نهاية السول شرح منهاج الوصول

الإِسْنَوي

المقدمات

المقدمات ترجمة البيضاوي صاحب منهاج الوصول إلى علم الأصول ... بسم الله الرحمن الرحيم ترجمة البيضاوي: صاحب منهاج الوصول إلى علم الأصول هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي، أبو سعيد، أو أبو الخير، ناصر الدين البيضاوي، قاضي، مفسر، علامة، ولد في المدينة البيضاء "بفارس" قرب شيراز. كان المذكور عالما بعلوم كثيرة، صالحا خيرا صنف التصانيف المذكورة في أنواع العلوم منها مختصر الكشاف "تفسير القاضي"، مختصر الوسيط في الفقه المسمى بالغاية، وطوالع الأنوار في التوحيد، وكتابنا هذا "منهاج الوصول إلى علم الأصول"، و"طلب اللباب في علم الإعراب"، ونظام التواريخ وتعاريفها. تولى القضاء بشيراز مدة، ثم صرف عن القضاء، فرحل إلى تبريز فتوفي فيها سنة إحدى وتسعين وستمائة على ما في طبقات الشافعية وسنة 685هـ على ما في الأعلام للزركلي. انظر: الأعلام للزركلي "4 /110" طبقات الشافعية "1/ 136". أما كتابه هذا "منهاج الوصول إلى علم الأصول" فهو كما قال الإسنوي: إن المصنف قد أخذ كتابه من الحاصل للأرموي والحاصل أخذه مصنفه من المحصول للفخر الرزاي والمحصول استمده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالبا أحدهما المستصفى للغزالي والثاني المعتمد لأبي الحسن البصري وهو كتاب جليل اعتنى العلماء بشأنه فشرحه الشيخ الإمام فخر الدين أبو المكارم أحمد بن حسين التبريزي الجاربردي المتوفى سنة 746هـ وسماه بالسراج والوهاج، وشرحه الإمام أبو الثناء الأصفهاني المتوفى سنة 749هـ، وشرحه القاضي عبد الله بن محمد العبدلي التبريزي الحنفي المتوفى سنة 473هـ، وغياث الدين الواسطي المتوفى سنة 718هـ، وشمس الدين الجزري الشافعي المتوفى سنة 711هـ، وتاج الدين السبكي المتوفى سنة 771هـ، وابن الملقن وله شرح أحاديثه في جزء وتوفي سنة 804هـ "انظر: كشف الظنون: 1878" وقد شرح هذا الكتاب أيضا العديد من العلماء وهذا مما يبين فضل الكتاب وأهميته وفضل صاحبه وجلالته.

ترجمة الإسنوي صاحب نهاية السول شرح منهاج الوصول

ترجمة الإسنوي: صاحب نهاية السول شرح منهاج الوصول هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الأموي الإسنوي نزيل القاهرة، الشيخ جمال الدين، أبو محمد. ولد في العشر الأخير من ذي الحجة سنة 704هـ بإسنا من صعيد مصر. وقدم القاهرة سنة 721هـ وقد حفظ التنبيه في ستة أشهر وبعد أخذه عن العلماء لازم الاشتغال ثم الاشتغال والتصنيف فكانت أوقاته محفوظة مستوعبة لذلك، وولي وكالة بيت المال والحسبة ودرس بالمالكية والأقبغاوية والفاضلية ودرس التفسير بالجامع الطولوني. تتلمذ على عدد من العلماء منهم: الدبوسي، وعبد القادر بن الملوك، والحسن بن أسد بن الأثير، وعبد المحسن الصابوني، والقطب السنباطي، والقونوي وغيرهم، وأخذ اللغة عن أبي الحسن النحوي، وأبي حيان النحوي وغيرهما. قال ابن حجر في الدرر الكامنة "2/ 355": "كان فقيها ماهرًا ومعلما ناصحا ومفيدا صالحا مع البر والدين والتودد والتواضع. وقال شيخنا العراقي: اشتغل في العلوم حتى صار أوحد زمانه وشيخ الشافعية في أوانه، وصنف التصانيف النافعة السائرة، وتخرج به طلبة الديار المصرية، وكان حسن الشكل والتصنيف لين الجانب كثير الإحسان". اهـ. وله العديد من المؤلفات منها: جواهر البحرين في تناقض الخبرين، والكوكب الدري في النحو والفقه، وكافي المحتاج إلى شرح المنهاج، والفتاوى، وزوائد الأصول، والأشباه والنظائر، والبدور الطوالع في الفروق والجوامع، والجمع والفرق، والجامع، وشرح ألفية ابن مالك، وشرح تفسير البيضاوي، ونهاية السول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وطبقات الشافعية، وغيرها من المؤلفات. توفي الشيخ جمال الدين ليلة الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة 772هـ ودفن قرب مقابر الصوفية بالقاهرة. "انظر: الدرر الكامنة: "2/ 354-356"، بغية الوعاة: "2/ 92"، شذارت الذهب: "6/ 224"، البدر الطالع: "1/ 352"، حسن المحاضرة: "1/ 429-434".

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب: الحمد لله الذي مهد أصول شريعته بكتابه القديم الأزلي، وأيد قواعدها بسنة نبيه العربي، وشيد أركانها بالإجماع المعصوم من الشيطان القوي، وأعلى منارها بالاقتباس من القياس الخفي والجلي وأوضح طرائقها بالاجتهاد في الاعتماد على السبب القوي، وشرع للقاصر على مرتبتها استفتاء من هو بها قائم ملي وصلواته وسلامه على سيدنا محمد المبعوث إلى القريب والبعيد والشريف والدني وعلى آله وأصحابه أولي كل فضل سني وقدر علي. "وبعد" فإن أصول الفقه علم عظيم قدره. وبين شرفه وفخره. إذ هو قاعدة الأحكام الشرعية. وأساس الفتاوى الفرعية. التي بها صلاح المكلفين معاشا ومعادا ثم إن أكثر المشتغلين به في هذا الزمان قد اقتصروا من كتبه على المنهاج للإمام العلامة قاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي رضي الله عنه لكونه صغير الحجم كثير العلم مستعذب اللفظ، وكنت أيضا ممن لازمه درسا وتدريسا فاستخرت الله تعالى في وضع شرح عليه موضح لمعانيه، مفصح عن مبانيه، محرر لأدلته مقرر لأصوله، كاشف عن أستاره، باحث عن أسراره، منبها فيه على أمور أخرى مهمة. "أحدها" ذكر ما يرد عليه من الأسئلة التي لا جواب عنها أو عنها جواب ضعيف. "الثاني" التنبيه على ما وقع فيه من غلط في النقل. "الثالث" تبيين مذهب الشافعي بخصوصه ليعرف الشافعي مذهب إمامه في الأصول، فإن ظفرت بالمسألة فيما وقع لي من كتب الشافعي كالأم1 والأمالي2 والإملاء3 ومختصر المزني4

_ 1 الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي وهذا الكتاب يمثل جماع مذهب الإمام الشافعي وأحكامه النهائية، وصفه الشافعي في مصر إملاء. 2 الأمالي وهو أمالي الإمام الشافعي في الفقه، والأمالي هو جمع إملاء وهو أن يقعد عالم حوله تلامذته بالمحابر والقراطيس فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم ويكتب تلامذته فيصير كتابا، ويسمونه الإملاء والأمالي، كذا كان السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية "كشف الظنون: 161". 3 الإملاء هو للإمام الشافعي، وهو في نحو أماليه حجما وقد يتوهم أن الإملاء هو الأمالي وليس كذلك. "كشف الظنون: 169". 4 مختصر المزني في فروع الشافعية وهو أحد الكتب الخمس المشهورة بين الشافعية التي يتدوالونها أكثر تداول وهي سائرة في كل الأمصار، كما ذكره النووي في التهذيب، وهي للشيخ الإمام إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي"264هـ" وهو أول من صنف في مذهب الشافعي "كشف الظنون: 1635".

ومختصر البويطي1 نقلتها منه بلفظها غالبا مبينا الكتاب الذي هي فيه، ثم الباب، وإن لم أظفر بها في كلامه عزوتها إلى ناقلها عنه. "الرابع" ذكر فائدة القاعدة من فروع مذهبنا في المسائل المحتاجة إلى ذلك. "الخامس" التنبيه على المواضع التي خالف المصنف فيها كلام الإمام أو كلام الآمدي2 أو كلام ابن الحاجب3 فإن كل واحد من هؤلاء قد صار عمدة التصحيح يأخذ به آخذون، فإن اضطراب كلام أحد هؤلاء نبهت عليه أيضا. "السادس" ما ذكره الإمام وابن الحاجب من الفروع الأصولية وأهمله المصنف فأذكره مجردا عن الدليل غالبا. "السابع" التنبيه على كثير مما وقع فيه الشارحون من التقريرات التي ليست مطابقة وقد كنت قصدت التصريح بكل ما ذكروه منها، فرأيت الاشتغال به يطول لكثرته حتى رأيت في بعض شروحه المشهورة ثلاثة مواضع يلي بعضها بعضا؛ فلذلك أضربت على كثير منها فلم أذكره البتة اكتفاء بتقرير الصواب وأشرت إلى كثير منها إشارة لطيفة وصرحت بمواضع كثيرة منها. "الثامن" التنبيه على فوائد أخرى مستحسنة كنقول غريبة وأبحاث نافعة وقواعد مهمة إلى غير ذلك فيما ستراه إن شاء الله تعالى. واعلم أن المصنف رحمه الله أخذ كتابه من الحاصل4 للفاضل تاج الدين الأرموي، والحاصل أخذه مصنفه من المحصولات للإمام فخر الدين، والمحصول5 استمداده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالبا أحدهما

_ 1- البويطي: أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، من بويطة وهي قرية من صعيد مصر الأدنى، كان خليفة الشافعي في حلقته بعده "طبقات الشافعية: 1/ 22". 2 الآمدي هو الإمام سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر الآمدي المذكور في الأبكار، المتوفى سنة 316هـ "كشف الظنون: 1857" وله كتب في علم الأصول وغيره من العلوم، منها: منتهى السول في الأصول، وغيره. 3 ابن الحاجب هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين بن الحاجب، فقيه مالكي، من كبار علماء العربية، كردي الأصل ولد في إسنا "من صعيد مصر" ونشأ في القاهرة وسكن دمشق، ومات بالإسكندرية وكان أبوه حاجبا فعرف به، من تصانيفه "الكافية في النحو، والشافعية في الصرف، مختصر الفقه، ومنتهى السول والأمل في الأصول، وغيرها من الكتب، توفي سنة "146هـ". "الأعلام: 2/ 211". 4 الحاصل في مختصر المحصول في الأصول، وهو للقاضي تاج الدين محمد بن حسين الأرموني، المتوفى سنة 656هـ، كما ذكره الإسنوي والسيوطي، "كشف الظنون: 1615". 5 المحصول في أصول الفقه، لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، وهو الإمام المفسر، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل، ولد في الري ونسبته إليها، رحل إلى خوارزم وتوفي في هراة سنة "606هـ" من تصانيفه مفاتيح الغيب في التفسير، والمطالب العالية، ونهاية العقول في دراية الأصول، وكتب أخرى في مختلف العلوم، "كشف الظنون: 1615، والأعلام: 6/ 313".

المستصفى1 لحجة الإسلام الغزالي، والثاني المعتمد لأبي الحسين البصري2، حتى رأيته ينقل منهما الصفة أو قريبا منها بلفظها وسببه على ما قيل أنه كان يحفظهما، فاعتمدت في شرحي لهذا الكتاب مراجعة هذه الأصول طلبا لإدراك وجه الصواب في المنقول منه والمعقول، وحرصا على إيراد ما فيه على وفق مراد قائله، فإنه ربما خفي المقصود أو تبادر غيره فيتضح بمراجعة أصل من هذه الأصول المذكورة، ولم أترك جهدا في تنقيحه وتحريره، فإنني بحمد الله شعرت فيه خليا من المواقع والعوائق منقطعا عن القواطع والعلائق، فصار هذا الشرح عمدة في الفن عموما، وعمدة في معرفة مذهب الشافعي فيه خصوصا، وعمدة في شرح هذا الكتاب وسعيت سعيي في إيضاح معانيه، وبذلت وسعي في تسهيله لمطالعيه بحيث لا يتعذر فهمه على المبتدئ، ولا يبطئ إدراكه على المنتهي, وسميته: "نهاية السول في شرح منهاج الأصول" وأسأل الله أن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه والناظر فيه وجميع المسلمين بمنه وكرمه آمين.

_ 1 المستصفى في أصول الفقه للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة "505هـ" يقول عن هذا الكتاب: فاقترح علي طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في الأصول أطلق العنان فيه بين الترتيب والتحقيق على وجه يقع في الحجم دون تهذيب الأصول، وفوق كتاب المنخول، ورتبناه على مقدمة، وأربعة أقطاب". "كشف الظنون: 1673". 2 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي الشافعي المتوفى سنة "463هـ"، وهو كتاب كبير ومنه أخذ الفخر الرازي كتاب المحصول "كشف الظنون: 1732".

تعريفات

تعريفات: قال: "أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد" أقول: اعلم أنه لا يمكن الخوض في علم من العلوم إلا بعد تصور ذلك العلم، والتصور مستفاد من التعريفات، فلذلك قدم المصنف تعريف أصول الفقه على الكلام في مباحثه، ولا شك أن أصول الفقه لفظ مركب من مضاف ومضاف إليه، فنقل عن معناه الإضافي وهو الأدلة المنسوبة إلى الفقه وجعل لقبا أي علما على الفن الخاص. والفرق بين اللقبي والإضافي من وجهين: "أحدهما" أن اللقبي هو العلم كما سيأتي والإضافي موصل إلى العلم، "الثاني" أن اللقبي لا بد فيه من ثلاثة أشياء: معرفة الدلائل وكيفية الاستفادة وحال المستفيد، وأما الإضافي فهو الدلائل خاصة، ولفظ أصول الفقه مركب على المعنى الإضافي دون اللقبي؛ لأن جزأه لا يدل على جزء معناه، فإذا تقرر ما قلناه، وعلمت أن أصول الفقه في الأصل مركب، فاعلم أن معرفة المركب متوقفة على معرفة مفرداته، فكان ينبغي له أن يذكر تعريف الأصل وتعريف الفقه قبل تعريف أصول الفقه، وكما فعل الإمام في المحصول1 والآمدي في الأحكام وغيرهما مستدلين بما ذكرته من توقف معرفة المركب على معرفة المفردات، فلنذكر

_ 1 انظر المحصول، ص5، جـ1.

أول تعريفهما ثم نعود إلى شرح كلامه فنقول: الأصل له معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح، فأما معناه اللغوي فاختلفوا فيه على عبارات: "إحداها" ما يبنى عليه غيره، قاله أبو الحسين البصري في شرح العمدة، "ثانيتها" المحتاج إليه قاله الإمام في المحصول والمنتخب وتبعه صاحب التحصيل، "ثالثتها" ما يستند تحقق الشيء له، قاله الآمدي في الأحكام ومنتهى السول، "رابعتها" ما منه الشيء, قاله صاحب الحاصل، "خامستها" منشأ الشيء، قال بعضهم: وأقرب هذه الحدود هو الأول والأخير، وأما في الاصطلاح فله أربعة معانٍ: "أحدها" الدليل كقولهم: أصل هذه المسألة الكتاب والسنة أي: دليلهما، ومنه أيضا أصول الفقه، أي: أدلته، "الثاني" الرجحان، كقولهم الأصل في الكلام الحقيقة، أي الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز، "الثالث" القاعدة المستمرة كقولهم إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل، "الرابع" الصورة المقيس عليها على اختلاف مذكور في القياس في تفسير الأصل، وأما الفقه فله أيضا معنيان: لغوي واصطلاحي، فالاصطلاحي سيأتي في كلام المصنف. وأما اللغوي فقال الإمام في المحصول والمنتخب1: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع: هو فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا. وقال الآمدي: هو الفهم وهذا هو الصواب فقد قال الجوهري2: الفقه الفهم تقول فقهت كلامك بكسر القاف أفقه بفتحها في المضارع أي فهمت أفهم. قال الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] . وقال تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] وقال تعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] إذا علمت ذلك فلنرجع إلى شرح كلام المصنف، فنقول قول معركة كالجنس دخل فيه أصول الفقه وغيره، والفرق بينه وبين العلم من وجهين: "أحدهما" أن العلم يتعلق بالنسب أي وضع لنسبة شيء آخر، ولهذا تعدى إلى مفعولين، بخلاف عرف فإنها وضعت للمفردات، تقول: عرفت زيدا، "الثاني" أن العلم يستدعي سبق جهل بخلاف المعرفة، ولهذا لا يقال لله تعالى عارف ويقال له عالم، وقد نص جماعة من الأصوليين أيضا ومنهم الآمدي في أبكار الأفكار على نحو، فقالوا: إن المعرفة لا تطلق على العلم القديم. وقوله: "دلائل الفقه" هو جمع مضاف، وهو يفيد العموم فيعم الأدلة كمعرفة الفقه ونحوه، "الثاني" معرفة أدلة غير الفقه كأدلة النحو والكلام. "الثالث" معرفة بعض أدلة الفقه كالباب الواحد من أصول

_ 1 منتخب المحصول في الأصول لفخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي الفقيه: "الإيضاح المكنون: 2/ 596". 2 الجوهري هو إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر أول من حاول الطيران، ومات في سبيله، لغوي من الأئمة أشهر كتبه الصحاح له كتاب في العروض، وأصله من فاراب ودخل العراق صغيرا، وسافر إلى الحجاز، فطاف في البادية، وعاد إلى خراسان، ثم أقام في نيسابور، توفي وهو يحاول الطيران عام "393هـ". "الأعلام للزركلي" 1/ 313".

الفقه فإنه جزء من أصول الفقه ولا يكون أصول الفقه، ولا يسمى العارف به أصوليا لأن بعض الشيء لا يكون نفس الشيء. والمراد بمعرفة الأدلة أن يعرف أن الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها, وأن الأمر مثل للوجوب، وليس المراد حفظ الأدلة ولا غيره من المعاني فافهمه. واعلم أن التعبير بالأدلة مخرج لكثير من أصول الفقه كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك، فإن الأصوليين وإن سلموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له، فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع له، ولهذا قال في المحصول أصول الفقه مجموع طرق الفقه، ثم قال: وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات. قوله "إجمالا" أشار به إلى أن المعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمالي ككون الإجماع حجة وكون الأمر للوجوب كما بيناه، وفي الحاصل أنه احتراز عن علم الفقه وعلم الخلاف، لأن الفقيه يبحث عن الدلائل من جهة دلالتها على المسألة المعينة، والمناظر أن ينصب كل منهما الدليل على مسألة معينة وفيما قاله نظر، ولم يصرح في المحصول بالمحترز عنه، فإن قيل: إن إجمالا في كلام المصنف لا يجوز أن يكون مفعولا لأنه عرف لا يتعدى إلا إلى واحد وقد جر بالإضافة، ولا تمييزا منقولا من المضاف، ويكون أصله معرفة إجمالا أدلة الفقه لفساد المعنى ولا حالا من المعرفة أو من الدلائل لأنهما مؤنثان، وإجمال مذكر، لا نعتا لمصدر محذوف، أي معرفة إجمالية. لتذكيره أيضا: فالجواب أنه يجوز أن يكون في الأصل مجرورا بالإضافة إلى معرفة تقديره معرفة دلائل الفقه: معرفة إجمالية. أي لا معرفة تفصيل فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية ويجوز أن يكون نعتا لمصدر مذكر محذوف تقديره عرفانا إجماليا، قال الجوهري تقول عرفت معرفة وعرفانا، فهو على هذين الإعرابين يكون الإجمال راجعا إلى المعرفة، وأما عوده إلى الدلائل فهو وإن كان صحيحا من جهة المعنى لكن هذا الإعراب لا يساعده، ويجوز أن يكون حالا، واغتفر فيه التذكير لكنه مصدر، وفي بعض الشروح أن إجمالا منصوب على المصدر أو على التمييز وهو خطأ لما قلناه قوله: "وكيفية الاستفادة منها" هو مجرور بالعطف على دلائل، أي معرفة دلائل الفقه، ومعرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدلائل أي استنباط الأحكام الشرعية منها، وذلك يرجع إلى معرفة شرائط الاستدلال كتقديم النص على الظاهرة والمتواتر على الآحاد ونحوه، كما سيأتي في كتاب التعادل والترجيح، فلا بد من معرفة تعارض الأدلة ومعرفة الأسباب التي يترجح بها بعض الأدلة على بعض، وإنما جعل ذلك من أصول الفقه لأن المقصود من معرفة أدلة الفقه في استنباط الأحكام منها، ولا يمكن الاستنباط منها إلا بعد معرفة التعارض والترجيح لأن دلائل الفقه مفيدة للظن غالبا والمظنونات قابلة للتعارض محتاجة إلى الترجيح فصار من

معرفة ذلك من أصول الفقه وقوله: "وحال المستفيد" هو مجرور أيضا بالعطف على دلائل أي ومعرفة حال المستفيد وهو طلب حكم الله تعالى فيدخل فيه المقلد والمجتهد كما قال في الحاصل لأن المجتهد يستفيد الأحكام من الأدلة، والمقلد يستفيدها من المجتهد، وإنما كان معرفة تلك الشروط من أصول الفقه، لأنا بينا أن الأدلة قد تكون ظنية وليس من الظن ومدلوله ارتباط عقلي لجواز عدم دلالته عليه، فاحتاج إلى رابط وهو الاجتهاد، فتلخص أن معرفة كل واحد مما ذكر أصل من أصول الفقه، ومجموعها ثلاث فلذلك أتى بلفظ الجمع فقال أصول الفقه معرفة كذا وكذا ولم يقل: أصل الفقه وهذا الحد ذكره صاحب الحاصل فقلده فيه المصنف، وفيه نظر من وجوه: "أحدها" كيف يصح أن يكون أصول الفقه هو معرفة الأدلة مع أن أصول الفقه شيء ثابت سواء وجد العارف به أم لا ولو كان هو المعرفة بالأدلة لكان يلزم من فقدان العارف بأصول الفقه وليس كذلك، ولهذا قال الإمام في المحصول: أصول الفقه مجموع طرق الفقه، ولم يقل معرفة مجموع طرق الفقه، وذكر نحوه في المنتخب أيضا وكذلك صاحب الأحكام وصاحب التحصيل وخالف ابن الحاجب فجعله العلم أيضا، وحاصله أن طائفة جعلوا الأصول هو العلم لا المعلوم. "ثانيها" أن العلم بأصول الفقه ثابت لله تعالى لأنه تعالى عالم بكل شيء، ومن ذلك هذا العلم الخاص، ولا بد من إدخاله في الحد وإلا لزم وجود المحدود بدون الحد لكنه لا يمكن دخوله فيه لأنه حده بقوله: معرفة دلائل الفقه والمعرفة لا تطلق على الله تعالى لأنها لا تستدعي سبق الجهل كما تقدم. "ثالثها" أنه جمع دليلا على دلائل هنا وفي أوائل القياس حيث قال لعموم الدلائل وفي أول الكتاب الخامس حيث قال في دلائل اختلف فيها، وإنما صوابه أدلة قال ابن مالك في شرح الكافية والشافية لم يأت فعائل جمعا لاسم جنس على وزن فعيل فيما أعلم لكنه بمقتضى القياس جائز في العلم المؤنث كسعائد جمع سعيد اسم امرأة، وقد ذكر النحاة لفظين وردا من ذلك ونصبوا على أنهما في غاية القلة أنه لا يقاس عليهما. "رابعها" وهو مبني على مقدمة من أن كل علم له موضوع ومسائل، فموضوعه هو ما يبحث في ذلك العلم عن الأحوال العارضة له، ومسائله هي معرفة تلك الأحوال، فموضوع علم الطب مثلا هو بدون الإنسان لأنه لا يبحث فيه عن الأمراض اللاحقة له، ومسائله هي معرفة تلك الأمراض، والعلم بالموضوع ليس داخلا في حقيقة ذلك العلم كما أوضحناه في بدن الإنسان، وموضوع علم الأصول هو أدلة الفقه لأنه يبحث فيها عن العوارض اللاحقة لها من كونها عامة وخاصة وأمرا ونهيا وهذه الأشياء هي المسائل، وإذا كانت الأدلة هي موضوع هذا العلم فلا تكون من ماهيته، فإن قيل موضوع هذا العلم هو الأدلة الكلية من حيث دلالتها على الأحكام، وأما مسائله فيه معرفة الأدلة باعتبار ما يعرض لها كونها عامة وخاصة وغير ذلك وهذا هو الواقع في الحد، قلنا لا

نسلم بل الأول أيضا مذكور فإنه المراد بقوله دلائل الفقه كما تقدم. "خامسها" أن هذا الحد ليس بمانع، لأن تصور دلائل الفقه إلخ يصدق عليه أنه معرفة بها أي علم لأن العلم ينقسم إلى تصور وتصديق، ومع ذلك ليس من علم الأصول، فإن الأصول هو العلم التصديقي لا التصويري. وقال: "والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية" أقول لما كان لفظ الفقه جزءا من تعريف أصول الفقه ولا يمكن معرفة شيء إلا بعد معرفة أجزائه احتاج إلى تعريفه، فقوله العلم جنس دخل فيه سائر العلوم، ولقائل أن يقول: لم قال في حد الأصول معرفة وفي حد الفقه علم، وقد استعمل ابن الحاجب لفظ العلم فيهما وابن برهان في الوجيز لفظ المعرفة هنا، وقوله بالأحكام احترز به عن العلم بالذوات والصفات والأفعال، قاله من الحاصل، ووجه ما قاله أن العلم لا بد له من معلوم، وذلك المعلوم إن لم يكن محتاجا إلى محل يقوم به فهو الجوهر كالجسم، وإن احتاج فإن كان سببا للتأثير في غيره فهو الفعل كالضرب والشتم، وإن لم يكن سببا فإن كان نسبة بين الأفعال والذوات فهو الحكم، وإن لم يكن فهو الصفة كالحمرة والسواد، فلما قيد العلم بالحكم كان مخرجا للثلاثة، لكن في إطلاق خروج الصفات إشكال، وذلك أن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى، وخطابه تعالى كلامه، وكلامه صفة من جملة الصفات القائمة بذاته، فيلزم من إخراج الصفات إخراج الفقه وهو المقصود بالحد والباء في قوله بالأحكام، يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف أي العلم المتعلق بالأحكام، والمراد بتعلق العلم بها التصديق بكيفية تعلقها بأفعال المكلفين، كقولنا المساقاة جائزة لا العلم بتصورها، فإنه من مبادئ أصول الفقه فإن الأصولي لا بد أن يتصور الأحكام كما سيأتي، ولا التصديق بثبوتها في أنفسها، ولا التصديق بتعلقها فإنهما من علم الكلام، فإن قيل: الألف واللام في الأحكام لا جائز أن تكون للعهد لأنه ليس لنا شيء معهود يشار إليه، ولا الجنس لأن أقل جمع الجنس ثلاثة، فيلزم منه أن العامي يسمى فقيها إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها لصدق اسم الفقه عليها وليس كذلك، ولا للعموم لأنه يلزم خروج أكثر المجتهدين لأن مالكا من أكابرهم وقد ثبت أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب في أربع، وقال في ست وثلاثين لا أدري، فالجواب التزام كونها للجنس لأن الحد إنما وضع لحقيقة الفقه، ولا يلزم من إطلاق الفقه على ثلاثة أحكام أن يصدق على العارف بها أنه فقه بكسر القاف أي فهم ولا من فقه بفتحها أي سبق غيره إلى الفهم لما تقرر في علم العربية أن قياسه فاقه وظهر أن الفقيه يدل على الفقه وزيادة كونه سجيه، وهذا أخص من مطلق الفقه ولا يلزم من نفي الأعم، فلا يلزم نفي الفقه عند نفي المشتق الذي هو فقه، وهذا من أحسن الأجوبة، وقد احترز الآمدي عن هذا السؤال فقال الفقه العلم بالجملة غالبة من الأحكام وهو احتراز حسن وقوله الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية

كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وبأن الكل أعظم من الجزء وشبه ذلك كالطب والهندسة وعن العلم بالأحكام اللغوية وهو نسبة أمر إلى الآخر بالإيجاب أن السلب كعلمنا بقيام زيد أو بعدم قيامه، والشرعي هو ما تتوقف معرفته على الشرع، وقوله العملية احترز به عن العلم بالأحكام الشرعية على العملية، وهو أصول الدين كالعلم بكون الإله واحدا سميعا بصيرا، وكذلك أصول الفقه على ما قاله الإمام في المحصول واقتصر عليه، قال لأن العلم يكون الإجماع حجة مثلا ليس علما بكيفية عمل، وتبعه على ذلك صاحب الحاصل وصاحب التحصيل1، وفيه نظر لأن حكم الشرع يكون الإجماع حجة مثلا، معناه أنه إذا وجد فقد وجب عليه العمل بمقتضاه والإفتاء بموجبه، ولا معنى للعمل إلا هذا لأنه نظير العلم، بأن الشخص متى زنى وجب على الإمام حده، وهو من الفقه، لقوله المكتسب احترز به عن علم الله تعالى وعلم ملائكته بالأحكام الشرعية العلمية، وكذلك علم رسوله صلى الله عليه وسلم الحاصل من غير اجتهاد بل بالوحي، وكذلك علمنا بالأمور التي علم بالضرورة كونها من الدين، كوجوب الصلوات الخمس وشبهها، فجميع هذه الأشياء ليس بفقه لأنها غير مكتسبة، هكذا ذكره كثير من الشراح، وما قالوه في غير الله تعالى فيه نظر متوقف على تفسير المراد بالمكتسب، ولا ذكر لهذا القيد في المحصول بأنه للاحتراز عن نحو الخمس كما تقدم ذكره وفيه نظر أيضا فإن أكثر علم الصحابة إنما حصل بسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضررويا، وحينئذ فيلزم أن يسمى علم الصحابة فقها وأن لا يسموا فقهاء وهو باطل، والأولى أن يقال احترز بالمكتسب عن علم الله تعالى، وبقوله من أدلتها عن علم الملائكة والرسول الحاصل بالوحي، والمكتسب في كلام المصنف مرفوع على الصفة للعلم ولا يصلح جره على الصفة للأحكام، لأن الأحكام مؤنثة والمكتسب مذكر، ولأن علم الله تعالى وعلم المقلد يردان على الحد على هذا التقدير ولا يخرجان بما قالوه، وذلك لأن المعلوم للمقلد مثلا في نفسه مكتسب من أدلة تفصيلية، فإن المصنف لم يشترط ذلك بالنسبة إلى العالم به بل عبر عنه بقول مكتسب، وهو مبني للمفعول فإذا علم المجتهد أن الأخت لها النصف للآية الكريمة أخر به المقلد صدق أن المقلد علم شيئا اكتسبه غيره من دليل تفصيلي، وإذا صدق ذلك صدق بناؤه للمفعول، فيقال علم شيئا مكتسبا من دليل تفصيلي، وهكذا يفعل في علم الله تعالى فإن الباري سبحانه وتعالى عالم بحكم ذلك الحكم، موصوف بأنه مكتسب يعني أن شخصا قد اكتسبه. وقوله من أدلتها التفصيلية احترز به عن العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية، فإن المقلد إذا علم أن هذا الحكم أفتى به المفتي وعلم أن ما أفتى به المفتي

_ 1 التحصيل في أصول الفقه للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي المتوفى سنة "429هـ"، "كشف الظنون: 359".

فهو حكم الله تعالى في حقه، علم بالضرورة أن ذلك حكم الله تعالى في حقه، فهذا وأمثاله علم بأحكام شرعية عملية مكتسب لكن لا من أدلة تفصيلية بل من دليل إجمالي، فإن المقلد لم يستدل على كل مسألة بدليل مفصل يخصها بل بدليل واحد يعم جميع المسائل هكذا قاله الإمام في المحصول وغيره وتابعه عليه صاحب الحاصل وصاحب التحصيل، وفي الحد نظر من وجوه: أحدها: أن تعريف الفقه بأنه العلم يقتضي أن يكون أصول الفقه هو أدلة العلم بالأحكام لا أدلة الأحكام نفسها، وهو باطل لأنه قد تقدم أن الأصول معرفة دلائل الفقه لا معرفة دلائل العلم بالفقه ولأن مدلول الدليل هو الحكم لا العلم بالحكم. والثاني أنه لا يخلوا إما أن يريد بالعملية عمل الجوارح أو ما هو أعم منها ومن عمل القلوب. فإن أراد الأول ورد عليه إيجاب النية وتحريم الرياء والحسد وغيرهما فإنها من الفقه بالقلب، ولو قال الفرعية كما قاله الآمدي وابن الحاجب لكان يخلص من الاعتراض. "الثالث أن العام يطلق ويراد به الاعتقاد الجازم المطابق لدليل كما ستقف عليه وهذا هو المصطلح عليه، ويطلق ويراد به ما هو أعم من هذا وهو الشعور فإن أراد الأول لم يحسن الاحتراز عن المقلد بقوله من أدلتها التفصيلية لعدم دخوله في الحد لأن ما عند المقلد يسمى تقليدا لا علما، وإن أراد الثاني لم يرد سؤال القاضي المذكور عقب هذا في قوله: "قيل الفقه من باب الظنون"، الرابع: أن هذا الحديث ليس بمانع لأن تصور الأحكام الشرعية إلخ يصدق عليه أنه علم بها إذ العلم منقسم إلى تصور وتصديق ومع ذلك فليس بفقه بل الفقه العلم التصديقي لا العلم التصوري قال: "قيل الفقه من باب الظنون". قلنا: "المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى، والعمل به الدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه" أقول هذا اعتراف على حد الفقه وأورده القاضي أبو بكر الباقلاني وتقريره موقوف على مقدمة، وهو أن الحكم بأمر على أمر إن كان جازما مطابقا لدليل فهو العلم، كعلمنا بأن الإله واحد، وإن كان جازما مطابقا لغير دليل فهو التقليد كاعتقاد العامي أن الضحى سنة، وإن كان جازمًا غير مطابق فهو الجهل كاعتقاد الكفار ما كفرناهم به، وإن لم يكن جازما نظر إن لم يترجح أحد الطرفين فهو الشك، وإن ترجح فالطرف الراجح ظن المرجوح، وهم، إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تقرير السؤال فنقول الفقه مستفاد من الأدلة السمعية فيكون مظنونا، وذلك لأن الأدلة السمعية إن كان مختلفا فيها كالاستصحاب فهي لا تفيد إلا الظن عند القائل بها، والمتفق عليها بين الأئمة هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فأما القياس فواضح كونه لا يفيد إلا الظن، وأما الإجماع فإن وصل إلينا بالآحاد فكذلك، ووصوله بالتواتر قليل جدا، وبتقديره فقد صحح الإمام في المحصول والآمدي في الأحكام ومنتهى السول أنه ظني، وأما السنة فالآحاد منها لا تفيد إلا الظن، وأما المتواتر فهو كالقرآن متنه قطعي ودلالته ظنية لتوقفه على نفي الاحتمالات

العشرة، ونفيها ما ثبت إلا بالأصل، والأصل يفيد الظن فقط، وبتقدير أن يكون فيه شيء مقطوع الدلالة فيكون من ضروريات الدين وهو ليس بفقه على ما تقدم في الحدّ، فالفقه إذًا مظنون؛ لكونه مستفادا من الأدلة الظنية, وإذا كان ظنيا فلا يصح أن يقال: الفقه: العلم بالأحكام بل الظن بالأحكام, وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن الفقه ظني, بل هو قطعي لأن المجتهد إذا غلب على ظنه مثلا الانتقاض بالمس، حصل له مقدمة قطعية وهي قولنا: انتقاض الوضوء مظنون، وإلى هذه المقدمة أشار المصنف بقوله: إذا ظن الحكم ولنا مقدمة أخرى قطعية وهي قولنا: كل مظنون يجب العمل به، وأشار إليها بقوله: وجب عليه الفتوى والعمل به, فينتج انتقاض الوضوء يجب العمل به، وهذه النتيجة قطعية؛ لأن المقدمتين قطعيتان: أما الأولى فلأنها وجدانية أي: يقطع بوجود الظن به كما يقطع بجوعه وعطشه، وأما الثانية وهي قولنا: كل مظنون يجب العمل به فهي أيضا قطعية لما قاله المصنف، وهو قوله: الدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، ولم يبين الإمام ولا مختصرو كلامه ما أرادوه بالدليل القاطع، وقد اختلف الشارحون فيه فقال بعضهم: هو الإجماع, فإن الأئمة قد أجمعوا على أن كل مجتهد يجب عليه العمل والإفتاء بما ظنه وفيه نظر، فإن الإجماع ظن كما تقدم، وقال بعضهم: هو الدليل العقلي، وذلك أن الظن هو الظرف الراجح من الاحتمالات كما قررناه، فيكون الطرف المقابل له مرجوحا، وحينئذ فإما أن يعمل بكل واحد من الطرفين فيلزم اجتماع النقيضين، أو يترك العمل بكل منها فيلزم ارتفاع النقيضين، أو يعمل بالطرف المرجوح وحده وهو خلاف صريح العقل, فتعين العمل بالطرف الراجح وفيه نظر أيضا, فإنه إنما يجب العمل به أو بنقيضه إذا ثبت بدليل قاطع أن كل فعل يجب أن يتعلق به حكم شرعي، وليس كذلك، فيجوز أن يكون عدم وجوبه بسبب عدم الحكم الشرعي فيبقى الفعل على البراءة الأصلية كحاله قبل الاجتهاد, وكحاله عند الشك. قوله: "والظن في طريقه" أشار بذلك إلى الظن الواقع في المقدمتين, حيث قلنا: هذا مظنون, وكل مظنون يجب العمل به، فإنه قد وقع التصريح بالظن في محمول الصغرى وموضوع الكبرى, فكيف تكون المقدمتان قطعيتين مع التصريح بالظن؟ فأجاب عن ذلك بأن المعتبر في كون المقدمة قطعية أو ظنية إنما هو بالنسبة الحاصلة فيها، فإن كانت قطعية كانت المقدمة قطعية، وإن كانت ظنية كانت المقدمة ظنية، سواء كان الطرفان قطعيين أو ظنيين، أو كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، ولا شك أن النسبة الحاصلة من الأول هو وجود الظن, وبالنسبة الحاصلة من الثانية هو وجوب العمل به، وكلاهما قطعي كما بيناه، فلا يضر مع ذلك وقوع الظن فيها؛ لأنه واقع في الطريق الموصل إلى النسبة التي توصل إلى الحكم, فإن مقدمتي القياس وجميع أجزائها طريق موصل إلى الحكم، فتخلص حينئذ أن الفقه كله مقطوع به بهذا العمل، وبهذا قال أكثر الأصوليين، كما قاله القرافي في شرح المحصول، وفي التقرير المذكور

لكونه مقطوعًا به, نظر من وجوه: "أحدها" أن المقدمات لا بد من بقاء مدلولها حال الإنتاج ضرورة ومدلول الصغرى أنه غالب على ظن المجتهد فيسجل أن يكون ذلك الحكم في ذلك الوقت معلوما أيضا لاستحالة اجتماع النقيضين. "الثاني" أنه أقام الدليل على القطع بوجوب العمل بما غلب على ظن المجتهد, وهو غير المطلوب؛ لأنه لا يلزم من القطع بوجوب العملي بما غلب على الظن حصول القطع بالحكم الغالب على الظن والنزاع فيه لا في الأول، فإن قيل: المراد وجوب العمل، قلنا: لا يستقيم؛ لأنه يؤدي إلى فساد الحد؛ لأنه قوله في الحد وهو العلم بالأحكام, لا يدل على العلم بوجوب العمل بالأحكام, لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، ولأن العلم بوجوب العمل بالأحكام مستفاد من الأدلة الإجمالية، والفقه مستفاد من الأدلة التفصيلية، ولأن تفسير الفقه بالعلم بوجوب العمل يقتضي انحصار الفقه في الوجوب, وليس كذلك. "الثالث" أن ما ذكره وإن دل على أن الحكم مقطوع به, لكن لا يدل على أنه معلوم؛ لأن القطع أعم من العلم، إذ المقلد قطع وليس بعالم، وكل عالم قاطع ولا ينعكس، والمدعي هو الثاني وهو كون الفقه معلوما, وما أقام الدلالة عليه بل على القاطع. قال: "ودليله المتفق عليه بين الأئمة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها, ونفيها لا جرم رتبناه على مقدمة, وسبعة كتب". أما المقدمة, ففي الأحكام ومتعلقاتها "وفيها بابان" أقول: أدلة الفقه تنقسم إلى متفق عليها بين الأئمة والأربعة وإلى مختلف فيها، فالمتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما عدا ذلك كالاستصحاب والمصالح المرسلة والاستحسان وقياس العكس والأخذ بالأقل وغيرها مما سيأتي فمختلف فيه بينهم، ثم لما كان المقصود من هذه الأدلة هو استنباط الأحكام بالإثبات تارة وبالنفي أخرى كحكمه على الأمر بأنه للوجوب لا للندب, وعلى النهي بأن للتحريم لا للكراهة، والحكم على الشيء بالنفي والإثبات فرع عن تصوره, احتاج الأصولي إلى تصور الأحكام الخمسة، وهي: الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، وتصورها بأن يعرفها بالحد أو بالرسم كما سيأتي، ثم إن المصنف رتب هذا الكتاب على مقدمة وسبعة كتب, فأشار بقوله: "لا جرم رتبناه" إلى وجه ذلك وتقريره: أن أصول الفقه -كما تقدم- عبارة عن المعارف الثلاث: معرفة دلائل الفقه الإجمالية ومعرفة كيفية الاستفادة منها ومعرفة حال المستفيد؛ فأما دلائل الفقه فعقد لها خمسة كتب منها أربعة للأربعة المتفق عليها بين الأئمة, والخامس للمختلف فيها، وأما كيفية الاستفادة وهي الاستنباط فعقد لها الكتاب السادس في التعادل والترجيح، وأما حال المستفيد فعقد له للكتاب السابع في الاجتهاد، هذا بيان الاحتياج إلى الكتب السبعة، وقدم الكتب الستة التي في الدلالة والترجيح على كتاب الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد يتوقف على الأدلة وترجيح بعضها على

بعض، وقدم الكتب الخمسة المعقودة للأدلة على كتاب الترجيح؛ لأن الترجيح من صفات الأدلة فهو متأخر عنها قطعا، وقدم الكتب الأربعة التي هي في الأدلة المتفق عليها على الكتاب المعقود للأدلة المختلف فيها لقوة المتفق عليه، وقدم الكتاب والسنة والإجماع على القياس؛ لأن القياس فرع عنها، وقدم الكتاب والسنة على الإجماع لأنه فرع عنهما، وقدم الكتاب على السنة لأن الكتاب أصلها، وأما وجه الاحتياج إلى المقدمة فهو ما تقدم من أن الحكم بالإثبات والنفي موقوف على التصور، فلأجل ذلك احتاج قبل الخوض في أصول الفقه إلى مقدمة معقودة للأحكام ولمتعلقات الأحكام وهي أفعال المكلفين، فإن الحكم متعلق بفعل المكلف، وجعل المقدمة مشتملة على بابين: الأول في الحكم، والثاني فيما لا بد للحكم منه, وذكر في الباب الأول ثلاثة فصول: الأول في تعريف الحكم, والثاني في أقسامه, والثالث في أحكامه، وذكر في الباب الثاني ثلاثة فصول: الأول في الحاكم، والثاني في المحكوم عليه، والثالث في المحكوم به. واعلم أن حصر الكتاب فيما ذكره يلزم منه أن يكون تعريف الأصول والفقه، وما ذكر بعدهما من السؤال والجواب ليس من هذا الكتاب؛ لأنه لم يدخل في المقدمة ولا في الكتب، إلا أن يقال: الضمير في قوله: رتبناه, عائد إلى العلم لا الكتاب وفيه بعد وقوله: "المتفق عليه بين الأئمة" أشار به إلى أن المخالفين في هذه الأربعة ليسوا بأئمة يعتبر كلامهم، فلا عبرة بمخالفة الروافض في الإجماع، ولا بمخالفة النظام في القياس, ولا بمخالفة الدهرية في الكتاب والسنة على ما نقله عنهم ابن برهان في أول الوجيز وغيره، وقوله: "لا جرم رتبناه" أي: لأجل أن الأصول عبارة عن المعارف الثلاث كما تقدم بسطه، ولأجل أن التصور لا بد منه رتبناه على كذا وكذا، وهذا الترتيب فاسد، وصوابه: أنا رتبناه بزيادة أن كما وقع في القرآن, وذلك أن جرم فعل قال سيبويه: بمعنى حقا، والفراء وغيره بمعنى: ثبت، والذي بعدها هو فاعلها، ورتبناه لا تصلح للفاعلية؛ لأنه فعل ليس معه حرف مصدري. وقوله: "على مقدمة" المراد بالمقدمة ما تتوقف عليها المباحث الآتية، قال الجوهري في الصحاح: مقدمة الجيش -بكسر الدال: أوله، ثم قال: وفي مؤخرة الرجل وقادمته لغات، منها: مقدمة بفتح الدال شددة فيجوز هنا الوجهان؛ نظرا إلى هذين المعنيين.

الباب الأول: في الحكم

الباب الأول في الحكم: الفصل الأول: تعريفه الحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء, أو التخيير. قال: "الباب الأول في الحكم وفيه فصول, الأول وفي تعريفه: الحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء, أو التخيير" أقول: يقال: خاطب زيد عمرًا يخاطبه خطابا ومخاطبة أي: وجه اللفظ المفيد إليه، وهو بحيث يسمعه فالخطاب هو التوجيه, وخطاب الله تعالى توجيه ما أفاد إلى المستمع أو من في حكمه, لكن مرادهم هنا بخطاب الله تعالى هو ما أفاد وهو الكلام النفساني؛ لأنه الحكم الشرعي لا توجيه ما أفاد؛ لأن التوجيه ليس بحكم، فأطلق المصدر وأريد ما خوطب به على سبيل المجاز، من باب إطلاق المصدر على سم المفعول، فالخطاب جنس، وبإضافته إلى

الله تعالى خرج عنه الملائكة والجن والإنس، وهذا التقييد لا ذكر له في المحصول ولا في المنتخب ولا في التحصيل، نعم ذكره صاحب الحاصل فتبعه عليه المصنف وهو الصواب؛ لأن قول القائل لغيره: أفعل ليس بحكم شرعي مع أن الحد صادق عليه، قيل: إن هذا الحد صحيح من هذا الوجه, لكن يرد عليه أحكام كثيرة ثابتة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وبفعله وبالإجماع وبالقياس، وقد أخرجها بقوله: خطاب الله تعالى، فالجواب: أن الحكم هو خطاب الله تعالى مطلقا وهذه الأربع المعرفات له لا مثبتات، واختلفوا: هل يصدق اسم الخطاب على الكلام في الأزل؟ على مذهبين حكاهما ابن الحاجب من غير ترجيح. قال الآمدي في مسألة أمر المعدوم الحق: إنه لا يسمى بذلك, ووجهه أن الخطاب والمخاطبة في اللغة لا يكون إلا من مخاطِب ومخاطَب بخلاف الكلام، فإنه قد يقوم بذاته طلب التعلم من ابن سيولد كما ستعرفه، وعلى هذا فلا يسمى خطابا إلا إذا عبر عنه بالأصوات بحيث يقع خطابا لموجود قابل للفهم، وكلام المصنف يوافق القائل بالإطلاق؛ لأنه فسر الحكم بالخطاب والحكم قديم فلو كان الخطاب حادثا للزم تفسير القديم بالحادث وهو محال. وقوله: "المتعلق بأفعال المكلفين" احترز به عن المتعلق بذاته الكريمة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] المتعلق بالجماعات كقوله تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 10] فإنه خطاب من الله تعالى ومع ذلك ليس بحكم لعدم الأحكام في الأزل أنها متعلقة مجازا؛ لأنها تئول إلى التعلق وقد قال الغزالي في مقدمة المستصفى: إنه يجوز دخول المجاز والمشترك في الحد إذا كان السياق مرشدا إلى المراد، فإن قيل: تقييده المتعلق بالفعل يخرج المتعلق بالاعتقاد كأصول الدين وبالأقوال كتحريم الغيبة والنميمة، ويخرج أيضا وجوب النية وشبهها مع أن الجميع أحكام شرعية، قلنا: يمكن حمل الفعل على ما يصدر من المكلف وهو أعم، وأجاب بعضهم عن أصول الدين بأن المحدود هو الحكم الشرعي الذي هو فقه لا مطلق الحكم الشرعي، فإن أصول الفقه لا يتكلم فيها إلا الحكم الشرعي الذي هو فقه. وقوله: "بالاقتضاء أو التخيير" الاقتضاء هو الطلب، وهو ينقسم إلى: طلب فعل وطلب ترك، وأما التخيير فهو الإباحة، فدخلت الأحكام الخمسة في هذين اللفظين واحترز بذلك عن الخبر إن كان جازما فهو الإيجاب وإلا فهو الندب، وطلب الترك إن كان جازما فهو التحريم، وإلا فهو الكراهة, كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] فإن القيود وجدت فيه مع أنه ليس بحكم شرعي لعدم الطلب والتخيير، وهذا التعريف رسم لأحد. قال الأصفهاني في شرح المحصول: لأن أو مذكورة فيه وليست للشك، بل المراد أن ما وقع على أحد هذه الوجوه, فإنه يكون حكما كما سيأتي، والنوع الواحد يستحيل أن يكون له فصلان على البدل بخلاف الخاصتين على البدل كما تقرر

في علم المنطق؛ ولهذا المعنى عبر المنصف بقوله الأول في تعريفه ولم يقل في حده؛ لأن التعريف يصدق على الرسم فافهمه، وفي التعريف المذكور نظر من وجوه: أحدها: ما أورده الأصفهاني في شرح المحصول وهو أن الكلام صفة حقيقية من صفات الله تعالى والحكم الشرعي ليس من الصفات الحقيقية, بل من الصفات الإضافية كما هو مقرر في علم الكلام, فامتنع أن يكون الحكم عبارة عن الكلام القديم، فبطل قولهم: الحكم خطاب الله تعالى، الثاني: أن الحكم غير الخطاب الموصوف بل هو دليله؛ لأن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78] ليس نفس وجوب الصلاة بل هو دال عليه. ألا ترى أنهم يقولون: الأمر المطلق يدل على الجوب، والدال غير المدلول، الثالث من الأحكام الشرعية: ما هو متعلق بفعل مكلف واحد كخصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- والحكم بشهادة خزيمة وحده، وإجزاء الأضحية بالعتاق في حق أبي بردة وحده، وذلك كله خارج عن الحد لتقييده بالمكلفين, فإنه جمع محلى بالألف واللام وأقله ثلاثة إن قلنا: لا يعم فلو عبر بالمكلف لصح حمله على الجنس، وقد يجاب بأن الأفعال والمكلفين متعددان، ومقابلة المتعدد بالمتعدد قد تكون باعتبار الجمع بالجمع، أو الآحاد بالآحاد كقولنا: ركب القوم دوابهم، الرابع: أنه يخرج من هذا الحد كثير من الأحكام الشرعية كالصلاة الصبي وصومه وحجه, فإنها صحيحة ويثاب عليها، والصحة حكم شرعي، ومع ذلك فإنها متعلقة بفعل غير مكلف، الخامس: أورده القشواني في التلخيص فقال: إن هذا الحد يلزم منه الدور, فإن المكلف من تعلق به حكم الشرع ولا يعرف الحكم الشرعي إلا بعد معرفة المكلف؛ لأنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلف، ولا يعرف المكلف إلا بعد معرفة الحكم الشرعي؛ لأنه من يطالب بحكم الشرع، وأجاب الأصفهاني في شرح المحصول بأن المراد بالمكلف البالغ العاقل وهما لا يتوقفان على الخطاب فلا دور, وفيه نظر لأنه عناية بالحد، ولأن المكلف من قام بالتكليف وهو الإلزام، ولأنه قد يبلغ ويعقل ولا يكلف لعدم وصول الحكم إليه. قال: "قالت المعتزلة: خطاب الله تعالى قديم عندكم، والحكم حادث لأنه يوصف به, ويكون صفة العهد, ومعللا به كقولنا: حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق، وأيضا فموجبية الدلوك ومانعية النجاسة وصحة البيع وفساده خارجة عنه، وأيضا فيه الترديد وهو ينافي التحديد" قوله: أوردت المعتزلة على هذا الحد الذي لأصحابنا ثلاثة أسئلة: "أحدها": أن خطاب الله تعالى قديم والحكم حادث وإذا كان أحدهما قديما والآخر حادثا فكيف يصح أن تقولوا: الحكم خطاب الله تعالى؟ فأما قدم الخطاب فلا حاجة إلى دليل عليه؛ لأنكم قائلون به، وذلك لأن خطاب الله تعالى هو كلامه، ومذهبكم أن الكلام قديم، وإلى هذا أشار بقوله: عندكم، وأما حدوث الحكم فالدليل عليه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يوصف بالحدوث كقولنا: حلت المرأة بعدما لم تكن حلالا, فالحل من الأحكام الشرعية وقد وصف بأنه لم يكن وكان, وكل ما لم يكن وكان فهو حادث، وإليه أشار

بقوله: لأنه يوصف به أي: لأن الحكم يوصف بالحدوث, الثاني: أن الحكم يكون صفة فعل العبد كقولنا: هذا وطء حلال, فالحل حكم شرعي وجعلناه صفة للوطء الذي هو فعل العبد وفعل العبد حادث، وصفه الحادث أولى بالحدوث لأنها إما مقارنة للموصوف أو متأخرة عنه، وإليه أشار بقوله: ويكون صفة لفعل العبد, الثالث: أن الحكم الشرعي يكون معللا بفعل العبد كقولنا: حلت المرأة بالنكاح وحرمت بالطلاق, فالنكاح علة للإباحة الطلاق علة للتحريم، والنكاح والطلاق حادثان؛ لأن النكاح هو الإيجاب والقبول والطلاق قول الزوج: طلقت، وإذا كانا حادثين كان المعلول حادثا بطريق الأول؛ لأن المعلول إما مقارن لعلته أو متأخر عنها، وإليه أشار بقوله: ومعللا به أي: ويكون الحكم معللا به أي: بفعل العبد. "السؤال الثاني": أن هذا الحد غير جامع لأفراد المحدود كلها؛ لأن خطاب الوضع وهو جعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا, خارج عنه؛ لأنه لا طلب فيه ولا تخيير، فمن ذلك موجبية الدلوك وهو كون دلوك الشمس موجبا للصلاة فإنه حكم شرعي؛ لأنا لم نستفدها إلا من الشارع، وكونه موجبا لا طلب فيه ولا تخيير، ودلوك الشمس: زوالها وقيل: غروبها، قاله الجوهري. وقال الآمدي في القياس: إنه طلوعها، ومنها مانعية النجاسة للصلاة والبيع أي: كونها مانعة من الصحة, فإنها حكم شرعي لأنا استنفدنا ذلك من الشارع، وكونها مانعة لا طلب فيه ولا تخيير، ومنها الصحة والفساد أيضا لما قلناه. "السؤال الثالث" وقد أسقطه صاحب التحصيل: أن الحد فيه أو وهي موضوعة للتردد أي: للشك، والمقصود من الحد إنما هو التعريف فيكون الترديد منافيا للتحديد. قال: "قلنا: الحادث التعلق والحكم يتعلق بفعل العبد لا صفته كالقول المتعلق بالمعلومات، والنكاح والطلاق ونحوهما معرفات له كالعالم للصانع والموجبية والمانعية أعلام الحكم لا هو, وإن سألتم فالمعنى بهما اقتضاء الفعل والترك وبالصحة إباحة الانتفاع وبالبطلان حرمته والترديد في أقسام المحدود لا في الحد" أقول: أجاب المصنف عن الاعتراض الأول وهو قولهم: كيف تقولون: إن الحكم هو الخطاب مع أن الخطاب قديم والحكم حادث؟ فقال: لا نسلم أن الحكم حادث بل هو قديم أيضا كالخطاب، وحينئذ فيصح قولنا: الحكم خطاب الله تعالى، أما قولهم في الدليل الأول على حدثه: إن الحكم يوصف بالحدوث، كقولنا: حلت المرأة بعد أن لم تكن فليس كذلك؛ لأن معنى قولنا: الحكم قديم كما قال في المحصول، هو أن الله تعالى قال في الأزل: أذنت لفلان أن يطأ فلانة مثلا, إذا جرى بينهما نكاح وإذا كان هذا معناه, فيكون الحل قديما لكنه لا يتعلق به إلا بوجود القبول والإيجاب، وحينئذ فقولنا: حلت المرأة بعد أن لم تكن معناه تعلق الحل بعد أن لم يكن, فالموصوف بالحدوث إنما هو التعلق وإلى هذا أشار بقوله: قلنا: الحادث التعلق، وأما قولهم في الدليل الثاني على حدوثه: إن الحكم يكون صفة لفعل العبد كقولنا: هذا وطء حلال, فلا نسلم أن هذا صفة. قال في المحصول: لأنه لا معنى لكون الفعل

حلالا إلا قول الله تعالى: رفعت الحرج عن فاعله، فحكم الله تعالى هو هذا القول وهو متعلق بفعل العبد, ولا يلزم من كون القول متعلقا بشيء أن يكون صفة لذلك الشيء، فإنا إذا قلنا: شريك البارئ معدوم كان هذا القول الوجودي متعلقا بشريك الإله وهو معدوم فلو كان صفة له لكان شريك الإله متصفا بصفة وجودية وهو محال؛ لأن ثبوت الصفة فرع عن ثبوت الموصوف، وإلى هذا أشار بقوله: والحكم متعلق ... إلخ. وأما قولهم في الدليل الثالث: إن الحكم الشرعي يكون معللا بفعل العبد كقولنا: حلت بالنكاح ويلزم من حدوث العلة حدوث المعلول، فلا نسلم أن النكاح والطلاق والبيع والإجارة وغير ذلك من أفعال العباد علل للأحكام الشرعية بل معرفات لها, إذ المراد من العلة في الشرعيات إنما هو المعرف للحكم، ويجوز أن يكون الحادث معرفا للقديم كما أن العالم المعروف للصانع سبحانه وتعالى؛ لأنا نستدل على وجوده به، وللعالم بفتح اللام وهو الخلق والجمع: العوالم قاله الجوهري, وإلى هذا أشار بقوله: النكاح والطلاق. قوله: "والموجبية والمانعية أعلام" جواب عن الاعتراض الثاني وهو قولهم: إن هذا الحد غير جامع؛ لأنه قد خرج منه هذه الأحكام التي لا اقتضاء فيها ولا تخيير، فقال: لا نسلم أن الموجبية والمانعية من الأحكام بل من العلامات على الأحكام؛ لأن الله تعالى جعل زوال الشمس علامة على وجوب الظهر ووجود النجاسة علامة على بطلان الصلاة وإن سلمنا أنهما من الأحكام فليسا خارجين من الحد؛ لأنه لا معنى لكون الزوال موجبا إلا طلب فعل الصلاة، ولا معنى لكون النجاسة مانعة إلا طلب الترك، ولا نسلم أيضا أن الصحة والبطلان خارجان عن الحد، فإن المعنى بالصحة إباحة الانتفاع، والمعنى بالبطلان حرمته، فاندرجا في قولنا: بالاقتضاء أو التخيير، وإنما عبر في السؤال بالفساد، وفي الجواب بالبطلان إعلاما بالترادف. واعلم أن في موجبية الدلوك ثلاثة أمور, أحدها: وجوب الظهر ولا إشكال في أنه من الأحكام، والثاني: نفس الدلوك وهو زوال الشمس وليس حكما بلا نزاع بل علامة عليه، والثالث: كون الزوال موجبا الشرع وأنه لا معنى للشرعي إلا ذلك، وإذا كان كذلك فكيف يحسن الجواب بأنه علامة على الحكم؟ إنما العلامة هو نفس الزوال وكذلك القول في المانعية، وأما دعواه أن المعنى بهما اقتضاء الفعل والترك فممنوع أيضا؛ لأن الموجبية غير الوجوب والمانعية غير المنع قطعا كما بيناه، وأما دعواه أن الصحة هي الإباحة فينتقض بالمبيع إذا كان الخيار فيه للبائع فإنه صحيح ولا يباح للمشتري الانتفاع به، وأيضا يقال له: صحة العبادات داخلة في أي الأحكام الخمسة، فالصواب ما سلكه ابن الحاجب وهو زيادة قيد آخر في الحد وهو الوضع فيقال: بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. قوله: "والترديد في أقسام المحدود لا في الحد" جواب عن الاعتراض الثالث وهو قولهم: إن في الحد صيغة أو وهي للشك، فقال: لا نسلم وقوع الشك في الحد

لأن أو ههنا ليست للشك بل هي لأقسام المحدود وهو الحكم، كما تقول: الكلمة: اسم أو فعل أو حرف يدل عليه تعبيركم بالترديد ولا بالتردد, فإن قولنا: تردد في الشيء ترددا يستدعي الشك فيه بخلاف ردد بين الشيئين ترديدا, فإنه لا يستلزمه لصحة استعماله في التقسيم, وفي تعبير المصنف نظر لأنه إن عنى بالترديد ما قلناه فهو واقع في أجزاء الحد ضرورة فكيف يقول: لا في الحد، وإن عنى به الشك فهو منتفٍ عن أقسامه قطعا، ولو اقتصر على قوله: والتردد في أقسام المحدود لاستقام، وقد يجاب عن هذا بأن يقال: المراد بالتردد التقسيم كمما قلناه ولا نسلم أنه واقع في الحد وذلك لأن الترديد إنما هو في أحدهما معين وأحدهما معين أخص من أحدهما مطلقا, فيكون غيره وأحدهما مطلقا هو المعتبر في الحد, ولم يقع فيه ترديد فلا ترديد في الحد, إنما الترديد في الاقتضاء والتخيير اللذين هما من أقسام المحدود الذي هو الحكم, وإلى هذا أشار في المحصول فإنه أجاب عن أصل السؤال بقولنا: قلنا: مرادنا أن كل ما وقع على أحد الوجوه كان حكما.

الفصل الثاني: تقسيماته

الفصل الثاني: تقسيماته التقسيم الأول: قال: "الفصل الثاني في تقسيماته، فالأول: الخطاب إن اقتضى الوجود ومنع النقيض فوجوب, وإن لم يمنع لندب وإن اقتضى الترك بمنع النقيض فحرمة وإلا فكراهة, وإن خير فإباحة" أقول: لما فرغ من تعريف الحكم شرع في تقسيماته وهو ينقسم باعتبارات مختلفة إلى تقسيمات ستة، الأول: باعتبار الفصول التي صيرت أقسامه أنواعا خمسة، فقول في تقسيمه أي: في تقسيم الحكم ثم إنه لما قدم أن الحكم هو خطاب الله تعالى ... إلخ صح التقسيم في الخطاب وأن كلامه في تقسيم الحكم وقرن الخطاب بالألف واللام لإفادة المعهود السابق وهو خطاب الله تعالى, وحاصله: أن خطاب الله تعالى قد يكون فيه اقتضاء، وقد يكون فيه تخيير كما تقدم، فإن اقتضى شيئا نظر إن اقتضى وجوب الفعل ومنع من نقيضه وهو الترك، فإنه الوجوب وإن اقتضى الوجود ولم يمنع من الترك فهو الندب، وإن اقتضى الفعل ومنع من نقيضه وهو الإتيان به فهو الحرمة, وإن اقتضى الترك لكن لم يمنع من الإتيان به الكراهة، وإن كان الخطاب لا يقتضي شيئا بل خيرنا بين الإتيان والترك فهو الإباحة، وهذا التقسيم يعلم منه الحدود, فالإيجاب مثلا طلب الفعل مع المنع من الترك، وأمثلة الباقي لا تخفى وهو تقسيم محدد لا إيراد عليه لكن تعبير المصنف بالوجوب والحرمة لا يستقيم بل الصواب الإيجاب والتحريم؛ لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى كما تقدم, والخطاب إنما يصدق على الإيجاب والتحريم لا على الوجوب والحرمة؛ لأنهما مصدر وجب وحرم, والإيجاب والتحريم مصدران لأوجب وحرم بتشديد الراء, فمدلول خاطبنا الله تعالى بالصلاة مثلا هو أوجبها علينا وليس مدلوله وجبت، نعم إذا أوجبها فقد وجبت وجوبا قال: "ويرسم الواجب بأنه الذي يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا, ويرادفه الفرض وقالت الحنفية: الفرض ما ثبت بقطعي والواجب بظني".

أقول: المعرفات للماهية خمسة: الحد التام, والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ أشهر منه، فالحد التام هو التعريف بالجنس، والفصل، كقولنا في الإنسان: إنه الحيوان الناطق، والحد الناقص كالتعريف بالفصل وحده كقولنا: الناطق, والرسم التام هو التعريف بالجنس والخاصة كقولنا: الإنسان حيوان ضاحك، أو كاتب فالضحك معنى خاص بالإنسان والتبديل باللفظ الأشهر كقولنا: البر هو القمح، إذا علمت ذلك فالأحكام الخمسة لها حدود ورسوم فالتقسيم السابق، ذكره المصنف لمعرفة حدودها كما تقدمت الإشارة إليه، ثم شرع الآن في التعريف بالخواص فلذلك قال: ويرسم ولكنه لم يرسم نفس الأحكام، بل رسم الأفعال التي تعلقت بها هذه الأحكام، فإن الفعل الذي تعلق به الوجوب هو الواجب، والذي تعلق به الندب هو المندوب، والذي تعلق به التحريم هو الحرام، والذي تعلقت به الكراهة هو المكروه، والذي تعلقت به الإباحة هو المباح، وهذا الرسم نقله في المحصول عن اختيار القاضي أبي بكر، ولم يصرح باختياره, نعم صرح بذلك في المنتخب فقال: إنه الصحيح من الرسوم لكن فيه تغيير ستعرفه، فقوله: الذي يذم أي: الفعل الذي يذم فالفعل جنس للخمسة، وقوله: يذم احترز عن المندوب والمكروه والمباح لأنه لا ذم فيها، قال في المحصول تبعا للغزالي في المستصفى: وهو خير من قولنا: يعاقب تاركه لجواز العفو ومن قولنا: يتوعد بالعقاب على تركه؛ لأن الحلف في خبره محال فيلزم أن لا يوجد العفو ومن قولنا: لا يخالف العقاب على تركه؛ لأن المشكوك في وجوبه غير واجب مع وجوب الخوف والمراد بقولنا: يذم تاركه أن يرد في كتاب الله تعالى، أو في سنة رسوله، أو إجماع الأمة ما يدل على أنه بحالة لو تركه لكان مستنقصا وملوما بحيث ينتهي الاستنقاص واللوم إلى حد يصلح لترتب العقاب، وقوله: شرعا قال في المحصول: هو إشارة إلى أن الذم عندنا لا يثبت إلا بالشرع على خلاف ما قاله المعتزلة، وقوله: تاركه احتراز عن الحرام فإنه يذم شرعا فاعله لا قوله قصدا، فيه تقريران موقوفان على مقدمة وهي أن هذا التعريف إنما هو بالحيثية أي: هو الذي بحيث لو ترك للذم تاركه إذ لو لم يكن قيد الحيثية لاقتضى أن كل واجب لا بد من حصول الذم على تركه وحصول الذم على تركه موقوف على تركه, فيلزم من ذلك أن الترك لا بد منه وهو باطل. إذا عرفت ذلك فأحد التقريرين أنه إنما أتى بالقصد؛ لأنه شرط لصدق هذه الحيثية إذ التارك لا على سبيل القصد لا يذم, والثاني أنه احترز به عما إذا مضى من الوقت مقدار يتمكن فيه من إيقاع الصلاة ثم تركها بنوم أو نسيان أو موت, فإن هذه الصلاة واجبة لأن الصلاة تجب عندنا بأول الوقت وجوبا موسعا بشرط الإمكان كما سيأتي في الواجب للوسع, وقد تمكن ومع ذلك لم يذم شرعا تاركها؛ لأنه ما تركها قصدا فأتى بهذا القيد لإدخال هذا الواجب في الحد ويصير به جامعا، ولا ذكر له في المحصول والمنتخب ولا في التحصيل

والحاصل، وقوله: مطلقا فيه أيضا تقريران موقوفان أيضا على مقدمة, وهي أن الإيجاب باعتبار الفاعل قد يكون على الكفاية كالجنازة, وقد يكون على العين كالصلوات الخمس, وباعتبار المفعول قد يكون مخيرا كخصال الكفارة, وقد يكون محتما كالصلاة أيضا، وباعتبار الوقت المفعول فيه قد يكون موسعا كالصلاة، وقد يكون مضيقا كالصوم، فإذا ترك الصلاة في أول وقتها صدق أنه ترك واجبا إذ الصلاة تجب بأول الوقت، ومع ذلك لا يذم عليها إذ أتى بها في أثناء الوقت ويذم إذا أخرجها عن جميع الوقت إذا ترك إحدى خصال الكفارة, فقد ترك ما يصدق عليه أنه واجب، مع أنه لا ذم فيه إذا أتى بغيره، وإذا ترك صلاة الجنازة فقد ترك ما هو واجب عليه؛ لأن فرض الكفاية يتعلق بالجميع ولا يذم عليه إذا فعله غيره، بخلاف تارك إحدى الصلوات الخمس فإنه مذموم سواء وافقه غيره أم لا إذا عرف بذلك, فنعود إلى ذكر التقريرين أحدهما: أن قوله: مطلقا عائد إلى الذم وذلك لأنه قد تلخص أن الذم على الواجب الموسع، والواجب المخير، والواجب على الكفاية من وجه دون وجه، والذم على الواجب المضيق والمحتم، والواجب على العين من كل وجه؛ فلذلك قال: مطلقا أي: سواء كان الذم من بعض الوجوه أو من كلها, فلو لم يذكر ذلك لقيل له: من ترك صلاة الجنازة مثلا لإتيان غيره بها, فقد ترك واجبا عليه مع أنه لا يذم أو يقال له: الآتي بها آت بالواجب مع أنه لو تركه لم يذم وأنت قد قلت: إن الواجب ما يذم تاركه, فلما ذكر هذا القيد اندفع الاعتراض لأنه وإن كان لا يذم عليه من هذا الوجه فيذم عليه من وجه آخر، وهو ما إذا تركه هو وغيره وبه صار الحد جامعا للواجب الموسع، والواجب المخير، والواجب على الكفاية، وعبر عنه الإمام في المحصول والمنتخب بقوله: على بعض الوجوه، وتبعه صاحب التحصيل، لكن صاحب الحاصل أبدله بقوله: مطلقا فتبعه المصنف وهو أحسن من عبارة الإمام؛ لأن القيود لا بد أن تخرج أضدادها فالتقييد بالبعض يخرج ما يذم تاركه من كل وجه, فيلزم أن يخرج من الحد أكثر الواجبات وهي المضيقة والمحتمة وفروض الأعيان, لا جرم أن في بعض مقطوعا كان أو مظنونا, فالتخصيص تحكم، قال الفنري: وفيه نظر, إذ المظنون لما لم يعلم تقديره علينا، كيف يقال: إنه فرض أي: مقدر علينا؟ والمقطوع لما كان معلوم التقدير كيف يقال: إنه ساقط؟ أقول: الحكم بأنه مقدر علينا لا يتوقف على القطع بل يكتفي فيه الظن، وكون الشيء معلوم التقدير لا ينافي السقوط علينا بمعنى النسخ، ولو على بعض الوجوه بزيادة: ولو. الثاني: أن مطلقا عائد إلى الترك والتقدير: تركا مطلقا ليدخل المخير والموسع وفرض الكفاية, فإنه إذا ترك فرض الكفاية لا يأثم وإن صدق أنه ترك واجبا وكذلك الآتي به آتٍ بالواجب مع أنه لو تركه لم يأثم وإنما يأثم إذا حصل الترك المطلق أي: منه ومن غيره، وهكذا في الواجب المخير والموسع، ودخل فيه أيضا الواجب المحتم، والمضيق, وفروض العين؛ لأن كل ما ذم الشخص عليه إذا تركه وحده ذم

عليه أيضا إذا تركه هو وغيره. قوله: "ويرادفه الفرض" أي: الفرض والواجب عندنا مترادفان, وقالت الحنفية: إن ثبت التكليف بدليل قطعي مثل الكتاب والسنة المتواترة فهو الفرض كالصلوات الخمس، وإن ثبت بدليل ظني كخبر الواحد والقياس فهو الواجب, ومثلوه بالتواتر على قاعدتهم، فإن ادعوا أن التفرقة شرعية أو لغوية فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيه وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحة في الاصطلاح, قال في الحاصل: والنزاع لفظي. قال: "والمندوب ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه, ويسمى سنة ونافلة". أقول: المندوب في اللغة هو المدعو إليه، قال الجوهري: يقال: ندبه لأمر فانتدب له أي: دعاه له فأجاب قال الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال براهانا فسمي النفل بذلك لدعاء الشرع إليه، وأصله المندوب إليه، ثم توسع فيه بحذف حرف الجر فاستكن الضمير، وفي الاصطلاح ما قاله المصنف قوله: "ما يحمد فاعله" أي: الفعل الذي يمدح فاعله, فالفعل جنس وقوله: يمدح خرج به المباح فإنه لا مدح فيه "هو ولا ذم" وقوله: فاعله خرج به الحرام والمكروه فإنه يمدح تاركهما والمارد بالفعل هنا هو الصادر من الشخص ليعم الفعل المعروف، والقول نفسانيا كان أو لسانيا فتدخل الأذكار القلبية اللسانية وغيرها من المندوبات وإلا يكون الحد غير جامع، وقوله: ولا يذم تاركه, خرج به الواجب فإن تاركه يذم, فإن قيل: فرض الكفاية يمدح فاعله ولا يذم تاركه مع أنه فرض, ولهذا احتجنا إلى إدخاله في حد الواجب كما تقدم, وكان ينبغي أن يقول مطلقا، وكذلك أيضا خصال الكفارة والواجب الموسع. قلنا: قوله: ولا يذم كافٍ؛ لأنه للعموم لكونه نكرة في سياق النفي, إذ الأفعال كلها نكرات تعم يدخل في الحد فعل الله تعالى مع أنه ليس مندوبا إلا أن يقال: يحمل الفعل على فعل المكلف وهو عناية في الحد ويسمى المندوب سنة ونافلة, قال في المحصول: ويسمى أيضا مستحبا وتطوعا ومرغبا فيه وإحسانا ومنهم من يبدل هذا بقوله: حسنا قال: "والحرام: ما يذم شرعا فاعله، والمكروه: ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله, والمباح: ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم". أقول: المراد بقوله: ما يذم أي: الفعل الذي يذم فالفعل جنس للأحكام الخمسة وقوله: يذم احترز به عن المكروه والمندوب والمباح, فإنه لا ذم فيها وقوله: شرعا إشارة إلى أن الذم لا يكون إلا بالشرع على خلاف ما قاله المعتزلة. وقوله: فاعله احترز به عن الواجب فإنه يذم تاركه والمراد بالفعل هو الشيء الصادر من الشخص, والفاعل هو المصدر له ليعم الغيبة والنميمة وغيرهما من الأقوال المحرمة، وكذلك الحقد والحسد وغيرهما من الأعمال القلبية ولك أن تقول: هذا الحد يرد عليه الحرام المخير عند من يقول به, وهم الأشاعرة كما نقله عنهم الآمدي وغيره فينبغي أن يقول: مطلقا كما قاله في حد الواجب, قال في المحصول: ويسمى

الحرام أيضا معصية وذنبا وقبيحا ومزجورا عنه ومتوعدا عليه من الشرع. قوله: "والمكروه: ما يمدح تاركه" أي: فعل يمدح تاركه، فالفعل جنس للأحكام الخمسة قوله: "يمدح" خرج به المباح فإنه لا مدح فيه قوله: "تاركه" خرج به الواجب والمندوب قوله: "ولا يذم فاعله" خرج به الحرام، أما المباح فهو في اللغة عبارة عن الموسع فيه، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف بقوله: ما أي فعل وهو جنس للخمسة وقوله: لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم خرج به الأربعة, فإن كلا منها تعلق بفعله أو تركه مدح أو ذم، فإن الواجب تعلق بفعله المدح، وبتركه الذم, والحرام عكسه والندب تعلق بفعله المدح ولم يتعلق بتركه الذم، والمكروه عكسه أي: تعلق بتركه المدح ولم يتعلق بفعله الذم، وهذه الألفاظ الأربعة التي ذكرها المصنف وهي: الفعل والترك والمدح والذم، بد من كل واحد منها إلا الذم؛ لأنه لو قال: ما لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم لكان يرد عليه المكروه, فإن فعله لا مدح فيه ولا ذم، ولو قال: ما يتعلق بتركه مدح ولا ذم لكان يرد عليه المندوب ولو أتى بهما أيضا ولكنه حذف المدح فقال له: ما لا يتعلق بفعله وتركه ذم لكان يرد عليه المكروه والمندوب، وأما الذم فإنه لو حذفه فقال: ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح لما كان يرد عليه شيء، فهي إذًا زيادة في الحد والحدود تصان عن الحشو والتطويل، وأيضا فقد تقدم أن هذه رسوم للأفعال التي تعلقت بها الأحكام الشرعية وتقدم أن تلك الأفعال هي أفعال المكلفين، فيكون المباح قسما من أفعال المكلفين، وعلى هذا فأفعال غير المكلفين كالنائم والساهي، ليست من المباح مع أن الحد صادق عليها فالحد إذًا غير مانع، وأيضا فقد تعرض المصنف بقوله: شرعا في رسمي الواجب والحرام دون رسم المندوب والمكروه والمباح, مع أن المدح على الفعل في المندوب وعلى الترك في المكروه لا يثبت عندنا إلا بالشرع، وكذلك نفي المدح والذم عن المباح، فالصواب ذكرها في الجميع كما فعله صاحب الحاصل والتحصيل، نعم في المحصول كما في المنهاج إلا أنه أشار إليه في المندوب أيضا وقد وقعت هنا أغلاط في عدة من الشروح المشهورة فاجتنبها، قال في المحصول: ويسمى المباح أيضا طلاقا وحلالا.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني: قال: "الثاني: ما نهي عنه شرعا فقبيح وإلا فحسن, كالواجب والمندوب والمباح وفعل غير المكلف، والمعتزلة قالوا: ما ليس للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله وما له أن يفعله, وربما قالوا: الواقع على صفة توجب الذم أو المدح، فالحسن بتفسيرهم الأخير أخص" أقول: هذا القسم ليس داخلا في المقسم أو لأن المقسم في قوله: الفصل الثاني في تقسيمه إنما هو الحكم، والقبيح والحسن من الأفعال لا من الأحكام, وهو رد التقسيم لا بد أن يكون مشتركا بين أقسامه وأعم منها، وإن شئت قلت: لا بد أن يكون صادقا عليها ومغايرا لها، لا جرم أن صاحب الحاصل قال: الفصل الثاني في تقسيم الأحكام ومتعلقاتها, لكن في المحصول والتحصيل كما في المنهاج، ولعل العذر في

ذلك أن تقسيم الفعل الذي تعلق به الحكم يستلزم تقسيم الحكم إلى نهي وغيره، وحاصل ما قاله المصنف: أن الفعل إن نهى الشارع عنه فهو القبيح كالمحرم والمكروه, وإن لم ينه عنه فهو الحسن ويندرج فيه أفعال المكلفين كالواجب والمندوب والمباح، وأفعال غيرهم كالساهي والصبي والنائم والبهائم، وكذلك أفعال الله تعالى كما قال في المحصول ومختصراته، وليس في هذه الكتب تصريح بأن المكروه من القبيح أو من الحسن, لكن إطلاقهم النهي يقتضي إلحاقه بالقبيح، ويؤيده أنهم لما عدوا الأشياء التي تضمنها الحسن لم يعدوه منها، وفي كلام المصنف نظر من وجهين، أحدهما: أنه قد تقرر أن هذا التقسيم إنما هو في متعلقات الحكم الشرعي، ومتعلقاته هي أفعال الملكفين, كما علم في حد الحكم وحينئذ فيكون قد قسم أفعال المكلفين إلى الحسن والقبيح، ثم قسم الحسن إلى أشياء منها أفعال غير المكلفين, فيلزم أن تكون أفعال المكلفين تنقسم إلى أفعال غير المكلفين وهو معلوم البطلان، الثاني: أن فعل غير المكلف لا يخلو إما أن يكون عنده من قسم المباح أم لا، فإن كان فلا حاجة إلى قوله والمباح وفعل غير المكلف، وإن لم يكن عنده من المباح وهو الذي صرح به غيره فيكون الحد المتقدم للمباح فاسدا، فإنه قد حده بما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم، وفعل غير المكلف يصدق عليه بذلك، والإشكالان كلاهما واردان هنا على الإمام وأتباعه. "قوله: والمعتزلة قالوا" يعني أن المعتزلة خالفوا فقالوا: القبيح هو الفعل الذي ليس للقادر عليه أن يفعله إذا كان عالما بصفته من المفسدة الداعية إلى تركه كالكذب الضار, أو المصلحة الداعية إلى فعله كالصدق النافع, وأما الحسن فهو الفعل الذي للقادر عليه العالم بصفته أن يفعله, وإلى هذا أشار بقوله: "وما له" أي: وما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله فهو الحسن ولكنه اختصر لدلالة ما تقدم عليه، فدخل في حد القبيح الحرام فقط، وفي حد الحسن الواجب والمندوب والمكروه والمباح وفعل الله تعالى، وقد علم من هذا أنه إذا لم يكن الفعل مقدورا عليه كالعاجز عن الشيء والملجأ إليه فإنه لا يوصف عندهم بحسن ولا قبح، وكذلك ما لم يعلم حاله كفعل الساهي والنائم والبهائم. قوله: "وربما قالوا" أي وربما ذكرت المعتزلة عبارة أخرى في حد القبيح والحسن, فقالوا: القبيح هو الفعل الواقع على صفة توجب الذم، والحسن هو الفعل الواقع على صفة توجب المدح، فدخل في حد القبيح الحرام فقط، وفي حد الحسن الواجب والمندوب دون المكروه والمباح, إذ لا مدح في فعلهما مع أنهما قد دخلا في حدهم الأول للحسن؛ لأن القادر عليهما له أن يفعلهما فتلخص أن الحسن بتفسير المعتزلة ثانيا أخص منه بتفسيرهم أولا, وذلك لأن كل ما كان واقعا على صفة توجب المدح فللقادر عليه العالم بحاله أن يفعله, ولا ينعكس بدليل المكروه والمباح، وأما القبيح فحدهم الأول مساوٍ لحدهم الثاني، وهذا التقرير اعتمده فإن طائفة من الشارحين قد قررته على غير الصواب.

التقسيم الثالث

التقسيم الثالث: قال: "الثالث قبل الحكم إما سبب أو مسبب, كجعل الزنا سببا لإيجاب الجلد على الزاني, فإن أريد بالسببية الإعلام فحق وتسميتها حكما بحث لفظي, وإن أريد التأثير فباطل لأن الحادث لا يؤثر في القديم، ولأنه مبني على أن للفعل جهات توجب الحسن والقبح وهو باطل". أقول: هذا تقسيم ثالث للحكم باعتباره صفة عارضة هو كونه علة ومعلولا، واختلف الناس في القائل بهذا التقسيم فنقله الأصفهاني في شرح المحصول عن الأشاعرة، وهو مقتضى كلام صاحب الحاصل، فإن عبارته: قال الأصحاب, ولعل القائل به منهم هو الغزالي وغيره ممن يرى أن الأسباب الشرعية مؤثرات بجعل الشارع، وقال الأيجي شارح الكتاب: إن هذا التقسيم للمعتزلة ولعله الأقرب, فإنه قد تقدم نقله عنهم في الاعتراضات على حد الحكم، ولعل المصنف استشعر هذا الاختلاف فبناه للمفعول فقال قبل الحكم، وعبارة المحصول والتحصيل قالوا: الحكم، وحاصله أن طائفة قالوا: إن الحكم كما يرد بالاقتضاء أو التخيير قد يرد بجعل الشيء سببا وشرطا ومانعا، ومثلوه بالزاني فقالوا: لله تعالى في الزاني حكمان, أحدهما: جعل الزنا سببا لإيجاب الحد وهذا حكم شرعي لأنه مستفاد من الشرع من حيث إن الزنا لا يوجب الحد لعينه, بل يجعل للشرع فهو حكم سببي، والثاني: إيجاب الحد عليه وهو الحكم المسبب، إذا تقرر هذا فاعلم أن تقسيم المصنف لا يستقيم فإنه قسم الحكم إلى سبب ومسبب، والسبب هو نفس الزنا، وقد صرح به هو حيث قال: كجعل الزنا سببا، فإن ذلك تصريح بشيئين أحدهما: أن الزنا سبب، والثاني: أن جاعله كذلك هو الله تعالى، وإذا كان السبب هو الزنا فلا يمكن جعله من الأحكام بل الذي يمكن جعله منها وهو الذي ذكره صاحب هذا التقسيم إنما هو الجعل نفسه وصوابه أن يقول: إما سببي أو مسبب، وقد صرح به صاحب الحاصل فقال: السببية من أحكام الشرع. قوله: "فإن أريد بالسببية" أي: يجعل الشرع الزنا سببا لإيجاب الحد هو كونه إعلاما ومعرفا له فهو حق لا نزاع فيه، فإنه يجوز أن يقول الشارع: متى رأيت إنسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد، لكن تسمية السببية بالحكم من باب الاصطلاح وهو بحث لفظي؛ لأنه مبني على تفسير الحكم، فمن زاد فيه الوضع فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فقد جعله حكما شرعيا، ومن حذفه فليس حكما شرعيا عنده، وقد تقدم إيضاحه في حد الحكم. قوله: "وإن أريد التأثير" أي: وإن أريد بالسببية التأثير بمعنى: أن الله تعالى جعل الزنا مؤثرا في إيجاب الحد, فهو باطل من وجهين, أحدهما: أن الزنا حادث وإيجاب الحد قديم والحادث لا يؤثر في القديم؛ لأن تأثيره فيه يستدعي تأخر وجوده عنه أو مقارنته له، الثاني: أن القول بالتأثير مبني على أن الأفعال مشتملة على صفات تكون هي المؤثرة في الحكم وإلا كان تأثير الفعل في القبح دون الحسن ترجيحا بلا مرجح، وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح وهو باطل، وفي الأول نظر من وجهين: أحدهما: أن الاحتجاج بقدم الحكم لا يفيد إن كان هذا التقسيم للمعتزلة؛ لأنهم قائلون بحدوث الأحكام، الثاني: ما ذكره في التحصيل وهو أنهم قد يريدون التأثير ولكن يجعلون تأثير الزنا إنما هو في تعلق الحكم لا في نفس الحكم، وهذا كما أجبنا عن قولهم: حلت المرأة بعد أن لم تكن، بأن المراد حدث تعلق الحل والتعلق حادث, فأثر الحادث في أمر حادث.

التقسيم الرابع

التقسيم الرابع: قال "الرابع": "الصحة: استتباع الغاية وبإزائها البطلان والفساد, وغاية العبادة موافقة الأمر عند المتكلمين وسقوط القضاء عند الفقهاء, فصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة على الأول لا على الثاني، وأبو حنيفة سمى ما لم يشرع بأصله ووصفه كبيع الملاقيح باطلا، وما شرع بأصله دون وصفه كالربا فاسدا". أقول: هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار اجتماع الشروط المعتبرة في الفعل وعدم اجتماعها فيه سواء كان عبادة أو معاملة، فنقول: غاية الشيء هو الأثر المقصود منه كحمل الانتفاع بالمبيع مثلا، فإن ترتيب الغاية على الفعل وتبعته في الوجود كان صحيحا، فاستتباع الغاية هو طلب الفعل لتبعية غايته وترتيب وجودها على وجوده؛ لأن السين للطلب كاستعطى وكأنه جعل الفعل الصحيح طالبا أو مقتضيا لترتب أثره عليه مجازا، ولقائل أن يقول: المبيع قبل القبض صحيح مع أنه لم يترتب عليه حل الانتفاع، وأيضا فالخلع الفاسد والكتابة الفاسدة يترتب عليهما أثرهما, وأيضا فالخلع الفاسد والكتابة الفاسدة يترتب عليهما أثرهما من البينونة والعتق مع أنهما غير صحيحين. قوله: "وبإزائها البطلان والفساد" يعني: أن الفساد والبطلان لفظان مترادفان معناهما كون الشيء لم يستتبع غايته فعلى هذا يكون بإزاء الصحة أي: مقابلان لها يقال: جلس فلان بإزاء فلان وبحذائه أي: مقابله, أشار إلى ذلك الجوهري في الصحاح، واعلم أن دعوى الترادف مطلقا ممنوعة فإن ذلك خاص ببعض أبواب الفقه كالصلاة والبيع، وأما الحج فقد فرقنا فيه بين الفاسد والباطل، وكذلك العارية والكتابة والخلع وغيرها، وقد ذكرت تصوير هذه المسائل، وفائدة الفرق بين الصيغتين مبسوطا في باب الكتابة من التنقيح فيراجع هناك قوله: "وغاية العبادة ... إلخ" لما ذكر أن الصحة استتباع الغاية أراد أن يفسر الغاية, وهي في المعاملات عبارة عن ترتب آثارها عليها. قاله في المحصول، ولم يذكره المصنف هنا اكتفاء بما أشار إليه في أول الكتاب حيث قال: والمعنى بالصحة إباحة الانتفاع وبالبطلان حرمته، وأما الغاية في العبادات يعني صحتها، فقال المتكلمون: موافقة الأمر، وقال الفقهاء: سقوط القضاء، وفائدة الخلاف تظهر فيمن صلى على ظن الطهارة أي: وتبين له أنه محدث فإن صلاته صحيحة على رأي المتكلمين لموافقة الأمر إذ إن الشخص مأمور بأن يصلي بطهارة سواء كانت معلومة أو مظنونة، وفاسدة عند الفقهاء لعدم سقوط القضاء، فإن قيل: إن لم يتبين أنه محدث فواضح أنه لا قضاء عليه، وليس كلامكم فيه، وإن تبين وجب القضاء عند الفقهاء، وعند المتكلمين القائلين بالصحة أيضا كما

قاله في المحصول فما وجه الخلاف؟ قلنا: الخلاف في إطلاق الاسم، وممن نبه عليه القرافي ويتخرج على الخلاف صلاة فاقد الطهورين, إذ صلى الله عليه وسلم أمرنا بها، وفي تسميتها صحيحة أو باطلة خلاف لأصحاب الشافعي, حكاه الإمام في النهاية قولين والمتولي في كتاب الإيمان من التتمة وجهين، وبنى عليهما لو حلف لا يصلي, لكن تفسير الفقهاء منتقض بصلاته المتيمم في الحضر لعدم الماء والتيمم لشدة البرد وواضع الجبائر على غير طهر وغير ذلك, فإنها صحيحة مع وجوب القضاء. وأيضا فالجمعة توصف بالصحة والإجزاء ولا قضاء لها. وقوله: "وأبو حنيفة سمى ... إلخ" يعني أن الحنفية فرقوا بين الفاسد والباطل فقالوا: إن الباطل هو ما لم يشرع بأصله ولا وصفه كبيع الملاقيح وهو ما في بطون الأمهات, فإن بيع الحمل وحده غير مشروع البتة وليس امتناعه لأمر عارض، والفاسد ما كان أصله مشروعا ولكن امتنع لوصف عارض كبيع الدرهم بالدرهمين فإن الدراهم قابلة للبيع وإنما امتنع لاشتماله أحد الجانبين على الزيادة، وفائدة هذا التفصيل عندهم أن المشتري يملك المبيع في الشراء والفاسد دون الباطل. "فائدة" قال الجوهري: الملاقيح: ما في بطون الأمهات الواحدة ملقوحة من قولهم: لقحت بضم اللام كالمجنون من جن. قال: "والإجزاء هو الأداء الكافي لسقوط التعبد به وقيل: سقوط القضاء ورد بأن القضاء حينئذ لم يجب لعدم الموجب فكيف سقط, وبأنكم تعللون سقوط القضاء به والعلة غير المعلول, وإنما يوصف به وبعدمه ما يحتمل الوجهين كالصلاة لا المعرفة بالله تعالى ورد الوديعة". أقول: معنى الإجزاء وعدمه قريب من معنى الصحة والبطلان كما قال في المحصول؛ فلذلك استغنى المصنف عن إفرادهما بتقسيمهما وذكرهما عقب التقسيم المذكور للصحة والبطلان، وبين الإجزاء والصحة فرق وهو أن الصحة أعم لأنها تكون صفة للعبادات والمعاملات وأما الإجزاء فلا يوصف به إلا العبادات, فقوله: الأداء أي: الإتيان من قولهم: أديت الدين أو آتيته, ومنه قوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فيدخل فيه الأداء المصطلح عليه والقضاء والإعادة فرضا كان أو نفلا، وادعى بعض الشارحين أن القضاء والإعادة لا يوصفان بالإجزاء لاعتقاده أن المراد بالأداء هو الأداء المصطلح عليه وهو غلط وقد صرح في المحصول بلفظ الإتيان عوضا عن لفظ الأداء فدل على ما قلناه، لكن المصنف تبع في هذه العبارة صاحب الحاصل وقوله: "الكافي لسقوط التعبد به" أي: لسقوط طلبه وذلك بأن تجتمع فيه الشرائط وتنتفي عنه الموانع, واحترز به عما ليس كذلك، وقال في التحصيل إجزاء للفعل: هو أن يكفي الإتيان به في سقوط التعبد به فجعل الإجزاء هو الاكتفاء بالمأتي لا الإتيان بما يكفي, وهو الصواب لأن الاكتفاء هو مدلول الأجزاء. قال الجوهري في الصحاح: وأجزأني الشيء: كفاني. قوله: "وقيل: سقوط القضاء" يعني أن الفقهاء قالوا

الإجزاء هو سقوط القضاء وقد سبق نقله في الصحة عنهم، والصواب على هذا القول التعبير بالإسقاط لا بالسقوط, وهي عبارة الحاصل وابن الحاجب، ثم شرع المصنف في إبطاله بوجهين مستغنيا بذلك عن إبطاله في الكلام على حد الصحة, أحدهما وهو الذي أشار إليه بقوله، ورد بأن للقضاء حينئذ له يجب، وتقريره من وجهين: الأول وعليه اقتصر في المحصول والحاصل والتحصيل وغيرها أن القضاء إنما يجب بأمر جديد، فإذا أمر الشارع بعبادة ولم يأمر بقضائها فأتى بها فإنها توصف بالإجزاء مع أن القضاء حينئذ لم يجب لعدم الموجب له وهو الأمر الجديد، وإذا لم يجب لا يقال: سقط لأن السقوط فرع عن الثبوت، التقرير الثاني أن الموجب للقضاء هو خروج الوقت من غير الإتيان بالفعل فإذا أتى بالفعل في الوقت على وجهه, فقد وجد الإجزاء ولم يوجب وجوب القضاء لعدم الموجب له وهو خروج الوقت، وإذا لم يصدق وجوب القضاء لا يقال: سقط؛ لأن سقوط الشيء فرع عن ثبوته. قوله: "وبأنكم تعللون سقوط القضاء به" هذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين أبطل بهما تفسير الإجزاء بسقوط القضاء، وتقريره أنكم أيها الفقهاء تعللون سقوط القضاء بالإجزاء فتقولون: هذا سقط قضاؤه؛ لأنه أجزأ والعلة غير المعلول فيكون الإجزاء غير السقوط، فكيف تقولون: إنه هو، ولقائل أن يقول: لا يلزم من كونه علة أن لا يصح التعريف به؛ لأن هذا التعريف رسمي، والرسم يكون باللازم للماهية, واللازم غير الملزوم, واعلم أن الإمام في المحصول والمنتخب استدل بهذا الدليل على العكس مما قاله المصنف فقال: ولأنا نعلل وجوب القضاء بعدم الإجزاء والعلة غير المعلول فيكون وجوب القضاء مغايرا لعدم الإجزاء، وتبعه على ذلك في التحصيل، وما قاله المصنف أولى لأن دعوى الفقهاء اتحاد الإجزاء وسقوط القضاء وهو إنما يثبت المغايرة بين القضاء وعدم الإجزاء, فأثبت المغايرة في غير موضع دعوى الاتحاد لكن المقصود أيضا يحصل؛ لأن دعوى اتحاد الإجزاء وعدم القضاء يلزمها اتحاد عدم الإجزاء والقضاء، وقد أبطل اللازم بإثبات المغايرة بين عدم الإجزاء والقضاء، فيبطل الملزم الذي هو المدعى وهو اتحاد الإجزاء وعدم القضاء، وفإن قلت: لم عدل المصنف عن قول الإمام: لأنا نعلل, إلى قوله: لأنكم تعللون؟ قلنا: لمعنى لطيف وهو أنه لو قال: لأنا نعلل سقوط القضاء بإجزاء لكان يرد عليه ما أورده هو عليهم، وهو أن سقوط القضاء يستدعي ثبوته مع أنه غير ثابت فأسنده إلى الفقهاء لالتزامهم إطلاق هذه العبارة، وهذا لا يرد على عبارة الإمام لأنه علل وجوب القضاء بعدم الإجزاء ولا شك في أنه متى انتفى الإجزاء وجب القضاء, وهذا هو السبب في ارتكاب الإمام التكليف في إبطال الدعوى باللازم، وقد وقع صاحب الحاصل في هذا الاعتراض فقال: لأنا نعلل سقوط القضاء بالإجزاء، وكأنه استشعر أنه على غير محل النزاع فأتى به مطابقا, فوقع في اعتراض آخر، والمصنف سلم من الاعتراضين فإنه أبطل الدعوى بالمطابقة لا باللازم، كما

صنع الإمام وأسنده إلى الفقهاء فخلص من السؤال الوارد على صاحب الحاصل، وهذا من محاسن الكتاب التي غفل عن مثلها الشارحون, وهو كثير جدا وستراه إن شاء الله تعالى. قوله: "وإنما يوصف به وبعدمه" يعني: أن الذي يوصف بإلإجزاء وعدم الإجزاء هو الفعل الذي يحتمل أن يقع على وجهين, أحدهما متعدّ به شرعا لكونه مستجمعا الشرائط المعتبرة فيوصف بالإجزاء, والآخر غير متعد به لانتفاء شرط من شروطه فيوصف بعدم الإجزاء, كالصلاة والصوم والحج، فأما الذي لا يقع إلا على جهة واحدة فلا يوصف بالإجزاء وعدمه كمعرفة الله تعالى, فإنه إن عرفه بطريق ما فلا كلام وإن لم يعرفه فلا يقال: عرفه معرفة غير مجزئة؛ لأن الفرض أنه ما عرف، وكذلك أيضا رد الوديعة؛ لأنه إما أن يردها إلى المودع أو لا، فإن ردها فلا كلام وإلا فلا رد البتة. هكذا قال الإمام في المحصول وتبعه عليه صاحب التحصيل ثم المصنف وفي المعرفة صحيح، وأما في رد الوديعة فلا لأن المودع إذا حجز عليه لسفه أو جنون فلا يجزئ عليه بخلاف ما إذا لم يحجز عليه، فتخلص أن رد الوديعة يحتمل وقوعه على وجهين فالصواب حذفه كما حذفه صاحب الحاصل.

التقسيم الخامس

التقسيم الخامس: قال: "الخامس: العبادة إن وقعت في وقتها المعين ولم تسبق بأداء مختل فأداء وإلا فإعادة, وإن وقعت بعده ووجد فيه سبب وجوبها فقضاء وجب أداؤه كالظهر المتروكة قصدا, أو لم يجب وأمكن كصوم المسافر والمريض, أو امتنع عقلا كصلاة النائم, أو شرعا كصوم الحائض "فرع": ولو ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت تضيق عليه, فإن عاش وفعل في آخره فقضاء عند القاضي أبي بكر أداء عند الحجة, إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه". أقول: هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار الوقت المضروب للعبادة وحاصله: أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أي: مضبوط بنفسه محدود الطرفين أم لا فإن لم يكن لها وقت معين فلا توصف بالأداء ولا بالقضاء سواء كان لها سبب كالتحية وسجود التلاوة وإنكار المنكر وامتثال الأمر. إذا قلنا: إنه على الفور أو لم يكن كالصلاة المطلقة والأذكار وقد توصف بالإعادة كمن أتى بذات السبب على نوع من الخلل فتداركها، ولم يتعرض المصنف ولا الإمام لهذا القسم وإن كان لها وقت معين فا يخلو إما أن تقع في وقتها أو قبله أو بعده فإن وقعت قبل وقتها حيث جوزه الشارع فيسمى تعجيلا كإخراج زكاة الفطر ولم يتعرض المصنف أيضا ولا الإمام لهذا القسم, وإن وقعت في وقتها فإن لم تسبق بأداء مختلّ أي بإتيان مشتمل على نوع من الخلل فهو الأداء, فأراد المصنف بالأداء المذكور أولا العناء واللغو, وبالأداء الثاني معناه الاصطلاحي, ويرد على المصنف قضاء الصوم, فإن الشارع جعل له وقتا معينا لا يجوز تأخيره عنه وهو من حين الفوات إلى رمضان السنة الثانية، فإذا فعله فيه كان قضاء مع أن حد الأداء منطبق عليه فينبغي أن يزيد أو لا فيقول في وقتها المعين أولا, وحينئذ فلا يرد لأن هذا الوقت المعين وقت ثان لا أول, وأيضا فإنه إذا وقع ركعة في الوقت كانت أداء مع أنه صلاته

لم تقع فيها بل الواقع هو البعض، فإن قيل: إذا أفسد الحج بإجماع فتداركه, فإنه يكون قضاء كما قاله الفقهاء مع أنه وقع في وقته, وهو العمر فالجواب: أنه إنما يكون العمر كله وقتا إذا لم يحرم به إحراما صحيحا, فأما إذا أحرم به فإنه يتضيق عليه ولا يجوز الخروج منه وتأخيره من عام إلى آخر يلزم من ذلك فوات وقت الإحرام به, فإذا اقتضى الحال فعله بعد ذلك فيكون قضاء للفوات بخلاف من أتى به غير منعقد, وقد سلكوا هذا المسلك بعينه في الصلاة، فقالوا: إنه إذا أحرم بالصلاة وأفسدها ثم أتى بها في الوقت فإنه يكون قضاء يترتب على جميع أحكام القضاء لفوات وقت الإحرام بها، ما قررناه من امتناع الخروج نص على ذلك القاضي الحسين في تعليقه، والمتولي في التتمة، والروياني في البحر، كلهم في باب صفة الصلاة في الكلام على النية وقد ذكرته مبسوطا في التناقض الكبير المسمى بالمهمات وهو الكتاب الذي لا يستغنى عنه، وإذا تقرر هذا وكلام الأصوليين لا ينافيه فليحمل عليه. قوله: "وإن وقعت بعده" أي: وإن وقعت العبادة بعد وقتها المعين سواء كان الوقت مضيقا أو موسعا كما قال في المحصول. "ووجد فيه" أي: في الوقت "سبب وجوبها" فإنه يكون قضاء ويدخل ما إذا مات فحج عنه وليه، فإنه يكون قضاء كما صرحوا به لوقوعه بعد وقته الموسع إذ الموسع قد يكون بالعمل، وقد يكون بغيره كما سيأتي قوله: "ووجد فيه سبب وجوبها" مردود من وجهين أحدهما: أن النوافل تقتضي على مذهبه مع أنه أخرجها باشتراط سبب الوجوب، ويدل عليه أيضا أنها توصف بالأداء والإعادة كما اقتضاه كلامه، فإنه قسم العبادة وهي أعم من الفرض والنفل ولم يقسم العبادة بقيد وجودها, ويرد عليه الصبي بعد وقتها فإنه مأمور بالقضاء، الثاني: أن دخول الوقت هو السبب في الوجوب وقد ذكره عند قوله، والقضاء يتوقف على السبب لا الوجوب فكيف يجعله مغايرا له حتى يشترطه أيضا مع مضي الوقت؟ فإن كان مراده أنه لا يوصف بالقضاء إلا ما كان أداؤه واجبا فهو فاسد؛ لأنه سيصرح بعد هذا بقليل بعكسه، وقد وقع صاحب التحصيل فيما وقع فيه المصنف فقال: وإن أديت خارج وقتها المضيق أو الموسع سميت قضاء, إن قصد سلب وجود الأداء, والمحصول والحاصل سالمان من هذا الاعتراض؛ وذلك لأن الإمام ذكر في أول التقسيم أن الواجب إذا أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع سمي قضاء، ولم يذكر غير ذلك ثم قال بعد ذلك: وههنا بحثان فذكر الأول ثم قال: الثاني: أن الفعل لا يسمى قضاء، إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء، ثم تارة يجب الأداء، وتارة يمتنع عقلا، وتارة شرعا إلى آخر ما قال, فذكر أولا أن القضاء هو ما فعل بعد خروج وقته وعبر عنه ثانيا بتقديم سبب الوجوب، ولكن عبر بذلك ردا على ما قال: إن القضاء يتوقف على الوجوب، فضم المصنف الثاني إلى الأول حالة الاختصار وعطفه عليه, وكذلك صاحب التحصيل ظنا منهما أنه قيد في المسألة وهو غلط بلا شك، نعم كلام الإمام يوهم أن النوافل لا

تقتضي ولكنه لا يرد عليه, فإنه ذكر في أول التقسيم أن العبادة توصف بالأداء والقضاء والإعادة، ولم يخصها بالواجب، ثم قال: فالواجب إذا أدي في وقته سمي أداء إلى آخر ما قال, فسلمنا أن تذكر الواجب من باب التمثيل فقط, وقد وقعت أغلاط عدة لكثير من الشراح في هذه المسألة فاجتنبها واعتمد ما ذكرته. قوله: "وجب أداؤه ... إلخ" يعني أن القضاء على أقسام, تارة يكون أداؤه واجبا كالظهر المتروكة قصدا بلا عذر, وتارة لا يجب أداؤه ولكنه كان ممكنا كصوم المسافر والمريض, وتارة لا يجب لا يمكن أيضا, أما من وجهة العقل كصلاة النائم والمغمى عليه في رمضان من أول الوقت إلى آخره؛ لأن القصد إلى العبادة مستحيل عقلا مع الغفلة عنها لأنه جمع بين النقيضين، وأما من وجهة الشرع كصوم الحائض, فإن المانع من صحة صومها هو الشرع لا العقل. قوله: "ولو ظن المكلف ... إلخ" إذا ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت الموسع تضيق عليه الوقت اتفاقا, وحرم عليه التأخير اعتبارا بظنه, وصورة ذلك أن يطالب أولياء الدم مثلا باستيفاء الدم من الجاني فيحضره الإمام أو نائبه، ويحضر الجلاد ويأمر بقتله، ومثله أيضا ما إذا اعتادت المرأة أن ترى الحيض بعد مضي أربع ركعات بشرائطها من وقت الظهر، فإن الوقت يتضيق عليها، نص عليه إمام الحرمين في النهاية في الكلام على مبادرة المستحاضة إذا تقرر ذلك, فإن عصى ولم يفعل فاتفق أن أولياء الدم عفوا عنه أو لم يأت الحيض ففعله في وقته الأصلي, لكن بعد الوقت المضيق بحسب ظنه فهو قضاء عند القاضي أبي بكر؛ لأنه أوقعه بعد الوقت المضيق عليه شرعا، وأداء عند حجة الإسلام الغزالي لأنه وقع في وقته المعين بحسب الشرع، وأما ظنه فقد تبين خطؤه فلا اعتبار به.

التقسيم السادس

التقسيم السادس: "السادس: الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة, كحل الميتة للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبا ومندوبا ومباحا, وإلا فعزيمة" أقول: هذا تقسيم آخر للحكم باعتبار كونه على وفق الدليل أو خلافه، وحاصله: أن الحكم ينقسم إلى رخصة وعزيمة، فالرخصة في اللغة التيسير والتسهيل، قال الجوهري: الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه, ومن ذلك: رخص السعر إذا سهل وتيسر وهي بتسكين الخاء وحكي أيضا ضمها، وأما الرخصة بفتح الخاء، فهو الشخص الآخذ بها كما قاله الآمدي. وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف، وهو الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، فالحكم جنس وقول الثابت إشارة إلى أن الترخص لا بد له من دليل، وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض, فنبه عليه بقوله الثابت؛ لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتا بل الثابت غيره. قوله: "على خلاف الدليل" احترز به عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما، فلا يسمى رخصة لأنه لم يثبت على المنع منه دليل كما سيأتي في الأفعال الاختيارية، وأطلق المصنف الدليل ليشمل ما إذا كان الترخيص بجواز الفعل خلاف الدليل المقتضي للتحريم، كأكل الميتة، وما إذا كان بجواز الترك،

إما على خلاف الدليل المقتضي للوجوب، كجواز الفطر في السفر، وإما على خلاف الدليل المقتضي للندب كترك الجماعة بعذر المطر والمرض ونحوهما، فإنه رخصة بلا نزاع، وكالإيراد عند من يقول: إنه رخصة, وبهذا يعلم أن قول الآمدي وابن الحاجب: هو المشروع لعذر مع قيام المحرم, غير جامع وقوله: لعذر يعني المشقة والحاجة، واحترز به عن شيئين, أحدهما: الحكم الثابت بدليل راجح على دليل آخر معارض له، والثاني: التكاليف كلها, فإنها أحكام ثابتة على خلاف الدليل؛ لأن الأصل عدم التكاليف، والأصل من الأدلة الشرعية, وقد صرح القرافي بذلك أعني بكون التكاليف على خلاف الدليل وأطال الاستدلال عليه في شرحي المحصول والتنقيح، ولا ذكر لهذا القيد في المحصول أو المنتخب ولا في التحصيل والحاصل، فإن قيل: الثابت بالناسخ لأجل المشقة كعدم وجوب ثبات الواحد للعشرة في القتال, ونحوه ليس برخصة مع أن الحد منطبق عليه قلنا: لا نسلم, فإن تسمية المنسوخ دليلا إنما هو على سبيل المجاز. قوله: "كحل الميتة في المضطر ... إلخ" يعني: أن الرخصة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: واجبة ومندوبة ومباحة، فالواجبة أكل الميتة للمضطر على الصحيح المشهور في مذهبنا، وأما المندوبة فالقصر للمسافر بشرط المعروف وهو بلوغه ثلاثة أيام فصاعدا، وأما المباح فمثل له المصنف بالفطر للمسافر فقوله: واجبا ومندوبا ومباحا من باب اللف والنشر، فالأول للأول والثاني للثاني والثالث للثالث، وهكذا ذكره ابن الحاجب أيضا وتمثيل المباح بالفطر لا يستقيم؛ لأنه إذا تضرر بالصوم فالفطر أفضل وإن لم يتضرر فالصوم أفضل، فليست للصوم حالة يستوي فيها الفطر وعدمه وذلك هو حقيقة المباح, فإن قيل: مراده المباح في تفسير الأقدمين، وهو جواز الفعل الشامل للواجب والمندوب والمكروه والمباح المصطلح عليه, ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "أبغض المباح إلى الله الطلاق" 1 قلنا: لو أراد ذلك لما جعله قسيما للواجب والمندوب وعطفه عليهما, فغفله ذلك دليل على إرادة لمستوى الطرفين، وقد يقال: مراده بالمباح ما ليس فعله راجحا وهو غير الواجب والمندوب, ولكنه أيضا خلافا للمصطلح والصواب تمثيله بالسلم والعرايا والإجارة وشبه ذلك من العقود، فإنها رخصة بلا نزاع؛ لأن السلم والإجارة عقدان على معدوم مجهول والعرايا بيع الرطب بالتمر، فجوزت للحاجة إليها، وقد ثبت التصريح بذلك في الحديث الصحيح فقال: "وأرخص من العرايا" 2 مع كونها رخصة فهي مباحة لا طلب في فعلها ولا في تركها، فيصدق عليها الحد، فيقال: حكم ثابت على خلاف الدليل لعذر، ولا يصح تمثيل المباح بمسح الخف؛ لأن غسل الرجل أفضل منه كما جزم به المتقدمون من أصحابنا والمتأخرون منهم

_ 1 أخرجه أبو داود في سننه، رقم الحديث "2178"، وأخرجه ابن ماجه في صحيحه، رقم الحديث "2018". 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البيوع، ص667، جـ2.

ابن الرفعة في الكفاية، والنووي في شرح المهذب، ولا نعلم فيه خلافا. قوله: "وإلا فعزيمة" أي: وإن ثبت الحكم, لكن لا على خلاف الدليل لعذر فهو العزيمة, فيعلم بذلك أن العزيمة في الاصطلاح هو الحكم الثابت، لا على خلاف الدليل كإباحة الأكل والشرب، أو على خلاف الدليل لكن لا لعذر كالتكاليف، وأما في اللغة فهو القصد المؤكد، ومنه: عزمت على فعل الشيء، قال الجوهري: عزمت على كذا عَزما وعُزما -بالضم- وعزيمة وعزيما, إذا أردت فعله وقطعت عليه, قال الله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] جزمًا, وههنا بحثان, أحدهما: أن المصنف قد تبع صاحب الحاصل في جعل الرخصة والعزيمة قسمين للحكم، وذكر القرافي في كتبه أيضا مثله، وجعلهما غير هؤلاء من أقسام الفعل منهم الآمدي وابن الحاجب، وأما الإمام فقال في المحصول: الذي يجوز للمكلف الإتيان به، إما يكون عزيمة أو رخصة, هذا لفظه بحروفه، وذكر في المنتخب أيضا مثله فإنه قسم المباح إلى الرخصة والعزيمة, وأراد بالمباح تفسير الأقدمين، وهو ما يجوز فعله واجبا كان أو غيره, وكلام التحصيل أيضا قريب منه، ونقل القرافي عن المحصول أنه فسر الرخصة بجواز الإقدام على الفعل مع قيام المانع والعزيمة بجواز الإقدام مع عدم المانع, وهذا غلط على المحصول، فإنه إنما فسره بالفعل. البحث الثاني: أن حد العزيمة في كلام المصنف يدخل فيه الأحكام الخمسة، والإمام فخر الدين في المحصول وغيره جعلها تطلق على الجميع ما عدا المحرم, فإنه جعل موردا لتقسيم الفعل الجائز كما تقدم والقرافي خصها بالواجب والمندوب لا غير, فقال في حدها: طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي, قال: ولا يمكن أن يكون المباح من العزائم, فإن العزم هو الطلب المؤكد فيه، ومنهم من خصها بالواجب فقط وبه جزم الغزالي في المستصفى والآمدي في الأحكام ومنتهى السول وابن الحاجب في المختصر الكبير, ولم يصرح بشيء في المختصر الصغير فقالوا: العزيمة ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى وكأنهم احترزوا بإيجاب الله تعالى عن النذر, ولم يذكر ابن الحاجب هذا القيد.

الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي

الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي المسألة الأولى ... الفصل الثالث: قال: "الفصل الثالث: في أحكامه وفيه مسائل: المسألة الأولى: الوجوب قد يتعلق بمعين وقد يتعلق بمبهم من أمور معينة, كخصال الكفارة ونصب أحد المستعدين للإمامة، وقالت المعتزلة: الكل واجب على أنه لا يجوز الإخلال بالجميع، ولا يجب الإتيان به فلا خلاف في المعنى، وقيل: الواجب معين عند الله تعالى دون الناس، ورد بأن التعيين يحيل ترك ذلك الواحد والتخيير يجوزه, وثبت اتفاقا في الكفارة فانتفى الأول، قيل: يحتمل أن المكلف يختار المعين أو يعين ما يختاره أو يسقط بفعل غيره، وأجيب عن الأول بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه، وهو خلاف النص والإجماع, وعن الثاني بأن الوجوب قبل اختياره, وعن الثالث بأن الآتي بأيها آتٍ بالواجب إجماعا" أقول: عقد المصنف هذا الفصل لأحكام الحكم الشرعي, وجعله مشتملا على سبع مسائل، والإمام فخر الدين ذكر ذلك

في الأوامر والنواهي وجعل الأربع الأخيرة من هذه المسائل السبع في الأحكام، كما ذكره المصنف، وأما الثلاث الأولى فجعلها في أقسامه لا في أحكامه، فقال: النظر الأول في الوجوب، والبحث إما في أقسامه أو أحكامه، أما أقسامه فاعلم أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين ومخير، وبحسب وقته إلى مضيق وموسع, وبحسب المأمور إلى واجب على التعيين وواجب على الكفاية هذا كلامه, وذكر مثله صاحب الحاصل وصاحب التحصيل، والمصنف جعل الكل في أحكام الحكم، وليس بجيد ثم إنه أطلق الحكم، وإنما هي أقسام للوجوب خاصة, المسألة الأولى في انقسام المأمور به إلى معين ومخير، اعلم أن الوجوب قد يتعلق بشيء معين كالصلاة والحج وغير ذلك, ويسمى واجبا معينا، وقد يتعلق بواحد منهم من أمور معينة أي: بأحدها ويسمى واجبا ويسمى واجبا مخيرا، ثم هذا على قسمين فقسم يجوز الجمع بين تلك الأمور وتكون أيضا أفرادها محصورة كخصال الكفارة، فإن الوجوب تعلق بواحد من الإطعام والكسوة والعتق ومع ذلك يجوز إخراج الجميع، وقسم لا يجوز الجمع ولا تكون أفراده محصورة كما إذا مات الإمام الأعظم ووجدنا جماعة قد استعدوا للإمامة أي: اجتمعت فيهم الشرائط فإنه يجب على الناس أن ينصبوا منهم واحدا، ولا يجوز نصب زيادة عليه وذكر المصنف هذين المثالين لأجل هذا المعنى, ولا يتصور التكليف بواحد منهم من أمور مبهمة؛ لأنه تكليف بما لا يعلمه الشخص، وكون الواجب واحدا منها من أمور، أي: أحدها لا يعنيه نقله في المحصول المنتخب عن الفقهاء فقط, ولا ينقل عن الأصوليين تصريحا بموافقتهم ولا مخالفتهم، بل ظاهر كلامه المخالفة لأنه أبطل ما استدلوا به، وكذلك فعل صاحب الحاصل والتحصيل، نعم نقله الآمدي عن الفقهاء والأشاعرة وارتضاه واختاره أيضا ابن الحاجب، ولك أن تقول أحد الأشياء قدر مشترك بين الخصال كلها لصدقه على كل واحد منها, وحينئذ فلا تعدد فيه، وإنما التعدد في محاله فإن المتواطئ موضوع لمعنى واحد صادق على أفراد كالإنسان, وليس موضوعا لمعان متعددة وإذا كان إحدى الخصال هو متعلق الوجوب كما تقدم استحال فيه التخيير، وإنما التخيير في الخصوصيات وهي خصوص الإطعام مثلا أو الكسوة أو الإعتاق فالذي هو متعلق الوجوب لا تخيير فيه, والذي هو متعلق التخيير لا وجوب فيه, وهذا نافع في كثير من المباحث الآتية فافهمه. "واعلم" أن المصنف حكى في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها ما تقدم, والثاني ما نقله عن المعتزلة أن الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير, قالوا: والمراد من قولنا: إن الكل واجب على التخيير, هو أنه لا يجوز للمكلف ترك جميع الأفراد ولا يلزم الجمع بينهما, وهذا بعينه هو قول الفقهاء ولا خلاف في المعنى, وحينئذ فلا حاجة إلى دليل عليهم، فإن قيل: بل الخلاف في المعنى وهو الثواب على الجميع والعقاب عليه قلنا: لا, فإن الآمدي نقل عنهم في الأحكام أنه لا

ثواب ولا عقاب إلا على البعض. "واعلم" أن وصف الكل بالوجوب يلزمنا أيضا القول به؛ لأن كل حكم ثبت للأعم ثبت للأخص بالضرورة؛ لاشتماله عليه وقد تقدم أن الوجوب ثابت لمسمى إحدى الخصال, فيكون لكل واحد منها لاشتماله عليه، نعم يصدق على كل واحد أنه ليس بواجب باعتبار خصوصه، والمذهب الثالث أن الواجب معين عند الله تعالى غير معين عندنا، وهذا القول يسمى قول التراجم؛ لأن الأشاعرة يروونه عن المعتزلة والمعتزلة يروونه عن الأشاعرة كما قال في المحصول, ولما لم يعرف قائله عبر المصنف عنه بقوله, وقيل: هذا المذهب باطل؛ لأن التكليف بمعين عند الله تعالى غير معين للعبد، ولا طريق له إلى معرفته بعينه من التكليف بالمحال، وأبطله المصنف بأن مقتضى التعيين أنه لا يجوز العدول عن ذلك الواحد المعين، ومقتضى التخيير جواز العدول عنه إلى غيره، والجمع بينهما متناقض فإذا ثبت أحدهما بطل الآخر والتخيير ثابت بالاتفاق منا ومنكم, فيبطل الأول الذي هو التعيين. قوله: "قيل: يحتمل ... إلخ" أي: اعتراض الخصم على الرد المذكور من ثلاثة أوجه, أحدها: أنا لا نسلم أن مقتضى التخيير تجويز ترك ذلك الواحد المعين لجواز أن الله تعالى يفهم كل مكلف عند التخيير إلى اختيار ما عينه له. الثاني: أنه يحتمل أن الله تعالى يعين ما يختاره الموجوب، الثالث: أنا لا نسلم أيضا أن التعيين يحيل ترك ذلك الواحد المعين, فإن الواجب المعين قد يسقط بفعل غيره كما سقطت الجلسة الفاصلة بين السجدتين بجلسة الاستراحة, وغسل الرجل بمسح الخف، والشاة الواجبة قي خمس من الإبل بإخراج البعير وشبه ذلك، وأجاب المصنف عن الأول بأنه لو كان الواجب واحدا معينا ويختاره المكلف لكان كل من اختار شيئا يكون هو الواجب عليه دون غيره من الخصال، فيكون الواجب على هذا غير الواجب على الآخر عند اختلافهم في الاختيار، ولكن التفاوت بين المكلفين في ذلك باطل بالنص والإجماع, أما النص فلأن الآية الكريمة دالة على أن خصلة من الخصال مجزئة لكل مكلف، وأما الإجماع فلأن العلماء متفقون على أن المكلفين في ذلك سواء، وأنه الذي أخرج خصلة لو عدل إلى أخرى لأجزأه ووقعت واجبة, وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا أتباعه بل تمسكوا بالتنافي فقط وأجاب على الثاني وهو كونه تعين باختياره بأن الوجوب ثابت قبل اختيار المكلف إجماعا, مع أن الواجب في تلك الحالة لا يستقيم أن يكون واحدا معينا؛ لأن الفرض أن التعيين متوقف على اختياره، وقد فرضنا أن لا اختيار، وأجاب عن الثالث بأنه لو كان الواجب واحدا معينا والمأتي به بدلا عنه يسقطه, لكان الآتي به ليس آتيا بالواجب بل ببدله, لكن الإجماع منعقد على أن الشخص الآتي بأية واحدة شاء من هذه الخصال آتٍ بالواجب إجماعا. قال: "قيل: إن أتى بالكل معا فالامتثال إما بالكل واجب أو بكل واحد فتجتمع مؤثرات على أثر واحد أو بواحد غير معين ولم يوجد أو بواحد معين وهو المطلوب

وأيضا الوجوب معين فيستدعي معينا, وليس الكل ولا كل واحد, وكذا الثواب على الفعل والعقاب على الترك, فإذا الواجب واحد معين" أقول: احتج الذاهب إلى أن الواجب واحد معين بأن فعل الواجب له صفات وهي إسقاط الفرض وكونه واجبا واستحقاق ثواب الواجب وتركه أيضا له خاصة, وهي استحقاق العقاب, وهذه الأربعة تدل على أنه واحد معين, ثم ذكر المصنف هذه الأوصاف على هذا الترتيب فبدأ بإسقاط الفرض وعبر عنه بالامتثال فقال: إذا أتى المكلف بالخصال جميعها في وقت واحد فلا شك في كونه ممتثلا، وهذا الامتثال لا جائز أن يكون معللا بالكل من حيث هو كان على معنى أنه يكون المجموع هو العلة في إسقاط الواجب، وكل واحد جزءا من أجزاء العلة، وهو المسمى بالكل المجموع؛ لأنه يلزم أن يكون الكل واجبا، ولا جائز أن يكون معللا بكل واحد وهو المسمى بالكل التفصيلي؛ لأنه يلزم اجتماع مؤثرات وهي الإعتاق والصيام والإطعام على أثر واحد وهو الامتثال وذلك محال؛ لأن إسناده إلى هذا يستغنى به عن إسناده إلى ذلك، وإسناده إلى ذلك يستغنى به عن إسناده إلى هذا، فيستغنى بكل منهما عن الآخر ويفتقر لكل منهما بدلا عن الآخر, فيكون محتاجا إليهما معا وغنيا عنهما معا، ولا جائز أن يكون الامتثال معللا بواحد غير معين؛ لأنه لا وجود إذ كل موجود فهو في نفسه متعين ولا إبهام البتة في الوجود الخارجي, إنما الإبهام في الذهن فقط، فإذا انتفى ذلك كله تعين أن الامتثال حصل بواحد معين عند الله تعالى مبهم عندنا وهو المطلوب. قوله: "وأيضا الوجوب معين ... إلخ" هذا دليل ثان على أن الواجب واحد معين وهو الوصف الثاني من جملة الأوصاف المتقدم ذكرها، وتقريره من وجهين أحدهما: أن الحكم الشرعي متعلق بفعل المكلف، والوجوب حكم معين من بين الأحكام الخمسة وهي معنى من المعاني فيستدعي محلا معينا يتعلق به، ويوصف ذلك المحل بأنه واجب؛ لأن غير المعين لا يناسب المعين ولا وجود له أيضا في نفسه, فيمتنع وصفه بالوجوب لاستحالة إنصاف المعدوم بالصفة الثبوتية فبطل أن يكون غير معين، ولا جائز أن يكون المعين هو الكل ولا كل واحد لعدم وجوبه, فتعين أن يكون واحدا وهو المطلوب، التقرير الثاني: أن الفعل المأمور به يسقط الحكم المتعلق بالشخص, والوجوب حكم معين من بين الأحكام الخمسة, فيستدعي فعلا معينا يسقط به ويأتي ما قلناه بعينه ... إلخ, والتقرير الأول: هو المذكور في المحصول والحاصل وغيرهما, ولكن فيه بعض تغيير للمذكور, وصرح الإمام بأن ذلك فيما إذا أتى بالكل معا، ويحتمل فرضه أيضا قبل الإخراج. قوله: "وكذا الثواب على الفعل والعقاب على الترك" هذا هو الوصف الثالث. والرابع من الأوصاف المتقدمة للواجب الدالة على أن الواجب واحد العين، وتقريره: أنه إذا أتى بالكل فلا شك في أنه يثاب ثواب الواجب، وذلك لا جائز أن يكون على الكل، ولا على كل واحد، ولا على واحد لا بعينه لما تقدم، فتعين أن يكون على واحد معين فيكون الواجب واحدا معينا، وكذلك إذا ترك

الكل لا جائز أن يعاقب على الكل, ولا على كل واحد, ولا على واحد لا بعينه لما قلناه, فلم يبق إلا المعين فثبت بهذه الأدلة الأربعة أن الواجب واحد معين عند الله. واعلم أن لا كلام في أنه يثاب على الكل إذا أتى بذلك معا, إنما الكلام في ثواب الواجب كما نص عليه المحصول والحاصل وغيرهما، فإطلاق المصنف ليس بجيد وثواب الواجب يزيد على ثواب الغفل بسبعين درجة, قاله إمام الحرمين وغيره, وأوردوا فيه حديثا. قال: "وأجيب عن الأول بأن الامتثال بكل واحد وتلك معرفات, وعن الثاني بأنه يستدعي أحدها لا بعينه كالمعلول المعين يستدعي علة من غير تعيين, وعن الأخيرين بأنه يستحق ثواب وعقاب أمور معينة, ولا يجوز ترك كلها, ولا يجب فعلها" أقول: شرع في الجواب عن الأدلة الثلاثة التي ذكرها القائلون بأن الواجب واحد معين, فأجاب عن الدليل الأول وهو قولهم: إنه إذا أتى بالكل معا فلا جائز أن يكون الامتثال بالكل ولا بكل واحد، ولا بواحد غير معين، فقال: نختار القسم الثاني وهو حصول الامتثال بكل واحد، ولا يلزم اجتماع مؤثرات على أثر واحد؛ لأن هذه الأمور وغيرها من الأسباب الشرعية علامات لا مؤثرات، واجتماع معرفات على معرف واحد جائز كالعالم المعرف للصانع، ولك أن تقول ما تقدم من الدليل على امتناع التأثير بكل واحد جاز بعينه في امتناع التعريف والامتثال به سلمنا, لكن هذا الجواب وإن أفاد الرد على الخصم لكنه يقتضي إيجاب كل واحد لحصول الامتثال به، ومختاره أن الواجب واحد لا بعينه سلمنا أنه لا يقتضي ذلك بل يمكن أن يدعى معه أن الواجب واحد لا بعينه، لكنه قد سلم للخصم بطلانه، وأن غير المعين لا وجود له فإن كان باطلا كما سلم فلا يصح أن يجيب به، وإن لم يكن باطلا بل تسليمه هو الباطل فلا فائدة في هذا التطويل بل كان بحيث ابتدأ باختيار القسم الثالث, فإن الواجب على هذا التقدير يؤدي إليه. واعلم أن تسليمه هو الباطل لثلاثة أمور أحدها: أن ذلك غير مذهبه؛ لأن اختياره أن الواجب واحد لا بعينه، الثاني: أنه مناقض لقوله بعد ذلك أن يستدعي أحدها لا بعينه، الثالث: أن غير المعين إنما لا يوجد إذا كان مجردا عن المشخصات ويوجد إذا كان ضمن شخص بدليل الكلي الطبيعي كمطلق الإنسان, فإنه هو موجود مع أن الماهيات الكلية لا وجود لها. قوله: "وعن الثاني" أجاب عن الدليل الثاني وهو قولهم: إن الوجوب معين فيستدعي معينا, بأنا لا نسلم ذلك بل يستدعي إحدى الخصال لا بعينه وإن كان لا يقع إلا في معين, وأحدها لا بعينه موجود وله تعيين من وجه, وهو أنه أحد هذه الثلاثة, ولك كالمعلول المعين مثل الحدث فإنه يستدعي علة من غير تعيين وهو إما البول أو اللمس أو غير ذلك، وهو الجواب لا ذكر له في كتب الإمام ولا كتب أتباعه، وقد تقدم أنه مخالف لما سلمه للخصم, لكنه صحيح في نفسه. قوله: "وعن الآخرين" أي: وأجيب عن الآخرين وهما للثواب والعقاب, أنه إذا أتى بالكل فيستحقّ

الثواب على مجموع أمور لا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها، والمصنف وعد بذكر الجوابين، ولم يجب عن العقاب وقد وقع ذكره في بعض النسخ فقال: يستحق ثواب وعقاب أمور, قال ابن التلمساني في شرح المعالم: والجواب الحق أن نقول: لا يخلو إما أن يأتي بالجميع على الترتيب أو على المعية, فإن أتى بها على الترتيب كان ثواب الواحد حاصلا على الأول, وإن أتى بها معا كان مرتبا على الأعلى، وإن تفاوت لأنه لو اقتصر عليه لحصل له ذلك, فإضافة غيره إليه لا تنقضه، وإن تساوت فإلى أحدها وإن ترك الجميع عوقب على أقلها؛ لأنه لو اقتصر عليه لأجزأ. وهذا الجواب نقله الإمام في المحصول، والمنتخب عن بعضهم، وإن كان المذكور هنا فيه زيادة ثم قال: ويمكن أن يقال كذا وكذا، وذكر جواب المصنف وإنما لم يذكر المصنف الجواب الآخر؛ لأن صاحب الحاصل قال: إنه ضعيف؛ لأنه يوجب تعيين الواجب, قال: بل الصواب الجواب الآخر، وما قاله باطل فإنه لا يلزم من تعيينه بعد الإيقاع تعيينه في أصل التكليف، والمحذور إنما هو التعيين في أصل التكليف, بدليل أن الآتي بأية الخصال شاء يكون آتيا بالواجب اتفاقا، كا تقدم من كلام المصنف مع أنها معينة قال: "تذنيب: الحكم قد يتعلق على الترتيب, فيحرم الجمع كأكل المذكى والميتة, أو يباح كالوضوء والتيمم, أو يسنّ ككفارة الصوم" أقول: هذا الفرع شبيه بالواجب المخير، من حيث إن الحكم فيه تعلق بأمور متعددة وإن كان تعلقه بالترتيب, فلما ذكر الواجب المخير ذكره بعده لكونه كالفضلة منه والبقية، فلذلك عبر بالتذنيب وهو بالذال المعجمة, قال الجوهري: ذنّب عمامته بالتشديد: إذا أفضل منها شيئا فأرخاه كالذنب، وحكى الجوهري أيضا أنه يقال: ذنبه يذنبه بالتخفيف أي: تبعه يتبعه, فهو ذانب أي: تابع, فيجوز أن يكون التذنيب مأخوذا من الأول، وعلى هذا فلا كلام، ويجوز أن يكون مأخوذا من الثاني تضعيفه ليصير متعديا إلى اثنين كعرف وغيره، والمعنى: أنه ذنب هذا الفرع ذلك الأصل أي: أتبعه إياه, والإمام وأتباعه عبروا عن هذا بقولهم: فرع وحاصل ما. قال: إن الحكم قد يتعلق على الترتيب, وحينئذ فينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يحرم الجمع كأكل المذكى والميتة وهذا واضح, وقسم يباح الجمع كالوضوء والتيمم فإن التيمم عند العجز عن الماء واجب ولو استعمله أيضا مع الماء لكان جائزًا، وقسم يسن ككفارة المجامع في رمضان فإنه يجب عليه إعتاق رقبة, فإن عجز فصيام شهرين, فإن عجز فإطعام ستين مسكينا, ويستحب له الإتيان بالثلاثة. وهذه المثل ذكرها الإمام وأتباعه لكن التمثيل بالتيمم فاسد؛ لأن التيمم مع وجود الماء لا يصح، والإتيان بالعبادة الفاسدة حرام إجماعا لكونه تلاعبا كما صرحوا به في الصلاة الفاسدة، فإن فرض أنه استعمل التراب في وجهه ويديه لا على قصد العبادة, فلا يكون تيمما وتمثيله أيضا بالكفارة فيه نظر؛ لأن الكفارة سقطت الأول, فلا ينوي بالثاني الكفارة لعدم بقائها عليه فلا تكون كفارة، لكن القرب من حيث هي مطلوبة، وفي المحصول ومختصراته أن الأقسام الثلاثة أيضا تجري في الواجب المخير, فتحريم الجمع كنصب المستعدين للإمامة، وتزويج المرأة من خاطبين، وإباحة الجمع كستر العورة بثوب بعد ثوب، واستحبابه كخصال كفارة اليمين.

المسألة الثانية

المسألة الثانية: قال: "المسألة الثانية: الوجوب, إن تعلق بوقت فإما أن يساوي الفعل كصوم رمضان وهو المضيق, أو ينقص عنه فيمتعه من متع التكليف بالمحال إلا لغرض القضاء كوجوب الظهر على الزائل عذره بقي قدر تكبيرة أو يزيد عليه, فيقتضي إيقاع الفعل في أي جزء من أجزائه؛ لعدم أولوية البعض، وقال المتكلمون: يجوز تركه في الأول بشرط العزم في الثاني, وإلا لجاز ترك الواجب بل بدل, ورد بأن العزم لو صلح بدلا لتأدى الواجب به, وبأنه لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل، والمبدل واحد، ومنا من قال: يختص بالأول، وفي الأخير قضاء، وقالت الحنفية: يختص بالأخير وفي الأول تعجيل، وقال الكرخي: الآتي في أول الوقت إن بقي على صفة الوجوب يكون ما فعله واجبا وإلا نافلة احتجوا بأنه لو وجب في أول الوقت لم يجز تركه قلنا: المكلف مخير بين أدائه في أي جزء من أجزائه" أقول: هذا تقسيم آخر للوجوب باعتبار وقته، حاصله: أن يفعل المتعلق وقتا معينا، ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: أن يكون وقته مساويا لا يزيد عليه ولا ينقص كصوم رمضان، ويسمى هذا بالواجب المضيق، الثاني: أن يكون الوقت ناقصا عن الفعل، فلا يجوز التكليف به عند من لا يجوز التكليف بالمحال إلا أن يكون الغرض القضاء, فيجوز كوجوب الظهر مثلا على من زال عذره في آخر الوقت, كالجنون والحيض والصبى، وقد بقي مقدار تكبيرة، وإطلاق المصنف لفظ القضاء فيه نظر؛ لأن ذلك مخصوص بما إذا لم يكن فعل ركعة في الوقت فإن فعل, كان أداء المشهور عندنا، فالأحسن أن يقول إلا لغرض التكميل خارج الوقت, الثالث: أن يزيد الوقت على الفعل، وهو الذي نسميه بالواجب الموسع وفيه خمسة مذاهب, أحدها: وهو اختيار الإمام وأتباعه وابن الحاجب أن الأمر بذلك يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت بلا بدل, سواء كان أول أو آخر؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم: "الوقت ما بين هذين" 1 متناول لجميع أجزائه, وليس تعيين بعض الأجزاء للوجوب بأولى من تعيين البعض الآخر, وهذا معنى قول الأصحاب: إن الصلاة تجب بأول الوقت موجبا موسعا، وأهمل المصنف التصريح بوجوبه بأول الوقت، ولكنه يؤخذ من تعليل ما يليه، والمذهب الثاني, ونقله المصنف عن المتكلمين يعني أصحاب أصول الدين: أن الحكم كذلك لكن لا يجوز تركه في الجزء الأول بشرط العزم على الفعل في الجزء الثاني, ونقل الإمام في آخر المسألة أن قول أكثر أصحابنا، وأكثر المعتزلة، وكذلك في المنتخب، واختاره

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "4/ 416"، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد "178".

الآمدي، ولأصحابنا فيها وجهان حكاهما الماوردي في الحاوي وغيره، والصحيح هو الوجوب وصححه النووي في شرح المهذب وغيره, ونقل الأصفهاني في شرح المحصول عن القاضي عبد الوهاب المالكي أنه قول أكثر الشافعية. قوله: "وإلا لجاز" أي: احتج الذاهب إلى وجوب العزم أنه لو جاز الترك في أول الوقت بلا عزم مع قولنا بوجوبه في أول الوقت, كان يجوز ترك الواجب من غير بدل وهو محال، ورده المصنف بوجهين, أحدهما: أن العزم لا يصلح أن يكون بدلا عن الفعل؛ لأنه لو صلح بدلا لتأدى الواجب به لأن بدل الشيء يقوم مقامه، وإذا لم يصلح للبداية، فقد لزم جواز ترك الواجب بلا بدل، الثاني: أنه إذا عزم في الجزء الأول من أجزاء الزمان على الفعل فلا يخلو إما أن يجب العزم في الجزء الثاني أيضا أو لا يجب, فإن لم يجب فقد ترك فإن الواجب بلا بدل ويلزم أيضا التخصيص من غير مخصص، وإن وجب فقد تعدد البدل وهو الإعزام مع أن المبدل واحد فإن قيل: قد يكون صالحا للبدل في ذلك الوقت لا مطلقا, فإذا أتى بالبدل في هذا الوقت سقط عنه الأمر بالأصل في هذا الوقت لا في كل الأوقات. قال في المحصول: هذا ضعف؛ لأن الأمر لا يفيد التكرار بل لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة، فإذا صار البدل قائما مقام الأصل في هذا الوقت فقد صار قائما مقامه في المرة الواحدة فيلزم الاكتفاء به. قال في البرهان: والذي أراه أنهم لا يوجبون تحديد العزم في الجزء الثاني، بل يحكمون بأن العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها، وهذا الذي قاله فيه تبيين لمذهبهم وجواب عما قاله المصنف، وهذان المذهبان متفقان على الاعتراف بالواجب الموسع، والثلاثة الآتية منكرة له. قوله: "ومنا من قال ... إلخ" شرع في ذكر المذاهب الثلاثة المنكرة للواجب الموسع، أحدها: أن الوجوب يختص بأول الوقت, فإن فعله في آخره كان قضاء لقوله -صلى الله عليه وسلم: "الصلاة في أول الوقت رضوان الله, وفي آخره عفو الله" 1 والمراد بقوله: ومنا أي: ومن الشافعية, صرح به الإمام في المعالم خاصة، فإن عبارة المحصول والمنتخب ومن أصحابنا, وهذا القول لا يعرف في مذهبنا ولعله التبس عليه بوجه الإصطخري حيث ذهب إلى أن وقت العصر والعشاء والصبح يخرج بخروج وقت الاختيار، نعم نقله الشافعي في الأم عن المتكلمين فقال: وقال قوم من أهل الكلام وغيرهم ممن يفتي ممن يقول: إن وجوب الحج على الفور أن وجوب الصلاة يختص بأول الوقت حتى لو أخره عن أول وقت الإمكان عصى بالتأخير, وهذا يحتمل أيضا أن يكون سبب هذا الغلط, والثاني: أن الوجوب يختص بآخر الوقت, فإن فعل في أول الوقت كان تعجيلا ويصير كمن أخرج الزكاة قبل وقتها، ومقتضى هذا الكلام أن تقع الصلاة نفسها واجبة ويكون التطوع إنما هو التعجيل كمن عجل دينا أو

_ 1 أخرجه الدارقطني في سننه "1/ 246" وابن حجر في تلخيص الحبير "1/ 180".

زكاة, وقد ذكر في البرهان ما يقتضيه، لكن نقل الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عن هذا القائل أنه يقع نقلا, وهذا المذهب باطل؛ لأن التقديم لا يصح بنية التعجيل إجماعا. كما قاله ابن التلمساني في شرح المعالم فبطل كونه تعجيلا، والثالث وهو رأي الكرخي من الحنفية: أن الآتي بالصلاة في أول الوقت إن أدرك آخر الوقت وهو على صفة التكليف كان ما فعله واجبا، وإن لم يكن على صفته بأن كان مجنونا أو حائضا أو غير ذلك كان ما فعله نفلا، هكذا في المحصول والمنتخب وغيرهما، ومقتضى ذلك أن صفة التكليف لو زالت بعد الفعل وعادت في الوقت يكون أيضا فرضا وكلام المصنف يأباه؛ لأنه شرط بقاءه على صفة الوجوب إلى آخر الوقت، وسبقه الآمدي وصاحب الحاصل وابن الحاجب إلى هذه العبارة، ونقل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع1 عن الكرخي أن الوجوب يتعلق بوقت غير معين ويتعين بالفعل, ففي أي وقت فعل يقع الفعل واجبا، ونقل عنه القولين معا الآمدي في الأحكام. قوله: "احتجوا" أي: احتجت الحنفية على اختصاص الوجوب بآخر الوقت بأنه لو وجب في أوله لما جاز تركه, لكنه يجوز إجماعا, فانتفى أن يكون واجبا, والجواب ما قاله في المحصول وأشار إليه المصنف أن الوجوب الموسع في التحقيق يرجع إلى الواجب المخير؛ لأن الواجب الأداء في وقت ما، أما أوله أو وسطه أو آخره فجرى مجرى قولنا في الواجب المخير: إن الواجب إما هذا أو ذاك, فكما أنا نصفها بالوجوب على معنى أنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان به فكذلك هذا، فتلخص أن المكلف مخير بين أفراد الفعل في المخير وبين أجزاء الوقت الموسع، ونحن لم نوجب الفعل في أول الوقت بخصوصه حتى يورد علينا جواز إخراجه عنه، بل خيرناه بينه وبين ما بعده. قال: "فرع: الموسع قد يسعه العمر كالحج وقضاء الفائت, فله التأخير ما لم يتوقع فواته إن أخر لكبر أو مرض" أقول: هذا التقسيم في الواجب الموسع مبني على ثبوته؛ فلذلك جعله فرعا، وحاصله أن الواجب الموسع قد يسعه العمر جميعه كالحج وقضاء الفائت أي: إذا فات بعذر، فإن فات بتقصير فالمشهور وجوب فعله على الفور، وحكم الموسع بالعمر أنه يجوز له التأخير من غير توقيت اللهم إلا أن يتوقع فوات ذلك الواجب، أي: يغلب على ظنه فواته كما صرح به في المحصول، قال: فإن توقع أي: ظن الفوات إما لكبر سن أو مرض شديد حرم التأخير عند الشافعي، وما قاله في المرض مسلم وهو معنى قول الأصحاب في الفروع: إنه إذا خشي الضعف يتضيق عليه الحج على الصحيح, وأما ما قاله في الشيخ فممنوع, بل جوز أصحابنا التأخير مطلقا وجعلوا التفصيل بين الشيخ والشاب وجها ضعيفا في العصيان بعد الموت, وصححوا أنه يعصي مطلقا، وقيل: لا مطلقا، وقيل بهذا التفصيل والإمام اعتمد في هذه المقالة على المستصفى للغزالي، فإنها مذكورة فيه، وقوله: لكبر أو مرض متعلق بقوله: يتوقع فواته, ويؤخذ منه أنه لا يحرم عليه التأخير إذا لم يظن الفوات أصلا أو ظنه, لكن لا لكبر أو مرض بل لغيرهما من الأسباب التي لا أثر لها شرعا كالتنجيم والمنام.

_ 1 اللمع في أصول الفقه للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي, المتوفى سنة "476هـ" وشرحه له أيضا، "كشف الظنون: 1562".

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة: قال: "المسألة الثالثة: الوجوب إما أن يتناول كل واحد كالصلوات الخمس، أو واحدا معينا كالتهجد، ويسمى فرض عين، أو غير معين كالجهاد، ويسمى فرض كفاية، فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط عن الكل، وإن ظن أنه لم يفعل وجب" أقول: هذا تقسيم آخر للوجوب باعتبار من يجب عليه, وحاصله: أن الوجوب ينقسم إلى فرض عيني وفرض كفاية, ففرض العين قد يتناول كل واحد من المكلفين كالصوم والصلاة واقتصر الإمام وأتباعه عليه, وقد يتناول واحدا معينا كالتهجد والضحى والأضحى وغيرها من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأصح وهو الذي نص عليه الشافعي أن وجوب التهجد نسخ في حقه، وأما فرض الكفاية فهو الذي يتناول بعضا غير معين كالجهاد، وسمي بذلك لأن فعل البعض كافٍ في تحصيل المقصود منه، والخروج عن عهدته بخلاف الأولى, فإنه لا بد من فعل كل عين أي: ذات؛ فلذلك سمي فرض عين وهذا التقسيم أيضا يأتي في السنة، وقد أهمله المصنف فسنة العين كصلاة الضحى وشبهها، وسنة الكفاية كتشميت العاطس والأضحية في حق أهل البيت. قوله: "فإن ظن" يعني: أن التكليف بفرض الكفاية دائر مع الظن، فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط الوجوب عن الجميع، وإن ظن كل طائفة أن غيره لم يفعله وجب عليهم الإتيان به ويأثمون بتركه، وإن ظنت طائفة قيام غيرها به وظنت أخرى عكسه، سقط عن الأولى ووجب على الثانية، ولك أن تقول: هذا يشكل بالاجتهاد فإنه من فروض الكفاية, ولا إثم في تركه, وإلا لزم تأثيم أهل الدنيا, فإن قيل: إنما انتفى الإثم لعدم القدرة قلنا: فيلزم أن لا يكون فرضا. "فائدة": جزم المصنف بأن فرض الكفاية يتعلق بطائفة غير معينة, والمسألة فيها مذهبان: أحدهما هذا وهو مقتضى كلام الإمام في المحصول, والثاني وهو الصحيح عند ابن الحاجب، واقتضاء كلام الآمدي: أنه يتعلق بالجميع ولكن يسقط بفعل البعض، وهذا هو مقتضى كلام المصنف في آخر المسألة؛ لأنه صرح بالسقوط, فقال: سقط عن الكل وسقوطه عن الكل يتوقف على تكليفهم به، احتج الأول بأنه لو تعلق بالكل لما سقط إلا بفعل الكل، واحتج الثاني بتأثيم الكل عند الترك إجماعا ولو تعلق بالبعض لما أتم الكل, وأجابوا عن احتجاج الأول بأنا إنما أسقطناه بفعل البعض لحصول المقصود، فإن بقاء طلب غسل الميت وتكفينه مثلا عند القيام به من طائفة أخرى أمر بتحصيل الحاصل وهو محال.

