المألوفات والمشهورات، وإذا لم يمكنهم إتيان مثل هذا النظر كان تكليفهم به تكليف بما لا يطاق وهو ممتنع، أو وإن لم يكن ممتنعًا لكنه باطل لما سبق. وثانيهما: أنا نعلم بالضرورة أن النبي- عليه السلام- كان يقبل إيمان كل من أتاه بكلمتي الشهادة/ (305/ 1) من بدوى وغيره، لا يدرى البرهان ولا شرائطه ولا دلالة التوحيد والنبوة وكان يحكم بصحة إيمانه من غير مسألة منه عن ثبوت مضمون كلمتي الشهادة بالبرهان عنده، فلو كان الناس مكلفين بالاعتقاد الجارم بناء على الدلائل والبرهان لما حكم بصحة إيمان من يقطع بأنه

لا يعرف ذلك. قلت: أما الدليل على أنه تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة في الجملة أعنى بها على بعضها فإن ذلك هو المراد من قولنا: وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة لا كلها هو: أنا إذا شاهدنا أن الشيء وجد بعد أن لم يكن علمنا قطعا أن له سببًا، فإن العلم بكون المحدث لا يوجد بلا محبب ضروري، ثم نعلم أن ذلك المحدث إن كان محدثًا افتقر إلى محدث فيتسلسل أو يدور، ثم علمنا بطلانهما بدليل قاطع علمنا قطعا انتهاء ذلك إلى محدث غير محدث فالعلم بان المحدث محدثًا غير محدث قطعي لابتنائه على مقدمات قطعية، وكون الخلق مختلفين في المطالب الأصولية لا يدل على عدم الدلالة القاطعة عليها، فإن الاختلاف واقع أيضًا في الحسيات والبديهيات، وكذلك كوننا لا نجد المخالفين مكابرين قائلين بما يقطع العقل بفساده لا يدل على ذلك لاحتمال أن ذلك بناء على شبهة وخيال قوي، ومن قال قولاً بناء على الشبهة القوية أو المخيلة لا يعد مكابرًا وقائلاً بما يقطع العقل بفساده في أول الوهلة. وعن الثاني: أنا لم نحصر الخروج عن عهدة التكليف على العلم حتى يلزم ما ذكرتم من الحرج والعسر بل على أحد الأمرين وهو إما العلم، أو التقليد الجارم، ومعلوم أن ذلك سهل، وبه خروج الجواب محما ذكره من الوجهين على أن التكليف لا يجوز أن يكون بالعلم القطعي. وأما الجواب عن قوله: فلم لا يجوز أن يقال: إنهم إنما أمروا بالاعتقاد الذى كلب على ظنهم صدقه سواء كان مطابقا أو لم يكن فهو: أن ذلك غير جائز

لما ذكرنا من الأدلة، وقد أجبنا عن الاعتراضات التي أوردت عليها فبقيت سليمة عن القوادح فيعسر دلالتها على نفى ما ذكرتم من الاحتمال فإنه مجرد احتمال غير قاح في وجه دلالة الدليل. واحتج الخصم: بأن المكلف لو لم يكن مأمورًا من الاعتقاد بما غلب على ظنه أنه صواب لكان إما أن يكون مأمورًا بما غلب على ظنه أنه صواب على وجه التخيير وهو إما على الاطلاق، أو بشرط مطابقته للمعتقد، فالأول يحصل الغرض، لأنه إذا لم يكن مأمورًا بالاعتقاد الذي مخلب على ظنه أنه صواب سواء كان مطابقًا أو غير مطابق ولو على وجه التخيير بينه وبين العلم وجب أن يخرج عن عهدة التكليف بما غلب على ظنه أنه صواب وإن لم يكن مطابقًا فوجب أن لا يعاقب عليه ولا يذم بسببه وهو المطلوب. والثاني على قسمين: لأنه إما أن يكون يشترط في ذلك أن يعلم ذلك بناء على طريق، أو لا يشترط فيه ذلك. والأول يقتضي أن لا يكون ذلك الاعتقاد [تقليدًا ولا ظنًا وهو خلف، فإنه إذا علم ذلك أن ذلك الاعتقاد] صواب لم يكن ذلك القسم الذى نحن فيه وهو ما غلب على ظنه أنه صواب فيكون خلفًا. والثاني يقتضي أن يكون ذلك التكليف على عماية وهو ممتنع. وجوابه: أنه استدلال في مقابلة النصوص والإجماع فكان باطلاً.

المسألة الثانية في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية

المسألة الثانية في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية. وطريق ضبط مذاهب الناس فيه أن يقال: الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص، أو لا يكون. فإن كان الأول: فإما أن يكون وجده المجتهد أو لم يجده، والثاني على قسمين، لأنه اما قصر في طلبه أو لم يقصر، فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام، وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقًا، وإن لم يكن مع العلم به فإن قصر في البحث عنه فكذلك، وإن لم يقصر في البحث عنه بل بالغ في طلبه وتفكر ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه كحكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد والبحث التام وسيأتي/ (306/ أ) وإن لم يجده فإن كان ذلك لتقصيره في طلبه فهو أيضًا مخطئ وآثم في ذلك، وإن لم يقصر في ذلك بل بالغ في تفتيشه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده بأن خفى عليه الراوي الذي عنده النص، أو وإن عرفه لكنه مات قبل وصوله إليه فهو آثم قطعًا وهو مخطئ أو هو مصيب فهو على الخلاف الذى يأتي فيما لا نص فيه وأولى بان يكون مخطئا، ووجه الأولوية ظاهر. وأما التي لا يكون عليها نص، فإما أن يقال: لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين، أو لا يكون فيها حكم معين بل حكمه فيها تابع لاجتهاد المجتهد فهذا الثاني قول من قال: إن كل مجتهد مصيب، وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبى الحسن الأشعري والقاضي أبى بكر، ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم.

وقيل: هو مروي عن الشافعي وأبى حنيفة وأحمد- رضى الله عنهم- والمشهور عنهم خلافه وهؤلاء اختلفوا في أنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم معين، فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى بحكم فيها لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك؟ الأول هو القول الأشبه وهو منسوب إلى كثير من المصوبين. والثاني قول الخلص من المصوبين. وأما الأول وهو أن لله تعالى في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد حكم معن. فإما أن يقال. عليه دلالة، أو عليه أمارة فقط أو لا يكون عليه دلالة ولا أمارة. وهذا الثالث مذهب جماعة من الفقهاء والمتكلمين، وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم كدفين يعثر عليه الطالب اتفاقًا فمن عثر عليه فهو المصيب فله أجران، ومن لم يعثر عليه ولم يصادفه مخطئ وله أجر واحد، لأجل ما تحمل من الكد في طلبه وتعب في تفتيشه وإن لم يكن ذلك بناء على طريق وإلا فكونه مخطئا لا يناسب أن يكون له أجر.

وأما القول الأول، وهو أن على الحكم دليلاً يفيد العلم والقطع، وهو قول بشر المريسي، والأصم، وابن علية. وهؤلاء أتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه، وأنه إذا وجده فهو مصيب، وإذا أخطاه فهو مخطئ، لكنهم اختلفوا في أن المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب أم لا؟ فذهب بشر المريسي إلى أنه يأثم ويستحق العقاب. وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه فكان مخطئًا معذورًا. واختلفوا أيضًا في أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه أم لا؟ قال الأصم ينقض. وذهب الباقون إلى أنه لا ينقض. وأما القول الثاني، وهو أن على الحكم أمارة فقط وهو قول أكثر الفقهاء

كالأئمة الأربعة، وكثير من المتكلمين منا كابن فورك، والأستاذ أبى إسحاق. وهؤلاء اختلفوا. فمنهم من قال. إن المجتهد غير مكلف بإصابته لخفائه وغموضه، بل هو مكلف بما غلب على ظنه، فهو وإن كان مخطئا على تقدير عدم إصابته لكنه معذور ماجور، وهو قول الفقهاء وشسب إلى الشافعي وأبي حنيفة، ومنهم من قال: أنه مأمور بطلبه، ومكلف بإصابته أولاً،. فإن أخطأ وغلب على ظنه شيء آخر فهناك يتعين التكليف، ويصير مأمورًا بأن يعمل بمقتضى ظنه ولا يأثم ويسقط عنه العقاب تحقيقًا، فهذا شرح مذاهب الناس فيه ولنشرع الآن في الحجاج فنقول: احتج القائلون بأن كل مجتهد مصيب بوجوه: أحدها: قوله تعالى في حق داود وسليمان: {وكلا آتينا حكمًا وعلمًا} ولو كان أحدهما مخطئًا لما حسن وصفه بذلك، إذ المخطئ في الشيء لا يوصف بانه أوتى فيه الحكم والعلم. وجوابه: أنا لا نسلم أنه وصف بذلك فيما أخطا فيه وهذا لأنه نكرة في سياق الإثبات، فليس فيه دلالة لا على التعيين، ولا على التعميم، وإنما دلالته على أنه أوتى- حكمًا وعلمًا في الجملة فقط، وحينئذ ليس فيه دلالة على المطلوب، لأن المخطئ في الشيء يجوز أن يوصف بذلك في شيء آخر أو في الجملة، فلم قلت أن ذلك غير جائز حتى يحصل المقصود، أو أنه

للتعميم [أو فيما فيه الخطأ حتى يحصل المقصود] أيضًا سلمناه لكن المخطئ إذا كان مبالغًا في الطلب والتفتيش التام يجوز وصفه بذلك لعدم تقصيره، أو لكون اجتهاده وقع قريبا من الوجه الصائب. وثانيها: [307/ أ]: قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتضيتم اهتديتم" ووجه الاستدلال به: أنه لو كان المصيب منهم واحدًا والباقي مخطئًا لما كان الاقتداء بكل واحد منهم هدى، ضرورة أن الاقتداء بالمخطئ لا يكون هدى. وجوابه: منع الملازمة؛ وهذا لأنه لما وجب العمل على العامي بما أفتاه الصحابي، أو على المجتهد إن قلنا: قول الصحابي حجة، أو قلنا: يجوز للمجتهد أن يقلد المجتهد ووجب عليه اعتقاد الوجوب كان ذلك هدى ضرورة أن نقيضه ضلال وباطل وأجيب عنه: بحمله على قبول الرواية عنهم، وفيه بعد من حيث إن ذلك لا يفيد اقتداء بالراو. وتمسكوا من السعة أيضًا بخبر معاذ. ووجه التمسك به هو: أنه صوبه مطلقًا حيث رتب الاجتهاد على السنة، والسنة على الكتاب ولم يفصل بين ما إذا صادف حكم الله تعالى أو لم يصادف. وجوابه: ما سيأتي والمعارضة بحديث الخطأ. وثالثها: الإجماع، وتقريره: أن الصحابة أجمعت على تسويغ مخالفة بعضهم لبعض مع اعتقاد كل واحده منهم بان ما ذهب إليه حق، وعلى تسويغ

إفتاء المخالفين، وتوليتهم في الدماء والفروج، ولو كان المصيب واحدًا والباقي مخطئًا لما ساغ اتفاقهم على ذلك كما لا يجوز اتفاقهم على الخطأ والأمر بالمنكر أو النهى عن المعروف. وجوابه: أن عندنا يتغير التكليف عند العجز عن الوصول إلى الحكم فيصير حكم الله تعالى في حق المجتهد ما أدى اليه اجتهاده، وحينئذ لا يكون ذلك الحكم إذ ذاك خطأ وإن خطأ كان بالنسبة إلى الحكم الواقع في نفس الأمر. سلمنا أنه لا يتغير التكليف لكن إنما لم ينكر بعضهم على بعض المخالفة لكون المخطئ غير معين، ومع ذلك يجب على كل واحد من المجتهدين أن يعمل بما غلب على ظنه فلا يكون الانكار سائغًا إذ ذاك على أحد منهم، وبه ظهر الفرق بين ما نحن فيه، وبين ما قاسوا عليه فإن الخطأ معين في المعين عليه. ورابعها. لو كان في الواقعة حكل معين في نفس الأمر، لكان إما أن يكون عليه دليل، وأعنى بالدليل: القدر المشترك بين ما يقيد القطع، والظن، أو لا يكون عليه دليل، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الحكم معينًا في نفس الأمر. أما الملازمة فظاهرة. وأما بطلان القسم الأول، فلأنه لو كان على الحكم دليل لكان المجتهد متمكنًا من تحصيل العلم، أو الظن به فكان الحاكم بغيره حاكمًا بغير ما أنزل الله فيلزم تكفيره لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فسأولئك هم الكافرون} ويلزم تفسيقه لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} ولكان تاركة تاركًا لما أمره الله تعالى به، فيكون

عاصيًا مستحقًا للنار لما سبق في الأوامر، ولما أجمعت الأمة على بطلان هذه اللوازم، علمنا أنه ليس على الحكم دليل. لا يقال: ما ذكرتم من الأدلة وإن كلان يقتضى ثبوت الاحكام المذكورة لكن غموض أدلة الأحكام، وكون التكليف باتباعها حرجا وضررًا أوجب تخصيصها بالنسبة إلى الأحكام المذكورة للنصوص النافية للعسو والحرج والضرر. لأنا نقول: غموض أدلة الفروع لا تزيد على غموض أدلة الأصول، مع ما فيها من المقدمات الكثيرة، والشبه القوية، ثم لا يكون المخطئ فيه معذورًا بل الخطأ فيه إما كفر، أو بدعة وضلال، فما نحن فيه أولى أن لا يكون المجتهد معذورا فيه. ولقائل أن يقول. المطالب في الأصول جليلة، لكونها تتعلق بذات الله وصفاته ومعدودة معينة غير متناهية فيتناسب تغليظ الامر فيه حتى تتوفر الدواعي على طلب أدلتها التي هي محصورة بخلاف مطالب الفروع فإنها ليست من رتبة المطالب الأصولية، وهى أيضًا غير متناهية، فلم يمكن التنصيص عليها فناسب أن يخفف الأمر فيه بعدم تفسيق المخطئ، وعدم تضليله، لكى يكون ذلك باعثًا وداعيًا إلى كثرة النظر والاجتهاد بحسب ما يمنع من الوقائع، وهذا لأن خوض الانسان فيما أمن غائلته أكثر من الذي لا يأمن فيه ذلك فلم يأمن من التكفير أو التبديع والتضليل في أصول الدين بخلاف الفروع. وأما بطلان القسم الثاني وهو أن لا يكون على الحكم المعين في الواقعة دليل فلأنه حينئذ يلزم أن يكون التكليف (308/ أ) بذلك الحكم تكليفًا بما لا يطاق، وأنه غير جائز، أو وإن كان جائزًا لكن أجمعت الأمة على أن هذا النوع

من التكليف ليس من تكليف ما لا يطاق فثبت بما ذكرنا فساد القسمين ويلزم منه فساد القول بثبوت الحكم في الواقعة وجوابه: ما سبق في جواب الاجماع أويه وثانيًا فإنه لما أوجب عليه العمل بذلك الخطأ وعوقب على تركه امتنع معه التكفير أو التبديع والتضليل وإلا لزم التكليف بالجمع بين المتنافيين. وأيضًا: فإن دليلكم منقوض بما إذا كان النص موجودًا في المسالة، والمجتهد طلبه ولم يجده وحكم فيه بمقتضى القياس على خلاف النص فإنه مخطئ ومع ذلك لم يكفر ولم يضلل. وخامسها: أنه لو كان الله تعالى في كل واقعة حكم معين لكان عليه دليل قاطع، لأنه لو لم يوجد عليه دليل قاطع فإما أن لا يوجد عليه دليل أصل، وهو باطل، لكون التكليف بذلك الحكم حينئذ تكليف ما لا يطاق، وأما أن يوجد عليه دليل يستلزم الحكم ظاهرًا فإنه لو لم يستلزم الحكم ظاهرًا حينئذ لم يكن ذلك الدليل دليلاً، لأن المعنى من كون الدليل دليلاً أن يستلزم الحكم إما قطعًا، أو ظاهرًا، والتقدير هنا عدم وجود دليل قاطع عليه فيلزم حينئذ أن يكون مستلزمًا للحكم ظاهرًا وإلا لم يكن دليلاً، وهو خلاف التقدير الذى نحن فيه لكن ذلك باطل، لأنه إنما يكون مستلزمًا ظاهرًا بأن وجد المدلول مع الدليل في أكثر الصور وإن تخلف محنه في بعض الصور فإنه لو لم يختلف عنه في شيء من الصور لم يكن الدليل ظاهرًا بل قطعيًا، وحينئذ اقتضاء الدليل للمدلول في صورة المقارنة إن لم يتوقف على أمر آخر ليس موجودًا في صورة التخلف لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال. وإن توقف كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع لا ذلك الذى فوضناه أولاً، دليلاً ثم الكلام في ذلك المجموع كالكلام في الأول ولا يتسلسل لكونه

محالاً فينتهي إلى مجموع يمتنع تخلف المدلول عنه وحينئذ يلزم أن يكون الدليل قطعيا فثبت أنه لو كان في كل واقعة حكم لكان عليه دليل قطعي لكن ذلك باطل، أما أولاً: فباتفاق بيننا وبينكم، وأما ثانيًا: فلأنه يلزم أن لا يكون شيء من الوقائع اجتهادية، لأن ما فيه دليل قاطع لا يكون من الوقائع الاجتهادية على ما سبق تعريف المجتهد فيه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم فلم يكن لله في كل واقعة حكم. وجوابه: النقض بالأدلة الظاهرية التي توجب الظنون، فإنه لا خلاف في وجود الدليل الظاهري كالقياس، والاستصحاب، وغيرهما من الأدلة الظاهرية التي توجب الظنون في الشرعيات وغيرها مع أن دليلكم ينفيه، فكل ما هو جوابكم عنه ثمة فهو جوابنا عنه ها هنا. سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أن الدليل إنما يكون ظاهريا أن لو تخلف المدلول عنه في بعض الصور، وهذا لأن المعتبر فيه جواز التخلف لا التخلف ولا يلزم من الجواز الوقوع. سلمنا لكن لا نسلم أنه إذا توقف استلزامه له على أمر آخر كان الدليل هو المجموع، وهذا لأنه يجوز أن يكون المتوقف عليه شرطًا وهو غير داخل في ماهية الدليل، فلا يكون المجموع هو الدليل بل الدليل هو ذلك الأمر الحاصل في الصورتين أعنى صورة التخلف وصورة المقارنة [و]، الذي وجد في صورة المقارنة شرط اقتضائه له. سلمناه لكن الشعور بالمدلول بعد العلم بوجه دلالة ذلك الدليل إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن يخلق في بعض الصور دون البعض، فإن ترجيح أحد طرفي الجائز على الأخر من غير مرجح جائز في حق الفاعل المختار. ويقرر هذا الدليل بوجه آخر وهو: أنه لو كان في كل واقعة حكم

لنصب عليه دليل قاطع أزاحه لعذر المكلف، وقطعًا لحجته كما قال الله تعالى: {رسلاً مبشرين لئلا يكون للناس على الله حجة}، ولأن ذلك تمكين له من الإتيان بالمأمور به، والتمكين واجب كاللطف على ما تقدم تقريره في باب الإجماع، ولما لم يكن عليه دليل قاطع لما سبق علمنا أنه لا حكم في الواقعة. وجوابه. بعض ما سبق ويخصه: أنه مبنى على قاعدة التحسين والتقبيح وقد مر إبطالها. سلمناه لكن لا مانع من أن تكون الحكمة في طلب الظن بذلك الحكم بناء على الأدلة الظنية لا في طلب العلم به لما في النظر في الظنيات [من] زيادة المشقة والتعب لكون وجه الدلالة فيه/ (309/ أ) خفيًا محتملاً للنقيض فيكون الثواب فيه أكثر. وسادسها: لو حصل في كل واقعة حكم معين لكان ما عداه خطأ باطلاً، أما أولاً: فبالإجماع، وأما ثانيًا: فالاستحالة أن يكون النقصان حقين في نفس الأمر، ولو كان كذلك لزم أمور: أحدها: أن لا يجوز للمجتهد من الصحابي أن يولى من يخالفه فيما ذهب إليه من الأحكام، لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج الباطل وأعماله، وأنه غير جائز لكنه يجوز إذ الصحابة كانت تفعل ذلك من غير نكير فيما بينهم، ولى الصديق زيدًا، مع أنه كان يخالفه في الجد، وولى عمر وعلي- رضى الله عنهما- شريحًا مع أنه كان يخالفه في كثير من الأحكام،

وروي أن عمر حين خرج إلى الشام استخلف عليا- رضى الله عنه- مع أنه كان يخالفه في كثير من الأحكام. وأما إن ذلك كان من غير نكير فيما بينهم فلانه لو وقع ذلك لنقل واشتهر ولما لم ينقل دل على أنه لم يقع. وثانيها: لزم أن لا يجوز تمكين المخالف من الفتوى، وقد كانوا يمكنون من ذلك. وثالثها: ولزم وجوب نقض أحكام المخالفين، بل ويجب أن ينقض الواحد حكم نفسه إذا رجع عنه، لكن لم ينقل عق أحد منهم أنه نقض حكم مخالفه، ولا حكم نفسه محند الرجوع عنه، فإن كثيرًا منهم قال في الواقعة الواحدة بأقاويل مختلفة. ورابعها: ولزم أن يفسق مخالفة في الدماء والفروج وأن يتبرأ عنه، وهذا لأنه إذا خالفه فيما يتعلق بالدماء والفروج كان مرتكبًا الكبيرة. إذ الخطأ في الدماء والفروج من الكبائر إذ لا فرق بين القتل بالإكراه، وبين القتل بالفتوى. بل القتل بالفتوى أقوى وأكثر تسليطًا، لأنه يبيح القتل ويوجبه، والإكراه لا يبيحه، ثم إن القتل بالإكراه كبيرة يتعلق به، وجوب القصاص فكذا القتل بفتوى المخالف يجب أن يكون كذلك عند مخالفة لكن لما لم يفسقوه ولم يتبرؤا عنه علمنا أنه ليس مخطئًا. وخامسها: ولزم أن يجوز الانكار عليه بل يجب، لأن الإنكار واجب على المنكر والخطأ لا سيما في الدماء والفروج، ولما لم يجب ذلك لم يجوزوا الإنكار عليه علمنا أنه ليس في الواقعة الاجتهادية حكم.

فإن قلت: لعل الخطأ في هذا الباب من الصغائر الحقيرة لكونه بذل الجهد في طلب الدليل ولم يجده فكان يجب أن يكون معذورًا، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن يكون ذنبه صغيرًا حقيرًا فلذلك لم يثبت ما ذكرتم من الأحكام. سلمنا أنه كبيرة، فلم لا يجوز أن يقال: هذه الامور إنما تلزم إن لو حصل في هذه المسائل طريق مقطوع به، فأما إذا لم يحمل ذلك لكثرة وجه الشبه وتزاحم جهات التأويلات والترجيحات صار ذلك سببًا للعذر وسقوط اللوم. قلت: أجيب عن الأول: أنه لو كان خطـ لكان من باب الكبائر لا من الصغائر لأن تارك العمل بذلك تارك للعمل المأمور به فيكون مستحقًا للنار. وهو ضعيف، أما أولاً: فلأنه ليس كل ما يستحق بسببه النار كبيرة، فإن بترك كل واحد من الواجبات، وارتكاب كل واحد من المحرمات النار مع أنه بكبيرة، بل جوابه أن يقال: إنا وأن سلمنا أن الخطأ فيه من باب الصغائر، لكن لا نسلم أن ما ذكرتم من الأحكام من مختصات الكبائر بل هي ثابتة للصغائر والكبائر، "فإن التمكين من تمشية. الباطل غير جائز سواء كان من باب الصغائر أو من باب الكبائر، وكذلك الافتاء بالباطل غير جائز سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وكذا بقية اللوازم. وعن الثاني: أن غموض الأدلة، وكثرة الشبه، وتزاحم جهات التأويلات في أصول الدين كثر مع أن الخطأ فيه [إما] كفر أو بدعة.

وجوابه: أنه [إنما]، لم يثبت ما ذكرتم من الأمور لكون الخطأ غير معين في إحدى الجهتين بل هو محتمل في كل واحد من الجهتين، فلو ثبتت تلك الأمور فإما أن تثبت في الجهتين معًا وهو محال لخروج الحق عن النقيضين، أو في أحدهما عينا وهو أيضًا باطل لأنه تحكم محض، فلما تعذر إثباتها لا جرم لم يثبت في شيء منهما. سلمنا لزوم ثبوتها لكن إذا كان ما ذهب إليه المخالف باطلاً وهو ممنوع، وهذا لأن ذلك الحكم لان كان خلاف الحكم الواقع في نفس [الأمر]، وهو خطأ بالنسبة إليه لكنه يصير إذ ذاك حكم الله تعالى في حقه، فلم يلزم ثبوت تلك الأمور. سلمنا أنه لا يتغير التكليف لكن لما أوجب عليه العمل بموجب ظنه وعوقب على تركه امتنع ثبوت تلك الأحكام فيه معه. وسادسها: أن الدليل والخصم بل الأمة باسرها مساعدان/ (310/ أ) على أن المجتهد يجب عليه العمل بما مخلب على ظنه، وهو مأمور بان يعمل على وفق ظنه ولا معنى لحكم الله تعالى إلا ما أمر به، فإذا كان مأمورًا بالعمل ظنه فإذا عمل به كان مصيبًا، لأنه يقطع أنه أتى بما أمره الله تعالى به وحينئذ يلزم أن يكون كل مصيبًا. وجوابه: [أنه]، لا نزاع في أنه يجب عليه العمل بمقتضى ما مخلب على ظنه، وأنه مأمور بذلك وأنه مصيب لما أمره الله تعالى مع اتباع الظن الغالب، لكم هذا لا ينفى ما وقع فيه النزل، وهو أن الله تعالى في كل واقعة حكمًا

معينًا قبل اجتهاد المجتهد، ونصب عليه الدليل الذى يفيد القدر المشترك بين العلم والظن، فمن أصاب ذلك الحكم فهو المصيب، ومن لم يصبه وغلب على ظنه غيره كان مخطئًا وإن كان ذلك الذى غلب ظنه حكم الله في حقه إذ ذاك ومعلوم أن ما ذكروه لا ينفى هذا الاحتمال. وسابعها: أنه لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون خطئه مغفورًا له، لكنه حصل القطع بكونه خطئه مغفورًا له، فلا يكون مخطئًا. بيان الملازمة: أنه لو كان مخطئًا فإما إن لا يجوز كونه مخطئًا، أو يجوز كونه مخطئا والأول باطل. أما أولاً فلأن هذا الاعتقاد مضاد لاعتقاد كونه مخطئا الذى هو المفروض ولا يكون حاصلاً معه. وأما ثانيًا: فلان الخطأ غير متعين في حق واحد بعينه بل هو محتمل في كل واحد من المجتهدين فيستحيل أن يحصل معه اعتقاد عدم التخطئة في حق واحد بعينه وإلا لم يكن الخطأ محتملاً في. كل واحد منهم، والثاني لا يخلو إما أن يجوز معه كونه مخلاً بنظر يلزمه [فعله] لم أو لا يجوز ذلك معه، وهذا الثاني باطل، لأنه حينئذ يكون كالغافل عن ذلك النظر الزائد فلم يكن مكلفًا به، لأن الغافل عن شيء لا يكلف به فلا يكون حينئذ مستحقًا للعقاب على تركه فلا يكون مخطئًا، وقد فرض أنه يجوز أن يكون مخطئًا هذا خلف. ويقال بعبارة أخوى: أن هذا الاعتقاد يقتضى أن لا يكون تاركًا لما أمر به فلا يكون مستحقًا للعقاب فلا يكون مخطئًا وهو مضاد لاعتقاد أنه يجوز أن يكون مخطئًا فلا يحصل معه.

وأما الأول وهو أنه يجوز معه الإخلال بنظر زائد يجب عليه فعله وهذا على قسمين: أحدهما: أن يعلم معه أنه انتهى في النظر إلى المرتبة التي يغفر له إخلاله بنظر ما بعدها [لأنه لو اقتصر على أقل المراتب لم يغفر له ما بعده، فما من مرتبة ينتهى إليها إلا ويجوز أن لا يغفر له ما بعدها] ولا تتميز له بعض تلك المراتب عن بعض. وأيضًا: لو تميزت تلك المرتبة عن التي لا يغفر له ما بعدها لكان ذلك إغراء على الخطأ والمعصية، لأنه إذا انتهى إليها ترك النظر فيما بعدها لعلمه أنه لا مضرة عليه في ذلك مع كونه شاقًا عليه. وثانيهما: أن لا يعلم ذلك بل يجوز في كل مرتبة أن لا يغفر له ما بعدها فحينئذ لا يقطع بكونه مغفورًا له، فثبت أنه لو كان مخطئًا لما حصل القطع بكون خطئه مغفورًا له لكن ذلك باطل، لأنهم أجمعوا من أن عصر الصحابة إلى زماننا هذا أن المجتهد مثاب ومغفورًا له ما أخل به من النظر فيلزم أن المجتهد ليس بمخطئ. وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن المرتبة التي يغفر له إخلاله بنظر ما بعدها متميزة عن غيرها، وهى المرتبة التي يغلب التي على ظنه انتقاء قدرته على ما يزيد عليها، وعلى هذا التقدير سقط ما ذكروه مع أنه لو تميزت تلك المرتبة لكان ذلك إغراء على الخطأ والمعصية، لأنه لا يمكنه الإتيان بها بعده سواء تميزت أو لم تتميز فلا يمكن التكليف به لكونه غير مقدور ولا يكون تركه إغراء على المعصية والخطأ. وأما من قال: إن لله تعالى في كل واقعة حكمًا معينًا، وعليه دليل يفيد القدر المشترك بين العلم والظن، وأن من لم يصادف ذلك الحكم أو إن صادف لكنه من غير بناء على الطريق فهو مخطئ فقد احتجوا بوجوه:

أحدها: قوله تعالى في قصة داود وسليمان: {ففهمناها سليمان}. ووجه الاحتجاج به: أنه لو كان كل مجتهد مصيب لما كان لتخصيص الفهم بسليمان معنى. لا يقال: أن تخصيص الفهم سليمان لا يدل على عدمه في حق داود إلا بطريق المفهوم وهو ليس بحجة، لا سيما مفهوم اللقب، لأنا نقول: نحن لا نحتج به بهذا الطريق بل بسياق/ (311/ أ) الآية، ودلالتها على مدح سليمان، فإن الآية سيقت لزيادة مدخ سليمان في هذه القضية، ولهذا فهمت الأمة ذلك منها، فلو كان كل واحد منهما مصيبًا مثل الآخر، لما كان لزيادة مدحه معنى. وجوابه: لعل ذلك بناء على القول بالأشبه، فلا دلالة فيها حينئذ على مذهبكم سلمنا فساد القول به لكن لعل ذلك بناء على ما علمه سليمان من النص في ذلك دون داود ولا نزاع في حصول الخطأ في مثل هذه الصور، وهذا لأن كان بعيدًا لكنه محتمل في الجملة. سلمنا علمهما بالنص الدال على الحكم لكن لعل سليمان- صلوات الرحمن عليهما- انفرد بعلم النص الناسخ لذلك الحكم، ويؤكده: ما روي أنهما حكما في تلك القضية بالنص حكمًا واحدًا، ثم نسخ الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل فأحاط علم سليمان بذلك دون داود- صلوات الله عليهما- فلهذا أضيف الفهم إليه دون داود، وهذا وإن كان بعيدًا من وجهين: أحدهما: أنه لو نسخ لأحاط علمه بذلك كما أحاط علم سليمان بذلك دون داود - صلوات الله عليهما - فلهذا الفهم إليه دون داود، وهذا وإن كان بعيدًا من وجهين: أحدهما: أنه لو نسخ لأحاط علمه بذلك كما أحاط علم سليمان بذلك لا سيما أنه صاحب الشريعة وأنه الأصل في نزول الوحي.

وثانيهما: أن في ذلك لا يوصف بالفهم فإن بلوغ النص إلى المكلف ليس من الفهم في شيء لكنه محتمل فعليكم إبطاله وهو سهل. وثانيها: قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} وقوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وقوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} ولولا أن في محل الاستنباط حكمًا معينًا لما كان كذلك ولما نهى عن الاختلاف. وهو ضعيف جدًا، أما الآية الأولى: فإن المراد منها تأويل المتشابهات أي ما هو المراد منها، وهو ليس مما نحن فيه في شيء وإن فرض ورود المتشابه في الحكم الشرعي، ثم الذى يؤكد أنه ليس المراد منه الحكم الشرعي أنه قال: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} والقضايا الاجتهادية لا عدم فيها. وأيضًا: فإنه لا يستقيم قراءة من وقف على قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} إذ لا فائدة في إنزال نص شأنه ذلك في الحكم الشرعي بخلاف ما يتعلق بالأصول فإن فائدته الايمان والتصديق بمقتضاه على مراد الله تعالى. وأما الآية الثانية فكذلك ببعض ما سبق. وأيضًا: فإن الضمير في قوله: {لعلمه الذين يستنبطونه} راجع إلى المذكور في صدر الآية، وهو ليس حكمًا شرعيًا فليس فيها دلالة على

المطلوب ولئن سلمنا إمكان حملها على الأحكام الاجتهادية، لكن ليس فيهما دلالة على أن البعض من المجتهدين ليس بمصيب، بل لو كان فيهما دلالة على عدم إصابة أحد فإنما تدل على عدم إصابة من ليس من الراسخين في العلم، ومن ليس من أهل الاستنباط فيحمل ذلك في حق العوام، [إذ لا يمكن على بعض المجتهدين، إذ ليس البعض أولى من البعض فيحمل في حق العوام، دفعًا للتعطيل. وأما الآية الثالثة فالمراد منها: النهى عن الاختلاف والتفرق في أصول الدين كالتوحيد والنبويات وغيرهما، وكما يطلب فيه القطع واليقين دون الظن بدليل إجماع الأمة على أن المجتهد مأمور باتباع ظنه، ومنهى عن مخالفته، وهو أمو بالاختلاف في المجتهدات ضرورة اختلاف الظنون فيها فإن اتحاد الظنون فيها مستحيل عادة. وثالثها: قوله عليه السلام: " من اجتهد وأصاب فله أجواق ومن أخطا فله أجو واحلى "وهو صريح في أن المجتهد يخطئ ويصيب وهو على [قول]، تصويب الكل محال. وفيه نظر أيضا؛ لأنا نمغ أن ذلك على قول تصويب الكل محال؛ لأن القول بالخطأ متصور أيضًا على قولنا: إن كل مجتهد مصيب؛ وذلك فيما لا يستفرغ الوسع في النظر في الاجتهاد، فإن كان ذلك مع العلم بالتقصير فهو مخطئ وآثم، وإن كان بدون العلم به فهو مخطئ غير آثم، فلعل هذه الصورة هي المراد من الحديث.

سلمنا عدم تصور الخطأ على القول بتصويب الكل، لكن لعل المراد من الحديث ما إذا كان في الواقعة نص أو قياس جلى والمجتهد طلب ذلك واستفرغ الوسع في ذلك فلم يجده وحكم في القضية بغيره فإنه مخطئ في هذه الصورة. سلمنا عدم انحصار الخطأ في ذلك فلعل ذلك بناء على القول بالأشبه وحينئذ يحصل المطلوب. ويمكن أن يجاب عن الأول: بأنه إذا علم بتقصيره فهو آثم فلم يمكن تنزيل الحديث عليه، وإذا لم يعلم ذلك فلا/ (312/ أ) نسلم أنه مخطئ عندهم؛ وهذا لأنه مهما كلب ظنه أنه غير مقصر في طلب الدليل ووجه الدلالة وطلب على ظنه أن الذى تمسك به دليل على الواقعة كان مصيبًا فإن مناط التكليف ليس إلا كلبه الظن. وعن الثاني: أنه تخصيص فيكون على خلاف الأصل. وعن الثالث: أن القول بالأشبه باطل على ما سيأتي تقريره. سلمنا لكن المتبادر من الخطأ عدم مصادفة الواقع لا عدم مصادفة ما هو في تقدير الواقع فتنزيله عليه خلاف الأصل. ورابعها: أن المجتهدين إذا حكما في الواقعة بحكمين متقابلين كالتحريم والوجوب مثلاً فإن لم يكن الحكمان بناء على الدليلين فهما مخطئان فلم

يكن كل مجتهد مصيبا، وإن كانا بناء على الدليلين فإن كانا متساويين فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجارم بالنفي أو الإثبات مخطئ فلم يكن كل مجتهد مصيبًا، وإن كان أحدهما راجحًا والآخر مرجوحًا فالتمسك بالراجح مصيب والآخر يكون مخطئا فلم يكن أيضا كل مجتهد مصيبا، وإن كان أحد الحكمين بناء على الدليل دون الآخر كان المتمسك بالدليل مصيبا دون الآخر فلم يكن أيضًا كل مجتهد مصيبًا فعلى كل التقادير لم يكن كل مجتهد مصيبًا. وأورد الإمام هذا بطريقة أخرى وهى أن أحد المجتهدين إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم فنقول: أحد هذين الاعتقادين خطأ، والخطأ منهي عنه، فأحد هذين الاعتقادين منهي عنه. بيان الأول: إن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون، فإن كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابًا واعتقاد رجحان الأمارة الأخرى خطا؛ ضرورة أنه غير مطابق؛ وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى كان كل من الاعتقادين خطأ ضرورة عدم مطابقتهما للمعتقد فعلى كل التقديرات لا يكون الاعتقادان مطابقين بل أحدهما يكون بخلاف المعتقد فثبت أن كل مجتهد ليس بمصيب بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد وهذا إحدى صور الخلاف فإن اكتفينا به جاز، وان أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا ما كلفوا به قلنا: الدليل عليه: أن الاعتقاد الذى لا يكون مطابقًا للمعتقد جهل والجهل بإجماع الأمة غير مأمور به فثبت أيضًا أن الكل ليسوا بمصيبين بمعنى الإتيان بالمأمور به.

وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن هذين الاعتقادين خطأ. قوله: أن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون. قلنا: تعنى به في نفس الأمر، أو في اعتقاد المجتهد؟ فإن/ (313/ أ) عنيت به الأول فممنوع، وهذا لأن الأدلة الظنية ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر إحداهما راجحة على الأخرى أو لا تكون. ولئن سلم ذلك لكن إنما يلزم أن يكون أحد الاعتقادين خطا أن لو اعتقد كل واحد منهما أن أمارته راجحة على الأخرى في الخارج، فأما إذا لم يعتقد ذلك بل بالنسبة إلى اعتقاده فلا. وإن عنيت به الثاني فمسلم لكن لا نسلم أن إحداهما إذا لم تكن راجحة على الأخرى كان كل من الاعتقادين خطأ؛ وهذا لأنه يحتمل حينئذ أن تكون كل واحد منهما راجحة على الأخرى في اعتقاد كل من المجتهدين، وحينئذ يكون الاعتقادان مطابقين لحصول الرجحان في أمارة كل واحد منهما في اعتقاده؛ وهذا لأن الأدلة الظنية مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية فجاز أن يكون كل منهما راجحا عند صاحبه. وأما ما أجاب به عن هذا، وهو: أن الرجحان في الذهن إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج، أو أمرًا لا يثبت إلا معه لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشيء كون وجوده مساويًا لعدمه فمع هذا الاعتقاد يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحا على اعتقاد عدمه فضعيف. أما أولاً: فلأنه لو كان الرجحان في الذهن نفس اعتقاده رجحانه في الخارج أو أمرًا لا ينفك عنه لما تصور وجوده بدونه لكنه يتصور فإن الإنسان قد يجزم برجحان الشيء في ذهنه مع عدم اعتقاد كونه راجحًا في الخارج، ولهذا

لو صرح بذلك لما عد مناقضا ومتهافتًا، فإنه لو قال: هذا راجح في ذهني ولا أدرى كونه راجحا في الخارج أم لا، لم يعد كلامه متهافتا ولا يوصف بالجهل عند عدم ظهور الرجحان في الخارج. وأما ثانيًا: فلأنا لو سلمنا أن الرجحان في الاعتقاد لا يبقى مع اعتقاد كون وجود الشيء مساويًا لعدمه في الخارج لكن فيما له وجود في الخارج [فأما الشيء الذى لا وجود له في الخارج]، فلا يتصور فيه ذلك الاعتقاد فلا يمكن أن يقال فيه: أنه إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج أو أمرًا لا يثبت إلا معه، ورجحان الادلة الظنية أمر إضافي غير حقيقي كما تقدم فلا يتصور فيه ذلك. وأما ثالثًا: فلأن كون الرجحان في الذهن لا يبقى "عند اعتقاد كون وجود الشيء مساويًا لعدمه لا يدل على أنه عيق اعتقاد الرجحان في الخارج أو أمر لا يثبت إلا معه؛ وهذا لأنه قد يعتقد وجود الشيء مع الذهول عن ضده فضلاً عن اعتقاد عدمه، مع أنه لا يبقى ذلك الاعتقاد عند اعتقاد وجوده. سلمناه لكن الدليل إنما يدل على أن الاعتقادين فيما ذكره من الصورة ليسا بمطابقين للمعتقد بل لابد وأن يكون أحدهما خطا لكن لا يلزم منه إن كل مجتهد في الحكم الشرعي ليس بمصيب؛ لأن رجحان الإمارة ليس حكمًا شرعيًا، نعم يلزم من خطأ الطريق خطأ الحكم لكن من جهة الطريق لا بمعنى عدم مصادفة الحكم الواقع في نفس الأمر الذى فيه النزاع دون القائلين، فإن القائلين بأن كل مجتهد مصيب اتفقوا أيضًا على إمكان الخطأ في الحكم من جهة الطريق وذلك بان يقصر في الاجتهاد. وخامسها: المجتهد مأمور بالحكم عند نزول الواقعة وفاقًا، فإما أن يكون ذلك بناء على طريق، أو لا يكون بناء على طريق، والثاني باطل، لأن

القول في الدين بمجرد التشهي باطل بالإجماع فيتعين أن يكون ذلك بناء على طريق، فذلك الطريق إن كان خاليا عن المعارض تعين الحكم بمقتضاه وفاقا فيكون المخالف لذلك مخطئا فلم يكن مجتهد مصيبا، وإن لم يكن خاليا عنه فذلك المعارض إن كان راجحا عليه وجب العمل بمقتضاه، لإجماع الأمة على وجوب العمل بالراجح فيكون مخالفه مخطئا، وإن لم يكن راجحا فإن كان هو راجح عليه تعين العمل به فيكون مخالفه مخطئا، وإن لم يكن منهما راجحا فهما حينئذ متعارضان متساويان وحكم ذلك إما التخيير، أو التساقط، والرجوع إلى غيرهما، وعلى التقدير فحكمه معين فمن حكم بخلاف ذلك كان مخطئًا فثبت أن المصيب واحد على كل التقادير. وأما ما يقال: إن القول في الدين بمجرد التشهي باطل إذا كان هناك دليل، فأما إذا لم يكن هناك دليل فلا نسلم امتناعه فلم لا يجوز حيذ القول بمجود الحدس والتخمين ولا دليل في المسائل الاجتهادية، بدليل أنه لا إثم فيه ولا عقاب، ولو كان فيها دليل لكان مخالفه مستحقا له لما سبق أن مخاوف الأمر مستحق للعقاب فضعيف، لأنه إن عنى بالدليل ما يفيد القطع لم يلزم من عدمه جواز القول بالحدس والتخمين، لجواز أن يكون القول في الدين مشروطًا بما يفيد القطع أو الظن، وإن عنى به ما يفيد القطع أو الظن لم يلزم من مخالفته عقاب لأن من ترك الدليل الظني لدليل ظني آخر لم يستحق العقاب، ولو سلم أنه لا دليل في المسائل الاجتهادية بالمعنى الثاني لكن القول في الدين بمجرد الحدس والتخمين باطل بالإجماع سواء وجد هناك ما يفيد القطع أو الظن أو لم يوجد، واعلم أنه لا يخفى عليك الاعتراض على هذا الدليل مما سبق.

وسادسها: المجتهد مستدل بشيء على شيء، والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب، ومعلوم أن ذلك يستدعى وجود الدليل متقدمًا عليه، والدليل يستدعى وجود المدلول متقدما عليه بالرتبة؛ لأن [دلالة]، الدليل على المدلول نسبية بينهما، والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على ثبوت كل واحد منهما فوجود المدلول الذى هو المطلوب متقدم/ (314/ أ) على الاستدلال بمرتبتين والظن متأخر عنه لكونه أثره ونتيجته، فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن الذى هو متأخر عن الاستدلال الذى هو متأخر عق الدليل الذي هو متأخر عن المدلول لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وهو ممتنع قطعا. وسابعها: المجتهد طالب، والطالب لابد له من مطلوب متقدم في الوجود على وجود الطلب فلابد من ثبوت الحكم قبل الطلب، وإذا كان كذلك كلان مخالفه مخطئًا. لا يقال. مطلوب المجتهد إنما هو غلبة الظن الذى يترتب عليه الحكم لا الحكم الثابت قبله، وهذا كما يقال لمن أراد ركوب البحر: إن غلب على ظنك السلامة جار لك الركوب وإلا حرم، فمطلوبة في هذه الصورة غلبة الظن بالسلامة ويترتب عليه حكم الله من جواز الركوب وحرمته لأنا نقول: ليس المطلوب كلبة الظن كيف ما كان وفاقًا بل الظن الذي يحصل بالنظر في الأمارة، وذلك يتوقف على وجود الأمارة المتوقف على وجود ما هي أمارة عليه فيكون غلبة الظن موقوفًا على وجود المدلول بمراتب فلو كان وجود المدلول موقوفًا على غلبة الظن لزم الدور.

واعلم أن حاصل هذا الدليل يرجع إلى الذى قبله وفيه نظر يعرف بالتأمل. وثامنها: أن القول بتصويب المجتهدين يقتضى الجمع بين النقيضين وهو محال فما يفضي إليه فهو أيضًا محال. بيان أنه يقتضى الجمع بين النقيضين لان [أحد]، المجتهدين إذا قال في المسالة بالحل والأخر بالحرمة فلا شك أن الحرمة مستلزمه لعدم الحل، فلو كانا القولان حقين في المسالة لزم ثبوت الحل وعدمه معا في المسألة وهو جمع بين النقيضين فكان ممتنعًا، وهو أيضًا ضعيف؟ لأنه إنما يلزم ذلك أن لو اتحدت النسبة وهو ممنوع؛ وهذا فإن الحل إنما هو ثابت فيها بالنسبة [إلى المجتهد الذى غلب على ظنه الحل، والحرمة بالنسبة إلى من غلب على ظنه الحرمة وإذا اختلفت النسبة] فلا يلزم ذلك، ألا ترى أن المرأة المعينة توصف بالحل بالنسبة إلى زوجها وبالحرمة بالنسبة إلى الأجنبي، وكذا القول في الميتة فإنها تحل للمضطر وتحرم على غيره، وليس هو من قبيل الجمع بين النقيضين وفاقًا فكذا ما نحن فيه. وتاسعها: أن القول بتصويب الكل يفضى إلى وقوع منازعة لا يمكن قطعها، وهذا كما إذا أبان المجتهد روجته المجتهدة بقوله: "أنت بائن" ثم راجعها بناء على اجتهاده في أن الكنايات كلها رجعيات، والمرأة ترى ذلك من جملة البوائن بناء على اجتهادها أنه من جملة البوائن، فها هنا الزوج متمكن من مطالبتها بالوطء، والمرأة مأمورة بالامتناع فهذه منازعة لا يمكن قطعها، وكذلك إذا تزوج واحد امرأة بغير وليها ونكحها الأخر بعده بولي وتنازعا في

ذلك فلو قيل بتصويب المذهبين معًا لزم إما حل الزوجة للرجلين وهو محال، أو المنازعة التي لا يمكن قطعها، وإذا كان ذلك كان القول باطلاً؛ لأن المنازعة التي لا يمكن رفعها شرعًا محال فما أفض إليه فهو أيضا محال. وهو ضعيف أيضًا؛ لأنه وارد على الخصم أيضًا، فإنه وإن لم يقل بتصويب الكل لكنه يوجب العمل على كل مجتهد بما يغلب على ظنه إذ المخطئ غير معين والجواب واحد على المذهبين، ولنذكرها هنا طريق فصل الخصومة بتقسيم يتضمن بيان حكمه وغيره ليعلم أن ذلك غير مختص بأحد المذهبين فنقول: الواقعة النازلة بالمكلف إما نازلة بالمجتهد أو بغيره، وعلى التقديرين إما أن تكون مختصه به، أو لا تكون مختصه به بل تتعلق بغيره فهذه أقسام أربعة: أحدها: أن تكون نازلة بالمجتهد، ومختصة به، وحكمه: أنه يجب أن يعمل بما يؤس إليه اجتهاده فإن استوت عنده الأمارات تخير بينهما أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان فيعمل به. وثانيها: أن تكون نازلة به لكنها غير مختصة به بل هي متعلقة به وبغيره، وحكمه: أن يرجعا إلى حاكم يفصل بينهما، أو إلى محكم ومتى حكمًا بشيء لم يكن لهما الرجوع عنه، وإن كانت الواقعة فيما يجرى نيه الصلح، نحو التنازع في مال فيختص بزيادة جريان الصلح فيه. وثالثها: أن تكون الواقعة نازلة بغير المجتهد وهى. مختصة، وحكمه: أن يستفتى ويعمل بما اتفق عليه فتاوى المفتين فإن اختلفوا في ذلك عمل

بفتوى الأعلم والأورع فإن استووا تخير بينهما. ورابعها. أن تكون الواقعة متعلقة به وبغيره، وحكمه: كما تقدم في المجتهد من غير تفاوت وعند هذا ظهر أن الجواب واحد على المذهبين؛ لأن ما ذكرنا من طريق فصل الخصومة لا يختص بمذهب دون مذهب. وعاشرهما: أنه لو كلان كل مجتهد مصيبا لم يكن لشرعية المناظرة فائدة؛ لأن فائدة المناظرة إنما هي تحقيق الحق ومعرفة الصواب ليستمر صاحبه عليه ويرجع الذاهب إلى نقيضه عليه، ويرجع حاصلة فتحصيلها تحصيل للحاصل، والثانية ممتنعة الحصول ألان الذاهب إلى نفيضه أيضًا محق ومصيب فلم يجردوه عنه فكانت الفائدة الثانية ممتنعة أصول، وهو ظاهر الضعف؛ لانا نمنع انحصار فائدة المناظرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر نحو: معرفة وجود الدليل القاطع، وانتقائه ليتفرع عليه جواز الاجتهاد وعدمه في تلك المسالة، ونحو معرفة حصول التراجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد وعدمه حتى لا يتوقف أو لا يتخير في محل الجزم أو يجزم في محل التوقف/ (315/ أ) والتخيير، ونحو معرفة الخطأ في طريق الاجتهاد فإن الخطأ في الطريق متصور على المذهبين، ونحو تشحيذ الخاطر والتمرين على طرق الاجتهاد. وحادي عشرها: وهو الذى عول عليه بعضهم، أن الاصل عدم التصوب، والأصل في كل. مستحق دوامه، والاصل عدم الدليل على التصويب؛ لأن الأصل في الأشياء العدم لا سيما الدليل الذى يخالف الأصل

لاسيما بعد البحث والفحص عنه إذ تد ظهر ضعف أدلة المصوبة، وحينئذ يلزم القضاء بالبقاء على حكم الأصل، ولا يتأتى مثله في تصويب واحد غير معين؛ لأنه وجد الدليل عليه وهو الإجماع؛ لأن من قال: المصيب واحد لا بعينه فقد قال به، ومن قال: إن كل مجتهد مصيب فقد قال أيضًا بإصابة واحدة فكون الواحد مصيبا مجمع عليه، ثم ذلك الواحد إما معين وهو باطل بالإجماع، أو غير معين وهو المطلوب، أو نقول: إذا ثبت أن كون الواحد مصيبًا بالإجماع وجب أن يكون غير معين لئلا يلزم خلاف الاجماع، ولا إجماع على تصويب الكل بهذا الطريق فوجب بقاؤه على النفي الأصلي. واعلم أن التمسك بالأصل دليل عام في كل ما يدعى فيه النفي لكن إنما يتم بالقدح في دليل المثبت فلم يكن له تعلق بخصوصية المسالة. وثاني عشرها: [التمسك]، بإجماع الصحابة، وتقويره: أن الصحابة - رضى الله عنهم- صرحوا بالتخطئة من غير نكير فيما بينهم وذلك يدل على إجماعهم على أن المصيب واحد بيان الأول: ما روى عن الصديق- رضي الله عنه- أنه قال في الكلالة، (أقول فيها برأي إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، واستغفر الله). وعن عمر- رضي الله عنه- أنه حكم بحكم فقال له بعفن الحاضرين: هذا والله الحق. ثم حكم بحكم آخر فقال الوجل هذا والله الحق فقال عمر له: إن عمو لا يعلم أنه أصاب الحق، لكنه لا يألوا جهدًا. روى أنه قال: إن يكن خطا فمنه، لان يكن صوابًا فمن الله. وقال أيضًا

لكاتبه: (أكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمنه". وقال أيضًا: (أخطا عمر وأصابت المرأة" قال في كله المرأة التي ردت عليه نهيه- رضى الله عنه- عن المغالاة في الصداق. وقال على لعمر في قصة المجهضة: "إن لم يجتهد فقد غشك، وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة" وقال ابن مسعود- رضي الله عنه- في المفوضة: (أقول فيها برأي فإن كان صوابًا فمن الله، لأن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان) ويقل أن جماعة من الصحابة خطأوا ابن عباس- رضي الله عنه- في إنكار العول، وهو أيضًا خطأهم في إثباته فقال: (من باهلني باهلته إن الله تعالى لم يجعل في المال الواحد نصفًا ونصفًا وثلثًا، وهذان النصفان ذهبا بالمال فاين موضع الثلث).

وخطأ ابن عباس زيد بن ثابت في مسألة الجد مع الأخوة وقال: (ألا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا). وأما أن ذلك كان من غير نكير فيما بينهم فلانه لو وجد الإنكار على ذلك لنقل وأشتهر، ولما لم ينقل ذلك ولم يشتهر علمنا أنه لم يوجد. بيان الثاني ظاهر، فإنه لو كان كل منهم مصيبا لم يجز تخطئة بعضهم فكان يمتنع اتفاق الكل عليها فكان ذلك دالا على اتفاقهم على أن المصيب واحد، ولا يعارض هذا بأن هؤلاء الذين نقل عنهم التصريح بالتخطئة فقد نقل عنهم تولية المخالف في الدماء والفروج وتمكينه من الفتوى فيهما وترك البراءة عنه وتفسيقه كما سبق في حجج المصوبة؛ وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون تصويب الكل؛ لأن التخطئة مصرح بها، والتصويب مستدل عليه لو سلم الاستدلال فكان الأول أولى). فإن قلت: إنما يصار إلى الترجيح إذا لم يمكن التوفيق بين الدليلين؛ وهذا لأن الترجيح يقتضي إعمال الراجح وترك المرجوح بالكلية، والتوفيق لا يقتضى ذلك بل يقتضى إعمالها ببعض الاعتبارات فكان أولى، وإذا كلان أولى لم يجز المصير إلى ما هو دون الأول مع إمكان المصير إلى الأولى، كما لا يجوز المصير إلى المرجوح مع وجود الراجح وهنا يمكن التوفيق، وهو أن تحمل التخطئة على ما إذا قصر المجتهد في الاجتهاد، أو لم يكن أهلا

للاجتهاد، أو أنه وإن كان أهلا وما قصر في الاجتهاد لكن وجد في المسألة نص قاطع، أو إجماع، أو قياس جلى، وهو بعد البحث التام والاستقصاء البالغ لم يجده وحكم بخلافه، وما ذكرنا من الدليل يحمل على ما إذا لم يوجد شيء من هذه الأمور وإذا أمكن هذا النوع من التوفيق لم يجز المصير إلى الترجيح لاستلزامه الترك بأحد الدليلين. قلت: حمل تخطئة الصحابة بعضهم لبعض، أو لنفسه على ما ذكرتم من الصور الثلاث خلاف الظاهر. أما الأول: فلأن الظاهر منهم عدم التقصير في الاجتهاد، بل المعهود منهم المبالغة التامة في ذلك حتى نقل عن بعضهم أنه كان يبقى في الاجتهاد في مسألة مدة مديدة، ويراجع نفسه فيها مرة بعد مرة مع المساءلة والمذاكرة مع الغير وطلب الاستعانة من الله تعالى، ومعلوم أن التقصير في ذلك من مثل هؤلاء بعيد غاية البعد وأما الثاني فغير ممكن لأنه لا يمكن إحالة التخطئة إلى عدم أهلي الاجتهاد لإجماع الأمة على أهليتهم للاجتهاد. وأما الثالث فكذلك؛ لأن من الظاهر أن لا إجماع إذ ذاك من/ (316/ أ) غيرهم فإن كان هناك إجماع فهو منهم فيستحيل ذهولهم عنه. وأما النص والقياس الجلي فالظاهر اطلاعهم عليهما لشدة بحثهم عن الأدلة الشرعية، ولكونهم نقلة الشريعة فمن البعيد أن يخفى عليهم لاسيما وقوع الحادثة واشتهارها فيما بينهم، فهذا ما أردنا أن نذكر من أدلة الفريقين في هذه المسألة.

فروع الذين قالوا ليس في الواقعة حكم معين، اختلفوا في الأشبه على التفسير الذى تقدم ذكره، فمنهم من أثبته، ومنهم من نفاه، وهو الأظهر؛ لأن ذلك الأشبه إن كان هو العمل بأقوى الأمارات وهو موجود كان الأمر بالعمل به واردًا لإجماع الأمة على وجوب العمل بأقوى الأمارات، وحينئذ لا يكون ذلك قولاً بالأشبه إذ يعتبر فيه أن لا يكون هناك حكم بالفعل وعلى هذا التقدير يكون هناك حكم معين وهو العمل بأقوى الأمارات فلم يكن ذلك قولاً بالأشبه. وإن كان غير موجودة لم يكن الأشبه- أيضًا- موجودًا؛ لأن الأشبه على هذا المدير هو العمل بأقوى الأمارات فإذا لم يكن أقوى الأمارات موجودًا لم يكن الأشبه موجودًا وإن لم يكن الأشبه هو العمل بأقوى الأمارات بل غيره فذلك الغير إن كان مصلحة العبد وقلنا: يجب على الله تعالى رعاية مصالح العباد وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم ليتمكن المكلف من استيفاء تلك المصلحة، وحينئذ لا يكون ذلك قولاً بالأشبه. وإن قلنا: انه لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح فجار أن لا. ينص على ذلك الحكم بل على غيره، وذلك يبطل قولنا: أنه تعالى لو نمى على الحكم لما نمى الا على ذلك الحكم. وإن كان مفسدة العبد فهذا باطل؛ لأنه ليس في الأمة من يوجب على الله شيئا لمفسدة العبد. وإن كان ذلك الغير لا مصلحة العبد ولا مفسدته فهذا أيضًا باطل؛ لأن القول بالوجوب على الله تعالى مع أن ذلك الواجب ليس مصلحة العبد ولا مفسدته قول لم يقل به أحد ولأن ذلك إنما يمكن أن لو قيل بعدم وجوب رعاية المصالح على الله تعالى، وكل من قال بذلك قال أنه لا يتعين على الله تعالى أن يحكم على وجه معين بل له أن يحكم بحكم

المالكية كيف شاء وحينئذ يتعذر القول بتعين الأشبه. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك الغير [هو مصلحة العبد ونظام العالم، ورعاية المصالح وإن كانت غير] واجبة على الله تعالى لكن الله تعالى لم يشرع من الاحكام إلا ما فيه مصلحة العبد ونظام العالم تكريما وتفضيلاً منه على العبيد، فحينئذ لو نص لما نص إلا على ذلك الذى فيه مصلحة العبد ونظام العالم، فلم يجز أن ينص على غير ذلك الحكم نظرًا إلى ما أجرى به سنته وعادته. واحتج من قال بالأشبه بالنص والمعقول: أما النص فهو قوله- عليه السلام- "من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد"، صرح بالتخطئة، وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكم واقع، لأنه قد تقدم في أدلة المصوبة أنه لا حكم في الواقع، فلابد وأن يكون لأجل كونه مخالفًا لحكم مقدر وهو الأشبه. وجوابه: أنه قد تقدم ضعف تلك الأدلة فلا يبنى على مقتضاها شيء. وأيضًا لا يليق بكرم الله تعالى ورحمته على عبيده أن يخطئهم بالعدول عما لم ينص عليه ولا أقام عليه دلالة ولا أمارة، ولا جعل على تلك علامة، وأن ينقص أجرهم بسبب ذلك فإن إصابة مثل هذا اتفاقي، ولا يجوز ورود التكليف للاتفاقيات. وأما المعقول. فهو أن المجتهد طالب، وكل طلب فلابد وأن يكون له مطلوب، وإذ ليس مطلوب المجتهد واقعًا لما تقدم من الأدلة فهو إذن مقدر. وجوابه. أن مطلوبة واقع وأما أدلتكم على نفيه فقد سبق ضعفها.

خاتمة في نقض الحكم والاجتهاد أطبق الكل على أنه لا يجوز نقض حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية؛ إذ لو جوز ذلك فإما أن يجوز من غير سبب وهو باطل قطعًا، أو بسبب وهو تغير الاجتهاد، أو بحكم حاكم آخر وهو أيضًا باطل، وإلا جاز نقض النقض، وكذا نقض نقض النقض إلى غير النهاية، إذ ليس البعض أولى بذلك من البعض الأخر وحيئذ فإما أن لا يجوز نقض شيء منها وهو المطلوب، أو يجوز نقض كلها وهو الملازمة لكن ذلك باطل؛ لأنه يلزم منه الاخلال بالمقصود الذى لأجله نصب الحاكم وهو فصل الخصومات، وقطع المنازعات، فإن على هذا التقدير لم تنفصل خصومة، ولا تنقطع منازعة، فإنه وإن حكم حاكم في قضية فالخصم الأخر يرفع خصمه إلى حاكم آخر [يرى خلافه، وإذا حكم ذاك بخلاف حكم الأول فخصمه الأول يرفعه إلى حاكم آخر] يرى خلاف ذلك فتبقى القضية متنازع فيها أبدًا، ومعلوم أن هذا مضاد مقصود نصب الحكام فكان باطلاً. وإنما ينقض حكم الحاكم إذا وقع على خلاف النص القاطع، أو الإجماع، أو القياس الجلي، أما إذا وقع على خلاف غير ذلك من الأدلة الظنية نحو خبر الواحد وغيره فلا ينقض إلا في مواضع لقوة أدلتها وإن كانت ظنية. ولو حكم حاكم على خلاف اجتهاده مقلدًا لمجتهد آخر فقد اتفق الكل على

إبطال حكمه، ولو كان الحاكم مقلدا لإمام وحكم بحكم مخالف مذهب إمامه لم يجز نقض حكمه إن رأينا صحة حكم المقلد لضرورة عدم المجتهد في زماننا وجوزنا للمقلد تقليد غير إمامه وإلا نقض. وأما نقض الاجتهاد ففيه بحثان: الأول: المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى حكم في حق نفسه، ثم/ (317/ أ) تغير اجتهاده، كما إذا أدى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ، فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده إلى أنه طلاق، فإن حكم حاكم قبل تغير اجتهاده بصحة ذلك النكاح بقى صحيحا لما سبق من أن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية لا ينقض، وإن لم يحكم بها حاكم قبل تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده؛ لأنه حينئذ يكون مستديما لحرمة الاستمتاع بها نظرًا إلى اعتقاده. الثاني إذا أفتى المجتهد على وفق اجتهاده للعامي فعمل العامي بذلك وبقي مستديمًا عليه، كما إذا أفتاه بجواز نكاح المختلعة ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده إلى أن الخلع طلاق، فإن حكم حاكم بصحة النكاح قبل تغير اجتهاده فالحكم ما سبق في حق المجتهد، وإن لم يحكم بها حاكم فقد اختلفوا فيه: والأظهر أنه يجب عليه تسريحها كما في المجتهد في حق نفسه، وكما لو قلد من ليس له أهلية الاجتهاد في القِبلة لمن له أهلية الاجتهاد فيها، ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى في أثناء صلاة المقلد له فإنه يجب عليه أن يتحول إلى الجهة التي تغير اجتهاد متبوع إليها تنزيلاً له منزلة متبوعه، فإنه لو تغير اجتهاده في أثناء صلاته إلى جهة أخرى لوجب عليه أن يتحول إلى تلك الجهة. ومنهم من لم يوجب ذلك لزعمه أنه يؤدى إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد

وهو ممتنع، ولأنه تغير اجتهاد المتبوع في صورة لم يكن المقلد مستديمًا عليه بل يعد فراغه عنه فإنه لم يلزمه تتبعه بالنقض فكذا إذا كان مستديمًا عليه وهما ضعيفان. أما الأول: فلأن زوال ذلك الحكم ليس بالنقض بل لزوال شرطه بأن شرط جواز فعله والاستدامة عليه بقاء اجتهاده فإذا زال الحكم لزوال شرطه. وأما الثاني: فلأن ذلك يفضي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهو ممتنع وهذه الظاهرة لا يمكن أن يقال فيه ما يقيل في صورة الاستدامة.

النوع الثامن عشر: الكلام في المفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء

النوع الثامن عشر الكلام في المفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء وفيه فصول: الفصل الأول في المفتي وفيه مسائل: المسألة الأولى في المفتي المجتهد إذا أفتى مرة بما أدى إليه اجتهاده، ثم سئل مرة أخرى عن تلك الحادثة بعينها: فإن كان ذاكرًا لطريق اجتهاده الأول فهو مجتهد، تجوز له الفتوى بذلك الحكم بناءً على ذلك الطريق. وإن لم يذكره لزمه أن يجتهد ثانيا، فإن أدى اجتهاده إلى ما أفتى به في الأول فظاهر، وإن أدى إلى خلاف ما أفتى به في الأول لزمه أن يفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيًا. ثم ينبغي له أن يعرف المستفتى الأول أنه رجع عن ذلك القول؛ لئلا يكون عاملاً بغير موجب له، فإن الموجب لجواز عمله إنما هو اجتهاده وقد تغير. روي عن ابن مسعود- رضى الله عنه- كان يقول في تحريم أم المرأة أنه مشروط بالدخول بالمرأة، فلقى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفاكرهم فكرهوا أن يتزوجوها، فرجع ابن مسعود- رضى الله عنه- إلى من كان أفتاه بذلك أولا، وقال له: (سألت أصحابي فكرهوا ذلك) وهذا إنما يستقيم

المسألة الثانية في أن غير المجتهد هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير من المجتهدين؟

على ما تقدم من الرأي الأظهر فإنه إذا تغير اجتهاد المجتهد وعلم المستفتى بذلك فإنه يجب عليه الامتناع من ذلك الفعل فأما إذا لم يقل بذلك فلا حاجة إلى الإعلام. ومنهم من أوجب عليه الاجتهاد في المرة الثانية مطلقًا سواء كان ذاكرًا لطريق اجتهاده الأول أو لم يذكره، محتجا: بانه يحتمل أن يتغير اجتهاده ويطلع على ما لم يكن قد اطلع عليه في المرة الأولى. ومنهم من لم يوجب ذلك عليه مطلقا، أما إذا كان ذاكرًا لطريق الاجتهاد الاول فظاهر، وأما إذا لم يكن ذاكرًا له، فلان الغالب على ظنه أن الطريق الذى تمسك به أولاً كان طريقا قويا وحينئذ يحصل له الآن أن ذلك الفتوى حق فجار له الفتوى به من غير استئناف الاجتهاد لأن العمل بالظن واجب، المسألة الثانية في أن غير المجتهد هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير من المجتهدين؟ فنقول: ذلك الغير إما ميت، أو حي. أما الأول فهو أن يحكي عن المجتهدين المنقرضين إلى رحمة الله تعالى كما

هو المعتاد في زماننا فهذا مما اختلف فيه: فذهب جماهير الأصوليين نحو أبى الحسين البصرى وغيره إلى عدم جواز ذلك مطلقًا. وذهب بعضهم إلى جوازه مطلقًا. وسهم من فصل فقال: إن عدم المجتهد كما هو في زماننا جاز وإلا فلا. ومنهم من قال: إن كلان الحاكي أهلاً للنظر والمناظرة ومجتهدًا في ذلك المذهب الذى يحكى عنه جار وإلا فلا. احتج الأولون. بأنه لا قول للميت؛ بدليل أن الاجماع منعقد على خلافه، ولو كان له قول لما انعقد الاجماع على خلافه كما لو كان حيًا فإنه لا ينعقد الإجماع على خلافه إذ ذاك وفاقًا، وإذا لم يكن له قول لم يجز الافتاء به ولأنه لو جار ذلك لجاز للعامي أيضًا ذلك وهو محال خلات الإجماع. فإن قلت: فعلى هذا لم صنفت الكتب الفقهية مع فناء أربابها؟ قلت: الفائدة استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث، وكيفية بناء بعضها عنى البعض الأخر. ومعرفة المتفق عليه من المختلف فيه.

واعترض على الأول: بمنع أن لا قول للميت، ولا نسلم أن الإجماع ينعقد على خلافه، وقد تقدم الخلاف فيه/ (318/ أ) في الإجماع. وعلى الثاني بالفرق وهو ظاهر، وأيضًا فإن الدليل الذى يدل على جواز ذلك في العالم كما سيأتي غير حاصل في حق العامي فلا يلزم من جوازه في حقه جوازه في حق العامي. واحتج من جوز ذلك: بأن الثقة إذا نقل أحاديث الرسول فهي حجة في حق المجتهدين لا يجوز مخالفتها، فكذا إذا نقل الثقة قول المجتهد للعامي إذ قوله بالنسبة إليه كقول الرسول بالنسبة إلى المجتهد. واحتج من قال بالقول الثالث: بأنه يجوز عند عدم المجتهد للضرورة، ولا ضرورة عند وجوده فلا يجوز. وأجيب: بأنه يقتضى جوازه من العامي وهو خلاف الاجماع. واحتج من قال بالقول الرابع وهو الأظهر بوجهين: أحدهما: الاجماع على ذلك بعد انقراض عصر المجتهدين فإن الأئمة في الأمصار في جميع الأعمار يفتون بذلك من غير نكير من أحد من الأمة فكاد إجماعًا. وهذا فيه نظر، لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون، والمجمعون ليسوا بمجتهدين فلا يعتبر إجماعهم، أو نقول بعبارة أخرى: إنما يعتبر اتفاقهم على جواز إفتاء غير المجتهد أن لو كان إفتاء غير المجتهد جائزًا فلو أثبت جواز إفتاء غير المجتهد بهذا لزم الدور.

وثانيهما: أن الراوي إذا كان عدلاً ثقة متمكنًا من فهم كلام المجتهد الذى مات، وعارفا بمقاصده من كلامه، وبأصوله وفروعه ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه، ثم كون المجتهد عدلا ثقه عالمًا مستجمعا لشرائط الاجتهاد يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى، وحينئذ يتولد من هذين الظنين للعامي ظن أن حكم الله تعالى ما روى له هذا الراوي الحى عن ذلك المجتهد الميت، والعمل بالظن واجب، فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك. وفيه أيضًا نظرة لأن حصول الظن مطلقا كيف ما كان غير معتبر بل المعتبر الظن الحاصل من طريق معتبر شرعًا، فلم قلتم إن هذا طريق معتبر شرعا، فلابد لهذا من دليل، وإذا حصل ذلك الدليل استقل بإفادة المطلوب فيكون التعويض لهذا مستدركًا. والأولى في ذلك التمسك بالضرورة والحاجة، فإنا لو لم نجوز هذا لأدى ذلك إلى أن الشريعة غير وافية ببيان أكثر الوقائع الحادثة ومعلوم أن ذلك يؤدى إلى التهارج وفساد أحوال الناس. وأما الثاني: وهو أن يحكى غير المجتهد عن غير المجتهد الحى، فإن كان سمعه منه مشافهة جاز له أن يعمل به وجار أن يعمل الغير أيضا بقوله؛ ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها عن المجتهدين. ورجع علي- رضي الله عنه- إلى حكاية المقداد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أمر المذى وفى الاستدلال بهذا على هذا الحكم نظر، من حيث إنه يجوز أن يكون ذلك بطريق رواية الخبر لا بطريق الإفتاء، وعلى هذا لا يعتبر في

المسألة الثالثة المختار عند الأكثرين أنه يجوز خلو عصر من الأعصار عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه سواء كان مجتهدا مطلقا، أو كان مجتهدا في مذهب المجتهد، ومنع منه الأقلون كالحنابلة

الحاكي أن يكون عالما مجتهدًا في مذهب من حكى عنه الفتوى وإن لم يسمع منه. فأما إن أخبره بذلك ثقة، أو وجد ذلك في كتاب، فإن كان الأول فحكمه حكم السماع، وإن كان الثاني، فإن كان ذلك الكتاب موثوقًا به جاز العمل به أيضًا كما في المكتوب في جواب الفتوى فإن لم يكن موثوقا به لم يجز العمل به لكثرة ما يتفق من الغلط في الكتاب. المسألة الثالثة المختار عند الأكثرين أنه يجوز خلو عصر من الأعصار عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه سواء كان مجتهدًا مطلقًا، أو كان مجتهدًا في مذهب المجتهد، ومنع منه الأقلون كالحنابلة. احتج الأكثرون. بما روى عنه عليه السلام أنه قال: "إن الله لا يقبص العلمَ انتزاعًا يتنزعهمن الناسِ ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، فهذا الخبر بصراحته يدل على

خلو العصر عن المفتي، وأيضًا فإنه لو امتنع فإما أن يمتنع لذاته، وهو باطل؛ لأنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلاً، أو لأمر خارجي، وهو أيضًا باطل؛ لأن الأصل عدمه فمن ادعى ذلك فعليه البيان. واحتج الأقلون بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقِ حتى يأتي أمر الله، أو حتى يأتي الدخال) وقوله- عليه السلام- أنه قال: "وا شوقاه إلى إخواني قالوا يارسول الله: ألسنا إخوانك فقال. أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون بعدي يهربون بدينهم من شاهق ويصلحون إذا فسد الناس". وجوابهما: أنه لا دلالة لهما على المتنازع فيه. أما الأول. فلأنه لا دلالة له على نفي الجواز بل لو دل فإنما يدل على عدم الوقوع، ولا يلزم منه عدم الجواز على أنا نقول: لا يلزم من كونهم ظاهرين على الحق بالحصر والتمكين والذب عن الدين أن يكونوا مفتين. وأما الثاني فكذلك أيضًا؛ لأنه لا يلزم من كونهم يهربون بدينهم من شاهق

إلى شاهق، ويصلحون إذا فسد الناس أن يكونوا مفتين، إذ لا يلزم من كونهم يصلحون أحوالهم بما عرفوه من جليات الدين، أو بطريق الفتيا ممن كان قبلهم أن يكونوا مفتين سلمنا دلالتهما على المطلوب لكنهما/ (319/ أ) معارضان بأحاديث أخر نحو قوله- عليه السلام-: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى". وقوله عليه السلام: "لتركبن سنن من كان قبلكم حدو القذة بالقذة". وقوله: (خير القرون القرن الذى أنا فيه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليهِ، ثم تبقى حثالة كحثلة التمر لا يعبأ الله بهم، وبالذي تقدم في الاستدلال من الحديث والترجيح معنى لظهور دلالة ما تقدم من الحديث على المطلوب ولكون النقلي موافقًا للعقلى على رأينا دون رأيهم. سلمنا عدم الترجيح لكنهما يتساقطان ويبقى لنا الدليل الثاني. وثانيها: أن التفقه وتحصيل رتبة الإفتاء من فروض الكفايات فيستلزم انتقاؤه من كل المسلمين إطباقهم على الباطل. وجوابه: أن انتفاءه تارة بموت العلماء، وتارة بعدم تحصيلهم، فلعله يحصل بالطريق الأول، ولا يلزم منه محذور. وأيضا. فإن ذلك إنما يجب على الكفاية إذا كان فيهم من له صلاحية تحصيله، فأما إذا عمهم البلادة وعدم الفطنة فلا، فلعل عصر يتفق فيه ذلك. وثالثها: أنه لو جار خلو العصر عمن يعرف الأحكام الشرعية ويعرفها للعوام لأدى ذلك إلى إندراس الأحكام الشرعية، وإندراس الشريعة وهو ممتنع

لما سبق من النص. وجوابه. منع امتناعه وسنده ما سبق من النصوص. سلمنا لكن لا نسلم أنه يؤدى إلى ذلك؛ وهذا لأنه يحتمل أن تنقل إليهم الأحكام من أهل عصر قبلهم نقلاً يغلب على الظن صدقه.