المسألة الرابعة

المسألة الرابعة: قال: "المسألة الرابعة: وجوب الشيء مطلقا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به وكان مقدورا قيل: يوجب السبب دون الشرط وقيل: لا, فيهما لنا أن التكليف بالمشروط دون الشرط محال قيل: يختص بوقت وجود الشرط قلنا: خلاف الظاهر قيل: إيجاب المقدمة أيضا كذلك قلنا: لا, فإن اللفظ لم يدفعه" أقول: الأمر بالشيء هل يكون أمرا بما لا يتم ذلك الشيء إلا به, وهو المسمى بالمقدمة أم لا يكون أمرا به، حكى المصنف فيه ثلاثة مذاهب, أصحها الإمام وأتباعه وكذلك الآمدي أنه يجب مطلقا سواء كان سببا وهو الذي يلزم من جوده الوجود ومن عدمه العدم، أو شرطا وهو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وسواء كان السبب شرعيا كالصيغة بالنسبة إلى العتق الواجب، أو عقليا كالنظر المحصل للعمل الواجب, أو عاديا كحز الرقبة بالنسبة إلى القتل الواجب، وسواء كان الشرط أيضا شرعيا كالوضوء مثلا أو عقليا، وهو الذي يكون لازما للمأمور به عقلا كترك أضداد المأمور به, أو عاديا أي لا ينفك عنه عادة كغسل جزء من الرأس في الوضوء، وإلى هذا كله أشار بقوله: وجوب الشيء يوجب وجوب ما لا يتم إلا به أي: التكليف بالشيء يقتضي التكليف بما لا يتم إلا به، فالوجوب الأول والأخير بمعنى التكليف، والوجوب الثاني بمعنى الاقتضاء. مثال ذلك: إذا قال السيد لعبده: ائتني بكذا من فوق السطح فلا يتأتى ذلك إلا بالمشي ونصب السلم, فالمشي سبب والنصب شرط، والمذهب الثاني: أنه يكون أمرا بالسبب دون الشرط؛ لأن وجود السبب يستلزم وجود المسبب بخلاف الشرط، والثالث: أنه لا يكون أمرا لا بالسبب ولا بالشرط، وإليه أشار بقوله: وقيل: لا فيهما, وإنما قيد بقوله: فيهما ولم يقل، وقيل: لا؛ لأن النفي المطلق يدخل فيه جزء الماهية لأنها لا تتم إلا به أيضا, ومع ذلك فهو واجب بلا خلاف فافهمه، ولا ذكر لهذا الثالث في كلام الآمدي، ولا كلام الإمام وأتباعه. نعم حكاه ابن الحاجب في المختصر الكبير, وإن كلامه في الصغير في أثناء الاستدلال يقتضي أن إيجاب السبب مجمع عليه، واختار -أعني ابن الحاجب- فيما عدا السبب أنه إذا كان شرطا شرعيا وجب وإن كان شرعيا كالعقل والعادي فلا، فإن قلنا بالوجوب فله شرطان ذكرهما المصنف، أحدهما: أن يكون الوجوب مطلقا أي: غير معلق على حصول ما يتوقف عليه فإن كان معلقا على حصوله كقوله: إن صعدت السطح ونصبت السلم فاسقني ماء, فإنه لا يكون مكلفا بالصعود ولا بالنصب بلا خلاف، بل إن اتفق حصول ذلك صار مكلفا بالسقي وإلا فلا، والشرط الثاني: أن يكون ما يتوقف عليه الواجب مقدورا للمكلف كما مثلناه, فإن لم يكن مقدورا له لم يجب عليه تحصيله، كإرادة الله تعالى لوقوعه؛ لأن فعل العبد لا يقع إلا بها، وكذلك أيضا الداعية على الفعل وهو العزم المصمم عليه, وبيانه: أن الفعل يتوقف وقوعه على سبب يسمى بالداعية، وإلا لكان وقوعه في وقت دون وقت ترجيحا من غير مرجح, وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى لا قدرة للعبد عليها, إذ لو كانت من فعل العبد لانتقل الكلام إليها في وقوعه في وقت دون وقت فيلزم التسلسل، وهذا الاحتراز

قد أشار إليه الإمام في الكلام على الفروع الآتية من بعد, وصرح به ابن التلمساني في شرح المعالم ثم القرافي والأصفهاني في شرحيهما للمحصول، ولا يصح أن يقال: احترز به عن غير ذلك من المعجوز عنه كسلامة الأعضاء ونصب السلم ونحوهما, فإن العاجز عنه لا يكون مكلفا بالأصل بلا نزاع لفقدان شرطه وفي ذلك إحالة لصورة المسألة, فإن الكلام فيما إذا كلف بفعل وكان متوقفا على شيء لا قدرة له عليه بخلاف الداعية ونحوها, فإن عدم القدرة عليها لا يمنع التكليف وإلا لم يتحقق تكليف البتة, فكل شرط للوجوب الناجز لا بد أن يكون مقدورا للمكلف وإلا ما قلناه، قال الأصفهاني: وضابط المقدور أن يكون ممكنا للبشر, لكن ذكر الآمدي في الأحكام أن المقدور احتراز عن حضور الإمام والعدد في الجمعة. قوله: "لنا أن التكليف بالمشروط دون الشرط؛ لأنه محال" هذا دليل لما اختاره المصنف من وجوب السبب والشرط، وإنما استدل على الشرط؛ لأنه يلزم من وجوبه ووجوب السبب بطريق الأولى، وتقرير الدليل من وجوه، أحدها: أنه إذا كان مكلفا بالمشروط لا يجوز تركه وإذا لم يكن مكلفا بالشرط جاز له تركه، ويلزم من جواز ترك المشروط فيلزم الحكم بعدم جواز ترك المشروط وبجواز تركه, وذلك جمع بين النقيضين وهو محال، الثاني, ما ذكره ابن الحاجب: أنه إذا لم يكن مكلفا الشرط, فيكون الإتيان بالمشروط وحده صحيحا؛ لأنه أتى بجميع ما أمر به فلا يكون الشرط شرطا وهو محال، والثالث, ما ذكره في المحصول: أن الأمر بالشيء لو لم يقتض وجوب ما يتوقف عليه لكان مكلفا بالفعل ولو في حال عدمه؛ لأنه لا مدخل له في التكليف من أن الفعل في تلك الحالة لا يمكن وقوعه لأن المشروط يستحيل وجوده عند عدم شرطه, فيكون التكليف به إذ ذاك تكليفا بالمحال, وهذه التقريرات صحيحة لا اعتراض عليها يصح وقد اعترض الآمدي وصاحب التحصيل ومن تبعهما على تقرير الإمام باعتراض زعموا أنه لا محيص عنه وهو ضعيف, سببه اشتباه الفرق بين التكليف في حال عدم الشرط بفعل المشروط والتكليف بفعل المشروط في حال عمد الشرط، فإن الأول ممكن وطريقه أن يأتي بالشرط ثم بالمشروط، وأما الثاني فيحتمل أمرين, وأحدهما هو المراد؛ فلذلك صرحت به في التقرير ولولا خشية الإطالة لذكرت ذلك كله مبسوطا لكن في هذا تنبيه لمن أحب الوقوف عليه. قوله: "قيل: يختص" أي: اعتراض الخصم على الدليل المذكور فقال: لم لا يجوز أن يكون التكليف بالشروط مخصوصا بوقت وجود الشرط ولا امتناع في ذلك، فإن غايته تقييد الأمر ببعض الأحوال الدليل اقتضاء وهو الفرار من المحال الذي ألزمتمونا به، فأجاب المصنف بأن اللفظ يقتضي إيجاب الفعل على كل خاص فتخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر اعتراض الخصم على ذلك فقال: إنه معارض بمثله فإنك أوجبت المقدمة بمجرد الأمر مع أن اللفظ لا يقتضي وجوبها, وذلك خلاف الظاهر، فأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن إيجاب المقدمة خلاف

الظاهر، قال في المحصول: لأن مخالفة الظاهر هي إثبات ما يدفعه اللفظ أو دفع ما يثبته اللفظ, فأما إثبات ما لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات فليس خلاف الظاهر، إذا علم ذلك فالمقدمة لم يتعرض لها اللفظ بنفي ولا إثبات, فإيجابها بدليل منفصل ليس خلاف الظاهر بخلاف تخصيص الوجوب بحالة وجود الشرط دون حالة عدمه, فإنه يخالف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل على كل حال. قال: "تنبيه: مقدمة الواجب إما أن يتوقف عليها وجوده شرعا كالوضوء للصلاة, أو عقلا كالمشي للحج, أو العلم به كالإتيان بالخمس إذا ترك واحدة ونسي, وستر شيء من الركبة لستر الفخذ" أقول: اعلم أن الإمام جعل هذا فرعا، وجعله المصنف تنبيها، وجعله صاحب الحاصل تقسيما، ولكل واحد وجه, أما التقسيم فلأن مدلوله إظهار الشيء الواحد على وجوه مختلفة, ووجوده هنا واضح, وأما التنبيه فالمراد منه ما نبه عليه المذكور قبله بطريق الإجمال وهنا كذلك؛ لأن توقف الشيء على مقدمته أعم من كونه يتوقف عليها من جهة الوجود أو من جهة العلم بالوجود, إما شرعا أو عقلا، فلما لم يكن هذا منصوصا عليه بخصوصه، وخيف أن يغفل عنه الظاهر قيل: تفطن وتنبه لذلك، وأما الفرع المراد منه أن يكون مندرجا تحت أصل كلي وهو حاصل ههنا؛ لأن كل واحد من هذه الأقسام المستفادة من هذا التقسيم قد اندرج تحت الأصل السابق، وحاصل ما قاله المصنف أن مقدمة الواجب قسمان, أحدهما: أن يتوقف عليها وجوب الواجب, إما من جهة الشرع كالوضوء للصلاة إذ العقل لا مدخل له في ذلك، وإما من جهة العقل كالمشي للحج، هكذا ذكره المصنف والصواب للتعبير بالسير أو بقطع المسافة كما قاله في المحصول لا بالمشي، والقسم الثاني: أن يتوقف عليها العلم بوجود الواجب لا نفس وجوب الواجب, وذلك كمن ترك الصلاة من الخمس ونسي عينها, فإنه يلزمه أن يصلي الخمس لأن العلم بالإتيان بالمتروك لا يحصل إلا بعد الإتيان بالخمس، فالأربعة مقدمة للواجب لكن هذه المقدمة لا يتوقف عليها وجود الواجب بل العلم به كما قدمناه؛ لأنه قد يصادف أن يكون المفعول أولا هو الواجب، ومن ذلك أيضا وجوب ستر شيء من الركبة لتحقق ستر الفخذ, وإنما أتى المصنف بهذين المثالين لما أشار إليه في المحصول, وهو أن الأول قد كان الواجب فيه متميزا عن المقدمة، ولكن طرأ عليه الإبهام، والثاني لم يتميز الواجب عن المقدمة أصلا لأجل ما بينهما من التقارب, ولك أن تفرق أيضا بأن الواجب في الأول ملتبس بالمقدمة وأما الثاني فلا, غير أنه لا يمكن عادة إلا بفعله. قال: "فروع: الأول: لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا على معنى أنه يجب عليه الكف عنهما، الثاني: لو قال: إحداكما طالق حرمتا تغليبا للحرمة, والله تعالى يعلم أنه سيعين إحداهما لكن لما لم يعين لم تتعين، الثالث: الزائد على ما ينطلق عليه الاسم من المسح غير واجب, وإلا لم يجز تركه" أقول: جعل المصنف هذه الثلاثة فروعا للأصل

المتقدم وهو وجوب المقدمة التي يتوقف عليها العلم بالإتيان بالواجب، وتفريع الأول والثاني واضح, وأما الثالث ففيه كلام يأتي وستعرف الجميع. الفرع الأول: إذا اشتبهت بأجنبية حرمتا جميعا على معنى أنه يجب عليه الكف عن وطئهما جميعا، إحداهما لكونها أجنبية والأخرى لاشتباهها بالأجنبية، ووجه تعريفه أن الكف عن الأجنبية واجب، ولا يحصل العلم به إلا بالكف عن الزوجة، وإنما فسر المصنف تحريمهما بالكف عنهما؛ لأن تحريم الزوجة ليس بالذات بل للاشتباه، وهذا الذي يشير إليه لا تحقيق فيه، فإن المراد بتحريم الأجنبية أيضا إنما هو الكف لا تحريم ذاتها. "الفرع الثاني": إذا قال لزوجته إحداكما طالق قال في المحصول: فيحتمل أن يقال ببقاء حل وطئها؛ لأن الطلاق شيء معين فلا يحصل إلا في محل معين فإذا لم يعين لا يكون الطلاق واقعا، بل الواقع أمر له صلاحية التأثير في الطلاق عند التعيين, ومنهم من قال: حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة هذا كلامه، وذكر في المنتخب مثله أيضا، وقد جزم المصنف بالثاني مع أن صاحب الحاصل لم يذكر ترجيحا، ولا نقلا بل حكى احتمالين على السواء, وتفريع هذا يعرف مما قبله والفرق بينهما أن إحدى المرأتين في الصورة الأولى ليست محرمة بطريق الأصالة بل للاشتباه، بخلاف الفرع الثاني فإنهما في ذلك سواء؛ ولهذا خيرناه، وأيضا فإنه ليس قادرا على إزالة التحريم في الأول بخلاف الثاني. قوله: "والله يعلم ... إلخ" جواب عن سؤال مقدر ذكره في المحصول, وتوجيهه أن الله تعالى يعلم المرأة التي سيعينها الزوج بعينها فتكون هي المحرمة والمطلقة في علم الله تعالى, وإنما هو مشتبه علينا هذا حاصل ما قاله الإمام وهو اعتراض على ما ذكره أولا من حلهما جميعا، واقتضى كلامه الميل إليه، وذلك لأنه إذا تقرر بما قاله: إن إحداهما مطلقة والأخرى مشتبهة بها فتحرمان جزءا كما تقدم في الفرع الذي قبله، ولا يبقى للإباحة مع ذلك وجه لا يستقيم جعله اعتراضيا على القائل الآخر، وهو الذاهب إلى التحريم؛ لأنه على وفقه لا على عكسه, وجوابه ما ذكره المصنف وهو أن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فيعلم ما ليس بمتعين غير متعين لأنه الواقع، إذ لو علمه متعينا مع أنه غير متعين للزم الجهل وهو محال على الله تعالى، إذا تقرر ذلك فنقول: لا شك أن الزوج ما لم يعين المطلقة لم تتعين في نفسها، وإذا لم تتعين فيعلمها الله تعالى غير متعينة، وإن كان يعلم أن هذه هي التي ستعين، وأما كونه يعلمها متعينة حتى تكون هي المطلقة فلا، وإذا علمت توجيه الاعتراض وعلمت جوابه علمت أن الواقع في المنهاج خطأ، فإن هذا اعتراض على الإباحة وهي غير مذكورة فيه، وكأن المصنف توهم أنه اعتراض على التحريم لذكره عقبه في المحصول والحاصل: وهو غلط سببه عدم التأمل، الفرع الثالث: القدر الزائد على الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين كمسح الرأس والطمأنينة وغيرهما لا يوصف بالوجوب على ما جزم به المصنف؛ لأنه يجوز تركه، وفي المحصول والمنتخب أنه

الحق، وفي الحاصل أن مقابله خطأ، وهذه المسألة فيها اختلاف شهير عندنا واضطراب في كلام من يغني بكلامه, وقد ذكرت نظائر المسألة والاضطراب الواقع فيها وفوائد الخلاف في باب صفة الوضوء من كتاب الجواهر، ثم ذكرته أيضا أبسط من ذلك التناقض الكبير المسمى بالمهمات وهو الكتاب الذي لا يستغنى عنه، ووجه تفريع هذا على القاعدة المتقدمة هو أن الواجب لا ينفك غالبا عن حصول زيادة فيه, فتكون هذه الزيادة مقدمة للعلم بحصوله, ولك أن تقول: إذا كان هذا الزائد عنه المصنف مقدمة للواجب, فيلزم أن يكون واجبا كستر شيء من الركبة وأنظاره على ما تقدم في القاعدة, وحينئذ فيكون وصفه بعدم الوجوب مناقضا لما تقرر عنده فيما لا يتم الشيء إلا به, اللهم إلا أن يريد نفي كونها مقدمة.

المسألة الخامسة

المسألة الخامسة: قال: "المسألة الخامسة: جوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه؛ لأنها جزؤه, فالدال عليه يدل عليها بالتضمن. قالت المعتزلة وأكثر أصحابنا: الموجب قد يغفل عن نقيضه قلنا: لا, فإن الإيجاب بدون المنع من نقيضه محال, وإن سلم فمنقوض بوجوب المقدمة" أقول: هذه هي المسألة المعروفة بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وفيها ثلاثة مذاهب مشهورة ممن حكاها إمام الحرمين في البرهان1, أحدها: أن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده، فإذا قال مثلا: تحرك فمعناه: لا تسكن واتصافه بكونه أمرا ونهيا باعتبارين كاتصاف الذات الواحدة بالقرب والبعد بالنسبة إلى شيئين, وهذا المذهب لم يذكره المصنف، والثاني: أنه غيره ولكنه يدل عليه بالالتزام, وعلى هذا فالأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده, بخلاف النهي عن الشيء فإنه أمر بأحد أضداده, وشرط كونه نهيا عن ضده أن يكون الواجب مضيقا كما نقله شراح المحصول على القاضي عبد الوهاب؛ لأنه لا بد أن ينتهي الترك المنهي عنه حين ورود النهي، ولا يتصور الانتهاء عن الترك إلا بالإتيان بالمأمور به، فاستحال النهي مع كونه موسعا, وهذا المذهب وهو كونه يدل عليه بالتزام نقله صاحب الإفادة عن أكثر أصحاب الشافعي واختاره الآمدي, وكذا الإمام وأتباعه ومنهم المصنف، وعبروا كلهم بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فدخل في كلامهم كراهة ضد المندوب إلا المصنف، فإنه عبر بقوله: وجوب بالشيء يستلزم حرمة نقيضه، وسبب تعبيره بهذا أن الوجوب قد يكون مأخوذا من غير الأمر كفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والقياس، وغير ذلك، فلما كان الواجب أعم من هذا الوجه عبر به، وأما الكراهة ضد المندوب فإن المصنف قد لا يراه؛ وذلك لأنا إذا قلنا: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده فهل يكون خاصا بالواجب؟ فيه قولان شهيران حكاهما الآمدي وابن الحاجب وغيرهما, ولكن الصحيح أنه لا فرق كما صرح به الآمدي وغيره، والمذهب الثالث: أنه لا يدل عليه البتة، واختاره ابن الحاجب ونقله المصنف

_ 1 البرهان في أصول الفقه, للإمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني النيسابوري المعروف بإمام الحرمين الشافعي, المتوفى سنة "487هـ" "كشف الظنون: 242".

عن المعتزلة, وأكثر الأصحاب تبع لصاحب الحاصل، وأما الإمام في المحصول والمنتخب فنقله عن جمهور المعتزلة وكثير من أصحابنا, وفائدة الخلاف من الفروع ما إذا قال: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم قال: قومي فقعدت ففي الطلاق خلاف، ومستند الوقوع في هذه القاعدة صرح به الرافعي في الشرح الصغير, وفي المسألة اختلاف في الترجيح المذكور مبسوط في المهمات. قوله: "لأنه جزؤه" أي: الدليل على أن وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه؛ لأن حرمة النقيض جزء من ماهية الوجوب، إذ الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك كما تقدم في موضوعه، فاللفظ الدال على الوجوب يدل على حرمة النقيض بالتضمن, وهذا الدليل أخذه المصنف من الإمام، وإنما ادعى الالتزام وأقام الدليل على التضمن لأن الكل يستلزم، وبالجملة فهو دليل باطل وممن نبه على بطلانه صاحب التحصيل، وتقرير ذلك موقوف على مقدمة وهو أنه قال السيد مثلا لعبده: اقعد, فمعنا أمران منافيان للمأمور به وهو وجود القيود, أحدهما: مناف له بذاته أي بنفسه وهو عدم القعود؛ لأن المنافاة بين النقيضين بالذات، فاللفظ الدال على القعود دال على النهي عن عدمه، أو على المنع منه بالذات، والثاني: منافٍ له بالعرض أي: بالاستلزام وهو الضد كالقيام مثلا أو الاضطجاع، وضابطه أن يكون معنى وجوديا يضاد المأمور به, ووجه منافاته بالاستلزام أن القيام مثلا يستلزم عدم القعود هو نقيض القعود، فلو حصل القعود لاجتمع النقيضان فامتناع اجتماع الضدين إنما هو لامتناع اجتماع النقيضين لا لذاتهما، فاللفظ الدال على القعود يدل على النهي عن الأضداد الوجودية كالقيام مثلا بالتزام، والذي يأمر قد يكون غافلا عنهما هكذا ذكره الإمام في المحصول وغيره، وفي المسألة قول آخر: أن المنافاة بين الضدين بالذات إذا علمت ذلك فقول المصنف: "وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه؛ لأنه جزؤه" لقائل أن يقول: إذا أراد بذلك أنه يدل على المنع من أضداده الوجودية فهذا مسلم، ولكن لا نسلم أنه جزء من ماهية الوجوب بل جزؤه المنع من الترك، وإن أراد به أنه دال على المنع من الترك فليس محل النزاع, إذ لا خلاف أن الدال على الوجوب دال على المنع من الترك لأنه جزؤه، وإلا خرج الواجب عن كونه واجبا، بل النزاع في دلالته على المنع من أضداده الوجودية كما اقتضاه كلام الإمام فيلزم إما فساد الدليل أو نصبه في غير محل النزاع، وإذا أردت إصلاح هذا الدليل بحيث يكون مطابقا للمدعى فقل: الأمر دال عن المنع من الترك, ومن لوازم المنع من الترك المنع من الأضداد فيكون الأمر دالا على المنع من الأضداد بالالتزام وهو المدعى. قوله: "قالت المعتزلة" أي: واستدلت المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده بأن الموجب للشيء قد يكون غافلا عن نقيضه, فلا يكون النقيض منهيا عنه؛ لأن النهي عن الشيء مشروط بتصوره، ويغفل بضم الفاء كما ضبطه الجوهري قال: ومصدرها غفلة وغفولا وأجاب المصنف

بوجهين أحدهما: لا نسلم إمكان الإيجاب للشيء مع الغفلة عن نقيضه؛ لأن المنع من النقيض جزء من ماهية الوجوب كما قررناه، فيستحيل وجوب الإيجاب بدونه لاستحالة وجود الشيء بدون جزئه، وإذا استحال وجوده بدونه فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك فيكون متصورا للترك لا محالة، وهذا الجواب باطل؛ لكونه في غير محل النزاع كما تقدم، الثاني: سلمنا أن النقيض قد يكون مغفولا عنه, لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون منهيا عنه, فإنه ينتقض بوجوب مقدمة الواجب أي: ما لا يتم الواجب إلا به, فإنه واجب كما تقدم مع الموجب قد يكون غافلا عنه فكذلك حرمة النقيض.

المسألة السادسة

المسألة السادسة: قال: "المسألة السادسة: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز خلافا للغزالي؛ لأن الدال على الوجوب يتضمن الجواز والناسخ لا ينافيه, فإنه يرتفع الوجوب بارتفاع المنع من الترك قيل: الجنس يتقوم بالفصل فيرتفع بارتفاعه قلنا: لا وإن سلم فتقوم بفصل عدم الحرج" أقول: إذا أوجب الشارع شيئا ثم نسخ وجوبه فيجوز الإقدام عليه عملا بالبراءة الأصلية كما أشار إليه في المحصول في آخر هذه المسألة، وصرح به غيره، ولكن الدليل على الإيجاب قد كان أيضا دالا على الجواز كما سيأتي تقريره، فدلالته على الجواز هل هي باقية أم زالت بزوال الوجوب؟ هذا محل الخلاف، فقال الغزالي: إنها لا تبقى بل يرجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من البراءة الأصلية أو الإباحة أو التحريم، وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن, هكذا جزم في المستصفى، وقال الإمام وأتباعه والجمهور: إنها باقية ومراد هؤلاء بالجواز هو التخيير بين الفعل والترك كما سيأتي، وقد صرح به المصنف في آخر المسألة وهو الذي صرح الغزالي أيضا بعدم بقائه، وعلى هذا فيكون الخلاف بينهما معنويا على خلاف ما ادعاه ابن التلمساني، وصورة المسألة أن يقول الشارع: نسخت الوجوب أو حرمة الترك أو رفعت ذلك، فأما إذ نسخ الوجوب بالتحريم، أو قال: رفعت جميع ما دل عليه الأمر السابق من جواز الفعل ومنع الترك, فيثبت التحريم قطعا. قوله: "لأن الدال" أي الدليل على بقاء الجواز أن الجواز جزء من ماهية الوجوب لا الوجوب مركب من جواز الفعل مع المنع من الترك، وإن شئت قلت: من رفع الحرج عن الفعل مع إثبات الحرج على الترك, واللفظ الدال على الوجوب دال على الجواز بالتضمن، والناسخ للوجوب لا ينافي الجواز، فإن الوجوب يرتفع بارتفاع المنع من الترك إذ المركب يرتفع بارتفاع جزئه، وإذا تقرر أنه لا ينافيه فتبقى دلالته عليه، ولك أن تقول: الدليل الرافع للمنع من الترك إن لم يرفع أيضا الجواز فلا يكون ذلك نسخا بل تخصيصا؛ لأنه إخراج لبعض ما دل عليه اللفظ وهو غير المدعى, وإن رفعه فلا كلام أيضا فالمدعى بقاؤه هو الجواز بمعنى التخيير، والذي في ضمن الوجوب هو الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل، ولا يتم المدعى إلا بزيادة أخرى تأتي في الجواب عن اعتراض الغزالي, ومع ذلك أيضا فليس مطابقا

للدعوى كما سيأتي إيضاحه. قوله: "قيل: الجنس ... إلخ" هذا يحتمل أن يكون إبطالا للدليل السابق، ويحتمل أن يكون دليلا للغزالي، وتقرير الأول أن يقال: لا نسلم أن الناسخ لا ينافي الجواز؛ لأن كل فصل فهو علة لوجود الحصة التي فيه من الجنس كما نص عليه ابن سينا1؛ لأنه يستحيل وجود جنس مجرد عن الفصول كالحيوانية مثلا, وإليه أشار بقوله: يتقوم بالفصل أي: يوجد به، ولعله من قولهم فلأن قوام أهل بيته بكسر القاف أي: الذي يقيم شأنهم، حكاه الجوهري، إذا تقرر ذلك فالجواز جنس للواجب والمندوب والمكروه والمباح، والعلة في وجوه في الواجب، وهو فصل الواجب وهو الحرج على الترك، فإذا زال الفصل زال الجواز؛ لأن المعلوم يزول بزوال علله، وفي ذلك يقوم بعضهم: أيا من حياتي جنس فصل وصاله ... ومن عيشتي ملزوم لازم قربه أيوجد ملزم ولا لازم له ... محال وجنس لم يقم فصله به فثبت أن الناسخ ينافي الجواز. التقرير الثاني: أن يقال: الدليل على أن الجواز لا يبقى، وذلك أن كل فصل فهو علة ... إلخ، ثم أجاب المصنف بوجهين, أحدهما وإليه أشار بقوله: "قلنا: لا" أي: لا نسلم ما قاله ابن سينا من أن الفصل علة للجنس فقد خالفه الإمام وقال: إنهما معلولان لعلة واحدة، وتقرير ذلك مذكور في الكتب الحكمية ويحتمل أن يكون المراد أنا لا نسلم أن هذا الفصل الخاص وهو الحرج على الترك, علة لهذا الجنس الخاص، وهو الجواز لأنهما حكمان شرعيان، والأحكام القديمة فلا يكون أحدهما علة للآخر، الثاني: سلمنا أنه علة له, لكن لا نسلم أنه لا يلزم من ارتفاع هذا الفصل ارتفاع الجنس؛ لأن الجواز له قيدان أحدهما: الحرج على الترك, والثاني: عدم الحرج، فإذا زال الأول خلفه الثاني، وهذا الثاني استفدناه من الناسخ؛ لأنه أثبت رفع الحرج عن الترك، فالماهية الحاصلة بعد النسخ مركبة من قيدين أحدهما: زوال الحرج عن الفعل وهو مستفاد من الأمر، والثاني: زوال الحرج عن الترك وهو مستفاد من الناسخ، وهذه الماهية هي المندوب أو المباح، هكذا ذكره في المحصول وهو معنى ما قاله المصنف، واستفدنا من كلامه أنه إذا نسخ الوجوب بقي إما الإباحة أو الندب من الأمر وناسخه لا من الأمر فقط، فينبغي أن تكون الدعوى بهذه الصيغة، وهذا الكلام هو الذي سبق الوعيد بذكره. قال صاحب الحاصل: وفي هذه المسألة بحث دقيق ولعله يشير إلى شيء من هذا أو إلى مقالة ابن سينا السابقة

_ 1 ابن سينا هو الحسين بن عبد الله بن سينا, أبو علي شرف الملك, الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، أصله من بلخ، ومولده في إحدى قرى بخارى، نشأ وتعلم في بخارى ثم سار إلى أصفهان وصنف بها أكثر كتبه، وعاد في أواخر أيامه إلى همذان فمرض في الطريق ومات بها سنة "428هـ". من تصانيفه: المعاد، والشفاء، والسياسة والمنطق "الأعلام: 2/ 242".

فإنها غير مذكورة في المحصول ولا في مختصراته، وأما فائدة هذا الخلاف من الفروع فهو كل موضع بطل فيه الخصوص، هل يبقى العموم من ذلك ما إذا وجد المنافي للفرض دون النفل، ويندرج فيه صور كثيرة كالإحرام قبل الزوال بالظهر، ومن ذلك ما أشار إليه الغزالي في الوسيط، وهو ما إذا أحال المشتري البائع بالثمن على رجل ثم وجد بالمبيع عيبا فرده فإن الحوالة تبطل على الأصح، ولكن هل للمحتال قبضه للمالك؟ فيه خلاف: وجه أجاز أن الحوالة متضمنة لجواز الأخذ والمنافي ورد على خصوص الحوالة فيبقى الجواز، وهذه المسألة قد أشار إليها الآمدي وابن الحاجب بقولهما: المباح ليس بجنس للواجب.

المسألة السابعة

المسألة السابعة: قال: "المسألة السابعة: الواجب به وبغيره, فكل واحد من الواجب والمندوب لا يجوز تركه. قال الكعبي 1: فعل المباح ترك الحرام وهو واجب قلنا: لا, بل به يحصل وقالت الفقهاء: يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر؛ لأنهم شهدوا الشهر وهو موجب وأيضا عليهم القضاء بقدره قلنا: العذر مانع والقضاء يتوقف على السبب لا الوجوب, وإلا لما وجب قضاء الظهر على من قام جميع الوقت" أقول: قد عزمت فيما تقدم أن الوجوب هو اقتضاء الفعل مع المنع من الترك فيستحيل كون الشيء واجبا مع كونه جائز الترك لاستحالة بقاء المركب بدون جزئه، وذكر المصنف ذلك توطئة للرد على طائفتين, إحداهما: الكعبي وأتباعه, والثانية: الفقهاء، فأما الكعبي فادعى أن المباح واجب كونه جائز الترك، واستدل بأن فعل المباح ترك الحرام وترك الحرام واجب فينتج أن فعل المباح واجب. قوله: "قلنا: لا" أي: لا نسلم أن فعل المباح هو نفس ترك الحرام قال في الحاصل: لأن فعل المباح أخص من ترك الحرام، وتقريره أنه يلزم من فعل المباح ترك الحرام, ولا يلزم من ترك الحرام فعل المباح لجواز تركه بالواجب والمندوب، ففعل المباح أخص من ترك الحرام والأخص غير الأعم فلا يكون المباح ترك الحرام، بل هو شيء يحصل به تركه لما بينا أنه قد يحصل والمباح والمكروه وسيلة لترك الحرام، وإذا كان للواجب وسائل فيجب واحدة منها لا بعينها, لا واحدة بخصوصها، فلا يتعين خصوص المباح للوجوب فيبطل دعوى الكعبي، وهكذا أجاب به الإمام وهو ضعيف؛ لأنه يلزم منه أن يكون المباح واجبا على التخيير, والواجب على التخيير واجبا على الجملة، وكل فرد يقع منه يكون واجبا بلا خلاف كما تقدم في خصال الكفارة، لكن تخصيص الكعبي بالمباح لا معنى له, بل يجري في غيره حتى في المكروه، ولأجل ضعف هذا الجواب قال الآمدي وابن برهان وابن الحاجب: إنه لا مخلص مما قاله الكعبي مع التزام أن ما لا يتم الواجب إلا به

_ 1 الكعبي أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي، العالم المشهور، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم: "الكعبية" وهو صاحب مقالات، وكان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام، وتوفي في مستهل شعبان سنة "317هـ"، "وفيات الأعيان: 33/ 34".

فهو واجب، وأما الفقهاء فقال كثير منهم: يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر لوجهين أحدهما: أنهم شهدوا الشهر وشهود الشهر موجب للصوم لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الثاني: أن القضاء يجب عليهم بقدر ما فاتهم فوجب أن يكون بدلا عنه كغرامة المتلفات, والجواب عن الأول: أن شهود الشهر إنما يكون موجبا عند انتفاء الأعذار المانعة من الوجوب والعذر ههنا قائم؛ فلذلك امتنع القول بالوجوب, وعن الثاني: أن القضاء يتوقف على سبب الوجوب، وهو دخول الوقت لا على وجود الوجوب إذ لو توقف على نفس الوجوب لما كان قضاء الظهر مثلا واجبا على من نام جميع الوقت؛ لأنه غير مكلف بالظهر في حال نومه لامتناع تكليف الغافل، والإمام وأتباعه لم يجيبوا عن هذين الدليلين كما أجاب المصنف, بل انتقلوا إلى المعارضة بما هو أقوى وهو جواز الترك كما قرره المصنف أولا وقوله: وقال الفقهاء: وهي عبارة صاحب الحاصل، والصواب عبارة الإمام في المحصول والمنتخب, فإنه قال: وقال كثير من الفقهاء، ثم قال بعد ذلك: وعندنا أنه لا يجب على الحائض والمريض أصلا, وأما المسافر فيجب عليه صوم أحد الشهرين، إما رمضان أو شهر غيره أيهما أتى به كان هو الواجب كما في خصال الكفارة, هكذا قال في المحصول والمنتخب وفيه نظر، فإن المريض أيضا يجوز له الصوم فيكون مخيرا, وإذا كان مخيرا فيكون كالمسافر إلا أن يفرض ذلك في مريض يقضي به الصوم لهلاك نفسه أو عضوه, فإنه يحرم عليه الصوم، قال الغزالي في المستصفى: فلو صام والحالة هذه فيحتمل أنه لا يجزئه؛ لأنه حرام ويحتمل تخريجه على الصلاة في الدار المغصوبة.

الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه

الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه الفصل الأول: في الحكم مدخل ... الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه قال: "الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه, وفيه ثلاثة فصول ": الفصل الأول: في الحكم وهو الشرع دون العقل لما بينا من فساد الحسن والقبح العقليين في كتاب المصباح" أقول: أركان الحكم ثلاثة: الحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم به؛ فلذلك ذكر المصنف في هذا الباب ثلاثة فصول لكل منها، الفصل الأول في الحاكم وهو الشرع عند الأشاعرة, فلا تحسين ولا تقبيح إلا بالشرع، واعلم أن الحسن والقبح قد يراد بهما ملاءمة الطبع ومنافرته كقولنا: إنقاذ الغرقى حسن، وأخذ الأموال ظلما قبيح، وقد يراد بهما صفة الكمال وصفه النقص، كقولنا: العلم حسن والجهل قبيح، ولا نزاع في كونهما عقليين, كما قال المصنف في المصباح تبعا للإمام وغيره، وإنما النزاع في الحسن والقبح بمعنى ترتيب الثواب والعقاب، فعندنا أنهما شرعيان، وذهبت المعتزلة إلى أنهما عقليان بمعنى أن العقل له صلاحية الكشف عنهما وأنه لا يفتقر للوقوف على حكم الله تعالى إلى ورود الشرائع لاعتقادهم وجوب مراعاة المصالح والمفاسد، وإنما الشرائع مؤكدة الحكم للعقل فيما يعلمه العقل بالضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع أو بالنظر كحسن الصدق الضار،

فأما ما لا يعلمه العقل بالضرورة ولا بالنظر كصوم آخر يوم رمضان وتحريم أول يوم من شوال, فإن الشرائع مظهرة لحكمه لمعنى خفي علينا، فتلخص أن الحاكم حقيقة هو الشرع إجماعا وإنما الخلاف في أن العقل هل هو كافٍ في معرفته أم لا؟ وكلام الكتاب يوهم خلاف ذلك، وقد أحال المصنف إبطال مذهبهم على ما قرره في كتاب المصباح، فإن اللائق بذلك هو أصول الدين، وحاصل ما قاله فيه أن أفعال العباد منحصرة في الاضطرار والاتفاق, ومتى كان كذلك استحال وصفها بالحسن والقبح. بيان الانحصار أن المكلف إن لم يكن قادرا على الترك فهو الاضطراري، وإن كان قادرا على تركه فإن لم يكن صدوره عنه موقوفا على المرجح فهو الاتفاق، وإن كان موقوفا على المرجح فذلك المرجح، إن كان من الله تعالى لزم كون الفعل اضطراريا، وإن كان من العبد فإن لم يكن صدور ذلك المرجح آخر لزم أن يكون الفعل اتفاقيا وإن كان لمرجح، فإن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من الله تعالى لزوم أن كونه اضطراريا فثبت أن أفعال العبد منحصرة في الاضطرار والاتفاق، وحينئذ فلا يوصف بحسن ولا قبح للإجماع منا ومنهم على أنه لا يوصف بذلك إلا الأفعال الاختيارية، وللفضلاء على هذه النكتة أسئلة كثيرة مذكورة في المبسوطات.

الفرع الأول

الفرع الأول: قال: "فرعان على التنزل: "الأول" شكر المنعم ليس بواجب عقلا, إذ لا تعذيب قبل الشرع لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ولأنه لو وجب لوجب إما لفائدة المشكور وهو منزه, أو للشاكر في الدنيا وإنه مشقة بلا حظ أو في الآخرة ولا استقلال للعقل بها، قيل: يدفع ظن الضرر الآجل قلنا: قد يتضمنه؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وكالاستهزاء لحقارة الدنيا بالقياس إلى كبريائه, ولأنه ربما لا يقع لائقا قيل: ينتقض بالوجوب الشرعي قلنا: إيجاب الشرع لا يستدعي فائدة" أقول: لما أبطل الأصحاب قاعدة التحسين والتقبيح العقليين لزم من إبطالها إبطال وجوب شكر المنعم عقلا, وإبطال حكم الأفعال الاختيارية قبل البعثة. قال في المحصول: لكن جرت عادة الأصحاب بعد ذلك أن يتنزلوا ويسلموا لهم صحة القاعدة ويبطلوا مع ذلك كلامهم في هذين الفرعين بخصوصهما لقيام الدليل على إبطال حكم العقل فيهما، وحاصله يرجع إلى تخصيص قاعدة الحسن والقبح العقليين بإخراج بعض أفرادها لمانع، كما وقع ذلك في القواعد السمعية، وقوله: على التنزيل أي: على الافتراض, وسمي بذلك لأن فيه تكلف الانتقال من مذهبنا الحق الذي هو المرتبة العليا إلى مذهبهم الباطل الذي هو في غاية الانخفاض. "واعلم" أن المصنف قد أقام الدليل على إبطال حكم العقل في الفرع الأول، وأما الفرع الثاني فإنه أبطل أدلته فقط كما ستراه، ولا يلزم من إبطال الدليل المعين إبطال المدلول. "الفرع الأول": أن شكر المنعم لا يجب عقلا خلافا للمعتزلة والإمام فخر الدين في بعض كتبه الكلامية، وليس المراد بالشكر هو قول القائل: الحمد لله والشكر لله ونحوه, بل المراد به اجتناب المستخبثات العقلية، والإتيان بالمستحسنات

العقلية، والمنعم هو البارئ سبحانه وتعالى، والدليل على عدم الوجوب النقل والعقل، أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فانتفاء التعذيب قبل البعثة دليل على أنه لا وجوب قبلها؛ لأن الواجب هو الذي يصح أن يعاقب تاركه، وإذا لم يكن الوجوب ثابتا قبلها لم يكن الوجوب عقليا، فإن قيل: عدم العقاب لا يدل على عدم الوجوب لجواز العفو، قلنا: المنفي هو صحة التعذيب؛ لأن قولنا: ما كان لزيد أن يفعل كذا فيه إشعار بذلك، وأيضا فإن الخصم يقول بأنه يجب التعذيب قبل التوبة فألزمناه به, وعلى هذا فالملازمة بين نفي التعذيب وعدم الوجوب إلزامية، وعلى الأول حقيقة وبرهانية، ولك أن تقول: هذه الآية تدل على إبطال حكم العقل مطلقا؛ لأنها نفت التعذيب قبل التوبة لا في شكر المنعم فقط، وهو خلاف المقصود؛ لأن البحث على تقدير تسليم حكم العقل، وللمعتزلة أيضا هنا اعتراضات ضعيفة، كقولهم: يحتمل أن يكون المنفي هو مباشرة التعذيب فإنه مدلول، وما كنا أو المنفي وقوعه قبل البعثة لا وقوعه مطلقا، فقد يتأخر للقيامة، أو الرسول هو العقل، وأما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي فلأنه لو وجب لامتنع أن يجب لا لفائدة لأنه عبث، والعقل لا يوجب العبث، ولأن المعقول من الوجوب ترتب الثواب على الفعل والعقاب على الترك، فإذا لم يتحقق ذلك لم يتحقق الوجوب، ويمتنع أيضا أن يجب لفائدة؛ لأن تلك الفائدة لا جائز أن تكون راجعة إلى المشكور وهو البارئ سبحانه وتعالى؛ لأن الفائدة إما جلب منفعة أو دفع مضرة والبارئ تعالى منزه عن ذلك، ولا إلى الشاكر في الدنيا؛ لأن الاشتغال بالشكر كلفة عاجلة ومشقة على النفس لا حظ لها فيه، ولا في الآخرة أيضا؛ لأن العقل لا يستقل بمعرفة الفائدة في الآخرة أو معرفة الآخرة نفسها دون إخبار الشارع ولا ذكر لهذا التعليل المذكور في القسم الأخير في كلام الإمام ولا أتباعه, ولقائل أن يقول: لا نسلم انحصار القسمة في عود الفائدة إلى الشاكر والمشكور بل لا بد من إبطال عودها إلى غيرهما أيضا سلمنا, قال الآمدي في الأحكام: فقد تكون الفائدة راجعة إلى الشاكر في الدنيا، وكون الشكر مشقة لا ينفي حصول فائدة مترتبة عليه كاستمرار الصحة وسلامة الأعضاء الباطنة والظاهرة وزيادة الرزق ودفع القحط, إلى غير ذلك مما لا ينحصر، بل الغالب أن الفوائد لا تحصل إلا بالمشاق فقد يكون الشكر سببا لشيء من هذه الفوائد على معنى أن يكون شرطا في حصوله، وأيضا فقد يكون الشيء ضررًا، ويكون دفعا لضرر أزيد منه كقطع اليد المتألمة. قوله: "قيل: يدفع ظن ضرر الأجل" هذا اعتراض للمعتزلة على قولنا: لا فائدة فيه. قالوا: بل له فائدة وهو الخروج عن العهدة بيقين، فإنه يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر فيقول: إن أتيت به سلمت من العقوبة, وإن تركته فقد يكون أوجبه علي فيعاقبني عليه فيكون الإتيان به يدفع احتمال العقوبة، وتعبير المصنف بالظن فيه نظر؛ لأن الظن هو الغالب ولا غالب إنما الحاصل هو العقوبة،

وتعبير المصنف بالظن فيه نظر؛ لأن الظن هو الغالب ولا غالب, إنما الحاصل هو الاحتمال فقط، ويمكن جعل هذا الاعتراض دليلا للمعتزلة، فيقال: الإتيان بالشكر يدفع ظن الضرر, ودفع الضرر والمظنون واجب، فالإتيان بالشكر واجب والواجب أن الشكر قد يتضمن الضرر أيضا، فيكون الخوف حاصلا على فعله كما أنه حاصل على تركه، وإذا حصل الخوف على الأمرين كان البقاء على الترك بحكم الاستصحاب أولى، فإن لم يثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب الفعل، وإنما قلنا: إنه قد يخاف منه الضرر لثلاثة أوجه, أحدها: أن الشاكر ملك المشكور, فإقدامه على الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة, والثاني: أن شكر الله تعالى على نعمه كأنه استهزاء بالله تعالى؛ لأن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة بذكر تلك النعمة وشكرها كان مستهزئا، ولا شك أن ما أنعم الله تعالى به على عباده بالنسبة إلى كبريائه وخزائن ملكه أقل من نسبة اللقمة إلى خزائن الملك؛ لأن نسبة المتناهي إلى المتناهي أكثر من المتناهي إلى غير المتناهي، والثالث: أنه ربما لا يهتدي إلى الشكر اللائق بالله تعالى فيأتي به على وجه غير لائق, ونسق غير موافق. قوله: "قيل: ينتقض بالوجوب الشرعي" يعني: أن المعتزلة قالوا: ما ذكرتموه من الدليل يقتضي أن الشكر يستحيل إيجابه شرعا، فإنه يقال: إن الله تعالى لو أوجبه إما لفائدة, أو لا لفائدة إلى آخر التقسيم، لكنه يجب إجماعا فما كان جوابا لكم كان جوابا لنا، والجواب: أن مذهبنا أنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله بالأغراض، فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء, من غير فائدة ومنفعة أصلا، وهذا مما لا يمكن الخصم دعواه في العقل. هكذا قال في المحصول, فتبعه المصنف هنا وفي مواضع أخرى, لكنه نص في القياس على أن الاستقراء دال على أن الله سبحانه وتعالى شرح أحكامه لمصالح العباد تفضلا وإحسانا، وهذا يقتضي أن الله تعالى لا يفعل إلا الحكمة، وإن كان على سبيل التفضل، وهو ينافي المذكور هنا، والجواب الصحيح: التزام كون الوجوب الشرعي لفائدة في الآخرة؛ لأنا علمناها بأخبار الشارع، وهذا لا يأتي في الوجوب العقلي كما تقدم. "فائدة": قال الآمدي: هذه المسألة ظنية؛ لأن المعقول فيها ضعيف كما تقدم.

الفرع الثاني

الفرع الثاني: قال: "الفرع الثاني: الأفعال الاختيارية قبل البعثة مباحة عند البصرية وبعض الفقهاء، محرمة عند البغدادية وبعض الإمامية وابن أبي هريرة، وتوقف الشيخ والصيرفي، وفسره الإمام بعدم الحكم، والأولى أن يفسر بعدم العلم؛ لأن الحكم قديم عنده، ولا يتوقف تعلقه على البعثة لتجويزه التكليف بالمحال" أقول: هذا هو الفرع الثاني من الفرعين اللذين أشار إليهما بقوله: فرعان من التنزل، وحاصله أن الأفعال الصادرة من الشخص قبل بعثة الرسول إن كانت اضطرارية كالتنفس في الهواء وغيره, ففي المحصول والمنتخب أنها غير ممنوع منها قطعا، قال في المحصول: إلا إذا جوزنا

التكليف مما لا يطاق, وعبر بعض الشارحين وصاحب التحصيل عن هذا بأنه مأذون فيه وفيه نظر، فسيأتي في آخر هذه المسألة أن عدم المنع لا يستلزم الإذن فيه؛ لأن الإذن هو الإباحة والإباحة حكم شرعي لا يثبت إلا بالشرع والفرض عدم وروده، وأما الأفعال الاختيارية كأكل الفاكهة وغيرها فهي مباحة عند المعتزلة البصرية وبعض الفقهاء أي: من الشافعية والحنفية كما قال في المحصول والمنتخب، ومحرمة عند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة1 من الشافعية، وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري2 وأبو بكر الصيرفي من الشافعية إلى أنها على الوقف، واختاره الإمام فخر الدين وأتباعه، فإن قيل: سيأتي في آخر الكتاب أن الأصل في المنافع الإباحة على الصحيح، قلنا: الخلاف هناك فيما بعد الشرع بأدلة سمعية، ولم يحرر المصنف مذهب المعتزلة، وقد حرره الآمدي في الأحكام وتبعه عليه ابن الحاجب فقال: محل هذا الخلاف عندهم في الأفعال التي لا دلالة للعقل فيها على حسن ولا قبح، فإن اقتضى ذلك انقسمت إلى الأحكام الخمسة؛ لأن ما يقضي العقل بحسنه إن لم يترجح فعله على تركه فهو المباح، وإن ترجح نظر, إن لحق تاركه الذم فهو الواجب، وإلا فهو المندوب، وما يقضي العقل بقبحه إن لحق فاعله الذم فهو الحرام، وإلا فهو المكروه. قوله: "وفسره الإمام" أي: فسر الإمام فخر الدين هذا التوقف الذي ذهب إليه الشيخ بعدم الحكم أي: لا حكم في الأفعال الاختيارية قبل الشرع، فبحث المصنف معه في هذا، فقال: الأولى أن يفسر بعد العلم بالحكم أي: لها، ولكن لا تعلمه بعينه ولا يفسر بعدم الحكم؛ لأن الحكم قديم عند الأشعري, ثابت قبل وجود الخلق، فكيف يستقيم نفيه بعد وجودهم وقبل البعثة، والضمير في قوله: عنده يعود إلى الأشعري، وفي بعض الشروح أنه عائد إلى الإمام وهو مردود؛ لأن تفسير القول راجع إلى مقتضى قاعدة قائلة لا قاعدة مفسرة، ثم إن المصنف استشعر سؤالا على هذا البحث فأجاب عنه، وتقرير السؤال يقال: تعلق الحكم بالأفعال الاختيارية حادث، فيجوز أن يكون مراد الإمام بعد الحكم قبل البعثة عدم التعلق كما تقدم مثله في أول الكتاب في قولنا: حلت المرأة بعد أن لم تكن, أن معناه: حدث تعلق الحل لا الحل نفسه، والجواب: أن التعلق لا يتوقف على البعثة أيضا عند الأشعري؛ لجواز التعلق قبل الشرع، وإن لم يعلم المكلف إذ غاية ما يلزم منه أنه تكليف بالمحال، وهو جائز على

_ 1 ابن أبي هريرة: أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريح وأبي إسحاق المروزي، وشرح مختصر المزني، وعلق عنه الشرح أبو علي الطبري، وله مسائل في الفروع، ودروس ببغداد، وتوفي في رجب سنة "345هـ", "وفيات الأعيان 2/ 619". 2 الأشعري: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن إسحاق الأشعري، هو صاحب الأصول، والقائم بنصرة مذهب السنة, وإليه تنسب الطائفة الأشعرية, ومولده سنة "270هـ" وتوفي سنة "324هـ" ودفن بين الكرخ وباب البصرة "وفيات الأعيان: 3/ 249".

رأيه كما سيأتي. هذا حاصل كلام المصنف, فأما قوله: وفسره الإمام بعد الحكم فممنوع، فإن عبارته في أول هذه المسألة ثم هذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم، وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم، وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا؟ وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر، هذه عبارته وليس فيها ههنا اختيار شيء من هذه الاحتمالات التي نقلها، ثم إنه في آخر المسألة اختار تفسيره بعد العلم, فقال: وعن الأخير, أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة، هذا لفظ الإمام في المحصول بحروفه، وذكر مثله أيضا في المنتخب ولعل الذي أوقع المصنف في هذا اللغط، هو صاحب الحاصل فإنه قال في اختصاره للمحصول: ثم التوقف مرة يفسر بأنا لا ندري الحكم ومرة بعدم الحكم وهو الحق، هذه عبارته، وأما قوله: والأولى أن يفسر بعدم العلم فعبارة غير مفهمة للمراد؛ لأنها تحتمل ثلاثة أمور؛ أحدها: أنا لا نعلم هل فيها حكم أم لا؟ الثاني: أنا نعلم أن هناك حكما ولكن لا نعلمه بعينه, الثالث: أنا نعلم أيضا أن هناك حكما ولكن نعلم تعلقه بفعل المكلف، فاحتملت العبارة أن يكون المراد إما عدم العلم به، أو بتعينه، أو بتعلقه فأما الأول فلا يصح إرادته, وأما الثالث فكذلك أيضا؛ لأنه لو احتمل توقف التعلق على البعثة لصح الاعتراض المتقدم الذي استشعره، فأجاب عنه وهو عنده باطل وحاصله أن الذي حاول إرشاد الإمام إليه قد ذكره الإمام بعينه بعبارة هي أحسن من عبارته، وأما قوله: ولا يتوقف تعلقه ... إلخ فضعيف؛ لأنه لا يلزم من تجويزه التكليف بالمحال أن يكون التعلق سابقا على البعثة؛ لأنه لو لزم من ذلك لكان يلزم أن يكون التكليف بالمحال واجبا عنده وهو باطل، بل قام الدليل على أن هذه الصورة من المحال لم تقع وهو قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء: 15] الآية, ثم إن هذا من باب تكليف المحال لا من التكليف بالمحال, وستعرف الفرق بينهما في تكليف الغافل. قال: "احتج الأولون بأنها انتفاع خالٍ عن أمارة المفسدة ومضرة المالك فتباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره، وأيضا المآكل اللذيذة خلقت لغرضنا لامتناع العبث واستغنائه وليس للإضرار اتفاقا, فهو للنفع وهو إما التلذذ، أو الاغتذاء، أو الاجتناب مع الميل أو الاستدلال، ولا يحصل إلا بالتفاؤل وأجيب عن الأول بمنع الأصل، وعليه الأوصاف والدوران ضعيف، وعن الثاني أن أفعاله لا تعلل بالغرض, وإن سلم فالحصر ممنوع, وقال الآخرون: تصرف بغير إذن المالك فيحرم كما في الشاهد، ورد بأن الشاهد يتضرر به دون الغائب". قوله: احتجت المعتزلة البصرية على إباحة الأشياء قبل ورود الشرع بوجهين، أحدهما: أن تناول الفاكهة مثلا انتفاع خالٍ عن أمارات المفسدة؛ لأن الفرض أنه كذلك، وخالٍ عن مضرة المالك لأن مالكه هو الله تعالى، وهو لا يتضرر بشيء فيكون مباحا قياسا على الاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره بغير إذنه، فإنه أبيح لكونه انتفاعا خاليا عن أمارة المفسدة ومضرة المالك، فلما وجدنا الإباحة

دائرة مع هذه الأوصاف وجودا وعندما دل على أنها علة لها؛ لأن الدوران يدل على العلية، ثم إن هذه الأوصاف التي حكمنا بأنها علة للإباحة وجدناها في مسألتنا فحكمنا بإباحتها، وإنما قال عن أمارة المفسدة ولم يقل عن المفسدة؛ لأن العبرة في القبح إنما هو بالمفسدة المستندة إلى الأمارة، فأما المفسدة الخالية من الأمارة فلا اعتبار بها، ألا ترى أنهم يلومون من جلس تحت حائط مائل وإن سلم، دون الحائط المستقيم، وإن وقعت عليه والتمثيل باقتباس فاسد؛ لأن الاقتباس هو أخذ جزء من النار وهو لا يجوز بغير الإذن قطعا، قال الجوهري: القبس: شعلة من نار وكذلك المقباس يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي: أعطاني منه قبسا وكذلك اقتبست منه نارا، هذا لفظه بحروفه، فكان الصواب أن يقول: والاستضاءة بناره وشبهه، ولذلك لم يذكر الإمام هذا المثال، وإنما ذكره صاحب الحاصل فتبعه المصنف عليه، وأما التمثيل بالاستظلال فليس مجمعا عليه بل فيه خلاف في مذهبنا حكاه الإمام في النهاية في كتاب الصلح في الجدار لمالكين يقع فينفرد أحدهما ببنائه. الدليل الثاني: أن الله تعالى خلق المآكل اللذيذة لغرضنا إذ لو كان لا لغرض البتة لكان عبثا وهو على الله تعالى محال، ولو كان لغرض راجع إليه لكان مفتقرا إليه، والبارئ سبحانه وتعالى مستغن عن كل شيء، فتعين أن يكون لغرضنا, وذلك الغرض ليس هو الإضرار بالاتفاق من العقلاء، فتعين أن يكون خلقها للنفع، وذلك النفع إما أن يكون دنيويا كالتلذذ والاغتذاء، أو دينيا عمليا، كالاجتناب مع الميل لكون تناولها مفسدة, فيستحق الثواب باجتنابها كالخمر، أو دينيا عمليا كالاستدلال بها، أي يشتهي طعومها على كمال قدرة الله تعالى، كما قال في الحاصل وذلك كله لا يحصل إلا بالتناول، أما الأول والثاني والرابع فواضح، وأما الثالث؛ فلأن ميل النفس إلى الشيء إنما يكون بعد تقدم إدراكه, فلزم من ذلك كله أن يكون الغرض في خلقها هو التناول؛ لأنا قررنا أن الخلق لغرض، وأن الغرض هو نفع، وأن النفع محصور في الأربعة، وأن الأربعة لا تحصل إلا بالتناول فينتج أن الخلق لأجل التناول، وإذا كان كذلك كان التناول مباحا. "واعلم" أن ذكر الاغتذاء في هذا التقسيم مفسد؛ لأن الاغتذاء لا يحرم قطعه لكونه مضطرا إلى تناول ما يغذيه كما قدمناه في أول المسألة، فالصلح للاغتذاء ليس مما نحن فيه، فلم يبق إلا الثلاثة الأخيرة. لا جرم أن الإمام لم يذكر هذا القسم في المحصول ولا في المنتخب, نعم ذكره صاحب الحاصل فتابعه المصنف عليه. قوله: "وأجيب عن الأول" أي: الجواب عن الدليل الأول، وهو القياس على الاستظلال والاقتباس بجامع الانتفاع المذكور من وجهين, أحدهما: لا نسلم أن الأصل المقيس عليه وهو الاستظلال والاقتباس مباح قبل الشرع؛ لأنه فرد من أفراد المسألة, وإباحته الآن إنما ثبتت بالشرع, والكلام فيما قبل الشرع لا فيما بعده. الثاني: سلمنا إباحة الأصل المقيس عليه، لكن لا نسلم أن العلة في إباحته وهذه الأوصاف، وهو الانتفاع

الخالي عن أمارة المفسدة ومضرة المالك, والقياس إنما يصح عند اشتراكهما في العلة, فإن قيل: وجدنا الإباحة دائرة مع هذه الأوصاف وجودا أو عدما، أي: متى وجدت هذه الأوصاف وجدت الإباحة, ومتى عدمت عدمت، فدل ذلك على أنها هي العلة, فالجواب: أن دلالة الدوران على كون الوصف علة للشيء الذي دار معه دلالة ضعيفة على ما سيأتي في القياس؛ لأن الراجح أنها لا تفيد القطع بل الظن، وفي هذا نظر لأن الدوران يفيد القطع بالعلية عند المعتزلة كما نقله صاحب الحاصل وغيره، فقوله: بمنع الأصل أي: المقيس عليه وقوله: وعليه الأوصاف أي: وبمنع علية الأوصاف، وهي كونها علة، وقوله: والدوران ضعيف جواب عن سؤال مقدر. قال التبريزي في مختصر المحصول المسمى بالتنقيح: القياس على الاستظلال وشبهه فاسد، إذ لا تصرف فيه البتة، ولذلك يصح من المالك المنع منها بخلاف ما نحن فيه، قال: ثم إنه معارض بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولا ضرر فيه على الملك فكان حراما كنقل الحديد من موضع إلى موضع، وشبهه مما لا ضرر فيه البته. قوله: "وعن الثاني" أي: الجواب عن الدليل الثاني وهو قولهم: إن الله تعالى خلق المآكل اللذيذة لغرضنا من وجهين, أحدهما: أن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض، وهذا الكلام من المصنف يحتمل نفي التعليل مطلقا، ونفي التعليل بالغرض، أي: لا نسلم أن الله تعالى يجب تعليل أحكامه بل له أن يفعل ما شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا، كما نقلناه عن المحصول في الفرع قبله أو معناه: لا نسلم صحة إطلاق الغرض في حق الله تعالى، وإن كان فعله لا بد من مصلحة لنا. الثاني: سلمنا صحة تعليله بالغرض لكن لا نسلم أن الغرض محصور في الأربعة التي ذكروها, فإنهم لم يقيموا حجة على الحصر، ونحن ننازع فنقول: يجوز أن يكون الغرض في خلقها هو التنزه بمشاهدتها، أو الاستنشاق بروائحها، أو الاستدلال على معرفة الصانع باختلاف ألوانها، وأشكالها الغريبة، والجواب الأول فيه نظر؛ لأن الكلام في هذين الشرعين إنما هو بعد تسليم أن العقل يحسن ويقبح، ومع تسليمه تجب مراعاة المصالح والمفاسد ويمتنع الخلق لا المعنى، وهذان الجوابان ذكرهما صاحب الحاصل فتبعه المصنف عليهما، ولم يجب الإمام بشيء منهما, وإنما أجاب بالنقض بخلق الطعوم المهلكة، وذلك يدل على أن الغرض ليس محصورا في النفع بل قد يكون خلقها للإضرار، ولم يرتض صاحب التحصيل هذا الجواب الذي ذكره الإمام قال: لأنه يمكن الانتفاع بالمؤذي بالتركيب مع ما يصحله, ثم أجاب بجوابين, أحدهما: منع الحصر كما تقدم، والثاني: أنه يمكن معرفته بتناول واقع في غير حال التكليف كالواقع في حال الصغر أو السهو، ونحن لا نسمي فعل غير المكلف مباحا, فتخلص من هذه الأجوبة كلها، أن نقول: لا نسلم أنه خلقها لغرض سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه خلقها للنفع, فقد يكون الغرض هو الإضرار كالسموم، سلمنا أنه نفع فلا نسلم الحصر في الأربعة، سلمنا انحصاره لكن لا يدل

على الإباحة لجواز معرفته بفعل الصغير وشبهه. وقوله: "وقال الآخرون" يجوز فيه خانه وهو ظاهر، وكسرها لأنه قسيم قوله: احتج الأولون وحاصله أن القائلين بالتحريم احتجوا بأنه تصرف في ملك الله تعالى بغير إذنه, فيحرم قياسا على الشاهد وهم المخلوقات, ورد هذا القياس بالفرق, وهو أن الشاهد يتضرر بذلك دون الغائب سبحانه وتعالى، وهذا الجواب أخذه المصنف من الحاصل وأجاب الإمام بمعارضة هذا الدليل بالدليل الدال على الإباحة, وهو القياس على الاستظلال, والأول أحسن. قال: "تنبيه: عدم الحرمة لا يوجب الإباحة؛ لأن عدم المنع أهم من الإذن" أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر أورده الفريقان على القائلين بالتوقف بمعنى أنه لا حكم، فقالوا: هذه الأفعال إن كانت ممنوعا منها فتكون محرمة، وإلا فتكون مباحة، ولا واسطة بين النفي والإثبات، وأجاب عنه في المحصول بوحهين, الأول: وهو على تقدير أن يفسر الوقف بعد الحكم هو الحظر أو الإباحة, فسقط السؤال والجواب. الثاني: وهو على تقدير أن يفسر الوقف بعد الحكم فنقول: أما قولكم: إن كانت هذه التصرفات ممنوعا منها, فتكون محرمة فإنه مسلم، وأما قولكم: إذا لم تكن ممنوعا منها فتكون مباحة فغير مسلم؛ لأنه قد يوجد عدم المنع من الفعل، ولا توجد الإباحة بدليل فعل غير مكلف كالنائم فإنه ليس ممنوعا منه، ومع ذلك لا يسمى مباحا؛ لأن المباح هو الذي أعلم فاعله، أو دل بأنه لا حرج في فعله ولا في تركه. فإذا لم يوجد هذا الإذن لا توجد الإباحة فتلخص أن عدم المنع من الفعل أعم من الإذن فيه؛ لأنه قد يوجد معه وقد لا يوجد، والأعم لا يستلزم الأخص فيكون عدم الحرمة لا يستلزم الإباحة، فيصبح تفسير الوقف بعدم الحكم, وفيما قاله نظر؛ لأن المراد من الإباحة في هذه الصورة هي الإباحة العقلية، وهي عدم المنع لا الإباحة الشرعية حتى يقال: لا بد فيها من الإذن. "واعلم" أن المصنف لم يتعرض لمن يورد عليه السؤال ولا لكيفية إيراده، وقد ظهر أنه لا يرد من أصله على المصنف لأمرين أحدهما: أنه لم يصرح باختيار الوقف, الثاني: أنه فسر الوقف بعدم العلم, ولا يرد أيضا على الإمام في الحقيقة لما تقدم لك من كونه يختار التفسير بعدم العلم أيضا، وحاصله: أنه إيراد على تفسير لم يرتضه عن قائل غلط في نسبته إليه كما تقدم لمذهب لم يختره، وقد التبس المقصود على كثير من شراح هذا الكتاب, فاجتنب ما وقعوا فيه من الوهم.

الفصل الثاني: في المحكوم عليه

الفصل الثاني: في المحكوم عليه المسألة الأولى: قال: "الفصل الثاني في المحكوم عليه وفيه مسائل: الأولى: أن المعدوم يجوز الحكم عليه, كما أنا مأمورون بحكم الرسول -عليه الصلاة والسلام- قيل: الرسول قد أخبر أن من سيولد فإن الله تعالى سيأمره، قلنا: أمر الله تعالى في الأول معناه أن فلانا إذا وجد فهو مأمور بكذا قيل: الأمر في الأزل ولا سامع ولا مأمور عبث بخلاف أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- قلنا: مبني على القبح العقلي، ومع هذا فلا سفه في أن يكون في النفس

طلب التعلم من ابن سيولد". أقول: لما فرغ من الكلام في الحاكم انتقل إلى المحكوم عليه وذكر فيه أربع مسائل, الأولى: في جواز الحكم على المعدوم ولنقدم عليه مقدمة فنقول: اختلفوا في معنى كونه تعالى متكلما فقالت المعتزلة: معناه أنه خالق الكلام, فعلى هذا يكون الكلام عندهم من صفات الأفعال يوجد فيما لا يزال، وقالت الحنابلة: كلامه تعالى عبارة عن الحروف والأصوات وهي قديمة، وأنكروا كلام النفس، وقال الأشعري وأتباعه: إنه صفة قديمة قائمة بذاته, لا أول لوجودها وهو صفة واحدة في نفسه لا تعدد فيه بحسب ذاته، بل بحسب الإضافات وهو مع وحدته أمر ونهي وخبر ونداء, وانقسامه إلى هذه الأشياء بحسب متعلقاته, فإنه إن تعلق بطلب الفعل كان أمرا، أو بطلب الترك كان نهيا، فكونه أمرا أو نهيا أوصاف لا أنواع، كما أن الجوهر في نفسه واحد وإن كان مشتملا على أوصاف كالتحيز والقيام بنفسه, والقبول للأعراض، إذا عرف هذا فنقول: لما كان الحكم عند الأشاعرة هو خطاب الله بنفسه, والقبول للأعراض، إذا عرف هذا فنقول: لما كان الحكم عن الأشاعرة هو خطاب الله تعالى، كما تقدم، وخطاب الله تعالى هو كلامه الأزلي كما بيناه لزمهم أن يقولوا: إن الأمر والنهي ثابتان في الأزل، وليس ثم مأمور ولا منهي فلذلك قالوا: المعدوم يجوز الحكم عليه وهذه هي عبارة المصنف، وهي أحسن من قول الإمام: المعدوم يجوز أن يكون مأمورا؛ لأن الحكم أعم, قال في المحصول: وليس معنى كون المعدوم مأمورا أنه يكون مأمورا حال عدمه؛ لأنه معلوم البطلان بل على معنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال، ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر هذا لفظه، وذكر الآمدي نحوه فقال: معناه قيام الطلب القديم بذات الرب سبحانه وتعالى للفعل من المعدوم بتقديم وجوده, وتهيئه لفهم الخطاب، فإذا وجدوا تهيؤا للتكليف صار مكلفا بذلك الطلب، قال: وأنكره سائر الفرق، لنا أن الواحد منا حال وجوده يصير مأمورا بأمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حالة عدمنا فكذلك في حق الله تعالى، اعترض الخصم على هذا الدليل فقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام مخبر ومبلغ عن الله تعالى أوامره, إما بالوحي، أو بالاجتهاد، وليس هو بمنشئ الأوامر من عنده, فالأمر الوارد منه إخبار عن الله تعالى بأنه سيأمرهم عند وجودهم, فلم يحصل الأمر عند عدم المأمور، بخلاف دعواكم في أمر الله تعالى, والجواب: أن أمر الله تعالى في الأزل عبارة عن الإخبار أيضا؛ لأن معناه أن فلانا إذا وجد بشروط التكليف, صار مكلفا بكذا. واعلم أن كون الأمر معناه الإخبار, نقله في المحصول والمنتخب هنا عن بعض الأصحاب, فجزم به صاحب الحاصل فتبعه المصنف عليه، وقد صرح بإبطاله الكتابين المذكورين في أوائل الأوامر والنواهي في الكلام على أن الطلب غير الإرادة, نعم جزم بعكس ذلك وموافقة كلام المصنف في المحصول في الكلام عن تكليف ما لا يطاق, وفي الأربعين في المسألة السابعة عشرة, وفي معالم أصول الدين في المسألة الثامنة

عشرة, قال في المحصول هنا: وهو مشكل من وجهين أحدهما: أنه لو كان خبرًا لتطرق إليه التصديق والتكذيب والأمر لا يتطرق إليه ذلك، الثاني: أنه لو أخبر في الأزل لكان إما أن يخبر نفسه وهو سفه أو غيره, وهو محال لأنه ليس هناك غيره، قال: ولصعوبة هذا المأخذ ذهب عبد الله بن سعيد1 من أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا، ثم صار فيما لا يزال كذلك, ولقائل أن يقول: إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر والنهي والخبر، فإذا سلمت حدوثها فقد قلت بحدوث الكلام، فإن ادعيت قدم شيء آخر فعليك بإفادة تصوره, ثم إقامة الدليل على أن الله تعالى موصوف به، ثم إقامة الدليل على قدمه، ولابن سعيد أن يقول: أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام كلام المحصول. واعلم أن الإمام لما ذكرنا أن أمر الله تعالى معناه الإخبار, جعله عبارة الإخبار بنزول العقاب على من يترك، ثم استشكله بالوجهين السابقين، وبأنه يلزم أن لا يجوز العفو؛ لأن الخلف في خبر الله تعالى محال فعدل المصنف عن كونه إخبارا بنزول العقاب إلى الإخبار بمصيره مأمورا تقليلا للإشكال؛ لأن سؤال العفو لا يرد عليه، وإنما يرد عليه الأولان فقط، وهو من محاسن كلامه، على أنا نجيب عن العفو بأن نقول: الأمر عبارة عن الإخبار بنزول العقاب إذا لم يحصل عفو. وقوله: "قيل: الأمر في الأزل ... إلخ" لما شبهنا أمر الله تعالى في الأزل بأمر الرسل لنا قبل وجودنا، اعترضوا عليه بما سبق فأجبنا عنه، فشرعوا في فرق آخر بينهما فقالوا: كيف يعقل الأمر في الأزل, سواء كان بمعنى الإخبار أم بمعنى الإنشاء؛ لأن الأمر في الأزل مع أنه لا مأمور إذ ذاك فيمتثل ولا سامع فينتقل, عبث وسفه كمن جلس في داره وأمر ونهى من غير حضور مأمور ومنهي، بخلاف أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فإن هناك سامعا مأمورا يعمل به وينقله إلى المأمورين المتأخرين، ويحتمل أن يريد بقوله: ولا سامع أي: إن جعلناه خبرا، وبقوله: ولا مأمور أي: جعلناه أمرا حقيقة، والجواب عنه: أن نقول: إن أردتم أنه قبيح شرعا فممنوع, وإن أردتم أنه قبيح عقلا فمسلم، ولكنا قد بينا فساد الحسن والقبح العقليين, ومع هذا أي: ومع تسليمنا القول بالتقبيح العقلي فلا سفه في مسألتنا، وذلك لأنه ليس المراد بالأمر أن يكون في الأزل لفظ هو أمر أو نهي، بل المراد معنى قويم قائم بذات الله تعالى وهو اقتضاء الطاعة من العباد وأن العباد إذا وجدوا يصيرون مطالبين بذلك الطلب، وهذا لا سفه فيه كما لا سفه في أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد، وما قاله المصنف ضعيف من وجهين: أما الأول فلأن الحسن والقبح بمعنى الكمال، والنقص عقليان باتفاق، كما تقدم بسطه في أول الفصل الذي قبل هذا, والقبح هنا بمعنى النقص لا بمعنى ترتب الثواب والعقاب على الفعل، فإن وروده هنا مستحيل، وأما الثاني فلا نسلم أنه يقوم بذات الأب حال عدم الولد أمر محقق بل مقدر، أي: لو كان لي ولد لكنت آمره.

_ 1 عبد الله بن سعيد بن كلاب، أبو محمد القطان، متكلم من العلماء يقال له: ابن كلاب، قال السبكي: وكلاب بضم الكاف وتشديد اللام, قيل: لقب بهذا؛ لأنه كان يجتذب الناس إلى معتقده إذا ناظر عليه, مثل ما يجتذب الكلاب الشيء, له كتب منها: الصفات وخلق الأفعال، والرد على المعتزلة توفي سنة "245هـ" "الأعلام: 4/ 90".

المسألة الثانية

المسألة الثانية: قال: "المسألة الثانية: لا يجوز تكليف الغافل من أحال تكليف المحال, فإن الإتيان بالفعل امتثالا يعتمد الفعل ولا يكفي مجرد الفعل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" 1 ونوقض بوجوب المعرفة، وأجيب بأنه مستثنى" أقول: تكليف الغافل كالساهي والنائم والمجنون والسكران وغيرهم لا يجوزه من منع التكليف بالمحال, هكذا قاله المصنف، وفيه نظر من وجهين, أحدهما: أن مفهومه أن القائلين بجواز التكليف بالمحال جوزوا هذا، وهو أيضا مفهوم كلام المحصول، وليس كذلك، بل إذا قلنا بجواز ذلك, فللأشعري هنا قولان نقلهما ابن التلمساني2 وغيره, قال: والفرق أن هناك فائدة في التكليف، وهي ابتلاء الشخص واختباره، والثاني: فرق ابن التلمساني وغيره بين التكليف بالمحال وتكليف المحال فقالوا: الأول هو أن يكون المحال راجعا إلى المأمور به, والثاني: أن يكون راجعا إلى المأمور، كتكليف الغافل, وعلى هذا فالصواب أن يقول: من أحال التكليف بالمحال بزيادة الباء في المحال. واعلم أن الشافعي -رحمه الله تعالى- قد نص في الأم على أن السكران مخاطب مكلف كذا نقل عنه الروياني في البحر في كتاب الصلاة, وحينئذ فيكون تكليف الغافل عنه جائزا؛ لأنه فرد من أفراد المسألة كما نص عليه الآمدي وابن الحاجب، ثم استدل المصنف على امتناع تكليف الغافل بأن الإتيان بالفعل المعين لغرض امتثال أمر الله سبحانه يعتمد العلم أي بالأمر, وكذا بالفعل المأتي به أيضا وعليه اقتصر في المحال, وإنما قلنا: إنه يعتمد العلم أي: يتوقف عليه؛ لأن الامتثال هو أن يقصد إيقاع الفعل المأمور به على سبيل الطاعة، ويلزم من ذلك علمه بتوجه الأمر نحوه وبالفعل. قوله: "ولا يكفي مجرد الفعل" هو جواب عن سؤال مقدر توجيهه أن الفعل المجرد عن قصد الامتثال والطاعة قد يقع من الغافل على سبيل الاتفاق، وحينئذ فإذا علم الله تعالى وقوع الفعل من شخص فلا استحالة في تكليفه به، فلم قلتم: إنه لا بد من قصد الامتثال حتى إنه يلزم منه العلم بالفعل وبتوجه الطلب نحوه، وجوابه: أنا إنما قلنا بذلك للحديث الصحيح المشهور وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". قوله: "ونوقض بوجوب المعرفة" أي: هذا الدليل ينتقض بوجوب معرفة الله تعالى وتقريره من وجهين ذكرهما

_ 1 أخرجه البخاري في الصحيح، عن عمر بن الخطاب، كتاب بدء الوحي، باب1، رقم الحديث 1. 2 ابن التلمساني: عبد الله بن محمد بن أحمد التلمساني، ابن الشريف من علماء المالكية، اشتهر في تلمسان، وصنف كتبا منها: شرح المعالم, وشرح اللمع، وغيرهما, وتوفي غريقا بالبحر وهو منصرف من سفره يريد بلده تلمسان. "الأعلام: 4/ 127".

الإمام, أحدهما: أن التكليف بها حاصل بدون العلم بالأمر، وذلك بأن الأمر بمعرفة الله تعالى وارد فلا جائز أن يكون واردا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل, فيكون واردا قبله وحينئذ فيستحيل الاطلاع على هذا الأمر؛ لأن معرفة أمر الله تعالى بدون معرفة الله تعالى مستحيل فقد كلف بشيء وهو غافل عنه. التقرير الثاني: أنه يستحيل قصد الامتثال فيها؛ لأن المكلف لا يعرف وجوبها عليه كما قررناه, فقد كانت بشيء لا يجب فيه قصد الامتثال، والجواب: أن هذا مستثنى من القاعدة لقيام الدليل عليه، وعلى التقرير الثاني قال الإمام: فيستثنى أيضا قصد الطاعة فإنه لو افتقر إلى قصد آخر للزم التسلسل. واعلم أن الإمام لم يجب عن هذين الدليلين بل قال: إنهما يؤيدان القول بتكليف ما لا يطاق، والذي أجاب به المصنف أخذه من الحاصل وفيه نظر، فإن النقض يحصل بصورة واحدة، وأجاب ابن التلمساني ثم القرافي عن الأول بأن الأمر بالمعرفة التفصيلية يرد بعد المعرفة الإجمالية، وحينئذ فلا يلزم شيء من المحذورين المتقدمين.

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة: قال: "المسألة الثالثة: الإكراه الملجئ يمنع التكليف لزوال القدرة" أقول: الإكراه قد ينتهي إلى حد الإلجاء وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار كالإلقاء من شاهق، وقد لا ينتهي إليه كما لو قيل له: إن لم تقتل هذا وإلا قتلتك، وعلم أنه إن لم يفعل وإلا قتله, فالأول يمنع التكليف أي: يفعل المكروه عليه, وبنقيضه قال في المحصول: لأن المكره عليه واجب الوقوع وضده ممتنع والتكليف بالواجب والممتنع محال, وهذا هو معنى قول المصنف: لزوال القدرة؛ لأن القادر على الشيء هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهذا القسم لا خلاف فيه كما قال ابن التلمساني، وأما الثاني وهو غير الملجئ فمفهوم كلام المصنف أنه لا يمنع التكليف, قال ابن التلمساني: وهو مذهب أصحابنا لأن الفعل ممكن والفاعل متمكن، قال: وذهبت المعتزلة إلى أنه يمنع التكليف في عين المكروه عليه دون نقيضه، فإنهم يشترطون في المأمور به أن يكون بحال يثاب على فعله, وإذا أكره على عين المأمور به فالإتيان به لداعي الإكراه, لا لداعي الشرع فلا يثاب عليه فلا يصح التكليف به بخلاف ما إذا أتى بنقيض المكره عليه, فإنه أبلغ في إجابة داعي الشرع، وقال الغزالي: الآتي بالفعل مع الإكراه كمن أكره على أداء الزكاة مثلا, إن أتى به لداعي الشرع فهو صحيح أو لداعي الإكراه فلا, ورد القاضي على المعتزلة بالإجماع على تحريم القتل عند الإكراه عليه. قال إمام الحرمين: وهذه هفوة من القاضي لما تقدم، وفيما قال نظر؛ لأن القاضي إنما أورده عليهم من جهة أخرى وذلك أنهم منعوا أن المكره قادر على عين الفعل والمكره عليه فبين القاضي أنه قادر؛ وذلك لأنهم كلفوه بالضد. وعندهم أن الله تعالى لا يكلف العبد إلا بعد خلق القدرة له والقدرة عندهم على الشيء له قدرة على ضده, فإن كان قادرا على ترك القتل كان قادرا على القتل هذا كله كلام ابن التلمساني، وقد اختار الإمام الآمدي وأتباعهما التفصيل بين الملجئ وغيره، كما اختاره المصنف لكنهما لم يبينا محل الخلاف، وقد بينه ابن التلمساني كما تقدم.

المسألة الرابعة

المسألة الرابعة: قال: "المسألة الرابعة: التكليف يتوجه عند المباشرة وقالت المعتزلة: بل قبلها. لنا أن القدرة حينئذ قبل التكليف في الحال بالإيقاع في ثاني الحال قلنا: الإيقاع إن كان نفس الفعل فمحال في الحال، وإن كان غيره فيعود الكلام إليه ويتسلسل, قالوا: عند المباشرة واجب الصدور قلنا: حال القدرة والداعية كذلك" أقول: قال في المحصول: ذهب أصحابنا إلى الشخص إنما يصير مأمورا بالفعل عند مباشرته له والموجود قبل ذلك ليس أمرا, بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا، وقالت المعتزلة: إنه إنما يكون مأمورا قبل وقوع الفعل، وهذا الذي قاله هو مراد المصنف وهو مشكل من وجوه: أنه يؤدي إلى سلب التكليف، فإنه يقول: لا أفعل حتى أكلف، ولا أكلف حتى أفعل. الثاني: أن جعلهم السابق إعلاما يلزم منه دخول الخلف في خبر الله تعالى على تقدير أن الشخص لا يفعل؛ لأنه إذا لم يفعل يكون مأمورا لكونه يصير مأمورا عند مباشرة الفعل, قد فرضنا أن لا فعل فلا أمر وحينئذ فيكون الإخبار بحصول الأمر غير مطابق، الثالث: أن أصحابنا نصوا على أن المأمور يجب أن يعلم كونه مأمورا قبل المباشرة، فهذا العلم إن كان مطابقا فهو مأمور قبلها، وإن لم يكن مطابقا فيلزم أن يكون عالما بذلك, الرابع: أن إمام الحرمين وغيره صرحوا بأن الأشعري لم ينص على جواز تكليف ما لا يطاق، وإنما أخذ من قاعدتين إحداهما: أن القدرة مع الفعل كما سيأتي بيانه، والثانية: أن التكليف قبل الفعل، فعلمنا أن المذكور هنا عكس مذهب الأشعري. الخامس: أن الإمام في المحصول لما قرر جواز التكليف بما لا يطاق استدل عليه بوجوه منها: أن التكليف قبل الفعل بدليل تكليف الكافر بالإيمان والقدرة غير موجودة قبل الفعل وذلك تكليف بما لا يطاق، وذكر نحوه في المنتخب وهو مناقض لما ذكره هنا. قال القرافي: وهذه المسألة أغمض مسألة في أصول الفقه, قال إمام الحرمين في البرهان: والذهاب إلى أن التكليف عند الفعل مذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل وقد سلك الآمدي ومن تبعه طريقا آخر فقال: اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا, وعلى امتناعه بعد صدور الفعل، واختلفوا في جواز تعلقه به في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة. قوله: "لنا أن القدرة حينئذ" أي: حين الفعل ولا توجد قبله, فلو كان مكلفا قبل الفعل لكان مكلفا بما لا قدرة له عليه وهو محال، والدليل على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل من وجهين أحدهما: أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور كالضرب المتعلق بالمضروب، ووجود المتعلق بدون المتعلق محال, هكذا قرره الإمام في المحصول والمنتخب في أثناء الاستدلال على التكليف بما لا يطاق. الثاني, ما قاله إمام الحرمين في البرهان والشامل: أن قدرة العبد عرض، والعرض لا يبقى زمنين، فلو تقدمت القدرة لعدمت عند

حدوث المقدور, فلا يكون المقدور متعلقا بالقدرة, وذلك مستحيل. "واعلم" أن الاحتجاج على المعتزلة بأن القدرة مع الفعل غير مستقيم, فإنهم يقولون بأنها قبله كما نقله عنهم إمام الحرمين في الشامل والإمام فخر الدين في معالم الأصول؛ ولهذا لم يستدل به الإمام ولا أتباعه، وأما الدليلان المذكوران على ذلك فإن الأول منهما ينتقض بقدرة الله تعالى, فإنها ثابتة في الأزل بدون المقدور، وإلا لزم قدم العالم، فالصواب أن يقال: القدرة صفة لها صلاحية الإيجاد. قال إمام الحرمين: ومن أنصف من نفسه علم أن معنى القدرة هو التمكن من الفعل, وهذا إنما يعقل قبل الفعل، وأما الثاني فيقال عليه: لا نسلم أن العرض لا يبقى زمنين، سلمنا لكن الذي نقول به: لا نقول بزواله لا إلى بدل يخلفه أمثاله. قوله: "قبل التكليف في الحال" أي: أجابت المعتزلة عن هذا بأن التكليف الذي أثبتناه قبل المباشرة ليس هو التكليف بنفس الفعل حتى يلزم أن يكون تكليفا بما لا قدرة للمكلف عليه بل التكليف في الحال أي: قبل المباشرة إنما هو بإيقاع الفعل في ثاني الحال أي: حال المباشرة. وأجاب المصنف بأن إيقاع المكلف به إن كان هو نفس الفعل فالتكليف به محال في الحال أي: قبل الفعل لأنه يلزم من امتناع التكليف بالفعل قبل التلبس به امتناع التكليف بالإيقاع؛ لأن الفرض أنه هو، وإن كان الإيقاع قبل الفعل فيعود الكلام إلى هذا الإيقاع فنقول: هذا الإيقاع المكلف به، هل وقع التكلف به في حال وقوعه أو قبله؟ فإن كان في حال وقوعه فيلزم أن يكون التكليف حال المباشرة وهو المدعى، وإن كان قبل فيلزم أن يكون مكلفا بما لا قدرة له عليه؛ لأنا بينا أن القدرة مع الفعل، فإن قالوا: التكليف إنما هو بإيقاع ينتقل الكلام إليه إلى التسلسل، أو ينتهي إلى إيقاع يكون التكليف به حالة مباشرته وهو المدعى، والذي قاله ضعيف، فإن قول الخصم: إنه مكلف في الحال بالإيقاع في ثاني الحال لا شك أن معناه أن التكليف في الحال والمكلف به هو الإيقاع في ثاني الحال وهو زمان القدرة، فكيف يصح الاعتراض بما قال؟ وكأنه توهم أن المراد أن الإيقاع مكلف به في الحال وليس كذلك، ويوضح هذه مسألة ذكرها في المحصول عقب هذه المسألة فقال: إذا قال السيد لعبده: صم غدا فالأمر متحقق في الحال بشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل، قال: فأما إذا علم الله سبحانه وتعالى أن زيدا سيموت غدا فهل يصح أن يقال: إن الله تعالى أمره بالصوم غدا بشرط حياته؟ فيه خلاف؛ قطع القاضي أبو بكر والغزالي بجوازه لفائدة الامتحان، وتبعه جمهور المعتزلة, فقد وضح بهذه المسألة أنه يصح أن يؤمر الآن بالفعل في ثاني الحال. قوله: "قالوا: عند المباشرة واجب الصدور" أي: احتجت المعتزلة علينا بأن الفعل عند المباشرة واجب الوقوع فلا يكون مأمورا به لعدم القدرة عليه؛ لأن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك، ولأنه لو كان له قدرة على تحصيله لكانت محصلة للحاصل، وأجاب المصنف بقوله: قلنا: حال القدرة والداعية كذلك, وتقريره متوقف على تفسير القدرة والداعية، فأما

القدرة فالمراد بها هنا هو التمكن من الفعل كما تقدم نقله عن البرهان، وأما الداعية فنقول: إذا علم الإنسان أو ظن أو اعتقد أن له في الفعل أو الترك مصلحة راجحة حصل في قلبه ميل جازم إليه, فهذا العلم أو الظن أو الاعتقاد هو المسمى بالداعية مجازا من قولهم: دعاه أي: طلبه، وكان علمه بالمصلحة طلب منه الفعل وقد يسمى الداعي بالغرض والمجموع من القدرة والداعية يسمى بالعلة التامة، فإذا وجدت يجب وقوع الفعل, وقيل: لا يجب لكن يصير الفعل أولى، وإذا عدمت الداعية امتنع وقوعه على المختار الذي جزم به الإمام، ونقل الأصبهاني شارح المحصول في الأوامر أن أكثر المتكلمين على أن الفعل لا يتوقف عليها، إذا علمت ذلك فتقرير ما قاله المصنف من وجهين، أحدهما ما قاله في المحصول: أن القدرة مع الداعي مؤثرة في وجوه الفعل, ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر فتكون القدرة مقارنة للفعل مع كونه واجب الوقوع, فانتفى قولكم: إن ما كان واجب الصدور لا يكون مقدورا، الثاني وهو الأقرب إلى كلام المصنف وأشار إليه صاحب الحاصل: أن الفعل يترتب وجوده على وجود القدرة مع الداعية فيكون مأمورا حال القدرة والداعية عند المعتزلة لكونه من جملة الأزمان التي قبل الفعل مع أن الفعل واجب الوقوع في تلك الحالة فينتفي ما قلتموه. "واعلم" أن العلة هل هي متقدمة على المعلول أو مقارنة له؟ فيه قولان مشهوران, فإن التزم الخصم القول الأول فجوابه الثاني، وإن التزم الثاني فجوابه الأول, فتلخص أنه لا بد منهما, ولك أن تقول: إذا كان الفعل قبل المباشرة غير مقدور عليه، وعند المباشرة واجب الوقوع فيلزم التكليف بالممتنع أو الواجب, وهو محال.

الفصل الثالث: في المحكوم به

الفصل الثالث: في المحكوم به المسألة الأولى: قال: "الفصل الثالث في المحكوم به وفيه مسائل: الأولى: التكليف بالمحال جائز؛ لأن حكمه لا يستدعي عرضا قبل لا يتصور وجوده, فلا يطلب قلنا: إن لم يتصور امتنع الحكم باستحالته غير واقع بالممتنع لذاته, كإقدام القديم, وقلب الحقائق للاستقراء, ولقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فقيل: أمر أبا لهب بالإيمان بما أنزل, ومنه أنه لا يؤمن فهو جمع بين النقيضين قلنا: لا نسلم أنه أمر به بعد ما أنزل أنه لا يؤمن" أقول: المستحيل على أقسام أحدها: أن يكون لذاته ويعبر عنه أيضا بالمستحيل عقلا، وذلك كالجمع بين الضدين والنقيضين, والحصول في حيزين في وقت واحد، والثاني: أن يكون للعادة كالطيران، وخلق الأجسام, وحمل الجبل العظيم, والثالث: أن يكون لطيران مانع كتكليف المقيد العدو، والزمن المشي، والرابع: أن يكون لانتفاء القدرة عليه حالة التكليف مع أنه مقدور عليه حالة الامتثال كالتكاليف كلها؛ لأنها غير مقدورة قبل الفعل على رأي الأشعري, إذ القدرة عنده لا تكون إلا مع الفعل كما قدمناه في المسألة السابقة, والخامس: أن يكون لتعلق العلم به كالإيمان من الكافر الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن, فإن الإيمان منه مستحيل إذ لو آمن لانقلب علم الله تعالى جهلا، وهذا التقسيم اعتمده فإن بعضهم قد زاد فيه ما ليس منه وغاير بين أشياء

وهي متحدة في المعنى إذا تقرر ذلك، فالقسم الخامس جائز واقع اتفاقا إذ لو لم يكونوا مأمورين بذلك لما عصموا باستمرارهم على الكفر، ونقل الآمدي عن بعض التنويه أنه منع جوازه، والرابع أيضا واقع عند الأشعري بمقتضى الأصل الذي أصله, وأما الثلاثة الأوائل فهي محل النزاع، وممن صرح بذلك مع وضوحه القرافي في شرح المحصول والتنقيح وحاصل ما فيها من الخلاف ثلاثة مذاهب أصحها عند المصنف، أنه يجوز مطلقا وهو اختيار الإمام وأتباعه، والثاني: المنع مطلقا ونقله في المحصول عن المعتزلة واختاره ابن الحاجب, ونص عليه الشافعي كما نقله الأصفهاني في شرح المحصول عن صاحب التلخيص، والثالث: إن كان ممتنعا لذاته فلا يجوز, وإلا فيجوز واختاره الآمدي، وإذا قلنا بالجواز ففي وقوعه مذاهب أحدها: المنع مطلقا سواء كان ممتنعا لذاته أم لا، والثاني: الوقوع فيهما واختاره في المحصول، والثالث: التفصيل وهو اختيار المصنف كما سيأتي وقد تردد النقل عن الشيخ أبي الحسن الأشعري قال البرهان: وهذا سوء معرفة بمذهبه، فإن التكاليف كلها عنده تكليف بما لا يطاق لأمرين أحدهما: أن الفعل مخلوق لله تعالى فتكليفه به تكليف بفعل غيره، الثاني: أنه لا قدرة عنده إلا حال الامتثال والتكليف سابق، وهذا التخريج لا يستلزم وقوع الممتنع لذاته فافهمه، وهذا كله في التكليف بالمحال أما التكليف المحال بإسقاط الباء ففي جوازه قولان للأشعري, وقد تقدم الفرق في تكليف الغافل, ثم استدل المصنف على الجواز بقوله؛ لأن حكمه لا يستدعي غرضا أي: إنما يستحيل الأمر بما لا يقدر المكلف عليه إذا كان غرض الآمر حصوله المأمور به, وحكمه تعالى لا يستدعي غرضا البتة لاستثنائه، وورود الأمر بهذا ليس للطالب كما نقله إمام الحرمين في الشامل عن أصحابنا، بل إن كان ممتنعا لذاته فالأمر به للإعلام بأنه معاقب لا محالة؛ لأن له تعالى أن يعذب من يشاء، وإن كان ممتنعا لغيره فالأمر به لفائدة الأخذ في المقدمات، وهذا الدليل لا يتوجه على المعتزلة؛ لأنهم يمنعون هذه القاعدة. قوله: "قيل: لا يتصور وجوده فلا يطلب" يمكن تقريره على وجهين أحدهما: أن المحال لا يمكن وجوده في الخارج من المكلف وإذا كان كذلك فلا يطلب لأن طلبه عبث، وجواب هذا بمنع المقدمة الثانية فإنها محل النزاع، التقرير الثاني: أن المحال لا يتصور العقل وجوده وكل ما لا يتصور العقل وجوده لا يطلب، ينتج أن المحال لا يطلب، أما بيان الصغرى فلأن كل ما يتصوره العقل فهو معلوم؛ لأن التصور قسم من أقسام العلم وكل العلوم فهو متميز بالضرورة وكل متميز فهو ثابت؛ لأن التميز صفة وجودية والصفة الوجودية لا بد لها من موصوف موجود وإلا لزم قيام الموجود بالمعدوم وهو محال، فلو كان المحال متصورا لكان ثابتا, لكنه غير ثابت فلا يكون متصورا، وأما بيان الكبرى فلأن ما لا يتصور العقل وجوده فهو مجهول، وطلب الشيء مع الجهل به محال، وهذا التقرير قد صرح به الإمام والآمدي وأتباعهما وهو مراد المصنف،

وجوابه منع المقدمة الأولى؛ لأنه لو كان غير متصور لامتنع الحكم عليه بعين ما قالوه، ولكنهم حكموا عليه بالاستحالة، وقوله: غير واقع, هو خبر ثانٍ للتكليف بالمحال, جائز غير واقع بالممتنع لذاته، وحاصله أن المصنف اختار التفصيل بين الممتنع بالذات وبين غيره، وقد تقدم التنبيه على ذلك وأنه على خلاف رأي الإمام, ثم ذكر للممتنع بالذات مثالين أحدهما: إعدام القديم أي: الذي لا أول لوجوده وهو البارئ سبحانه وتعالى, فإنه قد تقرر في علم الكلام أن كل قديم وجودي يمتنع عليه العدم واحترزوا بالوجودي عن الأزلي فإنه قديم ولا يمتنع عدمه؛ لأن مفهومه عدمي وهو سلب الابتداء. الثاني: قلب الحقائق ومقتضى هذه العبارة أن قلب الحيوان جمادا والحجر ذهبا ونحوهما ممتنع لذاته وليس كذلك بل امتناعه لعجز الفاعل كما قيل في خلق الأجسام؛ لأنا لو قدرنا وقوعه لما كان يلزم منه محال، وقد صرح به مع وضوحه ابن الحاجب في أوائل مختصره, فينبغي حمل ذلك على القلب مع بقاء حقيقة الأول وحينئذ فيكون جمعا بين النقيضين وهو ممتنع لذاته, وبتقدير أولا يؤول كلامه فتستفيد منه أنه منع وقوع ما وقع فيه الخلاف، ثم استدل المصنف على عدم الوقوع بأمرين أحدهما: الاستقراء وعبر عنه المتكلمون بالسبر والتقسيم, والاستقراء هو الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئيات على ثبوته للقاعدة الكلية، وهو مأخوذ من قولهم: قرأت الشيء قرآنا أي: جمعته وضممت بعضه إلى بعض، حكاه الجوهري وغيره، والسبر فيه للطلب, فلما كان المجتهد طالبا للأفراد جامعا لها لينظر هل هي متوافقة أم لا, عبر عن ذلك بالاستقراء، وحاصل الدليل أنا تتبعنا التكاليف فلم نجد فيها ما هو ممتنع بالذات, الثاني: قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ووجه الدلالة: أن الآية لم تنف الجواز، وإنما نفت الوقوع عما ليس في الوسع. قوله: "قيل: أمر أبا لهب" يعني أن التكليف بالمستحيل لذاته قد وقع؛ وذلك لأن أبا لهب قد أمر بالإيمان بكل ما أنزل الله تعالى يعني بالتصديق به ومنه أي: ومما أنزل الله تعالى أنه لا يؤمن فقد صار أبو لهب مأمورا بأن يصدقه في أنه لا يؤمن، وإنما يحصل التصديق بذلك إذا لم يؤمن فصار مكلفا بأنه يؤمن وبأنه لا يؤمن, وهو جمع بين النقيضين، وهذا يحتمل أن يكون دليلا للقائلين بالوقوع، ويحتمل أن يكون نقضا منهم للدليل السابق وهو الاستقراء، وأجاب المصنف بأن ذلك إنما يلزم إذا كان الأمر بالإيمان بكل ما أنزل الله تعالى واردا بعد إنزال الله تعالى أنه لا يؤمن؛ لأنه إذا كان كذلك كان مأمورا بالإيمان به في الماضي، ومن جملته أنه لا يؤمن فيلزم المحال، ونحن لا نسلم ذلك بل يجوز أن يكون قد كلفه أولا بالإيمان بكل ما أنزل, ثم بعد ذلك أنزل أنه لا يؤمن، وعلى هذا التقدير فلا يلزم المحال لأن إخباره بأنه لا يؤمن ليس هو من الأشياء التي كلف بتصديقها؛ لكونه متأخرا عن الدليل الدال على الوجوب، وهذا الجواب باطل، بل هو مأمور بتصديق ما نزل وما سينزل إجماعا، والصواب ما قاله

إمام الحرمين وارتضاه ابن الحاجب وغيره أن هذا من باب التكليف بالمستحيل لغيره؛ وذلك لأن الله تعالى لما أخبر عنه بأنه لا يؤمن استحال إيمانه؛ لأن خبر الله تعالى صدق قطعا, فلو آمن لوقع الخلف في خبره تعالى وهو محال, فإذا أمر بالإيمان والحالة هذه فقد أمر بما هو ممكن في نفسه وإن كان مستحيلا لغيره، كما قلنا فيمن علم الله تعالى أنه لا يؤمن, وأما استدلالهم بكونه قد صار مكلفا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن وهو جمع بين النقيضين فجوابه من وجهين, أحدهما: أن هذا التغيير قد وقع في المحصول وصوابه أن يقول بأن يؤمن, بأن لا يؤمن بحذف الواو كما في المنتخب, فإنه مدلول الأمر بالإيمان بأنه لا يؤمن، وقد صرح به في الحاصل فقال: فيكون مكلفا بتصديق الله تعالى في أن لا يصدقه، وإذا كان كذلك فلا منافاة بينهما البتة؛ وذلك لأن التكاليف بالإيمان بأن لا يؤمن تكليف بتصديق هذا الخبر الوارد من الله تعالى وهو كونه لا يؤمن، والتكليف بتصديق الخبر ليس تكليفا بأن يجعل الخبر صدقا حتى يكون مأمورا باستمراره على الكفر بل هو محرم عليه، فكيف يسوغ أن يقال: إنه مأمور بأن لا يؤمن؟ أليس قد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] ؟ وإنما كلف بأن يصدق هذا المخبر وهو ممكن كما قلناه, أما تصييره صدقا فلا. الثاني ما ذكره صاحب التحصيل وهو حسن أيضا: أن الجمع بين النقيضين إنما يلزم أن لو كان مكلفا بالتصديق بجميع ما جاء به على التفصيل, ونحن لا نسلمه بل هو مأمور بالتصديق الإجمالي أي: بأن يعتقد أن كل خبره صدق، وعلم هذا فكيف يجيء التكليف بالمحال، وههنا أمران أحدهما: أن الإمام لما قرر هذا الدليل في المحصول والمنتخب قال: إنه مكلف بالجمع بين الضدين, وصاحب الحاصل جعلهما نقيضين فتابعه المصنف, والسبب في هذا أن صاحب الحاصل نظر إلى الإيمان وعدمه وهما نقيضان، وأما الإمام فإنه نظر إلى أن العدم غير مقدور عليه كما سيأتي, فلا يكون مكلفا به بل المكلف به هو كف النفس عن الإيمان والكف فعل وجودي فلا يكون نقيضا للإيمان بل ضدا له وهذا أدق نظرا وأصوب. الثاني: أن قول الإمام وأتباعه: إن الله تعالى أنزل في حق أبي لهب أنه لا يؤمن فيه نظرا لأن قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] لا يدل عليه إلا الخسران, وإن كان موجودا حال تلبسه بالكفر فقد يزول, وأما قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا} [المسد: 3] فكذلك لاحتمال أن يكون صلبه بسبب كبير أنه أتاها بعد الإسلام, وقد ذكر في المحصول في هذه المسألة آية أخرى وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] الآية, وهي لا تدل أيضا على إدخال أبي لهب فيها.

المسألة الثانية

المسألة الثانية: قال: "المسألة الثانية: الكافر مكلف بالفروع خلافا للمعتزلة, وفرق قوم بين الأمر والنهي، لنا أن الآيات الآمرة بالعادة تتناولهم، والكفر غير مانع لإمكان إزالته، وأيضا الآيات الموعدة على ترك الفروع كثيرة مثل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6, 7] وأيضا وإنهم كلفوا بالنواهي لوجوب حد الزنا عليهم, فيكونون مكلفين بالأمر قياسا قبل الانتهاء أبدا, ممكن دون الامتثال, وأجيب بأن مجرد الفعل والترك لا يكفي فاستويا وفيه نظر، قيل: لا يصح مع الكفر ولا قضاء بعده قلنا: الفائدة تضعيف العذاب" أقول: لا خلاف أن الكفار مكلفون بالإيمان، وهل هم مكلفون بالفروع كالصلاة والزكاة؟ فيه ثلاثة مذاهب أصحها نعم، ونقله في المحصول عن أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة, وقال في البرهان: إنه ظاهر مذهب الشافعي. والثاني: لا، وهو مذهب جمهور الحنفية والإسفرائيني من الشافعية، قال في المحصول: هو أبو حامد وقال في المنتخب: هو أبو إسحاق وعزاه في المنهاج إلى المعتزلة أيضا تبعا لصاحب الحاصل, فإنه نقله عنهم في أول المسألة وفي آخرها, وهو عكس ما في المحصول، وقد وقع في بعض النسخ خلافا للحنفية، وهو من إصلاح الناس. والثالث: أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، وذكر الإمام في المحصول في أثناء الاستدلال ما يقتضي أن الخلاف في غير المرتد، ونقل القرافي1 وغيره عن الملخص للقاضي عبد الوهاب2 حكاية إجراء الخلاف فيه أيضا. قال: ومر بي في بعض الكتب التي لا أستحضرها الآن أنهم مكلفون بما عدا الجهاد، وأما الجهاد فلا؛ لامتناع قتالهم أنفسهم، ومقتضى كلام المصنف أن الخلاف إنما هو في الوجوب والتحريم فقط؛ لأنه عبر أولا بالتكليف وقال: إن الفائدة هي العقاب وما عدا الواجب والمحرم لا تكليف فيه ولا عقاب, وأما من عبر بأنهم مخاطبون فإن عبارته شاملة للأحكام الخمسة. واعلم أن تكليف الكافر بالفروع مسألة فرعية، وإنما فرضها الأصوليون مثالا لقاعدة، وهي أن حصول الشرط الشرعي هل هو شرط في صحة التكليف أم لا؟ لا جرم أن الآمدي وابن الحاجب وغيرهما قد صرحوا هنا بالمقصود. قوله: "لنا" إن الدليل على أنهم مخاطبون مطلقا من ثلاثة أوجه الأول: أن الآيات الآمرة بالعبادة متناولة لهم كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ونحو ذلك, والكفر لا يصلح أن يكون مانعا من دخولهم؛ لأنهم متمكنون من إزالته بالإيمان، وبهذا الطريق قلنا: المحدث مأمور بالصلاة فثبت أن المقتضي للتكليف قائم والمانع مفقود, فوجب القول بتكليفهم عملا بالمقتضي السالم

_ 1 القرافي: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، من علماء المالكية، نسبته إلى قبيلة صنهاجة وإلى القرافة بالقاهرة، وهو مصري المولد والنشأة والوفاة، له مصنفات جليلة في الأصول والفقه, منها: الذخيرة، والاستغناء, وغيرهما توفي سنة "682هـ". "الأعلام: 1/ 94". 2 القاضي عبد الوهاب: أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين الثعلبي البغدادي الفقيه المالكي، كان فقيها أديبا شاعرا, صنف في مذهبه كتاب التلقين وله كتاب المعونة وشرح الرسالة وغير ذلك، وتوفي سنة "422هـ" ودفن بالقرافة. "وفيات الأعيان: 3/ 189".

عن المعارض. الدليل الثاني: أنهم لو لم يكونوا مكلفين بالفروع ما أوعدهم الله تعالى عليها, لكن الآيات الموعدة بتركها أي: بسبب تركها, كثيرة منها قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6, 7] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] وقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثرك 42, 43] الآية, فثبت كونهم مكلفين ببعض الأوامر وبعض النواهي، فكذلك الباقي إما قياسا، أو لأنه لا قائل بالفرق، وذكر في المحصول في هذه الآية الأخيرة مباحث كثيرة منها أن هذا التعليل حكاية عن قول الكفار فلا يكون حجة، وأجاب بأن ذلك يجب أن يكون صدقا؛ لأنه لو كان كذبا "مع أنه تعالى ما بين كذبهم" لما كان في حكايته فائدة، وكلام الله تعالى متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب المصير إليه، والذي ذكره مشتمل على قاعدتين نافعتين في مواضع، والموعد المذكور في كلام المصنف اسم فاعل من: أوعد, قال الجوهري: أوعد عند الإطلاق يكون للشر ووعد في الخير, وأنشد: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي الدليل الثالث: أنهم مكلفون بالنواهي بدليل وجوب حد الزنا عليهم, فيكونون مكلفين بالأمر قياسا عليها والجامع بينهما كما قال في المحصول والمنتخب هو إحراز المصلحة الحاصلة في النهي بسبب ترك المنهي عنه, وفي الأمر بسبب فعل المأمور به، ويمكن أن يقال: الجامع بينهما هو الطلب. قوله: "قيل: الانتهاء ممكن" أي: اعترض القائلون بالفرق بين الأوامر والنواهي على القياس بأن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه، والانتهاء عنه مع الكفر ممكن، والأمر يقتضي الامتثال، والامتثال مع الكفر غير ممكن؛ لأن النية في الامتثال لا بد منها، ونية الكافر غير معتبرة، وأجاب في المحصول بأن الفعل والترك المجردين عن النية لا يتوقفان على الإيمان، والإتيان بهما لغرض امتثال حكم الشرع يتوقف على الإيمان، فاستوى الانتهاء والامتثال، وبطل الفرق فإن الترك بغير نية الامتثال كافٍ في إسقاط التكليف فكذلك الفعل. قال المصنف: وفيه نظر ولم يبينه، وتقريره أن الترك على ثلاثة أقسام, أحدها: أن يكون للعجز فقط, فهذا غير مثاب بل معاقب على القصد. والثاني: أن يكون القصد الامتثال, فهذا خارج عن العهدة ومثاب. والثالث: أن لا يقصد شيئا البتة كمن لم تطالبه نفسه بشرب الخمر أو غيره من المنبهات, فلا يمكن القول بتأثيمه لحصول المطلوب منه وهو إعدام المفسدة، وفي ثوابه نظر، ومثل هذا لا يكفي في الفعل فإن الواجب لا يخرج عن عهدته إلا بالنية، واعتقاد وجوبه، وذلك فرع عن الإيمان، وإذا تقرر هذا صح الفارق وهو كون الانتهاء ممكنا دون الامتثال، وحينئذ فيبطل احتجاجنا على الخصم المفصل بالقياس، وإذا كان هذا الجواب عند المصنف لا يستقيم، فجوابه من أوجه:

أحدها: ما ذكره من بعد, وهو أن فائدة التكليف ليست منحصرة في الأمثال حتى ينتفي التكليف عند انتفاء إمكان الفعل, بل فائدته العقاب على تقدير أن لا يسلم ويفعل. الثاني: ما ذكره من قبل وهو كونه قادرا على الامتثال بعد إزالة المانع، وحاصله أن التجاء الفرق الذي ذكره الخصم دائر مع صحة السؤال الآتي وسيأتي إبطاله. الثالث: أن دعواهم منتقضة بالنفقات وغيرها مما لا يشترط فيه قصد التقريب. قوله: "قيل: لا يصح مع الكفر" أي: استدل من قال بتكليفهم بالنواهي دون الأوامر بأن الصلاة مثلا لو كانت واجبة, لكانت مطلوبة منهم؛ لأن الوجوب طلب الفعل مع المنع من الترك، ولكن لا يصح أن تكون مطلوبة منهم, أما في حال الكفر فلعدم صحتها، ويستحيل من الشارع طلب تعاطي الفاسد، وأما بعد الإسلام فلعدم وجوب قضائها عليهم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجبّ ما قبله" 1 فإذا تعذر الوجوب، وأجاب المصنف تبعا للإمام بأنه لا فائدة لهذا التكليف إلا تضعيف العذاب عليهم في الآخرة، فقولنا: إنهم مأمورون بها لا معنى له إلا أنهم يعاقبون عليها كما يعاقبون على الإيمان، وهذا الجواب مردود من وجهين, أحدهما: أنه غير مطابق لدليل الخصم أصلا فإن الخصم يقول لا شك: إن التعذيب في الآخرة متوقف على تقدم التكليف, فلا بد أن تختار أحد القسمين، إما حالة الكفر أو بعدها، ونجيب عما قاله الخصم فيه، والجواب الصحيح أن نختار أنه مكلف لإيقاع ذلك في زمن الكفر, ونجيب بما تقدم من كونه قادرا على إحالة المانع كالمحدث، ويكون زمن الكفر ظرفا للتكليف لا للإيقاع، أي: يكلف في زمن الكفر بالإيقاع، وذلك بأن يسلم ويوقع، والحديث حجة لنا؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم: "يجب" يقتضي سبق التكليف به ولكن يسقط ترغيبا في الإسلام. الاعتراض الثاني: أن دعواه أن لا فائدة لها في الدنيا باطلة بل لها فوائد، منها تنفيذ طلاقة وعتقه وظهاره وإلزامه الكفارات وغير ذلك، ومنها إذا قتل الحربي مسلما ففي وجوب القود أو الدية خلاف مبني على هذه القاعدة كما صرح به الرافعي، ومنها أنه هل يجوز تمكن الكافر الجنب من دخول المسجد؟ فيه خلاف مبني على هذه القاعدة أيضا، وإن كان المشهور في الفرعين خلاف قضية البناء، ومنها إذا دخل الكافر الحرم وقتل صيدا فإن المعروف لزوم الضمان, قال في المهذب: ويحتمل أن لا يلزمه، وهذا التردد منشؤه هذه القاعدة، ومنها فروع كثيرة نقل المعالمي عن محمد بن الحسن عدم الوجوب فيها معللا بذلك، ومذهبنا فيها الوجوب كوجوب دم الإساءة على الكافر إذا جاوز الميقات, ثم أسلم وأحرم، ووجوب زكاة الفطر على الكافر في عبده المسلم، ووجوب الاغتسال عن الحيض إذا كانت الكافرة تحت مسلم.

_ 1 أخرجه الهندي في كنز العمال، رقم الحديث "243"، وذكره العجلوني في كشف الخفاء "1/ 140".

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة: قال: "المسألة الثالثة: امتثال الأمر يوجب الإجزاء؛ لأنه إن بقي متعلقا به فيكون أمرا بتحصيل الحاصل أو بغيره، فلم يمتثل بالكلية. قال أبو هاشم 1: "لا يوجب كما لا يوجب النهي الفساد, والجواب طلب الجامع ثم الفرق"" أقول: هذا الكلام الذي ذكره المصنف هنا غير محرر فلنشرحه على ما هو عليه ثم نبين وجه الصواب فنقول: امتثال الأمر وهو الإتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب شرعا, يوجب الإجزاء، أي: سقوط الأمر كما صرح به في الحاصل، واقتضاء كلام المحصول لأن الأمر لو لم يسقط فإن كان متعلقا بين ما أتى به أي: طالبا له فيكون أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان متعلقا بغيره فيلزم أن لا يكون المأتي به أولا كل المأمور به بل بعضه، وحينئذ فلا يكون ممثلا وقد فرضناه ممثلا، وقال أبو هاشم وتابعه القاضي عبد الجبار2: إن امتثال الأمر لا يوجب الإجزاء، كما أن النهي عن الشيء لا يوجب الفساد, بدليل صحة البيع وقت النداء، والجواب طلب الجامع ثم الفرق أي: نطالبه أولا بالجامع بين الأمر والنهي، فإذا ذكر الجامع ذكرنا الفرق، وهذا الكلام مجرد استرواج فإن الجامع واضح بخلاف الفرق, فكان ينبغي له ذكر الفرق، والسكوت عن طلب الجمع كما فعل الإمام وأتباعه، وتقرير الجامع: أن كلا منهما طلب جازم لا إشعار له بذلك، وأيضا فالأمر ضد النهي، والنهي لا يدل على الفساد، فلا يدل على الأمر على الإجزاء؛ لأن الشيء يحمل على ضده كما يحمل على مثله, والفرق أن الأمر هو اقتضاء الفعل فإذا أدى مرة فقد انتهى الاقتضاء, وأما النهي فمدلوله المنع من الفعل، فإن خالف وأتى به فليس في اللفظ ما يقتضي للتعرض لحكمه، ولا منافاة بين النهي عنه وبين أن يقول: فإن أتيت به جعلته سببا لحكم آخر مع كونه ممنوعا منه، وهذا حاصل كلام الإمام وأتباعه في هذه المسألة. واعلم أنه قد تقدم أن الإجزاء يطلق على الأداء الكافي لسقوط ما عليه، ويطلق على إسقاط القضاء, فالجمهور يقولون: إنه يدل على أنه لا يجب قضاؤه، وأبو هاشم وعبد الجبار وأتباعهما يقولون: إنه لا يمتنع الأمر بالقضاء أيضا مع فعله، بدليل وجوب المضي في الحج الفاسد ووجوب قضائه، وحينئذ فيلزم من ذلك أنه لا يدل على عدم وجوبه بل يكون عدم الوجوب مستفادا من الأصل هكذا حرره الآمدي وغيره, ونقله صريحا عن الخلاصة، وصوبه ابن برهان أيضا كما نقله عنه الأصفهاني في شرح المحصول، فقال: ذهب عبد الجبار إلى أنه لا يدل على الإجزاء وإنما الإجزاء مستفاد

_ 1 أبو هاشم الجبائي المعتزلي, عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي بن عبد الوهاب، المتكلم المشهور, كان هو وأبوه من كبار المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، ولد سنة "247هـ" وتوفي سنة "321هـ" ببغداد, ودفن في مقابر البستان. "وفيات الأعيان: 3/ 155". 2 القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني، أبو الحسين, قاضٍ، أصولي، كان شيخ الاعتزال في عصره، وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره, ولي القضاء بالري ومات فيها، له تصانيف منها: الأمالي، وشرح الأصول الخمسة، وغيرهما، توفي سنة "415هـ".

من عدم الدليل يدل على الإعادة، وقد بسط القرافي ذلك على نحو ما قلناه فقال في تعليقه على المنتخب: لا خلاف بين أبي هاشم وغيره في براءة الذمة عند الإتيان بالمأمور به, ثم اختلفوا فقال الجمهور: الأمر كما دل على شغل الذمة دل أيضا على البراءة بتقدير الإتيان، وقال أبو هاشم: الأمر يدل على الشغل فقط والبراءة بعد الإتيان بالمأمور به مستفادة من الأصل, ومعناه أن الإنسان خلق وذمته بريئة من الحقوق كلها، فلما ورد الأمر اقتضى شغلها، فإذا امتثل كان الإجزاء، وهو براءة الذمة بعد ذلك مستفاد من الاستصحاب لا من الإتيان بالمأمور به, قال: وهذا الخلاف شبيه بالخلاف في مفهوم الشرط كما قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فالقائلون بأن الشرط لا مفهوم له يقولون: عدم طلاقها مستفاد من العصمة السابقة، والقائلون بالمفهوم يقولون: عدم الطلاق من ذلك، ومن مفهوم الشرط, وكذلك أيضا الخلاف الذي ههنا ا. هـ كلامه، وإذا علمت ما قلناه علمت فساد الدليل المذكور في الكتاب ردا على أبي هاشم؛ لأن أبا هاشم لا يقول ببقاء الشغل, بل يقول: إن الأمر لا بد عليه، ودليل أبي هاشم الذي نقله المصنف عنه وهو قوله: كما لا يوجب النهي الفساد, يدل عليه أيضا, ثم إن الإمام والمصنف وجماعة جعلوا محل الخلاف في الإتيان بالمأمور به، وفيه نظر لأن الأفعال لا دلالة لها على الشغل ولا على البراءة, وإنما يدل على عدم الضد فينبغي أن يجعلوا محل الخلاف في الأمر وقد نص عليه الأكثرون, كالغزالي وابن برهان والمعالي وابن فورك والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين والقاضي عبد الوهاب.

الكتاب الأول: في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة

الكتاب الأول: في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة مدخل ... الكتاب الأول: قال: "الكتاب الأول في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة ومعرفة أقسامها, وهو ينقسم إلى: أمر ونهي وعام وخاص ومجمل ومبين وناسخ ومنسوخ, وبيان ذلك في أبواب" أقول: قد تقدم في أول الكتاب أنه مرتب على مقدمة وسبعة كتب, وتقدم وجه الاحتياج إلى ذلك ومناسبة تقديم بعضها على بعض, فلما فرغ من المقدمة ذكر الكتاب الأول المعقود للكتاب العزيز, ويعني به الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه, فخرج بالمنزل الكلام النفساني وكلام البشر، وبقولنا: للإعجاز, الأحاديث وسائر الكتب المنزلة كالإنجيل, وقولنا: بسورة نريد به أن الإعجاز يقع بأقصر سورة كالكوثر، والإعجاز هو قصد إظهار صدق النبي في دعوى الرسالة بفعل خارق للعادة، ولما كان الكتاب العزيز واردا بلغة العرب كان الاستدلال به متوقعا على معرفة اللغة ومعرفة أقسامها؛ فلذلك ذكر مباحث اللغة وأقسامها في هذا الكتاب. ثم إن الكتاب العزيز ينقسم إلى خبر وإنشاء لكن نظر الأصولي في الإنشاء دون الإخبار لعدم ثبوت الحكم بها غالب؛ فلذلك قسمه إلى أمر ونهي وعام وخاص ومجمل ومبين وناسخ ومنسوخ فقوله: وهو ينقسم أي: الكتاب العزيز فأطلقه وأراد به قسم الإنشاء منه، ولكن هذا التقسيم ليس خاصا بالكتاب بل السنة أيضا كذلك، وكان المصنف استغنى عن

ذكره هناك بذكره هنا، ولأجل هذه الأقسام انحصرت أبواب هذا الكتاب على خمسة أبواب, الأول: في اللغات، والثاني: في الأوامر والنواهي, والثالث: في العموم والخصوص, والرابع: في المجمل والمبين, والخامس: في الناسخ والمنسوخ, ثم ذكر الإمام في المحصول مناسبة تقديم بعض هذه الأبواب على بعض، وأخذه رحمه الله من أبي الحسين البصري، فإني رأيته مذكورا في شرح العمد له, وحاصله أنه إنما قدم باب اللغات؛ لأن التمسك بالأدلة القولية إنما يمكن بواسطة معرفتها، وأنه قدم باب الأوامر والنواهي على الثلاثة الباقية؛ لأن تقسيم الكلام إلى الأوامر والنواهي تقسيم له باعتبار ذاته إلى أنواعها، وانقسامه إلى العام والخاص والمجمل والمبين تقسيم له باعتبار عوارضه كتقسيم الحيوان إلى الأبيض والأسود، فإن البياض والسواد ليسا من الأجزاء الذاتية؛ لأن ماهية الحيوان ليست مركبة منهما فهما عارضان بخلاف انقسامه إلى الإنسان والفرس, فقدمنا ما هو بحسب الذات على ما هو بحسب العرض، وإنما قدم باب العموم والخصوص على البابين الباقيين؛ لأن النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي، والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية دلالة الأمر والنهي على ذلك المتعلق، ولا شك أن المتعلق بالشيء متقدم على النسبة العارضة بين الشيء ومتعلقه، وإنما قدم باب المجمل والمبين على النسخ؛ لأن النسخ يطرأ على ما هو ثابت بأحد الوجوه المذكورة، وذكر المصنف في الباب الأول تسعة فصول.

الباب الأول: في اللغات

الباب الأول: في اللغات الفصل الأول: قال: "الباب الأول في اللغات وفيه فصول, الفصل الأول: في الوضع لما مست الحاجة إلى التعاون والتعارف، وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال لعمومه وأيسر؛ لأن الحروف كيفيات تعرض للناس الضروري وضع بإزاء المعاني الذهنية لدورانه معها؛ ليفيد النسب والمركبات دون المعاني المفردة وإلا فيدور" أقول: اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني, فلما كانت دلالة الألفاظ على المعاني مستفادة من وضع الواضع, عقد المصنف هذا الفصل في الوضع وما يتعلق به، فالوضع تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا علم الأول علم الثاني, والذي يتعلق به ستة أشياء أحدها: سبب الوضع، والثاني: الموضوع, والثالث: الموضوع له, والرابع: فائدة الوضع, والخامس: الواضع, والسادس: طريق معرفة الموضوع, وذكرها المصنف في هذا الفصل على هذا الترتيب: الأول: سبب الوضع وأشار إليه بقوله: لما مست الحاجة أي: اشتدت, وتقريره أن الله تعالى خلق الإنسان غير مستقل بمصالح معاشه محتاجا إلى مشاركة غيره من أبناء جنسه لاحتياجه إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح, والواحد لا يتمكن من تعلم هذه الأشياء فضلا من استعمالها؛ لأن كلا منها موقوف على صنائع شتى فلا بد من جمع عظيم ليتعاون بعضهم ببعض, وذلك لا يتم إلا بأن يعرفه ما في نفسه فاحتيج إلى وضع شيء يحصل به التعريف، وعبر المصنف عنه بالتعارف تبعا للحاصل وفيه نظر. قوله: "وكان اللفظ إلى قوله: وضع" شرع يتكلم في الموضوع وهو الثاني من الستة المتقدمة، وحاصله أنه

قد تقرر أن الشخص محتاج إلى تعريف الغير ما في نفسه، والتعريف إما باللفظ، أو بالإشارة كحركة اليد والحاجب، أو بالمثال وهو الجرم الموضوع على شكل الشيء, وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال وأيسر, أما كونه أفيد؛ فلعمومه من حيث إنه يمكن التعبير به عن الذات والمعنى الموجود والمعدوم والحاضر والغائب والحادث والقديم كالبارئ سبحانه وتعالى ولا يمكن الإشارة إلى المعنى، ولا إلى الغائب والمعدوم، ولا يمكن أيضا وضع مثال لدقائق العلوم، ولا للبارئ سبحانه وتعالى وغير ذلك، قال الإمام: ولأن المثال قد يبقى بعد الحاجة فيقف عليه من لا يريد الوقوف عليه، وأما كونه أيسر فلأنه موافق للأمر الطبيعي؛ لأنه مركب من الحروف الحاصلة من الصوت وذلك إنما يتولد من كيفيات مخصوصة تعرض للنفس عند إخراجه وإخراجه ضروري, فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به الشخص انتفاعا كليا، فلما كان اللفظ أفيد وأيسر وضع, فقوله: وضع, جواب لما وقوله: يعرض بكسر الراء فقط, قاله الجوهري قال: فإن كان من قولك: عرضت العود على الإناء وشبهه, كسرت أيضا وقد يضم. واعلم أن الكتابة من جملة الطرق أيضا ولا يصح أن يريدها المصنف بقوله، والمثال لأن تعليله بالعموم يبطله؛ لأن كل ما صح التعبير عنه أمكن كتابته, فلا يكون اللفظ أعم منها فاعرف ذلك. قوله: "بإزاء المعاني الذهنية" هذا هو الثالث من الأقسام الستة, وهو الموضوع له, وحاصله أن الوضع للشيء فرع عن تصوره فلا بد من استحضار صورة الإنسان مثلا في الذهن عند إرادة الوضع له, وهذه الصورة الذهنية هي التي وضع لها لفظ الإنسان لا الماهية الخارجية، والدليل عليه أنا وجدنا إطلاق اللفظ دائرا مع المعاني الذهنية دون الخارجية ببيانه أنا إذا شاهدنا شيئا فظننا أنه حجر أطلقنا لفظ الحجر عليه، فإذا دنونا منه وظنناه شجرا أطلقنا لفظ الشجر عليه، ثم إذا ظنناه بشرا أطلقنا لفظ البشر عليه, فالمعنى الخارجي لم يتغير مع تغيير اللفظ فدل على أن الوضع ليس له بل للذهني. وأجاب التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذهنية على اعتقاد أنها في الخارج كذلك وهو جواب ظاهر, ويظهر أن يقال: إن اللفظ موضوع بإزاء المعنى من حيث هو، أي: مع قطع النظر عن كونه ذهنيا أو خارجيا, فإن حصول المعنى في الخارج والذهن مع الأوصاف الزائدة على المعنى، واللفظ إنما وضع للمعنى من غير تقييده بوصف زائد، ثم إن الموضوع له قد لا يوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه، وهذه المسألة قد أهملها الآمدي وابن الحاجب, قوله: "ليفيد النسب" شرع يتكلم في فائدة الوضع، وهو الرابع من الأقسام، واللام متعلقة بقوله قبله: وضع، وحاصله أن اللفظ وضع لإفادة النسب بين المفردات كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، ولإفادة معاني المركبات من قيام أو قعود، فلفظ زيد مثلا وضع ليستفاد به الإخبار عن مدلوله بالقيام أو غيره، وليس الغرض من الوضع أن يستفاد بالألفاظ معانيها المفردة،

أي: تصور تلك المعاني لأنه يلزم الدور؛ وذلك لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسميات، والعلم بكونها موضوعة لتلك المسميات يتوقف على العلم بتلك المسميات، فيكون العلم بالمعاني متقدما على العلم بالوضع, فلو استفدنا العلم بالمعاني من الوضع لكان العلم بها متأخرا عن العلم بالوضع، وهو دور, فإن قيل: هذا بعينه قائم في المركبات؛ لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم لكونه موضوعا لذلك المدلول, والعلم به يستدعي سبق العلم بذلك المدلول, فلو استفدنا العلم بذلك المدلول من ذلك المركب لزم الدور, وأجاب في المحصول بأنا لا نسلم أن إفادة المركب لمدلوله متوقفة على العلم بكون موضوعا له, بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعة للمعاني المفردة, وعلى كون الحركات المخصوصة كالرفع وغيره دالة على المعاني، والمخصوصة، وقد أهمل ابن الحاجب والآمدي هذه المسألة أيضا. قال: "ولم يثبت تعيين الواضع, والشيخ زعم أن الله تعالى وضعه, ووقف عباده عليه لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] ولأنه لو كانت اصطلاحية لاحتيج في تعليمها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل، ولجاز التغيير فيرتفع الأمان عن الشرع. وأجيب بأن الأسماء سمات الأشياء وخصائصها أو ما سبق وضعها والذم للاعتقاد والتوقيف يعارضه الإقدار، والتعليم بالترديد والقرائن كما للأطفال, والتغير لو وقع لاشتهر" أقول: شرع في القسم الخامس, وهو الواضع فنقول: ذهب عباد بن سليمان الصيمري المعتزلي إلى أن اللفظ يفيد المعنى من غير وضع, بل بذاته لما بينهما من المناسبة الطبيعية، هكذا نقله عنه في المحصول، ومقتضى كلام الآمدي في النقل عن القائلين بهذا المذهب أن المناسبة وإن شرطناها لكن لا بد من الوضع، واحتج عباد بأن المناسبة لو انتفت لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا من غير مرجح، والجواب أنه يختص بإرادة الواضع أو بخطوره بالبال، ويدل على فسادها أنها لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي ولكان كل إنسان يهتدي إلى كل لغة، ولكان الوضع لضدين محالا وليس بمحال, بدليل القرء للحيض والطهر، والجون للسواد والبياض. وإذا تقرر إبطال مذهب عباد وأنه لا بد من واضع، فقد اختلفوا فيه على مذاهب أحدها: الوقف؛ لأنه يحتمل أن تكون الجميع توقيفية, وأن تكون اصطلاحية, وأن يكون البعض هكذا والبعض هكذا. فإن جميع ذلك ممكن والأدلة متعارضة فوجب التوقف، وهذا مذهب القاضي والإمام وأتباعه ومنهم المصنف، ونقله في المنتخب عن الجمهور، وفي الحاصل عن المحققين، وفي المحصول والتحصيل عن جمهور المحققين. والمذهب الثاني: أنها توقيفية ومعناه أن الله تعالى وضعها ووقفنا عليها -بتشديد القاف- أي: علمنا إياها، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري واختاره ابن الحاجب

والإمام في المحصول في الكلام على القياس في اللغات كما ستعرفه، قال الآمدي: إن كان المطلوب هو اليقين فالحق ما قاله القاضي، وإن كان المطلوب هو الظن وهو الحق، فالحق ما قاله الأشعري لظهور أدلته، واستدل المصنف عليه بالمنقول والمعقول؛ فأما المنقول فثلاثة، الأول: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] إلى آخر الآية, على أن آدم لم يضعها ولا الملائكة فتكون توقيفية، أما آدم فلأنه تعلم من الله تعالى، وأما الملائكة فلأنهم تعلموا من المراد بالأسماء إنما هو الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني، وذلك يشمل الأفعال والحروف والأسماء المصطلح عليها؛ لأن الاسم سمي بذلك لأنه سمة أي: علامة على مسماه، والأفعال والحروف كذلك، وأما تخصيص الاسم ببعض الأقسام فإنه عرف النحويين واللغويين، سلمنا أن الاسم بحسب اللغة يختص بهذا القسم لكن التكلم بالأسماء وحدها متعذر، سلمنا أنه غير متعذر لكن ثبت أن الأسماء توقيفية, فيثبت الباقي إذ لا قائل بالفرق. الثاني: أن الله سبحانه وتعالى ذم أقواما على تسميتهم لبعض الأشياء من غير توقيف، فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} فثبت التوقيف في البعض المذموم عليه، ويلزم من ذلك ثبوته في الباقي, وإلا يلزم فساد التعليل بكونه ما أنزله. الثالث: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22] ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قد امتن علينا باختلاف الألسنة وجعله آية، وليس المراد باللسان هو الجارحة اتفاقا؛ لأن الاختلاف فيها قليل, ثم إنه غير ظاهر بخلاف الوجه ونحوه, فتعين أن يكون المراد باللسان هو اللغة مجازا, كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وحينئذ فنقول: لولا أنها توقيفية لما امتن عليها بها، وأما لمعقول فأمران أحدهما: أنها لو كانت اصطلاحية لاحتاج الواضع في تعليمها لغيره إلى اصطلاح آخر بينهما، ثم إن ذلك الطريق أيضا لا يفيد لذاته، فلا بد له من اصطلاح آخر، ويلزم التسلسل. واعلم أن هذا التقرير هو الصواب، وهو كما أتى به المصنف، ومن الشارحين من يقرره بتقرير ذكره في المحصول على وجه آخر, فنقلوه إلا ههنا فاجتنبه، نعم هذا الدليل لا يثبت به مذهب الأشعري، وإنما يبطل به مذهب أبي هاشم وأتباعه خاصة فاعرف ذلك. والثاني من المعقول: أن اللغات لو كانت اصطلاحية لجاز التغيير فيها, إذ لا حجر في الاصطلاح وجواز التغيير يؤدي إلى عدم الأمان والوثوق بالأحكام التي في شريعتنا, فإن لفظ الزكاة والإجازة وغيرهما يجوز أن تكون مستعملة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعانٍ غير هذه المعاني المعهودة الآن, وقد علمنا من هذا أن فائدة الخلاف في التغيير. قوله: "وأجيب" شرع في الجواب عن أدلة الشيخ الخمسة، فأجاب عن الأول وهو قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] بوجهين, أحدهما: لا نسلم أن المراد بالأسماء في الآية في اللغات, بل يجوز أن يكون المراد بالأسماء سمات الأشياء وخصائصها كتعليم أن الخيل تصلح للكر والفر, والجمال للحمل، والثيران للزراعة.

فأما تعليم الخواص فواضح، وأما تعليم السمات أي: العلامات فتقريره من وجهين أحدهما: أن هذه الأشياء علامات دالة على تلك الحيوانات, فإنه يعرف بمشاهدة الحرث مثلا كونه من البقر, فإذا علمه هذه الأشياء فقد علمه سمة على الذوات أي: علامة عليها. الثاني: أن الله تعالى علم آدم علامات ما يصلح للكر والفر، وعلامات ما يصلح للحمل، وغير ذلك حتى إذا شاهد صفة ما يصلح للحمل في ذات استعملها في الحمل إذا تقرر هذا, فنقول: يصح إطلاق الاسم على ما ذكرناه؛ لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو, وعلى كل تقدير فكل ما يعرف ماهية ويكشف عن حقيقة يكون اسما؛ لأنه اشتق من السمة, فواضح وإن اشتق من السمو فالعلو أيضا موجود؛ لأن الدليل أعلى من المدلول، وأما تخصيص الاسم باللفظ المصطلح عليه فعرف حادث, والضمير في عرضهم للمسميات لتغليب من يعقل، أي: عرض المسميات على الملائكة وامتحنهم على أسمائها، أي: ألفاظها، كما قال الأشعري: أو صفاتها كما أوله المصنف غيره، وعلى كل حال فليس في المضمر دلالة على شيء مما نحن فيه. الثاني: سلمنا أن الأسماء هي اللغات, لكن يجوز أن تكون تلك الأسماء التي علمها الله تعالى آدم قد وضعتها طائفة خلقهم الله تعالى قبل آدم، فلم قلتم: إنه ليس كذلك؟ وفي المحصول جواب ثالث, وهو أنه يجوز أن يكون المراد من التعليم إلهام الاحتياج إليها وإقدارا على الوضع وفي الأحكام جواب رابع، وهو أن ما تعلمه آدم يجوز أن يكون نسيه ثم اصطلحت أولاده من بعده على هذه اللغات والكلام إنما هو فيها، والجواب عن الثاني وهو الذم في قوله تعالى: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] : إنا لا نسلم أن الذم على التسمية, بل على إطلاقهم لفظ الإله على الضم, مع اعتقادهم أنها آلهة, إذ اللات والعزى ومناة أعلام على أصنام, فقرينة اختصاصها بالذم دون سائر الأسماء دليل عليه, ولأن هذه أعلام منقولة وليست بمرتجلة, فلا ذم في التسمية لها على القول بالتوقيف كالحارث وشبهه لعدم ارتجالها. والجواب عن الثالث, وهو قوله تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22] : أنه إذا انتفى أن يكون المراد الجارحة كما تقدم، وأن المراد إنما هو اللغات مجازا, فليس محل الامتنان على وضعها حتى يلزم التوقيف بأولى من حمله من الإقدار، إما على ضعها أو على النطق بها فكل منهما آية، وحينئذ فالتوقف يعارضه الإقدار فإن قيل: حمله على الوضع أولى؛ لأنه أقل إضمارا قلنا: لا إضمار هنا أصلا فافهمه، بل حاصله أن الامتنان دل بل لازمه على أن البارئ تعالى له تأثير في اللغات، إما بالوضع أو بالإقدار، والجواب عن الرابع: أنا لا نسلم أنها لو كانت اصطلاحية لاحتاج في تعليمها إلى اصطلاح آخر, بل يحصل التعليم بترديد اللفظ، وهو تكراره مرة بعد مرة على القرائن كالإشارة إلى المسمى ونحوها, وبهذا الطريق تعلمت الأطفال، والجواب عن الخامس: أنا لا نسلم ارتفاع الأمان عن الشرع؛ لأن التعبير لو رفع لاشتهر ووصل إلينا؛ لكونه أمرا مهما فعدم

اشتهاره دليل على عدم وقوعه. قال: "وقال أبو هاشم: الكل مصطلح وإلا فالتوقيف إما بالوحي فتقدم البعثة, وهي متأخرة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أو يخلق علم ضروري في عاقل فيعرفه تعالى ضرورة, فلا يكون مكلفا أو في غيره وهو بعيد، وأجيب بأنه ألهم العاقل بأن واضعا ما وضعها، وإن سلم لم يكن مكلفا بالمعرفة فقط. وقال الأستاذ: ما وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي, والباقي مصطلح" أقول: هذا هو المذهب الثالث الذي ذهب إليه أبو هاشم، وهو أن اللغات كلها اصطلاحية, إذ لو وضعها البارئ تعالى ووقفنا عليها -بتشديد القاف- أي: أعلمنا بها فالتوقيف إما أن يكون بالوحي وهو باطل؛ لأنه يلزم تقدم بعثة الرسل على معرفة اللغات لكن البعثة متأخرة؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أو يكون بخلق علم ضروري في عاقل بأن الله تعالى وضعها لهذه المعاني وهو باطل؛ لأنه يلزم منه أن يعرف الله تعالى بالضرورة لا بحصول العلم؛ لأن حصول العلم الضروري بوضع الله تعالى يستلزم العلم الضروري بالله تعالى؛ لأن العلم بصفة الشيء إن كان ضروريا يكون العلم بذاته أولى أن يكون ضروريا، وحينئذ فيلزم أن لا يكون مكلفا بالمعرفة لحصولها، وإذا لم يكن مكلفا بها لم يكن مكلفا مطلقا؛ لأنه لا قائل بالفرق أن يكون بخلق علم ضروري في إنسان غير عاقل, وهو بعيد جدا فإنه يبعد أن يصير غير العاقل عالما بهذه الكيفيات العجيبة, وهذه التركيبات النادرة اللطيفة, فإذا انتفت طرق التوقيف انتفى، وثبت التوقيف، وثبت الاصطلاح، وهذا التقرير هو الصواب على خلاف ما قرره الإمام وأتباعه، فإنهم جعلوه دليلين فلزمهم بطلان دعوى الحصر كما يعرف بالوقوف عليه, فجعله المصنف دليلا واحدا مقسما, فجمع بين الاختصار في اللفظ والانحصار للأقسام، وأجاب المصنف بوجهين, أحدهما: لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى ألهم العاقل أي: خلق العلم فيه, بأن واضعا ما وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني, لا أن الله تعالى هو الذي وضع حتى يلزم المحذور, وهو عدم التكليف. الثاني: سلمنا هذا لكن يلزم أن لا يكون مكلفا بالمعرفة فقط؛ لكونه قد عرف وهذا لا استحالة فيه، أما كونه غير مكلف مطلقا فإنه غير لازم, كمن أتى بعبارة دون عبارة. واعلم أن الأحسن في الجواب ما أجاب به ابن الحاجب, وهو أن يقال: إن الله تعالى علمها آدم ولا يرد عليه شيء مما قاله الخصم, ثم علمها آدم لبنيه, ثم بعثه الله تعالى إليهم بلغتهم, وأحسن من هذا أيضا أن يقال: الوحي قد يكون إلى نبي وهو الذي أُوحي إليه لكن لا للتبليغ, وقد يكون إلى رسول وهو المبعوث لغيره؛ ولهذا قالوا: كل رسول نبي ولا ينعكس, والآية إنما تنفي تعلمها بالوحي إلى رسول فيجوز أن يكون حصل التعليم بالوحي إلى نبي. قوله: "وقال الأستاذ" هذا هو المذهب الرابع اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني الشافعي, وهو أن القدر الذي وقع به التنبيه إلى

الاصطلاح توقيفي, فإنه لو كان اصطلاحيا في تعليمه إلى اصطلاح آخر وتسلسل كما قلناه, وأما الباقي فيكون اصطلاحيا، وهكذا قاله الإمام لما تكلم على تفصيل المذاهب, فتابعه المصنف لكنه نقل عنه عند الاستدلال عليه أن الباقي يحتمل أن يكون اصطلاحيا، وأن يكون توقيفيا وهو الذي نقله عنه ابن برهان والآمدي وصاحب التحصيل وابن الحاجب وغيرهم, فعلى هذا يكون مذهبه مركبا من الوقف والتوقيف، وفي المسألة قول خامس: أن ابتداء اللغات اصطلاحي والباقي محتمل, كذا في المحصول والتحصيل، لكن في المنتخب والحاصل الجزم بأن الباقي توقيفي. قال: "وطريق معرفتها النقل المتواتر أو الآحاد واستنباط العقل من النقل كما إذا نقل أن الجمع المعرف بالألف واللام يدخله الاستثناء، وأنه إخراج بعض ما تناوله اللفظ فيحكم بعمومه، وأما العقل الصرف فلا يجدي" أقول: هذا هو القسم السادس وهو الطريق إلى معرفة اللغات, ويعرف بثلاثة أمور, أحدها: بالنقل المتواتر كالسماء والأرض والحر والبرد ونحوها مما لا يقبل التشكيك. الثاني: الآحاد كالقرء ونحوه من الألفاظ العربية, قال في المحصول: وأكثر ألفاظ القرآن من الأول وذكر الآمدي نحوه. الثالث, ولم يذكره الآمدي ولا ابن الحاجب: استنباط العقل من النقل كما إذا نقل إلينا أن الجمع المعرف يدخله الاستثناء، ونقل إلينا الاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ فيحكم العقل بواسطة هاتين المقدمتين أن الجمع المعرف للعموم، وأما العقل الصرف بكسر الصاد أي: الخالص, فلا يجدي أي: فلا ينفع, في معرفة اللغات؛ لأن العقل إنما يستقل بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وأما وقوع أحد الجائزين فلا يهتدي إليه، واللغات من هذا القبيل لأنها متوقفة على الوضع.