الفصل الثاني في المستفتي

الفصل الثاني في المستفتي

الفصل الثاني في المستفتي وفيه مسائل: المسألة الأولى يجوز للعامي أن يقلد المجتهدين في مسائل الفروع اجتهادية كانت أو غير اجتهادية. ومنع منه مطلقا معتزلة بغداد. وفضل الجبائي بين الاجتهادية وغيرها، فجوز في القسم الأول دون الثاني كالصلوات الخمس، وتحريم الربا في الأشياء الستة المنصوصة عليها. احتج الأولون وهم الجماهير من الفريقين بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وهو عام في المخاطبين والمراد من العلم إما مدلوله الحقيقي، أو الظن أو القدر المشترك، والعامي لا يعلم ولا يظن فوجب أن يجوز له السؤال؛ لأن أدنى

درجات الأمر أن يكون للإباحة فيجوز له الأخذ بقوله، وإلا لم يكن في السؤال فائدة. لا يقال: لا يمكن حمله على عموم السؤال في كل ما لم يعلم وإلا لجاز التقليد في معرفة وجود الصانع وتوحيده وهو ممتنع. سلمنا جواز التقليد فيه لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه السؤال عن أدلة ما لا يعلم لا عن حكمه فإن عندنا يجب على العامي أن يسأل المجتهد عن ذلك، وينبه المفتي على دليل ذلك الحكم من نص قاطع إن كان، أو دليل العقل من البراءة الأصلية، وأن الأصل في المضار الحرمة، وفى المناخ الإباحة؛ لأنا نقول: لا نسلم امتناع التقليد في أصول الدين بل يجوز فيه السؤال والتقليد أيضًا. سلمناه لكن خروج ذلك لدليل يخصه لا يقتضى خروج غيره عنه فوجب أن يكون متناولاً لكل ما عداه. وعن الثاني أنه تقييد أو تخصيص من غير دليل فيكون خلاف الأصل. وثانيها: الإجماع، وتقريره: أن الأمة مجمعة قبل حدوث المخالف على جواز الاستفتاء للعوام من المفتين من غير بيان مأخذ اجتهادهم وفتواهم؛ لأن هذا كان شائعًا ذائعًا في عصر الصحابة والتابعين وفيما بعده إلى زماننا هذا من غير نكير فيما بينهم، فلو كان قبول فتواهم مشروطًا ببيان مأخذ فتواهم أو لم يجز قبول فتواهم مطلقًا لزم إجماعهم على الخطأ وهو ممتنع. وثالثها. أن العامي إذا نزلت به حادثة من الحوادث التكليفية فإما أن لا

يكون مأمورًا فيها بشيء، أو يكون مأمورًا فيها بشيء، والأول باطل بالإجماع؛ إذ الأمة مجمعة على أنه لابد له من طريق فيه التقصي من السؤال أو الاستدلال فيها، والثاني لا يخلو إما أن يكون ذلك الشيء هو الاستدلال، أو الاستفتاء، والأول باطل؟ لأنه لا يخلو إما أن يكون ذلك الاستدلال بالبراءة الأصلية، أو بالأدلة السمعية، والأول باطل. أما أولاً: فبالإجماع. وأما ثانيًا: فلأنه يلزم أن تكون التكاليف بأسرها أو أكثرها نفيًا محضًا وعدمًا صرفًا وهو ممتنع. وأما ثالثًا: فلأن القضية ربما كانت متعلقة بالغير فلو كان مأمورًا بالاستدلال بالبراءة الأصلية لأدى ذلك إلى إبطال حقه وهو ممتنع والثاني أيضًا باطل لأنه لو لزمه الاستدلال بالأدلة السمعية عند حدوث الواقعة فإما أن يجبه عليه تحصيل ما لابد منه في الاستدلال وما به يتم الاستدلال حين بلوغه وكمال عقله، أو عند نزول الواقعة به، والأول باطل. أما أولاً: فلان الصحابة والتابعين والسلف الصالحين ما كانوا يلومون العوام على ترك طلب رتبة الاجتهاد والفتيا بعد البلوغ، بل أبلغ من هذا وهو أنهم ما كانوا يذمونهم على ترك طلب العلم بغير أركان الدين كالصلاة والصوم. وأما ثانيًا. فلأن وجوب ذلك على عامة المكلفين يؤدي إلى إبطال أمور المعاش واختلال نظام العالم، فإن أكثر الصناعات، وعامة التجارات، ومعظم الزراعات تبطل على ذلك التقدير، ومعلوم أن ذلك محذور في نظر الشارع. والثاني أيضًا باطل؛ لأن تحصيل رتبة الاجتهاد والفتيا حال نزول الواقعة غير ممكن فلا يرد به التكليف، وإذا بطلت هذه الأقسام تعين الاستفتاء وهو المطلوب فإن/ (320/ أ) قلت: هب أنا نسلم لكم أن طريقه إذ ذاك إنما هو

الاستفتاء والسؤال لكن عن الحكم فقط، أو عن الحكم والدليل؟ ووجه دلالة الدليل عليه؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، وما ذكرتم من الصعوبة واختلال نظام العالم فهو غير لازم. وبيانه: أن الذين لم يقولوا بجواز الأخذ بالفتيا من غير بيان مأخذه لم يقولوا بحجية الإجماع، وخبر الواحد، والقياس، وسائر الظواهر المحتملة، لاذا كان كذلك سهل الامر عليهم؛ وذلك لانهم حينئذ قالوا: أنه تقرر أن حكم العقل في المنافع الإباحة، وفى المضار الحرمة، فإن ورد نص قاطع المتن والدلالة في بعض الصور على خلاف هذا اتبع وإلا عمل بمقتضى حكم العقل. فالعامي الذى نزل به الواقعة، إن كان فيه شيء من الذكاء والفطنة عرف حكم العقل فيها، وإن لم يكن فيه شيء من ذلك بل يكون في نهاية البلاد نبهة المفتي على حكم العقل فيها، وحينئذ لا يحتاج إلى المفتي في الصورة الأولى إلا في أن ينبهه أنه هل جاء في الواقعة نص قاطع المتن والدلالة أم لا، وفى الصورة الثانية يحتاج إلى هذا، وإلى أن ينبهه على حكم العقل، ومعلوم أن الاشتغال بمعرفة ذلك لا يمنعه عق الاشتغال بعمل المعاش وعمارة الدنيا. سلمنا صحة دلالتكم لكنه يقتضى أن لا يجب النظر والاستدلال في أصول الدين، وأن يجوز فيه التقليد؛ لأنا نعلم قطعًا أن الصحابة والتابعين والسلف ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام، بل ربما كانوا يلومون من يشتغل به ويخوض فيه. وأيضًا لو وجب النظر والاستدلال فيه على جميع المكلفين ولم يجوز فيه التقليد للزم تعطيل أمور المعاش، واختلال نظام العالم كما ذكرتم بل أكثر، لأن غموض أدلة الاصول أكثر، والأسئلة والأجوبة فيه أشكل وأصعب، مع أنكم ساعدتمونا أنه لا يجوز فيه التقليد فكل ما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا

ها هنا. قلت: الدليل على أن الاكتفاء كان حاصلا بمجرد السؤال عن الحكم والجواب عنه من غير بيان وجه دلالة الدليل عليه: إجماعهم على عدم لوم العوام على تركهم السؤال عن وجه دلالة الدليل على الحكم وعدم ذكرهم ذلك عند الإفتاء مع علمهم بجهل المستفتي به، وكل ذلك معلوم قطعًا وإنكاره مكابرة، وتمام تقريره ما تقدم في تقريره إجماعهم على ذلك، وعند هذا نعرف أن الدليل الثالث لا يتم إلا بالدليل الثاني. وعن الثاني أنا نقول: بمقتضى الدليل أيضًا في أصول الدين فإنه يجوز فيه التقليد أيضًا عندنا. سلمنا عدم جواز التقليد فيه، لكن الفرق بينهما حاصل من وجهين: أحدهما: أن مطالبه معدودة محصورة غير متكررة وأدلتها في الأكثر قاطعة حاملة للطباع السليمة والعقول الصحيحة على اعتقاد مقتضاها بخلاف الأحكام الفرعية فإنها غير متناهية متجاوزة عن حد التعداد والإحصاء، وأدلتها ظنية مضطربة مختلفة بحسب الأذهان وليست دلالتها على نمط واحد فكان تحصيل رتبة الاستدلال والنظر فيها يحتاج إلى الانقطاع عن معاشر الأشغال والاشتغال بها، فكان تعطيل المصالح واختلال نظام العالم فيه أكثر. وأيضًا: الذى يجب على المكلف معرفة أدلة وجود الصانع وتوحيده، والنبوة على طريق الجملة لا على طريق التفصيل، ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الجملة أمر سهل هين يحصل بأدنى سعى وأقل مدة، بخلاف الاجتهاد في فروع الشريعة فإنه لابد فيه من علوم كثيرة، وتبحر شديد، واستحضار أصول كثيرة، وما ذكر الإمام فيه من القدح فهو مبني على الفرق بين العلم

بالشيء على سبيل الجملة، وبين العلم بالشيء على سبيل التفصيل، لكن ذلك باطل، إذ الفرق بينهما معلوم بين، فإن من استدل بحدوث الحوادث في هذا العالم من الرعد والبرق وحدوث الثلج والمطر والحر والبرد على وجود الصانع المختار بناء على أن الحادث لابد له من مؤثر، وذلك المؤثر يجب أن يكون مختارًا وإلا لما تخصصت آثاره بقدر معين، ووقت معين ليس كمن علم ذلك مفصلاً؛ ولهذا فإن صاحب العلم الجملي بأدنى شبهة، وأضعف خيال يضطرب اعتقاده، ويتأثر علبه دون صاحب العلم التفصيلي، ولأنه حينئذ يلزم أن لا يبقى فرق بين علم متن الدليل دون الاعتراضات عليه، والمعارضات له والأجوبة عنها، وبين من علم ذلك كله لكن الفرق معلوم بينهما بالضرورة. واحتج المنكرون للتقليد في فروع الشريعة بوجوه. أحدها: قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} والقول بالتقليد قول بما ليس بمعلوم فكان منهيا عنه. وأيضًا. أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة}. ولو كان التقليد جائزًا لما ذموا على ذلك. وجواب الأول: النقض بجميع المطلوبات من الأمور الدينية كالعمل بالبراعة الأصلية، والقياس، وخبر الواحد، والاستدلال بجميع الطوق الشرعية قطعية كانت، أو ظنية، والدنيوية كقيم المتلفات، وأروش الجراحات، والفتوى والشهادات الظنية.

وأيضًا النقض بما إذا بين له مستنده فإنه يجوز العمل به مع أنه قول بما/ (321/ أ) لا يعلم حيث يكون مستنده ظنيا. سلمنا سلامته عن النقض لكن المراد منه النهى عن القول بما لا يعلم مما طريقه العلم كمسائل أصول الدين؛ وهذا وإن كان يلزم منه التخصيص لكن يجب المصير إليه جمعًا بين ما ذكرنا من الدليل وبين هذا. لا يقال: ما نحن فيه طريقه العلم أيضًا عندنا، فلم قلتم أنه ليس كذلك، لأنا نقول: فعلى هذا لا يتم استدلالكم بهذه الآية على عدم جواز التقليد والاستفتاء فيما نحن فيه إلا إذا بينتم أن ما نحن فيه طريقه العلم، [فلو ثبت أن طريقه العلم]، بهذه الآية لزم الدور. وأيضًا: لو كان ما نحن فيه طريقه العلم لما جاز للمجتهد العمل في المسائل الاجتهادية؛ ضرورة أنه لا قاطع فيها وإلا لما كانت اجتهادية، وحينئذ لا يحصل العلم فيها ولا يجوز العمل بها. وجواب الثاني: أن المراد منه التقليد في أصول الدين جمعا بينه وبين ما ذكرنا من الدليل، ولسياق الآية، ولكونه حكاية حال الكفار وهم إنما قادوا آباءهم في المسائل الأصولية دون الفروعية. وثانيها: قوله عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".

وقوله عليه السلام: "اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له"، وهما عامان في كل علم، وفى كل شخص، فإن بعض العلوم، وبعض الأشخاص عن ذلك لدليل من إجماع وغيره وجب أن يبقى ما عداه على الأصل. وجواب الأول منهما: أن ما يقتضيه لا يقولون به، وما يقولون به، لا يقتضيه؛ وهذا لأن ما يقتضيه إنما هو وجوب طلب العلم وأنتم لا تقولون به، ومما تقولون به وهو وجوب النظر وإن لم يكن مؤديا إلى العلم لا يقتضيه الخبر.

هكذا قيل في جوابه وفيه نظر؛ لأن كل ما دل على وجوب طلب العلم دل على وجوب النظر؛ وضرورة أن العلم النظري لا يحصل إلا بالنظر؛ فلا يلزم من ترك العمل بالخبر في وجوب طلب العلم لاتفاق الكل على أنه لا يجب تحصيل العلم في جميع مسائل الفروع وترك العمل به في وجوب النظر الذى لا يوجد فيه ذلك الدليل. فالأولى في ذلك أن يقال: إن المراد منه العلم بأركان الدين وأركانها وشرائطها وجميع العلوم التي هي فرض عين دون التي على الكفاية، وهذا وإن لزم منه التخصيص، أو التقييد لكن يجب المصير إليه جمعًا بين ما ذكرنا من الدليل وبين ما ذكرتم من الدليل فإن الجمع بين الدليلين أولى من ترك أحدهما بالكلية. وجواب الثاني: أنا لا نسلم أن المراد منه الاجتهاد الاصطلاحي منه الاجتهاد اللغوي بقرينة قوله: "فكل ميسر لما خلق له" سلمناه لكن يجب حمله على الأمر على الكفاية جمعًا بين الدليلين. سلمنا أنه محمول على فرض العين لكنه محمول على من له أهلية الاجتهاد لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق أو الإضمار. وثالثها. أن العامي لو كان مأمورًا بالتقليد فلا يأمن أن يكون من قلده مخطئًا في اجتهاده، أو أنه كاذب فيما أخبوه به فيكون العامي مأمورًا باتباع الخطأ والكذب وذلك الشارع ممتنع. وجوابه. أنا لا نسلم أنه مأمور بالخطأ والكذب حينئذ؛ وهذا لأنه لما أمر باتباع المجتهد الذي غلب على ظنه صدقه، واتصافه بشرائط الاجتهاد صار ما

أفتى به هو حكم الله في حقه فلم يكن اتباعه اتباع للكذب والخطأ، سلمناه لكن المحذور الأول حاصل، وإن اجتهد العامي ونظر في الأدلة والأمارات فإن احتمال الخطأ في حقه ممكن كما حق المجتهد بل هو أولى، وذلك لعدم اتصافه بشرائط الاجتهاد وهو حاصل للمجتهد فوجب أن لا يجوز له العمل بما أدى إليه اجتهاده. ورابعها: أن جواز التقليد يفضى إلى المنع منه، لأنه يقتضى جواز تقليد من يمنع منه، وما يفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً. وجوابه: أنا لا نسلم أنه يفضى إلى ذلك لا محالة بل قد يفضى، وحينئذ ينتقض بجواز العمل بالظن فإنه قد يفضى إلى المنع منه فكان باطلاً فكل ما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا ها هنا. سلمنا سلامته عن النقض لكن نقول: ما يفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً مطلقًا، أو إذ لم يكن شرط إثباته مخالفا لشرط نفيه، والأول ممنوع، والثاني مسلم، لكن ها هنا شرط النفي مخالف لشرط الإثبات، فإن شرط النفي أن يقلد من لا يرى جواز التقليد، وشرط الجواز أن يقلد من يرى جوازه، ولا شك أن الشرطين مخالفان، ولا بعد في إثبات شيء على شرط يؤدي إلى نفيه على شرط يخالف ذلك الشرط. وخامسها: لو جاز التقليد في فروع الشرع لجاز في أصوله بجامع كون كل أحد منهما مكلف به مع غلبة الظن بصدق ما أخبره المقلد. وجوابه: الفرق المذكور.

وأما الحجة على الجبائي خاصة فهي: أن تكليف العامي بالفصل بين المسائل الاجتهادية، وبين غيرها تكليف له بتحصيل أهلية الاجتهاد، ضرورة أنه لا يفصل بينهما إلا أهل الاجتهاد، فيلزم المحذور المذكور من قبل، ولا شك أن تجويز التقليد له في الاجتهادية دون غيرها يقتضى تكلفه بالفصل/ (322/ أ) بينهما حتى يعلم ما يجوز له التقليد فيه وما لا يجوز له ذلك. واحتج الجبائي على ما ذهب إليه: بأن الحق في المسائل الاجتهادية واحد متعين، فلو جوزنا له التقليد فيه لم نأمن من تقليد غير المحق بخلاف المسائل غير الاجتهادية؛ لأن كل قول فيها حق. وجوابه: أنا لا نسلم ذلك؟ وهذا لأنا بينا أن المصيب واحد. سلمناه لكن لا نأمن أيضًا في المسائل الاجتهادية من عدم اجتهاد المجتهد، أو تقصيره فيه، أو أن يفتيه بخلاف اجتهاده. فإن قلت: إن مصلحة العامي هو أن يعمل بما يفتيه المفتي وأن كان خطأ بسبب ما ذكرتم من الاحتمال. قلت: كذلك الأمر في غير المسائل الاجتهادية وإن كان فيها من غير فرق ألبتة. تنبيه: العامي إذا استفتى في حادثة فأفتى فيها بحكم معين، ثم وقعت له تلك الحادثة فإن لم يذكر الحكم وجب عليه الاستفتاء ثانيًا وفاقًا، وإن كان ذاكرًا له فهل يجب عليه إعادة السؤال فيما اختلفوا فيه. فمنهم من أوجب عليه ذلك. ومنهم من لم يوجب ذلك.

المسألة الثانية في شرائط الاستفتاء

المسألة الثانية في شرائط الاستفتاء القائلون بوجوب الاستفتاء اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن الذى يستفتى منه من أهل الاجتهاد، ومن أهل الورع، وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبًا للفتوى بمشهد الخلق، ويرى اجتماع المسلمين على الاعتقاد فيه، والسؤال منه، واتفقوا على عدم جواز الاستفتاء ممن يغلب على ظنه أنه غير بالغ في العلم إلى درجة الإفتاء وأنه غير متدين؛ وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات المغلبة على الظن، ولا طريق للعامي إلى معرفة أهلية المفتي إلا ذلك. واختلفوا في جواز الاستفتاء من لا يعرفه المستفتي بعلم ولا جهالة، ولا بفسق ولا عدالة. والمختار عدم جوازه بل ربما يجب القطع بذلك، والخلاف فيه غاية البعد لو صح الخلاف فيه وهذا لأن العلماء لان اختلفوا في قبول قول من جهل حاله من المسلمين في الشهادة والرواية فإنما كان ذلك لوجود ما يقتضى المنع من الفسق ظاهرًا وهو الاسلام الوازع عن الفسق والمعصية ظاهرًا، وليس يوجد في مجهول الحال ما يقتضى حصول العلم ظاهرًا لاسيما العلم الذى يحصل به رتبة الافتاء، فإن ما يجب على المكلف معرفته من فروض الأعيان من أحكام وأركان الدين لا يجب أن يعرف ذلك نظرًا لما ثبت من جواز الاستفتاء فضلاً عن غيره، وكيف لا واحتمال العامية راجح على احتمال العالمية لكون العامية

أصلية، وهي أغلب أيضًا بخلاف العالية فإنها على خلاف الأصل، وهى قليلة لاسيما التي تحصل بها رتبة الاستفتاء، وكون تحصيل رتبة الافتاء فرض على من له استعداد ذلك لا يقضى حصولها ظاهرًا في عامة المكلفين أو في مخالبهم حتى يجوز الاستفتاء من المجهول بناء على الغالب، وعند هذا ظهر أنه لو تردد في عدالته دون علمه فربما يتجه الخلاف في جواز الاستفتاء منه، وظهر أيضا أنه لا يجوز أن يقاص من جهل علمه على من جهلت عدالته لظهور الفرق بين الصورتين. ثم إن المستفتي إذا استفتى من واحد أو من جماعة واتفق فتواهم عملا بذلك. وإن اختلفوا في الفتوى: فقال قوم نحو الإمام أحمد بن حنبل وجماعة من فقهائنا كابن سريج والقفال وجمع من الأصوليين يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم؛ وأورعهم

لأن أقوال المفتين في حق العامي تنزل منزلة الأدلة المتعارضة في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بينها يجب على العامي أيضًا الترجيح بين أقوال المفتين، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، فالظن في تقليد الأعلم والأورع أكثر فكان المصير إليه واجبًا، وذلك قد يكون بالشهرة والتسامع، وبكثرة المسالة من أهل الخبرة محن أعلمهم وأورعهم، وبإقبال الناس عليه في الاستفتاء والاشتغال عليه، وتعظيمهم إياه لعلمه وورعه من غير جاه ومنصب، وقد يكون بالتجربة نحو أن يحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويحفظ أجوبتها [فمن أصاب في أجوبتها] أو كان أكثر إصابة فهو راجح في العلم. وقال قوم من الأصوليين كالقاضي أبو بكر وجمع من الفقهاء: إنه لا يجب عليه ذلك لتعذره أو لعسره، ولأن الصحابة والعلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء، فإن الصحابة كانوا يختلفون في المسائل وكان فيهم الفاضل والمفضول نحو الخلفاء الأربعة، ثم من بعدهم في الرتبة الثانية والثالثة إلى أن ينتهي إلى العوام. ثم أنه لم ينقل محن أحد منهم أنه كلف العامي بأخذ قول من هو في الرتبة الأولى أو في الثانية، وكذا العلماء في كل عصر فيهم الفاضل والمفضول ولم ينقل عن أحد منهم أنه أوجب على المستفتي الأخذ بقول الأفضل، وإذا لم يجب ذلك مع تحقيق ظن الأفضلية فلأن لا يجب الاجتهاد والنظر في أعلمهم وأورعهم بالطريق الأولى، ويتأكد ذلك بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".

ثم إن لم يوجب عليه الاجتهاد تخير في الاخذ بقول أيهم شاء، وإن أوجب ذلك عليه فإن اجتهد وترجح عنده أحدهم مطلقا وجب الأخذ بكلامه ولا يجوز/ (323/ أ) العدول عنه، كما لا يجوز للمجتهد العدول عن الإمارة الواجبة، وإن استووا ولم يظهر رجحان واحد منهم قال الامام: فها هنا طريقان: أحدهما:. أن يقال: هذا لا يجوز وقوعه، كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة. وهذا غير مرضى؛ لأنه لا نزاع في جواز تساوى الأمارتين في الذهن، وإنما النزاع في تساويهما في الخارج، وما نحن فيه من قبيل القسم الأول لا الثاني؛ لأنا فوضنا استواءهم بالنسبة إلى ذهنه واعتقاده، ولا يقتضي ذلك تساويهما في الخارج. وثانيهما: أن يقال بتقدير الوقوع سقط عنه التكليف، لأنا جعلنا له أن يفعل ما شاء. وهذا الأخر أيضًا غير مرضي، لأن التخيير بين الشيئين لا يوجب سقوط التكليف كما في الواجب المخير، والواجب الموسع، بل الذي أن يقال: إنه يتخير في الأخذ بأيهما شاء، أو التوقف إلا أن يظهر رجحان أحدهم، أو يظهر مفتي آخر يوافق أحدهم فيأخذ به للكثرة، أو يكون أرجح منهم فيأخذ بقوله وإن لم يوافق واحدًا منهم. وقيل يتخير في الأخذ بأيهما شاء. فإن ترجح كل واحد منهم على الآخر من وجهٍ دون وجهٍ فها هنا صور: إحداها: أن يحصل الاستواء في الدين والزيادة في العلم: فالأصح أنه يجب الأخذ بقول الأعلم، لمرتبته، ولهذا يقدم في الإمامة في الصلاة، ولأن الظن الحاصل بقوله كثو فكان الأخذ بقوله واجبًا.

وثانيها: أن يحصل التساوي في العلم، والتفاضل في الدين، فها هنا وجب الأخذ بقول الأدين وفاتا وهو ظاهر. وثالثها: أن يكون بعضهم راجحًا في العلم، وبعضهم، في الدين، فالأظهر أنه يجب الأخذ بقول الأعلم؟ لأن الحكم مستفاد من علمه لا من دينه، وقياس مذهب من خير في الأول أن يرجح الأدين ها هنا. فإن قلت: العامي ربما اغتر بالظواهر، نحو كثرة إقبال الناس عليه في الفتوى والقراءة عليه، وذلك قد لا يكون لفضيلته بل لأسباب أخر لا تخفى وقدم المفضول على الفاضل، فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض فليجوز له أن يحكم في نفس المسالة بما يقع له ابتداء وإلا فأي فرق بين الأمرين. قلت: العامي له أهلية الاجتهاد في ترجيح بعض العلماء على بعض دون حكم المسألة، وذلك لأنه لمكن أن يعلم أن الأفضل بالتسامع والقرائن نحو: إذعان العلماء له مع عدم الجاه والمنصب من غير بحث عق نفس العلم، ولا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي بخلاف حكم المسألة فإنه ليس له أهلية الاجتهاد بالنسبة إليه، وهذا كمن له طفل مريض وليس هو بطبيب، فإن سقاه دواء برأيه كان متعديًا ومقصرًا ولو راجع طبيبًا لم يكن مقصرًا فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في الدواء فمخالف الأفضل عد مقصرًا، ثم إنه يعلم ذلك بما تقدم من الطرق.

المسألة الثالثة الرجل الذي تنزل به الواقعة إن كان عاميا صرفا جاز له الاستفتاء

المسألة الثالثة الرجل الذي تنزل به الواقعة إن كان عاميًا صرفًا جاز له الاستفتاء على ما تقدم تقريره. وإن كان عالما ولكن لم يبلغ درجة الاجتهاد والإفتاء لغيره إن جوز ذلك كما هو المعتاد هذا الزمان فالأظهر أنه يجوز له الاستفتاء أيضًا، لأنه عامي بالنسبة إلى معرفة ما يوجب الحكم المطلوب فجاز له الاستفتاء كالعامي الصرف. ومنهم من لم يجوز له ذلك بل يوجب عليه أن يعرف ذلك الحكم بدليله، ولو أنه بالمراجعة إلى المفتين، لأن له صلاحية معرفة طرق الأحكام بخلاف العامي فإنه ليس له ذلك فكان يجب عليه ذلك. وبالجملة الخلاف ها هنا أولى من العامي الصرف لكونه عالمًا الفنون. وإن كان عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن اجتهد في الواقعة وأدى اجتهاده إلى حكم لم يجز له الرجوع إلى غيره في تلك الواقعة إجماعًا. لأن لم يجتهد فيها فهاهنا اختلفوا فيه. فذهب أكثر أصحابنا وجمع من الأصوليين كالقاض أبى بكر إلى أنه لا يجوز للعالم تقليد غيره مطلقًا سواء كان من الصحابة أو من غيرهم، وسواء كان أعلم منه أو لم يكن.

وذهب الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه وسفيان الثوري إلى أنه يجوز له ذلك مطلقًا، وهو رواية عن ابن حنيفة. ومنهم من فضل وذكروا فيه وجوها. أحدها: قول من قال كالجبائي: الأولى له أن يجتهد، وإن لم يجتهد وترك الأولى جار له تقليد واحد من الصحابة إذا كان مترجحًا في نظره على غيره ممن خالفه وإن استووا في في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم من المجتهدين. وثانيها: أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليدهم، ولا يجوز لهم تقليد غيرهم وهو القول القديم للشافعي- رضى الله عنه. وهذا التقييد يقتضي أن لا يجوز أن يقلد الصحابة بعضهم بعضًا. وثالثها: أنه يجوز للعالم تقليد الأعلم دون من هو مثله أو دونه وهو قول

محمد بن الحسن. ورابعها: أنه يجوز أن يقلد العالم لمن هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد إما لتحيوه، أو لفوات وقته وهو قول ابن سريح. وخامسها: أنه يجوز فيما يخصه دون ما يفتى به. وسادسها: أنه يجوز فيما يخصه دون ما يفتى به لكن بشرط خوف فوات الوقت وهو منسوب إلى ابن سريح أيضًا. احتج الأولون بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} ولا شك أن المجتهد داخل تحته وإلا لزم تعطيل النص إذ العامي غير مراد منه؛ ولهذا كان مأمورًا بالقياس وفاقًا، وإذا كان مأمورًا بالاعتبار لم يجز له التقليد؛ لأن/ (324/ أ) فيه ترك الاعتبار المأمور به فيكون غير جائز، وكون العامي مخصوصًا من الآية لعجزه عن الاعتبار المعتبر في الشرع لا يوجب تخصيص المتمكن منه، وإن لم يلزم منه تعطيل النص فكيف يوجبه حيث يلزم ذلك. وثانيها: أنه متمكن من الأصول إلى حكم المسألة بفكره فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في أصول. الدين، والجامع: وجوب الاحتراز المحتمل عند القدرة على الاحتراز عنه. واعترض عليه: بأن المطلوب في أصول الدين العلم، وهو غير حاصل بالتقليد بخلاف الأحكام الاجتهادية فإن المطلوب فيها الظن وهو حاصل بالتقليد

وأجيب عنه: بان ليس المطلوب فيها الظن كيف ما كان بدليل أنه لا يجوز الاكتفاء بالظن الضعيف مع القدرة على الظن القوى ولا شك أن الظن الحاصل من التقليد أضعف من الظن الحاصل من النظر في الدليل فحينئذ يلزم أن لا يجوز الاكتفاء بالتقليد مع القدرة على النظر في دليل المسالة، ولهذا قلنا: لا يجوز الاكتفاء بالظن في المطالب الأصولية؛ لأن المكلف قادر على تحصيل اليقين فيها لوجود الدليل المقيد لليقين ولا مكان النظر. واعترض عليه أيضًا: بالنقض بقضاء القاضي، فإنه لا يجوز خلافه وإن كان ذلك تقليدًا إذ لا معنى للتقليد سوى قبول الحكم من غير حجة. وإن كان المجتهد متمكنًا من معرفة الحكم بالنظر في الدليل وبالقرب من الرسول- عليه السلام- فإنه متمكن من الوصول إلى المسألة مع أنه يجوز له أن يسأل من أخبر عن الرسول- عليه السلام- وأجيب عن الأول: أنا نمنع أن ذلك التقليد، وهذا لأن الدليل لما دل على أن الحكم الذى قضي القاضي به لا يمكن نقضه بالاجتهاد والنظر لم يكن العمل بما قضى القاضي به تقليدًا بل هو محمل بذلك الدليل. فإن قلت: هذا يقتضى أن لا يكون قبول العامي قول المفتي تقليدًا؛ لأنه لما دل الدليل على وجوب قبول قوله كان العمل به عملا بذلك الدليل فلا يكون تقليدًا وهو خلاف الإجماع. قلت: لكن ذلك الدليل ووجه دلالته على المطلوب لا يعرفه العامة فيكون ذلك تقليدًا في حقه بخلاف الدليل الدال على عدم جواز نقض قضاء القاضي فإنه يعرفه المجتهد فلا يكون ذلك تقليدًا في حقه. وأجيب عن الثاني: بمنع الحكم ولئن سلم لكن لما دل القاطع على وجوب قبول خبر الواحد لم يكن ذلك تقليدًا.

وثالثها: أنه لو جاز له القبول قبل الاجتهاد لجاز له القبول بعد الاجتهاد واللازم باطل إجماعًا فالملزوم مثله. وهو ضعيف؛ لأنه قياس خال عن الجامع. سلمنا لكن الفرق ظاهر، وهو أن بعد الاجتهاد حصل له الظن القوى بالحكم فلا يجوز له العدول عنه إلى الظن الضعيف بخلاف ما قبل الاجتهاد فإنه لم يحصل له هذا الظن وإن كانت القدرة عليه حاصلة. ورابعها: أنه لو جاز لبعض المجتهدين [من]، غير الصحابة أن يقلد المجتهد من الصحابة أن يقلد المجتهد من الصحابي لجاز لبعض المجتهدين [من]، الصحابة أن يقلد الآخر منهم وحينئذ يلزم أن لا يكون لمناظرتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافية معنى" وهو أيضًا ضعيف؛ لأنا لا نسلم أنه من الأول الثاني، وهذا لأن الوثوق باجتهاد الصحابي بسبب مشاهدة الوحى والتنزيل، ومعرفة نقل الدلائل والتأويل، والاطلاع على القرائن الحالية، والمقالية، وزيادة اختصاصه بالتشديد في البحث عن قواعد الدين، وتأسيس الشريعة، وعدم تسامحهم فيها أشد من غيرهم أكثر من الوثوق باجتهاد غير الصحابي، ومثل هذا التفاوت غير حاصل فيما بين الصحابة فلم يلزم من جواز تقليد المجتهد الغير صحابي للصحابي جواز تقليد المجتهد من الصحابي [للصحابي]. سلمناه لكن لا نسلم عدم جوازه، وهذا لأنه ذهب بعضهم إلى أنه يجوز للعالم تقليد الأعلم منهم، ولا نسلم أنه لا يكون لمناظرتهم حينئذ معنى؟ وهذا لأن فائدتها الاطلاع على المأخذ الراجح ليحصل منه الظن القوى، ولا يلزم من كون الرجل أعلم أن يكون دليل ما أدى إليه اجتهاده راجحًا دائما فالمناظرة تكشف عن ذلك.

وخامسها: أن الدليل ينفى قبول قول الغير من غير حجة وبينة، ترك العمل به في حق العامي لمسيس الحاجة فوجب أن يبقى في حق غيره على الأصل. وسادسها. أن جواز تقليد المجتهد للمجتهد حكم شرعي فلا بد له من الدليل، والأصل عدم ذلك الدليل فمن ادعى فعليه بيانه، والقياس على العامي لا يصلح أن يكون دليلاً لما تقدم من الفرق. واحتج المجوزون بوجوه: أحدها: قوله [تعالى]: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} والمجتهد قبل النظر لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال. وجوابه: أنه يقتضى جواز التقليد بعد النظر والاجتهاد أيضًا ضرورة أنه لا يعلم حينئذ أيضًا. سلمناه لكن المراد منه المقلدون بدليل قوله [تعالى]: {إن كمن لا تعلمون} وهو لا يصدق على المجتهد، ضرورة أنه عالم، ولا يخرج عن كونه عالمًا بان لا تكون المسالة حاضرة في فإنه مع التمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره، ولأن قوله: {فاسألوا أهل الذكر} ينفى أن يكون المجتهد منه مرادًا، لأن المجتهد من أهل الذكر؛ لأن أهل الشيء من أهل لذلك الشيء لا من حصل له ذلك، ولا شك أن المجتهد تأهل لذكر الشيء فيكون أهل/ (325/ أ) الذكر فيكون مسئولاً لا سائلاً، ولأن ظاهر الآية يقتضى وجوب السؤال وهو غير ثابت في حق المجتهد إجماعًا، وإنما هو ثابت في حق العوام فيجب تخصيصه بهم لئلا يلزم الترك بالظاهر.

سلمنا أن المجتهد يجوز أن يكون مرادًا منه لكن نقول: ما عنه السؤال غير مبين في الآية فيحمل على السؤال عن وجه دلالة الدليل ليحصل العلم وهذا كما يقال: كل لتشبع، واشرب لتروى. وثانيها. قوله تعالى: {فولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} الآية. ووجه الاستدلال به: أنه أوجب الحذر بإنذار من تفقه في الدين مطلقًا فوجب على العالم قبوله كما وجب على العامي ذلك. وقوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} والعلماء من أولى الأمر؛ لأن أمرهم نافذ على الأمراء والولاة، فإذا أمر العلماء بشيء وجب أن يتمثل. وجواب الأول: أن الآية محمولة على الرواية دون الفتوى على ما تقريره. سلمنا أنها تتناولها لكن تقتضى وجوب الحذر على ما تقدم تقريره، وهو غير ثابت في حق العالم إجماعا، فلا تكون الفتوى مرادًا منه بالنسبة إلى العالم، وأيضًا خص منه ما بعد الاجتهاد فكذا ما قبله بجامع التمكن من معرفة. الحكم بالنظر. وجواب الثاني: أنا لا نسلم أن المراد من أولى الأمر العلماء؛ وهذا لأن المتبادر منه إلى الفهم الأمراء والولاة، أوجب الله تعالى على العوام طاعتهم. سلمنا أنه يتناول العلماء أيضا لكن المراد منه طاعة العوام لهم بدليل أن ذلك هو الواجب على العوام، وأما طاعة المجتهد للمجتهد فغير واجبة فلا تكون

مرادة منها. سلمنا وجوب طاعة العلماء للعلماء، لكن في الجملة أو كل شيء؟ والأول مسلم؛ وهذا لأن طاعتهم واجبة على الكل في الأقضية والأحكام، والثاني ممنوع وهذا لأنه ليس في النص ما يدل على التعميم. وثالثها: التمسك بالخبر نحو قوله عليه السلام: {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر} وقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" وقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". والاستدلال بها إنما هو من جواز تقليد الصحابة دون غيرهم وهو ظاهر، فإنه أمر بذلك وأقل درجات الامر الجواز. وجوابه: ما سيأتي في أن قول الصحابي حجة أم لا؟ وبتقدير تسليمه فإنما يجوز تقليدهم دون تقليد غيرهم من المجتهدين. ورابعها: إجماع الصحابة، روى عن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فقبل ذلك مع أنه كان- رضى الله عنه- أهلاً للاجتهاد، وكان ذلك بمحضر من علماء الصحابة فلم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماع وكون علي- رضى الله له عنه- لم يقبل ذلك لم يدل على عدم جواز قبوله [بل على عدم وجوب قبوله]، ونحن نقول

إنه غير واجب القبول بل هو جائز القبول وروى أيضًا أن عمر- رضى الله عنه- رجع إلى قول على ومعاذ رضى الله عنهم- ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعًا. وجوابه: أن المراد من سيرة الشيخين: طريقتهما في العدل والانصاف، والانقياد للحق، والبعد عن حب الدنيا؛ لأنه المفهوم من السيرة، ولا يفهم من قولنا سيرة فلان ما أدى إليه اجتهاده، ولو سلم لكن يجب المصير إلى ما ذكرنا جمعًا بين الدليلين، ولئلا يلزم وجوب التقليد الذى هو مخالف للإجماع. وخامسها: أن اجتهاد المجتهد لا يفيد إلا الظن، وإذا أفتاه مجتهد آخر فقد حصل له الظن أيضًا، والظن معول عليه في الشرعيات فكان اتباعه جائزًا وجوابه؛ أنه أضعف من ظن الاجتهاد وهو معلوم قطعًا، ولا يجوز العمل بالظن الضعيف مع القدرة على الظن القوى. وسادسها. أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر، لقد حصل له ظن أن حكم الله- تعالى ذلك وذلك يقتضى أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل له لاستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به دفعًا للضرر المظنون وجوابه: أن ما أدى إليه اجتهاد المجتهد من الظن إنما يعمل به إذا لم يقم دليل سمعي يصرف عنه، فأما بتقدير ذلك فلا، وها هنا قامت الدلائل السمعية وهى ما ذكرنا من الأدلة على الصوف عنه فوجب الامتناع من العمل بهذا الظن. وسابعها: أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد، فجاز لمن لم يكن عالمًا له تقليد من علمه كالعامي بجامع حصول الظن بقول المفتي.

وجوابه: لا يخفى مما تقدم. وثامنها: يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر بل عن عامي، وإنما جاز ذلك اعتمادًا على عقله ودينه، فإذا أخبر المجتهد عن مقتضى ذلك الخبر مع أن احتياط الشخص فيما يفتيه أكثر من احتياطه فيما يرويه فلأن يجوز له العمل به كان أولى. وجوابه: أن احتمال الخطأ فيما اجتهد الانسان فيه بنفسه أقل مما اجتهد فيه غيره، ولا يلزم من قبول الرواية من المجتهد ليجتهد بنفسه فيه قبول اجتهاد غيره.

المسألة الرابعة العامي إذا عمل بفتوى بعض المجتهدين في حكم حادثة وقلده فيه لم يجز له الرجوع عنه إلى حكم آخر في تلك الحادثة بعينها بفتوى غيره إجماعا

المسألة الرابعة العامي إذا عمل بفتوى بعض المجتهدين في حكم حادثة وقلده فيه لم يجز له الرجوع عنه إلى حكم آخر في تلك الحادثة بعينها بفتوى غيره إجماعًا. وهل يجوز له أن يقلد غيره في وقائع أخر؟ اختلفوا فيه. فمنهم من منعه مطلقًا. ومنهم من جوزه مطلقًا. ومنهم من فصل بين عصر الصحابة والتابعين وبين عصر الأئمة الذي تقررت فيه لمذاهب فجوز في الأول دون الثاني وإليه ميل إمام الحرمين. واحتج من منع منه مطلقًا بأن تجويزه يقضي نفي التكاليف وعدم/ (326/ أ) حصول فوائدها؛ وذلك لأن أحد المجتهدين إذا قال بإباحة شيء، والآخر بتحريمه، فلو كان العامي غير متقيد بمذهب بل له أن ينتحل أي مذهب شاء كان مخيرًا بين الحل والحرمة، فلا يتحقق الحل والحرمة عنده بل يلزم أن تكون التكاليف [بأسرها في حقه على التخيير، وفي ذلك

إبطال التكاليف، وهذا الدليل يقتضى أن يجب على العامي أن ينتحل مذهبًا معينًا ابتداء، وإن لم يوجد منه تقليد لاحد منهم، وفيه أيضًا الخلاف السابق لكن يجب أن يرتب عليه، فإن قلنا في الأولى: لا يجب عليه تقليده، فلان لا يجب عليه تقليد مذهب معين ابتداء بطريق الأولى. وإن قلنا هناك يجب تقليده فها هنا وجهان، ووجه الفرق ظاهر. واحتج من جوز ذلك مطلقًا بإجماع الصحابة، فإنهم كانوا يجوزون للعامي أن يستفتى من بعضهم في مسألة، ومن البعض الأخر في مسالة أخرى، ولم ينقل عن أحد منهم الإنكار في ذلك، ولم ينقل عنهم أيضًا أنهم كانوا يلزمون العوام ابتداء بتقليد مذهب واحد منهم ولو كان ذلك غير جائز لما جاز منهم إهماله والسكوت على الإنكار عليه فكان ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك. واحتج من قال بالتفصيل: أنا لو لم نقل بذلك بعد تفرد المذاهب، وتمهيد كل منهم أصولاً تفي بأحكام الوقائع كلها لأدى ذلك إلى الخبط وعدم الضبط، وإعدام التكاليف وإبطال فوائدها كما تقدم تقريره، وأما في زمن الصحابة- رضي الله عنهم- كان ذلك غير واجب؛ لأن كل واحد من المجتهدين منهم ما كان قرر لنفسه مذهبًا ومهد أصولاً وقوانين تفي بأكثر أحكام الوقائع فضلاً عن أن تفي بكلها، بل ما كانوا ينظرون في مسألة إلا بعد وقوعها لاشتغالهم بالحروب لإعلاء كلمة الله فلا جرم كانوا يجوزون لهم الاستفتاء ممن اتفق وما كانوا يلزمونهم بتقليد واحد منهم، فلا يلزم من جواز ذلك في زمانهم جوازه في زمان تقررت فيه المذاهب والأصول، وتلخصت فيه القواعد والفصول. وأما إذا التزم العامي مذهبًا معينًا، كمذهب الشافعي- رضى الله عنه- أو غيره فهل يجوز له الرجوع عنه، والأخذ بقول غيره في مسالة من المسائل أم لا؟

اختلفوا فيه: فجوزه قوم؛ لأن التزامه بمذهب معين غير ملزم ولا يلزمه ذلك. ومنهم من لم يجوز ذلك؛ لأنه لما التزم مذهبا معينا صار لازما له كما لو التزم مذهبه في حكم واقعة معينة. ومنهم من فصَّل فقال: إن كل مسالة اتصل العمل بها على رأي صاحب المذهب الأول لم يجز له الرجوع عنها، وإن لم يتصل العمل بها جاز له الرجوع عنه إلى غيره.

الفصل الثالث فيما فيه الاستفتاء

الفصل الثالث فيما فيه الاستفتاء أعلم أن الاستفتاء إنما يجوز فيما يجوز التقليد، وهو وإن كان عبارة عن: قبول قول الغير والعمل به من غير حجة ملزمة فعلى هذا قبول العاس فول المفتي وعمله به لا يكون تقليدًا، ضرورة قيام الحجة الملزمة على ذلك لكن مع هذا يسمى تقليدا لعرت الاستعمال، أو لأنه وإن قامت الحجة على قبول قول المفتي لكن ما قامت على قول معين فيكون قبول قول المفتي المعين تقليدًا، وعند هذا نقول: اتفقوا على أنه بجور التقليد والاستفتاء في المسائل الفرعية إلا على الخلاف الذي تقدم وهو غير معتبر عند الجماهير. واختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصولية: فذهب كثير من الفقهاء والسلفيين، وبعض المتكلمين كعبد الله بن الحسين العنبري والحشوية والتعليمية.

إلى جوازه، وربما بالغ بعضهم وقال: التقليد واجب، وأن النظر في ذلك حرام.

وذهب الباقون إلى عدم جوازه. واحتجوا على هذا بوجوه: أحدها: أن تحصيل العلم في أصول الدين كان واجبا على الرسول- عليه السلام- لقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إلاه إلا الله} وإذا كان واجبًا عليه لزم أن يكون واجبًا على أمته أيضًا لقوله تعالى: {اتبعوه} وما قيل عليه: بانه لا يمكن إيجاب العلم بالله تعالى؛ وذلك لأن المأمور أن لم يكن عالماً بالله تعالى لم يكن مأمورًا بتحصيل العلم بالله تعالى، لأن حالما يمتنع كونه حالمًا بالله تعالى استحال أن يكون عالمًا بأمر الله تعالى، وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق. وإن كان عالمًا به تعالى أستحال أمره بتحصيل العلم به؛ لأن ذلك تحصيل الحاصل وهو محال. فهو ساقط غير وارد عليه؟ لأن الآية دالة على وجوب تحصيل العلم بوحدانيته تعالى لا على تحصيل العلم بوجوده تعالى حتى يكون ما ذكروه واردًا. عليه، ونحن ما استدللنا إلا بما دلت الآية على وجوبه، لا بوجوب تحصيل العلم بوجوده تعالى.

وثانيها: أن القرآن العظيم دل على ذم التقليد واتباع غير العلم، فالمراد منه أما التقليد في الاصول، أو الفروع، أو هما جميعًا، وعلى التقديرات كلها يلزم أن لا يجوز التقليد في الأصول. أما إن كان المراد منه القسم الثاني فكذلك؛ لأن كل من قال: لا يجوز التقليد في الفروع، قال: لا يجوز التقليد في الأصول بالطريق الأولى، فالقول بعدم جواز التقليد في الفروع مع جوازه في الأصول قول مخالف للإجماع فكان باطلاً. وإن كان المراد منه القسم الثالث فكذلك وهو ظاهر غني عن البيان. ولو قلت دل القرآن العظيم على ذم التقليد، واتباع ما ليس بعلم فالمراد منه: أما التقليد في الأصول، أو في الفروع والثاني باطل لما ثبت من جواز التقليد فيه فيتعمق أن يكون المراد منه الأول كان حسنًا/ (327/ أ). وثالثها: التمسك بالظواهر التي تدل على وجوب النظر والفكر نحو قوله تعالى: {قل انظروا} وقوله: {أو لم يتفكروا}. ووجه الاستدلال بها: أن المراد منها أما وجوب النظر في المطالب الأصولية أو في غيرها، والثاني باطل؛ لأن القول بوجوب النظر والفكر في غيرها مع عدم وجوبه فيها قول مخالف الإجماع، فكان المراد منها. وجوب النظر ميها أما وحدها أو مع غيرها، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل. ورابعها: أنه لما نزل قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض} الآية قال رسول الله-: "ويل لمن لأكلها بين لحييه ولم يتفكر فيها"

وذلك يدل على وجوب النظر؛ لأن الويل لا يستحق على ترك غير الواجب. وخامسها: الإجماع منعقد على وجوب معرفة الله تعالى، ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، والتقليد غير محتمل لها. أما أولاً: فلأن المقلد غير معصوم عن الكذب، وخبر من كان كذلك لا يكون واجب الصدق ولا يفيد العلم واليقين. وأما ثانيًا: فلأن التقليد لو كان مفيدًا للعلم لكان العلم حاصلاً لمن قلد في حدوث العلم ولمن قلد في قدمه وهو ممتنع لإفضائه إلى الجمع بين كون العالم حادثًا وقديمًا. وأما ثالثًا: فلأنه لو أفاده لأفاد أما علما ضروريا وهو باطل، أما أولا: فبالإجماع. وأما ثانيًا: فلأنه لو كان كذلك لما خالف فيه أكثر العقلاء. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم أن يكون العلم الحاصل بالتقليد أقوى من العلم الحاصل بالنظر والاستدلال ضرورة أن الضروري أقوى من النظري لكنه باطل قطعًا، وأما علمًا نظريًا وهو أيضًا باطل، لأنه حينئذ لابد وأن يكون محال لكن الأصل عدم ذلك الدليل، فظهر بهذه الوجوه: إن التقليد غير محصل لها فوجب أن لا يجوز الاكتفاء به في معرفة الله تعالى. ولقائل أن يقول: إن عنيتم أن معرفة الله واجبة أنه يجب تحصيل الاعتقاد المطابق لما هو الواقع في نفس الأمر فهذا مسلم لكن لا نسلم أن التقليد لا يفيده، وما ذكرتم من الوجوه إنما يفيد نفى العلم، لا الاعتقاد الذى يفيده التقليد ونحن لا نقول: أن الحاصل بالتقليد هو العلم بل هو اعتقاد المقلد.

وإن عنيتم به: أنه يجب تحصيل العلم به تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز عليه فلا نسلم انعقاد الإجماع عليهه؛ وهذا لأن من يجوز التقليد فيه لا يوجب أن يكون الاعتقاد المطابق في ذلك عن دليل، ولا يكون ذلك علما، والخصم لا يوجب إلا تحصيل الاعتقاد المطابق، ومعلوم أنه لا يلزم منه وجوب تحصيل العلم به تعالى. وسادسها: أن لو جاز التقليد فيه لما جاز إلا تقليد المحق لانعقاد الإجماع عليه لكنه لا يعلم كونه محقًا إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق، فإذن لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل، ومتى صار مستدلا امتنع منه التقليد. وهو ضعيف؛ لأنه منقوض بالشرعيات فإنه لا يجوز فيها أيضًا إلا تقليد المحق دون المخطئ ولا يعرف ذلك [إلا] بدليل، ومتى عرف ذلك امتنع منه التقليد. فإن قلت: لا يتصور فيها الخطأ على رأى من يقول: إن كل مجتهد مصيب فلا يتأتى هذا فيها. قلت: لا نسلم أنه لا يتصور الخطأ فيها على رأيهم بل يتصور ذلك بان يكون مقصرًا في طريق الاجتهاد، نعم لا يتصور الخطأ على رأيهم بمعنى عدم إصابة الحكم الواقع إذ لا حكم عندهم في الواقع، وإذا تصور وقوع الخطأ على رأيهم أيضًا يتأتى فيها ما ذكرتم في الأصول. فإن قلت: الظن في الشرعيات كاف فإن أخطا كان ذلك الخطأ محطوطًا عنه.

قلت: فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول؛ فإن الخصم لا يفرق بينهما، بل ربما يقول: إن النظر في الشرعيات مندوب إليه دون مسائل الأصول فإنه يكره ذلك فيها أو يحرم. ولقائل أن يقول: إن صح أن المخالفين في المسالة باسرهم يقولون بانحطاط الإثم عن المخطئ في مسائل الأصول سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا توجه ما ذكرتم، وإن لم يصح ذلك عنهم وهو الأصح فإنه لم يقل ذلك إلا أبو عبيد الله بن الحسن العنبري والجاحظ على ما تقدم في المجتهد، وقياسه يقتضى ثبوته في المقلد أيضا إن جوز الجاحظ التقليد فيه كصاحبه لم يصح أن يقال: إن الخصم لا يفوق بينهما، ولو لم يقل هذا بل اقتصر على قوله فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول. قلنا: لما ذكرتم من الأدلة نحو الإجماع وغيره من أن المخطئ فيه آثم غير معذور. واحتج الخصم بوجوه: أحدها: أن النظر غير واجب؟ لكونه منهيًا عنه فيكون التقليد جائزًا، أما أن النظر غير واجب على تقدير كونه منهيًا عنه فظاهر، وأما أن التقليد حينئذ يكون جائزًا فهو أيضًا ظاهر، بقيت المقدمة الثالثة والدليل عليها الكتاب والسنة. أما الكتاب فالآيات الدالة على النهى من الجدال نحو قوله تعالى:

{ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} وقوله تعالى: {إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} والنظر يفضى إلى فتح باب الجدال فكان منهيا عنه. وأما السنة فنحو ما روى عنه عليه السلام أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسالة القدر وقال: "إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا". وقال: "عليكم بدين العجائز" وهو ترك النظر والاستدلال. وجوابه: منع كون النظر منهيًا عنه، والآيات محمولة على الجدال الباطل

{وجادلهم بالتي هي أحسن} وقوله تعالى/ (328/ أ) {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وكيف يقال ذلك وقد أثنى الله تعالى على التَفكرين في قوله تعالى: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} فإنه ذكره في معرض المدح والثناء، ومدح الله تعالى إبراهيم بقوله: {وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه} وبه خرج الجواب عن السنة فإن التكلم فيه ما كان على وجه مرضى. وأما قوله "عليكم بدين العجائز" فلم يصح، وبتقدير صحته يجب حمله على التسليم لقضاء الله تعالى وقدره جمعا بين الدليلين. وأعلم أن كل ما ورد من الآيات والسنة في ذم الجدال وهو كثير على ما هو مذكور فيما صنف في هذا الباب فهو محمول على [الجدال بالباطل]، توفيقًا بينها وبين ما ورد في أنه مندوب إليه ومأمور له. وثانيها: أن الأعرابي الجلف الجافي كان يحضر محند الرسول عليه السلام، ويتلفظ بكلمة الشهادة فكان- عليه السلام- يحكم بصحة إيمانه من غير أن يسأل منه أنه هل يعرف دليل الوجود والتوحيد، وكونه فاعلاً مختارًا أم لا؟ بل الظاهر منه الجهل بأدلة هذه الأشياء، ولو كان العلم بهذه الأشياء شرطًا لصحة الإيمان لما حكم بصحة إيمانه.

وثالثها: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين الخوض والنظر في المسائل الكلامية أصلاً، ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل كما نقل عنهم في المسائل الخلافية الفرعية [ولو كان النظر فيها واجبا لكانوا أولى بالمحافظة عليه كن غيرهم، ولكان النظر فيها أوجب من النظر في المسائل الفرعية]، ضرورة أنه فرض عين والنظر في المسائل الفرعية فرض كفاية. وجوابهما: أنا لا نسلم أنهم ما كانوا يعلمون ذلك بالدليل، بل كانوا يعلمون ذلك به. وبيانه من حيث الاجمال والتفصيل. أما الأول: فلأن ذلك يقتضى نسبة الصحابة إلى الجهل بمعرفة الله تعالى مع أن الواحد منا عالم بذلك وهو ممتنع. وأما من حيث التفصيل: فلأن العلم بوجود مركز في النفس كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} وذلك بسبب الاستدلال بحدوث الحوادث على وجود المحدث، فإن الإنسان في أول نشوه يشاهد أشياء تحدث، فيستدل بها على وجود الصانع، والاستدلال به على وجود الصانع جلى لا يخفى على أحد ولو أنه في غاية الغباوة فلا يكون العلم بوجوده تقليدًا، نعم قد يصعب النظر فيدق في أن ذلك المحدث ممكن أو واجب وعلى التقديرين إما موجب أو مختار، فإن معرفته تتوقف على معرفة بطلان الدور والتسلسل، وعدم تخصص الأثر بشكل معين وقدر مخصوص وفيهما أبحاث دقيقة قد تخفي على أكثر الناس، لكنا لا نشترط ذلك في صحة الإيمان فإن المعتبر في ذلك العلم في الجملة الذى تسكن به نفوس أكثر الناس لا العلم التفصيلي.

وأما العلم بالتوحيد فلا نسلم أنه يغير الدليل فإن أخباره عليه السلام عنه، ودعوته للناس إليه دليل عليه، فإنه يمكن الاستدلال بقول الرسول- عليه السلام- على كل ما تتوقف صحة الرسالة عليه، ولا شك أن صحة الرسالة لا تتوقف على التوحيد فيصح الاستدلال بقوله- عليه السلام- عليه والعلم بصحة الرسالة كلان حاصلاً لهم بدلالة المعجزات التي شاهدوها، أو نقلت إليهم بالتواتر. وأما العلم بكونه فاعلاً مختارًا وليس موجبًا بالذات على سبيل التفصيل فغير معتبر بدليل أن الرسول ما كان يسال عن ذلك كل من كلان يؤمن، ولا كلان يخبوهم عن ذلك في تلك الحالة، ولو كان معرفته شرطا لصحة الايمان لسألهم عن ذلك أو أخبرهم به، ومحند هذا لو لحيل: إن حضور هذا بالبال غير معتبر في الإيمان فضلاً عن العلم به على سبيل التفصيل لكان فإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن لا يعتبر العلم به تفصيلاً. ورابعها: أن الصحابة والتابعين والعلماء في كل عصر إلى زمننا هذا لم ينكروا على من كان في زمانهم من العوام على ترك النظر في المسائل الكلامية مع أنهم كثر الخلق وتركهم النظر كان شائعًا ذائعًا، فلو معرفتها بالدليل شرطا لصحة الإيمان لما كان ذلك [ولما حكموا بإسلامهم]، ولم ينكروا أعليهم دل ذلك على أنه ليس بشرط لصحة الإيمان. وجوابه: أنه إنما لم ينكروا، ذلك وحكموا بإسلامهم؛ لأن المعرفة

الواجبة في المسائل التي معرفتها شرط لصحة الإيمان كانت حاصلة لهم بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل كما تقدم، نعم قد لا يعرفون لا من جهة الجملة ولا من جهة التفصيل المسائل التي لا يشترط لمعرفتها في صحة الإيمان لكن لا يضرنا ذلك. وخامسها: أن النظر والاستدلال مظنة الوقوع في الشبهات، والخروج إلى الضلالات؛ لكون الأذهان مختلفة في الذكاء والبلادة، وطرق النظر دقيقة بخلاف التقليد، لا سيما من اتفق أكثر الخلق على إصابته لغزارة علمه، وفرط ذكائه فإنه يوجب سكون النفس على شيء واحد، ولذلك تجد أكثر الخلق على ذلك فكان سلوكه أولى. وجوابه: أن التقليد لابد وأن ينتهى إلى النظر والاستدلال لامتناع التسلسل، وحينئذ ما ذكرتم من المحذور لازم مع زيادة محذور التقليد وهو احتمال كذب المقلد فيما أخبره عن اعتقاد ونظره، وكون كثر الخلق على الكفو والضلالة والبدع والأهواء. وسادسها: أن/ (329/ أ) أدلة الأصول أشد غموضًا وخفاءً من أدلة الفروع، فإذا جاز التقليد في الفروع مع السهولة فلأن يجوز في الأصول مع الصعوبة بالطريق الأولى. وجوابه: ما تقدم من الفرق في مسلة جواز التقليد في الفروع، ولأن المطلوب في الفروع الظن والتقليد يحصله، والمطلوب في الأصول القطع وهو لا يحصله.

وسابعها: أن الأصول والفروع [قد استويا في التكليف بهما، وقد جاز التقليد في الفروع]،- فكذا في الأصول. وجوابه أيضًا: ما تقدم من غير تفاوت. واعلم أنا وإن نصرنا القول بعدم جواز التقليد لكن في النفس منه شيء، والله أعلم بحقيقة الحال، وما هو الصواب من المقال ونرجو أن يهدينا إلى ذلك بفضله وسعة جوده.

النوع التاسع عشر: الكلام في المدارك التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي مدارك للأحكام أم لا؟

النوع التاسع عشر الكلام في المدارك التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي مدارك للأحكام أم لا؟ وفيه مسائل: المسألة الأولى في أن الأصل في المنافع الإذن، وفى المضار المنع خلافا لبعضهم. هذا بعد ورود الشرع، فأما قبله فلا سواء كان ذلك بطريق اليقين، أو غيره على ما تقدم تقريره في مسالة حكم الأشياء قبل ورود الشرع. أما الأصل الأول فالدليل عليه من وجوه: أحدها: قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} واللام للاختصاص بجهة الانتفاع، فوجب أن يكون الانتفاع بجميع ما في الأرض جائزًا. فإن قلت: لا نسلم أن اللام تقتضى الاختصاص بجهة الانتفاع؛ وهذا لأنها وردت فيما ليس فيه ذلك كقوله: {وإن أسأتم فلها}، {لله ما في السموات وما في الأرض}.

ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تفيد اللام الاختصاص بجهة الانتفاع؛ أما في الآية الأولى: فلاستحالة حصول النفع في الإساعة، وأما في الثانية: فلاستحالة النفع على الله ولأن الائمة قالوا: اللام إما للملك، أو للاختصاص وهو غير ما قلتموه؛ إذ المطلق غير المقيد قطعًا. سلمناه لكن ذلك يفيد مسمى الانتفاع أو يفيد كل الانتفاعات؟ الأول مسلم، لكنه لا يفيد المطلوب؛ لأنه يكفي في العمل بها حينئذ حصول فرد واحد من أفراد الانتفاعات ونحن نقول به، وذلك الفرد هو الاستدلال بما في الأرض على وجود الصانع تعالى، والثاني ممنوع فما الدليل عليه؟ ثم الذى يدل على أن لا يفيد التعميم: أنه ليس في مدلولات الحروف عموم ألبتة. سلمناه لكن اللام داخلة على الخلق فيجوز الانتفاع بالخلق؟ فلم قلت: إنه يجوز بالمخلوق فإن المخلوق غير الخلق؟ فإن قلت: الانتفاع بالخلق غير متصور؛ وهذا لان الخلق صفة من صفات الله تعالى فلا نفع للمكلف في صفة الله تعالى فيجب أن يكون المراد من الخلق: المخلوق. قلت: لا نسلم أن الانتفاع بالخلق غير متصورة وهذا لأنه يمكن الاستدلال على وجود الصانع، وكمال قدرته، وهو وإن كان غير محسوس لكنه معقول، فأما إذا شاهدنا أن الشيء وجد بعد أن لم يكن علمنا أنه إنما وجد بالخلق. سلمنا أن الانتفاع به غير متصور لكن حمل الخلق على المخلوق مجاز.

فلم قلتم: أنه ليس هناك مجاز آخر أولى منه حتى يحمل عليه. سلمنا أن المراد منه المخلوق لكن يجوز لكل واحد واحد من المخاطبين الانتفاع بكل واحد واحد من المخلوقات أو بكلها، والأول مسلم، والثاني ممنوع وهذا لأنه قابل الجمع بالجمع فيقتضى مقابلة الفرد بالفرد. سلمناه لكن كلمة في للظرفية فتدل على إباحة كل ما في داخل الأرض وهو الركاز والمعادن. فإن قلت: كلمة في تتناول ما على وجه الأرض بدليل قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}، إذ ليس المراد منه داخل الأرض وفاقًا بل وجهها. قلت: حمل اللفظ على المجاز في صورة لضرورة امتناع حمله على ظاهره لا يوجب حمله عليه في صورة أخرى مع أنه لا ضرورة هناك. سلمنا أن المراد منه: ما على وجه الأرض لكن في ابتداء الخلق، أو مطلقًا، حتى يجوز له ذلك في كل الأوقات؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع؟ وهذا لأن قوله (خلق) مشعر بانه حال ما خلقها إنما خلقها لنا، فلم قلتم: أنه بقى في الدوام كذلك. فإن قلت: الأصل في كل شيء بقاؤه واستمراره. قلت: هذا فيما يحتمل الدوام، لكن كونه مباحا صفة والصفة لا تبقى كالأعراض سلمنا الإباحة للكل حدوثا وبقاءً ولكن لمن كان موجودًا وقت ورود الآية دون من يأتي بعده؛ وهذا لأنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين. سلمنا أن الآية تدل على اختصاصها بنا لكن قوله تعالى: {لله ما في

السموات والأرض} ينافى ذلك. الجواب: الدليل على أن اللام للاختصاص بجهة المنفعة قوله تعالى: {لها ما كستب وعليها ما اكتسبت} وقال عليه السلام: "النظرة الاولى لك والثانية عليك". وقال: "له غنمه وعليه غرمه"

ويقال: هذا الكلام لك، وهذا عليك. وأما ما ذكرتم من الاستعمال في الاختصاص لكن لا بجهة الانتفاع فهو على طريق التجوز دفعا للاشتراك. لا يقال: ليس جعلها حقيقة في ذاك مجازًا في هذا أولى من العكس؛ لأنا نقول: لو جعلناها حقيقة في الاختصاص النافع أمكن جعلها مجازا في مطلق الاختصاص [لكونه لازمًا له، ولو جعلناها حقيقة في مطلق الاختصاص] لم يمكن جعلها مجازًا في الاختصاص النافع لكونه غير لازم، أو وإن أمكن ذلك/ (330/ أ) لكن عند التعارض، الأول أولى على ما عرفت ذلك غير مرة، فيكون جعلها حقيقة في الاختصاص النافع أولى. ولقائل أن يقول: جعلها حقيقة في مطلق الاختصاص أولى لكن لا يلزم الاشتراك ولا التجوز بل يلزم منه التواطؤ وهو خير منهما وأمكن استعمالها في

الاختصاص النافع وفى الخالي عنه على وجه الحقيقة ضرورة وجود مطلق الاختصاص فيهما فكان أولى، وكيف لا وهو موافق لكلام النحاة من أن اللام للاختصاص، ولا يقتضى النقل عنه الذى هو خلاف الأصل، وحمل كلامهم على أن المراد منه الاختصاص النافع خلاف الأصل لكونه تقييدًا للمطلق. وعن الثاني: أنه يفيد مسمى الانتفاع كما سلمتم لكن يلزم منه المطلوب؛ لأنه يلزم منه تحقق فرد من أفراد الانتفاعات ضرورة أنه لا يمكن دخول المسمى الكلى في الوجود [إ] لا في ضمن فرد من أفراده، وما هو من ضرورات المأذون فيه يكون مأذونًا فيه فالانتفاع بفرد من أفراد الانتفاعات [مأذون فيه، ويلزم من هذا الإذن في كل الانتفاعات] ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وأما قوله: نحمله على الاستدلال به على وجود الصانع فغير ممكن؛ هذا النفع حاصل للمكلف من نفسه فإنه يمكنه أن يستدل بنفسه على وجود الصانع فلو حمل الانتفاع بما في الأرض على هذا لزم الحاصل وهو ممتنع. لا يقال: لا نسلم أنه يلزم تحصيل الحاصل؛ وهذا لأن الانتفاع بالاستدلال الثاني غير الانتفاع بالاستدلال بنفسه ضرورة أنه يحصل تكيد العلم الأول؛ لأنا نقول: الدليل على أنه تحصيل للحاصل: أن الحاصل بالاستدلال الأول هو العلم بوجود الصانع وما هو من لوازمه، والحاصل بالاستدلال الثاني هو هذا فكان ذلك تحصيلا للحاصل. وأما قوله: يحصل تأكيد العلم فممنوع؛ وهذا لأن العلم غير قابل للتأكيد.

سلمناه لكن الحمل على غير هذه الفائدة فائدة تأسيسية، والحمل على ما ذكرتم فائدة تأكيدية فكان الأول أولى. وعن الثالث. أن المراد من الخلق المخلوق، وهو وإن كان مجازا لكن يجب المصير إليه لتعذر حمله على حقيقته كما تقدم والأصل عدم مجاز آخر. وعن الرابع: أنه ليس من قبيل مقابلة الجمع بالجمع، بل هو جارٍ مجرى تمليك الشيء الواحد للأشخاص، فكما أن ذلك يقتضى تعلق حق كل واحد متهم بجميع أجزاء ذلك الشيء على سبيل الشيوع فكذا ها هنا. سلمناه لكن جار لكل واحد منهم الانتفاع بفرد منه جار لغيره ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وعن الخامس. أنا لو سلمنا أن ذلك مجار لكان يحب المصير إليه، لأن حمل كلام الله تعالى على ما هو أعم فائدة أولى. سلمنا حصله على حقيقته لكن يلزم منه المطلوب للإجماع، إذ لا قائل بالفصل. وعن السادس: أن المراد منه أنه خلق لنا مطلقا حتى يثبت لنا الاختصاص في كل الأوقات. والدليل عليه. أن الرجل إذا قال لغيره: بنيت لك هذه الدار لا يفهم منه الاختصاص حالة البناء دون غيره، وإنما يفهم منه ذلك مطلقًا والأصل الحقيقة الواحدة.

سلمنا أنه يقتضي ثبوت هذا الاختصاص في الابتداء لكن الأصل في كل ثابت دوامه. قوله: الصفة لا تبقى. قلنا: صفة المحدث لا صفة القديم الواجب لذاته، وأحكام الشرع كلها صفته تعالى على ما عرف ذلك في تعريف الحكم الشرعي. وعن السابع: أنه لا قائل بالفصل. وأيضًا: الطريق الذي عرفنا عدم اختصاص كل خطاب مشافهة بالحاضرين حاصل فيما نحق فيه فوجب أن لا يختص بهم. والاعتراض الذى اعترضنا به على المتمسك بهذه الآية في مسألة الأشياء قبل الشرع آت في هذا المقام أيضًا. والدليل الثاني على المسألة: التمسك بقوله تعالى: {أحل لكم الطيبات} وليس المراد من الطيب الحلال، وإلا لكان نازلاً منزلة القائل: أحل لكم المحللات. ومعلوم أن ذلك تكرار من غير فائدة، فيتعين أن يكون المراد منه: ما يستطاب طبعًا، وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: إنما يفيد العموم أن لو كان الألف واللام في الطيبات للعموم وهو ممنوع؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون للعهد وهو ما أحل في الشرع مما يستطاب طبعًا، وحينئذ لا يحمل على العموم لأن شوط حمل الجمع المحلى بالألف واللام على العموم أن يكون هناك معهود.

الدليل الثالث: قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} أنكر الله تعالى على من حرم رينة الله فوجبَ أَن لا تثبت حرمة زينة الله تعالى. وإذا لم تثبت حرمة زينة الله تعالى امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى؛ لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى وهو على خلاف النص. وإذا لم تثبت الجرمة بالكلية ثبتت الإباحة. فإن قلت: الدليل خاص، والدعوى عامة؛ ضرورة أنه لا يتناول ما ليس من الزينة من المنافع فلا يصح به التمسك. قلت: قد عرف جواب هذا النوع غير مرة فلا حاجة إلى الاعادة. واعلم أن هذا الاحتجاج مبنى على أن المفرد المضاف يفيد العموم فمن أنكر أن المفرد المعرف باللام لا يفيد العموم أنكر هذا فلا يمكنه التمسك بهذا إلا- أن يكون كرضه منه إلزام القائلين به. الدليل الرابع: أن/ (331/ أ) الله تعالى خلق الأعيان، فإما أن يكون لحكمة، أو لا لحكمة والثاني باطل؛ لأن الفعل الخالي عن الحكمة عبث، وهو على الحكيم محال. ويؤكده قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لأعبين} {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} وإذا بطل هذا القسم تعين الأول.

وتلك الحكمة إما عود النفع إليه وهو محال لاستحالة الانتفاع عليه، وإما عود النفع إلينا؛ لأن كون تلك الحكمة عود الضرر إلينا ممتنع إجماعا، وحينئذ يلزم أن يكون الإذن ثابتًا لأن لازم المطلوب مطلوب، ولا يخفى عليك أنه مبنى على تعليل أفعال الله تعالى. الدليل الخامس: القياس، وتقريره: أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا، وهو خال عن أمارات المفسدة فوجب أن يجوز كالاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بحائط الغير. وانما قلنا: إنه لا ضرر فيه على المالك قطعًا؛ فلان المالك هو الله تعالى والضرر عليه ممتنع قطعًا. وأما ملك العباد فلأن الأصل عدمه، فوجب استمراره، ولأن الكلام مفروض حيث لا ملك فيه لأحد من خلق الله تعالى. وأما أنه خال من أمار ات المفسدة فلأن الكلام مفروض فعه وما ذكرناه في الجواب عنه في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع غير آت ها هنا وهو ظاهر فإن قلت: هذا يقتضى القول بإباحة كل المحظورات؛ لأن فاعلها ينتفع بها، ولا ضرر فيها على المالك. وهو يقتضي سقوط أكثر التكليف وهو ممتنع. سلمنا سلامته عن النقض لكن الفرق بينهما حاصل: وبيانه من حيث الأجمال: وهو أن المالك لو منع من الاستضاءة بسراجه ومن الاستظلال بجداره قبح ذلك منه، والله تعالى لو منع من الانتفاع لم يقبح منه، والافتراق في الحكم دليل على الافتراق في الحكمة: قلت: أما الأول فغير واردة لأنه ليس خال عن أمارات المفسدة؛ لأن نهى الشارع عنها أمارة مفسدتها أما على رأى المعتزلة فظاهر، وأما على رأينا

فلاستلزام النهي استحقاق العقاب عليه، ولا شك أنه من أعظم المفاسد. وعن الثماني: أن ما ذكرتم من الافتراق في الحكم إنما نشا من اختلاف الحاكم إنما من اختلاف الحاكم فيه؛ وهذا لان التحسين والتقبيح لا يتطرفان إلى أفعال الله تعالى فيحسن منه كل شيء بحكم المالكية ألا ترى أنه لو منع الله تعالى من الاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بحائط الغير لم يقبح منه بخلاف العبد فإن يقبح منه؛ لأنه يتطرق إلى أفعاله المدح والذم والجواز وعدمه فلا جرم لا يحسن منه كل شيء. الدليل السادس: أن كر الاشياء المنتفع بها مباح في الشرع فإذا وجدنا شيئًا منتفعًا به ولم نجد على إباحته وتحريمه دليلاً على خصوصية كل واحد منهما ألحقناه بكثر الأشياء في الاباحة إلحاقا للشيء بالأعم والأغلب. وأما الأصل الثاني وهو أن الاصل في المضار الحومة، وفعل الخوض في تقرير الدلالة لابد من تفسير الضرر:- ففيل: الضرر: عبارة عن ألم القلب، لأنه مستعمل في مواضع مختلفة، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينها دفعًا للاشتراك والتجوز، والمشترك بينهما ألم القلب فوجب جعله فيه حقيقة. وإنما قلنا: إنه مستعمل في المواضع المختلفة فلأنه مستعمل في الضرب، والشتم، والاستخفاف، والجرح، والقطع، وأخذ المال، والغضب، وتعطيل المنافع وغيرها من الصور، فيقال: أضره وأضرته، وشتمه وأهانه، وكذا الكلام في بقية الأمثلة، فثبت أن الضرر مستعمل في المواضع المختلفة.

وإنما قلنا: أن الألم قدر مشترك بينها فذلك ظاهر غنى عن البيان. فإن قلت: ما المعنى بألم القلب؟ إن عنيت به الغم والحزن فهو باطل؟ فإن من خرق ثوب إنسان أو أحرق داره وكان المالك غافلاً عنه يقال فيه: أضر به وأضره مع أنه لا هم هناك ولا غم. وإن عنيت به معنى آخر فبينه لينظر هل هو مشترك بينها أم لا؟ نزلنا عن هذا المقام، لكن كما أن ألم القلب قدر مشترك بينها فكذا يجوز أن يكون بينها فدر مشترك آخر وحينئذ لا يجب أن يكون حقيقة فيما ذكرتم من القدر المشترك فلم لا يجوز أن يكون كذلك وعليكم بيانه. ثم أنا نتبرع ببيان القدر المشترك الأخر وهو أن تفويت الفع قدر مشترك بينها فلما كان ما ذكرتم من المشترك أولى من هذا؟ وعليكم الترجيح. ثم أنه معنا؟ لأن النفع والضرر متقابلان لكون كل واحد محهما يذكر في مقابلة الآخر، والنفع عبارة عن تحصيل النفع، فيكون الضرر عبارة عن تفويت المنفعة، وإذا كان حقيقة فيه لا يكون حقيقة فيما ذكرتم دفعا للاشتراك. سلمنا دلالة ما في ذكرتم على أن الضرر عبارة عن ألم القلب لكنه معارض بوجوه: أحدها: أنه لو كان حقيقة فيه لوجب أن يتبادر إلى الفهم عند سماعه لأن من شان الحقيقة ذلك، لكنه غير متبادر إذ لا يفهم من قول القائل: أضر فلان فلانًا، أو أضر به أنه آلم قلبه، وحينئذ يلزم أن لا يكون حقيقة فيه. وثانيها: قوله تعالى: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا

ولا يضركم}. أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم مع أنها تؤلم قلوبهم يوم القيامة؛ لأنهم يعاقبون بذلك، ويلزم من هذا أن الضرر ليس عبارة عن ألم القلب. وثالثها: أن من يسعى في إزالة مال أحد أو جاهه بحيث لا يعلم صاحبه بذلك. يقال: أنه يضره مع أنه لم يوجد هناك ألم القلب ضرورة أنه/ (332/ أ) مشروط بالشعور به. قلت: أما ألم القلب فحالة وجدانيه يعلمه كل أحد بالضرورة ويفرق بينه وبين فرحه ولذته، وإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تعريفه لأن المعلوم بالوجدان لا يعرف. قوله: لم لا يجوز أن يكون هناك مشترك آخر؟ قلنا: الأصل عدمه. قوله: تفويت النفع قدر مشترك بينهما. قلنا: لا نسلم؟ وهذا لأنه ليس في صورة الشتم والإهانة إزالة لنفع مع أنه يستعمل فيهما الضرر. سلمناه لكن لا يمكن جعله مدلول الضرر؟ لان البيع والهبة حصل فيهما تفويت النفع إذ البائع فوت على نفسه الانتفاع بالمبيع وكذا الواهب مع أن ذلك لا يسمى ضررًا. لا يقال: شرطه أن لا يستلزم نفعًا آخر من محوض أو ثواب أو ثناء؛ لأنا نقول: فعلى هذا لا يوجد ضرر أصلا؛ لأنه ما من صورة من صور

تفويت المنافع إلا ويوجد فيه نفع آخر من الثواب أو الثناء كما في الميتة. سلمناه لكن توقيف المقتضى على الشرط على خلاف! الأصل. قوله: النفع يذكر في مقابلة الضرر. قلنا: هب أنه كذلك لكن ذلك لا يضرنا؛ لأن النفع عبارة عن تحصيل اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها. والضرر عبارة عن تحصيل الألم، أو ما يكون وسيلة إليه، وعلى، هذا التقدير المقابلة بينهما حاصلة مع أنه لا دلالة فيه على مطلوبكم. وأما الجواب عن المعارضة الأولى فهو: أنا لا نسلم لنه لا يفهم هذأ المعفط منه؛ وهذا لأنه يصع أن يقال: أضره، وأضر به، ثم طيب خاطره وفرحه فلولا أنه يفهم منه هذا المعنى وإلا لما صح ذلك. وعن الثانية: أنا لا نسلم أن الأصنام تؤلم القلب، بل الذي يؤلمه إنما هو عبادتها وهى غيرها فلم تدل الآية على التغاير لعدم اتحاد الوسط. وعن الثالثة: أن ذلك بطريق التجوز من قبل إطلاق اسم المسبب على السبب فإنه إنما يقال ذلك على معنى أنه يوجد فعلا لو حصل الشعور به لحصل ألم القلب فألم القلب مسبب ذلك الفعل عند حصول الشعور به فبهذا الاعتبار يقال: أضر به أو أضره إذا عرفت هذا فنقول: الدليل على حومة الضرر قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام" أي في أحكام

الإسلام فلو أبيح له ما هو منشأ للضرر الذي هو عبارة عن ألم القلب لكان في أحكام الإسلام ضرار والحديث ينفيه. وأيضًا: لو شرع ما هذا شانه لكان فيه حرج وعسر فكان منفيا بالنصوص النافية للحرج والعسر.