الفصل الثاني

الفصل الثاني: قال: "الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ: دلالة اللفظ على إتمام مسماه مطابقة, وعلى جزئه تضمن, وعلى لازمه الذهني التزام" أقول: لما فرغ من الكلام على وضع اللفظ وما يتعلق به, شرع في تقسيمه وذلك من وجوه, وقدم تقسيم الألفاظ باعتبار دلالتها؛ لأن التقسيمات كلها متفرعة على الدلالة وإنما قلنا: إن تقسيم الدلالة تقسيم للألفاظ؛ لأن كلامه في الدلالة اللفظية ويلزم من تقسيم الدلالة اللفظية إلى الثلاثة تقسيم اللفظ الدال بالضرورة, فاندفع سؤال من قال: كلام المصنف في تقسيم الألفاظ فكيف انتقل إلى تقسيم الدلالة, ثم إن الدلالة معنى عارض للشيء بالقياس إلى غيره ومعناها كون الشيء يلزم من فهمه فهم شيء آخر وهي إما لفظية أو غير لفظية, فغير اللفظية قد تكون وضعية كدلالة الذراع على المقدر المعين وغروب الشمس على وجوب الصلاة وقد تكون عقلية كدلالة وجود المسبب على وجود سببه, وليس الكلام في هذين القسمين بل في اللفظية؛ فلذلك احترز المصنف عنها بقوله: دلالة اللفظ، ثم إن اللفظية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما عقلية كدلالة المقدمتين على النتيجة ودلالة اللفظ على وجود اللافظ وحياته, وإما طبيعية كدلالة اللفظ الخارج عند السعال على وجع الصدر, وإما

وضعية وهي المقصودة ههنا, فكان ينبغي أن يقول: دلالة اللفظ الوضعية على أن الإمام قال: إن دلالة المطابقة وحدها وضعية, وأما التضمن والالتزام فعقليتان, وتعريف هذه الدلالة التي يريدها المصنف هو كون اللفظ إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالما بالوضع, وإن شئت قلت: فهم السامع من الكلام تمام المسمى أو جزأه أو لازمه, وقسمها المصنف إلى ثلاثة أقسام أحدها: المطابقة وهي دلالة اللفظ على تمام مسماه كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق, وسمي بذلك؛ لأن اللفظ طابق معناه. الثاني: دلالة التضمن وهي دلالة اللفظ على جزء المسمى كدلالة الإنسان على الحيوان فقط، أو على الناطق فقط, وسمي بذلك لتضمنه إياه. الثالث: دلالة الالتزام وهي دلالة اللفظ على لازمه كدلالة الأسد على الشجاعة, وإنما يتصور ذلك في اللازم الذهني وهو الذي ينتقل الذهن إليه عند سماع اللفظ سواء كان لازما في الخارج أيضا كالسرير والارتفاع أم كالعمى والبصر, وكدلالة زيد على عمر, وإذا كانا مجتمعين غالبا ولا يأتي ذلك في اللازم الخارجي فقط, كالسرير مع الإمكان, فإنه إذا لم ينتقل الذهن إليه لم تحصل الدلالة البتة، ومن هذا يعلم أن قوله: وعلى لازمه الذهني التزام غير مستقيم؛ لأن هذا يوهم وجود الدلالة مع اللازم الخارجي وهو باطل. قال في المحصول: وهذا اللزوم شرط لا موجب, يعني أن اللزوم بمجرده ليس هو السبب في حصول دلالة الالتزام, بل السبب هو إطلاق اللفظ واللزوم شرط، وهذا التقسيم يعرف منه حد كل واحد منها, وفيه من وجوه منها: أن اللفظ جنس بعيد لإطلاقه على المستعمل والمهمل, وهو مجتنب في الحدود، فكان ينبغي أن يقول: دلالة للقول، ومنها: أن التمام لا يكون إلا فيما له أجزاء، وحينئذ فيرد عليه دلالة اللفظ الموضوع لمعنى لا جزء له كالجوهر الفرد، والآن والنقطة، وكلفظ الله سبحانه وتعالى. ومنها: أنه ينبغي أن يقول من حيث هو تمامه، وفي التضمن من حيث هو جزء، وفي الالتزام من حيث هو لازمه؛ ليحترز به عن اللفظ المشترك بين الشيء وجزئه، كوضع الممكن العام والخاص ما ستعرفه في الاشتراك, وكذلك وضع مصر للإقليم الخاص وللبلدة المعروفة، وعن المشترك بين الشيء ولازمه كالشمس في الكوكب مع لازمه وهو الضوء، فإن دلالة مصر مثلا على البلد المعروف إنما تكون بالمطابقة من حيث إنها تمام المسمى لا من حيث إنها جزؤه، فإن دلالتها من هذه الحيثية دلالة التضمن وكذلك القول في دلالة التضمن والالتزام على أن الإمام أتى بهذا القيد في التضمن والالتزام فقط، ويلزمه ذلك في الباقي، وهكذا فعل صاحب التحصيل، لكن حذفها صاحب الحاصل ثم المصنف من الجميع؛ اكتفاء بقرينة التمام والجزئية واللازمية, واتباعا للمتقدمين, فإنه لم يذكره أحد قبل الإمام كما قاله القرافي، ومنها: أن انحصار الدلالة الوضعية في الثلاثة يرد عليه سؤال قوي أورده بعضهم, وتقريره موقوف على مقدمة وهي الفرق بين الكلي والكلية والكل، والجزئي والجزئية والجزء، فأما الكلي فهو الذي يشترك في مفهومه كثيرون

كالإنسان, والجزئي مقابله كزيد وسيأتي ذلك، وأما الكلية فهو الحكم على كل فرد بحيث لا يبقى فرد من الأفراد كقولنا: رجل يشبعه رغيفان غالبا، وتقابله الجزئية وهو الحكم على بعض أفراد حقيقة من غير تعيين كقولنا: بعض الحيوان إنسان، وأما الكلي فهو الحكم على المجموع من حيث هو مجموع كأسماء العدد وكقولنا: كل رجل يحمل الصخرة العظيمة, فهذا صادق باعتبار الكل دون الكلية، ويقابله الجزء وهو ما تركب منه ومن غيره كل, كالخمسة مع العشرة إذا علمت ذلك فنقول: صيغة العموم مسماها كلية ودلالتها على فرد منه كدلالة المشركين على زيد المشرك مثلا خارجة عن الثلاثة, أما انتفاء المطابقة والالتزام فواضح، وأما التضمن فلأنه دلالة اللفظ على جزء مسماه كما تقدم, والجزء إنما يقابله الكل، ومسمى صيغة العموم ليس كلا كما قررناه، وإلا لتعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد في النفي أو النهي, فإنه لا يلزم من نفي المجموع نفي جزئه, ولا من النهي عن المجموع النهي عن جزئه. "فائدة": جميع ما تقدم في دلالة اللفظ كما عبر عنه المصنف, وقد تقدم أنها فهو السامع والفرق بينهما وبين الدلالة باللفظ بزيادة الباء, أن الدلالة باللفظ استعمال اللفظ, أما في موضوعه وهي الحقيقة غير الموضوعة لعلاقة وهو المجاز، والباء فيها للاستعانة والسببية؛ لأن الإنسان يدلنا على ما في نفسه باطلا لفظه, فإطلاق اللفظ آلة الدلالة كالقلم للكتابة، والفرق بينهما من وجوه أحدها: المحل فإن محل دلالة اللفظ القلب ومحل الدلالة باللفظ اللسان وغيره من المخارج، وثانيها: من جهة الموصوف, فإن دلالة اللفظ صفة للسامع، والدلالة بلفظ صفة للمتكلم, وثالثها: من جهة السببية, فإن الدلالة باللفظ سبب، ودلالة اللفظ مسبب عنها، ورابعها: من جهة الوجود, فإنه كلما وجدت دلالة اللفظ وجدت الدلالة باللفظ بخلاف العكس، وخامسها: من جهة الأنواع, فدلالة اللفظ ثلاثة أنواع: المطابقة والتضمن والالتزام، وللدلالة باللفظ نوعان: الحقيقة والمجاز. قال: "واللفظ إن دل جزؤه على جزء معناه فمركب وإلا فمفرد, والمفرد إما أن لا يستقل بمعناه وهو الحرف، أو يستقل، وهو فعل إن دل بهيئته على أحد الأزمنة الثلاثة، وإلا فاسم كلي إن اشترك معناه، متواطئ، إن استوى، ومشكك إن تفاوت، وجنس إن دل على ذات غير معينة كالفرس، ومشتق إن دل على ذي صفة معينة كالفارس، وجزئي إن لم يشترك، وعلم إن استقل، ومضمر إن لم يستقل" أقول: اللفظ ينقسم إلى: مركب ومفرد؛ وذلك لأنه إن دل جزؤه على جزء المعنى المستفاد منه فهو المركب سواء كان تركيب إسناد كقولنا: قام زيد وزيد قائم، أو تركيب مزج كخمسة عشر، أو تركيب إضافة كغلام زيد، وأورد القاضي أفضل الدين الخونجي على هذا الحيوان ناطق علما على إنسان، فينبغي أن يزاد حين هو جزؤه, كما ذكره الإمام في المحصول. وقوله: "إن دل جزؤه" أي: كل واحد من أجزائه, واستغنى المصنف عن ذكره بإضافة اسم الجنس

لأنها للعموم، أو نقول: إذا دل جزء واحد منه على جزء من معناه يلزم دلالة الجزء الآخر؛ لأن ضم الجزء المهمل إلى المستعمل غير مفيد، قال الأصفهاني في شرح المحصول: ولا فرق بين المركب والمؤلف عند المحققين، وقال بعضهم: المركب ما قلناه, وأما المؤلف فهو ما دل جزؤه لا على جزء المعنى كعبد الله. قوله: "وإلا فمفرد" أي: وإن لم يدل جزؤه على جزء معناه فهو المفرد, وذلك بأن لا يكون له جزء أصلا كباء الجر, أو له جزء ولكن لا يدل على جزء معناه, زيد: ألا ترى أن الدال منه وإن كانت تدل على حرف الهجاء لكنه ليس جزءا من معناه أي: من مدلولها وهو الذات المعينة، وكذلك عبد الله وتأبط شرا ونحوه غلاما، ولك أن تقول: هذا التعريف يقتضي أن: قام زيد مفرد؛ لأن جزأيه وهو القاف من قام والزاي من زيد لا يدلان على جزأي معناهما, فينبغي تقييد الجزء بالقريب. قوله: "والمفرد ... إلخ" بدأ بالكلام على المفرد لتقدمه على المركب بالطبع, ثم إن المفرد ينقسم من وجوه فقدم ما هو باعتبار أنواعه وهو تقسيمه إلى الاسم والفعل والحرف، وحاصله أن المفرد إن كان لا يستقل بمعناه الحرف أي: لا يفهم معناه الذي وضع باعتبار لفظ آخر دال على معنى هو متعلق معنى الحرف, ألا ترى أي الدراهم من قولك: قبضت من الدراهم, دالة على معنى هو متعلق مدلول من؛ لأن التبعيض تعلق به، وإن استقل نظر إن دل بهيئته أي: بحالته التصريفية على أحد الأزمنة الثلاثة؛ أما الماضي كقام أو الحال كيقوم أو المستقبل كقم فهو الفعل. "وإلا" أي: وإن لم يدل بهيئته على أحد الأزمنة فهو الاسم، وذلك بأن لا يدل على زمان أصلا كزيد, أو يدل عليه لكن لا بهيئته بل بذاته, كالصبوح والغبوق وأمس والحال والمستقبل والآن. قوله: "كلي" اعلم أن الاسم قد يكون كليا وقد يكون جزئيا وتسميته بذلك مجاز، فإن الكلية والجزئية من صفات المسمى، فالكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه سواء وقعت الشركة كالحيوان والإنسان والكاتب, أو لم تقع مع إمكانها كالشمس, واستحالتها كالإله وتعبير صدق عليها وهو الجزء الحقيقي، ويقال لما يدل على أخص من آخر جزئي: إضافي أي: بالإضافة إلى الأعم ثم الجزئي. "وعلم إن استقل" بالدلالة بمعنى أنه وضع لمدلوله بلا قرينة. "مضمر إن لم يستقل" قال المدقق في إيضاح المفصل: المضمر ما وضع لمدلوله بقوله: إنه اشترك معناه غير مستقيم لأن الكلي الذي لم يقع فيه شركة يخرج منه، فالأولى أن يقول: إن قبل معناه الشركة، وقال الغزالي: الكلي هو ما يقبل الألف واللام وينتقض بقولنا: ابن آدم وشبهه. ثم إن الكلي إن استوى معناه في أفراده فهو المتواطئ كالإنسان, فإن كان فرد من الأفراد لا يزيد على الآخر في الحيوانية والناطقية، وسمي متواطئا لأنه متوافق يقال: تواطأ فلان وفلان أي: اتفقا، وإن اختلف فهو المشكك سواء كان اختلافه بالوجوب والإمكان كالوجود, فإنه واجب في البارئ ممكن في غيره أو بالاستغناء والافتقار كالوجود يطلق على الأجسام مع استغنائها عن المحل، وعلى الأعراض مع

افتقارها إليه, أو بالزيادة والنقصان كالنور فإنه في الشمس أكثر منه في السراج، والمفهوم من قول المصنف إن تفاوت اختصاصه بهذا الأخير وليس كذلك وسمي مشككا؛ لأنه يشك الناظر فيه: هل هو متواطئ لكون الحقيقة واحدة، أو مشترك لما بينها من اختلاف؟ "فائدة": قال ابن التلمساني: لا حقيقة للمشكك؛ لأن ما حصل به الاختلاف إن دخل في التسمية كان اللفظ مشتركا، وإن لم يدخل بل وضع القدر المشترك فهو المتواطئ, وأجاب القرافي بأن كلا من المتواطئ والمشكك موضوع للقدر المشترك، ولكن الاختلاف إن كان بأمور من جنس المسمى فهو المصطلح على تسميته بالمشكك، وإن كان بأمور خارجة عن مسماه كالذكورة والأنوثة والعلم والجهل فهو المصطلح على تسميته بالمتواطئ. قوله: "وجنس" يريد: أن الكلي إن دل على ذات غير معينة كالفرس والإنسان والعلم والسواد وغير ذلك مما دل على نفس الماهية, فهو الجنس أي: اسم الجنس كما قال في المحصول ومختصراته، وهذا التعريف ينتقض بعلم الجنس كأسامة للأسد وثعالة للثعلب، فإنه يدل على ذات غير معينة تقول: رأيت ثعالبة أي: ثعلبا مع أنه ليس باسم جنس بل علم جنس حتى يعامل في اللفظ معاملة الأعلام كالابتداء به، ووقوع الحال منه في الفصيح ومنع صرفه إن انضمت إليه علة أخرى, فهو وارد على هذا بخصوصه، وعلى أصل التقسيم لكونه أهمله منه. والفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس أن الوضع فرع التصور فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها تلك الصورة الكائنة في ذهنه في جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد, فإن هذه الصورة واقعة لهذا الشخص في هذا الزمان, ومثلها يقع في زمان آخر وفي ذهن شخص آخر والجميع يشترك في مطلق صورة الأسد, فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس، أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس, إذا تقرر هذا فنقول: اسم الجنس هو الموضوع للحقيقة الذهنية من حيث هي هي، وعلم الجنس هو الموضوع للحقيقة من حيث هي متشخصة من في الذهن، وعلم الشخص هو الموضوع للحقيقة بقيد التشخص الخارجي. قوله: "مشتق" أي: وإن دل على ذي صفة معينة أي: صاحب صفة معينة, فهو المشتق كالأسود والفارس. قال ابن السكيت: وهو من كان على حافر سواء كان فرسا أو حمارا، وقال عمارة: لا أقول لصاحب الحمار: فارس ولكن حمّار, حكاه الجوهري قال: وأما الراكب فهو من كان على بعير خاصة، ولقائل أن يقول: إذا كان الفارس يطلق عليها فلا يحسن تمثيل المصنف به للصفة المعينة. قال في المحصول: والأسود ونحوه من المشتقات يدل على ذات إما متصفة بالسواد، وإما خصوص تلك الذات من كونها جسما أو غير جسم فلا؛ لأنه يصح أن تقول: الأسود جسم, فلو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد, لكان كقولك: الجسم ذو السواد جسم وهو فاسد، ولو كان

مفهومه أنه غير جسم لكان نقضا، نعم قد يعلم ذلك بطريق الالتزام. "فائدة": الكلي على ثلاثة أقسام: طبيعي ومنطقي وعقلي؛ فالإنسان مثلا فيه حصة من الحيوانية, فإذا أطلقنا عليه أنه كلي فههنا ثلاثة اعتبارات, أحدها: أن يراد به الحصة التي شارك بها الإنسان غيره, فهذا هو الكلي الطبيعي وهو موجود في الخارج فإنه جزء الإنسان الموجود وجزء الموجود موجود، والثاني: أن يرد به أنه غير مانع من الشركة فهو هذا الكلي المنطقي, وهذا لا وجود له لعدم تناهيه، والثالث: أن يراد به الأمران معا, الحصة التي يشارك بها الإنسان غيره مع كونه غير مانع من الشركة، وهذا أيضا لا وجود له لاشتماله على ما لا يتناهى، وذهب أفلاطون إلى وجوده، وقد ذكر الإمام تقسيمات أخرى في الكلي كانقسامه إلى: الجنس والنوع، وأهمله المصنف هنا لذكره إياه في المصباح. قوله: "وجزئي, إن لم يشترك" أي: لم يشترك في معناه كثيرون، وهو قسيم لقوله: أولا كلي, إن اشترك معناه، ثم إن الجزئي إن استقل بالدلالة أي: كان لا يفتقر إلى شيء يفسرها فهو العلم كزيد، وإن لم يستقل فهو المضمر كأنا وأنت؛ لأن المضمرات لا بد لها من شيء يفسرها، وفي كلامه نظر من وجوه أحدها: أن عدم الاستقلال موجود في أسماء الإشارة والأسماء الموصولة وغيرها مع أنها ليست بمضمرات، الثاني: أن هذا التقسيم كله في الاسم، وقد تقدم أن الاسم هو الذي يستقل بمعناه, فكيف يقسم إلى ما لا يستقل؟ الثالث: أن عدم الاستقلال قد جعله أولا حدّا للحرف، فإن أراد بالاستقلال الأول غير ما أراد بالاستقلال الثاني فليبين. "فائدة": ذهب الأكثرون إلى أن المضمر جزئي كما ذهب إليه المصنف, واحتجوا بأن الكلي نكرة والمضمر أعرف المعارف فلا يكون كليا، وبأنه لو كان كليا لما دل على الشخص المعين؛ لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص. ونقل القرافي في شرح المحصول, وشرح التنقيح عن الأقلين أنه كلي، وقال: إنه الصحيح، وقال الأصفهاني في شرح المحصول: إنه الأشبه وهذا القول هو الصواب؛ لأن أنا وأنت وهو صادق على ما لا يتناهى فكيف يكون جزئيا؟ وأيضا فإن مدلولاتها لا تتعين إلا بقرينة بخلاف الإعلام، وعلى هذا فأنا موضوع لمفهوم المتكلم، وأنت لمفهوم المخاطب، وهو لمفهوم الغائب، وأما استدلالهم بالوجهين فعنهما جواب واحد, وهو أن إفادة اللفظ للشخص المعين له سببان, أحدهما: وضع اللفظ له بخصوصه كالإعلام، والثاني: أن يوضع لقدر مشترك ولكن ينحصر في شخص معين, فيفهم الشخص لحصر المسمى فيه, لا لوضع اللفظ له بخصوصه, كفهم الكوكب المعين من لفظ الشمس وإن كان كليا, وكذلك القول أيضا فيما عدا العلم من المعارف, كاسم الإشارة والموصول والمعرف بأل؛ ولهذا قال شيخنا أبو حيان: الذي نختاره أنها كليات وضعا، جزئيات استعمالا. قال: "تقسيم آخر: اللفظ والمعنى إما أن يتحدا وهو المفرد, أو يتكثرا وهي المتباينة تفاصلت معانيها كالسواد والبياض، أو تواصلت كالسيف والصارم

والناطق والفصيح، أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى وهي المترادفة، أو بالعكس فإن وضع للكل فمشترك إلا فإن نقل لعلاقة واشتهر في الثاني, سمي بالنسبة إلى الأول منقولا عنه والثاني "منقولا" إليه، وإلا فحقيقة ومجاز، والثلاثة الأول المتحدة المعنى نصوص, وأما الباقية فالمتساوي الدلالة مجمل، والراجح ظاهر، والمرجوح مؤول، والمشترك بين النص والظاهر المحكم, وبين المجمل والمؤول المتشابه" أقول: هذا تقسيم آخر للفظ باعتبار وحدة تعدده ووحدة المعنى وتعدده فيكون تقسيما له باعتبار ما يعرض له؛ ولهذا أخره عن التقسيم الأول المعقود للتقسيم الذاتي كما تقدم بيانه. وحاصله أن اللفظ والمعنى على أقسام أربعة؛ لأنهما إما أن يتحدا أو يتكثرا، أو يتكثر اللفظ مع اتحاد المعنى أو عكسه, الأول: أن يتحد اللفظ، والمعنى كلفظ الله فإنه واحد ومدلوله واحد، ويسمى هذا بالمنفرد؛ لانفراد لفظه بمعناه، وقال الإمام: وهذا هو التقسيم إلى جزئي وكلي, الثاني: أن يتكثر اللفظ ويتكثر المعنى كالسواد والبياض، ويسمى بالألفاظ المتباينة لأن كل واحد منها متباين لآخر أي: مخالف له في معناه, ثم إن الألفاظ المتباينة قد تكون معانيها متفاصلة، أي: لا تجتمع كما مثلناه وكالأسود للإنسان والفرس، وقد تكون متواصلة أي: يمكن اجتماعها إما بأن يكون أحدهما اسما للذات والآخر صفة لها كالسيف والصارم، فإن السيف اسم للذات المعروفة سواء كانت آلة أم لا والصارم مدلوله الشديد القطع فهما متباينان، وقد يجتمعان في سيف قاطع، وأما أن يكون أحدهما صفة والآخر صفة للصفة كالناطق والفصيح، فإن الناطق صفة للإنسان مع أن الناطق قد يكون فصيحا، وقد لا يكون فالفصيح للناطق، وإذا قلت: زيد متكلم فصيح فقد اجتمعت الثلاثة، وكذلك إذا كان مدلول أحدهما جزءا من مدلول الآخر كالحيوان والإنسان، ولم يذكره المصنف, الثالث: أي: يتكثر اللفظ ويتحد المعنى, فنسمي تلك الألفاظ مترادفة سواء كانا من لغة واحدة أو من لغتين كلغة العرب، ولغة الفرس مثلا، والترادف مأخوذ من الرديف, وهو ركوب اثنين دابة واحدة، الرابع: أن يكون اللفظ واحدا والمعنى كثيرا فإن وضع لكل أي: لكل واحد من تلك المعاني فهو المشترك كالقرء الموضوع للطهر والحيض، وفي كثير من النسخ، فإن وضع للكل بأن المعرفة وهو منقوض بأسماء الأعداد فإن العشرة مثلا موضوعة لكل الأفراد, ومع ذلك ليست مشتركة؛ لأنها ليست موضوعة لكل منها، وكذا لفظ البلقة الموضوع للسواد والبياض إلا أن يقال: لا نسلم أن المعنى متعدد بل واحد وهو المجموع أو يقال: أراد بالكل الكلي العددي كما تقدم بسطه في تقسيم الدلالة، فيصبح على أن تعريف كل ممتنع من جهة اللغة، وإن لم يوضع لكل واحد بل وضع لمعنى, ثم نقل إلى غيره نظر، فإن كان لا لعلاقة قال في المحصول: فهو المرتجل واستشكله القرافي بأن المرتجل في الاصطلاح هو اللفظ المخترع أي: لم يتقدم له وضع, قال: وأما تفسيره بما قاله الإمام فغير معروف، ولم يذكر المصنف هذا التقسيم

ولعله لهذا السبب وإن نقل لعلاقة, فإن اشتهر في الثاني أي: بحيث صار فيه أغلب من الأول كما في المحصول، وذلك كالصلاة سمي بالنسبة إلى المعنى الأول منقولا عنه، وبالنسبة إلى الثاني منقولا إليه, إما شرعيا أو عرفيا أو عاما أو خاصا بحسب الناقلين كما سيأتي إيضاحه وتمثيله في حد المجاز. واعلم أن اشتراط المناسبة في المنقول مردود, فإن كثيرا من المنقولات لا مناسبة بينها وبين المنقول عنها, ألا ترى أن الجوهر لغة هو الشيء النفيس ثم نقله المتكلمون إلى تقسيم للعرض وهو القائم بنفسه، وإن كان في غاية الخسة؟ وأجاب الأصفهاني في شرح المحصول بأن القيام بنفسه نفاسة وهو ضعيف، وإن لم يشتهر في الثاني كالأسد فهو حقيقة بالنسبة إلى الأول وهو الحيوان المفترس, مجاز بالنسبة إلى الثاني وهو الرجل الشجاع، وعلم من هذا أن المجاز عند المصنف غير موضوع، وسيأتي ما يخالفه وهذا التقسيم مردود؛ لأن المجاز أيضا قد يكون أشهر من الحقيقة وهي المسألة المعروفة بالحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح وسيأتي, وأيضا فالوضع على حدته لا يكفي في إطلاق لفظ الحقيقة على المعنى الأول, بل لا بد من استعمال، وكذا في المجال أيضا. قوله: "والثلاث الأول" أي: متحد اللفظ والمعنى, ومتكثر اللفظ والمعنى, ومتكثر اللفظ متحد المعنى, فإنها نصوص لأن كلا منها يدل على معنى لا يحتمل غيره، وهذا هو معنى النص وسمي بذلك؛ لأن النص في اللغة على ما حكاه الجوهري وغيره هو بلوغ الشيء منتهاه وغايته، وهذه الألفاظ كذلك لأنها في الدرجة الغاية والمرتبة النهائية من وجوه الدلالة، واحترز بقوله: المتحدة المعنى عن القرء والعين والجون, فإنها متباينة مع أنها ليست بنصوص لأن كل لفظ منها مشترك بين معانٍ، وكذلك الألفاظ المترادفة قد تكون مشتركة أيضا كلفظ العين والذهب. قوله: "وأما الباقية" أي: الأقسام الداخلة في كون اللفظ واحدا، والمعنى كثيرا وهو المشترك، فالمنقول عنه والمنقول إليه, والحقيقة والمجاز, فإنها تنقسم إلى مجمل وظاهر ومؤول وذلك لأن اللفظ إن كانت دلالته على تلك المعاني بالسوية كالقرء والعين وغيرهما من الألفاظ المشتركة فهو المجمل مأخوذا من الجمل -بفتح الجيم وإسكان الميم- وهو الاختلاط كما حكاه القرافي فسمي بذلك لاختلاط المراد بغيره وسيأتي أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وغير ذلك من المجملات, فلا يكون محصورا في المشترك، وإن كانت دلالته على بعض المعاني أرجح من بعض, سمي بالنسبة إلى الراجح ظاهرا وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا؛ لكونه يؤول إلى الظهور عند اقتران الدليل به المنقول لعلاقة, ولم يشتهر كالأسد دلالته على الأول ظاهرة، وعلى الثاني مؤولة فإن اشتهر وهو المسمى بالمنقول كالصلاة فهو على العكس. قوله: "والمشترك" يعني أن النص والظاهر مشتركان في الرجحان إلا أن النص فيه رجحان بلا احتمال لغيره كأسماء الأعداد, والظاهر فيه رجحان مع احتمال كدلالة اللفظ على المعنى الحقيقي, فالقدر المشترك بينهما من الرجحان يسمى المحكم, فالمحكم

جنس لنوعين: النص والظاهر، ثم إن المجمل والمؤول مشتركان في أن كلا منهما يفيد معناه إفادة غير راجحة, إلا أن المؤول مرجوح أيضا والمجمل ليس مرجوحا بل مساويا, فالقدر المشترك بينهما من عدم الرجحان يسمى بالمتشابه, فهو جنس لنوعين: المجمل والمؤول, وهذا الاصطلاح مأخوذ من قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] . قال: "تقسيم آخر: مدلول اللفظ إما معنى, أو لفظ مفرد, أو مركب مستعمل, أو مهمل نحو الفرس والكلمة وأسماء الحروف والخبر والهذيان, والمركب صيغ للإفهام, فإن أفاد بالذات طلبا فالطلب للماهية استفهام, والتخيل مع الاستعلاء أمر، ومع التساوي التماس، ومع التسفل سؤال، وإلا فمحتمل التصديق والتكذيب خبر وغيره تنبيه, ويندرج فيه والتمني والترجي والقسم والنداء" أقول: مدلول اللفظ قد يكون معنى وقد يكون لفظا, فإن كان لفظا فقد يكون مفردا وقد يكون مركبا, وكل منها قد يكون مستعملا وقد يكون مهملا، ومجموع ذلك خمسة أقسام وقد ذكرها المصنف بأمثلتها من باب اللف والنشر, الأول: يكون المدلول معنى أي: شيئا أي: بلفظ كالفرس وزيد, وهذا هو الذي تقدم انقسامه إلى جزئي وكلي. الثاني: أن يكون المدلول لفظا مفردا مستعملا كالكلمة, فإن مدلولها لفظ وضع لمعنى مفرد وهو الاسم والفعل والحرف. الثالث: أن يكون المدلول لفظا مفردا مهملا كأسماء حروف الهجاء, ألا ترى أن حروف: ضرب وهى ضه وره وبه, لم توضع لمعنى مع أن كلا منها قد وضع له اسم: للأول الضاد، وللثاني الراء، وللثالث الباء، وهكذا ذكره سيبويه، ونقله عن الخليل فافهمه واجتنب غيره من التقديرات والهاء اللاحقة لضه وره وبه وهي هاء السكت. الرابع: أن يكون المدلول لفظا مركبا مستعملا نحو الخبر، فإن مدلوله لفظ مركب موضوع كاقم زيد. الخامس: أن يكون المدلول لفظا مركبا مهملا, قال الإمام: والأشبه أنه غير موجود؛ لأن الغرض من التركيب هو الإفادة، وجزم به في المنتخب وتبعه على ذلك صاحب الحاصل والتحصيل وهو ضعيف، فإن ما قالوه دليل على أن المهمل غير موضوع لا على أنه لم يوضع له اسم لا جزم بأن المصنف خالفهم، وزاد على ذلك فمثل له بالهذيان فإن لفظ مدلوله لفظ مركب مهمل وهو مصدر هذى بالذال المعجمة. قال الجوهري: هذى في منطقه يهذي ويهذو هذوا وهذيانا. قوله: "والمركب صيغ للإفهام" لما فرغ من تقسيم المفرد شرع في تقسيم المركب, ولا شك أن المتكلم إنما صاغ المركب من المفردات وألفه منها لإفهام الغير ما في ضميره، فتارة يفيد طلبا وتارة يفيد غير ذلك، فإن أفاد طلبا بذاته نظر فإن كان الطلب للماهية أي: لذكرها كما قال في المحصول1 فهو الاستفهام، كقولك: ما حقيقة الإنسان؟ وهل قام زيد؟ وهذا التقرير

_ 1 انظر المحصول، ص77، جـ1.

الذي ذكره لا دليل عليه في كلام المصنف مع أنه لا بد منه، وإلا يرد الأمر لكونه طلبا للماهية أيضا، والمصنف تبع في ذلك صاحب الحاصل وإنما سمي بالاستفهام؛ لأنه طلب للفهم، كاستعطى إذا طلب أن يعطى له إذ السين دالة على الطلب لكن الطلب في الحقيقة إنما هو بالأداة كهل ومتى، فإطلاق الاستفهام والطلب على اللفظ المركب من باب إطلاق اسم الجزء على الكل. وإن كان مع التسفل أي التذلل، فهو السؤال كقول العبد: اللهم اغفر لي. وقوله: "بالذات" يعني بالوضع، ومنهم من يعبر عنه بقوله: إفادة أولية, والكل بمعنى واحد, واحترز به المصنف عما يفيد بالطلب باللازم كقولك: أنا طالب منك أن تذكر حقيقة الإنسان، وأن تسقيني الماء، وأن لا تفعل كذا, فإنه لا يسمى الأول استفهاما، ولا الثاني أمرا, لا الثالث نهيا, بل هي إخبارات وكذلك التمني والترجي والقسم والنداء تفيد أيضا الطلب باللازم، وهذا الذي قرره فيه نظر من وجوه، منها أنه مناقض للمذكور في الأوامر والنواهي حيث قال: ويفسدهما أي: ويفسد اشتراط العلو والاستعلاء قول فرعون: ماذا تأمرونني؟ ومنها أنه خلط مذهبا بمذهب, فإن التساوي ليس قسيما للاستعلاء والتسفل بل للعلو، وهو أن يكون الطالب أعلى مرتبة كما سيأتي في باب الأوامر والنواهي، لكنه قلد الإمام في ذلك، ومنها أنه أهمل الطلب للترك تبعا لصاحب الحاصل, وهو وارد على التقسيم، وقد ذكره الإمام وغيره. وقالوا: فإنه ينقسم إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في طلب التحصيل, لكنه مع الاستعلاء يسمى نهيا. قوله: "وإلا" أي: وإن لم يفد بالذات طلبا, وذلك بأن لا يدل على طلب أصلا كقام زيد أو يدل عليه لكن لا بالذات كقولك: أنا طالب كذا، ومنه التمني وغيره مما تقدم فينظر فيه, فإن كان محتملا للتصديق والتكذيب فهو الخبر كقولنا: قام زيد، وإنما عدل المصنف عن الصدق والكذب إلى التصديق والتكذيب؛ لأن الصدق مطابقة الواقع، والكذب عدم مطابقته. ونحن نجد من الأخبار ما لا يحتمل الكذب كخبر الصادق وقولنا: محمد رسول الله وما لا يحتمل الصدق كقول القائل: مسيلمة صادق، مع أن كل ذلك يحتمل التصديق والتكذيب؛ لأن التصديق هو كونه يصح من جهة اللغة أن يقال لقائله: صدق, وكذلك التكذيب وقد وقع ذلك فالمؤمن صدق خبر الله تعالى والكافر كذبه، وهذا الحد الذي ذكره المصنف للخبر قد ذكره الإمام في المحصول هنا وجزم به ثم أعاده في باب الأخبار وقال: إنه حد رديء؛ لأن التصديق والتكذيب عبارة عن الأخبار عن كون الخبر صدقا أو كذبا فتعريفه به دوري، ثم قال: والحق أن الخبر تصوره ضروري لا يحتاج إلى حد ولا رسم. قوله: "وغيره تنبيه" أي: غير محتمل التصديق والتكذيب هو التنبيه أي: نبهت به على مقصودك؛ وقال في المحصول: سمي به تمييزا له عن غيره، قال: وأنواعه تعلم بالاستقراء لا بالحصر، وتندرج فيه الأربعة التي ذكرها المصنف, والفرق بين التمني والترجي أن الترجي لا يكون إلا في الممكنات كقولك: لعل زيدا يقدم، والتمني يكون فيهما كقولك: ليت الشباب يعود. واعلم أن قولنا: أنا طالب كذا لم يصرح المصنف بكونه داخلا في قسم الخبر أو التنبيه, وفيه نظر.

الفصل الثالث

الفصل الثالث مدخل ... الفصل الثالث: قال: "الفصل الثالث: في الاشتقاق, وهو رد لفظ إلى آخر لموافقته له في حروفه الأصلية ومناسبته له في المعنى ولا بد من تغيير بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما أو بزيادة أحدهما ونقصانه, أو نقصان الآخر أو بزيادته أو نقصانه بزيادة الآخر ونقصانه أو بزيادتهما ونقصانهما نحو: كاذب ونصر وضارب وخف وضرب على مذهب الكوفيين وعلي ومسلمات وحذر وعاد ونبت واضرب وخاف وعد وكال وارم" أقول: ذكر المصنف في هذا الفصل حد الاشتقاق ثم أقسامه ثم أحكامه، فالاشتقاق في اللغة هو الاقتطاع، وأما في الاصطلاح ففيه حدود أشهرها حد الميداني ونقله الإمام عنه فقال: هو أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر، وارتضاه الإمام وأتباعه، ويعترض عليه بأن الاشتقاق ليس هو نفس الوجدان حتى تقول هو أن تجد أي: وجدانك، بل الاشتقاق هو الرد عند الوجدان، كما تفطن له المصنف؛ فلذلك أصلحه كما تراه وهو من محاسن كلامه، لكنه يقتضي أن الاشتقاق فعل الشخص حتى يعدم بعدمه وفيه نظر، وأيضا فإن المعدوم والتصغير ونحوهما قد يردان على الحد. وللاشتقاق أربعة أركان تأتي في كلام المصنف, الأول: المشتق والثاني: المشتق منه والثالث: الموافقة في الحروف الأصلية والمناسبة في المعنى, والرابع: التغيير، فقوله: رد لفظ, دخل فيه الاسم والفعل وهذا هو الركن الأول وهو المشتق، وقوله: إلى لفظ آخر أراد به المشتق منه وهو الركن الثاني، ويؤخذ منه أيضا الركن الثالث، وهو التغيير؛ لأنه لو انتفى التغيير بينهما لم يصدق عليه أنه لفظ آخر بل هو هو، ودخل فيه الاسم والفعل كما قلنا في الأول، وإنما أتى بذلك -أعني باللفظ- فيهما لصدقه على كل فرد بحيث لا يخرج منه شيء، وعلى كل مذهب أيضا، إذ لو قال: رد فعل إلى اسم لكان يرد عليه اشتقاق الاسم من الاسم كضارب ومضروب وضراب وغيرها, فإنها مشتقات من الضرب الذي هو المصدر، ويرد عليه أنه مختص بمذهب البصريين, فإن الكوفيين يخالفونهم ويقولون بأن المصادر والصفات مشتقة من الأفعال, ولو عكس فقال: رد اسم إلى فعل لما كان ينطبق على رأي البصريين، ولو قال: رد الاسم إلى الاسم لما كان يصح على رأي الكوفيين، ويرد عليه الفعل على رأي البصريين، ولو قال: رد فعل إلى فعل لكان باطلا بالإجماع. قوله: "لموافقته له في حروفه الأصلية" هو الركن الرابع واحترز به عن الألفاظ المتوافقة في المعنى وهي المترادفة كالبر والقمح، وإنما قيد الحروف بكونها أصلية للاحتراز عن الزوائد, فإن الاختلاف فيها لا يضر كضرب وضارب، ولم يشترط في الحروف الأصلية أن تكون موجودة؛ لأنه ربما حذف بعضها لمانع كخف من الخوف. وقوله: "ومناسبته في المعنى" هو من تتمة الركن الرابع, واحترز به عن مثل اللحم والملح والحلم, فإن كلا منها يوافق الآخر في حروفه الأصلية

ومع ذلك فلا اشتقاق بينهما لانتفاء المناسبة في المعنى لتباين مدلولاتها. قوله: "ولا بد أي: من تغيير" بين اللفظين؛ لأنه فسره بقوله: بزيادة أو نقصان والتغيير بذلك إنما هو من جهة اللفظ, نعم يحصل التغيير المعنوي بطريق التبع لك أن تقول: هرب هربا لا تغيير فيه, وكذلك طلب وحلب وغيرهما إلا أن يقال: إن حركة الإعراب ساقطة الاعتبار في الاشتقاق لعدم استقرارها, ولأنها طارئة على الصيغة بخلاف حركة البناء، أو يقال: إن التغيير حاصل ولكن في التقدير فيقدر حذف الفتحة التي في آخر المصدر والإتيان بفتحة أخرى في آخر الفعل، فالفتحة غير الفتحة، ويدل على التغاير أن أحدهما لعامل والآخر لغير عامل, وقد ذكر سيبويه نظير ذلك في جنب فإنه قدر زوال ضمة النون التي فيه في حال إطلاقه على المفرد كقولك: رجل جنب، والإتيان بغيرها حال إطلاقه على الجمع كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6] وحصر الإمام التغيير في تسعة أقسام فقط "فقط" ولم يمثل لها فقال: التغيير إما بحرف أو بحركة أو بهما معا، وكل واحد من الثلاثة إما أن يكون بالزيادة أو بالنقصان أو بهما, صارت تسعة. ثم قال: وهذه هي الأقسام الممكنة منها، وعلى اللغوي طلب ما وجد من أمثلتها، وأما المصنف فإنه زاد عليها ستة أقسام فجعلها خمسة عشر ومثل لها لكن بأمثلة في كثير منها نظر، كما سيأتي وهذه الأقسام منها أربعة فيها تغيير واحد، ثم ستة فيها تغييران، ثم أربعة تلي هذه الستة فيها ثلاثة تغييرات، والقسم الخامس عشر فيه أربعة تغييرات وستقف عليه واضحا. قوله: "بزيادة أو نقصان حرف أو حركة أو كليهما" دخل فيه ستة أقسام, أربعة تغييرها فرادي، واثنان ثنائيان، فإن قوله: بزيادة ليس هو منونا بل مضافا إلى حرف وحركة وكليهما، وكذلك نقصان مضاف إلى الثلاثة أيضا فتكون ستة أقسام الأول: زيادة الحرف الثاني: زيادة الحركة الثالث: زيادتهما معا، وكذلك النقصان، وقوله: أو بزيادة أحدهما ونقصانه، أو نقصان الآخر، وتقديره: أو بزيادة أحدهما ونقصانه، أو بزيادة أحدهما ونقصان الآخر، فيدخل فيه أربعة أقسام ثنائية أيضا، فإن زيادة أحدهما ونقصانه يدخل فيه زيادة الحرف ونقصانه وزيادة الحركة ونقصانها، وزيادة الحركة ونقصان الحرف. وقوله: "أو بزيادته أو نقصانه بزيادة الآخر ونقصانه" تقديره: أو بزيادة أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه, أو نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه, فيدخل فيه أربعة أقسام ثلاثية التغيير، فإن وجود أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه يدخل فيه صورتان إحداهما: زيادة الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها، والثانية: زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه، ويدخل في نقصان أحدهما مع زيادة الآخر ونقصانه صورتان أيضا إحداهما: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها، والثانية: نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانها. قوله: "أو بزيادتهما ونقصانهما" أي: بزيادة الحرف والحركة معا، ونقصان الحرف والحركة معا، وهو قسم واحد رباعي التغيير, وبه تكمل الخمسة عشر. قوله: "نحو كاذب" شرع في مثل الأقسام السالفة, ولنقدم عليه أن المراد

بزيادة الحرف مثلا ونقصانه إنما هو جنس الحرف سواء كان واحدا أو أكثر، وكذلك الحركة فإن حركة الأعراف في الاعتداد بها نظر كما قدمناه، وكذلك همزة الوصل لسقوطها في الدرج, إذا علمت ذلك فلنذكر هذه المثل كما ذكرها، فإن كان المثال صحيحا فلا كلام, وإلا نبهت عليه ذكرت له مثالا صحيحا, الأول: زيادة الحرف فقط نحو: كاذب من الكذب زيدت الألف بعد الكاف. الثاني: زيادة الحركة نحو: نصر الماضي من النصر زيدت حركة الصاد. والثالث: زيادة الحرف والحركة جميعا نحو: ضارب من الضرب زيدت الألف بعد الضاد وزيدت أيضا حركة الراء. الرابع: نقصان الحرف نحو: خف فعل أمر للمذكر من الخوف، نقصت الواو، وأما سكون الفاء إن كانت متحركة فلم يعتبره المصنف؛ لأنه نقصان لحركة الإعراب، إذ لو اعتبره لكان نقصانا للحرف والحركة لكنه سيأتي ما يخالفه في القسم العاشر، فالأولى تمثيله بصهل اسم فعل من الصهيل نقصت الياء فقط, الخامس: نقصان الحركة ومثل له المصنف بضرب -ساكن الراء- مصدرا من ضرب الماضي, نقصت حركة الراء, لكن هذا إنما يأتي على مذهب الكوفيين في اشتقاقهم الاسم من الفعل كما نبه عليه المصنف, فالأولى تمثيله بقولك: سفر بسكون الفاء من السفر, نقصت فتحة الفاء قال الجوهري: تقول: سفرت أسفر سفورا أي: خرجت إلى السفر, فأنا سافر وجمعه سفر كصاحب وصحب وسفار كركاب. السادس: نقصان الحرف والحركة جميعا نحو علي ماضيا من العليان نقصت الألف والنون ونقصت فتحة الياء وفي الاعتداد بسكون الياء نظر، والأولى تمثيله بصب اسم فاعل من الصبابة. السابع: زيادة الحرف ونقصانه ومثل له المصنف بمسلمات زيدت الألف والتاء ونقصت تاء مسلمة في الوقف إذ تصبح هاء وفي كون هذا مما نحن فيه ففيه نظر، فإن الجمع لا يصدق عليه أنه مشتق من مفرده فالأولى تمثيله بقولك: صاهل من الصهيل. الثامن: زيادة الحركة ونقصانها نحو حذر بكسر الذال اسم فاعل من الحذر, حذفت فتحة الذال وزيدة كسرتها. التاسع: زيادة الحرف ونقصان الحركة مثل عاد بالتشديد اسم فاعل من العدد, زيدت الألف بعد العين ونقصت حركة الدال الأولى للإدغام. العاشر: زيادة الحركة ونقصان الحرف ومثل له المصنف بقوله: نبت وهو ماضٍ من النبات, نقصت ألف وزيدت حركة وهي فتحة التاء, وهذا جعل البناء الطارئ من سكون أو حركة كزيادة على ما كان في المصدر، وقد تقدم ما يخالفه في القسم الرابع فالأولى تمثيله بقولك: رجع من الرجعى. الحادي عشر: زيادة الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها نحو: اضرب من الضرب, زيدت الألف للوصل وحركة الراء ونقصت حركة الضاد وفي الاعتداد بهمزة الوصل نظر لسقوطها في الدرج، والأولى تمثيله بموعد من الوعد زيدت فيه الميم وكسرة العين ونقصت منه فتحة الواو. الثاني عشر: زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه, ومثل له المصنف بخاف وهو ماض من الخوف, زيدت الألف وحركة الفاء وحذفت الواو, وهذا بناء على أن لزوم الفتحة كزيادة

حركة وفيه نظر كما قدمناه، وأيضا فليس في الحرف هنا لا زيادة ولا نقصان بل الواو نفسها انقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والأولى تمثيله بمكمل اسم فاعل أو مفعول من الكمال, زيد فيه حرف وحركة وهما الميم الأولى وضمتها, ونقصت الألف. الثالث عشر: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها ومثل له المصنف بقوله: عد فعل أمر من الوعد, نقصت الواو وحركة الدال وزيدت كسرة العين, وفيه أيضا النظر المتقدم في حسبان حركة الإعراب, والأولى تمثيله بقنط اسم فاعل من القنوط. الرابع عشر: نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه نحو: كالّ بتشديد اللام اسم فاعل من الكلال, نقصت حركة اللام الأولى للإدغام، ونقصت الألف التي بين اللامين, وزيدت ألف قبل اللامين. الخامس عشر: زيادة الحرف والحركة معا ونقصانهما معا نحو: ارم من الرمي, زيدت الهمزة للوصل وحركة الميم ونقصت الياء وحركة الراء، والأولى اجتناب همزة الوصل لما تقدم والتمثيل بكامل من الكمال, ولم يتعرض الآمدي ولا ابن الحاجب لتقسيم هذه المسألة ولا لتمثيلها.

المسألة الأولى

المسألة الأولى: قال: "وأحكامه في مسائل: الأولى: شرط المشتق صدق أصله خلافا لأبي علي وابنه, فإنهما قالا بعالمية الله تعالى دون علمه، وعللاها فينا به. لنا أن الأصل جزؤه فلا يوجد دونه" أقول: لما ذكر تعريف الاشتقاق وأقسام المشتق ذكر أحكامه في ثلاث مسائل؛ الأولى: شرط صدق المشتق أي: سواء كان اسما أو فعلا صدق أصله وهو المشتق منه, فلا يصدق ضارب مثلا على ذات إلا إذا صدق الضرب على تلك الذات, وسواء كان الصدق في الماضي أو في الحال أو في الاستقبال كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] لكنه هل يكون حقيقة أو مجازا؟ فيه تفصيل يأتي في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى. ولقصد شمول الأقسام الثلاثة غيّر المصنف بقول: صدق أصله إذ لو قال: وجود أصله لكان يرد عليه إطلاقه باعتبار المستقبل, فإنه جائز قطعا مع أن الأصل لم يوجد, وهذه المسألة وإن كانت واضحة لكن ذكرها الأصوليون للرد بها على المعتزلة، فإنهم ذهبوا إلى مسألة خالفت هذه القاعدة كما ستعرفه فنقول: ذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وغيرهما من المعتزلة إلى نفي العلم عن البارئ سبحانه وتعالى، وكذلك الصفات التي أثبتها الأشعري كلها وهي ثمانٍ, مجموعة في قول بعضهم: حياة وعلم قدرة وإرادة ... كلام وإبصار وسمع مع البقا واعتمدوا في ذلك على شبهة سأذكرها في آخر المسألة, ومع ذلك قالوا بعالمية الله تعالى أي: بكونه عالما والعالم مشتق من العلم, فأطلقوا العالم وغيره من المشتقات على الله تعالى وأنكروا حصول المشتق منه, مع أن العلة في العالمية هو حصول العلم، وكذلك كل مشتق فإن العلة في صحة إطلاقه وجود المشتق منه، وقد عللوا العالمية التي فينا أي: في المخلوقات بالعلم, لكنهم قالوا: إن ذاته تعالى اقتضت عالميته وليست معللة بالعلم؛ لأن عالميته واجبة والواجب لا يعلل بالغير بخلاف عالميتنا. قوله: "لنا"

أي: دليلنا على امتناع إطلاق المشتق بدون المشتق منه أن الأصل وهو المشتق منه, جزء من المشتق, فإن العالم مثلا مدلوله ذات قام بها العلم, فلا يصدق المشتق بدونه؛ لأن صدق المركب بدون جزئه محال، وهذا الدليل إنما يستقيم على رأي البصريين من كون المصدر هو المشتق منه, أما شبهتهم في إنكار الصفات فقالوا: لو اتصف البارئ سبحانه وتعالى بها, فإن كانت حادثة لزم أن يكون البارئ تعالى محلا للحوادث، وإن كانت قديمة لزم تعدد القدماء، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 74] فمن أثبت الذات مع الصفات الثماني فقد أثبت تسعة أشياء وكان كفره أعظم من كفر النصارى ثلاث مرات، وأما والعالمية ونحوها فإنها من النسب التي لا ثبوت لها في الخارج، وأجاب الإمام في الأربعين وغيرها بأنها قديمة ولا امتناع في إثبات قدماء هن صفات لذات واحدة، والنصارى إنما كفروا بإثبات قدماء هن ذوات، ثم قال في الأربعين أيضا: وهذه الصفات ممكنة لذاتها واجبة الوجود لوجوب الذات, فتخلص مما قاله الإمام أن الصفات واجبة للذات لا بالذات أي: واجبة لأجل الذات المقدسة, لا أن ذات الصفات اقتضت وجوب وجود نفسها.

المسألة الثانية

المسألة الثانية: قال: "الثانية: شرط كونه حقيقة دوام أصله خلافا لابن سينا وأبي هاشم؛ لأنه يصدق نفيه عند زواله فلا يصدق إيجابه قيل: مطلقتان فلا تتناقضان قلنا: مؤقتتان بالحال؛ لأن أهل العرف يرفع أحدهما بالآخر". أقول: لما تقدم في المسألة السابقة أن شرط المشتق صدق المشتق منه, شرع الآن في بيان الصدق الحقيقي من المجاز, وحاصله أن المشتق إن أطلق باعتبار الحال أو كان المعنى موجودا حال الإطلاق فهو حقيقة بالاتفاق، وإن كان باعتبار المستقبل كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فهو مجاز اتفاقا كما صرح به المصنف في أثناء استدلاله، وإن كان باعتبار الماضي ففيه ثلاثة مذاهب, أحدها: أنه مجاز مطلقا سواء أمكن مقارنته كالضرب وغيره أو لم يمكن كالكلام، وطريق من أراد الإطلاق الحقيقي في الكلام وشبهه أو يأتي به مقارنا لآخر حرف كما. والثاني: أنه حقيقة مطلقا وهو مذهب ابن سينا وأبي هاشم وكذلك أبو علي كما قال في الحاصل. والثالث: التفصيل بين الممكن وغيره وتوقف الآمدي في هذه المذاهب فلم يصحح شيئا منها، وكذلك ابن الحاجب وصحح المصنف الأول، وقال في المحصول: إنه الأقرب، فإن قيل: قد تقدم في المسألة السابقة أن أبا علي وابنه لا يشترطان صدق الأصل فلا معنى للنقل عنهما؛ لأنهما إذا لم يشترطا الصدق فالاستمرار بطريق الأولى، وأيضا فلأنه يوهم اشتراط وجود الأصل عندهما، وجوابه أنهما لم يخالفا هناك إلا في صفات الله تعالى خاصة، وأما ما عداها كالضارب والمتكلم وهو الذي يتكلم فيه الآن, فإنهما لم يخالفا فيه كما تقدم التنبيه عليه، ومن فوائد الخلاف صحة الاحتجاج على جواز الرجوع للبائع إذا مات المشتري قبل وفاء الثمن, من قوله -عليه الصلاة والسلام: "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق

بمتاعه" 1 فإن قلنا: إنه صاحب حقيقة باعتبار ما مضى رجع فيه؛ لاندراجه تحته, وإن قلنا: إنه مجاز فلا ويتعين الحمل على المستعير وههنا أمور لا بد من معرفتها أحدها: أن الفعل من المشتقات مع أن إطلاق الماضي منه اعتبار ما مضى حقيقة بلا نزاع، وقد دخل في كلام المصنف حيث قال: شرط كونه حقيقة أي: كون المشتق، وأما المضارع فينبني على الخلاف المشهور من كونه مشتركا أم لا، فإن جعلناه مشتركا أو حقيقة في الاستقبال فيستثنى أيضا. الثاني: أن التعبير بالدوام إنما يصح فيما يصح عليه البقاء وحينئذ فتخرج المشتقات من الأعراض السيالة كالمتكلم ونحوه، فالصواب أن يقول: شرط المشتق وجود أصله حال الإطلاق. الثالث: أن الإمام في المحصول والمنتخب قد رد على الخصوم في آخر المسألة بأن لا يصح أن يقال لليقظان: إنه نائم اعتبارا بالنوم السابق، وتابعه عليه صاحب الحاصل والتحصيل وغيرهما، وهو يقتضي أن ذلك محل اتفاق وصرح به الآمدي في الأحكام في آخر المسألة فقال: لا يجوز تسمية القائم قاعدا والقاعد قائما للقعود والقيام السابق بإجماع المسلمين وأهل اللسان، وإذا تقرر هذا فينبغي استثناؤه من كلام المصنف, وضابطه كما قال التبريزي في مختصر المحصول المسمى بالتنقيح أن يطرأ على المحل وصف وجودي يناقض المعنى الأول أو يضاده كالسواد ونحوه بخلاف القتل والزنا. والرابع: أن ما قاله المصنف وغيره محله إذا كان المشتق محكوما به كقولك: زيد مشرك أو زانٍ أو سارق فأما إذا كان متعلق الحكم كقولك: السارق تقطع يده, فإنه حقيقة مطلقا, كما قال القرافي إذ لو كان مجازا لكان قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 51] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وشبهها مجازات باعتبار من اتصف بهذه الصفات في زماننا؛ لأنه مستقبل باعتبار زمن الخطاب عند إنزال الآية, وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال بهذه النصوص إذ الأصل عدم التجوز ولا قائل بهذا. قوله: "لأنه" أي: الدليل على أنه ليس بحقيقة أنه يصدق نفي المشتق عند زوال المشتق منه فيقال مثلا: زيد ليس بضارب، وإذا صدق ذلك فلا يصدق إيجابه وهو زيد ضارب، وإلا لزم اجتماع النقيضين, فإن أطلق عليه كان مجازا لما سيأتي أن من علامة المجاز صحة النفي، أما الدليل على أنه يصدق نفيه عند زواله, فلأنه بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب في الحال، وإذا صدق هذا صدق ليس بضارب؛ لأنه جزؤه، ومتى صدق الكل صدق الجزء، واعترض الخصم فقال: قولنا: ضارب وقولنا: ليس بضارب قضيتان مطلقتان أي: لم يتحد وقت الحكم فيهما فلا تتناقضان؛ لجواز أن يكون وقت السلب غير وقت الإثبات كما تقرر في علم المنطق، والجواب: أنهما مؤقتتان بحال التكلم وأغنى عن هذا التقييد فهم أهل العرف له, إذ لو لم يكن كذلك لما جاز استعمال كل

_ 1 أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة "2/ 51", وأخرجه الهندي في كنز العمال، حديث رقم "10465".

واحد منهما في تكذيب الآخر ورفعه، لكن أهل العرف يستعملون ذلك فتكونان متناقضتين كما قلنا. هذا حاصل كلام المصنف وفيه نظر من وجوه, أحدها: أن هذا الدليل ينقلب على المستدل, بيانه أنه يصدق قولنا: زيد ضارب في الماضي فيصدق قولنا: إنه ضارب؛ لأن صدق المركب يستلزم صدق أجزائه, وإذا صدق أنه ضارب فلا يصدق ليس بضارب وإلا لاجتمع النقيضان، وكذلك أيضا تفعل بالنسبة إلى المستقبل فنقول: زيد ضارب غدا ... إلخ. الثاني: إذا كانت القضيتان مؤقتتين بالحال على ما قاله، وفرضنا أيضا القضية السالفة صادقة فتكون الموجبة المقيدة بالحال هي الكاذبة فلا يصدق قولنا: ضارب في الحال ولكن لا يلزم كذبه كذب المطلق الذي هو قولنا: ضارب وهو محل النزاع. الثالث: لا يخلو إما أن يكون المشتق المتنازع في صحة إطلاقه بعد الزوال المشتق منه هو المقيد بالحال كقولنا: ضارب في الحال، أم النزاع في مجرد الإطلاق العاري عن التقييد, فإن كان النزاع في الثاني, فبطلان الدليل المذكور واضح لكون القضية مطلقة واعتراض الخصم باق على حاله، وأما استعماله في التكاذيب فنحن نعلم ضرورة أن ذلك عند توافق المتخاطبين على إرادة زمان معين، وإن كان النزاع في المقيد بالحال وهو الذي يوافق جواب المصنف, فالاستدلال بنفيه باطل؛ لأنه مصادرة على المطلوب إذ هو محل النزاع. وبتقدير أن يكون المقصود ذلك فيصرح به في الدليل فنقول: لما صح ليس بضارب في الحال لم يصح ضارب في الحال, ولا نتكلف إقامته على الوجه الذي قرره حتى يورد عليه عن القضايا مطلقة فلا تتناقض فتتكلف إلى الجواب عنها بجواب غير محقق. الرابع أورده الآمدي في الأحكام وأخذه منه جماعة: أن الضارب في الحال أخص من مطلق الضارب, فقولنا: ليس بضارب في الحال نفي للأخص، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم, فلا يلزم من صدقه صدق ليس بضارب، كقولنا: الحمار ليس بحيوان ناطق فإنه صادق مع أنه لا يصدق قولنا: إنه ليس بحيوان فإن قيل: إنما يكون ليس بضارب في الحال أخص من ليس بضارب أن لو كان في الحال متعلقا بضارب، ولا نسلم ذلك بل يجوز أن يكون متعلقا بليس ومعناه: ليس في الحال بضارب فيكون السلب مقيدا بقوله: في الحال فيكون أخص من قولنا: ليس بضارب؛ لأن السلب الأخص أخص من السلب المطلق والأخص يستلزم الأعم، والجواب: أنا لا نسلم أنه بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس في الحال بضارب؛ لأنه عين المتنازع فيه. وإلى هذا أشار في التحصيل بقوله: لا نسلم أن هذا سلب أخص أي: بالتنوين, بل سلب أخص أي: بالإضافة. قال: "وعورض بوجوه, الأول: أن الضارب من له الضرب وهو أعم من الماضي, ورد بأنه أهم من المستقبل أيضا وهو مجاز اتفاقا. الثاني: أن النحاة منعوا عمل النعت الماضي ونوقض بأنهم أعملوا المستقبل أيضا. الثالث: أنه لو شرط لم يكن المتكلم ونحوه حقيقة, وأجيب بأنه لما تعذر اجتماع أجزائه اكتفى بآخر جزء. الرابع: أن المؤمن

يطلق حالة الخلو عن مفهومه, وأجيب بأنه مجاز وإلا لأطلق الكافر على أكابر الصحابة -رضي الله عنهم- حقيقة" أقول: اعترض الخصم فقال: هذا الدليل الذي ذكرتم وإن دل على أن المشتق لا يصدق حقيقة عند زوال المشتق منه, لكنه معارض بأدلة أربعة تدل على أن يصدق حقيقة، ولو قال المصنف بأوجه لكان أوجه من الوجوه؛ لأنها جمع كثرة، الأول: أن الضارب مثلا عبارة عن ذات ثبت لها الضرب أعم من أن يكون في الحال أو في الماضي بدليل صحة تقسيمه إليها, وهو في الحال حقيقة بالاتفاق فكذلك في الماضي، ورد هذا الدليل بأن من ثبت له الضرب كما أنه أعم من الماضي والحال فهو أعم من الاستقبال, فيلزم أن يكون حقيقة في المستقبل وهو مجاز بالاتفاق، وفي الجواب نظر لأن من ثبت له الضرب أو حصل له لا ينقسم إلى المستقبل. الثاني: أن النحاة أي: جمهورهم قالوا: إن النعت يعني المشتق كاسم الفاعل واسم المفعول إذا كان بمعنى الماضي أي: وليس معه أن لا ينصب بل يتعين جره إليه بالإضافة كقولك: مررت برجل ضارب زيد أمس، وهذا يدل على جواز استعماله بمعنى الماضي، والأصل في الاستعمال الحقيقة. والجواب أن هذا الدليل منتقض بإجماعهم على إعماله إذا كان بمعنى الاستقبال، فإن ما قلتموه في الماضي يأتي بعينه في المستقبل مع أنه مجاز اتفاقا، وأجاب في التحصيل عن جوابنا بأنه يوجب تكثير المجاز وهو خلاف الأصل. الثالث: لو شرط بقاء المشتق منه إلى حالة الإطلاق لم يكن المشتق من الألفاظ كالمتكلم والمخبر والمحدث حقيقة البتة؛ لأن الكلام ونحوه اسم لمجموع الحروف ويستحيل اجتماع تلك الحروف وفي وقت واحد؛ لأنها أعراض سيالة لا يوجد منها حروف إلا بعد انقضاء الآخر، والجواب: أنه لما تعذر اجتماع أجزاء الكلام وشبهه اكتفينا في الإطلاق الحقيقي بمقارنته لآخر جزء لصدق وجود المشتق منه مع مقارنته لشيء منه، فمن قال: قام زيد مثلا إنما يصدق عليه متكلم حقيقة عند مقارنة الدال فقط لا قبلها ولا بعدها. الرابع: أن لفظ المؤمن يطلق على الشخص حالة خلوه عن مفهوم الإيمان، والأصل في الإطلاق الحقيقة, بيانه: أن الواحد منا إذا نام يصدق عليه أنه مؤمن أو لا يصدق عليه الإيمان في تلك الحالة؛ لأنه إما عبارة عن التصديق كما هو مذهب الأشعري, أي: عن العمل كما هو مذهب المعتزلة، وكل منهما ليس بحاصل في حال نومه، وأجيب بأن هذا الإطلاق مجاز؛ لأنه لو كان إطلاق المؤمن على الشخص باعتبار الإيمان السابق حقيقة, لكان إطلاق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة باعتبار الكفر السابق وهو باطل اتفاقيا فيبطل الأول، وأجاب صاحب التحصيل وغيره عن جوابنا بأن الحقيقة قد تهجر لعارض شرعي, فلا يلزم من امتناع إطلاق اسم الذم لكونه مخلا بتعظيمهم امتناع عكسه وهو المؤمن، وفي الجواب نظر؛ لأن القاعدة أن امتناع الشيء متى دار إسناده بين عدم المقتضى ووجود المانع كان إسناده إلى عدم المقتضى أولى؛ لأنا لو أسندناه إلى وجود المانع لكان المقتضى قد وجد وتخلف أثره والأصل عدمه، وعلى هذه القاعدة لا يصح جوابهم؛ لأن المصنف يدعي أن امتناع إطلاق الكافر لعدم المقتضى وهو وجود المشتق منه حالة الإطلاق، والمجيب يدعي أن امتناعه لوجود المانع فكان الأول أولى، وهذه القاعدة تنفع في كثير من المباحث.

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة: قال: "المسألة الثالثة: اسم الفاعل لا يشتق لشيء والفعل لغيره للاستقراء, قالت المعتزلة: الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في الجسم كما أنه الخالق، والخلق هو المخلوق فقلنا: الخالق هو التأثير قالوا: إن قدم العالم وإلا لافتقر إلى خلق آخر وتسلسل, قلنا: هو نسبة, فلم يحتج إلى تأثير آخر" أقول: لا يجوز إطلاق اسم الفاعل على شيء والفعل أي: المصدر والمشتق منه قائم بغير ذلك الشيء, بل يجب بمقتضى اللغة إطلاق ذلك المشتق على الذي قام به؛ لأنا استقرأنا اللغة فوجدنا الأمر كذلك، وخالفت المعتزلة في المسألتين فقالوا: الله تبارك وتعالى يصدق عليه أنه متكلم والكلام المشتق منه لا يقوم به؛ لأن الكلام النفساني باطل, ولا كلام إلا الحروف والأصوات وهي مخلوقة، فلو قامت بذاته تعالى لكانت ذاته تعالى محلا للحوادث بل يخلق الله تعالى ذلك الكلام في اللوح المحفوظ، أو في غيره من الأجسام كخلقه تعالى إياه في الشجرة حين كلم موسى, وذلك الجسم لا يسمى متكلما وإن قام به الكلام، وذكر الأصوليون هذه القاعدة ليردوا بها على المعتزلة في هذه المسألة، ثم استدلت المعتزلة على مذهبهم بأن الخالق يطلق على الله تعالى وهو مشتق من الخلق والخلق هو المخلوق؛ لقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} المخلوق ليس قائما بذاته، والجواب: أنه إنما أطلق المتكلم على الله تعالى باعتبار الكلام النفساني القائم بذاته كما تقدم في الحكم على المعدوم واستدلالكم بالخلق باطل بأن الخلق ليس هو المخلوق بل هو تأثير الله تعالى في المخلوق والتأثير قائم بذات الله تعالى، وأما الإطلاق الواقع في الآية فهو مجاز من باب تسمية المتعلق باسم المتعلق كما سيأتي في قول المصنف، والمتعلق كالخلق للمخلوق. قوله: قالوا: إن قدم أي: قالت المعتزلة: لا جائز أن يكون الخلق هو التأثير؛ لأنه إن كان قديما لزم قدم العالم، وإن كان حادثا لزم التسلسل وكلاهما محال. بيان الأول من ثلاثة أوجه أحدها: أن المؤثر سبحانه وتعالى قديم والتأثير قد فرضناه قديما, وإذا وجد المؤثر والتأثير استحال تخلف الأثر وهو العالم فيلزم من وجودهما في الأزل وجود العلم. الثاني: أن العالم هو ما سوى الله تعالى والتأثير غير الله تعالى، فلو كان قديما لكان العالم قديما. الثالث: أن التأثير نسبة والنسبة متوقفة على المنتسبين، وهما الخالق والمخلوق, فلو كانت قديمة مع أنها متوقفة على المخلوق لكان المخلوق قديما من طريق الأولى، وأما بيان الثاني وهو التسلسل فلأن التأثير إذا كان حادثا فهو محتاج إلى خلق آخر أي تأثير آخر؛ لأن كل حادث لا بد له من تأثير مؤثر فيعود الكلام إلى ذلك التأثير، ويتسلسل وهذه الشبهة لا جواب عنها في المحصول ولا في الحاصل، وقد أجاب المصنف بأن التأثير نسبة فلم يحتج إلى تأثير

آخر وتقريره من وجهين أحدهما: أن النسب والإضافات كالبنوة والأخوة أمور عدمية لا جود لها في الخارج, وإنما هي أمور اعتبارية أي: يعتبرها العقل, فلا تحتاج إلى مؤثر. الثاني: أن النسبة متوقفة على المنتسبين فقط فإذا حصلا حصلت, وتحتاج إلى مؤثر آخر, وهذا الجواب فيه التزام لحدوث التأثير، والجواب الأول مانع للحدوث والقدم معا؛ لأنهما من صفات الوجود، وقد فرضناه معدوما وأجاب في التحصيل بجوابين, أحدهما: أن الممتنع إنما هو تقدم النسبة على محلها وأما ثبوتها مع محلها عند عدم المنسوب إليه فلا استحالة فيه. ألا ترى أن تقدم البارئ على العالم نسبة بينه وبين العالم, ويستحيل القول بتوقف وجودها على المنتسبين. الثاني: أن المحال من التسلسل إنما هو التسلسل في المؤثرات والعلل، وأما التسلسل في الأثر فلا نسلم أنه ممتنع وهذا التسلسل إنما هو في الآثار. قال الأصفهاني في شرح المحصول: وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه تجويز حوادث لا أول لها, وهو باطل على رأينا, وهذه المسألة لا ذكر لها في المنتخب قال.

الفصل الرابع

الفصل الرابع: قال: "الفصل الرابع في الترادف وهو توالي الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد باعتبار واحد كالإنسان والبشر, وللتأكيد يقوى الأول والتابع لا يفيد وحده" أقول: الترادف مأخوذ من الرديف وهو ركوب اثنين على دابة واحدة، وفي الاصطلاح ما قاله المصنف. فقوله: توالي الألفاظ جنس دخل فيه الترادف وغيره, وتوالي الألفاظ هو تتابعها لأن اللفظ الثاني تبع الأول في مدلوله وإنما عبر بذلك ولم يعبر بالألفاظ المتوالية لأنه شرع في حد المعنى، وهو الترادف لا في حد اللفظ وهو المترادف كما فعل الإمام وعبر بالألفاظ ليشمل ترادف الأسماء كالبر والقمح, والأفعال كجلس وقعد, والحروف كفي والباء من قوله تعالى: {مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ} لكن الترادف قد يكون بتوالي اللفظين فقط وأيضا فاللفظ جنس بعيد لإطلاقه على المهمل والمستعمل وهو مجتنب في الحد أو الحدود فالصواب أن يقول: توالي كلمتين فصاعدا، وقوله: المفردة احترز به عن شيئين أحدهما: أن يكون البعض مركبا والبعض مفردا كالاسم مع الحد نحو الإنسان والحيوان الناطق, فإنهما وإن دلا على ذات واحدة فليسا مترادفين على الأصح؛ لأن الحد يدل على الأجزاء بالمطابقة والمحدود يدل عليها بالتضمن والدالة بالمطابقة غير الدال بالتضمن. الثاني: أن يكون الكل مركبا كالحد والرسم نحو قولنا: الحيوان الناطق والحيوان الضاحك، فليسا مترادفين أيضا، وإن دلا على مسمى واحد وهو الإنسان؛ لأن دلالة أحدهما بواسطة الذاتيات، والآخر بواسطة الخاصة, لكن التقييد بأفراد غير محتاج إليه؛ لأن ما ذكره خارج بقوله باعتبار واحد. وأيضا فالتقييد به على تقدير الاحتياج إليه في إخراج الحد وشبهه مما قلناه يخرج به بعض المترادفات كقولنا: خمسة ونصف العشرة, وكذلك خمسة مع عشرة إلا خمسة على ما سيأتي في الاستثناء. وقوله: الدال على مسمى واحد أي: الدال كل منها على مسمى

واحد واحترز به المتباينة كالإنسان والفرس. وقوله: باعتبار واحد قال في المحصول: احترزنا به عن الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد, لكن باعتبارين كالسيف والصارم فإن كلا منهما يدل على الذات المعروفة, لكن دلالة السيف باعتبار الشكل سواء كان كالا أو قاطعا، والصارم باعتبار شدة القطع وكذلك الصفة وصفة الصفة كالناطق والفصيح، وهذا القيد لا يحتاج إليه, فإن هذه الأشياء لم تدل على مسمى واحد بل على معنيين مجتمعين في ذات واحدة, وكيف لا وقد تقدم في كلامه في تقسيم الألفاظ أن هذه ألفاظ متباينة والمتباين هو الذي تغاير لفظه ومعناه، ويمكن أن يقال: احترز به على الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد لكن أحدهما يدل بطريق الحقيقة, والآخر بطريق المجاز كالأسد والشجاع, وهذا الحد منطبق على تكرار اللفظ الواحد كقولنا: قام زيد زيد وليس ذلك من الترادف, بل من التأكيد اللفظي كما سيأتي فلا بد أن يقول: توالي الألفاظ المفردة المتغايرة. قوله: "كالإنسان والبشر" مثال للمترادف من جهة اللغة, فإن الإنسان يطلق على الواحد, رجلا كان أو امرأة كما قال الجوهري, وكذلك البشر يطلق أيضا على الواحد, قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} وقد يكون الترادف بحسب العرف كالأسد والسبع, أو بحسب لغتين كالله وخداي بالفارسية. قوله: "والتأكيد يقوي الأول" لما كان التأكيد والتابع فيهما شبه بالمترادف حتى ذهب بعضهم إلى أن التابع منه أي: من المترادف شرع في الفرق بما قاله في المحصول, وحاصل ما قاله في الفرق بين المترادف والمؤكد أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت أصلا, وأما المؤكد فإنه لا يفيد عن فائدة المؤكد بل تفويته, والأولى للمصنف أن يقول: والتأكيد تقوية الأول أو يقول: والمؤكد يقوي الأول قال: وأما الفرق بين المترادف والتابع كقولنا: شيطان ليطان وحسن بسن وخراب يباب وجيعان نيعان وشبه ذلك, فهو أن التابع وحده لا يفيد شيئا البتة, فإن تقدم المتبوع عليه أفاد تفويته بخلاف المترادف فإنه يفيد وحده كالإنسان, ومقتضى كلام المصنف أن التابع لا فائدة له أصلا، وبه صرح الآمدي في الأحكام ولم يتعرض ابن الحاجب لفائدته, وقد عرفت مما قلناه أن التأكيد والتابع, كل منهما يفيد التقوية, ولكن يفترقان من جهة أن التابع يشترط فيه أن يكون على زنة الأصل كشيطان ليطان بخلاف التأكيد. قال: "وأحكامه في مسائل: الأولى في سببه: المترادفان إما من واضعين والتبسا أو واحد لتكثير الوسائل والتوسع في مجال البديع. الثانية: أنه خلاف الأصل؛ لأنه تعريف المعرف ومحوج إلى حفظ الكل. الثالثة: اللفظ يقوم بدل مرادفه من لغته إذ التركيب يتعلق بالمعنى دون اللفظ. الرابعة: التوكيد تقوية مدلول ما ذكر بلفظ ثانٍ، فإما أن يؤكد بنفسه مثل قوله -عليه الصلاة والسلام: "والله لأغزون قريشا" ثلاثا 1 أو بغيره للمفرد كالنفس والعين وكلا وكلتا وكل وأجمعين وأخواته أو الجملة كإن, وجوازه ضروري ووقوعه في

_ 1 أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس "10/ 6612", والهيثمي في مجمع الزوائد "4/ 182".

اللغات معلوم" أقول: حصر المصنف أحكام الترادف في أربع مسائل؛ الأولى: في سبب وقوعه, وهو أمران أحدهما: أن يكون من واضعين, قال الإمام: ويشبه أن يكون هو السبب الأكثري, وذلك بأن تضع قبيلة لفظ القمح مثلا للحب المعروف، وقبيلة أخرى لفظ البر له أيضا. ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان أو يعلمان ولكن متلبس وضع أحدهما بوضع الآخر، وهذا الشرط يقتضي أنا إذا علمنا الواضعين بأعيانهما لا يكون اللفظ مترادفا بل ينسب كل لغة إلى قوم وفيه نظر، ثم إن هذا إنما يتأتى إذا قلنا: اللغات اصطلاحية والمصنف لم يختره بل اختار الوقف. والثاني: أن يكون من واضع وحد إما لتكثير الوسائل والإخبار عما في النفس, فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطق به كالألثغ الذي يعسر عليه النطق بالراء فيعبر بالقمح, أو تعذرت القافية أو الوزن به فيبقى الآخر وسيلة للمقصود، وإما للتوسع في مجال البديع، والبديع هو اسم لمحاسن الكلام كالسجع والمجانسة والقلب، والواضع له بإزاء هذه المعاني هو ابن المعتز1 كما قال ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير2. قال السكاكي: فالسجع يكون في النثر كالقافية في الشعر كقولك: ما أبعد ما فات, وما أقرب ما هو آت, فلو عبرت بمضي ونحوه لما حصل هذا المعنى والمجانسة كقولك: اشتريت البر وأنفقته في البر فلو عبرت بالقمح لفات المطلوب, والقلب كقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] فلو عبر بالله تعالى ونحوه لفات هذا المطلوب. "المسألة الثانية": الترادف على خلاف الأصل أي: خلاف الراجح حتى إذا تردد لفظ بين كونه مترادفا وكونه غير مترادف فحمله على عدم الترادف أولى، وإن كان خلاف الأصل؛ لأنه تعريف لما سبق تعريفه, ولأنه محوج إلى ارتكاب مشقة وهي حفظ الكل لاحتمال أن يكون الذي يقتصر على حفظه خلاف الذي يقتصر عليه غيره، فعند التخاطب لا يعلم كل واحد منهما مراد الآخر, وهذان الدليلان إنما ينفيان الوضع من واحد، وهو السبب الأقلي كما تقدم فلا يحصل المدعى, لا جرم أن الإمام في المحصول والمنتخب لم يحرم بكونه على خلاف الأصل بل نقله عن بعضهم فقال في المنتخب: وقيل, وقال في المحصول: ومن الناس وكذلك في الحاصل والتحصيل وأيضا فتعريف المعرف يستدلون به على استحالة الشيء, وقد صرح به صاحب الحاصل وجعله ابن الحاجب دليلا للقائل باستحالته، وأشار إليه الآمدي أيضا ولم يتعرض هو ولا ابن الحاجب لهذه المسألة. المسألة الثالثة: هل يجب صحة إقامة كل واحد من

_ 1 ابن المعتز: عبد الله بن محمد بن المعتز بالله المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، أبو العباس، الشاعر المبدع، ولد في بغداد سنة "247هـ" وله: الزهر والرياض والبديع وغيرها, توفي عام "286هـ" "الأعلام: 1/ 51". 2 التحبير في علم البديع: لزكي الدين عبد السلام بن عبد الواحد الشهير بابن أبي الإصبع، المتوفى سنة "654هـ" ثم لخصه وسماه التحرير "كشف الظنون: 355".

المترادفين مقام الآخر؟ فيه ثلاثة مذاهب, أصحها عند ابن الحاجب: الوجوب؛ لأن المقصود من التركيب إنما هو المعنى دون اللفظ, فإذا صح المعنى مع أحد اللفظين وجب بالضرورة أن يصح مع اللفظ الآخر؛ لأن معناهما واحد. والثاني: لا يجب مطلقا واختاره في الحاصل والتحصيل, وقال في المحصول: إنه الحق؛ لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ أيضا؛ لأنه يصح قولك: خرجت من الدار ولو أبدلت لفظه من وحدها بمرادفها من الفارسية لم يجز قال: وإذا عقلنا ذلك في لغتين فلم لا يجوز مثله في لغة؟ والثالث وصححه المصنف: التفصيل, فيجب إن كانا من لغة واحدة لما قلناه أو لا بخلاف اللغتين، والفرق أن اختلاف اللغتين يستلزم ضم مهمل إلى مستعمل, فإن لفظة إحدى اللغتين بالنسبة إلى الأخرى مهملة. وقوله: "إذ التركيب يتعلق بالمعنى" إشارة إلى أن الخلاف إنما هو في حال التركيب، وأما في حال الإفراد كما في تعديد الأشياء من غير عامل ملفوظ به، ولا مقدر فيجوز اتفاقا, ولم يذكر الإمام هذه المسألة في المنتخب الآمدي في كتبه أيضا، ومن فوائدها نقل الحديث بالمعنى وسيأتي إيضاحها. المسألة الرابعة: في التوكيد قال في المحصول والمنتخب: هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر ويرد عليه أمور, أحدها: أن التأكيد ليس هو اللفظ بل التقوية باللفظ, إنما اللفظ هو المؤكد. الثاني: أن التأكيد قد يكون بغير لفظ موضوع له, بل بالتكرار كقولنا: قام زيد قام زيد, وكذلك بالحروف الزوائد كما في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] أي: فينقضهم, والباء من قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] أي: كفى الله شهيدا, قال ابن جني: كل حرف زِيد في كلام العرب فهو التوكيد. الثالث: أن التعبير آخر فيه إشعار بالمغايرة, فيخرج من الحد التأكيد بالتكرار نحو: جاء زيد كما مثلنا، وقد تفطن صاحب الحاصل لما أوردناه, فعدل إلى قوله: تقوية مدلول اللفظ المذكور أولا بلفظ مذكور ثانيا, والباء التي في اللفظ متعلقة بالتقوية وقد تبعه المصنف على هذه الحدود ويرد عليه أمران, أحدهما: القسم وإن واللام فإنها تؤكد الجملة، وليس ذلك بلفظ ثانٍ بل بلفظ أول، فحقه أن يقول بلفظ آخر, وهذا لا يرد على الإمام، وفي بعض الشروح أن الثاني هنا بمعنى واحد كهو في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40] وعلى هذا فلا إيراد وهو غلط، فإن شرط ذلك أن يضاف إلى مثله. الثاني: أن التابع يدخل في هذا الحد, فإنه يعيد التأكيد كما تقدم, فينبغي أن يقول: بلفظ ثان مستقل بالإفادة أو نحو ذلك, إذا علمت ذلك فاعلم أن اللفظ تارة يؤكد بنفسه أي: بأن يكرر مثل قوله -عليه الصلاة والسلام: "والله لأغزون قريشا" بتكراره ثلاثا1، وهذا الحديث رواه أبو داود عن عكرمة مرسلا وتارة يؤكد بغيره، وهو على قسمين, أحدهما: أن يكون مؤكدا للمفرد. والثاني: أن يكون مؤكدا للجملة، والمؤكد للمفرد إما أن يكون مؤكدا للواحد كقولك: جاء زيد نفسه أو عينه، وإما للمثنى كقولك: جاء الزيدان كلاهما والمرأتان كلتاهما، وإما للجمع كقوله تعالى:

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 3] ومنه أخوات أجمعين كأكتعين أبصعين أبتعين. والثاني: أن يكون مؤكدا للجملة كان, نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] إذا علمت هذا علمت أن المصنف أطلق المفرد على المثنى والمجموع وهو صحيح؛ لأن المفرد يطلق ويراد به ما ليس بجملة، ومن الناس من منع الترادف والتوكيد قال في المحصول: فإن كان نزاعه في الجواز العقلي فهو باطل بالضرورة؛ لأن العقل لا يحيل الاهتمام ولا تعدد الوسائل، وإن كان الوقوع فكذلك أيضا؛ لأن من استقرأ لغة العرب علم أنه واقع, لكن إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس، فالتأسيس أولى كما في الترادف. فقول المصنف: وجوازه ضروري يحتمل عوده إلى كل من الترادف والتأكيد، أو إليهما معا، وتقدير كلامه: وجواز ما ذكر في هذا الفصل. واعلم أن هذه المسألة ليست من الترادف معه أنه جعلها من أحكامه, حيث قال: وأحكامه في مسائل يعني: أحكام الترادف, فلو قال أولا: الفصل الرابع في الترادف والتأكيد كما قال الإمام وأتباعه, لاستقام.

الفصل الخامس

الفصل الخامس: المسألة الأولى: قال: "الفصل الخامس: في الاشتراك, وفيه مسائل: الأولى: في إثباته, أوجبه قوم لوجهين, الأول: أن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية، فإذا وزع لزم الاشتراك ورد بعد تسليم المقدمتين بأن المقصود بالوضع متناهٍ. والثاني: أن الوجود يطلق على الواجب والممكن, ووجود الشيء عينه, ورد بأن الوجود زائد مشترك, وإن سلم فوقوعه لا يقتضي وجوبه, وأحاله آخرون؛ لأنه لا يفهم الغرض فيكون مفسدة ونقص بأسماء الأجناس والمختار إمكانه لجواز أن يقع من واضعين أو واحد لغرض الإبهام حيث جعل التصريح سببا للمفسدة, ووقوعه للتردد في المراد من القرء ونحوه, ووقع في القرآن العظيم مثل ثلاثة قروء: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] " أقول: المشترك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر, وزاد الإمام فيه قيودا لا حاجة إليها, وقد ذكر المصنف هذا الحد في تقسيم الألفاظ حيث قال: فإن وضع لكل فمشترك؛ فلذلك لم يذكره هنا، فإن قيل: فلم ذكر حد الترادف مع تقدمه في التقسيم؟ قلنا: ليفرق بينه وبين التأكيد والتابع كما مر، وقد اختلف في الاشتراك على أربعة مذاهب حكاها المصنف, أحدها: أنه واجب أي: يجب بحكم المصلحة العامة أن يكون في اللغات ألفاظ مشتركة. والثاني: أنه مستحيل. والثالث: أنه ممكن غير واقع. والرابع: أنه ممكن واقع واختاره المصنف، واستدل القائلون بالوجوب بوجهين الأول: أن المعاني غير متناهية لأن الأعداد أحد أنواع المعاني وهي غير متناهية, إذ ما من عدد إلا وفوقه عدد آخر، والألفاظ متناهية؛ لأنها مركبة من الحروف المتناهية وهي ثمانية وعشرون حرفا، والمركب من المتناهي متناهٍ فإذا وزعت المعاني غير المتناهية على الألفاظ المتناهية, لزم أن تشترك المعاني الكثيرة في اللفظ الواحد، وإلا يلزم خلو بعض المعاني عن لفظ يدل عليه وهو محال، وأجاب المصنف بوجهين, أحدهما: منع المقدمتين ولم يذكر مستند المنع تبعا

للإمام, وتقريره: أنا لا نسلم أن المعاني غير متناهية؛ لأن حصول ما لا نهاية له في الوجود محال، وأما الأعداد فالداخل منها في الوجود متناهٍ, وأيضا فأصولها متناهية، وهي الآحاد والعشرات والمئات والألوف، والوضع للمفردات لا للمركبات، ولا نسلم أيضا أن الألفاظ متناهية. قولهم: لأن المركب من المتناهي متناهٍ, ممنوع لإمكان تركيب كل حرف مع آخر إلى ما لا نهاية له, وأيضا فأسماء الأعداد غير متناهية على ما قالوه مع أنها مركبة من الحروف المتناهية، وقد صرح في المحصول هنا بأن هاتين المقدمتين باطلتان، وناقض كلامه فجزم بكون المعاني غير متناهية في النظر. الرابع: من باب اللغات والجواب الثاني وهو بعد تسليم المقدمتين: أن المقصود بالوضع متناهٍ، وتقريره من وجهين, أحدهما وهو المذكور في المحصول ومختصراته: أن المعاني التي يقصدها الواضع بالتسمية متناهية؛ لأن الوضع للمعاني فرع عن تصورها، وتصور ما لا يتناهى محال، فإن قيل: لا استحالة فيه إذا قلنا: الواضع هو الله تعالى وهو الراجح قلنا: الوضع لفائدة مخاطبة الناس بها، وهو موقوف على تصورهم أيضا، والثاني وهو المذكور في المنتخب: أن المعاني على قسمين, منها ما تشتد الحاجة إلى الوضع له، ومنها ما ليس كذلك كأنواع الروائح, فإنه لم يوضع لكل رائحة منها اسم يخصه، فإذا تقرر خلو بعض المعاني عن الأسماء وأن الوضع إنما يكون لما تشتد الحاجة إليه, فلا نسلم أن هذا المحتاج إليه غير متناهٍ، وأجاب ابن الحاجب بجواب آخر, وهو أن الاشتراك إنما يكون بين معانٍ متضادة أو مختلفة، وأما المتماثلة فلا اشتراك فيها, فإقامة الدليل على أن المعاني من حيث هي غير متناهية, لا يلزم منه إثباته في المختلفة والمتضادة، وهو المقصود، وأيضا فلو كانت الألفاظ مستوعبة للمعاني لكان بعض الألفاظ موضوعا لمعانٍ لا نهاية لها وهو باطل. الدليل الثاني: أن الوجود يطلق على الواجب سبحانه وتعالى, وعلى الممكن كالمخلوقات ووجود كل شيء ليس زائدا على ماهيته, بل هو عين ماهيته على مذهب الأشعري, فالوجود الذي يطلق على الذات المقدسة هو عين الذات، والذي يطلق على المخلوق هو عين المخلوق، والذاتان مختلفتان بالماهية فيكون الوجود أيضا مختلفا بالماهية، وقد أطلق عليه لفظ واحد إطلاقا حقيقيا بدليل عدم صحة النفي فيكون مشتركا، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: لا نسلم أن الوجود هو عين الماهية بل هو زائد عليها كما ذهب إليه المعتزلة, وذلك الزائد معنى واحد يشترك فيه الواجب والممكن، فيكون متواطئا لا مشتركا، وذهبت الفلاسفة إلى أن وجود الواجب عين ذاته، ووجود الممكن زائد عليه. والثاني: سلمنا أنه مشترك لكن وقوع الاشتراك لا يدل على وجوبه وهو المدعى. واعلم أن الإمام وأتباعه قد قرروا هذا الدليل على وفق الدعوى وهو الوجوب فقالوا: إن الألفاظ العامة كالوجود والشيء, واجبة الوقوع في اللغات لاشتداد الحاجة إليها, ثم ذكروا الدليل إلى آخره فغيره المصنف, ثم أورد عليه: وجوابه على تقرير الإمام أنه لا يلزم

من وجوب الوضع أن يكون لفظا وحدا. قوله: "وأحال آخرون" هذا هو المذهب الثاني, وهو استحالة الاشتراك، واحتج الذاهبون إليه بأن المشترك لا يفهم منه غرض المتكلم الذي هو المقصود بالوضع, فيكون وضعه سببا للمفسدة, والواضع حكيم فيستحيل أنه يضعه، والجواب: أن ما قالوه منتقض بأسماء الأجناس كالحيوان والإنسان, ألا ترى أنه لو قال: اشتر لي عبدا لم يفهم منه مراده؟ وكذلك الأسود وغيره من المشتقات فإنه لا يدل على خصوص تلك لذات كما تقدم في تقسيم الألفاظ، وفي الجواب نظر؛ فإن اسم الجنس موضوع للقدر المشترك، وهو معلوم من اللفظ بخلاف المشترك، فإن المقصود منه فرد معين وهو غير معلوم, فالأولى أن يجيب بأنه لا ينفي وقوع الاشتراك من قبيلتين, وبأن ما قالوه من المحذور ينتفي عند الحمل على المجموع. قوله: "والمختار إمكانه" هذا هو المذهب الثالث، وهو إمكانه الاشتراك؛ وذلك لأنه يمكن أن يكون من واضعين لم يعلم كل منهما بوضع الآخر, وهذا هو السبب الأكثري كما قال في المحصول1, وعلى هذا فلا يقدح فيه ما قالوه من المفاسد؛ لأن اجتنابها متوقف على العلم بوقوع الاشتراك، والغرض أن لا علم وأن يكون من واضع واحد لغرض الإبهام على السامع حيث يكون التصريح سببا للمفسدة كما روي عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال لكافر سأله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت ذهابهما إلى الغار: من هذا؟ فقال: "رجل يهديني السبيل". قوله: "ووقوعه" هو معطوف على خبر المختار وهو الإمكان أي: والمختار إمكانه ووقوعه. وهذا هو المذهب الرابع، وبانضمام هذا إلى ما قبله استفدنا الثالث وهو أنه ممكن غير واقع, وبه صرح في المحصول فقال: وبعضهم سلم إمكانه وخالف في وقوعه وقال: وما يظن أنه مشترك فهو إما متواطئ أو حقيقة ومجاز. ثم استدل المصنف على الوقوع بأنا نتردد في المراد من القرء والعين والجواب ونحوها, فإنا إذا سمعنا القرء مثلا ترددنا بين الطهر والحيض على السواء, فلو كان حقيقة في أحدهما فقط أو في القدر المشترك لما كان كذلك وقد وقع في القرآن العظيم كقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أقبل وأدبر, وإنما أورد المصنف هذين المثالين؛ لأن أحدهما من الأسماء والآخر من الأفعال، وأيضا فأحدهما مجموع والآخر مفرد فتبين بذلك وقوع النوعين في القرآن ومنهم من منع وقوعه في القرآن والحديث, كما قال في المحصول؛ لأنه إن وقع مبينا طال من غير فائدة، وإن كان غير مبين فلا يفيد، وجوابه: أن فائدته الاستعداد للامتثال بين البيان, وأيضا فإنه كأسماء الأجناس.

_ 1 انظر المحصول، ص97، جـ1.

المسألة الثانية

المسالة الثانية: قال: "الثانية: أنه خلاف الأصل, وإلا لم يفهم ما لم يستفسر, ولامتنع الاستدلال بالنصوص، ولأنه أقل بالاستقراء, ويتضمن مفسدة السامع؛ لأنه ربما لم يفهم وهاب استفساره أو استنكف أو فهم غير مراده, وحكى لغيره فسيؤدي إلى جهل عظيم واللافظ؛ لأنه قد يحوجه إلى العبث، أو يؤدي إلى الإضرار أيضا, أو يعتمد فهمه فيضيع غرضه فيكون مرجوحا". أقول: الاشتراك وإن كان جائزا أو واقعا لكنه خلاف الأصل, قال في المحصول: ونعني به أن اللفظ متى دار بين احتمال الاشتراك والانفراد, كان الغالب على الظن هو الانفراد واحتمال الاشتراك مرجوح، ثم استدل المصنف عليه بوجوه, أحدها: أنه لو لم يكن كذلك لما حصل التفاهم حال التخاطب إلا بالاستفسار، ثم يحتاج البيان إلى استفسار آخر، ويلزم التسلسل وليس كذلك, فإن الفهم يحصل بمجرد إطلاق اللفظ. الثاني: لو تساوى الاحتمالان لامتنع الاستدلال بالنصوص على إفادة الظنون, فضلا عن تحصيل العلوم لجواز أن تكون ألفاظها موضوعة لمعانٍ أخر, وتكون تلك المعاني هي المرادة. الثالث: الاستقراء يدل على أن الكلمات المشتركة أقل من المفردة، والكثرة تفيد ظن الرجحان. الرابع: الاشتراك يتضمن مفاسد السامع واللافظ, فيقتضي أن لا يكون موضوعا، أما السامع فلأمرين أحدهما: أن الغرض من الكلام وهو حصول الفهم, وربما فقدت القرائن فلم يفهم وهاب استفسار المتكلم لعظمته، أو استنكف إما لحقارته وإما لكون الاستفسار يشعر بعدم الفهم، والناس يستنكفون منه. الثاني: أنه قد يفهم غير مراد المتكلم فيقع في الجهل ويحكيه لغيره, فيوقعهم فيه أيضا فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير وهو جهل عظيم، وأما تضمنه لمفاسد اللافظ فلأن السامع قد لا يفهم فيحتاج المتكلم إلى ذكره باسمه المفرد, فيكون تلفظه باللفظ المشترك عبثا لا فائدة فيه، وأيضا فإنه يؤدي إلى إضراره لاحتياجه دائما إلى التفسير، وقد يشق عليه التعبير لعارض وأيضا فلأنه ربما يعتمد فهم السامع أنه لا يفهم فيضع غرضه، كمن قال لعبده: أعط الفقير عينا أو ائتني بعين على ظن أنه يفهم الماء فيفهم هو الذهب. قوله: "فيكون مرجوحا" أي: لهذه الوجوه الأربعة وإذا كان مرجوحا كان خلاف الأصل وهو المدعي، وقد وقع في كثير من الشروح هنا مخالفة لما قررته فاجتنبه على أن نسخ الكتاب أيضا مختلفة هنا، واعلم أن أكثر هذه الوجوه لا ينفي وقوع الاشتراك مطلقا بل من واضع واحد وهو السبب الأعلى.

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة: قال: "الثالثة: مفهوما المشترك, إما أن يتباينا كالقرء للطهر والحيض، أو يتواصلا فيكون أحدهما جزءا للآخر كالممكن للعام والخاص، أو لازما له كالشمس للكوكب وضوئه". أقول: المشترك لا بد له من مفهومين فصاعدا أي: معنيين, فالمفهومان إما أن يتباينا أو يتواصلا، فإن تباينا أي: لم يصدق أحدها الآخر فإن لم يصح اجتماعهما فهما متضادان كالقرء الموضوع للطهر والحيض، وإن صح اجتماعهما فهما متخالفان ولم نظفر له بمثال، وإن تواصلا فقد يكون أحدهما جزءا من الآخر وقد يكون لازما له, مثال الأول: لفظ الممكن, فإنه موضوع للممكن بالإمكان العام والممكن بالإمكان الخاص، فالإمكان الخاص هو سلب الضرورة عن طرفي الحكم, أعني الطرف الموافق له, والمخالف كقولنا: كل إنسان كاتب بالإمكان الخاص, معناه: أن ثبوت الكتابة للإنسان

ليس بضروري ونفيها عنه أيضا ليس بضروري, فقد سلبنا الضرورة عن الطرف الموافق وهو ثبوت الكتابة وعن المخالف وهو نفيها، وأما الإمكان العام فهو سلب الضرورة عن الطرف المخالف للحكم أي: إن كانت موجبة فالسلب غير ضروري, فإن كانت سالبة فالإيجاب غير ضروري, كقولنا: كل إنسان حيوان بالإمكان العام, معناه: أن سلب الضرورة عن أحد الطرفين جزء من سلب الضرورة عن الطرفين جميعا, فيكون الممكن العام جزءا من الممكن الخاص، ولفظ الممكن موضوع لهما فيكون مشتركا بين الشيء وجزئه. قال في المحصول: وإطلاقه أيضا على الخاص وحده من باب الاشتراك بالنظر إلى ما فيه من المفهومين المختلفين، وإنما سمي الأول بالإمكان الخاص، والثاني بالعام؛ لأن الأول أخص, فإنه متى وجد سلب الضرورة عن الطرفين وجد سلبها على الطرف المخالف بخلاف العكس، فصار كالإنسان والحيوان. قوله: "كالشمس" تمثيل للمشترك بين الشيء ولازمه، فإن الشمس تطلق على الكوكب المضيء، كما تقول: طلعت الشمس وعلى ضوئه كما تقول: جلسنا في الشمس, مع أن الضوء لازم له، فإن توقف في هذا المثال متوقف فليمثل له بالرحيم, فإن الجوهري نص على أن يكون تارة بمعنى المرحوم وتارة بمعنى الراحم, وكل منهما يستلزم الآخر, فيكون مشتركا بين الشيء ولازمه، ويمثل له أيضا بالكلام فإنه مشترك عند المحققين بين النفساني واللساني كما قاله في المحصول1، مع أن اللسان دليل على النفساني والدليل يستلزم المدلول فيصدق عليه أنه مشترك بين الشيء ولازمه على قول الإمام, ومختصرو كلامه لم يذكروا هذا القسم بل ذكروا عوضا عنه الاشتراك بين الشيء وصفته, ومثلوه بما إذا سمينا رجلا أسود اللون بالأسود, وفي التمثيل أيضا نظر لأن شرط المشترك أن يكون حقيقة في معنييه بلا خوف؛ ولهذا استدل به من قال: إنه أولى من المجاز، وإطلاق العلم عن مدلوله ليس بحقيقة ولا مجاز كما سيأتي، وقد تلخص مما قالوه أن الاشتراك قد يكون بين الشيء وجزئه، أو لازمه أو صفته, وهذه المسألة ليست في المنتخب. "فرع": قال الإمام: لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين النقيضين؛ لأن الواقع لا يخلو عن أحدهما فلا يستفيد السامع بإطلاقه شيئا, فيصير الوضع لذلك عبثا، واعترض عليه في التحصيل بأنه لا ينفي إلا وقوعه من واضع واحد وهو السبب الأقلي، واعترض القرافي أيضا أنه بدون الإطلاق يحتاج إلى دليل مستقل ومع الإطلاق لا يحتاج إلا إلى قرينة تعين المراد, ونقل القيراوني في المستوعب عن جماعة أنهم منعوا الاشتراك بين الضدين أيضا, والمشهور الجواز كما تقدم.

_ 1 انظر المحصول، ص100، جـ1.

المسألة الرابعة

المسالة الرابعة: قال: "الرابعة: جوز الشافعي -رضي الله عنه- والقاضيان وأبو علي إعمال المشترك في جميع مفهوماته غير المتضادة, ومنعه أبو هاشم والكرخي والبصري والإمام. لنا: الوقوع في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] والصلاة من الله مغفرة ومن غيره استغفار, قيل: الضمير متعدد فيتعدد الفعل, قلنا: يتمدد معنى لا لفظا وهو المدعى, وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الحج: 18] الآية قيل: حرف العطف بمثابة العامل قلنا: إن سلم فبمثابته بعينه قيل: يحتمل وضعه أيضا، فالإعمال في البعض، قلنا: فيكون المجموع مسندا إلى كل واحد وهو باطل". أقول: ذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى جواز استعمال المشترك في جميع معانيه وتبعه القاضيان وهما القاضي أبو بكر الباقلاني1 والقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي واختاره المصنف وابن الحاجب, ونقله القرافي عن مالك ونقله المصنف عن أبي علي الجبائي2, ورأيت في الوجيز3 لابن برهان أن الجبائي منعه. قال: إلا أن يتفق المعينات في حقيقة واحدة فيجوز كالقرء, فإنه حقيقة في الانتقال، ومنعه أبو هاشم والكرخي والبصري أي: أبو الحسين كما قاله في المحصول4، واختاره الإمام فخر الدين في كتبه كلها، ونقله الآمدي عن أبي عبد الله البصري أيضا، والقرافي عن أبي حنيفة، ثم ذكر الإمام في المحصول أيضا ما يخالف هذا، فإنه جزم في الكلام على أن الأصل عدم الاشتراك بأن المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم جزم في الإجماع بأن المضارع يحمل عليهما، فقال مجيبا عن سؤال: قلنا: لأن صيغة المضارع بالنسبة إلى الحال والاستقبال كاللفظ العام, ذكر ذلك في الاستدلال بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وتوقف الآمدي فلم يختر شيئا، فإن جوزنا قال الآمدي: فشرطه أن لا يمتنع الجمع بينهما، أي: بأن يكون المعنى يصح إسناده إلى الأمرين, فقولنا: العين جسم ونريد به العين الجارية والذهب، والعدة بثلاثة قروء ونريد به الطهر والحيض، والجون ملبوس وزيد ونريد به الأبيض والأسود، أو يكون المحكوم عليه بالمشترك متعددا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] فإن المغفرة والاستغفار يستحيل عودهما إلى الله تعالى, كذلك إلى الملائكة، بل المغفرة عائدة إلى الله تعالى والاستغفار للملائكة. قال: فإن امتنع الجمع بينهما كاستعمال صفة أفعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه، فإنه لا يجوز؛ لأن الأمر يقتضي التحصيل والتهديد يقتضي الترك، وعبر المصنف عن هذا القيد بقوله: غير المتضادة فهو فاسد؛ لأن القرء والجون من المتضادات وقد بينا أنه لا يمنع،

_ 1 القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر، قاضٍ من كبار علماء الكلام، انتهت إليه الرئاسة في مذهب الأشاعرة، من كتبه: إعجاز القرآن، والإنصاف, والملل والنحل، وتمهيد الدلائل وغيرها, توفي سنة "403هـ". 2 الجبائي محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي, أبو علي، من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه نسبت طائفة الجبائية, توفي سنة "303هـ". 3 الوجيز في الأصول, لأبي الفتح أحمد بن علي المعروف بابن برهان الشافعي, المتوفى سنة "520هـ". 4 انظر المحصول، ص102، جـ1.

وقد مثل الإمام في المحصول محل النزاع بلفظ القرء وذكره في أثناء الاستدلال، وإنما قيده المصنف بالمتضادة دون المتناقضة؛ لأن الوضع للنقيضين ممنوع على ما تقدم نقله عن الإمام وبتقدير جواز الوضع فإن التقييد بالمتضادة يدل على منع المتناقضة بطريق الأولى، ولم يتعرض الإمام لهذا القيد وقبل الخوض في الاحتجاج لا بد من التنبيه على أمور أحدها: أن محل هذا الخلاف في اللفظة الواحدة من المتكلم الواحد في الوقت الواحد كما قاله الآمدي, فإن تعددت الصيغة أو اختلف المتكلم أو الوقت جاز تعدد المعنى. الثاني: أن هذا الخلاف المذكور في استعمال اللفظ في حقيقته يجري في استعماله في حقيقته ومجازه، كما قاله الآمدي, وفي مجازيه كما قاله القرافي، فالأول كقولك: والله لا أشتري وتريد الشراء الحقيقي والسوم. والثاني: كأن تريد السوم وشراء الوكيل. الثالث: محل الخلاف بين الشافعي وغيره في استعمال اللفظ في معانيه إنما هو في الكلي العددي كما قاله في التحصيل أي: في كل فرد, وذلك بأن نجعله يدل على كل واحد منهما على حدة بالمطابقة في الحالة التي تدل على المعنى الآخر بها، وليس المراد هو الكلي المجموعي أي: يجعل مجموع المعنيين مدلولا مطابقيا كدلالة العشرة على آحادها، ولا الكلي البدلي أن يجعل كل واحد منهما مدلولا مطابقيا على البدل, ونقل الأصفهاني في شرح المحصول أنه رأى في تصنيف آخر لصاحب التحصيل أن الأظهر من كلام الأئمة وهو الأشبه، أن الخلاف في الكلي المجموعي فإنهم صرحوا بأن المشترك عند الشافعي كالعام. الرابع: اختلفوا في هذا الاستعمال هل هو حقيقة أم لا؟ فقال القرافي: إنه مجاز, وصححه ابن الحاجب؛ لأن الذي يتبادر إلى الذهن إنما هو أحدهما, والتبادر علامة الحقيقة فإذا أطلق عليهما كان مجازا، ونقل الآمدي عن الشافعي القاضي أنه حقيقة, قال: وهو عندهما من باب العموم، ووافق على كونه من باب العموم الغزالي في المستصفى والإمام في البرهان حتى إنهم لم يذكروا المسألة إلا في باب العموم، وفي كونه من العموم إشكال؛ لأن مسمى العموم واحد كما سيأتي، والمشترك مسمياته متعددة. وأيضا فالمشترك يجب أن تكون أفراده متناهية بخلاف العام، وأيضا فالقاضي ينكر صيغ العموم فإنكاره ههنا أولى. الخامس: الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل، فالوضع هو جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الولد زيدا وهذا أمر متعلق بالواضع، والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة المعنى وهو من صفات المتكلم، والحمل اعتقاد السامع مراد المتكلم أو ما اشتمل على مراده كحمل الشافعي المشترك على معنييه؛ لكونه مشتملا على المراد وهذا من صفات السامع, وقد تقدم الكلام على وضع المشترك والكلام الآن في استعماله، وسيأتي الكلام على حمله. قوله: "لنا الوقوع" أي: الدليل على جواز الاستعمال أمران أحدهما: وقوعه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ووجه الدلالة: أن الصلاة لفظ مشترك بين المغفرة والاستغفار، وإنما تعدت بعلى لا باللام لمعنى

التعطف والتحنن، وقد استعملت فيها دفعة واحدة فإنه أسندها إلى الله تعالى وإلى الملائكة, ومن المعلوم أن الصادر من الله تعالى هو المغفرة لا الاستغفار ومن الملائكة عكسه فثبت المدعي، وإنما فسر المصنف الصلاة من الله تعالى بالمغفرة تبعا للحاصل, ولم يفسرها بالرحمة تبعا للإمام والآمدي لأمرين أحدهما: أن إطلاق الرحمة على البارئ تعالى مجاز؛ لأنها رقة القلب بخلاف المغفرة. الثاني: أن التفسير بذلك يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز وليس هو دعوى المصنف، وإنما دعواه الحقيقتين, ألا تراه قد عبر أولا بالمشترك لكن الخلاف في الحقيقة والمجاز كالخلاف في الحقيقتين كما تقدم, قوله: "قيل: الضمير" هذا الاعتراض لصاحب الحاصل ولم يذكره الإمام, وتقريره أن قوله تعالى: {يُصَلُّونَ} فيه ضمير عائد إلى الله تعالى, وضمير يعود إلى الملائكة وتعدد الضمائر بمثابة تعدد الأفعال, فكأنه قيل: إن الله يصلي والملائكة تصلي، وقد عرفت من القواعد المتقدمة أن النزاع إنما هو استعمال اللفظ الواحد في معنييه, وأجاب المصنف بأن الفعل لم يتعدد في اللفظ قطعا وإنما تعدد في المعنى, فاللفظ واحد والمعنى متعدد وهو عين الدعوى, وفي الاستدلال بالآية نظر من وجهين, أحدهما ما قاله الغزالي في المستصفى: أنه يجوز أن تكون الصلاة قد استعملت في معنى مشترك بين المغفرة والاستغفار وهو الاعتناء بإظهار الشرف. وجوابه: أن إطلاقها على الاعتناء مجاز لعدم التبادر وقد ثبت أنها مشتركة بين المغفرة والاستغفار, فالحمل عليهما أولى مراعاة للمعنى الحقيقي, ولك أن تقول: قد تقدم أن ابن الحاجب وجماعته ذهبوا إلى أن الحمل على المجموع مجاز, فلم رجحتم أحد المجازين على الآخر بل المجاز المجمع عليه أولى؟ الثاني: أنه يجوز أن يكون قد حذف الخبر للقرينة، ويكون أصله: إن الله يصلي وملائكته تصلي, وأجيب بأن الإضمار مثل المجاز فلم رجحتم المجاز؟ قوله: "وفي قوله تعالى" هذا هو الدليل الثاني على جواز الاستعمال, وهو عطف على ما تقدم وتقديره لنا الوقوع في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} [الأحزاب: 56] وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] ووجه الدلالة: أن الله تعالى أراد بالسجود ههنا الخشوع؛ لأنه هو المتصور من الدواب، وأراد به أيضا وضع الجبهة على الأرض، وإلا لكان تخصيص كثير من الناس بالذكر لا معنى له لاستواء الكل في السجود بمعنى الخشوع والخضوع للقدرة، فثبت إرادة المعنيين، وأجيب بأن حرف العطف بمثابة تكرار العامل, فكأنه قيل: {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} إلى آخر الآية, فليس فيه إعمال للمشترك في مدلوليه، بل أعمل مرة في معنى، ومرة في معنى آخر وهو جائز، وهذا الاعتراض لصاحب الحاصل ولم يذكره الإمام وأجاب عنه المصنف بوجهين أحدهما: لا نسلم أن العاطف كالعامل, بل هو موجب لمساواة الثاني للأول في مقتضى العامل إعرابا وحكما، والعامل في الثاني هو الأول بواسطة

العاطف, فإنه الصحيح عند النحويين وذهب جماعة منهم إلى أن العاطف هو العامل, وآخرون إلى أن العامل مقدر بعد العطف. الثاني: أنا وإن سلمنا أن العاطف بمثابة العامل لكنه على هذا التقدير يلزم أن يكون بمثابة العامل الأول بعينه وهو هنا باطل؛ لأنه يلزم أن يكون المراد من سجود الشمس والقمر والجبال والشجر هو وضع الجبهة؛ لأنه مدلول الأول وهذا التقدير هو الصواب، ويحتمل أن يكون المراد أنه إذا كان بمثابة الأول بعينه يكون اللفظ واحدا والمعنى كثيرا وهو المدعى ويقع في بعض النسخ: فبمثابة في العمل أي: يقوم مقامه في الإعراب لا في المعنى. قوله: "قيل: يحتمل وضعه للمجموع" يعني: أن ما تقدم من الاستدلال بالآيتين لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون استعمال السجود والصلاة في المجموع إنما هو لكون اللفظ قد وضع له أيضا كما وضع للأفراد, بل لا بد من ذلك وإلا لكان اللفظ مستعملا في غير ما وضع له, وحينئذ فيكون السجود مثلا موضوعا لثلاثة معانٍ للخضوع على انفراده، ولوضع الجبهة على انفراده، وللمجموع من حيث هو مجموع، وعلى هذا التقدير يكون إعمال اللفظ في المجموع إعمالا له بعض ما وضع له لا في كلها وهو خلاف المدعى, ولهذا الجواب اقتصر عليه الإمام في المحصول وفي غيره, وأجاب عند المصنف بأنه يلزم أن يكون في المجموع من وضع الجبهة، والخضوع مسندا إلى كل واحد من الشجر والدواب وغيره، فلما ذكر أن يكون المجموع من الرحمة والاستغفار مسندا إلى كل واحد من الله تعالى والملائكة وهو باطل بالضرورة وهذا الجواب ضعيف؛ لأنه إنما يلزم ذلك أن لو أسند المجموع إلى واحد فقط, أما إذا استعمل في بعض المعاني مع اتحاد المسند إليه كقولك: الدابة تسجد أي: تخشع, أو في المجموع مع تعدد المسند إليه ليرجع كل واحد إلى واحد, فلا يأتي فيه هذا المحذور، والدليلان المذكوران من هذا القبيل، وأيضا فالذي قاله مشترك الإلزام فإنه قد تقرر أن اللفظ قد استعمل في الجميع, فيلزم إسناده إلى كل واحد، فإن قيل: إنما حصل المحال من وضعه للمجموع، قلنا: لا محذور في مجرد الوضع بل ولا في الاستعمال من حيث هو, فإن المتكلم قد لا يستعمله في المجموع عند اتحاد المحكوم عليه، بل يستعمله فيه عند تعدده. وإذا علمت ذلك فالجواب الصحيح عما قاله الإمام أن نقول: لا نسلم أنه وضع للمجموع، فإن قيل: فكيف استعمل فيه؟ قلنا: سيأتي جوابه، وأيضا فالنزاع إنما هو في الجميع لا في المجموع كما تقدم، وسيأتي أيضا بسطه. قال: " احتج المانع بأنه إن لم يضع التواضع للمجموع لم يجز استعماله فيه. قلنا: لم لا يكفي الوضع لكل واحد من الاستعمال في الجميع؟ ومن المانعين من جوز في الجمع والسلب والفرق ضعيف, ونقل عن الشافعي -رضي الله عنه- والقاضي الوجوب حيث لا قرينة احتياطا". أقول: استدل المانع من استعمال المشترك في جميع معانيه بأن

المشترك إن لم يوضع للمجموع ولم يجز استعمال فيه؛ لأنه استعمال اللفظ في غير مدلوله، وإن وضع له أيضا كان استعماله فيه استعمالا له في بعض معانيه كما تقدم وهو غير المدعى، وسكت المصنف عن هذا القسم الثاني اكتفاء بذكره فيما تقدم. واعلم أن المانعين اختلفوا فقيل: إن المنع لمعنى يرجع إلى الوضع وهو كونه غير موضوع له، وقيل: لمعنى يرجع إلى الإرادة، أي: يستحيل أن يراد باللفظ الواحد في وقت واحد أكثر من معنى واحد. قال في المحصول: والمختار الأول وعليه اقتصر المصنف؛ فلذلك قال: احتج المانع، ولم يقل: المانعون وأجاب المصنف بقوله: لم لا يكفي الوضع ... ؟ وتقريره من وجهين أحدهما: أن يكون الوضع لكل واحد كافيا لاستعماله في الجميع, بمعنى أنه يستعمل في هذا ليدل عليه بالمطابقة في الآخر كذلك، وحينئذ فيكون استعماله في الجميع استعمالا له فيما وضع له؛ لأن كل واحد من تلك المعاني قد وضع له ذلك اللفظ، وإنما يستقيم اشتراط الوضع للمجموع أنه لو كان المراد أن يكون مستعملا في المجموع بحيث يكون المجموع مدلولا واحدا كدلالة العشرة على آحادها وليس هو المدعى؛ ولهذا عبر المصنف بقوله: في الجميع، لكن سكوته على المجموع الواقع في كلام الخصم موهم جدا، فكان من حقه أن ينبه أولا على هذا المنع، ثم يذكر ما في الكتاب، وإلى جميع ما قلناه أشار صاحب التحصيل بقوله: ولقائل أن يقول: النزاع في استعماله في كل واحد من المفهومات لا في كلها وبينهما فرق، وهذا التقرير بناء على أن الخلاف في الكلي العددي, التقرير الثاني وهو بناء على الكلي المجموعي: أنه لم لا يكون الوضع لكل واحد كافيا في الاستعمال في المجموع, مجازًا من باب إطلاق اسم الجزء على الكل؟ قوله: "ومن المانعين" يعني أن المانعين من الاستعمال اختلفوا؛ فمنهم من منع مطلقا كما تقدم، ومنهم من فصّل فجوّز استعمال المشترك في معنييه في حال الجمع, سواء كان إثباتا نحو: اعتدي بالأقراء، أو نفيا نحو: لا تعتدي بالأقراء؛ لأن الجمع متعدد في التقدير, فجاز تعدد مدلولاته بخلاف المفرد، ومنهم من فصل أيضا فأجاز استعماله في السلب وإن لم يكن جمعا نحو: لا تعتدي بقرء، ومنعه في الإثبات؛ لأن السلب يفيد العموم فيتعدد بخلاف الإثبات، وهذا المذهب -أعني: التفصيل بين النفي وغيره- لم يحكه الإمام ولا مختصر كلامه فاعلمه، فإن كلامه يوهم ذلك, نعم حكاه الآمدي عن أبي الحسين البصري، وكلام المصنف يقتضي أن التفصيل بين السلب والإثبات, وبين الجمع والإفراد لقائل واحد وليس كذلك, وأيضا فالتثنية ملحقة بالجمع وكلامه يقتضي إلحاقها بالإفراد عند هذا القائل؛ لأنه استثنى الجمع فقط. قوله: "والفرق ضعيف" أي: بين الجمع والإفراد, وبين النفي والإثبات، فأما في النفي فقلد فيه الآمدي، فإنه قال في الأحكام: الحق عدم الفرق؛ لأن النفي إنما هو للمعنى المستفاد عند الإثبات، وأما في الجمع فقلد فيه الإمام, فإنه قال في المحصول: الحق عدم الفرق؛ لأن الجمع لا يفيد التعدد إلا للمعنى المستفاد

من المفرد، فإن أفاد المفرد أفاد الجمع وإلا فلا، قال: فأما إذا قال: لا تعتدى بالأقراء وأراد مسمى القرء فهو جائز؛ لأن مسمى القرء معنى صادق عليهما فيكون متواطئا. واعلم أن الفرق قوي وقد تقدم ذكره، وللنحو بين أيضا في تثنية المشترك وجمعه مذهبان, صحح ابن مالك أنه يجوز، وقال شيخنا أبو حيان: المشهور المنع. قوله: "ونقل عن الشافعي والقاضي الوجوب" أي: وجوب حمل المشترك على جميع معانيه عند عدم القرينة المخصصة احتياطا في تحصيل مراد المتكلم, إذ لو لم يجب ذلك فإن لم يحمله على واحد منهما لزم التعطيل، أو حمله على واحد منهما فيلزم الترجيح بلا مرجح، وضعف بعضهم هذه المقالة وليست ضعيفة وقد تقدم من كلام الآمدي, والشافعي إنما يحمله على المجموع لكونه عنده من باب العموم وهو ينافي التعليل بالاحتياط، فإن الاحتياط يقتضي ارتكاب زيادة على مدلول اللفظ لأجل الضرورة، ومقتضى العموم خلافه، وكلام المصنف يوهم أن هذه المسألة في الاستعمال فإن الحمل لم يتقدم له ذكر البتة, وبه صرح بعض الشارحين وهو غلط، وفي البرهان أن الشافعي يوجب حمل اللفظ على حقيقته ومجازه أيضا, قال: ولقد اشتد تكبر القاضي على القائل به.

المسألة الخامسة

المسألة الخامسة: قال: "الخامسة: المشترك إن تجرد عن القرينة فمجمل, وإن اقترن به ما يوجب اعتبار واحد تعين, أو أكثر فكذا عند من يجوز الإعمال في معنيين وعند المانع مجمل أو إلغاء البعض, فينحصر المراد في الباقي أو الكل فيحمل على المجاز, فإن تعارضت حمل على الراجح هو أو أصله, وإن تساويا أو ترجح أحدهما وأصل الآخر فمجمل". أقول: اللفظ المشترك قد يقترن به قرينة مبينة للمراد وقد يتجرد عنها, فإن تجرد عن القرائن فهو مجمل إلا عند الشافعي والقاضي, فإنه يحمله على الجميع كما تقدم، وعن هذا يعلم أن المصنف اختار مذهب الشافعي في الاستعمال لا في الحمل، وإن اقترنت به قرينة فقد يدل على الاعتبار أي: الإعمال إما للبعض أو للكل, وقد يدل على الإلغاء إما للبعض أو للكل أيضا, فتحصلنا على أربعة أقسام ذكرها المصنف على الترتيب: الأول: أن يقترن به ما يوجب إعماله في واحد فيتعين الحمل عليه, وهذا إذا كان الواحد معينا فإن لم يكن فيبقى اللفظ على إجماله وقد أهمله المصنف. الثاني: ما يجب إعماله في أكثر منه فيحمل على الكل عند من يجوز الإعمال في المعنيين، ومن منع منه قال: إنه مجمل. الثالث: أن يقترن به ما يوجب إلغاء البعض, فينحصر المراد في الباقي، فإن كان الباقي واحدا حمل عليه، وإن تعدد فهو مجمل، إلا عند الشافعي والقاضي، وهذا إذا كان البعض الملغى معينا وإلا فهو مجمل بين الجميع. الرابع: أن يقترن به ما يوجب إلغاء الكل, فيحمل على المعنى المجازي لتعذر الحقيقي, فإن كان البعض فقط ذا مجاز حملناه عليه، وإن كان لكل واحد منهما مجاز فقد تعارضت، وحينئذ فإن ترجح بعض المجازات على بعض حمل عليه، ورجحانه إما بنفسه وذلك بأن تتساوى الحقائق وتكون بعض المجازات أقرب إلى الحقيقة من الآخر، وإما بأصله وهو الحقيقة، وذلك بأن تتساوى المجازات, ولكن تكون بعض الحقائق أرجح من بعض لو عدمت القرينة الملغية، فإن تساويا أي: الحقائق والمجازات بقي الإجمال، وكذلك إن ترجح بعض المجازات على البعض الآخر، ولكن رجح أصل ذاك وهو حقيقته على أصل هذا, فيبقى الإجمال أيضا لتعادلهما، وهذه المسألة ليست في المنتخب ولا في كتب الآمدي وابن الحاجب.

الفصل السادس

الفصل السادس مدخل ... الفصل السادس: قال: "الفصل السادس: في الحقيقة والمجاز, الحقيقة فعيلة من الحق الثابت أو المثبت, نقل إلى العقد المطابق ثم إلى القول المطابق، ثم اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، والمجاز مفعل من الجواز بمعنى العبور وهو المصدر أو المكان، نقل إلى الفاعل ثم إلى اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح, وفيه مسائل". أقول: ذكر في هذا الفصل مقدمة وثماني مسائل؛ أما المقدمة ففي الكلام على لفظتي الحقيقة والمجاز على معناهما لغة واصطلاحا، ومقصوده الأعظم بيان أن إطلاق لفظتي الحقيقة والمجاز على المعنى المعروف عند الأصوليين إنما هو على سبيل المجاز، فأما الحقيقة فوزنها فعيلة وهي مشتقة من الحق، والحق لغة: الثبوت، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] أي: ثبتت، ومن أسمائه تعالى الحق؛ لأنه الثابت، ثم إن فعيلا قد يكون بمعنى فاعل الفاعل, فمعناها الثابتة من قولهم: حق الشيء يحق -بالضم والكسر- إذا وجب وثبت، وإن كانت بمعنى المفعول فمعناها المثبتة بفتح الباء من قولهم: حققت الشيء أحقه إذا أثبته، ثم نقلت الحقيقة من الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع مجازا كاعتقاد وحدانية الله تعالى، قال في المحصول: لأنه أولى بالوجود من الاعتقاد الفاسد، وقد يقال: إنما كان مجازا لاختصاصه ببعض أفراد الثابت فصار كإطلاق الدابة على ذوات الأربع، ثم نقل من الاعتقاد المطابق إلى القول الدال على المعنى المطابق أي: الصدق لعين هذه العلة كما قال في المحصول1, ثم نق من القول المطابق إلى المعنى المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب، قال في المحصول: لأن استعماله فيما وضع له تحقيق لذلك الوضع. قال: فظهر أن إطلاق لفظ الحقيقة على هذا المعنى المعروف ليس حقيقة لغوية بل مجاز واقع في المرتبة الثالثة، لكنه حقيقة عرفية خاصة، ولقائل أن يقول: يجوز أن يكون لفظ الحق موضوعا للقدر المشترك بين الجمع وهو الثبوت، سلمنا لكن لا نسلم أن كل مجاز مأخوذ مما قبله بل الجميع مأخوذ من الحقيقة، وأما معنى الحقيقة في الاصطلاح فهو ما أشار إليه المصنف بقوله: اللفظ المستعمل ... إلخ فقوله: اللفظ جنس, لكنه جنس بعيد فالتعبير بالقول أصوب, وقوله: المستعمل خرج

_ 1 انظر المحصول، ص133، جـ1.

عنه المهمل واللفظ الموضوع قبل الاستعمال, فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز كما سيأتي, وقوله: فيما وضع له يخرج به المجاز, وقوله: في اصطلاح التخاطب يتناول اللغوية والشرعية والعرفية، فإن الصلاة مثلا في اصطلاح اللغة حقيقة في الدعاء, مجاز في الأركان المخصوصة، وفي اصطلاح الشرع بالعكس. واعلم أن المراد بالوضع في الحقيقة الشرعية والعرفية هو غلبة الاستعمال، وفي اللغوية هو تخصيصه به وجعله دليلا عليه، وإرادة المصنف لهما لا تستقيم إلا باستعمال المشترك في معنييه فافهمه. وهذا الحد يرد عليه الإعلام فإن الحد صادق عليها مع أنها ليست بحقيقة ولا مجاز كما سيأتي, وأيضا فالمجاز موضوع عنده؛ لأن المراد من وضعه هو اعتبار العرب لنوعه، وقد جزم باشتراط ذلك كما سيأتي فلا بد فيه من قيد في الحد لإخراجه؛ لأن المذكور هنا صادق عليه. قوله: "والتاء لنقل اللفظ" اعلم أن الفعيل إن كان بمعنى الفاعل فإنه يفرق بين مذكره ومؤنثه بالتاء, فتقول: مررت برجل عليم وامرأة عليمة، وكريم وكريمة، وإن كان بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث فتقول: مررت برجل قتيل وامرأة قتيل، ويستثنى من ذلك ما إذا سمي به أو استعمل استعمال الأسماء كما لو استعمل بدون الموصوف, كقوله تعالى: {النَّطِيحَةُ} أي: والبهيمة النطيحة فإنه لا بد من التاء للفرق، فالحقيقة إن كانت بمعنى الفاعل فتاؤها على الأصل, وإن كانت بمعنى المفعول فهي إنما دخلت لانتقال الحقيقة من الوصفية إلى الاسمية؛ لأنا بينا أنها نقلت إلى اللفظ المستعمل بالشروط وجعلت اسما له، ويجوز أن يكون المراد أن دخولها للإعلال بالنقل. قوله: "المجاز مفعل ... إلخ" يريد أن إطلاق لفظ المجاز على معناه المعروف عند العلماء بالمجاز اللغوي حقيقة عرفية؛ وذلك لأن المجاز مشتق من الجواز الذي هو التعدي والعبور تقول: جزت المكان الفلاني أي: عبرته ووزن المجاز مفعل؛ لأن أصله: مجوز فقلبوا واوه ألفا بعد نقل حركتها إلى الجيم؛ لأن المشتقات تتبع الماضي المجرد في الصحة والإعلال, وهم قد أعلوا فعله الماضي وهو جاز لتحرك واوه وانفتاح ما قبلها فلذلك أعلوا المجاز، والفعل يستعمل حقيقة في الزمان والمكان والمصدر تقول: قعدت مقعد زيد وتريد: قعود زيد أو زمان قعوده أو مكان قعوده، فيكون لفظ المجاز في الأصل حقيقة, إما في المصدر وهو الجواز وإما في مكان التجوز أو زمانه، وأهمل المصنف الزمان لما ستعرفه، ثم إن لفظ المجاز نقل من ذلك إلى الفاعل وهو الجائز أي: المنتقل لما بينهما من العلاقة؛ لأنه إن نقل من المجاز المستعمل في المصدر فالعلاقة هي الجزئية؛ لأن المشتق منه جزء من المشتق, فصار كإطلاقهم لفظ العدل وهو مصدر على فاعل العدالة فقالوا: رجل عدل أي: عادل، وإن نقل من المجاز المستعمل في المكان فالعلاقة هي إطلاق اسم المحل وإرادة الحال ويعبر عنه بالمجاوزة, وأما المجاز المستعمل في الزمان فإنه ليس بينه وبين الجائز علاقة معتبرة, فلا يصح أن يكون مأخوذا منه فلذلك أهمله المصنف فافهمه، فإنه

من محاسن كلامه، ثم إن الجائز يطلق حقيقة على الأجسام؛ لأن الجواز هو الانتقال من حيز إلى حيز، وأما اللفظ فعرَض يمتنع عليه الانتقال، فنقل لفظ المجاز من معنى الجائز إلى المعنى المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح عليه، وإطلاقه على هذا المعنى على سبيل التشبيه، فإن تعدية اللفظ من معنى إلى معنى كالجائز من مكان إلى مكان آخر, فيكون إطلاق لفظ المجاز على المعنى المصطلح عليه مجازا لغويا في المرتبة الثانية حقيقة عرفية, فأما قوله: اللفظ المستعمل فقد عرفت شرحه مما تقدم، وأما قوله: في معنى غير موضوع له فاحترز به عن الحقيقة، ويؤخذ منه أن المجاز عند المصنف لا يستلزم الحقيقة؛ لأنه شرط تقدم الوضع لا تقدم الاستعمال، وهو اختيار الآمدي وجزم باستلزامه في المحصول في الكلام على إطلاق اسم الفاعل بمعنى الماضي، ونقله في الكلام على الحقيقة اللغوية عن الجمهور, ثم قال: وهو ضعيف على عكس ما جزم به أولا ولم يصحح ابن الحاجب شيئا، وأما قوله: يناسب المصطلح فأتى به لثلاثة أمور, أحدها: للاحتراز عن العلم المنقول كبكر وكلب, فإنه ليس بمجاز؛ لأنه لم ينقل لعلاقة. الثاني: اشتراط العلاقة. الثالث: ليكون الحد شاملا للمجازات الأربعة: المجاز اللغوي والشرعي والعرفي العام والعرفي الخاص, فأتى بالاصطلاح الذي هو أعم من كونه لغويا أو شرعيا أو عرفيا، وهذا الحد يرد عليه المجاز المركب، وذلك لأن شرط المجاز أن يكون موضوعا لشيء, ولكن يستعمل في غيره لعلاقة كما تقرر، والمركب عن المصنف غير موضوع فإنه قد قال في التخصيص: قلنا: المركب لم يوضع وقد وقعت للشارحين في هذا الفصل مواضيع ينبغي اجتنابها. واعلم أن هذه الأعمال كلها ما عدا الحدين لم يتعرض لها الآمدي ومن تابعه كابن الحاجب. قال: "الأولى: الحقيقة اللغوية موجودة وكذا العامة كالدابة ونحوها, والخاصة كالقلب والنقض والجمع والفرق, واختلف في الشرعية كالصلاة والزكاة والحج؛ فمنع القاضي مطلقا واثبت المعتزلة مطلقا, والحق أنها مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة وإلا لم تكن عربية, فلا يكون القرآن عربيا وهو باطل لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113] ونحوه قليل المراد بعضه، فإن الحالف على أن لا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه قلنا: معارض بما يقال: إنه بعضه قيل: تلك كلمات قلائل فلا تخرجه عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية, قلنا: تخرجه وإلا لما صح الاستثناء قيل: كفى في عربيتها استعمالها في لغتهم، قلنا: تخصيص الألفاظ باللغات بحسب الدلالة قيل: منقوض بالمشكاة والقسطاس والإستبرق وسجيل قلنا: وضع العرب فيها وافق لغة أخرى". أقول: لما فرغ من الكلام على الحقيقة لغة واصطلاحا شرع في بيان وجودها، والحقيقة تنقسم إلى أربعة أقسام أحدها: اللغوية ولا شك في وجودها؛ لأنا نقطع باستعمال بعض اللغات في موضوعاتها كالحر والبرد والسماء والأرض، وبدأ المصنف

باللغوية؛ لأن ما عداها فرع عنها. الثاني: العرفية العامة وهي التي انتقلت من مسماها اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول, قال في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول, قال في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها وضعت في اللغة لكل ما يدب كالإنسان, فخصصها العرف العام بما له حافر، وإما باشتهار المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة كإضافتهم الحرمة إلى الخمر وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب. الثالث: العرفية الخاصة وهي ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كاصطلاح الفقهاء على القلب والنقص والجمع والفرق الآتي بيانها في القياس، واصطلاح النحاة على الرفع والنصب والجر. الرابع: الشرعية وهي اللفظة التي استفيد من الشارع وضعها كالصلاة للأفعال المخصوصة، والزكاة للقدر المخرج. قال في المحصول: سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة كأوائل السور عند من يجعلها اسما، أو كان معلوما لهم لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى كلفظة الرحمن لله تعالى, فإن كلا منهما كان معلوما لهم، ولم يضعوا اللفظ لله تعالى ولذلك قالوا حين نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] : إنا لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة، أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما كالصوم والصلاة، إذا علمت ذلك فقد اختلفوا في وقوعها, فمنعه القاضي أبو بكر وقال ابن الشارع: لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية فالمراد بالصلاة المأمور بها هو الدعاء، ولكن أقام الشارع أدلة أخرى على أن الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليه، وأثبته المعتزلة فقالوا: نقل الشارع هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية, وابتدأ وضعها لهذه المعاني لا للمناسبة فليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها. وقوله: مطلقا أي: سواء كان فيها مناسبة أم لا, بخلاف مذهبنا كما سيأتي أو سواء كانت أسماء للفعل كالصوم والصلاة، أو للفاعل كالصائم وهي المسماة عندهم بالدينية كما سيأتي في فروع النقل, واختار إمام الحرمين والإمام المصنف أنها لم تستعمل في المعنى اللغوي، ولم يقطع النظر عنه حالة الاستعمال بل استعملها الشارع في هذه المعاني لما بينها وبين المعاني اللغوية من العلاقة، فالصلاة مثلا لما كانت في اللغة موضوعة للدعاء والدعاء جزء من المعنى الشرعي أطلقت على المعنى الشرعي مجازا تسمية للشيء باسم بعضه، ولا تكون هذه الألفاظ بذلك خارجة عن لغة العرب لانقسام اللغة إلى حقيقة ومجاز، فتلخص أن هذه الألفاظ مجازات لغوية ثم اشتهرت فصارت حقائق شرعية, وهذا هو اختيار ابن الحاجب أيضا، وتوقف الآمدي فلم يختر شيئا, وأشار إلى أنه الحق وهذا الخلاف في الوقوع, وأما الإمكان فقال في المحصول: إنه متفق عليه, وقال في الأحكام: لا شك فيه، وما قالاه فممنوع، فقد نقل أبو الحسن في المعتمد عن قوم أنهم منعوا بإمكانه، ونقله عنه الأصفهاني في شرح المحصول. قوله: "وإلا لم تكن عربية"

أي: لو لم تكن هذه الألفاظ مجازات عرفية ابتدأ الشارع وضعها لهذه المعاني, لكانت غير عربية؛ لأن العرب لم تضعها لها لا حقيقة ولا مجازا، وإذا لم تكن عربية فلا يكون القرآن عربيا, لكن القرآن عربي لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113] وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 38] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وهذا الدليل لا يثبت فيه المدعى؛ لأنه لا يبطل المذهبين الآخرين بل مذهب المعتزلة فقط. قوله: "قيل: المراد بعضه ... إلخ" أي: اعترضت المعتزلة على هذا الدليل بأربعة أوجه, أحدها: أن هذه الآية لا تدل على أن القرآن كله عربي بل على أن بعضه عربي؛ لأن القرآن يطلق على مجموعه وعلى كل جزء منه؛ ولهذا لو حلف: لا يقرأ القرآن حدث بقراءة بعضه، وجوابه: أن استدلالكم بالحلف وإن دل على أن المراد بالقرآن البعض فهو معارض لقولنا للسورة والآية: إنه بعض القرآن فإنه لو أطلق عليه بعض القرآن حقيقة لما كان لإدخال البعض معنى، وأيضا فلأن بعض الشيء غير الشيء، وإذا تعارضا تساقطا، وسلم ما قلناه أولا. واعلم أن ما ذكره من الحنث ممنوع, فقد نص الشافعي على ما حكاه الرافعي في أبواب العتق أنه لو قال لعبده: إن قرأت القرآن فأنت حر, لا يعتق إلا بقراءة الجميع. الثاني: أن هذه الألفاظ وإن كانت غير عربية, لكنها قلائل فلا يخرج القرآن عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية, فإنها لا تخرج بذلك عن كونها فارسية، والجواب: أنا لا نسلم بل يخرج عن كونه عربيا قطعا بدليل صحة الاستثناء فنقول: القرآن عربي إلا كذا وكذا، ومثله القصيدة أيضا. الثالث: أنه يكفي في كون هذه الألفاظ عربية استعمال العرب لها من حيث الجملة، وحينئذ فاستعمال الشارع لها في غير المعنى اللغوي لا يخرجه عن ذلك، وجوابه: أن تخصيص الألفاظ بكونها عربية أو فارسية ليس حكما حاصلا بذات الألفاظ من حيث هي هي, بل بحسب دلالتها على تلك المعاني في تلك اللغة، فلا يصير اللفظ عربيا إلا إذا دل على المعنى الذي وضعه العرب له، وفيما قال نظر، بل الحق أن العربي لا يخرج عن عربيته باستعماله في معنى آخر، ويدل على هذا أن الأعجمي كإبراهيم لا يخرج عن العجمة باستعمال العرب له في معنى آخر كما صرح به النحاة، ولهذا منعوا صرفه، وهذا إذا قلنا: إن اللغات اصطلاحية، فإن قلنا: توقيفية, ففي الحكم بتخصيص البعض بالعربي بحث يتقوى به جواب المصنف. الرابع: أنه منقوض بألفاظ واقعة في القرآن ليست عربية بل معربة, فإن المشكاة حبشية كما قال في المحصول، وهندية كما قال الآمدي وابن الحاجب، وهي الكوة والقسطاس رومية, وهي الميزان والإستبرق فارسية, وهي الديباج الغليظ وسجيل أيضا فارسية, وهي الحجر من الطين، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن هذه الألفاظ ليست عربية، بل غايته أن وضع العرب لها وافق وضع غيرهم كالصابون والتنور, فإن اللغات متفقة فيهما. قال في المحصول: ولئن سلمنا خروج

هذه الألفاظ عن مقتضى الدليل, فيبقى ما عداها على الأصل، وهذا الذي صححه المصنف والإمام من كون المعرب لم يقع في القرآن, نقله ابن الحاجب عن الأكثرين, ونص عليه الشافعي في أوائل الرسالة فقال ما نصه: وقد تكلم في القرآن من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه, لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة إن شاء الله تعالى, فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيا وأعجميا, هذا لفظه بحروفه، ومن الرسالة نقلته، ثم إنه أطال الاستدلال في الرد على قائله، ثم قال: والله تعالى يغفر له ولهم ولم يصحح الآمدي شيئا, وصحح ابن الحاجب وقوعه مستدلا بإجماع النحاة على أن إبراهيم ونحوه لا ينصرف للعلمية والعجمية. واعلم أن المصنف لم يرتب هذه الاعتراضات على الوجه اللائق فإن اللائق الابتداء بالثالث، ثم بالثاني، ثم بالأول، فيقول أولا: لا نسلم أنها غير عربية بل يكفي فيها استعمالها عندهم, سلمنا لكن لا يخرج القرآن عن كونه عربيا؛ لأنها قلائل سلمنا خروجه، فليس بممتنع لأن المراد من قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113] هو البعض. قال: "وعورض بأن الشارع اخترع معاني, فلا بد لها من ألفاظ, قلنا: كفى التجوز بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وفي الشرع فعل الواجبات لأنه الإسلام، وإلا لم يقبل من مبتغيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران: 85] فلن يقبل منه, ولم يجز استثناء المسلم من المؤمن وقد قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36] والإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} والدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} قلنا: الإيمان في الشرع تصديق خاص, وهو غير الإسلام والدين فإنهما الانقياد والعمل الظاهر؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وإنما جاز الاستثناء لصدق المؤمن على المسلم بسبب أن التصديق شرط صحة الإسلام". أقول: إن المعتزلة طعنوا أولا في مقدمات دليلنا فأجبناهم, فانتقلوا إلى النقض بالمشكاة وشبهها، فأجبناهم فانتقلوا إلى المعارضة فقالوا: ما ذكرتم وإن دل على أن الشارع ما ابتدأ وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني لكنه معارض بوجهين, أحدهما: إجمالي والآخر: تفصيلي, الأول وهو الإجمالي: أن الشارع اخترع معاني لم تكن معقولة للعرب فلا بد لها من ألفاظ تدل عليها، ويستحيل أن يكون الواضع لها هم العرب لأنهم لا يعقلونها فيكون الواضع لها وهو الله تعالى, فيكون شرعية وجوبه أنا لا نسلم أنه يجب إحداث وضع لها, بل يكفي التجوز بما وضعته العرب لحصول المقصود وهو الإفهام، وقد تقدم إيضاحه عند حكاية المذاهب. الدليل الثاني وهو التفصيلي: أن الإيمان يستعمل في غير معناه اللغوي فيكون شرعيا, بيانه أن الإيمان في اللغة هو التصديق, قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] وفي الشرع فعل الواجبات؛ وذلك لأن الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الدين، والدين فعل الواجبات، ينتج أن الإيمان

فعل الواجبات، وإنما قلنا: إن الإيمان هو الإسلام لوجهين, أحدهما: أنه لو كان غيره لما كان مقبولا ممن ابتغاه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية. الثاني: لو كان مغايرا له لامتنع استثناؤه منه؛ لأن الاستثناء إخراج بعض الأول ولكنه لا يمتنع لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36، 36] ووجه الاستدلال أن غير هنا بمعنى إلا, إذ لو كانت على ظاهرها لكان التقدير فما وجدنا فيها المغاير لبيت المؤمنين, فيكون المنفي هو بيوت الكفار وهو باطل, فتقرر أنه استثناء، ثم إن هذا الاستثناء مفرغ فلا بد له من تقدير شيء عام منفي يكون هو المستثنى منه، وذلك العام لا بد من تقييده بكونه من المؤمنين، وإلا لزم انتفاء بيوت الكفار وهو باطل لما قلناه، فيكون التقدير: فما وجدنا فيها أحدا من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين أي: منهم وأوقع الظاهر موقع المضمر، وذلك استثناء المسلمين من المؤمنين, فثبت أن الإيمان هو الإسلام، وإنما قلنا: إن الإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} وإنما قلنا: الدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي: دين الملة المستقيمة, فقوله: وذلك إشارة إلى كل ما تقدم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بتأويل المذكور فيكون دينا, ولك أن تقول في تقرير المصنف لهذا الدليل: إشكال لأن من جملة مقدماته، أن الإسلام هو الدين, وأن الدين هو فعل الواجبات وقد استدل عليهما بما ينتج العكس، والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها وقد قرره غيره على الصواب, فقالوا: إن فعل الواجبات هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان، واستدلوا عليه بما ذكره المصنف فينتج أن فعل الواجب هو الإيمان، وهو المطلوب, وهكذا قرره الإمام وأتباعه كصاحب الحاصل والآمدي ومن تبعه كابن الحاجب. قوله: "لنا: الإيمان في الشرع ... إلخ" شرع رحمه الله في الجواب عن هذا الدليل فقال: الإيمان في الشرع أيضا هو التصديق كما هو في اللغة، لكنه تصديق خاص وهو تصديق محمد -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به فيكون مجازا لغويا من باب تخصيص العام ببعض مفهوماته كالدابة, والإيمان بهذا التفسير غير الإسلام وغير الدين، فإن الإسلام والدين في اللغة هما الانقياد، وفي الشرع هما الأعمال الظاهرة كالصلاة والصوم؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فأثبت لهم الإسلام ونفى عنهم الإيمان فدل على المغايرة، وبهذا يظهر الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا} فإن مدلول الآية إن ابتغى دينا يغاير الإسلام فهو غير مقبول, فإذا لم يكن الإيمان دينا كما بينا لم يلزم عدم قبوله، ولقائل أن يقول: يجوز أن يكون المراد في الآية هو المفهوم اللغوي, والمعنى أن الأعراب ما صدقوا محمدا، ولكن انقادوا له ضرورة وحينئذ فلا يلزم تغاير المفهوم اللغوي أن يكون المفهوم الشرعي متغايرا،

والنزاع فيه لا في الأول. قوله: "وإنما جاز الاستثناء ... إلخ" لما بين المصنف أن الإيمان غير الإسلام, احتاج أن يجيب عن الآية التي فيها استثناء المسلمين من المؤمنين, فقال: استثناؤه منه لا يدل على أنه هو، بل على أنه يصدق عليه كقولنا: ملكت الحيوانات إلا العبيد, فالحيوان غير العبيد قطعا؛ لأن الأعم غير الأخص، ومع ذلك فقد استثني منه لصدق الحيوان عليه، إذا علمت ذلك فنقول: الصدق حاصل في المؤمن مع المسلم؛ لأن شرط صحة الإسلام وهو العمل الظاهر كالصلاة وغيرها وجود الإيمان، وهو تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- وكلما صدق المشروط صدق الشرط فكلما صدق المسلم صدق المؤمن، ولا ينعكس بدليل من كان مصدقا تاركا للأفعال. فلما ثبت صدق المؤمن على المسلم صح الاستثناء، ولا يلزم من كون المسلم مؤمنا أن يكون الإسلام هو الإيمان، فإن الكاتب ضاحك والكتابة غير الضحك، والنزاع إنما هو في الثاني أي: في الإسلام مع الإيمان لا في المسلم مع المؤمن وفي الجواب نظر؛ لأنه يلزم من كون التصديق شرطا لصحة الإسلام أن ينتفي الإسلام عند انتفائه، وهو غير منتفٍ لقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وأكثر هذه الأجوبة المذكورة في الكتاب لا ذكر لها في المحصول ومختصراته.

الفرع الأول

الفرع الأول: قال: "فروع الأول: النقل خلاف الأصل, إذ الأصل بقاء الأول, ولأنه يتوقف على الأول ونسخه ووضع ثانٍ, فيكون مرجوحا. الثاني: الأسماء الشرعية الموجودة المتواطئة كالحج والمشتركة كالصلاة الصادقة على ذات الأركان وصلاة المصلوب والجنازة، والمعتزلة سموا أسماء الذوات دينية كالمؤمن والفاسق والحروف, والفاسق والحروف لم توجد والفعل يوجد بالتبع. الثالث: صيغ العقود كبعت إنشاء, إذ لو كانت أخبارا وكانت ماضيا أو حالا لم تقبل التعليق وإلا لم تقع, وأيضا إن كذبت لم تعتبر وإن صدقت فصدقها إما بها, فيدور أو بغيرها وهو باطل إجماعا. وأيضا لو قال المرجعية: طلقتك, لم يقع كما لو نوى الإخبار" أقول: قد تقدم الاستدلال على إثبات الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية, وقد تقدم أن العرفية والشرعية منقولان من اللغوية؛ فلذلك عقبه بفروع ثلاثة مبنية على النقل, الأول: النقل خلاف الأصل على معنى أن اللفظ إذا احتمل النقل من الحقيقة اللغوية إلى الشرعية أو العرفية وعدم النقل فالأصل عدم النقل لوجهين أحدهما: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان كما سيأتي في القياس، والنقل فيه انتقال عما كان فيكون خلاف الأصل. الثاني: أن النقل يتوقف على الأول, أن الوضع اللغوي على نسخه، ثم الوضع الثاني، وأما الوضع اللغوي فإنه يتم بشيء واحد وهو الوضع الأول، وما يتوقف على ثلاثة أمور مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمر واحد؛ لأن طرق عدمه أكثر. الفرع الثاني: أن الشارع هل نقل الأسماء والأفعال والحروف أم نقل بعضها دون بعض؟ فنقول: أما الأسماء فقد وجدت، وكان قد تقدم لنا أن الأسماء

اللغوية تنقسم إلى المتباينة والمترادفة والمشتركة والمشككة والمتواطئة، فشرع الآن يتكلم فيما وجد من تلك الأقسام في الحقيقة الشرعية، فنقول: أما المتباينة فموجودة كالصلاة والصوم، وأهمله المصنف لوضوحه وكذا المتواطئة كالحج فإنه يطلق على الإفراد والتمتع والقران، وهذه الثلاثة مشتركة في الماهية وهو الإحرام والوقوف والطواف والسعي، واختلفوا في وقوع المشتركة. قال في المحصول: والحق وقوعها؛ لأن اسم الصلاة صادق على المشتملة على الأركان كالظهر وغيرها، وعلى الخالية عن الركوع والسجود كصلاة المصلوب والجنازة، والخالية عن القيام كصلاة القاعد، وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك فتعين الاشتراك، ومثله أيضا الطهور الصادق على الماء والتراب وآلة الدباغ، وأما المترادفة فأهملها المصنف وصاحب الحاصل, فإن الإمام في المحصول ذكر أن الأظهر أنها لم توجد، وليس كما قال فإنه قد تقدم من كلامه أن الفرض والواجب مترادفان وهما من الحقائق الشرعية، وقد تقدم أيضا أن للحرام اسما وللمندوب اسما فتكون أيضا مترادفة. قوله: "والمعتزلة سموا" يعني: أن المعتزلة لما أثبتوا الحقائق الشرعية قالوا: إنها تنقسم إلى أسماء الأفعال كالصوم والصلاة، وإلى أسماء الذوات المشتقة من تلك الأفعال كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة وأفعل التفضيل، كقولنا: زيد مؤمن أو فاسق أو محجوج عنه أو أفسق من عمرو, وسموا هذا الضرب بالدينية تفرقة بينها وبين الأول، وإن كان الكل عندهم على السواء في أن شرعي, هكذا قاله في المحصول فتبعه المصنف، وفيه نظر فإن المنقول عن المعتزلة أن الدينية هي الأسماء المنقولة شرعا إلى أصل الدين كالإيمان والكفر, وأما الشرعية فكالصلاة والصوم, ومما نص عليه إمام الحرمين في البرهان والغزالي في المنخول والمستصفى، فقال: قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء: الأسماء لغوية ودينية وشرعية، أما اللغوية فظاهرة، وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين كالإيمان والكفر والفسق، أما الشرعية فكالصلاة انتهى لفظ الغزالي، ولم يذكر الآمدي هذا القسم أعني: الدينية, وذكره ابن الحاجب في المختصر ولم يبينه. قوله: "والحروف ... إلخ" يعني أن الحروف الشرعية لم توجد لأنها لا تفيد وحدها، وقال في المحصول: إنه الأقرب للاستقراء، وأما الفعل فلم يوجد بطريق الأصالة للاستقراء, ووجد بالتبع لنقل الاسم الشرعي نحو: صلى الظهر، فإن الفعل عبارة عن المصدر والزمان، فإن كان المصدر شرعيا استحال أن يكون الفعل إلا شرعيا، وإن كان لغويا فكذلك. الفرع الثالث: صيغ العقود كبعث وكذلك الفسوخ كفسخت، وأعتقت وطلقت إخبارات في أصل اللغة, وقد تستعمل في الشرع أيضا كذلك، فإن استعملت لإحداث حكم كانت منقولة إلى الإنشاء، وقالت الحنفية: إنها إخبارات عن ثبوت الأحكام وذلك بتقدير وجودها قبل اللفظ، وغايته أن تكون مجازا وهو أولى من النقل كما سيأتي، والفرق بين الإنشاء والخبر من وجود أحدها أن الإنشاء لا يتحمل التصديق والتكذيب بخلاف

الخبر. الثاني: أن الإنشاء لا يكون معناه إلا مقارنا للفظ بخلاف الخبر, فقد يتقدم وقد يتأخر. الثالث: الإنشاء هو الكلام الذي ليس له متعلق خارجي يتعلق الحكم النفساني به بالمطابقة وعدم المطابقة بخلاف الخبر. الرابع: الإنشاء سبب لثبوت متعلقه، وأما الخبر فمظهر له، واستدل المصنف على كونه إنشاء بثلاثة أدلة, أحدها: أنه لو كانت إخبارا فإن كان عن ماض أو حال فيلزم أن لا يقبل الطلاق التعليق؛ لأن التعليق عبارة عن توقف وجود الشيء على شيء آخر, والماضي والحال موجود فلا يقبله وليس كذلك, وإن كان خبرا عن مستقبل يقع؛ لأن قوله: طلقتك في قوة قوله: سأطلقك على هذا التقدير والطلاق لا يقع به. والدليل الثاني: لو كانت إخبارات فإن كانت كاذبة, فلا اعتبار بها، وإن كانت صادقة فصدقها إن حصل بهذه الصيغ نفسها، أي: يتوقف حصوله على حصول الصيغة فيلزم الدور؛ لأن كون الخبر صدقا، وهو قوله: طلقتك مثلا, موقوف على وجود المخبر عنه وهو وقوع الطلاق، فلو توقف المخبر عنه وهو وقوع الطلاق على الخبر وهو قوله: طلقتك لزم الدور، وإن حصل الصدق بغيرها فهو باطل إجماعا للاتفاق منها ومنهم على عدم الوقوع عند عدم هذه الصيغة. الدليل الثالث: إذا قال لمطلقته الرجعية في حال العدة: طلقتك ونوى الإخبار فإنه لا يقع عليه شيء فإن لم ينو شيئا أو نوى الإنشاء فإنه يقع بالاتفاق، ولو كان إخبارا لم يقع كما لو نوى به الإخبار، وفيه نظر لجواز أن يكون خبرا عن الحال؛ فلذلك يقع.

الفرع الثاني

الفرع الثاني: قال: " الثانية: المجاز إما في المفرد مثل: الأسد الشجاع, أو في المركب مثل: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي أو فيهما مثل: "أحياني اكتحالي بطلعتك" ومنعه ابن داود في القرآن والحديث. لنا قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] قال: فيه إلباس قلنا: لا إلباس مع القرينة، قل: لا يقال لله تعالى: إنه متجوز, قلنا: لعدم الإذن أو لإبهامه الاتساع فيما لا ينبغي". أقول: لما فرغ من مباحث الحقيقة شرع في مباحث المجاز, فذكر أن المجاز على ثلاثة أقسام, أحدها: أن يكون في مفردات الألفاظ فقط كقولك: رأيت أسدا تعني: الرجل الشجاع. الثاني: أن يقع في التركيب فقط وذلك بأن يستعمل كل واحد من تلك الألفاظ في موضوعه ويكون الإسناد غير مطابق كقول الشاعر وهو الصلتان العبدي: الله تعالى هو الفاعل لهما, فإن قيل: هذا البيت من القسم الثالث؛ لأن المراد بالصغير أيضا من تقدم له الصغر قلنا: الصغير لما وقع مفعولا لم يكن ركنا في الإسناد لكونه فضلة, فلم يجتمع المجاز التركيبي والإفرادي. الثالث: أن يكون في الإفراد والتركيب معا، كقولك: أحياني اكتحالي بطلعتك أي: سرتني رؤيتك, فاستعمل الإحياء في السرور والاكتحال في الرؤية, وذلك مجاز ثم أسند الإحياء إلى الاكتحال مع أن المحيي هو الله تعالى، وههنا أمور أحدها: أن هذا التقسيم نقله الإمام عن عبد القاهر الجرجاني وارتضاه هو وأتباعه، ومنهم المصنف وفي متابعته إياهم إشكال تقدم في حد المجاز،

ومستنده أن المركبات عنده غير موضوعة, وقد منع ابن الحاجب وقوع المجاز في التركيب، وحصره في الإقراء الثاني أن التعبير عن النسبة بالمركب غير مستقيم والصواب التعبير بالتركيب، إذ لو قلت: هلك الأسد وأوردت أن الرجل الشجاع مرض مرضا شديدا, فإنه مجاز واقع في المركب في النسبة، وكذا ورد أمير المؤمنين أي: كتابه أوامره، فإنه مجاز واقع في مركب تركيب إضافة وليس هو المراد بل كل مجاز في غير النسبة فهو مركب، فإن الأسد من قولنا: جاء الأسد مركب لانضمام غيره إليه وإذا تقرر إيراد هذه الأشياء على التعبير بالمركب لدخولها فيه فهي واردة على المفرد لخروجها منه. الثالث: التمثيل بالبيت وشبهه إنما يصح أن لو علم اعتقاد المتكلم فقد يكون القائل دهريا فيكون قد استعمل اللفظ فيما وضع له في اعتقاده. الرابع: المجاز في التركيب عقلي؛ لأن نقل الإسناد عن متعلقه إلى غيره نقل لحكم عقلي لا للفظة لغوية, هكذا قال في المحصول1 وهو بناء على أن المركبات غير موضوعة. قوله: "ومنعه ابن داود" يعني: أن أبا بكر بن داود الأصفهاني الظاهري منع من دخول المجاز في القرآن والحديث, دليلنا قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وشبهه عبر عن الميل بإرادة السقوط المختصة بمن له شعور، وإذا جاز ذلك في القرآن جاز في الحديث؛ لأنه أولى ولأن لا قائل بالفرق، والخلاف في الحديث ليس بمشهور؛ ولهذا قال الأصفهاني في شرح المحصول: إنه لا يعرف في غير المحصول على أن الإمام لم يصرح به بل كلامه محتمل، احتج ابن داود بوجهين, أحدهما: أن وقوعه إن كان مع القرينة ففيه تطويل من غير فائدة، وإن كان بدونها ففيه التباس المقصود بغيره، وجوابه: أن ذلك مع القرينة فلا التباس؛ ولذلك فوائد ستأتي، وهذا الدليل يؤدي إلى منع المجاز مطلقا، وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وجماعة. الثاني: لو تكلم البارئ تعالى بالمجاز, لقيل: به متجوز وهو لا يقال له اتفاقا, وجوابه أن أسماء الله تعالى توقيفية على المشهور فلا يطلق عليه إلا بالإذن ولا إذن، سلمنا أنها دائرة مع المعنى وهو مذهب القاضي أبي بكر لكن شرطه أن لا يوهم نقصا, وما نحن فيه ليس كذلك فإن المتجوز يوهم تعاطي ما لا ينبغي لاشتقاقه من الجواز, وهو التعدي.

_ 1 انظر المحصول، ص138، جـ1.