المسألة الثانية في استصحاب الحال

المسألة الثانية في استصحاب الحال. ذهب الأكثرون من أصحابنا كالمزني والصيرفي والغزالي والإمام إلى أنه حجة سواء كلان في النفي عقليًا كان أو شرعيًا، أو في الإثبات وهذا لا يكون إلا شرعيًا؛ لأن العقل عندنا لا يثبت حكمًا وجوديًا ألبتة. وأما النفي فما كان منه شرعيًا كقوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة

أوسق صدقة) فليس له فيه أيضًا مدخل كالوجودي، وما كان منه عقليًا وهو الذى عرف نفيه بالبقاء على العدم الأصلي لا بتصريح الشارع كما سبق كنفي وجوب الصلاة السادسة، ونفي وجوب صوم شوال فالعقل يدل عليه بطريق الاستصحاب إلى أن يرد السمع الناقل عنه. لا يقال: دلالة، الاستصحاب ظنية [وعدم وجوب الصلاة السادسة] وعدم وجوب صوم شوال قطعي فلا يجوز أن يكون مستفادًا من دلالته؛ لانا نقول: عدم السمعي الناقل قد يكون معلومًا كما في المثالين السابقين، وقد بكون مظنونًا ففي القسم الأول يدل الاستصحاب على سبيل القطع والبت كما في المثالين السابقين، وفى القسم الثاني يدل على سبيل الظن كما في وجوب زكاة الخيل والحلي فالظن إنما تطرق إلى استصحاب الحال لاحتمال النقل والتغير فحيث يجزم بنفي هذا الاحتمال وجب القطع بالنفي. وذهب جمهور الحنفية، وجمع من المتكلمين كابى الحسين البصري إلى أنه بحجة في الأمر الوجودي فقط، ومنهم من نقل الخلاف عنهم

مطلقًا، وهو يقتضي تحقق الخلاف في الوجودي والعدمي جميعًا، لكنه بعيد إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة. ثم القائلون بعدم حجيته اختلفوا: فمنهم من جوز الترجيح به. ومنهم لم يجوز الترجيح به أيضًا. ثم أطلق الأصحاب الاستصحاب على أربعة أوجه: أحدها: ما ذكره من استصحاب العدم الأصلي وهذا متفق عليه- على ما تقدم. وثانيها: استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص ضرورة أن العموم حجة عند القائلين به، وكذا استصحاب مقتضى النص إلى أن يرد النسخ فإن النص دليل على دوام الحكم إلى أن يرد النسخ عليه. وثالثها: استصحاب حكم دل الشارع على ثبوته ودوامه لوجود سببه كالملك عند حصول السبب المملك، وكشغل الذمة عند فرض أو إتلاف، وهذا لأن لم يكن حكمًا أصليًا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعًا، ولولا أن الشرع دل على دوامه إلا أن يوجد السبب المزيل أو المبرئ وإلا لما جار استصحابه.

فالحاصل أن الاستصحاب ليس بحجة إلا ميما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم حصول المغير كما في الصور الثلاثة المتقدمة كلها، ومن هذا القبيل الحكم بتكرر الأحكام عند تكرر أسبابها لأنه لما دل الدليل على [كون تلك الأسباب:/ (333/ 1) أسبابًا لتلك الأحكام وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع وهو من جملة الدليل] على أن الحكم يتكرر بتكرر السبب. ورابعها: استصحاب حال الاجماع [في محل الخلاف وهو إن حصل الإجماع على حكم في حال فيتغير الحال ويقع الاختلاف فيستصحب حال الإجماع]، من لم يقل بتغير الحكم. مثاله. أجمعنا على أن رؤية الماء قبل الدخول في الصلاة تبطل التيمم، فإذا رأى المتيمم الماء بعد الدخول فيها فهل يبطل تيممه أم لا؟ وقع الاختلاف في هذا: فمن لم يغير الحكم بقول: أجمعنا على أن رؤية الماد قبل الدخول أن الصلاة تبطل التيمم فكذا رؤيته بعد الدخول استصحابا للحال. وأما من قال بتغير الحكم فيقول: أجمعنا على أن الصلاة قبل رؤية الماء كانت صحيحة فكذا بعد رؤيته استصحابًا للحال. وكذلك يحتج من يقول: أن ملك المرتد لا يزول بالردة، لأنا أجمعنا على أن الملك كان حاصلاً للمرتد قبل الردة فالأصل دوامه فمن أدعى زواله بها

يحتاج إلى الدليل. وهذا النوع من الاستصحاب مختلف فيه بين القائلين بان استصحاب الحال حجة: فذهب جماعة إلى أنه ليس بحجة وهو اختيار أبى العباس بن سريج، وأبى بكر القفال، والغزالي. وألحق أهل الظاهر هذا النوع بما قبله في الحجية. إذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الدليل على أن استصحاب الحال حجة سواء كان في الأمر الوجودي أو في العدمي فالدليل عليه وجهان. أحدهما: أن العقلاء وأهل العرف من سائر الأمم إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه يستصحبون ذلك الوجود أو العدم في الزمان المستقبل ما لم يقطعوا بتغيره أو يظنوا ذلك لدليل منفصل أو لعادة، وإذا كان له أحكام مختصة به فإنهم يمضونها ويسوغون الحكم بها في الزمان المستقبل. وكذلك أن من سافر عن أهله ومعارفه يراسلهم ويكتب إليهم كتابًا يعلمهم بأحواله ويستعلم منهم أحوالهم وإن طالت المدة، ولولا أن الأصل البقاء ودوام الوجود وإلا لما بها، كذلك، وإذا كان كذلك في العرف وجب أن يكون في

الشرع كذلك لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنًا" الحديث. وثانيهما: أن العلم يتحقق أمر أو بانتفائه في الحالة يقتضى ظن بقائه في الاستقبال، والعمل بالظن واجب، ولا نعنى بقولنا: إن استصحاب الحال حجة سوى هذا. وانما قلنا: إن العلم بتحقق أمر أو بانتفائه في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال لوجوه: أحدها: أن الاتفاق حاصل بيننا وبين خصومنا على أن من تيقن الحدث وشك في الطهارة لا تجور له الصلاة، وأن من تيقق الطهارة وشك في الحدث تجور له الصلاة، ولولا أن الأصل في كل متحقق دوامه وإلا لما كان كذلك. بيانه: أنه لو لم يكن الأصل ذلك فإما أن يكون الأصل عدم الاستصحاب أي لا يستصحب حكم الحدث بل يستصحب حكم ضده وهو الطهارة وعكسه أو، الاستصحاب ولا عدمه أي لا يستصحب حكم الحدث ولا حكم الطهارة، فإن كان الأول فيلزم بوار الصلاة في الصورة الأولى، وعدم جوازها في الصورة الثانية؛ ضرورة أن ظن الطهارة حينئذ راجح في الصورة الأولى وظن الحدث راجح في الصورة الثانية وهو خلاف الاجماع؛ وإن كان الثاني لزم عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية وإلا لزم الجواز في الصورة الأولى ضرورة أن احتواء الطرفين حينئذ مما لا يمنع صحة الصلاة وكل من اللازمين ممتنع فالملزوم مثله. وثانيها: أن ظن بقاء الشيء واستمراره أغلب من ظن التغير؛ لأن الباقي لا

يتوقف إلا على وجود الزمان المستقبل ومقارنة ذلك الباقي له كان موجودًا أو معدومًا، وأما التغير فيتوقف على الأمرين المذكورين وزيادة وهو تبدل الوجود بالعدم أو بالعكس، وهو يتوقف على أمور كثيرة من حصول العلل الأربعة والشرائط وارتفاع الموانع وما يتوقف على أقل المقدمات أغلب على الظن مما يتوقف على كثرها. وثالثها: أن الباقي مستفن عن المؤثر، والحادث مفتقر إليه، والمستفتي عن الموثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر اليه فكان الباقي راجح الوجود بالنسبة الى الحادث ولا نعني بكون بقائه أغلب على الظن سوى هذا. وإنما قلنا: أن الباقي مستفن عن المؤثر؛ لأنه لو كان مفتقرًا إليه فإما أن يصدر منه أثر، أو لا يصدر منه أثر ألبتة، وهذا الثاني محال؛ لأن فرض مؤثر مفتقر إليه مع أنه لم يصدر منه أثر ألبتة جمع بين النقيضين فكان محالاً. والأول لا يخلو اما أن يكون أثره عين ما كان حاصلاً قبله أو غيره. والأول محال لأنه تحصيل الحاصل. والثاني يقتضى أن يكون الأثر الصادر عنه حادثاً لا باقيًا وهو خلاف الفرض ولما كان افتقار الباقي إلى المؤثر يفضى إلى هذه الأقسام الباطلة كان افتقاره إليه باطلاً. وإنما قلنا: أن الحادث مفتقر إليه؛ فذلك متفق عليه بين العقلاء لا نزاع فيه لأحد منهم. وإنما قلنا: أن المستغنى عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه فلوجوه: أحدها: أنه لو لم يكن راجح الوجود لكان الشيء مع الاستغناء كهولا مع

الاستغناء فيكون/ (334/ أ) الشيء مع غيره كهولاً مع غيره وهو محال. وثانيها: أن المستغني عن المؤثر لابد وأن يكون الوجود أولى به؛ وإلا لافتقر إليه نظرًا إلى ذاته والحادث ليس كذلك وإلا لاستغنى عنه؛ لأنه مع تلك الأولوية إن افتقر إليه فذلك المرجح مرجح لما هو مترجح في نفسه وهو تحصيل الحاصل وحينئذ يلزم أن يكون اعتقاد وجوده أولى. وثالثها: أن الباقي لا يعدم إلا عند انتفاء شرط، أو وجود مانع أو بإعدام معدم على اختلاف فيه، والمفتقر إلى المؤثر كما يعدم بأحد هذه الأسباب فقد يعدم أيضًا عن عدم المقتضى. وما لعدمه طريق واحد فقط يكون أولى بالوجود مما لعدمه طريقان وحينئذ يلزم أن يكون اعتقاد وجوده أولى فيكون بقائه مظنونا في الاستقبال. وأما أن العمل بالظن واجب فبالإجماع، ولقولة عليه السلام: "أقضى بالظاهر" [و (نحن نحكم بالظاهر)]. ولأنه لو لم يجب لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح. وهو ممتنع في بديهة العقل، وبالقياس على وجوب العمل بخبر الواحد، والعموم، والقياس، وبالشهادة، والفتوى، بجامع ترجيح الأقوى على الأضعف. فإن قيل: على الوجه الأول: ما المراد من قولك: إن أهل العرف يستصحبون الوجود أو العدم؟ [إن غنيتم به: أنهم يستصحبون ذلك الوجود أو العدم] في الزمان المستقبل على سبيل الجواز والاحتمال فهذا مسلم.

وإن عنيتم به على سبيل غلبة الظن فممنوع فإن هذا أول المسالة وبهذا خرج الجواب أيضًا عما ذكروه من سند المنع فإنهم إنما يفعلون ذلك بناء على احتمال البقاء وتجويز حصول الغرض فإن ما هذا شأنه ولا ضرر في فعله فإن العقلاء يباشرونه ويسوغون فعله. وعلى الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن العلم بتحقق أمر أو بانتفائه في الحال يقتضى ظن بقائه، أما ما ذكرتم من الوجه الأول في الدلالة عليه في الكلام عليه أن نقول: أنا نسلم أنه يلزم منه رجحان الطهارة لكن لم يلزم منه جواز الصلاة؛ وهذا لأنه لو لزم [من رجحان الطهارة جواز الصلاة للزم] النقض في صورة النوم والإغماء على رأى من لم يجعل نفس النوم حدثًا فإن ظن الطهارة راجح فيها ضرورة أنها كانت متحققة ولزم جواز الصلاة لو ظن الطهارة من غير استناده إلى القطع بتحققه. وأما الوجه الثاني فهو ممنوع؟ وهذا لأنا لا نسلم أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير، وما ذكرتموه من زيادة توقف التغيير على تبدل الوجود بالعدم وبالعكس فهو معارض بما أن البقاء يتوقف على تجدد مثل السابق. سلمناه لكن ما يتوقف على أقل المقدمات متى يكون أغلب على الظن إذا لم تكن تلك المقدمة نادرة الوجود أو مطلقًا؟ والأول مسلم، والثاني ممنوع؛ فلعل ما يتوقف عليه الباقي أندر من الذى يتوقف عليه التغيير حينئذ لا يلزم ما ذكرتم. سلمناه لكن لا يلزم منه أن يكون أغلب على الظن؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون الشيء أغلب من [غيره لكن لا يلزم منه أن يكون غالبا على الظن لجواز أن يكون كليهما غير غالبين على الظن وإذ كان أحدهما أغلب من] الآخر

وهذا كحصول كل واحد من الغنى التام الواسع والملك لأكثر أفراد الناس غير غالب مع أن حصول الغنى أغلب من الملك. وأما الوجه الثالث فالكلام عليه أن يقول: ما المعنى من قولك: لا نسلم أن الباقي مستغن عن المؤثر؟ إن عنى به: أن كونه باقيا مستغن عن المؤثر فهذا ممنوع؛ وهذا لأن كونه باقيًا حادث؛ ضرورة أنه ما كان حاصلا في الزمان الأول ثم حدث في الزمان الثاني فيكون حادثًا فاستغناؤه عن المؤثر يقتضى استغناء الحادث عنه وهو باطل قطعًا وهو أيضًا مناقض لقولكم الحادث مفتقر إليه. وإن عنى به شيئًا فلابد من إفادة تصوره أولاً، ثم من إقامة الدلالة على أنه مستغن عنه بذلك المعنى. نزلنا عن الاستفسار، لكن لا نسلم أن الباقي غير مفتقر إلى المؤثر. قوله: لو كان مفتقرًا إليه فأثره إما أن يكون عين ما كان حاصلاً أو غيره .. قلنا: اخترنا القسم الثاني؛ وهذا لأنه لا معنى لبقائه إلا حصوله في الزمان الثاني والثالث بعد أن كان حاصلاً في الزمان الأول ولا شك أن هذا المفهوم ما كان حاصلاً في الزمان الأول فيكون غير ما كان حاصلاً فلم لا يجوز أن يكون أثر المؤثر الذى يحتاج إليه الباقي هذا. لا يقال: كلامنا في احتياج الباقي لا الحادث وعلى ما ذكرتم يكون المحتاج الحادث لا الباقي لأن ما ذكرتم من المفهوم حادث ضرورة أن ما كان حاصلاً في

الزمان الأول ولأن ما ذكرتم من المفهوم لا يحصل للشيء إلا بعد تأثير المؤثر وذلك بعد احتياجه إلى المؤثر فلو كان الباقي محتاجًا إلى المؤثر في هذا المفهوم لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب؛ لأن كون الباقي محتاجًا إنما يكون بعد كونه باقيًا وإنما يكون باقيا بعد تأثير المؤثر وذلك بعد احتياجه إليه فظهر أنه يلزم منه تقدم الشيء على نفسه بمراتب. لأنا نقول: المراد من قولنا: الباقي يحتاج إلى المؤثر أن حصوله في الزمان الثاني لابد فيه من شيء آخر. وقد ثبت ذلك فأما البحث بعد ذلك أن ذلك المفهوم ليس باقيًا بل هو حادث، وأن كونه باقيًا يحصل له بعد ذلك عند حصول ذلك المفهوم فلا يكون المحتاج هو الباقي بل الحادث فبحث خارج عن المقصود. سلمنا فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون الواقع هو القسم الأول. قوله: إنه/ (335/ أ) تحصيل الحاصل. قلنا. إن عنى به: أن يجعل المؤثر عين الذي كان موجودًا في الزمان الأول حادثًا في الزمان الثاني فلا شك في أنه ممتع، لكن لم قلت: إن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك؟ وإن عنى به: أن الوجود الذى ترجح في الزمان الأول بالمرجح نفسه ترجح في الزمان الثاني به فلا نسلم أن ذلك ممتنع ونحن لا نريد باحتياج الباقي إلى المؤثر الا هذا فلم قلت: إن ذلك ممتنع؟ وإن عنى به شيئًا أخر فليذكره لننظر فيه. سلمنا صحة ما ذكرتم من الدلالة على استغناء الباقي عن المؤثر، لكنه معارض بما أن الشيء حال بقائه ممكن لذاته لأنه ممكن لذاته في زمان حدوثه وإلا لما وجد بعد عدمه وإلا كان من لوازم الماهية، وإلا لجاز زواله فيلزم انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع أو الوجوب الذاتي وهما ممتنعان، وحينئذ يلزم أن يدوم بدوام الماهية والماهية باقية في حالة البقاء فوجب

أن تكون الماهية ممكنة حالة البقاء وكلل ممكن فله مؤثر لأن علة الحاجة إلى المؤثر هو الإمكان لا الحدوث ولا مجموعها ولا الإمكان بشرط الحدوث؛ لأن الحدوث عبارة عن: مسبوقية وجود الشيء بالعدم، ومسبوقية الوجود بالعدم نسبة بينهما فتكون متأخرة عنهما ضرورة أن النسبة متأخرة عن المنتسبين، ولأن مسبوقية الوجود بالعدم صفة الوجود ونعت له ولهذا يقال: [وجود مسبوق] ووجود غير مسبوق فلو لم يكن صفة له لما جار ذلك، وإذا كان كذلك فتكون متأخرة عن الوجود المتأخر عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن الاحتياج إلى المؤثر المتأخر عن علة الحاجة اليه فلو كان الحدوث علة الحاجة إلى المؤثر، أو جزأ منها، أو شرطًا لهما، لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وهو ممتنع فثبت أن علة الحاجة إلى المؤثر هو الامكان والباقي ممكن يوجز أن يكون محتاجًا إلى المؤثر وإلا لا ينسد باب إثبات الصانع. سلمنا المقدمتين لكن لم قلتم أن المستعني عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه. قوله في الوجه الأول: وإلا لكان الشيء مع غيره كهولا مع غيره. قلنا: لا نسلم وهذا لأنه يجوز أن يحصل بينهما امتيار بوجه آخر لا من حيث رجحان الوجود وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور. قوله في الوجه الثاني: المستغنى عن المؤثر لابد وأن يكون أولى بالوجود وإلا لافتقر إليه. قلنا: إن عنيت بهذه الأولوية المنتهية إلى حد الوجوب فهو باطل وإلا لزم امتناع العدم على الباقي لأن كل ما وجب وجوده امتنع عدمه لا محالة لكن ذلك باطل فإن الباقي قابل للعدم. وإن عديت بها: درجة متوسطة بين الاستواء المسمى بالإمكان. وبين

الوجود الذي هو مانع من النقيض فهذا أيضا باطل؛ لأن مع ذلك القدر من الأولوية إن امتنع النقيض فهو الوجوب وقد فرضنا أنه لم ينته إليه بل هو دونه هذا خلف، وإن لم يمتنع فمع ذلك القدر من الأولوية يصح عليه الوجود تارة، والعدم أخرى، فحصول أحدهما بدلاً عن الأخر، إن لم يتوقف على انضمام أمر آخر إليه لزم الترجيح من غير مرحج؛ لأن نسبة ذلك القدر من الأولوية إلى طرفي الوجود والعدم على السواء فترجح أحدهما على الأخر لا لمرجح ترجيح من غير مرجح وهو ممتنع وإن توقف عليه لزم أن لا يكون الحاصل تبله كافيًا في تحقق الأولوية هذا خلف. قوله في الوجه الثالث: ما لعدمه طريق واحد يكون راجح الوجود بالنسبة إلى ما يكون لعدمه طريقان. قلنا: نسلم أن لعدم الحادث طريقين، ولعدم الباقي طريقا واحدًا، لكن لا فسلم أن هذا القدر يقتضى أن يكون الباقي راجحًا في الوجود على الحادث. سلمناه لكنه معارض بوجه آخر وهو [أن مفهوم كونه باقيًا يتوقف] على مفهوم كونه حادثًا؛ ضرورة أنه لا يصدق عليه كونه باقيًا إلا إذا حصل في الزمان الثاني، ولا شك أن حصوله في الزمان الثاني أمر حادث، فإذا لم يكن وجود الحادث راجحًا، لم يكن وجود الباقي أيضًا راجحًا لأن المتوقف على ما لا يكون راجح الوجود لا يكون راجح الوجود [فيلزم أن لا يكون الباقي راجح الوجود]. سلمنا أن الباقي راجح الوجود، لكن لا يحصل له الرجحان ما لم يحصل له الاستغناء عن المؤثر، ولا يحصل له ذلك ما لم يحصل له البقاء وهو إنما

يحصل له إذا حصل في الزمان الثاني فما لم يعرف وجوده في الزمان الثاني [لا يعرف كونه راجح الوجود، والاستدلال برجحان الوجود على وجوده في الزمان الثاني] دور. سلمنا رجحان وجود الباقي على الحادث في الوجود الخارجي فلم قلت: إنه كذلك في الظن أيضًا؟ لابد لهذا من [دليل. سلمنا أنه في الظن أيضًا كذلك، لكن لا نسلم أن العمل بمطلق الظن واجب؛ وهذا لأنه لو كان، العمل بمطلق الظن واجبا لزم النقض في صورة شهادة العبيد الصالحين، والنساء المحصنات، والفساق الذين يغلب على الظن صدمهم؛ دليل أن شهادتهم تفيد مطلق الظن مع أنه لا يجب العمل بذلك. سلمنا أنه مغلب للظن لكن بعد ورود الشرع أو قبل وروده؟ الأول ممنوع والثاني مسلم؛ وهذا لأن قبل ورود الشرع قد أمنا التغيير فكان مغلبًا على الظن وأما بعده لم نأمن منه وقد دل الدليل على أصل التغيير بل على الغالب منه فلا يبقى مغلبًا على الظن. سلمنا صحة ما ذكرتم من الدلالة على المطلوب لكنه معارض بوجوه: أحدها: أن التمسك بالاستصحاب يقتضى التسوية بين الزمانين في الحكم، فإن كان ذلك لجامع بينهما فهو القياس ولا نزاع فيه، فلا/ (336/ أ) يكون الاستصحاب مدركًا آخر حينئذ. وإن لم يكن ذلك لجامع كان ذلك تسوية بين الزمانين في الحكم من غير

دليل وهو ممتنع لكونه تحكمًا محضًا وقولاً في الدين من غير دليل. وثانيها: أنه لو كان الاستصحاب هو الأصل في كل شيء لزم خلاف الأصل في حدوث جميع الحوادث ضرورة أنها واقعة على خلاف الأصل ومخالفة الأصل خلاف الأصل لاسيما إذا كان كثيرًا غالبًا. وثالثها: أن الإجماع منعقد على أن بينة الإثبات مقدمة على بينة النفي، ولو كان الاستصحاب هو الأصل لكانت بينة النفي مقدمة على الإثبات لاعتضادها بالأصل. ورابعها: لو كلان الاستصحاب هو الأصل لوجب أن تجزئ عتق العبد الذى غاب وانقطع خبوه عن الكفارة إذ الأصل بقاؤه لكن نص الشافعي- رضى الله عنه- أنه لا يجوز فدل على أنه ليس بأصل. وخامسها: لو كان الاستصحاب حجة لوجب أن يكون مقدما على خبر الواحد والقياس وكل مدرك ظني من مدارك الشرع؛ لأنه يقيني وكون اليقيني راجحًا على الظن لكنه باطل بالإجماع فوجب أن لا يكون حجة. وسادسها: أنه لو كان حجة فإما أن يكون حجة شرعية أو عقلية، وهذا الثاني باطل؛ أما أولاً. فلانه لا مجال للعقل عندنا في الأحكام الشرعية؟ وأما ثانيًا: فلأن كل من [يقول بحجيته] فإنما يقول بذلك بتقرير الشارع عليه [فما كان حجة فالقول بحجيته مع أنه حجة عقلية لا شرعية أي من غير تقرير الشارع] قول لم يقل به أحد. والأول أيضًا باطل؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز نسخه إلا بمقطوع المق كالكتاب والسنة المتواترة لكونه يقينيا لكنه باطل بالإجماع إذ يجوز رفعه بخبو الواحد والكتاب وغيرهما من الأدلة الظنية.

الجواب عن الأول: الدليل على أن العقلاء وأهل العرف لا يقدمون على الفعل والترك بمجرد الاحتمال والتجويز هو أنهم لا يسافرون إلى حيث لا يغلب فيه السلامة، ولا يتجرون فيما لا يغلب فيه الربح، ولا يقصدون بحاجة من لا يغلب على ظنهم إلا نجاح منه، ولا يزرعون من حيث لا يغلب فيه وجود المطر، وكذا لا يتركون ركوب البحر والاسفار والتجارات بمجرد احتمال الفرق، وقطع الطريق، والمرض الناشئ من جهة السفر والخسارة، ولو كان مجرد الاحتمال كافيًا في الإقدام على الفعل والترك لما كان ذلك. لا يقال: ذلك فيما فيه مشقة وتعب وغرر في النفس أو المال أما فيما ليس فيه شيء من ذلك فلا نسلم ذلك فيه. وبعث الكتاب إلى الأهل والمتخلفين والاستخبار منهم من قبيل ما لا ضرر فيه، فلا جرم مجرد الاحتمال كاف فيه؟ لأنا نقول: لشيء حكم الاستصحاب مقصورًا فيما ذكرتم حتى يتجه المنع بل يستصحبون حكم الاصل وإن كان فيه مضرة وتعب وغرر في المال والنفس فإن الإنسان قد يسافر إلى بلد لرؤية أهله وأتاربه لعهده بهم فيها وإن لم يكن له فيها أرب سواه بل ربا يكره الدخول في تلك البلدة وحينئذ لا يتجه ما ذكروه من المنع. وعن الثاني: أنه يلوم من رجحان الطهارة جواز الصلاة؛ لأنه لو لم يلوم ذلك لزم ترجيح المرجوح على الراجح وأنه ممتنع. وأيضًا: العمل بالظن الراجح واجب في صور كثيرة فكذا ما نحن فيه تحصيلاً للمصلحة الناشئة من العمل المظنون. وأما قوله: لو جازت الصلاة مع رجحان ظن الطهارة للزم النقض في صورة النوم والإغماء فممنوع؛ وهذا لأنه لا نسلم وجود ظن الطهارة وإن

كانت الطهارة متحققة من قبل لأنه وجده سبب ظاهر للحدث فيكون مظنة للحدث فيكون الحكم منوطا به لما عرف في الشرع والعرف تعليق الحكم بمظنته وحينئذ لا يبقى ظن الطهارة قطعًا كما لا يبقى مع ظن الحدث فإن مظنة الحدث [نازلة منزلة الحدث]. وأما قوله: ولزم جواز الصلاة لو ظن الطهارة من استناده إلى الاستصحاب فهو أيضًا ممنوع؛ وهذا لأنه لا يلزم من اعتبار الظن المستند إلى الاستصحاب اعتبار الظن مطلقًا. سلمناه لكن لا نسلم امتناع اللازم فإن ظن الطهارة والحدث كيف ما كان عندنا. قوله: البقاء يتوقف على تجدد الامثال. قلنا: هذا لا يأتي فمما هو باق بنفسه، وأما الذي هو باق بتجدد الأمثال كالأعراض على رأي أهل السنة والجماعة فليس أمثاله كتبدل وجود الشيء بعدمه وبالعكس ضرورة أن الأول معتاد مطرد في كل الأزمان لذلك بخلاف الثاني فلا يعارضه. قوله: المقدمات التي هي أقل من غيرها تجد تكون نادرة الوجود فلا يلزم أن ما يتوقف عليها غالب الوجود. كلنا: مسلم لكن ما يتوقف عليه البقاء ليس كذلك؛ ضرورة أنه لا يتوقف. إلا على وجود الزمان المستقبل وهو حاصل قطعًا إلى فناء العالم ومقارنة وجود الشيء أو وجود مثله له وهو أيضًا حاصل بصفة الغلبة فإن بقاء الشيء بالمعنى الذى تقدم غالب قطعًا وتبدل وجود الشيء بالعدم وبالعكس نادر بالنسبة إليه

والاستقراء يحققه. قوله: الأغلب من غيره قد لا يكون غالب الوجود. قلنا. مسلم لكن ما نحن فيه ليس كذلك لما بينا بالاستقراء أنه غالب الوجود. قوله: ما المعنى من قولك: الباقي مستغن عن المؤثر؟ [قلنا: نعنى به أن الذات الحاصلة في الزمانين أعنى في الزمان الأول والثاني مستغن عن المؤثر]، في نفس فاته في الزمان الثاني [وعند هذا نقول: الذات الحاصلة في الزمانين إن لم يحصل لها في الزمان الثاني] أمر زائد على ما كان حاصلاً لها في الزمان الأول بطل/ (337/ أ) قولك: أن كونه باقيًا حادث، وإن حصل لها في الزمان الثاني ما ليس حاصلاً لها في الزمان الأول فهذه الكيفية زائدة على نفس الذات ضرورة أن الذات حاصلة في الزمانين وهذه الكيفية ما كانت حاصلة في الزمان الأول بل حصلت في الزمان الثاني فاحتياجها إلى المؤثر لكونه حادثًا لا يقدح في استغناء الذات الباقية عنه لكونه باقيًا. قوله: لا نسلم أن الباقي غير مفتقر إلى المؤثر. قلنا: قد تقدم الدليل. قوله. المراد من قولنا: الباقي يحتاج إلى المؤثر أن حصوله في الزمان الثاني يحتاج، إلى المؤثر. قلنا: هذا إنما يستقيم أن لو كان حصول الشيء في الزمان الثاني كيفية ثبوته.

زائدة على الذات وهو ممنوع؛ وهذا لأنه لو كان كذلك لكان له حصول في الزمان قطعًا والكلام في حصول ذلك الحصول كالكلام في الأول ولزم التسلسل وهو ممتنع، ولأن العدم يصدق عليه أنه باق ولا معنى للبقاء إلا حصول ما كان حاصلاً في الزمان الأول في الزمان الثاني فلو كان هذا المفهوم ثبوتيا لزم قيام الصفة الثبوتية بالعدم وأنه ممتنع. سلمناه لكن لا يقدح في الفرض فإنه لا يلزم من احتياج تلك الكيفية إلى المؤثر لكونها حادثة اجتياح الذات الباقية إليه لكونها باقية. قوله: ما المعنى بتحصيل الحاصل؟ قلنا: المعنى أن الشيء الذى حكم العقل عليه بانه كان حاصلاً قبل حكم عليه بأن حصوله الأن لأجل هذا الشيء، ولا شك في امتناعه فإن لما كان حاصلاً قبل فلو أعطاه هذا المؤثر حصولاً لكان قد حصل نفس ما كان حاصلاً ومحال بالبديهة. قوله: لم قلت أن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك؟ قلنا: لأن الذات هي الباقية لا الكيفية المتجددة فلو كانت مستندة في حصول وجودها الذى كلان حاصلاً من قبل إلى المؤثر لزم تحصيل الحاصل بالمعنى المذكور. قوله: ما ذكرتم معارض بأن الشيء حال بقائه ممكن وكل ممكن فله مؤثر لأن الإمكان علة الحاجة إلى مؤثر. قلنا: لا نسلم بل الممكن إنما يفتقر إلى المؤثر بشرط الحدوث. قوله: الحدوث لا يكون علة، ولا جزء علة، ولا شرطها لكونه متأخرًا. قلنا: لا نريد به أن كونه حادثًا شرط الاحتياج إلى المؤثر؛ بل نريد به: أن

كونه بحيث لو وقع بالمؤثر لكان حادثا شرط لاحتياج الأثر إلى المؤثر، وكونه بهذه الحيثية أمرًا متقدمًا على وجوده وعلى تأثير المؤثر فيه وعلى علة احتياجه. قوله: لم قلت: أن المستغنى عن المؤثر راجح [الوجود]؟ قلنا: لما تقدم من الوجوه. قوله. على الوجه الأول: يجوز أن يحصل بينهما امتيار بوجه آخر من حيث رجحان الوجود. قلنا: لا يحصل الامتياز إلا من حيث الاحتياج والاستغناء فلما كان الاحتياج مستلزمًا لمرجوحية الوجود وجب أن يكون الاستغناء مقتضيًا، لرجحاته فأما الامتياز بوجه آخر فذلك مما لا تعلق له بهذا الباب. قوله على الوجه الثاني: إن عنى بالأولوية درجة متوسطة بين الإمكان والوجوب لزم الترجيح من غير مرجح وهو ممتنع. قلنا: لا نسلم امتناعه مطلقًا؛ بل بشرط الحدوث وهو مفقود فيما نحن فيه فلا يمتنع ذلك فيه. قوله على الوجه الثالث: نسلم أن لعدم الباقي طريقًا واحدًا ولعدم الحادث طريقين لكن لا نسلم أن هذا القدر يوجب رجحان وجود الباقي. قلنا: إنه يوجب الرجحان ويدل عليه وجهان: أحدهما: أن ما حصل بطريقين يكون أغلب مما يحصل بطريق واحد؛ لأنه يساوى القسم الثاني في الحصول بطريق واحد ويزيد عليه في أنه يحصل بالطويق الأخر، والغلبة مظنة الرجحان فيكون عدم الباقي مرجوحًا بالنسبة. إلى عدم الحادثة فيكون راجح الوجود بالنسبة إليه ضرورة أن أحد النقيضين إذا كان مرجوحًا كان الطوف الآخر راجحًا.

وثانيهما: أن عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي؛ لأنه يصدق على ما لا نهاية له أنه لم يحدث. وأما عدم الباقي بعد حدوثه فذلك يصدق على ما لا نهاية له ضرورة أنه يستدعى وجود ما لا نهاية له وهو محال، وما يتوقف على المحال فهو محال، فعدم الباقي بعدة وجوده لا يصدق على ما لا نهاية له وإذا كان عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي بعد وجوده والكثرة موجبه للظن: ثبت أن عدم حدوث الحادث غالب على عدم الشيء بعد وجوده، ولا معنى لرجحان وجود الباقي إلا أن عدمه مرجوحا بالنسبة إلى وجوده وهذا يصلح أن يكون دليلا في المسالة ابتداء. قوله: مفهوم كونه باقيا يتوقف على كونه حادثا. قلنا: لا نسلم لأن حصوله في الزمان الثاني ليس أمرًا وجوديًا وإلا لزم التسلسل على ما عرفت ذلك من قبل، وإذا كان كذلك استحال أن يقال: إنه حادث فلا يتوقف مفهوم كونه باقيًا على مفهوم كونه حادثًا. سلمناه لكنه لا يقدح في الغرض وذلك؛ لأن الحدوث مرجوح بالنسبة إلى البقاء على ما تقدم تقريره فالذات إذا كانت حادثة فهناك أمران حادثان أحدهما الذات، والأخر حصول الذات في ذلك الزمان. وأما إذا كانت باقية فالذات غير حادثة وإنما الحادث أمر واحد وهو حصول الذات في ذلك الزمان فإذن الحادث مرجوح من وجهين، والباقي مرجوح من جهة واحدة، وما يكون مرجوحًا من جهة واحدة يكون راجحًا على ما يكون مرجوحًا من جهتين لا محالة. قوله: [لا يعرف كونه راجح الوجود] ما لم يعرف البقاء، والاستدلال بالبقاء على رجحان الوجود دور/ (338/ أ).

قلنا: لا حاجة إلى ذلك؟ بل نقول: هذا الذى وجد الأن لا يمتنع عقلاً أن يوجد في الزمان الثاني، وأن يعدم، لكن احتمال الوجود راجح على احتمال العدم من الوجه الذى تقدم تقريره فالعلم بوجوده- في الحال- يقتضى اعتقاد رجحان وجوده على عدمه في ثاني الحال. فإذن العلم بالأولوية مستفاد من العلم بوجوده في الحال، وعلى هذا لا يلزم ما ذكرتم من الدور. قوله: سلمنا رجحان الباقي على الحادث في الوجود الخارجي. فلم قلت: إنه كذلك في الوجود الذهني؟. قلنا: لأن الحكم الذهني يجب أن يكون مطابقًا للخارجي وإلا لم يكن معتبرًا لكونه جهلاً. قوله: لم قلت: أن العمل بمطلق الظن واجب؟ قلنا: لما تقدم من الأدلة. قوله: يلزم النقض حينئذ. قلنا: العمل بالظن واجب مطلقا حيث لم يدل دليل شرعي على إلغائه وما من الصور دل الدليل الشرعي على الغائه فلم يلزم النقض. سلمنا النقض لكن وجب المصير إليه جمعًا بين الدليلين. قوله: لا نسلم أنه مغلب للظن بعد ورود الشرع. قلنا: قد بينا أن العمل بمطلق الظن واجب إلا فيما خصه الدليل فسقط ما ذكرتموه. سلمنا أنه لا يجب العمل إلا بما يغلب على الظن بعد ورود الشرع لكنه كذلك لأنه كان مغلبًا للظن [قبل ورود الشرع بدليل أن الغالب عدم التغير

وبما أن الخصم سلم ذلك فوجب أن يكون مغلبا للظن] بعده لأنه لم يوجد له معارض سوى احتمال التغير لكنه مرجوح وهو لا يقدح في غلبة الظن فإنه لو كان قادحًا في غلبة الظن لزم أن لا تتحقق غلبة الظن إلا حيث لا يوجد الاحتمال المرجوح فكان يلزم أن تكون غلبة الظن علما هذا خلف. قوله: التسوية بين الزمانين إن لم تكن بجامع بينهما كان ذلك تسوية بين الزمانين من غير دليل. قلنا: إن عنيت بالجامع الجامع المعهود في القياس فلا يلزم من عدم ذلك التسوية بين الزمانين من غير دليل؟ إذ لا يلزم من عدم دليل معين عدم الدليل مطلقًا، فإن ما ذكرنا من الدليل هو المقتضى للتسوية وهو ليس بجامع. وإن عنيت به ما يقتضى الجمع بين الشيئين في حكم واحد فلا نسلم أنه يلزم من تحققه تحقق القياسين فإن الأدلة باسرها بهذه المثابة وليس كل دليل بقياس. قوله: لو كان الاستصحاب هو الأصل لزم خلاف الأصل في حدوث جميع الحوادث. قلنا: مخالفة الأصل بدليل لاسيما بالقاطع ليس ببدع. قوله: بينة الإثبات مقدمة على النفي. قلنا: للاطلاع على ما يوجب مخالفة البراعة الأصلية وعدم اطلاع النافية عليه؛ لاحتمال وجود السبب الموجب للمخالفة حالة غيبة النافية إذ يستحيل عادة إحاطة العلم بجميع أحوال المنكر. قوله: لو كان الاستصحاب هو الأصل لجار عتق العبد الذي انقطع خبره.

قلنا: لا نسلم امتناع اللازم؛ وهذا فإنه يجوز على رأى في المذهب. سلمناه لكن ذلك إنما كان لان شغل الذمة بالكفارة يقين، ووجود العبد ليس بيمين بل الظاهر عدمه لانقطاع الخبر مع تواصل الاخبار والمعارف فينبغي أن لا يخرج عن العهدة. قوله: لو كان الاستصحاب حجة لوجب أن يكون مقدما على القياس وخبر الواحد. قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن الاستصحاب انما يكون يقينيا أن لو قطع بعدم المغير، فأما مع احتماله ووجوده فلا، وما نحن فيه وجد المعارض الظنى فلا يكون إذ ذاك الاستصحاب [وإنما يكون يقينيا أن لو قطع بعدم المغير فأما مع احتماله ووجوده]، قطعيًا وإنما قدم هذا الظني على ذلك الظني لكونه شرعيًا متأخرًا وبه خرج الجواب عن المعارضة الأخيرة. واعلم أن القول بالاستصحاب لا بد منه في أصول الشرع وفروعه وفى الأمور العادية العرفية. أما الأول. فلأن من جملة أصول الشرع القول بالنبوة، بل هي من أعظم أصوله، ولا تثبت النبوة إلا بالمعجزة، ولا معنى لها إلا فعل خارق للعادة ولا يحصل ذلك إلا عند تقرير العادة، ولا معنى للعادة، إلا أن العلم بوقوع الشيء على وجه مخصوص في الحال يقتضى اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه، وهذا عين الاستصحاب وأما في فروع الشرع: فلان العمل بالدليل على حكم من الأحكام إنما هو مبنى على عدم الناسخ والمخصص والمعارض ولا يعلم ذلك بدليل شرعي آخر؛ لأن الكلام في ذلك

الدليل كالكلام في الأول فيلزم التسلسل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاستصحاب؛ فإن الأصل عدم الناسخ، وعدم المعارض، وعدم المخصص، وكذلك في الدعاوى وسائر أبواب الفقه. وأما في العرف والعادة: فلان أهل العرف إذا عرفوا عادة شخصًا أو بلدة في أمر من الأمور، فإنهم يبنون أمورهم على ذلك فيما يتعلق من الأمور بذلك الشخص أو بتلك البلدة، وكذلك في الأدوية والأغذية، فثبت أن القول بالاستصحاب لابد منه في أصول الشرع وفروعه وفى العرف والعادة.

المسألة الثالثة في أن النافي هل عليه دليل أم لا؟

المسألة الثالثة في أن النافي هل عليه دليل أم لا؟ اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون إلى أنه يجب عليه الدليل مطلقًا كما في الاثبات. وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب عليه الدليل مطلقًا. وفصل بعضهم بين العقليات والشرعيات فأوجب ذلك في الأول دون الثاني. وأعلم أنه لا يتجه في المسألة خلاف؛ لأنه إن أريد بالنافي: من يدعي العلم أو الظن بالنفي فهذا يجب عليه الدليل؛ لأنه إذا لم يكن النفي معلومًا بالضرورة- إذا الكلام مفروض فيه- إذ الضروريات لا يذكر عليها الدليل بل قد ينبه عليها، فإما أن يكون معلوما بالنظر والاستدلال أو مظنونًا في العلامات والأمارات والا استحال إلى حصول العلم أو الظن، فعلى التقديرين يجب عليه ذكر ذلك كما في/ (339/ أ) الإثبات. وإن أريد به: من يدعى عدم علمه أو ظنه فهذا لا دليل عليه؛ لأن من يدعي

جهله بالشيء غير مطالب بالدليل على جهله، كما لا يطالب به من يدعى أنه لا يجد الماء ولا جوعا ولا حرًا ولا بردًا، ولأن الجاهل بالشيء والشاك فيه لو طولب بالدليل لوجب ذكر الأدلة التي لا نهاية لها ضرورة أن ما جهل لا نهاية له لكن ذلك باطل لكونه غير ممكن؛ لأن علم ما لا نهاية له في حق البشر محال. واحتجوا: بأن من أدعى النبوة، ولم يقم عليها معجزة فإنه يجب إنكار نبوته، فإما أن يقال: إنه يجب على المنكر الدليل على ذلك أو لا يجب، والأول خلاف الاجماع، والثاني هو المطلوب، وكذا القول فيمن نفى وجوب الصلاة السادسة، ووجوب صوم شوال، فثبت أن النافي لا دليل عليه. وجوابه: ما ذكرنا من قبل أن دليله استصحاب العدم "الأصلي وهو وإن كان لا يفيد إلا الظن، لكن لما قطع بعدم الناقل أفاد القطع فيما هو خال عن الدليل. وأيضًا: فإن الأمه مجمعة على أنه لا دليل على المدعى عليه وما ذاك إلا أنه ناف. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا دليل عليه؛ وهذا لأن بينته نازلة منزلة البينة من جهة المدعى فلم لا يجوز أن يحصل ذلك دليلاً؟ سلمنا أنها ليست دليلاً فلم لا يجوز أن يقال: إن دليله هو البراعة الأصلية واليد. سلمنا أنه لا دليل عليه لكن لا نسلم أن ذلك لكونه نافيا ولم لا يجوز أن

يكون ذلك النص؟ وهو قوله عليه السلام: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر". سلمناه لكن ذلك للضرورة؛ إذ لا يمكن إقامة البينة على ذلك، فإن إطلاع الشهود على ذلك متعذر، إذ لا يمكنهم ملازمة الشخص من أول عمره إلى آخره بحيث لا ينفكون عنه ساعة فلا يلزم من ذلك عدم إقامة الدليل حيث لا يتعذر ذلك.

المسألة الرابعة اختلفوا في أن مذهب الصحابي وقوله هل هو حجة على من بعدهم من التابعين أم لا؟

المسألة الرابعة اختلفوا في أن مذهب الصحابي وقوله هل هو حجة على من بعدهم من التابعين أم لا؟ وإنما قلنا على من بعدهم؛ لأنه ليس قول: بعضهم على بعض حجة وفاقًا. فذهب الشافعي، وأصحابه، والأشاعرة، والمعتزلة، والإمام

أحمد بن حنبل في رواية. والكرخي إلى أنه ليس بحجة مطلقًا. وذهب الإمام مالك وكثر الحنفية كالرازي والثوري والشافعي أولاً. والإمام أحمد في رواية وجمع من أصحابه إلى أنه حجة مطلقًا مقدم على القياس. ومنهم من فصل وذكر فيه وجوهًا:- أحدها: أنه حجة أن خالف القياس وإلا فلا. وثانيها: أن قول أبى بكر وعمر حجة دون غيرهما. وثالثها: أن قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا. وهذا يشبه أن يكون من قبيل الاجماع، وقد سبق في الإجماع.

وأما الذي يليق بهذا المكان هو ان يكون قول كل واحد منهم حجة، وكذا القول في قول أبي بكر وعمر رضى الله عنهما. احتج الأولون بوجوه:- أحدها: قوله: {فاعتبروا} أمر بالاعتبار، وذلك ينافى جواز التقليد. ولقائل أن يقول: ليس قبول قولهم على وجه التقليد عند القائلين به، بل هو حجة متبعة وإلا لما وجب على المجتهدين الأخذ بقولهم؛ لأنهم ليسوا أهل العقيد، بل هو على سبيل الاخذ بمدرك من مدارك الشرع كالأخذ بالنص والقياس وغيرهما من المدارك، فكما أن الامر بالاعتبار لا ينفى الأخذ بالنص لكون الامر بالاعتبار إنما هو بعد فقدان النص، فكذا في الأخذ بقول الصحابي فإنه أيضًا مقدم على القياس عند القائلين به على ما ذكرناه فلا يكون الأمر بالاعتبار منافيا لحجيته. وثانيها: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول، فلو كان الرد- إلى قول الصحابي أو مذهبه مدركا من مدارك الأحكام لذكره وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأن الرد إلى الصحابي ترك للرد إلى الله ورسوله فيكود تركًا للواجب فلم يكن جائزًا فضلاً عن أن يكون واجبًا. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون الرد إلى الصحابي مدركًا من مدارك الشرع أن يذكر عقيبهما كما لم يذكر غيرهما من المدارك عقيبهما، ولا

نسلم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة حينئذ؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون مذكورًا بطريق آخر وأنه لم تمس الحاجة إليه إذ ذاك. وأما جواب قوله: ولأن الرد إلى الصحابي ترك للرد إلى الله ورسوله فنمنعه؛ وهذا لأن الرد إلى قول الصحابي مشروط عندنا بعدم الوجدان في الكتاب والسنة والرد إليهما إذ ذاك ممتنع فلا يكون الرد إليه متضمنا لترك الرد إليهما. وأيضًا: لما قال الرسول، "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وما يجرى مجراه في الدلالة على وجوب الأخذ بقول الصحابي [كان الرد إلا الصحابي ردًا إلى الرسول فلم يكن الرد إلى الصحابي]، مخالفًا للنص. وثالثها: أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة، ولم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما، ولا كل واحد منهما على صاحبه فيما فيه اختلفا. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنه إن عنى بقوله: إنهم أجمعوا على جوار مخالفة بعضهم المجتهدين لبعضهم فهذا مسلم لكنه غير دال على صورة النزاع؛ فإن صورة النزاع أن قولهم ومذهبهم هل هو حجة على من بعدهم من المجتهدين أم لا؟ كما تقدم. وإن عنى به أنهم أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من الصحابة سواء كان المخالف منهم أو من غيرهم فهو ممنوع ولا يمكن ادعاؤه لكونه بهتًا صريحًا.

ورابعها: أن الصحابي من أهل الاجتهاد/ (340/ أ) الذى الخطأ عليه جائزًا وفاقًا، فلا يجب الأخذ بقوله كغيره من المجتهدين، وكما لا يجب على المجتهد من الصحابي الأخذ بقوله وفاقًا. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنه لا يلزم من عدم وجوب العمل بمذهب غير الصحابي على غير الصحابي، ومن عدم وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي آخر مثله مع تساويهم في الرتبة والفضيلة عدم وجوب العمل على غير الصحابي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما في الرتبة والفضيلة والتأييد للإصابة، والعلم بالناسخ والمنسوخ والمخصص الحالي والمقالي، ومعرفة مقاصد الكلام بسبب سياق الكلام وسباقه، بسبب الشأن والنزول. وخامسها: أن المجتهد من التابعين متمكن من إدراك الحكم بطريقه فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في أصول الدين. وهو أيضًا ضعيف؛ لأنا نمنع أن يكون ذلك تقليدًا؛ وهذا لأنه حجة متبعة عندنا واتباع الحجة ليس تقليدًا، فيكون إثبات الحكم به عند عدم الكتاب والسنة إثبات الحكم بطريقه. وسادسها: أن الصحابة اختلفوا في مسائل اختلافًا كثيرًا، وذهب كل واحد منهم إلى خلاف مذهب الأخر كما في مسائل الجد والأخوة، والحرام كما

تقدم تعريفه، فلو كان مذهب الصحابي حجة لزم أن تكون حجج الله مختلفة متناقضة فلم يكن اتباع البعض منها أولى من البعض الأخر. وهر أيضًا كنمط ما تقدم، لان تعارض الحجج الشرعية واختلافها ليس ببدع، كأخبار الأحاد، والنصوص الظاهرة، والأقية، وحكمها عند التعارض وعدم الترجيح ما تقدم من الوقف، أو التخيير، على ما تقدم تقريره، فكذا ما نحن فيه. وسابعها: وهو المعتمد في ذلك وهو: أن القول بكونه حجة يستدعى دليلاً عليه، فإن إثبات مدرك [من مدارك] الشرع من غير حجة باطل وناقًا ولا دليل عليه، إذ الأصل عدم الدليل وما ذكر الخصم عليه دليلاً سنبين ضعفه فوجب أن لا يكون حجة. واحتج الخصم بوجوه:- أحدها: قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتهون عن المنكر}، وهو خطاب مشافهة فيختص بالصحابة، فما يأمرون به معروف، وما ينهون عنه منكر، والأخذ بالأمر بالمعروف واجب، فيكون الأخذ بقولهم أو بمذهبهم واجبًا. وجوابه: أنه لو اختص بهم فهم إنما يدل على أن إجماعهم حجة لا على أن قول الواحد منهم أو مذهبه حجة. وثانيها: قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم جعل الاهتداء لازمًا للاقتداء بأي واحد كان منهم، وذلك يدل على أنه حجة وإلا لفرق بين المصيب وغير المصيب؛ فإن الاقتداء بغير المصيب ليس اهتداء.

وجوابه: أنه خطاب مشافهة فيختص بالعوام منهم لما تقدم من أن قول المجتهد منهم ليس حجة على المجتهد الآخر محهم وفاقًا. وإنما لم يفرق بين المصيب وغير المصيب: إما لأن كل مجتهد مصيب، أو لأن فرض العامي الاقتداء بالمجتهد سواء كان مصيبا أو غير مصيب فكان مهتديا بالاقتداء- لأن [كان]، المجتهد مخطئًا في اجتهاده. فإن قلت: فعلى هذا لا يختص هذا الحكم بهم. قلت: نعم من هذا الوجه وتخصيصهم بالذكر في الحكم المذكور لا يدل على نفيه في حق الغير. وأجيب عنه بوجه أخر وهو: أنه وإن كان عامًا في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاهتداء في كل ما يقتدى فيه، وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم ميما يروونه عن النبي عليه السلام إذ ليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه. وفيه نظر من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيعم الاهتداء لعموم الاقتداء إذ لا يمكن الحمل على الرواية إذ الأخذ بالرواية لا يسمى اقتداء. وثالثها: قوله عليه السلام: "اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمرًا وهذا حجة من يحض الوجوب بمذهبهما. وجوابه. ما سبق.

ويخصه أن يحتمل أذ يكون أمرأ للائمة وولاة الامر بالاقتداء بسيرتهما في العدل والإنصاف، ورعاية مصالح الخلق. رابعها: الاجماع. وتقريره: أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا- رضى الله عنه- الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين [فلم يقبل وولى عثمان] فقبل ولم ينكر أحد ذلك وكان بمحضر كابر الصحابة فكان إجماعًا. وجوابه: أن ذلك محمول على الاقتداء بهما في سنتهما وسيرتهما في العدل والإنصاف كما تقدم؛ فإن الحمل على مذهبهما وقولهما متعذر لانعقاد الاجماع على أنه ليس بحجة على صحابي أخر مثله في كونه مجتهدًا، ولأن الحمل على المذهب والقول يقتضى تخطئة أحدهما إما على، وإما عثمان؛ لأن اتباع مذهب الصحابي إما واجب أو محرم، ضرورة أنه لا قائل بالفصل، فإن من قال بوجوب اتباعهم قال بالوجوب. ومن لم يقل بذلك قال بالتحريم فإن كان الحق هو الأول فعلى مخطئ بالرد، وأن كان الثاني مخطئ بالقبول، وإذا تعذر الحمل على ذلك أوجب الحمل على ما تقدم فإنه لا يلزم منه هذا المحذور. وخامسها: قوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" الحديث وهذا حجة من يقول: إن مذهب الخلفاء الأربعة حجة فقط. وجوابه: ما سبق.

ويخصه أن السنة هي الطريقة، وهى: عبارة عن الأمر الذى يواظب الانسان عليه فلا يتناول ما يقوله الإنسان مرة أو مرتين، أو فعله مرة أو/ (341/ أ) مرتين فيكون محمولا على سيرتهم وطريقتهم في العدل والانصاف، لا على مذهبهم وقولهم في المسائل الاجتهادية. وسادسها: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه كان حجة فكان حجة أيضًا مع عدم الانتشار كقول الرسول- عليه السلام-. وجوابه: أنا لا نسلم حجيته. سلمناه لكن لكونه إجماعا لا لكونه قول صحابي، ولهذا يطرد في أقوال غيرهم من المجتهدين، ثم هو منقوض بأقوال غيرهم من المجتهدين فإنه حجة إذا انتشر ولم يخالف لكونه إجماعا وليس كذلك إذا لم يتشر. وسابعها: أن الصحابي إذا قال قولاً يخالف القياس فلا محمل له إلا أنه اتبع الخبر؟ إذ لا يجوز أن يقول في الدين بالتشهي من غير مستند؛ إذ يقدح ذلك في دينه وعلمه، وحينئذ يجب أن يبهون حجة. وجوابه: لعله قال ذلك لنص ظنه دليلا، مع أنه ليس كذلك في الحقيقة. سلمناه لكنه منتقض بمذهب التابعي ومن بعده فإنه جميع ما ذكروه آت فيه بعينه. وثامنها: أن مذهبه لا يخلو إما أن يكون عن نقل أو اجتهادًا:- فإن كان الأول كان حجة، وإن كان الثاني وجب أيضًا أن يكون حجة؛ لأن اجتهاده راجح على اجتهاد من بعده لترجحه على من بعده بمشاهدة التنزيل، ومعرفة التأويل، ووقوفه من أحوال النبي ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه

غيره، فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي فوجب اتباعه له. وجوابه: الظاهر أنه ليس بناء على النقل وإلا لأظهره كما هو دأبهم فيما ذهبوا إليه لا سيما مع وجود المخالف لهم، ولان عدم إظهارهم ذلك كتم له وهو منهى عنه ومتوعد عليه، قال عليه السلم: "من كعم علما نافعا الجمه الله تعالى بلجام من نار" وهو خلاف ظاهر حال الصحابي. سلمناه لكن جار أن يكون لنص ظنه مع أنه ليس كذلك فلا يلزم به العمل على غيره وحينئذ يلزم أن يكون عن اجتهاده ولا يلزم المجتهد بل لا يجوز أن يتبع اجتهاد الأخر مع احتمال إصابته وخطا الأخر وإن كان الأخر مترجحا عليه بأمور في الجملة. سلمناه لكنه منتقض باجتهاد التابعي بالنسبة إلى من بعده، فإن نسبته إلى من بعده كنسبة الصحابي إليه وفيه نظر بين لما بين النسبتين من التفاوت الظاهر. فرعان الأول: إذا ثبت أن مذهب الصحابي ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز

لغيره من المجتهدين تقليده أم لا؟ اختلفوا فيه: وهذا ينبني على أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد أم لا؟ فإن جوزنا ذلك مطلقا فتقليد الصحابي أولى. وإن لم نجوز ذلك ففي جواز تقليد الصحابة خلاف: فالذي نص عليه الشافعي- رضى الله عنه- في الجديد أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر وهو المختار عند الجماهير. ونصه في القديم. مختلف، فنص في موضع على جواز تقليد مذهب الصحابي وقوله بشرط انتشاره وعدم مخالفته، ونص في موضع آخر أنه يجوز أن يقلد وإن لم ينتشر. واحتج الجماهير على صحة ما نص عليه في الجديد: بان ما ذكرنا من الدلائل الدالة على عدم جواز تقليد العالم للعالم مطرد في الكل من غير تفصيل فوجب أن لا يجوز تقليدهم كما لا يجوز تقليد غيرهم. فإن قلت: كيف لا نفرق بينهم وبين غيرهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسوله عليهم حيث قال: {لقد رضى الله عن المؤمنين} وقال: {والسابقون الأولون} إلى قوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وقوله عليه السلام. "خير القرون قرني" الحديث، وقوله: "لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبًا ما

بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وقوله: "أصحابي كالنجوم" الحديث وغيرها من الآيات والنصوص الدالة على شرفهم وفضلهم. قلت: هذا كله مما يوجب حسن الاعتقاد بهم، وكونهم مرضيين عند الله تعالى، ولا يوجب تقليدهم لا وجوبًا ولا جوازًا بدليل أنه ورد أمثالها أو أظهر منها في الثناء والتعظيم في حق آحاد الصحابة [مع إجماعهم على أنهم لا يتميزون عن بقية الصحابة] بوجوب التقليد أو جوازه. قال عليه السلام: "لو وزن [إيمان] أبى بكر بالإيمان العالمين لرجح". وقال: "إن الله ضرب بالحق على لسان عمر". وقال له: "والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك"

وقال في حق علي- رضي الله عنه- "اللهم أدر الحق معه حيث دار" وغيرها من الأحاديث الدالة على الثناء عليهم وعلى غيرهم من آحاد الصحابة. الفرع الثاني في تفاريع القول القديم وهى متعددة:- أولها: قال الشافعي- رضى الله عنه-: "روى عن على- كرم الله وجهه- أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات، قال: لو ثبت ذلك عنه- رضى الله عنه- لقلت به لأنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه [فعله]. توقيفًا. وهذا إشارة منه أنه يجوز تقليد الصحابي وإن لم ينتشر مذهبه لكن إذا كان مخالفا للقياس. واعترض عليه الشيخ الغزالي- رحمه الله تعالىَ بانه لم يقبل فيه حديثا حتى يتأمل لفظه، ومورده، وقرائنه وفحواه، وما يدل عليه ولم نتعبد إلا

بقبول خبر يرويه صحابي مكشوفًا يمكن النظر فيه، فما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به. وهو ضعيف؛ لأن القول به لا يستدعى قبول حديث وارد بلفظ من الرسول عليه السلام، أو بلفظ الراوي حتى يتأتى فيه ما ذكره/ (342/ أ) من الأمور؛ لاحتمال أن الصحابي شاهد ذلك ففعله، ثم شوهد ذلك منه فروى فحينئذ لا يلزم ما ذكره. ثم ما ذكره الشافعي- رضي الله عنه- إنما هو تفريع على القديم فإذا جاز تقليد مذهب الصحابي وإن لم يكن مخالفا للقياس، فلان جار ذلك عندما يكون مخالفا للقياس بالطريق الأولى. وثانيها: قال الشافعي- رضى الله عنه- في موضع، (قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة). وهذا لعله تفريع على القديم الذى يقتضى وجوب الاخذ بمذهب الصحابي لا القديم الذى يقتضى جواز الأخذ بمذهبه، فلا يحسن إيراد هذا الفرع في هذا الموضع؛ فإن هذا تفريع على أنه ليس بحجة متبعة فكيف يكون حجة متبعة على هذا التقدير؟. واعترض عليه الشيخ الغزالي وقال: (السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر وبين أن لا ينتشر). قال الأمام: (والعجب من الشيخ الغزالي أنه يتمسك بمثل هذا الإجماع في القطع على أن خبر الواحد حجة، والقياس حجة).

ولعله إنما قال ذلك؛ لاعتقاده أن حجتيه لو قيل بها فلبس على طريق الإجماع بل بغيره وهو الحق، وإذا كان كذلك فلم يكن لسكوت الغير في حجيته مدخل. وثالثها: نص الشافعي- رضى الله عنه- على أنه إذا اختلف الصحابة فقول الأثمة الأربعة أولى، فإن اختلفوا فقول الشيخين أولما ا)، وذلك للخبرين المذكورين. رابعها: نص في موضع آخر: (أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر، قياسا لكثرة القائلين على كثرة الرواة، وإنما يجب الترجيح بقول الأعلم؛ لأن زيادة علمه تقوى اجتهاده وتبعده عن الإهمال والتقصير والخطأ. وخامسها: اختلف قوله في ترجيح الحكم على الفتوى، أو الفتوى على الحكم عند اختلاف الصحابة في ذلك: فتارة رجح الحكم على الفتوى؛ لأن الاعتناء به أكثر وأشد. وتارة رجح الفتوى على الحكم؛ لأن سكوتهم عن الحكم محمول على الطاعة بخلاف الفتوى فكان السكوت أدلة على الرضا. وسادسها: هل يجوز الترجيح في الأقيسة بقول الصحابي أم لا؟ اختلفوا فيه: والحق أنه في محل الاجتهاد؛ إذ لا يمتنع أن يتعارض ظنيان بناء على القياسين، والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك أغلب على ظنه، ويختلف الحكم باختلاف المجتهدين.

المسألة الخامسة في المصالح المرسلة

ومنهم من فصل وقال: إنما يرجح أحد القياسين بقول الصحابي الذى شاهد واقعة أصل القياس دون غيره؛ لأنه حينئذ أدرى بتخصيصه، وتعميمه، وعلة حكمه. وسابعها: إذا حمل الصحابي لفظ الرسول على أحد معنييه: منهم من رجح به مطلقا. ومنهم من قال كالقاضي أبى بكر (أنه ان قال: علمت ذلك، من قصد الرسول لقرينة شاهدتها جار الترجيح به وإلا فلا. المسألة الخامسة في المصالح المرسلة اعلم أن المصالح بالنسبة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: أحدها: ما شهد الشرع باعتباره، وهو حجة وفاقا، وحاصله يرجع إلى القياس، وقد تقدم شرح أقسامه.

وثانيها: ما شهد ببطلانه، وقد تقدم مثاله في القياس وهذا غير معتبر وغير معمول به وفاقًا. وثالثها: ما لم يشهد له الشرع باعتبار، ولا بإلغاء، وهذا القسم هو المسمى بالمصالح المرسلة. وهو ليس بحجة عندنا وعند الأكثرين من الفقهاء والمتكلمين. خلافًا لمالك على ما هو المشهور منه، وأنكر بعض أصحابه ذلك منه.

إذا عرفت هذا فنقول:

قد عرفت أن المناسبة إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة أو في محل التتمة والزينة. فالمصلحة الواقعة في محل الحاجة والسمة والزينة لا يجوز الحكم بها؛ لأنه يجرى مجرى وضع الشرع بالرأي. وأما الواقعة في محل الضرورة فلا يبعد أن يؤدى اجتهاد مجتهد إلى الحكم بها، ولعل ما نقل عن مالك- رحمه الله إن صح- محمول على هذه الصورة لكن بشرط أن تكون قطعية كلية. فالحاصل أن المصالح المرسلة إذا كانت ضرورية، قطعية، كلية، تصلح أن تكون في محل الاجتهاد، لالا فلا. مثاله: الكفار إذا تترسوا بأسارى المسلمين حيث يقطع بتسليط الكفار على المسلمين إذا امتنعوا عن قتالهم فهاهنا هل يجوز قصد التترس أم لا؟ يحتمل أن يقال: أنه لا يجوز؛ لأن تجويزه يقتضى تجويز قتل مسلم من غير ذنب صادر منه، وهو غير معهود من الشارع. ويحتمل أن يقال: بجوازه فإنا لو لم نقصد التترس، وامتنعنا من القتال بسببه لصدمونا، واستولوا على ديار المسلمين، وقتبوا كافة المسلمين وعامة المؤمنين ثم بعد ذلك يقتلون الأسارى: فهذه مصلحة ضرورية؛ فإنه حفظ النفس والمال من المصالح الضرورية، وهى أيضا قطعية الحصول إذ الكلام مفروض فيه، وهى أيضا كلية؛ إذ الكلام مفروض حيث يخاف منه استئصال شأفة المسلمين، ونحن نعلم أن حفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشارع من حفظ مسلم واحد فعلى هذا لو اختلف صفة من هذه الصفات الثلاث لم يجز الحكم به، فلو تترس الكفار بأسارى المسلمين في قلعة لم يجز قصد التترس؛ لأنه لا ضرورة فبنا غنية عن

القلعة فنعدل عنها، وكذلك إذا كان جماعة في مخمصة؛ فلو أكلوا واحدًا لنجوا فلا رخصة فيه؛ لأن المصلحة فيه ليست كلية، وكذا إذا كان جماعة في سفينة، ولو طرح واحد منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم، فإنه لا يجوز طرح الواحد في الماء لأنه/ (343/ أ) ليس فيه هلاك جميع المسلمين، وكذا إذا لم يقطع باستيلاء الكفار علينا إذا لم نقصد التترس كما إذا قصدناهم وهم في بلادهم وقتالهم إنما هو على طريق الدفع فهنا أيضا لا يجوز قصد التترس لأنا لا نقطع باستيلائهم علينا إذ ذاك. واعلم أن في تخصيص خلاف مالك- رحمه الله تعالى- بهذه الصورة على ما ذكر ذلك بعضهم نظرًا؛ وذلك لأن غير مالك من الشافعية وغيرهم يقولون بجواز قصد الترس في ما ذكر من الصورة فلم يكن له اختصاص بمالك - رحمه الله- والمسألة مشهورة باختصاص خلاف مالك- يرحمه الله تعالى- فلم يجز تنزيله على تلك الصورة المتفق عليها، بل إن صح النقل عنه فهو يجرى على إطلاقه، وتفاريعه تدل عليه.

احتج من لا يجوز التمسك بالمصالح المرسلة؛ بأن هذا النوع من المصالح لم يعهد من الشرع اعتبارها، ولا إلغاؤها، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر دون شاهد يشهد باعتبارها أو إلغائها فامتنع الاحتجاج بها بدونه. واحتج الخصم: بأن الحكم إن كان مشتملًا على المصلحة الخالصة، أو الراجحة وجب أن يكون مشروعًا [أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فلأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير. وإن كان مشتملًا على المفسدة الخالصة أو الراجحة وجب أن لا يكون مشروعًا وتعليله ظاهر. وإن كان خاليًا عنهما، أو كان مشتملًا عليهما على السوية وجب أن لا يكون مشروعًا] أيضًا لأنه عبث لا فائدة فيه. وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة كالمعلوم بالضرورة من دين الأنبياء- عليهم السلام- بعد استقراء أحكام الشرائع، والكتاب والسنة دالان عليه تارة بحسب الصرائح، وتارة بحسب الأحكام المشروعة على وفق ما ذكرنا من المصالح. ولكن قد نجد واقعة لا يشهد لها في الشرع جنسها القريب، وإن كان يشهد لها جنسها البعيد أعني كونها خالص المصلحة أو غالبها، أو خالص المفسدة، أو غالبها، فظهر أنه لا توجد مصلحة، إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار، بحسب جنسها البعيد، وهو عموم كونه وصفًا مصلحيًا أو

مفسديًا، فأما بحسب جنسها القريب فقد يوجد ما يشهد لها وقد لا يوجد وإذا كان كذلك وجب أن يكون حجة بالنص، والإجماع، والمعقول: أما النص فقوله: {فاعتبروا}. ووجه الاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه أمر بالمجاوزة، والاستدلال بكونه مصلحة على كونه مشروعًا مجاوزة فوجب اندراجه تحت الآية. وثانيهما: أنا إذا عدينا الحكم من الأصل إلى الفرع بمجرد اشتراكهما في أصل المصلحة الجنسية القريبة أو البعيدة فقد حصل بمعنى الاعتبار والمجاوزة فيه فوجب أن يكون مندرجًا تحته. وأما الإجماع، فهو: أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة- علم قطعًا أنهم ما كانوا يراعون إلا تحصيل المصالح، ودفع المفاسد؟ [لعلمهم بأن مقصود الشرائع: إنما هو رعاية المصالح، ودفع المفاسد، وأن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الأمصار في أعصارهم في تجويز الأقيسة، وشرائط الأصل والفرع والعلة] ما كانوا يلتفتون إليها ولا يراعونها، وإذا كان كذلك وجب رعاية المصالح كيف ما كانت لإجماعهم على ذلك من غير اعتبار شهادة الجنس القريب أو النوع. وأما المعقول: فهو أنا إذا علمنا أن المصلحة الخالصة، أو الغالبة معتبرة قطعًا في نص الشارع، ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مشتمل على المصلحة

المسألة السادسة في الاستحسان

الغالبة، تولد من هاتين المقدمتين ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعًا فيحصل ظن أن هذا الحكم مشروع بالنظر إلى مقاصد الشارع والعمل بالظن [واجب؛ للإجماع؛ ولما تقدم آنفًا، ولا نعني بكون المصالح المرسلة حجة سوى هذا. ولا يجاب عنه: بأنه لو كان عموم كونه وصفًا مصلحيًا يوجب الاعتبار لكون الوصاف المصلحية [معتبرة في نظر الشارع لكان عموم كونه وصفًا مصلحيًا يوجب الإلغاء أيضًا لكون الأوصاف المصلحية] ملغاة أيضًا فيلزم أن يكون الوصف الواحد [معتبرًا أو ملغي وهو محال؛ لأنا نمنع أن الأوصاف المصلحية الخالصة أو الغالية]. وجواب هذا المنع يعرف بالتأمل فيستقيم الجواب المذكور. المسألة السادسة في الاستحسان. قال به الحنفية.

والحنابلة. وأنكره الباقون. روي عن الشافعي- رضي الله عنه- أنه قال: "من استحسن فقد شرع" واعلم أنه لا بد وأن يعلم أولًا ما هو المراد من الاستحسان حتى يمكن الاحتجاج عليه ترتيبًا أو تقريرًا فنقول: إن عني به الحكم بما يستحسنه المجتهد بعقله وهواه، وهو المتبادر إلى الفهم عند سماع لفظ الاستحسان، ولهذا فهم المخالفون منه هذا المعنى فهو باطل. أما أولًا: فبإجماع الأمة على عدم جواز الحكم في الشرع بمجرد التشهي واستحسان العقل قبل ظهور المخالف إن فسر المخالف الاستحسان به وإلا فالإجماع حاصل على ذلك إلى هذا الزمان. وأما ثانيًا: فلأن التعبد بالاستحسان بهذا المعنى لو كان واقعًا فأما أن يعلم ذلك بطريق التواتر، إذ لا مجال للعقل في الأمور النقلية لكن ذلك باطل؛ أما الأول: فلأن المنقول بطريق الآحاد لا يفيد إلا الظن- ولا يكتفى به في مثل هذا الأصل، وأيضًا: فلأن متون مدارك الأحكام قطعية كالإجماع والقياس وخبر الواحد فكان يجب أن يكون متنه مقطوعًا به وذلك لا يحصل بنقل الآحاد. وأما الثاني: فلأنه لو كان ورود التعبد به منقولًا بالتواتر لعرفه/ (344/ أ) كل أحد، ولارتفع الخلاف فيه، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.

وأما ثالثًا: فلأن شرعية ذلك- يخل بمقصود التكاليف وهو تحصيل المصالح، أو دفع المفاسد؛ فإن ما يكون بمجرد التشهي لا يجب أن يكون كذلك. وإن عنى به غيره فلا بد من ذكره لينظر فيه. وقد ذكر فيه وجوه: أحدهما: أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه لعدم مساعدة العبارة. والكلام عليه أن يقال: إن أدلة الشرع كلها مما يمكن التعبير عنها، إما بلفظ مفرد يخصه، أو بمركب، وكيف لا وكل واحد منهما مما تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فالظاهر أنه وضع له لفظ وإن كان بطريق النقل لما عرفت في اللغات. سلمنا أنه ليس له لفظ يعبر عنه بطريق الحقيقة لكن يمكن التعبير عنه على سبيل التجوز؛ إذ لا بد له من نسبة- ومناسبة خاصة مشتركة بينه وبين غيره مما له لفظ يدل عليه فحينئذ يمكن التعبير عنه. سلمناه لكن إن قطع بكونه دليلًا جاز التمسك به وفاقًا وإن لم يمكنه التعبير عنه وإن لم يقطع بذلك بل تردد فيه بخيال أو وهم لم يجز التمسك به وفاقًا فلم يتحقق استحسان مختلف فيه. وأيضًا هذا الدليل المنقدح في نفس المجتهد إنما يمتاز عن غيره من الأدلة لكونه لا يمكن التعبير عنه، وذلك ليس أمرًا آيلًا إلى ما يقدح في كونه دليلًا فكان التمسك به جائزًا وفاقًا، فعلى هذا يكون النزاع آيلًا إلى التسمية ولا حاصل له.