الفرع الثالث

الفرع الثالث: قال: "الثالثة: شرط المجاز العلاقة المعتبر نوعها نحو السببية القابلية مثل: سال الوادي, والصورية كتسمية اليد قدرة، والفاعلية مثل نزل السحاب, والغائية كتسمية العنب خمرا, والمسببية كتسمية المرض المهلك بالموت, والأولى أولى لدلالتها على التعيين, وأولاها الغائية؛ لأنها علة في الذهن ومعلولة في الخارج, والمشابهة كالأسد للشجاع والمنقوش ويسمى الاستعارة المضادة مثل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]

والكلية كالقرآن لبعضه والجزئية كالأسود الزنجي والأول أقوى للاستلزام والاستعداد كالمسكر على الخمر في الدن, وتسمية الشيء باعتبار ما كان عليه كالبعد والمجاورة كالرواية والزيادة والنقصان مثل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} و {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} والتعلق كالخلق المخلوق". أقول: يشترط في استعمال المجاز وجود العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وإلا لجاز إطلاق كل لفظ على كل معنى وهو باطل, وهل يكفي وجود العلاقة أم لا بد من اعتبار العرب لها, أي تستعملها؟ فيه مذهبان حكاهما الآمدي من غير ترجيح، ويعبر عنهما بأن المجاز هل هو موضوع أم لا؟ أصحهما عند ابن الحاجب أنه لا يشترط؛ لأن أهل العربية لا يتوقفون عليه وأصحها عند الإمام وأتباعه أنه يشترط لأن الأسد له صفات وهي: الشجاعة والحمى والبخر والجذام، ومع ذلك لا يجوز إطلاقه لغير الشجاع، ولو كانت المشابهة كافية من غير نقل لما امتنع، وللخصم أن يقول: المشابهة كافية في صفة ظاهرة وهذه لا يتبادر الذهن إليها. قال القرافي: والخلاف إنما هو في الأنواع لا في الجزئيات، النوع الوحد كالقائل بالاشتراك يقول: لا بد أن تضع العرب نوع التجوز بالكل إلى الجزء مثلا, وبالسبب إلى المسبب، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: المعتبر نوعها. قال في المحصول: والذي يحضرنا من أنواعها اثنا عشر قسما، وقد ذكر المصنف كما ذكرها إلا أنه أسقط العاشر للاستغناء عنه بالثالث، وقال الشيخ صفي الدين الهندي: الذي يحضرنا من أنواعها أحد وثلاثون نوعا وعددها، فلنقتصر على ما ذكره المصنف, فإن الزائد عليه إما مداخل أو مذكور في غير هذا الموضوع, أحدها: علاقة السببية وإطلاق اسم السبب على المسبب أي: العلة على المعلول، ثم إن السبب على أربعة أقسام: قابلي ويعبر عنه بالمادي، وصوري، وفاعلي، وغائي، وكل موجود لا بد له من هذه الأربعة كالسرير, فإن مادته الخشب وفاعله النجار وصورته الانسطاح وغايته الاضطجاع عليه, وإنما سميت الثلاثة الأولى أسبابا لتأثيرها في الاضطجاع وسمي الرابع وهو الغائي سببا لأنه الباعث على ذلك، فإنه إذا استحضر في ذهنه الاضطجاع حمله ذلك على العمل وهو معنى قولهم: أول الفكر آخر العمل, ومعنى العلة الغائية علة العلل الثلاث في الأذهان, ومعلولة العلل الثلاث في الأعيان، أي: في الخارج مثل تسمية الشيء باسم سببه القابلي، وقولهم: سال الوادي أي: الماء الذي في الوادي فعبر عن الماء السائل بالوادي؛ لأن الوادي سبب قابل له، فأطلق السبب على المسبب وفيه نظر، فإن المادي في اصطلاحهم جنس ماهية الشيء كما تقدم في الخشب مع السرير، وههنا ليس كذلك، ويظهر أن هذا من باب تسمية الحال باسم المحل، أو من مجاز النقصان الآتي وتقديره: ماء الوادي، ومثال تسمية الشيء باسم سببه الصوري إطلاق اليد على القدرة في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] أي: قدرة الله تعالى فوق قدرتهم, فاليد لها صورة خاصة يتأتى بها الاقتدار على الشيء وهو تجويف راحتها، وصغر عظمها، وانفصال بعضها عن بعض

لتلتوي على الأشياء بقوة, فشكل اليد على الاقتدار كشكل السرير مع الاضطجاع, وقد تقدم أنه سبب صوري فتكون اليد كذلك, فإطلاقها على القدرة من باب إطلاق اسم السبب الصوري على المسبب، وقد انعكس المثال على الإمام وأتباعه ومنهم المصنف فقالوا: كتسمية اليد قدرة والصواب: كتسمية القدرة يدا كما قررناه فاعتمده، واجتنب غيره وقد ذكره الإمام في المنتخب على الصواب، مثال تسمية الشيء باسم سببه الفاعلي قولهم: نزل السحاب يعنون المطر، فإن السحاب سبب فاعلي في المطر عرفا, كما تقول: الشمس تنضج الثمار هكذا مثل المصنف تبعا للحاصل، ومثل له الإمام بقولهم: نزل السماء، وأشار إلى قول الشاعر: إذا نزل الغمام بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا وفيه نظر؛ فإن المطر فوقنا فهو سماء، والظاهر أنه مراد المصنف أيضا، وكأنه فهم أن المراد بالسماء المعبر بها عن المطر هو السحاب لا السماء المعهودة؛ لعدم تأثيرها في المطر فصرح به، ومثال تسمية الشيء باسم سببه الغائي قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] أي: عنبا, فأطلق الخمر على العنب؛ لأنها العلة الغائية عندهم. النوع الثاني: علاقة المسببية وهو إطلاق اسم المسبب على السبب كتسمية المرض المهلك بالموت، وإذا تعارض الأمر بين العلاقة الأولى وهي إطلاق اسم السبب على المسبب، وبين الثانية وهي إطلاق اسم المسبب على السبب, فالأول أولى؛ لأن السبب المعين يدل على السبب المعين بخلاف العكس, ألا ترى أن البول مثلا يدل على انتقاض الوضوء, وانتقاض الوضوء لا يدل على البول, فقد يكون عن لمس أو غيره، فلما كان فهم المسبب عن السبب أقرب من عكسه كان أولى, وقد يقال: العكس أولى؛ لأن وجود المسبب بدون السبب محال، فالسبب لازم للمسبب، ولا ينعكس لجواز تخلف المسبب عن السبب، ثم إن العلة الأولى قد عرفت انقسامها إلى علل أربع، فإذا تعارضت فأولاها العلة الغائية لاجتماع علامتي السببية والمسببية فيها؛ لأنها علة في الذهن من جهة أن الخمر مثلا هو الداعي إلى عصير العنب، ومعلولة في الخارج؛ لأنها لا توجد إلى آخر كما قدمناه. والنوع الثالث: المتشابهة، وهي تسمية الشيء باسم ما يشابهه، إما في الصفة وهو ما أقصر عليه الإمام وأتباعه كإطلاق الأسد على الشجاع، أو في الصورة كإطلاقه على الصورة المنقوشة على الحائط، وهذا النوع يسمى المستعار لأنه لما أشبهه في المعنى أو الصورة استعرنا له اسمه فكسوناه إياه، ومنهم من قال: كل مجاز مستعار, حكاه القرافي. الرابع: المضادة, وهي تسمية الشيء باسم ضده، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فأطلق على الجزاء سيئة مع أن الجزاء حسن, ويمكن أن يكون من مجاز المشابهة كما قاله في المحصول1؛ لأن المماثلة شرط, ويمكن أن يكون أيضا حقيقة؛ لأنه يسوء

_ 1 انظر المحصول، ص135، جـ1.

الجاني, فالأولى التمثيل بالمفازة للبرّية المهلكة. الخامس: الكلية وهو إطلاق اسم الكل على الجزء كإطلاق القرآن على بعضه، ومثله الإمام وأتباعه بإطلاق العام على الخاص وفيه نظر، فإن العموم من باب الكلية لا من باب الكل، والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء كما تقدم إيضاحه في تقسيم الدلالة, لا جرم أن المصنف مثل بالقرآن وفيه نظر أيضا، فإن نزاعا تقدم في الكلام على الحقيقة الشرعية, فالأولى التمثيل بقوله تعالى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] أي: أناملهم. السادس: الجزئية, وهو إطلاق اسم الجزء على الكل، كإطلاق الأسود على الزنجي, فإن بياض عينيه وأسنانه من كونه حقيقة, واعلم أن هذا المثال ذكره الإمام وأتباعه فتابعهم المصنف وهو على عكس المدعي فإنه من باب تسمية الجزء باسم الكل كالقسم الذي قبله، وأيضا فالمفهوم من الأسود قيام السواد بظاهر جلده فقط، وأيضا فحمل المشتق على الشيء أعم من كونه ثابتا لكله أو بعضه بدليل الأعرج المكسور إحدى الرجلين، والصواب التمثيل بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} والأول وهو إطلاق اسم الكل على الجزء أقوى من إطلاق اسم الجزء على الكل؛ لأن الكل يستلزم الجزء من غير عكس. السابع: الاستعداد وهو أن يسمى الشيء المستعد لأمر باسم ذلك الأمر كتسمية الخمر وهو في الدن بالمسكر, فإن الخمر في تلك الحالة ليس بمسكر بل مستعد له، وعبر الإمام عن هذا بتسمية إمكان الشيء باسم وجوده، وعبر عنه ابن الحاجب بتسمية الشيء باسم ما يؤول إليه. والثامن: تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه سواء كان جامدا كإطلاق العبد على العتيق، أو مشتقا كالضارب على من فرغ من الضرب، وهذا النوع ساقط في كثير من النسخ اكتفاء بما تقدم في الاشتقاق. التاسع: المجاورة وهو تسمية الشيء باسم ما يجاوره كإطلاق الراوية على ظرف الماء وهو القربة, فإن الراوية لغة اسم للجمل أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه، كما قاله الجوهري، وأطلق على القربة لمجاورتها له. العاشر: الزيادة وهو أن ينتظم الكلام بإسقاط كلمة فيحكم بزيادتها كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] قال: الكاف زائدة تقديره: ليس مثله شيء إذ لو كانت أصلية لكان تقديره: ليس مثل مثله شيء؛ لأن الكاف بمعنى مثل وحينئذ فيلزم إثبات مثل الله تعالى وهو محال، ولك أن تقول: ليست الكاف زائدة وتجيب عما قالوه بوجهين، أحدهما: أن هذه قضية سالبة والسالبة تصدق بانتفاء الذات وبانتفاء النسبة, فإذا قلنا: ليس زيد في الدار يصدق ذلك بانتفاء زيد أو انتفاء الدار أو انتفاء حصوله فيها، فكذلك في الآية. الثاني: أن المثل يلزم منه بالضرورة أن يكون له مثل, فإن زيدا إذا كان مثلا لعمرو كان عمرو مثلا له أيضا وحينئذ فيلزم من نفي مثل المثل نفي المثل؛ لأنه يلزم من نفي اللازم نفي اللزوم, فإن قيل: فيلزم انتفاء ذات البارئ سبحانه وتعالى على هذا التقدير؛ لأنه من جملة الأمثال قلنا: لا يلزم فإن المراد نفي المثل عن الله تعالى لا نفيه تعالى، أو نقول: خص بالعقل. الحادي عشر: النقصان وهو

أن ينتظم الكلام بزيادة كلمة, فيعلم نقصانها كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي: أهل القرية، فإن القرية هي الأبنية المجتمعة وهي لا تسأل وهذا المجاز إنما هو من مجاز التركيب؛ لأن المجاز في الإفراد هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، والمحذوف لم يستعمل البتة، بل الحاصل هو إسناد السؤال إلى القرية، وهو شأن المجاز الإسنادي، ويظهر أن يكون هذا النوع المتقدم وهو المجاز بالزيادة كذلك أيضا؛ لأن الزائد لم يستعمل في شيء البتة، ويقتضي كلام المحصول أن هذين القسمين من مجاز الإفراد. الثاني عشر: لتعلق الحاصل بين المصدر واسم المفعول واسم الفاعل, فإن كلا منهما يطلق على الآخر مجازا، فيدخل فيه ستة أقسام أحدها: إطلاق اسم الفاعل على اسم المفعول، كقوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مدفوق ومنه قولهم: سر كاتم أو مكتوم, الثاني: عكسه كقوله تعالى: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أي: ساترا وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] أي: آتيا على بعض الأقوال. الثالث: إطلاق المصدر على اسم الفاعل كقولهم: رجل صوم وعدل أي: صائم وعادل. الرابع: عكسه كقولهم: قم قائما، واسكت ساكتا أي: قياما وسكوتا. الخامس: إطلاق اسم المفعول على المصدر كقوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] أي: الفتنة. السادس: عكسه وعليه اقتصر المصنف كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي: مخلوق الله, وقوله تعالى: {لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] أي من معلوماته, ولك أن تقول: هذا من باب إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل؛ لأن المشتق منه جزء من المشتق. واعلم أن ابن الحاجب ذكر خمسة أقسام فقط وهي في الحقيقة أربعة, وحذف ما عداها مما ذكر في هذا الفصل من الأقسام والتقارير.

الفرع الرابع

الفرع الرابع: قال: "الرابعة: المجاز بالذات, لا يكون في الحرف لعدم الإعادة والفعل والمشتق؛ لأنهما يتبعان الأصول والعلم؛ ولأنه لم ينقل لعلاقة". أقول: دخول المجاز في الكلام قد يكون بالذات أي: بالأصالة وقد يكون بالتبعية فالذي لا يدخل فيه المجاز بالذات أمور, أحدها: الحرف لأنه لا يفيد معناه وحده بل لا يفيده إلا بذكر متعلق, فإذا لم يفد وحده فلا يدخله المجاز؛ لأن دخوله فرع من كون الكلام مفيدا, وأما بيان دخوله فيه بالتبع فبأن تستعمل متعلقاتها استعمالا مجازيا فيسري التجوز من المتعلقات إليها, كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] فإن تعليل الالتقاط بصيرورته عدوا لما كان مجازا, كان إدخال لام العلة أيضا مجازا، وهذا في الحقيقة يرجع إلى مجاز التركيب لكون الحرف قد ضم إلى ما لا ينبغي ضمه إليه, هكذا قاله في المحصول وفيه نظر, فإن هذا الضم قد يوجد في المجاز الإفرادي كقولنا: رأيت أسدا يرمي بالنشاب، وأيضا فلو لم يدخل المجاز بالذات في الحرف لكونه غير مفيد بنفسه لم تدخل فيه الحقيقة بالذات أيضا، لكنه سيأتي في الفصل الثامن في تفسير الحروف أنها وضعت لمعانٍ واستعملت فيها. الثاني: الفعل بأقسامه

والمشتق بأقسامه كضارب ونحوه؛ لأن كلا من الفعل والمشتق تابع لأصله وهو المصدر في كونه حقيقة أو مجازا، فإطلاق ضارب مثلا بعد انقضاء الضرب أو قبله إنما كان مجازا؛ لأن إطلاق الضرب والحالة هذه كقولنا: زيد ذو ضرب مجاز لا حقيقة. الثالث: العلم؛ لأنه إن كان مرتجلا أو منقولا لغيره علاقة فلا إشكال في كونه ليس بمجاز، وإن نقل لعلاقة كمن سمى ولده مباركا، لما اقترن بحمله أو وضعه من البركة, فكذلك لأنه لو كان مجازا لامتنع إطلاقه عند زوال العلاقة, وليس كذلك, وتعليل المصنف بكونه لم ينقل لعلاقة لا يستقيم بل الصواب ما قلناه، نعم لو قارن الاستعمال وجود العلاقة فإن التزام كونه مجازا فيرد عليه هنا وإلا ورد عليه في حد المجاز, وأيضا يرد عليهم قولهم: هذا حاتم جودا أو زهير شعرا وقرأت سيبويه فإنها أعلام دخلها التجوز، إلا أن يقال: الكلام إنما هو في استعمال العلم فيما جعل علم عليه, لكنه على هذا التقدير لا بد من تخصيص الدعوى وأيضا فكلامه يوهم أن العلم قد يدخل فيه المجاز بطريق التبع، وليس كذلك، وإذا علمت ما ذكرناه علمت أن ما عداه يدخل فيه المجاز بالذات، قال في المحصول: وهو اسم الجنس فقط نحو: أسد وفي المستصفى للغزالي أن المجاز قد يدخل في الأعلام أيضا.

الفرع الخامس

الفرع الخامس: قال: "الخامسة: المجاز خلاف الأصل لاحتياجه إلى الوضع الأول والمناسبة والنقل, ولإخلاله بالفهم, فإن غلب كالطلاق تساويا, والأولى الحقيقة عند أبي حنيفة, والمجاز عند أبي يوسف رضي الله عنهما". أقول: الأصل في الكلام هو الحقيقة حتى إذا تعارض المعنى الحقيقي والمجازي فالحقيقي أولى؛ لأن المجاز خلاف الأصل، والمراد بالأصل هنا إما الدليل، أو الغائب، والدليل عليه أمران أحدهما: أن المجاز إنما يتحقق عند نقل اللفظ من شيء إلى شيء لعلاقة بينهما، وذلك يستدعي أمورا ثلاثة: الوضع الأول والمناسبة والنقل، وأما الحقيقة فإنه يكفي فيها أمر واحد وهو الوضع الأول, وما يتوقف على شيء واحد أغلب وجودا مما يتوقف على ذلك الشيء مع شيئين آخرين, وقد أهمل المصنف الاستعمال ولا بد منه فيهما. الثاني: أن المجاز يخلى بالفهم، وتقريره من وجهين أحدهما: أن الحمل على المجاز يتوقف على القرينة الحالية أو المقالية، وقد تخفى هذه القرينة على السامع, فيحمل اللفظ على المعنى الحقيقي مع أن المراد هو المجازي, معاني أن اللفظ إذا تجرد عن القرينة فلا جائز أن يحمل على المجاز لعدم القرينة ولا على الحقيقة؛ لأنه يلزم الترجيح بلا مرجح؛ لأن المجاز والحقيقة متساويان على هذا التقدير، وقد نص عليه في المحصول كما سأذكره في أثناء هذه المسألة، ولا عليهما معا للوقوع في الاشتراك فيلزم التوقف هو مخل بالفهم. قوله: "فإن غلب" أي: هذا فيما إذا لم يكن المجاز غالبا على الحقيقة, فإن غلب فقال أبو حنيفة: الحقيقة أولى لكونه حقيقة، وقال أبو يوسف: المجاز أولى لكونه غالبا, وقال القرافي في شرح التنقيح: وهو الحق؛ لأن الظهور هو المكلف به وفي المحصول

والمنتخب عن بعضهم أنهما يستويان فلا ينصرف لأحدهما إلا بالنية؛ لأن كل واحد راجح من وجه ومرجوح من وجه، وأسقطه صاحب الحاصل وجزم به الإمام في المعالم، ومثل له بالطلاق فقال: إنه حقيقة في اللغة في إزالة القيد سواء كان عن نكاح أو ملك يمين أو غيرهما, ثم اختص في العرف بإزالة قيد النكاح فلأجل ذلك إذا قال الرجل لأمته: أنت طالق لا تعتق إلا بالنية، ثم قال: فإن قيل: فيلزم أن لا يصرف إلى المجاز الراجح وهو إزالة قيد النكاح إلا بالنية وليس كذلك قال: فالجواب أنه إنما لم يحتج إلى النية؛ لأنا إن حملناه على المجاز الراجح وهو إزالة قيد النكاح فلا كلام، وإن حمل على الحقيقة المرجوحة وهو إزالة مسمى القيد من حيث هو فيلزم زوال قيد النكاح أيضا لحصول مسمى القيد فيه، فلا جرم أن أحد الطرفين في هذا المثال بخصوصه لم يحتج إلى النية بخلاف الطرف الآخر وقد تبع المصنف كلام المعالم في اختيار التساوي والتمثيل بالطلاق، ولم يذكرهما في المحصول ولا المنتخب، وههنا أمور مهمة أحدها: أنه لم يحرر محل النزاع وقد حرره الحنفية في كتبهم، فإن مرجع هذه المسألة إليهم ونقله عنهم القرافي أيضا، فقالوا: المجاز له أقسام أحدها: أن يكون مرجوحا لا يفهم إلا بقرينة كالأسد الشجاع, فلا إشكال في تقديم الحقيقة، وهذا واضح. الثاني: أن يغلب استعماله حتى يساوي الحقيقة, فقد اتفق أبو حنيفة وأبو يوسف على تقديم الحقيقة، ولا خلاف أيضا نحو النكاح فإنه يطلق على العقد والوطء إطلاقا متساويا مع أنه حقيقة في أحدهما, مجاز في الآخر, وجعل ابن التلمساني في شرح المعالم هذه الصورة محل النزاع قال: لأنه إجمالي عارض, فلا يتعين إلا بقرينة، وقد ذكر في المحصول هذه الصورة في المسألة السابعة من الباب التاسع وجزم بالمتساوي. الثالث: أن يكون راجحا والحقيقة مماتة لا تراد في العرف, فقد اتفقا على تقديم المجاز؛ لأنه إما حقيقة شرعية كالصلاة أو عرفية كالدابة ولا خلاف في تقديمها على الحقيقة اللغوية, مثاله: حلف لا يأكل من هذه النخلة فإنه يحنث بثمرها لا بخشبها وإن كان هو الحقيقة لأنها قد أميتت. الرابع: أن يكون راجحا والحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات فهذا موضع الخلاف، كما قال: والله لأشربن من هذا النهر فهو حقيقة في الكرع من النهر بفيه، وإذا اغترف بالكوز وشرب فهو مجاز لأنه شرب من الكوز لا من النهر, لكنه المجاز الراجح المتبادر، والحقيقة قد تراد لأن كثيرا من الرعاة وغيرهم يكرع بفيه, وقال الأصفهاني في شرح المحصول: محل الخلاف أن يكون المجاز راجحا على الحقيقة بحيث يكون هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق كالمنقول الشرعي والعرفي, وورود اللفظ على غير الشرع وغير العرف, فأما إذا ورد من أحدهما فإنه يحمل على ما وضعه له. الأمر الثاني: أن الحكم بالتساوي الموجب للتوقف على القرينة مطلقا يستقيم إذا لم يكن المجاز من بعض أفراد الحقيقة كالراوية فإن كان فردا فلا, فإنه إذا قال القائل مثلا: ليس في الدار دابة فليس فيها حمار قطعا؛ لأنا إن حملنا

اللفظ على المجاز الراجح وهو الحمار وشبهه, فلا كلام أو على نفي الحقيقة وهو مطلق ما دبّ فينتفي الحمار, وأيضا لأنه يلزم من نفي الأعم نفي الأخص, فصار الكلام دالا على نفي المجاز على كل تقدير, فلا يتوقف على القرينة أما الحقيقة المرجوحة فهي منتفية على تقدير دون تقدير, فحسن التوقف وإن كان الكلام في سياق الثبوت كان دالا على ثبوت الحقيقة المرجوحة فإذا قال: في الدار دابة, فإن حملناه على الحقيقة المرجوحة فلا كلام أو المجاز الراجح ثبت أيضا؛ لأنه يلزم من ثبوت الأخص ثبوت الأعم, أما المجاز فثابت على تقدير دون تقدير فيتوقف على القرينة فصارت الصور خمسا: ثلاث تتوقف على القرينة، واثنتان لا تتوقفان. الأمر الثالث: أن التمثيل بالطلاق فيه نظر؛ لأنه صار حقيقة عرفية عامة في حل قيد النكاح, وهي مقدمة على اللغوية كما سيأتي ولا ذكر للمسألة في كتب الآمدي، ولا في كلام ابن الحاجب.

الفرع السادس

الفرع السادس: قال: "السادسة: يعدل إلى المجاز لثقل لفظ الحقيقة كالخنفقيق أو لحقارة معناه، كقضاء الحاجة, أو لبلاغة لفظ المجاز, أو لعظمة في معناه كالمجلس, أو لزيادة بيان كالأسد. السابعة: اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا كما في الوضع الأول والأعلام, وقد يكون حقيقة ومجازا باصطلاحين كالدابة. الثامنة: علامة الحقيقة سباق الفهم والعراء عن القرينة, وعلامة المجاز الإطلاق على المستحيل مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] والإعمال في المنسى كالدابة للحمار". أقول: المسألة السادسة في سبب العدول عن الحقيقة إلى المجاز, وهو إما أن يكون بسبب لفظ الحقيقة أو معناها أو بسبب لفظ المجاز أو معناه "فالأول": أن يكون لفظ الحقيقة ثقيلا على اللسان كالخنفقيق, قال الجوهري: وهو الداهية ثم ذكر أعني الجوهري في الكلام على الداهية أن الداهية هو ما يصيب الشخص من نوب الدهر العظيمة, قال: وهو أيضا الجيد الرأي, إذا تقرر هذا فلك أن تعدل عن هذا اللفظ لثقله إلى لفظ آخر بينه وبين المصيبة علاقة كالموت مثلا فيقال: وقع في الموت, وزعم كثير من الشارحين أن المجاز هنا في الانتقال من الخنفقيق إلى الداهية وهو غلط, فإن موضوع الخنفقيق لغة هو الداهية كما نقلناه عن الجوهري. "وأما الثاني" فهو أن يكون معناها حقيرا كقول السائل لسلمان الفارسي: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة بكسر الخاء المعجمة على وزن الرسالة؟ فقال له سلمان: أجل نهانا عن كذا وكذا, فلما كان معناه حقيرا عدل عنه إلى التعبير بالغائط الذي اسم للمكان المطمئن أي: المنخفض، وبقضاء الحاجة أيضا الذي هو عام في كل شيء، وظن جمع من الشارحين أن الغائط هو الحقيقة, فعدل عنه إلى قضاء الحاجة وهو غلط فاحش أوقعهم فيه صاحب الحاصل، فإنه قد غلط في اختصاره لكلام المحصول. "وأما الثالث" فهو أن يحصل باستعمال لفظ المجاز شيء من أنواع البديع والبلاغة كالمجانسة والمقابلة والسجع ووزن الشعر ولا يحصل بالحقيقة, وفسر بعض الشارحين البلاغة بما يرجع حاصله إلى كونه أقوى وأبلغ في المعنى من الحقيقة، وليس كذلك

فإن القوة قسم آخر سيأتي. "وأما الرابع" فهو أن يكون في المجاز عظمة أي: تعظيم كقولك: سلام على المجلس العالي، فإن فيه تعظيما بخلاف المخاطبة، كقولك: سلام عليك أو يكون فيه زيادة بيان أي: يكون فيه تقوية لما يريده المتكلم كما قاله في المحصول1 كقولك: رأيت أسدا يرمي فإن فيه من المبالغة ما ليس في قولك: رأيت إنسانا يشبه الأسد في الشجاعة, ولا ذكر لهذه المسألة في المنتخب ولا في كتب الآمدي وابن الحاجب. والمسألة السابعة: اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازا وذلك في شيئين ذكرهما الإمام والآمدي, أحدهما وعليه اقتصر ابن الحاجب: إذا وضع الواضع لفظا لمعنى ولم يستعمل فيه لما تقدم، لك في حد الحقيقة والمجاز أن كلا منهما هو اللفظ المستعمل، فإذا لم يستعمل لا يكون حقيقة ولا مجازا، وأهمل المصنف هذا القيد، ولا بد منه، وقيده تبعا للإمام بالوضع الأول ليحترز عن المجاز، فإنه موضوع على الصحيح كما تقدم عند ذكر العلاقة، لكن الوضع الحقيقي سابق على الوضع المجازي، ووجه الاحتراز أن المراد من كون المجاز موضوعا أن استعماله يتوقف على اعتبار العرب لتلك العلاقة الحاصلة في ذلك المجاز، إما باستعمالهم له أو لمثله, وإما بتنصيصهم عليه، فلما كان وضعه قد يكون بالاستعمال لم يمكن إطلاق القول بأن الموضوع ليس بحقيقة ولا مجاز، فإن هذا النوع من الوضع مجاز لوجود شرطه فيه. الثاني: الأعلام كثور وأسد وغيرهما فلا يكون حقيقة؛ لأنها ليست بوضع واضع اللغة, ولأنها مستعملة في غير موضوعها الأصلي, ولا مجازا لأنها مستعملة لغير علاقة, وهذا الكلام ضعيف، أما الأول فلأن العرب قد وضعت أعلاما كثيرة وأما الثاني فلأنه إنما يأتي إذا فرعنا على مذهب سيبويه، وهو أن الأعلام كلها منقولة وقد خالفه الجمهور، وقالوا: إنها تنقسم إلى منقولة ومرتجلة، سلمنا لكن ينبغي أن تكون حقيقة عرفية خاصة, وأما الثالث فقد تقدم منعه في المسألة الرابعة. قوله: "وقد يكون" أي: قد يكون اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد حقيقة ومجازا, لكن باصطلاحين كإطلاق الدابة على الإنسان مثلا فإنه حقيقة لغوية مجاز عرفي, وقد علمت من هذا ومما قبله أن اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد قد يكون حقيقة فقط، أو مجازا فقط, أو حقيقة ومجازا، أو لا حقيقة ولا مجازا. المسألة الثامنة: في علاقة كون اللفظ حقيقة في المعنى المستعمل فيه وهو أمران أحدهما: سبقه إلى أفهام جماعة من أهل اللغة بدون قرينة؛ لأن السامع لو لم يعلم أن الواضع وضعه له لم يسبق فهمه إليه دون غيره, وقد أهمل المصنف التقييد بالقرينة مع أن الإمام وأتباعه ذكروه ولا بد منه ليخرج قولك: رأيت أسدا يرمي بالنشاب ونحوه، فإن قيل: المشترك إذا تجرد عن القرينة لا يسبق إلى الفهم منه شيء مع أنه حقيقة في كل من أفراده، قلنا: العلامة

_ 1 انظر المحصول، ص138، جـ1.

تستلزم الاطراد لا الانعكاس. الثاني: تعرية اللفظ عن القرينة، فإذا سمعنا أهل اللغة يعبرون عن المعنى الواحد بلفظين لكن أحدهما لا يستعملونه إلا بقرينة فيكون الآخر حقيقة؛ لأن حذف القرينة دليل على استحقاق اللفظ لذلك المعنى عندهم، وأما المجازفة فلها أيضا علامتان إحداهما: إطلاق الشيء على ما يستحيل منه؛ لأن الاستحالة تقتضي أنه غير موضوع له فيكون مجازا, كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . الثانية: إعمال اللفظ المنسي بأن يكون اللفظ موضوعا لمعنى له أفراد, فتترك أهل العرف استعماله في بعض تلك الأفراد بحيث يصير ذلك البعض منسيا، ثم تستعمل اللفظ في ذلك البعض المنسي فيكون مجازا أي: عرفيا كما قاله الإمام, مثاله الدابة, فإنها موضوعة في اللغة لكل ما دبّ كالفرس والحمار وغيرهما, فترك أهل بلاد العراق استعمالها في الحمار بحيث صار منسيا فإطلاقها عليه مجاز عندهم، وأما إطلاقها على غير المنسي فقد أطلقوا بأنه مجاز لغوي لأن قصرها على الحمار بأرض مصر وللفرس بأرض العراق وضع آخر، ولقائل أن يقول: إن استعمالها المتكلم ملاحظة للوضع الأول كان حقيقة، وإلا كان مجازا، فإن الوضع الثاني لا يخرج الأول هما وضعا له، وقد نقل الإمام علامات أخرى للحقيقة والمجاز وضعفها؛ فلذلك تركها المصنف.

الفصل السابع

الفصل السابع: قال: "الفصل السابع: في تعارض ما يخل بالفهم وهو الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص, وذلك على عشرة أوجه, الأول: النقل أولى من الاشتراك لإفراده في الحالتين كالزكاة. الثاني: المجاز خير منه لكثرته وإعمال اللفظ مع القرينة ودونها كالنكاح. الثالث: الإضمار خير منه؛ لأن احتياجه إلى القرينة في صورة، واحتياج الاشتراك إليها في صورتين مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . الرابع: التخصيص خير منه؛ لأنه خير من المجاز كما سيأتي مثل: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] فإنه مشترك أو مختص بالعقد وخص عنه الفاسد. الخامس: المجاز خير من النقل لعدم استلزامه نسخ الأول كالصلاة. السادس: الإضمار خير منه؛ لأنه مثل المجاز كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فإن الأخذ مضمر، والربا نقل إلى العقد. السابع: التخصيص أولى لما تقدم، مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإنه المبادلة مطلقا وخص عنه الفاسد أو نقل إلى المستجمع لشرائط الصحة. الثامن: الإضمار مثل المجاز لاستوائهما في القرينة مثل: "هذا ابني". التاسع: التخصيص خير من المجاز؛ لأن الباقي متعين والمجاز ربما لا يتعين مثل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فإن المراد التلفظ وخص النسيان أو الذبح. العاشر: التخصيص خير من الإضمار لما مر مثل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . تنبيه: الاشتراك خير من النسخ؛ لأنه لا يبطل والاشتراك بين علمين خير منه بين علم ومعنى, وهو خير منه بين معنيين". أقول: الخلل الحاصل في فهم مراد المتكلم يحصل من احتمالات خمسة, وهي: الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص؛ لأنه إذا انتفى احتمال الاشتراك كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد, وإذا انتفى احتمال

المجاز والإضمار كان المراد باللفظ ما وضع له, وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم, هكذا قاله الإمام. ولا شك أن هذه الاحتمالات إنما تحل باليقين لا بالظن, وقد نص هو على أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين إلا بعد شروط عشرة وهي هذه الخمسة, انتفاء النسخ والتقديم والتأخير وتغيير الإعراب والتصرف والمعارض العقلي, فبطل كون الخلل منحصرا في الخمسة التي ذكرها وليس المراد بالمجاز هنا مطلق المجاز وهو المقابل للحقيقة بل المراد به مجاز خاص وهو المجاز الذي ليس بإضمار ولا تخصيص ولا نقل؛ لأن كل واحد من هذه الثلاثة مجاز أيضا؛ ولهذا اقتصر بعض المحققين على ذكر التعارض بين الاشتراك والمجاز. وإنما أفرد هذه الثلاثة لكثرة وقوعها أو لقوتها حتى اختلف في بعضها أو هو التخصيص هل هو سالب الإطلاق الحقيقي أم لا؟ سيأتي. واعلم أن التعارض بين الاحتمالات الخمسة المذكورة في الكتاب يقع على عشرة أوجه, وضابطه أن يؤخذ كل واحد مع ما بعده فالاشتراك يعارض الأربعة الباقية, والنقل يعارض الثلاثة الباقية, وأما معارضته للاشتراك والنقل تقدمت, فهذه سبعة أوجه, المجاز يعارض الإضمار والتخصيص ومعارضته للاشتراك والنقل تقدمت فهذه تسعة, والإضمار يعارض التخصيص ومعارضته للثلاثة المتقدمة تقدمت فهذه عشرة أوجه، ولم يتعرض الإمام وأتباعه لمثلها وقد تعرض المصنف لذلك. وإذا أردت معرفة الأولى من هذه الخمسة عند التعارض من غير تكلف البتة فاعلم أي كل واحد منها مرجوح بالنسبة إلى كل ما بعده, راجح على ما قبله إلا الإضمار والمجاز فهما سيان، فإذا استحضرت هذه الخمسة كما رتبها المصنف أتيت بالجواب سريعا، وهي دقيقة غفلوا عنها؛ الأول: النقل أولى من الاشتراك؛ لأن المنقول مدلوله مفرد في الحالين، أي: قبل النقل وبعده, أما قبل النقل فإن مدلوله المنقول عنه وهو المعنى اللغوي, وأما بعده فالمنقول إليه وهو الشرعي أو العرفي. وإذا كان مدلوله مفردا فلا يمتنع العمل به بخلاف المشترك, فإن مدلوله متعدد في الوقت الواحد فيكون مجملا لا يعمل به إلا بقرينة عند من لا يحمله على المجموع, مثاله لفظ الزكاة يحتمل أن يكون مشتركا بين النماء وبين القدر المخرج من النصاب, وأن يكون موضوعا للنماء فقط، ثم نقل إلى القدر المخرج شرعا فالنقل أولى لما قلناه. الثاني: المجاز أولى من الاشتراك لوجهين أحدهما: أن المجاز أكثر من الاشتراك بالاستقراء، حتى بالغ ابن جني وقال: أكثر اللغات مجاز, والكثرة تفيد الظن في محل الشك. الثاني: أن فيه إعمالا للفظ دائما؛ لأنه إن كان معه قرينة تدل على إرادة المجاز أعملناه فيه, وإلا أعملناه في الحقيقة بخلاف المشترك, فإنه لا بد في إعماله من القرينة مثاله النكاح يحتمل أن يكون مشتركا بين العقد والوطء، وأن يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر, فيكون المجاز أولى لما قلناه. الثالث: الإضمار أولى من الاشتراك؛ لأنه لا يحتاج إلى القرينة إلا في

صورة واحدة وهي حيث لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره, فحينئذ لا بد من قرينة تعين المراد. وأما إذا أجري على ظاهره فلا يحتاج إلى قرينة بخلاف المشترك فإنه مفتقر إلى القرينة في جميع صوره, مثاله قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فيحتمل أن يكون لفظ القرية مشتركا بين الأهل والأبنية، وأن يكون حقيقة في الأبنية فقط ولكن أضمر الأهل والإضمار أولى لما قلناه. الرابع: التخصيص أولى من الاشتراك؛ لأن التخصيص خير من المجاز كما سيأتي, والمجاز خير من الاشتراك كما تقدم, والخبر من الخبر خير, مثاله استدلال الحنفي عن أنه لا يحل له نكاح امرأة زنى بها أبوه بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} {النساء: 23] بناء على أن المراد بالنكاح هنا هو الوطء, فيقول الشافعي: يلزمك الاشتراك لأنه قد تقرر أن النكاح حقيقة في العقد كما في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فينبغي حمله هنا عليه فرارا من ذلك, فيقول الشافعي: وأنت أيضا يلزمك التخصيص؛ لأن العقد الفاسد لا يقتضي التحريم فيقول الشافعي: التخصيص أولى؛ لما قلناه. الخامس: المجاز أولى من النقل يستلزم نسخ المعنى الأول بخلاف المجاز, مثاله الصلاة, فإن المعتزلة يدعون نقلها من الدعاء إلى الأفعال الخاصة, والإمام وأتباعه يقولون: إن استعمالها فيها بطريق المجاز فيكون المجاز أولى لما قلناه. السادس: الإضمار أولى من النقل؛ لأن الإضمار والمجاز متساويان كما سيأتي والمجاز خير من النقل لما عرفت, والمساوي للخير خير, مثاله قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فالآية لا بد فيها من تأويل لأن الربا هو الزيادة ونفس الزيادة لا توصف بحل ولا حرمة, فقالت الحنفية: التقرير أخذ الزيادة، فإذا توافقا على إسقاطها صح العقد. وقال الشافعي: الربا نقل إلى العقد المستعمل على الزيادة لقرينة قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] فيكون المنهي عنه هو نفس العقد فيفسد سواء اتفاقا على حط الزيادة أم لا. السابع: التخصيص أولى من النقل؛ لأن التخصيص خير من المجاز كما سيأتي والمجاز خير من النقل لما تقدم والخير من الخير خير, مثاله قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإن الشافعي يقول: المراد بالبيع هو البيع اللغوي وهو مبادلة الشيء بالشيء مطلقا, ولكن الآية خصت بأشياء ورد النهي عنها, فعلى هذا يجوز بيع ابن الآدميات مثلا ما لم يثبت تخصيص, ويقول الحنفي: نقل الشارع لفظ البيع من مدلوله اللغوي إلى المستجمع لشرائط الصحة, فليس باقيا على عمومه حتى يستدل به على كل مبادلة فيقول له الشافعي: التخصيص أولى وهذه الآية للشافعي فيها خمسة أقوال, وهذان الاحتمالان قولان من جملتها. الثامن: الإضمار مثل المجاز أي: فيكون اللفظ مجملا حتى لا يترجح أحدهما إلا بدليل لاستوائهما في الاحتياج إلى القرينة وفي احتمال خفائها؛ وذلك لأن كلا منها يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الظاهر. وكما يحتمل وقوع الخفاء في تعيين المضمر يحتمل وقوعه في تعيين المجاز، فاستويا هذا ما جزم

به الإمام في المحصول والمنتخب، وجزم في المعالم بأن المجاز أولى لكثرته لكنه ذكر بعد ذلك في تعليل المسألة العاشرة أنهما سيان, مثاله: إذا قال السيد لعبده الأصغر منه سنا: هذا ابني, فيحتمل أن يكون قد عبر بالبنوة عن العتق فيحكم بعتقه, ويحتمل أن يكون فيه إضمار تقديره مثل هذا ابني أي: في الحنو أو في غيره فلا يعتق. والمسألة فيها خلاف في مذهبنا, والمختار أنه لا يعتق بمجرد هذا اللفظ. التاسع: التخصيص خير من المجاز؛ لأن الباقي بعد التخصيص يتعين لأن العام يدل على جميع الأفراد, فإذا خرج البعض بدليل بقيت دلالته على الباقي من غير تأمل. وأما المجاز فربما لا يتعين لأن اللفظ وضع ليدل على المعنى الحقيقي, فإذا انتفى بقرينة اقتضى صرف اللفظ إلى المجاز إلى نوع تأمل واستدلال لاحتمال تعدد المجازات, مثاله استدلال أبي حنيفة على أن الذابح إذا ترك التسمية عمدا لا تحل ذبيحته بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] أي: لا تأكلوا مما لا يتلفظ عليه اسم الله تعالى, فيلزمه التخصيص لأنه يسلم أن الناس تحل ذبيحته فيقول الشافعي: المراد بذكر الله تعالى هو الذبح مجازا عن الذبح غالبا تقارنه التسمية فيكون نهيا عن أكل غير المذبوح, أو يقول: هو مجاز عن ذبح عبدة الأوثان, وما أحل لغير الله لملازمته ترك التسمية. والعاشر: التخصيص خير من الإضمار؛ لأنه قد مر أن التخصيص خير من المجاز, وأن المجاز والإضمار متساويان والخير من المساوي خير, مثاله قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فقال بعضهم: الخطاب مع الورثة؛ لأنهم إذا اقتضوا فقد سلموا وحيوا بدفع شر هذا القاتل الذي صار عدوا لهم بالقتل، وقال بعضهم: الخطاب للقائلين؛ لأن الجاني إذا اقتص منه فقد انمحى إثمه فيبقى حيا حياة معنوية. فعلى هذين الوجهين لا إضمار ولا تخصيص، وقال بعضهم: الخطاب للناس كلهم وحينئذ يحتمل أن يكون فيه إضمار وتقديره: ولكم في مشروعية القصاص حياة؛ لأن الشخص إذا علم أنه يقتص منه فينكث عن القتل فتحصل الحياة، وعلى هذا فلا تخصيص. ويحتمل أن لا يقدر شيء ويكون القصاص نفسه فيه الحياة, إما الحقيقة ولكن لغير الجاني للمعنى الذي قلناه وهو الانكفاف, أو المعنوية ولكن للجاني بخصوصه لأنه قد سلم من الإثم. وعلى هذا فلا إضمار فيه لكن فيه تخصيص، واعلم أن الآمدي وابن الحاجب لم يتعرضا إلا للاشتراك مع المجاز فقط، وأهملا التسعة الباقية. قوله: "تنبيه ... إلخ" اعلم أن التخصيص الذي سبق ترجيحه على الاشتراك هو التخصيص في الأعيان. أما التخصيص في الأزمان وهو النسخ فإن الاشتراك خير منه, وحينئذ فيكون الباقي خيرا منه بطريق الأولى؛ وذلك لأن الاشتراك ليس فيه إبطال بل يقتضي التوقف إلى القرينة, والنسخ يكون مبطلا والاشتراك بين علمين خير من الاشترك بين علم ومعنى؛ لأن العلم يطلق على شخص مخصوص. قال: المراد إنما هو العلم الشخصي لا الجنسي, والمعنى يصدق على أشخاص كثيرة، فكان اختلال الفهم بجعله مشتركا بين علمين

أقل فكان أولى, مثاله: أن يقول شخص: رأيت الأسودين, فحمله على شخصين كل منهما اسمه الأسود, أولى من حمله على شخص اسمه الأسود وآخر لونه أسود. والاشتراك بين علم ومعنى خير من الاشتراك بين معنيين لقلة الاشتراك فيه, فقوله: "وهو" عائد على الاشتراك بين علم ومعنى ومثاله: الأسودان أيضا, فحمله على العلم والمعنى أولى من شخصين لونهما أسود، ولقائل أن يقول: المشترك لا بد أن يكون حقيقة في إفراده, والعلم ليس بحقيقة ولا مجاز كما سبق.

الفصل الثامن

الفصل الثامن: قال: "الفصل الثامن: في تفسير حروف يحتاج إليها, وفيه مسائل: الأولى: الواو للجمع المطلق بإجماع النحاة, ولأنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب مثل: تقاتل زيد وعمرو, وجاء زيد وعمر وقبله ولأنها كالجمع والتثنية وهما لا واجبا الترتيب, قيل: أنكر عليه الصلاة والسلام ومن عصاهما ملقنا "ومن عصى الله تعالى ورسوله" قلنا ذلك؛ لأن الإفراد بالذكر أشد تعظيما قيل: لو قال لغير الممسوسة: أنت طالق وطالق, طلقت واحدة بخلاف ما لو قال: أنت طالق طلقتين قلنا: الإنشاءات مترتبة بترتيب اللفظ وقوله: طلقتين تفسير" لوقوعها في أدلته, وذكر فيه ست مسائل, الأولى: في حكم الواو وفيها ثلاثة مذاهب حكاها في البرهان أحدها: أنها للترتيب, قال: وهو الذي اشتهر عن أصحاب الشافعي. والثاني: أنها للمعية قال: وإليه ذهب الحنفية. والمختار أنها لمطلق الجمع أي: لا تدل على ترتيب ولا معية وقيدها الإمام بالواو العاطفة؛ ليحترز عن واو بمعنى مع نحو: جاء للبرد والطيالسة وواو الحال نحو: جاء زيد والشمس طالعة, فإنهما يدلان على المعية, وأهمله المصنف وأيضا فتعتبره بالجمع المطلق غير مستقيم؛ لأن الجمع المطلق هو الجمع الموصوف بالإطلاق؛ لأنا نفرق بالضرورة بين الماهية بلا قيد والماهية المقيدة ولو بقيد ولا الجمع الموصوف بالإطلاق ليس له معنى هنا, بل المطلوب هو مطلق الجمع بمعنى: أي جمع كان, سواء كان مرتبا أو غير مرتب كمطلق الماء، والماء المطلق. واستدل المصنف على أنها لمطلق الجمع بأمور أحدها إجماع النحاة, وقال السيرافي والسهيلي والفارسي: أجمع عليه نحاة البصرة والكوفة وليس الأمر كا قالوا, فقد ذهب جماعة إلى أنها للترتيب منهم: ثعلب وقطرب وهشام وأبو جعفر الدينوري وأبو عمر الزاهد. الثاني: أنها تستعمل فلا يستحيل فيه الترتيب وهو شيئان أحدهما: المفاعلة كقولنا: تقاتل زيد وعمرو, فإن المفاعلة تقتضي وقوع الفعلين معا؛ ولهذا لا يصح أن تقول: تقاتل زيد ثم عمرو, والأصل في الاستعمال الحقيقة فتكون حقيقة في غير الترتيب, وحينئذ فلا تكون حقيقة في الترتيب أيضا دفعا للاشتراك, وهذا الدليل لا يثبت به المدعى فإنه نفى الترتيب فقط، ولم ينف المعية. الثاني: التصريح بالتقديم كقولنا: جاء زيد وعمرو وقبله, ولك أن تقول: إنها مستعملة هنا في غير موضوعها مجازا جمعا بين الأدلة. الدليل الثالث: قال أهل اللغة: والعطف في الأسماء المختلفة كواو الجمع وألف التثنية في الأسماء المتماثلة, فإنهم لما لم يتمكنوا من جمع المختلفة أتوا

بالواو، ولا شك أن التثنية والجمع لا يوجبان الترتيب, فكذلك الواو وهذا الدليل ينفي المعية أيضا. قوله: "قيل: أنكر" أي: استدل على من قال: إنها للترتيب بوجهين الأول: ما رواه مسلم أن خطيبا قام بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فقد غوى, فقال عليه الصلاة والسلام: "بئس الخطيب أنت, قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى" 1, فلو كانت الواو لمطلق الجمع لم يكن بين العبارتين فرق. وجوابه أن الإنكار إنما هو لأن إفراد اسم الله تعالى بالذكر أشد تعظيما له يدل عليه أن الترتيب في معصية الله ورسوله لا يتصور لكونهما متلازمين, فاستعمال الواو هنا مع انتفاء الترتيب دليل لنا عليكم, فإن قيل: قد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فقد جمع بينهما في الضمير كما جمع الخطيب, فما الفرق؟ قلنا: منصب الخطيب قابل للزلل فيتوهم أنه جمع بينهما لتساويهما عنده بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم. وأيضا فكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- جملة واحدة، فإيقاع الظاهر فيه موقع المضمر قليل في اللغة، بخلاف كلام الخطيب فإنه جملتان. الثاني: أنه إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق, طلقت طلقة واحدة على الجديد الصحيح, ولو كانت الواو للجمع لكان قوله: أنت طالق, طلقتين. وجوابه أن قوله: وطالق معطوف على الإنشاء فيكون إنشاء آخر والإنشاءات تقع معانيها مترتبة بترتب ألفاظها؛ لأن معانيها مقارنة لألفاظها، فيكون قوله: وطالق إنشاء لإيقاع طلقة أخرى في وقت لا يقبل الطلاق؛ لأنها بانت الأولى بخلاف قوله: طلقتين, فإنه تفسير لطالق وليس بإنشاء. قال: "الثانية: الفاء للتعقيب إجماعا؛ ولهذا ربط بها الجزاء إذا لم يكن فعلا, وقوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] مجاز. الثالثة: في الظرفية ولو تقديرا مثل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ولم يثبت مجيئها للسببية. الرابعة: من تكون لابتداء الغاية وللتبعيض وللتبيين وهي حقيقة في التبيين دفعا للاشتراك". أقول: المسألة الثانية: الفاء للتعقيب أي: تدل على وقوع الثاني عقب الأول بغير مهلة, لكن في شكل شيء يحبسه فلو قال: دخلت مصر فمكة أفادت التعقيب على ما يمكن، واستدل المصنف عليه بالإجماع، وليس كذلك فقد ذهب الفراء إلى أن ما بعدها يجوز أن يكون سابقا، وذهب الجرمي إلى أنها دخلت على الأماكن أو المطر فلا ترتب, تقول: نزلنا نجدا فتهامة، ونزل المطر نجدا فتهامة, وإن كانت تهامة في هذا سابقة. قوله: "ولهذا" أي: ولأجل كونها للتعقيب ربط بها الجزاء أي: وجوبا إذا لم يكن فعلا، نحو: إن قام زيد فعمرو قائم فإن الجزاء يجب أن يوجد ةعقب الشرط, فلو لم تكن الفاء مناسبة لهذا المعنى مفيدة للتعقيب لم يجب دخولها عليه كالواو وثم, فإنه لم لا يجب بل يجوز, وإنما قيده بغير الفعل لأن الفعل إن كان ماضيا فلا يجوز دخولها عليه نحو

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده "4/ 257"، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة باب "48"، وأبو داود في سننه، كتاب الجمعة باب "33".

إن قام زيد قام عمرو, وإن كان مضارعا جاز لكنه لا يجب: إن قام زيد يقوم عمرو وفيه تفصيل يطول ذكره, محله كتب النحو. وهذا الذي ذكره المصنف نقل الإمام عن بعضهم أنه استدل به وفيه نظر ظاهر, فقد تكون الفائدة هي الدلالة على أن الثاني جزاء عن الأول ومسبب عنه, وكونه جزاء دليل على التأخير والتعقيب. ولأجل هذا لم يجعله المصنف دليلا كما جعله الإمام بل استدل بالإجماع وجعل هذا من باب التحسين والتقوية وهو من محاسن كلامه. ثم شرع المصنف في الجواب عن دليل القدر وهو استدلال الخصم على أنها ليست للتعقيب بقوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61] فإن الافتراء في الدنيا، والسحت وهو الاستئصال إنما هو في الآخرة, وهذا يحتمل أن يكون دليلا مستقلا وأن يكون نقضا لما قررناه، وجوابه أن الاستئصال لما كان يقطع بوقوعه جزاء للمفتري جعل كالواقع عقب الافتراء مجازًا. ولا شك أن المجاز خير من الاشتراك. المسألة الثالثة: في "تدل على الظرفية أي: يجعل ما دخلت عليه ظرفا لما قبلها, وإما تحقيقا نحو: جلست في المسجد" أو تقديرا كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] فإنه لما كان المصلوب متمكنا على الجذع كتمكن الشيء في المكان عبر عنه بفي وهذا مذهب سيبويه والجمهوري, وذهب الكوفيون والقتيبي وابن مالك إلى أنها تأتي بمعنى على فيكون التقدير: "لأصلبنكم على جذوع النخل". وظاهر كلام المصنف تبعا للإمام أن في حقيقة "في" الظرفية الحقيقية والتقديرية بأن تكون متواطئة أو مشككة أو مشتركة, ومقتضى كلام النحويين والأصوليين أن استعمالها في الظرفية التقديرية على سبيل المجاز. ومن الفقهاء من قال: إنها قد ترد للسببية واختاره من النحاة ابن مالك فقط لقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14] أي: بسبب قوله تعالى: "لمسكم فيما أخذتم" وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن امرأة دخلت النار في هرة" 1 وقوله: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" 2 ولم يثبته المصنف. قال الإمام: لأن المرجع فيه إلى أهل اللغة ولم يذكره أحد منهم, وأما ما استدلوا به فيمكن حمله على الظرفية التقديرية مجازا. المسألة الرابعة: لفظة من تكون لابتداء الغاية, أي: في المكان اتفاقا كقولك: خرجت من البيت إلى المسجد، وفي الزمان عند الكوفيين والمبرد وابن درستويه وصححه ابن مالك واختاره شيخنا أبو حيان لكثرة وروده نظما ونثرا كقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] وتكون أيضا لتبيين الجنس كقوله تعالى: {فَاجتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وتكون أيضا للتبعيض كقوله: أخذت من الدراهم. وتعرف صلاحية إقامة البعض مقامها, وقال الإمام: والحق عندي أنها للتبيين لوجوده في الجميع, ألا ترى أنها بينت في هذه الأمثلة مكان الخروج والمجتنب والمأخوذ منه

_ 1 رواه الإمام أحمد في مسنده "2/ 57، 286". 2 أخرجه النسائي في سننه، كتاب القسامة، باب 47، ج4.

فتكون حقيقة في القدر المشترك؛ لأنها إن كانت حقيقة في كل واحد لزم الاشتراك أو في البعض خاصة لزم المجاز، فتعين ما قلناه, ولو قال المصنف: رفعا للاشتراك والمجاز لكان أولى. قال: "الخامسة: الباء تعدي وتجزئ المتعدى لما يعلم من الفرق بين مسحت المنديل ومسحت بالمنديل ونقل إنكاره عن ابن جني, ورد بأنه شهادة نفي. السادسة: إنما للحصر؛ لأن إن للإثبات وما للنفي, فيجب الجمع على ما أمكن, وقد قال الأعشى: ....... ... وإنما العزة للكاثر والفرزدق: ....... وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وعورض بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] قلنا: المراد الكاملون". أقول: هذه المسألة تتضح بكلام المحصول فلنقل كلامه ثم تنزل كلام المصنف عليه فنقول: قال في المحصول: الباء إذا دخلت على فعل لازم فإنها تكون للإلصاق نحو: كتبت بالقلم ومررت بزيد, وعبر المصنف عنه بالتعدية وليس كذلك فقد لا تكون كهذه الأمثلة وإنما تكون للتعدية إذا كانت بمعنى الهمزة في نقل الاسم من الفاعلية إلى المفعولية كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] أي: أذهب سمعهم، والتعبير بالإلصاق هو الصواب. ولم يذكر سيبويه للباء معنى غيره, ويدخل فيه ستة أقسام, منها ما هو حقيقة ومنها ما هو مجاز كما هو معروف في كتب النحو. ثم قال: وإن دخلت على فعل متعد كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فتكون للتبعيض خلافا للسقية، وعبر المصنف عنه بقوله: وتجزئ المتعدى قال في المعالم: لأنها لا بد أن تفيد فائدة زائدة صونا للكلام عن العبث وهذا أيضا غير مستقيم, فقد تكون زائدة للتوكيد كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أي: تنبت الدهن وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أي: أيديكم، وأيضا فإن مسح يتعدى إلى مفعول بنفسه وهو المزال عنه, وإلى آخر بحرف الجر وهو المزيل. والباء فيه للاستعابة فيكون تقدير الآية: "وامسحوا أيديكم برءوسكم" وحاصل ما فيه أن اليد جعلت ممسوحة والرأس ماسحة وهو صحيح. وأيضا فجزم المصنف بأنها للتبعيض مناقض لما جزم به في المجمل والمبين كما ستعرفه. ثم قال: لأنا نعلم بالضرورة الفرق بين مسحت المنديل ومسحت يدي بالمنديل, فإنه يعم في الأول ويبعض في الثاني, وهو معنى قول المصنف: لما يعلم من الفرق، وهذا أيضا مردود فإن الفرق بينهما كونهما في الأول ممسوحة، وفي الثاني ماسحة لا ما قاله، ثم قال: وأنكر ابن جني ورودها للتبعيض وقال: إنه شيء لا يعرفه أهل اللغة ثم رده بأنه شهادة على نفي غير محصور فلا يسمع, وتابعه عليه المصنف. وهذا أيضا ممنوع فإن العالم بفن إذا علم منه الفحص قبل منه النفي فيه. ثم إنه قد ذكر ما يناقض ذلك في المسألة الثالثة, فإنه قد رد كونها للسببية بعدم ذكر أهل اللغة له الذي هو دون تصريحهم بنفيه. نعم طريق الرد على ابن جني بوروده في كلامهم فإنه قد اشتهر. قال الشاعر:

شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج أي: شربن من ماء البحر, وقال الآخر: فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج أي: من برد وأثبته الكوفيون، ونص عليه أيضا جماعة غيرهم منهم: الأصمعي والقتيبي والفارسي في التذكرة, وقال به من المتأخرين ابن مالك، وهذه المسألة تكلم الأصوليون فيها اعتقادا منهم أن الشافعي إنما اكتفى بمسح بعض الرأس لأجل الباء وليس كذلك, بل اكتفى به لصدق الاسم كما ستعرفه في المجمل والمبين، والمسألة السادسة: تقييد الحكم فإنما نحو إنما الشفعة فيما لو يقسم هل يفيد حصر الأول في الثاني على معنى أنه يفيد إثبات الشفعة في غير المقسوم، ونفيها عن غيره؟ وفيه مذهبان صحح الإمام وأتباعه أنها تفيد, وعلى هذا فهل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فيه مذهبان, حكاهما ابن الحاجب, ومقتضى كلام الإمام وأتباعه ومنهم المصنف أنه بالمنطوق؛ لأنه استدل بأن إن للإثبات وما للنفي كما سيأتي فافهم ذلك، واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر بل تفيد تأكيد الإثبات وهو الصحيح عند النحويين, ونقله شيخنا أبو حيان في شرح التسهيل عن البصريين، ولم يصحح ابن الحاجب شيئا، استدل الأولون بأمرين أحدهما وهو مركب من العقلي والنقلي: أن كلمة إن لإثبات الشيء وما لنفيه، والأصل عدم التغيير بالتركيب فيجب الجمع بينهما بقدر الإمكان، وحينئذ نقول: لا جائز أن يجتمع النفي والإثبات على شيء واحد للزوم التناقض, ولا أن يكون النفي راجعا إلى المذكور والإثبات للسكوت عنه؛ لأنه باطل بالاتفاق، فتعين العكس لأنه الممكن وهو المراد بالحصر، وهذا ضعيف لأن المعروف عند النحويين أن ما ليست نافية بل زائدة كافة موطئة لدخول الفعل. الثاني: أن العرب الفصحاء قد استعملوها في مواطن الحصر، قال الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر قال الجوهري: معناه أكثر عددا، قال: ومقصوده تفضيل عامر على علقمة وليست بفتح التاء كما ضبطه الجوهري وغيره، وقال الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي قال الجوهري: يقال: ذمر الأسد أي: زأر وتذامر القوم أي: حث بعضهم بعضا على الحرب, وقولهم: فلان حامي الذمار أي: إذا ذمر وغضب حمى، ثم قال: ويقال: الذمار ما وراء الرجل مما يجب عليه أن يحميه أي: من أهله وغيرهم، ووجه الاستدلال أن المقصود لا يحصل إلا بحصر العزة في الكاثر، وحصر الدفع فيه على أنها للحصر. قوله: "وعورض" أي: عورض ما ذكرناه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فإنه لو أفاد الحصر لكان من لم يحصل له الوجل لا يكون مؤمنا وليس كذلك, وجوابه أن المراد بالمؤمنين هم الكاملون في الإيمان جمعا بين الأدلة. "فائدة": من أدوات الحصر إلا على اختلاف فيها يأتي في بابه, ومنها حصر المبتدأ في الخبر نحو: العالم زيد وصديقي زيد، وفيها المذاهب الثلاثة المذكورة, ومنها تقديم المعمول على ما قاله الزمخشري وجماعة نحو: إياك نعبد.

الفصل التاسع

الفصل التاسع: قال: "الفصل التاسع: في كيفية الاستدلال بالألفاظ وفيه مسائل: الأولى: لا يخاطبنا الله تعالى بالمهمل؛ لأنه هذيان، احتجت الحشوية بأوائل السور قلنا: أسماؤها وبأن الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} واجب، وإلا لاختص المعطوف بالحال قلنا: يجوز حيث لا لبس مثل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] وبقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] قلنا: مثل في الاستقباح الثانية لا يغني خلاف الظاهر من غير بيان؛ لأن اللفظ بالنسبة إليه مهمل, قالت المرجئة: يفيد إحجاما قلنا: حينئذ يرتفع الوثوق عن قوله تعالى". أقول: الاستدلال بالألفاظ يتوقف على معرفة كيفية الاستدلال من كونه بطريق المنطوق أو المفهوم؛ فلذلك عقد المصنف هذا الفصل لبيانه وذكر فيه سبع مسائل. ثم إن بيان ذلك يتوقف على أنه تعالى لا يجوز أن يخاطبنا بالمهمل ولا بما يخالف الظاهر؛ لأنه لو كان جائزا لتعذر الاستدلال بالألفاظ على الحكم فبدأ بهما لكونهما كالمقدمة, المسألة الأولى: لا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بالمهمل؛ لأنه هذيان وهو نقص والنقص على الله تعالى محال. وعبارة المحصول: لا يجوز أن يتكلم بشيء ولا يعني به شيئا وهو قريب من عبارة المصنف وعبارة المنتخب والحاصل بما لا يفيد، وبينهما فرق لأن عدم الفائدة قد لا يكون لإهماله بل لعدم فهمنا. وقد صرح ابن برهان بجواز هذا فقال: يجوز أن يشتمل كلام الله تعالى على ما لا يفهم معناه إلا أن يتعلق به تكليف فإنه لا يجوز. والصواب في التعبير ما ذكره في المحصول واقتضاه كلام المصنف, وقد صرح به أيضا عبد الجبار في العمد وأبو الحسين في شرحه له، واستدلا للخصم بأن فائدته التعبد بتلاوته, قال في المحصول: وحكم الرسول في الامتناع كحكم الله تعالى، قال الأصفهاني في شرحه له: لا أعلم أحدا ذكر ذلك ولا يلزم من كون الشيء نقصا في حق الله أن يكون نقصا في حق الرسول، فإن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء. قوله: "احتجت الحشوية" أي: على جوازه بثلاثة أوجه, الأول: أوردوه في القرآن في أوائل كثير من السور نحو: {الم} و {طه} وجوابه: أن لها معاني, ولكن اختلف المفسرون فيها على أقوال كثيرة, والحق فيها أنها أسماء للسور. الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية, ووجه الدلالة أنه يجب الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} وحينئذ فيكون الراسخون مبتدأ ويقولون خبرا عنه، وإذا وجب الوقف عليه ثبت أن في القرآن شيئا لا يعلم تأويله إلا الله وقد خاطبنا به وهذا هو المدعى، وإنما قلنا: يجب الوقف عليه لأنه لو لم يجب لكان الراسخون معطوفا عليه حينئذ, فيتعين أن يكون قوله تعالى

{يَقُولُونَ} جملة حالية بأن قائلين, ولا يجوز أن يكون حالا من المعطوف والمعطوف عليه لامتناع أن يقول الله تعالى: آمنا به، فيكون حالا من المعطوف فقط، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات، وإذا انتفى هذا تعين ما قلناه وهذا الدليل لا يطابق دعوى المصنف؛ لأنه يقتضي أن الخلاف في الخطاب بلفظ له معنى لا نفهمه، ودعواه أولا في المهمل، وأجاب المصنف بأنه إنما يمتنع تخصيص المعطوف بالحال إذا لم تقم قرينة تدل عليه, أما إذا قدمت قرينة تدفع اللبس فلا بأس كقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] فإن {نَافِلَةً} حال من يعقوب خاصة لأن النافلة ولد الولد, وما نحن فيه كذلك؛ لأن العقل قاضٍ بأن الله تعالى لا يقول: آمنا به. الثالث: قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِين} [الصافات: 65] فإن هذا التشبيه إنما يفيد أن لو علمنا رءوس الشياطين ونحن لا نعلمها، والجواب أنه معلوم للعرب فإنه مثل في الاستقباح متداول بينهم؛ لأنهم يتخيلونه قبيحا. وهذا أيضا لا يطابق الدعوى لما تقدم. "فائدة": اختلف في الحشوية فقيل بإسكان الشين؛ لأن منهم المجسمة، والجسم محشو، والمشهور أنه بفتحها نسبة إلى الحشا؛ لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته، فوجد كلامهم رديئا، فقال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي: جانبها, والجانب يسمى حشا ومنه الأحشاء لجوانب البطن. المسألة الثانية: يجوز أن يريد الله تعالى بكلامه خلاف ظاهره, إذا كان هناك قرينة يحصل بها البيان كآيات التشبيه ولا يجوز، أو يعني خلاف الظاهر من غير بيان؛ لأن اللفظ بالنسبة إلى ذلك المعنى المراد مهمل لعدم إشعاره به، والخلاف فيه مع المرجئة فإنهم يقولون: إنه تعالى لا يعاقب أحدا من المسلمين، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، قالوا: وأما الآيات والأخبار الدالة على العقاب فليس المراد ظاهرها, بل المراد بها التخويف, وفائدته الإحجام عن المعاصي، وأجاب المصنف بالمعارضة وهو أن فتح هذا الباب يرفع الوثوق عن أقوال الله تعالى وأقوال رسوله، إذ ما من خطاب إلا ويحتمل أن يراد به غير ظاهره, وأيضا فالإحجام إنما يكون عند العقاب، ولا عقاب, وهذه المسألة معرفتها تتوقف على معرفة مذهب المرجئة ومعرفة استدلالهم, وقد أشار إليه المصنف إشارة بعيدة، وتفصيله ما قلناه، وأما الأوامر والنواهي فلا خلاف فيها كما قال الأصفهاني في شرح المحصول ولم يذكر ابن الحاجب هذه ولا التي قبلها, والمرجئة -كما قال الجوهري- مشتقة من الإرجاء وهو التأخير, قال الله تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء: 36] أي: أخره فسموه بذلك؛ لأنهم لم يجعلوا الأعمال سببا لوقوع العذاب ولا لسقوطه, بل أرجوها أي: أخروها وأدحضوها. قال: "الثالثة: الخطاب إما أن يدل على الحكم بمنطوقه فيحمل على الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي ثم المجاز أو بمفهومه, وهو إما أن يلزم عن مفرد يتوقف عليه عقلا أو

شرعا، مثل: ارم وأعتق عبدك عني, ويسمى اقتضاء, أو مركب موافق وهو فحوى الخطاب كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب وجواز المباشرة إلى الصبح على جواز الصوم جنبا, أو مخالف كلزوم نفي الحكم عما عدا المذكور، ويسمى دليل الخطاب". أقول: المسألة الثالثة: في كيفية دلالة الخطاب على الحكم وتقديم بعض المدلولات على البعض، اعلم أن الدلالة قد تكون بالمنطوق، وقد تكون بالمفهوم. قال ابن الحاجب: المنطوق هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق كما سيأتي بيانه، الأول: أن يدل اللفظ بمنطوقه وهو المسمى بالدلالة اللفظية فيحمل أولا على الحقيقة الشرعية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث لبيان الشرعيات، فإن لم يكن له حقيقة شرعية أو كان ولم يمكن الحمل عليها على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده -عليه الصلاة والسلام- لأنه المتبادر إلى الفهم، فإن تعذر حمل على الحقيقة اللغوية. وهذا إذا كثر استعمال الشرعي والعرفي بحيث صار يسبق أحدهما دون اللغوي، فإن لم يكن فإنه مشترك لا يترجح إلا بقرينة قاله في المحصول, ولقائل أن يقول: من القواعد المشهورة عند الفقهاء أن ما ليس له ضابط في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، وهذا يقتضي تأخير معرف عن اللغة فهل هو مخالف لكلام الأصوليين أو ليسا متواردين على محل واحد؟ فيه نظر يحتاج إلى تأمل. وذكر الآمدي في تعارض الحقيقة الشرعية واللغوية مذاهب أحدها هذا, وصححه ابن الحاجب. والثاني: يكون مجملا. والثالث قاله الغزالي: إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي كقوله -عليه الصلاة والسلام: "إني إذًا أصوم" 1 فإنه إذا حمل على الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار, وإن ورد في النهي كان مجملا كنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن صوم يوم النحر، فإنه لو حمل على الشرعي دل على صحته لاستحالة النهي عما لا يتصور وقوعه، بخلاف ما إذا حمل على اللغوي. قال الآمدي: والمختار أنه إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات, وإن ورد في النهي حمل على اللغوي لما قلناه من أن حمله على الشرعي يستلزم صحة بيع الخمر ونحوه ولا قائل به، وما ذكراه من أن النهي يستلزم الصحة قد أنكراه بعد ذلك وضعفا من قاله. فإن تعذرت الحقائق الثلاث حمل على المعنى المجازي صونا للكلام عن الإعمال, ويكون الترتيب في مجازات هذه الحقائق كالترتيب المذكور في الحقائق. الثاني: أن يدل الخطاب على الحكم بالمفهوم وهو المسمى بالدلالة المعنوية والدلالة الالتزامية، فتارة يكون اللازم مستفادا من معاني الألفاظ المفردة، وذلك بأن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة، وتارة لا يكون مستفادا من التركيب وذلك بأن لا يكون شرطا للمعنى المطابق بل تابعا له، فاللازم عن المفرد قد يكون العقل يقتضيه كقوله: ارم, فإنه يستلزم الأمر بتحصيل القوس والمرمى لأن العقل يحيل

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ: "إني إذًا صائم" "2/ 25786".

الرمي بدونهما, وقد يكون هو الشرع كقوله: أعتق عبدك عني؛ فإنه يستلزم سؤال تمليكه حتى إذا أعتقه نبينا دخلوه في ملكه؛ لأن العتق شرعا لا يكون إلا في مملوك, وقد مثل في المحصول له بمثال فاسد فعدل عنه صاحب الحاصل والمصنف. وهذا القسم هو اللازم عن المفرد يسمى الاقتضاء أي: الخطاب يقتضيه, وأما اللازم عن المركب فهو قسمين أحدهما: أن يكون موافقا للمنطوق في الإيجاب والسلب، ويسمى فحوى الخطاب، أو معناه كما قال الجوهري. قال: وهو يمد ويقصر ويسمى أيضا تنبيه الخطاب ومفهوم الموافقة كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه يدل أيضا على تحريم الضرب من باب أولى, فتحريم الضرب استفدناه من التركيب؛ لأن مجرد التأفيف لا يدل على تحريم الضرب ولا على إباحته بخلاف مجرد الرمي, فإنه يتوقف على القوس. وكقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] إلى آخر الآية, فإنه يدل منطوقه على جواز المباشرة إلى الصبح، ويلزم منه صحة الصوم جنبا وهو ما بين الفجر إلى الغسل، إذ لو لم يكن كذلك لكان مقدار الغسل مستثنى من جواز المباشرة, ومثل المصنف بمثالين إشارة إلى معنيين, أحدهما: أن مفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم من المنطوق كالمثال الأول, وقد يكون مساويا كالمثال الثاني، خلافا لابن الحاجب في اشتراطه الأولوية. الثاني ما قال الإمام في المحصول: وهو أن اللازم قد يكون من مكملات المعنى المنطوق كما في المثال الأول، وقد لا يكون كالثاني، ثم قال: والتمثيل بالتأفيف مبني على أن تحريم الضرب ليس من باب القياس، وعلى هذا فتمثيل المصنف به مناقض لما صححه في كتاب القياس فافهمه، وقد جعل ابن الحاجب دلالة الاقتضاء وجواز المباشرة إلى الصبح من دلالة المنطوق، قال: ولكن منطوق غير صريح بل لازم اللفظ، وجعل المصنف ذلك من المفهوم كما تقدم ولم يجعله الآمدي من المنطوق ولا من المفهوم، بل قسيما لهما، وكلام الإمام هنا ليس فيه تصريح بشيء. القسم الثاني: أن يكون مخالفا للمنطوق، ويسمى دليل الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة، وذلك كمفهوم الصفة ومفهوم الشرط ومفهوم الغاية ومفهوم العدد, وقد ذكر المصنف جميع ذلك عقب هذه المسألة إلا الغاية, فإنه أخرها إلى التخصيص وأهمل التصريح هنا بأمور بعضها يأتي في كلامه, وبعضها أذكره إن شاء الله تعالى. قال: "الرابعة: تعليق الحكم بالاسم يدل على نفيه عن غيره, وإلا لما جاز القياس خلافا لأبي بكر الدقاق وبإحدى صفتي الذات مثل: "في سائمة الغنم الزكاة" يدل ما لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى، خلافا لأبي حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين والغزالي. لنا أنه المتبادر من قوله -عليه الصلاة والسلام: "مطل الغني ظلم" 1 ومن ونحو قولهم: الميت

_ 1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "4/ 85"، والهندي في كنز العمال رقم الحديث "1326"، والمنذري في الترغيب والترهيب "2/ 609".

اليهودي لا يبصر، وأن ظاهر التخصيص يستدعي فائدة وتخصيص الحكم فائدة, وغيرها منتفٍ بالأصل فتعين, وأن الترتيب يشعر بالعلية كما ستعرفه. والأصل ينفي علة أخرى فينتفي بانتفائها. قيل: لو دل لدل إما مطابقة أو التزاما, قلنا: دل التزاما لما ثبت أن الترتيب يدل على العلية، وانتفاء العلة يستلزم انتفاء مدلولها المساوي! قيل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] ليس كذلك قلنا: غير المدعي". أقول: شرع المصنف في ذكر مفاهيم المخالفة فبدأ بمفهوم اللقب, فنقول: تعليق الحكم أي: طلبا كان أو خبرا, بالاسم أي: وما في معناه كاللقب والكنية, لا يدل على نفيه عن غيره كقول القائل: زيد قائم فإنه لا يدل على نفي القيام عن زيد وهذا هو الصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما, ونقله إمام الحرمين في البرهان عن نص الشافعي، واحتج المصنف بأنه لو دل على نفيه عن غيره لانسد باب القياس, وبيانه أن تحريم الربا مثلا في القمح يدل على هذا التقدير على إباحته في كل ما عداه, مطعوما كان أو غيره, فلا يقاس الحمص عليه لأن القياس على خلاف الدليل باطل وهذا الدليل ضعيف لأمرين, أحدهما: أن المفهوم على تقدير كونه حجة يدل على الإباحة في كل ما عدا البر، والقياس إنما يدل على تحريم في الأفراد التي شاركت المنصوص عليه في العلة وهي المطعومات دون غيرها كالنحاس والرصاص, فغاية ما يلزم من الأخذ بالقياس أن يكون مخصصا للمفهوم، وتخصيص عموم المنطوق بالقياس جائز، كما سيأتي, فتخصيص عموم المفهوم به أولى. الثاني ما ذكره الآمدي: وهو أنه إنما يؤدي إلى إبطال القياس إن لو كان النص دالا عليه بمنطوقه وليس كذلك, بل إنما دل عليه بمفهومه والقياس راجح على هذا النوع من المفهوم، وغاية ذلك أنهما دليلان تعارضا لأن كلا منهما دل على عكس ما دل عليه الآخر كالحمص في مثالنا إباحة المفهوم وحرمة القياس وحكم المتعارضين تقديم الراجح منهما، وذهب أبو بكر الدقاق من الشافعية إلى أنه حجة وكذلك الحنابلة كما قاله في الأحكام، واحتجوا بأن التخصيص لا بد له من فائدة، وجوابه أن غرض الإخبار عنه دون غيره فائدة، ومر بي في بعض التعاليق أن الدقاق وقع له ذلك في مجلس النظر ببغداد فألزم الكفر, إذا قال: محمد رسول الله لنفي رسالة عيسى وغيره فوقف. وحكى ابن برهان في التعجيز قولا ثالثا أنه حجة في أسماء الأنواع كالغنم دون أسماء الأشخاص كزيد. قوله: "وبإحدى صفتي الذات" أي: وتعليق الحكم بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة كقوله -صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم الزكاة" 1 فإن الغنم اسم ذات ولها صفتان: السوم والعلف، وقد علق الوجوب على إحدى صفتيها وهو السوم, فيدل ذلك على عدم الوجوب في المعلوفة لكن الصحيح في المحصول وغيره أنه يفي جميع الأجناس نظرا إلى أن العلف مانع،

_ 1 أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4/ 115".

والسوم مقتضٍ. وقد وجد هذا كله إذا لم يظهر لتخصيص تلك الصفة بالذكر فائدة أخرى غير نفي الحكم عما عدا الوصف المذكور. فإن ظهرت له فائدة فلا يدل على النفي, فمن الفائدة أن يكون جوابا لمن سأل عن سائمة الغنم, فإن ذكر السوم والحالة هذه يكون للمطابقة, أو يكون السوم هو الغالب، فإن ذكره إنما هو لأجل غلبة حضوره في ذهنه هذا هو المعروف. ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي ثم خالفه وقال: إن الغلبة لا تدفع كونه حجة, وهذا الذي اختاره المصنف نقله الإمام والآمدي وأتباعهما عن الشافعي والأشعري وجماعة, وذهب أبو حنيفة والقاضي أبو بكر الباقلاني وابن شريح والغزالي إلى أنه ليس بحجة واختاره الآمدي والإمام فخر الدين في المحصول والمنتخب وقال في المعالم: المختار أنه يدل عرفا لا لغة، ولم يصحح ابن الحاجب شيئا. ونقل الإمام فخر الدين عن إمام الحرمين أنه ليس بحجة وتبعه المصنف عليه وهو غلط, فقد نص في البرهان على أنه حجة وجعله أقوى من مفهوم الشرط ومثل بالسائمة ومطل الغني كما مثل المصنف, قال: إلا أن تكون الصفة لا مناسبة فيها كقولنا: الأبيض يشبع إذا أكل, فإنه كاللقب في عدم الدلالة، ثم ذكر في آخر المسألة التي بعدها مثله أيضا، فقال: اعتبر الشافعي الصفة ولم يفصل, واستقر رأيه على إلحاق ما لا يناسب منها باللقب. لا جرم أن ابن الحاجب نقل عنه أنه يدل ولا يمكن حمل كلام المصنف في النقل عن إمام الحرمين على ما لا يناسب؛ لأنه نقل الخلاف عنه في مثل سائمة الغنم مع أنه مناسب. قوله: "لنا" أي: الدليل على أنه حجة ثلاثة أوجه, الأول: أن المتبادر إلى الفهم من قوله -صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" أن مطل الفقير ليس بظلم, وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت أيضا في اللغة؛ لأن الأصل عدم النقل لا سيما وقد صرح به في هذا الحديث أبو عبيدة وهو من أئمة اللغة المرجوع إليهم. وكذلك أيضا يتبادر إلى الفهم من قولهم: الميت اليهودي لا يبصر, أن غيره يبصر ولهذا يسخرون من هذا الكلام ويضحكون منه. الثاني: أن تخصيص الوصف بالذكر يستدعي فائدة لأن تخصيص آحاد البلغاء يستدعي ذلك الشارع أولى, وتخصيص الحكم به فائدة محققة، والأصل عدم غيرها من الفوائد، فإن الكلام فيما إذا لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى كما تقدم, فتعين ما قلناه وهو تخصيص الحكم، فإن قيل: لو صح هذا الدليل لكان مفهوم اللقب حجة لجريانه بعينه, قلنا: للقب فائدة أخرى وهي تصحيح الكلام؛ لأن الكلام بدون غير مفيد بخلاف الصفة. الثالث: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية أي: يكون الوصف علة لذلك الحكم كما ستعرفه في القياس فيكون السوم مثلا علة للوجوب، والأصل عدم علة أخرى، وحينئذ ينتفي الحكم بانتفاء تلك الصفة؛ لأن المعلول يزول بزوال علته. قوله: "قيل: لو دل لدل" أي: استدل الخصم بوجهين أحدهما: أن تعليق الحكم على صفة من الصفات لو دل على نفي الحكم عما عدا تلك الصفة لدل إما مطابقة أو تضمنا أو التزاما؛ لأن الدلالة منحصرة

في هذه الثلاثة لكنه لا يدل. أما المطابقة والتضمن فواضح لأن نفي الحكم عما عدا المذكور ليس هو عين إثبات الحكم في المذكور حتى يكون مطابقة لا جزأه حتى يكون تضمنا. وأما الالتزام فلأن شرطه سبق الذهن من المسمى إليه وقد يتصور السامع إيجاب الزكاة في السائمة مع غفلته عن المعلوفة وعن عموم وجوب زكاتها, وقد أهمل المصنف ذكر التضمن فقال: إما مطابقة أو التزاما ولقائل أن يجيب بأن الالتزام صادق عليه؛ لأن تصور الكل مستلزم لتصور جزئه كما أنه مستلزم لتصور لازمه، وأجاب المصنف بأنه يدل بالالتزام لما ثبت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، أي: بكونه علة, يستلزم انتفاء المعلول المساوي، والمراد بالمساوي أن لا يكون له علة أخرى غير هذه العلة، واحترز بذلك عما يكون له علة أخرى كالحرارة المعلولة للنار تارة وللشمس أخرى, إذ لو كان له علة أخرى لكان يثبت بالعلة الأولى، ويثبت بدونها فيكون أعم منها, والعلة أخص والأعم لا ينتفي بانتفاء الأخص, وحينئذ فلا يلزم انتفاء هذه العلة انتفاء المعلول لجواز ثبوته مع العلة الأخرى. الثاني: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فإنه لو كان كما قلنا لكان في الآية دليل على جواز القتل عند انتفاء خشية الإملاق وهو الفقر, وليس كذلك بل هو حرام, وجوابه أن هذا غير المدعى؛ لأن مدعانا أنه يدل حيث لا يظهر للتخصيص فائدة أخرى كما تقدم هنا له فائدتان, إحداهما: أنه الغالب من أحوالهم أو الدائم. والثاني: أنه يدل على المسكوت عنه بطريق الأولى. قال: "الخامسة: التخصيص بالشرط مثل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فينتفي المشروط بانتفائه قيل: تسمية إن حرف شرط اصطلاح قلنا: الأصل عدم النقل، قيل: يلزم ذلك لو لم يكن للشرط بدل قلنا: حينئذ يكون الشرط أحدهما وهو غير المدعى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ليس كذلك قلنا: لا نسلم بل انتفاء الحرمة لامتناع الإكراه. السادسة: التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد, والناقص". أقول: تعليق الحكم على الشيء بكلمة إن أو غيرها من الشروط اللغوية كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [الطلاق: 6] فيه أمور أربعة: ثبوت المشروط عند ثبوت الشرط, ودلالة إن عليه, وعدم المشروط عند عدم الشرط, ودلالة إن عليه؛ فالثلاثة الأول لا خلاف فيها, وأما الرابع وهو دلالة إن على العدم فهو محل الخلاف. والصحيح عند المصنف أنها عليه وهو الصحيح عند الإمام وأتباعه، وهو مقتضى اختيار ابن الحاجب ونقله ابن التلمساني عن الشافعي, ودليله أن النحاة قد نصوا على أنها للشرط ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط. وذهب القاضي أبو بكر وأكثر المعتزلة إلى أنها لا تدل عليه بل هو منفي بالأصل, واختاره الآمدي ونقله ابن التلمساني عن مالك وأبي حنيفة, واعترضوا على الدليل السابق بثلاثة أوجه أحدها: أن تسمية حرف شرط

إنما هو اصطلاح للنحاة كاصطلاحهم على النصب والرفع وغيرهما، وليس ذلك مدلولا لغويا فلا يلزم من انتفائه انتفاء الحكم وجوابه إنما نستدل باستعمالها الآن للشرط على أنها في اللغة كذلك؛ إذ لو لم تكن لكانت منقولة عن مدلولها، والأصل عدم النقل, وهذا الجواب ينفع في كثير من المباحث. الثاني: أنه شرط لغة لا نسلم أنه يلزم من انتفائه انتفاء المشروط فإنه يكون له بدل يقوم مقامه وإنما يلزم ذلك أن لو لم يكن له بدل, والجواب أنه إذا وجد ما يقوم مقامه لم يكن ذلك الشيء بعينه شرطا، بل الشرط أحدهما، وحينئذ فيتوقف انتفاؤه على انتفائهما معا؛ لأن مسمى أحدهما لا يزول على أنه شرط بعينه. الثالث: ولو كان المتعلق بأن ينتفي عند انتفاء ما دخلت عليه إن لكان قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] دليلا على أن الإكراه لا يحرم إذا لم يردن التحصن وليس كذلك بل هو حرام مطلقا قلنا: لا نسلم أنه ليس كذلك أي لا نسلم أن الحرمة غير منتفية عنه بل هو غير حرام, ولكنه غير جائز, فإن عدم حرمته لا يستلزم جوازه؛ لأن زوالها قد يكون لطرآن الحل وقد يكون لامتناع وجوده عقلا لأن السالبة تصدق بانتفاء المحمول تارة والموضوع أخرى، وههنا قد انتفى الموضوع لأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء, وإذا أردن البغاء امتنع إكراههن عليه؛ لأن الإكراه هو إلزام الشخص شيئا على خلاف مراده, وإذا كان ممتنعا فلا تتعلق به الحرمة؛ لأن المستحيل لا يجوز للتكليف به. المسألة السادسة: الحكم المتعلق بعدد لا يدل بمجرده على حكم الزائد والناقص عنه لا نفيا ولا إثباتا، ومنهم من قال: يدل ونقله الغزالي في المنحول عن الشافعي فقال في كتاب المفهوم ما نصه: وأما الشافعي فلم ير للتخصيص باللقب مفهوما ولكنه قال بمفهوم التخصيص بالصفة والزمان والمكان والعدد, وأمثلته لا تخفى, هذا لفظه ونص عليه في البرهان أيضا فقال: إن الشافعي والجمهور يقولون بهذه الأشياء وضم إلى ذلك أيضا مفهوم الحد يعني الغاية. قال في المحصول: وقد يدل عليه لدليل منفصل كما إذا كان العدد علة لعدم أمر فإنه يدل على امتناع ذلك الأمر في الزائد أيضا لوجود العلة, وعلى ثبوته في الناقص لانتفائها كقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" 1 وكذلك إن لم يكن علة، ولكن أحد العددين إما الزائد أو الناقص داخل في العدد المذكور على كل حال, كما إذا كان الحكم حظرا أو كراهة, فإنه يدل على ثبوته في الزائد, فإن تحريم جلد المائة مثلا أو كراهته يدل على ذلك في المائتين, ولا يدل على شيء في الناقص عن المائة فإن كان الحكم وجوبا أو ندبا أو إباحة فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم في الناقص ولا يدل في الزائد لا على نفيه ولا على إثباته. وهذه المسألة لم يذكر ابن الحاجب حكمها وقد ذكره الآمدي موافقا لما قاله الإمام والمصنف.

_ 1 رواه الدارقطني في سننه "1/ 21", "2/ 503".

قال: "السابعة: النص إما أن يستقل بإفادة الحكم أو لا, المقارن له إما نص آخر مثل دلالة قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] على أن تارك الأمر يستحق العقاب ودلالة قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر أو إجماع كالدال على أن الخالة بمثابة الخال في إرثها إذا دل نص عليه". أقول: قد تقدم أن الخطاب قد يدل على الحكم بمنطوقه, وقد يدل بمفهومه. قال الإمام: والكلام في هذه المسألة فيما إذا لم يدل بمنطوقه ولا مفهومه، وحاصله أن النص المستدل به على حكم قد يستقل بإفادة ذلك الحكم أي: لا يحتاج إلى أن يقارنه غيره كقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ونحوه وقد يحتاج إليه, والمقارن له قد يكون نصا وقد يكون إجماعا, فإن كان نصا فله صورتان إحداهما: أن يدل أحد النصين على إحدى المقدمتين والنص الآخر على المقدمة الأخرى, فيحصل المدعى منهما كدلالة قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية على أن تارك الأمر يستحق العقاب فإن الآية الأولى دالة على أنه يسمى عاصيا, والثانية دالة على استحقاق العاصي العقاب فينتج تارك الأمر يستحق العقاب. الصورة الثانية: أن يدل أحد النصين على ثبوت حكم لشيئين ويدل النص الآخر على أن بعض ذلك لأحدهما فوجب القطع بأن باقي الحكم ثابت. الثاني: كقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} فهذا يدل على أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا, وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الآية تدل على أن أكمل مدة الرضاع سنتان, فيلزم أن يكون أقل مدة الحمل ستة أشهر. وأما الإجماع فكما إذا دل نص على أن الخال يرث وأجمعوا على أن الخالة بمثابته فنستفيد إرثها من ذلك النص بواسطة الإجماع، وذكر الإمام في المحصول أن المقارن قد يكون أيضا قياسا كإثبات الربا في التفاح وقد يكون قرينة المتكلم كما إذا نطق الشارع بلفظ متردد بين حكم شرعي وعقلي, فإنا نحمله على الشرعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث لبيان الشرعيات مثال قوله: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 1 فنحمله على جماعة الصلاة لا على أقل الجمع "والله أعلم".

_ 1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "2/ 198" والخطيب البغدادي في تاريخه "8/ 415".

الباب الثاني: في الأوامر والنواهي

الباب الثاني: في الأوامر والنواهي الفصل الأول: في لفظ الأمر ... الجزء الثاني: بسم الله الرحمن الرحيم الباب الثاني: في لفظ والنواهي الفصل الأول: في لفظ الأمر الباب الثاني: في الأوامر والنواهي: وفيه فصول: "الأول: في لفظ الأمر وفيه مسألتان, الأولى: أنه حقيقة في القول الطالب للفعل واعتبرت المعتزلة العلو وأبو الحسين الاستعلاء ويفسدهما قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] فليس حقيقة في غيره دفعا للاشتراك، وقال بعض الفقهاء: إنه مشترك بينه وبين الفعل؛ لأنه يطلق عليه مثل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر: 50] {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] والأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا: المراد الشأن مجازا. البصري إذا قيل: أمر فلان ترددنا بين القول والفعل والشيء والصفة والشأن، وهو آية الاشتراك قلنا: لا بل يتبادر القول". أقول: الأمر والنهي وزنهما فعل والقياس في جمعه أفعل لا فواعل, سواء كان صحيحا أو متصلا بالواو أو بالياء. قالوا: كلب وأكلب ودلو وأدل وظبي وأظب، وأصله: أدلو وأظبي, فقلبوا الضمة كسرة والواو ياء فصار ذلك كقاضٍ وغازٍ، فالقياس هنا أمر ونهي, لكنهم قالوا: أوامر ونواهٍ. قال الجوهري: وأمرته بكذا أمرا, والجمع الأوامر هذا لفظه، وتخريجه من وجهين أحدهما: أن يكون الأمر قد جمع على قياسه وهو آمر على وزن أفعل, ثم جمع آمر على أوامر ككلب وأكلب وأكالب فعلى هذا وزنه أفاعل، وهذا لا يأتي في نواهٍ فإن النون فاء الكلمة فنجعله من باب المجانسة كقولهم: الغدايا والعشايا, فإن جمع العشية عليه مقيس كسرية وغزية، وأما الغدو فللمجانسة. الثاني: أنه يصدق على الصيغة أنها طالبة وآمرة وناهية كما سيأتي, فيكونان جمعا لها وهو مقيس كضاربة وضوارب ووزنها على هذا فواعل. واعلم أن الأمر والنهي يطلقان عند الأشاعرة على اللساني، وعلى النفساني أيضا وهو الطلب، وعبر الإمام عنه بالترجيح، واختلفوا: هل هو حقيقة فيهما أم لا؟ فنقل الإمام في المحصول والمنتخب في أول اللغات عن المحققين هنا أن الكلام بأنواعه مشترك بينهما, واقتصر عليه، وصحح هنا في الكتابين المذكورين أيضا أنه حقيقة في اللساني فقط، ورأي الأشعري الظاهر كما قال في البرهان أنه حقيقة في النفساني فقط، وقال في جواب المسائل البصرية: إنه حقيقة في اللساني أيضا، وكلام المصنف إنما هو تعريف اللساني، فإن النفساني هو نفس الطلب كما تقدم مبسوطا في آخر خطاب

المعدوم، ولأن أبا الحسين من المتكلمين في هذه المسألة كما سيأتي، وهو منكر لكلام النفس وهذان الأمران يدلان على أن الكلام عند المصنف حقيقة في اللساني فقط. وقوله: "في لفظ الأمر" أي: في لفظ ألف ميم راء لا في مدلولها, وهو أفعل، وفي نفس الطلب، وهذا اللفظ يطلق مجازا على الفعل والشأن وغيرهما مما سيأتي, وحقيقة على ما ذكره المصنف لتبادر الفهم إليه، فعلى هذا مسمى الأمر لفظ وهو صيغة أفعل، ومسمى صيغة أفعل هو الوجوب أو الندب أو غيرهما مما سيأتي. فقوله: القول يدخل فيه الأمر وغيره سواء كان بلغة العرب أم لا, وسواء كان نفسانيا أم لا كما صرح به الأصفهاني شارح المحصول قيل: الكلام على الحدود المربعة وهو أولى من اللفظ لأنه جنس بعيد لإطلاقه على المهمل, والمستعمل بخلاف القول؛ لأن الكلام أخص من القول أيضا لإطلاقه على المفرد والمركب، وبخلاف الكلام. فالصواب التعبير به؛ لأن لفظ الأمر وإن كان مفردا فمدلوله لفظ مركب مفيد فائدة خاصة, واستفدنا من التعبير بالقول أن الطلب بالإشارة والقرائن المفهمة لا يكون أمرا حقيقة. وقوله: "الطالب" احترز به عن الخبر وشبهه، وعن الأمر النفساني فإنه هو الطلب لا الطالب، وهذا التقرير هو الصواب فاعتمده, لكن الطالب حقيقة إنما هو المتكلم وإطلاقه على الصيغة مجازا من باب تسمية المسبب باسم سببه الفاعلي. وقوله: للفعل احترز به عن النهي, فإنه قول طالب للترك، ولقائل أن يقول: النهي قول طالب للفعل أيضا ولكن فعل الضد، وسيأتي في كلامه حيث قال: مقتضى النهي فعل الضد ولهذا قيده ابن الحاجب بقوله: طلب فعل غير كف؛ لأن الفعل المطلوب بالنهي هو الكف عن المنهي عنه, والكف فعل على الصحيح. وأيضا فيرد على الحد قول القائل: أنا طالب منك كذا, أو أوجبته عليك، وإن تركته عاقبتك، فإن الحد صادق عليه مع أنه خبر فلا بد أن يقول بالوضع أو بالذات كما ذكره في تقسيم الألفاظ، وقد زاد في المحصول قيدا آخر فقال قبل المسألة الثالثة: إن الحق في حده أن يقال: هو اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض لما سيأتي أن الأمر حقيقة في الوجوب, وتبعه عليه صاحب الحاصل وغيره، والصواب ما قاله المصنف؛ فإن الذي سيأتي أنه حقيقة في الوجوب إنما هو صيغة أفعل. وكلامنا الآن في لفظ الأمر فهما مسألتان وقد صرح بالفرق بينهما الآمدي وابن الحاجب، فأما ابن الحاجب فإنه صحح في أوائل الكتاب أن المندوب مأمور به ولم يحك الخلاف إلا عن الكرخي والرازي. ثم ذكر بعد ذلك في الأوامر أن الجمهور على أن صيغة أفعل حقيقة في الوجوب وهذا هو عين كلام المصنف, ولا يمكن أن يكون مراد ابن الحاجب بالكلام الأول الإطلاق المجازي, فإنه مما لا خلاف فيه كما نقله الآمدي هنا. وأما الآمدي فإنه نقل في أوائل الكتاب عن القاضي أنه مأمور به واقتضى كلامه ترجيحه، ونقل هنا عنه التوقف في صيغة أفعل وصححه فدل على المغايرة قطعا. قوله: "واعتبر المعتزلة" أي: شرطوا في

حد الأمر العلو دون الاستعلاء، وتابعهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي1، ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة وجمهور أهل العلم واختاره، والعلو هو أن يكون الطالب أعلى مرتبة, فإن كان مساويا فهو التماس, فإن كان دونه فهو سؤال, وشرط أبو الحسين الاستعلاء دون العلو, والاستعلاء هو الطلب لا على وجه التذلل بل بغلظة ورفع صوت وقد تقدم إيضاح هذا في تقسيم الألفاظ. وحاصله أن العلو هيئة في المتكلم، والاستعلاء هيئة في الكلام, واشتراط الاستعلاء صححه الآمدي في الأحكام ومنتهى السول2 ثم ابن الحاجب، وقال في المحصول قبيل المسألة الثالثة: إنه الصحيح وصححه أيضا في المنتخب وجزم به في المعالم, لكنه ذكر في المحصول أيضا بعد ذلك بأوراق في أوائل المسألة الخامسة ما حاصله: أن لا يشترط. واحتج أبو الحسين ومن تبعه بأن المتضرع لا يصدق عليه أنه آمر بخلاف المستعلي؛ ولهذا يذمونه لكونه يأمر من هو أعلى منه، ولقائل أن يقول: الذم لمجرد الاستعلاء, ثم إن الاستعلاء غير متحقق في أمر الله تعالى فماذا يقولون فيه؟ وشرط القاضي عبد الوهاب العلو والاستعلاء معا. والعلم أن أبا الحسين قد نص في المعتمد على أن الشرط هو انتفاء التدليل وهو غير ما في الكتاب. وقوله: "ويفسدهما" أي: يفسد اشتراط العلو والاستعلاء قوله تعالى حكاية عن فرعون لقومه: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} فأطلق الأمر على ما يقولونه عند المشاورة ومن المعلوم انتفاء العلو والاستعلاء. أما العلو فواضح، وأما الاستعلاء فلوقوعه في حال المشاورة ولاعتقادهم الإلهية في فرعون. ولك أن تقول: هذا يدل على أن الأمر في تلك اللغة لا يشترط فيه علو ولا استعلاء. أما في لغة العرب فلا وقد قدم المصنف في تقسيم الألفاظ ما يناقض هذا حيث قال: ومع الاستعلاء أمر, فإن التقسيم في الموضعين في مدلولات الألفاظ من جهة اللغة وقد تقدم التنبيه عليه. وقوله: "فليس حقيقة في غيره" لما ثبت أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص ذكر المصنف أنه لا يكون حقيقة في غيره أيضا، إذ لو كان لكان مشتركا، والأصل عدمه, وقال بعض الفقهاء: إنه مشترك بين القول المخصوص والفعل، ونقل الأصفهاني شارح المحصول عن ابن برهان أنه قول كافة العلماء، ودليل هذا المذهب أنه يطلق عليه كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} {القمر: 50] أي: فعلنا؛ لأن الأمر القولي مختلف صيغة ومدلولا, ولقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي: فعله، والأصل في الإطلاق

_ 1 الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي, أبو إسحاق، العلّامة المناظر، بنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية على شاطئ دجلة، فكان يدرس فيها ويديرها، ومن كتبه: المهذب والتبصرة وطبقات الفقهاء واللمع وغيرها، توفي سنة "476هـ"، "الأعلام: 1/ 51". 2 منتهى السول في الأصول، لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الآمدي المذكور في الأبكار, المتوفى سنة 631هـ "كشف الظنون 1857" وهو المقصود هنا ويوجد منتهى السول لابن الحاجب.

الحقيقة، وجوابه أن المراد بالأمر هنا هو الشأن مجازا وهو أولى من الاشتراك، ووجه المجاز أن الشأن أعم من القول والفعل، فالتعبير عنه بالقول من باب إطلاق اسم الخاص وإرادة العام، وقال أبو الحسين البصري: إنه مشترك بين خمسة أشياء, أحدها: القول المخصوص لما قلنا. الثاني: الشيء كقولنا: تحرك هذا الجسم لأمر, أي لشيء. الثالث: وقد أبدله الإمام في بعض المواضع بالعرض ودليله قول الشاعر: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود أي: لصفة عظيمة من الصفات. الرابع: الشأن كقولنا: أمر فلان مستقيم أي: شأنه. الخامس: الفعل وقد تقدم تمثيله، فإذا تجرد عن القرائن كقول القائل: أمر فلان أو هذا أمر ترددنا بين هذه الخمسة، والتردد آية الاشتراك أي: علامته, وجوابه أنا لا نسلم حصول التردد بل يتبادر القول، وههنا تنبيهان: أحدهما: أن ما نقله المصنف عن أبي الحسين من كون الأمر موضوعا للفعل بخصوصه حتى يكون مشتركا, غلط في المنتخب والتحصيل وبعض كتب القرافي, فقد نص أبو الحسين في المعتمد وشرح العمد على أنه ليس موضوعا له، وإنما يدخل في الشأن، فقال مجيبا عن احتجاج الخصم ما نصه: وجوابنا عن هذا أن اسم الأمر ليس يقع على الفعل من حيث هو فعل لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز، وإنما يقع على جملة الشأن حقيقة، هذا لفظه وممن نقله عنه الأصفهاني شارح المحصول ووقع في المحصول والحاصل على الصواب, فإنهما حذفا القول. الثاني: أن أبا الحسين في شرح العمد قد جعل الطريق والشأن شيئا واحدا كما نقله عنه الأصفهاني المذكور؛ فلذلك لم يذكره المصنف اكتفاء بدخوله في الشأن، وقد غاير بينهما صاحب التحصيل والقرافي لإبهام في كلام الإمام. قال: "الثانية: الطب بديهي التصور، وهو غير العبارات المختلفة والإرادة خلافا للمعتزلة. لنا أن الإيمان من الكافر مطلوب وليس بمراد لما عرفت، وأن الممهد لعذره في ضرب عبده يأمره ولا يريد, واعترف أبو علي وابنه بالتغاير، وشرطا الإرادة في الدلالة ليتميز عن التهديد، قلنا: كونه مجازا كافٍ". أقول: شرع في الفرق بين الطلب والإرادة والصيغة لتعلق الأمر بها، ولأن الطلب مشتبه بالباقين، وقد وقع في حد الأمر حيث قال: هو القول الطالب للفعل، فلذلك ذكر الثلاثة, فأما الطلب فإن تصوره بديهي أي: لا يحتاج في معرفته إلى تعريف بحد أو رسم كالجوع والعطش وسائر الوجدانيات, فإن من لم يمارس العلوم ولم يعرف الحدود والرسوم يأمر وينهى ويدرك تفرقة ضرورية بينهما، ولك أن تقول: التفرقة البديهية لا تتوقف على العلم البديهي بحقيقة كل واحد منهما، بل على العلم البديهي بهما من وجه بدليل أنا نفرق بالبديهة بين الإنسان والملائكة. وقوله: "وهو" أي: الطلب غير العبارات وغير الإرادة, أما مغايرته للعبارات فلأن الطلب معناه واحد لا يختلف باختلاف الأمم، والعبارات مختلفة باختلاف اللغات، وأشار المصنف

بقوله: المختلفة إلى هذا وليس لإخراج شيء، ولو قال: لاختلافهما لكان أصرح، وأما مغايرته للإرادة فقد خالف فيه المعتزلة، وقالوا: إنه هو. و"الحاصل" أن الأمر اللساني دال على الطلب بالاتفاق, لكن الطلب عندنا غير الإرادة وعندهم عينها, أي: لا معنى لكونه طالبا إلا كونه مريدا، والتزموا أن الله تعالى يريد الشيء ولا يقع، ويقع وهو لا يريده. قوله: "لنا" أي: الدليل على أن الطلب غير الإرادة من وجهين: أحدهما: أن الإيمان من الكافر الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن كأبي لهب, مطلوب بالاتفاق، مع أنه ليس بمراد الله تعالى؛ لأن الإيمان والحالة هذه ممتنع إذ لو آمن لانقلب علم الله تعالى جهلا, وإذا كان ممتنعا فلا تصح إرادته بالاتفاق منا ومنهم كما قال في المحصول1. قال: ولأن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد الجائزين على الآخر, وقد أشار المصنف إلى هذا الدليل بقوله: لما عرفت ولم يتقدم له في المنهاج ذكر، وقد قرره كثير من الشراح على غير هذا الوجه، فإنهم استدلوا على عدم إرادته بعدم وقوعه، وهذا مصادرة على المطلوب كما تقدم. الثاني: أن السلطان إذا أنكر على السيد ضرب عبده فاعتذر إليه بأنه يأمره فلا يمتثل، ثم يأمره بين يديه إظهارًا لتمرده فإن هذا الأمر لا إرادة معه؛ لأن العاقل لا يريد تكذيب نفسه، ولقائل أن يقول: العاقل أيضا لا يطلب تكذيب نفسه، فلو كان هذا الدليل صحيحا لكان الأمر ينفك عن الطلب، وليس كذلك عند المصنف, فالموجود من السيد إنما هو صيغة الأمر لا حقيقة الأمر, واستدل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع بأن الدَّيْن الحالّ مأمور بقضائه ولو حلف ليقضينه غدا إن شاء الله تعالى فإنه لا يحنث، فدل على أن الله تعالى ما شاءه فثبت الأمر بدون المشيئة. وقوله: "واعترف أبو علي وابنه" أي: أبو هاشم بأن الطلب غير الإرادة ولكن شرطا في دلالة الصيغة على الطلب إرادة المأمور به فلا يوجد الأمر الذي هو الطلب إلا ومعه الإرادة، وتابعهما أبو الحسين والقاضي عبد الجبار. قال ابن برهان: لنا ثلاث إرادات: إرادة إيجاد الصيغة وهي شرط اتفاقا، وإرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر إلى جهة الأمر شرطها المتكلمون دون الفقهاء، وإرادة الامتثال وهي محل النزاع بيننا وبين أبي علي وابنه وقد ذكر هذه الثلاث أيضا الإمام والغزالي وغيرهما، واحتج أبو علي ومن تبعه على اشتراط الإرادة بأن الصيغة كما ترد للطلب فقد ترد للتهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] مع أن التهديد ليس فيه طلب فلا بد من مميز بينهما ولا مميز سوى الإرادة، والجواب أن الصيغة لو كانت مشتركة لاحتيج إلى مميز لكنها حقيقة في الوجوب، مجاز في التهديد فإذا أوردت فيجب الحمل على المعنى الحقيقي عند عدم القرينة الصارفة إلى غيره؛ لأن دلالة الألفاظ على المعاني تابعة الموضع فحيث ثبت الوضع ثبتت الدلالة كسائر الألفاظ، فهذا القدر وهو كونه حقيقة في الإيجاب, مجازا في التهديد كافٍ في التمييز. قال:

_ 1 انظر المحصول، ص205، جـ1.

الفصل الثاني: في صيغته

الفصل الثاني: في صيغته "الفصل الثاني: في صيغته وفيه مسائل؛ الأولى: أن صيغة افعل ترد لستة عشر معنى, الأول: الإيجاب مثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] الثاني: الندب {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ومنه التأديب: " كل مما يليك" الثالث: الإرشاد: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] الرابع: الإباحة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] الخامس: التهديد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ومنه الإنذار {قُلْ تَمَتَّعُوا} [إبراهيم: 30] السادس: الامتنان {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 88] السابع: الإكرام {ادْخُلُوهَا} [الحجر: 46] الثامن: التسخير {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] التاسع: التعجيز {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [يونس: 38] العاشر: الإهانة {ذُقْ} [الدخان: 49] الحادي عشر: التسوية {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] الثاني عشر: الدعاء "اللهم اغفر لي" الثالث عشر: التمني: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... ............................. الرابع عشر: الاحتقار {بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66] الخامس عشر: التكوين {كُنْ فَيَكُونُ} [ياسين: 82] السادس عشر: الخبر "فاصنع ما شئت" وعكسه {الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأةُ المرأةَ" "1. أقول: لما تقدم أن الأمر هو القول الطالب للفعل, شرع في ذكر صيغته وهي افعل ويقوم مقامها اسم الفعل, والمضارع المقرون باللام والضمير في صيغته إما عائد إلى الأمر أو إلى القول الطالب وهو الأقرب. وهذه الصيغة ترد لستة عشر معنى يمتاز بعضها عن بعض بالقرائن, وقال في المحصول: لخمسة عشر، وجعل السادس عشر مسألة مستقلة, وسيأتي أن إطلاقها على ما عدا الإيجاب من هذه المعاني مجاز, والمجاز لا بد فيه من علاقة وسنذكر ذلك محررا في موضعه فاعتمده فإن بعض شراح المحصول قد تعرض لذلك فغلط في كثير منه غلطا إلا يظهر بالتأمل، الأول: الإيجاب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} [البقرة: 110] والثاني: الندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} "ومنه" أي: ومن الندب "التأديب" كقوله -عليه الصلاة والسلام: "كل مما يليك" 2 فإن الأدب مندوب إليه وعبارة المحصول يقرب منه، وإنما نص على أنه منه؛ لأن الإمام قد نقل عن بعضهم أنه جعله قسما آخر, والفرق بينهما هو الفرق ما بين العام والخاص؛ لأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق والمندوب أعم, وقد نص الشافعي -رضي الله عنه- على أن الأكل مما لا يليه حرام. ذكر ذلك في الربع الأخير من كتاب الأم في باب صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعد باب من أبواب الصوم, وقيل: باب من أبواب إبطال الاستحسان، فقال ما نصه: فإن أكل مما لا يليه، ومن رأس الطعام، أو عرس على قارعة الطريق، أي: برك ليلا أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما بما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أخرجه الهندي في كنز العمال، حديث رقم "44680" والدارقطني في سننه "3/ 228". 2 أخرجه البخاري في صحيحه "7/ 88", والهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 23"، والهندي في كنز العمال، حديث رقم "41698".

وهذا لفظ الشافعي بحروفه ومن الأم نقلته, ونص في البويطي في الباب المذكور على نحوه أيضا، وكذلك في الرسالة قبيل باب أصل العلم. الثالث: الإرشاد كقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} والفرق بين الندب والإرشاد على ما قاله في المحصول تبعا للمستصفى أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة, والإشارد لمنافع الدنيا إذ ليس في الإشهاد على البيع ولا في تركه ثواب, والعلاقة التي بين الواجب وبين المندوب والإرشاد هي المشابهة المعنوية لاشتراكها في الطلب. الرابع: الإباحة كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ} هكذا قرره وفيه نظر، فإن الأكل والشرب واجبان لإحياء النفس, والصواب حمل كلام المصنف على إرادة قوله تعالى: {كلوا من الطيبات} ثم إنه يجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر حتى تكون قرينة لحمله على الإباحة كما وقع العلم به هنا والعلاقة هي الإذن, وهي مشابهة معنوية أيضا. الخامس: التهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] "ومنه" أي: ومن التهديد "الإنذار" كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وعبارة المحصول ويقرب منه, وإنما نص عليه لأن جماعة جعلوه قسما آخر, والفرق بينهما ما قاله الجوهري في الصحاح, فإنه ذكر في باب الدال أن التهديد هو التخويف، ثم ذكر في باب الراء أن الإنذار هو الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف, هذا كلامه، فقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} أمر بإبلاغ هذا الكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر وهو {تَمَتَّعُوا} فيكون أمرا بالإنذار. وقد فرق الشارحون بفروق أخرى لا أصل لها فاجتنبها، والعلاقة التي بينه وبين الإيجاب هي المضادة؛ لأن المهدد عليه إما حرام أو مكروه. السادس: الامتنان كقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة هي الإذن المجرد والامتنان أن يقترن به ذكر احتياجنا إليه، أو عدم قدرتنا عليه ونحوه, كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه، وفرق بعضهم بأن الإباحة تكون في الشيء الذي سيوجد بخلاف الامتنان والعلاقة هي مشابهة الإيجاب في الإذن؛ لأن الامتنان إنما يكون في مأذون فيه. السابع: الإكرام كقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} فإن قرينة قوله: {بِسَلامٍ آمِنِينَ} يدل عليه والعلاقة هي المشابهة في الإذن أيضا. الثامن: التسخير كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} والفرق بينه وبين التكوين الآتي أن التكوين سرعة الوجود عن العدم وليس فيه انتقال من حالة إلى حالة, والتسخير هو الانتقال إلى حالة ممتهنة إذ التسخير لغة هو الذلة والامتهان في العمل, ومنه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] أي: ذلله لنا لنركبه وقولهم: فلان سخره السلطان، والبارئ تعالى خاطبهم بذلك في معرض التذليل، والعلاقة فيه وفي التكوين هي المشابهة المعنوية، وهي التحتم في وقوع هذين، وفي فعل الواجب. وقد يقال: العلاقة فيهما هو الطلب

والتعبير بالتسخير صرح به القفال في كتاب الإشارة ثم الغزالي في المستصفى ثم الإمام وأتباعه. وادعى بعض الشارحين أن الصواب السخرية وهي الاستهزاء, ومنه قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] هذا عجيب, فإن فيه ذهولا عن المدلول السابق الذي ذكرته وتغليظا لهؤلاء الأئمة، وتكرارا لما يأتي, فإن الاستهزاء لا يخرج عن الإهانة أو الاحتقار وكلاهما سيأتي، والتاسع: التعجيز كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} والعلاقة بينه وبين الإيجاب هي المضادة؛ لأن التعجيز إنما هي من الممتنعات، والإيجاب في الممكنات. العاشر: الإهانة كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} والعلاقة فيه وفي الاحتقار هو المضادة؛ لأن الإيجاب على العباد تشريف لهم لما فيه من تأهيلهم لخدمته, إذ كل أحد لا يصلح لخدمة الملك ولما فيه من رفع درجاتهم, قال صلى الله عليه وسلم: "وما تقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضته". الحادي عشر: التسوية بين الشيئين كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} وعلاقته هي المضادة أيضا؛ لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة لوجوب الفعل. الثاني عشر: الدعاء كقول القائل: اللهم اغفر لي, والعلاقة فيه وفيما بعده ما عدا الأخير هو الطلب, وقد تقدم لبعضها علاقة أخرى. الثالث عشر: التمني كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح, وما الإصباح منك بأمثل وإنما جعل المصنف هذا الشاعر متمنيا ولم يجعله مترجيا؛ لأن الترجي يكون في الممكنات، والتمني في المستحيلات, وليل المحب لطوله كأنه مستحيل الانجلاء؛ ولهذا قال الشاعر: وليل المحب بلا آخر فلذلك جعله متمنيا. الرابع عشر: الاحتقار كقوله تعالى حكاية عن موسى يخاطب السحرة: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} يعني: أن السحر في مقابلة المعجزة حقير, والفرق بينه وبين الإهانة أن الإهانة إنما تكون بقول أو فعل, أو ترك قول أو ترك فعل, كترك إجابته, والقيام له عند سبق عادته, ولا يكون بمجرد الاعتقاد, فإن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه لا يقال: إنه احتقره ولا يقال: إنه أهانه, والحاصل أن الإهانة هي الإنكار كقوله تعالى: {ذُقْ} والاحتقار عدم المبالاة كقوله: بل ألقوا. الخامس عشر: التكوين كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} . السادس عشر: الخبر كقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1 أي صنعت ما شئت. وقيل: المعنى إذا لم تستح من شيء لكونه جائزا فاصنعه, إذ الحرام يستحيا منه بخلاف الجائز. قوله: "وعكسه" أي: إن الخبر قد يستعمل لإرادة الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي: ليرضعن قال في المحصول: والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر والخبر يدلان على وجود الفعل، وأراد أن بين المعنيين مشابهة في المعنى وهي المدلولية فلهذا يجوز إطلاق اسم أحدهما على الآخر، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ولا تنكح المرأة المرأة"

_ 1 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه "12/ 136", والطبراني في المعجم الكبير "17/ 236".

يعني أن الخبر قد يقع موقع النهي أيضا, كما يقع موقع الأمر كقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة المرأة, ولا المرأة نفسها" فإن المراد منه النهي وصيغته صيغة الخبر لوروده مضموم الحاء, إذ لو كان نهيا لكان مجزوما مكسورا على أصل التقاء الساكنين. وأهمل المصنف عكس هذا القسم تبعا لصاحب الحاصل وقد ذكره الإمام ومثل له, لكن بمثال فيه نظر. قال: ووجه المجاز أن النهي وهذا الخبر النافي يدلان على عدم الفعل. قال: "الثانية: أنه حقيقة في الوجوب مجاز في الباقي، وقال أبو هاشم: إنه للندب وقيل: للإباحة وقيل: مشترك بين الوجوب والندب وقيل: للقدر المشترك بينهما وقيل: لأحدهما ولا نعرفه وهو قول الحجة، وقيل: مشترك بين الثلاثة، وقيل: بين الخمسة". أقول: اتفقوا على أن صيغة افعل ليست حقيقة في جميع المعاني المتقدمة؛ لأن التسوية مثلا ونحوها إنما استفدناها من القرائن لا من الصيغة. قال في المحصول: وإنما وقع الخلاف في الأحكام الخمسة التي هي: الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والتحريم، ووجه دلالة افعل على الكراهة والتحريم أنها تستعمل في التهديد كما تقدم، والتهديد يستدعي ترك الفعل فيكون إما حراما أو مكروها, لكن دعوى الإمام حصر الاختلاف في الخمسة ممنوعة لما سيأتي في آخر المسألة, والخلاف الناشئ من هذه الخمسة كبير. وحكى المصنف منه ثمانية مذاهب تبعا للإمام، الأول: أنه حقيقة في الوجوب فقط, وصححه المصنف وابن الحاجب ونقله في المحصول عن أكثر الفقهاء والمتكلمين. وفي شرح اللمع للشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه الذي أملاه الأشعري على أصحاب أبي إسحاق الإسفرائيني ببغداد. ولكن هل يدل على الوجوب بوضع اللغة أم بالشرع؟ فيه مذهبان محكيان في شرح اللمع المذكور, والأول هو كونه بالوضع نقله في البرهان عن الشافعي. ثم اختار هو أنه بالشرع، وفي المستوعب قول ثالث أنه بالعقل، ولقائل أن يقول: قد جزم الإمام في المحصول والمنتخب في أثناء الاشتراك بأن الماضي مشترك بين الخبر والدعاء نحو: غفر الله لزيد، فلم يجعل الماضي حقيقة في الدعاء ولم يجعل الأمر حقيقة. الثاني: أنه حقيقة في الندب ونقله الغزالي في المستصفى والآمدي في كتابيه قولا للشافعي. ونقله المصنف عن أبي هاشم وليس مخالفا لما نقله عنه صاحب المعتمد كما ظنه بعض الشارحين فافهمه. الثالث: أنه حقيقة في الإباحة؛ لأن الجواز محقق والأصل عدم الطلب. الرابع: أنه مشترك بين الوجوب والندب وجزم به الإمام في المنتخب وكذلك صاحب التحصيل, كلاهما في أثناء الاشتراك. وهذا المذهب نقله الآمدي في منتهى السول عن الشيعة, ونقل في الأحكام عنهم أنه مشترك بينهما وبين الإرشاد. الخامس: أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب, وفي المستوعب للقيرواني والمستصفى للغزالي أن الشافعي نص على أن الأمر متردد بين الوجوب والندب, وهذا محتمل لهذا المذهب ولما قبله. السادس: أنه حقيقة في أحدها أي الوجوب أو الندب، ولكن لا يعرف هل هو حقيقة في الوجوب, مجاز في الندب

أو بالعكس؟ ونقله المصنف عن حجة الإسلام الغزالي تبعا لصاحب الحاصل، وليس كذلك فإن الغزالي نقل في المستصفى عن قوم أنه حقيقة في الوجوب فقط، وعن قوم أنه حقيقة في الندب فقط, وعن قوم أنه مشترك بينهما، قال: كلفظ العين، ثم نقل عن قوم التوقف بين هذه المذاهب الثلاثة, قال: وهو المختار، ونقله في المحصول عنه على الصواب. وقال في المنخول: وظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه. هذا لفظه وهو مخالف لكلامه في المستصفى. السابع: أنه مشترك بين الثلاثة وهي: الوجوب والندب والإباحة, وقيل: إنه مشترك بينهما ولكن بالاشتراك المعنوي، وهو الإذن، حكاه ابن الحاجب. الثامن: أنه مشترك بين الخمسة وهذا محتمل لأمرين أحدهما: أن يكون مراده الخمسة المذكورة في كلامه أولا للقرينة إرادته في المذهب الذي قبله وهو الاشتراك بين الثلاثة؛ لأنه صرح به في بعض النسخ فقال: بين الخمسة الأول، فإن أراده فهو صحيح صرح به المعالمي والغزالي في المستصفى، قال ما نصه: فالوجوب والندب والإرشاد والإباحة والتهديد خمسة وجوه محصلة. ثم قال: فقال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة كلفظ العين والقرء، هذا لفظه وترتيبه وهو ترتيب المصنف بعينه. والثاني: أن يكون مراده الأحكام الخمسة وهي عبارة الحاصل يعني الخمسة المعهودة وهي: الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم، وقد تقدم أن دلالتها على الكراهة والتحريم لكونها تستعمل في التهديد, والتهديد يستدعي ترك الفعل المنقسم إلى الحرام والمكروه، فإن أراد هذه الخمسة فهو صحيح أيضا صرح به الإمام في المحصول وذكره الآمدي في الأحكام بالمعنى ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشيخ أبي الحسن الأشعري فقال: ذهب الشيخ إلى التردد بين هذه الأمور، فقال قائلون: لكونه مشتركا، وقائلون: لكونه موضوعا لواحد منها ولا ندريه، هذا معنى كلامه ونقل ابن برهان في الوجيز عن الأشعري أنه مشترك بين الطلب والتهديد والتعجيز والإباحة والتكوين، وقد استفدنا من كلام المعالمي والغزالي أنه حقيقة في الإرشاد، وحكاه في الأحكام أيضا، واستفدنا من كلام ابن برهان أنه حقيقة في التعجيز والتكوين أيضا. والإمام نفى الخلاف عن ذلك كله كما تقدم, وذهب الأبهري في أحد أقواله على ما حكاه في المستوعب إلى أن أمر الله تعالى للوجوب، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- للندب. وصحح الآمدي التوقف لكن بين الوجوب والندب والإرشاد كما صرح به في الأحكام لاشتمال الثلاثة على طلب الفعل ونفي ما عداها, وقد نقلت عن الشيعة مذاهب أخرى غير ما تقدم وكذلك عن الأشعري لكن اتفق جمهورهم على أن مذهبه التوقف بين أمور، ويعبر عنه أيضا بأن الأمر ليست له صيغة تخصه. وقال في البرهان: والمتكلمون من أصحابنا مجمعون على اتباعه في الوقت ولم يساعد الشافعي على الوجوب إلى الإسناد. قال: "لنا وجوه, الأول: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ثم على ترك المأمور فيكون واجبا.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] قيل: ذم على التكذيب قلنا: الظاهر أنه للترك والويل للتكذيب قيل: لعل هناك قرينة أوجبت قلنا: رتب الذم على ترك مجرد افعل. الثالث: أن تارك الأمر مخالف له كما أن الآتي به موافق والمخالف على صدد العذاب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قبل الموافقة اعتقاد حقيقة الأمر, فالمخالفة اعتقاد فساده. قلنا: ذلك لدليل الأمر لا له. قيل: الفاعل ضمير والذين مفعول، قلنا: الإضمار خلاف الأصل, ومع هذا فلا بد له من مرجع قيل: الذين ينسلون قلنا: هم المخالفون, فيكف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم؟ وإن سلم فيضيع. قوله تعالى: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قيل: فليحذر لا يوجب قلنا: يحسن وهو دليل مقام المقتضى، قيل: عن أمره لا يعم قلنا: عام لجواز الاستثناء. الرابع: أن تارك الأمر عاصٍ لقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] والعاصي يستحق النار لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] قيل: لو كان العصيان ترك الأمر لتكرر في قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] قلنا: الأول ماض أو حال، والثاني: مستقبل قيل: المراد الكفار لقرينة الخلود قلنا: الخلود المكث الطويل. الخامس: أنه عليه الصلاة والسلام احتج لذم أبي سعيد الخدري على ترك استجابته وهو يصلي بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ". أقول: استدل المصنف على أن صيغة افعل حقيقة في الوجوب بخمسة أوجه, الأول: أن الله سبحانه وتعالى ذم إبليس على مخالفته قوله: {اسْجُدُوا} فقال: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} لأن هذا الاستفهام ليس على حقيقته, فإنه تعالى عالم بالمانع فتعين أن يكون للتوبيخ والذم وإذا ثبت الذم على ترك المأمور ثبت أن الأمر للوجوب, إذ لو لم يكن لكان لإبليس أن يقول: إنك ما ألزمتني ففيم الذم؟ وأيضا لو لم يكن لم يذم عليه؛ لأن غير الواجب لا يذم تاركه. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] أي: صلوا وتقريره كما قبله اعترض الخصم بأمرين أحدهما: لا نسلم أن الذم على ترك المأمور بل على تكذيب الرسل في التبليغ بدليل قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 19] قلنا: الظاهر أن الذم على الترك؛ لأنه مرتب عليه والترتيب مشعر بالعلية، والويل على التكذيب لما قلناه, وأيضا فلتكثير الفائدة في كلام الله تعالى وحينئذ فإن صدور الترك والتكذيب من طائفتين عذبت كل منهما على ما فعلته، وإن صدرا من طائفة واحدة عذبت عليهما معا، فإن الكافر عندنا يعاقب على الفروع كالأصول. الثاني: سلمنا أن الذم على الترك, لكن الصيغة تفيد الوجوب إجماعا عند انضمام قرينة إليها، فلعل الأمر بالركوع قد اقترن به ما يقتضي إيحاءه، وجوابه أن الله تعالى رتب الذم على مجرد افعل فدل على أنه منشأ الذم لا القرينة. الدليل الثالث: تارك الأمر أي: المأمور به مخالف لذلك الأمر؛ لأن الآتي بالمأمور به موافق له، والمخالف ضد الموافق فإذا ثبت

أن الآتي موافق ثبت أن التارك مخالف، والمخالف ضد الموافق فإذا ثبت أن الآتي موافق ثبت أن التارك مخالف، والمخالف للأمر على صدد العذاب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أمر الله مخالف أمره بالحذر عن العذاب بقوله: {فَلْيَحْذَرِ} والأمر بالحذر عنه إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزوله وإذا ثبت المقدمتان ثبت أن تارك الأمر على صدد العذاب ولا معنى للوجوب إلا هذا. واعترض الخصم بأربعة أوجه مرتبة بالترتيب الجدلي, أحدها وهو اعتراض عن المقدمة الأولى: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه حتى ينتج ما قلتم, بل الموافقة عبارة عن اعتقاد حقية الأمر أي: كونه حقا صدقا واجبا قبوله, وعلى هذا فالمخالفة عبارة عن اعتقاد بطلانه وكذبه, لا ترك الأمر قلنا: فرق بين الأمر وبين الدليل الدال على أن ذلك الأمر حق وهو المعجزة الدالة على صدق الرسول, فاعتقاد حقية الأمر موافقة الدليل الدال على أن ذلك الأمر حق يجب قبوله له موافقة الأمر, فإن موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه, فإن دل على كون الشيء صدقا لدليل الأمر, فموافقته الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه, فإن دل على كون الشيء صدقا لدليل الأمر فموافقته هي اعتقاد الحقية وإن دل على إيقاع الفعل كالأمر فموافقته هي الإتيان بذلك الفعل. الثاني وهو اعتراض على المقدمة الثانية: لا نسلم أن الآية تدل على أنه تعالى أمر المخالفين بالحذر بل على أنه تعالى أمر بالحذر عن المخالفين فيكون فاعل قوله: {فَلْيَحْذَرِ} ضميرا و {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ} مفعولا به وجوابه وجهين, أحدهما ولم يذكره في المحصول: أن الإضمار على خلاف الأصل. الثاني: أنه لا بد للضمير من اسم ظاهر يرجع إليه وهو مفقود هنا, فإن قيل: يعود على الذين يتسللون قلنا: الذين يتسللون هم المخالفون لأن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد واستماع الخطبة, وكانوا يلوذون بمن يستأذن للخروج فإذا أذن له انسلوا معه, فنزلت هذه الآية وقيل: نزلت في المتسللين عن حفر الخندق, وإذا كنا سلمنا هذا لكن يلزم منه أن يصير التقدير: فليحذر الذين يتسللون منكم لو إذا الذين يخالفون وحينئذ يكون لفظ الحذر قد استوفى فاعله ومفعوله وليس هو مما يتعدى إلى مفعولين, فيصير قوله تعالى: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] ضائعا ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده, فإن قيل: يكون مفعولا لأجله, فإن الحذر لأجل إصابة ذلك قلنا: أجاب بعضهم بأنه لو كان كذلك لوجب الإتيان باللام؛ لأنه غير متحد به في الفاعل؛ لأن الحذر هو فعل المتسللين والإصابة فعل الفتنة أو فعل الله تعالى. وهذا الجواب مردود, فإن القاعدة النحوية أنه لا يجب الإتيان بالجار إذا كان المجرور أنّ أو أن نحو عجبت من أنك قائم وعجبت من أن تقوم, فيجوز حذف من في الموضعين بل الجواب أنه لو كان مفعولا لأجله لكان مجامعا للحذر؛ لأن الفعل يجب أن يجامع علته واجتماعهما مستحيل، ولقائل أن يجيب أيضا عن قولهم أولا أن الفاعل ضمير يعود على

المتسللين بأنه لو كان كذلك لوجب إبرازه فيقال: فليحذر؛ لأنه عائد على جمع. سلمنا لكن تحذير الناس عنهم لما وقعوا فيه أبلغ في الذم من تحذيرهم أنفسهم, ويستلزمه أيضا بخلاف تحذير أنفسهم فإنه لا يستلزم تحذير الغير منهم. الاعتراض الثالث: وهو اعتراض على المقدمة الثالثة أيضا وتقريره أن يقال: سلمنا أن قوله: {فَلْيَحْذَرِ} أمر للمخالفين وأنه لا ضمير في الآية, ولكن لم قلتم: إنه يوجب عليه الحذر؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به وكون الأمر للوجوب هو محل النزاع وقلنا: نحن لا ندعي أنه يدل على وجوب الحذر, ولكن يدل على حسنه وحسن الحذر من العذاب دليل على قيام المقتضي للعذاب؛ لأنه لو لم يوجد المقتضي لكان الحذر عنه سفها وعبثا وذلك محال على الله تعالى. وإذا ثبت وجود المقتضي ثبت أن الأمر للوجوب؛ لأن المقتضى للعذاب هو ترك الواجب دون المندوب. الرابع وهو أيضا اعتراض على المقدمة الثانية: أن قوله عن أمره مفرد, فيفيد أن أمرا واحدا للوجوب ونحن نسلمه، ولا يفيد كون جميع الأوامر كذلك مع أن المدعي هو الثاني. وأجاب في المحصول بثلاثة أوجه أحدها وعليه اقتصر المصنف: أنه عام بدليل جواز الاستثناء, فإنه يصح أن يقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا الأمر الفلاني وسيأتي أن معيار العموم جواز الاستثناء. الثاني: أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية. الثالث: أنه إنما استحق العقاب في بعض الصور لعدم المبالاة وهو موجود في الباقي. الدليل الرابع: تارك الأمر أي: المأمور به عاصٍ لقوله تعالى حكاية عن قول موسى لأخيه هارون -عليهما السلام: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] وقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وكل عاص يستحق النار لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] عبر بمن التي هي للعموم, فدل على ما قلناه؛ فينتج أن تارك الأمر يستحق النار ولا معنى للوجوب إلا ذلك. وقد جعل المصنف كبرى الشكل الأول مهملة فقال: والعاصي يستحق النار مع أن شرطها أن تكون كلية، والصواب أن يقول: وكل عاص كما قررته. اعترض الخصم بوجهين أحدهما: لا نسلم المقدمة الأولى؛ لأنه لو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور لكان قوله تعالى: {يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} معناه: لا يتركون أي: يفعلون فيكون قوله بعد ذلك: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} تكرارا, وجوابه أن الأمر المذكور أولا للماضي أو الحال، والأمر المذكور ثانيا للاستقبال فلا تكرار، وتقدير الآية: لا يعصون الله ما أمرهم به في الماضي أو الحال, ويفعلون ما يؤمرون به في الاستقبال هذا هو الصواب في تقريره على ما أراده المصنف فاعتمده، ولك أن تقول: النزاع في أن تارك الأمر عاصٍ أم لا، وأما العكس وهو أن العصيان بترك الأمر فليس النزاع فيه ودعواه باطلة لأن العصيان قد يكون بترك الأمر وقد يكون بترك الفعل الواجب اتباعه، وقد يكون بارتكاب النهي وغير ذلك، فالصواب أن يقول في تقرير الاعتراض: قيل: لو كان تارك

الأمر عاصيا بدلا عن قوله: لو كان العصيان ترك الأمر، وأيضا فينبغي أن يقول في الجواب قلنا: الأول ماض والثاني حال أو مستقبل؛ لأن الثاني مضارع وهو يصلح للحال والاستقبال، والأول لا يصلح لكون ماضيا ولم يتعرض في المحصول لذكر الحال. الاعتراض الثاني: لا نسلم المقدمة الثانية؛ لأن المراد بالعصاة في الآية هم الكفار لا تارك الأمر لقرينة الخلو، فإن غير الكفار لا يخلد في النار كما تقرر في علم الكلام، وجوابه أن الخلود لغة هو المكث الطويل سواء كان دائما أو غير دائم، أي: يكون حقيقة في القدر المشترك حذرا من الاشتراك والمجاز, ويدل على ما قلناه قولهم: خلد الله ملك الأمير. الدليل الخامس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا أبا سعيد الخدري وهو في الصلاة فلم يجبه فقال: "ما منعك أن تجيب وقد سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا} [الأنفال: 24] الآية؟ " 1 وهذا الاستفهام ليس على حقيقته؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه في الصلاة كما نقله ابن برهان وغيره، فتعين أن يكون للتوبيخ والذم حينئذ، فالذم عند ورود الأمر دليل على أنه للوجوب، واعلم أن المصنف ذكر أن أبا سعيد هذا هو الخدري وهو غلط تبع فيه صاحب الحاصل وصاحب الحاصل تبع الإمام في المحصول والإمام تبع الغزالي في المستصفى، والصواب أنه أبو سعيد بن المعلى, كذا وقع في صحيح البخاري في أول كتاب التفسير، وفي سنن أبي داود في الصلاة وفي جامع الأصول في كتاب الفضائل وفي غيرها أيضا، واسمه الحارث بن أوس بن المعلى الأنصاري الخزرجي الرزقي، واسم الخدري: سعد بن مالك بن سنان من بني خدرة, أنصاري خزرجي أيضا, وقد وقع على الصواب في بعض نسخ الكتاب وهو من إصلاح الناس. قال: "احتج أبو هاشم بأن الفارق بين الأمر والسؤال هو الرتبة والسؤال للندب، فكذلك الأمر. قلنا: السؤال إيجاب وإن لم يتحقق, وبأن الصيغة لما استعملت فيهما, والاشتراك والمجاز خلاف الأصل, فتكون حقيقة في القدر المشترك. قلنا: يجب المصير إلى المجاز لما بينا من الدليل, وبأن تعرف مفهومها لا يمكن بالعقل ولا بالفعل؛ لأنه لم يتواتر والآحاد لا تفيد القطع. قلنا: المسألة وسيلة إلى العمل فيكفيها الظن وأيضا يتعرف بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كما سبق". أقول: ذكر المصنف هنا أدلة ثلاثة, واختلف النسخ في التعبير عن المحتج بها, ففي أكثرها احتج أبو هاشم كما ذكره وهو غير مستقيم؛ لأن الثالث لا يطابق مذهبه ولا الثاني على أحد التقريرين الآتيين وفي بعضها احتج المخالف وهو صحيح مطابق لتعبير الإمام, وفي بعضها احتجوا وهو قريب مما قبله وهما من إصلاح الناس. الدليل الأول: وهو احتجاج أبي هاشم على أن افعل حقيقة في الندب، وتقريره أن أهل اللغة قالوا: لا فارق بين السؤال والأمر إلا في الرتبة فقط أي: إن رتبة الأمر أعلى من رتبة السائل، والسؤال إنما يدل على الندب فكذلك الأمر

_ 1 أخرجه أبو داود، كتاب الوتر, باب "15"، والنسائي من كتاب الافتتاح, باب "25".

لأن الأمر لو دل على الإيجاب لكان بينهما فرق آخر وهو خلاف ما نقلوه, وجوابه أن السؤال يدل على الإيجاب أيضا؛ لأن أهل اللغة وضعوا افعل لطلب الفعل مع المنع مع الترك عند من يقول: الأمر للإيجاب، وقد استعملها السائل لكنه لا يلزم منه الوجوب, إذ الوجوب لا يثبت إلا بالشرع فلذلك لا يلزم المسئول القبول من السائل، ولقائل أن يقول على تقدير أن يدل السؤال على الإيجاب، فيلزم أن يفترقا من وجه آخر؛ لأن إيجاب الأمر دال على الوجوب بخلاف إيجاب السؤال, وقد يجاب بأن المعنى بالرتبة هو كون إيجاب الأمر يقتضي الوجوب بخلاف السؤال وفيه نظر، فإنهما مدلولان متغايران, ولك أن تمنع ما ذكره من تفريقه بالرتبة, فإنه مذهب المعتزلة كما تقدم، بل الفرق أن السؤال أمر صادر بتذلل، والأمر أعم، وقد يترتب الوجوب على إيجاب السؤال كسؤال العطشان، وقد لا يترتب على إيجاب الأمر كطلب السيد من عبده ما لا يقدر عليه, فتخلص أنها سواء في الإيجاب والوجوب. قوله: "وبأن الصيغة" معطوف على قوله: بأن الفارق, وتقريره من وجهين أحدهما: أن الصيغة قد استعملت في الوجوب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وفي الندب كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] فإن كانت موضوعة لكل لزم الاشتراك أو لأحدهما فقط فيلزم المجاز، فتكون حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الفعل دفعا للاشتراك والمجاز. وعلى هذا التقرير يكون دليلا للقائل بأنها حقيقة في القدر المشترك وهو مدلول كلام المصنف, لكن عطفه على دليل أبي هاشم فاسد. التقرير الثاني وهو تقرير الإمام وأتباعه كلهم: أن نضم إلى التقرير الأول زيادة أخرى فنقول: والدال على المعنى المشترك وهو الأعم غير دال على الأخص, فيكون لفظ الأمر غير دال على الوجوب ولا على الندب بل على الطلب, وجواز الترك معلوم بالبراءة الأصلية, فتحصلنا على طلب الفعل مع جواز الترك, ولا معنى للندب إلا ذلك، وعلى هذا فيصح عطفه على دليل أبي هاشم لكنه بعيد من كلام المصنف, وجوابه: أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إجماعا إذ دل عليه دليل، وههنا كذلك للأدلة الخمسة التي أقمناها على أنه حقيقة في الوجوب فقط. وقوله: "وبأن تعرف ... إلخ" هذا دليل الغزالي وموافقيه على التوقف, وقد تقدم أن عطفه على دليل أبي هاشم لا يصح, وتقريره أن الطريق إلى معرفة مدلول افعل إما أن يكون بالعقل وهو محال؛ لأنه لا مجال له في اللغات، وإما بالنقل المتواتر وهو محال أيضا، وإلا لكان بديهيا حاصلا لكل أحد من هذه الطائفة فلا يبقى بينهم نزاع, وإما بالآحاد وهو باطل لأن الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن, والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه, كما نقله الأنباري شارح البرهان عن العلماء قاطبة؛ وذلك لفرط الاهتمام بالقواعد، وإذا انتفت طرق المعرفة تعين الوقف، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: لا نسلم أنها علمية؛ لأن المقصود من كون الأمر للوجوب

إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاده, والعمليات مظنونة يكتفي فيها بالظن فكذلك ما كان وسيلة إليها، هذا هو الصواب في تقريره وأما قول بعض الشارحين أنه يكتفي فيها بالظن مع كونها علمية لكونها وسيلة للعمل فباطل؛ لأن المعلوم يستحيل إثباته بطريق مظنونة، وقد منع في المحصول أيضا كونها علمية ولم يذكر تعليل المصنف بل قال: لأنا بينا أنه لا تعين في المباحث اللغوية وذلك لتوقفها على نفي الاحتمالات العشرة. ونفيها ما ثبت إلا بالأصل الثاني لا نسلم الحصر؛ لأنا قد نتعرفه بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كقولنا: تارك الأمر عاص, وكل عاص يستحق النار فإنه يدل على أن الأمر للوجوب وقد تقدم ذكره في الدليل الرابع من هذه المسألة. وقولنا: إن الجمع المحلى بالألف واللام يدخله الاستثناء وإن الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله, فإنه يدل على أن الجمع المحلى للعموم كما تقدم في آخر الفصل الأول من باب اللغات، وذلك بالطريق الذي قلناه؛ لأن نفس المقدمتين نقلية وتركيبهما تركيب عقلي علم من العلوم العقلية, وعبر الإمام في المحصول والمنتخب عن هذا بقوله: إنه يعرف بدليل مركب من العقل والنقل, فأورد عليه أن هذا الدليل نقل محض لأن المقدمتين نقليتان وحظ العقل إنما هو تفطنه لاندراج الصغرى في الكبرى؛ فلذلك عدل صاحب الحاصل إلى ما تقدم وتبعه عليه المصنف، وقول المصنف كما سبق يحتمل كلا من المثالين المتقدمين، والأول أولى للتصريح به في الحاصل والمحصول, ولكونه دليلا على نفس المسألة المتنازع فيها، ولأنه أقرب. وعن هذا الدليل جواب ثالث لم يذكره المصنف ينفع في مواضع, وهو التزام حصوله بالتواتر, ولا يلزم منه رفع الخلاف لأنه قد يصل إلى بعضهم بكثرة المطالعة لأقضيتهم وتواريخهم, وغيره لم يشتغل بذلك فيقع الخلاف, ولقائل أن يقول: ينبغي للمصنف على طريقة الجدليين تقديم جوابه الثاني على الأول كما فعل في الحاصل والمحصول، فيقول: أولا لا نسلم الحصر, سلمنا لكن نختار تعرفه بالآحاد، وذلك لأن الثاني فيه تسليم للحصر فلا يحسن منه منعه بعد ذلك فإن قيل: دعواه أنه يعلم بتركيب عقلي من مقدمات نقلية لا يدفع السؤال؛ لأن هذه المقدمات النقلية إما أن يكون نقلها بالتواتر أو بالآحاد، ويعود السؤال بعينه وجوابه باختيار التواتر، ولا يلزم منه أن يعرف كل أحد أنه للوجوب, وإنما يلزم ذلك أن لو كان التركيب العقلي ضروريا وهو ممنوع. قال: "الثالثة: الأمر بعد التحريم للوجوب وقيل: للإباحة. لنا أن الأمر يفيده، ووروده بعد الحرمة لا يدفعه. قيل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] للإباحة قلنا: معارض بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} [التوبة: 5] واختلف القائلون بالإباحة في النهي بعد الوجوب". أقول: إذا فرعنا على أن الأمر للوجوب فورد بعد التحريم ففيه مذهبان, أصحهما عند الإمام وأتباعه، ومنهم المصنف أن يكون أيضا للوجوب ونقله ابن برهان في الوجيز عن القاضي والآمدي عن المعتزلة, والثاني أنه يكون للإباحة وهو الذي نص عليه الشافعي كما نقله

عنه القيرواني في كتاب المستوعب وابن التلمساني في شرح المعالم1 والأصفهاني في شرح المحصول2 ونقله ابن برهان في الوجيز عن أكثر الفقهاء والمتكلمين, ورجحه ابن الحاجب وتوقف إمام الحرمين وصرح أيضا به الآمدي في الأحكام ومع ذلك فله ميل إلى الإباحة, قال عقبه: واحتمال الإباحة أرجح نظرا لغلبته, قال في المحصول: والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد التحريم وذلك بأن استأذن على فعل شيء فقال له: افعله, واستدل المصنف على الوجوب بأن الأمر يفيده إذ التفريع عليه ووروده بعد الحرمة ليس معارضا حتى يدفع ما ثبت له؛ لأن الوجوب والإباحة منافيان للتحريم ومع ذلك لا يمتنع الانتقال من التحريم إلى الإباحة فكذلك الوجوب احتج الخصم بورودها للإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 42] ، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . وفي الحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها, وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث, فكلوا وادخروا" 3 وجوابه أن هذه الأدلة معارضة بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإن القتال فرض كفاية بعد أن كان حراما, وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "فإذا أدبرت الحيضة, فاغسلي عنك الدم وصلي" 4 فإذا تعارضا تساقطا وبقي دليلنا سالما عن المنبع فيفيد الوجوب. قوله: "واختلف القائلون" يعني: إن القائلين بالإباحة في الأمر الوارد بعد الحظر اختلفوا في النهي الوارد بعد الوجوب, فمنهم من طرد القياس وحكم بالإباحة؛ لأن تقدم الوجوب قرينة, ومنهم من حكم بأنه للتحريم كما لو ورد ابتداء بخلاف الأمر بعد التحريم, والفرق في وجهين أحدهما: أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك وهو على وفق الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل وحمل الأمر على الوجوب يقتضي الفعل وهو خلاف الأصل. الثاني: أن النهي لدفع المفسدة المتعلقة بالمنهي عنه والأمر لتحصيل المصلحة المتعلقة بالمأمور واعتبار الشرع بدفع المفاسد أكثر من جلب المصالح, وأما القائلون: إن الأمر بعد التحريم للوجوب فلا خلاف عندهم أن النهي بعد الوجوب للتحريم. قال: "الرابعة: الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولا يدفعه وقيل: للتكرار، وقيل: للمرة, وقيل: بالتوقف للاشتراك أو الجهل بالحقيقة. لنا تقييده بالمرة والمرات من غير تكرار ولا نقض, وأنه ورد مع التكرار ومع عدمه فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز. وأيضا لو كان للتكرار لعم الأوقات, فيكون تكليفا بما لا يطاق ولنسخه كل تكليف بعده لا يجامعه". أقول: إذا ورد الأمر مقيدا بالمرة أو بالتكرار حمل عليه, وإن ورد مقيدا بصفة

_ 1 شرح المعالم في أصول الفقه للرازي، وهو لشرف الدين أبي محمد عبد الله بن محمد بن علي الفهري, المعروف بابن التلمساني "كشف الظنون: 1727". 2 شرح المحصول في علم الأصول للرازي, وهو لشمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، المتوفى سنة "678هـ", وهو حافل, ومات ولم يكمله كما ذكره السبكي وأبو العباس القرافي. 3 أخرجه الهندي في كنز العمال "42554", والعراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 245". 4 أخرجه الدارمي في سننه "1/ 198".