وثانيها: أنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه. وهذا لا خلاف فيه فلا يجوز تفسير الاستحسان المختلف فيه به. ثم إنه غير جامع فإنهم نصوا على أن الرجل إذا قال: مالي صدقة، أنه يلزمه التصدق بكل ماله من جهة القياس، لكن الاستحسان يقتضي تخصيصه بمال الزكاة لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} والمراد من الأموال المضافة إليهم أموال الزكاة، فهذا استحسان عندهم مع أنه ليس عدولًا عن قياس إلى قياس أقوى منه بل هو عدول عن موجب القياس إلى موجب النص. ونحوه استحسانهم عدم وجوب القضاء على من أكل أو شرب ناسيًا، فإن القياس يقتضي وجوب القضاء وحصول الإفطار، لكن ترك العمل به واستحسنوا عدم وجوب القضاء وعدم حصول الإفطار للحديث. وثالثهما: أنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه وحاصله راجع إلى تخصيص العلة وقد عرف ما فيه من الخلاف. وأيضًا في قوله: بدليل هو أقوى منه نظرًا؛ وذلك لأن تخصيص العلة يثبت بتوقيف اقتضاء العلة للحكم على حصول شرط أو عدم مانع مع أن دليلها لا يجب أن يكون

أقوى من القياس بل جاز أن يكون أضعف منه. ورابعها: وهو ما ذكره الكرخي: الاستحسان هو: أن يعدل عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول. وهذا أيضًا لا خلاف فيه ولا يجوز أن يفسر به. سلمناه لكنه غير مانع؛ لأنه يقتضي أن يكون العدول من العموم إلى التخصيص، ومن المنسوخ إلى الناسخ استحسانًا وليس كذلك وفاقًا أما عندنا؛ فلأنا نقول به أصلًا، وأما عندهم فلأنهم لا يعدون الحكم بالمخصص والناسخ استحسانًا. وخامسها: وهو أنه عبارة عن العدول عن حكم الدليل إلى العادة المطردة لمصلحة الناس. كدخول الحمام، وشرب الماء من السقاء من غير تقدير [الماء] واللبث وتقدير الأجرة، وهو أيضًا باطل؛ لأن العادة لا تكون حجة مرجوحًا إليها إلا إذا علم تقرير الرسول عليه السلام عليها، [أو تقرير أهل الإجماع عليها] وحينئذ يكون الرجوع إليها كالرجوع إلى السنة والإجماع، ولا خلاف فيه

وإن لم يعلم ذلك لم يجز الرجوع إليها فلم يتحقق استحسان مختلف فيه. وأيضًا نصوا على حكم الاستحسان حيث لا عادة كما تقدم وسيأتي أيضًا وذلك يدل على أنه غير جامع. وسادسها: وهو ما ذكره أبو الحسين: أنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ بوجه أقوى وهو في حكم الطارئ على الأول. قال: ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصص؛ لأن العموم لفظ شامل، ولا يلزم أن يكون أقوى القياسين استحسانًا؛ لأن الأقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف، فإن فرض أنه طارئ فهو استحسان. وقيل: إن قوله في حكم الطارئ احتراز عن الاستحسان الذي ترك بالقياس. لا يقال: نص محمد بن الحسن في غير موضع من كتبه: تركنا الاستحسان للقياس، كما لو قرأ آية السجدة من آخر السورة، فالقياس يقتضي أن يجتزئ بالركوع والاستحسان أن لا يجتزئ به، بل يسجد لها، ثم إنه قال بالقياس. فهذا الاستحسان إن كان أقوى من القياس، فكيف تركه وإن لم يكن أقوى منه فقد بطل حدكم؛ لأنا نقول: الاستحسان وإن كان أقوى من القياس لكن قد ينضم إلى القياس شيء آخر يصير مجموعهما أقوى من الاستحسان، وما ذكرتم من الصورة فهو كذلك؛ لأن الله تعالى أقام الركوع مقام السجود

في قوله تعالى: {فخر راكعًا وأناب} فهذا مع القياس أقوم من الاستحسان فكذلك ترك الاستحسان بالقياس. وقيل: إن قوله: في حكم الطارئ احتراز عن الاستحسان الذي يترك بالقياس الذي ليس في حكم الطارئ [فإنه ليس استحسانًا من حيث أن القياس الذي ترك به الاستحسان ليس في حكم الطارئ] بل هو الأصل وذكر هذا القائل مثاله ما ذكرنا من/ (345/ أ) الصورة بعينها، فعلى هذا لا يرد ما ذكرنا من السؤال؛ لأنه حينئذ ليس باستحسان في الحقيقة وإن سميناه استحسانًا. واعلم أن فيه نظرًا من حيث أنه قسم الاستحسان إلى قسمين حقيقي لفظي فجعل ما يترك بالقياس الأصلي من الاستحسان استحسانًا لفظيًا، وما يترك منه بالقياس الطارئ جعله استحسانًا حقيقيًا، وهذا يقتضي أن يكون القياس الطارئ أقوى من الاستحسان وهو خلاف المشهور، فإن المشهور عند القائلين به أن الاستحسان أقوى مدركًا من القياس مطلقًا، وحيث يترك بالقياس فإنما يترك لانضمام دليل آخر إليه كما تقدم. واعلم أنه كما خرج من قوله غير شامل شمول الألفاظ العدول عن العموم إلى القياس المخصص، فكذا يخرج منه العدول من المنسوخ إلى الناسخ وإن كان المنسوخ حكمًا ثابتًا بالفعل؛ لأن الفعل وحده لا يدل كما عرفت بل بواسطة القول، فيكون المتروك آيلًا إلى ما يكون شموله شمول الألفاظ ولولا خروجه عنه وإلا لا ينقض الحد.

واعترض عليه الإمام بأنه يقتضي أن تكون الشريعة بأسرها استحسانًا؛ وذلك لأن مقتضى العقل هو البراءة الأصلية، وإنما ذلك لدليل أقوى منه، وهو إما نص أو إجماع أو غيرهما. وهذا الأقوى في حكم الطارئ على الأول فيلزم أن يكون الكل استحسانًا. ولا قائل به فينبغي أن يزاد في الحد قيد آخر فيقال: "ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية، والعمومات اللفظية لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على الأول". واعلم أنه يمكن أن يجاب عنه بأن قوله: ترك وجه من وجوه الاجتهاد ينبئ عن أن ذلك الوجه مغاير للبراءة الأصلية فإن البراءة الأصلية ليست وجهًا من وجوه الاجتهاد لأنها معلومة أو مظنونة من غير اجتهاد، فلا حاجة إلى ما ذكره من القيد بطريق الصراحة. واعلم أنه يقتضي أن يكون العدول من حكم القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانًا، وما أظن الخصم يقول به، ثم لا نزاع في هذا أيضًا؛ فإن حاصله يرجع إلى نفس الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلته بدليل آخر أقوى منه وهو طارئ عليه من نص أو إجماع أو غيرهما، ولا نزاع في صحة الاستدلال بمثله فلم يتحقق استحسان مختلف فيه في المعنى. وأما النزاع في التسمية فغير لائق بذوي التحقيق، ولئن سلم ذلك لكن لا ينبغي فيه نزاع؛ إذ قد ورد لفظ الاستحسان في الكتاب والسنة وفي ألفاظ المجتهدين: قال الله تعالى: {ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله} وقوله: {الذين يستمعون [القول فيتبعون] أحسنه}، وقوله: {وأمر قومك

يأخذوا بأحسنها} و {اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم}. وأما السنة فقوله عليه السلام: "ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن". وأما في ألفاظ المجتهدين فنحو ما روي عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال في المتعة: "أستحسن أن تكون ثلاثين درهمًا". وفي باب الشفعة: "أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام" وقال في المكاتب: "أستحسن أن يترك عليه شيء". ونقل عن الأئمة استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل، ولا تقدير مدة اللبث وأجرته، واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين [من غير تقدير الماء] وثمنه. وعند هذا حمل الإمام النزاع فيما إذا كان القياس قائمًا في صورة الاستحسان وفي غيرها من الصور ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان وبقي معمولًا به في غير تلك الصورة فهذا هو القول بتخصيص العلة وهو عند الشافعي وجمهور المحققين باطل، وقد تقدم بطلانه في القياس فيكون القول بالاستحسان باطلًا. وهو غير سديد.

أما أولًا: فلأنه لم يحصل به تعريف الاستحسان؛ لأنا لا نعرف الاستحسان الذي ترك القياس به في صورة الاستحسان فتكون الجهالة باقية بعد. وأما ثانيًا: فلأن القول بتخصيص العلة جائز قال به جمهور الفقهاء والمتكلمين إذا كان لفقد شرط، أو لوجود مانع، وبدونه لم يقل أحد من ذوي التحصيل فلم يمكن تنزيل الاستحسان المختلف فيه عليه. وقال بعض المتأخرين: إنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة، وهو أيضًا باطل لما سبق من أن تلك العادة إن كانت عادة مجموع الأمة أو هي كانت مطردة في زمان الرسول فلا نزاع فيه، وإن لم يعلم ذلك إلا يجوز العدول عن حكم الدليل إليها فلم يتحقق أيضًا صورة النزاع.

ثم القائلون بالاستحسان قد احتجوا عليه بوجوه فتذكر تلك الوجوه والجواب عنها جريًا على العادة وإن لم تتلخص بعد صورة النزاع ولم يتحقق، وإن كان ذلك بعيدًا عن التحقيق. الأول: التمسك بقوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. ووجه الاستدلال به: هو أنه ذكر ذلك في معرض الثناء والمدح لمن اتبع أحسن القول فلا يكون مباحًا؛ إذ لا مدح ولا ذم فيه فيكون اتباعه مأمورًا به، والاستحسان اتباع الأحسن فيكون مأمورًا به، وهو إما بطريق الندبية، أو بطريق الوجوب والأول باطل. أما أولًا: فلأن كل ما جاز اتباعه من مدارك الأحكام فإنه يجب اتباعه عند عدم غيره. وأما ثانيًا: فبالإجماع وتقريره غير خاف. وجوابه: أنه ليس المراد منه المدح على اتباع كل ما يستحسنه السامع كيف ما كان، بل المراد منه: إما اتباع ما هو الأحسن في نفس الأمر، وما هو الأحسن عند السامع بناءً على طريق شرعي، فعلى هذا لا يكون الاستحسان مأمورًا به حتى يثبت كونه مأمورًا به دور.

أو نقول: لا نسلم أن اتباع الأحسن مأمور به مطلقًا بل إذا كان على أحد (346/ أ) الوجهين فلم قلتم: إن الاستحسان اتباع الأحسن بأحد الوجهين المذكورين حتى يكون مأمورًا به، لا بد لهذا من دليل. سلمنا عدم لزوم الدور لكن المراد منه اتباع أحسن ما أنزل إلينا؛ إذ هو المتبادر من الآية، فلم قلتم أن الاستحسان مما أنزل إلينا فضلًا عن أن يكون من أحسنه. وثانيها: قوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم}. ووجه الاستدلال به: أنه أمر باتباع الأحسن فلولا أنه حجة لما أمر باتباعه. وجوابه ظاهر مما سبق. والاحتجاج بقوله تعالى: {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها}. والجواب عنه كما سبق فيما قبله. ويخصه أنه شرع لمن قبلنا فلم قلتم أنه شرع لنا. وثالثها: قوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسنًا. وجوابه: أن الجمع المحلى بالألف واللام للعموم فيكون المراد منه جميع المسلمين، فلم قلتم: إن الأخذ بالاستحسان مما رآه جميع المسلمين حسنًا حتى يمكنكم الاحتجاج عليه بالحديث؟ سلمناه لكنه خبر واحد فلا يثبت به أصل من الأصول. سلمناه لكن إن كان المراد منه ما رآه المسلمون حسنًا بناءً على دليل وحجة

لزم الدور المذكور، وإن لم يكن بناءً على ذلك بل بمجرد الاستحسان والميلان فهو باطل؛ لأن الصحابة أجمعت على استحسان منع الحكم من غير دليل وحجة، لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه وما نقل عن أحد منهم الرجوع إلى الاستحسان، ولو كان مدركًا من المدارك ما كان كذلك، ولهذا لما سأل الرسول عليه السلام معاذًا عن مدارك الأحكام ما ذكره. فإن قلت: فقد ذكر اجتهد رأيي وهو يتناول الاستحسان. قلت: المراد منه القياس وفاقًا، وهو غيره عندهم فلا يكون متناولًا له. وبالجملة نحن نعلم علمًا يقينيًا أنه لو قال واحد في زمان الصحابة -رضي الله عنهم- حكمت أو أفتيت بكذا لأني استحسنته لشددوا عليه الإنكار ونسبوه إلى الجهل وغيره وقالوا: من أنت حتى يكون استحسانك شرعًا ويكون لنا شارعًا. ورابعها: إجماع الأمة، فإنهم أجمعوا على استحسان دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء، ومن غير تقدير مدة اللبث فيه، ومن غير تقدير الماء وكذا استحسنوا شرب الماء من غير تقدير الماء وعوضه، فلولا أنه حجة لزم اتفاقهم على الباطل إذ الحكم من غير دليل باطل. وجوابه: أنه لا نزاع أنهم استحسنوا ما ذكرتم، لكن لا نسلم أن ذلك هو الدليل على صحته بل كان استحسانهم لذلك على دليل وهو: إما جريان ذلك في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع علمه به وتقريره لهم عليه، أو غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل تقريره.

المسألة السابعة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو لعام: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب

المسألة السابعة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو لعام: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب:- فذهب جمهور المعتزلة إلى امتناعه. وذهب الباقون منا ومنهم إلى تجويزه. وتوقف الشافعي -رضي الله عنه- في امتناعه وجوازه. ومنهم من فصل كأبي علي الجبائي فقال: بجواز ذلك في حق النبي، دون غيره. ثم القائلون بالجواز اختلفوا في وقوعه: فقال بعضهم بوقوعه كابن عمران.

من المعتزلة. ومنهم من لم يقل به وهو اختيار الباقين منهم. واحتج القائلون بامتناعه بوجهين: أحدهما أن الله تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد على ما تقدم تقريره في باب القياس، فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لم يأمن من اختياره المفسدة؛ لأن اختيار العبد متردد بين أن يكون مصلحة وبين أن يكون مفسدة وذلك مخل بمقصود الشرائع. وجوابه: منع المقدمة الأولى، وقد تقدم ما في ذلك نفيًا وإثباتًا. سلمناه لكنه لما قال له: لا تحكم إلا بالصواب أمنًا من اختيار المفسدة. وثانيهما: أنه لو جاز هذا التكليف، فلا يخلو إما أن يجوز بناء على أن الفعل قبل اختياره ما كان مصلحة، وإنما صار كذلك باختيار المكلف، والقسمان باطلان فبطل القول بذلك. وإنما قلنا: إنه لا يخلو عن الأمرين؛ لأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد على ما تقدم تقريره فيستحيل أن يشرع حيث لا مصلحة قبل الفعل وعنده. وإنما قلنا: إن القسمين باطلان؛ أما الأول فلوجوه: أحدها: أنه إن جاز له الحكم على هذا الوجه في حادثة أو حادثتين، دون الحوادث الكثيرة لزم صرف الإجماع ضرورة أنه لا قائل بالفصل. وإن جاز له ذلك في الحوادث الكثيرة فهو أيضًا باطل؛ لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة؛ ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي: اكتب

مصحفًا، فإنك لا تكتب إلا ما طبق ترتيب القرآن، وللجاهل: أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصدق، ولأنه لو جاز الإصابة في الأشياء الكثيرة على سبيل الاتفاق لبطل دلالة الأحكام والاتفاق في العلم على علم فاعله؛ لاحتمال أن يقال: إن ذلك على سبيل الاتفاق، وكذلك تبطل دلالة الأخبار عن الغيب على النبوة. وثانيها: أن الحكم بالشيء مشروط بالعلم أو الظن بحسنه لئلا يقدم المكلف على فعل المفسدة فلو جاز الحكم بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه لزم وجود المشروط بدون الشرط وهو محال. فإن قلت لا نسلم أنه حكم بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه وهذا لأنه علم حسنه بقوله: إنك لا تحكم إلا بالحق وهو يتضمن كونه حسنًا؛ فإن الحكم بما ليس بحسن على تقدير رعاية المصالح ليس بحق. قلت: ذلك إنما نعرفه بعد الحكم فأما قبل الحكم فلا يكون المحذور لازمًا. وثالثها: لو جاز ما نحن فيه لجاز أن يقال له: صدق بالنبوة من شئت فإنك لا تصدق الأنبياء، وكذب بالنبوة من شئت فإنك لا تكذب الأنبياء ولجاز في مسائل الأصول من غير تعلم واعتماد على دليل ألبتة، ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله ووعده ووعيده من غير وحي ينزل عليه نحو أن يقال له: بلغ عنا من الأحكام واخبر بالثواب أو العقاب ما شئت فإنك لا تبلغ ولا تخبر إلا بالحق لكن كل ذلك باطل بالإجماع فكذا ما نحن فيه. ورابعها: أنه/ (347/ أ) لو جاز ذلك في حق النبي أو العالم لجاز في حق العامي، والجامع: الأمن من الوقوع في الخطأ والباطل لكنه غير جائز بالإجماع فكذا ما نحن فيه.

وأما بطلان القسم الثاني فلوجهين: أحدهما: أن على هذا التقدير لا يكون ذلك تكليفًا؛ لأن حاصله راجع إلى قوله: إن اخترته فافعل، وإلا فلا، ومعلوم أن ذلك ليس تكليفًا. وثانيهما: أن المكلف لا ينفك من الفعل والترك، ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الانفكاك عنه؛ بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث، فإنه يمكنه الانفكاك عنه اجمع. وجوابه: أنه أيضًا مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وهو ممتنع عندنا. سلمناه لكن لا نسلم امتناع القسم الأول. قوله: أولًا: لو جاز الحكم على هذا الوجه فإما أن يجوز في حكم -أو حكمين، أو في الأحكام الكثيرة. قلنا: لم لا يجوز على الوجه الأول وما ذكرتم من لزوم خرق الإجماع فممنوع. سلمناه لكن لم لا يجوز في الحكام الكثيرة. قوله: الاتفاقي لا يكون أكثريًا. قلنا: لا نسلم وهذا لأن جوازه مرة ومرتين يفيد جوازه مرارًا؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، والأمثلة المذكورة إن لم يكن بينها وبين ما نحن فيه فرق [منعنا الحكم فيها وإن كان بينهما فرق] امتنع القياس لأن مع قيام الفرق يمتنع القياس على أن القياس لا يفيد اليقين.

سلمنا أن الاتفاقي بجميع جهاته لا يكون أكثريًا، لكن ما نحن فيه ليس كذلك بل هو اتفاقي من حيث المصلحة ومعلوم السبب من حيث أنه لا يأتي إلا بالمصلحة فلم قلت إن مثله من الاتفاقي لا يكون أكثريًا؟ ثم جواز كونه أكثريًا حينئذ بيِّن، وبهذا خرج الجواب عن قوله إنه يبطل دلالة أحكام الفعل على العلم؛ لأن ذلك اتفاقي بجميع جهاته، ولأنا لا نجوز ذلك ولو مرة واحدة على سبيل الاتفاق. وعن الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن ما نحن فيه حكم الشيء قبل العلم أو الظن بحسنه؛ وهذا لأن معنى ما نحن فيه أنك إن اخترت الفعل فاحكم على الأمة بالفعل، وإن اخترت الترك فاحكم عليهم بالترك، وذلك ليس حكمًا بالشيء قبل العلم أو الظن بحسنه بل بعده؛ لأنه بالفعل علم أو ظن حسنه ثم حكم به على الأمة فلم يلزم منه ما ذكرتم من المحذور. وأجيب أيضًا: بالنقض بما إذا أفتى أحد المفتيين المتساويين بالحظر، والآخر بالإباحة فإن المستفتي مخير في العمل بأيهما شاء مع أن ذلك قبل العلم أو الظن بحسنه أو قبحه. وفيه نظر؛ لأن فعل العامي غير مشروط بالعلم أو الظن يحسن الفعل بل ما أفتى به المفتي؛ بخلاف المجتهد فإنه لا يجوز له أن يفعله ويحكم ما لم يغلب على ظنه اشتمال الفعل على المصلحة فلم يحصل. سلمنا أنه حكم قبل العلم أو الظن بحسن الفعل لكن ما هو المقصود من اشتراط ذلك وهو أن يأمن المكلف من فعل القبيح حاصل فيما نحن فيه بالطريق الولى؛ لأنه حين يفعل الفعل بناء على غلبة ظنه بحسنه أو علمه بحسنه جاز أن لا يكون علمه وظنه مطابقًا فيقع في فعل المفسدة بخلاف ما إذا قال له الشارع: احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق فإن احتمال ذلك غير متصور

فيه، وإذا كان كذلك كان جواز الفعل فيه اولى من جواز الفعل فيما إذا ظن حسنه أو علم. وعن الثالث: منع امتناع اللوازم المذكورة. فإن قال بعض القائلين بجواز ما نحن فيه وبامتناع تلك اللوازم لم يلزم أن يقول غيره بذلك. سلمناه لكن الفرق بينهما قائم؛ وذلك لأن الفروع مما يكتفى فيها بالظن ويسوغ فيها الاجتهاد بناء على الأمارات فجاز أن يفوض إلى رأي المجتهد، وجعل اختياره علامة على كونه مصلحة وصوابًا بخلاف ما ذكرتم من المسائل فإن المطلوب فيها القطع بناء على الأدلة القاطعة فلم يلزم من جواز ذلك القول في مسائل الفروه جوازه في مسائل الأصول، ويخص مسألة تبليغ الحكام والوعد والوعيد بان ذلك يورث وهمًا وريبة في الوحي والنبوة؛ لاحتمال أن يقال: إن الأنبياء إنما يخبرون ويبلغون من الأحكام ما يبلغون من غير وحي ينزل عليهم، وأعلام يعلمون، بل من تلقاء أنفسهم وإن كان ذلك بعد ذلك القول معهم ولا شك في أن ذلك يوجب النفرة. وعن الرابع: يمتنع امتناع اللازم، والكلام في الإجماع ما سبق. سلمنا لكن الفرق قائم، وهو أن ذلك غير لائق بحال العامي من حيث أنه مقلد تابع فلا يجوز أن يكون مقلدًا متبوعًا. سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز القسم الثاني. قوله أولًا: إنه ليس بتكليف. قلنا: لا نسلم، وهذا لأنه تكليف محقق على ما تقدم من تفسير هذا التكليف.

قوله ثانيًا: إنه تكليف ما لا ينفك المكلف عنه. قلنا: لا نسلم وسنده ما تقدم من تفسير هذا التكليف، ثم هو منقوض إذا أفتى مفتيان متساويان في اعتقاد المستفتي أحدهما بالحظر، والآخر بالإباحة فإن جميع ما ذكرتم آت فيه كل ما هو جوابكم ثمة فهو جوابنا ها هنا. واحتج القائلون بإمكانه بوجوه: أحدها: أنه لو كان ممتنعًا فإما أن يكون امتناعه لذاته وهو باطل؛ لأنا نعلم قطعًا أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرًا إلى ذاته، أو لأمر من خارج وهو أيضًا باطل لأن الأصل عدمه فمن ادعى فعليه بيانه. وأجيب: بأنه تمسك بالأصل وهو لا يفيد إلا الظن والمسألة علمية. سلمناه لكن لم لا يجوز أن يمتنع لأمر خارجي وهو كونه متضمنًا للنفرة إن كان ذلك في حق النبي، أو لكونه مخلًا بمقصود الاجتهاد إن كان ذلك في حق المجتهد. سلمناه لكنه يقتضي أن يكون ممكنًا عقليًا ولا يلزم منه أن لا يكون ممتنعًا عاديًا فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ فإن ادعاء امتناعه أعم من ادعاء امتناعه عقلًا، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام. وثانيها: أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير ثم إنه تعالى فوضها إلى المكلف لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب، وإذا جاز ذلك جاز ما نحن فيه لأنه مثله أو أولى منه بالجواز. وجوابه: أنه مبني على أن الواجب في/ (348/ أ) خصال الكفارة واحد

معين عند الله تعالى غير معين عندنا وهو باطل لما تقدم من تقرير دلائله. سلمناه لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز ما نحن فيه وإلا لزم جواز ذلك في حق العامي ضرورة جواز التخيير في خصال الكفارة له لكن ذلك باطل لمساعدة الخصم عليه. وثالثها: إذا أفتى للمستفتي مفتيان متساويان في اعتقاد المستفتي أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فإنه يجوز ذلك ويُخيَّر المستفتي في الأخذ بقول أيهما شاء وفاقًا، وإذا جاز ذلك جاز ما نحن فيه إذ لا فرق بين أن يقال: اعمل بقول أيهما شئت فإنك لا تعمل إلا الصواب. وبين أن يقال: اعمل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب. وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا فرق بينهما؛ هذا لأن كل واحد من ذينك القولين مبني على الدليل بطريق الاجتهاد فيحتمل الترجيح، قلما امتنع ذلك لتساوي المجتهدين صير إلى التخيير كما في حق المجتهد بالنسبة إلى الدليلين، وأما ما نحن فيه فلس كذلك بل هو قول بمجرد الميل والاختيار فلا يلزم من جواز الأول جواز الثاني. سلمناه لكنه يقتضي جواز ذلك في حق العامي وهو باطل وفاقًا. سلمنا سلامته عن النقض لكنه قياس لا يفيد اليقين والمسألة علمية. ورابعها: أن المعتمد في صحة التكليف أن يكون المكلف متمكنًا من الخروج عن عهدة التكليف، وما نحن فيه كذلك لأنه إذا قال الله تعالى له: احكم بما

شئت فإنك لا تحكم إلا بالصواب، أو افعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الحق علم أن كل ما يختاره صواب فكان آمنًا من فعل القبيح، فكان متمكنًا من الخروج عن عهدة التكليف فوجب القطع بجوازه. وجوابه: بعض ما سبق، ويخصه أن المعتبر في صحة التكليف أن يأمن المكلف من فعل القبيح قبل الفعل لعلمه أو ظنه بكون المكلف به غير مشتمل على القبح بناء على دليل أو أمارة وما نحن فيه ليس كذلك فلم يلزم الجواز. وخامسها: إذا جاز الحكم بالأمارة الظنية مع جواز الخطأ فيها عن الصواب جاز الحكم بما يختاره المكلف من غير دليل وإن جاز عدوله عن جهة الصواب وجوابه بعض ما سبق ويخصه أنه لا يلزم من جواز العمل بالأمارة مع كونها مفيدة للظن جواز العمل بالاختيار من غير ظن مفيد للحكم وفيه نظر. واحتج من قال بعدم وقوعه بوجهين: أحدهما: أنه لو كان الرسول عليه السلام مأمورًا بأن يحكم على وفق إرادته من غير دليل لما كان منهيًا عن اتباع الهوى؛ لأنه لا معنى له إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه من غير دليل، لكنه كان منهيًا عن ذلك لقوله تعالى {ولا تتبع الهوى}. لا يقال: لما قيل له ذلك القول كان ذلك نصًا من الله تعالى على حقية كل ما يميل إليه قلبه فلا يكون ذلك اتباعًا للهوى؛ لأنا نقول: فعلى هذا التقدير اتباع الهوى في حقه غير متصور، فلا يجوز أن ينهى عنه؛ لأن النهي عن غير

المتصور قبيح. وجوابه: أنه لو دل على عدم الوقوع فإنما يدل في حق الرسول دون غيره، فالدعوى عامة، والدليل خاص وهو غير جائز. سلمناه لكن لا نسلم أن النهي عن غير المقصود غير جائز. سلمناه لكن لعل ذلك قبل أن يقال له: احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق فلا يكون حينئذ بينهما منافاة. وثانيهما: أنه لو قيل له -عليه السلام- احكم فإنك لا تحكم إلا بالحق لما قيل له: لم فعلت كذا لكن قيل له ذلك قال الله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم. جوابه بعض ما تقدم في الوجه الأول، ويخصه أنه ليس عتابًا على ترك الحق بل هو عندنا عتاب على ترك الأحق فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ واحتج من قال بوقوعه بوجوه: أحدها: قوله تعالى {كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} أضاف التحريم إليه فدل على أنه مفوض إليه وهذا إنما يدل على الوقوع في حق نبينا -صلى الله عليه وسلم-. وجوابه: أنه يحتمل أن يكون ذلك التحريم بالنذر، أو الاجتهاد، وحينئذ تحسن الإضافة إليه فلم يدل على صورة النزاع، وإثبات التحريم بالنذر ربما كان جائزًا في شرعهم، ويحتمل أيضًا أن يكون باليمين؛ فإن اليمين تحرم

عند بعض المجتهدين من أمتنا فربما كان ذلك ثابتًا في شرعهم. وثانيها: ما روي عنه عليه السلام أنه لما قال في مكة: لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فقال: إلا الإذخر، فهذا الحكم ما كان بالوحي؛ لأنه لم يظهر علامة نزول الوحي فيكون بناء على أنه فوض إليه وإلا لما صح. لا يقال: هذا الحديث متروك الظاهر لأن ظاهره يقتضي جواز الاستثناء المنفصل وهو غير جائز على ما تقدم تقريره. وحينئذ يصار إلى تأويله وليس البعض أولى من البعض فيكون محتملًا فلا يصح الاستدلال به؛ لأنا نقول: ليس استدلالنا من جهة حقيقة اللفظ ومجازه حتى يتجه ما ذكرتم بل من جهة أنه شرع الحكم من تلقاء نفسه من غير وحي نزل عليه في تلك اللحظة في خصوص تلك القضية على أنا نمنع أنه متروك الظاهر؛ وهذا لأن السكوت اليسير لا يقطع اتصال الكلام بعضه ببعض فلعل سكوته عليه السلام تلك اللحظة اللطيفة التي تكلم بها العباس يسير فلما قال العباس ذلك وصله بما قبله. وثالثها: نادى مناديه عليه السلام يوم فتح مكة "أن اقتلوا مقيس بن صبابة، وابن أبي سرح وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة" ثم عفا عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان، ولو كان الله تعالى أمر بقتله ما قبل شفاعة عثمان وغيره إلا بوحي آخر، ولم يوجد ذلك لما أن له علامة كانوا يعرفونها وما ظهر في ذلك الوقت شيء من ذلك. ورابعها: أنه نادى مناديه"لا هجرة بعد الفتح" حتى استفاض ذلك وبينما

المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع بن مسعود بالعباس بن عبد المطلب شفيعًا ليجعله مهاجرًا بعد الفتح فقال/ (349/ أ) "اشفع عمي ولا هجرة بعد الفتح". وخامسها: أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته بنت النضر بن الحارث فأنشدته: أمحمد وأنت ضنؤ نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق فقال عليه السلام: "أما أني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته" ولو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة. فدل ذلك على أنه كان مفوضًا إليه حتى كان يمكنه القتل أو العفو على حسب ما كان يختار. وسادسها: قوله عليه السلام "عفوت عن الخيل والرقيق" وذلك يدل

على أنه من جهته بطريق التفويض وهو المطلوب. وسابعها: "روي أنه عليه السلام قال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقال، الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله "يقول ذلك والرسول ساكت فلما أعاد قال: والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها دعوني ما ودعتكم. وثامنها: أن ابن عباس قال: -أخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء- ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال: لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين.

ونحوه قوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ولو كانت هذه الأحكام ثابتة بالوحي لما جاز تركه، ولو كان غير موحى إليه لما جاز له أن يقول لشرعت فلم يبق إلا أن يقال إنه مفوض إليه بحسب اختياره. وتاسعها: قال جابر: لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ماعزًا رجم فقال: "هلا تركتموه حتى أنظر في أمره" فلو لم يكن حكم الرجم مفوضًا إليه لما

قال ذلك. وعاشرها: ما روي أنه عليه السلام قال "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها" وذلك يدل على أن الحل والحرمة مفوضة إليه في ذلك. وحادي عشرها: روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن عشت إن شاء الله تعالى أن أنهى أمتي أن يسموا نافعًا وأفلح وبركة" وهذا الكلام يدل على أن له ذلك بطريق التفويض وإلا فبدونه وبدون الوحي الصريح باطل وفاقًا.

وثاني عشرها: قوله عليه السلام: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى رأيت فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادها شيئًا" فحكم بمجرد رأيه. وجواب الكل: أنا لا نسلم أن ذلك بطريق التفويض؛ وهذا لأنه يجوز أن يكون بطريق الوحي. قوله: له علامات يعرفونها. قلنا: ذلك في الغالب ولزومها في كل مرة ممنوع. سلمناه لكن لم لا يجوز أن يقال: إنه ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطًا مثل أن يقال: لو استثنى أحد شيئًا فاستثن له ذلك، أو لو قلت في سؤال وجوب الحج كل عام لوجب كل عام وكذا نظائره. سلمناه أنه ليس بطريق نزول الوحي فلم لا يجوز أن يكون بطريق الإلهام؟ وهو إن كان وحيًا لكنه ليس من الوحي الذي تظهر له العلامات، وإذا كان كذلك لم يكن فقد العلامات قدحًا فيه، ثم الذي يؤكد ذلك قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. سلمناه ولكن لم لا يجوز أن يكون بالاجتهاد؟ وعلى هذا التقدير لا يلزم صحة مذهب الخصم. وإذا ظهر ضعف مأخذ الفرق الجازمين وجب التوقف على ما هو مختار الشافعي -رضي الله عنه-.

المسألة الثامنة ذهب الشافعي -رضي الله عنه- وأصحابه إلى أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل فيه خلافا لبعضهم

المسألة الثامنة ذهب الشافعي -رضي الله عنه- وأصحابه إلى أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل فيه خلافًا لبعضهم. مثاله: اختلاف الناس في دية اليهودي: فمنهم من قال كالحنفية: إن دية اليهودي كدية المسلم، ومنهم من قال: كالمالكية: إن ديته نصف دية المسلم. ومنهم من قال: ديته ثلث دية المسلم وأخذ الشافعي -رضي الله عنه- بذلك؛ لأنه أقل ما قيل واعلم أن هذه القاعدة مبنية على قاعدتين: أحدهما: الإجماع. وثانيهما: البراءة الأصلية. فإن الأمة لما أجمعت على ذلك الأقل كالثلث في مسألتنا فإن من قال بوجوب كل دية المسلم فقد قال بوجوب ثلث ديته قطعًا، وكذا من قال نصف ديته فقد قال بوجوب ثلث ديته، من قال بوجوب ثلث ديته فقد قال به، فالكل مطبقون على وجوب الثلث فقد حصل الإجماع بوجوب على ذلك.

وأما البراءة الأصلية فإنها تدل على عدم الوجوب في الكل، ترك العمل بها في الثلث لحصول الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله وحينئذ يجب المصير إليه وهذا إنما يتم إذا لم يكن في الأمة من يقول بعدم وجوب شيء منها، فإن بتقدير ذلك لا يكون القول بوجوب الثلث قول كل الأمة، وأن لا يكون هناك دليل سمعي من نص أو قياس دال على الأكثر، فإن بتقدير ذلك لا يصح أن يتمسك بالبراءة الأصلية على نفي الزائد لأنها ليست بحجة مع الناقل السمعي. وكلام الإمام يشعر باشتراط عدم ورود الدليل السمعي بالأقل وعلل بأنه لو ورد فيه شيء كان الرجوع إلى أقل ما قيل لأجله لا لأجل الرجوع إلى أقل ما قيل. وهذا فيه نظر لأن هذا الاحتمال قائم في كل الإجماع مع أنه لا ينفي حجيته فكذا ما نحن فيه، ثم الذي يؤكد أن دية اليهودي مثال للمسألة مع أنه ورد في الدليل السمعي على ما اعتقده أصحابنا. لا يقال: خالفتم هذا الأصل في العدد الذي تنعقد به الجمعة فإنكم شرطتم في ذلك الأربعين وهو ليس أقل ما قيل فيه بل أقل ما قيل فيه غيره.

وكذا خالفتم/ (350/ أ) هذا الأصل في عدد الغسل من ولوغ الكلب فإن أقل ما قيل فيه ثلاثة وأنتم لا تقولون؛ لأنا نقول: لا نسلم مخالفة هذا الأصل؛ وهذا لأن شرطه عدم ورود الدليل السمعي على الأكثر على ما تقدم ذكره في المثالين المذكورين ولم يوجد هذا الشرط في اعتقادنا؛ لأنا نعتقد وجود الدليل السمعي على الأكثر، فلم يمكن التمسك بالبراءة الأصلية فلم يمكن الرجوع فيهما إلى الأخذ بأقل ما قيل بخلاف دية اليهودي فإنا لا نعتقد وجود دليل على وجوب الأكثر وإن كنا نعتقد وجود دليل سمعي على الأقل غير الإجماع. فإن قلتم: ما ذكرتم وإن دل على أن الأخذ بأقل ما قيل أولى لكن عندنا ما يدل على أن الأخذ بأكثر ما قيل أولى لأنه أحوط، وتقريره: أنه قد ثبت في الذمة حق واختلفت الأمة في الكمية، فقال بعضهم: كل الدية. وقال بعضهم نصف الدية وقال بعضهم: ثلث الدية. فإذا كان الكل محتملًا وفرضنا أنه ليس على واحد منها دليل سمعي تعارضت تلك الاحتمالات فتساقطت فلا تحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم فوجب القول به ليحصل الخروج عن عهدة التكليف بيقين.

قلت: لما كان الأصل براءة الذمة يمتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل سمعي، فإذ لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع، وهو لا يثبت إلا أقل ما قيل لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل. فيحصل اليقين بالخروج عن العهدة بأداء الأقل. لا يقال: هب أنه لم يوجد جليل سمعي سوى الإجماع، لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل، وحينئذ لا يحصل الخروج عن العهدة بيقين إلا بأداء الأكثر. سلمنا أنه لا بد من وجود الدليل لكن لا نسلم أنه لم يوجد؛ وهذا لأنه يحتمل أن يكون حاصلًا لكن ربما أخطأ المجتهد فاعتقد عدم دلالة الدليل فحينئذ يكون شغل الذمة بالأكثر حاصلًا في نفس الأمر فلا يحصل الخروج عن العهدة إلا بأدائه؛ لأنا نقول: الجواب عن الأول: الحق أنه وإن كان لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لكن ذلك في الأمور الحقيقية لا في الأمور الشرعية التكليفية فإن تجويز ذلك فيه يستلزم تكليف ما لا يطاق. بيانه فيما نحن فيه: أنه لما لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع، والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل كان الزائد على ذلك القدر لو ثبت لثبت من غير دليل والتكليف بالمدلول من غير دليل تكليف بما لا يطاق. وعن الثاني: أنا إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب فقد سقط ذلك وإن لم نقل به فالجواب: أن ذلك خلاف الأصل. سلمناه لكن يصير حكم الله تعالى في حقه إذ ذاك ذلك الذي غلب على ظنه وإن كان خلاف الواقع وحينئذ لا يكون مكلفًا إلا بما غلب على ظنه فيخرج عن العهدة بأدائه وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وهو ممتنع.

المسألة التاسعة ذهب بعضهم إلى أن الأخذ بأخف القولين واجب على المكلف

المسألة التاسعة ذهب بعضهم إلى أن الأخذ بأخف القولين واجب على المكلف. وذهب بعضهم إلى أن الأخذ بأثقل القولين واجب. ومنهم من لم يوجب الأخذ بشيء من ذلك. واحتج الأولون بالمنقول والمعقول. أما المنقول فكقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} وقوله {ما جعل عليكم في الدين من حرج}. وقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". وقوله "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل. ولقائلٍ أن يقول: هذه النصوص تدل على أن الدين وما شرع فيه من الأحكام ليس فيه حرج ولا عسر ولا ضرر؛ لأن كل ذلك تعليل للواقع وتحريض على الأخذ به وهذا لا يقتضي أن ما لا حرج فيه ولا عسر ولا ضرر مشروع؛ لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.