أو شرط فسيأتي أنه يتكرر قياسا لا لفظا، وإن كان مطلقا أي: عاريا من هذه القيود ففيه مذاهب، أحدها: أنه لا يدل على التكرار ولا على المرة بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بتكرار أو مرة إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به، لا جرم أنه يدل عليها من هذا الوجه، وهذا المذهب اختاره الإمام وأتباعه ونقله عن الأقلين, واختاره أيضا الآمدي وابن الحاجب والمصنف وعبر عن المرة بقوله: ولا يدفعه لأنه لو كان للمرة لكان دافعا للتكرار؛ لأنهما متقابلان. الثاني: أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمل وهو رأي الأستاذ وجماعة من الفقهاء والمتكلمين, لكن بشرط الإمكان كما قاله الآمدي. الثالث: يدل على المرة وهو قول أكثر أصحابنا, كما حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع، ونقل القيرواني في المستوعب عن الشيخ أبي حامد أنه مقتضى قول الشافعي. الرابع: أنه مشترك بين التكرار والمرة فيتوقف أيضا, واختار إمام الحرمين التوقف, ونقل عنه ابن الحاجب المذهب الأول تبعا للآمدي وليس كذلك فافهمه. قوله: "لنا" أي: الدليل على ما قلناه من ثلاثة أوجه, أحدها: أنه يصح أن يقال: افعل ذلك مرة أو مرات وليس فيه تكرار ولا نقض إذ لو كان للمرة لكان تقييده بالمرة تكرارا وبالمرات نقضا، ولو كان للتكرار لكان تقييده به تكرارا وبالمرة نقضا, وهذا الدليل لا يثبت به المدعى؛ لأن عدم التكرار والنقض قد لا يكون لكونه موضوعا للماهية من حيث هي, بل لكونه مشتركا أو لأحدهما, ولا نعرفه كما قد قيل به, فيكون التقييد للدلالة على أحدهما. الثاني: أن الأمر المطلق ورد تارة مع التكرار شرعا كآية الصلاة، وعرفا نحو: احفظ دابتي، وورد تارة للمرة شرعا كآية الحج، وعرفا كقوله: ادخل الدار، فيكون حقيقة في القدر المشترك بين التكرار والمرة وهو طلب الإتيان بالفعل، مع قطع النظر عن التكرار والمرة؛ لأنه لو كان حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك، وإن كان في أحدهما فقط لزم المجاز وهما خلاف الأصل. وهذا الدليل قد استعمله الإمام وأتباعه في مواضع كثيرة وفيه نظر؛ لأنه إذا كان موضوعا لمطلق الطلب ثم استعمل في طلب خاص فقد استعمل في غير ما وضع له؛ لأن الأعم غير الأخص, ولكنه مشتمل على ما وضع له فيجوز على سبيل المجاز. وأيضا فلأن الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الذهنية كما تقدم، فإذا استعمل فيما تشخص منها في الخارج فيكون مجازا؛ لأنه غير ما وضع له فاستعمال الأمر في المقيد بالتكرار وبالمرة مجاز لما قلناه، ففر من مجاز واحد فوقع في مجازين، وهذا البحث يجري في سائر الألفاظ الموضوعة لمعنى كلي, وإن كان مستبعدا لكن القواعد قد أدت إليه، وقد صرح الآمدي في الأحكام بموافقة ما ذكرته، فقال في أوائل الكتاب في القسمة الثانية جوابا عن سؤال ما نصه: لأنه لا يخفى أن حقيقة المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك, فإذا كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة فاستعماله في الدابة

المقيدة على الخصوص يكون استعمالا له في غير ما وضع له هذا لفظه. الثالث وهو دليل على إبطال التكرار خاصة: أنه لو كان للتكرار لعم الأوقات كلها؛ لعدم أولوية وقت دون وقت والتعميم باطل بوجهين أحدهما: أنه تكليف بما لا يطاق. الثاني: أنه يلزم بنسخه كل تكليف يأتي بعده لا يمكن أن يجامعه في الوجود؛ لأن الاستغراق الثابت بالأول يزول بالاستغراق الثابت بالثاني، وليس كذلك. واحترز بقوله: لا يجامعه عن نحو الصوم مع الصلاة، ولك أن تقول: قد تقدم أن القائل بالتكرار يقول: إنه بشرط الإمكان فلا يرد ما قاله من التكليف بما لا يطاق. قال: "قيل: تمسك الصديق على التكرار بقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} من غير نكير قلنا: لعله -عليه الصلاة والسلام- بين تكراره وقيل: النهي يقتضي التكرار، فكذلك الأمر, قلنا: الانتهاء أبدا ممكن دون الامتثال, قيل: لو لم يتكرر لم يرد النسخ, قلنا: وروده قرينة التكرار, قيل: حسن الاستفسار دليل الاشتراك, قلنا: قد يستفسر عن أفراد المتواطئ". أقول: احتج من قال بأن الأمر يفيد التكرار بثلاثة أوجه الأول: أن أهل الردة لما منعوا الزكاة تمسك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وجوب تكرارها بقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. قال في المحصول: فكان ذلك إجماعا منهم على أنها للتكرار والجواب أنه لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بين للصحابة أن هذه الآية للتكرار, فإن قيل: الأصل عدمه قلنا: لما أجمعوا على التكرار مع أن الصيغة المجردة لا تقتضي ذلك كما بيناه تعين ما قلناه جمعا بين الأدلة, وهذا الدليل وجوابه يقتضيان أن الإمام يسلم أن ذلك إجماع وهو مناقض لما سيأتي من كونه ليس بإجماع ولا حجة. الثاني: النهي يقتضي التكرار فكذلك الأمر قياسا عليه والجامع أن كلا منهما للطلب, وجوابه أن الانتهاء عن الشيء أبدا ممكن؛ لأن فيه بقاء على العدم وأما الاشتغال به أبدا فغير ممكن, وهذا الكلام من المصنف مناقض لقوله بعد ذلك: إن النهي كالأمر في التكرار والفور. الثالث: لو لم يدل على التكرار بل دل على المرة, لم يجز ورود النسخ؛ لأن وروده إن كان بعد فعلها فهو محال لأنه لا تكليف وإن كان قبله فهو يدل على البداء وهو ظهور المصلحة بعد خفائها أو بالعكس, وهو على الله تعالى محال. ولكن ورود النسخ جائز فدل على أنه للتكرار, وجوابه أن النسخ لا يجوز وروده على الأمر الذي يقتضي مرة واحدة، ولكن إذا ورد على الأمر المطلق صار ذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار، وحمل الأمر على التكرار لقرينة جائز، هكذا ذكره في المحصول فتبعه عليه المصنف. ولك أن تقول: إن صح هذا الجواب فيلزم أن لا يكون جواز الاستثناء دليلا على العموم البتة، لا مكان دعواه في كل استثناء وذلك مبطل؛ لقوله بعد ذلك: ومعيار العموم جواز الاستثناء. وأيضا فهو مناقض لقولهم: إن النسخ قبل الفعل جائز لا سيما أنهم استدلوا عليه بقصة إبراهيم مع أن الذبح يستحيل تكراره. وأيضا فيلزم منه التكليف بما لا يعلمه الشخص. قوله: "قيل: حسن الاستفسار" أي: استدل من قال بأن الأمر مشترك بين التكرار والمرة بأنه

يحسن الاستفسار فيه فيقال: أردت بالأمر واحدة أم دائما؛ ولذلك قال سراقة للنبي -صلى الله عليه وسلم: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ مع أنه من أهل اللسان وأقره عليه، فلو كان الأمر موضوعا في لسان العرب للتكرار أو للمرة لاستغنى عن الاستفسار، وجوابه أن ما قاله ممنوع فإنه قد يستفسر عن أفراد المتواطئ كما إذا قال: أعتق رقبة فتقول: أمؤمنة أم كافرة؟ سليمة أم معيبة؟ قال: "الخامسة: الأمر المعلق بشرط أو صفة، مثل {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لا يقتضي التكرار لفظا ويقتضيه قياسا، أما الأول فلأن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه, ولأنه لو قال: "إن دخلت الدار فأنت طالق" لم يتكرر، وأما الثاني فلأن الترتيب يفيد العلية فيتكرر الحكم بتكررها، وإنما لم يتكرر الطلاق لعدم اعتبار تعليله". أقول: الأمر المعلق بشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أو بصفة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] يقتضي تكرار المأمور به عند تكرر شرطه أو صفته, إن قلنا: الأمر المطلق يقتضيه, فإن قلنا: إنه لا يقتضيه ولا يدفعه فهل يقتضيه هنا؟ فيه ثلاثة مذاهب, أحدها: يقتضيه من جهة اللفظ أي: إن هذا اللفظ قد وضع للتكرار. والثاني: لا يقتضيه أي: لا من جهة اللفظ ولا من جهة القياس, وهذا هو القائل بأن ترتيب الحكم على الوصف لا يدل على العلية. والثالث: أنه لا يقتضيه لفظا ويقتضيه من جهة ورود الأمر بالقياس, قال في المحصول: وهذا هو المختار؛ فلذلك جزم به المصنف واختار الآمدي وابن الحاجب أنه لا يدل عليه, قالا: ومحل الخلاف فيما لم يثبت كونه علة كالإحصان, فإن ثبت كالربا فإنه يتكرر بتكرر علته اتفاقا وهذا منافٍ لكلام الإمام حيث مثل بالسرقة والجنابة مع أنه قد ثبت التعليل بهما. قوله: "أما الأول" أي: الدليل على الأول وهو أنه لا يقتضي التكرار لفظا من وجهين, أحدهما: أن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه, فإن اللفظ إنما دل على تعليق شيء على شيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة بدليل صحة تقسيمه إليهما والأعم لا يدل على الأخص فلزم من ذلك أن التعليق لا يدل على التكرار. الثاني: أنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق, فإن الطلاق لا يتكرر بتكرر الدخول ولو كان يدل عليه من جهة اللفظ لكان يتكرر كما لو قال: كلما, لكن هذا الدليل من باب تعليق الإنشاء على الشرط وكلامنا في تعليق الأمر فينبغي أن يقال: وإذا ثبت في هذا ثبت في ذلك القياس أو يمثل بقوله لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار, نعم إن كان تعليق الخبر والإنشاء كتعليق الأمر في ثبوت الخلاف حصل المقصود, لكن كلام الآمدي في الأحكام يقتضي أن الإنشاء لا يتكرر اتفاقا وصرح به في الخبر كقولنا: إن جاء زيد, جاء عمرو. وأما الدليل على الثاني وهو أنه يقتضي التكرار قياسا فلأن ترتيب الحكم على الصفة أو الشرط يفيد علية الشرط أو الصفة لذلك الحكم, كما سيأتي في القياس فيتكرر الحكم بتكرر ذلك؛ لأن

المعلول يتكرر بتكرر علته. قوله: "وإنما لم يتكرر الطلاق" جواب عن سؤال مقدر وتوجيه السؤال أن يقال: لو كان تعليق الحكم بالشرط دالا على تكراره بالقياس لكان يلزم تكرار الطلاق بتكرار القيام فيما إذا قال: إن قمت فأنت طالق وليس كذلك. وجوابه أن تعبيره بذلك دال على أنه جعل القيام علة للطلاق ولكن المعتبر تعليل الشارع؛ لأن وقوع الطلاق حكم شرعي وآحاد الناس لا عبرة بتعليلهم في أحكام الله تعالى؛ لأن من نصب علة الحكم فإنما يتكرر حكمه بتكرر علته لا حكم غيره؛ فلذلك لم يتكرر الطلاق منه؛ ألا ترى أنه لو صرح بالتعليل فقال: طلقها لقيامها, لم تطلق امرأة أخرى له قامت. قال: "السادسة: الأمر المطلق لا يفيد الفور خلافا للحنفية، ولا التراخي خلافا لقوم, وقيل: مشترك لنا ما تقدم قيل: إنه تعالى ذم إبليس على الترك ولو لم يقتض الفور لما استحق الذم قلنا: لعل هناك قرينة عيّنت الفورية قيل: {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] يوجب الفور, قلنا: فمنه لا من الأمر، قيل: لو جاز التأخير فإما مع بدل فيسقط، أو لا معه فلا يكون واجبا. وأيضا إما أن يكون للتأخير أمد وهو إذا ظن فواته وهو غير شامل؛ لأن كثيرا من الشبان يموتون فجأة، أو لا فلا يكون واجبا، قلنا: منقوض بما إذا صرح به، قيل: النهي يفيد الفور فكذا الأمر, قلنا: لأنه يفيد التكرار". أقول: الأمر المجرد عن القرائن إن قلنا: إنه يدل على التكرار دل على الفور، وإن قلنا: لا يدل على التكرار فهل يدل على الفور أم لا؟ حكى المصنف فيه أربعة مذاهب, أحدها: أنه لا يدل على الفور ولا على التراخي بل يدل على طلب الفعل. قال في البرهان: وهذا ما ينسب إلى الشافعي وأصحابه, وقال في المحصول: إنه الحق, واختاره الآمدي وابن الحاجب والمصنف. والثاني: أنه يفيد الفور أي: وجوبا وهو مذهب الحنفية. والثالث: أنه يفيد التراخي أي: جوازا. قال الشيخ أبو إسحاق: والتعبير بكونه يفيد التراخي غلط، وقال في البرهان: إنه لفظ مدخول, فإن مقتضى إفادته التراخي أنه لو فرض الامتثال على الفور لم يعتد به, وليس هذا معتقد أحد. نعم حكى ابن برهان عن غلاة الواقفية أنا لا نقطع بامتثاله بل يتوقف فيه إلى ظهور الدلائل لاحتمال إرادة التأخير, قال: وذهب المقتصدون منهم إلى القطع بامتثاله، وحكاه في البرهان أيضا. والرابع هو مذهب الواقفية: أنه مشترك بين الفور والتراخي, ومنشأ الخلاف في هذه المسألة كلامهم في الحج. قوله: "لنا ما تقدم" أي: في الكلام على أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وأشار إلى أمرين أحدهما: أنه يصح تقييده بالفور وبالتراخي من غير تكرار ولا نقض. والثاني: أنه ورد الأمر مع الفور ومع عدمه, فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز, وقد تقدم الكلام في هذين الدليلين وما فيهما مبسوطا, وقد تقدم هناك دليل ثالث لا يأتي هنا. قوله: "قيل: إنه تعالى" أي: استدل القائلون بأن الأمر يفيد الفور بأربعة أوجه، أحدها: أنه تعالى ذم إبليس -لعنه الله- على ترك السجود لآدم -عليه السلام- بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}

[الأعراف: 12] كما تقدم بسطه في الكلام على أن الأمر للوجوب, فلو لم يكن الأمر للفور لما استحق الذم ولكان لإبليس أو يقال: إنك ما أوجبته على الفور ففيم الذم؟ وأجاب المصنف تبعا للإمام بأنه يحتمل أن يكون ذلك الأمر مقرونا بما يدل على أنه للفور، وفي الجواب نظر لأن الأصل عدم القرينة وقد تمسك المصنف بهذه الآية على أن الأمر للوجوب، مع أن ما قاله بعينه يمكن أن يقال له: فما كان جوابا له كان جوابا لهم, بل الجواب أن يقول: ذلك الأمر الوارد وهو قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] وفيه قرينتان دالتان على الفور, إحداهما: الفاء والثانية: أن فعل الأمر "هو قوله تعالى: {فَقَعُوا} " عامل في إذا؛ لأن إذا ظرف، والعامل فيها جوابها على رأي البصريين، فصار التقدير: فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه. الدليل الثاني: أن قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] الآية يوجب كون الأمر للفور؛ لأن الله تعالى أمر بالمسارعة والمسارعة هي التعجيل فيكون التعجيل مأمورا به وقد تقدم أن الأمر للوجوب فتكون المسارعة واجبة، ولا معنى للفور إلا ذلك، ثم إن حمل المغفرة على حقيقتها غير ممكن؛ لأنها فعل الله تعالى فيستحيل مسارعة العبد إليها فحمل على المجاز, وهو فعل المأمورات لكونها سببا للمغفرة، فأطلق اسم المسبب وأريد به السبب. والجواب: أنا لا نسلم أن الفورية مستفادة من الأمر, بل إيجاب الفور مستفاد من قوله تعالى: {وَسَارِعُوا} لا من لفظ الأمر وتقرير هذا الكلام من وجهين أحدهما: أن حصول الفورية ليس من صيغة الأمر بل من جوهر اللفظ؛ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيفما تصرف. الثاني وهو تقرير صاحب الحاصل: أن ثبوت الفور في المأمورات ليس مستفادا من مجرد الأمر بها بل من دليل منفصل وهو قوله تعالى: {وَسَارِعُوا} ، ولك أن تقلب هذا الدليل فتقول: الآية معنى دال على عدم الفور؛ لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به في غيره، وأيضا فالمقتضى أن المضمر لصحة الكلام لا عموم له كما سنعرفه في العموم، فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله ولا يعم كل مأمور. الدليل الثالث: لو لم يكن الأمر للفور لكان التأخير جائزا، لكنه لا يجوز لأمرين, أحدهما: أن جوازه إن كان مشروطا بالإتيان ببدل يقوم مقامه وهو العزم على رأي من شرطه فيلزم سقوطه لأن البدل يقوم مقام المبدل، وإن كان جائزا بدون بدل فيلزم أن لا يكون واجبا؛ لأنه لا معنى لغير الواجب إلا ما جاز تركه بلا بدل. الثاني: أن التأخير إما أن يكون له أمد معين لا يجوز للمكلف إخراجه عنه أم لا، وكل من القسمين باطل. أما الأول فلأن القائلين به اتفقوا على أن ذلك الأمد المعين هو ظن الفوات على تقدير الترك, إما لكبر السن أو للمرض الشديد، وذلك الأمر غير شامل للمكلفين؛ لأن كثيرا من الشبان يموتون فجأة ويقتلون غيلة, فيقتضي ذلك عدم الوجوب عليهم في نفس الأمر؛ لأنه لو كان واجبا لامتنع تركه، والفرض أنا جوزنا له الترك في كل الأزمان المتقدمة على

ذلك الظن. وأما الثاني فلأن تجويز التأخير أبدا تجويز للترك أبدا, وذلك ينافي الوجوب، والجواب أن ذلك كله منقوض بما إذا صرح الآمر بجواز التأخير فقال: أوجبت عليك أن تفعل كذا في أي وقت شئت, فما كان جوابا لكم كان جوابا لنا, قال في المحصول: وهو لازم لا محيص عنه. الدليل الرابع: النهي يفيد الفور فيكون الأمر أيضا كذلك بالقياس عليه، والجامع بينهما هو الطلب، وجوابه أن النهي لما كان مفيدا للتكرار في جميع الأوقات ومن جملتها وقت الحال, لزم بالضرورة أن يفيد الفورية بخلاف الأمر, وهذا الجواب قد تقدم مثله في أواخر المسألة الرابعة، وقد ناقضه بعد هذا بنحو سطر، ووقع أيضا ذلك للإمام وأتباعه، والجواب الصحيح منع كون النهي يفيد الفور لما فيه من الخلاف لا سيما وهو مختار المصنف, وعلى هذا فلا تناقض، "فروع" أحدها: الآمر بالأمر بالشيء ليس آمرا بذلك الشيء على الصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما؛ لأن من قال: مر عبدك بكذا ثم قال للعبد: لا تفعل, لا يكون بالأول متعديا ولا بالثاني مناقضا، مثاله قوله -صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها" 1. الثاني: الأمر بالماهية الكلية لا يكون أمرا بشيء من جزئياتها كالأمر بالبيع، فإنه لا يدل على البيع بالعين أو بغيره، هكذا قاله الإمام وخالفه الآمدي وابن الحاجب. الثالث: إذا كرر الأمر فقال: صل ركعتين فقيل: يكون ذلك أمرا بتكرار الصلاة، ونقله في المستوعب على عامة أصحاب الشافعي، وقال الصيرفي: الثاني تأكيد، وقال الآمدي بالوقف.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق "7/ 52", وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق "1/ 2", ورواه مالك في الموطأ حديث رقم "1655" ص636، جـ1.

الفصل الثالث: في النواهي

الفصل الثالث: في النواهي قال: "الفصل الثالث: في النواهي وفيه مسائل, الأولى: النهي يقتضي التحريم لقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهو كالأمر في التكرار والفور. الثانية: النهي يدل شرعا على الفساد في العبادات؛ لأن المنهي عنه بعينه لا يكون مأمورا به، وفي المعاملات إذا رجع العقد أو أمر داخل فيه، أو لازم له كبيع الحصاة والملاقيح، والربا لأن الأولين تمسكوا على فساد الربا بمجرد النهي من غير نكير، وإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع في وقت النداء فلا. الثالثة: مقتضى النهي فعل الضد؛ لأن العدم غير مقدور وقال أبو هاشم: من دعي إلى زنا فلم يفعل مدح, قلنا: المدح على الكف. الرابعة: النهي عن الأشياء إما عن الجمع كنكاح الأختين، أو عن الجميع كالربا والسرقة". أقول: النهي هو القول الطالب للترك دلالة أولية، ولم يذكر المصنف حده لكونه معلوما من حد الأمر السابق، وصيغته تستعمل في سبعة معانٍ ذكرها الغزالي والآمدي وغيرهما, أحدها: التحريم كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء: 33] والثاني: الكراهة كقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول" 1. الثالث: الدعاء كقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] . الرابع: الإرشاد كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب 18، رقم الحديث 63.

أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية. الخامس: التحقير كقوله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88] الآية. السادس: بيان العاقبة كقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} [إبراهيم: 42] الآية. السابع: اليأس كقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7] الآية, وقد اختلفوا في أن النهي هل من شرطه العلو والاستعلاء وإرادة الترك أم لا؟ وأنه هل له صيغة تخصه أم لا؟ وأنه هل هو حقيقة في الطلب وحده أم لا؟ وأن ذلك الطلب الذي هو حقيقة فيه هل هو التحريم أو الكراهة، أو كل منهما بالاشتراك أو الوقف؟ كما اختلفوا في الأمر فعلى هذا إذا ورد النهي مجردا عن القرائن فمقتضاه التحريم كما نبه عليه المصنف ونص عليه الشافعي في الرسالة فقال في باب العلل في الأحاديث ما نصه: وما نهي عنه فهو على التحريم حتى يأتي دلالة عنه على أنه أراد غير التحريم انتهى. ونص عليه أيضا في مواضع أخرى، واستدل المصنف عليه بقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] أمر بالانتهاء عن المنهي عنه فيكون الانتهاء واجبا؛ لأنه قد تقدم أن الأمر للوجوب ولك أن تقول: إنما يدل هذا على التحريم في بعض النواهي بدليل منفصل أيضا لا من وضع اللفظ, وكلاهما غير المدعى. قوله: "وهو كالأمر" يعني أن النهي حكمه حكم الأمر في أنه لا يدل على التكرار ولا على الفور كما تقدم، وفي المحصول أن هذا هو المختار, وفي الحاصل أنه الحق لأنه قد يرد للتكرار كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] ولخلافه كقول الطبيب: لا تشرب اللبن ولا تأكل اللحم والاشتراك والمجاز خلاف الأصل, فيكون حقيقة في القدر المشترك, وصحح الآمدي وابن الحاجب أنه للتكرار والفور, وجزم به المصنف قبل هذا بقليل كما تقدم التنبيه عليه. وقال في المحصول: إنه المشهور وابن برهان: إنه مجمع عليه، ودليل الإمام مردود بما تقدم في الكلام على أن الأمر ليس للتكرار ولأن عدم التكرار في أمر المريض إنما هو لقرينة وهي المرض، والكلام عند عدم القرائن. المسألة الثانية: في أن النهي هل يدل على الفساد أم لا؟ فقال بعضهم: لا يدل عليه مطلقا ونقله في المحصول عن أكثر الفقهاء والآمدي عن المحققين، وقال بعضهم: يدل مطلقا, وصححه ابن الحاجب لكن ذكر هذا الحكم مفرقا في مسألتين فافهمه, وقال أبو الحسين البصري: يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات, واختاره الإمام في المحصول والمنتخب وكذلك أتباعه ومنهم صاحب الحاصل، وخالفهم المصنف فاختار تفصيلا يأتي ذكره والكلام عليه، وحيث قلنا يدل على الفساد، فقيل: يدل من جهة اللغة، والصحيح عند الآمدي وابن الحاجب أنه لا يدل إلا من جهة الشرع، وقد تقدم دليله في الكلام على أن امتثال الأمر يوجب الإجزاء، وإليه أشار المصنف بقوله: النهي يدل شرعا، ولم يذكر الإمام ولا مختصر كلامه هذا القيد، وإذا قلنا: لا يدل على الفساد، فقال أبو حنيفة: يدل على الصحة لاستحالة النهي عن المستحيل، وجزم به الغزالي في المستصفى قبل الكلام على المبين، ثم ذكر بعد ذلك في هذا الباب أنه

فاسد، وقد تقدم معنى فساد العبادات والمعاملات في أول الكتاب فأغنى عن ذكره، ولنرجع إلى كلام المصنف وحاصله أن النهي يدل من جهة الشرع على الفساد في العبادات، أي: سواء نهى عنها لعينها أو لأمر قارنها؛ لأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون مأمورا به ومنهيا عنه، وحينئذ لا يكون الآتي بالفعل المنهي آتيا بالمأمور به، فيبقى الأمر متعلقا به، ويكون الذي أتى به غير مجزئ، وهو المراد من دعوى الفساد كما تقدم في الكلام على الصحة، هكذا قرره بعضهم، وهو خاص بالعبادات الواجبة أو المسنونة، مع أن الدعوى عامة، فالأولى أن يقال: الصلاة المنهي عنها مثلا لو صحت لوقعت مأمورا بها أمر ندب لعموم الأدلة الطالبة للعبادات، ثم إن الأمر بها يقتضي طلب فعلها، والنهي عنها يقتضي طلب تركها، وذلك جمع بين النقيضين. قوله: "بعينه" هو بالبناء ومعناه بنفسه, وهو متعلق بيكون فافهمه. وهذا الدليل إنما يدل على الفساد من حيث هو وأما كونه من جهة الشرع فلا يدل وهو مطلوبه، على أن الفقهاء قالوا: يجوز أن يكون الشيء الواحد مأمورا به منهيا عنه بجهتين واعتبارين، كما لو قال لعبده: خط هذا الثوب ولا تخطه في الدار خاطه. وأما النهي في المعاملات فعلى أربعة أقسام؛ لأن النهي لا يخلو إما أن يكون راجعا إلى نفس العقد أم لا. والثاني: لا يخلو إما أن يكون إلى جزئه أم لا. والثالث: لا يخلو إما أن يكون إلى لازم غير مقارن أم لا. فالأول كالنهي عن بيع الحصاة وهو جعل الإصابة بالحصاة بيعا قائما مقام الصيغة وهو أحد التأويلين في الحديث. والثاني كبيع الملاقيح وهو ما في بطون الأمهات، فإن النهي راجع إلى نفس المبيع، والمبيع ركن من أركان العقد؛ لأن الأركان ثلاثة: العاقد والمعقود عليه والصيغة، ولا شك أن الركن داخل في الماهية. والثالث: كالنهي عن الربا, أما الربا النسيئة والتفرق قبل التقابض فواضح كون النهي عنه لمعنى خارج، وأما ربا الفضل فلأن النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين مثلا إنما هو لأجل الزيادة, وذلك أمر خارج عن نفس العقد لأن المعقود عليه من حيث هو قابل للبيع وكونه زائدا أو ناقصا صفة من أوصافه لكنه لازم، والنهي في هذه الثلاثة يدل على الفساد؛ لأن الأولين تمسكوا على فساد الربا بمجرد النهي من غير نكير فكان ذلك إجماعا، وإنما استدل المصنف على الثالث فقط؛ لأنه إذا ثبت ذلك فيه ثبت فيما عداه بالطريق الأولى. وأما الرابع فكالنهي عن البيع وقت نداء الجمعة، فإنه راجع أيضا إلى أمر خارج عن العقد وهو تفويت صلاة الجمعة لا لخصوص البيع, إذ الأعمال كلها كذلك، والتفويت أمر مقارن غير لازم لماهية البيع، وهذا القسم لا يدل على الفساد بدليل صحة الوضوء بالماء المغصوب، وهذا التفصيل الذي اختاره المصنف صرح به الإمام في المعالم لكن في أثناء الاستدلال فافهمه، ونقله الآمدي بالمعنى عن أكثر أصحاب الشافعي واختاره فتأمله، ونقله ابن برهان في الوجيز عن الشافعي نفسه ونص في الرسالة قبيل باب أصل العلم على أنه يدل

على الفساد، فإنه عدد بيوعا كثيرة وحكم بإبطالها لنهي الشارع، ثم قال ما نصه: وذلك أن أصل مال كل امرئ محرم على غيره إلا بما أحل به، وما أحل به من البيوع ما لم ينه عنه، فلا يكون ما نهي عنه من البيوع محلا ما كان أصله محرما. ثم قال: وهذا يدخل في عامة العلم انتهى, ونص في البويطي في باب صفة النهي عن مثله أيضا وهو كما نقله المصنف إلا في استثناء المقارن، وقد نقل ابن برهان عن الشافعي أنه مستثنى كما تقدم. المسألة الثالثة: مقتضى النهي أي: المطلوب بالنهي وهو الذي تعلق النهي به إنما هو فعل ضد المنهي عنه. فإذا قال: لا تتحرك فمعناه اسكن، وعند أبي هاشم والغزالي هو نفس أن لا يفعل وهو عدم الحركة في هذا المثال. لنا أن النهي تكليف والتكليف إنما يرد بما كان مقدورا للمكلف، والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا؛ لأن القدرة لا بد لها من أثر وجودي، والعدم نفي محض فيمتنع إسناده إليها، إذ لا فرق في المعنى بين قولنا: ما أثرت القدرة أو أثرت عدما صرفا، ولأن العدم الأصلي -أي المستمر- حاصل والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا، وإذا ثبت أن مقتضى النهي ليس هو العدم ثبت أنه أمر وجودي ينافي المنهي عنه وهو الضد, ولقائل أن يقول: ترك الزنا مثلا ليس عدما محضا بل هو عدم مضاف متجدد فيكون مقدورا، واحتج أبو هاشم بأن من دعي إلى زنا فلم يفعله فإن العقلاء يمدحونه على أنه لم يزن من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا. قلنا: لا نسلم, فإن العدم ليس في وسعه كما قدمناه فلا يمدح عليه بل المدح على الكف عن الزنا، والكف فعل الضد، ولك أن تقول: ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولهم: النهي عن الشيء أمر بضده, فإن هذا هو قولهم متعلق النهي ضد المنهي عنه. المسألة الرابعة: النهي إن كان عن شيء واحد فلا كلام وإن كان عن أشياء فعلى قسمين أحدهما: أن يكون عن الجمع أي: الهيئة الاجتماعية دون المفردات على سبيل الانفراد كالنهي عن نكاح الأختين وكالحرام المخير عند الأشاعرة كما تقدم في خصال الكفارة. الثاني: أن يكون عن الجميع أي: كل واحد كالربا والسرقة, واعلم أن الأشياء جمع وأقلها ثلاثة، وحينئذ فالتمثيل غير مطابق ولو عبر بالمتعدد لخلص من السؤال.

الباب الثالث: في العموم والخصوص

الباب الثالث: في العموم والخصوص الفصل الأول: في العموم ... الباب الثالث: الفصل الأول: في العموم قال: "الباب الثالث: في العموم والخصوص، وفيه فصول، الفصل الأول: في العموم، فالعام لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد، وفيه مسائل". أقول: اتفقوا على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، وفي المعنى أقول: أصحها عند ابن الحاجب أنه حقيقة فيه أيضا؛ لأن العموم في اللغة هو شمول أمر لمتعدد وذلك موجود بعينه في المعنى. ولهذا يقال: عم المطر، وعم الأمير بالعطاء، ومنه نظر عام، وحاجة عامة، وعلة عامة، ومفهوم عام، وسائر المعاني الكلية كالأجناس والأنواع وكذا الأمر والنهي النفسانيان. والثاني: أنه مجاز ونقله في الأحكام عن الأكثرين ولم يرجح خلافه

واحتجوا بأنه لو كان حقيقة لكان مطردا، وليس كذلك بدليل معاني الأعلام كلها, ولأن العموم هو شمول أمر واحد لمتعدد كشمول معنى الإنسان وعموم المطر حصل في جزء من أجزاء الأرض. والثالث: أنه لا يصدق عليه لا حقيقة ولا مجازا حكاه ابن الحاجب، إذا علمت هذه المقدمة فليرجع إلى الحد فقوله: لفظ جنس، وقد تقدم غير مرة أن الكلمة أولى منه لكونه جنسا بعيدا بدليل إطلاقه على المهمل والمستعمل مركبا كان أو مفردا بخلاف الكلمة، ويؤخذ من التعبير باللفظ أن العموم عند المصنف ليس من عوارض المعاني، لكنه قد نص بعد ذلك على تخصيص العلة والمفهوم وغيرهما، والتخصيص فرع العموم، وأيضا فسيأتي قريبا أن العموم قد يكون عقليا لا لفظيا، ولك أن تجيب بأنه يجوز أن يكون إطلاق العموم هناك على سبيل المجاز كما رآه الجمهور، وكلامه هنا في المدلول الحقيقي، أو تقول: العموم هناك بحسب اللغة وهنا بحسب الاصطلاح، وفي المعالم أن العام ما يتناول الشيئين فصاعدا من غير حصر, فسلم من الاعتراضين وإن وقع في غيرهما. وقوله: "يستغرق" خرج به المطلق، وإنه سيأتي أنه لا يدل على شيء من الأفراد فضلا عن استغراقها، وخرج به النكرة في سياق الإثبات سواء كانت مفردة كرجل أو مثناة كرجلين أو مجموعة كرجل أو عددا كعشرة، فإن العشرة مثلا لا تستغرق جميع العشرات وكذلك البواقي، نعم هي عامة عموم البدل عند الأكثرين إن كانت أمرا نحو: اضرب رجلا، فإن كانت خبرا نحو: جاءني رجل, فلا تعم. ذكره في المحصول1 في الكلام على أن النكرة في سياق النفي تعم، ومعنى عموم البدل أنها تصدق على كل واحد بدلا عن الآخر. وقوله: "جميع ما يصلح له" احتراز عما لا يصلح, فإن عدم استغراق من لما لا يعقل وأولاده زيد لأولاد غيره لا يمنع كونه عاما، لعدم صلاحيته له، والمراد بالصلاحية اللفظ لمعنى دون معنى, سببها الوضع لا المناسبة الطبيعية كما تقدم، ويجوز أن يكون حالا من ما أي جميع المعاني الصالحة له في حال كونها حاصلة بوضع واحد، واحترز بذلك عن اللفظ المشترك كالعين وما له حقيقة ومجاز كالأسد، وتقريره على وجهين, أحدهما: أن العين قد وضعت مرتين مرة للمبصرة ومرة للفوارة، فهي صالحة لهما، فإذا قال: رأيت العيون وأراد بها العيون المبصرة دون الفوارة، أو بالعكس فإنها لم تستغرق جميع ما يصلح لها مع أنها عامة؛ لأن الشرط إنما هو استغراق الأفراد الحاصلة من وضع واحد وقد وجد ذلك، والذي لم يدخل فيها هو أفراد وضع آخر فلا يضر. فلو لم يذكر هذا القيد لاقتضى أن لا تكون عامة، وما كان له حقيقة ومجاز يعمل فيه هذا العمل المذكور بعينه فيكون المقصود بهذا القيد إدخال بعض الأفراد لا الإخراج، وهذا التقرير قد أشار إليه في المحصول إشارة لطيفة فقال:

_ 1 انظر المحصول, ص385، جـ1.

فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا وقل من قرره على وجهه, فاعتمد ما ذكرته فإنه عزيز مهم، وإياك وما وقع للأصفهاني والقرافي في شرحيهما للمحصول. التقرير الثاني: أنه قد تقدم أنه يجوز استعمال اللفظ في حقيقته كالعين وفي حقيقته ومجازه كالأسد, وحينئذ فيصدق أن يقال: إنه لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له وليس بعام أما الأسد ونحوه فلا خلاف, وأما العين ونحوها فعلى الأصوب كما تقدم، فأخرجه بقوله: بوضع واحد, وفي الحد نظر من وجوه, أحدها: أنه عرف العام بالمستغرق وهما لفظان مترادفان وليس هذا حدا لفظيا حتى يصح التعريف به بل حقيقيا أو رسميا أورده الآمدي في الأحكام. الثاني: أنه يدخل فيه الفعل الذي ذكر معه معمولاته من الفاعل والمفعول وغيرهما نحو ضرب زيد عمرا، وأورده أيضا الآمدي وكذلك ابن الحاجب. الثالث: النقض بأسماء الأعداد فإن لفظ العشرة مثلا صالح لعدد خاص وذلك العدد له أفراد وقد استغرقها, وأورده ابن الحاجب. الرابع: أنه أخذ في تعريف العام لفظة جميع وهو من جملة المعروف, وأخذ المعرف قيدا في المعرف باطل لما علم في علم المنطق. وأورده الأصبهاني شارح المحصول وهذه الأسئلة قد يجاب عن بعضها بجواب غير مرضٍ لكونه عناية في الحد، نعم قولنا: ضرب زيد عمرا لم يستغرق جميع ما يصلح له؛ لأنه غير شامل لجميع أنواع الضرب. قال: "الأولى: أن لكل شيء حقيقة هو بها هو, فالدال عليها المطلق, وعليها مع وحدة معينة المعرفة, وغير معينة النكرة، ومع وحدات معدودة العدد، ومع كل جزئياتها العام". أقول: غرضه الفرق بين المطلق والنكرة والمعرفة والعام والعدد، فإن بعضهم يرى أن المطلق هو النكرة كما حكاه في المحصول1، وحاصله أن لكل شيء حقيقة أي: ماهية ذلك الشيء بها، أي: بتلك الحقيقة يكون ذلك الشيء؛ فالجسم الإنساني مثلا له حقيقة وهي الحيوان الناطق, وذلك الجسم بتلك الحقيقة إنسان، فإن الإنسان إنما يكون إنسانا بالحقيقة وتلك الحقيقة مغايرة لما عداها سواء كان ما عداها ملازما لها كالوحدة والكثرة, أو مفارقا كالحصول في الحيز المعين. فمفهوم الإنسان من حيث هو إنسان لا واحد ولا كثير لكون الوحدة والكثرة مغايرة للمفهوم من حقيقته، وإن كان لا يخلو عنه، إذا عرفت هذا فنقول: اللفظ الدال عليها أي: على الحقيقة فقط هو المطلق كقولنا: الرجل خير من المرأة, والدال عليها مع وحدة أي: مع الدلالة على كونه واحدا, إما بالشخص أو بالنوع أو بالجنس إن كان معينا فهو المعرفة كزيد وإن كان غير معين فهو النكرة كقولك: مررت برجل، وهذان القسمان لم يذكرهما الإمام, بل ذكرهما صاحب الحاصل وصاحب التحصيل فتبعهما المصنف، والدال على الماهية مع وحدات أي: مع كثرة

_ 1 انظر المحصول، ص287، جـ1.

ينظر فيها إن كانت معدودة أي: محصورة لا تتناول ما عداها فهو العدد كخمسة، وإن كانت غير معدودة بل مستوعبة لكل جزء من جزئيات تلك الحقيقة أي: لكل فرد من أفرادها فهو العام كالمشركين، وهذه العبارة التي في العام أخذها المصنف من الحاصل, فإنه عدل عن قول الإمام وعليها مع كثرة غير معينة إلى ما قلناه؛ لأنه يرد عليه الجمع المنكر كقولنا: رجال, فتابعه المصنف عليه وهو من محاسن الكلام, وما أورده بعضهم عليه فلا وجه له، ويؤخذ منه حد آخر للعام غير المذكور أولا, ومنه أخذ القرافي حده حيث قال: هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي يفيد التتبع في محاله, وكلامه يقتضي أنه اخترعه. واعلم أن هذا التقسيم ضعيف لوجوه, أحدها: أنه يقتضي أن العدد والمعرفة والعام متقابلات أي: لا يصدق أحدها على الآخر؛ لأن هذا شأن التقسيم وليس كذلك، فإن العام والعدد قد يكونان معرفتين كالرجال والخمسة, ونكرتين نحو: كل رجل وخمسة, فتداخلت الأقسام. الثاني: أن اعتبار الوحدة في مدلول المعرفة والنكرة يوجب خروج نحو الرجلين والرجال عن حد المعرفة, وخروج نحو رجلين ورجال عن حد النكرة وهو باطل، ولم يذكر ذلك غير صاحب الحاصل والتحصيل. الثالث: أن العدد في قولنا: خمسة رجال مثلا, إنما هو الخمسة وحدها بلا نزاع، والرجال هو المعدود، وكلامه يقتضي أن العدد إما اسم للمجموع أو للرجال فقط، وهو الأقرب لكلامه، فإن الرجال لفظ دال على الحقيقة وعلى وحدات معدودة بالخمس، فإنا عددناها بها، وأيضا فإن المعدود مشتق من العدد فيتوقف معرفته على معرفته, فكيف يؤخذ في التقسيم الذي يحصل منه تعريفه؟ وعبر الإمام في المحصول والمعالم بقوله: معينة، ولكن أبدله في الحاصل بقوله: معدودة فتبعه المصنف عليه. قال: "الثانية: العموم, إما لغة بنفسه كأي للكل ومن للعالمين وما لغيرهم، وأين للمكان، ومتى للزمان, أو بقرينة في الإثبات كالجمع المحلى بالألف واللام، والمضاف, وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياقه أو عرفا مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 34] فإنه يوجب حرمة الاستمتاعات, أو عقلا كترتيب الحكم على الوصف, ومعيار العموم جواز الاستثناء فإنه يخرج ما يجب اندراجه لولاه وإلا لجاز من الجمع المنكر, قيل: لو تناول لامتنع الاستثناء لكون نقضا, قلنا: منقوض بالاستثناء من العدد، وأيضا استدلال الصحابة -رضي الله عنهم- بعموم ذلك في مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] "وأمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" 1 و "الأئمة من قريش" 2، "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" 3 "شائعا من غير نكير"". أقول: العموم إما أن يكون لغة، أو عرفا، أو عقلا. القسم الأول وهو المستفاد من وضع اللغة له حالان, أحدهما: أن يكون عاما

_ 1 أخرجه ابن حبان في صحيحه، حديث رقم 174، ص399، جـ1, وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان. 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "3/ 12315". 3 ذكره ابن كثير في البداية والنهاية "4/ 203" و"3/ 364".

بنفسه أي: من غير احتياج إلى قرينة، وحينئذ فإما أن يكون عاما في كل شيء سواء كان من أولي العلم أو غيرهم كأن تقول: أي رجل جاء, وأي ثوب لبسته، وكذا كل وجميع والذي والتي ونحوها وكذا سائرها إن كانت مأخوذة من سور المدينة وهو المحيط به, وبه جزم الجوهري وغيره، فإن كانت مأخوذة من السؤر بالهمزة وهو البقية فلا يعم وهو الصحيح، وفي الحديث "وفارق سائرهن" أي: باقيهن وشرط أي أن تكون استفهامية أو شرطية، فإن كانت موصولة نحو: مررت بأيهم قام أي: بالذي, أو صفة نحو: مررت برجل أي رجل بمعنى كامل, أو حالا نحو: مررت بزيد أي رجل بفتح أي بمعنى كامل أيضا، أو منادى نحو: "يا أيها الرجل" فإنها لا تعم، وإما أن يكون عاما في العالمين خاصة أي: أولي العلم, كمن قال: الصحيح أنها تعم الذكور والإناث والأحرار والعبيد، وقيل: تعم شرعا الذكور الأحرار فقط، وشرطها أن تكون شرطية أو استفهامية, فإن كانت نكرة موصوفة نحو: مررت بمن معجب لك, بجر معجب أي: رجل معجب، أو كانت موصولة نحو: مررت بمن قام أي: بالذي قام فإنها لا تعم. ونقل القرافي عن صاحب التلخيص أن الموصولة تعم، وليس كذلك فقد صرح بعكسه، ونقله عنه الأصفهاني في شرح المحصول والعالمين هنا بكسر اللام, وإنما عدل عن التعبير بمن يعقل وإن كانت هي العبارة المشهورة، إلى التعبير بأولي العلم لمعنى حسن غفل عنه الشارحون, ذكره ابن عصفور في شرح المقرب وغيره، وهو أن من يطلق على الله تعالى كقوله تعالى: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] وكذلك أي: كقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] والبارئ سبحانه وتعالى يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل, فلو عبر به لكان تعبيرا غير شامل، وإما أن يكون عاما في غير أولي العلم وهو ما، نحو: اشتر ما رأيت, فلا يدخل فيه العبيد والإماء، وفيه خلاف يأتي ذكره بدليله في تأخير البيان إن شاء الله تعالى, لكن إذا كانت ما نكرة موصوفة نحو: مررت بما معجب لك أي بشيء، أو كانت غير موصوفة نحو: ما أحسن زيدا, فإنها لا تعم، وإما أن يكون عاما في الأمكنة خاصة نحو: أين تجلس أجلس، وإما في الأزمنة نحو: متى تجلس أجلس، وقيد ابن الحاجب ذلك بالزمان المبهم كما مثلناه، حتى لا يصح أن تقول: متى زالت الشمس فأتمنى، ولم أر هذا الشرط في الكتب المعتمدة، ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان إذا قال لامرأته: متى قمت أو حيث قمت أو أين قمت فأنت طالق يقع عليه الثلاث كما لو قال: كلما وليس كذلك. وقوله: "أو بقرينة" هذا هو الحال الثاني، وهو أن يكون عمومه مستفادا من اللغة لكن بقرينة وتلك القرينة قد تكون في الإثبات، وهي أل والإضافة الداخلان على الجمع كالعبيد وعبيدي، وعلى المفرد، وهو الذي عبر عنه المصنف باسم الجنس، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] لكن إن كانت أل عهدية فإن تعميمها لأفراد المعهودين خاصة،

قال في المحصول: والضمير العائد على اسم حكمه حكم ذلك الاسم في العموم وعدمه، وهنا أمور, أحدها: أن هذه القرينة قد تفيد العموم في النفي أيضا نحو: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] الثاني: أن العموم فيما تقدم يختلف, فالداخل على اسم الجنس يعم المفردات، وعلى الجمع يعم الجموع؛ لأن أل تعم أفراد ما دخلت عليه، وقد دخلت على جمع، وكذلك الإضافة. وفائدة هذا أنه يتعذر الاستدلال به في حالة النفي أو النهي على ثبوت حكمه لمفرداته، إنما حصل النفي أو النهي عن أفراد المجموع، والواحد ليس بجمع، وهو معنى قولهم: لا يلزم من نفي المجموع نفي كل فرد، ولا من النهي عنه النهي عن كل فرد, فإن قيل: يعارض هذا إطلاقهم أن العموم من باب الكلية فإن معناه ثبوته لكل فرد, سواء كان نفيا أم لا كما تقدم بسطه في تقسيم الدلالة. قلنا: لا تنافي بينهما, فإنا قد أثبتناه لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهو المجموع. الثالث: لم يصرح الإمام وأتباعه بحكم المفرد المضاف هنا, نعم صرحوا بعمومه في الكلام على أن الأمر للوجوب فإنهم قد استدلوا عليه بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ} الآية, فأورد الخصم أن أمره لا يعم فأجابوا بأنه عام لجواز الاستثناء كما تقدم، ونقله القرافي هنا عن صاحب الروضة، وأما المفرد المعرف بأل فذكره الإمام في كتبه وصحح هو وأتباعه أنه لا يعم، وصحح المصنف وابن الحاجب عكسه, وصححه ابن برهان في الوجيز, ونقله الإمام عن الفقهاء والمبرد والجبائي, ونقله الآمدي عن الشافعي -رحمه الله- والأكثرين، ورأيت في نصه في الرسالة نحوه أيضا، فإنه نص على أن الأرض من قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الزمر: 5] من الألفاظ العامة التي أريد بها العموم، ثم نص على أن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ونحوهما من العام الذي خص ورأيت في البويطي نحوه أيضا فإنه جعل قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] من العام المخصوص، ولك أن تقول: لم لا؟ قال الشافعي رحمه الله بوقوع الثلاث على من حلف بالطلاق المعرف، وقد يجاب بأن هذا يمين فيراعى فيه العرف لا اللغة. قوله: "أو النفي" تقديره أو بقرينة في النفي، وهو معطوف على قوله في الإثبات وحاصله أن النكرة في سياق النفي تعم سواء باشرها النفي نحو: ما أحد قائم أو باشر عاملها نحو: ما قام أحد، وسواء كان النافي ما أو لم أو لن أو ليس أو غيرها، ثم إن كانت النكرة صادقة على القليل والكثير كشيء، أو ملازمة للنفي نحو: أحد، أو داخلا عليها من نحو: ما جاء من رجل، أو واقعة بعد لا العاملة عمل إن وهي لا التي لنفي الجنس, فواضح كونها للعموم، وما عدا ذلك نحو: لا رجل قائما، وما في الدار رجل، ففيه مذهبان للنحاة, الصحيح أنها للعموم أيضا كما اقتضاه إطلاق المصنف وهو مذهب سيبويه, وممن نقله عنه شيخنا أبو حيان في حروف الجر، ونقله من الأصوليين إمام الحرمين في البرهان في الكلام على معاني الحروف لكنها ظاهرة في العموم لا نص، قال إمام الحرمين:

ولهذا نص سيبويه على جواز مخالفته فتقول: ما فيها رجل بل رجلان، كما يعدل عن الظاهر في نحو: جاء الرجال إلا زيدا، وذهب المبرد إلى أنها ليست للعموم وتبعه عليه الجرجاني في أول شرح الإيضاح والزمخشري عند قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وعند قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} [الأنعام: 4] نعم يستثنى من إطلاق المصنف سلب الحكم عن العموم كقولنا: ما كل عدد زوجا، فإن هذا ليس من باب عموم السلب أي: ليس حكما بالسلب على كل فرد, وإلا لم يكن فيه زوج وذلك باطل، بل المقصود إبطال قول من قال: إن كل عدد زوج وذلك سلب الحكم عن العموم، وقد تفطن لذلك السهروردي صاحب التلقيحات فاستدرجه وإذا وقعت النكرة في سياق الشرط كانت للعموم, أيضا صرح به في البرهان هنا وارتضاه الإبياري في شرحه له, واقتضاه كلام الآمدي وابن الحاجب في مسألة لا آكل. وقوله: "أو عرفا" هذا هو القسم الثاني من أصل التقسيم وهو عطف على قوله: لغة، أي: العموم إما أن يكون لغة أو عرفا كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فإن أهل العرف نقلوا هذا المركب من تحريم العين إلى تحريم جميع وجوه الاستمتاعات؛ لأنه المقصود من النسوة دون الاستخدام ونحوه. ومثله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فإن حملناه على الأكل للعرف, وفيه قول مذكور في باب المجمل والمبين أن هذا كله مجمل. قوله: "أو عقلا" هذا هو القسم الثالث, وضابطه ترتيب الحكم على الوصف، نحو: حرمت الخمر للإسكار, فإن ترتيبه عليه يشعر بأنه علة له والعقل يحكم بأنه كلما وجدت العلة يوجد المعلول، وكلما انتفت فإنه ينتفي، وأما في اللغة فإنها لم تدل على هذا العموم، أما في المفهوم فواضح, وأما في المنطوق فلما مر من أن تعليق الشيء بالوصف لا يدل على التكرار من جهة اللفظ، وههنا أمران أحدهما: أن صيغ العموم وإن كانت عامة في الأشخاص فهي مطلقة في الأحوال والأزمان والبقاع, فلا يثبت العموم فيها لأجل ثبوته في الأشخاص, بل لا بد من دليل عليه مثاله قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] يقتضي قتل كل مشرك لكن لا في كل حال بحيث يعم حال الهدنة والحرابة وعقد الذمة بل يقتضي ذلك في حال ما, وما من مشرك إلا ويقتل في حال ما كحال الردة وحال الحرب, وهذه القاعدة ارتضاها القرافي والأصفهاني في شرحي المحصول وقرراها بهذا التقرير في الكلام على التخصيص وهي صحيحة نافعة، ونازع الشيخ تفي الدين في شرح العمدة1 في صحتها، وكذلك الإمام في المحصول فإنه قال في كتاب القياس جوابا عن سؤال: قلنا: لما كان أمر الجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات, وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة, ويظهر أن يتوسط فيقال: معنى الإطلاق إنه إذا عمل به في شخص ما في حال ما في زمان ما فلا يعمل به في ذلك الشخص مرة أخرى، أما في

_ 1 شرح العمدة في فروع الشافعية للشاشي الشافعي، وهو للشيخ تقي الدين محمد بن علي، المعروف بابن دقيق العيد، المتوفى سنة "702هـ".

أشخاص أخر فيعمل به, فالتوفية بعموم الأشخاص أن لا يبقى شخص إلا ويدخل، والتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر الحكم في الشخص الواحد، ولقائل أن يقول: عدم التكرار معلوم من كون الأمر لا يقتضي التكرار. الثاني: دلالة العموم قطعية عند الشافعي -رحمه الله- والمعتزلة أيضا، وظنية عند أكثر الفقهاء, هكذا نقله الإبياري شارح البرهان وهي فائدة حسنة، وممن نقله عنه الأصفهاني شارح المحصول، وذكر الماوردي نحوه أيضا، فقال: واختلف المعممون في أن ما زاد على أقل الجمع هل هو من باب النصوص أو من باب الظواهر؟ وذكر في البرهان في أول العموم عن الشافعي نحوه أيضا. وقوله: "ومعيار العموم ... إلخ" اعلم أن الشافعي رضي الله عنه وكثيرا من العلماء ذهبوا إلى أن ما سبق ذكره من الصيغ حقيقة في العموم مجاز في الخصوص, واختاره ابن الحاجب وذهب جماعة إلى العكس, وقال جماعة: إنها مشتركة بينهما, وآخرون بالوقف وهو عدم الحكم بشيء، واختاره الآمدي وقيل بالوقف في الأخبار والوعد والوعيد دون الأمر والنهي, واختار المصنف مذهب الشافعي، واستدل عليه بوجهين أحدهما: جواز الاستثناء؛ وذلك لأن هذه الصيغ يجوز أن يستثنى منها ما شئناه من الأفراد، والاستثناء إخراج ما لولاه لوجب اندراجه في المستثنى منه، فلزم من ذلك أن تكون الأفراد كلها واجبة الدخول ولا معنى للعموم إلا ذلك، أما المقدمة الأولى فبالاتفاق، وأما الثانية فلأن الدخول لو لم يكن واجبا بل جائزا لكان يجوز الاستثناء من الجمع المنكر، فتقول: جاء رجال إلا زيدا, وقد نص النحاة على منعه، نعم قالوا: إن كان المستثنى منه مختصا جاز نحو: جاء رجال كانوا في دارك إلا زيدا منهم أو رجلا منهم، والتعليل الذي ذكره المصنف يدفع إيراد هذه الصورة, ولم يصرح الإمام ولا أتباعه كصاحب الحاصل بامتناع الاستثناء من النكرة، بل صرحوا بجوازه في غير موضع من هذه المسألة, وما قاله المصنف هو الصواب، لكن في هذا الدليل كلام تقدم في أدلة من قال: إن الأمر للتكرار، ولقائل أن يقول: لو كان جواز الاستثناء معيار العموم لكان العدد عاما وليس كذلك، واعترض الخصم عليه بأنه لو وجب أن يتناوله لامتنع الاستثناء؛ لأن المتكلم دل بأول كلامه على أن المستثنى داخل فيه، ودل بالاستثناء على عدم دخوله وذلك نقض للأول, وأجاب المصنف بأن ما ذكرتموه من الدليل ينتقض بالاستثناء من العدد، فإن المستثنى داخل في المستثنى منه قطعا، وللخصم أن يقول: لا أسلم جواز الاستثناء من العدد، فإن مذهب البصريين المنع لكونه نصا كما حكاه عنهم ابن عصفور في شرح المقرب وغيره، قال: إلا أن يكون العدد مما يستعمل في المبالغة كالألف والسبعين فيجوز، نعم الاعتراض نفسه ضعيف أو باطل, فإن المصنف لم يدع وجوب الاندراج مع كونه مستثنى بل ادعاه عند عدمه، ولهذا قال: ما يجب اندراجه لولاه، وأيضا فإن المستثنى داخل في المستثنى منه لغة لا منه فلا تناقض؛ لأن الصحيح أن الحكم على المستثنى منه إنما هو بعد إخراج المستثنى. قوله: "وأيضا" أي: الدليل الثاني: استدلال الصحابة بعموم هذه الصيغة

استدلال شائع من غير نكير فكان إجماعا، وبيانه أنهم قد استدلوا بعموم اسم الجنس المحلى بأل كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وبعموم الجمع المضاف، فإن فاطمة احتجت على أبي بكر -رضي الله عنهما- في توريثها من النبي -صلى الله عليه وسلم- الأرض المعروفة وهي فدك والعوالي بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية, واستدل أيضا أبو بكر بعمومه فإنه رد على فاطمة بقوله -صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركناه صدقة" وهذا الحديث معزوّ إلى الترمذي في غير جامعه, والثابت في الصحيحين: "لا نورث, ما تركناه صدقة" واستدل عمر -رضي الله عنه- بعموم الجمع المحلى، فإنه قال لأبي بكر حين عزم على قتال مانعي الزكاة: كيف تقاتلهم وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"؟! فقال أبو بكر: أليس أنه قال: "إلا بحقها"؟ وتمسك أيضا أبو بكر فإن الأنصار لما قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير رد عليهم أبو بكر بقوله -صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" رواه النسائي. قال: "الثالثة: الجمع المنكر لا يقتضي العموم؛ لأنه يحتمل كل أنواع العدد، قال الجبائي: حقيقة في كل أنواع العدد, فيحمل على جميع حقائقه, قلنا: لا, بل في القدر المشترك". أقول: الجمع المنكر أي: إذا لم يكن مضافا لا يقتضي العموم خلافا لأبي علي الجبائي, لنا أن رجالا مثلا يحتمل كل نوع من أنواع العدد بدليل صحة تقسيمه إليه، وتفسير الإقرار به وإطلاقه عليه ووصفه به، كرجال ثلاثة وعشرة، ومورد التقسيم وهو الجمع أعم من أقسامه ضرورة، فيكون الجمع أعم، وكل فرد أخص, والأعم لا يدل على الأخص، ولا يستلزمه فلا يحمل عليه، وقوله في كل أنواع العدد أي: من الثلاثة فصاعدا وإلا فيرد الاثنان، وأما الواحد فلا يرد لأنه لا يسمى عددا عند أهل الحساب بل العدد ينشأ عنه، واحتج الجبائي بأنه لما ثبت أنه يطلق على كل نوع كان مشتركا؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وحينئذ فيحمل على جميع حقائقه احتياطا كما ذكرناه في باب الاشتراك, وقد تقدم هناك من كلام المصنف أن أبا علي الجبائي ممن جوز استعمال المشترك في معنييه، لكنه لا يلزم منه الحمل كما تقدم، فاستفدنا من هنا أنه يقول بالحمل أيضا، والجواب: أنا لا نسلم أنه حقيقة في كل نوع بخصوصه حتى يكون مشتركا، بل حقيقة في القدر المشترك بين الكل وهو الثلاثة مع قطع النظر عن الزائد عليها كما قاله في المحصول؛ لأنا بينا أنه لا يدل على الأنواع فكيف يكون حقيقة فيها، وأيضا للفرار من الاشتراك، ولك أن تقول: هذا الكلام يقتضي أن رجالا أقلهم ثلاثة, وليس كذلك؛ لأنه جمع كثرة، والأصل في مدلوله وهو المشترك بين جموع الكثرة كلها إنما هو أحد عشر باتفاق النحاة. قال: "الرابعة: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] يحتمل نفي الاستواء من كل وجه, ومن بعضه فلا ينفي الاستواء من كل وجه؛ لأن الأعم لا يستلزم الأخص، وقوله: لا آكل, عام في كل مأكول فيحمل على التخصيص، كما لو قيل: لا آكل أكلا، وفرق أبو حنيفة بأن أكلا يدل

على التوحيد وهو ضعيف, فإنه للتوكيد فيستوي فيه الواحد والجمع". أقول: نفي المساواة بين الشيئين كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] هل هو عام في الأمور التي يمكن نفيها أم لا؟ وفيه مذهبان أحدهما: أن مقتضاها في الإثبات هل هو المساواة من كل وجه أو من بعض الوجوه؟ فإن قلنا: من كل وجه, فلا يستوي ليس بعام بل نفي للبعض؛ لأن نقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، وإن قلنا: من بعض الوجوه فلا يستوي عام؛ لأن نقيض الموجبة الجزئية سالبة كلية، والصحيح عند أصحابنا القائلين بأن العموم له صيغة، أن هذه أيضا للعموم، وممن صححه الآمدي وابن برهان وابن الحاجب وتمسك بها جماعة على أن المسلم لا يقتل بالكافر؛ لأن القصاص مبني على المساواة، وخالف الإمام وأتباعه ومنهم المصنف، واحتجوا بأن نفي الاستواء أعم من كونه من كل الوجوه أو من بعضها بدليل صحة تقسيمه إليهما. والأعم لا يستلزم الأخص فحينئذ نفي الاستواء المطلق لا يستلزم نفي الاستواء من كل وجه. وهذا الدليل ضعيف؛ لأن الأعم إنما يدل على الأخص في طرف الإثبات، أما في طرف النفي فيدل؛ لأنه نفي الحقيقة، ويلزم من انتفاء الحقيقة والماهية انتفاء كل فرد؛ لأنه لو وجد منها فرد لكانت الماهية موجودة؛ ولهذا لو قال: ما رأيت حيوانا وقد رأى إنسانا, عد كاذبا أيضا؛ فلأن الأفعال نكرات والنكرة في سياق النفي تعم. قوله: "بخلاف لا آكل" اعلم أنه إذا حلف على الأكل وتلفظ بشيء معين كقوله مثلا: والله لا آكل التمر، أو لم يتلفظ به لكن أتى بمصدر ونوى به شيئا معينا كقوله: والله لا آكل فلا خلاف بين الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث بغيره، فإن لم يتلفظ بالمأكول ولم يأت بالمصدر ولكن خصصه بنيته، كما إذا نوى التمر بقوله: والله لا آكل، أو إن أكلت فعبدي حر، ففي تخصيص الحنث به مذهبان, منشؤهما أن هذا الكلام هل هو علم أم لا؟ وقد علمت بما ذكرناه أن صورة المسألة المختلفة فيها أن يكون فعلا متعديا لم يقيد بشيء كما صوره الغزالي في المستصفى، وأن يكون واقعا بعد النفي أو الشرط كما صوره ابن الحاجب واقتضاه كلام الآمدي، إذا علمت هذا فأحد المذهبين وهو مذهب أبي حنيفة أنه ليس بعام، وحينئذ فلا يقبل التخصيص بل يحنث به وبغيره؛ لأن التخصيص فرع العموم. والثاني وهو مذهب الشافعي: أنه عام؛ لأنه نكرة في سياق النفي أو الشرط فيعم؛ ولأن لا آكل يدل على نفي حقيقة الأكل الذي تضمنه الفعل، فلو لم ينتف بالنسبة إلى بعض المأكولات لم تكن حقيقته منتفية ولا معنى للعموم إلا ذلك، فإذا ثبت أنه عام فيقبل التخصيص واستدل المصنف عليه بالقياس على ما لو قال: لا آكل أكلا, فإن أبا حنيفة يسلم أنه قابل التخصيص بالنية كما تقدم، فكذلك لا آكل؛ لأن المصدر موجود فيه أيضا لكونه مشتقا منه, ومال في المحصول لمقالة أبي حنيفة فقال: إن نظره فيه دقيق، وفي المنتخب والحاصل: إنه الحق، وفرق أعني الإمام بأن لا آكل يتضمن المصدر, والمصدر إنما يدل على الماهية

من حيث هي والماهية من حيث هي لا تتعدد فيها فليست بعامة، وإذا انتفى العموم انتفى التخصيص فيحنث بالجميع. وأما أكل فليس بمصدر؛ لأنه يدل على التوحيد أي: على المرة الواحدة وحينئذ فيصح تفسير ذلك الواحد بالنية, فلهذا لا يحنث بغيره وهو ضعيف كما قاله المصنف, بل باطل لأن هذا مصدر مؤكد بلا نزاع والمصدر المؤكد يطلق على الواحد والجمع ولا يفيد فائدة زائدة على فائدة المؤكد, فلا فرق حينئذ بين الأول والثاني، ولو سلمنا أن لا آكل ليس بعام لكنه مطلق والمطلق يصح تقييدا اتفاقا, وقد انتصر الإمام لأبي حنيفة بشيء في غاية الفساد, فإنه بناه على أن أكلا ليس بمصدر وأنه للمرة الواحدة, وأن لا آكل ليس بعام، وأنه إذا لم يكن عاما لا يقبل التقييد. وقد تقدم بطلان الكل وبناء أيضا على أن تخصيصه ببعض الأزمنة أو الأمكنة لا يصح بالاتفاق، وهو باطل أيضا، فإن المعروف عندنا أنه إذا قال: والله لا آكل ونوى في مكان معين أو زمان معين أنه يصح وقد نص الشافعي على أنه لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق ثم أردت التكليم شهرا أنه يصح. "فروع" حكاها الإمام أحدها: أن خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي} [الأحزاب: 45] لا يتناول أمته على الصحيح، وظاهر كلام الشافعي في البويطي أنه يتناولهم. والثاني: أن خطاب الذكور الذي يمتاز عن خطاب الإناث بعلامة المسلمين وفعلوا لا يدخل فيه الإناث على الصحيح، ونقله القفال في الإشارة عن الشافعي، وكذلك ابن برهان في الوجيز. الثالث: لفظ كان لا يقتضي التكرار وقيل: يقتضيه. الرابع: إذا أمر جمعا بصيغة جمع كقوله: أكرموا زيدا أفاد الاستغراق. الخامس: خطاب المشافهة كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحجرات: 13] لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل. السادس: إذا لم يكن إجراء الكلام على ظاهره إلا بإضمار شيء وكان هناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإضمار كل منهما, لم يجز إضمار جميعها؛ لأن الإضمار على خلاف الأصل, وهذا هو المراد من قول الفقهاء: المقتضي لا عموم له, مثاله قوله -عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ" 1 والتقدير: حكم الخطأ وذلك الحكم قد يكون في الدنيا كإيجاب الضمان، وقد يكون في الآخرة كرفع التأثيم، قال: وللخصم أن يقول: ليس أحدهما بأولى من الآخر فيضمونها جميعا. السابع: قول الصحابي مثلا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر2 وقضى بالشاهد واليمين، لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية، والمحكي قد يكون خاصا، وكذا قوله: سمعته يقول: "قضيت بالشفعة للجار" لاحتمال كون الألف واللام للعهد قال: أما إذا كان منونا كقوله -عليه الصلاة والسلام: "قضيت بالشفعة لجار" وقول الراوي: "مضى بالشفعة لجار" فجانب العموم أرجح، واختار ابن الحاجب

_ 1 أخرجه ابن حجر في فتح الباري "5/ 160، 161". 2 أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم الحديث "49، 51" جـ11، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف "16149" وأحمد في مسنده "2/ 346".

أن الجميع للعموم. ونقل في الأحكام عن الجمهور موافقة الإمام ثم مال إلى أنه يعم. الثامن: قال الشافعي رحمه الله: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم, المقال مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال عليه الصلاة والسلام: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" 1 ولم يسأله هل ورد العقد عليهن معا أو مرتبا؟ فدل ذلك على أنه لا فرق، على خلاف ما يقوله أبو حنيفة, قال الإمام: وفيه نظر لاحتمال أنه أجاب بعد أن عرف الحال. واعلم أنه قد روي عن الشافعي أيضا أنه قال: حكاية الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال. وقد جمع القرافي بينهما بأن قال: لا شك أن الإجمال المرجوح لا يؤثر، إنما يؤثر المساوي أو الراجح، وحينئذ نقول: الاحتمال مؤثر إن كان في محل الحكم وليس في دليله، فلا يقدح كحديث ابن غيلان وهو مراد الشافعي بالكلام الأول، وإن كان في دليله قدح وهو المراد بالكلام الثاني. التاسع: مثل يا أيها الناس ويا عبادي, يشمل الرسول وقال الحليمي: إن كان معه قل فلا، وقيل: لا يدخل مطلقا. العاشر: المتكلم داخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثرين كقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] وقولك: من أحسن إليك فأكرمه، قال: ويشبه أن يكون كونه أمرا قرينة مخصصة. قال في الحاصل: وهو الظاهر. الحادي عشر: المدح أو الذم لا يخرج الصيغة عن كونها عامة على الصحيح، وصححه أيضا الآمدي وابن الحاجب ونقلا مقابله عن الشافعي كذلك ابن برهان أيضا, ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13, 14] {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] . "فرع": قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ونحوه يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من المال, نص عليه الشافعي في الرسالة في باب الزكاة فقال عقب ذكره لهذه الآية: ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء، وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعض هذا لفظه بحروفه، ورأيت في البويطي نحوه أيضا ونقله ابن برهان عن الأكثرين وكذلك الآمدي وابن الحاجب ثم اختار خلافه.

_ أخرجه مالك في الموطأ "ص586", والسيوطي في الدر المنثور "2/ 119".

الفصل الثاني: في الخصوص

الفصل الثاني: في الخصوص قال: "الفصل الثاني: في الخصوص وفيه مسائل، الأولى: التخصيص إخراج بعض ما يتناوله اللفظ والفرق بينه وبين النسخ أنه يكون للبعض، والنسخ قد يكون عن الكل والمخصص المخرج عنه، والمخصص المخرج وهو إرادة اللافظ ويقال للدال عليها مجازا. الثانية: القابل للتخصيص حكم ثبت لمتعدده لفظا كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] أو معنى وهو ثلاثة الأول: العلة وجوز تخصيصها كما في العرايا. الثاني: مفهوم الموافقة فيخصص بشرط بقاء الملفوظ مثل جواز حبس الوالد لحق الولد. الثالث: مفهوم المخالفة فيخصص بدليل راجح كتخصيص مفهوم $"إذا بلغ الماء قلتين" بالراكد،

قل: يوهم البداء أو الكذب, قلنا: يندفع بالمخصص". أقول: لما فرغ من العموم شرع يتكلم في الخصوص؛ فلذلك تكلم عن التخصيص والمخصص فذكر في هذا الفصل تعريف الثلاثة، وكذلك أحكام المخصص بفتح الصاد، وأخر أحكام المخصص بكسرها إلى الفصل الثالث. فأما التخصيص فقال أبو الحسين: إنه إخراج بعض ما يتناوله الخطاب، واختاره المصنف ولكنه أبدل الخطاب باللفظ، فقوله: إخراج أي: عما يقتضيه ظاهر اللفظ من الإرادة، والحكم لا عن الحكم نفسه، ولا عن الإرادة نفسها فإن ذلك الفرد ما يدخل فيهما حتى يخرج، ولا عن الدلالة فإن الدلالة هي كون اللفظ بحيث إذا طلق فهم منه المعنى، وهذا حاصل من التخصيص فافهمه، وقوله: اللفظ دخل فيه العام وغيره كالاستثناء من العدد، فسيأتي أنه من المخصصات وكذا بدل البعض كما صرح به ابن الحاجب نحو: أكرم الناس قريشا، وذلك أن تقول: يدخل في هذا إخراج بعض العام بعد العمل به، وسيأتي أنه نسخ لا تخصيص حيث قال: خصنا في حقنا قبل الفعل ونسخ عنا بعده، وأيضا فالتخصيص قد لا يكون من ملفوظ بل من مفهوم كما سيأتي بعد هذه المسألة، ولما كان النسخ شبيها بالتخصيص لكونه مخرجا لبعض الأزمان، فرق بينهما بأن التخصيص إخراج للبعض والنسخ إخراج عن الكل وفيه نظر، لما تقدم من أن إخراج البعض بعد العمل نسخ لا تخصيص. لا جرام أن في بعض النسخ، والنسخ قد يكون عن الكل بزيادة قد وعلى هذا فلا إيراد، والمخصص بفتح الصاد هو العام الذي أخرج عنه البعض لا البعض المخرج عن العام على ما زعمه بعضهم، فإن المخصوص هو الذي تعلق به التخصيص أو دخله التخصيص وهو العام، ويقال: عام مخصص ومخصوص، والمخصص بكسرها هو المخرج بكسر الراء, والمخرج حقيقة هو إرادة المتكلم؛ لأنه لما جاز أن يرد الخطاب خاصا وعاما لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة. قوله: "ويقال" أي: ويطلق المخصص أيضا على الدال على الإرادة مجازا، والدال يحتمل أن يكون صفة للشيء أي: للشيء الدال على الإرادة وهو دليل التخصيص لفظيا كان أو عقليا أو حسيا تسمية للدليل باسم المدلول، ويحتمل أن يكون صفة للشخص أي: الشخص الدال على الإرادة وهو المريد نفسه، أو المجتهد أو المقلد تسمية للمحل باسم الحال. والثاني: هو الذي ذكره الإمام لا غير فإنه قال: ويقال بالمجاز على شيئين أحدهما: من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته. وثانيهما: من اعتقد ذلك أو وصفه به، سواء كان الاعتقاد حقا أو باطلا، وأما صاحب الحاصل فإنه قال: ويقال بالمجاز على الدلالة على تلك الإرادة وهذا مخالف للجميع. المسألة الثانية: الشيء القابل للتخصيص هو الحكم الثالث لأمر متعدد؛ لأن التخصيص إخراج البعض والأمر الواحد لا يتصور فيه ذلك، ثم إن المتعدد قد يكون تعدده من جهة اللفظ كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإنه يدل بلفظه على قتل كل مشرك, وخص عنه أهل الذمة وغيرهم، وقد يكون من جهة المعنى

أي: الاستنباط وهو ثلاثة الأول: العلة وقد جوز تخصيصها أي: جوزه بعضهم ومنعه الشافعي وجمهور المحققين كما قاله في المحصول في الكلام على الاستحسان، وإنما عبر بهذه العبارة لأن المسألة فيها مذاهب تأتي في القياس وهو المسمى هناك بالنقض مثاله العرايا "فإن الشارع نهى عن بيع الرطب بالتمر وعلله بالنقصان عند الجفاف" وهذه العلة موجودة في العرايا "هو بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض" مع أن الشارع قد جوزه. الثاني: مفهوم الموافقة فيجوز تخصيصه بما عدا الملفوظ كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإنه يدل على تحريم التأفيف، وبالمفهوم على تحريم الضرب وسائر أنواع الأذى، وخص منه الحبس في حق دين الولد فإنه جائز على ما صححه الغزالي وطائفة, منهم المصنف في الغاية القصوى. فأما إذا أخرج الملفوظ به وهو التأفيف في مثالنا فإنه لا يكون تخصيصا بل نسخا للمفهوم، وهو معنى قوله بعد ذلك: نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى وبالعكس. فإن قيل: حكمه هنا بأي إخراج الفحوى تخصيص لا نسخ للمنطوق معارض لما حكيناه عنه في النسخ. قلنا: إن كان الإخراج المعارض راجحا كردة الأب المقتضية لقتله ومطله المقتضي كان لحبسه تخصيصا لا ناسخا للمنطوق لأنه لا ينافي ما دل عليه من الحرمة وهذا هو المراد هنا، وإن لم يكن بل أورد ابتداء كان نسخا له لمنافاته إياه، وهذا هو المراد هناك. الثالث: مفهوم المخالفة فيجوز تخصيصه بدليل راجح على المفهوم؛ لأنه إن كان مساويا كان ترجيحا من غير مرجح، وإن كان مرجحا كان العمل به ممتنعا, هذا الشرط ذكره صاحب الحاصل والمصنف وأهمله الإمام وهو الصواب؛ لأن المخصص لا يشترط فيه الرجحان كما سيأتي أن فيه جمعا بين الدليلين مثاله قوله -عليه الصلاة والسلام: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" 1 فإن مفهومه يدل على أنه يحمل الخبث فإذا لم يبلغ قلتين, وهذا المفهوم قد خص منه الجاري فإن القول القديم أنه لا ينجس إلا بالتغير، واختاره الغزالي وجماعة ومنهم المصنف في الغاية القصوى لقوله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء" 2 الحديث, فإنه يدل بمنطوقه على عدم التنجيس والمنطوق أرجح من المفهوم. قوله: "قيل: يوهم البداء" اعلم أن من الناس من قال: إن التخصيص لا يجوز لأنه إن كان في الأوامر فإنه يوهم البداء، وإن كان في الأخبار فإنه يوهم الكذب, وهم محالان على الله تعالى، وإيهام المحال لا يجوز، والبداء بالدال المهملة والمد هو ظهور المصلحة بعد خفائها, قال الجوهري: وبدا له في هذا الأمر بداء, ممدود أي: نشأ له فيه رأي، والجواب أنه يندفع بالمخصص أي بالإرادة، أو بالدليل الدال على الإرادة، وذلك لأنا إذا علمنا أن اللفظ في الأصل يحتمل التخصيص فيقام الدليل على وقوعه مبينا للمراد، وإنما يلزم البداء

_ 1 أخرجه الدارقطني في سننه "1/ 21"، "2/ 503". 2 أخرجه العراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 129" والزبيدي في إتحاف السادة المتقين "2/ 332".

أو الكذب إن لو كان المخرج مرادا وكلام الإمام وأتباعه وابن الحاجب يقتضي أن الخلاف في الأمر والخبر وليس كذلك، بل في الخبر خاصة كما صرح به الآمدي وهو مقتضى كلام أبي الحسين في المعتمد والشيخ أبي إسحاق في شرح اللمع وغيرهم. قال: "الثالثة: يجوز التخصيص ما بقي غير محصور لسماجة "أكلت كل رمان" ولم يأكل غير واحدة، وجوز القفال إلى أقل المراتب، فيجوز في الجمع ما بقي ثلاثة، فإنه الأقل عند الشافعي وأبي حنيفة بدليل تفاوت الضمائر وتفصيل أهل اللغة، واثنان عند القاضي والأستاذ بدليل قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فقيل: أضاف إلى المعمولين وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فقيل: المراد به الميول وقوله عليه الصلاة والسلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" 1 فقيل: أراد جواز السفر وفي غيره إلى الواحد وقوم إلى الواحد مطلقا". أقول: اختلفوا في الضابط المقداري الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص، فذهب أبو الحسين إلى أنه لا بد من بقاء جمع كثير سواء كان العام جمعا كالرجال أو غير جمع كمن وما إلى أن يستعمل ذلك العام في الواحد تعظيما له وإعلاما بأنه يجري مجرى الكثير كقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] وهذا المذهب نقله الآمدي وابن الحاجب عن الأكثرين, واختاره الإمام وأتباعه, واختلفوا في تفسير هذا الكثير ففسره ابن الحاجب بأنه الذي يقرب من مدلوله قبل التخصيص، ومقتضى هذا أن يكون أكثر من مصنف وفسره المصنف بأن يكون غير محصور فقال: ما بقي غير محصور أي: ما بقي من المخرج عنه عدد غير محصور، وما ههنا مصدرية تقديرية يجوز التخصيص مدة بقاء عدد غير محصور من المخرج عنه، فإن كان محصورا فلا، والدليل عليه أنه لو قال: أكلت كل رمان في البيت ولم يأكل غير واحدة لكان ذلك مستهجنا في اللغة سمجا أي: قبيحا, قال الجوهري: سمج الشيء بالضم سماجة أي: قبح فهو سمج بإسكان الميم, كصعب فهو صعب وبكسرها كخشن بالشين المعجمة، فهو خشن وبزيادة الياء كقبح فهو قبيح، ولك أن تقول: قد جوز المصنف له على عشرة إلا تسعة كما سيأتي والاستثناء عنده من المخصصات المتصلة، فهذا التخصيص وأمثاله لم يبق فيه عدد غير محصور، وأيضا فهذا الدليل لا يحصل به المدعي؛ لأنه إنما ينفي الواحد فقط. والمذهب الثاني وهو رأي القفال الشاشي: أنه يجوز التخصيص إلى أن ينتهي إلى أقل المراتب التي ينطلق عليها ذلك اللفظ المخصوص مراعاة لمدلول الصيغة, وعلى هذا فيجوز التخصيص في الجمع كالرجال ونحوه إلى ثلاثة؛ لأنها أقل مراتب الجمع على الصحيح، كما سيأتي، وفي غير الجمع كمن ومال وإلى الواحد لأنه أقل مراتبه نحو: من يكرمني أكرمه، ويريد به شخصا واحدا وقد استطرد المصنف فأدخل بين هذا التفصيل مسألة مستقلة طويلة

_ 1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "2/ 198" والخطيب البغدادي في تاريخه "8/ 415".

وهي الكلام على أقل الجمع، وقد ذكرها في المحصول في أثناء العموم. والمذهب الثالث: أنه يجوز التخصيص إلى الواحد مطلقا أي: سواء كان جمعا أم لا كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] والقائل نعيم بن مسعود الأشجعي، هكذا قال الآمدي وابن الحاجب وغيرهما, لكن رأيت في الرسالة للشافعي أن القائل هم الأربعة الذين تخلفوا عن أحد، وتوقف الآمدي في المسألة واختار ابن الحاجب تفصيلا لا يعرف لغيره, فقال: التخصيص إن كان بالمتصل نظرت فإن كان بالاستثناء نحو: أكرم الناس العلماء, أو الشرط نحو: أكرم الناس إن كانوا عالمين فيجوز إلى اثنين، وإن كان التخصيص بالمنفصل فإن كان في العام المحصور القليل فيجوز إلى اثنين, كما تقول: قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة، وقد قتلت اثنين، وإن كان غير محصور مثل: قتلت كل من في المدينة, أو محصورا كثيرا مثل: أكلت كل رمانة وقد كان ألفا فيجوز إذا كان الباقي قريبا من مدلول العام. قوله: "فإنه الأقل" هذه هي المسألة التي ذكرها استطرادا فنعود إلى شرحها فنقول: ذهب الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما إلى أن أقل الجمع ثلاثة, فإن أطلق على الاثنين أو على الواحد كان مجازا، واختاره الإمام والمصنف، وقال القاضي والأستاذ: أقله اثنان واختار ابن الحاجب في المختصر الكبير الأول، وأما في المختصر الصغير فكلامه أولا يقتضي اختيار الثاني، وفي الاستدلال يقتضي الأول، وهذان المذهبان حكاهما المصنف, وقيل: ينطبق أيضا على الواحد حقيقة، وقيل: لا ينطبق على الاثنين لا حقيقة ولا مجازا، حكاهما ابن الحاجب وتوقف الآمدي في المسألة، واستدل المصنف بوجهين, أحدهما: أن الضمائر متفاوتة أي: متخالفة؛ لأن ضمير المفرد غير بارز، وضمير المثنى ألف، وضمير الجمع واو نحو: افعل وافعلا وافعلوا، وحينئذ فنقول: اختلاف الضمير في التثنية والجمع يدل على اختلاف حقيقتهما, كما يدل على الاختلاف بين الواحد والجمع، وأيضا فلأنه لا يجوز وضع شيء منها مكان الآخر فلو كان أقل الجمع اثنين لجاز التعبير عنه بضمير الجمع وليس كذلك. الثاني: أن أهل اللغة فصلوا بينهما فقالوا: الاسم قد يكون مفردا، وقد يكون مثنى، وقد يكون مجموعا، وبين صفتيهما أيضا فقالوا: رجلان عاقلان، ورجال عاقلون, فدل على المغيرة. واعلم أن القائل بأن أقل الجمع اثنان يقول بالضرورة: إن الجمع أعم من المثنى؛ لأن كل مثنى جمع ولا ينعكس، ولا شك أن حقيقة الأعم غير حقيقة الأخص، فإن حقيقة الحيوان غير حقيقة الإنسان, فيكون حقيقة المثنى غير حقيقة الجمع عند الخصم، وهذا جواب واضح عن الدليل الثاني، وعن التقرير الأول من الدليل الأول، وأما على التقرير الثاني فيؤخذ منه أيضا؛ لأنا نقول: لما كان مغايرا جعلوا لكل واحد منهما شيئا يميزه. قوله: "بدليل قوله تعالى: {شَرَعَ} في أدلة الخصم القائل بأن أقله اثنان وهي ثلاثة, الأول: قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}

[الأنبياء: 78] إلى قوله: {لِحُكْمِهِمْ} فلو لم يكن أقل الجمع اثنين لوجب أن يقال: لحكمهما، وجوابه أن الحكم مصدر, والمصدر يصح إضافته إلى معموليه أي الفاعل والمفعول وهما الحاكم والمحكوم عليه هنا، وحينئذ فيكون المراد داود وسليمان والخصمين هكذا أجاب الإمام، وهو جواب عجيب، فإن المصدر إنما يضاف إليهما على البدل، ولا يجوز أن يضاف إليهما معا، سمعت شيخنا أبا حيان يقول: سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يقول في هذا الجواب: إنه كلام من لم يعرف شيئا من علم العربية، وقد ذكر ابن الحاجب في المختصر الكبير هذا الاعتراض أيضا وتكلف تصحيحه بإخراج الحكم عن المصدرية إلى معنى الأمر، والمصنف كأنه استشعر ضعفه وضعف ما بعده من الأجوبه فعزاها إلى غيره, فإنه عبر عنها بقوله: فقيل على خلاف عادته. الثاني: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أطلق لفظ القلوب وأراد قلب عائشة وحفصة -رضي الله تعالى عنهما- وأجيب بأن اسم القلب يطلق حقيقة على الجرم الموضوع في الجانب الأيسر, ومجازا على الميل الموجود فيه كقولهم: ما لي إلى هذا قلب من باب إطلاق اسم المحل على الحال وهو المراد هنا، والتقدير: صغت ميولكما بدليل أن الجرم لا يوصف بالصغر حقيقة. واعلم أن هذا الدليل خارج عن محل النزاع فإن القاعدة النحوية أنك إذا أضفت الشيئين إلى ما يتضمنها نحو قطعت رءوس الكبشين، ويجوز فيه ثلاثة أوجه: الإفراد والتثنية والجمع بلا خلاف، ومحل الخلاف فيما عداه، وقد نبه عليه ابن الحاجب في المختصر الكبير. الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" رواه ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري والدارقطني عن عمرو بن شعيب، وأجاب في المحصول بأنه محمول على إدراك فضيلة الجماعة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الشرعيات لا لبيان اللغة، ثم قال: وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن السفر إلا في جماعة ثم بين بهذا الحديث أن الاثنين فما فوقهما جماعة في جواز السفر, واقتصر المصنف على الثاني وهو ضعيف؛ لأن السفر منفردا ليس بحرام بل هو جائز لكنه مكروه, وسلمنا أن مراده بالجواز عدم الكراهة لكنه لا يحصل بالاثنين، بل الجواب أن هذا استدلال على غير محل النزاع؛ لأن الخلاف ليس في لفظ الجمع ولا في لفظ الجماعة كما سيأتي عقبه. "فائدة": محل الخلاف مشكل؛ لأنه لا جائز أن يكون في صيغة الجمع التي هي الجيم والميم والعين، فإنه لا خلاف فيها كما قاله الآمدي وابن الحاجب في المختصر الكبير, قال: وإنما الخلاف في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة كرجال ومسلمين وهم، وأما الجمع نفسه فهو ضم شيء إلى شيء وهو يطلق على الاثنين بلا خلاف، ولأنه لو كان كذلك لما أمكن إثبات الحكم لغيرها من الصيغ، وقد اتفقوا على ذلك ولا جائز أن يكون محل الخلاف صيغ الجمع؛ لأنها إن اقترنت بالألف واللام أو بالإضافة كانت للعموم كما تقدم، وإن لم تقترن به فإن كانت من

جموع الكثرة فأقلها أحد عشر فلا نزاع عند النحاة، وإن استعملت في الأقل كانت مجازا ولم يبق إلا جموع القلة وهي خمسة أشياء، أربعة منها من جموع التكسير يجمعها قول الشاعر: بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد والخامس: هو جمع السلامة سواء كان مذكرا كمسلمين, أو مؤنثا كمعلمات فإن كانت -أعني جموع القلة- هي محل الخلاف فالأمر قريب, لكنهم لما مثلوا لم يقتصروا عليه بل مثلوا برجال مع أنه من جموع الكثرة. هكذا صرح به الإمام في المحصول في الكلام على أن الجمع المنكر هل يعم أم لا؟ وكذلك الآمدي وابن الحاجب كما تقدم نقله عنهما. قوله: وفي غيره إلى الواحد أي: في غير الجمع وقد تقدم شرحه وشرح ما بعده. قال: "الرابعة: العام المخصص مجاز وإلا لزم الاشتراك, وقال بعض الفقهاء: إنه حقيقة، وفرق الإمام بين المخصص المتصل والمنفصل؛ لأن المقيد بالصفة لم يتناول غيرا، قلنا: المركب لم يوضع, والمفرد متناول". أقول: اختلفوا في العام إذا خص: هل يكون حقيقة في الباقي أم لا؟ على ثمانية مذاهب حكاها الآمدي وذكر المصنف منها ثلاثة, أصحها عنده وعند ابن الحاجب أنه مجاز مطلقا؛ لأنه قد تقدم أنه حقيقة في الاستغراق، فلو كان حقيقة في البعض أيضا لكان مشتركا والمجاز خير من الاشتراك. والثاني: أنه حقيقة مطلقا ونقله إمام الحرمين عن جماهير الفقهاء وابن برهان عن جماهير العلماء؛ لأن تناوله للباقي قبل التخصيص كان حقيقة وذلك التناول باق، والجواب أنه إنما كان حقيقة لدلالته عليه وعلى سائر الأفراد لا عليه وحده. والثالث قاله الإمام تبعا لأبي الحسين البصري: إن خص بمتصل أي: بما لا يستقل كان حقيقة سواء كان صفة أو شرطا أو استثناء أو غاية نحو: أكرم الرجال العلماء أو أكرمهم إن دخلوا أو أكرمهم إلا زيدا, أو أكرمهم إلى المساء, وإن خص بمنفصل أي: بما يستقل كان مجازا كالنهي عن قتل العبيد بعد الأمر بقتل المشركين, فإنه قلنا: إنه مجاز, ففي الاحتجاج به مذهبان حكاهما ابن برهان. قوله: "لأن المقيد بالصفة" هذا دليل الإمام، ويمكن تقريره على وجهين أحدهما: أن العام المقيد بالصفة مثلا لم يتناول غير الموصوف, إذ لو تناوله لضاعت فائدة الصفة, وإذا كان متناولا له فقط، وقد استعمل فيه فيكون حقيقة بخلاف العام المخصوص بدليل متصل فإن لفظه متناول للمخرج عنه بحسب اللغة مع أنه لم يستعمل فيه فيكون مجازًا, وإلا لزم الاشتراك كما تقدم وهذا التقرير ذكره في الحاصل وهو الذي يظهر من كلام المصنف والتعبير بالصفة للتمثيل لا للتقيد. التقرير الثاني وهو ما ذكره في المحصول: أن لفظ العموم حال انضمام الصفة مثلا إليه ليس هو المقيد لذلك البعض المنطوق به؛ لأن الرجال وحده من قولنا: الرجال العلماء، أو أفاد العالمين لما أفادت الصفة شيئا، وإذا لم يكن مقيدا لذلك البعض استحال أن يقال: إنه مجاز فيه بل المجموع الحاصل من لفظ العموم ولفظ الصفة هو

المقيد له وإفادته له حقيقة، وهذا التقرير مصرح بأن البعض الموصوف لا يفيد المنطوق، وتقرير الحاصل مصرح بأنه يفيده، وكلام الإمام محتمل للأمرين، أما الأول فواضح, وأما الثاني فيكون المراد بقوله: لأن المقيد بالصفة هو أن المجموع من العام والصفة تناول الموصوف ولم يتناول غيره. وأجاب المصنف بأن المركب من الموصوف مع الصفة مثلا غير موضوع للباقي؛ لأن المركبات ليست بموضوعة على المشهور وحينئذ فلا يكون حقيقة فيه؛ لأن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له فلم يبق إلا المفردات، ولا شك أن المفرد الذي هو العام متناول في اللغة لكل فرد, وقد استعمل في البعض فيكون مجازا، وقد تقدم أن هذا الجواب يعكر على ما ذكره في مجاز التركيب، فالأولى في الجواب أن يقال: كلامنا في العام المخصص وهو الموصوف وحده، لا في المجموع من المخصص والمخصص أيضا لو لم يكن الموصوف ونحوه متناولا لم يكن المتصل به مخصصا، لأن التخصيص إخراج بعض ما يتناوله اللفظ ولا شك أن هذه الأشياء من المخصصات عنده, والتحقيق أن اللفظ متناول بحسب وضع اللغة ولكن الصفة قرينة في إخراج البعض فيكون مجازا كما قاله المصنف. قال: "الخامسة: المخصص بمعين حجة ومنعها عيسى بن أبان وأبو ثور وفصل الكرخي. لنا أن دلالته على فرد لا تتوقف على دلالته على الآخر لاستحالة الدور, فلا يلزم من زوالها زوالها". أقول: العام إن خص بمبهم فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف، كما قاله الآمدي وغيره؛ لأنه ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج, مثاله قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] وإن خص بمعين كما لو "قيل: اقتلوا المشركين" إلا أهل الذمة, فالصحيح عند الآمدي والإمام وابن الحاجب والمصنف أنه حجة في الباقي مطلقا، وقال ابن أبان وأبو ثور: ليس بحجة مطلقا، وهو المراد بقوله: ومنعها أي: ومنع حجيته وفصل الكرخي، أي: فقال: إن خص بمتصل كان حجة وإلا فلا, وهذا التفصيل يعرف هو ودليله من المسألة السابقة؛ فلذلك أهمله المصنف. والجمهور على أن أبان لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل, وأصله: أبين على وزن أفعل فقلبت الياء ألفا لانقلابها في الماضي المجرد، وهو بان، ومن قال: إنه منصرف قال: وزنه فعال, حكاه ابن يونس في شرح المفصل وغيره. قوله: "لنا" أي: الدليل على أنه حجة، أن دلالة العام على فرد من الأفراد لا تتوقف على دلالته على الفرد الآخر؛ لأن دلالته على الباقي مثلا لو كانت متوقفة على البعض المخرج، فإن لم تتوقف دلالته على المخرج على الباقي كان تحكما؛ لأن دلالة العام على جميع أفراده متساوية, وإن توقفت عليه لزم الدور, وهو مستحيل فثبت أن دلالته على فرد لا تتوقف على دلالته على غيره من الأفراد، وحينئذ فلا يلزم من زوال الدلالة عن بعض الأفراد زوالها على البعض الآخر فيكون حجة, وهذا الدليل ضعيف كما نبه عليه

صاحب التحصيل، وتقرير ذلك موقوف على مقدمة وهي أن الشيئين إذا توقف كل منهما على الآخر فإن كان التوقف بالبعدية والقبلية، وهو المسمى بالدور السبقي فالوقوع مستحيل، كما إذا قال زيد: لا أدخل الدار حتى يدخل قبلي عمرو وقال عمرو كذلك، وإن لم يكن سبقيا كما إذا قال كل منهما: لا أدخل الدار حتى يدخل الآخر فلا استحالة فيه لإمكان دخولهما معا، ويسمى بالدور المعي، إذا عرفت هذا فتقول: قول المصنف لنا: إن دلالته على فرد لا تتوقف على دلالته على الآخر إن أراد به التوقف السبقي فلا يلزم من عدمه جواز وجود الدلالة بعد إخراج البعض, فإنه يجوز أن تكون دلالته على البعض مستلزمة لدلالته على البعض الآخر, وبالعكس لجواز التلازم من الجانبين كالبنوة والأبوة وغيرهما من المتضايفين, وإن أراد به التوقف المعي فلا استحالة فيه كما بيناه، هذا معنى كلام التحصيل فافهمه, والصواب التمسك بعمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم قد استدلوا بالعمومات المخصوصة من غير نكير فكان إجماعا. قال: "السادسة: يستدل بالعام ما لم يظهر المخصص, وابن سريج أوجب طلبه أولا. لنا لو وجب لوجب طلب المجاز للتحرز عن الخطأ واللازم منتف، قال: عارض دلالته احتمال المخصص، قلنا: الأصل يدفعه". أقول: هل يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص؟ فيه مذهبان جوزه الصيرفي، ومنعه ابن سريج هكذا حكاه الإمام وأتباعه، ولم يرجح شيئا منهما في كتابيه المحصول والمنتخب هنا, لكنه أجاب عن دليل ابن سريج1 وفيه إشعار بميله إلى الجواز؛ ولهذا صرح صاحب الحاصل بأنه المختار فتابعه المصنف عليه لكنه جزم بالمنع فيه, أعني في المحصول في أواخر الكلام على تأخير البيان عن وقت الخطاب. واعلم أن إثبات الخلاف على هذا الوجه غير معروف ولا مستقيم، فإن الذي قاله الغزالي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص بالإجماع، ثم اختلفوا فقيل: يبحث إلى أن يغلب على الظن عدم المخصص، ونقله الآمدي عن الأكثرين وابن سريج قال: وذهب القاضي وجماعة إلى أنه لا بد من القطع بعدمه ويحصل ذلك بتكرر النظر والبحث واشتهار كلام العلماء فيها من غير أن يذكر أحد منهم مخصصا, وحكى الغزالي قولا ثالثا: أنه لا يكفي الظن، ولا يشترط القطع بل لا بد من اعتقاد جازم وسكون نفس بانتفائه، إذا تقرر هذا فاعلم أن خلاف الصيرفي إنما هو في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به، فإنه قال: إذا ورد لفظ عام ولم يدخل وقت العمل به فيجب اعتقاد عمومه، ثم إن ظهر مخصص فيتغير ذلك الاعتقاد، هكذا نقله عنه إمام الحرمين والآمدي وغيرهما وخطئوه. قوله: "لنا ... إلخ" شرع في نصب الدليل على الطريق التي

_ 1 ابن سريج: أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، أبو العباس, فقيه الشافعية في عصره, مولده ووفاته في بغداد، له نحو 400 مصنف منها الأقسام والخصال, والودائع لمنصوص الشرائع, وغيرها، توفي سنة "306هـ"، "الأعلام: 1/ 185".

انفرد بها الإمام وتبعه عليها، فقال: لو وجب طلب المخصص في التمسك بالعام لوجب طلب المجاز في التمسك بالحقيقة، بيان الملازمة أن إيجاب طلب المخصص إنما هو للتحرز عن الخطأ، وهذا المعنى بعينه موجود في المجاز لكن اللازم منتفٍ وهو طلب المجاز فإنه لا يجب اتفاقا فكذلك الملزوم وهو طلب المخصص، وللخصم أن يفرق بأن احتمال وجود المخصص أقوى من احتمال وقوع المجاز، فإن أكثر المعلومات مخصوصة واحتج ابن سريج بأن احتمال وجود المخصص عارض دلالة العام. إذ العام يحتمل التخصيص وعدمه احتمالا على السواء، فحمله على العموم ترجيح من غير مرجح. وقوله: "احتمال" هو فاعل عارض والمفعول هو الدلالة، ولا يجوز فيه غير ذلك، وأجاب المصنف بأن الأصل يدفع ذلك الاحتمال؛ لأن الأصل عدم التخصيص، والتعارض إنما يكون عند انتفاء الرجحان، ولك أن تقول: الاستقراء يدل على أن الغالب في العمومات الخصوص والعام المخصوص مجاز, وحينئذ فيدور الأمر بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح، وقد تقدم من كلام المصنف أنهما سيان فيكون العموم مساويا للخصوص, فيلزم من ذلك التوقف كما قاله ابن سريج.

الفصل الثالث: في المخصص

الفصل الثالث: في المخصص وهو متصل ومنفصل. قال: "الفصل الثالث: في المخصص وهو متصل ومنفصل, فالمتصل أربعة: الأول, والاستثناء وهو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها والمنقطع مجاز، وفيه مسائل". أقول: قد عرفت فيما تقدم أن المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم, وأنه يطلق أيضا مجازا على الدال على التخصيص، وهذا هو المراد هنا، وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما لا يستقل بنفسه بل يكون متعلقا باللفظ الذي ذكر فيه العام، والمنفصل عكسه، وقسم المصنف المتصل إلى أربعة أقسام, وهي: الاستثناء والشرط والصفة والغاية وأهمل خامسا ذكره ابن الحاجب وهو بدل البعض كقولك: أكرمت الناس قريشا. الأول: الاستثناء, وتعريفه ما ذكره المصنف فقوله: الإخراج جنس شامل للمخصصات كلها, وقوله: بالإ مخرج لما عدا الاستثناء، وقوله: غير الصفة احتراز عن إلا إذا كانت للصفة بمعنى غير وهي التي تكون تابعة لجمع منكور غير محصور، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي: غير الله فإنها ليست للاستثناء. وقوله: "ونحوها" أي: كحاشا وخلا وعدا وسوى وفي الحد نظر من وجوه أحدها: أنه أخذ في التعريف لفظة إلا وهي من جملة أدوات الاستثناء فيكون تعريفا للشيء بنفسه. الثاني: أن الإتيان بالواو في قوله: ونحو, لا يستقيم بل صوابه الإتيان بأو. الثالث: إن كان المراد بقوله: ونحوها أي في الإخراج, فينتقض الحد بمثل قولنا: أكرم العلماء ولا تكرم زيدا، فإنه مخرج وليس باستثناء, وكذلك سائر المخصصات أيضا, وإن كان المراد أنه يقوم مقامه في الاستثناء فهو دور. الرابع: أن تقييد إلا بغير الصفة زيادة في الحد غير محتاج إليها؛ لأن إلا والحالة هذه لا تخرج شيئا فهي مستغنى عنها بقوله الإخراج؛ ولهذا لم يذكره الإمام ولا أتباعه إلا أن يقال:

قد تقرر أن الوصف من جملة المخصصات، والتخصيص هو الإخراج كما تقدم، فإذا كانت إلا صفة كانت مخرجة أي: مما يجوز أن يدخل في الأول لا مما يجب دخوله فيه وفيه نظر، بل الأولى أن يقال: احترز بقوله غير الصفة عن مثل: قام القوم إلا زيد فإنه يجوز فيه وفي أمثاله من المعارف جعل إلا للصفة ورفع ما بعدها كما نص عليه ابن عصفور وغيره، وإن كان قليلا. قوله: "والمنقطع مجاز" هو جواب عن سؤال مقدر وهو أن الاستثناء قد يكون متصلا كقام القوم إلا زيدا أو منقطعا كقام القوم إلا حمارًا والمنقطع لا إخراج فيه فيكون واردا على الحد, فأجاب بأن الحد للاستثناء الحقيقي وإطلاق الاستثناء على المنقطع وإن كان جائزا بلا خلاف كما قاله ابن الحاجب في المختصر الكبير, لكنه مجاز عند الأكثرين كما نقله الآمدي بدليل عدم تبادره، قال ابن الحاجب: وإذا قلنا: إنه حقيقة فقيل: إنه مشترك، وقيل: متواطئ على أن الشيخ أبا إسحاق نقل عن بعضهم أنه لا يسمى استثناء لا حقيقة ولا مجازًا. قال: "الأولى شرطه الاتصال عادة بإجماع الأدباء وعن ابن عباس خلافه قياسا على التخصيص بغيره، والجواب النقص بالصفة والغاية وعدم الاستغراق، وشرط الحنابلة أن لا يزيد على النصف والقاضي أن ينقص عنه, كما لو قال: علي عشرة إلا تسعة, لزمه واحد إجماعا وعلى القاضي استثناء الغاوين من المخلصين, وبالعكس قال: الأقل ينسى فيستدرك ونوقض بما ذكرناه". أقول: الاستثناء له شرطان أحدهما: اتصاله بالمستثنى منه اتصالا عاديا لا حسيا، ودليله إجماع الأدباء أي: أهل اللغة ولا يضر القطع بتنفس أو سعال وكذلك البعد لطول الكلام المستثنى منه فإنه يعد في العادة متصلا, ونقل عن ابن عباس جواز الاستثناء المنفصل، ثم اختلفوا فنقل عنه الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز إلى شهر، ونقل عنه المازني قولا أنه يجوز إلى سنة, وقولا آخر أنه يجوز أبدا, وهو ما يقتضيه كلام الأكثرين في النقل عنه كالشيخ أبي إسحاق وإمام الحرمين والغزالي وصاحب المعتمد وغيرهم، وصرح به أبو الخطاب الحنبلي، ومع ذلك منهم الجميع قد توقفوا في إثبات أصل هذا المذهب عنه، وشرعوا في تأويله، إلا صاحب المعتمد فنقله من غير إنكار ولا تأويل، ولما توقفت النقلة في إثبات هذا المذهب عبر المصنف بقوله: ونقل، ولما اختلفوا أيضا في كيفيته على المذاهب الثلاثة المتقدمة عبر بقوله: خلافه فافهم ذلك, فإنه من محاسن كلامه، واستدل ابن عباس بالقياس على التخصيص بغير الاستثناء من المخصصات المنفصلة، والجامع أن كلا منهما مخصص، وجوابه النقض بالصفة والغاية، وكذلك الشرط فإن دليله يقتضي جواز انفصالها وهو باطل اتفاقا, وأيضا فالفرق أن المخصص المنفصل مستقل فلذلك دليله يقتضي جواز انفصالها وهو باطل اتفاقا، وأيضا فالفرق أن المخصص المنفصل مستقل فلذلك جاز انفصاله بخلاف الاستثناء. قوله: "وعدم الاستغراق" هذا هو الشرط الثاني من شروط الاستثناء، وهو معطوف على الاتصال أي: شرطه الاتصال وعدم الاستغراق، فلا يضر استثناء المساوي

ولا الأكثر، فإن كان مستغرقا نحو: له علي عشرة إلا عشرة كان باطلا بالاتفاق كما نقله الإمام والآمدي وأتباعهما لإفضائه إلى اللغو، ونقل القرافي عن المدخل لابن طلحة أن في صحته قولين, وشرط الحنابلة أن لا يزيد المستثنى على نصف المستثنى منه بل يكون إما مساويا أو ناقصا، وشرط القاضي أي: في القول الأخير من أقواله كما قاله الآمدي وغيره أن يكون ناقصا عن النصف. واعلم أن الآمدي وابن الحاجب نقلا عن الحنابلة امتناع المساوي أيضا على عكس ما قاله المصنف، ولم يتعرض الإمام ولا مختصرو كلامه النقل عنهم، واستدل المصنف بأمرين أحدهما وهو دليل على القاضي والحنابلة معا: أنه لو قال قائل: علي عشرة إلا تسعة لكان يلزمه واحد بإجماع الفقهاء فدل على صحته، قال الآمدي: وهذا الاستدلال خطأ فإن هذا الاستثناء عند الخصم بمثابة الاستثناء المستغرق، وإنما يقول بلزوم الواحد من يقول بصحة الاستثناء الأكثر. الثاني وهو دليل على القاضي خاصة استثناء {الْغَاوِينَ} من المخلصين في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وبالعكس أي: استثناء {الْمُخْلَصِينَ} من الغاوين في قوله تعالى حكاية عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39, 40] ووجه الاستدلال أن الفريقين إن استويا فإنه يدل على جواز استثناء النصف وإن كان أحدهما أكثر فكذلك أيضا؛ لأنه لما استثنى كلا منهما فقد استثنى الأكثر فدل على جواز النصف بطريق الأولى. وهذا لا يرد على الحنابلة لاحتمال أن يكونا متساويين وهم يجوزون استثناء المساوي على مقتضى نقل المصنف، وفي هذا الاستدلال نظر من ثلاثة أوجه أحدها: أن للخصم أن يقول: إن قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} الآية يدل على أن الغاوين أقل من غير الغاوين أي: أقل من العباد الذين لا سلطان عليهم لإبليس وليس فيها تعرض لكونهم أقل من المخلصين حتى يكون على العكس من الآية الثانية, وإنما يلزم ذلك إذا كان المخلصون هم غير الغاوين أي: الذين لا سلطان عليهم ولم يقيموا عليه دليلا، ونحن لا نسلمه لجواز أن يكون غير الغاوين أعم من المخلصين، بل تنازع فنقول: هذا هو الظاهر؛ لأنه لا يلزم من انتفاء سلطنة إبليس التي هي القهر والغلبة عن شخص أن يرتقي إلى درجة الإخلاص, ويدل عليه أحوال كثير من الناس وحينئذ فيكون قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} الآية دليلا على أن المخلصين أقل من الغاوين, وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} الآية دليلا على أن الغاوين أقل من غير الغاوين وهم الذين ليس عليهم سلطان, وعلى هذا فكل من الآيتين ليس فيها إلا استثناء الأقل وقد تمسك ابن الحاجب بقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الآية ثم استدل على أن الغاوين أكثر بقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ولم يذكر الآية الثانية فسلم من هذا الاعتراض لكنه لا يتم من وجه آخر, فقد يقال: إن قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} يدل على أن الغاوين من بني آدم مطلقا أقل من غيرهم

فإن الكلام مع إبليس كان في نسل بني آدم جميعهم, وقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} الآية إنما يدل على الأكثرين من الذين بعث إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم الموجودون من حيث بعثه إلى قيام الساعة, والألف واللام في {النَّاسِ} للعهد وحينئذ فلا يلزم كون الغاوين أكثر من هذه الطائفة أن يكونوا أكثر بالنسبة إلى كل الطوائف من لدن آدم إلى قيام الساعة. الثاني: سلمنا أن قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} يدل على استثناء "الغاوين من المخلصين" لكن قوله تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ} الآية إنما يدل على استثناء المخلصين من الذين أقسم إبليس على أن يغويهم لا من الغاوين وهم الذين حصلت لهم الغواية، وعلى هذا يكون الغاوون أقل من المخلصين كما دلت عليه الآية الأولى والمخلصون أقل من المقسم على إغوائهم كما دلت عليه الآية الثانية، فيكون المستثنى في الآيتين إنما هو الأقل الثالث: قال الآمدي للخصم أن يقول إنما يمتنع استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحا بهما فإن لم يكن نحو: جاء بنو تميم إلا الأرذال منهم فإنه يصح من غير استقباح، وإن كانت الأرذال أكثر، وهذه الآية كذلك. قوله: "قال: الأقل" أي: قال القاضي: لا شك أن الاستثناء خلاف الأصل فإنه بمنزلة الإنكار لقلة الإقرار، ولكن خالفنا هذا الأصل في الأقل وجوزنا استدراكه بالاستثناء؛ لأنه قد يستثنى لقلة التفات النفس إليه، وهذا المعنى مفقود في المساوي والأكثر، وأجاب المصنف تبعا للحاصل بأنه منقوض بما ذكرنا، أي: من استثناء الغاوين من المخلصين وبالعكس أو من الإجماع المتقدم في المقر فإن الحكم موجود مع انتفاء العلة وهي القلة والذي أجاب به في المحصول أن الاستثناء والمستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على ذلك القدر فلا يرد ما قالوه، وهذا الذي أشار إليه فيه ثلاثة مذاهب أحدها ما يقتضيه كلامه وهو مذهب القاضي: أن عشرة إلا ثلاثة مثلا اسم مركب مرادف لسبعة. والثاني ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين: أن المراد أيضا سبعة كما قال الأول ولكن لا يقول: إن المجموع اسم لها بل إلا قرينة مبينة لذلك كسائر المخصصات. الثالث وهو الصحيح عند ابن الحاجب: أن المراد بالعشرة جميع أفرادها من غير حكم عليها ثم حكم بالإسناد بعد إخراج الثلاثة فيكون الإسناد إلى سبعة, ولم يتعرض المصنف لشبهة الحنابلة لأنها كشبهة القاضي. قال: "الثانية: الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس خلافا لأبي حنيفة. لنا لو لم يكن كذلك لم يكف لا إله إلا الله احتج بقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" 1 قلنا للمبالغة. الثالثة: المتعددة إن تعاطفت أو استغرق الأخير الأول عادت إلى المتقدم عليها وإلا يعود الثاني إلى الأول لأنه أقرب". أقول: الاستثناء من الإثبات نفي نحو: قام القوم إلا زيدا يكون نفيا للقيام من زيد بالاتفاق كما قاله الإمام في المعالم وصاحب الحاصل, وأما الاستثناء من النفي نحو: ما قام أحد إلا

_ 1 أخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: $"لا صلاة إلا بوضوء" "1/ 73"، والزيلعي في نصب الراية "1/ 5".

زيد فقال الشافعي: يكون إثباتا لقيام زيد، وقال أبو حنيفة: لا يكون إثباتا له بل دليلا على إخراجه عن المحكوم عليهم وحينئذ فلا يلزم منه الحكم بالقيام، أما من جهة اللفظ فلأنه ليس فيه على هذا التقدير ما يدل على إثباته كما قلنا، وأما من جهة المعنى فلأن الأصل عدمه، قالوا بخلاف الاستثناء من الإثبات فإنه يكون نفيا؛ لأنه لما كان مسكوتا عنه، وكان الأصل هو النفي حكمنا به فعلى هذا لا فرق عندهم في دلالة اللفظ بين الاستثناء من النفي والاستثناء من الإثبات، واختار الإمام في المعالم الاقتران بالطهور في الجملة كذا قال الفاضل, وهذا معنى ما قيل أن التقدير لا صحة لصلاة بشيء إلا بطهور في بعض الصور وهي صورة استجماع الشرائط والأركان وما قال الخنجي من أن عدم الصلاة في بعض الصور لا ينفي أن يكون الاستثناء من النفي إثباتا بل هو إثبات في صورة الاستجماع، وما يقال من أنا إذا قلنا بصحة الصلاة الملصقة بالطهور لزم عموم الحكم في كل صلاة كذلك لعموم النكرة الموصوفة بصفة عامة في: لا أجالس إلا رجلا عالما، ولدلالة الكلام على أن علة الصحة هي الوصف المذكور فضعيف؛ لأن الأول ممنوع إذ هو مبني على الثاني، والثاني مختص بما إذا كان الوصف صالحا للاستقلال بالعلية ولم يعارضه قاطع. كذا ذكره الفاضل لكن بقي ما ذكره الفنري وهو أنه لو كان المعنى صحة صلاة بطهور أو ثبوتها عند الاقتران به في الجملة يفيد المبالغة المقصودة بهذا الاستثناء؛ لأن سائر الشروط كذلك، اللهم إلا أن يلتزم عدم وروده للمبالغة. المسألة "الثالثة": الاستثناءات "المتعددة إن تعاطفت" كقولنا: زيد على عشرة إلا أربعة وإلا ثلاثة "أو استغرق" الاستثناء "الأخير الأول" بأن لا يكون الأخير ناقصا عنه كقوله: علي عشرة إلا أربعة إلا خمسة "عادت" الاستثناءات المتعددة بأسرعها في الصورتين "إلى المتقدم عليها" وهو المستثنى منه. أما في الأول فلوجوب تساوي المعطوف مذهب أبي حنيفة وفي المحصول والمنتخب مذهب الشافعي. دليلنا أنه لو لم يكن إثباتا لم يكف لا إله إلا الله في التوحيد؛ لأن التوحيد هو نفي الإلهية عن غير الله تعالى وإثباتها له، فإذا لم يدل هذا اللفظ على إثبات الإلهية له تعالى بل كان ساكتا عنه فقد فات أحد شرطي التوحيد، وأجاب في المعالم بأن إثبات الإلهية له سبحانه مقرر في بداءة العقول والمقصود نفي الشريك. احتج أبو حنيفة بمثل قوله -عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" وتقديره: لا صحة للصلاة إلا بطهور فلو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان كلما وجد الطهور توجد الصحة وليس كذلك, فإنها قد لا تصح لفوات شرط آخر، ولم يجب الإمام على هذا الدليل لا في المحصول ولا في المنتخب وهو حديث غير معروف، وبتقدير صحته فجوابه من ثلاثة أوجه, أحدها: وهو ما ذكره المصنف أن الحصر قد يؤتى به للمبالغة لا للنفي عن الغير كقوله: "الحج عرفة" وههنا كذلك؛ لأن الطهارة لما كان أمرها متأكدا صارت كأنه لا شرط الصحة غيرها حتى إذا وجدت توجد الصحة. الثاني ما قاله صاحب التحصيل

وهو حسن: أن قولنا: إن الاستثناء من النفي إثبات يصدق بإثبات صورة واحدة من كل استثناء؛ لأن دعوى الإثبات لا عموم فيها بل هي مطلقة، وحينئذ فيقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهارة بصفة الإطلاق لا بصفة العموم، أي: لا يقتضى ثبوت صحة الصلاة في جميع صور الطهارة بل يصدق ذلك بالمرة الواحدة. الثالث ما قاله الآمدي: أن هذا استثناء من غير الجنس؛ لأنه لا يصدق عليه اسم الأول, ولكن إنما سبق هذا البيان اشتراط الطهارة في الصلاة والاستعمال يدل عليه كما يقال: لا قضاء إلا بورع أو بعلم وليس المراد إثبات القضاء لكل عالم أو ورع بل المراد الشرطية, وقد تقرر أنه لا يلزم من وجود الشرط وجود الجواز المشروط عدمه لوجود مانع أو انتفاء شرط، وما قاله حسن إلا دعواه أنه منقطع، قال ابن الحاجب: فإنه بعيد؛ لأن هذا استثناء مفرغ والمفرغ من تمام الكلام بخلاف المنقطع. "المسألة الثالثة": في حكم الاستثناءات المتعددة، وقد أهملها ابن الحاجب وحكمها أنها إن تعاطفت أي: عطف بعضها على بعض عادت كلها إلى المستثنى منه، نحو: له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين فيلزمه خمسة، وكذلك إن لم تكن معطوفة ولكن كان الثاني مستغرقا للأول قال في المحصول: سواء كان مساويا نحو: له عشرة إلا اثنين إلا اثنين بالتكرار أو أزيد نحو: له علي عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة فيلزمه في المثال الأول ستة، وفي الثاني خمسة، ولك أن تقول: الاستثناء خلاف الأصل لكونه إنكارا بعد اعتراف كما سيأتي، والتأكيد أيضا خلاف الأصل والمساوي محتمل لكل منهما، فلم رجحنا الاستثناء على التأكيد؟ وللنحويين في هذا القسم وهو المستغرق مذهبان، أحدهما: ما اقتضاه كلام المصنف. والثاني: وهو مذهب الفراء1 أو الثاني يكون مقرا به فيلزمه في المثال الأول عشرة وفي الثاني أحد عشر. قوله: "وإلا" أي: وإن لم يكن الثاني معطوفا ولا مستغرقا فيعود الاستثناء الثاني لا الاستثناء الأول أي: يكون مستثنى منه، وحينئذ فلا بد من مراعاة ما تقدم لك، وهو أن الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس، فإذا قال: له علي عشرة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة فتكون السبعة مستثناة من الثمانية وعلى هذا فتكون لازمة؛ لأنها مستثناة مما يلزم والستة مستثناة من السبعة فتكون غير لازمة؛ لأنها مستثناة مما يلزم وحينئذ فيلزمه في هذا الإقرار ثلاثة لأنه لما قال: علي عشرة إلا ثمانية أي: لا يلزمني فيبقى درهمان ثم قال: إلا سبعة أي: تلزمني, فتضمها إلى الدرهمين تصير تسعة ثم قال: إلا ستة أي تلزمني فيبقى ثلاثة، وهذا الذي جزم به من كون كل واحد يعود إلى ما

_ 1 الفراء: يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، أبو زكريا المعروف بالفراء، إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، ولد بالكوفة، وانتقل إلى بغداد، وعهد إليه المأمون تربيةابنيه، وتوفي سنة "207هـ". "الأعلام: 8/ 145".

قبله هو مذهب البصريين والكسائي1، واستدل له المصنف بأنه أقرب، وقال بعض النحويين: تعود المستثنيات بها إلى المذكور أولا وقال بعضهم: يحتمل الأمرين. قال: "الرابعة: قال الشافعي: المتعقب للجمل كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] يعود إليها وخص أبو حنيفة بالأخيرة، وتوقف القاضي والمرتضى وقيل: إن كان بينهما تعلق فللجميع مثل: أكرم الفقهاء والزهاد أو أنفق عليهم إلا المبتدعة وإلا فللأخيرة، لنا ما تقدم أن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما, فكذلك الاستثناء قيل خلاف الدليل حولف في الأخيرة للضرورة, قبقيت الأولى على عمومها, قلنا: منقوض بالصفة والشرط". أقول: شرع في حكم الاستثناء المذكور عقب الجمل كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] فإن هذا الاستثناء وقع بعد ثلاث جمل, الجملة الأولى آمرة بجلدهم، والثانية ناهية عن قبول شهادتهم، والثالثة مخبرة بفسقهم، وفي حكم ذلك مذاهب، الأول مذهب الشافعي: أن الاستثناء يعود إلى الجمع إذا لم يدل الدليل على إخراج البعض لكن بشرطين، أحدهما: أن تكون الجمل معطوفة، كما صرح به الآمدي وابن الحاجب وغيرهما واستدلال الإمام والمصنف وغيرهما يقتضيه, الثاني: أن يكون العطف بالواو خاصة كما صرح به الآمدي وابن الحاجب وإمام الحرمين في النهاية. الثاني مذهب أبي حنيفة: أنه يعود إلى الجملة الأخيرة خاصة قال في المعالم: وهو المختار، وفائدة هذا الخلاف في قبول شهادة القاذف بعد التوبة فعندهما تقبل؛ لأن الاستثناء يعود إليها أيضا، وعنده لا تقبل، وأما الجملة الأولى الآمرة بالجلد فوافقناه على أن الاستثناء هنا لا يعود إليها لكونه حق آدمي فلا يسقط بالتوبة. الثالث: التوقف وهو مذهب القاضي والشريف المرتضى2 من الشيعة، قال في المحصول: إلا أن القاضي توقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة، والمرتضى توقف للاشتراك أي: لكونه مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده إلى الأخيرة؛ لأنه قد ورد عوده للكل في قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [آل عمران: 87-89] . وورد عوده أيضا إلى

_ 1 الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي, أبو الحسن، إمام في اللغة والنحو والقراءة، ولد في إحدى قرى الكوفة وتعلم بها، وقرأ النحو بعد الكبر, له معاني القرآن والمصادر والحروف وغيرها، توفي سنة "189هـ" "الأعلام: 4/ 283". 2 الشريف المرتضى: أبو القاسم علي بن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. كان نقيب الطالبيين، وكان إماما في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي، وكانت ولادته سنة "355هـ" ووفاته "436هـ" "وفيات الأعيان: 3/ 273".

الأخيرة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون مشتركا, قال في المنتخب: وما ذهب إليه القاضي هو المختار، وصرح به في المحصول1 في الكلام على التخصيص بالشرط، وذكر فيه وفي الحاصل هنا نحوه أيضا. الرابع ما ذهب إليه أبو الحسين البصري وقال في المحصول: إنه حق مع كونه قد اختار التوقف كما تقدم: إن كان بين الجمل تعلق عاد الاستثناء إليها وإلا يعود إلى الأخيرة خاصة، والمراد بالتعليق كما قال في المحصول هو أنه يكون حكم الأولى أو اسمها مضمرا في الثانية، فالحكم كقولنا: أكرم الفقهاء والزهاد إلا المبتدعة، وتقديره: وأكرم الزهاد وأما الاسم فكقولنا: أكرم الفقهاء أو أنفق عليهم إلا المبتدعة فقوله: عليهم أي على الفقهاء، وقد أشار المصنف إلى المثالين بذكر أو فقال: أو أنفق عليهم فافهمه، واجتنب غيره، وإنما أعيد الاستثناء هنا إلى الكل لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى بخلاف ما إذا لم يكن بين الجمل تعلق؛ لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى إلا وقد تم غرضه من الأولى، فلو كان الاستثناء راجعا إلى الجميع لم يكن مقصوده من الأولى قد تم. قوله: "لنا" أي الدليل على المذهب المختار وهو مذهب الشافعي: أن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما، أي: كالصفة والظرف والمجرور، فيجب أن يكون الاستثناء كذلك، والجامع عدم الاستقلال مثاله: أكرم بني مضر وأطعم بني ربيعة محتاجين، أو إن كانوا محتاجين، أو المحتاجين, أو عند زيد أو يوم الجمعة. واعلم أن الإمام نقل عن الحنفية هنا أنهم وافقونا على عود الشرط إلى الكل كما نقله المصنف, قال: وكذلك الاستثناء بالمشيئة ونقل في الكلام على التخصيص بالشرط عن بعض الأدباء أن الشرط يختص بالجملة التي تليه، فإن تقدم اختص بالأولى, وإن تأخر اختص بالثانية, قال: والمختار التوقف كما في الاستثناء، وسوى ابن الحاجب بينه وبين الاستثناء، فعلى هذا يأتي فيه التفصيل الذي سبق نقله عنه، وأما الحال والظرف والمجرور فقال -أعني الإمام: إنا نخصهما بالأخيرة على قول أبي حنيفة، وحينئذ فاستدلال المصنف بهما على أبي حنيفة باطل, وأما الصفة فلم يصرح الإمام بحكمها لكنها شبيهة بالحال، وقد علمت أن الحال يختص بالأخيرة عند الخصم. قوله: "قيل: خلاف الدليل" أي: احتج أبو حنيفة بأن الاستثناء خلاف الدليل لكونه إنكارا بعد الإقرار، لكن خولف مقتضى الدليل في الجملة الأخيرة للضرورة؛ وذلك لأنه لا يمكن إلغاء الاستثناء، وتعلقه بالجملة الواحدة كافٍ في تصحيح الكلام، والأخيرة لا شك أنها أقرب فخصصناه بها، فبقي ما عداها من الأصل، وأجاب

_ 1 انظر المحصول، ص514، جـ1.

المصنف بأن هذا الدليل منقوض بالصفة والشرط, فإنهما عائدان إلى الكل عندكم، مع أن المعنى الذي قلتموه موجود بعينه فيهما، وفيما قاله المصنف في الصفة نظر لما قدمناه من عوده إلى الأخيرة عندهم، وقد اختلف النحاة أيضا في هذه المسألة فجزم ابن مالك بعوده إلى الجميع، وخصه أبو علي الفارسي1 بالأخيرة كما نقله عنه ابن برهان في الوجيز، قال: لأن العامل في المستثنى هو الفعل المتقدم فلو عاد الاستثناء إلى الجميع لاجتمع عاملان على معمول واحد وهو محال؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد مرفوعا ومنصوبا كما في الآية المذكورة. قال: "الثاني: الشرط وهو ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجوده كالإحصان، وفيه مسألتان" أقول: هذا هو القسم الثاني من أقسام المخصصات المتصلة، والشرط في اللغة هو العلامة ومنه أشراط الساعة أي: علاماتها، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف ولا شك أن توقف المؤثر على الغير يكون على قسمين، أحدهما: أن يكون في وجوده, وذلك بأن يكون ذلك الغير علة للمؤثر, أو جزءا من علته، أو شرطا لعلته، أو يكون جزءا من نفس المؤثر؛ لأن الشيء أيضا يتوقف في وجوده على جزئه، وهذا القسم يتوقف عليه تأثير المؤثر أيضا؛ لأن التأثير متوقف على وجود المؤثر, وكل ما توقف عليه المؤثر توقف عليه التأثير بطرق الأولى. الثاني: أن يتوقف على الغير في تأثيره فقط، وذلك الغير هو المعبر عنه بالشرط، فقوله: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر يدخل فيه جميع ما تقدم من الشرط وغيره، وقوله: لا وجوده, معطوف على تأثير المؤثر، أي: لا يتوقف وجوده يعني وجود المؤثر، وخرج بهذا القيد علة المؤثر وجزؤه وغير ذلك مما عدا الشرط، فإن التأثير متوقف على هذه الأشياء بالضرورة كما قدمنا، لكن ليس هو التأثير فقط بل التأثير والوجود بخلاف الشرط، فإن وجود المؤثر لا يتوقف، بل إنما يتوقف عليه تأثير كالإحصان، فإن تأثير الزنا في الرجم متوقف عليه، وأما نفس الزنا فلا؛ لأن البكر قد تزني، وهذا التعريف إنما يستقيم على رأي المعتزلة والغزالي، فإنهم يقولون: إن العلل الشرعية مؤثرات، لكن المعتزلة يقولون: إنها مؤثرة بذاتها، والغزالي يقول: بجعل الشارع، وأما المصنف وغيره من الأشاعرة فإنهم يقولون: إنها أمارات على الحكم وعلامات عليه كما سيأتي في القياس فلا تأثير ولا مؤثر عندهم، فإن قيل: ينتقض بذات المؤثر، فإن التأثير متوقف عليها بالضرورة، ويصدق عليها أن المؤثر لا يتوقف وجوده عليها لاستحالة توقف الشيء على نفسه، قلنا: إنما ينتقض أن لو قلنا بمذهب الأشعري وهو أن الوجود عين الماهية، والمصنف لا يراه، بل يختار أن الوجود من الأوصاف الزائدة العارضة للماهية كما تقدم في الاشتراك، فعلى هذا

_ 1 أبو علي الفارسي: الحسين بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل, أحد الأئمة في العربية، ولد في فسا "من أعمال فارس" ودخل بغداد سنة "307هـ"، من كتبه: التذكرة والحجة وجواهر النحو وغيرها، توفي سنة "377هـ"، "الأعلام: 2/ 179".

يصدق أن وجود المؤثر يتوقف على ذات المؤثر، وللفرار من هذا السؤال عبر المصنف بقوله: لا وجوده ولم يقل: لا ذاته كما قال في المحصول1. واعلم أن الشرط عندما يكون شرعيا كما مثلناه، وقد يكون عقليا كما تقول: الحياة شرط في العلم, والجوهر شرط لوجود العرض، وقد يكون لغويا نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق، وكلام الإمام يقتضي أن المحدود هو الشرط الشرعي. قال: "الأولى: الشرط إن وجد دفعة فذاك, وإلا فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه أو ارتفاع جزء منه إن شرط عدمه. الثانية: إن كان زانيا ومحصنا يحتاج إليهما, وإن كان سارقا أو نباشا فالقطع يكفي أحدهما، وإن شفيت فسالم وغانم حر فشفي عتق، وإن قال: أو، فيعتق أحدهما ويعين". أقول: ذكر في الشرط مسألتين, إحداهما: أن المشروط متى يوجد؟ وحاصله أن الشرط قد يوجد دفعة وقد يوجد على التدريج؛ فإن وجد دفعة كالتعليق على وقوع طلاق وحصول بيع وغيرهما مما يدخل في الوجود دفعة واحدة, فيوجد المشروط عند أول أزمنة الوجود إن علق على الوجود، وعند أول أزمنة العدم إن علق على العدم، وإن وجد على التدريج كقراءة الفاتحة مثلا, فإن كان التعليق على وجوده كقوله: إن قرأت الفاتحة فأنت حر, فيوجد المشروط وهو الحرية عند تكامل أجزاء الفاتحة، وإن كان على العدم كقوله لزوجته: إن لم تقرئي الفاتحة فأنت طالق، فيوجد المشروط وهو الطلاق عند ارتفاع جزء من الفاتحة كما لو قرأت الجميع إلا حرفا واحدا؛ لأن المركب ينتفي بانتفاء جزئه. المسألة الثانية: في تعدد الشرط والمشروط, وهو تسعة أقسام؛ لأن الشرط قد يكون متحدا نحو: إن قمت فأنت طالق، وقد يكون متعددا إما على سبيل الجمع نحو: إن كان زانيا ومحصنا ارجمه, فيحتاج إليهما للرجم، وإما على سبيل البدل نحو: إن كان سارقا أو نباشا فاقطعه, فيكفي واحد منهما في وجوب القطع، والمشروط أيضا على ثلاثة أقسام, فمثال الأول قد عرفته ومثال الثاني: إن شفيت فسالم وغانم حر فإذا شفي عتق، ومثال الثالث: أن يأتي بأو فيقول: إن شفيت فسالم أو غانم حر فإذا شفي عتق واحد منهما ويعينه السيد, وإذا ضربت ثلاثة في ثلاثة صارت تسعة، وقد أهمل المصنف اتحاد الشرط والمشروط اكتفاء بما تقدم، وذكر تعددهما على الجمع والبدل, ومجموع ذلك أربعة أقسام؛ لأنه الحاصل من ضرب اثنين في اثنين. قال في المحصول: واتفقوا على أنه يحسن التقييد بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي، وقد تقدم في الاستثناء حكم الشرط الداخل على الجمل. قال: "الثالث: الصفة مثل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وهو كالاستثناء". أقول: هذا هو القسم الثالث من أقسام المخصصات المتصلة, وهو التخصيص بالصفة نحو: أكرم الرجال العلماء، فإن التقييد بالعلماء مخرج لغيرهم، ومثل له المصنف بقوله تعالى:

_ 1 انظر المحصول، ص422، جـ1.

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وهو تمثيل غير مطابق, فإن هذا من باب تقييد المطلق لا من باب تخصيص العموم؛ لأن رقبة غير عامة لكونها نكرة في سياق الإثبات، ولم يزد الإمام على قوله، كقولنا: رقبة مؤمنة، وهو محتمل لما أراده المصنف ولغيره من الأمثلة الصحيحة، فأن تكون واقعة في نفي أو شرط كما تقدم. قوله: "وهي" أي: والصفة كالاستثناء يعني في وجوب الاتصال وعودها إلى الجمل، وفضل في المحصول ومختصراته كالحاصل وغيره، فقال: هذا إن كانت الجملة الثانية متعلقة بالأولى نحو: أكرم العرب والعجم المؤمنين، فإن لم تكن فإنها تعود إلى الأخيرة فقط، وقد عرفت ضابط التعلق في المسألة السابقة، وكلام المصنف مشعر بأن أبا حنيفة يقول بعودها إلى الأخيرة مطلقا كما قال به في الاستثناء، وليس كذلك: أكرم العرب والعجم المؤمنين فهي إما عائدة إليهما، وإما أن لا تكون. أرى هذا الصحيح يكون كذلك كقولك: أكرم الحكماء وجالس الفقهاء الزهاد فالصفة عائدة إلى الأخير، وإن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء فظاهر هذ العبارة يدل على التشبيه بحسب البحث، والتفصيل لا بحسب تحقق المذاهب. "الرابع" من المخصصات المتصلة "الغاية وهي" أي: غاية الشيء "طرفه" ونهايته "وحكم ما بعدها مخالف لها قبلها" من الحكم، أو مخالف لحكم ما ذكر قبلها، إذ لو تبقى فيما وراء الغاية شيء منه لم تكن الغاية غاية "مثل" قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فإن {اللَّيْلِ} عائد للصوم لدخول {إِلَى} فيه، وحكم الليل في الإمساك عن المفطرات خلاف حكم ما قبله، "ووجوب" هذا جواب سؤال تقديره: لو كان حكم ما بعد الغاية خلاف ما الحرف نفسه، وهو الصواب والتمثيل بالليل والمرافق يدل عليه، فيكون أراد بالغاية ثانيا خلاف ما أراد بها أولا وهو غير ممتنع، وأطلق على الحرف اسم الغاية، وهو مستعمل في عرف النحاة، وحاصل المسألة أن ما بعد الحرف مخالف في الحكم لما قبله، أي: ليس داخلا فيه بل محكوم عليه بنقض حكمه؛ لأن ذلك الحكم لو كان ثابتا فيه أيضا لم يكن الحكم منتهيا ومنقطعا فلا تكون الغاية غاية وهو محال، مثاله قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فإن {إِلَى} دال على أن الليل ليس محلا للصوم، وهذه المسألة فيها مذاهب أحدها: ما اختاره المصنف وهو مذهب الشافعي كما تقدم نقله عنه في مفهوم العدد. والثاني: أنه داخل فيما قبله. والثالث: إن كان من الجنس دخل وإلا فلا، نحو: بعتك الرمان إلا هذه الشجرة, فينظر هل هي من الرمان أم لا؟ والرابع: إن لم يكن معه من دخل مثلناه وإلا فلا، نحو: بعتك من كذا إلى كذا. والخامس: إن كان منفصلا عما قبله بمفصل معلوم بالحس بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإنه لا يدخل, وإلا فيدخل كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فإن {الْمَرَافِقِ} ليس منفصلا عن اليد بمفصل معلوم غير مشتبه بما قبله وما بعده، كفصل الليل من النهار، بل بجزء مشتبه فلما كان كذلك لم يكن تعيين بعض

الأجزاء بأولى من الآخر, فوجب الحكم بالدخول، وفي المحصول والمنتخب أن هذا التفصيل هو الأولى، ومذهب سيبويه أنه إن اقترن بمن فلا يدخل، وإلا فيحتمل الأمرين وقد نقله عنه في البرهان، واختار الآمدي أن التقييد بالغاية لا يدل على شيء، ولم يصحح ابن الحاجب شيئا، وفي دخول غاية الابتداء أيضا مذهبان، وفائدة الخلاف ما إذا قال له: علي من درهم إلى عشرة، أو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار، والمفتى به عندنا أنه لا يدخل الجدار في البيع ولا الدراهم. العاشر: في الإقرار، وفي الفرق نظر، فإن قيل: هذا الخلاف ينبغي أن يكون إلى خاصة، وأما حتى فقد نص أهل العربية على أن ما بعدها يجب أن يكون من جنسه وداخلا في حكمه, قلنا: الخلاف عام وكلام أهل العربية فيما إذا كانت عاطفة, أما إذا كانت غاية بمعنى إلى فلا، ومنه قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] . قوله: "ووجوب غسل المرفق للاحتياط" جواب عن سؤال مقدر توجيهه أنه لو كان ما بعد الغاية غير داخل فيما قبله لكان غسل المرفق غير واجب وليس كذلك، وجوابه ما في الكتاب, وتقريره من وجهين، أحدهما: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ فأدار الماء على مرفقيه" فاحتمل أن يكون غسله واجبا وتكون إلى بمعنى كما قد قيل في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] واحتمل أن لا يكون واجبا فأوجبناه للاحتياط. الثاني: أن المرفق لما لم يكن متميزا عن اليد امتيازا حسيا وجب غسله احتياطا حتى يحصل العلم بغسل اليد, وعلى هذا التقدير يكون فيه إشعار باختيار التفصيل الذي نقلناه عن اختيار الإمام. قال ابن الحاجب: وحكم الغاية في عودها إلى الجمل كحكم الصفة. قال: "والمنفصل ثلاثة, الأول: العقل كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] الثاني: الحس مثل: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] . الثالث: الدليل السمعي وفيه مسائل الأولى: الخاص إذا عارض العام يخصصه علم تأخره أم لا، وأبو حنيفة يجعل المتقدم منسوخا توقف حيث جهل، لنا إعمال الدليلين أولى". أقول: لما فرغ من المخصصات المتصلة, شرع في المنفصلة، والمنفصل هو الذي يستقل بنفسه أي: لا يحتاج في ثبوته إلى ذكر العام بخلاف المتصل كالشرط وغيره, وقسمه المصنف إلى ثلاثة أقسام وهي: العقل، والحس، والدليل السمعي، وللقائل أن يقول: يرد عليه التخصيص بالقياس والعادة وقرائن الأحوال، إلا أن يقال: إن القياس من الأدلة السمعية؛ ولهذا أدرجه في مسائل، ودلالة القرينة والعادة عقلية وفيه نظر؛ لأن العادة قد ذكرها في قسم الدليل السمعي وحينئذ فيلزم فساده أو فساد الجواب، الأول: العقل, والتخصيص به على قسمين، أحدهما: أن يكون بالضرورة كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه، والتمثيل بهذه الآية ينبني على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه وهو الصحيح كما تقدم، وعلى أن الشيء يطلق على الله وفيه مذهبان للمتكلمين، والصحيح إطلاقه عليه لقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ

شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] الآية. والثاني: أن يكون بالنظر كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فإن العقل قاضٍ بإخراج الصبي والمجنون للدليل الدال على امتناع تكليف الغافل. الثاني: الحس أي المشاهدة، وإلا فالدليل السمعي من المحسوسات أيضا، وقد جعله المصنف قسيمه، ومثاله قوله تعالى إخبارا عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] فإنها لم تؤت شيئا من الملائكة ولا من العرش، وقد اعترض على هذا التمثيل بأن العرش والكرسي ونحو ذلك، وإن كنا نقطع بعدم دخوله، لكنه لا يشاهد بالحس حتى يقال المخرج له، والأولى التمثيل بقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] فإنا نشاهد أشياء كثيرة لا تدمير فيها كالسموات والجبال. الثالث: الدليل السمعي وجعله المصنف مشتملا على تسع مسائل, الأولى: في بيان ضابط كلي على سبيل الإجمال عند تعارض الدليلين السمعيين، والمسائل الباقية في بيان التخصيص بالأدلة السمعية مفصل فنقول: الخاص إذا عارض العام أي: دل على خلاف ما دل عليه فيؤخذ بالخاص سواء علم تأخيره عن العام أو تقديمه أو لم يعلم شيء منها، ونقله الإمام عن الشافعي واختاره هو وأتباعه وابن الحاجب، وذهب أبو حنيفة وإمام الحرمين إلى الأخذ بالمتأخر سواء كان هو الخاص أو العام لقول ابن عباس: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث" فعلى هذا إن تأخر العام نسخ الخاص وإن تأخر الخاص نسخ من العام بقدر ما دل عليه، فإن جهل التاريخ وجب التوقف إلا أن يترجح أحدهما عن الآخر بمرجح ما كتضمنه حكما شرعيا، أو اشتهار روايته, أو عمل الأكثر به, أو يكون أحدهما محرما والآخر غير محرم, فإنه لا توقف بل يقدر المحرم متأخرا ويعم به احتياطا، ومنهم من بالغ فقال: إن الخاص وإن تأخر عن العام، ولكنه ورد عقبه من غير تراخ, فإنه لا يقدم على العام بل لا بد من مرجح حكاه في المحصول1. حجة الشافعي أنا إذا جعلنا الخاص المتقدم مخصوصا للعام المتأخر فقد أعملنا الدليلين, أما الخاص فواضح, وأما العام ففي بعض ما دل عليه. وإذا لم نجعله مخصصا له بل جعلناه منسوخا فقد ألغينا أحدهما, ولا شك أن إعمال الدليلين أولى. واعلم أن ما قاله المصنف من الأخذ بالخاص الوارد بعد العام محله إذا كان وروده قبل حضور وقت العمل بالعام؛ لأنه إذا كان كذلك كان بيانا لتخصيص سابق، يعني دالا على أن المتكلم كان قد أراد به البعض، وتأخير البيان جائز على الصحيح. فأما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام فإنه يكون نسخا وبيانا لمراد المتكلم الآن دون ما قبل؛ لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة, هكذا قاله في المحصول, وحينئذ فلا نأخذ به مطلقا، وإنما نأخذ به حيث لا يؤدي إلى نسخ المتواتر بالآحاد كما سيأتي. قال: "الثانية: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسنة

_ 1 انظر المحصول، ص427، جـ1.

المتواترة والإجماع, كتخصيص: {الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية بقوله -عليه الصلاة والسلام: "القاتل لا يرث" و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] برجمه للمحصن, وتنصيف حد القذف على العبد". أقول: شرع في بيان تخصيص المقطوع بالمقطوع، فذكر أنه يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسنة المتواترة قولا كانت أو فعلا، وبالإجماع. ثم ذكر أمثلتها بطريق اللفظ والنشر، وأهمل تخصيص السنة المتواترة بهذه الثلاثة أيضا وهو جائز، وفي المحصول عن بعض الظاهرية أن الكتاب لا يكون مخصصا أصلا لا لكتاب ولا لسنة، واحتج بقوله لتبين ففوض أمر البيان إلى رسوله فلا يحصل إلا بقوله، ومثل المصنف تخصيص الكتاب بالكتاب بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فإنه مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وللخصم أن يقول: لا أسلم أن تخصيص المطلقات بهذه الآية فقد يكون بالسنة، وجوابه أن الأصل عدم دليل آخر، ومثال تخصيص الكتاب بالسنة القولية قوله -صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث" فإنه مخصص لعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] وهذا التمثيل غير صحيح فإن الحديث المذكور غير متواتر اتفاقا، بل غير ثابت. فإن الترمذي نص على أنه لم يصح، وقد ذكره ابن الحاجب مثالا لتخصيص الكتاب بالآحاد، نعم إذا جاز التخصيص بالآحاد فالمتواتر أولى، وأما تخصيص الكتاب بالسنة الفعلية؛ فلأن النبي -صلى الله عليه سلم- رجم المحصن فكان فعله مخصصا لعموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وفي هذا نظر أيضا لجواز أن يكون إخراج المحصن إنما هو بالآية التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها وهو قوله تعالى: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم" فإن هذا كان قرآنا ولكن نسخت تلاوته فقط كما سيأتي في كلام المصنف. فيجوز أن يكون التخصيص به لا بالسنة، فإن المراد بالشيخ والشيخة إنما هو الثيب والثيبة, ثم إن المصنف أيضا قد ذكر هذا بعينه مثالا لنسخ الكتاب بالسنة كما سيأتي، ومثال تخصيص الكتاب بالإجماع تنصيف حد القذف على العبد فإنه ثابت بالإجماع مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فإن قيل: الكتاب والسنة المتواترة موجودان في عصره -عليه الصلاة والسلام- مشهوران وانعقاد الإجماع بعد ذلك على خلافهما خطأ، وفي عصره لا ينعقد قلنا: لا نسلم أن التخصيص بالإجماع، بل ذلك إجماع على التخصيص ومعناه: أن العلماء لم يخصوا العام بنفس الإجماع، وإنما أجمعوا على تخصيصه بدليل آخر, ثم إن الآتي بعدهم يلزمه متابعتهم وإن لم يعرف المخصص. قال: "الثالثة: يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد, ومنع قوم وابن حبان فيما لم يخصص بمقطوع

والكرخي بمنفصل, لنا إعمال الدليلين ولو من جه أولى. قيل: قال عليه الصلاة والسلام: "إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه" 1. قلنا: منقوض بالمتواتر قيل: الظن لا يعارض القطع, قلنا: العام مقطوع المتن مظنون الدلالة, والخاص بالعكس فتعادلا. قيل: لو خصص فنسخ قلنا: التخصيص أهون". أقول: أخذ المصنف يتكلم على تخصيص المقطوع بالمظنون, فذكر في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد أربعة مذاهب، أصحها الجواز، ونقله الآمدي عن الأئمة الأربعة، وقال قوم: لا يجوز مطلقا, وقال عيسى بن أبان2: إن خص قبل ذلك بدليل قطعي جاز؛ لأنه يصير مجازا بالتخصيص فتضعف دلالته، وأما إذا لم يخص أصلا فإنه لا يجوز لكونه قطعيا، وقال الكرخي: إن خص بدليل منفصل جاز، وإن خص بمتصل أو لم يخص أصلا فلا يجوز، وتعليله كتعليل مذهب ابن أبان؛ لأن الكرخي يرى أن المخصوص بمتصل يكون حقيقة دون المخصوص بمنفصل. قوله: "والكرخي بمنفصل" أي: ومنع الكرخي فيما لم يخصص بمنفصل سواء خص بمتصل أو لم يخص أصلا، فإذا خص بمنفصل جاز. واعلم أن الإمام وصاحب الحاصل وابن الحاجب وغيرهم إنما حكوا هذه المذاهب في تخصيص الكتاب بخبر الواحد ولم يحكوها في تخصيص السنة المتواترة به، فهل ذكر المصنف ذلك قياسا أم نقلا؟ فلينظر، وأيضا فقد تقدم من كلامه أن ابن أبان يرى أن العلم المخصوص ليس بحجة أصلا، فكيف يستقيم مع ذلك ما حكاه عنه، قوله: "لنا" أي: الدليل على الجواز مطلقا أن فيه إعمالا للدليلين، أما الخاص فمن جميع وجوهه أي في جميع ما دل عليه، وأما العام فمن وجه دون وجه أي: في الأفراد التي سكت عنها الخاص دون ما نفاها، وفي منع التخصيص إلغاء لأحد الدليلين وهو الخاص، ولا شك أن إعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما. احتج الخصم بثلاثة أوجه, أحدها: الحديث الذي ذكره المصنف وهو حديث غير معروف ثم إن هذا الدليل خاص بالكتاب والدعوى المنع فيه وفي السنة المتواترة، وهو يقوي الاعتراض السابق في نقل الخلاف في تخصيص السنة، وأجاب المصنف بأن الاستدلال به منقوض بالسنة المتواترة, فإنها تخصص بالكتاب اتفاقا، مع أنها مخالفة له، وهذا الجواب ضعيف، فإن غاية ما يلزم منه تخصيص دليله والعام المخصص حجة في الباقي. الثاني: أن الكتاب والسنة المتواترة قطعيان وخبر الواحد ظني، والظن لا يعارض القطع لعدم مقاومته لقطعيته، وجوابه أن العام الذي هو الكتاب أو السنة المتواترة متنه مقطوع به أي: يقطع بكونه من القرآن

_ 1 أخرجه الفتني في تذكرة الموضوعات "38"، والشوكاني في الفوائد المجموعة "291". 2 عيسى بن أبان بن صدقة: أبو موسى، قاضٍ من كبار الفقهاء الحنفية, ولي قضاء البصرة عشرين سنة وتوفي بها، له كتب منها: إثبات القياس، والجامع، والحجة الصغيرة, وغيرها، توفي سنة "221هـ"، "الأعلام: 5/ 100".

أو السنة؛ لأنا قد علمنا استنادا إلى الرسول قطعا، ودلالته مظنونة لاحتمال التخصيص, والخاص بالعكس أي: متنه مظنون لكونه من رواية الآحاد ودلالته مقطوع بها؛ لأنه لا يحتمل الأفراد الباقية، بل لا يحتمل إلا ما تعرض له، فكل واحد منهما مقطوع به من وجه ومظنون من وجه فتعادلا، فإن قيل: إذا كانا متساويين فلا يقدم أحدهما على الآخر بل يجب التوقف وهو مذهب القاضي قلنا: يرجح تقديم الخاص بأن فيه إعمالا للدليلين، وما قاله المصنف ضعيف لأن خبر الواحد مظنون الدلالة أيضا؛ لأنه يحتمل المجاز والنقل وغيرهما مما يمنع القطع غايته أنه لا يحتمل التخصيص، نعم يمكنه أن يدعي أن دلالة الخاص على مدلوله الخاص أقوى من دلالة العام عليه، فلذلك قدم. الثالث: لو جاز تخصيصهما بخبر الواحد لجاز نسخهما به؛ لأن النسخ أيضا في الأزمان لكن النسخ باطل بالاتفاق فكذلك التخصيص، وجوابه أن التخصيص أهون من النسخ؛ لأن النسخ يرفع الحكم بخلاف التخصيص، ولا يلزم من تأثير الشيء في الأضعف تأثيره في الأقوى. قال: "وبالقياس ومنع أبو علي وشرط ابن أبان التخصيص والكرخي بمنفصل، وابن شريح الجلأ في المقياس واعتبره حجة الإسلام أرجح الظنين، وتوقف القاضي وإمام الحرمين. لنا ما تقدم قيل: القياس فرع فلا يقدم قلنا: على أصله قيل: مقدماته أكثر، قلنا: قد يكون بالعكس ومع هذا فإعمال الكل أحرى". أقول: هذا معطوف على قوله: بخبر الواحد أي: يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد وبالقياس أيضا، واعلم أن القياس إن كان قطعيا فيجوز التخصيص به بلا خلاف كما أشار إليه الأنباري شارح البرهان وغيره، وإن كان ظنيا ففيه مذاهب, حكى المصنف منها سبعة والصحيح الجواز مطلقا، ونقله الإمام عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة والأشعري ونقله الآمدي وابن الحاجب عن أحمد أيضا. والثاني قاله أبو علي الجبائي: لا يجوز مطلقا، واختاره الإمام في المعالم وبالغ في إنكار مقابله مع كونه قد صححه في المحصول والمنتخب وموضعها في المعالم هو آخر القياس. والثالث قاله عيسى بن أبان: إن خص قبل ذلك بدليل آخر غير القياس جاز, سواء كان التخصيص متصلا أو منفصلا، وإن لم يخصص فلا يجوز لكن يشترط في الدليل المخصص على هذا المذهب أن يكون مقطوعا به؛ لأن تخصيص المقطوع بالمظنون عنده لا يجوز كما تقدم في أول المسألة فافهم ذلك، وحذفه المصنف للاستغناء عنه بما تقدم. والرابع قاله الكرخي: إن كان قد خصص بدليل منفصل جاز وإلا فلا. الخامس قاله ابن شريح: إن كان القياس جليا جاز، وإن كان خفيا فلا، وفي الجلي مذاهب حكاها في المحصول1 ولم يرجح شيئا منها، ورجح في المنتخب أنه قياس المعنى والخفي قياس الشبه، وقال ابن الحاجب: الجلي هو ما قطع بنفي تأثير الفارق فيه. وستعرف

_ 1 انظر المحصول، ص437، جـ1.

ذلك في القياس إن شاء الله تعالى. والسادس قاله حجة الإسلام الغزالي: أن هذا العام وإن كان مقطوع المتن لكن دلالته ظنية كما تقدم, والقياس أيضا دلالته ظنية وحينئذ فإن تفاوتا في الظن فالعبرة بأرجح الظنين، وإن تساويا فالوقف. والسابع: التوقف وهو مذهب القاضي أبي بكر وإمام الحرمين، والمختار عند الآمدي أن علة القياس إن كانت ثابتة بنص أو إجماع جاز التخصيص وإلا فلا وقال ابن الحاجب: المختار أنه يجوز إذا ثبتت العلة بنص أو إجماع أو كان أصل القياس من الصور التي خصت عن العموم. قال: فإن لم يكن شيء من ذلك نظر، إن ظهر في القياس رجحان خاص أخذنا به وإلا فنأخذ بالعموم. قوله: "لنا ما تقدم" أي: في خبر الواحد وهو أن إعمال الدليلين ولو من جهة أولى. قوله: "قيل: القياس فرع أي: احتج أبو علي على أنه يجوز مطلقا" بوجهين، أحدهما: أن القياس فرع عن النص؛ لأن الحكم المقاس عليه لا بد وأن يكون ثابتا بالنص؛ لأنه لو كان ثابتا بالقياس لزم الدور أو التسلسل، وإذا كان فرعا عنه فلا يجوز تخصيصه به، وإلا يلزم تقديم الفرع على الأصل، وأجاب المصنف بقوله: قلنا على أصله، يعني: سلمنا أن القياس لا يقدم على الأصل الذي له, لكنا إذا خصصنا العموم به لم نقدمه على أصله، وإنما قدمناه على أصل آخر. الثاني: أنه لما ثبت أن القياس فرع عن النص لزم أن تكون مقدماته أكثر مقدمات النص، فإن كانت مقدمة يتوقف عليها النص في إفادة الحكم كعدالة الراوي، ودلالة اللفظ على المعنى فإن القياس يتوقف عليها أيضا، ويختص القياس بتفوقه على مقدمات أخرى، كبيان العلة وثبوتها في الفرع وانتفاء المعارض عنه، وإذا كانت مقدماته المحتملة أكثر, كان احتمال الخطأ إليه أقرب، فيكون الظن الحاصل منه أضعف، فلو قدمنا القياس على العام لقدمنا الأضعف على الأقوى وهو ممتنع، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: أن مقدمات العام الذي يريد تخصيصه قد تكون أكثر من مقدمات القياس، وذلك بأن يكون العام لمخصوص كثير الوسائط أي: بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم، أو كثير الاحتمالات المخلة بالفهم، ويكون العام الذي هو أصل القياس قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم، قليل الاحتمالات بحيث تكون مقدماته المعتبرة في القياس أقل من مقدمات العام المخصوص، قال في المحصول: وعند هذا يظهر أن الحق ما قاله الغزالي. الثاني: سلمنا أن مقدمات القياس أكثر من مقدمات العام، وأن الظن مع ذلك يضعف, لكن مع هذا يجب التخصيص لأن إعمال الدليلين أحرى أي: أولى. قال: "الرابعة: يجوز تخصيص المنطوق بالمفهوم لأنه دليل, كتخصيص "خلق الله الماء طهورا, لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" بمفهوم "وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" ". أقول: إذا فرغنا إلى أن المفهوم حجة, جاز عند المصنف تخصيص المنطوق به، وبه جزم الآمدي وابن الحاجب وقال الآمدي: لا نعرف فيه خلافا سواء كان مفهوم موافقة أو مخالفة، وقد توقف في المحصول فلم يصرح بشيء إلا أنه ذكر دليلا يقتضي المنع على لسان

غيره، فقال ما معناه: ولقائل أن يقول: المفهوم أضعف دلالة من المنطوق, فيكون التخصيص به تقديما للأضعف على الأقوى. وذكر صاحب التحصيل نحوه أيضا فقال: في جوازه نظر. نعم جزم في المنتخب هنا بالمنع، وصرح به في المحصول في الكلام على تخصيص العام بذكر بعضه، وقال في الحاصل: إنه الأشبه, واستدل المصنف على الجواز بأن المفهوم دليل شرعي, فجاز تخصيص العموم به جمعا بين الدليلين كسائر الأدلة, مثاله: قوله -عليه الصلاة والسلام: "خلق الله الماء طهورا, لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" مع قوله -صلى الله عليه وسلم: "وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" فإن الأول يدل بمنطوقه على أن الماء لا ينجس عند عدم التغير سواء كان قلتين أم لا. والثاني: يدل بمفهومه على أن الماء القليل ينجس وإن لم يتغير, فيكون هذا المفهوم مخصصا لمنطوق الأول ولم يمثل المصنف لمفهوم الموافقة, ومثاله ما إذا قال: من دخل داري فاضربه ثم قال: إن دخل زيد فلا تقل له: أف. قال: "الخامسة: العادة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم تخصص، وتقريره عليه الصلاة والسلام على مخالفة العام تخصيص له، فإن ثبت "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" يرتفع الحرج عن الباقين" " 1. أقول: لا إشكال في أن العادة القولية تخصص العموم نص عليه الغزالي وصاحب المعتمد والآمدي ومن تبعه كما إذا كان من عادتهم إطلاق الطعام على المقتات خاصة، ثم ورد النهي عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا، فإن النهي يكون خاصا بالمقتات؛ لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية، وأما العادة الفعلية وهي مسألة الكتاب ففيها مذهبان، وذلك كما إذا كان من عادتهم أن يأكلوا طعاما مخصوصا وهو البر مثلا, فورد النهي المذكور وهو بيع الطعام بجنسه, فقال أبو حنيفة: يختص النهي بالبر لأنه المعتاد، وخلافه الجمهور فقالوا بإجراء العموم على عمومه. هكذا نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وقال في المحصول: اختلفوا في التخصيص بالعادات, والحق أنها إن كانت موجودة في عصره -عليه الصلاة والسلام- وعلم بها وأقرها، كما إذا اعتادوا مع الموز بالموز متفاضلا بعد ورود النهي وأقره, فإنها تكون مخصصة، ولكن المخصص في الحقيقة هو التقرير، وإن لم تكن بهذه الشروط فإنها لا تخصص؛ لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع، نعم إن أجمعوا على التخصيص لدليل آخر فلا كلام، وتابع المصنف على هذا التفصيل وهو في الحقيقة موافق لما نقله الآمدي عن الجمهور, فإنهم يقولون: إن العادة بمجردها لا تخصص وإن التقرير يخصص، وعلى هذا فالمراد من قول الجمهور: إن العادة لا تخصص أن غير المعتاد يكون ملحقا بالمعتاد في الدخول, والمراد من قول الإمام: إن العادة التي قررها الرسول تخصص, أن المعتاد يكون خارجا عن غير المعتاد, فهما مسألتان في الحقيقة فافهم ذلك. قوله: "وتقريره" يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى شخصا يفعل فعلا مخالفا للدليل

_ 1 أخرجه العجلوني في كشف الخفاء "1/ 436"، والشوكاني في الفوائد المجموعة "200".

العام فأقره عليه فيكون إقراره تخصيصا للفاعل، بمعنى أن حكم العام لا يثبت في حقه؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يقر على باطل. نعم إن ثبت هذا الحديث المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" يرتفع حكم العام على الباقين أيضا ويكون ذلك نسخا لا تخصيصا، قال ابن الحاجب: كذلك إن لم يثبت، ولكن ظهر معنى يقتضي جواز ذلك فإنا نلحق بالمخالف من وافقه في ذلك المعنى، وهذا الحديث سئل عنه الحافظ جمال الدين المزي فقال: إنه غير معروف, فلذلك توقف فيه المصنف. قال الآمدي قبيل الإجماع: ولا فرق في دلالة التقرير على الجواز بين أن يكون الشخص عالما يسبق التحريم أم لا، وإلا كان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم قال هو وابن الحاجب: إنه يشترط أن يكون عليه الصلاة والسلام قادرا على الإمكان وأن لا يعلم من الفاعل الإصرار على ذلك الفعل, واعتقاده الإباحة كتردد اليهود إلى كنائسهم. قال: "السادسة: خصوص السبب لا يخصص؛ لأنه لا يعارضه, وكذا مذهب الراوي كحديث أبي هريرة رضي الله عنه, وعمله في الولوغ لأنه ليس بدليل. قيل: خالف الدليل وإلا لانقدحت روايته, قلنا: ربما ظنه دليلا ولم يكن". أقول: هذه المسألة وما بعدها إلى آخر الباب فيما جعله بعضهم مخصصا مع أن الصحيح خلافه, وفي هذه المسألة منه أمران, إذا تقرر هذا فاعلم أنه إذا ورد الخطاب جوابا عن سؤال فإن كان لا يستقل بنفسه كان تابعا للسؤال في عمومه وخصوصه فأما العموم فكقوله -عليه الصلاة والسلام- وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر: "أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم فقال: "فلا إذًا" 1 فإنه يعم كل بيع وارد على الرطب وأما الخصوص فكما لو قال قائل: توضأت بماء البحر فقال: يجزئك قال الآمدي: وهذا لا يدل على جوازه في حق غيره؛ لأنه سأله عن وضوئه خاصة فأجابه عنه ولا عموم في اللفظ لعل الحكم على ذلك الشخص لمعنى يخصه كتخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده وأبي بردة بإجزاء العناق في الأضحية ومن هذا القسم على ما قاله هو والإمام قول القائل: والله لا آكل جوابا لمن سأله فقال: كل عندي فإن العرف يقتضي عود السؤال في الجواب كقوله: من أفطر في رمضان بجماع فعليه الكفارة جوابا لمن سأل عن مطلق الإفطار في رمضان قال في المحصول: فلا يجوز إلا بثلاثة شروط أحدها: أن يكون في المذكور تنبيه على ما لم يذكر. والثاني: أن يكون السائل مجتهدا. والثالث: أن لا تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد وإن كان أعلم كقوله -عليه الصلاة والسلام: "والخراج بالضمان" حين سئل عمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا فرده وكقوله وقد سئل عن بشر بضاعة: "خلق الله الماء طهورا" 2 فهل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ فيه مذهبان

_ 1 أخرجه النسائي في سننه، كتاب البيوع باب "36"، والترمذي "1225"، أبو داود في سننه، كتاب البيوع باب "18". 2 أخرجه الدارمي في سننه "2/ 85" والنسائي في سننه كتاب الفرع والعتيرة باب "4" والخطيب البغدادي في تاريخه "2/ 295".

وهذه هي مسألة الكتاب أصحهما عن ابن برهان, والآمدي والإمام وأتباعهما كالمصنف وابن الحاجب أن العبرة بعموم اللفظ؛ ولهذا قال: خصوص السبب لا يخصصه أي: لا يخصص العام الوارد على ذلك السبب بل يكون باقيا على مدلوله من العموم سواء كان السبب هو السؤال كما مثلناه ولم يكن كما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على شاة ميمونة وهي متية فقال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 1 هكذا قال الآمدي وابن الحاجب وغيرهما, وكأنهم جعلوا الشاة سببا لذكر العموم ثم استدل المصنف على ما اختار بأن اللفظ العام مقتضاه شمول الألفاظ وخصوص السبب لا يعارضه؛ لأنه لا منافاة بينهما بدليل أن الشارع لو قال: يجب عليكم حمل اللفظ على سببه لكان جائزا، ولو كان معارضا له لكان ذلك متناقضا، وإذا لم يعارضه فيجب حمله على العموم عملا بالمقتضى السالم عن المعارض. هكذا استدل الإمام على عدم المنافاة والمعارضة، واعترض عليه صاحب التنقيح فقال: إن الشارع لو تعبدنا بترك التخصيص بكل ما دل الدليل على كونه مخصصا لكان جائزًا ولا يوجب ذلك خروجه عن أن يكون مخصصا قبل التعبد بتركه, فكذلك هذا، والأولى الاستدلال على عدم المعارضة بإمكان إعمال العام في صاحب السبب وغيره، وذهب مالك وأبو ثور والمزني إلى أن العبرة بخصوص السبب، ونقله بعض الشارحين للمحصول عن القفال والدقاق أيضا، واستدلوا بأمور منها: أن السبب لو لم يكن مخصصا لما نقله الراوي لعدم فائدته، وجوابه: أن فائدته هي معرفة السبب وامتناع إخراجه عن العموم بالاجتهاد، أي: بالقياس, فإنه لا يجوز بالإجماع، كما نقله الآمدي وغيره؛ لأن دخوله مقطوع به لأن الحكم ورد بيانا له بخلاف غيره, فإن دخوله مظنون. ونقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عن الشافعي أنه يقول بأن العبرة بخصوص السبب معتمدين على قول إمام الحرمين في البرهان: إنه الذي صح عندي من مذهب الشافعي, ونقله عنه في المحصول, وما قاله الإمام مردود, فإن الشافعي رحمه الله قد نص على أن السبب لا أثر له، فقال في باب ما يقع في الطلاق وهو بعد باب طلاق المريض ما نصه: وما يصنع السبب شيئا إنما يصنعه الألفاظ؛ لأن السبب قد يكون ويحدث الكلام على غير السبب ولا يكون مبتدأ الكلام الذي حكم, فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئا لم يصنعه لما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع ما له حكم، إذا قيل هذا لفظه بحروفه, ومن الأم نقلته فهذا نص بين دافع لما قاله ولا سيما قوله: ولا يمنع ما بعده ... إلخ, وذكر ابن برهان في الوجيز نحوه أيضا، فقال: قالوا: فإن كان اللفظ على عمومه فلماذا قدم الشافعي العموم العري عن السبب على العموم الوارد على سبب؟ قلنا: ما أورده من السبب وإن لم يكن مانعا من الاستدلال ومانعا من التعلق به، فإنه يوجب ضعفا, فقدم العري عن السبب لذلك أهمل كلامه. وهذه الفائدة التي حصلت بطريق العرض

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه "5/ 192" والهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 13" والهندي في كنز العمال، حديث رقم "12917" و"14574".

فائدة حسنة؛ وذلك لأن الشافعي -رحمه الله- يقول: إن الأمة تصير فراشا بالوطء، حتى إذا أتت بولد يمكن أن يكون من الوطء سواء اعترف به أم لا، لقصة عبد بن زمعة اختصم هو وسعد بن أبي وقاص في المولود فقال سعد: هو ابن أخي عهد إلي أنه منه، وقال عبد بن زمعة: هو أخي, ولد على فراش أبي من وليدته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" 1، وذهب أبو حنيفة إلى أن الأمة لا تصير فراشا بالوطء ولا يلحقه الوالد إلا إذا اعترف به، وحمل الحديث المتقدم على الزوجة وأخرج الأمة من عمومه فقال الشافع: إن هذا قد ورد على سبب خاص وهي الأمة لا الزوجة. قال الإمام فخر الدين: فتوهم الواقف على هذا الكلام، أن الشافعي يقول: إن العبرة بخصوص السبب, ومراده أن خصوص السبب لا يجوز إخراجه عن العموم بالإجماع كما تقدم، والأمة هي السبب في ورود العموم فلا يجوز إخراجها، ومن تفاريع هذه القاعدة اختلاف أصحابنا في أن العري هل يختص بالفقراء أم لا؟ فإن اللفظ الوارد في جوازه عام، وقد قالوا: إنه ورد على سبب وهو الحاجة، ولما كان الراجح هو الأخذ بعموم اللفظ كان الراجح عدم الاختصاص. وقوله: "وكذا مذهب الراوي" أي: لا يكون أيضا مخصصا للعموم على الصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما، ونقله في المحصول عن الشافعي قال بخلاف حمل الخبر على أحد محمليه، فإن الشافعي يأخذ فيه بمذهب الراوي. قال القرافي: وقد أطلقوا المسألة، والذي أعتقده أن الخلاف مخصوص بالصحابي ثم مثل المصنف بقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في الإناء, فاغسلوه سبعا" 2 "الحديث" فإن أبا هريرة رواه مع أنه كان يغسل ثلاثا فلا نأخذ بمذهبه؛ لأن قول الصحابي ليس بدليل كما ستعرفه إن شاء الله تعالى, وهذا المثال غير مطابق؛ لأن التخصيص فرع العموم, والثلاث والسبع وغيرهما من أسماء الأعداد نصوص مدلولاتها لا عامة. وقد ظفرت بمثال صحيح ذكره ابن برهان في الوجيز, وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 3 فإن راويه هو ابن عباس ومذهبه أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل؛ فلذلك منع أبو حنيفة قتل المرتدة، احتج الخصم بأن الراوي إنما خالف العام لدليل لو خالفه لغير دليل, لكان ذلك فسقا قادحا في قبول روايته، وإذا ثبت أنه خالف دليلا كان ذلك الدليل هو المخصص، والجواب أنه ربما خالف لشيء ظنه دليلا وليس هو بدليل في نفس الأمر فلا يلزم القدح لظنه، ولا التخصيص لعدم مطابقته، وهذا الجواب يتجه إذا كان الراوي مجتهدا فإن كان مقلدا فلا. قال: "السابعة: إفراد فرد لا يخصص، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" مع قوله في شاة ميمونة: "دباغها طهورها" لأنه غير مناف قيل: المفهوم مناف, قلنا: مفهوم اللقب

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة "93" والدارمي في سننه "1/ 188"، والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 287"، والإمام أحمد في مسنده "2/ 245". 2 أخرجه البخاري "4/ 75" والهندي في كنز العمال "387" والهيثمي في مجمع الزوائد "6/ 261". 3 أخرجه أحمد في مسنده "1/ 2526" والدارمي في سننه "2/ 86".

مردود" أقول: إذا أفرد الشارع فردًا من أفراد العام أي: نص على واحد مما تضمنه وحكم عليه بالحكم الذي حكم به على العلم فإنه لا يكون مخصصا له كقوله -عليه الصلاة والسلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" مع قوله في شاة ميمونة: "دباغها طهورها" والدليل عليه أن الحكم على الواحد لا ينافي الحكم على الكل؛ لأنه لا منافاة بين بعض الشيء وكله، بل الكل محتاج إلى البعض، وإذا لم يكن منافيا لم يكن مخصصا؛ لأن المخصص لا بد أن يكون منافيا للعام، واعلم أن الواقع في الصحيحين من رواية ابن عباس أن الشاة كانت لمولاة ميمونة تصدق بها عليها, وقد تقدم تمثيل خصوص السبب بقصة ميمونة أيضا وهو صحيح لكونه بلفظ آخر غير هذا, واحتج الخصم وهو أبو ثور1 بأن تخصيص الشاة بالذكر يدل بمفهومه على نفي الحكم عما عداه، وقد تقدم أنه يجوز تخصيص المنطوق بالمفهوم وجوابه أن هذا مفهوم لقب وقد تقدم أنه مردود أي: ليس بحجة، وهذا الجواب ذكره ابن الحاجب بلفظه وهو أحسن من جواب الإمام، فإنه أجاب هو وصاحب الحاصل بأنا لا نقول بدليل الخطاب أي: بمفهوم المخالفة، وهذا الإطلاق مخالف لما قرره في مفهوم الصفة والشرط وغيرهما. واعلم أن مقتضى جواب المصنف وابن الحاجب تسليم التخصيص إذا كان المفهوم معمولا به، كما لو قيل: "اقتلوا المشركين" ثم قيل: اقتلوا المشركين المجوس، وبه صرح أبو الخطاب الحنبلي على ما نقله عنه الأصفهاني شارح المحصول في المطلق والمقيد، وحينئذ فيكون الكلام هنا في التخصيص بمجرد ذكر البعض من حيث هو بعض، مع قطع النظر عما يعرض له مما هو معمول به فافهمه، لكن ذكر الآمدي وابن الحاجب فيما إذا كان المطلق والمقيد منفيين ما حاصله أن ذكر البعض لا أثر له وإن اقترن بما هو حجة وسأذكره إن شاء الله تعالى في موضعه. وصرح به أيضا هناك أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد على ما نقله عنه الأصفهاني المذكور، وحينئذ فيكون الجواب غير مستقيم، وقد اختلفوا في تحرير مذهب أبي ثور فنقل عنه الإمام في المحصول أن المفهوم مخرج لما عدا الشاة ونقل عنه ابن برهان في الوجيز وإمام الحرمين في باب الآنية عن النهاية أن المفهوم مخرج لما يؤكل لحمه. قال: "الثامنة: عطف العام على الخاص لا يخصص مثل "ألا لا يقتل مسلم بكافر, ولا ذو عهد في عهده "2 وقال بعض الحنفية بالتخصيص تسوية بين المعطوفين، فلنا التسوية في جميع الأحكام غير واجبة". أقول: إذا كان المعطوف عليه مشتملا على اسم عام، واشتمل المعطوف على ذلك الاسم بعنيه، لكن على وجه يكون مخصوصا بوصف أو بغيره

_ 1 أبو ثور: إبراهيم بن خالد، الكلبي، البغدادي، من رواة القديم، قال أحمد بن حنبل: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة، قال: وهو عندي كسفيان الثوري، مات في صفر سنة "240هـ" وكان أبو ثور على مذهب الحنفية، فلما قدم الشافعي بغداد تبعه، وقرأ كتبه ويسر علمه "طبقات الشافعية: 1/ 25". 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند، حديث رقم "995" جـ1، وابن حجر في فتح الباري "4/ 85".

فلا يقتضي ذلك تخصيص المعطوف عليه عندنا، وقال الحنفية على ما نقله في المحصول أو بعضهم على ما نقله المصنف أنه يقتضيه تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، وجوابه أن التسوية بينهما في جميع الأحكام غير واجبة بل الواجب إنما هو التسوية في مقتضى العامل، مثال ذلك أن أصحابنا قد استدلوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر سواء كان حربيا أو ذميا بقوله عليه الصلاة السلام: "ألا لا يقتل مسلم بكافر, ولا ذو عهد في عهده" فإن الكافر هنا وقع بلفظ التنكير في سياق النفي فيعم، فقالت الحنفية: الحديث يدل على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي ونحن نقول به، وبيانه أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" معطوف على "مسلم" فيكون معناه: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر، ومما يقوي أن المراد عدم قتله بالكافر أن تحريم قتل المعاهد معلوم ولا يحتاج إلى بيان وإلا لم يكن للعهد فائدة ثم إن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد هو الحربي؛ لأن الإجماع قائم على قتله بمثله وبالذمي, وحينئذ فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم أيضا هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، وجوابه ما تقدم، وهذا الجواب الذي ذكره المصنف باطل؛ لأن الحنفية لا يقولون باشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأحكام، بل باشتراكهما في المتعلقات، والاشتراك فيها واجب عند المصنف كما نص عليه في الاستثناء عقب الجمل فقال: لنا الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما هذا كلامه, وهو مخالف للمذكور هنا لا سيما وقد صرح بالحال وهو غير المتنازع فيه هنا, أعني الصفة, بل الجواب أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" كلام مفيد لا يحتاج إلى إضمار الكافر؛ لأنه ربما يوهم أن المعاهد لا يقتل مطلقا فذكر ذلك دفعا لهذا التوهم. واعلم أن من الناس من يعبر عن هذه المسألة بأن العطف على العام لا يوجب العموم في المعطوف خلافا للحنفية, وهو أيضا صحيح فإن الحنفية قالوا: لو أن الكافر المذكور في الحديث عام للحربي والذمي, لكان المعطوف أيضا كذلك لكنه ليس كذلك, فإن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد إنما هو الحربي دون الذمي, وممن عبر بهذه العبارة الغزالي في المستصفى وابن الحاجب في مختصره إلا أن الغزالي قال: إن مذهبهم غلط وابن الحاجب قال: إنه الصحيح قال: إلا إذا دل دليل منفصل على التخصيص بهذا المثال بخصوصه. قال: "التاسعة: عود ضمير خاص لا يخصص مثل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} مع قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} لأنه لا يزيد على إعادته". أقول: إذا ورد بعد العام ضمير عائد على بعض أفراده فلا يخصصه عند المصنف, واختاره الآمدي وابن الحاجب، وقيل: يخصص وهو رأي الشافعي على ما نقله عنه القرافي، وقيل بالوقف وهو المختار في المحصول ومختصراته كالحاصل وغيره, ونقله الآمدي عن الإمام وأبي الحسين ونقل ابن الحاجب عنهما التخصيص،

مثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فإن المطلقات يشملن البوائن والرجعيات، والضمير في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} عائد على الرجعيات فقط؛ لأن البائن لا يملك الزوج ردها، ولو ورد بعد العام حكم لا يتأتى إلا في بعض أفراده كان حكمه كحكم الضمير كما صرح به في المحصول، ومثل له بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ثم قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يعني الرغبة في مراجعتهن والمراجعة لا تتأتى في البائن، واستدل المصنف على بقاء العموم بقوله؛ لأنه لا يزيد على إعادته، وفيه ضميران ملفوظ بهما، فالأول يعود على لفظ الضمير من قوله: عود الضمير خاص أي: لأن الضمير الخاص لا يزيد, وأما الثاني فيحتمل أن يكون عائدا على العام، ومعناه أن الضمير لا يزيد على إعادة العام المتقدم، ولو أعيد فقيل: وبعولة المطلقات أحق بردهن لم يكن مخصصا اتفاقا، وإن كان المراد به الرجعيات فبطريق الأولى إعادة ما قام مقامه، ويحتمل أن يكون عائدا على بعض الخاص وهو ما فهمه كثير من الشراح، ويعني بذلك أنه لو قيل: وبعولة الرجعيات أحق بردهن لم يكن مخصصا لما قبله, فبالأولى ما قام مقامه الأول، أصوب لتعبيره بالإعادة دون الإظهار, ولأنه أبلغ في الحجة لكون الأول بعينه قد أعيد، ولم يلزم منه التخصيص، وعلى كل حال فللخصم أن يقول: إن الضمير يزيد على إعادة الظاهر؛ لأن الظاهر مستقل بنفسه فينقطع معه الالتفات عن الأول بخلاف الضمير، واستدل المتوقف بأن العموم مقتضاه ثبوت الحكم لكل فرد، والضمير مقتضاه عوده لكل ما تقدم فليست مراعاة ظاهر العموم أولى من مراعاة ظاهر الضمير، فوجب التوقف ولا ذكر لهذه المسألة في المنتخب. قال: "تذنيب: المطلق والمقيد إن اتحد سببهما حمل المطلق عليه عملا بالدليلين, وإلا فإن اقتضى القياس تقييده قيدا وإلا فلا". أقول: لما كان المطلق عاما عموما بدليا، والمقيد أخص منه كان تعارضهما من باب تعارض العام والخاص فلذلك ذكره في بابه وترجم له بالتذنيب, وقد سبق الكلام على هذه اللفظة في أوائل الكتاب، وحاصل المسألة أنه إذا ورد لفظ مطلق ولفظ مقيد نظر إن اختلف حكمهما نحو: اكس ثوبا هرويا وأطعم طعاما, فلا يحمل أحدهما على الآخر باتفاق, أي: لا يقيد الطعام أيضا بالهروي لعدم المنافاة، واستثنى الآمدي وابن الحاجب صورة واحدة وهو ما إذا قال: أعتق رقبة ثم قال: لا تملك كافرة ولا تعتقها، وهذا القسم تركه المصنف لوضوحه، وصرح الآمدي بأنه لا فرق فيه بين أن يتحد سببهما أم لا، لكن نقل القرافي عن أكثر الشافعية أنه يحمل عليه عند اتحاد السبب، ومثل له بالوضوء والتيمم، فإن سببهما واحد وهو الحدث، وقد وردت اليد في التيمم مطلقة، وفي الوضوء مقيدة بالمرافق, وإن اتحد حكمهما نظر, إن اتحد سببهما كما لو قيل في الظهار: أعتق رقبة وقيل فيه أيضا: أعتق رقبة مؤمنة, فلا خلاف كما قال الآمدي: إنا نحمل

المطلق على المقيد حتى يتعين إعتاق المؤمنة، لا المقيد على المطلق حتى يجزئ إعتاق الكافرة، وإنما حملنا المطلق على المقيد عملا بالدليلين؛ وذلك لأن المطلق جزء من المقيد فإذا عملنا بالمقيد عملنا بهما، وإن لم نعمل به فقد ألغينا أحدهما، ثم اختلفوا فصحح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل بيان للمطلوب أي: دال على أنه كان المراد من المطلق هو المقيد، وقيل: يكون نسخا أي: دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد الطارئ، واعلم أن مقتضى إطلاق المصنف أنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأمر والنهي، فإذا قال: لا تعتق مكاتبا وقال أيضا: لا تعتق مكاتبا كافرا, فإن نحمل الأول على الثاني ويكون المنهي عنه هو إعتاق المكاتب الكافر, وصرح به الإمام في المنتخب وذكر في المحصول والحاصل نحوه أيضا، لكن ذكر الآمدي في الأحكام أنه لا خلاف في العمل بمدلولهما، والجمع بينهما في النفي إذ لا تعذر فيه، هذا لفظه وهو يريد أنه يلزم من نفي المطلق نفي المقيد فيمكن العمل بهما، ولا يلزم من ثبوت المطلق ثبوت المقيد، وتابعه ابن الحاجب وأوضحه فقال: فإن اتحد موجبهما مثبتين فيحمل المطلق على المقيد، ثم قال: فإن كانا منفيين عمل بهما، وحاصله أنه لا يعتق مكاتبا مؤمنا أيضا، إذ لو أعتقه لم يعمل به، وصرح به أبو الحسين البصري في المعتمد وعلله بأن قوله: لا تعتق مكاتبا عام، والمكاتب الذمي فرد من أفراده، وذكره لا يقتضي التخصيص، هكذا نقله عنه الأصفهاني شارح المحصول، ونقل عن أبي الخطاب الحنبلي بناؤها على أن مفهوم الصفة هل هو حجة أم لا؟ وقد غلط الأصفهاني المذكور في فهم كلام الآمدي وابن الحاجب, فادعى أن المراد منه حمل المطلق على المقيد. قوله: "وإلا" أي: وإن لم يتحد سببهما كقوله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وقوله تعالى في كفارة القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ففيه ثلاثة مذاهب حكاها في المحصول, أحدها: أن تقييد أحدها يدل بلفظه على تقييد الآخر؛ لأن القرآن كالكلمة الواحدة، ولهذا فإن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة احدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد. الثاني قول الحنفية: أنه لا يجوز تقييده بطريق ما لا باللفظ ولا بالقياس. الثالث وهو الأظهر من مذهب الشافعي كما قاله الآمدي وصححه هو والإمام وأتباعهما وجزم به المصنف: أنه إن حصل قياس صحيح مقتضٍ لتقييده قيد كاشتراك الظهار والقتل في خلاص الرقبة المؤمنة عن قيد الرق لتشوف الشارع إليه، وإن لم يحصل ذلك فلا. "فرع": إذا أطلق الحكم في موضع ثم قيد في موضعين بقيدين متنافيين, فإن قلنا: إن التقييد بالقياس فلا كلام وتحمله على المقيد المشارك له في المعنى، وإن قلنا: إنه باللفظ تساقطا وترك المطلق على إطلاقه؛ لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من الآخر,

هكذا في المحصول1، ومثال ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الولوغ: "إحداهن بالتراب" وفي رواية: "أولاهن" وفي رواية: "أخراهن" فإنه لما لم يكن الترجيح بلا مرجح، وتعذر القياس؛ لعدم ظهور المعنى تساقطا، ورجعنا إلى أصل الإطلاق، وجوزنا التعفير في إحدى الغسلات عملا بقوله: "إحداهن بالتراب" هكذا قالوه, ولك أن تقول: ينبغي في هذا المثال أن يبقى التخيير في الأولى والأخرى فقط للمعنى الذي قالوه، وأما عداهما فلا يجوز فيه التعفير لاتفاق القيدين على نفيه من غير معارض، وقد ظفرت بنص للشافعي موافق لهذا البحث موافقة صريحة، فقال في البويطي في أثناء باب غسل الجمعة ما نصه: قال -يعني الشافعي: وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل أولاهن أو أخراهن بالتراب ولا يطهره غير ذلك, وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لفظه بحروفه, ومن البويطي نقلته وهو نص غريب لم ينقله أحد من الأصحاب، وأورد في الأم حديثا يعضد ذلك ذكره في باب ما ينجس الماء مما خالطه، وهو قبل كتاب الأقضية وبعد باب الأشربة.

_ 1 انظر المحصول، ص460، جـ1.

الباب الرابع: في المجمل والمبين

الباب الرابع: في المجمل والمبين الفصل الأول: في المجمل قال: "الباب الرابع: في المجمل والمبين, وفيه فصول الأول: في المجمل, وفيه مسائل, الأولى: اللفظ إما أن يكون مجملا بين حقائقه كقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] أو إفراد حقيقة واحدة مثل: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] أو مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتكافأت، فإن ترجح واحد لأنه أقرب إلى الحقيقة كنفي الصحة من قوله: "لا صلاة" و "لا صيام" أو لأنه أظهر عرفا أو أعظم مقصودا كرفع الحرج، وتحريم الأكل من "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حمل عليه". أقول: سبق في تقسيم الألفاظ تعريف المجمل لغة واصطلاحا, والإجمال لا يتصور إلا في معان متعددة، وحينئذ فالمجمل على أقسام أحدها: أن يكون مجملا بين حقائقه أي: بين معان وضع اللفظ لكل منها, كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإن القرء موضوع بإزاء حقيقتين وهما الحيض والطهر. الثاني: أن يكون مجملا بين أفراد حقيقة واحدة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها أفراد، والمراد: واحدة معينة منها كما سيأتي في الفصل الثاني. الثالث: أن يكون مجملا بين مجازاته، وذلك إذا انتفت الحقيقة أي: ثبت عدم إرادتها وتكافأت المجازات أي: لم يترجح بعضها على بعض، فإن لم يدل دليل على عدم إرادة الحقيقة تعين الحمل عليها، ولا إهمال إلا إذا عارضها مجاز راجح, فإن فيه الخلاف المعروف وقد ذكره المصنف قبيل الحقيقة والمجاز واختار التساوي. فعلى اختياره هو قسم آخر من المجمل، ولم يتعرض له هناك اكتفاء بما ذكره هناك، ثم إن المجمل قد يكون بواسطة الإعلان كالمختار، فإنه صالح لاسم الفاعل، واسم المفعول، وبواسطة التركيب كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]

فإن الذي بيده العقدة محتمل الزوج والولي، وبواسطة مرجع الصفة نحو: زيد طبيب ماهر، فإن الماهر يحتمل أن يرجع إلى زيد وإلى الطبيب، والمعنى يختلف، وبواسطة تعدد مرجع الضمير نحو: ضرب زيد عمر أو أكرمني، وبواسطة استثناء المجهول كقوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وهذه الأقسام قد ذكرها ابن الحاجب ما عدا الأخير، وكلام المصنف صالح لها. نعم المجمل قد يكون فعلا أيضا كما إذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من الركعة الثانية، فإنه يحتمل أن يكون عن تعمد فيدل على جواز ترك التشهد الأول، ويحتمل أن يكون عن سهو فلا يدل عليه، وهذا القسم ذكره ابن الحاجب وغيره، وهو يرد على المصنف فإنه جعل مورد التقسيم هو اللفظ، فقال: اللفظ إما أن يكون ... إلخ، واختلفوا في جواز بقاء الإجمال بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- قاله في البرهان بعد حكاية هذا الخلاف. والمختار أنه إن تعلق به حكم تكليفي فلا يجوز، وإلا فيجوز. قوله: "فإن ترجع" أي: بعض المجازات, وجواب هذا الشرط هو قوله بعد ذلك: حمل عليه، ثم ذكر للرجحان ثلاثة أسباب, أحدها: أن يكون أقرب إلى الحقيقة من المجاز، والآخر كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 1، وقوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" 2 فإن حقيقة هذا اللفظ إنما هو الإخبار عن نفي ذات الصوم والصلاة عند انتفاء الفاتحة والتبييت، وهذه الحقيقة غير مرادة للشارع؛ لأنا نشاهد الذات قد تقع بدون ذلك فتعين الحمل على المجاز، وهو إضمار الصحة أو الكمال، وإضمار الصحة أرجح لكونه أقرب إلى الحقيقة، فحملنا اللفظ عليه، وبيان القرب أن الحقيقة هو نفي الذات كما تقدم ونفي الذات يستلزم انتفاء جميع الصفات, ونفي الصحة أقرب إليه في هذا المعنى من نفي الكمال؛ لأنه لا يبقى مع نفي الصحة وصف بخلاف نفي الكمال, فإن الصحة تبقى معه, ولك أن تقول: إن هذا التقرير معارض بأن نفي الكمال متيقن دون نفي الصحة, وبأن فيه تقليلا للإضمار والتجوز المخالف للأصل. واعلم أن ما قاله المصنف هنا غير مستقيم، ولم يذكره الإمام ولا أحد من أتباعه؛ وذلك لأن المذكور في المحصول مذهبان, أحدهما ما قاله أبو عبد الله البصري: أن المنفي الداخل مطلقا مجمل، سواء كان شرعيا نحو: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، أو لغويا نحو: لا عمل إلا بالنية؛ لأن الذات غير منتفية وليس بعض المجازات بأولى من بعض. والثاني ونقله عن الأكثرين: أن النفي إن كان اسما شرعيا كالصوم والصلاة فلا إجمال؛ لأن انتفاء المشروع ممكن بفوات شرطه أو جزئه, وقد أخبر الشارع به, وإن كان لغويا فإن كان له حكم واحد فلا إجمال أيضا وينصرف النفي إليه كقولنا: لا إقرار لمن أقر بالزنا مكرها، فإن هذا النفي لا يمكن صرفه إلى نفس الإقرار لوجوده، ولا صرفه إلى الاستحباب لأنه لا

_ 1 أخرجه ابن حجر في فتح الباري "2/ 252"، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين "3/ 48". 2 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "1/ 433".

مدخل له في الإقرار بالزنا، فإن الشخص يستحب له أن يستر على نفسه ولا يقر, فتعين صرفه إلى الصحة, وإن كان له حكمان: الفضيلة والجواز, فليس أحدهما أولى من الآخر فتعين الإجمال، ثم مثل له الإمام بقولنا: لا عمل إلا بنية، وقال: لقائل أن يقول: صرفه إلى الصحة أولى لأنه أقرب إلى الحقيقة، هذا حاصل كلام المحصول, وعبر في الحاصل عن قول الإمام, ولقائل أن يقول بقوله وعندي، واستفدنا من هذا الكلام كله أن ما ليس بشرعي كالعمل يكون مجملا خلافا لما مال إليه الإمام من حمله على الصحة وقد تبعه عليه الآمدي وابن الحاجب، وصححاه أعني الحمل على الصحة، واستفدنا منه أيضا أن الشرعي فيه مذهبان أحدهما: الإجمال, والثاني: حمله على الحقيقة وهو رأي الأكثرين واختاره أيضا الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، فأما ما قاله المصنف من كونه ليس مجملا ولا محمولا على الحقيقة الشرعية بل على المجاز الأقرب إلى نفي الذات فخارج عن القولين معا، ولا شك أنه توهم أن بحث الإمام عائد إلى الكل لكونه ذكره في آخر المسألة، وإنما ذكره في الاسم اللغوي فقط، نعم يستقيم ما قاله المصنف إذا أنكرنا الحقائق الشرعية كما قاله الآمدي وابن الحاجب. السبب الثاني من الأسباب المرجحة لأحد المجازات: أن يكون أظهر عرفا كقوله -عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن حقيقة اللفظ ارتفاع نفس الخطأ وهو باطل لاستحالة رفع الشيء بعد صدوره، فتعين حمله على المجاز بإضمار الحكم، أو الحرج يعني الإثم ويرجح. الثاني يعني الإثم لكونه أظهر عرفا؛ لأن السيد لو قال لعبده: رفعت عنك الخطأ, لتبادر إلى الفهم منه نفي المؤاخذة. الثالث: أن يكون أعظم مقصودًا كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فإن حقيقة اللفظ تحريم نفس العين كما قال به بعضهم لكنه باطل قطعا، فإن الأحكام الشرعية لا تتعلق إلا بالأفعال المقدورة للمكلفين، والعين ليست من أفعالهم فتعين الصرف إلى المجاز بإضمار الأكل أو البيع أو اللمس أو غيرها، ويرجح الأكل بكونه أعظم مقصودا عرفا فحمل اللفظ عليه، والمثالان الأخيران ذكرهما المصنف بطريق اللف والنشر، وحكى الإمام عن بعضهم أنهما مجملان أيضا. قال: "الثانية: قالت الحنفية: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} مجمل، وقالت المالكية: يقتضي الكل، والحق أنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم دفعا للاشتراك والمجاز. الثالثة: قيل: آية السرقة مجملة؛ لأن اليد تحتمل الكل والبعض، والقطع الشق والإبانة, والحق أن اليد للكل وتذكر للبعض مجازا، والقطع للإبانة، والشق إبانة". أقول: اختلفوا في إجمال قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فقالت الحنفية: إنه مجمل؛ لأنه يحتمل مسح الجميع ومسح البعض احتمالا على السواء, وقد بينه عليه الصلاة والسلام فمسح بناصيته ومقدارها الربع فكان الربع واجبا، وقال غيرهم: لا إجمال فيها، ثم اختلفوا فقالت المالكية: إنها تقتضي مسح الجميع؛ لأن الرأس حقيقة في الكل قال المصنف: الحق أن

مسح الرأس حقيقة فيما ينطلق عليه اسم المسح, وهو القدر المشترك بين الكل والبعض؛ لأن هذا التركيب تارة يأتي لمسح الكل وهو واضح, وتارة يأتي لمسح البعض كما يقال: مسحت يدي برأس اليتيم، وإن لم يمسح منها إلا البعض، فإن جعلناه حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك، وإن جعلناه حقيقة في أحدهما فقد لزم المجاز في الآخر، فجعله حقيقة في القدر المشترك دفعا للمحذورين، قال في المحصول: وهذا هو قول الشافعي ثم نقل عن بعض الشافعية أن الباء تدل على التبعيض، فلذلك اكتفينا بالبعض، ولم يذكر المصنف هذا المذهب هنا مع أنه قد جزم به في الفصل المعقود للحروف، والإمام إن كان قد جزم به هناك لكنه لم يصرح بعكسه هنا كما صرح به المصنف بل نقله عن الشافعي فقط. المسألة الثالثة: ذهب بعضهم إلى أن آية السرقة وهي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مجملة في اليد والقطع؛ لأن اليد تحتمل العضو كله أي: من المنكب إلى رءوس الأصابع, وتحتمل بعضه أيضا لأنها تطلق على كل منهما، والأصل في الإطلاق الحقيقة، والقطع يحتمل الشق يعني الجرح كقولنا: فلان برى القلم فقطع يده أي: جرحها ويحتمل أيضا الإبانة وهو فصل العضو كقولنا: سرق فقطعت يده. قوله: "القطع الشق" أي: يحتمل الشق, قال المصنف: والحق أنه ليس فيها إجمال لا من جهة اليد ولا من جهة القطع أما اليد فنقول: إنها حقيقة في الكل وتذكر للبعض بطريق المجاز بدليل قولنا في البعض: إنه ليس كل اليد، وأما القطع فهو حقيقة في الإبانة، ولا شك أن الشق أي: الجرح إبانة أيضا؛ لأن فيه إبانة بعض أجزاء اللحم عن بعض فيكون متواطئا.

الفصل الثاني: في المبين

الفصل الثاني: في المبين قال: "الفصل الثاني: في المبين وهو الواضح بنفسه أو بغيره مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وذلك الغير يسمى مبينا وفيه مسألتان". أقول: المبين بفتح الياء: اسم مفعول من قولك: بيّنت الشيء تبيينا أي: وضحته توضيحا، وهو أي المبين يطلق على شيئين أحدهما: الواضح بنفسه وهو ما يكون كافيا في إفادة معناه، قال في المحصول: أما الأمر الراجع إلى اللغة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 176] فإن إفادة هذا اللفظ لهذا المعنى يوضح اللغة, وقد يكون بالعقل كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فإن حقيقة هذا اللفظ من جهة اللغة إنما هو طلب السؤال من الجدران، ولكن العقل قد صرفنا عن ذلك، وبين أن المراد به الأهل، وقد أشار المصنف إلى هذين القسمين بذكر المثالين، وإنما جعل هذا القسم واضحا بنفسه وإن استفيد تعين معناه من العقل لكونه حاصلا من غير توقف. واعلم أن إطلاق لفظ المبين بفتح الياء على الواضح بنفسه, لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل وهو إن كان غير متبادر إلى الفهم فهو صحيح لغة ومعنى، أما معنى فلأن المتكلم قد أوضحه حيث لم يأت بلفظ مجمل، وأما لغة فقد قال الجوهري في الصحاح ما نصه: والتبيين: الإيضاح، والتبيين أيضا

الوضوح، وفي المثل: "قد بين الصبح لذي عينين" أي: تبين، هذا لفظه، فأطلق التبيين على الوضوح وهو مصدر وضح لا أوضح, تقول: وضح الشيء وضوحا فهو واضح، فيكون اسم المفعول منه وهو المبين يطلق أيضا على ما قد وضح بنفسه وإن لم يوضحه غيره. القسم الثاني: الواضح بغيره وهو ما يتوقف فهم المعنى منه على انضمام غيره إليه وذلك الغير وهو الدليل الذي حصل به الإيضاح يسمى مبينا بكسر الياء، وله أقسام ذكرها المصنف بمثلها في المسألة الآتية، وهذا التقرير هو الصواب فاعتمده، ووقع في كثير من الشروح هنا أغلاط منها أن قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} تمثيل الواضح بغيره وهو خلاف ما في المحصول كما تقدم, وباطل أيضا لأنه قسم ذلك الغير في المسألة الآتية إلى القول والفعل فقط, فلو كان مثالا له لكان انحصاره في القسمين باطلا؛ لأن المبين فيه ليس هو الفعل ولا القول بل العقل، والذي حملهم على ذلك إيهام تقديم قوله: أو بغيره أنه من باب اللف والنشر، والظاهر أن كان مؤخرا عن المثالين، ولكن غيرته الشراح فتأمله. قال: "الأولى أن يكون قولا من الله والرسول, وفعلا منه كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] وقوله عليه الصلاة والسلام: "فيما سقت السماء العشر" 1 وصلاته وحجه, فإنه أدل فإن اجتمعا وتوافقا فالسابق, وإن اختلفا فالقول؛ لأنه يدل بنفسه". أقول: المبين -بكسر الياء- قد يكون قولا من الله كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} إلى آخر الآيات, فإنه بيان لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وقد يكون قولا من الرسول كقوله: "فيما سقت السماء العشر" فإنه بيان للحق المذكور في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقد يكون فعلا منه أي من الرسول كصلاته، فإنها بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ولهذا قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وكحجه فإنه بيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ولهذا قال: "خذوا عني مناسككم" 2 وحكى في المحصول عن قوم أنهم منعوا البيان بالفعل؛ لأنه يطول فيتأخر, وأجاب بأن القول قد يكون أطول, واحتج المصنف بأن الفعل أدل أي: أقوى في الدلالة على المقصود وتوضيحه من القول, فإن الخبر ليس كالمعاينة والمشاهدة، فإذا جاز البيان بالقول فبالفعل أولى. قال في المحصول: وإنما يعلم كون الفعل بيانا للمجمل بأحد أمور ثلاثة, أحدها: أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده. وثانيها: أن يقول: هذا الفعل بيان للمجمل. وثالثها بالدليل العقلي: وهو أن يذكر المجمل في وقت الحاجة إلى العمل به, ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر، فيعلم أن ذلك الفعل بيان له، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قيل: أهمل

_ 1 أخرجه الهندي في كنز العمال "15880" والبيهقي في السنن الكبرى "4/ 221". 2 أخرجه العراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 265", والزيلعي في نصب الراية "3/ 55"، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين "4/ 437".

المصنف قسمين آخرين للبيان، ذكرهما في المحصول أحدهما: الفعل من الله تعالى وهو خلق الكتابة في اللوح المحفوظ، والثاني: الترك من الرسول كتركه التشهد الأول, فإنه بيان لعدم وجوبه قلت: أما الترك فهو داخل في قسم الفعل على الراجح عند الأصوليين وقد صرح به ابن الحاجب في حد الوجوب، وأما الكتاب فتستحيل على الله تعالى في ذاته ولا يستحيل أن يخلقها في جسم, فصار كالبيان بالإشارة وعقد الأصابع، وقد ادعى الإمام انتفاءهما في حق الله تعالى, فنقول: لما ظهر استواء الكل لكان المقتضي لنفيهما مقتضيا لنفي الكتابة. قوله: "إن اجتمعا" أي: القول أو الفعل وتوافقا أي: في الدلالة على حكم واحد فالمبين هو السابق منهما، قولا كان أو فعلا لحصول البيان به, والثاني تأكيد له، ولا فرق في ذلك بين أن نعلم السابق أو نجهله كما قاله في المحصول1 وصححه ابن الحاجب, لكنا إذا جهلنا نحكم على السابق منهما من حيث الجملة. وقال الآمدي: الأشبه فيما إذا جهلنا، واختلفا في الترجيح, أن المرجوح يقدر متقدما حتى يكون هذا المبين، والراجح المتأخر تأكيد له؛ إذ لو انعكس الحال لكان المرجوح مؤكدا للراجح وهو ممتنع، وإن اختلفا كقوله -عليه الصلاة والسلام: "من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا" 2 مع ما روي أنه عليه الصلاة والسلام "قرن, فطاف لهما طوافين وسعى لها سعيين" فالأصح عند الإمام وأتباعه وابن الحاجب أن المأخوذ به هو القول سواء تقدم أو تأخر، أو لم يعلم شيء منهما لأنه يدل بنفسه, والفعل لا يدل إلا بواسطة أحد الأمور الثلاثة المتقدمة. فعلى هذا إن تأخر الفعل فيكون دالا على استحباب الطواف، الثاني: وإن تأخر القول كان ناسخا لإيجاب الطواف. الثاني: المستفاد من الفعل, وقال الآمدي: الأشبه أنه إن تقدم القول فهو المبين، وإن تأخر فيكون الفعل المتقدم مبينا في حقه حتى يجب عليه الطوافان, والقول المتأخر مبينا في حقنا حتى يكون الواجب طوافا واحدا عملا بالدليلين. وقال أبو الحسين البصري: المتقدم هو المبين دائما. قال: "الثانية: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه تكليف بما لا يطاق, ويجوز عن وقت الخطاب عدا المشترك. لنا مطلقا قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] قيل: البيان التفصيلي قلنا: تقييد بلا دليل، وخصوصا أن المراد من قوله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] معينة بدليل ما هي وما لونها، والبيان تأخر. قيل: يوجب التأخير عن وقت الحاجة، قلنا: الأمر لا يوجب الفور قيل: لو كان معينة لما عنفهم, قلنا: للتواني بعد البيان وأنه تعالى أنزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] فنقض ابن الزبعرى بالملائكة والمسيح, فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا} [الأنبياء: 101] الآية

_ 1 انظر المحصول، ص474، جـ1. 2 أخرجه أحمد في المسند "2/ 67"، والهندي في كنز العمال حديث رقم "11978".

قيل: ما لا تتناولهم وإن سلم لكنهم خصوا بالعقل وأجيب بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وإن عدم رضاهم لا يعرف إلا بالنقل، قيل: تأخير البيان إغراء, قلنا: كذلك ما يوجب الظنون الكاذبة، قيل: كالخطاب بلغة لا تفهم, قلنا: هذا يفيد غرضا إجماليا بخلاف الأول". أقول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أي: وقت العمل بذلك المجمل إن منعنا التكليف بما لا يطاق؛ لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به محال. وكلام المصنف هنا مخالف لما أسلفه من جواز التكليف به فالصواب بناؤه عليه كما ذكرته وهو المذكور في المحصول والحاصل، وأما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فالصحيح عند الإمام وأتباعه وابن الحاجب أنه يجوز ونقله في المحصول عن مذهبنا، ومنعت المعتزلة ذلك. قال في المحصول: إلا في النسخ فإنهم وافقونا على جواز تأخيره, وأهمل المصنف استثناءه وفصل أبو الحسن البصري من المعتزلة، ومن الشافعية القفال والدقاق وأبو إسحاق المروزي، فقالوا: المجمل إن لم يكن له ظاهر يعمل به كالمشترك فيجوز تأخير بيانه؛ لأن تأخيره لا يوقع في محذور, وإن كان له ظاهر يعمل به فيجوز تأخير البيان التفصيلي بشرط وجود البيان الإجمالي وقت الخطاب مانعا من الوقوع في الخطأ مثل أن يقول: المراد بهذا العام هو المخصوص وبهذا المطلق هو المقيد وبالنكرة فرد معين, بهذا اللفظ معنى مجازي أو شرعي وهذا الحكم سينسخ. وأما البيان التفصيلي وهو كونه مخصوصا بكذا فغير شرط، وحاصله أن الشرط عند هؤلاء أحد البيانين فقوله بالبيان أي مع البيان وفي النقل عن القفال نظر. فقد رأيت في كتاب الإشارة له أنه يجوز تأخير البيان, وقوله: فيما عدا المشترك متعلق باشتراط البيان لا بقوله: جوز فيكون عامله محذوفا أي: كانئا فيما عدا المشترك, ونقل في المحصول عن أبي الحسين استثناء المتواطئ أيضا مع المشترك وهو فاسد معنى؛ لأن له ظاهرا وهو ما شاء المكلف من الأفراد، ونقلا لأن أبا الحسين لم يذكر سوى المشترك على ما نقله الأصفهاني شارح المحصول، ولأجل هذين المعنيين لم يذكره المصنف فافهمه، ولم يصرح الآمدي باختيار شيء من المذاهب بل مال إلى التوقف، ثم استدل المصنف على مذهبه بثلاثة أدلة، الأول: يدل على جوازه مطلقا أي: في التخصيص وغيره مما له ظاهر أو ليس له ولهذا قال: لنا مطلقا، والثاني: خاص بالنكرة، والثالث: خاص بالعموم؛ ولهذا قال: وخصوصا كذا وكذا. والدليل الأول قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19] ذكر البيان بلفظ {ثُمَّ} وهي للتراخي فدل على أنه يجوز تراخيه عن اتباع الرسول واتباع الرسول متأخر عن الإنزال وهو المراد بقوله تعالى: {قَرَأْنَاهُ} أي: {أنزلناه} إنما قلنا: إن المراد بقوله مطلقا أي: عاما مطلق الدلالة؛ لأن المطلق يصدق بصوره فلا يكون فيه حجة على أبي الحسين في اشتراطه أحد البيانين، إما التفصيلي أو الإجمالي، والمصنف قد استدل به عليه, فإن قيل: فأين

العموم في الآية قلنا: لأن بيانه مضاف وقد تقدم أنه للعموم، ولك أن تقول: حمله على العموم يقتضي أن لا يوجد بيان مقارن, وأن يفتقر كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي قالوه وليس كذلك. فالوجه حمل البيان على الإظهار كقولهم بأن لنا سور المدينة أي: ظهر اعتراض أبي الحسين ومن معه من الشافعية بأن المراد هو البيان التفصيلي دون الإجمالي، وأجاب المصنف بأنه تقييد بلا دليل. قوله: "وخصوصا" هو معطوف على قوله مطلقا, تقديره لنا مطلقا كذا، وخصوصا كذا، وهذا هو الدليل الثاني المخصوص بالنكرة, وتقديره أن المراد من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] إنما هي بقرة معينة بدليل سؤالهم عن صفتها، وجواب الباري لهم حيث قال: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا} [البقرة: 70] إلخ الآيات, فلو كانت غير معينة لكان السؤال باطلا لا يستحقون عليه جوابا, لكن الباري أجاب بأوصاف خاصة، ثم إن البيان تأخر عن الخطاب حتى سألوه سؤالا بعد سؤال فدل على الجواز، واعترض الخصم على هذا الاستدلال بوجهين أحدهما: أن بني إسرائيل كانوا مأمورين وقت الخطاب بالذبح فيكونون محتاجين إلى البيان في ذلك الزمان، وتأخيره عنه تأخير عن وقت الحاجة وهو لا يجوز, فما تقتضيه الآية لا يقولون به، وما يقولون به لا تقتضيه الآية، وجوابه ما تقدم من كون الأمر لا يوجب الفور، ولك أن تقول: الأمر بذلك إنما هو لأجل الفصل بين الخصمين المتنازعين في القتل, كما هو معروف في التفسير والفصل واجب على الفور. الاعتراض الثاني: لا نسلم أن البقرة كانت معينة، فإن ابن عباس رضي الله عنهما نقل عنه أنه قال: "شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم" ويدل عليه أنها لو كانت معينة لما عنفهم الله تعالى وذمهم على سؤالهم لكنه عنفهم بقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وجوابه أنا نمنع كون التعنيف على السؤال، فإنه يجوز أن يكون على التواني أي: التقصير بعد البيان فإن كلا منهما محتمل، وأيضا فإيجاب المعينة بعد إيجاب خلافها نسخ قبل الفعل وهو ممتنع عند الخصم، وكان الصواب تقديم الاعتراض الثاني على الأول. قوله: "وأنه تعالى" هو معطوف على قوله: إن المراد تقديره ولنا خصوصا أن المراد كذا, وأنه تعالى أنزل كذا، وهذا هو الدليل الثالث المختص بجواز إطلاق العام وإرادة الخاص من غير بيان مقترن به لا تفصيلي ولا إجمالي، وتوجيهه أنه تعالى أنزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وهو عام في كل معبود فقال ابن الزبعرى: لأخصمن محمدا فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد المسيح؟ فيلزم أن يكون هؤلاء حصب نار جهنم فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب حتى نزل التخصيص بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فدل ذلك على الجواز قال الجوهري: الحصب هو ما يحصب به في النار أن يرمى به والزبعرى بكسر الزاي وفتح الباء قال: وهو السيئ الخلق على ما نقله الفراء،

وقال أبو عبدة وأبو عمرو: وإنه كثير شعر الوجه وأما أخصم فإنه من باب المغالبة فنقول: خاصمته فخصمته بكسر الصاد أي: غلبته في الخصومة، قال الجوهري: وهو شاذ فإن قياسه الضم إذا لم تكن عينه حرف حلق تقول: صارعته فصرعته أصرعه بضم الراء. واعترض ما لا يعقل خاصة؛ لهذا نقل الآمدي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "ما أجهلك بلغة قومك, ما لما لا يعقل" وحينئذ فلا يكون إنزال قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} الآية للتخصيص بل لزيادة بيان جهل المعترض. الثاني: سلمنا أنها تتناولهم لكنهم مخصوصون بالعقل فإن العقل قاضٍ بأنه لا يجوز تعذيب أحد بجريمة صادرة من غيره لم يدع إليها، وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم حالة الخطاب، ثم نزلت الآية تأكيدا له، وأجاب المصنف عن الأول بما أجاب به الإمام وهو أن ما تعم العقلاء وغيرهم بدليل إطلاقها على الله تعالى في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 4] وهذا الجواب باطل؛ لأنه إن أراد الإطلاق بالمجازي فمسلم، لكن لا بد في الحمل عليه من قرينة ترشد إليه كالقرينة في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وأما تكلف الحمل على المجاز بلا قرينة ليستدل به على الخصم كما صنع في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} فباطل بالاتفاق، وإن أراد الإطلاق الحقيقي فهو مذهب مشهور ذهب إليه أبو عبيدة1 وابن درستويه2 ومكي بن أبي طالب3 وكذا ابن خروف4 ونقله عن سيبويه5 لكنه مناقض لما ذكره في أوائل العموم، ومخالف لمذهب الجمهور على أن في قوله تعالى: {وَمَا بَنَاهَا} تخاريج معروفة عند أهل العربية، وأجاب على الثاني بأن العقل إنما يخيل ترك تعذيبهم لعبادة الكفرة لهم, إذا علم بالعقل أيضا عدم رضاهم

_ 1 معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري أبو عبيدة النحوي, من أئمة العلم بالأدب واللغة، ومولده ووفاته بالبصرة, من كتبه: مجاز القرآن ومآثر العرب والمثالب وغيرها، توفي سنة "209هـ" ""الأعلام 7/ 272". 2 ابن درستويه: عبد الله بن جعفر بن محمد بن درستويه بن المرزبان, أبو محمد من علماء اللغة، فارسي الأصل، اشتهر وتوفي ببغداد, له تصحيح الفصيح والإرشاد ومعاني الشعر وغيرها. توفي سنة "347هـ" "الأعلام 4/ 76". 3 مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار الأندلسي القيسي أبو محمد، مقرئ عالم بالتفسير والعربية من أهل القيروان, ولد فيها وطاف في بلاد المشرق وعاد إلى بلده، له مشكل إعراب القرآن, والكشف عن وجوه القراءات وعللها, والهداية إلى بلوغ النهاية, وغيرها. توفي سنة "437هـ"، "الأعلام 7/ 286". 4 ابن خروف: علي بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، أبو الحسن، عالم بالعربية، أندلسي نسبته إلى حضرموت، ولعل أصله منها, له شرح كتاب سيبويه، وشرح الجمل للزجاجي, وغيرهما، توفي سنة "609هـ"، "الأعلام 4/ 330". 5 سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو البشر, إمام النحاة وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف الكتاب في النحو، توفي سنة 180هـ "الأعلام 5/ 81".

بالعبادة، وليس كذلك فإن العقل لا مجال له في هذا، وإنما علمنا عدم رضاهم بالنقل وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية, وذلك متأخر وهذا الجواب من المصنف بناء على أن عصمة الأنبياء ثابتة بالسمع, والمعتزلة يقولون: إنها ثابتة بالعقل كما سيأتي فلا يستقيم الرد عليهم بذلك. قوله: "قيل: تأخير البيان إغواء" هذه حجة أبي الحسين البصري علىاشتراط البيان الإجمالي فيما له ظاهر، كما قال في المحصول، وتقريره أن الشارع إذا خاطبنا بذلك فإن لم يقصد إفهام المعنى كان عبثا وهو نقص، وإن قصده فإن كان هو المعنى الباطن كان تكليفا بما لا يطاق، وإن كان هو الظاهر كان إغواء أي إضلالا كما قاله الجوهري، ويقع في كثير له عليه وهو إيقاع في الجهل وقرره في المحصول بتقرير الراء، وفي الحاصل بتقرير الواو، وكلام المصنف يقتضي بأنه دليل للمانع مطلقا، وليس كذلك فإن المشترك ليس فيه إيقاع في الجهل، وأجاب المصنف بالنقض الإجمالي وهو جواز الخطاب بما يوجب الظنون الكاذبة كالتجسيم وغيره مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] مع أنه ليس بإغواء إجماعا فكذلك هذا, وللخصم أن يفرق بأن هذه الأشياء قد قارنها دليل عقلي مرشد للصواب بخلاف تأخير البيان، وهذا الجواب لم يذكره الإمام بل ذكر شيئا آخر فيه ضعف. قوله: "قبل الخطاب" أي: استدل من منع تأخير البيان عن الخطاب الذي ليس له ظاهر أيضا كالمشترك، والذي له ظاهر ولكن امتنع الأخذ به لاقترانه بالدليل الإجمالي بأن الخطاب بذلك لا يحصل المقصود، فامتنع وروده كالخطاب بلغة لا يفهمها السامع، وأجاب المصنف بالفرق وهو أن الخطاب بما لا يفهمه السامع لا يفيد غرضا لا إجماليا ولا تفصيليا بخلاف الأول وهو الخطاب بالمشترك ونحوه فإنه يفيد غرضا إجماليا، فإذا قال: ائتني بعين أفاد الأمر بواحدة من العيون, فيتهيأ للعمل بعد البيان، وتظهر طاعته بالبشر وعصيانه بالكراهة وكذلك إذا قال: اقتلوا المشركين وقال: إن هذا العام مخصوص. قال: "تنبه: يجوز تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة، وقوله تعالى: {بَلِّغْ} لا يوجب الفور". أقول: المراد بالتنبيه ما نبه عليه المذكور قبله بطريق الإجمالي وهو ههنا كذلك, وحاصله أنه يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم تأخير تبليغ ما أوحي إليه من الأحكام إلى وقت الحاجة إليها؛ لأنا نقطع بأنه لا استحالة فيه، ولأنه يجوز أن يكون في التأخير مصلحة يعلمها الله تعالى. وقال قوم: لا يجوز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] وأجاب المصنف بأن الأمر لا يوجب الفور كما تقدم. قال في المحصول: وإن سلمنا لكن المراد هو تبليغ القرآن لأنه هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل، وذكره أيضا ابن الحاجب، ولك أن تقول: أي فرق بين تبليغ القرآن وبين غيره، وأيضا فالقرآن أن يشتمل على آيات تتضمن الأحكام فإذا وجب تبليغه على الفور وجب تبليغ أحكامها, وإذا وجب ذلك وجب تبليغ الأحكام مطلقا إذ لا قائل بالفرق

الفصل الثالث: في المبين له

الفصل الثالث: في المبين له قال: "الفصل الثالث: في المبين له. إنما يجب البيان لمن أريد فهمه للعمل كالصلاة، أو الفتوى كأحكام الحيض". أقول: يجب بيان المجمل لمن أراد الله تعالى فهمه؛ لأن تكليفه بالفهم بدون البيان تكليف المحال، ولا يجب بيانه لغيره؛ لأنه لا تعلق به, وقد أشار المصنف إلى هذين القسمين بإنما الدالة على الحصر، ثم إن إرادة الفهم قد تكون للعمل به تضمنه المجمل, كآية الصلاة، فإن المجتهدين أريدوا بالفهم ليعلموا بها، وقد تكون للفتوى به كأحكام الحيض, فإن تفهيم المجتهدين ذلك إنما هو لإفتاء النساء به، لا للعمل، وهذا الكلام ذكره أبو الحسين وتابعه الإمام وأتباعه عليه. وهو يدل على أنه لا يجب على النساء تحصيل العلم بما كلفن به وليس كذلك، بل الرجال والنساء سواء في وجوب ذلك على المستعد منهم دون غيره، إلا أن الغالب صدور الاستعداد من الرجال. "فروع" حكاها الآمدي وابن الحاجب: الأول: اللفظ الوارد إذا أمكن حمله على ما يفيد معنى واحدا، وعلى ما يفيد معنيين ولم يظهر كونه حقيقة في كل منهما أو في أحدهما فقط. فقال ابن الحاجب: المختار أنه مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح، وقال الآمدي: المختار وهو رأي الأكثرين أنه ليس بمجمل بل نحمله على ما يفيد معنيين ولم يظهر كونه حقيقة في كل منهما أو في أحدهما فقط، فقال ابن الحاجب: المختار أنه مجمل لتردده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح، وقال الآمدي: المختار وهو رأي الأكثرين أنه ليس بمجمل, بل نحمله على ما يفيد معنيين تكثيرا للفائدة في كلام الشارع. الثاني: إذا ورد لفظ من الشارع له مسمى لغوي ومسمى شرعي فقد تقدم الكلام في بعضه في الفصل التاسع من الباب الأول. ويبقى النظر ههنا فيما إذا لم يكن حمل الكلام على مدلوله الشرعي، ولكن أمكن حمله على حكم آخر شرعي وعلى موضوعه اللغوي, فقال الغزالي: يكون مجملا وقال الآمدي وابن الحاجب: المختار أنه ليس بمجمل بل يحمل على الحقيقة الشرعية. ومثاله قوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف بالبيت صلاة" 1 فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه كالصلاة حكما في الافتقار للطهارة، أو أنه مشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغة. الثالث: إذا قلنا: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فالصحيح جوازه على التدريج, وقيل: يمتنع لأن إخراج البعض يوهم استعماله في الباقي. الرابع: إذا قلنا: لا بد من مقارنة المخصص للعام وإنه لا يجوز تراخي إنزاله عنه، فإذا نزل فهل يجوز إسماعه للمكلف بدون إسماعه, أي إسماع العام بدون إسماع الخاص, فيه مذهبان الصحيح الجواز، وصححه أيضا في المحصول؛ لأن فاطمة سمعت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} الآية ولم تسمع: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" وأمثاله كثرة. الخامس: ذهب الكرخي إلى أنه لا بد أن يكون البيان مساويا للمبين في القوة، وذهب

_ 1 رواه الدارمي في سننه "2/ 44", والنسائي في سننه "5/ 222".

أبو الحسين البصري إلى أنه يجوز أن يكون أدنى منه، قال في المحصول: وهو الحق، واختار ابن الحاجب أنه لا بد أن يكون أقوى، وهذا الذي اختاره لم يذكره الآمدي, بل اختار تفصيلا لم يذكره أيضا ابن الحاجب، وهو أنه إن كان المبين مجملا كفى في تعيين أحد احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح، وإن كان عاما أو مطلقا فلا بد أن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص, ومن دلالة المقيد على صورة التقييد؛ لأنه إن كان مساويا لزم الوقف، وإن كان مرجوحا امتنع تقديمه على الراجح، وأما مساواة البيان في الحكم فتأتي إن شاء الله تعالى في الكتاب الثاني في السنة.

الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ الفصل الأول: في النسخ قال: "الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ وفيه فصلان, الأول: في النسخ وهو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه, وقال القاضي: رفع الحكم ورد بأن الحادث ضد السابق فليس رفعه بأولى من دفعه". أقول: النسخ لغة يطلق على الإزالة، ومنه: نسخت الشمس الظل، وعلى النقل والتحويل، ومنه: نسخت الكتاب أي: نقلته، والمناسخات لانتقال المال من وارث إلى وارث. وهل هو حقيقة في الإزالة مجاز في النقل أو بالعكس أو مشترك بينهما؟ فيه مذاهب حكاها ابن الحاجب من غير ترجيح، ورجح الإمام الأول، وقال: لأن النقل أخص من الزوال, فإن النقل إعدام صفة وإحداث أخرى. وأما الزوال فمطلق الإعدام، وكون اللفظ حقيقة في العام مجازا في الخاص أولى من العكس لتكثير الفائدة، واختلفوا في معناه الاصطلاحي ففسره القاضي برفع الحكم, واختاره الآمدي وابن الحاجب. ومعناه أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل, بحيث لولا سريان الناسخ لكان باقيا، لكن الناسخ رفعه، وفسره الأستاذ ببيان انتهاء حكم آخر, لكن الحصول والانتهاء في الحقيقة راجعان إلى التعلق. والتفسير بالبيان اختاره المصنف, وهو مقتضى اختياره في المحصول، فإنه ذكر في المسألة الثانية أن مقابله خطأ, لكنه اختار في المعالم أن النسخ عبارة عن الانتهاء وحذف لفظة البيان، فقوله: بيان كالجنس، وقوله: انتهاء خرج به بيان المجمل، وقوله: حكم شرعي دخل فيه الأمر وغيره، ودخل فيه أيضا نسخ التلاوة دون الحكم؛ لأن في نسخها بيانا لانتهاء تجويز قراءتها, وخرج به بيان انتهاء الحكم العقلي وهو البراءة الأصلية، فإن بيان انتهائها بابتداء شرعية العبادات ليس بنسخ لأنه ليس بيانا لحكم شرعي، إذ الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى كما تقدم، والبراءة الأصلية ليست كذلك، وقوله: بطريق شرعي خرج به بيان انتهاء حكم شرعي بطريق عقلي كالموت والغفلة والعجز فلا يكون نسخا كما صرح به الإمام هنا، وصرح في الكلام على التخصيص بالأدلة المنفصلة بعكس ذلك، فقال: إن النسخ قد يكون بالعقل ومثل له بسقوط فرض الغسل بسقوط الرجلين، وإنما قال بطريق شرعي ولم يقل بحكم شرعي؛ لأن النسخ قد يكون بغير بدل، ودخل في الطريق للفعل والتقرير والقول سواء كان من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: "متراخ عنه" خرج به

البيان المتصل بالحكم سواء كان مستقلا كقوله: "لا تقتلوا أهل الذمة" عقب قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} [التوبة: 5] أو غير مستقل كالاستثناء والشرط وغيرهما، وأيضا لو لم يكن الناسخ متراخيا لكان الكلام متهافتا، وفي الحد نظر من وجوه أحدها: أن المنسوخ قد لا يكون حكما شرعيا خبرا كما سياتي. الثاني: أن هذا الحد منطبق على قول العدل: نسخ حكم كذا، مع أنه ليس بنسخ. الثالث: إذا اختلفت الأمة على قولين, فإن المكلف مخير بينهما، ثم إذا أجمعوا على أحدهما فإنه يتعين الأخذ به، وحينئذ فيصدق الحد المذكور عليه، مع أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به كما سيأتي. ثم إن النسخ قبل وقت الفعل داخل في حد الرفع, وفي دخوله في حد المصنف نظر، وكذلك التخصيص بالأدلة السمعية المتراخية. قوله: "وقال القاضي: رفع الحكم" أي: رفع حكم شرعي بطريق شرعي متراخ، وقد تقدم معنى الرفع، ورده الإمام بوجوه كثيرة اختار المصنف منها وجها واحدا، وهو أن الحكم الحادث ضد السابق، وليس رفع الحادث السابق بأولى من دفع السابق للحادث, ورفعه ودفعه مصدران مضافان إلى الفاعل، والضميران عائدان على الاسمين المتقدمين وهما الحادث والسابق, الأول للأول والثاني للثاني، ويجوز في الضميرين غير ذلك لكن بمراعاة إضافة المصدر إلى المفعول فإن قيل: بل الحادث أقوى من السابق لأجل حدوثه، قلنا: قال في المحصول: لا نسلم فكما أن الشيء حال حدوثه يمتنع عدمه فالسابق حال بقائه أيضا كذلك؛ لأن كلا من الحادث والسابق لكونه ممكنا يحتاج إلى سبب, ومع السبب يمتنع عدمه, فإذا امتنع العدم عليهما استويا في القوة فيمتنع الرجحان، ولك أن تقول: الحادث أولى بالرفع ولولا ذلك لامتنع تأثير العلة التامة في معلولها، وأيضا فإن القاضي لم يصرح بأن الرافع هو الحكم الحادث, فقد يكون الرافع عنده هو الإرادة. قال: "وفيه مسائل؛ الأولى: أنه واقع وأحاله اليهود. لنا أن حكمه إن تبع المصالح فيتغير بتغيرها وإلا فله أن يفعل كيف شاء, وأن نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثبتت بالدليل القاطع، وقد نقل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] وأن آدم عليه السلام كان يزوج بناته من بنيه والآن محرم اتفاقا قيل: الفصل الواحد لا يحسن ويقبح قلنا: منبي على فاسد ومع هذا فيحتمل أن يحسن لواحد أو في وقت, ويقبح لآخر أو وقت آخر". أقول: النسخ جائز عقلا، وواقع سمعا خلافا لبعض المسلمين, وافترقت اليهود على ثلاث فرق كما قال ابن برهان والآمدي وغيرهما، فالشمعونية منعوه عقلا وسمعا، والعناية منعوه سمعا فقط، والعيسوية قالوا بجوازه ووقوعه، وأن محمدا لم ينسخ شريعة موسى بل بعث إلى بني إسماعيل دون بني إسرائيل، وفي الكتاب والمعالم أن اليهود مطلقا أحالته، وليس كذلك. قوله: "لنا" أي: الدليل على ما قلناه من ثلاثة أوجه, الأول وهو دليل على الجواز فقط: أن حكم الله تعالى إن تبع المصالح كما هو مذهب المعتزلة فيلزم أن يتغير بتغيرها, فإنها تقطع بأن المصلحة قد تتغير بحسب الأوقات كما تتغير بحسب

الأشخاص، وإن يتبعها فله تعالى أن يفعل كيف يشاء ويحكم كيف يريد. الثاني: أن نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثبتت بالدليل القاطع وهو المعجزة, وقد نقل لنا عن الله تعالى أنه قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] أي: نؤخرها {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ووجه الدلالة أن الاستدلال بالقرآن متوقف على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وفي كون نبوته ناسخة لما قبلها، أو مخصصة قولان للعلماء، وحينئذ فنقول: نبوته -عليه الصلاة والسلام- إن توقفت على النسخ فقد حصل المدعي، وإن لم تتوقف عليه فالآية التي نقلها تدل على جواز النسخ. قال الإمام في تفسيره: وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} جملة شرطية معناها: إن ننسخ نأت وصدق الملازمة بين الشيئين لا يقتضي وقوع أحدهما, ولا صحة وقوعه. ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] الآية, واستدرك صاحب التحصيل على كلامه في المحصول بكلامه في التفسير. وقد يقال: سبب النزول يدل على الوقوع، فإن سببه على ما نقله الزمخشري وغيره أن الكفار طعنوا فقالوا: إن محمدا يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فإن قيل: صحة الآية والاستدلال بها يتوقفان على صحة النسخ, فلو أثبتنا صحة النسخ بالآية لكان يلزم الدور, قلنا: لا نسلم بل الاستدلال بها متوقف على صحة النبوة. الدليل الثالث ولم يذكره في الحاصل: أن آدم -عليه السلام- كان يزوج الأخت من الأخ اتفاقا وهو الآن محرم اتفاقا. هكذا قرره الإمام وفيه نظر من وجهين أحدهما: لا نسلم أن التزويج كان بوحي من الله تعالى بل يجوز أن يكون يقتضي الإباحة الأصلية، ورفعها ليس بنسخ كما قدمناه. الثاني ما ذكره في المحصول: وهو أنه يجوز أن يكون قد شرع ذلك لآدم وبنيه إلى غاية معلومة وهي ظهور شريعة أخرى أو كثرة النسل أو غير ذلك، وقد تقدم أن هذا لا يكون نسخا. ونقل الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عن التوراة أن فيها الأمر بالتزويج, فعلى هذا يسقط الاعتراض الأول. قوله: "قيل: الفعل الواحد" أي: استدل المانع بأن الأمر بالشيء يقتضي أن يكون حسنا والنهي عنه يقتضي أن يكون قبيحا, والفعل الواحد لا يكون حسنا وقبيحا لاستحالة اجتماع الضدين, فلا يكون مأمورا به منهيا عنه. وأجاب المصنف بأن هذا مبني على فاسد، وهو التحسين والتقبيح العقلي فيكون أيضا فاسدا، ومع هذا أي: ومع تسليم هذه القاعدة فلا استحالة، إذ يحتمل أن يحسن الفعل لشخص ويقبح لشخص آخر, أو يحسن الفعل في وقت ويقبح في وقت آخر كما تقدم. قال: "الثانية: يجوز نسخ بعض القرآن ببعض, ومنع أبو مسلم الأصفهاني. لنا أن قوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] نُسخت بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال: قد تعتد الحامل به, قلنا: لا بل بالحمل وخصوصية السنة لاغٍ. وأيضا تقديم الصدقة على نجوى الرسول وجب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ثم نُسخ قال: زال لزوال سببه وهو التمييز بين

المنافق وغيره, وقلنا: زال كيف كان. احتج المانع بقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] قلنا: "الضمير للمجموع". أقول: لا يجوز نسخ جميع القرآن اتفاقا كما قاله في الحاصل وأشار إليه المصنف في آخر المسألة, ويجوز نسخ بعضه خلافا لأبي مسلم الأصفهاني كما نقله عنه الإمام وأتباعه، ونقل عنه الآمدي وأتباعه كابن الحاجب أنه منع وقوع النسخ مطلقا, وأبو مسلم هذا هو الملقب بالجاحظ كما قاله ابن التلمساني في شرح المعالم, واسم أبيه على ما قاله في المحصول: بحر وفي المنتخب: عمر واللمع: يحيى, واستدل المصنف بوجهين، أحدهما: أن الله تعالى أمر التي توفي عنها زوجها بالاعتداد بحول, فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . اعترض أبو مسلم فقال: الاعتداد بالحول لم ينسخ بل خصص؛ وذلك لأن الحمل قد يمكث حولا فتعتد الحامل به، والجواب عنه أنا لا نسلم أن الحامل تعتد بالسنة بل إنما تعتد بوضع الحمل سواء حصل لسنة أو أقل أو أكثر, وخصوصية السنة لاغ ولا اعتبارية. الثاني: أنه تعالى أوجب على من أراد أن يناجي الرسول تقديم صدقة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وبقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] الآية, قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سبب الإيجاب وهو التمييز بين المنافق وغيره، إذ المؤمن يمتثل والمنافق يخالف، فلما حصل التمييز سقط الوجوب، وأجاب المصنف تبعا للحاصل بأن المدعي زوال الوجوب بعد ثبوته سواء كان لزوال سببه أو لم يكن؛ لأنه معنى النسخ وقد ثبت ذلك هنا، وهذا الجواب مردود لأمور، منها أنه متناقض لما ذكره بعد ذلك فإنه استدل على أن الإجماع لا ينسخ القياس بقوله، وأما القياس فلزواله بزوال شرطه فاقتضى أن هذا ليس بنسخ. الثاني: أن ما زال بزوال علة يمكن عودها لا يقال فيه: إنه منسوخ بل مشروعيته باقية حتى يعود عند عود العلة, الثابت أنه إن أراد التمييز للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهو باطل؛ لأنه كان يعلم أعيانهم حتى سماهم لصاحب سره حذيفة بن اليمان كما دلت عليه الأحاديث. وإن أراد التمييز للصحابة فدعوى زواله عنهم ممنوع بل استمر إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأجاب الإمام بأنه لو نسخ كما قال لكان من لم يتصدق منافقا وهو باطل؛ فقد روي أنه لم يتصدق غير علي -رضي الله عنه- وفيه نظر, فإن عدم الصدقة قد يكون لعدم النجوى. قوله: احتج أبو مسلم على المنع بقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فلو نسخ بعضه لتطرف إليه البطلان, وأجاب المصنف تبعا للحاصل بأن الضمير لمجموع القرآن, ومجموع القرآن لا ينسخ اتفاقا، وأجاب في المحصول بأن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله, وأجاب غيرهما بأن النسخ إبطال لا باطل فإن

الباطل ضد الحق. قال: "الثالثة: يجوز نسخ الوجوب قبل العمل خلافا للمعتزلة. لنا أن إبراهيم -عليه السلام- أمر بذبح ولده بدليل قوله تعالى: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فنسخ قبله قيل: تلك بناء على ظنه, قلنا: لا يخطئ ظنه، قلنا: إنه امتثل وإنه قطع فوصل, قلنا: لو كان كذلك لم يحتج إلى الفداء قيل: الواحد بالواحد لا يؤمر وينهى, قلنا: يجوز للابتلاء". أقول: نسخ الوجوب قبل العمل جائز عندنا كما إذا قال الشارع: صل بعد الغروب ركعتين ثم قال صحوة لا تصل. وخالف فيه المعتزلة وبعض الفقهاء، وتعبير المصنف بقوله: قبل العمل يقتضي أنه لا فرق في الخلاف بين الوقت وما قبله وما بعده، فأما قبل الوقت أو بعد دخوله، ولكن قبل مضي زمن يسعه فمسلم، وفي معناه أيضا ما إذا لم يكن له وقت معين ولكن أمر به على الفور ثم نسخ قبل التمكين، نعم في جريان الخلاف بعد الشروع نظر يحتاج إلى نقل، وأما الصورة الثانية وهي ما بعد خروج الوقت فليس يحل الخلاف بل جزم ابن الحاجب بأنه لا يجوز، واقتضى كلامه الاتفاق عليه، وصرح في الأحكام في أول المسألة بالجواز، وأنه لا خلاف فيه، وهذا إنما يأتي إذا صرح بوجوب القضاء أوقلنا: الأمر بالأداء يستلزمه، وأما الصورة الثالثة وهي ما إذا وقع النسخ في الوقت لكن بعد التمكن من فعله فمقتضى كلام المصنف جريان الخلاف أيضا, وهو مقتضى كلام ابن الحاجب في أثناء الاستدلال وليس كذلك؛ فقد صرح الآمدي في الأحكام في أثناء الاستدلال بأن هذا جائز بلا خلاف وإنما الخلاف قبل التمكن. وصرح به أيضا ابن برهان في الوجيز وإمام الحرمين في البرهان فقال: والغرض من المسألة أنه إذا فرض ورود الأمر بشيء, فهل يجوز أن ينسخ قبل أن يمضي وقت اتصال الأمر به زمن يسع الفعل المأمور به؟ وعبارة المحصول والحاصل هل يجوز نسخ الشيء قبل مجئ الوقت؟ وعبارة التحصيل والأحكام وابن الحاجب قبل الوقت، ثم إن المسألة ليست خاصة بالوجوب بل غيره كذلك أيضا. لا جرم عبر في المحصول بالشيء كما تقدم نقله عنه. قوله: "لنا" أي الدليل على الجواز أن إبراهيم عليه السلام أمره الله تعالى أن يذبح ولده ثم نسخ ذلك قبل الفعل وهذا الولد قال في المحصول: إنه إسماعيل وقال جماعة: إنه إسحاق، وصححه القرافي فأما كونه أمر بالذبح فلثلاثة أوجه أحدها: قوله تعالى حكاية عن ولده: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] الآية جوابا لقوله: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] . الثاني: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] . الثالث: قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فلو لم يكن الذبح مأمورا به لما كان فيه بلاء ولم يحتج إلى الفداء، وأما كونه نسخ قبله فلأنه لو لم ينسخ لذبح، لكنه لم يذبح، ولم يستدل عليه المصنف لوضوحه. اعترض الخصم بأمرين أحدهما وهو اعتراض على المقدمة

الأولى: أنا لا نسلم أنه كان مأمورا بالذبح، وإنما كان مأمورًا بالمقدمات، فظن أنه مأمور بالذبح، وتلك الأمور تمسكتم بها من قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ} وحصول الفداء إنما هو بناء على ظنه أنه مأمور، وأجاب المصنف تبعا للحاصل بأن ظنون الأنبياء مطابقة يستحيل فيها الخطأ لا سيما في ارتكاب هذا الأمر العظيم. الثاني وهو اعتراض على المقدمة الثانية: لا نسلم أن الوجوب نسخ قبل الفعل, فإن إبراهيم قد امتثل، ولكنه كان كلما قطع شيئا وصله الله تعالى، والجواب أنه لو كان كما ذكرتم لم يحتج إلى الفداء, فإن الفداء بدل والبدل إنما يحتاج إليه إذا لم يوجد المبدول. وقوله: "قيل الواحد" أي عارضنا الخصم فاستدل بأنه لو جاز أن يرد الأمر بشيء في وقت، ثم يرد النهي عن فعله في ذلك الوقت لكان الشخص الواحد بالفعل الواحد في الوقت مأمورا به منهيا عنه وهو محال. وأجاب المصنف بانه إنما يكون محالا إذا كان الغرض حصول الفعل، وأما إذا كان المقصود هو ابتلاء المأمور أي: اختباره وامتحانه فيجوز, فإن السيد قد يقول لعبده: اذهب غدا إلى موضع كذا راجلا, وهو لا يريد الفعل بل يريد امتحانه ورياضته، ثم يقول له: لا تذهب، وأجاب ابن الحاجب أيضا بأن الأمر والنهي لم يجتمعا في وقت واحد, بل بورود النهي انقطع تعلق الأمر كانقطاعه بالموت. قال: "الرابعة: يجوز النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل منه كنسخ وجوب تقديم الصدقة على النجوى، والكف عن الكفار بالقتال, استدل بقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] قلنا: ربما يكون عدم الحكم الأثقل خيرا. الخامسة: ينسخ الحكم دون التلاوة مثل قوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] الآية وبالعكس مثل ما نقل: "الشيخ الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وينسخان معا كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما أنزل الله عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس" 1. السادسة: يجوز نسخ الخبر المستقبل خلافا لأبي هاشم. لنا أنه يحتمل أن يقال: لأعاقبن الزاني أبدا, ثم يقال: أردت سنة قيل: يوهم الكذب, قلنا: ونسخ الأمر يوهم البداء". أقول: ذهب الشافعي إلى أن النسخ لا بد له من بدل فقال في الرسالة ما نصه: وليس بنسخ فرض أبدًا، إلا إذا أثبت مكانه فرض, هذا لفظه بحروفه. وذهب أيضا على ما حكاه عنه ابن برهان في الوجيز والأوسط إلى أنه لا يجوز النسخ إلى بدل هو أثقل إلى المنسوخ، وذهب الجمهور ومنهم الإمام والآمدي وأتباعهما إلى جواز الأمرين, أما الأول فلأن تقديم الصدقة على نجوى الرسول كان واجبا ثم نسخ بلا بدل. وأما الثاني فلأن الكف عن الكفار كان واجبا أي: كان قتالهم حراما لقوله تعالى: {دَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] ونحوه ثم نسخ بإيجاب القتل مع التشديد فيه كثبات الواحد للعشرة وذلك أثقل من الكف. واستدل الخصم على منعهما بقوله

_ 1 أخرجه النسائي في سننه "6/ 100".

تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ودلت الآية على أنه لا بد من الإتيان بحكم هو خير من المنسوخ أو مثله، فدل على المدعي؛ أما الأول فواضح وأما الثاني فلأن الأثقل والأشق لا يكون خيرا للمكلف، وجوابه أن عدم الحكم قد يكون خيرا للمكلف من إثباته للمكلف في ذلك الوقت لمصلحة، وقد يكون الأثقل أيضا خيرا له باعتبار زيادة الثواب وأجاب في المحصول أيضا بأن نسخ الآية معناه نسخ لفظها؛ ولهذا قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} . وقال ابن الحاجب: ولئن سلمنا فمدلول الآية لم يقع, فأين نفي الجواز؟ المسألة الخامسة: يجوز نسخ الحكم دون التلاوة كنسخ الاعتداد بالحول من قوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} وبالعكس كما روى الشافعي والترمذي وغيرهما عن عمر أنه قال: ومما أنزل الله تعالى في كتابه: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وذكر البخاري ومسلم قريبا منه أيضا، والمراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة، ويجوز نسخهما معا لما روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس، ولا يتم بما نقله المصنف عن عائشة وهو مطلق الإنزال، بل لا بد أن ينضم إليه كونه من القرآن كما قررناه لأن السنة أيضا منزلة. المسألة السادسة: لا نزاع في نسخ تلاوة الخبر ونسخ تكليفنا بالإخبار به. قال الآمدي: إلا إذا كان نسخه يوجب الإخبار بنقيضه وهو مما لا يحتمل التغير, كحدوث العالم "فإن المعتزلة تمنعه؛ لأن التكليف بالكذب قبيح، وعقلا عندنا أنه يجوز". وأما نسخ مدلول الخبر أي: إخراج بعض الأزمنة الداخلة فيه لا رفعه بالكلية كما نبه عليه في المحصول, فهو مسألة الكتاب، وحاصلها أنه إن كان مما لا يتغير فلا يجوز اتفاقا كما قاله الإمام والآمدي ولم يستثنه المصنف، وأما الذي يتغير فقال الإمام والآمدي: يجوز نسخه مطلقا، قالا: سواء كان ماضيا أو مستقبلا، أو وعدا أو وعيدا، وقال ابن الحاجب: لا يجوز مطلقا ونقله في المحصول عن أكثر المتقدمين، وفي الكتاب والحاصل عن أبي هاشم فقط، وقال المصنف: إن كان مدلوله مستقبلا جاز وإلا فلا، وهذا المذهب نقله الآمدي ولم ينقله الإمام ولا ابن الحاجب. ثم محل الخلاف كما قال ابن برهان في الوجيز إذا لم يكن الخبر معناه الأمر, فإن كان كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] جاز بلا خلاف وتبعه عليه ابن الحاجب, وصرح في المحصول وغيره بأن الخلاف يجري فيه وإن تضمن حكما شرعيا، ثم استدل المصنف على مذهبه بأنه يصح عقلا أن يقال: لأعاقبن الزاني أبدا، ثم يقال: أردت سنة واحدة، ولا معنى للنسخ إلا ذلك، فإن النسخ إخراج بعض الزمان وهو موجود هنا، واستدل المانع بأن نسخه يوهم الكذب؛ لأن المتبادر منه إلى فهم السامع إنما هو استيعاب المدة المخبر بها وإيهام القبيح قبيح، وجوابه أن نسخ الأمر أيضا يوهم البداء، وهو ظهور الشيء بعد خفائه، فلو امتنع نسخ ذلك الإيهام لامتنع ذلك أيضا.

الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ

الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ قال: " الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ, وفيه مسائل, الأولى: الأكثر على جواز نسخ الكتاب بالسنة كنسخ الجلد في حق المحصن وبالعكس كنسخ القبلة, وللشافعي -رضي الله عنه- قول بخلافهما، دليله في الأول قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} ورد بأن السنة وحي أيضا. وفيهما قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44] وأجيب في الأول بأن النسخ بيان, وعُورض في الثاني بقوله: {تِبْيَانًا} ". أقول: المراد بالناسخ والمنسوخ بيان ما ينسخ وما ينسخ به من الأدلة, واعلم أنه يجوز نسخ الكتاب بالكتاب والسنة المتواترة بمثلها والآحاد بمثلها، وأما نسخ الكتاب بالسنة ونسخ السنة بالكتاب فالأكثرون على الجواز، ونص الشافعي في الرسالة على امتناعهما وهو مقتضى ما في المحصول في النقل عنه، فإنه نقل عدم الجواز في نسخ السنة بالقرآن, فيؤخذ منه العكس بطريق الأولى ونقل عنه إمام الحرمين والآمدي وابن الحاجب قولين في نسخ السنة بالكتاب، والجزمبامتناع العكس، وكلام المصنف مشعر بأن له في المسألتين قولين وهو غير معروف، فإن جوزنا فيشترط في السنة إذا كانت ناسخة أن تكون متواترة، وقد أوضحه المصنف في المسألة الآتية. فلذلك أهمله هنا ثم استدل المصنف على كون السنة المتواترة ناسخة للكتاب، بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجم المحصن مع أن آية الرجم شاملة له, وفيه نظر من وجوه أحدها: لا نسلم أنه متواتر. وثانيها: أن هذا تخصيص لا نسخ، وقد ذكره المصنف بعينه مثالا لتخصيص الكتاب بالسنة. وثالثها: أن الرجم بالقرآن المنسوخ التلاوة، وهو الشيخ والشيخة المتقدم ذكره، واستدل أيضا على كون الكتاب ناسخا للسنة بأن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة، إذ ليس في القرآن ما يدل عليه، ثم إنه نسخ بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ولك أن تقول: القاعدة أن بيان المجمل يعد أنه مراد منه وإلا لم يكن بيانا لمدلوله، فيكون توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس مرادا من قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} لكونه بيانا له, فيكون ثابتا بالكتاب. قوله: "دليله في الأول" أي: استدل الشافعي على امتناع نسخ الكتاب بالسنة من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فإنه يدل على أن الآتي بالخير أو المثل هو الله تعالى لرجوع الضمير إليه، وذلك لا يكون إلا إذا كان الناسخ هو القرآن ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] فأشعر بأنه الآتي بالخير أو المثل أو المختص بكمال القدرة فلا يكون النسخ بالسنة، فإن الآتي بها هو الرسول، وأيضا فإنه يقتضي أن البدل يكون خيرا من الآية المنسوخة أو مثلا لها والسنة ليست كذلك، وجوابه أن السنة حاصلة بالوحي أيضا لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] الآية, فالآتي بها هو الله تعالى، وأما الخير أو المثل فالمراد بهما هو الأصلح في التكليف, والأنفع في الثواب. قوله: "وفيهما" أي ودليل الشافعي في كل من المسألتين وهما نسخ الكتاب بالسنة وعكسه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّن

لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فأما نسخ الكتاب بالسنة فلأن الآية دالة على أن السنة تبين جميع القرآن؛ لأن {مَا} من قوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} عامة, فلو كانت السنة ناسخة له تكن مبينة بل رافعة، وأما العكس فلأنه قد تقرر أن السنة مبينة للكتاب فلو جاز نسخها بالكتاب لكان مبينا لها؛ لأن النسخ بيان انتهاء الحكم وذلك دور فتلخص أن الآية دالة على الحكمين. ثم أجاب المصنف عن الأول بأنا لا نسلم أن النسخ منافٍ للبيان بل هو عينه, فإنه بيان انتهاء الحكم. وأجاب عن الثاني بقوله تعالى في صفة القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فإنه يقتضي أن يكون الكتاب بيانا للسنة كما أن قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} يقتضي أن تكون السنة مبينة للكتاب, فلما تعارضا سقط الاستدلال بهما، والأولى في الجواب أن يقال: الاستدلال بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} على الحكمين امتناع نسخ الكتاب بالسنة، وإن كان منافيا فلا يتجه الاستدلال على العكس. قال: "الثانية: لا ينسخ المتواتر بالآحاد؛ لأن القاطع لا يدفع بالظن قيل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] منسوخ بما روي أنه -عليه الصلاة والسلام "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع"1 قلنا: لا أجد للحال فلا نسخ". أقول: نسخ المتواتر بالآحاد جائز قطعا، واختلفوا في وقوعه على مذهبين، كذا صرح به الآمدي في الأحكام ومنتهى السول، وعبر بقوله: اتفقوا، وفي المحصول ومختصراته نحوه أيضا, فإنهم جزموا بالجواز وترددوا في الوقوع، وعبارة المصنف وابن الحاجب توهم أن الخلاف في الجواز. واستدل على المنع بأن المتواتر مقطوع به وخبر الواحد مظنون والقطعي لا يدفع بالظن, وهو إنما يستقيم ما فهمناه، ولذلك لم يذكره الإمام ولا مختصرو كلامه. نعم صرح ابن برهان في الوجيز بما أفهمه كلامهما فقال: وقال قوم: هو مستحيل من جهة العقل ثم استدل عليه بعين ما استدل به, فإما أن يكونا قد اطلعا على هذا ثم اختاراه وفيه بعد، وإما أن يحمل كلامهما على أنا لا نحكم بالنسخ عند التعارض، بل يعمل بالمتواتر وإن تقدم لقوته. ودليل المصنف ضعيف لوجهين أحدهما ما قاله ابن برهان: أن المقطوع به إنما هو أصل الحكم لا دوامه، والنسخ يرد على الثاني لا على الأول. الثاني: أنه لا يطرد لأن إخراج بعض أفراد العام بعد العمل به نسخ لا تخصيص كما تقرر ودلالة العام على أفراده ظنية، وإن كان مقطوعا به، والخاص بالعكس فتعادلا. واستدل الخصم بأن قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] إلى آخرها يقتضي حصر التحريم في المذكور في الآية, وقد نسخ ذلك بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وإذا ثبت نسخ الكتاب بالآحاد فنسخ السنة المتواترة به أولى، وأجاب المصنف

_ 1 أخرجه ابن حبان في صحيحه "2/ 5280"، ومسلم في صحيحه "1934", وأحمد في مسنده "3021".

بأن الآية ليست منسوخة؛ وذلك لأنها دلت على أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان مأمورا بأن يقول لهم: لا أجد في الوحي الحاصل غير المحرمات المذكورة؛ ولهذا قال: {أُوحِيَ} بلفظ الماضي فيبقى ما عدا الأشياء المذكورة في الآية على الإباحة الأصلية، وحينئذ فيكون النهي عن أكل ذي الناب والمخلب رافعا لها، وهو ليس بنسخ، وبتقدير أن تكون الآية متناولة للاستقبال أيضا فالحديث مخصص لا ناسخ. قال: "الثالثة: الإجماع لا ينسخ؛ لأن النص يتقدمه ولا ينعقد الإجماع بخلافه ولا القياس بخلاف الإجماع, ولا ينسخ به, أما النص والإجماع فظاهران, وأما القياس فلزواله بزوال شرطه والقياس إنما ينسخ بقياس أجلى منه". أقول: اختلفوا في نسخ الإجماع، والنسخ به على مذهبين حكاهما الآمدي وغيره, والمختار عنده وعند الإمام وأتباعهما كابن الحاجب والمصنف المنع، فأما كونه لا ينسخ فلأن النسخ إنما يكون بنص من الكتاب والسنة أو بإجماع أو قياس والكل باطل، أما الأول وهو النص فلأنه متقدم على الإجماع إذ جميع النصوص متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع لا ينعقد في زمنه -عليه الصلاة والسلام- لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد وإن وافقهم كان قوله هو الحجة لاستقلاله بإفادة الحكم, فثبت أن النص متقدم على الإجماع، وحينئذ فيستحيل أن يكون ناسخا له، وأما الثاني وهو الإجماع فلاستحالة انعقاده على خلاف إجماع آخر، إذ لو انعقد لكان أحد الإجماعين خطأ؛ لأن الأول إن لم يكن عن دليل فهو خطأ, وإن كان عن دليل كان الثاني خطأ لوقوعه على خلاف الدليل، وإلى هذا أشار بقوله: ولا ينعقد الإجماع, وهو بالواو لا بالفاء فاتهمه. وأما الثالث وهو القياس فلأنه لا ينعقد على خلاف الإجماع كما ستعرفه في بابه إن شاء الله تعالى. قوله: "ولا ينسخ به" يعني: أن الإجماع أيضا لا يكون ناسخا لغيره؛ لأن المنسوخ به إما النص أو الإجماع أو القياس والكل باطل. أما النص فلاستحالة انعقاد الإجماع على خلافه كما ذكرناه، وأما الإجماع فلما مر أيضا من امتناع انعقاده على خلاف إجماع آخر. ولما كان السبب في امتناعه معلوما مما تقدم عبر بقوله: أما النص والإجماع فظاهران، وأما القياس فلأن شرط صحته أن لا يخالف الإجماع, فإذا انعقد الإجماع على خلافه زال القياس لزوال شرطه, وزوال المشروط لزوال الشرط لا يسمى نسخا، وفي هذا الجواب شيء يقدم في الرد على أبي مسلم. فإن قيل: هذا بعينه يلزمكم في النصوص فإن من شرط اقتضائها الأحكام أن لا يطرأ عليها الناسخ فإذا طرأ زالت لزوال شرطها, وحينئذ فلا نسخ، وجوابه أن النص في نفسه صحيح سواء طرأ الناسخ أم لا بخلاف القياس. قوله: "والقياس وإنما ينسخ بقياس أجلى منه" أي: أوضح وأظهر كما إذا نص الشارع مثلا على تحريم بيع البر بالبر متفاضلا فعديناه إلى السفرجل مثلا لمعنى. ثم نص أيضا على إباحة التفاضل في الموز وكان مشتملا على معنى أقوى من المعنى الأول فيقتضي إلحاق السفرجل به، فإن القياس الثاني يكون ناسخا للقياس الأول، ويعرف الأقوى بوجوه كثيرة

مذكورة في الكتاب في تراجيح الأقيسة وهذا التقرير اعتمده، وإنما حصر المصنف ناسخ القياس في القياس الأجلى؛ لأن غيره إما نص وإما إجماع وإما قياس مساو للأول وإما قياس أخفى منه ويمتنع نسخه بالكل. أما الأول والثاني فزوال القياس بزوال شرطه كا تقدم. وأما الثالث فلامتناع الترجيح من غير مرجح. وأما الرابع فلاستلزامه تقديم المرجوح على الراجح، وقد تحرر من كلام المصنف أن القياس قد يكون ناسخا، وقد يكون منسوخا لكنه لا ينسخ به إلا قياس آخر أخفى منه كما لا ينسخه إلا قياس أجلى. والذي قاله هو الصواب، وقال في المحصول: يجوز نسخه في زمن الرسول بسائر الأدلة من النص والإجماع والقياس الأقوى. قال: وأما بعد وفاته فهو وإن ارتفع في المعنى فليس بنسخ كما قدمناه، وهذا الذي قاله سهو؛ فإنه قد نص قبل ذلك بقليل على أن الإجماع لا ينعقد في زمن الرسول، وعلى أنه يمتنع نسخ القياس به. لا جرم أنه لم يذكر المسألة في المنتخب، وقال صاحب الحاصل: إن هذا الكلام مشكل, وصاحب التحصيل: إن فيه نظرا ولم يبينا وجه الإشكال، وقد تفطن المصنف للمشكل منه فحذفه. وحكى الآمدي في نسخ القياس عن بعضهم المنع مطلقا، وعن بعضهم الجواز مطلقا, لكن في حياته -عليه الصلاة والسلام- ثم اختار تفصيلا فقال: إن كانت العلة منصوصة فهي في معنى النص فيمكن نسخ حكمه بنص أو قياس في معناه، وإن كانت مستنبطة فإن الدليل المعارض لها وإن كان مقدما لكنه ليس بنسخ, وأما النسخ به فحكى فيه أقوالا، ثالثها: الفرق بين الجلي والخفي. ثم قال: والمختار أن العلة إن كانت منصوصة فهي في معنى النص جواز في النسخ بالقياس المشتمل عليها، وإن لم تكن منصوصة فإن كان القياس قطعيا كقياس الأمة على العبد في التقويم فإنه يكون أيضا رافعا لما قبله من الأدلة لكنه لا يكون نسخا، وإن كان ظنيا فلا يكون نسخا أيضا. وذكر ابن الحاجب في المسألتين نحوا مما ذكره. قال: "الرابعة: نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى وبالعكس؛ لأن اللازم يستلزم نفي ملزومه والفحوى يكون ناسخا". أقول: فحوى الخطاب هو مفهوم الموافقة كما تقدم. فإذا نسخ أصل الفحوى كتحريم التأفيف فهل يستلزم ذلك نسخ الفحوى كتحري الضرب وكذلك العكس؟ اختلفوا فيهما على مذاهب حكاها ابن الحاجب, ثالثها وهو المختار عنده: أن نسخ الأصل لا يستلزم نسخ الفحوى بخلاف العكس. وقال الآمدي في الأحكام: المختار أنه إن جعلنا الفحوى من باب القياس فيكون رفع الأصل مستلزما لرفع الفحوى بخلاف العكس, وإن جعلناه من باب النص فقال أعني الآمدي لكن في منتهى السول أن المختار أنه لا يلزم من رفع أحدهما رفع الآخر، وذكر في الأحكام نحوه أيضا وجزم في المحصول بأن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى، وأما عكسه فنقله من أبي الحسين ولم يرده وجزم المصنف بالأشمرين، واستدل على الثاني وهو أن نسخ الفحوى يستلزم نسخ الأصل بأن الفحوى لازم للأصل، ونفي اللازم يستلزم

نفي الملزوم، وأما الأول فلم يستدل عليه، وقد استدل عليه الإمام بأن الفحوى تابع الأصل, ورفع المتبوع مستلزم لرفع التابع، وأجاب الآمدي وابن الحاجب بأن دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه وليست تابعة لحكمه، ودلالة المنطوق باقية بعد النسخ أيضا فما هو أصل ليس بمرتفع, وما هو مرتفع ليس بأصل. قوله: "الفحوى يكون ناسخا" أي: بالاتفاق كما قاله في المحصول قال: لأن دلالته إن كانت لفظية فلا كلام, وإن كانت عقلية فهي يقينية فتقتضي النسخ لا محالة, وفيما قاله نظر لأن الناسخ يجب أن يكون طريقا شرعيا لا عقليا كما تقدم. واعلم أن الراجح عند المصنف أن دلالة الفحوى من باب القياس كما ستعرفه، وقد تقدم قريبا من كلامه أن القياس إنما يكون ناسخا لقياس آخر أخفى منه، فيكون الفحوى كذلك فافهمه. قال: "الخامسة: زيادة صلاة ليست بنسخ قيل: تغير الوسط، قلنا: وكذا زيادة العبادة، أما زيادة ركعة ونحوها فكذلك عند الشافعي ونسخ عند الحنفية. وفرق قوم بين ما نفاه المفهوم وبين ما لم ينفه، والقاضي عبد الجبار بين ما ينفي اعتداد الأصل وما لم ينفه، وقال المصري: إن نفى ما ثبت كان نسخا وإلا فلا, فزيادة ركعة على ركعتين نسخ لاستعقابهما التشهد, وزيادة التغريب على الجلد ليس بنسخ". أقول: زيادة صلاة أي: على الصلوات الخمس ليست بنسخ لشيء وقال بعض أهل العراق: زيادتها تغير الوسط أي: تجعل ما كان وسطا غير وسط فيكون نسخا للأمر بالمحافظة على الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وأجيب عنه بأن كون الشيء وسطا أو آخر أمر حقيقي لا حكم شرعي فلا يكون رفعه نسخا وإلا لزم أن تكون زيادة العبادة المستقلة نسخا أيضا لأنها تجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة, وليس كذلك بالاتفاق كما قاله في المحصول1 وفي الجواب نظر؛ لأنه إنما يلزم ذلك أن لو أمرنا بالمحافظة على الأخيرة فإن قيل: فما الفائدة في كونه يسمى نسخا أم لا؟ قلنا: فائدته إثبات الزيادة بخبر الواحد إذا كان الأصل متواترا أما زيادة شيء لا يستقل كركعة أو سجود أو شرط أو صفة فاختلفوا فيه, فقالت الشافعية: ليس بنسخ واختاره في المعالم وقالت الحنفية: يكون نسخا وقال قوم: ينظر في الزائد, فإن نفاه مفهوم الأول كان نسخا كما لو قال: في الغنم المعلوفة الزكاة بعد أن قال: في الغنم السائمة الزكاة, وإن لم يكن ينفيه فلا يكون نسخا كزيادة التغريب على الجلد وعشرين سوطا على حد القذف, ووصف الرقبة موجب لاستثنائه لو فعل وحده كما كان يفعل أو لا فإنه يكون نسخا كزيادة ركعة أو ركوع أو سجود وإن لم يكن كذلك بل فعله معتد به دون الزائد وإنما يلزم ضمه إليه فلا يكون نسخا كزيادة التغريب على الجلد والعشرين على الحد. كذا نقله الإمام الآمدي عن عبد الجبار حكما وتمثيلا إلا أن الآمدي زاد على هذا أنه يقول:

_ 1 انظر المحصول، ص563، جـ1.

إن التخيير في ثلاث خصال بعد التخيير في خصلتين يكون نسخا أيضا، وهو وارد على المصنف والإمام, ونقل ابن الحاجب عنه أن زيادة الأسواط على حد القذف يكون نسخا وهو سهو وقال أبو الحسين البصري: إن كان الزائد رافعا لحكم ثابت بدليل شرعي كان نسخا، سواء كان ثبوته بالمنطوق أو بالمفهوم وجعلناه حجة كما صرح به الآمدي والإمام في أثناء المسألة، وإن كان رافعا لما ثبت بدليل عقلي أي: البراءة الأصلية فلا. قال في المحصول: وهذا التفصيل أحسن من غيره، وقال الآمدي وابن الحاجب: إنه المختار وما قاله في المفهوم مبني على أن تقرير النفي الأصلي حكم شرعي، وفيه بحث. ثم مثل المصنف لهذا المذهب بمثالين الأول منه، والثاني للقسم الثاني، فقال: إن زيادة ركعة على ركعتين يكون نسخا؛ لأنها رفعت حكما شرعيا وهو وجوب التشهد عقب الركعتين، وزيادة التغريب على الجلد ليس بنسخ لأن عدم التغريب كان ثابتا بمقتضى البراءة الأصلية، ونقل في الأحكام عن صاحب هذا التفصيل وهو أبو الحسين البصري أن المثالين جميعا ليسا بنسخ. أما الثاني فواضح، وأما الأول فلأن التشهد إنما محله آخر الصلاة لا بعد الركعتين بخصوصهما، وكلام المصنف يوهم أن التمثيل من تتمة كلام أبي الحسين وليس كذلك فاجتنبه، وخالف ابن الحاجب فجعلهما معا من باب النسخ, قال: لأن الزيادة فيها كانت حراما ثم زالت، والمذكور في المحصول والأحكام هو ما ذكره المصنف تفصيلا وتعليلا، وأجابا عن التحريم بأنه مستند إلى البراءة الأصلية، ولو خيرنا الله تعالى بين المسح والغسل بعد إيجاب الغسل، أو في خصال ثلاث بعد التخيير في خصلتين. فقال الإمام: لا يكون نسخا، واختلف كلام الآمدي فقال في الأحكام: إن هذا هو الحق، وقال في منتهى السول: الحق أن الأول نسخ دون الثاني, وصرح ابن الحاجب أيضا بأن الأول نسخ ولم يصرح بحكم الثاني.

خاتمة في النسخ

خاتمة في النسخ: قال: "خاتمة: النسخ يعرف بالتاريخ, فلو قال الراوي: هذا سابق قبل بخلاف ما لو قال: هذا منسوخ؛ لجواز أن يقوله عنه اجتهاد ولا نراه". أقول: مقصود المصنف من هذا بيان الطرق التي يعرف بها كون الشيء ناسخا ومنسوخا. ولما كان ذلك متعلقا بجميع أنواع النسخ ذكره آخرا وسماه خاتمة. وحاصله أن النسخ قد يعرف بتنصيص الشارع عليه، ولم يتعرض له المصنف لوضوحه، وقد يعرف بالتاريخ. فإذا علمنا بطريق ما أن أحد الدليلين المتنافيين متأخر عن الآخر كان ناسخا له، فلو قال الراوي: هذه الآية نزلت قبل تلك أو هذا الحديث سابق على ذلك قبلناه، وإن كان قبوله يقتضي نسخ المتواتر بالآحاد، وسببه أن النسخ حصل بطريق التبع, أما لو قال: هذا منسوخ, فإنه لا يقبل لاحتمال أن يقوله عن اجتهاد, ونحن لا نرى ما يراه، وفي المحصول عن الكرخي أن الراوي إذا لم يعين الناسخ وجب الأخذ بقوله؛ لأنه لولا ظهور النسخ فيه لم يطلقه. "فروع" حكاها ابن الحاجب, أحدها: إذا قال: افعلوا هذا أبدا جاز نسخه عند الجمهور. الثاني: نقصان جزء العبادة كالركعة أو شرطها كالوضوء, ونسخ لذلك الجزء أو الشرط اتفاقا، وليس بنسخ للعبادة لأن وجوبها باقٍ بالإجماع، وقيل: نسخ لها؛ لأنه ثبت تحريمها بغير طهارة وبغير ركعة, ثم ثبت جوازها أو وجوبها بغيرهما، وقيل: إن كان جزءا نسخها, وإن كان شرطا فلا. الثالث: إذا نسخ حكم المقيس عليه كان ذلك نسخا لحكم المقيس على المختار. الرابع: اتفقوا على أن الناسخ لا يثبت حكمه قبل أن يبلغه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في ثبوت حكمه بعد وصوله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبل تبليغه إلينا، والمختار أنه لا يثبت. الخامس: المختار جواز نسخ وجوب معرفة الله تعالى وتحريم الكفر وغيره خلافا للمعتزلة, والمختار أيضا جواز نسخ جميع التكاليف خلافا للغزالي قال: لأن المنسوخ لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ ومعرفة الناسخ، وهو الله تعالى. وجوابه أن نقول على تقدير تسليم اللزوم, فيجوز أن نعلمهما، وينقطع التكليف بعد معرفتهما بهما وبغيرهما، والفرعان الأولان مذكوران في المحصول أيضا.

الكتاب الثاني: في السنة

الكتاب الثاني: في السنة الباب الأول: الكلام في أفعاله قال: "الكتاب الثاني: في السنة, وهو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو فعله وقد سبق مباحث القول, والكلام الآن في الأفعال وطرق ثبوتها وذلك في بابين, الباب الأول: في الكلام في أفعاله, وفيه مسائل الأولى: أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون لا يصدر عنهم ذنب إلا الصغائر, والتقرير مذكور في كتابي المصباح". أقول: السنة لغة هي العادة والطريقة قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] أي: طرق, وفي الاصطلاح تطلق على ما يقابل الفرض من العبادات وعلى ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال أو الأقوال التي ليست للإعجاز وهذا هو المراد هنا. ولما كان التقرير عبارة عن الكف عن الإنكار, والكف فعل كما تقدم, استغنى المصنف عنه به أي: عن التقرير بالفعل, وإنما أتى بـ"أو" الدالة على التقسيم للإعلام بأن كلا من القول والفعل يطلق عليه اسم السنة، وقد سبق مباحث القول بأنواعها من الأمر, والنهي، والعام, والخاص, وغيرها. والكلام الآن في الأفعال وفي الطرق التي ثبتت الأفعال بها وهي الأخبار, وجعل المصنف ذلك فيما بين الأول في الأفعال والثاني في الأخبار، وقدم الكلام في الأخبار على الكلام في الإجماع وإن كان مخالفا لأصلية الحاصل والمحصول؛ لئلا يتخلل بين أفعاله عليه الصلاة والسلام وبين طرق ثبوتها مباحث أجنبية، وذكر في الباب الأول خمس مسائل, الأولى: في عصمة الأنبياء -عليهم السلام- وهي مقدمة لما بعدها؛ لأن الاستدلال بأفعالهم متوقف على عصمتهم, فنقول: اختلفوا في عصمتهم قبل النبوة فقال الآمدي: الحق وهو ما ذهب إليه القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا أنه لا يمتنع عليهم ذنب سواء كان كفرا أو غيره، وأما بعد النبوة فقد أجمعوا كما قال الآمدي على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام. قال: فإن كان غلطا فالأشبه الجواز، وأجمعوا أيضا إلا بعض المبتدعة على عصمتهم من تعمد الكبائر, وتعمد الصغائر الدالة على الخسة كسرقة كسرة, وما عدا ذلك فقد اختلفوا فيه

على أقوال أحدها: أنهم معصومون من الكبائر عمدا وسهوا، ومن الصغائر عمدا لا سهوا وبه جزم المصنف واختاره صاحب الحاصل. والثاني: أنهم معصومون عن تعمد الذنب مطلقا دون سهوه, سواء كان صغيرة أو كبيرة لكن بشرط أن يتذكروه وينبهوا غيرهم عليه، وهو مقتضى كلام المحصول والمنتخب. والثالث وهو طريقة الآمدي: أنهم معصومون عن تعمد الكبائر فقط. قال: فأما صدور الكبيرة لنسيان أو تأويل خطأ, فقد اتفق الكل على عدم جوازه سوى الرافضة، وأما الصغيرة فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمدا أو سهوا. هذا كلامه في الأحكام ومنتهى السول، وهو معنى كلام ابن الحاجب أيضا، قالا: والعصمة ثابتة بالسمع عند الأكثرين خلافا للمعتزلة حيث قالوا: إنها ثابتة بالعقل أيضا. وهذه المسألة من علم الكلام؛ فلذلك أحال المصنف تقريرها على كتابه المسمى بالمصباح. قال: "الثانية: فعله المجرد يدل على الإباحة عند مالك، والندب عند الشافعي, والوجوب عند ابن سريج وأبي سعيد الإصطخري وابن خيران, وتوقف الصيرفي وهو المختار؛ لاحتمالها واحتمال أن يكون من خصائصه". أقول: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إن كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوها فلا نزاع في كونها على الإباحة أي: بالنسبة إليه وإلى أمته كما قاله الآمدي وتركه المصنف لوضوحه، وما سوى ذلك إن ثبت كونه من خصائصه فواضح أيضا، وإن لم يثبت ذلك وكان بيانا لمجمل فحكمه في الإيجاب، وغيره حكم الذي بينه, كما سيأتي في كلام المصنف؛ ولذلك أهمله هنا, وإن لم يكن بيانا وعلمنا صفته بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوجوب والندب والإباحة إما ببيانه, أو بقرينة الامتثال, أو غير ذلك, فحكم أمته كحكمه كما نقله الإمام عن جمهور الفقهاء والمعتزلة، ونقله الآمدي عن جمهور الفقهاء والمتكلمين, واختاره ويعبر عن هذا المذهب بأن التأسي واجب أي: يجب علينا فعله إن كان واجبا, فاعتقاد ندبيته أو إباحته إن كان مندوبا أو مباحا، وقيل: لا يكون حكمنا كحكمه مطلقا، وقيل: إن عبادة وجب التأسي به وإلا فلا, وإن لم تعلم صفته نظر فيه إن قصد القربة فإنه يدل على الندب عند الإمام وأتباعه، ومنهم المصنف. وقد صرحوا به في المسألة الثالثة وعبر عنه المصنف هناك بقوله: والندب بقصد القربة مجردا، وقيل بأنه للوجوب ونقله القرافي عن مالك وقيل بالتوقف. وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة ففيه أربعة مذاهب, وهذا القسم هو الذي تكلم فيه المصنف واحترز عن جميع ما تقدم بقوله: فعله المجرد. فقال مالك: يدل على إباحة ذلك الشيء وجزم به الإمام في الكلام على جهة الفعل, وستقف عليه بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وقال الشافعي: يدل على الندب، وقال ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري1 وابن

_ 1 أبو سعيد الإصطخري: الحسن بن أحمد بن يزيد, فقيه شافعي, كان من نظراء ابن سريج، ولي القضاء, واستقضاه المقتدر على سجستان، له الفرائض, والشروط, والوثائق، وأدب القضاء، توفي سنة "338 هـ"، "الأعلام: 2/ 179".

خيران1 الشافعيون: يدل على الوجوب واختاره الإمام في المعالم، وقال أبو بكر الصيرفي: لا يدل على شيء من الأحكام بالتعيين؛ لاحتمال هذه الأمور الثلاثة, واحتمال أن لا يكون من خصائصه فيتوقف إلى ظهور البيان, واختاره في المحصول هنا وتبعه عليه المصنف، وهذه المذاهب الأربعة حكاها الآمدي أيضا في الفعل الذي ظهر فيه قصد القربة. ثم قال: والمختار أنه إن ظهر فيه قصد القربة فهو دليل في حقه وحق أمته على القدر المشترك بين الواجب والمندوب, وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير، وأما ما اختص به كل واحد منهما فمشكوك فيه، وإن يظهر فيه قصد القربة فهو دليل على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير، والذي يمتاز به كل واحد منهما مشكوك فيه أيضا، هذا حاصل كلامه. وقال ابن الحاجب: المختار أنه إن ظهر قصد القربة فهو الندب، وإلا فللإباحة. واعلم أن إثبات قول بإباحته مع ظهور قصد القربة فيه إشكال ظاهر. قال: "احتج القائل بالإباحة بأن فعله لا يكره ولا يحرم, والأصل عدم الوجوب والندب فبقي الإباحة. ورد بأن الغالب على فعله الوجوب أو الندب, وبالندب بأن قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] يدل على الرجحان, والأصل عدم الوجوب, وبالوجوب بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] . وإجماع الصحابة على وجوب الفعل بالتقاء الختانين لقول عائشة: "فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا"2 وأجيب بأن المتابعة هي الإتيان بمثل ما فعلوه على وجهه, {وَمَا آتَاكُمُ} معناه: أمركم بدليل {وَمَا نَهَاكُمْ} , واستدلال الصحابة بقوله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" ". أقول: استدل القائلون بأن فعله المجرد يدل على الإباحة، بأن فعله لا يكون حراما ولا مكروها لأن الأصل عدمه, ولأن الظاهر خلافه، فإن وقوع ذلك من آحاد عدول المسلمين نادر فكيف من أشراف المسلمين؟ وحينئذ فإما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا والأصل عدم الوجوب والندب؛ لأن رفع الحرج عن الفعل والترك ثابت وزيادة الوجوب والندب لا تثبت إلا بدليل ولم يتحقق فتبقى الإباحة. وأجيب بأن الغالب على فعله الوجوب أو الندب, فيكون الحمل على الإباحة حملا على المرجوح وهو ممتنع, ولك أن تقول: يلزم من عدم الحمل على الإباحة لمرجوحيتها عدم إدخالها في التوقف بالضرورة، والمصنف قد خالف بينهما. لا جرم أن الإمام لم يحجب بهذا, وإنما أجاب به في الحاصل فتبعه

_ 1 ابن خيران: الحسين بن صالح بن خيران، الفقيه الشافعي، كان من جملة الفقهاء المتورعين وأفاضل الشيوخ، عرض عليه القضاء في خلافة المقتدر فلم يقبل، وكانت وفاته عام "320هـ" وقيل: في حدود "310هـ، "وفيات الأعيان: 2/ 114". 2 أخرجه ابن حبان في صحيحه "3/ 1181"، والإمام أحمد في مسنده "6/ 68", والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير "1/ 134".

المصنف عليه. قوله: "وبالندب" أي: واحتج القائل بالندب بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 41] فإن وصف الأسوة بالحسنة يدل على الرجحان، والوجوب منتفٍ لكونه خلاف الأصل, ولقوله: {لَكُمْ} لم يقل عليكم فتعين الندب ولم يجب المصنف هنا عن هذا بل جمع بينه وبين دليل الإيجاب، وأجاب عنهما بجواب واحد, وهو أن الأسوة والمتابعة شرطهما العلم بصفة الفعل كما سيأتي. قوله: "وبالجوب" أي: واحتج القائل بالوجوب بالنص والإجماع. أما النص فلأمور منها قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} والأمر للوجوب. ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] فإنه يدل على أن محبة الله تعالى مستلزمة للمتابعة، ومحبة الله تعالى واجبة إجماعا، ولازم الواجب واجب، فتكون المتابعة واجبة. ومنها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ووجه الدلالة على أن الأخذ هنا معناه الامتثال، ولا شك أن الفعل الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آتانا إياه فيكون امتثاله واجبا للآية، وأما الإجماع فلأن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل من الجماع بغير إنزال, فسأل عمر عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا" فأجمعوا على الوجوب, وأجيب عن الدليلين الأولين بوجهين أحدها: أن المتابعة المأمور بها مطلقة لا عموم لها. الثاني وعليه اقتصر المصنف: أن المتابعة هي الإتيان بمثل فعله على الوجه الذي أتى به من الوجوب، أو غيره حتى لو فعله الرسول على قصد الندب مثلا ففعلناه على قصد الإباحة أو الوجوب، لم تحصل المتابعة؛ وحينئذ فيلزم أن يكون الأمر بالمتابعة موقوفا على معرفة الجهة، فإذا لم تعلم لم نكن مأمورين بها. وفي المحصول والأحكام وغيرهما أن التأسي والمتابعة معناهما واحد؛ فلذلك جعل المصنف جواب المتابعة جوابا عن التأسي الذي استدل به القائل بالندب كما تقدم. وذكر الآمدي للمتابعة والتأسي شرطا ثالثا فقال: هو الإتيان بمثل ما فعل الغير على الوجه الذي أتى به لكونه أتى به، إذ لا يقال في أقوام صلوا الظهر مثلا: إن أحدهم تأسى بالآخر، وهذا الشرط ذكره أيضا الإمام في الكلام على حجية الإجماع. والجواب عن الآية الثالثة أن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ} معناه وما أمركم، ويدل عليه أنه ذكر في مقابلته قوله: {وَمَا نَهَاكُم} ، وأما الإجماع على وجوب الغسل فأجاب عنه صاحب الحاصل بأن الصحابة لم يرجعوا إلى مجرد الفعل. قال: بل لأنه فعل في باب المناسك، وقد كانوا مأمورين بأخذ المناسك عنه لقوله: "خذوا عني مناسككم" هذا لفظه فتبعه عليه المصنف وهو جواب صحيح، فإنه وإن كان سبب وروده إنما هو الحج لكن اللفظ عام. قال الجوهري: والنسك العبادة، والناسك العابد. قال: "الثالثة: جهة فعله تعلم إما بتنصيصه أو بتسويته بما علم جهته أو بما علم أنه امتثال آية دلت على أحدها أو بيانها، وخصوصا الوجوب بأماراته كالصلاة بأذان وإقامة، وكونه موافقة نذر، أو ممنوعا لو لم يجب

كالركوعين في الخسوف, والندب بقصد القربة مجردا, وكونه قضاء لمندوب". أقول: لما تقدم أن المتابعة مأمور بها وأن شرط المتابعة العلم بجهة الفعل وأن فعله المجرد لا يدل على حكم معين, شرع المصنف في بيان الطرق التي تعلم بها الجهة. وقد تقدم أن فعله منحصر في الوجوب والندب والإباحة، وحينئذ فالطريق قد تعم الثلاثة، وقد تخص بعضها فالعام أربعة أشياء، أحدها: التنصيص بأن يقول: هذا الفعل واجب أو مندوب أو مباح. الثاني: التسوية ومعناه أن يفعل فعلا ثم يقول: هذا الفعل مثل الفعل الفلاني, وذلك الفعل علمت جهته, ولم يصرح الإمام ولا مختصرو كلامه بالتسوية. نعم ذكروا أنه يعلم أيضا بالتخيير بينه وبين فعل ثبتت جهته, قالوا: لأن التخيير لا يكون إلا بين حكمين مختلفين أي بين واجب ومندوب، أو مندوب ومباح. ولما كان التخيير بين الفعلين على هذا التقرير تسوية بينهما عبر المصنف بالتسوية؛ لأنها أعم وهو من محاسن كلامه. الثالث: أن يعلم بطريق من الطرق أن ذلك الفعل امتثال لآية دلت على أحد الأحكام الثلاثة بالتعيين, وإليه أشار بقوله: أو بما علم أنه امتثال آية، وهو معطوف على قوله: بتنصيصه وما فيه مصدرية تقديره: أو يعلمنا أنه. الرابع: أن يعلم أن ذلك الفعل بيان لآية مجملة دلت على أحد الأحكام حتى إذا دلت الآية على إباحة شيء مثلا، وذلك الشيء مجمل، وبينه بفعله فإن ذلك الفعل يكون مباحا؛ لأن البيان كالمبين, وإليه أشار بقوله: أو بيانها, وهو مرفوع عطفا على قوله: امتثال، وهكذا ذكره الإمام هنا، فتابعوه عليه. وفيه نظر لأن البيان واجب عليه، فيكون الفعل المبين يقع واجبا، غير أن فعله لا يجب علينا, وقد صرح الإمام بذلك في باب المجمل والمبين. قوله: "وخصوصا" أي: ويعلم خصوصا الوجوب بثلاثة أشياء, أحدها: بالأمارات الدالة على كون الشيء واجبا كالأذان والإقامة في الصلاة. الثاني: أن يكون موافقا لفعل نذكره كما إذا قال: إن هزم العدو, فلله علي صوم الغد فصام الغد بعد الهزيمة. الثالث: أن يكون الفعل ممنوعا لو لم يكن واجبا كالركوع الثاني في الخسوف، وبهذا الطريق يستدل على وجوب الختان لكنه ينتقض بسجود السهو وسجود التلاوة في الصلاة وغيرها، وبرفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد وفي المحصول ومختصراته أنه يعلم أيضا بكونه قضاء الواجب والعجب من ترك المصنف له مع ذكره إياه في المندوب. قوله: "والندب" أي: ويعلم خصوصا الندب بأمرين أحدهما: أن يعلم أنه قصد القربة وتجرد ذلك عن أمارة تدل على خصوص الوجوب أو الندب, فإنه يدل على أنه مندوب لأن الأصل عدم الوجوب. الثاني: كون الفعل قضاء لمندوب فإنه يكون مندوبا أيضا، وفي المحصول ومختصراته أنه يعلم أيضا بأن يداوم على الفعل ثم يتركه من غير نسخ، وأنه يعلم المباح بخصوصه بأن يفعل فعلا ليس عليه أمارة على شيء لأنه لا يفعل محرما ولا مكروها، والأصل عدم الوجوب والندب. وهذا مخالف لما ذكره قبيل ذلك من ترجيح الوقف فلذلك حذفه

المصنف. قال: "الرابعة: الفعلان لا يتعارضان, فإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متقدما نسخه. وإن عارض متأخرا عاما فبالعكس، وإن اختص به نسخه في حقه, وإن اختص بنا خصنا في حقنا قبل الفعل, ونسخ عنا بعده, وإن جهل التاريخ فالأخذ بالقول في حقنا؛ لاستبداده". أقول: التعارض بين الأمر هو تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه, ولا يتصور التعارض بين الفعلين بحيث يكون أحدهما ناسخا للآخر أو مخصصا له؛ لأنه إذا لم تتناقض أحكامهما فلا تعارض وإن تناقضت فكذلك أيضا؛ لأنه يجوز أن يكون الفعل في وقت واجبا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه من أن يكون مبطلا لحكم الأول؛ لأنه لا عموم للأفعال بخلاف الأقوال، نعم إذا كان مع الفعل الأول قول مقتضٍ لوجوب تكراره, فإن الفعل الثاني قد يكون ناسخا أو مخصصا لذلك القول كما سيأتي, لا للفعل فلا يتصور التعارض بين الفعلين أصلا، بل إما أن تقع بين القولين، وقد ذكر المصنف حكمه في الكتاب السادس، أو بين القول والفعل وقد ذكره المصنف ههنا, وله ثلاثة أحوال أحدها: أن يكون القول متقدما. والثاني: عكسه، والثالث: أن يجهل الحال. قوله: "فإن عارض فعله الواجب ... إلخ" هذا هو الحال الأول، وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا وقام الدليل على أنه يجب علينا اتباعه فيه فإنه يكون ناسخا للقول المتقدم عليه, المخالف له، سواء كان ذلك القول عاما كما إذا قال: صوم يوم كذا واجب علينا ثم أفطر ذلك اليوم وقام الدليل على اتباعه، كما فرضنا أو كان خاصا به أو خاصا بنا، واحترز بقوله: الواجب اتباعه عما إذا لم يدل دليل على أنه يجب علينا أن نتبعه في ذلك الفعل، فإنه يستثنى منه صورة واحدة لا يكون فيها ناسخا بل مخصصا، وهو ما إذا كان القول المتقدم عاما ولم يصل بمقتضاه؛ لأنه إذا عمل بمقتضاه أو كان خاصا به عليه الصلاة والسلام كان ناسخا, وإن كان خاصا به عليه الصلاة والسلام كان ناسخا, وإن كان خاصا بنا فلا تعارض أصلا، ولم يذكر المصنف حكم الفعل الذي لم يقم الدليل على وجوب اتباعه فيه في شيء من الأقسام؛ لعدم الفائدة بالنسبة إلينا. قوله: "وإن عارض متأخرا" هذا هو الحال الثاني وهو أن يكون القول متأخرا عن الفعل المذكور، وهو الذي دل الدليل على أنه يجب علينا اتباعه فيه فنقول: إن لم يدل الدليل على وجوب تكرار الفعل فلا تعارض أصلا بينه وبين القول المتأخر أصلا، وتركه المصنف لظهوره, وإن دل الدليل على وجوب تكراره عليه وعلى أمته, فالقول المتأخر قد يكون عاما أي: متناولا له صلى الله عليه وسلم ولأمته, وقد يكون خاصا به, وقد يكون خاصا بنا, فإن كان عاما فإنه يكون ناسخا للفعل المتقدم، كما إذا صام عاشوراء مثلا وقال: الدليل على وجوب تكراره وعلى تكليفنا به، وقال: لا يجب علينا صيامه، وإليه أشار بقوله: "وإن عارض متأخرا عاما فالعكس" أي: وإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متأخرا عاما فإنه يكون القول ناسخا للفعل، وإن كان خاصا به صلى الله عليه وسلم, كما إذا قال في المثال المذكور: لا يجب علي

صيامه فليس فيه تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم تعلق القول بهم فيستمر تكليفهم به، وأما في حقه -صلى الله عليه وسلم- فإن القول يكون ناسخا للفعل, وإليه أشار بقوله: وإن اختص به نسخه في حقه، وإن كان خاصا بنا، كما إذا قال في المثال المذكور: لا يجب عليكم أن تصوموا, فلا تعارض فيه بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيستمر تكليفه به، وأما في حقنا فإنه يدل على عدم التكليف بذلك الفعل, ثم إن ورد قبل صدور الفعل منا كان مخصصا أي: مبينا لعدم الوجوب، وإن ورد بعد صدور الفعل فلا يمكن حمله على التخصيص؛ لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون ناسخا لفعله المتقدم، والتفصيل المذكور إنما يأتي إذا كانت دلالة الدليل الدال على وجوب اتباع الفعل بطريق الظهور، كما إذا قال: هذا الفعل واجب علينا أو على المكلفين، وأما إذا كان بطريق القطع كما إذا قال: إنه واجب علي وعليكم, فلا يمكن حمل القول المتأخر على التخصيص بل يكون ناسخا مطلقا. ثم إن هذا كله فيما إذا كان الفعل المتقدم مما يجب اتباعه كما تكلم فيه المصنف, فإن لم يكن كذلك فلا تعارض فيه بالنسبة إلى الأمة؛ لأن الفعل لم يتعلق بهم. وأما بالنسبة إليه فإن كان الفعل مما دل الدليل على وجوب تكراره عليه وكان القول المتأخر خاصا به صلى الله عليه وسلم, أو متناولا له وللأمة بطريق النص، كقوله: لا يجب علي وعليكم فيكون القول ناسخا للفعل، وإن كان متناولا ولا بطريق الظهور كقوله: لا يجب علينا فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم؛ لأن المخصص لا يشترط تأخره عن العام عندنا، وأهمل المصنف ذلك كله؛ لأنه لا يخفى. قوله: "فإن جهل" هذا هو الحال الثالث، وهو أن يكون المتأخر من القول والفعل مجهولا, فإن أمكن الجمع بينهما بالتخصيص أو غيره فلا كلام، وإن لم يكن الجمع ففيه ثلاثة مذاهب جارية فينا لفائدة العمل. وفيه عليه الصلاة والسلام لمعرفة ما كان يجب عليه مثلا أو يحرم، أحدها وهو المختار في الأحكام والمحصول ومختصراته: أنه يقدم القول لكونه مستقلا بالدلالة موضوعا لها، بخلاف الفعل فإنه لم يوضع للدلالة وإن دل فإنما يدل بواسطة القول. والثاني: أنه يقدم الفعل لأنه أبين وأوضح في الدلالة ولهذا يبين به القول كخطوط الهندسة. والثالث: أنا نتوقف إلى الظهور لتساويهما في وجوب العمل، واختار ابن الحاجب التوقف بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالقول بالنسبة إلى الأمة، وفرق بينهما بأننا متعبدون بالعمل فأخذ بالقول لظهوره، ولا ضرورة بنا إلى الحكم بأحدهما بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام، ووافق المصنف مختار الجمهور بالنسبة إلى الأمة، وسكت عن القسم الآخر، وإليه أشار بقوله: "فالأخذ بالقول في حقنا لاستبداده" أي: لاستقلاله وهو ظاهر في اختيار ما اختاره ابن الحاجب. قال: "الخامسة: أنه -عليه الصلاة والسلام- قبل النبوة تعبد بشرع وقيل: لا وبعدها, فالأكثر على المنع قيل: أمر بالاقتباس و"يكذبه انتظاره" الوحي وعدم مراجعته ومراجعتنا، قيل: راجع في الرجم قلنا: للإلزام، استدل بآيات أمر فيها باقتفاء

الأنبياء السالفة -عليهم الصلاة والسلام- قلنا: في أصول الشريعة وكلياتها". أقول: اختلفوا في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هل كلف قبل النبوة بشرع أحد من الأنبياء؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها الإمام وأتباعه كصاحب الحاصل من غير ترجيح أحدها. نعم واختاره ابن الحاجب ثم المصنف وعبر بقوله: تعبد وهو بضم التاء والعين أي: كلف، ولم يستدل عليه لعدم فائدته الآن، واستدل له في المحصول بكونه داخلا في دعوة من قبله، وعلى هذا فقيل: كلف بشرع نوح، وقيل: إبراهيم وقيل: موسى، وقيل: عيسى، حكاها الآمدي، وقيل: بشرع آدم كما نقل عن حكاية ابن برهان، وقيل: جميع الشرائع شرع له، حكاه بعض شراح المحصول عن المالكية. والثاني: لا، إذ لو كان مكلفا بشريعة لوجب عليه الرجوع إلى علمائها وكتبها, ولو راجع لنقل. والثالث: الوقف واختاره الآمدي، وأما بعد النبوة فالأكثرون على أنه ليس متعبدا بشرع أصلا، واختاره الآمدي والإمام والمصنف، وقيل: بل كان متعبدا بذلك، أي: مأمورا بأخذ الأحكام من كتبهم كما صرح به الإمام؛ فلذلك عبر عنه المصنف بقوله: وقيل أمر بالاقتباس فافهمه، وهذا المذهب يعبر عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا، واختاره ابن الحاجب، وللشافعي في المسألة قولان وبنى عليهما أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة أصحهما الأول، واختاره الجمهور، وأبطل المصنف الثاني بثلاثة أوجه، أحدها: أنه كان ينتظر الوحي مع وجود تلك الأحكام في شرع من تقدمه، والثاني: أنه كان لا يراجع كتبهم ولا أخبارهم في الوقائع. الثالث: أن أمته لا يجب عليها المراجعة أيضا وهذه الوجوه ذكرها الإمام وهي ضعيفة؛ لأن الإيجاب محله إذا علم ثبوت الحكم بطريق صحيح ولم يرد عليه ناسخ، كما في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وليس المراد أخذ ذلك منهم؛ لأن التبديل قد وقع والتبس المبدل بغيره، واعترض الخصم بأنه عليه الصلاة والسلام رجع إلى التوراة لما ترافع إليه اليهود في زنا المحصن. والجواب أن الرجوع إليها لم يكن لإنشاء شرع بل لإلزام اليهود، فإنهم أنكروا أن يكون في التوراة أيضا وجوب الرجم. قوله: "واستدل" أي استدل الخصم بآيات دالة على أنه -عليه الصلاة والسلام- مأمور باقتفاء الأنبياء السالفة -عليهم الصلاة والسلام- أي باتباعهم. منها قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 23] وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وشرعهم من جملة الهدى، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] الآية, وهو عليه الصلاة والسلام سيد المرسلين، وأجاب المصنف بأن المراد وجوب المتابعة في الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع، وهي أصول الديانات، والكليات الخمس أي: حفظ النفوس، والعقول, والأموال، والأنساب، والأعراض،

الباب الثاني: في الأخبار

الباب الثاني: في الأخبار الفصل الأول: فيما علم صدقه قال: "الباب الثاني: في الأخبار وفيه فصول, الأول: فيما علم صدقة، وهو سبعة, الأول: ما علم وجود مخبره بالضرورة أو بالاستدلال. الثاني: خبر الله تعالى وإلا لكنا في بعض الأوقات أكمل منه تعالى. الثالث: خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمعتمد دعواه الصدق وظهور المعجزة على وفقه. الرابع: خبر كل الأمة؛ لأن الإجماع حجة. الخامس: خبر جمع عظيم عن أحوالهم. السادس: الخبر المحفوف بالقرائن. السابع: المتواتر وهو خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، وفيه مسائل". أقول: الخبر قسم من أقسام الكلام، وهو يطلق على اللساني والنفساني، والخلاف في أنه هل هو مشترك بينهما، أو حقيقة في الأول مجاز في الثاني, أو عكسه؟ كالخلاف في الكلام وقد عرفه المصنف في تقسيم الألفاظ بأنه الذي يحتمل التصديق أو التكذيب، وتقديم الكلام هناك عليه؛ فلذلك استغنى عن ذكره هنا. ثم إن الخبر من حيث هو خبر محتمل للصدق والكذب مطلقا، لكنه قد يقطع بصدقه أو كذبه لأمور خارجة، وقد لا يقطع بواحد منها لعدم عروض موجب للقطع به, فصار الخبر على ثلاثة أقسام؛ فلذلك ذكر في الباب ثلاثة فصول، لكل قسم منها فصل, وهذا إذا قلنا: إن الخبر منحصر في الصدق والكذب، وجعل الجاحظ بينهما واسطة فقال: الصدق هو المطابق مع اعتقاد كونه مطابقا، والكذب هو الذي لا يكون مطابقا مع اعتقاد عدم المطابقة، فأما الذي ليس معه اعتقاد سواء كان مطابقا أو غير مطابق فإنه ليس بصدق ولا كذب، والأكثرون قالوا: الصدق هو المطابق للواقع مطلقا، والكذب ما ليس بمطابق مطلقا. الفصل الأول: فيما علم صدقه, وهو سبعة أقسام الأول: الخبر الذي علم وجود مخبره أي: المخبر به وهو بفتح الباء، والعلم به إما بالضرورة كقولنا: الواحد نصف الاثنين، وإما بالاستدلال كقولنا: العالم حادث، وكالخبر الموافق لخبر المعصوم. الثاني: خبر الله تعالى وإلا لكنا في بعض الأوقات وهو وقت صدقنا وكذبه أكمل منه تعالى؛ لكون الصدق صفة كمال والكذب صفة نقص، وهذا القسم وما بعده علمنا فيه أولا صدق الخبر، ثم استدللنا بوقوعه على صدق الخبر. الثالث: خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمعتمد في حصول العلم به وهو دعواه الصدق في كل الأمور، وظهور المعجزة عقب هذه الدعوى, إلا بإثبات وقوع هذا كله. قال: وكيف؟ وقد جوز بعضهم وقوع الذنب منهم عمدا واتفقوا على جوازه في حال السهو والنسيان، وقد لاح مما قاله الإمام إشكال على المصنف في تجويزه الصغائر سهوا, ودعواه العلم بالصدق مطلقا. نعم إن أراد الصدق في الأحكام وهو الذي يقتضيه كلام الإمام في المعالم, فلا تعارض؛ لأنهم معصومون عن الخطأ فيه عند طائفة كما تقدم. الرابع: خبر كل الأمة؛ لأن الإجماع حجة كما سيأتي, هكذا استدل عليه الإمام فتبعه المصنف وغيره؛ فإن أراد بالحجة ما هو مقطوع به، وهو الذي صرح به الآمدي هنا فالإجماع ليس كذلك عندهما كما ستعرفه، وإن أراد بالحجة ما يجب العمل به فمسلم, لكنه لا يلزم من ذلك أن يكون مقطوعا به؛ لأن أخبار الآحاد والعمومات وغيرهما يجب العمل بها مع

أنها ظنية. الخامس: أن يخبر جمع عظيم يستحيل تواطؤهم على الكذب عن شيء من أحوالهم كالشهوة والنفرة, فإنه لا يجوز أن يكون كلها كذبا كما قال في المحصول أي: بل لا بد أن يكون منها ما هو صدق قطعا، وليس المراد أنا نقطع بصدق الجميع فإنه باطل قطعا. قال: وكذلك إذا أخبر كل واحد منهم عن شيء لم يخبر به صاحبه. السادس: الخبر المحفوف بالقرائن كخبر ملك عن موت ولده، ولا مريض عنده سواه، مع خروج النساء على هيئة منكرة من البكاء ونشر الشعر, وخروج الملك وراء الجنازة على نحو هذه الهيئة، فإنه يفيد العلم كما جزم به المصنف، واختاره الإمام والآمدي وابن الحاجب، ونقلوا عن الأكثرين خلافه. السابع: الخبر المتواتر والتواتر لغة هو التتابع يقال: تواتر القوم إذا جاء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، وفي الاصطلاح كل خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب. فروع جعلها بعضهم من المقطوع بها كما قاله في المحصول1، أحدها: إذا أخبر شخص عن أمر بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينكره فقال بعضهم: يكون تصديقا له مطلقا، والحق أنه يكون تصديقا إن كان في أمر ديني لم يتقدم بيانه, أو تقدم وكان مما يجوز نسخه، وكذلك إذا كان في أمر دنيوي وعلمنا أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك أو ادعى المخبر علمه به مع استشهاده به. الثاني: إذا أخبر شخص عن أمر بحضرة جمع عظيم بحيث لو كان كاذبا لما سكتوا عن تكذيبه فأمسكوا عن ذلك, فإنه يفيد ظن صدقه، وقال جماعة: يفيد القين لامتناع جهلهم به في العادة، ومع عدم الجهل يمتنع عادة أن لا يكذبوه. الثالث: قالت جماعة من المعتزلة: الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحته قطعا؛ لأن المادة في المفلتين أن يقبله بعضهم ويرده بعضهم، وما قالوه باطل. الرابع: قال بعض الزيدية: بقاء النقل مع توفر الدواعي على إبطاله يدل على القطع بصحته, وما قالوه ليس بشيء. الخامس: تمسك جماعة في القطع بالخبر, بأن العلماء ما بين محتج به ومؤول له، وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله وهو ضعيف؛ لاحتمال أن يكون قبوله كقبول خبر الواحد. قال: "الأولى أنه يفيد العلم مطلقا خلافا للسمنية، وقيل: يفيد عن الموجود لا عن الماضي. لنا أن نعلم بالضرورة وجود البلاد النائية والأشخاص الماضية. قيل: نجد التفاوت بينه وبين قولنا: الواحد نصف الاثنين, قلنا: للاستئناس. الثانية: إذا تواتر الخبر أفاد العلم فلا حاجة إلى النظر، خلافا لإمام الحرمين وللحجة والكعبي والبصري وتوقف المرتضى. لنا لو كان نظريا لم يحصل لمن لا يتأتى له كالبله والصبيان. قيل: يتوقف على العلم بامتناع تواطئهم، وأن لا داعي لهم إلى الكذب قلنا: حاصل بقوة قريبة من الفعل فلا حاجة إلى النظر". أقول: الأكثرون على أن المتواتر يفيد العلم مطلقا، وقالت السمنية: لا يفيد مطلقا، وقيل: إن كان خبرا عن

_ 1 انظر المحصول، ص108، جـ2.

موجود أفاد، وإن كان عن ماضٍ فلا، والسمنية بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأوثان كذا قاله الجوهري. والدليل على ما قلناه أنا نعلم بالضرورة وجود البلاد البعيدة كمكة وقسطنطينية والأشخاص الماضية كالشافعي وجالينوس. واعترض الخصم بأنا نجد التفاوت بين خبر التواتر وبين غيره من المحسوسات والبديهيات كقولنا: الواحد نصف الاثنين وحصول التفاوت دليل احتمال النقيض, واحتمال النقيض مناف للعلم. وأجاب المصنف بأن التفاوت الحاصل سببه أن بعض القضايا يكثر استعمالها وتصور طرفيها وبعضها لا يكثر؛ فلذلك يستأنس العقل ببعضها دون بعض فإذا وردت القضية الأولى جزم العقل بها بسرعة بخلاف القضية الثانية مع اشتراكهما في العملية، وهذا الجواب ذكره في الحاصل ولكن بعد أن منع أن العلوم لا تتفاوت, واقتصار المصنف عليه يوهم اختيار عدم تفاوتها، والمشهور خلافه ويحتمل أن يكون مراد المصنف إنما هو منع التفاوت وأسند بالاستئناس، ولم يذكر الإمام شيئا من هذين الجوابين بل أجاب بأنه تشكيك في الضروريات فلا يسمع. المسألة الثانية: ذهب الجمهور إلى أن العلم الحاصل عقب التواتر ضروري أي: لا يحتاج إلى نظر وكسب, واختاره الإمام وأتباعه وابن الحاجب, وذهب إمام الحرمين والكعبي وأبو الحسين البصري إلى أنه نظري ونقله المصنف تبعا للإمام عن حجة الإسلام الغزالي وفيه نظر؛ فإن كلامه في المستصفى مقتضاه موافقة الجمهور فتأمله, وتوقف المرتضى من الشيعة واختاره الآمدي في الأحكام ومنتهى السول. ثم استدل المصنف على مذهبه بأنه لو كان نظريا لكان غير حاصل لمن لا يتأتى منه النظر كالبله والصبيان وليس كذلك. واحتج الخصم بأن العلم بمقتضى الخبر متوقف على العلم بامتناع تواطؤ المخبرين على الكذب في العادة، وعلى العلم بأن لا داعي لهم إلى الكذب من حصول منفعة أو دفع مضرة، وهذه المقدمات نظرية والموقوف عن النظري أولى أن يكون نظريا، وأجاب المصنف تبعا للحاصل بأن هذه المقدمات حاصلة بقوة قريبة من الفعل, أي: إذا حصل طرفا المطلوب في الذهن حصلت عقبه من غير نظر وتعب. قال: "الثالثة: ضابطه إفادة العلم, وشرطه أن لا يفعله السامع ضرورة وأن لا يعتقد خلافه لشبهة دليل أو تقليد, وأن يكون سند المخبرين إحساسا به، وعددهم مبلغا يمتنع تواطؤهم على الكذب. وقال القاضي: لا يكفي الأربعة وإلا لأفاد قول كل أربعة، فلا يجب تزكية شهود الزنا لحصول العلم بالصدق أو الكذب. وتوقف في الخمسة ورد بأن حصول العلم بفعل الله تعالى فلا يجب الاطراد، وبالفرق بين الرواية والشهادة، وشرط اثنا عشر كنقباء موسى عليه السلام, وعشرون لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] , وأربعون لقوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وكانوا أربعة وسبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155] وثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر والكل ضعيف، ثم إن أخبروا عن عيان فذاك, وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات، الرابعة:

مثلا لو أخبر واحد بأن حاتما أعطى دينارا وآخر أنه أعطى جملا وهلم جرا, تواتر القدر المشترك لوجوده في الكل". أقول: ضابط الخبر المتواتر هو حصول العلم, فمتى أفاد الخبر بمجرده العلم تحققنا أنه متواتر وأن جميع شرائطه موجودة، وإن لم يفده تبينا عدم تواتره أو فقدان شرط من شروطه، وهي أربعة كما حكاها المصنف تبعا للإمام والآمدي، فالأولان راجعان إلى السامعين ولم يذكرهما الإمام في المعالم ولا ابن الحاجب في مختصره، والأخيران راجعان إلى الخبرين؛ أحدها: أن لا يكون السامع للخبر المتواتر عالما بمدلوله بالضرورة, فإنه إن كان كذلك لم يفده المتواتر علما لامتناع تحصيل الحاصل. الثاني: أن لا يكون معتقدا لخلاف مدلوله، إما لشبهة دليل إن كان من العلماء، أو لتقليد إن كان من العوام، فإن ارتسام ذلك في ذهنه واعتقاده له مانع من قبول غيره والإصغاء إليه، ومن هذا ما ورد في الحديث: "حبك الشيء يعمي ويصم" 1 وهذا الشرط نقله في المحصول عن الشريف المرتضى، ولم يصرح فيه بموافقته ولا مخالفته. قال: وإنما اعتبره؛ لأنه يرى أن الخبر المتواتر دال على إمامة علي رضي الله عنه، وأن المانع من إفادته العلم عند الخصم هو اعتقاد خلافه. الثالث: أن يكون سند المخبرين أي: مستندهم في الأخبار هو الإحساس بالمخبر عنه أي: إدراكه بإحدى الحواس الخمس. فإن أخبروا عما يستند إلى الدليل العقلي كحدوث العالم لم يفد العلم؛ لأن التباس الدليل عليهم محتمل. قال في البرهان: ولا معنى لتقييد المستند بالمحسوس؛ فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري، فالوجه التقييد به لتدخل قرائن الأحوال، وتبعه على ما قاله صاحب المحصول والمختصرون لكلامه فقيدوه بذلك, وفيه نظر؛ فإن قرائن الأحوال لها استناد إلى الحس وليست عقلية محضة؛ فلذلك عدل المصنف إلى العبارة المشهورة. الرابع: أن يبلغ عدد المخبرين مبلغا يمتنع بحسب العادة أن يتواطئوا على الكذب ويختلف ذلك باختلاف المخبرين والوقائع والقرائن. هذا حاصل ما ذكره المصنف من الشروط, وقد علم منه أنه لا يشترط عنده في المخبرين الإسلام ولا العدالة ولا اختلاف الدين, والبلد, والوطن، والنسب، ولا وجود الإمام المعصوم، ولا دخول أهل الذمة فيهم، ولأكثرتهم بحيث لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، وفي كل ذلك خلاف حكاه الآمدي وابن الحاجب والإمام. قوله: "وقال القاضي" أي: أبو بكر: لا يكفي الأربعة في إفادة العلم، إذ لو أفاده قول الأربعة الصادقين لأفاده قول كل أربعة صادقين؛ لأن الحكم على الشيء حكم على مماثله، ولو كان كذلك لم يجب تزكية شهود الزنا لأنه إن حصل علم القاضي بقولهم فقد علم صدقهم, فيستغني عن التزكية، وإن لم يحصل العلم بذلك فيلزم أن يعلم كذبهم؛ لأن الفرض أن حصول العلم بالصدق ومن لوازم قول

_ 1 أخرجه أحمد في المسند "5/ 194"، والخطيب البغدادي في تاريخه "3/ 117"، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار "3/ 31".