وأما المعقول فهو: أنه تعالى غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم أولى منه على جانب الفقير المحتاج. واعلم أن هذا المذهب يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ: الإذن، وفي الآلام: الحرمة. ولقائل أن يقول: أما هذا الأصل فقد تقدم الكلام فيه، وأما ما يخص ما ذكره في هذا المقام فهو: أن التحامل على جانب الغني الكريم إنما يكون أولى أن لو لم يكن في التحامل على المحتاج الفقير مصلحة له في معاده أو في ميزانه فأما بتقدير ذلك فلا نسلم ما ذكرتم؛ وهذا لأنه لا بدع في التزام الأثقل لمصلحة تربو على مشقة الالتزام بل ذلك أولى في نظر العقلاء فكان المصير إليه أولى. واحتج عليه أيضًا: بأن الأخذ بالأخف أخذ بالأقل وقد ثبت وجوبه فكان الأخذ بالأخف واجبًا. وجوابه: منع المقدمة الأولى؛ وهذا لأنه ليس من شرط الأخف أن يكون جزءًا من الأثقل حتى يكون الأخذ به أخذًا بالأقل بل قد لا يكون جزءًا منه وحينئذ لا يكون الأخذ به أخذًا بالأقل [لأن الأخذ بالأقل] إنما يجب إذا كان جزءًا من الأثقل كما تقدم في المثال المذكور، فأما إذا لم يكن كذلك فلا وحينئذ لا يكون الأخذ بالأخف أخذًا بالأقل على الإطلاق. واحتج من قال: إن الأخذ بأثقل القولين واجب بقوله -عليه السلام- "الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي" ولأن الأثقل أكثر ثوابًا فكان المصير إليه واجبًا لقوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} لأنه حينئذ يكون من جملة الخيرات.

وهو أيضًا ضعيف؛ لأن النص على تقدير صحته يدل على أن الحق ثقيل وذلك لا يقتضي أن كل حق ثقيل. سلمناه لكن لا يقتضي ذلك أن كل ثقيل حق وكذا الكلام في القضية الأخرى وهي قوله الباطل/ (351/ أ) خفيف. أما قوله ثانيًا: ولأن الأثقل أكثر ثوابًا بالنسبة إلى الأخف مطلقًا ممنوع؛ وهذا لأن الأخف الواجب عندنا أكثر ثوابًا من الأثقل الغير واجب فلم قلتم أنه ليس كذلك؟ وحينئذ لا يتم لكم هذه المقدمة [إلا إذا بينتم أن الأثقل واجب فيتأتى وجوبه لكونه أثقل. سلمنا صحة هذه المقدمة مطلقًا] لكن النص إنما يدل على وجوب الاستباق إلى الخيرات لا إلى الأخير والأثقل والأخف كلاهما يشتركان في الخيرية، فلو دلت الآية على الوجوب لدلت على وجوبهما لا على وجوب الأثقل فلم يحصل منه المطلوب. واعلم أن من جملة الطرق: طريقة الاحتياط. قال قوم: يجب الأخذ به؛ لقوله -عليه السلام- "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" واعلم أنها ليست طريقة بحالها بل هي إما طريقة الأخذ بأقل ما قيل، أو طريقة الأخذ بأكثر ما قيل، وتقدم الكلام فيهما فلا حاجة إلى الإعادة.

النوع العشرون: الكلام في الاستدلال

النوع العشرون الكلام في الاستدلال، وبيان أنواعه. وفيه مسائل:- المسألة الأولى في معنى الاستدلال. وهو في اللغة: عبارة عن طلب دلالة الدليل؛ لأنه استفعال منه فهو كالاستنطاق الذي هو طلب النطق. وأما الدليل فقد عرفته في صدر الكتاب. وأما في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل سواء كان الدليل نصًا أو إجماعًا أو غيرهما، وتارة يطلق على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه ها هنا، وهو عبارة عن دليل لا يكون نصًا ولا إجماعًا ولا قياسًا، وإنما عرفناه بسلب غيره من الأدلة عنه دون العكس، لأنه تقدم معرفة تلك الأدلة عند ذكر الاستدلال فيكون ذلك تعريفًا للأخفى بالأعرف بخلاف العكس فإنه لم يتقدم ذكر الاستدلال عند ذكر تلك الأدلة فيكون ذلك تعريفًا بالمجهول ونظائره في التعريفات كثيرة.

المسألة الثانية فيما يتعلق بالسبب والشرط والمانع

إذا عرفت ذلك فاعرف أنه على أنواع فلنذكر ما تيسر منها في مسائل: المسألة الثانية فيما يتعلق بالسبب والشرط والمانع. وطريق إيراده أن يقال: وجد السبب فوجب أن يوجد الحكم وإلا لزم تخلف المسبب عنه وهو خلاف الأصل. لا يقال: وجود السبب وحده غير كافٍ في ذلك بل لا بد من التعرض لوجود الشرط وانتفاء المانع فإنه إذا وجد بحيث وجد معه المانع، أو انعدم معه شرط فإنه لا يجب أن يوجد الحكم معه؛ لأنا نقول: من لا يجوز تخصيص العلة فالسؤال عنده ساقط، ومن يجوز ذلك فله أن يقول: توقيف السبب على وجود الشرط أو انتفاء المانع خلاف الأصل لاستلزام ذلك توقف ذلك على وجود غيره فإن التأثير أو التعريف صفة للشيء فلو توقف ذلك على وجود الشيء الآخر الذي هو الشرط لزم ما ذكرنا وإنه خلاف الأصل، ولاستلزام ذلك التعارض وهو خلاف الأصل، وإذا كان ذلك خلاف الأصل فلا يشترط ذكره فإن عدم التوقف ثابت بالأصل، ولأن الأصل عدم التوقف ضرورة أن الأصل في الأشياء العدم، وإذا كان كذلك فلا يتعرض لذلك اكتفاء بالأصل إلى أن يبين الخصم خلافه بإجماع أو نص فحينئذ يجب التعرض لذلك هذا في جانب الوجود. فأما في جانب العدم فيقال فيه: انتفى السبب فينتفي الحكم، أو انتفى شرط من شرائطه فينتفي الحكم وذلك بعد أن يثبت اشتراطه بطريقه، أو وجد المانع منه فينتفي الحكم عملًا بالمانع. لا يقال: هذا ليس بدليل لأنه استدلال بعدم الدليل وهو عدم السبب فلا

يكون ذلك دليلًا لأن عدم الدليل لا يكون دليلًا، لأنا نمنع ذلك لأن المعنى من الدليل ما لو جدد النظر إليه لزمه الحكم بالمطلوب إما قطعًا، أو ظاهرًا، سواء كان عدميًا أو وجوديًا، وما ذكرنا كذلك فوجب أن يكون دليلًا، ثم من المعلوم أنه ليس نصًا وقياسًا فكان استدلالًا. لا يقال: لا نسلم أن كل ما ذكرتم ليس بقياس؛ وهذا لأن الاستدلال بوجود السبب على وجود المسبب يتوقف على كونه سببًا له وهو إنما يثبت بالمناسبة أو بترتيب الحكم على الوصف فيكون آيلًا إلى القياس؛ لأنا نقول: إن منعنا القياس في الأسباب فالأمر ظاهر، وإن لم نمنع ذلك على ما هو رأي أصحابنا فلا شك أن إثبات السببية ليس منحصرًا فيه بل يمكن إثباته بنص يدل عليه أو إجماع والثابت بالنص والإجماع لا يكون نصًا وإجماعًا. سلمناه لكن الثابت بالقياس لا يكون قياسًا كما في النص.

المسألة الثالثة في الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم

المسألة الثالثة في الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم. وتقريره: إن الحكم الشرعي لابد له من دليل؛ لأنه لو كان ثابتًا من غير دليل فإما أن نكون مكلفين به أو لا نكون، وهذا الثاني باطل لأنه لا معنى للحكم الشرعي إلا خطاب متعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير فثبوته بدون الاقتضاء أو التخيير باطل وإذا بطل، هذا القسم تعين الثاني، وهو أيضًا باطل؛ لأن التكليف بالشيء من غير الشعور به ومن غير طريق يفضي إلى الشعور به تكليف ما لا يطاق فثبت أنه لو كان ثابتًا لكان عليه دليل، والدليل إما النص، أو الإجماع، أو القياس. والدليل عليه وجوه: أحدها: حديث معاذ، فإنه يدل على انحصار مدارك الأحكام في الثلاثة، زدنا فيه الإجماع لدليل منفصل فيبقى الباقي على الأصل. وثانيها: التمسك بالأصل، وتقريره ظاهر، ترك العمل به في الأدلة الثلاثة فوجب أن يبقى فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل. وثالثها: أنه لو حصل شيء من الأدلة غير هذه الثلاثة لكن ذلك من الأمور العظام؛ لأن ما يجب الرجوع إليه في أحكام الشرع نفيًا وإثباتًا في الوقائع الحادثة لا شك أنه من الأمور العظام/ (352/ أ) فلو كان ذلك حاصلًا لوجب نقله واشتهاره، ولو كان كذلك لعرفناه بعد البحث والطلب؛

فلما لم نجد شيئًا آخر سوى هذه الأدلة الثلاثة علمنا أنه لم يوجد وحينئذ يلزم انحصار الأدلة في الثلاثة. ورابعها: لو حصل نوع آخر من الأدلة فإما أن يكون من المدارك القطعية الضرورية المنقولة بالتواتر على شرائطه وهو باطل وإلا لحصل العلم به لكل أحد وارتفع الخلاف فلم يكن مختلفًا فيه، وإما أن يكون من المدارك الظنية وهو أيضًا باطل؛ لأن أدلة الكتاب والسنة تنفي جواز التمسك بالظنيات ترك العمل به في بعض الظنيات كأخبار الآحاد والقياس. وعند هذا نقول: شيء من هذه الأدلة الثلاثة غير موجود. أما النص فلوجوه. أحدها: أن الأصل عدمه والأصل في كل ما كان على حاله أن يستمر على تلك الحالة فالأصل بقاء النص على العدم. وثانيها: أنه لو وجد في المسألة نص لعرفه المجتهدون ظاهرًا، ولو عرفوه لما حكموا على خلافه ظاهرًا، فحيث حكموا بخلافه علمنا أنه لم يوجد. وثالثها: أنا اجتهدنا في الطلب فما وجدنا. وهذا القدر عذر في حق المجتهد بالإجماع فوجب أن يكون عذرًا في حق المناظر؛ لأنه لا معنى للمناظرة إلا بيان ما لأجله قال بالحكم. وأما الإجماع: فهو أيضًا غير حاصل. أما أولًا: فبالإجماع. وأما ثانيًا: فلأن المسألة خلافية ولا إجماع مع الخلاف. وأما ثالثًا: فبالأصل. وأما القياس: فمنفي أيضًا.

أما أولًا: فلأنا لم نجد بعد البحث والطلب الشديد أصلًا يقاس عليه إلا الأصل الفلاني لكن الفارق الفلاني موجود ومعه لا يصح القياس، وعدم الوجدان بعد البحث التام والطلب الشديد عذر في حق المجتهد فكذا في حق المناظر لكونه تلوه فيكون معذورًا في عدم وجدان أصل آخر. وأما ثانيًا: فلأن استصحاب العدم الأصلي يقتضي عدم غيره من الأصول، فثبت بهذا أن شيئًا من هذه الأدلة الثلاثة غير موجود فوجب أن لا يكون الحكم ثابتًا لما ثبت من الملازمة بين الحكم ودليله. والسؤال عليه من وجوه. أحدها: من جهة الاستدراك، وتقريره: أن كل مقدمة لا يمكن تمشية الدليل إلا بها، فلو كانت تلك المقدمة مستقلة بالإنتاج كان التمسك بها في أول الأمر أولى. وقد علم أن كل ما ذكرتم من الدلالة لا يتم إلا إذا ثبت أن عدم الوجدان بعد البحث التام والفحص العام يدل على عدم الوجود، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأشياء كانت على العدم في الأزل، فوجب استمراره عليه إلى أن يدل دليل على خلافه، ومعلوم أنه لو صحت هاتان المقدمتان لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب، فإنه يقال في أول المسألة: الحكم الشرعي لابد فيه من دليل، لما سبق، ولم يوجد الدليل؛ لأن عدم وجدانه بعد البحث التام والطلب الشديد يدل على عدم وجوده. أو يقال: الحكم لابد له من دليل لما سبق ولم يوجد الدليل لأن الدلائل بأسرها كانت معدومة في الأزل والأصل بقاء ما كان على ما كان، فوجب بقاؤها على العدم ترك العمل به في الأدلة التي وجدناها فوجب فيما عداها

على الأصل، ويلزم من ذلك ظن عدم الحكم والعمل بالظن واجب. فتقرير هذه الأدلة على هذا الوجه [أولى؛ لأنه أقل مقدمات، وأشد تلخيصًا من التقدير على الوجه] الأول، وهذا لا جواب عنه إلا أن يقال: التعرض لنفي وجدان كل واحد من أنواع الأدلة بعد الطلب الشديد والبحث التام بعد بيان حصرها يغلب ظن النفي بخلاف ما إذا نفي على سبيل الإجمال كما ذكر في الطريقة الثانية لأن النفي على سبيل التفصيل آكد من النفي على سبيل الإجمال قياسًا على الإثبات فإن الإثبات على سبيل التفصيل آكد من الإثبات على سبيل الإجمال بدليل عدم تطرق الاستثناء والتخصيص إلى الأول دون الثاني. السؤال الثاني من جهة القدح في عدم دلالة الدليل المذكور، وتقريره أن نقول: إن أحد الأمرين لازم وهو إما أن لا يكون الدليل المذكور دليلًا بالكلية أو عدم انحصار الأدلة الثلاثة، وعلى التقديرين يلزم القدح في دلالة الدليل المذكور. أما إذا كان الواقع الأمر الأول فالأمر ظاهر. فإنه إذا لم يكن ما ذكروه دليلًا لم يكن له دلالة. أما إذا كان الواقع الأمر الثاني فكذلك لأن دلالته متوقفة على صحة مقدماته ومن جملة مقدماته انحصار الأدلة في الثلاثة المذكورة وإذا بطل ذلك فقد بطلت مقدمة من مقدماته، وحينئذ يلزم بطلان دلالة الدليل. وإنما قلنا: إن أحد الأمرين لازم لأن ما ذكرتم من الدليل إما أن يكون دليلًا أو لا يكون، فإن كان الأول فقد بطل الحصر ضرورة أنه غير الثلاثة المذكورة وإن كان الثاني لزم أن لا يكون الدليل المذكور دليلًا أصلًا ورأسًا فثبت بهذه الدلالة أن لا يكون الدليل المذكور دليلًا على المطلوب.

لا يقال: المدعي انحصار أدلة الحكم الشرعي في الثلاثة وما ذكرنا فإنه دليل على عدم الصحة مثلًا وأنه ليس حكمًا شرعيًا بدليل ثبوته قبل الشرع فلا يلزم ما ذكرتم، وأيضًا فإنه لا يلزم من كون ما ذكرنا دليلًا بطلان الحصر؛ وهذا لأن ما ذكرناه تمسك بالإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم يوجد شيء من هذه الأشياء وجب نفي الحكم فيكون ذلك تمسكًا بالإجماع في الحقيقة؛ لأنا نقول: يلزم من عدم الصحة البطلان ضرورة انتفاء القول بالوقف فيكون الدليل المذكور دليلًا على البطلان بواسطة دلالته على عدم الصحة، فيكون دليلًا على الحكم الشرعي فيعود المحذور المذكور. والجواب عن قوله: إنه تمسك بالإجماع في الحقيقة. قلنا: لا نسلم وهذا لأن دليل عدم الصحة إنما هو عدم الأدلة الثلاثة المذكورة وهو ليس بإجماع بل الإجماع يدل على أن عدم الأدلة الثلاثة يدل على عدم الحكم والإجماع دليل الدليل لا نفس الدليل فلزم بطلان الحصر. وجوابه: أن المدعى حصر أدلة الحكم المغير عن مقتضى الأصل، وما ذكرته من عدم الصحة فهو مقرر فلم يكن عدم الانحصار في صورة المقرر قادحًا في الانحصار في صورة المغير إذا عرفت هذا فالأولى أن يقال في تحرير هذه الأدلة: الأصل بقاء ما كان على ما كان/ (353/ أ) إلا لدلالة شرعية مغيرة، ولا يتغير سوى هذه الثلاثة [ولو يوجد شيء منها فوجب بقاء ما كان على ما كان وعلى] هذا التحرير لا يرد ما ذكر من السؤال فكان أولى. السؤال الثالث: لو كان عدم دليل الوجود دليلًا على العدم لكان عدم دليل العدم دليلًا على الوجود؛ لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت كنسبة

دليل العدم إلى العدم فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت لزم من عدم دليل العدم عدم العدم وإلا لزم الترجيح مع تساوي النسبتين وهو ترجيح من غير مرجح وهو ممتنع وعدم العدم وجود فيكون عدم دليل العدم دليلًا على الوجود لكن ذلك باطل لوجهين. أحدهما: أنه لو كان عدم دليل العدم دليلًا على الوجود لبطل حصر أدلة الوجود في الثلاثة ضرورة أنه دليل الوجود حينئذ، وأنه ليس بنص وإجماع وقياس. وثانيهما: أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلًا على الوجود لم يلزم انتفاء الوجود إلا بيان ما ذكرتم من الأدلة الثلاثة وعدم دليل العدم وانتفاء عدم دليل العدم وجود دليل العدم فإذن لا يلزم انتفاء الوجود إلا ببيان وجود دليل العدم وإذا ذكرت وجود دليل العدم استغنيت عما ذكرت من الدلالة. وجوابه: منع الملازمة وهذا لأن الاستدلال بعدم المثبت على العدم أولى من الاستدلال بعدم النافي على الوجود، وإذا كان كذلك لم يلزم من ثبوت الأول ثبوت الثاني. وبيان ذلك بوجوه. أحدها: أن الاستدلال بعدم النافي على الوجود يستلزم إثبات ما لا نهاية له وهو ممتنع، وأما الاستدلال بعدم المثبت فإنه يستلزم إعدام لا نهاية لها وأنه ممكن. وثانيها: أنا نستدل لعدم ظهور المعجزة على يد مدعي النبوة على عدم ثبوته ولا يمكن أن يستدل بعدم دليل عدم ثبوته على ثبوته. وثالثها: أنه يصح أن يقال لم يأذن لي في التصرف فأكون ممنوعًا، ولا يصح أن يقال: ما نهاني عن التصرف فأكون مأذونًا في التصرف.

ورابعها: أن دليل كل شيء على حسب ما يليق به فدليل العدم العدم، ودليل الوجود الوجود، ولا يليق أن يجعل دليل الوجود عدم دليل العدم. سلمنا تساوي الدلالتين لكن الأصل يعضد عدم دليل الوجود فيكون راجحًا من هذا الوجه. هذا إن جوز الترجيح بكثرة الأدلة وأما من لم يجوز ذلك فيقول: إذا تساويا تساقطًا وحينئذ يجب الرجوع إلى مقتضى الأصل وهو بقاء ما كان على ما كان. سلمنا أنه لا ترجيح من هذا الوجه أيضًا لكن الشيء قد لا يعتبر لإفضائه إلى مضادة القاعدة المعلومة واعتبار الاستدلال بعدم دليل العدم على الوجود مفض إلى ذلك لأن المستدل يحتاج في تقريره إلى نفي دليل العدم كما هو في جانب نفي دليل الوجود فيتمسك على ذلك بالأصل فنقول: الواقع عدم دليل العدم بالأصل لأن الأصل عدم دليل العدم فيكون الأصل دالًا على وجود الحكم بهذا الطريق مع أن القاعدة المتقررة أنه دليل عدم دليل العدم. السؤال الرابع: أنه اقتصر في نفي النص على عدم الوجدان فهذا إن صح وجب الاكتفاء به في نفي القياس؛ لأنه بعينه آت فيه، وإن لم يصح لم يجز التعويل عليه في نفي النص، والخصم كما يعتقد قياسًا معينًا دليلًا فقد يعتقد نصًا معينًا دليلًا. وجوابه: أنه سؤال غير متعلق بالعلوم والحقائق بل متعلق بالوضع والاصطلاح فلا يليق الخوض في أمثاله في المباحث المتعلقة بالعلوم. سلمناه لكن إنما لم يتعرض ليقدح النص لأن ذلك يطول بسبب ذكر أحوال الرواة والطعن فيها، بخلاف الفرق فإنه يكفي فيه أبدًا المعنى المناسب فكانت

الكلفة فيه أقل. السؤال الخامس: لم قلت: إن وجود الفارق بينهما ينفي صحة القياس؟ وإنما ينفيه أن لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين وهو ممنوع. وجوابه: أن ذلك غير جائز على ما تقدم تقريره في مسألة أن الحكم الواحد لا يجوز أن يكون معللًا بعلتين مستنبطتين. السؤال السادس: أنه مقلوب أبدًا فإنه كما نفى صحة بيع الغائب مثلًا بأن يقول المستدل: لو صح البيع لكان عليه دليلًا لكن لا دليل عليه لما تقدم فوجب أن لا يصح، فيقول الخصم: لو لم يصح البيع لحرم على المشتري أخذ المبيع من البائع، ولحرم على البائع أخذ الثمن من المشتري وكل واحد منهما حكم شرعي فلابد وأن يكون عليه دليل ولا دليل عليه لما تقدم فوجب أن لا يثبت. وجوابه: منع أنه مقلوب أبدًا؛ وهذا لأنه إنما يلزم ذلك حيث يكون الأصل مشتركًا بين الدعوتين كما في المثال الذي ذكرتم فأما حيث لا يكون كذلك فلا ومن المعلوم أنه لا يجب أن يكون الأصل مشتركًا بين كل دعوتين على أنا نقول: إنه لا يمكنه نفي النص والإجماع والقياس بما ذكره من المثال وأمثاله فإن الإجماع منعقد على تحريم أخذ المبيع من البائع على تقدير عدم صحة البيع فلم تتم المعارضة.

المسألة الرابعة من جملة طرق الاستدلال والاستقراء

المسألة الرابعة من جملة طرق الاستدلال والاستقراء. وهو ينقسم إلى تام وناقص. فأما التام فهو: إثبات الحكم في جزئي لثبوته في الكل وهذا هو القياس المنطقي المفيد للقطع والجزم وهو حجة من غير خلاف. أما الناقص فهو: إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته، وهذا هو المسمى في اصطلاح المشرعين: إلحاق الفرد بالأعم والأغلب، ويختلف الظن في ذلك باختلاف كثرة الجزئيات وقلتها، فكلما كانت الجزئيات أكثر كان الظن أغلب، وهذا النوع اختلف فيه، والأظهر: أنه يفيد الظن الغالب فوجب أن يكون حجة لما تقدم من الدلالة الدالة على أن العمل بالظن واجب مثاله: قول أصحابنا في الوتر: أنه ليس بواجب؛ لأنه يؤدى على الراحلة إجماعًا، ولا شيء من الواجب يؤدى على الراحلة. ودليله الاستقراء، وهو أنا رأينا القضاء والأداء من الظهر إلى العصر وغيرهما من الصلوات الواجبة لا تؤدى على الراحلة فحكمنا على كل واجب بأنه لا يؤدى على الراحلة فلو كان الوتر/ (354/ أ) واجبًا لما صار أداؤها على الراحلة ولما جاز أداؤها على الراحلة إجماعًا علمنا أنه ليس بواجب.

المسألة الخامسة في الاستدلال على عدم الحكم

وهو غير مفيد للقطع؛ لأنه يحتمل أن يكون حكم ذلك الجزء بخلاف حكم سائر الجزئيات المستقرات، ولا يلزم ثبوت ذلك الحكم فيه، ولذلك لا يمتنع عقلًا أن يكون حكم بعض الأنواع مخالفًا للنوع الآخر وإن كانا مندرجين تحت قياس واحد. فإن قلت: القياس التمثيلي حجة عند جميع القائلين بالقياس في الحكم الشرعي وأنه أقل مرتبة من الاستقراء لأنه حكم على جزئي لثبوته على جزئي آخر، بخلاف الاستقراء فإنه حكم على الكلي لثبوته في أكثر الجزئيات وحاصله راجع إلى الحكم على جزئي بثبوته في أكثر الجزئيات لأنه لا يصير حكمًا على الكلي ما لم يثبت في جميع جزئياته وهو بإلحاق الجزئي لم يستقر حكمه بالجزئيات التي استقرت أحكامها، وإذا كان كذلك كان الاستقراء أولى بالحجة من القياس التمثيلي. قلت: لكن يشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخر أن يكون بالجامع الذي هو علة الحكم، ليس الأمر كذلك في الاستقراء بل هو حكم على الكلي بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته ولا يمتنع عقلًا أن يكون بعض الأنواع مخالفًا للنوع الآخر في الحكم وإن كانا مندرجين تحت جنس واحد كما تقدم. المسألة الخامسة في الاستدلال على عدم الحكم وهو من وجوه: أحدها: أن الحكم كان معدومًا في الأزل، وهذا على رأي القائلين بحدوث الحكم ظاهر.

وأما على رأي القائلين بالقدم فصعب اللهم إلا أن يراد من الحكم غير ما تقدم في أول الكتاب نحو أن يقال: المراد منه تعلق الخطاب بفعل المكلف فإن التعلق حادث فيستقيم على رأي من يقول بحدوثه أو كون الشخص مقولًا له: إن لم تفعل هذا الفعل في هذه الساعة أعاقبك، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المعنى لم يكن متحققًا في الأزل فثبت أن الحكم كان معدومًا في الأزل، ولأن المحكوم عليه كان معدومًا في الأزل فوجب أن لا يكون الحكم ثابتًا في الأزل؛ لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت المحكوم عليه سفه وعبث وهو غير جائز على الحكيم وذلك يقتضي ظن بقائه على العدم؛ لما بينا أن الأصل في كل شيء دوامه واستمراره والعمل بالظن واجب لما تقدم. وثانيها: أنه لو ثبت الحكم فإما أن لا يكون لمصلحة، ولا لدفع مفسدة، وهو باطل؛ لأنه عبث وسفه وهو غير جائز على الله تعالى. أو لمصلحة عائدة إلى الشارع وهو أيضًا باطل لتنزهه عن ذلك. أو لمصلحة تعود إلى العبد وهو أيضًا باطل؛ لأنه لا معنى للمصلحة إلا اللذة أو ما يكون وسيلة إليها ولا معنى للمفسدة إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه والله تعالى قادر على تحصيل جميع المصالح ودفع جميع المفاسد من غير واسطة شيء فيكون توسيط شرع الحكم عبثًا ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه فيبقى في المختلف فيه على أصله ولا يخفى أنه مبني على التحسين

والتقبيح. وثالثها: لو ثبت الحكم فلابد وأن يكون لدلالة أو أمارة وإلا لزم تكليف ما لا يطاق كما سبق وهو محال، والأول أيضًا باطل. أما أولًا: فبالإجماع إذ الأمة مجمعة على أنه ليس في جميع المسائل الشرعية دلالة قاطعة. وأما ثانيًا: فلأنه يكون مخالفه عاصيًا وفاسقًا وهو باطل وفاقًا. والثاني أيضًا باطل؛ لأن اتباع الأمارة اتباع للظن وهو غير جائز لما تقدم غيره مرة ترك [العمل به] في الأحكام المتفقة فيبقى فيما عداه على الأصل، وإذا بطل أن يكون لدلالة أو لأمارة ولا لدلالة ولا لأمارة بطل أن يكون الحكم ثابتًا ضرورة أنه لا يخلو عن هذه الأقسام. ورابعها: أن هذه الصورة [تفارق الصورة] الفلانية في وصف مناسب فوجب أن تفارقها في الحكم وإلا لزم إلغاء الفارق المناسب وأنه يقدح في أصل العلية وهو باطل باتفاق القائسين. أو تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين، وهو غير جائز؛ لأن إسناد أحد ذينك الحكمين إلى علته إن كان لذاته أو للوازم ذاته لزم أن يكون الحكم الآخر محتاجًا إلى تلك العلة بعينها فوجب أن لا يجوز تعليله بعلة أخرى مخالفة لها.

وإن لم يكن لذاته ولا للوازم ذاته كان لا من مفارق فيكون الحكم في نفسه غنيًا عن تلك العلة والغنى عن الشيء لا يكون معللًا به فوجب في ذلك الحكم أن لا يكون مستندًا إليه هذا خلف. وفيه نظر من حيث إن المعلول لذاته أو للازم ذاته محتاج إلى مطلق العلة وأما تعين العلة فما هو من جهة المعلول حتى يلزم ما ذكرتم من المحذور بل العلة لما تعينت في نفسها لأسباب توجب ذلك تعين المعلول وحينئذ لا يلزم المحذور المذكور. وخامسها: لو ثبت الحكم في هذه الصورة لثبت في صورة البعض للمناسبة أو غيرها من الطرق الدالة [على] علية الوصف السالمة عن معارض تخلف الحكم عن ذلك الوصف لأنه حينئذ يكون الحكم ثابتًا في جميع صور البعض على رأي المستدل فله أن يمنع تخلف الحكم لكنه غير ثابت إجماعًا ولا يثبت فيما نحن فيه، ولا يخفى وجه المعارضة في ذلك بأن يقال لو ثبت بالمانع وغيره. وجوابه: بالترجيح نحو أن الاستدلال بوجود المقتضى أولى من الاستدلال بوجود المانع على العدم لاستلزام ذلك التعارض الذي هو خلاف الأصل. وسادسها: أن الحكم كان منتفيًا في أوقات متعددة غير متناهية ضرورة أنه كان منتفيًا في الأزل وذلك يوجب حصول ظن الانتفاء في هذه الأوقات المتناهية؛ لأن الأوقات الغير متناهية أكثر من الأوقات المتناهية، والكثرة مظنة الظن. وسابعها: إن إثبات هذا الحكم يفضي إلى الضرر؛ لأنه إذا دعاه الداعي إلى خلافه فإن اتبعه لزم العقاب، وإن خالفه لزم ترك المراد/ (355/ أ)

وتحمل المشاق فيما يتعلق في فعله وفي مخالفة النفس والضرر منفي للحديث فوجب أن يكون الحكم منتفيًا. فإن قلت: هذا مختص بالوجوب والتحريم دون الأحكام الباقية كالندب والصحة والفساد. قلت: ما من حكم تكليفي إلا وفيه نوع من الضرر؛ فإن المندوب مثلًا فيه ضرر الفعل وضرر مخالفة النفس على تقدير الفعل، وعلى تقدير القول ضرر فوت الثواب المرتب عليه، وكذا كون العقد صحيحًا؛ لأنه إذا دعاه الداعي إلى مباشرة ما يخالفه كان مباشرًا للفائت فيترتب عليه العقاب هذا على تقدير الفعل، وعلى تقدير الترك يلزم ضرر ترك المراد وعلى هذا فقس. وثامنها: إن الحكم إن ثبت بلا دليل لزم تكليف ما لا يطاق، وإن ثبت معه. فإن كان الدليل قديمًا وكان الحكم ثابتًا معه في الأزل لزم العبث وإلا لزم الخلف. وإن كان حادثًا والأصل عدمه لأنه كان معدومًا فالأصل استمراره وبقاؤه على ما كان عليه، ولأن كونه دليلًا يتوقف على وجود الذات وعلى وجود وصف كونه دليلًا بخلاف ما إذا لم يكن دليلًا فإنه إما أن لا يتوقف على شيء، أو يتوقف على أمر واحد وما يتوقف على أمرين فإنه مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمر واحد، فكونه دليلًا مرجوح بالنسبة إلى عدم كونه دليلًا، والعمل بالظن واجب فيجب العمل بمقتضى عدم كونه دليلًا. وتاسعها: أنه لو كان الحكم ثابتًا لاشتهر دليله لأنه مما تعم به البلوى وما شأنه كذلك يجب اشتهار دليله ولما لم يكن كذلك غلب على الظن عدمه.

المسألة السادسة في الاستدلال على ثبوت الحكم

وعاشرها: أن ثبوت الحكم يقتضي مخالفة الأصل والنصوص الباقية لم تقدم والقياس، ولو ثبت لثبت في صورة النقض لما سبق لكنه غير ثابت إجماعًا فيلزم مخالفة القياس تخصيص النص الدال على ثبوت ذلك الحكم ضرورة أنه غير جار على عمومه لقول ابن عباس: ما من عام إلا وقد خص عنه البعض إلا قوله: {والله بكل شيء عليم} فإنه ليس نصًا خاصًا وإلا لزم أن تكون دلالته على تلك الصورة قطعية فمخالفه حينئذ مخالف للدلالة القاطعة، فإن كان ذلك مع القطع بصحة المتن لزم التفسيق والتضليل فيكون ممتنع الصدور من المجتهد، وإن كان مع ظن صحته فهو أيضًا خلاف الظاهر من حال المجتهد تصديق الراوي العدل وعدم مخالفة ما رواه من غير تأويل وإذا كان ثبوت الحكم يفضي إلى هذه المحذورات وجب أن يكون القول به باطلًا. المسألة السادسة في الاستدلال على ثبوت الحكم من وجوه: أحدها: أن المجتهد الفلاني قال به فوجب أن يكون حقًا لقوله -عليه السلام-: "ظن المؤمن لا يخطئ" ترك العمل به في ظن العوام؛ لكونه

غير مستند إلى دليل فيبقى معمولًا به في حق المجتهد. ولا يعارض بقول النافي؛ لأن المثبت راجح على النافي لكونه ناقلًا عن حكم العقل بخلاف النافي فإنه مقرر لحكم العقل وقد تقدم أن الأول أولى، ولأن المثبت معه زيادة علم لا محالة بخلاف النافي فإنه جاز أن يكون نفيه بناء على النفي الأصلي فكان المثبت أولى كالراوي الذي معه زيادة علم. وثانيها: أن الحكم ثابت في شيء من الصور أو في الصورة الفلانية فوجب أن يكون ثابتًا هنا لقوله تعالى: {فاعتبروا}. ووجه الاستدلال: هو أنه أمر بالمجاوزة لأن معنى الاعتبار والعبور المجاوزة على ما تقدم تقريره في القياس فتكون المجاوزة مأمورًا بها، والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق على ثبوته في محل الخلاف مجاوزة فكان داخلًا تحت الأمر فكان مأمورًا به. وثالثها: أن إثبات الحكم في صورة الخلاف كثبوته بينها وبين صورة الاتفاق فكان مأمورًا به لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} فالعدل هو التسوية فتكون التسوية مأمورًا بها فكان ما ذكرناه داخلًا تحته لكونه لتسوية. ورابعها: أن إثبات الحكم في صورة النزاع بجامع مشترك بينها وبين صورة الوفاق اتباع للرسول عليه السلام فكان واجبًا. بيان الأول: أنه عليه السلام شبه القبلة بالمضمضة في حكم شرعي

بجامع بينهما فيكون الإثبات وهو إثبات الحكم في صورة بجامع مشترك بينها وبين صورة أخرى للأجل أنه عليه السلام فعل ذلك اتباع له لما تقدم من تفسير الاتباع في الأفعال. بيان الثاني: قوله: (تعالى) {فاتبعوه}. وخامسها: [أن أبا بكر -رضي الله عنه- شبه العهد بالعقد] وعمر -رضي الله عنه- أمر أبا موسى بالقياس على ما تقدم تقريره، وإذا ثبت هذا وجب علينا أن نفعل مثله؛ لقوله عليه السلام "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر". وسادسها: أن الحكم في المحل الفلاني إنما ثبت لحاجة ومصلحة وهذا المعنى حاصل في صورة الخلاف فورود الشرع بالحكم هناك يكون ورودًا هنا. وسابعها: أجمعنا على أن حكمًا ما في علم الله تعالى ثابت ولا شك أن ذلك الحكم إنما تثبت لمصلحة وهذا الحكم بتقدير الثبوت متضمن لحصول نوع مصلحة فلابد وأن يشتركا في قدر من المصلحة فتعلل بالقدر المشترك وذلك يقتضي ثبوت الحكم. وثامنها: أن هذا الحكم بتقدير ثبوته يتضمن تحصيل مصلحة المكلف، ودفع

حاجته فوجب أن يكون مشروعًا؛ لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى الشرعية، فلو خرجت عن الدعاء لكان ذلك لمعارض لكن الأصل عدمه. وتاسعها: أن إثبات الحكم تحقيق لمقصود بعثة الرسل فكان أولى من النفي. وعاشرها: أن إثبات الحكم لا يقتضي بعض العلة الفلانية/ (356/ أ) التي ثبتت عليتها بالمناسبة أو بالإيماء أو بالسبر أو بالدوران أو غيرها من الطرق الدالة على علية الوصف بخلاف النفي فإنه يقتضي ذلك ضرورة حصوله في صورة الوفاق فكان الإثبات أولى. واعلم أن ضعف بعض هذه الوجوه المذكورة في الإثبات والنفي بين يعرف ذلك مما تقدم من الأصول فلذلك لم نتعرض لذلك. ثم اعلم أن ها هنا أنواعًا أخر من الاستدلالات وهي مفيدة للقطع غير مختصة بالنفي أو بالإثبات، بل هي مفيدة للنوعين لكنها غير مختصة بهذا الفن بل دخوله في هذا الفن كدخوله في غيره واحتياج هذا الفن إليه كاحتياج غيره إليه وهي فن مستقل بنفسه فلذلك لم نوردها في هذا الكتاب وإن كان أوردها بعض المتأخرين على خلاف عادة الأصوليين الأقدمين. وإذ قد وصلنا إلى هذا الموضع فلنختم الكتاب حامدين لمفيض الخيرات ومنزل البركات، ومجيب الدعوات، وخاتم الأعمار بالأعمال الصالحات، ومبدل السيئات بالحسنات، ومصلين على أنبيائه ورسله ذوي المعجزات الباهرات والأنوار الساطعات، اللهم جنبنا عن الظلم والاعتساف، وحبب إلينا العدل والإنصاف وحقق آمالنا بالنجح والإسعاف، وجد علينا بالطول والإعفاف بمحمد وآله الطيبين الطاهرين نجز على يد أضعف الخلق

والورى علي بن يحيى بن عمر بن حبيب الحنفي الجعفري صلوات الله على الصادق الأمين وعلى الصحابة وعلى التابعين بالإحسان وعلى جميع المسلمين في العشر الأخير من ذي القعدة سنة 697 هـ بدمشق المحروسة وافق الفراغ منه وهو حامدًا ومصليًا على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

"كلمة أخيرة" وبعد: فقد تم بحمد الله تعالى وعونه وتوفيقه الانتهاء من إعداد هذه الرسالة بقسميها الدراسي والتحقيقي بعد أن قضينا في إعدادها عدة سنوات وقد بذلنا في ذلك ما استطعنا من جهد ووقت وأرجو أن نكون قد وفقنا فيما توخيناه من خدمة هذا السفر العظيم من تراثنا الإسلامي وإخراجه على هذا النحو. ونسأل الله تعالى أن يجعله عملًا صالحًا خالصًا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1