أربعة صادقين, فمتى لم يحصل العلم بالصدق فقد انتفى اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وهو قول كل أربعة صادقين، وانتفاء قول الأربعة الصادقين لا يجوز أن يكون لانتفاء القول ولا لانتفاء الأربعة؛ لأنه خلاف الفرض فتعين أن يكون لانتفاء الصدق، وإذا انتفى الصدق تعين الكذب؛ لأنه لا واسطة بينهما، وحينئذ فنقول: إذا علم كذبهم لم يحتج أيضا إلى التزكية لخلوها عن الفائدة، فثبت أنه لو أفادت الأربعة العلم لم يجب تزكية شهود الزنا, وتزكيتهم واجبة اتفاقا فبطل الأول، وهذا التقرير اعتمده. قوله: "وتوقف" يعني: أن القاضي توقف في أن الخمسة هل تفيد العلم أم لا؟ ووجه توقفه أنه يحتمل أن يقال: إنها لا تفيد العلم إذ لو أفادته لأفادت قول كل خمسة، ويلزم من ذلك أن لا يجب تزكيتها إذا شهدت بالزنا بعين ما قلناه في الأربعة، ويحتمل أن يقال: إنها تفيده، ولا يلزم منه عدم التزكية بخلاف الأربعة؛ وذلك لأنا نسلم لهم أن كل خمسة صادقة تفيد العلم, وأنه إذا شهد خمسة بالزنا ولم يحصل العلم بقولها لا تكون صادقة, وأنه إذا انتفى الصدق تعين الكذب، وأما قولهم: إذا تعين الكذب فلا حاجة إلى التزكية فممنوع؛ لأن الكذب قد يكون واحدا من الخمسة وقد يكون من اثنين فصاعدا، فإن كان من واحد لم تبطل الحجة لبقاء النصاب المعتبر وهو الأربعة، وإن كان من اثنين فصاعدا بطلت, فأوجبنا التزكية حتى نعلم هل بقي النصاب أم لا بخلاف الأربعة؟ فإن كذب أحدهم مسقط للحجة. قوله: "ورد" أي: ورد قول القاضي بأنه لا يكفي الأربعة بوجهين أحدهما: أن حصول العلم عقب الخبر المتواتر بفعل الله تعالى عنده وعند غيره من الأشاعرة, فلا يجب حينئذ اطراده لجواز أن يخلق الله تعالى العلم عند قول أربعة دون أربعة. الثاني: أن الفرق بين الرواية والشهادة ثابت, فإن الأربعة في الرواية زائدة على القدر المشروط بخلاف الأربعة في الشهادة, فلا يلزم من ترتيب العلم على الأول ترتبه على الثاني، وأيضا الشهادة تقتضي شرطا خاصا فلا يبعد فيها الاتفاق على المشهود عليه لعداوة، بخلاف الرواية. قوله: "وشروط" أي: وشرط بعضهم في عدد التواتر اثني عشر؛ لأن موسى عليه السلام نصبهم ليعرفوه أحوال بني إسرائيل, كما قال تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] فلو لم يحصل العلم بقولهم لم ينصبهم، وشرط بعضهم عشرين لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فإن مثل هذا الكلام في العادة يستدعي الجواب بأن ذلك العدد موجود فيهم, فدل على حصول العلم بقولهم، ومنهم من شرط أربعين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وكانوا أربعين، ووجه الدلالة: مَنْ إن كانت مجرورة عطفا على الكاف كما قاله بعضهم، فإن كان الله تعالى كافيهم فإنه يقتضي حراسته لهم دينا ودنيا، ويستحيل مع ذلك تواطؤهم على الكذب, وإن كانت مرفوعة عطفا على الاسم المعظم فكذلك؛ لأن الذين رضيهم الله لأن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أموره ويتولوها, لا يتفقون

على كذب وشرط بعضهم سبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] وإنما اختارهم ليخبروا قومهم. وشرط بعضهم ثلاثمائة وبضعة عشر بعدد أهل بدر؛ لأن الغزوة تواترت عنهم والبضع بكسر الباء، ومن العرب من يفتحها, وهو ما بين الثلاثة إلى التسعة، قاله الجوهري, وفي المحصول أن بعضهم شرط عدد أهل بيعة الرضوان وهم ألف وسبعمائة كما قاله في البرهان، وهذه الأقول كلها ضعيفة كما قاله المصنف؛ لأنها تقييدات لا دليل عليها, وما ذكروه فإنه بتقدير تسليمه لا يدل على كون العدد شرطا لتلك الوقائع، ولا على كونه مفيدا للعلم؛ لجواز أن يكون حصوله في تلك الصور من خواص المعدودين. قوله: "ثم إن أخبروا" يعني أن الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب إن أخبروا عن عيان أي: مشاهدة فلا كلام, وإن نقلوا عن غيرهم فيشترط حصول هذا العدد أيضا في كل الطبقات, وهو معنى قولهم: لا بد من استواء الطرفين والواسطة، وتعبير المصنف بالعيان غير وافٍ بالمراد, فإن العيان بكسر العين هو الرؤية كما قاله الجوهري, والخبر قد لا يكون مستندا إليها. المسألة الرابعة: التواتر قد يكون لفظيا وهو ما تقدم، وقد يكون معنويا وهو أن ينقل العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة مشتملة على قدر مشترك, كما إذا أخبر واحد بأن حاتما أعطى دينارا, وأخبر آخر أنه أعطى جملا وأخبر آخر أنه أعطى شاة وهلم جرا, حتى بلغ المخبرون عدد التواتر, فيقطع بثبوت القدر المشترك لوجوده في كل خبر من هذه الأخبار، والقدر المشترك هنا هو مجرد الإعطاء, لا الكرم أو الجود لعدم وجوده في كل واحد فافهمه. وقوله: جرا منون, قال صاحب المطالع: قال ابن الأنباري: معنى هلم جرا: سيروا وتمهلوا في سيركم, مأخوذا من الجر وهو ترك النعم في سيرها ثم استعمل فيما حصل الدوام عليه من الأعمال. قال ابن الأنباري: فانتصب جرا على المصدر أي: جروا جرا, أو على الحال, أو على التمييز. إذا علمت هذا علمت أن معنى هلم جرا في مثل هذا أنه استدعى الصور فانجرت إليه جرا، فعبر به مجازا عن ورود أمثال للأول.

الفصل الثاني: فيما علم كذبه

الفصل الثاني: فيما علم كذبه قال: "الفصل الثاني: فيما علم كذبه، وهو قسمان, الأول: ما علم خلافه ضرورة أو استدلالا. الثاني: ما لو صح لتوفرت الدواعي على نقله كما يعلم أن لا بلدة بين مكة والمدينة أكبر منهما, إذ لو كان لنقل وادعت الشيعة أن النص دل على إمامة علي رضي الله عنه, ولم يتواتر كما لم تتواتر الإقامة والتسمية ومعجزات الرسول -عليه الصلاة والسلام- قلنا: الأولان من الفروع، ولا كفر ولا بدعة في مخالفتهما بخلاف الإمامة. وأما تلك المعجزات فلقلة المشاهدين. مسألة: بعض ما نسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذب؛ لقوله: "سيكذب عليَّ" , ولأن منها ما لا يقبل التأويل فيمتنع صدوره عنه, وسببه نسيان الراوي أو غلطه أو افتراء الملاحدة لتنفير العقلاء". أقول: الخبر الذي يقطع بكذبه قسمان الأول: الخبر الذي علمنا خلافه إما بالضرورة كقول القائل: النار باردة, أو بالاستدلال كالخبر المخالف لما علم صدقه من خبر الله

تعالى أو غيره، وكقوله القائل: العالم قديم. الثاني: الخبر الذي لو صح التواتر لكون الدواعي على نقله متوفرة, إما لغرابته كسقوط الخطيب عن المنبر يوم الجمعة أو لتعلقه بأصل من أصول الدين كالنص على الإمامة, فعدم تواتره دليل على عدم صحته؛ ولهذا نعلم أن لا بلدة بين مكة والمدينة أكبر منهما, ولا مستند لهذا العلم إلا عدم النقل المتواتر. وفي المحصول ومختصراته قسم ثالث للخبر الذي يقطع بكذبه, وهو ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد استقرار الأخبار ثم بحث عنه, فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة، وخالفت الشيعة في القسم الثاني, فادعت أن النص الجلي دل على إمامة علي رضي الله عنه، ولم يتواتر غيره من الأمور المهمة كالإقامة والتسمية في الصلاة ومعجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- كحنين الجذع وتسبيح الحصى ونحوهما، ولهذا اختلفوا في إفراد الإقامة وفي إثبات التسمية والجواب عن الأولين، وهما الإقامة والتسمية بأنهما من الفروع والمخطئ فيهما ليس بكافر ولا مبتدع؛ فلذلك لم تتوفر الدواعي على نقلهما بخلاف الإمامة, فإنها من أصول الدين ومخالفتها فتنة وبدعة. وأما المعجزات فعدم تواترها لقلة المشاهدين لها، وللشيعة أن يجيبوا بهذا الجواب فيقولوا: إنما لم يتواتر النص الدال على إمامة علي؛ لقلة سامعيه. قوله: "مسألة ... إلخ" هذه المسألة لم يذكرها ابن الحاجب وحاصلها أن بعض الأخبار المنسوبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كذب قطعا لأمرين أحدهما: أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "سيكذب عليَّ" فإن كان هذا الحديث كذبا فقد كذب عليه، وإن كان صدقا فيلزم أن يقع الكذب؛ لأن أخباره حق وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كونه صحيحا وقوع الكذب في الماضي لجواز وقوعه في المستقبل. نعم لو قال بعض ما ينسب بصيغة المضارع لتم المدعي. الثاني: أن من الأخبار المنسوبة إليه ما هو معارض للدليل العقلي بحيث لا يقبل التأويل, فيعلم بذلك امتناع صدوره عنه. قوله: "وسببه" أي: وسبب وقوع الكذب أمور الأول: نسيان الراوي بأن سمع خبرا وطال عهده به فنسي فزاد فيه أو نقص، أو عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس من كلامه. الثاني: غلطه, بأن أراد أن ينطق بلفظ فسبق لسانه إلى غيره ولم يشعر أو كان ممن يرى نقل الخبر بالمعنى, فأبدل مكان اللفظ المسموع لفظا آخر لا يطابقه؛ ظنا أنه يطابقه. الثالث: افتراء الملاحدة أي الزنادقة وغيرهم من الكفار, فإنهم وضعوا أحاديث مخالفة لمقتضى العقل ونسبوها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- تنفيرا للعقلاء عن شريعته. قال:

الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد, والنظر في طرفين في وجوب الأول العمل به دل عليه السمع وقال ابن سريج والقفال والبصري: دل العقل أيضا وأنكره قوم لعدم الدليل أو للدليل على عدمه شرعا أو عقلا وأحاله آخرون, واتفقوا على الوجوب في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية". أقول: شرع في القسم الثالث من أقسام الخبر, وهو الذي لا يعلم صدقه ولا كذبه, وله ثلاثة أحوال أحدها: أن يترجح احتمال صدقه كخبر العدل. والثاني: عكسه كخبر الفاسق. والثالث: أن يتساوى الأمران كخبر المجهول ولم يتعرض للقسمين الآخرين لعدم وجوب العمل بهما كما سيأتي وأشار إلى الأول بقوله: فيما ظن صدقه, فإن ظن الصدق من لوازم رجحان احتماله. وعرفه بقوله: وهو خبر العدل الواحد, واحترز بالعدل عن القسمين الأخيرين، وبالواحد عن المتواتر، فإن خبر الواحد في اصطلاحهم عبارة عما ليس بمتواتر، سواء كان مستفيضا وهو الذي زادت رواته على ثلاثة كما جزم به الآمدي وابن الحاجب, أو غير مستفيض وهو ما رواه الثلاثة أو أقل، ومقصود الفصل منحصر في طرفين, الأول: في وجوب العمل به وقد اختلفوا فيه؛ فذهب الجمهور إلى أنه واجب, لكن قال أكثرهم: وجوبه الدليل السمعي فقط. وقال ابن سريج والقفال الشاشي وأبو الحسين البصري: دل على وجوبه العقل والنقل، وأنكر قوم وجوب العمل به. ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: ذلك الدليل المانع له شرعي، وقال بعضهم: عقلي, وإلى هذين المذهبين أشار بقوله: شرعا أو عقلا, وذهب آخرون إلى أن ورود العمل به مستحيل عقلا. واعلم أن كلام المحصول يوهم المغايرة بين هذا المذهب وما قبله فتابعه المصنف، والذي يظهر أنه متحد به فتأمله، ويقوي الاتحاد أن صاحب الحاصل والتحصيل وغيرهما من المختصرين لكلام الإمام لم يغايروا بينهما، واقتصروا على الأول إلا أن يفرق بينهما, بأن الأول في الإيجاب والثاني في الجواز. قوله: "واتفقوا" أي: اتفق الكل على وجوب العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية؛ كإخبار طبيب أو غيره بمضرة شيء مثلا، وإخبار شخص عن المالك أنه منع من التصرف في ثماره بعد أن أباحها، وشبه ذلك من الآراء والحروب ونحوها، وهذه العبارة التي ذكرها المصنف ذكرها صاحب الحاصل، وعبر في المحصول بقوله: ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا يعلم صحته كما في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية. هذا لفظه وبين العبارتين فرق لا يخفى. قال: "لنا وجوه, الأول: أنه تعالى أوجب الحذر بإنذار طائفة من الفرقة، والإنذار الخبر المخوف، والفرقة ثلاثة, والطائفة واحد أو اثنان، قيل: لعل للترجي قلنا: تعذر فيحمل على الإيجاب لمشاركته في التوقع, قيل: الإنذار الفتوى قلنا: يلزم تخصيص الإنذار, والقوم بغير المجتهدين والرواية ينتفع بها المجتهد وغيره، قيل: فيلزم أن يخرج من كل ثلاثة واحد, قلنا: خص النص فيه. الثاني: أنه لو لم يقبل لما علل بالفسق؛ لأن ما بالذات لا يكون بالغير, والتالي باطل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . الثالث: القياس على الفتوى والشهادة. قيل: يقتضيان شرعا خاصا والرواية عاما، ورد بأصل الفتوى قيل: لو جاز لجاز اتباع الأنبياء والاعتقاد بالظن، قلنا: ما الجامع؟ قيل: الشرع يتبع المصلحة, والظن لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة, قلنا: منقوض بالفتوى والأمور الدنيوية". أقول: احتج المصنف على وجوب العمل بخبر الواحد بثلاثة أوجه, الأول: قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] ووجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الحذر، أي: الانكفاف عن الشيء, بإنذار طائفة من الفرقة, ويلزم منه وجوب العمل بخبر الواحد. أما كونه تعالى أوجب الحذر فلقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ولعل الترجي ممتنع في حق الله تعالى؛ لأنه عبارة عن توقع حصول الشيء الذي لا يكون المتوقع عالما بحصوله ولا قادرا على إيجاده. وإذا كان الترجي ممتنعا فتعين حمل اللفظ على لازم الترجي وهو الطلب أي: الإيجاب إطلاقا للملزوم وإرادة للازم، فإنه مجاز محقق والأصل عدم غيره, فإن قيل: يكون الترجي باقيا على حقيقته ولكنه مصروف عن الله تعالى إلى الفرقة المتفقهة أي: تنذر قومها إنذار من يرجو حذرهم, وحينئذ فلا إيجاب. سلمنا لكن لا نسلم أن طالب المحمول عليه وهو الطالب المتحتم فقد يكون على سبل الندب قلنا: الحذر إنما يتحقق عند المقتضي للعقاب، وهو من خصائص الوجوب, وأما كون الإنذار بقول طائفة من الفرقة, فبناه المصنف على أن المتفقهين هم الطائفة النافرة حتى يكون الضمير في قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا} , {وَلِيُنْذِرُوا} راجعا إليه, وهو قول لبعض المفسرين، وفيه قول آخر حكاه الزمخشري ورجحه غيره: أن المتفقهين هم المقيمون لينذروا النافرين إن عادوا إليهم. ووجه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إنزال الوعيد الشديد في حق المتخلفين عن غزوة تبوك, كان إذا بعث جيشا أسرع المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن استماع الوحي والتفقه في الدين, فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ويقعد الباقون؛ ليتفقهوا، وينذروا النافرين إذا رجعوا إليهم. وعلى هذا فلا حجة؛ لأن الباقين كثيرون, وأما كونه يلزم منه وجوب العمل بخبر الواحد فلأن الإنذار هو الخبر الذي يكون فيه تخويف, والفرقة ثلاثة فتعين أن تكون الطائفة النافرة منها واحدا أو اثنين؛ لأنها بعضها، وحينئذ فيكون الإنذار حصل بقول واحد أو اثنين فينتج ذلك كله وجوب الحذر بقول واحد أو اثنين، وهو المدعى، وفيما قاله في الفرقة والطائفة نظر. فقد قال الجوهري: والفرقة طائفة من الناس, هذا لفظه. وقال الشافعي رحمه الله تعالى في صلاة الخوف وهو من أهل هذا الشأن: إن الطائفة أقلها ثلاثة. ونقله أيضا عنه القفال في الإشارة، نعم في صحاح الجوهري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة} أي: واحد فصاعدا. قوله: "قبل ... إلخ" أي: اعتراض القائل بأنه لا يجب العمل بخبر الواحد على استدلالنا بهذه الآية بثلاثة أوجه, أحدها: أن لعل مدلولها الترجي لا الوجوب، والجواب أنه لما تعذر الحمل على الترجي حملناه على الإيجاب لمشاركته للترجي في الطلب كما تقدم إيضاحه مع ما يرد عليه, لكن تعليل المصنف بقوله: لمشاركته في التوقع لا يستقيم؛ لأنهما لو اشتركا في التوقع لكان المانع من حمل لعل على حقيقتها موجودا بعينه في الإيجاب. الثاني: لا نسلم أن المراد بالإنذار في الآية هو الخبر المخوف مطلقا بل المرد به الفتوى، وقول الواحد فيها مقبول اتفاقا كما تقدم، وإنما

قلنا: إن المراد الفتوى؛ وذلك لأن الإنذار هنا متوقف على التفقه، إذ الأمر بالتفقه إنما هو لأجله، والمتوقف على التفقه إنما هو الفتوى لا أحد, وأجاب المصنف بأنه يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص الآية من وجهين أحدهما: تخصيص الإنذار بالفتوى مع أنها عامة فيه وفي الرواية. الثاني: تخصيص القوم من قوله تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} بالمقلدين؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا في فتواه، بخلاف ما إذا حمل الإنذار على الرواية أو على ما هو أعم، فإنه ينتفي التخصيصات, أما تخصيص الإنذار فواضح، وأما القوم فلأن الرواية ينتفع بها المجتهد في الأحكام، وينتفع بها المقلد في الانزجار, وحصول الثواب في نقلها لغيره وغير ذلك. الثالث: لو كان المراد بالفرقة ثلاثة لكان يجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد؛ لأن لولا للتخصيص تقديره: هلا خرج وليس كذلك إجماعا. وأجاب المصنف بأن هذا النص الذي في لزوم خروج واحد من كل ثلاثة قد خص بالإجماع، ولا يلزم من تخصيص النص فيه تخصيصه في قبول رواية الواحد. قوله: "الثاني" أي: الدليل الثاني على وجوب العمل بخبر الواحد, وتقريره من وجهين ذكر أصلهما في المحصول أحدهما ولم يذكر المصنف سواه: أنه لو لم يقبل خبر الواحد لما كان عدم قبوله معللا بالفسق؛ وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته، وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره؛ لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير، إذ لو كان معللا بالغير لاقتضى حصوله به، مع كونه حاصلا قبل ذلك أيضا لكونه معللا بالذات، وذلك تحصيل للحاصل وهو محال. والثاني: وهو امتناع تعليله بالفسق باطل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له، والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل, فثبت أن خبر الواحد ليس مردودًا. وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول واجب العمل به؛ لأن القائل قائلان. التقرير الثاني: أن الأمر بالتبيين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط حجة, فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا؛ لأن الظن يعمل به هنا، والقول بالواسطة منتف كما تقدم. قوله: "الثالث" أي: الدليل الثالث على وجوب العمل بخبر الواحد القياس على الفتوى والشهادة، والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة. وفرق الخصم بأن الفتوى والشهادة تقتضيان شرعا خاصا ببعض الناس، والرواية تقتضي شرعا عاما للكل ولا يلزم من تجويزنا للواحد أن يعمل بالظن الذي قد يخطئ ويصيب، أن يجوز ذلك للناس كافة، ورده المصنف بشرعية أصل الفتوى، فإن اتباع الظن فيها لا يختص بمسألة ولا بشخص، وقد يقال: الرواية أكثر عموما؛ لأنها تقتضي الحكم على المجتهدين والمقلدين، وأما الفتوى فخاصة بالمقلدين، وقد استدل في المحصول أيضا على التمسك بخبر الواحد, بأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يبعث الرسل بتبليغ الأحكام، وبإجماع الصحابة على

العمل به عند اطلاعهم عليه. قوله: "قيل: لو جاز" أي: استدل من منع العمل بخبر الواحد عقلا بأمرين أحدهما: أنه لو جاز قبوله في الرواية لجاز اتباع مدعي النبوة بدون المعجزة, بل بمجرد الظن, ولجاز الاعتقاد كمعرفة الله تعالى بالظن أيضا, قياسا على الرواية وليس كذلك اتفاقا. وأجاب المصنف بطلب الجامع، فإن عجزوا عنه فلا كلام وإن أبدوا جامعا كدفع الضرر المظنون أو غيره فرقنا بأن الخطأ في النبوات وفي الاعتقاد كفر؛ فلذلك شرطنا العلم بخلاف الفروع، وأيضا فلأن القطع في كل مسألة شرعية متعذر بخلاف اتباع الأنبياء, والاعتقاد الثاني: أن الاستقراء دل على أن الشرع يتبع مصالح العباد تفضلا وإحسانا. والظن الحاصل من خبر الواحد لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة، لأنه يخطئ ويصيب فلا يعول عليه. والجواب أن ما قاله بعينه جار في الفتوى والأمور الدنيوية، مع أن قول الواحد فيهما مقبول اتفاقا كما تقدم. قال: "الطرف الثاني: في شروط العمل به وهو إما في المخبر أو المخبر عنه، أو الخبر. أما الأول فصفات تغلب على الظن، وهي خمس: الأول: التكليف فإن عبر المكلف لا يمنعه خشية الله تعالى قيل: يصح الاقتداء بالصبي اعتمادا على خبره بطهر. قلنا: لعدم توقف صحة صلاة المأموم على طهره, فإن تحمل ثم بلغ وأدى قبل قياسا على الشهادة, وللإجماع على إحضار الصبيان الحديث. الثاني: كونه من أهل القبلة فتقبل رواية الكافر الموافق كالمجسمة إن اعتقدوا حرمة الكذب, فإنه يمنعه عنه, وقاسمه القاضيان بالفاسق والمخالف, ورد بالفرق". أقول: العمل بخبر الواحد له شروط بعضها في المخبر -بكسر الباء- وهو الراوي, وبعضها في المخبر عنه وهو مدلول الخبر، وبعضها في الخبر نفسه وهو اللفظ. أما الأول وهي شروط المخبر فضابطها الإجمالي عبارة عن صفات تغلب على الظن أن المخبر صادق وعند التفصيل ترجع إلى خمس صفات كما ذكرها المصنف, إلا أن الخامسة منها إنما هي شرط على قول مرجوح، الوصف الأول: التكليف، فلا تقبل رواية المجنون والصبي الذي لم يميز بالإجماع وكذا المميز عند الجمهور, فإن غير المكلف لا يمنعه خشية من الله تعالى عن تعاطي الكذب لعلمه بأنه غير معاقب، وهو في الحقيقة أكثر جراءة من الفاسق. واستدل الخصم بأنه لو لم يقبل خبره لم يصح الاقتداء به في الصلاة اعتمادا على إخباره بأنه متطهر, لكنه يصح فدل على قبول خبره. وأجاب المصنف بأن صحة الاقتداء ليست مستندة إلى قبول إخباره بطهره، بل لكونها غير متوقفة على طهارة الإمام؛ لأن المأموم متى لم يظن حدث الإمام صحت صلاته وإن تبين حدث الإمام، وأما الرواية فشرط صحتها السماع. قوله: "فإن تحمل" يعني أن الصبي إذا تحمل ثم بلغ وأدى بعد البلوغ ما تحمله قبله, فإنه يقبل لأمرين أحدهما: القياس على الشهادة. الثاني: إجماع السلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث، ولك أن تجيب عن الأول بأن الرواية تقتضي شرعا عاما فاحتِيط فيها بخلاف الشهادة، وعن الثاني بأن الإحضار قد يكون للتبرك أو سهولة

الحفظ أو لاعتياد ملازمة الخبر. قوله: "الثاني" أي: الشرط الثاني من شروط المخبر: أن يكون من أهل قبلتنا, فلا تقبل رواية الكافر المخالف عن القبلة، وهو المخالف في الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني إجماعا، فإن كان الكافر يصلي لقبلتنا فكالمجسم وغيره, وإن قلنا بتكفيره ففيه خلاف. قال في المحصول: الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته، وإلا فلا, وتبعه عليه المصنف، واستدل عليه بأن اعتقاده حرمة الكذب يمنع من الإقدام عليه, فيغلب على الظن صدقه؛ لأن المقتضى قد وجد، والأصل عدم المعارض، وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار: لا تقبل روايته مطلقا قياسا على المسلم الفاسق والكافر المخالف بجامع الفسق والكفر, ونقله الآمدي عن الأكثرين وجزم به ابن الحاجب، والجواب أن الفرق بين هذا وبين الفاسق أن هذا لا يعلم فسق نفسه ويجتنب الكذب لتدينه وخشيته بخلاف الفاسق، والفرق بينه وبين الكافر المخالف أن الكافر المخالف خارج عن ملة الإسلام فلا تقبل روايته؛ لأن ذلك منصب شريف يقتضي الإعزاز والإكرام. قال: "الثالث: العدالة وهي ملكة في النفس تمنعها من اقتراف الكبائر والرذائل والمباحة، فلا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما، وإن جهل قبل، قال القاضي أبو بكر: ضم جهل إلى فسق. قلنا: الفرق عدم الجراءة، ومن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته؛ لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه كالصبى والكفر، والعدالة تعرف بالتزكية وفيها مسائل الأولى: شرط العدد في الرواية والشهادة، ومنع القاضي فيهما، والحق الفرق كالأصل، الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: يذكر سبب الجرح، وقيل: سبب التعديل وقيل: سببهما، وقال القاضي: لا فيهما. الثالثة: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن فيه زيادة. الرابعة: التزكية أن يحكم بشهادته، أو يثني عليه، أو يروي عنه من لا يروي عن غير العدل أو يعمل بخبره". أقول: شرع في الوصف الثالث من الأوصاف في المخبر وهو العدالة, والعدالة في اللغة عبارة عن التوسط في الأمر من غير إفراط إلى طرفي الزيادة والنقصان، وفي الاصطلاح ملكة في النفس أي: هيئة راسخة فيها تمنعها من ارتكاب الكبائر والرذائل المباحة. فأما تمييز الكبائر من الصغائر ففيه كلام منتشر، ومحله كتب الفروع. وأما الرذائل فأشار بها إلى المحافظة على المروءة، وهي أن يسير سيرة أمثاله في زمانه ومكانه، فلو لبس الفقيه القباء أو الجندي الجبة والطيلسان ردت روايته وشهادته، فأما إذا قيل: تعاطي الكبيرة الواحدة والرذيلة الواحدة قادح, وتعبيره بالرذائل والكبائر يدفعه، وأيضا فإن الإصرار على الصغائر كذلك، ولا ذكر له في الحد، وكذلك المرة من صغائر الخسة كالتطفيف بالحبة كما ذكره في المحصول. قلنا: أما الأول فجوابه أن الملكة إذا قويت على دفع الجملة فلأن تقوى على بعضها أولى، وأما الثاني فجوابه ما قاله الغزالي في الإحياء في كتاب التوبة أن الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة، وأما الثالث فلأن القول بتأثير المرة من الرذائل المباحة يؤخذ منه تأثير المرة من الرذائل المحرمة بطريق الأولى، نعم يرد

عليه أن المروءة ليست وصفا معتبرا في العدالة بل في قبول الشهادة والرواية. فإن العدالة ضد الفسق. قوله: "فلا تقبل" يعني أنه لما تقرر أن عدالة الراوي شرط فلا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما بكونه فسقا للإجماع، ولقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الآية, فإن كان الفاسق قد جهل أن ما أتى به فسق, نفى قبول قوله. مذهبان حكاهما ابن الحاجب من غير ترجيح والتفسيق بالشيء مع الجهل بكونه فسقا يتصور في المخالفين في الأصول كالخوارج ونفاة الصفات. فإن الجهل في ذلك ليس عذرا، وإلا لزم ذلك في حق اليهود والنصارى, وأما من وطئ أجنبية جاهلا بالحال ونحوه فليس ما نحن فيه, وكذلك من شرب النبيذ مثلا لاعتقاده الإباحة؛ لأنه ليس فاسقا قطعا كما قاله ابن الحاجب, وإن كان بعض الشافعية خالف في قبول قوله, إذا علمت ذلك فأحد المذهبين وهو رأي القاضي، واختاره الآمدي أنه لا يقبل قوله. والثاني: يقبل ونص عليه الشافعي فقال: وأقبل رواية أهل الأهواء الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، واختاره الإمام وأتباعه، قال: إلا أن يكون قد ظهر عناده فلا يقبل قوله؛ لأن العناد كذب، ولم يستدل المصنف على ما اختاره هنا؛ لأن الدليل الذي قدمه في الكافر الموافق وهو رجحان الصدق بعينه دليل في الفاسق, لكن اشتراط العدالة مع قبول الفاسق متنافيان، ولهذا فإن المصنف لما كان من مذهبه قبول رواية الكافر الموافق، لم يشترط الإسلام بل اشترط كونه من أهل القبلة. قوله: "قال القاضي" أي: احتج القاضي على عدم القبول بأن المانع من قبول الفاسق العالم بفسق نفسه إنما هو الفسق, وهو محقق هنا مع زيادة أخرى قبيحة وهي الجهل، وفرق المصنف بأن الإقدام على الفسق مع العلم به يدل على الجراءة وقلة المبالاة بالمعصية، فيغلب على الظن عدم صدقه بخلاف الجاهل. قال ابن الحاجب: ولا يصير الراوي مجروحا بالحد في شهادة الزنا لعدم النصاب ولا بالتدليس على الأصح كقول من لحق الزهري, قال الزهري موهما أنه سمع منه. قوله: "ومن لا تعرف" يعني أن الشخص إذا علمنا بلوغه وإسلامه وجهلنا عدالته فإن روايته لا تقبل, كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي، واختاره هو والآمدي وأتباعهما، وقال أبو حنيفة: تقبل, وإلى هذه المسألة أشار المصنف بقوله: ومن لا تعرف عدالته, لكن فيه حذف, فإن الفاسق داخل في هذه العبارة لكونه غير معروف العدالة أيضا، والتقدير: ومن لا تعرف عدالته ولا فسقه وإنما حذفه لتقديم ذكره، ودليلنا أن الفسق مانع من القبول إجماعا, فلا بد من تحقق عدمه أي: تحقق ظن عدمه قياسا على الكفر والصبى والجامع دفع احتمال المفسدة. قوله: "العدالة تعرف بالتزكية" كما تقدم أن من لا تعرف عدالته لا تقبل روايته، وشرع في بيان طريق معرفة العدالة وهو أمران أحدهما: الاختبار والثاني: التزكية، قال في المحصول: والمقصود الآن إنما هو بيان الثاني وهو التزكية؛ فلذلك اقتصر المصنف عليه، وذكر فيه أربع مسائل الأولى: في بيان اشتراط

العدد في التزكية. والثاني وهو رأي القاضي: أنه يشترط مطلقا بل يكتفي واحد لأنها خبر، والثالث: الفرق, فيشترط العدد في تزكية الشاهد دون الراوي ورجحه الإمام وأتباعه، وكذا الآمدي ونقله هو وابن الحاجب عن الأكثرين؛ لأن الشهادة لا تثبت بواحد فكذلك ما هو شرط فيها بخلاف الرواية، وإليه أشار بقوله: كالأصل، ويؤخذ من هذا التعليل قبول تزكية المرأة والعبد في الرواية دون الشهادة، وصح به الإمام وغيره، وهذه المذاهب تجري أيضا في الجرح كما أشار إليه الإمام وصرح به ابن الحاجب وغيره. المسألة الثانية: قال الشافعي -رضي الله عنه: يجب ذكر سبب الجرح دون سبب التعديل؛ لأن الجرح يحصل بخصلة واحدة فيسهل ذكرها بخلاف التعديل، ولأنه قد يظن ما ليس بجارح جارحا، وقال قوم بالعكس؛ لأن العدالة يكثر التصنع فيها فيتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر بخلاف الجرح، وقال قوم: لا بد من بيان سببهما للمعنيين المتقدمين، وقال قوم: لا يجب فيهما؛ لأن المزكي إن كان بصيرا قبل جرحه وتعديله وإلا فلا، واختاره الآمدي ونقله هو والإمام وأتباعهما عن القاضي أبي بكر وتبعهما المصنف، ونقل إمام الحرمين عنه في البرهان أنه يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح كالمذهب الثاني، وكذلك نقله الغزالي في المنخول، ولكنه خالفه في المستصفى ولعله اشتبه عليه فقلده فيه هؤلاء، وقال إمام الحرمين: الحق أنه إن كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه وإلا فلا، وهذا المذهب اختاره الغزالي والإمام وأتباعه إلا المصنف ولم يرجح ابن الحاجب شيئا. المسألة الثالثة: إذا عدله قوم وجرحه قوم, فإنه يقدم الجرح لأن فيه زيادة لم يطلع عليها المعدل، وقيل: يتعارضان فلا يرجح أحدهما إلا بمرجح, حكاه ابن الحاجب، وقيل: يقدم التعديل إذا زاد المعدلون على الجارحين حكاه في المحصول. وعلى الأول إذا عين الجارح سببا فنفاه المعدل بطريق متغير كما إذا قال: قتل فلانا ظلما وقت كذا فقال المعدل: رأيته حيا بعد ذلك أو كان القاتل في ذلك الوقت عندي، فإنهما يتعارضان ويعرف ذلك من تعليل المصنف؛ فلهذا لم يستثنه. المسألة الرابعة: فيما يحصل به التزكية، وهو أربعة أمور, أحدها وهو أعلاها كما قال في المحصول: أن يحكم بشهادته، إلا أن يكون الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي عرف منه أنه لا يكذب. الثاني: أنه يثني عليه بأن يقول: هو عدل أو مقبول الشهادة أو الرواية. الثالث: أن يروي عنه من لا يروي إلا عن العدل، وقيل: الرواية تعديل مطلقا, وقيل: ليست بتعديل مطلقا كما أن ترك العمل بروايته ليس بجرح, والأول هو المختار عند ابن الحاجب والآمدي وغيرهما. الرابع: أن يعمل بخبره فإن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بمقابل آخر وافق الخبر, فليس بتعديل كما قاله في المحصول1 والشرط في الذي يزكي أن يكون عدلا وتركه

_ 1 انظر المحصول، ص196، جـ2.

المصنف لوضوحه. قال: "الرابع: الضبط وعدم المساهلة في الحديث, وشرط أبو علي العدد, ورد بقبول الصحابة خبر الواحد, قال: طلبوا العدد قلنا: عند التهمة. الخامس: شرط أبو حنيفة -رضي الله عنه- فقه الراوي إن خالف القياس, ورد بأن العدالة تقلب ظن الصدق فيكفي". أقول: لما فرغ من المسائل الأربع الواقعة في الوصف الثالث من الأوصاف المعتبرة في المخبر، رجع إلى الوصف الرابع وهو الأمن من الخطأ, ويحصل بشيئين أحدهما: الضبط فإن كان الشخص لا يقدر على الحفظ أو يقدر عليه ولكن يعرض له السهو غالبا فلا تقبل روايته, وإن كان عدلا؛ لأنه قدم على الرواية ظانا أنه ضبطها وماسها، والأمر بخلافه. الثاني: عدم التساهل, فإن تساهل فيه بأن كان يروي وهو غير واثق به مثلا رددناه, وهذا الشرط ذكره في المحصول بعد هذه المسألة ثم قال: فإن تساهل في غير الحديث واحتاط في الحديث قبلنا روايته على الرأي الأظهر؛ فلذلك قيده المصنف بقوله: في الحديث. قوله: "وشرط أبو علي العدد" أي: فلم يقبل في الزنا إلا خبر أربعة ولم يقبل في غيره إلا خبر اثنين، ثم لا يقبل خبر كل واحد منهما إلا برجلين آخرين, إلى أن ينتهي إلى زماننا كما نقله عنه الغزالي في المستصفى ومنع خبر العدل الواحد. قال في المحصول: إلا إذا عضده ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد, أو يكون منتشرًا, ورده المصنف بقبول الصحابة خبر الواحد من غير إنكار كقبولهم خبر عائشة في التقاء الختانين وخبر الصديق في قوله -عليه الصلاة والسلام: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون"، وفي قوله: "الأئمة من قريش" وفي قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" ورجوعهم إلى كتابه في معرفة نصب الزكوات, وكقبول عمر من عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب, ونظائره كثيرة واستدل الجبائي بأن الصحابة طلبوا العدد في وقائع كثيرة ولم يقتصروا على خبر الواحد, فمنها أن أبا بكر لم يعمل بخبر المغيرة في توريث الجدة إلى أن أخبره بذلك محمد بن مسلمة, ومنها أن أبا بكر وعمر لم يقبلا خبر عثمان -رضي الله عنهم- فيما رواه من إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه، ومنها أن عمر رد خبر أبي موسى في الاستئذان وهو قوله: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثا فلم يؤذن له, فلينصرف" 1 حتى رواه معه أبو سعيد الخدري، إلى غير ذلك من الوقائع، والجواب أنهم إنما طلبوا العدد عند التهمة والريبة في صحة الرواية؛ لنسيان أو غيره، وهذا هو الجمع بين قبولهم تارة وردهم أخرى. قوله: "الخامس" أي: الوصف الخامس فقه الراوي، وهذا الوصف شرطه أبو حنيفة إذا كان الخبر مخالفا للقياس؛ لأن العمل بخبر الواحد على خلاف الدليل، خالفناه إذا كان الراوي فقيها لحصول الوثوق بقوله, فيبقى فيما عداه

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه "8/ 67"، والإمام أحمد في مسنده "4/ 403"، والهندي في كنز العمال "25204".

على الأصل، ورد ذلك بأن عدالة الراوي تغلب على الظن صدقه، والعمل بالظن واجب. "فروع" من المحصول أحدها: لا يتوقف الأخذ بالحديث على انتفاء الغرابة المقتضية لرد الشهادة، ولا على معرفة نسب الراوي، وعلمه بالعربية أو كونه عربيا أو ذكرا أو بصيرا. الثاني: إذا أكثر من الروايات قلة مخالطته لأهل الحديث، فإن أمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان قبلت، وإلا فلا. الثالث: إذا لم يعرف نسبه وكان له اسمان وهو بأحدهما أشهر، جازت الرواية عنه، فإن كنت مترددا بينهما وهو بأحدهما مجروح والآخر معدل فلا. الرابع: زعم أكثر الحنفية أن الأصل إذا رد الحديث سقط الاستدلال به مطلقا، والمختار أنه إن كان قول الفرع أقوى في الإثبات من قول الأصل، كما إذا كان الفرع جازما، والأصل غير جازم, فإنه يقبل سواء استوى الاحتمالان اللذان عند الأصل أم لا، وإن كان الأقوى هو كلام الأصل، أو كانا سواء فالأمر كما قالوا. قال: "وأما الثاني فإن لا يخالفه قاطع ولا يقبل التأويل، ولا يضره مخالفة القياس، وما لم يكن قطعي المقدمات، بل يقدم لقلة مقدماته, وحمل الأكثر والراوي". أقول: لما تقدم في أول الفصل أن العمل بخبر الواحد له شروط بعضها في المخبر وبعضها في المخبر عنه وبعضها في الخبر، وذكر شرط الأول وهو المعتبر, شرع الآن في شرط الثاني وهو المخبر عنه، وحاصله أن خبر الواحد لا يجوز التمسك به إذا عارضه دليل قاطع أي: دليل لا يحتمل التأويل بوجه, سواء كان نقليا أو عقليا لانعقاد الإجماع على تقديم المقطوع به على المظنون، اللهم إلا إذا كان الخبر قابلا للتأويل, فإنا نؤوله جمعا بين الأدلة وإليه أشار بقوله: ولا يقبل التأويل وهو جملة خالية من المفعول، وهو الهاء في: يخالفه ويقع في بعض النسخ إسقاط الواو، ومع ذلك فالجملة عائدة إلى المفعول أيضا، فإنه الصواب الموافق لتقرير أصليه وهما: الحاصل والمحصول. قوله: "ولا يضره" أي: لا يضر خبر الواحد مخالفته لثلاثة أمور، الأول: القياس وتقريره أنه إذا تعارض القياس وخبر الواحد فإن أمكن تخصيص الخبر بالقياس فقد تقدم في العموم أنه يجوز، وإن أمكن العكس فسيأتي في القياس أنه يجوز أيضا، وإن تنافيا من كل وجه نظرنا في مقدمات القياس، وهي ثبوت حكم الأصل, وكونه معللا بالعلة الفلانية، وحصول تلك العلة في الفرع وانتفاء المانع، فإن كانت ثابتة بدليل قطعي قدمنا القياس على خبر الواحد، ولم يستدل عليه المصنف لوضوحه, وإن لم تكن قطعية بأن كانت هي أو بعضها ظنية فإنه يقدم خبر الواحد على الصحيح, ونص عليه الشافعي في مواضع ونقله عنه الإمام, وقال مالك: يقدم القياس، وقال القاضي بالوقف وهذا الخلاف خصصه في المحصول بما إذا كان البعض قطعيا والبعض ظنيا وعممه بعضهم, ثم استدل المصنف على تقديم الخبر بأن مقدماته أقل من مقدمات القياس؛ لأن الخبر يجتهد فيه في العدالة وكيفية الرواية، وأما القياس ففي الأمور المتقدمة كلها وإذا كانت مقدماته أقل, كأن تطرق الخلل إليه أقل

فقدم لامتيازه عليه بهذا، ومساواته له في الظن. قوله: "وعمل الأكثر" أشار به إلى الأمر الثاني من الأمور الثلاثة المتقدمة، وهو مجرور عطفا على القياس، أي: لا يضره مخالفة القياس ولا مخالفة عمل الأكثرين؛ لأن الأكثرين ليسوا بحجة لكونهم بعض الأمة. قوله: "والراوي" أشار به إلى الأمر الثالث، وهو أيضا مجرور عطفا على القياس أيضا، وحاصله: أن عمل الراوي على خلاف ما رواه لا يكون قدحا في ذلك الحديث، كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي واختاره هو وأتباعه والآمدي، ونقل في المعالم عن الأكثرين أنه يقدح، وقد تقدمت المسألة مبسوطة والاستدلال عليها في أثناء الخصوص. "فروع" حكاها في المحصول أحدها: خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول, خلافا للحنفية. لنا قبول الصحابة خبر عائشة -رضي الله عنها- في التقاء الختانين، ولأن الخصم قد قبل أخبار الآحاد في القيء والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب الوتر مع عموم البلوى فيها. الثاني: قال الشافعي رضي الله عنه: لا يجب عرض خبر الواحد على الكتاب، وقال عيسى بن أبان: يجب. الثالث مذهبنا: أن الأصل في الصحابة العدالة إلا عند ظهور المعارض، وهذا الذي صححه نقله ابن الحاجب عن الأكثرين، وأراد بالمعارض وقوع أحدهم في كبيرة, كما وقع لماعز من الزنا, ولسارق رداء صفوان, وغيرهما. "فرعان" حكاهما ابن الحاجب: الصحابي من رآه صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو عنه ولم تطل مدته, ولو قال عدل معاصر النبي صلى الله عليه وسلم: أنا صحابي, احتمل الخلاف. قال: "وأما الثالث ففيه مسائل, الأولى: لألفاظ الصحابي سبع درجات, الأولى: حدثني ونحوه. الثانية: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاحتمال التوسط. الثالثة: أمر لاحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرا والعموم والخصوص والدوام واللا دوام. الرابعة: أمرنا وهو حجة عند الشافعي -رضي الله عنه؛ لأن من طاوع أميرا، إذا قاله فهم منه أمره, ولأن غرضه بيان الشرع. الخامسة: من السنة. السادسة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقيل: للتوسط. السابعة: كنا نفعل في عهده". أقول: لما تقدم في أول الفصل أن خبر الواحد له شروط, بعضها في المخبر وبعضها في المخبر عنه وبعضها في الخبر، وتقدم ذكر القسمين الأولين، شرع في الثالث وهو الخبر, فذكر فيه خمس مسائل, الأولى: في بيان ألفاظ الصحابي ومراتبها، وإلى النوعين أشار بقوله: سبع درجات, الدرجة الأولى: أن يقول: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو شافهني، أو أنبأني، أو أخبرني, أو سمعته يقول، ونحو ذلك. الثانية: أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما كانت دون الأولى لاحتمال أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم واسطة، لكنه لما كان الظاهر إنما هو المشافهة قلنا: إنه حجة. فقوله: لاحتمال التوسط تعليل لكونه أحط درجة مما قبله. واعتبر القاضي أبو بكر هذا الاحتمال فقال: إن الصحابة كلهم عدول قلنا: إنه حجة وإلا فلا. الثانية: أن يقول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا، وإنما كانت دون الثانية لاشتراكها معها في احتمال التوسط، واختصاصها باحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرا، وأيضا فليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل، أو البعض دائما, أو غير دائم,

فربما اعتقد شيئا ليس مطابقا, فقوله: لاحتمال كذا تعليل لكونه دون الثانية في الدرجة. ولأجل هذا الاحتمال توقف الإمام في المسألة وضعف صاحب الحاصل كونه حجة، ولما كان الظاهر من حال الراوي أنه لا يطلق هذا اللفظ إلا إذا تيقن المراد، ذهب الأكثرون إلى أنه حجة كما نقله الآمدي واختاره. قال الإمام: ولا بد أن يضم إليه قوله -عليه الصلاة والسلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". الرابعة: أن يبني الصيغة للمفعول: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا أو أوجب أو حرم, وهي حجة عند الشافعي والأكثرين واختاره الآمدي وأتباعه لأمرين, أحدهما: أن من طاوع أميرا إذا قال: أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الأمير. الثاني: أن غرض الصحابي بيان الشرع فيحمل على من تصدر منه الشرع دون الخلفاء, ولولاه حينئذ فلا يجوز أن يكون صادرا من الله تعالى؛ لأن أمره ظاهر لكل أحد لا يتوقف على أخبار الصحابي, ولا صادرا عن الإجماع؛ لأن الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه فتعين كونه من الأخبار وهو المدعي، وإنما كانت هذه الدرجة دون ما قبلها لمساواتها لها في الاحتمالات السابقة مع زيادة ما قلناه. الخامسة: أن يقول من السنة فيجب حمله على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويحتج به كما اختاره الإمام والآمدي وأتباعهما للدليلين السابقين وهما: المطاوعة وتبيين الشرع. وقد نص عليه الشافعي في الأم فقال: باب في عدد كفن الميت بعد ذكر ابن عباس والضحاك ما نصه، قال الشافعي: وابن عباس والضحاك بن قيس رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولان السنة إلا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، هذا لفظه بحروفه, وذكر بعده بقليل مثله, ورأيت في شرح مختصر المزني للداودي في كتاب الجنايات عكس ذلك فقال في باب أسنان إبل: الخطأ أن الشافعي في القديم كان يرى أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي, ثم رجع عنه؛ لأنهم قد يطلقونه، يريدون به سنة البلد والنقل. والأول أرجح لكونه منصوصا عليه في القديم والجديد معا, وهذه الدرجة دون ما قبلها لكثرة استعمالالسنة في الطريقة. الدرجة السادسة ولم يذكرها الآمدي ولا ابن الحاجب: أن يقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حمله على التوسط مذهبان في المحصول والحاصل من غير ترجيح, أصحهما عند المصنف: حمله على السماع وصححه ابن الصلاح وغيره من المحدثين. وهذه المرتبة دون ما قبلهالكثرة استعمالها في التوسط. السابعة: أن يقول: كنا نفعل في عهده -عليه الصلاة والسلام- فهوحجة على الصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما. ثم اختلفوا في المدرك فعلله الإمام وأتباعه بأن غرض الراوي بيان الشرع وذلك يتوقف على علم النبي صلى الله عليه وسلم به وعدم إنكاره، وعلله الآمدي ومن تبعه بأن ذلك ظاهر في قول كل الأمة, فألحقه الأولون بالسنة, والثاني بالإجماع، وينبني على المدركين ما أشار إليه الغزالي في المستصفى وهو الاحتجاج به إذا كان القائل تابعيا. وكلام المصنف يقتضي أن الاحتجاج به متوقف على تقييده بعهد الرسول

فيقول: كنا نفعل في عهده, وهو الذي جزم به ابن الصلاح1, لكنه خلاف طريقة الإمام والآمدي, ولهذا مثلوه بقول عائشة: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه، وهذه الدرجة دون ما قبلها للاحتمالات السابقة. قال في المحصول: وإذا قال الصحابي قولا ليس للاجتهاد فيه مجال فهو محمول على السماع تحسبا للظن به وقد قدم الكلام على الصحابي. قال: "الثانية: لغير الصحابي أن يروي إذا سمع من الشيخ أو قرأ عليه ويقول له: هل سمعت؟ فقال: نعم, أو أشار أو سكت وظن إجابته عند المحدثين أو كتب الشيخ أو قال: سمعت ما في هذا الكتاب، أو يجيز له". أقول: هذه المسألة معقودة لرواية غير الصحابي، وقد جعلها في المحصول مشتملة على بيان مستندها وذكر مراتبها وكيفية ألفاظها. فأما المستند فقد ذكره المصنف وهو سبعة أمور, أما بيان المراتب فقد أشار إليه بالترتيب, فقدم في اللفظ ما صرح الإمام بتقديمه في المرتبة إلا الخامس, فإن الإمام جعله في المرتبة الثالثة, وأما كيفية اللفظ فلم يتعرض له وسنذكره إن شاء الله تعالى على ما ذكره في المحصول. المستند الأول من مستندات الرواية: أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ, ثم إن قصد إسماعه وحده أو مع غيره فله أن يقول: حدثني وأخبرني, أو حدثنا وأخبرنا وإلا فلا يقولهما بل يقول: قال فلان كذا أو أخبر أو أحدث أو سمعته يقول أو يحدث أو يخبر. الثاني: أن يقرأ على الشيخ ويقول له بعد القراءة أو قبلها: هل سمعته؟ فيقول: نعم, أو الأمر كما قرئ عليّ ونحو ذلك, فحينئذ فيجوز للراوي أن يقول هنا أيضا: حدثني أو أخبرني أو سمعته كما قال في المحصول2. وإنما كان هذا النوع دون الأول لاحتمال الذهول والغفلة. الثالث: أن يقرأ على الشيخ ويقول له: هل سمعته؟ فيشير الشيخ إما برأسه أو بإصبعه إلى أنه قرأه, فيقوم ذلك مقام التصريح في الرواية ووجوب العمل إلا أنه لا يقول: حدثني ولا أخبرني ولا سمعت كذا, قال في المحصول: وفيه نزاع يأتي. الرابع: أن يقرأ عليه ويقول له: هل سمعته؟ فيسكت, وغلب على ظن القارئ أن سكوته إجابة, واتفقوا إلا بعض أهل الظاهر على وجوب العمل بهذا, وعلى جواز روايته بقوله: أخبرنا وحدثنا قراءة عليه. وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحو ذلك كسمعت فهي محل الخلاف الذي أشار إليه المصنف، تبعا للإمام كما حرره الآمدي في الأحكام فافهمه. فقال المحدثون والفقهاء: يجوز وصححه ابن الحاجب ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة. وقال المتكلمون: لا يجوز, وصححه الآمدي تبعا للغزالي وإذا كان

_ 1 ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن "صلاح الدين" بن عثمان بن موسى بن أبي النضر النصري الشهرزوري الكردي الشرخاني, أبو عمر، تقي الدين المعروف بابن الصلاح، أحد الفضلاء المقدمين في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال, له معرفة علوم الحديث والأمالي والفتاوى وغيرها، توفي سنة "643هـ"، "الأعلام 4/ 207". 2 انظر المحصول، ص221، جـ2.

مذهب الشافعي الجواز في هذه الصورة, لزم منه الجواز فيما قبلها بطريق الأولى. قال في المحصول: وهذا الخلاف يجري فيما لو قال القارئ للشيخ بعد القراءة: أرويه عنك؟ فقال: نعم, وحكم قراءة غيره عليه كحكم قراءته في الأحوال المذكورة كما قاله ابن الحاجب وغيره, واعلم أن تصوير هذه المسألة مع الاستفهام مخالف لتصوير المحصول والحاصل, فإنهما صوراها بما إذا جزم القارئ فقال: حدثك ولا شك أن السكوت على هذا لو لم يكن صحيحا لكان تقريرا على الكذب, بخلاف السكوت عند الاستفهام, فلا يلزم من جواز الرواية هنا جوازها هنا مع الاستفهام. الخامس, وقد تقدم أن الإمام جعله في المرتبة الثالثة: أن يكتب الشيخ فيقول: حدثنا فلان ويذكر الحديث إلى آخره, فحكمه الخطاب في العمل والرواية، إذا علم أو ظن أنه الخط؛ لأنه لا يقول: سمعته ولا حدثني بل أخبرني قال الآمدي، ولا يرويه إلا بتسليط من الشيخ كقوله: فاروه عني أو أجزت روايته. السادس: أن يشير الشيخ إلى كتاب فيقول: سمعت ما في هذا الكتاب من فلان أو هذا مسموعي منه أو قرأته عليه, فيجوز للسامع أن يرويه عنه سواء ناوله الكتاب أم لا, خلافا لبعض المحدثين, وسواء قال: اروه عني أم لا, كما له أن يشهد على شهادته إذا سمعه يؤديها عند الحاكم، ويؤخذ ذلك كله من إطلاق المصنف، ومقتضى كلام الآمدي اشتراط الإذن في الرواية. وهذا الطريق يعرف بالمناولة فيقول الراوي: ناولني أو أخبرني أو حدثني مناولة, وفي إطلاقها مذهبان, ولا يجوز له أن يروي عن غير تلك النسخة إلا إذا أمن الاختلاف. السابع: أن يجيز الشيخ فيقول: أجزت لك أن تروي عني ما صحّ من مسموعاتي أو مؤلفاتي أو كتاب كذا قال الآمدي: وقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة, فمنعه أبو حنيفة وأبو يوسف، وجوزه أصحاب الشافعي وأكثر المحدثين، فعلى هذا يقول: أجاز لي فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة. قال: وفي إطلاق حدثني وأخبرني مذهبان، الأظهر وعليه الأكثر أنه لا يجوز, وصححه ابن الصلاح أيضا. ونقل عن الشافعي قولان في جواز الرواية بالإجازة, ومقتضى كلام المصنف صحة الإجازة لجميع الأئمة الموجودين, أو لمن يوجد من نسل فلان، وفيهما خلاف, رجح ابن الحاجب في الأولى أنه يجوز، ولم يرجح في الثانية شيئا وصحح ابن الصلاح في الثانية أنه لا يجوز, ولم يصحح في الأولى شيئا، قال: واختلفوا في جواز الإجازة للصبي الذي لم يميز وجواز الإجازة بما لم يتحمله المجيز ليرويه المجاز, إن اتفق أن المجيز تحمل ثم صحح الجواز في الأولى والمنع في الثانية. قال الآمدي: وإذا غلب على ظنه الرواية فيجوز له روايته والعمل به عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد خلافا لأبي حنيفة. فإن قيل: أهمل المصنف الوجادة, وهي أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها، فإنه يجب على الواقف عليها أن يعمل بها إذا حصلت الثقة بقوله, وإن لم يكن له من الكاتب رواية كما نقله ابن الصلاح عن الشافعي -رضي الله عنه- وصححه, قلنا: إنما أهملها

لأنه تكلم في أسباب الرواية لا في أسباب العمل, وليس له أن يروي: هذا حدثنا ولا أخبرنا مطلقا ولا مقيدا، قال ابن الصلاح: لكن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان: حدثنا فلان، ويسوق السند والمتن. قال: "الثالثة: لا تقبل المراسيل خلافا لأبي حنيفة ومالك -رضي الله عنهما، لنا أن عدالة الأصل لم تعلم فلا تقبل, قيل: الرواية تعديل قلنا: قد يروي عن غير العدل قيل: إسناده إلى الرسول يقتضي الصدق, قلنا: بل السماع قيل: الصحابة أرسلوا وقبلت, قلنا: لظن السماع". أقول: لم يتعرض الإمام ولا أتباعه لتفسير المرسل، وهو في اصطلاح جمهور المحدثين عبارة عن أن يترك التابعي ذكر الواسطة بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسمي بذلك لكونه أرسل الحديث أي: أطلقه ولم يذكر من سمعه منه، فإن سقط قبل الصحابي واحد فيسمى منقطعا, وإن كان أكثر فيسمى معضلا ومنقطعا، وأما في اصطلاح الأصوليين فهو قول العدل الذي لم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا فسره الآمدي، وذكر ابن الحاجب وغيره نحوه أيضا وهو أعم من تفسير المحدثين، وقد اختلفوا في قبوله؛ فذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى المنع منه إلا مسائل ستعرفها، واختاره الإمام والمصنف ونقله ابن الصلاح عن جمهور المحدثين وذهب الجمهور من المعتزلة كما قاله في المحصول إلى قبوله ونقله الآمدي عن الأئمة الثلاثة، واختاره حتى بالغ بعضهم فجعله أقوى من المسند؛ لأنه إذا أسنده فقد وكل أمره إلى الناظر ولم يلتزم صحته. وذهب ابن الحاجب إلى قبوله من أئمة النقل دون غيرهم, وذهب عيسى بن أبان إلى قبول مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة النقل مطلقا. قوله: "لنا" أي: الدليل على ردها: أن قبول الخبر مشروط بمعرفة عدالة الراوي، كما تقدم بيانه وعدالة الأصل في المرسل لم تعلم؛ لأن معرفتها فرع من معرفة اسمه, فإذا لم نعلمه تعين رده. تمسك الخصم بثلاثة أوجه؛ الأولان اعتراض على ما قلناه، والثالث دليل على مدعاه, أحدها: أن رواية العدل عن الأصل المسكوت عنه تعديل له؛ لأنه لو روى عمن ليس بعدل ولم يبين حالهلكان ملبسا غاشّا, قلنا: لا نسلم, فإن العدل قد يروي عن غير العدل أيضا؛ ولهذا لو سئل الراوي عن عدالة الأصل لجاز أن يتوقف, قال في المحصول: وقد يظن عدالته فيروي عنه وليس بعدل عند غيره. الثاني: أن إسناد الحديث المرسل إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقتضي صدقه؛ لأن إسناد الكذب ينافي العدالة, وإذا ثبت صدقه تعين قبوله. قلنا: لا نسلم أن إسناده يقتضي صدقه بل إنما يقتضي أن يكون قد سمع غيره يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك الغير لا يعلم كذبه بل يعلم صدقه أو يجهل حاله. الثالث: أن الصحابة أرسلوا أحاديث كثيرة أي: لم يصرحوا فيها بسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم, بل قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأجمع الناس على قبولها. قلنا: إنما قبلت لأنه يغلب على الظن أن الصحابي سمعها من النبي -صلى الله عليه وسلم- والعمل بالظن واجب. قال في المحصول: فإذا بين الصحابي بعد ذلك أنه كان مرسلا وسمى الأصل الذي رواه عنه

وجب قبوله أيضا. قال: وليس في الحالتين دليل على العمل بالمرسل, وحاصل هذا الجواب منع كون ذلك من المرسل, وأنه لا يقبل إذا تيقنا أن الصحابي لم يسمعه كما أن مرسل غير الصحابي لا يقبل أيضا. وهذا موافق لكلامه أولا؛ فإنه أطلق عدم قبول المرسل، ولم يفصل بين الصحابي وغيره فافهم ذلك كله واجتنب غيره. واختلف المانعون من قبول مراسيل الصحابة، مع أن المروي عنه صحابي مثله والصحابة عدول فقال بعضهم: لاحتمال روايته له عن التابعين، وقال القرافي: لاحتمال روايته عن صحابي قام به مانع, كماعز وسارق رداء صفوان. قال: "فرعان: الأول: المرسل، يقبل إذا تأكد بقول الصحابي أو فتوى أكثر أهل العلم. الثاني: إن أرسل ثم أسند قُبِل, وقيل: لا؛ لأن إهماله يدل على الضعف". أقول: المرسل إذا تأكد بشيء بحيث يغلب على الظن صدقه فإنه يقبل، ويحصل ذلك بأمور، منها أن يكون من مراسيل الصحابة أو أسنده غير مرسله، وإن لم تقم الحجة بإسناده لكونه ضعيفا كما صرح به في المحصول, أو أرسله راوٍ آخر يروي من غير شيوخ الأول, أو عضده قولصحابي, أو قول أكثر أهل العلم أو عرف من حال الذي أرسله أنه لا يرسله إلا عمن يقبل قوله كمراسيل سعيد، وهذه الستة نص عليها الشافعي، وممن نقلها عنه الآمدي وكذا الإمام، ما عدا الأول، وزاد غيرهما على هذه الستة القياس أيضا. واقتصار المصنف على شيئين فقط لا معنى له، ومخالف لأصليه: الحاصل والمحصول, فإن قيل: ما فائدة قبوله والأخذ به إذا تأكد بقياس أو بمسند آخر صحيح, مع أن القياس والمسند كافيان في إثبات الحكم؟ قلنا: فائدته في الترجيح عند تعارض الأحاديث, فإن أحد الحديثين المقبولين يرجح على الآخر، إذا عضده قياس أو حديث آخر مقبول, وقد اعتقد ابن الحاجب أن هذا السؤال لا جواب له وليس كذلك لما قلناه. قوله: "الثاني ... إلخ" اعلم أن الراوي إذا أرسل حديثا مرة ثم أسند أخرى، أو وقفه على الصحابي ثم رفعه, فلا إشكال في قبوله، وبه جزم الإمام وأتباعه. وأما إذا كان الراوي من شأنه إرسال الأحاديث إذا رواها, فاتفق أن روى حديثا مسندا, ففي قبوله مذهبان في المحصول والحاصل من غير ترجيح، وهذه هي مسألة الكتاب فافهم ذلك, وأرجحهما عند المصنف قبوله لوجود شرطه, وعلى هذا قال الشافعي كما قال في المحصول1: لا أقبل شيئا من حديثه إلا إذا قال فيه: حدثني أو سمعت, دون غيرهما من الألفاظ الموهمة. وقال بعض المحدثين: لا يقبل إلا إذا قال: سمعت خاصة. والمذهب الثاني: لا يقبل؛ لأن إهماله لاسم الرواة يدل على علمه بضعفهم, إذ لو علم عدالتهم لصرح بهم، ولا شك أن تركه للراوي مع علمه بضعفه خيانة وغش، فإنه إيقاع في العمل بما ليس صحيحا, وإذا كان خائنا لم تقبل روايتهمطلقا، هذا حاصل ما قاله

_ 1 انظر المحصول، ص225، جـ2.

الإمام, وجوابه أن ترك الراوي قد يكون لنسيان اسمه أو لإيثار الاختصار، وذكر في المحصول بعد هذه المسألة أن الراوي إذا سمى الأصل باسم لا يعرف به فهو كالمرسل، وذكر إمام الحرمين مثله فإنه قال: وقول الراوي: أخبرني رجل أو عدل موثوق به من المرسل أيضا. قال: وكذلك كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يسم حاملها. قال: "الرابعة: يجوز نقل الحديث بالمعنى خلافا لابن سيرين, لنا أن الترجمة بالفارسية جائزة فبالعربية أولى. قيل: يؤدي إلى طمس الحديث، قلنا: لما تطابقا لم يكن ذلك". أقول: اختلفوا في جواز نقل حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى أي: بلفظ آخر غير لفظه, فجوزه الأكثرون واختاره الإمام والآمدي وأتباعهما ونص عليه الشافعي وممن نقله عنه صاحب المحصول, وقال ابن سيرين وجماعة: لا يجوز، وغلط صاحب التحصيل في اختصاره للمحصول, فعزاه للشافعي وحكى الآمدي وابن الحاجب قولا: إنه إن كان اللفظ مرادفا جاز وإلا فلا, فإن جوزناه فشرطه أن يكون الفرع مساويا للأصل في إفادة المعنى من غير زيادة ولا نقصان، وأن يكون مساويا في الجلاء والخفاء؛ لأنه لو أبدل الجلي بالخفي أو عكسه لأحدث حكما لم يكن وهو التقديم أو التأخير عند التعارض، لما ستعرفه في القياس أن الجلاء من جملة المرجحات، وعلله في المحصول بأن الخطاب يقع بالمتشابه وبالمحكم لأسرار استأثر الله تعالى بعلها فلا يجوز تغييرها, ومراعاة هذه الشروط موقوفة على العلم بمدلولات الألفاظ, فإذا كان الشخص غير عالم بها فلا يجوز أن يروي بالمعنى، وكلام الآمدي يقتضي إثبات خلاف فيه, فإنه نقل المنع عن الأكثرين. قوله: "لنا" أي: الدليل على جواز الرواية بالمعنى أنه يجوز أن يترجم الأحاديث أي: يشرحها بالفارسية أو غيرها لتعلم الأحكام فلأن يجوز بالعربية أولى؛ لأن ذلك أقرب وأقل تفاوتا وفيه نظر؛ لأن الترجمة جوزت للضرورة وليس ذلك مما يتعلق به اجتهاد واستنباط أحكام, بل هو من قبيل الإفتاء بخلاف الرواية بالمعنى, والأولى الاستدلال بأن الصحابة كانوا ينقلون الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة, وبأنهم ما كانوا يكتبون الأحاديث ولا يكررون عليها بل يروونها بعد أزمان طويلة على حسب الحاجة وذلك موجب لنسيان اللفظ قطعا. احتج الخصم بأن نقل الحديث بالمعنى يؤدي إلى طمسه أي: محو معناه واندراسه كما قال الجوهري فيلزم أن لا يجوز, وبيانه: أن الراوي إذا أراد النقل بالمعنى فغايته أن يجتهد في طلب ألفاظ توافق ألفاظ الحديث في المعنى, والعلماء مختلفون في معاني الألفاظ وفهم دقائقها, فيجوز أن يغفل عن بعض الدقائق وينقله بلفظ آخر لا يدل على تلك الدقيقة, ثم يفرض ذلك في الطبقة الثانية والثالثة وهلم جرا, وحينئذ فيكون التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بينه وبين الأول مناسبة. وأجاب المصنف بأن الكلام في نقله بلفظ مطابق له وعند تطابقاللفظين لا يقع التفاوت قطعا. قال: "الخامسة: إذا زاد أحد الرواة وتعدد المجلس قبلت الزيادة. وكذا إن اتحد وجاز الذهول على الآخرين ولم

بغير إعراب الباقي، وإن لم يجز الذهول لم تقبل, وإن غيّر الإعراب مثل: "في كل أربعين شاة شاة" أو " نصف شاة" طلب الترجيح, فإن زاد مرة وحذف أخرى فالاعتبار بكثرة المرات". أقول: إذا روى اثنان فصاعدا حديثا وانفرد أحدهم بزيادة لم يروها الآخر، نظر فإن كان مجلس راوي الزيادة غير مجلس الممسك عنها فلا إشكال في قبولها, وإن كان المجلس واحدا نظرنا في الذين لا يرون الزيادة فإن كانوا عددا كثيرا لا يجوز في العادة ذهولهم عما ضبطه الواحد رددناها, وإن جاز عليهم الذهول, فإن كانت الزيادة تغير إعراب الباقي كما إذا روى: "في أربعين شاة شاة" وروى الآخر: "نصف شاة" فيتعارضان ويقدم الراجح منهما؛ لأن أحدهما يروي ضد ما يرويه الآخر إذ الرفع ضد الجر, وإن لم يتغير الإعراب قبلت خلافا لأبي حنيفة؛ لأن الراوي عدل ثقة جازم بالرواية فوجب قبولها كما لو انفرد بنقل حديث, ويحمل الحال على أن يكون الممسك عن الزيادة قد دخل في أثناء المجلس, أو على أنه ممن يرى نقل بعض الحديث, أو على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك الحديث في ذلك المجلس مرتين ولم يحضر في مرة الزيادة، ومثال ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في: "زكاة الفطر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" 1 فإن التقييد بالمسلمين انفرد به مالك؛ ولذلك لم يشترط أبو حنيفة الإسلام في العبد المخرج عنه, وسكت المصنف عما إذا لم يعلم هل تعدد المجلس أواتخذ؟ قال في الأحكام: الحكم فيه على ما ذكرناه عند الاتحاد وأولى بالقبول؛ نظرا إلى احتمال التعدد وهذا التفصيل الذي ذكره في الكتاب اختاره الآمدي فقط, فإن ابن الحاجب لم يذكر تغير الإعراب وصرح بعدم اشتراطه أبو عبد الله البصري كما نقله عنه الإمام وغيره، وأما الإمام فشرط في القبول مع ما قلناه أن لا يكون الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها, وأن لا يصرح بنفيها, فإن صرح بنفيها فقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- وقف على قوله: "ذكر أو أنثى" ولم يأت بعده بكلام آخر مع انتظاري له فإنهما يتعارضان. ونص الشافعي -رحمه الله- على قبول الزيادة من غير تعرض لهذا الشرط, وممن نقله عنه كذلك إمام الحرمين في البرهان وفصل بعضهم فقال: إن كان راوي الزيادة واحدا والساكت عنها أيضا واحدا قُبلت، وإن كان الساكت جماعة فلا. واختار الأنباري شارح البرهان أن الراوي إن اشتهر بنقل الزيادات في وقائع فلا تقبل روايته؛ لأنه متهم وإن كان على سبيل الشذوذ قبلت. قال ابن الحاجب: وإذا أسند الحديث وأرسلوه أو رفعه, ووقفوه أو وصله وقطعوه, فحكمه حكم الزيادة في التفصيل السابق. قوله: "فإن زاد" يعني: أن الراوي الواحد إذا زاد في الحديث مرة وحذف أخرى أي: والحال كما تقدم من اتحاد المجلس والإعراب كما صرح به في المحصول, فالاعتبار بكثرة المرات؛ لأن الأكثر أبعد عن السهو، إلا أن

_ 1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 80"، والدارقطني في سننه "1/ 150", والهندي في كنزالعمال "24126"، والإمام أحمد في مسنده "2/ 277".

يقول الراوي: سهوت فيها ثم تذكرت, فتأخذ بالأقل, فإن تساويا أخذنا بالزيادة كما قاله في المحصول؛ لأن السهو في نسيان ما سمع أكثر من إثبات ما لم يسمع. "فرعان" أحدهما: إذا سمع خبرا فأراد نقل بعضه وحذف البعض, فإن لم يكن المحذوف متعلقا بالمذكور كقوله -عليه الصلاة والسلام: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم, ويسعى بذمتهم أدناهم" 1 جاز الحذف كما نقله ابن الحاجب عن الأكثرين. وقال الآمدي: إنه لا يعرف فيه خلاف، وإن كان متعلقا به بأن وقع غاية أو سببا أو شرطا فلا يجوز, وذلك كنهيه عن بيع الطعام حتى يجوزه التجار إلى رحالهم. ونقل إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي كلاما صريحا في منع القسم الثاني وظاهرا في جواز الأول. الثاني: اختلفوا في الاحتجاج بالقراءة الشاذة وهي التي لم تنقل بالتواتر؛ فاختار الآمدي وابن الحاجب أنه لا يحتج بها، ونقله الآمدي عن الشافعي, وقال في البرهان: إنه ظاهر مذهب الشافعي؛ لأن الراوي لم ينقلها خبرا، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وخالف أبو حنيفة فذهب إلى الاحتجاج بها وبنى عليه وجوب التتابع في كفارة اليمين؛ لقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات".

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 995"، وابن حجر في فتح الباري "4/ 85".

الكتاب الثالث: في الإجماع

الكتاب الثالث: في الإجماع الباب الأول: في بيان كونه حجة قال: "الكتاب الثالث: في الإجماع, وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على أمر من الأمور، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في بيان كونه حجة, وفيه مسائل: الأولى: قيل: محال كاجتماع الناس في وقت واحد على مأكول واحد, وأجيب بأن الدواعي مختلفة ثمة، وقيل: يتعذر عليه لانتشارهم, وجواز خفاء واحد منهم وخموله وكذبه خوفا، أو رجوعه قبل فتوى الآخر. وأجيب بأنه لا يتعذر في أيام الصحابة, فإنهم كانوا محصورين قليلين". أقول: الإجماع يطلق في اللغة على العزم, قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71] أي: أعزموا وعلى الاتفاق يقال: أجمعوا على كذا أي: اتفقوا عليه, مأخوذا مما حكاه أبو علي الفارسي في الإيضاح أنه يقال: أجمعوا بمعنى صاروا إذا جمع كقولهم: أبقل المكان وأثمر أي: صار ذا بقل وثمر, وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف، وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور. فقوله: اتفاق جنس والمراد به الاشتراك في الاعتقاد والقول أو الفعل أو ما في معناهما من التقرير والسكوت عند من يقول: إن ذلك كافٍ في الإجماع. وقوله: أهل الحل والعقد أي: المجتهدين, فخرج بذلك اتفاق العوام واتفاق بعض المجتهدين, فإنه ليس بإجماع. وقوله: من أمة محمد, احترز به عن اتفاق المجتهدين من الأمم السالفة فإنه ليس بإجماع أيضا كما اقتضاه كلام الإمام وصرح به الآمدي هنا ونقله في اللمع عن الأكثرين. وذهب أبو إسحاق الإسفرائيني وجماعة إلى أن إجماعهم قبل نسخ ملتهم حجة, وحكى الآمدي هذا الخلاف في آخر الإجماع، واختار التوقف، وقوله: على أمر من الأمور, شامل الشرعيات كحل البيع "واللغويات

ككون" الشرعيات كحله البيع، واللغويات ككون الفاء للتعقيب، وللعقليات كحدوث العالم وللدنيويات كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية. فالأولان لا نزاع فيهما، وأما الثالث فنازع فيه إمام الحرمين في البرهان فقال: ولا أثر للإجماع في العقليات, فإن المتبع فيها الأدلة القاطعة, فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق, والمعروف الأول وبه جزم الإمام والآمدي. وأما الرابع ففيه مذهبان شهيران أصحهما عند الإمام والآمدي وأتباعهما كابن الحاجب: وجوب العمل فيه بالإجماع, ولقصد شمول الأربعة أردف المصنف الأمر بالأمور, فإن الأمر المجموع على الأوامر مختص بالقول بخلاف المجموع على الأمور, وذا وإن كان مجازا في الحد لكنه جائز عند فهم المراد كما نص عليه الغزالي في مقدمة المستصفى وهذا الحد فيه نظر من وجوه أحدها: ما أورده الآمدي وابن الحاجب وهو عدم تقييده بكون أهل الحل والعقد من عصر واحد ولا بد منه. الثاني: أن هذا الحد منطبق على اتفاق الأمة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بدونه مع أنه قد تقدم من كلام المصنف في النسخ في الكلام على أن الإجماع لا ينسخ, ولا ينسخ به أن الإجماع لا ينعقد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد؛ لكونه بعض الأمة وإن وافقهم كان قوله هو الحجة لاستقلاله بإفادة الحكم. نعم الصواب انعقاد الإجماع في الصورة التي ذكرناها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهد لأمته بالعصمة كما سيأتي في الأدلة, بل لو شهد بذلك الواحد من أمته لكان قوله وحده حجة قطعا ولم يتعرض الآمدي ولا ابن الحاجب لهذه المسألة. الثالث: المحدود إنما هو الإجماع الاصطلاحي المتناول لقول المجتهد الواحد, إذا لم يكن في العصر غيره, فإن الإمام وأتباعه صرحوا بكونه حجة وتعبير المصنف بالاتفاق ينفيه, فإن الاتفاق إنما يكون من اثنين فصاعدا. نعم حكى الآمدي وابن الحاجب في الاحتجاج به قولين من غير ترجيح, وإذا قلنا بالأول فتغير اجتهاده, ففي الأخذ بالثاني نظر يحتاج إلى تأمل وكذلك لو حدث مجتهد آخر وأداه اجتهاده إلى خلافه. واعلم أن البحث في الإجماع يقع في ثلاثة أمور في: حجيته وأنواعه وشرائطه, فلذلك جعل المصنف هذا الكتاب مشتملا على ثلاثة أبواب لبيان الأمور الثلاثة, وبدأ بالكلام على كونه حجة لكن الاحتجاج به متوقف على بيان إمكانه وإمكان الاطلاع عليه, فلذلك قدم الكلام فيهما, فقوله: قيل محال ... إلخ يعني أن بعضهم ذهب إلى أن الإجماع محال؛ لأن اجتماع الجم الغفير والخلق الكثير على حكم واحد مع اختلاف قرائحهم, يمتنع عادة كما يمتنع اجتماعهم في وقت واحد على مأكول واحد, وجوابه أن دواعي الناس مختلفة ثمة أي: في المأكول لاختلافهم في الشهوة والمزاج والطبع؛ فلذلك يمتنع اجتماعهم عليه بخلاف الحكم, فإنه تابع للدليل فلا يمتنع اجتماعهم عليه لوجود دليل قاطع أو ظاهر. قوله: "وقيل: يتعذر" أي: ذهب بعضهم إلى أن الإجماع ليس محالا, ولكنه يتعذر الوقوف عليه؛ لأن الوقوف عليه إنما يمكن بعد معرفة أعيانهم, ومعرفة ما غلب على

ظنهم ومعرفة اجتماعهم عليه في وقت واحد, والوقوف على الثلاثة معتذر. أما الأول فلانتشارهم شرقا وغربا, ولجواز خفاء واحد منهم بأن يكون أسيرا أو محبوسا أو مطمورا أو منقطعا في جبل؛ ولأنه يجوز أن يكون فيهم من هو خامل الذكر لا يعرف أنه من المجتهدين, وأما الثاني فلاحتمال أن بعضهم يكذب فيفتي على خلاف اعتقاده؛ خوفا من سلطان جائر أو مجتهد ذي منصب أفتى بخلافه، وأما الثالث فلاحتمال رجوع أحدهم قبل فتوى الآخر. ولأجل هذه الاحتمالات قال الإمام أحمد -رضي الله عنه: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وأجاب المصنف -رحمه الله- بأن الوقوف عليه يتعذر في أيام الصحابة -رضوان الله عليهم- فإنهم كانوا قليلين محصورين ومجتمعين في الحجاز، ومن خرج منهم بعد فتح البلاد وكان معروفا في موضعه، وهذا الجواب ذكره الإمام فقال: والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفته إلا في زمان الصحابة، وعلل بما قلناه. نعم ولو فرضنا حصول الإجماع من غير الصحابة، فالأصح عند الإمام والآمدي وغيرهما أنه يكون حجة, وقال أهل الظاهر: لا يحتج إلا بإجماع الصحابة وهو رواية لأحمد. قال: "الثانية: أنه حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج, لنا وجوه: الأول: أنه تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد, حيث قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الآية فيكون محرما فيجب اتباع سبيلهم, إذ لا مخرج عنهما. قيل: رتب الوعيد على الكل قلنا: بل على كل واحد وإلا لما ذكر المخالفة قيل: الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف, قلنا: لا وإن سلم لم يضر؛ لأن الهدى دليل التوحيد والنبوة قيل: لا يوجب تحريم كل ما غاير قلنا: يقتضي لجواز الاستثناء، قيل: السبيل دليل المجمعين قلنا: حمله على الإجماع أولى لعمومه قيل: يجب اتباعهم فيما ساروا به مؤمنين قلنا: حينئذ تكون المخالفة المشاقة قيل: يترك الاتباع رأسا، قلنا: الترك غير سبيلهم, قيل: لا يجب اتباعهم في فعل المباح قلنا: كاتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- قيل: المجمعون أثبتوا بالدليل قلنا: خص النص فيه قيل: كل المؤمنين الموجودين إلى يوم القيامة قلنا: بل في كل عصر؛ لأن المقصود العمل ولا عمل في القيامة". أقول: ذهب الجمهور إلى أن الإجماع حجة يجب العمل به, خلافا للنظام والشيعة والخوارج, فإنه وإن نقل عنهم ما يقتضي الموافقة لكنهم عند التحقيق مخالفون. أما النظام فإنه لم يفسر الإجماع باتفاق المجتهدين كما قلنا, بل قال كما نقله عنه الآمدي: إن الإجماع هو كل قول يحتج به. وأما الشيعة فإنهم يقولون: إن الإجماع حجة لا لكونه إجماعا بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم وقوله: بانفراده عندهم حجة كما سيأتي في كلام المصنف. وأما الخوارج فقالوا كما نقله القرافي في الملخص: إن إجماع الصحابة حجة قبل حدوث الفرقة, وأما بعدها فقالوا: الحجة في إجماع طائفتهم لا غير؛ لأن العبرة بقول المؤمنين ولا مؤمن عندهم إلا من كان على مذهبهم. وكلام المصنف تبعا للإمام يقتضي أن النظام يسلم إمكان الإجماع

وإنما يخالف في حجيته, والمذكور في الأوسط لابن برهان ومختصر ابن الحاجب وغيرهما أنه يقول باستحالته. قوله: "لنا" أي: الدليل على كونه حجة من ثلاثة أوجه, الأول وقد تمسك به الشافعي في الرسالة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ووجه الدلالة أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} فيلزم أنيكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرما؛ لأنه لو لم يكن حراما لما جمع بينه وبين المحرم الذي هو المشاقة في الوعيد, فإنه لا يحسن الجمع بين حرام وحلال في وعيد بأن تقول مثلا: إن زنيت وشربت الماء عاقبتك، وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتباع سبيلهم؛ لأنه لا مخرج عنهما أي: لا واسطة بينهما، ويلزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع حجة؛ لأن سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد. قوله: "قيل: رتب الوعيد ... إلخ" أي: اعترض الخصم بتسعة أوجه, أحدها: أن الله تعالى رتب الوعيد على الكل أي: على المجموع المركب من المشاقة, واتباع غير سبيل المؤمنين, فيكون المجموع هو المحرم، ولا يلزم من تحريم المجموع تحريم كل واحد من أجزائه كتحريم الأختين. والجواب: أنا لا نسلم أنه رتب الوعيد على الكل بل على كل واحد, إذ لو لم يكن مرتبا على كل واحد لكان ذكر مخالفة المؤمنين يعني: اتباع غير سبيلهم لغوا لا فائدة له؛ لأن المشاقة مستقلة في ترتب الوعيد وكلام الله سبحانه وتعالى يصان عن اللغو، وهذا الجواب ليس في المحصول، ولا في الحاصل وهو أولى مما قالاه. الثاني: سلمنا أن الوعيد مرتب على كل واحد منهما, لكن لانسلم تحريم اتباع غير سبيلهم مطلقا بل بشرط تبين الهدى، فإن تبين الهدى شرط في المعطوف عليه، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} والشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف؛ لكونه في حكمه، والهدى عام لاقترانه بال فيكون حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين متوقفة على تبين جميع أنواع الهدى، ومن جملة أنواع الهدى دليل الحكم الذي أجمعوا عليه وإذا تبين استغني به عن الإجماع، فلا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة. وأجاب المصنف -رحمه الله- بوجهين أحدهما: لا نسلم أن كل ما كان شرطا في المعطوف عليه يكون شرطا في المعطوف, بل العطف إنما يقتضي التشريك في مقتضى العامل إعرابا ومدلولا كما تقدم غير مرة. الثاني: سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف لكن لا يضرنا ذلك, فإنه لا نزاع في أن الهدى المشروط في تحريم المشاقة إنما هو دليل التوحيد والنبوة لا أدلة الأحكام الفرعية، فيكون هذا الهدى شرطا في اتباع غير سبيل المؤمنين, ونحن نسلمه. الاعتراض الثالث: سلمنا أن قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يوجب تحريم المخالفة، لكن لفظ {غَيْرَ} و {سَبِيلِ} مفردان, والمفرد لا عموم له فلا يوجب ذلك تحريم كل ما غاير سبيلهم، بل يصدق

بصورة وهو الكفر ونحوه مما لا خلاف فيه. والجواب: أنه يقتضي العموم لما فيه من الإضافة ويدل عليه أنه يصح الاستثناء منه فيقال: إلا سبيل كذا والاستثناء معيار العموم. واعلم أن إضافة {غَيْرَ} ليست للتعريف على المشهور, وفي التعميم بمثلها نظر يحتاج إلى تأمل، فقد يقال: إن هذه الإضافة لا تقتضيه، ويكون العموم تابعا للتعريف كما كان الإطلاق تابعا للتنكير، وكما لو زيدت لام التعريف في الجمع من الجموع, فإنها لا تقتضي التعميم لعدم التعريف. الرابع: لا نسلم أن السبيل هو قول أهل الإجماع بل دليل الإجماع، وبيانه: أن السبيل لغة هو الطريق الذي يمشى فيه, وقد تعذرت إرادته هنا فتعين الحمل على المجاز، وهو إما قول أهل الإجماع, أو الدليل الذي لأجله أجمعوا، والثاني أولى لقدم العلاقة بينه وبين الطريق، وهو كون كل واحد منهما موصلا إلى المقصد. وأجاب المصنف بأن السبيل أيضا يطلق على الإجماع؛ لأن أهل اللغة يطلقونه على ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو فعل, ومنه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] وإذا كان كذلك فحمله على الإجماع أولى لعموم فائدته, فإن الإجماع يعمل به المجتهد والمقلد، وأما الدليل فلا يعمل به سوى المجتهد، وهذا الجواب ذكره صاحب الحاصل فتبعه المصنف، وهو أحسن مما قاله الإمام. وفي كثير من النسخ التي اعتمد عليها جمع من الشارحين, جواب غير هذا وهو أنه يلزم منه أن تكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة؛ لأن دليل الإجماع هو الكتاب والسنة, وهذا الجواب سيأتي في كلام المصنف جوابا عن سؤال آخر, لكن على تقدير آخر, فسقط ذلك السؤال مع جواب السؤال الذي نحن الآن فيه. الخامس: لا نسلم أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين في كل شيء, بل في السبيل الذي صاروا به مؤمنين، ويدل عليه أن الآية الكريمة نزلت في رجل ارتدّ ولأنه إذا قيل: لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من ترك الأسباب التي بها صاروا صالحين دون غيرها، كالأكل والشرب، وأجاب المصنف بأنه يلزم حينئذ أن تكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة فإنه لا معنى لمشاقة الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلا ترك الإيمان، وسمي بذلك لأنه في شق أي: في جانب، والرسول صلى الله عليه وسلم في جانب آخر. فلو حمل على هذا للزم التكرار. السادس: سلمنا تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين, لكن لا نسلم وجوب اتباع سبيلهم، وقولهم: إنه لا مخرج عنها ممنوع, فإن بينهما واسطة وهي أن يترك الاتباع أصلا ورأسا، فلا يتبع سبيل المؤمنين ولا سبيل غيرهم، والجواب: أن ترك الاتباع بالكلية غير سبيلهم أيضا فمن اختاره لنفسه قفد اتبع غير سبيلهم، وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل وفيه نظر؛ فإن اتباع الغير هو إثباته بمثل فعله لكونه أتى به, فمن ترك اتباع سبيل المؤمنين لأجل أن غير المؤمنين تركوه كان متبعا غير سبيل المؤمنين, وأما عن تركه لعدم الدليل على اتباع المؤمنين فلا يكون متبعا لأحد، وحينئذ فلا يدخل تحت الوعيد، وأجاب الإمام بجواب آخر وهو

أن قول القائل: لا تتبع غير سبيل الصالحين لا يفهم منه في العرف سوى الأمر باتباع سبيل الصالحين حتى لو قال: لا تتبع غير سبيلهم ولا تتبع سبيلهم أيضا, لكان ركيكا, نعلم لو أخر لفظة الغير فقال: لا تتبع سبيل غير الصالحين, فإنه لا يفهم منه الأمر باتباع سبيلهم؛ ولهذا يصح النهي عنه أيضا. السابع: سلمنا وجوب الاتباع, لكنه لا يجب في كل الأمور؛ لأنهم لو أجمعوا على فعل مباح لا يجب متابعتهم على فعله, وإلا لكان المباح واجبا وإذا لم يجب اتباعهم في الكل لم يلزم اتباعهم فيما أجمعوا عليه؛ لجواز أن يكون المراد هو الإيمان أو غيره مما اتفقنا عليه. وأجاب المصنف بقوله: قلنا: كاتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل وتقريره من وجهين, أحدهما: أن اتباعهم في المباح أيضا واجب, ومعنى وجوبه هو ما قلناه في وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المباح، وهو اعتقاد إباحته وأن يفعله على جهة الإباحة لا على جهة أخرى. الثاني: أن قيام الدليل على وجوب اتباعهم في كل الأمور كقيام الدليل على وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها, فكما أن المباح قد أخرج من عموم التأسي لدليل ولم يقدح في الدلالة على الباقي, فكذلك الأول. والثامن: لا نسلم أيضا أن المتابعة تجب في كل الأمور؛ وذلك لأن المجتمعين إنما أثبتوا الحكم المجمع عليه بالدليل لا بإجماعهم، لما ستعرفه من أن الإجماع موقوف على الدليل، وحينئذ فنقول: إن وجب علينا إثبات ذلك الحكم بإجماعهم لا بالدليل, كان ذلك اتباعا لغير سبيلهم وهو لا يجوز، وإن وجب إثباته بالدليل لم يكن الإجماع بنفسه دليلا مستقلا وهو خلاف المدعي، وأيضا فإنكم لا تقولون بوجوب إثباته بالدليل، وأجاب المصنف بأن اتباعهم واجب في كل شيء إلا ما خص بدليل، وهذه الصورة قد خصت بالاتفاق؛ لأن الحكم قد ثبت بإجماعهم، وإذا ثبت فلا يحتاج في إثباته إلى دليل آخر. التاسع: سلمنا ما قلتم, لكن الآية تدل على وجوب اتباع سبيل كل المؤمنين؛ لأن لفظ {الْمُؤْمِنِينَ} جمع محلى بالألف واللام, فيفيد العموم وكل المؤمنين هم الموجودون إلى يوم القيامة، فلا يكون إجماع أهل العصر الواحد حجة لكونهم بعض الأمة. وأجاب المصنف بأن المراد بالمؤمنين هم الموجودون في كل عصر, فإن الله تعالى لما علق العقاب على مخالفتهم زجرا عنها وترغيبا في الأخذ بقولهم, علمنا أن المقصود هو العمل, فانتفى أن يكون المراد جميع المؤمنين الموجودين إلى يوم القيامة؛ لأنه لا عمل في يوم القيامة. قال: "الثاني: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] عدلهم فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا, كبيرة وصغيرة, بخلاف تعديلنا قيل: العدالة فعل العبد والوسط فعل الله تعالى. قلنا: فعل العبد فعل الله تعالى على مذهبنا قيل: عدول وقت أداء الشهادة. قلنا: حينئذ لا مزية لهم فإن الكل يكونون كذلك. الثالث: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ" ونظائره, فإنها وإن لم تتواتر آحادها لكن المشترك بينها متواتر, والشيعة عدلوا عليه لاشتماله على قول الإمام المعصوم". أقول: الدليل الثاني على أن

الإجماع حجة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وتقريره أن الله تعالى عدل هذه الأمة؛ لأنه تعالى جعلهم وسطا وقد قال الجوهري: والوسط من كل شيء أعدله، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدولا هذا لفظه, ولأنه تعالى علل ذلك بكونهم شهداء والشاهد لا بد وأن يكون عدلا. وهذا التعديل الحاصل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها بالضرورة لكون نفيه عن واحد مستلزما لنفيه عن المجموع, لكنه ليس المراد تعديلهم فيما ينفرد به كل واحد منهم؛ لأنا نسلم بالضرورة خلافه فتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه, وحينئذ فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا, صغيرة وكبيرة؛ لأن الله تعالى يعلم السر والعلانية، فلا يعدلهم من ارتكابهم بعض المعاصي، بخلاف تعديلنا فإنه قد لا يكون كذلك لعدم اطلاعنا عن الباطن. واعترض الخصم بوجهين أحدهما: أن العدالة فعل العبد؛ لأنها عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المنهيات, والوسط فعل الله تعالى لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فيكون الوسط غير العدالة, فلا يكون جعلهم وسطا عبارة عن تعديلهم, وكيف والمعدل لا يجعل الرجل عدلا ولكن يخبر عن عدالته، وجوابه أن فعل العبد من أفعال الله تعالى على مذهب أهل الحق لما تقرر في علم الكلام أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. الثاني: سلمنا أن الله تعالى عدلهم, لكن تعديلهم ليشهدوا على الناس يوم القيامة بأن الأنبياء بلغوهم الرسالة, وعدالة الشهود إنما تعتبر وقت أداء الشهادة لا قبلها, فتكون الأمة عدولا في الآخرة لا في الدنيا ونحن نسلمه, والجواب أن سياق الآية يدل على تخصيص هذه الأمة بالتعديل وتفضيلهم على غيرها، فيتعين حمله على الدنيا؛ لأنا لو حملناه على الآخرة لم يكن لهم مزية لأن كل الأمم إذ ذاك عدول، وفي الجواب نظر لأن الله تعالى قد أخبر عن بعض أهل الموقف بإنكار المعاصي وإنكار التبليغ إليهم, بل الجواب أن يقول: العدالة لا تتحقق إلا مع التكليف، ولا تكليف في الدار الآخرة, ويؤيده قوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ} ولم يقل: سنجعلكم. نعم لقائل أن يقول: إن الآية لا تدل على المدعي؛ لأن العدالة لا تنافي صدور الباطل غلطا ونسيانا، سلمنا أن كل ما أجمعوا عليه حق لكن لا يلزم المجتهد أن يتبع كل ما كان حقا في نفسه بدليل أن المجتهد لا يتبع مجتهدا آخر وإن قلنا: كل مجتهد مصيب. قوله: "الثالث" أي: الدليل الثالث على أن الإجماع حجة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" ونظيره من الأحاديث كقوله: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" 1 وكقوله: "سألت الله تعالى أن لا تجتمع أمتي على الضلالة, فأعطانيها" 2 وكقوله: "لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال" وروي: "ولا على خطأ" وكقوله: "يد الله مع الجماعة" 3 إلى غير ذلك, فإن هذه الأحاديث وإن لم

_ 1 أخرجه العجلوني في كشف الخفاء "2/ 488"، والسيوطي في الدرر المنتثرة "180". 2 أخرجه أحمد في مسنده "6/ 396"، والسيوطي في الدر المنثور "3/ 18". 3 أخرجه الترمذي "2166"، والهندي في كنز العمال "20241".

يتواتر كل واحد منهما, لكن القدر المشترك بينهما وهو عصمة الأمة متواتر لوجوده في هذه الأخبار الكثيرة. وهذا الدليل ساقط في كثير من النسخ، وادعى الآمدي أنه أقرب الطرق في إثبات كونه حجة قاطعة، وقال ابن الحاجب: الاستدلال به حسن, وضعفه الإمام فقال: دعوى التواتر المعنوي بعيد؛ لأنا لا نسلم أن مجموع هذه الأخبار بلغ حد التواتر فما الدليل عليه؟ وبتقديره فهو إنما يفيد الظهور؛ لأن القدر المشترك الثابت بالقطع إنما هو الثناء على الأمة, ولم يلزم منه امتناع الخطأ عليهم, فإن التصريح بامتناعه لم يرد في كل الأحاديث، وقد تلخص أن الأدلة التي قالها المصنف إنما يحسن الاستدلال بها إذا قلنا: إن الإجماع ظني كما صححه الإمام وأتباعه، واقتضاه كلام الآمدي, ولكن الأكثرون على أنه قطعي. قوله: "والشيعة عوَّلوا عليه" يعني: أن الشيعة ذهبوا إلى أنه يجب أن يكون في كل زمان إمام يأمر الناس بالطاعات ويردعهم عن المعاصي, وذلك الإمام لا بد أن يكون معصوما وإلا لافتقر إلى إمام آخر ولزم التسلسل، وإذا كان الإمام معصوما كان الإجماع حجة لاشتماله على قوله؛ لأنه رأس الأمة ورئيسها لا لكونه إجماعا, وجوابه: أن ذلك مبني على وجوب مراعاة المصالح سلمنا لكن الردع إنما يحصل بنصب إمام ظاهر قاهر, وهم يجوزون أن يكون خفيا خاملا ويجوزون عليه الكذب أيضا خوفا وتقية, وذلك كله ينافي المطلوب وهذه المسألة محلها علم الكلام؛ فلذلك لم يشتغل المصنف بالجواب عنها. قال: "الثالثة: قال مالك -رضي الله عنه: إجماع أهل المدينة حجة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة لتنفي خبثها" 1 وهو ضعيف. الرابعة: قال الشيعة: إجماع العترة حجة لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32] وهم: علي وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم؛ لأنها لما نزلت لف عليه الصلاة والسلام عليهم كساء وقال: "هؤلاء أهل بيتي" 2 ولقوله -عليه الصلاة والسلام: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله, وعترتي" 3. أقول: ذهب الإمام مالك إلى أن إجماع أهل المدينة حجة أي: إذا كانوا من الصحابة أو التابعين دون غيرهم, كما نبه عليه ابن الحاجب، قال: واختلفوا في المراد من كونه حجة؛ فمنهم من قال: المراد أن روايتهم راجحة على رواية غيرهم؛ لكونهم أخبر بأحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنهم من قال: المراد أن إجماعهم حجة في المنقولات المشتهرة خاصة، كالأذان والإقامة والصاع والمدّ دون غيرها، ورجحه القرافي في تنقيحه قال: والصحيح التعميم في هذا وفي غيره؛ لأن العادة تقضي بأن

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج "487"، وأحمد في مسنده "3/ 306"، والهندي في كنز العمال "38136". 2 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه "10/ 278"، والسيوطي في الدر المنثور "5/ 198"، وابن كثير في البداية والنهاية "6/ 153". 3 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "9/ 163"، والهندي في كنز العمال "873"، والإمام أحمد في مسنده "3/ 14".

مثل هؤلاء لا يجتمعون إلا على دليل راجح, واستدل عليه الإمام وأتباعه بقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة لتنفي خبثها" "ووجه الاستدلال" أن الحديث قد دل على انتفاء الخبث عن المدينة والخطأ خبث, فيجب أن يكون منفيا عن أهلها فإنه لو كان في أهلها لكان فيها، وإذا انتفى عنهم الخطأ كان إجماعهم حجة. قوله: "وهو ضعيف" أي: الاستدلال بالحديث لا الحديث نفسه, فإنه ثابت في الصحيحين وإن كان بغير هذا اللفظ, وأقرب لفظ إليه ما رواه البخاري: "إنما المدينة كالكير, تنفي خبثها وينصع طيبها" وقد ضعف ابن الحاجب الاستدلال بهذا الحديث أيضا ولم يبين ما ضعفه, ووجهه أن الحمل على الخطأ متعذر لمشاهدة وقوعه من أهلها. قال إمام الحرمين: ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتيها من المخازي لقضى العجب، وأيضا فلا نسلم أن الخطأ خبث لأن الخطأ معفو عنه والخبث منهي عنه, ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام: "الكلب خبيث, وخبيث ثمنه" وكقوله: "مهر البغي خبيث" ونحوه, فيكون أحدهما غير الآخر. وقد انتصر في المحصول لمالك وقوى هذا الدليل وقال: إن مذهبه فيه ليس ببعيد، وذهب بعضهم كما حكاه الآمدي وغيره إلى أن إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة, والمصرين البصرة والكوفة حجة على غيرهم, وقيل: بل إجماع الكوفة والبصرة فقط حكاه الشيخ أبو إسحاق في اللمع، وقيل: إجماع الكوفة وحدها كما نقل حكاية عن ابن حزم، وقيل: إجماع الكوفة وحدها أو البصرة وحدها كما نقله بعض شراح المحصول. المسألة الرابعة: ذهبت الشيعة كالإمامية والزيدية إلى أن إجماع العترة حجة وأرادوا بالعترة عليا وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين وهي بالتاء المثناة واحتجوا بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ووجه الاستدلال أن الله تعالى أخبر عن نفي الرجس عن أهل البيت والخطأ رجس، فيكون منفيا عنهم، وإذا كان الخطأ منفيا عنهم كان إجماعهم حجة، وأهل البيت هم: علي وفاطمة وابناهما -رضي الله عنهم- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لف عليهم كساء لما نزلت هذه الآية وقال: "هؤلاء أهل بيتي" وأيضا فقد نقله ابن عطية في تفسيره1 عن الجمهور. وأما السنة فقوله -عليه الصلاة والسلام: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله, وعترتي" فإنه كما دل على أن الكتاب حجة, دل على أن قول العترة حجة, ولم يشتغل المصنف بالجواب عما ذكروه، فنقول: الجواب عن الآية أنا لا نسلم انتفاء الرجس في الدنيا لجواز أن يكون المراد به نفي العذاب في الآخرة, سلمنا لكن لا نسلم أن الخطأ رجس, سلمنا لكن المراد بأهل البيت هؤلاء مع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن ما قبل الآية وما

_ 1 ابن عطية: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي, من محارب قيس، الغرناطي، أبو محمد، مفسر وفقيه، أندلسي، عارف بالأحكام والحديث, وتوفي في بلورقة عام "481هـ"، وله المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز, في عشرة مجلدات "الأعلام 3/ 282".

بعدها يدل عليه. وأما ما قبلها فقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32] إلى قوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأما ما بعدها فقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية, وحينئذ فليس في الآية دليل على أن إجماع العترة وحدهم حجة. والجواب عن الحديث ما قاله في المحصول: إنه من باب الآحاد والعمل بها عندهم ممتنع. قال: "الخامسة: قال القاضي أبو حازم: إجماع الخلفاء الأربعة حجة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" 1 وقيل: إجماع الشيخين لقوله -صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" 2 والسادسة: يستدل بالإجماع فيما لا يتوقف عليه كحدوث العالم ووحدة الصانع لا كإثباته". أقول: ذهب القاضي أبو حازم والإمام أحمد كما نقله عنه ابن الحاجب إلى أن إجماع الخلفاء الأربعة, يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا -رضي الله عنهم- حجة مع خلاف غيرهم؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود وكذا الترمذي وصححه هو والحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين, لكن الرواية: "فعليكم" وهو من جملة حديث طويل. ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين كما أمر باتباع سنته, والخلفاء الراشدون هم الخلفاء الأربعة المذكورون لقوله -عليه الصلاة والسلام: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة, ثم تصير ملكا عضوضا " 3 وكانت مدة خلافتهم ثلاثين سنة, فثبت المدعي وأبو خازم -بالخاء المعجمة والزاي- من الحنفية, تولى القضاء في خلافة المعتضد, ولأجل مذهبه لم يعتد بخلاف زيد في توريث ذوي الأرحام وحكم برد أموال حصلت في بيت المعتضد وقبل المعتضد فتياه, وأنفذ قضاءه, وكتب إلى الآفاق وذهب بعضهم إلى أن إجماع الشيخين أبي بكر وعمر حجة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" رواه الترمذي وقال: حديث حسن. والجواب عن الحديثين أن المراد منهما بيان أهليتهم لاتباع المقلدين لهم لا أن إجماعهم حجة، وبأنهما معارضان بنحو قوله عليه الصلاة والسلام: "خذوا شطر دينكم عن الحميراء" 4 يعني عائشة -رضي الله عنها- مع أن قولها ليس بحجة. المسألة السادسة: في بيان ما يثبت بالإجماع وما لا يثبت به، فنقول: كل شيء لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به, يجوز أن

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "4/ 126، 127"، والمنذري في الترغيب والترهيب "1/ 78"، وأبو داود في سننه، كتاب السنة باب "5". 2 أخرجه ابن ماجه في سننه "97"، وأحمد في المسند "5/ 382"، والهيثمي في مجمع الزوائد "9/ 53"، والهندي في كنز العمال "3656"، "36853". 3 أخرجه أبو داود بلفظ: "خلافة النبوة ثلاثون سنة" "3/ 3882". 4 أخرجه العجلوني في كشف الخفاء "1/ 449"، والسيوطي في الدرر المنتثرة "79"، والفتني في تذكرة الموضوعات "100".

يستدل عليه بالإجماع, سواء كان عقليا أو شرعيا أو لغويا أو دنيويا، وفي العقلي والدنيوي خلاف، وكل شيء يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به لا يصح أن يستدل عليه بالإجماع, فعلى هذا يستدل بالإجماع على حدوث العالم، وعلى كون الصانع -سبحانه وتعالى- واحدا؛ لأن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بهما؛ وذلك لأنا قبل العلم بهما يمكننا أن نعلم أن الإجماع حجة, بأن نعلم إثبات الصانع بإمكان العالم، وبحدوث الأعراض، ثم نعلم بإثبات الصانع صحة النبوة، ثم نعلم بصحة النبوة كون الإجماع حجة, ثم نعلم بالإجماع حدوث العالم ووحدة الصانع. قوله: "لا كإثباته" أي: لا يستدل بالإجماع على إثبات الصانع ولا على كونه متكلما ولا على إثبات النبوة, فإن العلم بكون الإجماع حجة مستفاد من الكتب والسنة, وصحة الاستدلال بهما موقوفة على وجود الصانع وعلى كونه متكلما وعلى النبوة، فلو أثبتنا هذه الأشياء بالإجماع لزم الدور؛ لأن ثبوت المدلول متوقف على ثبوت الدليل، ولقائل أن يقول: ثبوت الإجماع متوقف على العلم بوحدة الصانع بخلاف ما ذكره المصنف؛ لأن كون الإجماع حجة متوقف على وجوه المجمعين الذين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يصير الشخص منهم إلا بعد اعترافه بالشهادتين، وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع: إنه لا يعتد بالإجماع في حدوث العالم أيضا.

الباب الثاني: في أنواع الإجماع

الباب الثاني: في أنواع الإجماع قال: "الباب الثاني: في أنواع الإجماع وفيه مسائل: الأولى: إذا اختلفوا على قولين فهل لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ والحق أن الثالث إن لم يرفع مجمعا عليه جاز وإلا فلا, مثاله ما قيل في الجد مع الأخ: الميراث للجد وقيل: لهما فلا سبيل إلى حرمانه قيل: اتفقوا على عدم الثالث. قلنا: كان مشروطا بقدمه فزال بزواله قيل: وارد على الوجداني قلنا: لم يعتبر فيه إجماعا قبل إظهاره يستلزم تخطئة الأولين. وأجيب بأن المحذور هو التخطئة في واحد وفيه نظر". أقول: إذا تكلم المجتهدون جميعهم في مسألة واختلفوا فيها على قولين فهل لمن يأتي بعدهم من المجتهدين إحداث قول ثالث في تلك المسألة؟ فيه ثلاثة مذاهب كما أشار إليه المصنف, فالأكثرون على ما قاله الإمام, والآمدي منعه مطلقا, وجزم به في المعالم وأهل الظاهر جوزوه مطلقا, والحق عند الإمام وأتباعه, واختاره الآمدي وابن الحاجب أن الثالث إن لم يرفع شيئا مما أجمع عليه القائلان الأولان، وجاز "أحدثه" لأنه لا محذور فيه وإن رفعه, فلا يجوز لامتناع مخالفة الإجماع. مثال الأول: اختلافهم في جواز أكل المذبوح بلا تسمية فقال بعضهم: يحل مطلقا سواء كان الترك عمدا أو سهوا, وقال بعضهم: لا يحل مطلقا, فالتفصيل بين العمد والسهو ليس رافعا لشيء, وأجمع عليه القائلان الأولان بل هو موافق كل قسم منه لقائل، وأما الثاني فمثل له المصنف تبعا للإمام بالجد مع الإخوة فإن الأئمة اختلفوا فيه فقال بعضهم: المال كله للجد، وقال بعضهم: المال بينهما, فقد اتفق القولان على أن للجد شيئا من المال, فالقول بحرمانه وإعطاء المال كله للأخ قول ثالث رافع لما أجمع عليه الأولان فلا

يجوز، وهذا المثال فيه نظر، فإنه قد نقل عن ابن حزم في المحلى أنه حكى قولا: أن المال كله للأخ. قوله: "قيل: اتفقوا" أي: احتج المانعون مطلقا بوجهين أحدهما: أن أهل العصر الأول قد اتفقوا على عدم القول الثالث وعلى امتناع الأخذ به, فإنهم لما اختلفوا على قولين فقد أوجب كلا من الفريقين الأخذ إما بقوله أو بقول الآخر, وتجويز القول الثالث يرفع ذلك كله فكان باطلا. وأجاب المصنف بأن ذلك الاتفاق كان مشروطا بعدم القول الثالث, فإذا ظهر ذلك القول فقد زال الإجماع بزوال شرطه. واعترض الخصم على هذا الجواب فقال: لو صح ما ذكرتم لكان الإجماع على القول الواحد ليس بحجة؛ لأنه يمكن أن يقال فيه أيضا: وجوب الأخذ بالقول الذي أجمعوا عليه مشروط بعدم القول الثاني, فإذا وجد القول الثاني فقد زال ذلك الإجماع بزوال شرطه. وأجاب المصنف بأن هذا الاشتراط وإن كان ممكنا أيضا في الإجماع الوجداني أي: الإجماع على القول الواحد، لكنهم أجمعوا على عدم اعتباره فيه, فليس لنا أن نتحكم عليه بوجوب التسوية بين الإجماع الوجداني والإجماع على القولين. وهذا الجواب ذكره الإمام وأتباعه, واعترض عليه صاحب التلخيص بأن الاستدلال بإجماعهم على عدم اعتبار هذا الشرط إنما يعتبر بعد اعتبار الإجماع، فلو اعتبرنا الإجماع به للزم الدور. قوله: "قيل: إظهاره ... إلخ" هذا هو الاعتراض الثاني، وتقريره أن إظهار القول الثالث إنما يجوز إذا كان حقا؛ لأن الباطل لا يجوز القول به, والقول بكونه حقا يستلزم تخطئة الفريقين الأولين وتخطئتهما تخطئة لجميع الأمة وهو غير جائز. وأجاب المصنف بأن المحذور إنما هو تخطئتهم فيما أجمعوا فيه على قول واحد، وأما فيما اختلفوا فيه فلا؛ لأن غاية ذلك تخطئة بعضهم في أمر وتخطئة البعض الآخر في غير ذلك الأمر. قال المصنف: وفيه نظر، ولم ينبه على وجه النظر، وتوجيهه أن الأدلة المقتضية لعصمة الأمم عن الخطأ شاملة للصورتين والتخصيص لا دليل عليه، وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا مختصرو كلامه, بل أجابوا بأنا لا نسلم أن إظهار القول الثالث يستلزم تخطئة الفريقين الأولين، بناء على أن كل مجتهد مصيب، سلمنا أن المصيب واحد، لكن التمكن من إظهار الثالث لا يستلزم كونه حقا؛ لأنه يجوز للمجتهد أن يعمل بما ظنه حقا, وإن كان خطأ في نفس الأمر. وهذا الجواب فيه نظر؛ لإمكان جريانه في الإجماع الوجداني، وصورة هذه المسألة أن يتكلم المجتهدون جميعهم في المسألة، ويختلفوا فيها على قولين كما أشرنا إليه أولا، وصرح به الغزالي في المستصفى، وأما مجرد نقل القولين عن عصر من الأعصار فإنه لا يكون مانعا من إحداث الثالث؛ لأنا لا نعلم هل تكلم الجميع فيها أم لا؟ فافهمه ينحلّ به إشكالات أوردت على الشافعي في مسائل. قال: "الثانية: إذا لم يفصلوا بين مسألتين فهل لمن بعدهم الفصل؟ والحق: إن نصوا بعدم الفرق، أو اتحد الجامع كتوريث العمة والخالة, لم يجز لأنه رفع، فجمع عليه, وإلا جاز، وإلا يجب

على من ساعد مجتهدا في حكم مساعدته في جميع الأحكام. قيل: أجمعوا على الاتحاد قلنا: عين الدعوى. قيل: قال الثوري: الجماع ناسيا يفطر والأكل لا. قلنا: ليس بدليل". أقول: إذا لم يفصل المجتهدون بين مسألتين بل أجاب بعضهم فيها بالنفي وبعضهم بالإثبات, فهل لمن يأتي بعدهم من المجتهدين الفصل؟ فيه تفصيل سنذكره، وهذه المسألة قريبة في المعنى من التي قبلها, فإن التفصيل بينهما بعد إطلاق الفريقين إحداث لقول ثالث فيهما, ولأجل ذلك لم يفردها الآمدي ولا ابن الحاجب بل جعلاهما مسألة واحدة، وحكما عليها بالحكم السابق، ولكن الفرق بينهما أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا كان محل الحكم متعددا، وأما تلك ففيما إذا كان متحدا. وحاصل التفصيل الذي في هذه المسألة أنهم إن نصوا على أنه لا فرق بين المسألتين فلا يجوز الفصل، وإليه أشار بقوله: إن نصوا بعدم الفرق وعداه بالباء لتضمنه معنى: صرحوا، وهذا القسم لا نزاع فيه؛ ولهذا جزم به الإمام في المحصول، وقال في الحاصل: إنه لا سبيل إلى الخلاف فيه, وكلام الكتاب والمنتخب يقتضي إجراء الخلاف فيه، والقول به غير ممكن. وأما إذا لم ينصوا على عدم الفرق, ففيه ثلاثة مذاهب أشار إليها المصنف، أحدها: الجواز مطلقا، والثاني: المنع مطلقا، والثالث وهو المرجح في المنتخب والحاصل واختاره المصنف: أنه إن اتحد الجامع بين المسألتين فلا يجوز، كتوريث العمة والخالة فإن علة توريثهما أو عدم توريثهما كونهما من ذوي الأرحام, وكل من ورث واحدة أو منعها قال في الأخرى كذلك, فصار ذلك بمثابة قولهم: لا تفصلوا بينهما، وإن لم يتحد الجامع بينهما فيجوز كما إذا قال بعضهم: لا زكاة في مال الصبي ولا في الحلي المباح، وقال بعضهم بالوجوب فيهما فيجوز الفصل، واستدل المصنف عليه بقوله: وإلا وجب، أي: لو لم يجز الفصل لكان كل من ساعد مجتهدا في حكم أي: وافقه عليه, يجب عليه أن يساعده في جميع الأحكام وهو باطل اتفاقا، ووجه الملازمة أن امتناع التفصيل يقتضي موجبا، لا موجب سوى موافقة بعض المجتهدين في حكم إحدى المسألتين، واستدل المانعون مطلقا بأن فتوى بعضهم بالتحليل فيهما وبعضهم بالتحريم فيهما، إجماع على اتحاد الحكم فلا يجوز خلافه، وأجاب المصنف بقوله: قلنا: عين الدعوى أي: لا نسلم أن عدم التفصيل إجماع على اتحاد الحكم, فإنه عين النزاع بل نتبرع ونقول: لا يدل عليه؛ لأن عدم القول بالتفصيل غير القول بعدم التفصيل، أو معناه أنه لا محذور في مخالفة هذا الإجماع، فإن الواقع منهم ليس هو التنصيص على الاتحاد بل الاتحاد في فتواهم، ونحن لا نسلم أنه يمنع من الفصل, فإن ذلك أوان المسألة، وهذا الثاني هو جواب المحصول ولم يجب عنه في المنتخب بشيء، واحتج المجوزون مطلقا بأن الناس اختلفوا في تعاطي المفطرات نسيانا، ثم إن الثوري فصل بينهما مع اتحادهما في العلة، فقال: الجماع ناسيا يفطر بخلاف الأكل ناسيا، وأجاب المصنف بأن مذهب

الثوري1 ليس بحجة حتى يجوز التمسك به، بل يجوز أن يكون هو من المخالفين في هذه المسألة، ولم يجب الإمام ولا أتباعه عن هذا وكأنهم تركوه لوضوحه. قال: "الثالثة: يجوز الاتفاق بعد الاختلاف خلافا للصيرفي. لنا الإجماع على الخلافة بعد الاختلاف، وله ما سبق. الرابعة: الاتفاق على أحد قولي الأولين، كالاتفاق على حرمة بيع أم الولد، والمتعة إجماع خلافا لبعض الفقهاء والمتكلمين، لنا أنه سبيل المؤمنين, قيل: فإن تنازعتم أوجب الرد إلى الله تعالى قلنا: زال الشرط قيل: "أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" 2 قلنا: الخطاب مع العوام الذين في عصره, قيل: اختلافهم إجماع على التخيير, قلنا: ممنوع". أقول: هل يجوز اتفاق أهل العصر على الحكم بعد اختلافهم فيه, ينبني على أن انقراض العصر أي: موت المجمعين هل هو شرط في اعتبار الاجماع؟ فيه خلاف يأتي؛ فإن قلنا باعتبار موتهم فلا إشكال في جواز اتفاقهم بعد الاختلاف. وإن قلنا: إن موتهم لا يعتبر ففي جواز اتفاقهم مذاهب, أحدها: أنه ممتنع ونقله في البرهان عن القاضي ونقله المصنف تبعا للإمام عن الصيرفي. والثاني: يجوز, واختاره الإمام وأتباعه وابن الحاجب. والثالث: إن لم يستقر الخلاف جاز وإلا فلا، وهذا التفصيل هو مختار إمام الحرمين, فإنه قال بعد حكاية القولين الأولين: والرأي الحق عندنا كذا وكذا، واختاره أيضا الآمدي، وإذا قلنا بالجواز ففي الاحتجاج به مذهبان، اختار ابن الحاجب أنه يحتج به ونقله في البرهان عن معظم الأصوليين, واستدلال المصنف يقتضيه. "قولنا" أي: الدليل على الجواز إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر بعد اختلافهم فيها، ولك أن تقول: لا نسلم أن هذا الإجماع كان بعد استقرار الخلافة، وحينئذ فلا يطابق الدعوى؛ لأنهم أعم, سلمنا لكن الخلافة لا تتوقف على الإجماع، بل يجب الانتباه إليها بمجرد البيعة. قوله: "وله ما سبق" أي: وللصيرفي من الأدلة ما سبق في المسألة الأولى، وهو أن اختلاف الأمة على قولين إجماع على جواز الأخذ بكل منهما اجتهادا وتقليدا. فلو جاز الاتفاق بعد ذلك لكان يجب الأخذ بالقول الذي اتفقوا عليه، ويلزم من ذلك رفع الإجماع بالإجماع وهو باطل, وجوابه ما تقدم أيضا، وهو أن الإجماع على التغيير مشروط بعدم الاتفاق، فإذا اتفقوا فيزول بزوال شرطه. المسألة الرابعة: إذا اختلف أهل العصر على قولين ثم حدث بعدهم مجتهدون آخرون, فقال الإمام أحمد والأشعري وغيرهما: يستحيل اتفاقهم على أحد

_ 1 الثوري: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري, من بني ثور بن عبد مناة، من مضر، أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث، كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى، ولد ونشأ في الكوفة, وراوده المنصور العباسي على أن يلي الحكم فأبى وخرج من الكوفة سنة "144هـ" فسكن مكة والمدينة, وله من الكتب: الجامع الكبير والجامع الصغير في الحديث، وكتاب في الفرائض، ومن كلامه: ما حفظت شيئا فنسيته، توفي سنة "161هـ"، "الأعلام 3/ 104". 2 أخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 190"، وأخرجه أيضا في لسان الميزان "2/ 488"، والعجلوني في كشف الخفاء "1/ 147".

قولين، واختاره الآمدي. والصحيح عند الإمام وابن الحاجب وغيرهما إمكانه، ومثل له المصنف تبعا لابن الحاجب باتفاق العلماء على تحريم بيع أم الولد, مع أن عليا وابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن الزبير وابن عباس في رواية عنه وعمر بن عبد العزيز، كانوا يقولون بالجواز, وباتفاقهم أيضا على تحريم المتعة، يعني: تحريم نكاح المرأة إلى مدة, مع أن ابن عباس كان يفتي بالجواز، وفي المثالين نظر. وأما الأول فقال الآمدي: لا نسلم حصول الإجماع فيه؛ لأن الشيعة يقولون بالجواز, وأما الثاني فنقل الماوردي وغيره أن ابن عباس رجع فأفتى بالتحريم، فعلى هذا لا يكون مطابقا لهذه المسألة بل يكون مثالا للمسألة السابقة، وإذا قلنا بجواز الاتفاق بعد الاختلاف، فقال الإمام وأتباعه: يكون إجماعا محتجا به، واستدل عليه المصنف بأنه سبيل المؤمنين فيجب اتباعه لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الآية وقال بعض المتكلمين وبعض الفقهاء: لا أثر لهذا الإجماع، وهو مذهب الشافعي -رضي الله عنه- كما قال الغزالي في المنخول وابن برهان في الأوسط، وقال في البرهان: إن ميل الشافعي إليه قال: ومن عباراته الرشيقة في ذلك قوله: إنها المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولم يرجع ابن الحاجب شيئا مع ترجيحه أن الاتفاق إذا صدر من المختلفين يكون حجة كما قلناه عنه في المسألة السابقة، وسببه أن تلك المسألة ليس لغير المجتمعين فيها قول يخالف المجتمعين بخلاف هذه، ومن ثمرة الخلاف في هذه المسألة تنفيذ قضاء من حكم بصحة بيع أم الولد وسقوط الحد عن الواطئ في نكاح المتعة، وأخبرني بعض من أثق به أن قاضي المدينة أخبره أن بالمدينة مكانا موقوفا على نكاح المتعة ومستحما موقوفا على الاغتسال من وطئها. قوله: "قيل ... إلخ" أي: استدل القائلون بأنه ليس بإجماع بثلاثة أوجه الأول: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] والنزاع قد حصل, فوجب رده إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله, لا إلى الإجماع. وأجاب الإمام بوجهين أحدهما: أن الرد إلى الإجماع رد إلى الله ورسوله. الثاني: أن وجوب الرد إلى الله ورسوله مشروط بالتنازع وقد زال التنازع في العصر الثاني, فيزول وجوب الرد، واقتصر المصنف على هذا وفيه نظر، فإن الشرط إنما هو وجود التنازع، وقد وجد حصول الاتفاق بعد ذلك، ولا ينافي حصوله كما إذا قال لعبده: إن خالفتني فأنت حر, فخالفه ثم وافقه. الدليل الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" دل الحديث على حصول الاهتداء بالاقتداء بقول كل واحد منهم, سواء حصل بعد ذلك اتفاق أم لا، فلو أوجبنا الأخذ بما اتفق عليه أهل العصر الثاني للزم التقييد بحالة عدم الاتفاق، وهو خلاف الظاهر، وجوابه أن الخطاب مع العوام أي: المقلدين دون المجتهدين؛ لأن المجتهد لا يقلد المجتهد، ولأن قول الصحابي بحجة كما سيأتي، وهؤلاء العوام الذين خُوطبوا هم الموجودون في عصر الصحابة خاصة؛ لأن خطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعدهم، وحينئذٍ

فلا يكون الخطاب متناولا لخواص أهل العصر الثاني، لما قلناه أولا, ولا لعوامهم لما قلناه ثانيا. وإذا لم يكونوا مخاطبين به لم تبق فيه دلالة على هذه المسألة؛ لأن الكلام في اتفاق العصر الثاني، وفي الجواب نظر؛ لأن خطاب المشافهة يعم بأدلة خارجية وإلا لم يكونوا مأمورين الآن وهو باطل. وأيضا فالمسألة باقية بحالها في العوام المخاطبين. وذلك فيما إذا بلغوا رتبة الاجتهاد واتفقوا بعد انقراض أولئك, ولأجل ما قلناه لم يذكر الإمام ولا صاحب الحاصل هذا الجواب، بل أجابا بتخصيص الحديث. الثالث: أن اختلاف أهل العصر الأول على قولين مثلا إجماع منهم على التخيير، أي: جواز الأخذ بكل منها, فلو كان الاتفاق على أحدهما إجماعا مانعا من الأخذ بخلافه للزم تعارض الإجماعين. وأجاب المصنف بقوله: قلنا: ممنوع أي لا نسلم أن اختلافهم إجماع على التغيير, فإن كل واحد من الفريقين يعتقد خطأ الآخر, أو معناه: لا نسلم أن هذا الإجماع الذي على التخيير يعارضه الإجماع الآخر, وإنما يلزم ذلك أن لو لم يكن الإجماع الأول مشروطا بعدم الإجماع الثاني وليس كذلك بل هو مشروط بعدمه. فإذا وجد زال الأول لزوال شرطه، وهذا الجواب هو المذكور في المحصول والحاصل، وقد وقع التصريح به في بعض النسخ فقال: قلنا: زال بزوال شرطه. قال: "الخامسة: إذا اختلفوا فماتت إحدى الطائفتين يصير قول الباقين حجة؛ لكونه قول كل الأمة. السادسة: إذا قال البعض وسكت الباقون, فليس بإجماع ولا حجة. وقال أبو علي: إجماع بعضهم، وقال ابنه: هو حجة. لنا أنه ربما سكت لتوقف أو خوف أو تصويب كل مجتهد قيل: يتمسك بالقول المنتشر ما لم يعرف له مخالف, وجوابه المنع وأنه إثبات الشيء بنفسه. فرع: قول البعض فيما تعم به البلوى, ولم يسمع خلافه, كقول البعض وسكوت الباقين". أقول: إذا اختلف أهل العصر على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين أو ارتدّت كما قاله في المحصول1, فإنه يصير قول الباقين حجة لكونه قول كل الأمة, وهذا هو الذي جزم به الإمام وأتباعه, وصرحوا بكونه إجماعا أيضا، وهو يؤخذ من تعليل المصنف. وذكر ابن الحاجب هذه المسألة في أثناء اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول، وحكى عن الأكثرين أنه لا يكون إجماعا، وذكر الآمدي نحوه أيضا. المسألة السادسة: إذا قال بعض المجتهدين قولا وعرف به الباقون, فسكتوا عنه ولم ينكروا عليه, ففيه مذاهب أصحها عند الإمام: أنه لا يكون إجماعا ولا حجة لما سيأتي، ثم قال هو والآمدي: إنه مذهب الشافعي، وقال في البرهان: إنه ظاهر مذهب الشافعي، وقال الغزالي في المنخول: نص عليه الشافعي في الحديث, والثاني وهو مذهب أبي علي الجبائي: أنه إجماع بعد انقراض عصرهم؛ لأن استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف الاحتمال. والثالث: قال أبو هاشم بن أبي علي: إنه

_ 1 انظر المحصول، ص91، جـ2.

ليس بإجماع، لكنه حجة، وحكى في المحصول عن ابن أبي هريرة أنه إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة ولا فتعم. وحكى الآمدي عن الإمام أحمد وأكثر الحنفية أنه إجماع وحجة, واختار الآمدي أنه إجماع ظني يحتج به, وهو قريب من مذهب أبي هاشم، ووافقه ابن الحاجب في المختصر الكبير, وأما في المختصر الصغير فإنه جعل اختياره محصورا في أحد المذهبين، وهما القول بكونه إجماعا، والقول بكونه حجة، والذي ذكره الآمدي هنا محله قبل انقراض العصر, وأما بعد انقراضه فإنه يكون إجماعا على ما نبه عليه في مسألة انقراض العصر. واعلم أن الشافعي قد استدل على إثبات القياس وخبر الواحد بأن بعض الصحابة عمل به ولم يظهر من الباقين إنكار، فكان ذلك إجماعا. قال في المعالم: وهذا يناقض ما تقدم نقله عنه, وأجاب ابن التلمساني بأن السكوت الذي تمسك به الشافعي في القياس وخبر الواحد هو السكوت المتكرر في وقائع كثيرة, وهو ينفي جميع الاحتمالات الآتية. قوله: "لنا" أي: الدليل على أنه ليس بإجماع ولا حجة، أن السكوت يحتمل أن يكون لأجل التوقف في الحكم، إما لكونه لم يجتهد فيه، أو لكونه اجتهد فلم يظهر له شيء, ويحتمل أن يكون الخوف من القائل أو المقول له كقول ابن عباس وقد أظهر مخالفة عمر في العول بعد موته وكان رجلا مهيبا فهبته، ويحتمل أن يكون سكت عن الإنكار لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب، إلى غير ذلك من الاحتمالات, ولما احتمل السكوت هذه الوجوه لم يكن فيه دلالة على الرضا، وهو معنى قول الشافعي: لا ينسب إلى ساكت قول. قوله: "قيل: يتمسك" أي: احتج أبو هاشم على كونه حجة بأن العلماء لم يزالوا يتمسكون في كل عصر بالقول المنتشر بين الصحابة إذا لم يعرفوا له مخالفا, فدل على جواز الأخذ بقول البعض وسكوت الباقين. والجواب المنع، أي: لا نسلم أنهم كانوا يتمسكون به, فإن وقع منهم شيء فلعله وقع ممن يعتقد حجيته، أي على وجه الإلزام أو على وجه الاستئناس به، وأيضا فالاستدلال به إثبات للشيء بنفسه, فإن القول المنتشر مع عدم الإنكار هو قول البعض وسكوت الباقين. قوله: "فرع ... إلخ" اعلم أنه إذا قال بعض المجتهدين قولا ولم ينتشر ذلك القول بحيث يعلم أنه بلغ الجميع ولم يسمع من أحد ما يخالفه, فهل يكون كما إذا قال البعض وسكت الباقون عن إنكاره أم لا؟ اختلفوا فيه كما قاله في المحصول1 فمنهم من قال: يلحق به؛ لأن الظاهر وصوله إليهم، ومنهم من قال: لا يلحق به؛ لأنا لا نعلم هل بلغهم أم لا؟ واختاره الآمدي، ومنهم من قال: إن كان ذلك القول فيما تعم به البلوى بما تمس به الحاجة إليه كمس الذكر, فيكون كقول البعض وسكوت الباقين؛ لأن عموم البلوى يقتضي حصول التعلم به, وإن لم يكن كذلك فلا؛ لاحتمال الذهول عنه قال الإمام: وهذا التفصيل هو الحق؛ ولهذا جزم به في الكتاب.

_ 1 انظر المحصول، ص74، جـ2.

الباب الثالث: في شرائطه

الباب الثالث: في شرائطه قال: "الباب الثالث: في شرائطه وفيه مسائل: الأولى: أن يكون فيه قول كل على ذلك الفن، فإن قول غيرهم بلا دليل، فيكون خطأ، فلو خالف واحد لم يكن سبيل الكل. قال الخياط وابن جرير وأبو بكر الرازي: المؤمنون يصدق على الأكثر. قلنا: مجازا. قالوا: "عليكم بالسواد الأعظم" قلنا: يوجب عدم الالتفات إلى مخالفة الثلث". أقول: عقد المصنف هذا الباب لبيان ما يكون شرطا في الإجماع، وما لا يكون شرطا فيه مما يظن أنه شرط، وذكر فيه خمس مسائل, الأولى: أن الإجماع في كل فن من الفنون يشترط أن يكون فيه قول جميع علماء ذلك الفن في ذلك العصر, فلا عبرة بقول العوام ولا بقول علماء فن في غير فنهم؛ لأن قولهم فيه يكون بلا دليل؛ لكونهم غير عالمين بأدلته. والقول بلا دليل خطأ لا يعتد به، ومنهم من اعتبر قول الأصولي في الفقه إذا كان متمكنا من الاجتهاد فيه, واختاره الإمام ومنهم من عكس, ومنهم من قال: لا بد من موافقة العوام أيضا, واختاره الآمدي. قوله: "فلو خالفه" أي: يتفرع على اشتراط قول جميع المجتهدين: إنه إذا خالف واحد فلا يكون قول غيره إجماعا ولا حجة؛ لأن أدلة الإجماع كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} لا تتناول ذلك؛ لأن قول البعض ليس هو سبيل الكل، وها هو اختيار الإمام والآمدي، وقال ابن الحاجب: إنه إذا ندر المخالف لا يكون إجماعا قطعيا. قال: لكن الظاهر أنه حجة؛ لأنه يبعد أن يكون الراجح من الأقلين وقال أبو الحسين الخياط ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي: ينعقد الإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين كما نقله عنهم الإمام، وعبر المصنف عنه بالأكثر, واستدلوا بأمرين أحدهما: أن لفظ المؤمنين الوارد في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وفي غيره من الأدلة, يصدق على أكثر المؤمنين كما يقال للبقرة: إنها سوداء وإن كانت فيها شعرات بيض، وإذا صدق على الأكثر كان قولهم حجة؛ لأنه سبيل المؤمنين, وجوابه أن لفظ المؤمنين إنما يصدق على الأكثر مجازا, فإن الجمع المعرف بال حقيقة في الاستغراق؛ ولهذا يصح أن يقال: إنهم ليسوا كل المؤمنين. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالسواد الأعظم" 1 ووجه الدلالة أنه أمر باتباع السواد الأعظم والسواد الأعظم هم الأكثرون, فيكون قولهم حجة. وأجاب في المحصول بأن السواد الأعظم هم كل الأمة؛ لأن كل ما عدا الكل، فالكل أعظم منه، ولولا ما ذكرناه لكان نصف الأمة إذا زاد على النصف الآخر بواحد, يكون قولهم حجة وليس كذلك، وإليه أشار المصنف بقوله: مخالفة الثلث, وهو بضم الثاء أي: ثلث الأمة، ويحتمل أن تكون الثاء مفتوحة وأن يكون المراد الثلاثة التي هي اسم العدد، فإن الجماعة الذين نقل المصنف عنهم الخلاف في هذه المسألة، يسلمون أن

_ 1 أخرجه القرطبي في تفسيره "14/ 56"، وابن أبي عاصم في السنة "1/ 39".

مخالفة الثلاثة قادحة كما اقتضاه كلام الإمام، ونقل الآمدي عن قوم أن العدد الأقل إن بلغ عدد التواتر قدح في الإجماع, وإلا فلا. قال: "الثانية: لا بد له من سند؛ لأن الفتوى بدون خطأ قيل: لو كان فهو الحجة قلنا: يكونان دليلين, قيل: صحّحوا بيع المراضاة بلا دليل, قلنا: لا, بل ترك اكتفاء بالإجماع". أقول: ذهب الجمهور إلى أن الإجماع لا بد له من شيء يستند إليه من نص أو قياس؛ لأن الفتوى بدون المستند خطأ؛ لكونه قولا في الدين بغير علم، والأمة معصومة عن الخطأ. ولقائل أن يقول: إنما يكون خطأ عند عدم الإجماع عليه, أما بعد الإجماع فلا؛ لأن الإجماع حق, وحكى الآمدي وغيره عن بعضهم أنه لا يشترط المستند, بل يجوز صدوره عند توفيق, بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب. ولما حكى الإمام هذا المذهب عبر عن التوفيق بالتبخيت تبعا لصاحب المعتمد وهو بالخاء المعجمة, وظن صاحب التحصيل أن المراد بالتبخيت هو الشبهة فصرح به وهو مردود فإنه غير مطابق للأدلة؛ ولأن الإمام قد نص في المسألة التي تلي هذه على جواز الإجماع عن الشبهة، واقتضى كلامه أن لا خلاف فيها, والمراد بالشبهة هو الدليل الظني كأخبار الآحاد والعمومات. قوله: "قيل: لو كان" أي: احتج الخصم بوجهين أحدهما: أن الإجماع لو كان له سند, لكان ذلك السند هو الحجة, وحينئذ فلا يكون للإجماع فائدة. وأجاب المصنف بأن الإجماع والسند يكونان دليلين, واجتماع الدليلين على الحكم جائز ومفيد، وأجاب ابن الحاجب أيضا بأن فائدته سقوط البحث عن الدليل، وحرمة المخالفة الجائزة قبل انعقاد الإجماع لكونه مقطوعا به, وبأن ما ذكروه يقتضي أن لا يجوز انعقاده عن دليل ولا قائل به. الوجه الثاني: أنه لو توقف الإجماع على السند لم يقع بدونه, لكنه قد وقع فإنهم أجمعوا على صحة بيع المراضاة بلا دليل, وجوابه: أنا لا نسلم أنهم أجمعوا عليه من غير دليل, فإن غاية ذلك أنهم لم ينقلوه اكتفاء بالإجماع فإنه أقوى, وعدم نقل الدليل لا يدل على عدمه. واعلم أن دعوى الإجماع على بيع المراضاة, ذكره أبو الحسين في المعتمد فقلده فيه الإمام ومن تبعه, فإن أرادوا به المعاطاة وهو الذي فسره به القرافي فهو باطل عند الشافعي، وإن أرادوا غيره فلا بد من بيانه وبيان انعقاد الإجماع فيه من غير سند. قال: "فرعان: الأول: يجوز الإجماع عن الأمارة؛ لأنها مبدأ الحكم قبل الإجماع على جواز مخالفتها, قلنا: قبل الإجماع، قيل: اختلف فيها قلنا: منقوض بالعموم، وخبر الواحد. الثاني: الموافق لحديث لا يجب أن يكون معه خلافا لأبي عبد الله البصري؛ لجواز اجتماع دليلين". أقول: إذا فرعنا على أن الإجماع لا بد له من سند فذلك السند يجوز أن يكون نصا, ويجوز أن يكون ظاهرا، وهل يجوز أن يكون أمارة يعني قياسا؟ فيه مذاهب حكاها الإمام, أصحها عنده وعند الآمدي وأتباعهما كابن الحاجب: أنه جائز وواقع واستدل عليه الآمدي وابن الحاجب بإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه, وعلى إراقة الشيرج ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة، قياسا على السمن، وعلى

إمامة أبي بكر قياسا على تقديمه في الصلاة. والثاني: أنه جائز ولكنه غير واقع. والثالث: إن كان القياس جليا جاز وإلا فلا. والرابع: ممتنع مطلقا, واقتصر المصنف على ذكر الخلاف في الجواز واختاره أنه يجوز مطلقا, واستدل عليه بأن الأمارة مبدأ الحكم الشرعي, أي: طريق إليه فجاز أن تكون سندا للإجماع بالقياس على الدليل, واستدل المانعون بوجهين أحدهما: أن الإجماع منعقد على أنه يجوز للمجتهد مخالفة الأمارة, فلو صدر الإجماع عنها لكان يلزم جواز مخالفته؛ لأن مخالفة الأصل تقتضي مخالفة الفرع, لكن مخالفة الإجماع ممتنعة اتفاقا كما مر. وأجاب المصنف بأنه إنما يجوز مخالفة الأمارة قبل الإجماع على حكمها, وأما إذا اقترن بها الإجماع فلا لاعتضادها به. الثاني: أن العلماء مختلفون في الاحتجاج بالقياس, وذلك مانع من انعقاد الإجماع عنها؛ لأن من لا يعتقد حجيتها من المجتهدين لا يوافق القائل بحجيتها، وجوابه أن ذلك منقوض بالعموم وخبر الواحد, فإن الخلاف قد وقع في حجيتها كما تقدم في موضعه مع جواز صدور الإجماع عن كل منهما اتفاقا. الفرع الثاني: الإجماع الموافق لمقتضى حديث لا يجب أن يكون صادرا عنه؛ لأنه يجوز اجتماع دليلين على المدلول الواحد. وحينئذ فيجوز أن يكون سند الإجماع دليلا غير ذلك الحديث. وقال أبو عبد الله البصري: يجب استناده إليه، ونقله ابن برهان في الأوسط عن الشافعي؛ لأنه لا بد له من سند كما تقدم, وقد تيقنا صلاحية هذا له, والأصل عدم غيره. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في ملخصه: إن كان الخبر متواترا, فلا خلاف في وجوب استناده إليه، وإن كان الآحاد, فإن علمنا ظهور الخبر بينهم وأنهم عملوا بموجبه لأجله فلا كلام، وإن علمنا ظهوره بينهم وأنهم عملوا بموجبه ولكن لم نعلم أنهم عملوا لأجله, ففيه ثلاثة مذاهب ثالثها: إن كان على خلاف القياس فهو مستندهم وإلا فلا, وإن لم يكن ظاهرا بينهم لكن عملوا بما يتضمنه فلا يدل على أنهم عملوا من أجله, وهل يكون إجماعهم على موجبه دليلا على صحته؟ فيه خلاف, منهم من قال: لا يدل كما أن حكم الحاكم لا يدل على صدق الشهود، والصحيح دلالته عليه لأن السمع دل على عصمتهم، بخلاف الشهود. قال: "الثالثة: لا يشترط انقراض المجتمعين؛ لأن الدليل قام بدونه قيل: وافق علي الصحابة -رضي الله عنهم- في منع بيع أم الولد ثم رجع, ورد بالمنع. الرابعة: لا يشترط التواتر في نقله كالسنة. الخامسة: إذا عارضه نص, أول القابل له وإلا تساقطا". أقول: هل يشترط في انعقاد الإجماع موت المجتمعين أم لا؟ اختلفوا فيه فقال الإمام وأتباعه وابن الحاجب: لا يشترط وقال الإمام أحمد وابن فورك: يشترط، وفصل الآمدي بين الإجماع السكوتي وغيره على ما تقدم إيضاحه هناك. وقال إمام الحرمين: إن قطعوا بالحكم فلا اشتراط, وإن لم يقطعوا به بل أسندوه إلى الظن فلا بد من تطاول الزمان، سواء ماتوا أم لا. واستدل المصنف على عدم الاشتراط بأن الدليل الدال على كون الإجماع حجة ليس فيه تعرض للتقييد بانقراضهم فيبقى على إطلاقهم،

إذ الأصل عدم التقييد, واستدل الخصم بأنه لو لم يشترط لم يصح رجوع بعضهم لاستلزام الرجوع مخالفة الإجماع, لكن الرجوع ثابت فإن عليا وافق الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- في منع بيع المستولدة, ثم رجع عنه, فإن قال: كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن, وقد رأيت الآن بيعهن فقال عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، وأجاب المصنف بالمنع أي: لا نسلم ثبوت الرجوع، أو معناه: لا نسلم ثبوت الإجماع قبل الرجوع، وهو الذي ذكره في المحصول. قال: لأن كلام علي وعبيدة إنما يدل على اتفاق جماعة لا على أنه قول كل الأمة, ويؤيده أن جماعة من الصحابة قالوا بالجواز أيضا, كما بيناه في اتفاق العصر الأول. المسألة الرابعة: ذهب الإمام والآمدي وأتباعهما كابن الحاجب إلى أن الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة؛ لأن الإجماع دليل يجب العمل به فلا يشترط التواتر في نقله قياسا على السنة, وذهب الأكثرون كما قال الإمام إلى أنه ليس بحجة. قال الآمدي: والخلاف على أن دليل أصل الإجماع, هل هو مقطوع به أو مظنون؟ المسألة الخامسة: إذا عارض الإجماع نص من الكتاب أو السنة, فإن كان أحدهما قابلا للتأويل بوجه ما أول القابل له سواء كان هو الإجماع أو النص جمعا بين الدليلين, وإن لم يكن أحدهما قابلا للتأويل تساقطا؛ لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح، وهذا كله إذا كانا ظنين. فإنا كانا قطعيين أو كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا, فلا تعارض كما ستعرفه في القياس. "فروع" حكاها في المحصول أحدها: إذ استدل أهل العصر بدليل أو ذكروا للحديث تأويلا فذكر أهل العصر الثاني دليلا آخر أو تأويلا آخر من غير قدح في الأول جاز على الصحيح، ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين لأن الناس لم يزالوا على ذلك في كل عصر من غير إنكار، فكان ذلك إجماعا وقيل: لا؛ لأن الدليل الثاني والتأويل الثاني غير سبيل المؤمنين. الثاني: إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لبعضهم؛ لأن الصحابة رجعوا إليهم في وقائع كثيرة, فدل على اعتبار قولهم معهم. قال ابن الحاجب: فإن نشأ التابعي بعد إجماعهم, ففي اعتبار موافقته خلاف مبني على انقراض العصر. "الثالث: المبتدع" إن كفرناه فلا عتبار بقوله, لكن لا يجوز التمسك باجتماعنا على كفره في تلك المسائل؛ لأنه إنما ثبت خروجهم عن الإجماع بعد ثبوت كفرهم, فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا للزم الدور، وإن لم نكفره اعتبرنا قوله؛ لأنه من المؤمنين. وحكى ابن الحاجب قولا ثانيا أنه لا يعتبر لفسقه، وثالثا: أن قوله معتبر في حق نفسه لا في حق غيره, بمعنى أنه يجوز له مخالفا الإجماع المنعقد دونه، ولا يجوز لغيره ذلك. الرابع: ارتداد الأمة ممتنع للأدلة على عصمتهم. وقال قوم: لا يمتنع؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك لم يكونوا مؤمنين, فلا يكون سبيلهم سبيل المؤمنين. وأجاب ابن الحاجب بأنه يصدق أن الأمة ارتدت. الخامس: جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر خلافا

لبعض الفقهاء، وقال ابن الحاجب: إن إنكار الإجماع الظني ليس بكفر، وفي القطعي ثلاثة مذاهب, المختار إن كان مشهورا للعوام كالعبادات الخمس كفر، وإلا فلا. السادس: الأكثرون أنه لا يجوز أن تنقسم الأمة على قسمين, أحد القسمين مخطئون في مسألة، والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى؛ لأن خطأهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا اتفقوا على الخطأ. السابع: يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به؛ لأنه لا محذور فيه, وحجة المخالف أنه لو جاز ذلك لكان عدم العلم به هو سبيل المؤمنين, وحينئذ فيحرم تحصيل العلم به. والفرعان الأخيران لم يذكرهما ابن الحاجب، إلا أنه ذكر فرعا قريبا من الآخير فقال: اختلفوا في جواز عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح, إذا عمل على وفقه. وغير الآمدي بعبارة أخرى فقال: هل يمكن وجود خبر أو دليل لا معارض له, وتشترك الأمة في عدم العلم به؟ اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مصيرا منه إلى أنهم غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر ولم يبلغهم, فاشتراكهم في عدم العلم به لا يكون خطأ؛ لأن عدم العلم ليس فعلهم، وخطأ مكلف من أوصاف فعله، ومنهم من أحاله؛ لأنه يلزم منه امتناع تحصيل العلم به.

الكتاب الرابع: في القياس

الكتاب الرابع: في القياس مدخل ... الجزء الثالث: بسم الله الرحمن الرحيم الكتاب الرابع في القياس: الكتاب الرابع في القياس: وهو "إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت". أقول: القياس والقيس مصدران لقاس بمعنى قدر، يقال: قاس الثوب بالذراع يقيسه قيسا وقياسا إذا قدره به، وهو يتعدى بالباء كما مثلناه بخلاف المستعمل في الشرع فإنه يتعدى بعلى لتضمنه معنى البناء والحل، ثم إن التقدير يستدعي التسوية, فإن التقدير يستلزم شيئين ينسب أحدهما إلى الآخر بالمساواة، وبالنظر إلى هذا أعني المساواة، عبر الأصوليون عن مطلوبهم بالقياس، وقد عرفوه بتعريفات كثيرة، والمختار منها عند الآمدي وابن الحاجب أنه مساواة فرع لأصل في علة حكمه، والمختار عند الإمام وأتباعه ما ذكره المصنف، ثم إن القياس له أربعة أركان، وهي: الأصل والفرع وحكم الأصل والعلة، وقد تضمنها الحد المذكور. فقوله: إثبات كالجنس دخل فيه المحدود وغيره, والقيود التي بعده كالفصل، والمراد بالإثبات هو القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن، وسواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه, والقدر المشترك بينهما هو حكم الذهن بأمر على أمر. وقوله: مثل احترز به عن إثبات خلاف حكم معلوم, فإنه لا يكون قياسا، وأشار به أيضا إلى أن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الثابت في الأصل، فإن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار مثلا للحال ومخالفا للبارد، فلو لم يكن تصور المثل والمخالف بدهيا لكان الخالي عن التصور خاليا عن التصديق، وقوله: حكم, هو غير منون على الإضافة لما بعده، وأشار به إلى الركن الأول وهو حكم الأصل، والمراد به ههنا نسبة أمر إلى آخر ليكون شاملا للشرعي والعقلي واللغوي إيجابا كان أو سلبا، فإن القياس يجري فيها كلها على ما ستعرفه. وقوله: معلوم وأشار به إلى الركن الثاني وهو الأصل، قوله: في معلوم آخر أشار به إلى الركن الثالث وهو الفرع، والمراد بالمعلوم هو المتصور، فدخل فيه العلم المصطلح عليه والاعتقاد والظن، فإن الفقهاء يطلقون لفظ العلم على هذه الأمور، وإنما عبر به ولم يعبر بالشيء؛ لأن القياس يجري في الموجود والمعدوم سواء كان ممتنعا أو ممكنا، والشيء لا يشمل المعدوم إن كان ممتنعا اتفاقا، وكذا إن كان ممكنا عند الأشاعرة، وإنما رجح التعبير به على التعبير بالأصل والفرع لئلا يقال: تصورهما فرع عن تصور

القياس فتعريفه بهما دور، وقوله: لاشتراكهما في علة الحكم أشار به إلى الركن الرابع، وهو العلة وسيأتي تعريفها، واحترز بذلك عن إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لا للاشتراك في العلة, بل لدلالة نص أو إجماع فإنه لا يكون قياسا. وقوله: عند المثبت ذكره ليتناول الصحيح والفاسد في نفس الأمر، وعبر بالمثبت وهو القائس ليعمم المجتهد والمقلد، كما يقع الآن في المناظرات، قال الآمدي: وهذا الحد يرد عليه إشكال مشكل لا محيص عنه، وهو أن إثبات الحكم هو نتيجة القياس، فجعله ركنا في الحد يقتضي توقف القياس عليه وهو دور، وقد يقال: إنما يلزم ذلك أن لو كان التعريف المذكور حدا، ونحن لا نسلمه بل ندعي أنه رسم, وقد أشار إليه إمام الحرمين في البرهان. قال: قيل: "الحكمان غير متماثلين في قولنا لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لما وجب بالنذر كالصلاة قلنا: تلازم، والقياس لبيان الملازمة والتماثل حاصل على التقدير، والتلازم والاقتراني لا نسميهما قياسا. وفيه بابان:

الباب الأول: في بيان أنه حجة

الباب الأول: في بيانه أنه حجة: الباب الأول: في بيان أنه حجة، وفيه مسائل". أقول: اعترض بعضهم على هذا الحد، فقال: إنه غير جامع؛ لأن اشتراط تماثل الحكمين مخرج لقياس العكس وهو إثبات نقيض حكم معلوم في معلوم آخر لوجود نقيض عليه فيه، ومثاله ما قاله المصنف, وتقريره أنه إذا نذر أن يعتكف صائما، فإنه يشترط الصوم في صحة الاعتكاف اتفاقا، ولو نذر أن يعتكف مصليا لم يشترط الجمع اتفاقا، بل يجوز التفريق، واختلفوا في اشتراط الصوم في الاعتكاف بدون نذره معه، فشرطه أبو حنيفة ولم يشترطه الشافعي، فيقول أبو حنيفة: لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لم تصر شرطا له بالنذر، قياسا على الصلاة, فإنها لما لم تكن لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لم تصر شرطا له بالنذر, والجامع بينهما عدم كونهما شرطين حالة الإطلاق، فالحكم الثابت في الأصل أعني: الصلاة عدم كونها شرطا في صحة الاعتكاف، والعلة فيه كونها غير واجبة بالنذر، والحكم الثابت في الفرع كون الصوم شرطا في صحة الاعتكاف، والعلة فيه كونها غير واجبة بالنذر، والحكم الثابت في الفرع كون الصوم شرطا في صحة الاعتكاف، والعلة فيه وجوبه بالنذر فافترقا حكما وعلة، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أنه غير جامع، فإن الذي سميتموه قياس العكس إنما هو تلازم، فإن المستدل يقوم لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف لم يكن واجبا بالنذر، لكنه وجب بالنذر فيكون الصوم شرطا، فهذا في الحقيقة تمسك بنظم التلازم، وإلى هذا أشار بقوله: قلنا تلازم، ثم إن دعوى ملازمة أمر لأمر لا بد من بيانها بالدليل، فبينها المستدل بالقياس المستعمل عند الفقهاء، وهو أن ما ليس بشرط لصحة الاعتكاف لا يجب بالنذر قياسا على الصلاة، وإليه أشاربقوله: والقياس لبيان الملازمة، يعني أن القياس المحدود وهو القياس المستعمل عند الفقهاء قد استعمل ههنا لبيان الملازمة، فتخلص أن قياس العكس مشتمل على تلازم, وعلى القياس المحدود الذي لبيان الملازمة، ثم شرع المصنف يجيب عن كل منهما لاحتمال أن يكون هو المقصود بالإيراد، فأجاب عن الثاني ثم

عن الأول، وحاصله: أن الخصم إن اعتمد في إيراد قياس العكس على القياس الذي لبيان الملازمة فهو غير وارد؛ لأن الأصل والفرع فيه متماثلان، لكن التماثل حاصل على التقدير، فإنه على تقدير عدم اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف يلزم أن لا يشترط أيضا حالة النذر، كما أن الصلاة لا تشترط في الاعتكاف حالة النذر، فأثبت عدم وجوب الصوم بالنذر بالقياس عدم وجوب الصلاة بالنذر، على تقدير عدم اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف، والجامع كون كل من الصلاة والصوم غير شرط في صحة الاعتكاف، فإن قولنا: إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر أعم من أن يكون حقيقة أو تقديرا، وإلى هذا أشار بقوله: والتماثل حاصل على التقدير، وإن اعتمد الخصم في الإيراد على التلازم فنحن نسلم أنه خارج عن حد القياس، لكن لا يضرنا ذلك فإنه ليس بقياس عندنا؛ لأن أصول الفقه إنما يتكلم فيها على القياس المستعمل في الفقه, والفقهاء إنما يستعملون قياس العلة، وأما ما عداه كالتلازم والاقتراني فإن الذي يسميهما قياسا إنما هم المنطقيون، إذ القياس عندهم قول مؤلف من أقوال متى سلمت لزم عند لذاته قولي آخر، والذي يسميه الأصوليون قياسا يسميه المنطقيون تمثيلا، فالتلازم قد عرفته ويعبر عنه بالاستثنائي سواء كان بان أو لا. وأما الاقتراني فكقولهم: كل وضوء عبادة لا بد فيها من النية, ينتج أن كل وضوء فلا بد فيه من النية، وإلى هذا أشار بقوله: والتلازم والاقتراني لا نسميهما قياسا، والتقرير المذكور في السؤال والجواب اعتمده واجتنب غيره. قال: "الأولى في الدليل عليه يجب العمل به شرعا، وقال القفال والبصري عقلا، والقاشاني والنهرواني حيث العلة منصوصة أو الفرع بالحكم أولى, كتحريم الضرب على تحريم التأفيف، وداود أنكر التعبد به، وأحاله الشيعة والنظام، واستدل أصحابنا بوجوه, الأول: أنه مجاوزة عن الأصل إلى الفرع، والمجاوزة اعتبار وهو مأمور به, في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] قيل: المراد الاتعاظ، فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية، قلنا: المراد القدر المشترك، قيل: الدال على الكلي لا يدل على الجزئي، قلنا: بلى, ولكن ههنا جواز الاستثناء دليل العموم. قيل: الدلالة ظنية، قلنا: المقصود العمل فيكفي الظن". أقول: اتفق العلماء كما قاله في المحصول قبيل هذه المسألة, على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية، واختلفوا في الشرعية، فذهب الجمهور إلى وجوب العمل بالقياس شرعا، وذهب القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة إلى أن العقل قد دل على ذلك يعني مع السمع أيضا، كما صرح به في المحصول، وقال القاشاني والنهرواني: يجب العمل به في صورتين, إحداهما: أن تكون علة الأصل منصوصة إما بصريح اللفظ أو بإيمائه، والثانية: أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل، كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، واعترفا بأنه ليس للعقل هنا مدخل، لا في الوجوب ولا في عدمه، كما قاله في المحصول1 أيضا، وهذه الثانية أبدلها في المستصفى بالحكم الوارد على

_ 1 انظر المحصول، ص245، جـ2.

سبب كرجم ماعز، وأبدلها في البرهان بالحكم الذي هو في معنى المنصوص عليه, كقياس صب البول في الماء بالبول فيه، لكنه جعل الثاني من كلام المصنف داخلا في القسم الأول، وأنكر داود الظاهري وأتباعه التعبد به شرعا، أي: قالوا: لم يرد في الشرع ما يدل على العمل بالقياس، وإن كان جائزا عقلا، وهذا الذي ذكره المصنف مخالف لما في المحصول والحاصل، فإن المذكور فيهما أن داود وأصحابه قالوا: يستحيل عقلا التعبد بالقياس كالمذهب الذي ذكره المصنف بعد هذا، لكنه موافق لما نقله عنه الغزالي وإمام الحرمين، وهو مقتضى كلام الآمدي وابن الحاجب أيضا، وذهب جماعة إلى أنه يستحيل عقلا التعبد بالقياس، ونقله المصنف عن النظام والشيعة، وفيه نظر من وجوه، منها أن صاحبي المحصول والحاصل وغيرهما نقلوا عن النظام أنه يقول بذلك في شريعتنا خاصة, قال: لأن مبناها على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات كما سيأتي. "ومنها" أن المصنف قد ذكر بعد هذا أن القياس الجلي لم ينكره أحد, وأن النظام يقول: إن التنصيص على العلة أمر بالقياس، فلزم من ذلك أن يكون مذهب النظام كمذهب القاشاني والنهرواني من غير فرق, وقد غاير بينهما وأن يكون مذهب داود والشيعة مخصوصا أيضا، ومنها أن الشيعة منقسمة إلى إمامية وزيدية، والزيدية قائلون بأنه حجة كما سيأتي في كلامه. قوله: استدل أي: استدل أصحابنا على كونه حجة بالكتاب, والسنة، والإجماع، والدليل العقلي، الأول: الكتاب وهو قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} ووجه الدلالة أن القياس مجاوزة بالحكم عن الأصل إلى الفرع، والمجاوزة اعتبار؛ لأن الاعتبار معناه العبور وهو المجاوزة، تقول: جزت على فلان أي: عبرت عليه، والاعتبار مأمور به لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} وإلى الاعتبار أشار المصنف بقوله: وهو، فينتج أن القياس مأمور به. قوله: "قيل: المراد" أي: اعترض الخصم بثلاثة أوجه, أحدها: لا نسلم أن المراد بالاعتبار هنا هو القياس بل الاتعاظ، فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الآية؛ لأنه حينئذ يكون معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فقاسوا الذرة على البر، وهو في غاية الركاكة فيصان كلام البارئ تعالى عنه، وأجاب المصنف بأن المرد بالاعتبار هو القدر المشترك بين القياس والاتعاظ، والمشترك بينهما هو المجاوزة، فإن القياس مجاوزة عن الأصل إلى الفرع كما تقدم، والاتعاظ مجاوزة من حال الغير إلى حال نفسه، وكون صدر الآية غير مناسب للقياس بخصوصه لا يستلزم عدم مناسبته للقدر المشترك بينه وبين الاتعاظ، فإن من سئل عن مسألة فأجاب بما لا يتناولها فإنه يكون باطلا، ولو أجاب بما يتناولها ويتناول غيرها فإنه يكون حسنا، والاعتراض الثاني: أنه لا يلزم من الأمر باعتبار الذي هو القدر المشترك الأمر بالقياس، فإن القدر المشترك معنى كلي والقياس جزئي من جزئياته، والدال على الكلي لا يدل على الجزئي, وأجاب في المحصول بوجهين, أحدهما وعليه اقتصر المصنف: أن ما قاله الخصم من كون الأمر بالماهية الكلية لا يكون أمرا بشيء من جزئياتها على التعيين،

مسلم لكن ههنا قرينة دالة على العموم وهي جواز الاستثناء، فإنه يصح أن يقال: "اعتبروا" إلا في الشيء الفلاني، وقد تقدم غير مرة أن الاستثناء معيار العموم، وهذا الجواب ضعيف؛ لأن الاستثناء إنما يكون معيار العموم إذا كان عبارة عن إخراج ما لولاه لوجب دخوله إما قطعا أو ظنا، ونحن لا نسلم أن الاستثناء بهذا التفسير يصح هنا، فإن الفعل في سياق الإثبات لا يعم، وأيضا فإن هذا الجواب لو صح لأمكن اطراده في سائر الكليات فلا يوجد كلي إلا وهو يدل على سائر الجزئيات وهو باطل. والجواب الثاني: أن ترتيب الحكم على الشيء يقتضي العلية، وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارا، فلزم أن يكون كل اعتبار مأمورا به وهو أيضا ضعيف، لما قاله صاحب التحصيل من كونه إثباتا للقياس بالقياس, وقد يجاب آخر وهو أن الأمر بالماهية المطلقة وإن لم يدل على وجوب الجزئيات لكنه يقتضي التخيير بينهما عند عدم القرينة، والتخيير يقتضي جواز العمل بالقياس، وجواز العمل به يستلزم وجوب الفعل به؛ لأن كل من قال بالجواز قال بالوجوب. الاعتراض الثالث: سلمنا أن الآية تدل على الأمر بالقياس، لكن لا يجوز التمسك بها لأن التمسك بالعموم واشتقاق الكلمة كما تقدم إنما يفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع بخلاف الأصول؛ لفرط الاهتمام بها، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أنها عملية؛ لأن المقصود من كون القياس حجة إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاده كأصول الدين، والعمليات يكتفى فيها بالظن فكذلك ما كان وسيلة إليها، هذا هو الصواب في تقديره، وقد صرح به في الحاصل وهو رأي أبي الحسين، وإن كان الأكثرون كما نقله الإمام والآمدي, قالوا: إنه قطعي، وأما قول بعض الشارحين: إنه يكتفى فيها بالظن مع كونها علمية لكنها وسيلة, فباطل قطعا؛ لأن المعلوم يستحيل إثباته بطريق مظنونة، وقد التزم في المحصول هذا السؤال ولم يجب عنه. قال: "الثاني: قصة معاذ وأبي موسى قيل: كان ذلك قبل نزول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] قلنا: المراد الأصول لعدم النص على جميع الفروع. الثالث: أن أبا بكر قال في الكلالة: أقول برأيي: للكلالة ما عدا الوالد والولد، والرأي هو القياس إجماعا، وعمر أمر أبا موسى في عهده بالقياس وقال في الجد: أقضي فيه برأيي، وقال عثمان: إن اتبعت رأيك فسديد، وقال علي: اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد، وقاس ابن عباس الجد على ابن الابن في الحجب, ولم ينكر عليهم وإلا لاشتهر. قيل: ذموه أيضا، قلنا: حيث فقد شرطه توفيقا. الرابع: أن ظن تعليل الحكم في الأصل بعلة توجد في الفرع, يوجب ظن الحكم في الفرع والنقصان ولا يمكن العمل بهما ولا الترك لهما, والعمل بالمرجوح ممنوع فتعين العمل بالراجح". أقول: الدليل الثاني على حجية القياس: السنة, فإنه روي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قاضيين, كل واحد منهما في ناحية فقال لهما: "بم تقضيان؟ " فقالا:

إذا لم نجد الحكم في السنة نقيس الأمر بالأمر, فما كان أقرب إلى الحق عملنا به, فقال عليه الصلاة والسلام: "أصبتما" 1 واعترض الخصم بأن تصويب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قبل نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فيكون القياس حجة في ذلك الزمان؛ لكون النصوص غير وافية بجميع الأحكام, وأما بعد إكمال الدين والتنصيص على الأحكام فلا يكون حجة؛ لأن شرط القياس فقدان النص. والجواب أن التصويب دال على كونه حجة مطلقا، والأصل عدم التخصيص بوقت دون وقت، المراد من الإكمال المذكور في الآية إنما هو إكمال الأصول؛ لأنا نعلم أن النصوص لم تشتمل على أحكام الفروع كلها مفصلة, فيكون القياس حجة في زماننا لإثبات تلك الفروع. قوله: "الثالث" أي: الدليل الثالث على حجية القياس: الإجماع، فإن الصحابة قد تكرر منهم القول به من غير إنكار فكان ذلك إجماعا, بيانه أن أبا بكر -رضي الله عنه- سئل عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي, فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن حطأ فمني ومن الشيطان, الكلالة: ما عدا الوالد والوالدة والرأي هو القياس إجماعا كما قاله المصنف، وأيضا فإن عمر رضي الله عنه لما ولى أبا موسى الأشعري البصرة وكتب له العهد أمره فيه بالقياس، فقال: اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك، وقال عمر أيضا في الجد: أقضي فيه برأيي, وقال عثمان لعمر: إن اتبعت رأيك فسديد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي, وقال علي رضي الله عنه: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما: الجد على ابن الابن في حجب الإخوة، وقال: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا؟! فثبت صدور القياس بما قلناه وبغيره من الوقائع الكثيرة المشهورة الصادرة عن أكابر الصحابة التي لا ينكرها إلا معاند، ولم ينكر أحد ذلك عليهم وإلا لاشتهر إنكاره أيضا، فكان ذلك إجماعا، فإن قيل: الإجماع السكوتي ليس بحجة، قلنا: قد تقدم أن محل ذلك عند عدم التكرار فراجعه، وهذا الدليل هو الذي ارتضاه ابن الحاجب وادعى ثبوته بالتواتر، ضعف الاستدلال بما عداه. قوله: قيل: ذموه أيضا أي: لا نسلم أن الباقين لم ينكروا, فقد نقل عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني, إذا قلت في كتاب الله برأيي، ونقل عن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي, فإنهم أعداء السنن, أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي, فضلوا وأضلوا. وعنه أيضا: إياكم والمكايلة قيل: وما المكايلة؟ قال: المقايسة. وقال علي -كرم الله وجهه: لو كان الدين يؤخذ قياسا, لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره. وعن ابن عباس أنه قال: "يذهب قراؤكم وصلحاؤكم, ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيمون الأمور برأيهم". وأجاب

_ 1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 165".

المصنف بأن الذين نقل لهم أو عنهم إنكاره هم الذين نقل عنهم القول به, فلا بد من التوفيق بين النقلين، فيحمل الأول على القياس الصحيح، والثاني على الفاسد توفيقا بين النقلين وجمعا بين الروايتين. "قوله تعالى" أي: الدليل الرابع وهو الدليل, أن المجتهد إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللا بالعلة الفلانية ثم وجد تلك العلة بعينها في الفرع, يحصل له بالضرورة ظن ثبوت ذلك الحكم في الفرع، وحصول الظن بالشيء مستلزم لحصول الوهم بنقيضه، وحينئذ فلا يمكنه أن يعمل بالظن والوهم لاستلزامه اجتماع النقيضين, ولا أن يترك العمل بهما لاستلزامه ارتفاع النقيضين، ولا أن يعمل بالوهم دون الظن؛ لأن العمل بالمرجوح مع وجود الراجح ممتنع شرعا وعقلا، فتعين العلم بالظن، ولا معنى لوجوب العمل بالقياس إلا ذلك، وهذا الدليل قد تقدم الكلام عليه في تعريف الفقه. قال: "احتجوا بوجوه, الأول: قوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا} {وَأَنْ تَقُولُوا} {وَلا تَقْفُ} [الإسراء: 36] {وَلا رَطْبٍ} [الأنعام: 59] {وَإِنَّ الظَّن} [النجم: 28] قلنا: إن الحكم مقطوع والظن في طريقه. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام: "تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس, فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" 1 الثالث: ذم بعض الصحابة له من غير نكير، قلنا: معارضان بمثلهما فيجب التوفيق. الرابع: نقل الإمامية إنكاره عن العترة قلنا: معارض بنقل الزيدية. الخامس: أنه يؤدي إلى الخلاف والمنازعة, وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] قلنا: الآية في الآراء والحروب لقوله -عليه الصلاة والسلام: "اختلاف أمتي رحمة" 2 السادس: الشارع فصل بين الأزمنة والأمكنة في الشرف، والصلوات في القصر، وجمع بين الماء والتراب في التطهير، وأوجب التعفف على الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء، وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير, وجلد بقذف الزنا, وشرط فيه شهادة أربعة دون الكفر، وذلك ينافي القياس، قلنا: القياس حيث عرف المعنى". أقول: احتج المنكرون للقياس بستة أوجه من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول, الأول: الكتاب وهو آيات, فمنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] والقول بمقتضى القياس تقديم {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لكونه قولا بغير الكتاب والسنة، ومنها قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ووجه الدلالة أن الحكم الثابت بالقياس غير معلوم لكونه متوقفا على أمور لا يقطع بوجودها, فلا يجوز العمل به للآية، ومنها قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] فإنه يدل على اشتمال الكتاب على الأحكام كلها، وحينئذ فلا يجوز العمل بالقياس؛ لأن شرطه فقدان النص، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]

_ 1 أخرجه الهندي في كنز العمال "915", والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 179". 2 أخرجه العراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 28", والهندي في كنز العمال "28686".

والقياس ظني فلا يغني شيئا, وأجاب المصنف بأن الحكم بمقتضى القياس مقطوع به، والظن وقع في الطريق الموصلة إليه، كما تقدم تقديره في حد الفقه، وهذا الجواب ليس شاملا للآية الأولى، ولا للآية الرابعة، بل الجواب عن الأولى أنه لما أمرنا الله تعالى ورسوله بالقياس، لم يكن القول به تقديما بين يدي الله ورسوله، والجواب عن الرابعة أنه يستحيل أن يكون المراد منها اشتمال الكتاب على جميع الأحكام الشرعية من غير واسطة, فإنه خلاف الواقع بل المراد دلالتها من حيث الجملة سواء كان بوسط أو بغير وسط، وحينئذ فلا يلزم من ذلك عدم الاحتياج إلى القياس؛ لأن الكتاب على هذا التقدير لا يدل على بعضها إلا بواسطة القياس, فيكون القياس محتاجا إليه. قوله: الثاني أي: الدليل الثاني على إبطال القياس: السنة وهو الحديث الذي ذكره المصنف ودلالته ظاهرة. قوله: "الثالث" أي: الدليل الثالث: الإجماع، فإن بعض الصحابة قد ذمه كما تقدم إيضاحه في أدلة الجمهور، وسكت الباقون عنه فكان إجماعا, وأجاب المصنف عن السنة والإجماع بأنهما معارضان بمثلهما، إذا سبق أيضا فيجب التوفيق بينهما بأن يحمل العمل به على القياس الصحيح وإنكاره على القياس الفاسد. قوله: "الرابع" أي: الدليل الرابع: أن الإمامية من الشيعة قد نقلوا عن العترة يعني: أهل البيت إنكارا للعمل بالقياس وإجماع العترة حجة، وجوابه أن نقل الإمامية معارض بنقل الزيدية، فإنهم من الشيعة أيضا، وقد نقلوا إجماع العترة على العمل بالقياس على أنه تقدم أن إجماعهم ليس بحجة. قوله: "الخامس" أي: الدليل الخامس: المعقول، وهو أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة بين المجتهدين للاستقراء، ولأنه تابع للأمارات والأمارات مختلفة، وحينئذ فيكون ممنوعا لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] . وأجاب في المحصول بأن هذا الدليل بعينه قائم في الأدلة العقلية، فما كان جوابا لهم كان جوابا لنا، وأجاب المصنف بأن الآية إنما وردت في الآراء والحروب لقرينة قوله تعالى: {فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ، فأما التنازع في الأحكام فجائز لقوله -عليه الصلاة والسلام: "اختلاف أمتي رحمة" وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل. قوله: "السادس" أي: الدليل السادس وهو من المعقول أيضا, وعليه اعتمد النظام: أن الشارع فرق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات، وأثبت أحكاما لا مجال للعقل فيها، وذلك كله ينافي القياس لأن مدار القياس على إبداء المعنى، وعلى إلحاق صورة بصورة أخرى تماثلها في ذلك المعنى, وعلى التفريق بين المختلفات كما ستعرفه من قبول الفرق عند إبداء الجامع، أما بيان التفريق بين المتماثلات فإن الشارع قد فرق بين الأزمنة في الشرف, ففضل ليلة القدر والأشهر الحرم على غيرهما، وكذلك الأمكنة كتفضيل مكة والمدينة مع استواء الزمان والمكان في الحقيقة، وفرق أيضا بين الصلوات في القصر فرخص في قصر الرباعية دون غيرها، وأما بيان الجمع بين المختلفات؛ فلأنه جمع بين الماء والتراب في جواز الطهارة بهما في أن الماء ينظف

والتراب يشوه، وأما بيان الأحكام التي لا مجال للعقل فيها فلأنه تعالى أوجب للتعفيف أي: غض البصر بالنسبة إلى الحرة الشوهاء شعرها وبشرتها مع أن الطبع لا يميل إليها، دون الأمة الحسناء التي يميل إليها الطبع. ويحتمل أن يريد المصنف بالتعفف وجوب الستر، أو يريد به كون الواطئ للحرة يصير محصنا دون واطئ الأمة، وأيضا فلأنه تعالى أوجب القطع في سرقة القليل دون غصب الكثير, وأوجب الجلد على القاذف بالزنا دون الكفر، أي: بخلاف القاذف الكفر كما قاله في المحصول1، وشرط في شهادة الزنا شهادة أربعة رجال واكتفى في الشهادة على القتل باثنين مع كونه أغلظ من الزنا، وأجاب المصنف بأنا إنما ندعي وجوب العمل بالقياس حيث عرف المعنى أي: العلة الجامعة مع انتفاء المعارض. وغالب الأحكام من هذا القبيل، وما ذكرتم من الصور فإنها نادرة لا تقدح في حصول الظن الغالب, لا سيما والفرق بين المتماثلات يجوز أن يكون لانتفاء صلاحية ما يوهم أنه جامع، أو لوجود معارض، وكذلك المختلفات يجوز اشتراكها في معنى جامع، وقد ذكر الفقهاء معاني هذه الأشياء. قال: "الثانية: قال النظام والبصري وبعض الفقهاء: إن التنصيص على العلة أمر بالقياس، وفرق أبو عبد الله بين الفعل والترك. لنا أنه إذا قال: حرمت الخمر لكونها مسكرة, يحتمل عليه الإسكار مطلقا، وعلية إسكارها، قيل: الأغلب عدم التقييد، قلنا: فالتنصيص وحده لا يفيد, قيل: لو قال: علة الحرمة الإسكار لاندفع الاحتمال, قلنا: فيثبت الحكم في كل الصور بالنص". أقول: ذهب النظام وأبو الحسين البصري وجماعة من الفقهاء وكذا الإمام أحمد كما نقله ابن الحاجب إلى أن التنصيص على علة الحكم أمر بالقياس مطلقا, سواء كان في طرف الفعل كقوله: تصدقوا على هذا لفقره أو الترك كقوله: حرمت الخمر لإسكارها. وقال أبو عبد الله البصري: التنصيص على علة الفعل لا يكون أمرا بالقياس بخلاف علة الترك, والصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما أنه لا يكون أمرا به مطلقا, بل لا بد في القياس من دليل يدل عليه ونقله الآمدي عن أكثر الشافعية ولم يصرح المصنف بالمذهب المختار لإشعار الدليل به, والذي نقله هنا عن النظام هو المشهور عنه وعلى هذا فيكون النقل المتقدم عنه وهو استحالة القياس إنما محله عند عدم التنصيص على العلة, ونقل عنه الغزالي في المستصفى أن التنصيص على العلة يقتضي تعميم الحكم في جميع مواردها بطريق عموم اللفظ لا بالقياس. قوله: "لنا" أي: الدليل على ما قلناه أن الشارع إذا قال مثلا: حرمت الخمر لكونها مسكرة, فإنه يحتمل أن يكون علة الحرمة هو الإسكار مطلقا, ويحتمل أن يكون إسكار الخمر بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلة؛ لجواز اختصاص إسكارها بترتب مفسدة عليه دون إسكار النبيذ، وإذا احتمل الأمران

_ 1 انظر المحصول: ص294، جـ2.

فلا يتعدى التحريم إلى غيرها إلا عند ورود الأمر بالقياس، وإذا ثبت ذلك في جانب الترك ثبت في الفعل بطريق الأولى لما تقدم، ولقائل أن يقول: هذا الدليل بعينه يقتضي امتناع القياس عند التنصيص على العلة مع ورود الأمر به أيضا. قوله: "قيل: الأغلب" أي: اعترض الخصم من وجهين، أحدهما: أن الأغلب على الظن في هذا المثال كون الإسكار علة للتحريم مطلقا؛ لأنه وصف مناسب للحكم، وأما كونه من خمر أو غيره فلا أثر له، وحينئذ فيجب ترتب الحكم عليه حيث وجد، ويحتمل أن يريد أن الأغلب في العلل تعديتها دون تقييدها بمحل الحكم بالاستقراء، وأجاب المصنف بأن النزاع إنما هو في أن التنصيص على العلة هل يستقل بإفادة وجوب القياس أم لا؟ وما ذكرتم يقتضي أنه لا بد أن يضم إليه كون العلة مناسبة أو أن الغالب عدم تقييدها بالمحل, ويحتمل أن يريد ما ذكره في المحصول وهو أن مجرد التنصيص على العلة لا يلزم منه الأمر بالقياس ما لم يدل دليل على وجوب إلحاق الفرع بالأصل للاشتراك في العلة، أعني: الدليل الدال على وجوب العمل بالقياس. الاعتراض الثاني: أن الاحتمال الذي ذكرتموه وهو كون العلة إسكار الخمر, مخصوص بالمثال المذكور فلا يتمشى دليلكم في غيره، كما إذا قال الشارع: علة حرمة الخمر هو الإسكار، فإن احتمال التقييد بالمحل ينقطع ههنا وتثبت الحرمة في كل الصور، وأجاب المصنف بأنا نسلم ثبوت الحكم ههنا في كل الصور, لكنه يكون بالنص لا بالقياس، قال في المحصول: لأن العلم بأن الإسكار من حيث هو إسكار يقتضي الحرمة, موجب العمل بثبوت هذا الحكم في كل مسكر، من غير أن يكون العلم ببعض الأفراد متأخرا عن العلم بالبعض الآخر، وحينئذ فلا يكون هذا قياسا لأنه ليس جعل البعض أصلا والآخر فرعا بأولى من العكس, وإنما يكون قياسا إذا قال: حرمت الخمر لكونه مسكرا. واعلم أن الذهاب إلى أن الشارع إذا قال: علة حرمة الخمر وهو الإسكار أن الحكم يكون ثابتا في النبيذ وغيره من المسكرات بالنص جزم به في المحصول وهو مشكل، فإن اللفظ لم يتناول، ولعل هذا هو المقتضى لكون المصنف عبر بقوله علة الحرمة هو الإسكار, لكنه لا يستقيم من وجه آخر، وهو أن السائل لم يورد السوائل هكذا، فتعبيره بهذا حجر على السائل، وأيضا فلأنه يقتضي حصر التحريم في الإسكار وهو باطل قطعا، واستدل أبو عبد الله البصري على مذهبه بأن من ترك أكل شيء لكونه مؤذيا, فإنه يدل على تركه لكل مؤذٍ، بخلاف من ارتكب أمرا لمصلحة كالتصدق على فقير فإنه لا يدل على تصدقه على كل فقير. والجوب أنا لا نسلم أنه يدل على تركه لكل مؤذٍ، سلمناه لكنه لقرينة التأذي لا لمجرد التنصيص على العلة. قال: "الثالثة: القياس إما قطعي أو ظني, فيكون الفرع بالحكم أولى كتحريم الضرب على تحريم التأفيف, أو مساويا كقياس الأمة على العبد في السراية, أو أدون كقياس البطيخ على البر في الربا, قيل: تحريم التأفيف يدل على تحريم أنواع الأذى عرفا، ويكذبه قول الملك للجلاد: اقتله ولا تستخف

به، قيل: لو ثبت قياسا لما قال به منكره، قلنا: القطعي لم ينكر, قيل: نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى، كقوله: فلان لا يمتلك الحبة ولا النقير ولا القطمير، قلنا: أما الأول فلأن نفي الجزء يستلزم نفي الكل، وأما الثاني فلأن النقل فيه ضرورة ولا ضرورة ههنا". أقول: هذه المسألة قررها الشارحون على غير وجهها وقد يسر الله الكريم وجه الصواب فيها، فنقول: الكلام هنا في أمرين أحدهما: القياس، والثاني: الحكم الذي في الأصل، فأما القياس نفسه وهو الإلحاق والتسوية، فقد يكون قطعيا، وقد يكون ظنيا، فالقطعي كما قاله في المحصول يتوقف على مقدمتين فقط، إحداهما: العلم بعلة الحكم، والثانية: العلم بحصول مثل تلك العلة في الفرع، فإذا علمهما المجتهد علم ثبوت الحكم في الفرع، سواء كان ذلك الحكم مقطوعا به أو مظنونا، ثم مثل له أعني: الإمام بقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، فإنه قياس قطعي؛ لأنا نعلم أن العلة هي الأذى ونعلم وجودها فيالضرب، ولكن الحكم ههنا ظني؛ لأنه دلالة الألفاظ عنده لا تفيد إلا الظن كما تقدم نقله عنه، فتلخص أن القياس في هذا المثال قطعي والحكم المستفاد منه ظني، وحاصله أنا قطعنا بإلحاق هذا الفرع في ذلك الأصل في حكمه المظنون، وأما القياس الظني فهو أن تكون إحدى المقدمتين أو كلتاهما مظنونة كقياس السفرجل على البر في الربا، بأن الحكم بأن العلة هي الطعم ليس مقطوعا به لجواز أن تكون هي الكيل أو القوت كما قاله الخصم، وإلى هذا كله أشار المصنف بقوله: القياس إما قطعي أو ظني، الأمر الثاني: الحكم الذي في الأصل، قال في المحصول: فينظر فيه, فإن كان قطعيا فيستحيل أن يكون الحكم في الفرع أولى منه, قال: لأنه ليس فوق اليقين مرتبة، والذي قال مبني على أن العلوم لا تتفاوت, وقد تقدم الكلام عليه في الخبر المتواتر, قال: فإن لم يكن قطعيا أي: سواء كان القياس قطعيا أم لم يكن، فثبوت الحكم في الفرع قد يكون أولى من ثبوته في الأصل، وقد يكون مساويا له، وقد يكون دونه، فالأولى كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، فإن الأذى فيه أكثر, أما المساوي فكقياس الأمة على العبد في سراية العتق من البعض إلى الكل, فإنه قد ثبت في العبد بقوله -عليه الصلاة والسلام: $"من أعتق شركا له في عبد, قدم عليه" ثم قسنا عليه الأمة وهما متساويان في هذا الحكم لتساويهما في علته، وهي تشوف الشارع إلى العتق، ويسمى هذان القسمان بالقياس في معنى الأصل, ويسميان أيضا بالقياس الجلي وهو ما يقطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، فإنا نقطع بأن الفارق بين العبد والأمة وهو الذكورة والأنوثة لا تأثير لهما في أحكام العتق، وأما الأدون فهي الأقيسة التي تستعملها الفقهاء في مباحثهم، كقياس البطيخ على البر في الربا بجامع الطعم، فإنه يحتمل أن تكون العلة إنما هو القوت أو الكيل، هكذا علله بعض الشارحين وعلله بعضهم بأن الطعم في المقتات أكثر مما هو في البطيخ، وإلى هذا كله أشار المصنف بقوله: فيكون الفرع إلى آخره،

وهو متفرع على القياس من حيث هو، وليس مفرعا عن القياس الظني، وإن أوهمه كلام المصنف وصرح به الشارحون أيضا؛ ولهذا فإن الإمام جعلهما مسألتين مستقلتين وقررهما بمعنى الذي قررته من أوله إلى آخره، والذي ذكره الشارحون هنا سببه ذهولهم عن تقرير كلام الإمام على وجهه، فلزمهم أن يكون المنهاج مخالفا لأصلية الحاصل والمحصول من وجوه، وأن يكونا قد ناقضا كلاميهما بعد أسطر قلائل مناقضة فظيعة حتى صرح بعضهم بها بناء على زعمه, ويعرف ذلك بمراجعة المحصول, ومنشأ الغلط توهمهم أن القياس إنما يكون قطعيا إذا كان حكم الأصل قطعيا وهو عجيب، فإنه مع كونه مخالفا للمحصول واضح البطلان؛ لأن القياس هو التسوية وقد يقطع بتسوية الشيء بالشيء في حكمه المظنون كما تقدم إيضاحه، ومثال ذلك من خارج أن الإجماع منعقد على تسوية الخالة بالخال في الإرث أي: توريثها أيضا، كما ورثناه بمقتضى قوله -صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" 1 وعلى تقدير ثبوته، فالإرث مظنون والتسوية مقطوع بها، نعم الحكم الثابت بالقياس المظنون لا يكون إلا مظنونا. واعلم أن في كلام المصنف نظرا من وجهين, أحدهما: أن تقسيم القياس إلى أدون أراد به ضعف العلة، يعني: أن ما فيها من المصلحة أو المفسدة دون ما في الأصل، فهذا يقتضي أن لا يجوز القياس؛ لأن شرطه وجود العلة بكمالها في الفرع كما سيأتي، وإن أراد به شيئا آخر فلا بد من بيانه. الثاني: أن الحكم على تحريم الضرب وغيره من أمثلة فحوى الخطاب بأنه من باب القياس, يقتضي أن اللفظ لا يدل عليه؛ لأن القياس إلحاق مسكوت عنه بملفوظ به، لكنه قد ذكر قبيل الأوامر والنواهي أن اللفظ يدل عليه بالالتزام، وسماه مفهوم موافقة، وهذا وارد أيضا على كلام الإمام وأتباعه، وتقدم التنبيه عليه واضحا، ومنهم من قال: المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي وهو التلفظ بأف إلى المنع من أنواع الأذى كما سيأتي ذكره والاستدلال عليه, فعلى هذا يكون الضرب ثابتا بالمنطوق لا بالمفهوم كما زعمه بعض الشارحين, فتحصلنا على ثلاثة مذاهب ذكرها من تكلم على المحصول، والذي اختاره المصنف هنا وهو كونه قياسا نقله في البرهان عن معظم الأصوليين, ونص عليه الشافعي في الرسالة في أواخر باب تثبيت خبر الواحد. ثم قال: وقد يمتنع بعض أهل العلم أن يسمي هذا قياسا، واعلم أنا إذا قلنا: إنه يكون قياسا فيكون قطعيا بلا نزاع إلا على الوهم السابق فاعرفه. "قوله: قيل: تحريم" أي: استدل القائل بأن التأفيف يدل على تحريم أنواع الأذى بثلاثة أوجه، أحدها: ما فهم أهل العرف له، وجوابه أنه لو كان كذلك لم يحسن من الملك إذا استولى على عدوه أن يأمر الجلاد بقتله وينهاه عن الاستخفاف به، لكون النهي عن الاستخفاف على هذا التقدير يدل بالالتزام على

_ 1 أخرجه ابن حبان في صحيحه "13/ 6035، 6036".

القتل لكنه يصح، هكذا أجاب به الإمام فقلده فيه المصنف، وفيه نظر من وجهين، أحدهما: أنه لا يطابق المدعي أصلا؛ لأن الكلام في نقل التأفيف لا في نقل الاستخفاف، ولا يلزم من عدم النقل في لفظه عدم النقل في أخرى، فلو قال: ولا نقل له: أف, لاستقام. الثاني: أن النهي عن الاستخفاف أو التأفيف لا يدل على تحريم القتل نصا بل ظاهرا، فغاية ذلك أنه صرح بمخالفة الظاهر، وأمر ببعض أنواع الاستخفاف، ونهى عن الباقي لغرض، فالأولى في الجواب منع النقل, وقد أجاب به الإمام أيضا. الدليل الثاني: أن تحريم الضرب لو ثبت بالقياس لخالف فيه من يخالف في القياس، وأجيب أن هذا هو القياس الجلي كما تقدم، والمنكرون للقياس لم ينكروه بل إنما أنكروا القياس الخفي فقط. الثالث: أن نفي الأدنى يدل على نفي الأعلى, كقولهم: فلان لا يملك الحبة، فإنه يدل على نفي الدرهم والدينار وغيرهما، وكقولهم: لا يملك النقير ولا القطمير فإنه يدل على أنه لا يملك شيئا البتة من غير نظر إلى القياس, فكذلك نفي التأفيف مع الضرب، والنقير هو النقرة التي على ظهر النواة, والقطمير هو ما في شقها، هكذا قال في المحصول1، ولكن المعروف وهو المذكور في الصحاح أن الذي في شقها هو الفتيل، وأما القطمير فهو القشرة الرقيقة أي: الثوب، وأجاب المصنف بأن المثال الأول إنما دل فيه نفي الأدنى على نفي الأعلى لكون الأدنى وهو الحبة, جزءا للأعلى ونفي الجزء مستلزم لنفي الكل، وأما الثاني وهو النقير والقطمير، فنحن نعلم بالضرورة من هذا المثال أنه ليس المراد نفيهما، بل نفي ما يساوي شيئا، فدعوى النقل فيهما ضرورية بخلاف صورة النزاع فإنه لا ضرورة فيها إلى دعوى النقل؛ لجواز الحمل على المعنى اللغوي، ولك أن تقول: الحبة اسم للواحد مما يزرع, فلا يلزم من نفيها نفي غيرها, فإن ادعى المجيب أن التقدير ليس عنده زنة حبة، قلنا: الأصل عدم الحذف. فإن ادعى اشتهاره في العرف فيلزم أن تكون اللفظة منقولة أيضا وتستوي الأمثلة. قال: "الرابعة: القياس يجري في الشرعيات حتى الحدود والكفارات لعموم الدلائل، وفي العقليات عند أكثر المتكلمين, وفي اللغات عند أكثر الأدباء دون الأسباب والعادات أقل الحيض وأكثره". أقول: الصحيح وهو مذهب الشافعي كما قاله الإمام أن القياس يجري في الشرعيات كلها، أي: يجوز التمسك به في إثبات كل حكم حتى الحدود والكفارات والرخص والتقديرات إذا وجدت شرائط القياس فيها، وقالت الحنفية: لا يجوز القياس في هذه الأربعة، ورأيت في باب الرسالة من كتاب البويطي الجزم به في الرخص، ولأجل ذلك اختلف جواب الشافعي في جواز العرايا في غير الرطب والعنب قياسا، وذهب الجبائي والكرخي إلى أن القياس لا يجري في أصول العبادات كإيجاب الصلاة

_ 1 انظر المحصول، ص303، جـ2.

بالإيماء في حق العاجز عن الإتيان بها بالقياس على إيجاب الصلاة قاعدا في حق العاجر عن القيام، والجامع بينهما هو العجز عن الإتيان بها على الوجه الأكمل، وصحح الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجري في جميع الأحكام؛ لأنه ثبت فيها ما لا يعقل معناه كالدية, ثم استدل المصنف على الجواز بأن الأدلة الدالة على حجية القياس عامة غير مختصة بنوع دون نوع، فمثال الحدود إيجاب قطع النباش قياسا على السارق والجامع أخذ مال الغير خفية. قال الشافعي: وقد كثرت أقيستهم فيها حتى عدوها إلى الاستحسان، فإنهم زعموا فيما إذا شهد أربعة على شخص بأنه زنى بامرأة وعين كل شاهد منهم زاوية أنه يحد استحسانا، مع أنه على خلاف العقل فلأن يعمل به فيما يوافق العقل أولى، ومثال الكفارات إيجابها على قاتل النفس عمدا بالقياس على المخطئ، قال الشافعي: ولأنهم أوجبوا الكفارة في الإفطار بالأكل قياسا على الإفطار بالجماع، وفي قتل الصيد خطأ قياسا على قتله عمدا، والحنفية حاولوا الاعتذار عما وقعوا فيه، فقالوا: إن هذا ليس بقياس، وإنما هو استدلال على موضع الحكم لحذف الفوارق الملغاة، وهذا لا ينفعهم فإنه قياس من حيث المعنى لوجود شرائط القياس فيه، ولا عبرة بالتسمية, وأما الرخص فقد قاسوا فيها وبالغوا كما قال الشافعي, فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص، وهم قد عدوه إلى كل النجاسات، قال: وأما المقدرات فقد قاسوا فيها حتى ذهبوا إلى تقديراتهم في الدلو والبئر، يعني: أنهم فرقوا في سقوط الدواب إذا ماتت في الآبار، فقالوا في الدجاجة ينزح كذا وكذا، وفي الفأرة أقل من ذلك، وليس هذا التقدير عن نص ولا إجماع فيكون قياسا، واحتجت الحنفية على الحدود بقوله -عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، والقياس شبهة لا دليل قاطع، وعلى المقدرات بأن العقول لا تهتدي إليها، وعلى الرخص بأنها منح من الله تعالى, فلا تتعدى فيها مواردها، وعلى الكفارات بأنها على خلاف الأصل؛ لأنها ضرر والدليل ينفي الضرر، والجواب أنه منقوض بما قلناه. قوله: "وفي العقليات" أي: ذهب أكثر المتكلمين إلى جواز القياس في العقليات إذا تحقق فيها جامع عقلي، إما بالعلة أو الحد أو الشرط أو الدليل. قال في المحصول1: ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد بجامع من الأربعة، فالجمع بالعلة وهو أقوى الوجوه, كقول أصحابنا: العالمية في الشاهد يعني المخلوقات معللة بالعلم، فكذلك في الغالب سبحانه وتعالى, وأما الجمع بالدليل فكقولنا: حد العالم شاهدا من له العلم فكذلك في الغائب، وأما الجمع بالدليل فكقولنا: التخصيص والإتقان يدلان على الإرادة، والعلم شاهد فكذلك في الغالب، وأما الجمع بالدليل فكقولنا: شرط العلم، والإرادة في الشاهد وجود الحياة فكذلك في

_ 1 انظر المحصول، ص414، جـ2.

الغائب. قوله: "وفي اللغات" أي: ذهب أكثر أهل الأدب إلى جواز القياس في اللغات كما نقله عنهم ابن جني في الخصائص، وقال الإمام هنا: إنه الحق، قال: وذهب أصحابنا وأكثر الحنفية إلى المنع، واختاره الآمدي وابن الحاجب, وبه جزم الإمام في المحصول في كتاب الأوامر والنواهي في آخر المسألة، وقد حرر ابن الحاجب محل الخلاف، وحاصله أن الخلاف لا يأتي في الحكم الذي ثبت بالنقل تعميمه لجميع أفراده بالاستقراء كرفع الفاعل ونصب المفعول، ولا في الاسم الذي ثبت تعميمه لأفراد نوع سواء كان جامدا كرجل وأسامة، أو مشتقا كضارب ومضروب، ولا في أعلام الأشخاص كزيد وعمرو فإنها لم توضع لها لمناسبة بينها وبين غيرها وإنما محل الخلاف في الأسماء التي وضعت على الذوات لأجل اشتمالها على معانٍ مناسبة للتسمية يدور معها الإطلاق وجودا وعدما, وتلك المعاني مشتركة بين تلك الذوات وبين غيرها، فحينئذ يجوز على رأي إطلاق تلك الأسماء على غير مسمياتها لاشتراكها معها في تلك المعاني، وذلك كتسمية النبيذ خمرا لاشتراكه مع عصير العنب في الإسكار، وكذلك تسمية اللائط زانيا، والنباش سارقا، وفائدة الخلاف في هذه المسألة ما ذكره في المحصول وهو صحة الاستدلال بالنصوص الواردة في الخمر والسرقة والزنا على شارب النبيذ واللائط والنباش، واحتج المجوزون بعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] وبأن اسم الخمر مثلا دائر مع صفة الإسكار في المعتصر من ماء العنب وجودا وعدما، فدل على أن الإسكار هو العلة في إطلاق الاسم حيث وجد الإسكار وجاز الإطلاق, وإلا تخلف المعلول عن علة، واعتراض الخصم بأنه إنما يلزم من وجود علة التسمية وجود الاسم إذا كان تعليل التسمية من الشارع؛ لأن صدور التعليل من آحاد الناس لا اعتبار به، ولهذا لو قال: أعتقت غانما لسواده لم يعتق غيره من السود، وحينئذ فيتوقف المدعي على أن الواضع هو الله تعالى، وأجاب في المحصول بأنا بينا أن اللغات توقيفية، هذا كلامه وهو مخالف لما قدمه في اللغات فإنه اختار الوقف لا التوقيف، واحتج المانعون بالنقض بالقارورة وشبهها، فإن القارورة مثلا إنما سميت بهذا الاسم لأجل استقرار الماء فيها، ثم إن ذلك المعنى حاصل في الحياض والأنهار مع أنها لا تسمى بذلك، وأجاب الإمام بأن أقصى ما في الباب أنهم ذكروا صورا لا يجري فيها بالقياس. وهو غير قادح كما تقدم مثله عن النظام في القياس الشرعي، وهذا الذي ذكره في القارورة من كونهم لم يستعملوا فيها القياس اللغوي صريح في أنها وضعت للزجاجة فقط، وهو مخالف لما ذكره في الحقيقة العرفية؛ فإنه قال في المحصول هناك في الكلام على ما وضع عاما ثم تخصص بالعرف ما نصه: والخابية والقارورة موضوعان لما يستقر فيه الشيء، ويخبأ فيه, ثم تخصصا بشيء معين. قوله: "دون الأسباب" يعني أن القياس لا يجري في أسباب الأحكام على المشهور، كما قاله في المحصول وصححه الآمدي وابن

الحاجب، وذهب أكثر الشافعية كما قاله الآمدي إلى الجواز، وقال: إن هذا الخلاف يجري في الشروط. وقال ابن برهان في الأوسط: يجري فيها وفي المحال أيضا، فقال: يجوز القياس في الأسباب والشروط والمحال عندنا خلافا لأبي حنيفة, مثال المسألة أن يقال: الزنا سبب لإيجاب الحد لعلة كذا فكذلك اللواط بالقياس عليه، واستدل المانعون بأن قياس اللواط على الزنا مثلا في كونه موجبا للحد، إن لم يكن لمعنى مشترك بينهما فلا يصح القياس، وإن كان لمعنى مشترك كان الموجب للحد هو ذلك المشترك، وحينئذ يخرج كل من الزنا واللواط عن كونه موجبا؛ لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما، وحينئذ فلا يصح القياس لأن من شرطه بقاء حكم الأصل وهو غير باق هنا, وفي هذا الدليل بحث يطول ذكره. قوله: "العادات" أي: لا يجري القياس أيضا في الأمور العادية كأقل الحيض وأكثره وأقل الحمل وأكثره؛ لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمزجة, ولا يعرف أسبابها وهذا الحكم منقول في المحصول ومختصراته عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي فقط, ولم يذكر الآمدي وابن الحاجب.

الباب الثاني: في أركانه

الباب الثاني: في أركانه الفصل الأول: في العلة "الباب الثاني: في أركانه إذا ثبت الحكم في صورة المشترك بينها وبين غيرها، تسمى الأولى أصلا والثانية فرعا، والمشترك علة وجامعا، وجعل المتكلمون دليل الحكم في الأصل أصلا، والإمام الحكم في الأولى أصلا والعلة فرعا، وفي الثانية بالعكس. وبيان ذلك في فصلين: الفصل الأول: في العلة وهي المعرف الحكم, قيل: المستنبطة عرفت به, فيدور قلنا: تعريفه في الأصل وتعريفها في الفرع فلا دور". أقول: شرع المصنف في بيان أركان القياس وهي أربعة: الأصل, والفرع، والوصف الجامع بينهما، وحكم الأصل؛ فإن قيل: أهملتم خامسا وهو حكم الفرع قلنا: أجاب الآمدي بأن حكم الفرع ثمرة القياس، فلو كان من أركانه لتوقف القياس عليه وهو دور, وفيه نظر؛ فإن ثمرة القياس إنما هو العلم بالحكم لا نفس الحكم. فالأولى أن يجاب بأن حكم الفرع في الحقيقة هو حكم الأصل، وإن كان غيره باعتبار المحل كما تقدم في تعريف القياس، ثم إن المصنف لما بين الحكم في أول الكتاب لم يتعرض هنا إلى بيانه، واقتصر على بيان الأركان الثلاثة، فقال: إنه إذا ثبت حكم في صورة الأمر مشترك بينها وبين صورة أخرى كثبوت الحرمة في الخمر للإسكار المشترك بينها وبين النبيذ، فإن الصورة الأولى وهي الخمر تسمى أصلا, والصورة الثانية وهي النبيذ تسمى فرعا، والمشترك وهو الإسكار يسمى علة وجامعا، وهذا هو رأي الفقهاء, ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين. وقال الآمدي: إنه الأشبه لافتقار النص والحكم إلى المحل بالضرورة من غير عكس, وجعل المتكلمون الأصل هو دليل الحكم في الذي سميناه أصلا كالدليل الدال على تحريم الخمر في مثالنا, وقياسه أن يكون فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه كتحريم الخمر، وفي بعض الشروح أن فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه كتحريم النبيذ، قال: وهو صحيح

أيضا؛ لأن فرعَ الفرعِ فرعٌ, فعلى هذا يتفق الاصطلاحان. ولعل المصنف إنما أهمل بيان فرعه لذلك، وما قاله في الاتفاق ممنوع؛ لأن الفرع في الأول هو المحل المشبه لا حكمه، وقال الإمام: القياس مشتمل على أصلين وفرعين, فالحكم الذي في الصورة الأولى كتحريم الخمر أصل العلة التي فيها، والعلة فرع منه، وأما في الصورة الثانية وهو النبيذ، فإن الأمر بالعكس، أي تكون العلة التي فيه أصلا للحكم والحكم فرعا منها، وهذه الاصطلاحات راجعة إلى قولنا: الأصل ما يبنى عليه غيره، فأما رجوع الأولين إليه فظاهر، وأما الثالث فلأن إثبات علة الحكم في الخمر متوقف على الحكم؛ لأنا ما لم نعلم ثبوت الحكم لا نطلب علته، بخلاف النبيذ فإن إثبات الحكم فيه متوقف على العلة، لكن هذا إنما يظهر في العلة المستنبطة خاصة. وقوله: "وبيان ذلك ... إلخ" لما بين الأركان الثلاثة تبيينا إجماليا شرع في تبيينها مفصلة، فعقد لذلك فصلين، الأول: في تعريف العلة وبيان انقسامها وأحكامها، والثاني: في شرائط الأصل والفرع, وقدم الكلام على العلة لأنها الركن الأعظم، وقد اختلفوا في تفسيرها؛ فقال الغزالي: العلة هي الوصف المؤثر في الأحكام بجعل الشارع لا لذاته. وقد تقدم إبطاله في تقسيم الحكم، وقالت المعتزلة: هي المؤثر لذاته في الحكم، وهو مبني على التحسين والتقبيح، وقد تقدم إبطاله أيضا. وقال الآمدي وابن الحاجب: هي الباعث على الحكم، أي: المشتمل على حكمه, صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وقال الإمام: إنها المعرف للحكم واختاره المصنف, فإن قيل: العلة المستنبطة إنما عرفت بالحكم؛ لأن معرفة كونها علة للحكم متوقف على معرفة الحكم بالضرورة, فلو عرف الحكم بها لكان العلم بالحكم متوقفا عليها وهو دور، واحترزنا في السؤال بالمستنبطة عن المنصوصة، فإن معرفتها غير متوقفة على الحكم لكونها ثابتة بالنص، وأجاب المصنف بأن تعريف الحكم بالعلة إنما هو بالنسبة إلى الأصل، وتعريف العلة للحكم بالنسبة إلى الفرع فلا دور لاختلاف الجهة، وهذا الجواب يلزم منه زيادة قيد في التعريف، فيقال: إن العلة هي المعرف لحكم الفرع، أي: الذي من شأنه أنه إذا وجد فيه كان معرفا لحكمه، وقد أورد بعضهم على التقييد بهذه الزيادة إيرادات ضعيفة فاحذرها. قال: "النظر في أطراف, الطرف الأول في الطرق الدالة على العلية, الأولى: النص القاطع كقوله تعالى في الفيء: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الاستئذان لأجل البصر" 1 وقوله: "إنما نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة" 2 والظاهر اللام كقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]

_ 1 أخرجه البخاري "8/ 66", والإمام أحمد في المسند "5/ 330", والمنذري في الترغيب والترهيب "3/ 437". 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأضاحي "28", والإمام أحمد في مسنده "6/ 51", والهندي في كنز العمال "12263".

فإن أئمة اللغة قالوا: السلام للتعليل، وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] وقول الشاعر: ..................... ... لدوا للموت وابنوا للخراب للعاقبة مجازا, وإن مثل: "لا تقربوه طيبا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا" 1 وقوله -عليه السلام: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 2 والباء مثل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] ". أقول: النظر المتعلق بالعلة منحصر في ثلاثة أطراف؛ لأن الكلام إما في الطرق الدالة على العلية، أو في الطرق الدالة على إبطال العلية، أو في أقسام العلية، فأما الطرق الدالة على العلية فهي تسع؛ الأولى النص، قال الآمدي: وهو ما يدل بالوضع من الكتاب والسنة على علية وصف الحكم، وقسمه المصنف تبعا للإمام والآمدي إلى قاطع، وهو الذي لا يحتمل غير العلية، وظاهر وهو الذي يحتمل غيرها احتمالا مرجوحا, وفي التقسيم نظر؛ فإن دلالات الألفاظ لا تفيد اليقين عند الإمام كما تقدم غير مرة، وأيضا فقد ذكر المصنف وغيره في تقسيم الألفاظ أن الظاهر قسيم النص لا قسم منه، ثم إن القاطع له ألفاظ منها كي، كقوله تعالى في الفيء: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] ، أي: إنما وجب تخميسه كي لا يتداوله الأغنياء بينهم، فلا يحصل للفقراء منه شيء، ومنها لأجل كذا أو من أجل كذا كقوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان لأجل البصر" وكقوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة" أي: لأجل التوسعة على الطائفة التي قدمت المدينة في أيام التشريق, والدافة بالدال المهملة مشتقة من الدفيف وهو السير اللين، ومنه قولهم: دفت علينا من بني فلان دافة, قال الجوهري: ومنها ما ذكره في المحصول، وهو قولنا: لعلة كذا، أو لسبب، أو لمؤثر، أو لموجب، وأهمله المصنف لأنه في معنى لأجل, ومنها إذن، وقد ذكرها ابن الحاجب. وأما الظاهر فثلاثة ألفاظ أحدها: اللام كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] , فإن أهل اللغة قد نصوا على أنه للتعليل، وقولهم: في الألفاظ حجة، وإنما لم يكن قاطعا لاحتماله الملك والاختصاص وغير ذلك من المعاني المذكورة في علم النحو، فإن قيل: لو كانت اللام للتعليل لم يستعمل فيما يصح فيه التعليل، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} فإن جهنم ليست علة في الخلق, وكقول الشاعر: له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب قال: الموت ليس علة للولادة، كذلك الخراب ليس علة للبناء، بل اللام هنا للعاقبة، يعني أن عاقبة البناء الخراب، وعاقبة الولادة الموت، وعاقبة كثير من المخلوقات جنهم، وأجاب المصنف بأنه لما ثبت كونها للتعليل وتعذر الحمل عليه

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 333", والطبراني في المعجم الكبير "11/ 437". 2 أخرجه الإمام أحمد "5/ 303", وابن عبد البر في التمهيد "1/ 318".

ههنا كان حملها على العاقبة مجازا، فإنه خير من الاشتراك. ووجه العلاقة أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في المحصول كترتيب العلة الغائبة على معلولها, فقوله: "والظاهر" معطوف على القاطع، وقوله: "اللام" إما بدل منه أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فمنه اللام، وإن الباء وقوله أيضا، وفي قوله: أي: واللام في قوله تعالى وقول الشاعر للعاقبة مجازا. الثاني من أقسام الظاهر: إن, كقوله عليه الصلاة والسلام في حق المحرم الذي وقصته ناقته: "لا تقربوه طيبا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" , فإن قيل: هذا الكلام مخالف لما سيأتي في النوع الأول من أنواع الإيماء، فإنه قد مثل له هو والإمام بهذا المثال بعينه على عكس ما قرراه هنا, فالجواب أن المثال فيه جهتان: "جهة تدل على التعليل بالصريح "وهي أن", وجهة تدل عليه بالإيماء وهي ترتب الحكم على الوصف بالفاء" فصح التمثيل به للنص تارة وللإيماء أخرى. قال التبريزي في التنقيح: والحق أن "إن" لتأكيد مضمون الجملة ولا إشعار لها بالتعليل؛ ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سبق, حكم الثالث البقاء، كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] أي: بسبب الرحمة لنت لهم، قال في المحصول: وأصلها الإلصاق، ولكن العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل فيها معنى الإلصاق، فحسن استعمالها فيه مجازا، وهذا الكلام صريح في أنها لا تحمل عند الإطلاق على التعليل وحينئذ لا تكون ظاهرة فيه وهذا هو الصواب، وزاد ابن الحاجب على الثلاثة قولنا: إن كان كذا، وكذلك ترتيب الحكم على الوصف. قال: "الثاني: الإيماء, وهو خمسة أنواع، الأول: ترتيب الحكم على الوصف بالفاء وتكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع أو الراوي, مثاله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] " لا تقربوه طيبا" "زنى ماعز فرُجم". فرع: ترتيب الحكم على الوصف يقتضي العلية، وقيل: إذا كان مناسبا. لنا أنه قيل: أكرم الجاهل وأهن العالم قبح وليس لمجرد الأمر, فإنه قد يحسن فهو نسيق التعليل, قيل: الدلالة في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في الكل, قلنا: يجب دفعا للاشتراك". أقول: الإيماء, قال ابن الحاجب: هو أن يقترن وصف بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا وقال غيره: هو ما يدل على علية وصف بحكم بواسطة قرينة من القرائن, ويسمى بالتنبيه أيضا وهو على خمسة أنواع, الأول: ترتيب الحكم على الوصف بواسطة الفاء, وهو أن يذكر حكم ووصف وتدخل الفاء على الثاني منهما, سواء كان هو الوصف أو الحكم, وسواء كان من كلام الشارع أو الراوي, فحصل منه أربعة أقسام, الأول: أن تدخل الفاء على الوصف في كلام الشارع كقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تقربوه طيبا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا". الثاني: أن يدخل عليه في كلام الراوي ولم يظفروا له بمثال. الثالث: أن يدخل على الحكم في كلام الشارع كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} . الرابع: أن يدخل عليه في كلام الراوي, كقول الراوي: زنى ماعز فرجم, ولا فرق في الراوي بين الفقيه وغيره كما قاله ابن الحاجب. قال الإمام: ولا شك أن الوارد

في كلام الشارع أقوى في العلية من الوارد في كلام الراوي, قال: ويشبه أن يكون تقديم العلة أقوى من عكسه ثم علله بعلة فيها نظر, وهذا الذي ذكر المصنف من كون هذه الأقسام من باب الإيماء نص عليه الآمدي أيضا وجزم ابن الحاجب بأن الجميع من باب الصريح. قوله: "فرع ... إلخ" اعلم أن هذا تفريع على شيء غير مذكور, فإن كلامه الآن في أن ترتيب الحكم على الوصف بدون الفاء هل يكون علة مطلقا أم لا بد من المناسبة؟ والكلام فيه متوقف على أن الترتيب المذكور يقتضي العلية ولم يتقدم له ذكر هنا ولا في المحصول, بل تقدم فيهما ما يقتضي عكسه فإن اشتراطه للفاء دليل على أنه دونها لا يفيد، فإن قيل: إنما لم يذكره أولا لكونه يعلم من هذا الفرع, قلنا: حينئذ يكون الفرع أصلا لما قبله لا فرعا عليه، وأقرب ما في تصحيح كلامه أن يقال: معناه إذا ثبت أن الترتيب السابق يقتضي العلية, فهل يكون نفس الترتيب المجرد عن الفاء مقتضيا لها أيضا أم لا؟ وإذا قدرنا اقتضاءه إياها فهل يشترط في الوصف أن يكون مناسبا أم لا؟ والحاصل أن المختار عنده أن الترتيب بدون الفاء يقتضي العلية وإن لم يكن مناسبا، وقيل: لا بد من المناسبة، واختاره الآمدي وابن الحاجب مع ترجيحهما أن ما عدا هذا النوع من أنواع الإيماء وهو ترتيب الحكم على الوصف لا يشترط فيه المناسبة، ولم يتعرض له المصنف، ثم استدل المصنف على مذهبه بأنه لو قال قائل: أكرم الجاهل وأهن العالم, لكان ذلك قبيحا عرفا وليس قبحه لمجرد الأمر بإكرام الجاهل وإهانة العالم, فإن الأمر بإكرام الجاهل قد يحسن لدينه أو شجاعته أو نسبه أو سوابق نعمه, كذلك الأمر بإهانة العالم قد يحسن أيضا لفسقه، أو بدعته، أو سوء خلقه، وإذا لم يكن القبح لمجرد الأمر فهو لسبق التعليل، أي: لكونه يسبق إلى الأفهام تعليل هذا الحكم بهذا الوصف؛ لأن الأصل عدم علة أخرى، وإذا سبق إلى الأفهام التعليل مع عدم المناسبة لزم أن يكون حقيقة. اعترض الخصم بأن دلالة الترتيب الذي لا يناسب على العلية في هذه الصورة لا يستلزم دلالته عليها في جميع الصورة؛ لأن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية، لجواز اختلاف الجزئيات في الأحكام، وأجاب المصنف بأن هذا الترتيب لو لم يدل عليها في باقي الصورة لكان مشتركا؛ لكونه يدل على العلية تارة وعلى عدمها أخرى, فإن قيل: لا نسلم دلالته على عدم العلية إذ لا يلزم من عدم الدلالة وجود الدلالة على العدم، فالجواب أن هذا الترتيب قد وقع على مقتضى اللغة فلا بد أن يدل على شيء, فمدلوله في غير هذه الصورة إن كان هو التعليل فلا كلام، وإن كان غيره فقد دل على العلية، ولقائل أن يقول: الترتيب فرد من أفراد المركبات، والمركبات عند الإمام والمصنف غير موضوعة كما تقدم غير مرة، ووصف اللفظ بالاشتراك والمجاز فرع عن وضعه, قال الآمدي: واستنباط العلة من الحكم الملفوظ به كتعليل تحريم الخمر بالإسكار ليس من قبيل الإيماء، قال بخلاف العكس يعني: استنباط الحكم من الوصف كاستنباط الصحة من

الحل في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإن الحق الذي عليه المحققون أنه من قبيل الإيماء، وحكى ابن الحاجب في المسألتين ثلاثة مذاهب. قال: "الثاني: أن يحكم عقب علمه بصفة المحكوم, كقول الأعرابي: أفطرت يا رسول الله؟ فقال: "أعتق رقبة" 1؛ لأن صلاحية جوابه تغلب كونه جوابا. والسؤال معاد فيه تقديرا فالتحق بالأول. الثالث: أن يذكر وصفا لو لم يؤثر لم يفد مثل: " إنها من الطوافين عليكم" "ثمرة طيبة وماء طهور" وقوله: "أينقص الرطب إذا جفّ؟ " 2 قيل: نعم, قال: "فلا إذًا" 3 وقوله لعمر وقد سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ " 4 الرابع: أن يفرق في الحكم بين شيئين بذكر وصف مثل: "القاتل لا يرث"، وقوله عليه السلام: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم, يدا بيد" 5 قيد الخامس: النهي عن مفوت الواجب مثل {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ". أقول: النوع الثاني من أنواع الإيماء: أن يحكم الشارع على شخص بحكم عقب علمه بصفة صدرت منه، كقول الأعرابي: واقعت أهلي في نهار رمضان يا رسول الله, فقال عليه الصلاة والسلام: "أعتق رقبة" فإنه يدل على أن الجماع علة في الإعتاق؛ لأنه قوله -عليه الصلاة والسلام: "أعتق" صالح لجواب ذلك السؤال, والكلام صالح لأن يكون جواب السؤال إذا ذكر عقب السؤال يغلب على الظن كونه جوابا له، وإذا كان جوابا يكون السؤال معادا فيه تقديرا، فكأنه قيل: واقعت فأعتق، وحينئذ فيلتحق بالنوع الأول وهو الترتيب, وتمثيل المصنف هنا بالإفطار غير مستقيم، والصواب التمثيل بالجماع كما قلنا. النوع الثالث من أنواع الإيماء: أن يذكر الشارع وصفا لو لم يؤثر في الحكم أي: لو لم يكن علة فيه لم يكن ذكره مفيدا، ثم مثل له المصنف بأربعة أمثلة إشارة إلى ما قاله في المحصول من كونه ينقسم إلى أربعة أقسام, الأول: أن يكون ذكره دافعا لسؤال أورده من توهم الاشتراك بين صورتين، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك دخلت على قوم عندهم هرة، فقال -عليه الصلاة والسلام: "إنها ليست بنجسة, إنها من الطوافين عليكم والطوافات" فلو لم يكن طوافها علة لعدم النجاسة كان ذكره هنا عبثا، لا سيما وهو من الواضحات، فإن قيل: كيف جمع الهرة بالياء والنون مع أنها لا تعقل؟ قلنا: المراد أنها من جنس الطوافين والطوافات،

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه "7/ 86" والهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 23" والإمام أحمد في مسنده "2/ 209". 2 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "8/ 313" والإمام أحمد في مسنده "1/ 449". 3 أخرجه النسائي في سننه, في كتاب البيوع، باب 26 والترمذي "1225" وأبو داود في سننه, كتاب البيوع "باب 18". 4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 21". 5 أخرجه القرطبي في تفسيره "10/ 86" والربيع بن حبيب في مسنده "2/ 43".

الثاني: أن يذكر الشارع وصفا في محل الحكم لو لم يكن علة, لم يحتج إلى ذكره، كحديث ابن مسعود المشهور على ضعفه أنه أحضر النبي -صلى الله عليه وسلم- ماء نبذ فيه تمر أي: طرح فيه، فتوضأ به وقال: "ثمرة طيبة وماء طهور" فإن وصف المحل وهو النبيذ بطيب ثمرته وطهورية مائه دليل على بقاء طهورية الماء. الثالث: أن يسأل الشارع عن وصف، فإذا أجاب عنه المسئول أقره عليه، ثم يذكر بعده الحكم كقوله -عليه الصلاة والسلام- حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر متساويا: "أينقص الرطب إذا جف؟ " فقيل: نعم فقال: "فلا إذًا". الرابع: أن يقر الرسول -عليه الصلاة والسلام- السائل على حكم ما يشبه المسئول عنه مع تنبهه على وجه الشبه، فيعلم أن وجه الشبه هو العلة، كقوله -عليه الصلاة والسلام- لعمر وقد سأله عن إفساد الصوم بالقبلة من غير إنزال: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ " يعني: لفظته أكنت شاربه؟ فنبه الرسول بهذا على أن حكم القبلة في عدم إفسادها الصوم كحكم ما يشبهها وهي المضمضة، ووجه الشبه أن كلا منهما مقدمة لم يترتب عليه المقصود وهو الشرب والإنزال. النوع الرابع من الإيماء: أن يفرق الشارع في الحكم بين شيئين بذكر وصف لأحدهما, فيعلم أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم وإلا لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة، ومثل له المصنف بمثالين إشارة إلى ما قاله في المحصول من كونه على نوعين، أحدهما: أن لا يكون حكم الشيء الآخر وهو قسيم الموصوف, مذكورا معه، كقوله -عليه الصلاة والسلام: "القاتل لا يرث" فإن هذا الحديث ليس فيه التنصيص على توريث غير القاتل. والثاني: أن يكون مذكورا معه، وهو على خمسة أقسام ذكرها في المحصول1، أحدها وعليه اقتصر المصنف تبعا للحاصل: أن تكون التفرقة بالشرط, كقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير" إلى أن قال: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم, يدا بيد". الثاني: أن تكون التفرقة بالغاية، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . الثالث: أن يكون بالاستثناء كقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 23] . الرابع: أن يكون بالاستدراك كقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . الخامس: أن يكون باستئناف ذكرهما, كقوله -عليه الصلاة والسلام: "للراجل سهم, وللفارس سهمان". النوع الخامس: النهي عن فعل يكون مانعا لما تقدم وجوبه علينا، كقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] , فإنه تعالى لما أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع علمنا أن العلة فيه تفويت الواجب. قال: "الثالث: الإجماع كتعليل تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث، بامتزاج النسبين. الرابع: المناسبة، المناسب: ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، وهو حقيقي

_ 1 انظر المحصول، ص317، جـ2.

دنيوي ضروري كحفظ النفس بالقصاص، والدين بالقتال، والعقل بالزجر عن المنكرات، والمال بالضمان، والنسب بالحد على الزنا، ومصلحي كنصب الولي للصغير، وتحسيني كتحريم القاذورات، وأخروي كتزكية النفس، وإقناعي يظن مناسبا فيزول بالتأمل فيه". أقول: لما تقدم أن الطرق الدالة على العلية تسعة، وتقدم منها شيئان هما: النص والإيماء بأقسامهما، شرع في الثالث وهو الإجماع، فإذا أجمعت الأمة على كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني ثبتت عليته له، كإجماعهم على أن العلة في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث هو امتزاج النسبين، أي: كونه من الأبوين, وحينئذ فيقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح والصلاة عليه, وتحمل النقل بجامع امتزاج النسبين. قوله: "الرابع" أي: الطريق الرابع من الطرق الدالة على العلية المناسبة، ثم إن المصنف شرع في تعريف المناسب؛ لأنه المقصود هنا، ويعرف منه تعريف المناسبة، والمناسب في اللغة هو الملائم، واختلفوا في معناه الشرعي، فقال ابن الحاجب: المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من جلب منفعة أو دفع مضرة، وذكر الآمدي نحوه أيضا، وذلك كالقتل العمد العدوان فإنه وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم عليه وهو إيجاب القصاص على القاتل حصول منفعة، وهو بقاء الحياة، وإن شئت قلت: دفع مضرة وهي التعدي، فإن الشخص إذا علم وجوب القصاص امتنع عن القتل، وفي التعريف نظر؛ لأن المناسب قد يكون ظاهرا منضبطا وقد لا يكون بدليل صحة انقسامه إليهما، حيث قالوا: إن كان ظاهرا منضبطا اعتبر في نفسه، وإن كان خفيا أو غير منضبط اعتبرت مظنته، وقال الإمام: من لا يعلل أحكام الله تعالى يقول: إن المناسب هو الملائم لأفعال العقلاء في العادات، ومن يعللها يقول: إنه الوصف المقتضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، وفيه نظر أيضا، فإنهم نصوا على أن القتل العمد العدوان مناسب لمشروعية القصاص مع أن هذا الفعل الصادر من الجاني لا يصدق عليه أنه وصف ملائم لأفعال العقلاء عادة، ولا أنه وصف جالب للنفع أو دافع للضرر، بل الجالب أو الدافع إنما هو المشروعية وكذلك الردة والإسكار والسرقة والغصب والزنا، وقال المصنف: المناسب هو ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، فجعل المقاصد أنفسها أوصافا مناسبة على خلاف اختيار الإمام وهو فاسد، ألا ترى أن مشروعية القصاص مثلا جالبة أو دافعة كما بيناه، وليست هي الوصف المناسب؛ لأن المناسب من أقسام العلل فيكون هو القتل في مثالنا لا المشروعية؛ لأنها معلولة لا علة، وكذلك الردة وغيرها مما قلناه. قوله: "وهو حقيقي ... إلى آخره" يعني: أن المناسب إما حقيقي أو إقناعي؛ لأن مناسبته إن كانت بحيث لا يزول بالتأمل فيه فهو الحقيقي وإلا فهو إقناعي؛ والحقيقي إما دنيوي بأن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا, أو أخروي بأن يكون لمصلحة تتعلق بالآخرة, والدنيوي إما ضروري أو مصلحي أو

تحسيني؛ لأن الوصف المشتمل على المصلحة إن انتهت مصلحته إلى حد الضرورة فهو الضروري، وإلا فإن كانت في محل الحاجة فهو المصلحي، وإن كانت مستحسنة في العادات فهو التحسيني، فالضروري هو المتضمن لحفظ النفس، أو الدين, أو العقل, أو المال، أو النسب، فأما النفس فمحفوظة بمشروعية القصاص، فإن القتل العمد العدوان مناسب لوجوب القصاص؛ لأنه مقرر للحياة التي هي أجل المنافع، وأما الدين فمحفوظ بمشروعية القتال مع الحربيين والمرتدين، فإن الحرية والردة مناسبة له، وأما العقل فمحفوظ بمشروعية الزجر عن المنكرات، فإنه مناسب له. وأما المال فمحفوظ بمشروعية الضمان عند أخذه بالباطل. وأما النسب فمحفوظ بمشروعية وجوب الحد على الزنا، وهذه الأشياء مناسبتها ظاهرة وهي المعروفة بالكليات الخمس التي لم تبح في ملة من الملل، وأما المصلحي فكنصب الولي على الصغيرة أي: تمكينه من تزويجها، كما قال في المحصول1 فإن مصالح النكاح غير ضرورية في الحال، إلا أن الحاجة إليه حاصلة وهو تحصيل الكفؤ الذي لو فات لربما فات لا إلى بدل، وأما التحسيني فكتحريم القاذورات, فإن نفرة الطباع منها لخساستها مناسب لحرمة تناولها؛ حثا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم. ومن هذا القبيل كما قاله في المحصول سلب أهلية الشهادة الولاية عن العبد؛ لأن شرفهما لا يناسب العبد الذي هو نازل المقدار، وأما الأخروي فهو المعالي المذكورة في علم الحكمة في باب تزكية النفس وهي تهذيب الأخلاق، ورياضة النفوس المقتضية لشرعية العبادات فإن الصلاة مثلا وضعت للخضوع والتذلل، والصوم لإنكسار النفس بحسب القوى الشهوانية والعصبية، فإذا كانت النفس زكية تؤدي المأمورات وتجتنب المنهيات حصلت لها السعادات الأخروية, وأما الإقناعي فمثل له من المحصول بتعليل الشافعي رضي الله عنه تحريم بيع الخمر والميتة بالنجاسة. ثم يقيس عليه الكلب والخنزير، والمناسبة أن كونه نجسا يناسب إذلاله، ومقابلته بالمال في البيع إعزاز والجمع بينها متناقض, فهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب لكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن كونه نجسا معناه أنه لا يجوز الصلاة معه وليس بينه وبين امتناع البيع مناسبة. قال: "والمناسبة تفيد العلية, إذا اعتبرها الشارع فيه كالسكر في الحرمة، أو في جنسه كامتزاج النسبين في التقديم، أو بالعكس كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط الصلاة، أو جنسه في جنسه كإيجاب حد القذف على الشارب؛ لكون الشرب مظنة القذف, والمظنة قد أقيمت مقام المظنون؛ لأن الاستقراء دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد تفضلا وإحسانا, فحيث ثبت حكم وهناك وصف ولم يوجد غيره ظن كونه علة, وإن لم تعتبر وهو المناسب المرسل اعتبره مالك".

_ 1 انظر المحصول، ص221، جـ2.

أقول: الوصف المناسب على ثلاثة أقسام, أحدها: أن يلغيه الشارع أي: يورد الفروع على عكسه فلا إشكال في أنه لا يجوز التعليل به؛ ولهذا أهمله المصنف، وذلك كإيجاب صوم شهرين في كفارة الجماع في نهار رمضان على المالك, فإنه وإن كان أبلغ في ردعه من العتق، لكن الشارع ألغاه بإيجابه الإعتاق ابتداء، فلا يجوز اعتباره كما قلنا، وقد أنكروا على يحيى بن يحيى تلميذ مالك حيث أفتى بعض ملوك المغاربة بذلك. الثاني: أن يعتبره الشارع أي: يورد الفروع على وفقه، وليس المراد باعتباره أن ينص على العلة أو يومئ إليها، وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة, وهذا النوع على أربعة أقسام ذكرها المصنف, أحدها: أن يعتبر الشارع نوع المناسبة في نوع الحكم, كالسكر مع الحرمة, فإن السكر نوع من الوصف, والتحريم نوع من الحكم، وقد اعتبره الشارع فيه حيث حرم الخمر فيلحق به النبيذ، وإلى هذا أشار بقوله: إذا اعتبرها الشارع فيه اعتبر النوع في النوع، وإنما أهمل التصريح به لكونه يعلم مما بعده. واعلم أن المصنف في التقسيم السابق قد جعل الوصف المناسب لتحريم المسكر هو حفظ العقل, ثم جعله هنا نفس السكر. وهذا الثاني لا يوافق تفسيره للمناسب؛ لأن نفس السكر لا يصدق عليه أنه جلب نفعا ولا دفع ضررا. الثاني: أن يعتبر الشارع نوع الوصف في جنس الحكم، وإليه أشار بقوله: أو في جنسه، وتقريره أن يعتبر الشارع النوع في الجنس، وذلك كامتزاج النسبين مع التقديم, فإن امتزاج النسبين وهو كونه أخا من الأبوين نوع من الوصف. وقد اعتبره الشارع في التقديم على الأخ من الأب فإنه قدمه في التراث، وقسنا عليه التقديم في ولاية النكاح والصلاة عليه وتحمل الدية لمشاركتها له في الجنسية, وإن خالفه في النوعية؛ إذ التقديم في ولاية النكاح نوع مغاير للتقديم في الإرث، بخلاف الحكم المتقدم وهو تحريم النبيذ والخمر, فإن الاختلاف هناك بالمحل خاصة ولا أثر له, فيكون تحريمها نوعا واحدا. الثالث: أن يعتبر الشارع جنس المناسبة في نوع الحكم, وإليه أشار بقوله: أو بالعكس، وذلك كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط القضاء, فإن الشارع اعتبر جنس المشقة في نوع سقوط قضاء الركعتين، وإنما جعلنا الأول جنسا، والثاني نوعا؛ لأن مشقة السفر نوع مخالف لمشقة الحيض، وأما سقوط قضاء الركعتين بالنسبة إلى المسافر والحائض فهو نوع واحد. الرابع: أن يعتبر الشارع جنس الوصف في جنس الحكم، أي: قال -رضي الله عنه- في شارب الخمر: أرى أنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى, فيكون عليه حد المفتري يعني القاذف، ووافقه الصحابة على ذلك فقد أوجبوا حد القذف على الشرب، لا لكونه شربا بل أقاموا مظنة القذف وهو الشرب مقام القذف، قياسا على إقامة الخلوة بالأجنبية مقام الوطء في التحريم؛ لكون الخلوة مظنة له, فقد ظهر أن الشارع اعتبر المظنة التي هي جنس لمظنة الوطء ولمظنة القذف في الحكم الذي هو جنس لإيجاب حد القذف ولحرمة الوطء، والمراد بالجنس هنا هو

القريب؛ لأن اعتبار الجنس البعيد في الجنس البعيد هو المناسب المرسل كما ستعرفه، ثم اعلم أن للجنسية مراتب، قال في المحصول: فأعم أوصاف الأحكام كونه حكما، ثم الحكم ينقسم إلى وجوب وغيره، والوجوب إلى عبادة وغيرها، والعبادة إلى صلاة وغيرها، والصلاة إلى نافلة وغيرها، فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة, قال: وكذا في جانب الوصف، فأعم الأوصاف كونه يناط به الحكم، ثم المناسب، ثم الضروري. قوله: "لأن الاستقراء" هو متعلق بقوله: يفيد العلية، وتقديره أن المناسبة في هذه الأقسام الأربعة تفيد العلية؛ لأنا استقرينا أحكام الشرع فوجدنا كل حكم منها مشتملا على مصلحة عائدة إلى العباد، ويعلم منه أن الله تعالى شرع أحكامه لرعاية مصالح عباده على سبيل التفضل والإحسان لا على سبيل الحتم والوجوب خلافا للمعتزلة، وحينئذ فحيث ثبت حكم في الصورة وهناك وصف مناسب له متضمن لمصلحة العبد ولم يوجد غيره من الأوصاف الصالحة للعلية غلب على الظن أنه علة لكون الأصل عدم غيره، وإذا ثبت أنه علة ثبت أن المناسبة تفيد العلية وهو المدعي، وقال الإمام في المعالم: إنه لا يجوز تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد. قوله: "وإن لم تعتبر" هي بالتاء بنقطتين من فوق؛ لأنه قسيم لقوله: والمناسبة تفيد العلية، إذا اعتبرها الشارع فيه، وأشار بهذا إلى القسم الثالث وهو المناسب الذي لا يعلم هل اعتبره الشارع أو ألغاه وهو المسمى بالمناسب المرسل، وفي اعتباره خلاف يأتي مبسوطا في الكتاب الخامس إن شاء الله تعالى. قال الإمام: وذلك إنما يكون بحسب أوصاف هي أخص من كونه وصفا مصلحيا، وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار, ولأجل ما ذكره أعني الإمام عبر عن المناسب المرسل بأنه المناسب الذي اعتبر جنسه في جنسه، ولم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه، وهذا التفسير الذي فسر بأنه كلام المصنف للمرسل وهو أن لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه صرح به الآمدي, وكذلك المصنف في الغاية القصوى، وقال ابن الحاجب: المرسل هو الذي لم يعتبره الشارع سواء علم أنه ألغاه أم لم يعلم الاعتبار ولا إلغاء, وإنما حملنا كلام المصنف على الأول لكونه مطابقا لكلامه في الغاية, وموافقا لما نقله عن مالك, فإن مالكا لم يخالف في القسم الذي ألغاه الشارع. قال: "والغريب ما أثر هو فيه ولم يؤثر جنسه في جنسه، كالطعم في الربا, والملائم ما أثر جنسه في جنسه أيضا, والمؤثر ما أثر جنسه فيه. مسألة: المناسبة تبطل بالمعارضة؛ لأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه، ولا يصير نفعه غير نفع لكن يندفع مقتضاه". أقول: هذا تقسيم للقسم الأول وهو المناسب الذي علم اعتباره، وحاصله أنه ينقسم باعتبار تأثير نوعه وجنسه في نوع الحكم وجنسه إلى الغريب الملائم والمؤثر, والمناسب الغريب هو الذي أثر نوعه من نوع الحكم، ولم يؤثر

جنسه في جنسه، وسمي به لكونه لم يشهد غير أصله المعين باعتباره، ومثاله: الطعم في الربا، فإن نوع الطعم مؤثر في حرمة الربا، وليس جنسه مؤثرا في جنسه, وقد سبق له مثال آخر ذكره المصنف, وهو السكر مع المحرمة، والملائم هو ما أثر جنسه في جنسه كما أثر نوعه في نوعه، كالقتل العمد العدوان مع وجوب القصاص، فإن نوعه مؤثر في وجوب القصاص، وكذا جنسه وهو الجناية مؤثر في جنس القصاص وهو العقوبة، قال الآمدي: وهذا القسم متفق على قبوله بين القياسين وما عداه فمختلف فيه, والمؤثر هو ما أثر جنسه في نوع الحكم لا غير كالمشقة مع سقوط الصلاة مع ما مر. هكذا ذكره المصنف, وهو خلاف ما في أصليه الحاصل والمحصول، فأما المحصول ففيه قبيل الكلام على المشبه أن المؤثر هو ما أثر نوعه في بعض لحكم، قال: كامتزاج النسبين مع التقديم كما تقدم إيضاحه، وهذا عكس ما ذكره المصنف، وأما الحاصل ففيه في الموضع المذكور أيضا أن المؤثر هو ما أثر جنس في جنس الحكم، والظاهر أنه اشتبه عليه كلام الإمام فغلط في اختصاره له، وقد خالف ابن الحاجب أيضا هذا التقسيم، فقال: الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع إن كان اعتباره بتنصيص الشارع على كونه علة أو بقيام الإجماع عليه فهو المؤثر, وإن كان اعتباره بترتيب الحكم على وفقه نظر, إن اعتبر عينه في جنس للحكم, أو بالعكس، أو جنسه في جنسه، فهو الملائم, وإن اعتبر نوعه في نوعه فهو الغريب، وإذا علمت هذا علمت أنه مخالف لكلام المصنف في المؤثر والملائم, وموافق له في الغريب. وأما الآمدي فتفسيره للملائم والغريب موافق لتفسير المصنف، وتفسيره للمؤثرات موافق لتفسير ابن الحاجب. واعلم أن أقسام المناسب على ما تقتضيه القسمة العقلية تسعة؛ لأنه إما أن يؤثر نوعه أو جنسه أو كلاهما في نوع الحكم، أو جنسه، أو كليهما، قال الآمدي: والواقع من هذه الأقسام خمسة, ذكر في الكتاب ألقابا ثلاثة منها, وبقي منها قسمان سبق مثالهما لم يتعرض للقبهما, أحدهما: أن يكون جنس الوصف مؤثرا في جنس الحكم دون النوع في النوع, كتأثير المظنة في مظنونها على ما سبق إيضاحه، وتمثيله بشرب الخمر، قال في الأحكام: وهو من جنس المناسب الغريب, والثاني: أن يكون نوع الوصف, نقله عنه. قوله: "مسألة ... إلخ" اعلم أن الوصف إذا كان مشتملا على مصلحة لمشروعية الحكم، وعلى مفسدة تقتضي عدم مشروعيته، فهل يكون تضمنه للمفسدة موجبا لبطلان مناسبته للحكم أم لا؟ فيه مذهبان حكاهما في الأحكام من غير ترجيح، أحدهما وهو المختار عند ابن الحاجب: أنها تبطل إذا كانت المفسدة مساوية أو راجحة. والثاني: لا تبطل, وهو اختيار الإمام وأتباعه، واستدل المصنف عليه بأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه لا يصير نفعه غير نفع لاستحالة انقلاب الحقائق, وإذا بقي نفعه بقيت مناسبته وهو المطلوب، غاية ما في الباب أنه لا يترتب عليه مقتضاه لكونه مرجوحا. قال: "الخامس: الشبه, قال القاضي

المقارن للحكم إن ناسبه بالذات كالسكر للحرمة فهو المناسب، أو بالتبع كالطهارة لاشتراط النية فهو الشبه، وإن لم يناسب فهو الطرد كبناء القنطرة للتطهير، وقيل: ما لم يناسب إن علم اعتبار جنسه القريب فهو الشبه وإلا الطرد، واعتبر الشافعي المشابهة في الحكم، وابن علية في الصورة, والإمام ما يظن استلزامه ولم يعتبره القاضي مطلقا. لنا أنه يفيد ظن وجود العلة فيثبت الحكم, قال: ما ليس بمناسب فهو مردود بالإجماع، قلنا: ممنوع". أقول: هذا هو الطريق الخامس من الطرق الدالة على العلية وهو الشبه، واختلفوا في تعريفه, فقال بعضهم: وهو الوصف الذي لا تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام، ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام، فهو دون المناسب، وفرق الطردي، ولأجل شبهه بكل منهما سمي الشبه, ومثاله قول الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة, فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة، وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف، يوهم اشتمالها على المناسب، وهذا القول نقله الآمدي عن أكثر المحققين. قال: وهو الأقرب إلى قواعد الأصول ولم يذكره المصنف، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الوصف المقارن للحكم إن ناسبه بالذات، فهو المسمى المناسب، كالسكر مع التحريم، وإن لم يناسبه بالذات بل بالتبع أي: بالاستلزام فهو الشبه, كتعليل وجوب النية في التيمم بكونه طهارة حتى يقاس عليه الوضوء، فإن الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط النية، وإلا اشترطت في الطهارة عن النجس، لكن تناسبه من حيث إنها عبادة، والعبادة مناسبة لاشتراط النية, وإن لم تناسبه بالذات ولا بالتبع فهو الطرد، كاستدلال المالكي مثلا على جواز الوضوء بالماء المستعمل بقوله: إنه مائع, تبنى القنطرة على جنسه، فيجوز الوضوء به قياسا على الماء في النهر. فإن بناء القنطرة على الماء ليس مناسبا لكونه طهورا أو مستلزما له، وقال بعضهم: الوصف الذي لم يناسب الحكم إن علم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو الشبه, وإن لم يعلم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب فهو الطرد، ومثله بعضهم بإيجاب المهر بالخلوة بالزوجة على القول القديم. فإن الخلوة لا تناسب وجوب المهر؛ لأن وجوبه في مقابلة الوطء, إلا أن جنس هذا الوصف وهو كون الخلوة مظنة للوطء قد اعتبر في جنس الوجوب وهو الحكم، ووجه اعتباره فيه أنه قد اعتبر في التحريم، والحكم جنس له, فعلينا من التقسيم الأول أن الشبه هو الوصف المقارن للحكم المناسب له بالتبع، وهذا هو المعبر عنه بقياس الدلالة, وقد فسروه بأنه الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم، ولكن يستلزم المناسب, وعلمنا من التقسيم الثاني أنه الوصف الذي ليس مناسبا وعلم اعتبار جنسه القريب في جنس الحكم القريب, ولم يرجح الإمام ولا أتباعه شيئا من هذا الخلاف وكذلك ابن الحاجب أيضا، واعلم

أن التعبير عما ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد ذكره جماعة، والتعبير المشهور فيه هو الطردي بزيادة الياء، وأما الطرد فمن جملة الطرق الدالة على العلية كما سيأتي في القسم الثاني. قوله: "واعتبر الشافعي ... إلخ" هو فرع آخر سماه الشافعي: قياس الأشياء، وأدخله المصنف في مسألة قياس الشبه؛ لأن فيه مناسبة له، وحاصله أنه إذا تردد فرع بين أصلين قد أشبه أحدهما في الحكم والآخر في الصورة، قال الشافعي -رحمه الله: يعتبر المشابهة في الحكم؛ ولهذا ألحق العبد المقتول بسائر المملوكات في لزوم قيمته على القاتل, وإن زادت على الدية، والجامع أن كلا منهما يباع ويشترى، واعتبر ابن علية المشابهة في الصورة حتى لا يزاد على الدية، ونقله إمام الحرمين في البرهان عن أبي حنيفة وأحمد؛ ولهذا أوجب أحمد التشهد الأول كالثاني, ولم يوجب أبو حنيفة الثاني كالأول. وقال الإمام فخر الدين: متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة للحكم أو مستلزم لما هو علة له, صح القياس مطلقا سواء كان في الصورة أو الحكم، وقال القاضي أبو بكر: لا اعتبار بعلية ما ذكر هنا مطلقا، ومقتضى كلام المصنف أن القاضي خالف في الشبه وفي قياس الأشياء، وقد أخذ الشارحون ظاهره فصرحوا به, وليس كذلك؛ فقد صرح الغزالي في المستصفى بأن قياس الأشياء ليس فيه خلاف؛ لأنه متردد بين قياسين مناسبين, ولكن وقع التردد في تعيين أحدهما, ذكر ذلك في الطرف الثالث قبيل باب أركان القياس, وذكر في البرهان قريبا منه أيضا وكلام المحصول لا يرد عليه شيء, فإنه نقل خلاف القاضي في الشبه خاصة، ولكن الذي أوقع المصنف في الوهم أن الإمام بعد فراغه من تفسير المشبه قال: واعلم أن الشافعي رحمه الله يسمي هذا قياس غلبة الأشياء، وهو أن يكون الفرع واقعا بين أصلين إلى آخر ما قال، فتوهم المصنف أنه أشار بقوله هذا إلى ما تقدم من تفسير قياس الشبه وليس كذلك, بل إشارة إلى وقوع الفرع بين أصلين. قوله: "لنا" أي: الدليل على أن قياس الشبه معتبر وذلك أن الشبه يفيد ظن كون الوصف علة, أما على التفسير الأول من تفسيري المصنف فلأنه مستلزم للعلة، وأما على التفسير الثاني فلأنه لما ثبت أن الحكم لا بد له من علة، ورأينا تأثير جنس الوصف في جنس الحكم دون غيره من الأوصاف، كأن ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره, وإذا ثبت إفادته للظن وجب العمل به لما تقدم غير مرة، واحتج القاضي بأن الشبه ليس بمناسب، وما ليس بمناسب فهو مردود, فإن كان مستلزما له فليس مردودا بالاتفاق بل هو حجة عندنا وهو أول المسألة. قال: "السادس: الدوران, وهو أن يحدث الحكم بحدوث وصف, وينعدم بعدمه، وهو يفيد ظنا، وقيل: قطعا، وقيل: لا قطعا، وقيل: ولا ظنا. لنا أن الحادث له علة, وغير المدار ليس بعلة؛ لأنه إن وجد قبله فليس بعلة التخلف، وإلا فالأصل عدمه, وأيضا علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من الصور، لا تجتمع مع عدم علية بعضها؛ لأن ماهية الدوران إما أن تدل على علية المدار

فيلزم علية هذه المدارات, أو لا تدل فيلزم عدم علية تلك؛ للتخلف السالم عن المعارض. والأول ثابت فانتفى الثاني وعورض بمثله، وأجيب بأن المدلول قد لا يثبت لمعارض، قيل: الطرد لا يؤثر والعكس لم يعتبر, قلنا: يكون للمجموع ما ليس لأجزائه". أقول: الطريق السادس من الطرق الدالة على العلية: الدوران, وسماه الآمدي وابن الحاجب الطرد والعكس. وهو كما قال المصنف عبارة عن حدوث الحكم بحدوث الوصف وانعدامه بعدمه, وذلك الوصف يسمى مدارا, والحكم يسمى دائرا, ثم إن الدوران قد يكون في محل واحد كالسكر مع عصير العنب فإنه قبل أن يحدث فيه وصف الإسكار كان مباحا، وعند حدوثه حدثت الحرمة. وقد يكون في محلين كالطعم في تحريم الربا, فإنه لما وجد الطعم في التفاح كان ربويا، ولما لم يوجد في الحرير لم يكن ربويا, وأراد المصنف بحدوث الأحكام حدوث تعلقاتها, وأما ذواتها فهي قديمة, كما تقدم تعبيره بقوله: بحدوث, وبقوله: بعدمه، يقتضي أنه لا بد أن يكون الوصف علة للحدوث والعدم, فإن الياء دالة على التعليل. وقد صرح الغزالي في المستصفى وفي شفاء العليل بذلك، فقال: والمؤثر من الدوران هو أن يكون الثبوت بالثبوت والعدم بالعدم، وأما الدوران بمعنى الثبوت مع الثبوت، والعدم مع العدم فليس بعلة, واعترض عليه الإمام فخر الدين في الرسالة النهائية بأن قال: الثبوت بالثبوت هو كونه علة له, فكيف يستدل به على علية الوصف لثبوت الحكم؟ وهذا الاعتراض بعينه وارد على عبارة المصنف, لا جرم أن الإمام في المحصول عبر بالثبوت عند الثبوت وبالانتفاء عند الانتفاء، لكنه ينتقض بالمتضايقين كالنبوة والأبوة, فإن الحد صادق على ذلك مع أنه ليس من الدوران؛ لأن الدوران يفيد العلية كما سيأتي، وأحد المتضايقين ليس علة للآخر؛ لأن العلة متقدمة على المعلول, والمضافان معا، واختلفوا في أن الدوران هل يفيد العلية أم لا؟ فقال الإمام والمصنف: إنه يفيد التعليل ظنا، وقال بعض المعتزلة: يفيد العلية قطعا، وقال بعضهم: لا يفيدنا أصلا ولا قطعا ولا ظنا, واختاره الآمدي وابن الحاجب, وكلام المحصول في الأفعال الاختيارية قبل البعثة يقتضيه. قوله: "لنا" أي: الدليل على ما قلنا من وجهين أحدهما: أن الحكم لم يكن ثم كان فيكون حدثا، وكل حادث لا بد له من علة بالضرورة, فعلته إما الوصف المدار أو غيره، لا جائز أن يكون غير المدار وهو العلة؛ لأن ذلك الغير إن كان موجودا قبل صدور ذلك الحكم فليس بعلة له، وإلا لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل، وإن لم يكن موجودا فالأصل بقاؤه على العدم، وإذا حصل ظن أن غير المدار ليس بعلة حصل ظن أن المدار هو العلة وهو المدعى. والثاني ولم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل: أن عليه بعض المدارات للحكم الدائر مع تخلف ذلك الدائر عن ذلك المدار في شيء من صورة لا تجتمع مع عدم علية بعض المدارات للدائر؛ لأن ماهية الدوران من حيث هي, إما أن تدل على

علية المدار للدائر أولا، فإن دلت فيلزم علية هذه المدارات التي هي فرضنا عدم عليتها؛ لأنه حيث وجه الدوران وجد عليه المدار للدائر، فلا تجتمع علية المدارات مع عدم علية بعضها، وإن لم تدل ماهية الدوران على علية المدار للدائر، فيلزم عدم علية تلك المدارات أي: التي فرضنا عليتها، وتخلف عنها الدائرة في شيء من صورها لوجود المقتضي لعدم العلية، وهو تخلف الدائر عن المدار مع سلامته عن المعارض، وهو دلالة ماهية الدوران على العلية, فإن دلالة ماهية الدوران على العلية تقتضي علية الدوران والتخلف يقتضي عدم عليته، فبينهما تعارض, فثبت أن علية بعض المدارات مع التخلف لا تجتمع مع عدم علية بعضها, والأول وهو علية بعض المدارات مع التخلف ثابت بالاتفاق؛ لأن شرب السقمونيا علة الإسهال مع تخلف الإسهال في بعض الأمكنة بالنسبة إلى بعض الأشخاص. وإذا ثبت الأول انتفى الثاني وهو عدم علية بعض المدارات للدائر، ويلزم من انتفائه علية جميع المدارات وهو المدعى, وإنما قيد علية بعض المدارات بالتخلف المذكور ليستدل به على عدم علية تلك على تقدير عدم دلالة ماهية الدوران على العلة. وقوله: "وعورض" أي: عارض الخصم هذا الدليل بمثله، وتقدير المعارضة أن يعاد الدليل السابق بعينه فيقال: علية بعض المدارات مع التخلف ... إلخ, إلا أنا نبدل قولهم: والأول ثابت فينتفي الثاني بقولنا، والثاني ثابت كالمتضايفين فينتفي الأول هذا هو الصواب في تقريره فاعتمده. وأجاب المصنف أن جواب المعارضة هو الترجيح وهو حاصل معنا؛ وذلك لأنه يلزم مما قلناه، وهو كون جميع المدارات علة للدائر مع التخلف في بعض الصور, أن يوجد الدليل بدون المدلول وهو أمر معقول, فإنه يجوز أن يتخلف المدلول المانع، ويلزم مما قالوه وهو كون المدارات ليست بعلة مع علية بعضها, أن يوجد المدلول بدون الدليل وهو غير معقول. قوله: "قيل: الطرد" أي: احتج من قال: إن الدوران لا يفيد العلية مطلقا بأن الدوران مركب من الطرد، وهو ترتب وجود الشيء على جوده غيره، والعكس وهو ترتب عدم الشيء على عدم غيره، والطرد لا يؤثر في إفادة العلية؛ لأن الطرد معناه سلامته مع الانتقاض, وسلامة المعنى من مبطل واحد من مبطلات العلية، لا توجب انتفاء كل مبطل, والعكس غير معتبر في العلل الشرعية على الصحيح؛ لأن عدم العلة مع وجود المعلول لعلة أخرى لا يقدح في علية العلة المعدومة لجواز أن يكون للمعلول علتان على التعاقب, كالبول والمس بالنسبة إلى الحدث. وأجاب المصنف بأنه لا يلزم من عدم دلالة كل واحد منهما على الانفراد عدم دلالة مجموعهما, فإنه يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية تأثير لا يكون لكل واحد من الأجزاء، كأجزاء العلة, فإن كلا منها منفردا غير مؤثر, ومجموعهما مؤثر. قال: "السابع: التقسيم الحاضر كقولنا: ولاية الإجبار، إما أن لا تعلل بالبكارة، أو الصغر, أو غيرهما والكل باطل سوى الثاني, فالأول والرابع للإجماع, والثالث لقوله عليه الصلاة

والسلام: "الثيب أحق بنفسها" 1 , والسبر غير الحاصر مثل أن تقول: علة حرمة الربا إما الطعم أو الكيل أو القوت, فإن قيل: لا علة لها أو العلة غيرها, قلنا: قد بينا أن الغالب على الأحكام تعليلها، والأصل عدم غيرها". أقول: الطريق السابع من الطرق الدالة على العلية: التقسيم الحاصر، والتقسيم الذي ليس بحاصر، ويعبر عنهما بالسبر والتقسيم، ومعناه: أن الباحث على العلة يقسم الصفات التي يتوهم عليتها، بأن يقول: علة هذا الحكم إما هذه الصفة وإما هذه, يسبر كل واحدة منهما، أي يختبره ويلغي بعضها بطريقة، فيتعين الباقي للعلية، فالسبر هو أن يختبر الوصف هل يصلح للعلية أم لا؟ والتقسيم, وقولنا: العلة إما كذا وإما كذا، فكان الأولى أن يقدم التقسيم في اللفظ فيقال: التقسيم والسبر لكونه متقدما في الخارج، فالتقسيم الحاصر هو الذي يكون دائرا بين النفي والإثبات كقول الشافعي مثلا: ولاية الإجبار على النكاح إما أن لا تعلل بعلة أصلا أو تعلل، وعلى التقدير الثاني فإما أن تكون معللة بالبكارة أو الصغر أو بغيرهما, والأقسام الأربعة باطلة سوى القسم الثاني, وهو التعليل بالبكارة, فأما الأول وهو أن تكون معللة, والرابع وهو أن تكون معللة بغير البكارة والصغر فباطلان بالإجماع، وأما الثالث فلأنها لو كانت معللة بالصغر لثبتت الولاية على الثيب الصغيرة لوجود العلة وهو باطل، لقوله -عليه الصلاة والسلام: "الثيب أحق بنفسها"، وهذا القسم يفيد القطع إن كان الحصر في الأقسام وإبطال غير المطلوب قطعيا، وذلك قليل في الشرعيات، وإن لم يكن كذلك فإنه يفيد الظن. وأما التقسيم الذي ليس بحاصر فهو الذي لا يكون دائرا بين النفي والإثبات, ويسمى بالتقسيم المنتشر وعبر عنه المصنف بالسبر غير الحاصر، وعبر عن الأول بالتقسيم الحاصر تنبيها على جواز إطلاق كل واحد من السبر، والتقسيم على كل واحد من القسمين، وهذا القسم لا يفيد إلا الظن، فلا يكون حجة في العقليات بل الشرعيات فقط، كقولنا: علة حرمة الربا إما الطعم أو الكيل أو القوت, والثاني والثالث باطلان بالنقض أو بغيره، فتعين الطعم وهو المطلوب، قال في المحصول2: وهذا إذا لم يتعرض الإجماع على تعليل حكمه وعلى حصر العلة في الأقسام، فإن تعرض لذلك كان قطعيا. قوله: "فإن قيل" أي: أورد على الاستدلال بالسبر غير الحاصر، فقيل: لا نسلم أن تحريم الربا معلن، فإن من الأحكام ما لا علة له بدليل أن علية العلة غير معللة، وإلا لزم التسلسل، سلمنا فلم لا يجوز أن تكون العلة غير هذه الثلاث فإنكم لم تقيموا دليلا على الحصر فيها، وأجاب المصنف عن الأول بأنا بينا في باب المناسبة أن الغالب على الأحكام الشرعية تعليلها بالصالح, فيكون ظن التعليل أغلب من ظن عدم التعليل، وعن الثاني بأن الأصل عدمه علة أخرى غير الأمور المذكورة، وذلك كافٍ في حصول الظن بعلية

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح "67" والنسائي في سننه, كتاب النكاح "باب 32". 2 انظر المحصول، ص353، جـ2.

أحدهما. قال: "الثامن: الطرد, وهو أن يثبت معه الحكم فيما عدا المسارع فيه, فيثبت فيه إلحاقا للمفرد المتنازع بالأعم الأغلب، وقيل: تكفي مقارنته في صورة, وهو ضعيف". أول الطريق الثامن من الطرق الدالة على العلية الطرد, والطرد مصدر بمعنى الاطراد، وهو أن يثبت الحكم مع الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وقد اختلفوا فيه فمن لا يقول بحجة الدوران كالآمدي وابن الحاجب لا يقول بهذا بطريق الأولى، ومن يقول بحجته اختلفوا هنا، فذهب الغزالي في شفاء العليل، والإمام فخر الدين في الرسالة النهائية إلى أنه حجة، ومال إليه في المحصول، وصرح به صاحب الحاصل، وقطع به المصنف، وذهب جماعة منهم الغزالي في المستصفى إلى أنه ليس بحجة، واستدل الأولون بأن الحكم إذا كان ثابتا مع الوصف في الصور المغايرة لمحل النزاع، ثم وجد ذلك الوصف بعينه في محل النزاع، لزم أن يثبت الحكم فيه إلحاقا للمفرد بالأعم الأغلب، فإن كان استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب، وذهب بعضهم إلى أنه يكفي في التعليل بالوصف مقارنته للحكم في صورة واحدة؛ لأنا إذا سلمنا أن الحكم لا بد له من علة، وعلمنا حصول هذا الوصف ولم نعلم غيره ظننا أنه علة، إذ الأصل عدم ما سواه، قال المصنف: وهو ضعيف؛ لأن الظن لا يحصل إلا بالتكرار. قال: "التاسع: تنقيح المناط، بأن يبين إلغاء الفارق، وقد يقال: العلة، إما المشترك أو المميز، ولا يكفي أن يقال: محل الحكم، إما المشترك أو مميز الأصل؛ لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحكم". أقول: الطريق التاسع, وهو آخر الطرق الدالة على العلية: تنقيح المناط، أي: تلخيص ما أناط الشارع الحكم به أي: ربطه به وعقله عليه، وهو العلة، والمناط اسم مكان من الإناطة، والإناطة للتعليق والإلصاق، قال حبيب الطائي: بلاد بها نِيطت عليَّ تماتمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها1 أي: علقت على الحروز بها، فلما ربط الحكم بالعلم وعلق عليها سميت مناطا، وتنقيح مناطي العلة هو أن يبين المستدل إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، وحينئذ فيلزم اشتراكهما في الحكم، مثاله أن يقول الشافعي للحنفي: لا فارق بين القتل بالمثقل والمحدد، لا كونه محددا، وكونه محددا لا مدخل له في العلية؛ لكون المقصود من القصاص هو حفظ النفوس، فيكون القتل هو العلة وقد وجد في المثقل، فيجب فيه القصاص. وهذا النوع عند الحنفية يسمونه بالاستدلال، وليس عندهم من باب القياس كما تقدم بسطه. قوله: "قد يقال" أي: قد يقرر بعبارة أخرى، فيقال: علة الحكم إما المشترك بين الأصل والفرع, وهو القتل العمد في مثالنا، أو المميز للأصل عن الفرع،

_ 1 حبيب بن أوس الطائي: أبو تمام، الشاعر الأديب، أحد أمراء البيان، ولد في جاسم "من قرى حوران بسورية" ورحل إلى مصر, واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على الشعراء في وقته، توفي سنة "231هـ" "الأعلام 2/ 165".

أي: الذي اختص به الأصل، وهو كونه قتلا بالمحدد. والثاني باطل لكذا، فثبت الأول، ويلزم من ذلك ثبوت الحكم في الفرع، قال في المحصول: وهذا طريق جيد، إلا أنه هو بعينه طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت. قوله: "ولا يكفي" أي: لا يكفي أن يقال في تقريره: إن هذا الحكم لا بد له من محل، وهو إما المشترك بين الأصل والفرع أو المميز، والثاني باطل لكذا، فتعين الأول، وإنما قلنا: لا يكفي؛ لأنه لا يلزم منه ثبوت الحكم في الفرع؛ لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحال، والفرق بين تنقيح وتخريج المناط، وتحقيق المناط, على ما نقله الإمام الغزالي, أن تنقيح المناط هو إلغاء الفارق كما بيناه, وأما تخريج المناط فهو استخراج علة معينة للحكم ببعض الطرق المتقدمة كالمناسبة، وذلك كاستخراج الطعم أو القوت أو الكيل بالنسبة إلى تحريم الربا، وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، أي إقامة الدليل على وجودها فيه، كما إذا اتفقا على أن العلة في الربا هي القوت، ثم يختلفان في أن التين هل هو مقتات حتى يجري فيه الربا أم لا؟ قال: "تنبيه: قيل: لا دليل على عدم عليته فهو علة، قلنا: لا دليل على عليته فليس بعلة، قيل: لو كان علة لتأتى القياس المأمور به، قلنا: هو دور". أقول: نبه المصنف بهذا على فساد طريقين, ظن بعض الأصوليين أنهما مفيدان للعلية، أحدهما: أن يقال: هذا الوصف علة لأنه لا دليل على عدم عليته، وإذا انتفى الدليل على عدم عليته انتفى عدم عليته لأنه يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول، وإذا انتفى عدم عليته ثبتت عليته لامتناع ارتفاع النقيضين. والجواب أنا نعارضه بمثله فنقول: هذا الوصف ليس بعلة؛ لأنه لا دليل على عليته، وإذا انتفى الدليل عليها لزم انتفاؤها، وإذا انتفت ثبت عدم عليته بعين ما قالوه. الطريق الثاني: أن يقال: إن الوصف على تقدير عليته يتأتى معه العمل بالقياس، وعلى تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك والقياس مأمور به، ولا شك أن العمل بما يستلزم المأمور به أولى من غيره، وأجاب المصنف بأن هذا الطريق يلزم منه الدور؛ لأن تأتي القياس متوقف على كون الصفة علة، فلو أثبتنا كونه علة يتأتى القياس لزم الدور، وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا مختصر كلامه. واعلم أن تقرير الطريق الثاني على الوجه الذي ذكره المصنف فاسد, فإن قوله: لو كان علة لتأتى القياس المأمور به، إنما يكون محصلا للمدعي، وهو كونه علة لو كان القياس الاستثنائي منتجا لعين المقدم عند الاستثناء عين التالي، كقولنا لكنه يتأتى معه القياس المأمور به فيكون علة، وليس كذلك، فإن المنتج في القياس الاستثنائي أمران, أحدهما: استثناء عين المقدم لإنتاج عين التالي، والثاني: استثناء نقيض التالي لإنتاج نقيض المقدم، أما استثناء عين التالي أو نقيض المقدم فإنهما لا ينتجان, والطريق في إصلاح هذا أن يجعل قياسا اقترانيا، فيقال: علية الوصف توجب تأتي القياس، وكل ما يوجب تأتي القياس فهو أولى، فينتج أن علية الوصف أولى، قال: " الطرف الثاني: فيما يبطل العلة وهو ستة, الأول:

النقض وهو إبداء أو صنف بدون الحكم، مثل أن نقول لمن لم يبيت: تعرى أول صومه عن النية، فلا يصح, فينتقض بالتطوع، قيل: يقدح, وقيل: لا مطلقا، وقيل: في المنصوصة، وقيل: حيث مانع، وهو المختار، وقياسا على التخصيص، والجامع جمع الدليلين، ولأن الظن باقٍ بخلاف ما إذا لم يكن مانع، قيل: العلة ما يستلزم الحكم، وقيل: انتفاء المانع لم يستلزمه، قلنا: بل إما يغلب على ظنه وإن لم يخطر المانع وجودا أو عدما, والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا؛ لأن الإجماع أدل على النقض". لما فرغ المصنف من الطرق الدالة على كون الوصف علة, شرع في الطرق الدالة على كونه ليس بعلة وهي ستة: النقض، وعدم التأثير، والكسر، والقلب بالموجب، والفرق الأول النقض، وهو إبداء الوصف المدعى عليته بدون وجود الحكم في صورة يعبر عنه بتخصيص الوصف، كقول الشافعي في حق من لم يبيت النية: تعرى أول صومه عنها, فلا يصح فيجعل عراء أول الصوم عن النية علة لبطلانه، فيقول الحنفي: هذا ينتقض بصوم التطوع, فإنه يصح بدون التبييت فقد وجدت العلة وهو العراء بدون الحكم وهو عدم الصحة، إذا علمت هذا فنقول: النقض إن كان واردا على سبيل الاستثناء كالعرايا فسيأتي أنه لا يقدح، وإن لم يكن كذلك ففيه أربعة أقوال, أحدها: يقدح مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان تخلف الحكم عن الوصف لمانع أم لا, واختاره الإمام فخر الدين، وقال الآمدي: إنه الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعي في العلة المستنبطة، قال: وقيل: إنه منقول عن الشافعي نفسه، وتوجيه كون النقض قادحا في العلة المنصوصة ما قاله الغزالي، وهو أنا نتبين بعد وروده أن ما ذكر لم يكن تمام العلة بل جزءا منها، كقولنا: خارج, فينقض الطهر أخذا من قوله -عليه الصلاة والسلام: "الوضوء بما خرج" 1 ثم إنه لم يتوضأ من الحجامة، فنعلم أن العلة هو الخروج من المخرج المعتاد لا مطلق الخروج، والثاني: لا يقدح مطلقا، والثالث: لا يقدح في العلة المنصوصة سواء حصل مانع أم لا، ويقدح في العلة المستنبطة مطلقا، والرابع, اختاره المصنف: لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، فإن لم يكن مانع قدح مطلقا، وإلى المذهبين الأخيرين أشار بقوله: وقيل في المنصوصة وقيل: حيث مانع، وتقديره وقيل: لا يقدح في المنصوصة، وقيل: لا يقدح حيث مانع، وإنما لم يصرح بالنفي لكونه معطوفا على منفي، واختار ابن الحاجب أنه إن كانت مستنبطة فلا يجوز تخصيصها إلا لمانع، أو انتفاء شرط، وإن كانت منصوصة فإنها تختص بالنص المنافي لحكمها، وحينئذ فيقدر المانع في صورة التخلف، وذكر الآمدي نحوه أيضا. قوله: "قياسا" أي: الدليل على ما قلناه من وجهين أحدهما: قياس النقض على التخصيص، فكما أن التخصيص

_ 1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: "الوضوء مما خرج" "1/ 243" والبيهقي في سننه "1/ 116" والعجلوني في كشف الخفاء "2/ 465".

لا يقدح في كون العام حجة، فكذا النقض لا يقدح في كون الوصف علة، والجامع بينهما هو الجمع بين الدليلين المتعارضين، فإن مقتضى العلة ثبوت الحكم في جميع مجالها، ومقتضى المانع عدم ثبوته في بعض تلك الصور، فيجمع بينهما بأن ترتيب الحكم على العلية فيما عدا صورة وجود المانع، كما أن مقتضى العام ثبوت حكمه في جميع أفراده، ومقتضى المخصوص عدم ثبوته في بعضها، وقد جمعنا بينهما فالنقض للمانع المعارض العلة كالتخصيص للمخصص والمعارض للعام. الدليل الثاني: أن ظن العلة باقٍ إذا كان التخلف المانع؛ لأن التخلف والحالة هذه يسنده العقل إلى المانع لا العدم المقتضي، بخلاف التخلف لا المانع، فإن العقل يسنده إلى العدم المقتضي؛ لأن انتفاء الحكم إما لانتفاء العلة أو لوجود المانع. والثاني: منتف فتعين الأول، وحينئذ فيزول ظن العلية، وإذا بقي الظن بعلية الوصف مع النقض لمانع لم يكن قادحا بخلاف ما إذا انتفى لأن المراد بالعلية هو الظن بها. قوله: "قيل: العلة" أي: احتج القائلون بأن النقض يقدح مطلقا بأن العلة هو ما يستلزم الحكم، والوصف مع وجود المانع لا يستلزمه فلا يكون علة، وحينئذ فيكون النقض مع المانع قادحا، وإذا قدح مع المانع قدح مع عدمه بطريق الأول، وعبر المصنف عن حالة وجود المانع بقوله: وقيل: انتفاء المانع، وهي عبارة ركيكة، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن العلة هو ما يستلزم الحكم، بل العلة عندنا هو ما يغلب على الظن وجود الحكم بمجرد النظر إليه، وإن لم يخطر بالبال وجود المانع أو عدمه. قوله: "والوارد ... إلخ" يعني: أن ما تقدم جميعا فمحله فيما إذا لم يكن النقض الوارد بطريق الاستثناء، فإن كان مستثنى أي: ناقضا لجميع العلل, واردا على خلاف القياس, لازما لجميع المذاهب فإنه لا يقدح، كما جزم به المصنف، وقال في الحاصل: إنه الأصح ونقله في المحصول عن قوم, ولم يصرح بمخالفتهم ولا موافقتهم، ومثال ذلك العرايا وهو بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر فإنها ناقضة لعلة تحريم الربا قطعا؛ لأن الإجماع منعقد على أن العلة في تحريمه، إما الطعم أو الكيل أو القوت أو المال، وكل منها موجود في العرايا، ثم استدل المصنف على كونه لا يقدح بأن النقض وإن دل على الوصف المنقوض بعلة, لكن الإجماع منعقد على كونه علة، ودلالة الإجماع على العلية أقوى من دلالة النقض على عدم العلية؛ لكون الإجماع قطعيا, فلذلك لم يقدح له الإمام أيضا بضرب الدية على العاقبة فإنه ناقض لعلة عدم المؤاخذة وهو عدم الجناية وفيه نظر، فإن هذا من باب العكس، وهو إبداء الحكم بدون العلة لأن الجناية علة لوجوب الضمان؛ فلذلك اختار المصنف التمثيل بالعراة وادعى إمام الحرمين في البرهان أن الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى، وخالفه، واختلف الأصوليون في أنه هل يجب على المستدل أن يتحرز في دليله على النقض في المستثنى؟ على مذهبين حكاهما في المحصول من غير ترجيح، وحكى ابن الحاجب في الاحتراز عن النقض

مطلقا مذاهب, ثالثها: أنه يجب في الصورة المستثناة دون غيرها، واختار أنه لا يجب مطلقا. قال: "وجوابه منع العلة لعدم قيد، وليس الدليل على وجوده؛ لأنه نقل، ولو قال: ما دللت به على وجوده هنا دل عليه ثمة، فهو نقل إلى نقض الدليل، أو دعوى الحكم مثل أن يقول: السلم: عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع، فينتقض بالإجارة، قلنا: هناك لاستقرار المعقود عليه، لا لصحة العقد ولو تقديرا، كقولنا: رق الأم علة رق الولد، ويثبت في ولد المغرور تقديرا, وإلا لم تجب قيمته أو إظهار المانع". أقول: لما تقدم أن النقض عبارة عن إبداء الوصف بدون الحكم, وأنه إنما يقدح إذا تخلف لغير مانع لزم أو يكون جوابه بأحد أمور ثلاثة, وهو إما منع وجود العلة في صورة النقض أو دعوى وجود الحكم فيها أو إظهار المانع؛ فلذلك أردفه المصنف به وأهمله رابعا, وهو بيان كونه واردا على سبيل الاستثناء. الأول من الأمور الثلاثة: منع وجود العلة في صورة النقض لعدم قيد من القيود المعتبرة في علية الوصف, مثاله ما قاله المصنف في أول هذه المسألة وهو أن يقول الشافعي فيمن لم يبيت النية في رمضان: يعرى أول صومه عنها, فلا يصح فينقضه الحنفي بالتطوع فيجيبه الشافعي: أن العلة في البطلان هو عراء أول الصوم بقيد كونه واجبا لا مطلق الصوم, وهذا القيد مفقود في التطوع فلم توجد العلة فيه, ثم إذا منع المعلل وجود العلة في صورة النقض لعدم القيد كما فرضنا, فهل للمعترض أن يقيم الدليل على وجود الوصف بتمامه في صورة النقض؟ فيه مذاهب حكاها ابن الحاجب من غير ترجيح أحدها, وبه جزم الإمام والمصنف أنه ليس له ذلك لأنه نقل من مرتبة المنع إلى مرتبة الاستدلال وعلله الإمام بأنه نقل من مسألة إلى مسألة, يعني أن الانتقال إلى وجود العلة في صورة النقض انتقال من مسألة إلى أخرى في غير التي كانا فيها وكلام المصنف يحتمل الأمرين, والثاني: له ذلك مطلقا: لأن النقض مركب من مقدمتين, إحداهما إثبات العلة, والثانية تخلف الحكم وإثبات مقدمة من مقدمات المطلوب ليس نقلا من بحث إلى آخر, والثالث وهو رأي الآمدي: أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في دفع كلام المستدل وجب قبوله, وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود. قوله: "ولو قال ... إلخ" يعني: إذا منع المعلل وجود العلة في محل النقض ولم يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجودها كما بينا, وكان المعلل قد استدل على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض كما ستعرفه, فتمسك به المعترض فقال: ما ذكرت من الدليل على وجود العلة في محل التعليل فهو بعينه يدل على وجودها في محل النقض, فجزم الآمدي بأنه لا يكون مسموعا أيضا قال: لكونه انتقالا من نقض العلة إلى نقض دليلها, وذكر ابن الحاجب مثله أيضا ثم قال: وفيه نظر وظاهر كلام المحصول أو صريحه يدل على أنه مقبول, وكلام المصنف محتمل الأمرين وهو إلى عدم القبول أقرب, ومثال ذلك أن يقول الحنفي: من نوى صوم رمضان قبل الزوال فصومه صحيح، قياسا على من نوى

ليلا والجامع هو الإتيان بمسمى الصوم في الصورتين؛ لأن الصوم عبارة عن الإمساك مع النية؛ فيقول الشافعي: فهو منقوض بما إذا نوى بعد الزوال، فإن العلة وهي الإتيان بمسمى الصوم موجودة هناك مع عدم الصحة، فيقول الحنفي: لا نسلم أن العلة موجودة هناك، فيقول الشافعي له: ما ذكرته من الدليل على وجود العلة في صورة الخلاف، دل بعينه على وجودها في صورة النقض، ثم قال الآمدي وابن الحاجب وغيرهما: إن طريق المعترض والحالة هذه أن يقول ابتداء: يلزمك إما انتقاض دليلك أو انتقاض علتك؛ لأن العلة إن كانت موجودة في صورة النقض فقد انتقضت، وإن لم تكن موجودة فقد انتقض الدليل. قوله: "أو دعوى الحكم" هذا هو الطريق الثاني في دفع النقض، وهو أن يدعي المعلل ثبوت الحكم في تلك الصورة التي نقض بها المعترض ثبوته, وقد يكون تحقيقيا وقد يكون تقديريا، فالتحقيق مثل أن يقول الشافعي: السلم عقد معاوضة, فلا يشترط فيه التأجيل قياسا على البيع فينقضه الحنفي بالإجارة، فإنها عقد معاوضة مع أن التأجيل يشترط فيها، فيقول الشافعي: ليس الأجل شرطا لصحة عقد الإجارة أيضا, بل التأجيل الذي هو فيها إنما هو الاستقرار المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين، إذ لا يتصور استقرار المنفعة المعدومة في الحال، ولا يلزم من كون الشيء شرطا في الاستقرار، أن يكون في الصحة ومثال التقدير أن يقول المستدل: رق الأم علة لرق الولد، فينقضه المعترض بولد المغرور بحرية الجارية، فإن رق الأم موجود مع انتفاء رق الولد، فيقول المعلل: رق الولد موجود تقديرا؛ لأنا لو لم نقدر رقه لم نوجب قيمته؛ لأن القيمة للرقيق لا للحر. الأول وهو التحقيق يدفع النقض إن كان ثبوت الحكم فيه مذهبا للمعلل سواء كان مذهبا للمعترض أم لا، كما قاله في المحصول1 وفي تمكن المعترض من الاستدلال على عدمه الأقول التي تقدمت في العلة كما قاله ابن الحاجب وغيره، وأما الثاني وهو التقديري فتوقف فيه الإمام ومختصرو كلامه وجزم المصنف بأنه يدفع ولم يتعرض له الآمدي ولا ابن الحاجب. قوله: "أو إظهار المانع" هذا هو الطريق الثالث في دفع النقض، ومثاله أن يقول الشافعي: القتل العمد العدوان علة في وجوب القصاص، وحينئذ فيجب في المثقل فينقضه الحنفي بقتل الوالد ولده, فيقول الشافعي: إنما لم أوجبه على الولد لوجود المانع، وهو كون الوالد سببا لوجود الولد، فلا يكون الولد سببا لعدمه. قال: "تنبيه: دعوى ثبوت الحكم أو نفيه عن صورة معينة، أو مبهمة ينتقض بالإثبات، أو النفي العامين بالعكس". أقول: لما تقدم الكلام في حد النقض ومحل قدحه وطريق دفعه، شرع في بيان ما يكون نقضا مما لا يكون؛ فنقول: دعوى الحكم قد تكون في بعض الصور, وقد تكون في كلها, فإن كانت في البعض ففيه أربعة أقسام؛ لأنه إن ادعى ثبوت الحكم فقد يكون في صورة معينة أو مبهمة, وإن ادعى نفيه فقد يكون في صورة معينة

_ 1 انظر المحصول، ص372، جـ2.

أو مبهمة، فدعوى ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالنفي العام، أي: بنفي ذلك الحكم عن كل صورة؛ لأن الموجبة الجزئية تناقضها السالبة الكلية، لا بالنفي عن بعض الصور؛ لأنه لا مناقضة بين القضيتين الجزئيتين، ودعوى نفي الحكم عن صورة معينة أو مبهمة تنتقض بالإثبات العام أي: بإثباته في كل صورة لأن السالبة الجزئية تناقضها الموجبة الكلية, لا بإثباته في بعض الصور لما قلناه من عدم التناقض بين الجزئيتين. نعم دعوى الثبوت في صورة معينة تنتقض بالنفي عن تلك الصورة وكذلك بالعكس، ولم يصرح به المصنف. وإلى هذه الأقسام أشار بقوله: دعوى ثبوت الحكم إلى العامين, وتقرير كلامه دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة تنتقض بالنفي العام، ودعوى نفي الحكم عن صورة معينة أو مبهمة تنتقض بالإثبات العام وهو من باب اللفّ والنشر, على جعل الأول للثاني والثاني للأول، وإن كان الأحسن عكسه كما قاله الشلوبين1 ليكون على وفق الترتيب. قوله: "بالعكس" أشار به إلى القسم الآخر وهو أن يكون دعوى الحكم عاما، ويدخل فيه أيضا أربعة أقسام, وتقديره دعوى ثبوت الحكم العام تنتقض بنفيه عن صورة معينة أو مبهمة, ودعوى النفي العام تنتقض بإثباته في صورة معينة أو مبهمة؛ لأن الكلية تناقضها الجزئية، ولا ينتقض الإثبات العام بالنفي العام وعكسه؛ لأنه لا تناقض بين كليتين. قال: "الثاني: عدم التأثير بأن يبقى الحكم بعده, وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة أخرى بعلة أخرى. فالأول كما لو قيل: "مبيع لم يره" فلا يصح كالطير في الهواء. والثاني: الصبح لا يقصر، لا يقدم أذانه كالمغرب, ومنع التقديم ثابت فيما قصر، والأول يقدح إن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين، والثاني: حيث يمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين, وذلك جائز في المنصوصة كالإيلاء واللعان، والقتل والردة، لا في المستنبطة لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما يصرفه عن الآخر وعن المجموع". أقول: الثاني من الطرق الدالة على كون الوصف ليس بعلة عدم التأثير وعدم العكس, وإنما جمع المصنف بينهما لتفاوت معنييهما, فعدم التأثير هو أن يبقى الحكم بعد زوال الوصف الذي فرض أنه علة، وعدم العكس هو أن يثبت الحكم في صورة بعلة أخرى غير العلة الأولى وسماه الإمام العكس، والصواب عدم العكس كما قاله المصنف؛ لأن العكس هو انتفاء الحكم لانتفاء العلة، فمثال الأول قول الشافعي في الدليل على بطلان بيع الغائب: مبيع غير مرئي, فلا يصح كالطير في الهواء، والجامع بينهما هو عدم الرؤية فيه, فيقول المعترض: هذه الرؤية ليست مؤثرا في عدم الصحة لبقاء هذا الحكم في هذه الصورة بعينها بعد زوال هذا الوصف، فإنه ولو رآه لا يصح بيعه لعدم

_ 1 أبو علي الشلوبين: عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي، الشلوبيني أو الشلوبين، من كبار علماء النحو واللغة، مولده ووفاته بإشبيلية، من كتبه: القوانين, والتوطئة، وشرح المقدمة الجزولية, وغيرها, توفي عام "645هـ". "الأعلام 5/ 62".

القدرة على تسليمه، ومثال الثاني استدلال الحنفية على منع تقديم أذان الصبح بقولهم: صلاة الصبح صلاة لا تقصر, فلا يجوز تقديم أذانها على وقتها قياسا على صلاة المغرب، والجامع بينهما هو عدم جواز القصر. فيقول الشافعي: هذا الوصف غير منعكس؛ لأن هذا الحكم وهو منع التقديم ثابت بعد زوال هذا الوصف في صورة أخرى غير محل النزاع, كالظهر مثلا فإنها تقصر مع امتناع تقديم أذانها، وهذا المنع لعلة أخرى غير عدم القصر بالضرورة لزوال عدم القصر مع بقاء المنع. وقد اختلفوا في عدم التأثير وعدم العكس هل يقدحان أم لا؟ وبنى المصنف الأول على أن الحكم الواحد بالشخص هل يجوز تعليله بعلتين مستقلتين؟ فعند من ذهب إلى امتناعه يكون قادحا؛ لأن عدم الوصف المفروض علة مع بقاء الحكم كما كان من غير أن يكون ثابتا بعلة أخرى, يحصل العلم بأن ذلك الوصف غير علة, وعند من جوزه لا يكون قادحا؛ لجواز أن يكون بقاء الحكم لوصف آخر غير ذلك الوصف المفروض لعلة. وأما الثاني وهو العكس، فبناه على أن الحكم الواحد بالنوع هل يجوز تعليله لعلتين أم لا؟ وبناؤه ظاهر مما تقدر, فإن من يجوز ذلك لا يجعل هذا قادحا لجواز ثبوت حكم في صورة العلة، وثبوت مثله في صورة أخرى لعة أخرى. وقد علمت من هذا الحكم الواحد، إن بقي شخصه بعد زوال العلة فهو عدم التأثير، وإن بقي نوعه فهو عدم العكس، ووجه كون الأول واحدا بالشخص أن امتناع بيع الطير في الهواء قد بقي بعينه بعد الرؤية كما كان قبلها بخلاف منع تقديم الأذان, فإن الباقي منه بعد زوال العلة وهو كون الصلاة لا تقصر إنما هو المنع في الرباعية، والذي كان ثابتا مع العلة إنما هو منع غيرها لكنهما مشتركان في النوعية، وهو منع تقديم الأذان، وبناء عدم التأثير على تعليل الواحد بالشخص يلزم منه أن يكون المراد ببقاء الحكم فيه إنما هو البقاء في تلك الصورة بعينها فافهمه. إذ علمت ذلك فقد اختلفوا في جواز تعليل الحكم لواحد بعلتين على مذاهب, أحدها: يجوز مطلقا واختاره ابن الحاجب. والثاني: لا يجوز مطلقا واختاره الآمدي. والثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة، واختاره الإمام كما نص عليه بعد هذه المسألة في الكلام على الفرق، وتابعه المصنف هنا، ثم إن مقتضى كلام المصنف أن الخلاف جارٍ في الواحد بالشخص الواحد بالنوع، وقال الآمدي: محل الخلاف في الواحد بالشخص، وأما الواحد بالنوع فيجوز بلا خلاف، وهذا الخلاف هو المعبر عنه بأن العكس هل هو معتبر في العلل أم لا, لكن الإمام لما حكاه هنا ذكر أن العلل الشرعية لا يشترط فيها العكس. قال: وفي العقلية خلاف بين أصحابنا والمعتزلة، ثم اختار مذهب المعتزلة, وهو أنه لا يشترط. وقد اختصر صاحب التحصيل كلامه على وجهه، وأما صاحب الحاصل فإنه نقل عن الأشاعرة أنهم خالفوا في العقليات والشرعيات، وليس مطابقا لما في المحصول، وإذا جمعت بين ما قاله الإمام هنا وبين قوله: إنه لا يجوز

تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، علمت أن حكمه بجواز العكس في العلل الشرعيات إنما هو في المنصوصة دون المستنبطة، ثم استدل المصنف على أن الحكم الواحد بالشخص يجوز تعليله بعلتين منصوصتين بالوقوع، فإن اللعان والإيلاء علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة وكذلك من ارتد والعياذ بالله وجنى على شخص فقتله, كل منهما علة مستقلة في إراقة دمه. وإذا ثبت ذلك الواحد بالشخص ثبت في الواحد بالنوع بطريق الأولى؛ لأن كل من قال بالأول قال بالثاني بخلاف العكس كما تقدم وهو من محاسن كلام المصنف فاعلمه, واجتنب ما قاله الشارحون فيه. نعم التمثيل بالإيلاء فاسد, فإن الزوجة لا تحرم به أصلا، وليس فيه الحنث على تقدير الوطء، وهذا المثال لم يذكره الإمام هنا، غير أنه ذكر في موضع آخر ما يوافقه، وتبعه فيه المصنف، وكأنه توهم أن الحلف على الشيء يكون محرما له, ولو مثل بالظهار لاستقام، وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأن الحكم فيها، وإنما هو مستبد إلى ما ظن المجتهد أنه علة له. وعلى هذا التقدير يمتنع التعليل بعلتين؛ لأن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الوصفين يصرفه عن ثبوته لأجل الوصف الآخر أو لأجل مجموع الوصفين, وحينئذ فلا يحصل الظن بعلية كل منهما. ومثال ذلك إذا أعطى شيئا لفقيه, فإنه يحتمل أن يكون الإعطاء للفقه، وأن يكون للفقر فلا يجوز إسناده إليهما لما قلنا، وهذا الدليل منقوض بالعلل المنصوصة. واختلف القائلون بالجواز إذا اجتمعت, فقيل: كل واحدة علة مستقلة ورجحه ابن الحاجب، وقيل: المجموع علة واحدة، وقيل: العلة واحدة لا بعينها. إذا علمت جميع ما قاله المصنف وهو أن عدم التأثير وعدم العكس إنما يقدحان إذا منعنا تعليل الحكم الواحد بعلتين، وأن الراجح في التعليل بعلتين منه في المستنبطة دون المنصوصة، علمت أن الراجح عنده أنهما يقدحان في المستنبطة دون المنصوصة، وهو خلاف ما في المحصول, فإن حاصل ما فيه أنهما لا يقدحان. قال: "الثالث: الكسر وهو عدم تأثير أحد الجزأين ونقض الآخر، كقولهم: صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها، فيجب أداؤها قبل خصوصية الصلاة, ملغى؛ لأن الحج كذلك فيبقى كونه عبادة، وهو منقوض بصوم الحائض". أقول: الثالث من الطرق الدالة على إبطال العلة: الكسر، وهو أن تكون العلة مركبة، فيبين أن المعترض عدم تأثير أحد جزأيها, ثم ينقض الجزء الآخر كما إذا استدل الشافعي على وجوب فعل الصلاة في حال الخوف بقوله: صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها, فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن، فالعلة كونها صلاة يجب قضاؤها وهو مركب من قيدين فيقول الحنفي: خصوصية القيد الأول وهو كونه صلاة, ملغى لا أثر له؛ لأن الحج كذلك أي: يجب قضاؤها، فيجب أداؤه, مع أنه ليس بصلاة فبقي كونها عبادة يجب قضاؤها, وهو منقوض بصوم الحائض فإنه عبادة يجب قضاؤها مع أنه لا يجب أداؤها. وهذا الذي قرره المصنف من كون وجوب قضاء الحج علة لوجوب أدئه غير مستقيم؛ فإن

التطوع يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه، وقد اختار الآمدي أن الكسر يقدح كما اختاره المصنف، ولكنه عبر عنه بالنقض المكسور، وفسر الكسر بتخلف الحكم عن الحكمة المقصودة منه، ونقل عن الأكثرين أنه لا يقدح واختاره, ومثل له بأن يقول الحنفي في مسألة العاصي بسفره: مسافر فيترخص كالمطيع في سفره, ويبين مناسبة السفر للترخيص بما فيه من المشقة، فيقال: ما ذكرته من الحكمة قد وجدت في الحضر في حق أرباب الصنائع الشاقة مع عدم الترخيص، واختار ابن الحاجب في جميع ذلك ما اختاره الآمدي. قال: "الرابع: القلب, وهو أن يربط، خلاف قول المستدل على علته إلحاقا بأصله، وهو إما نفي مذهبه صريحا كقولهم: المسح ركن من الوضوء فلا يكتفى فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم، كالوجه فيقول: ركن منه, فلا يقدر بالربع كأوجه, أو ضمنا كقولهم: بيع الغائب عقد معاوضة فيصح كالنكاح، فيقول: فلا يثبت فيه خيار الرؤية، ومنه قلب المساواة، كقولهم: المكره مالك مكلف, فيقع طلاقه كالمختار, فيقول: فنسوي بين إقراره وإيقاعه، أو إثبات مذهب المعترض كقولهم: الاعتكاف لبث مخصوص، فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة، فيقول: فلا يشترط الصوم فيه كالوقوف بعرفة. قيل: المتنافيان لا يجتمعان. قلنا: التنافي حصل في الفرع بعرض الإجماع، تنبيه: القلب معارضة، إلا أن علة المعارضة وأصلها يكون مغايرا لعلة المستدل". أقول: الطريق الرابع من الطرق المبطلات العلية: القلب, وهو أن يربط المعترض خلاف قول المستدل على العلة التي استدل بها، إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيسا عليه، وعبر في المحصول بقوله: نقيض قول المستدل وهو لا يستقيم, فإن الحكم الذي يثبته القالب يشترط أن يكون مغايرا له لا نقيضا كما سيأتي؛ فلذلك أبدله المصنف بالخلاف، والقلب ثلاثة أقسام الأول: أن يكون لنفي مذهب المستدل صريحا، كقوله الحنفية: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فلا يكفي فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم قياسا على الوجه, فيقول الشافعي: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فلا يقدر بالربع قياسا على الوجه. فهذا القلب قد نفى مذهب المستدل صريحا، ولم يثبت مذهب المعترض لجواز أن يكون الحق هو الاستيعاب كما قاله مالك. الثاني: أن يكون لنفي مذهب المستدل ضمنا، أي: يدل على بطلان لازم من لوازمه، كقول الحنفية: بيع الغائب عقد معاوضة، فيصح مع عدم رؤية المعقود عليه قياسا للنكاح، فيقول الشافعي: بيع الغائب عقد معاوضة فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح، وقبول خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب عندهم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. قوله: "ومنه" أي: ومن القلب الذي ذكره المعترض لنفي مذهب المستدل ضمنا قلب المساواة، وهو أن يكون في الأصل حكمان, أحدهما: منتف عن الفرع بالاتفاق بينهما والآخر مختلف فيه، فإذا أراد المستدل إثبات المختلف فيه بالقياس على الأصل, فيقول المعترض: تجب التسوية بين الحكمين في الفرع بالقياس على الأصل، ويلزم من وجوب التسوية بينهما

في الفرع انتفاء مذهبه، مثاله استدلال الحنفية على وقوع طلاق المكره بقولهم: المكره مالك للطلاق, مكلف فيقع طلاقه بالقياس على المختار، فيقول الشافعي: المكره مالك مكلف فنسوي بين إقراره بالطلاق وإيقاعه إياه، قياسا على المختار، ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمنا؛ لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه، مع أن إقراره معتبر بالاتفاق، لزم أن يكون الإيقاع أيضا غير معتبر. الثالث: أن يكون لإثبات مذهب المعترض، كاستدلال الحنفية على اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف، بقولهم: الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة، فإنما صار قربة بانضمام عبادة أخرى إليه وهو الإحرام، فيقول الشافعي: لبث مخصوص فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة, وقوله: قيل: المتنافيان ... إلخ, أشار به إلى ما ذكره في المحصول1، وهو أن من الناس من أنكر إمكان القلب, محتجا عليه بأنه لما اشترط فيه اتحاد الأصل المقيس عليه مع الاختلاف في الحكم لزم منه اجتماع الحكمين المتنافيين في أصل واحد وهو محال. وجوابه أن التنافي بين الحكمين إنما حصل في الفرع فقط لأمر عارض، وهو إجماع الخصمين على أن الثابت فيه إنما هو أحد الحكمين فقط، وأما اجتماعها في الأصل فغير مستحيل؛ لأن ذات الحكمين غير متنافيين, ألا ترى أن الأصل في المثال الأول وهو غسل الوجه قد اجتمع فيه الحكمان وهما عدم الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم، وعدم تقديره بالربع، وهذان الحكمان يمتنع اجتماعهما في الفرع، وهو مسح الرأس؛ لأن الإمامين قد اتفقا على أن الثابت فيه هو أحدهما. وكذلك الأصل في المثال الثاني وهو النكاح فإن الحكمين مجتمعان فيه, وهما صحته بدون الرؤية وعدم ثبوت الخيار فيه، ولكن الثابت في الفرع وهو بيع الغائب إنما هو أحدهما، وكذلك الأصل في المثال الثالث وهو الوقوف بعرفة, فإن الحكمين مجتمعان فيه وهما أن الصوم لا يشترط, وأنه بمجرده ليس بقربة. قوله: "تنبيه ... إلخ" لما بين القلب وأقسامه، شرع في الفرق بينه وبين المعارضة، فقال: القلب في الحقيقة معارضة، فإن المعارضة تسليم دليل الخصم وإقامة دليل آخر على خلاف مقتضاه, وهذا بعينه صادق عن القلب، إلا أن الفرق بينهما أن العلة المذكورة في المعارضة والأصل المذكور فيها يكونان مغايرين للعلة والأصل اللذين ذكرهما المستدل بخلاف القلب, فإن علته وأصله علة المستدل وأصله, قال الإمام: وليس للمستدل الاعتراض على القلب لاستلزامه القدح في علة نفسه أو أصله، بخلاف المعارضة فإن للمستدل أن يعترض عليها بكل ما للمعترض أن يعترض به على دليل المستدل من المنع والمعارضة، وله أن يقلب قلبه، وحينئذ فيسلم أصل القياس. قال: "الخامس: القول بالموجب, وهو تسليم مقتضى قول المستدل مع بقاء

_ 1 المحصول، ص377، جـ2.

الخلاف، مثاله في النفي أن تقول: التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص، فيقول مسلم: ولكن لا يمنعه عن غيره، ثم لو بينا أن الموجب قائم ولا مانع غيره، لم يكن ما ذكرناه تمام الدليل. وفي الثبوت قولهم: الخيل يسابق عليها فتجب الزكاة بها كالإبل. فنقول: مسلم في زكاة التجارة". أقول: الطريق الخامس من مبطلات العلية: القول بالموجب أي: القول بموجب دليل المستدل، وهو عبارة عن تسليم مقتضى ما جعله المستدل دليلا لحكم مع بقاء الخلاف بينهما فيه, وذلك بأن يتخيل أن ما ذكره من النص أو القياس مستلزم لحكم المسألة المتنازع فيها، من أنه غير مستلزم له, فلا ينقطع النزاع بتسليمه. وهذا الحد أولى من قول المحصول: إنه تسليم ما جعل المستدل موجب العلة مع استيفاء الخلاف؛ لخروج القول بالموجب الذي يقع في غير القياس، وكأنه أراد تعريف ما يقع في القياس خاصة؛ لأن الكلام في مبطلات العلية، والقول بالموجب قسمان أحدهما: أن يقع في النفي، وذلك إذا كان مطلوب المستدل نفي الحكم، واللازم من دليله كون شيء معين غير موجب لذلك، فيتمسك به لتوهمه أنه ما أخذ الخصم، مثاله أن يقول الشافعي في القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في التوسل إليه، يعني: أن المحدد والمثقل وسيلتان إلى القتل والتفاوت الذي بينهما لا يمنع الوجوب، كما لا يمنعه التفاوت في المتوسل إليه، وهو التفاوت في المقتولين من الصغر والكبر والخساسة والشرف, فيقول الحنفي: كون التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص مسلم، ونحن نقول بموجب, ولكن لم يجز أن يمنع من وجوبه أمر موجود في المثقل غير التفاوت، وأنه لا يلزم من إبطال هذا المانع إبطال جميع الموانع، ثم إن الشافعي المستدل لو ادعى بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع، وبينه بأن الموجب للقصاص وهو القتل العمد العدوان, قائم في صورة القتل بالمثقل, وأنه لا مانع فيه غير التفاوت في الوسيلة بالأصل، أو بغيره من الطرق لكان منقطعا أيضا، أي: حتى لا يسمع ذلك منه؛ لأنه ظهر أن المذكور أولا ليس هو دليلا تاما بل جزءا من الدليل. هكذا قاله الإمام وتبعه المصنف وفيه نظر ظاهر، ولم يتعرض ابن الحاجب لذلك. القسم الثاني: أن يقع الإثبات، وذلك إذا كان مطلوب المستدل إثبات الحكم في الفرع، واللازم من دليله ثبوته في صورة ما من الجنس كاستدلال الحنفية على وجوب الزكاة في الخيل، بقولهم: الخيل حيوان يسابق عليه, فتجب الزكاة فيه قياسا على الإبل، فنقول لهم: مقتضى دليلكم وجوب مطلق الزكاة، ونحن نقول بموجبه، فإنا نوجب فيه زكاة التجارة، ومحل النزاع إنما هو في زكاة معين، ولا يلزم من إثبات المطلق إثبات جميع أنواعه. قال: "السادس: الفرق، وهو جعل تعين الأصل علة، أو الفرع مانعا، والأول يؤثر حيث لم يجز التعليل بعلتين، والثاني عند من جعل النقض مع المانع قادحا". أقول: الطريق السادس وهو آخر الطرق المبطلات للعلية: الفرق، وهو

ضربان الأول: أن يجعل المعترض تعين أصل القياس، أي: الخصوصية التي فيه علة لحكمه، كقول الحنفي: الخارج من غير السبيلين ناقض للوضوء, بالقياس على ما خرج منهما، والجامع هو خروج النجاسة، فيقول المعترض: الفرق بينهما أن الخصوصية التي في الأصل وهي خروج النجاسة من السبيلين, هي العلة في انتقاض الوضوء لا مطلق خروجها. الثاني: أن يجعل تعين الفرع أي: خصوصيته, مانعا من ثبوت حكم الأصل فيه، كقول الحنفية: يجب القصاص على المسلم بقتل الذمي قياسا على غير المسلم, والجامع هو القتل العمد العدوان، فيقول المعترض: الفرق بينهما أن تعين الفرع وهو كونه مسلما, مانع من وجوب القصاص عليه لشرفه. قوله: "الأول" يعني أن الفرق بالطريق الأول، وهو جعل تعين الأصل علة، هل يؤثر أي: يفيد غرض المعترض يقدح في العلية أم لا؟ فيه خلاف ينبني على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين، فإن جوزناه لم يقدح هذا الفرق؛ لأن الحكم في الأصل إذا علل بالمعنى المشترك بينه وبين الفرع، ثم علل بعد ذلك بتعينه لم يكن التعليل الثاني مانعا من التعليل الأول, إذ لا يلزم منه إلا التعليل بعلتين. والغرض من جوازه وإن منعناه قدح هذا الفرق؛ لأن تعين الأصل غير موجود في الفرع، والحكم مضاف إليه أعني: إلى التعين, فلا يكون أيضا مضافا إلى المشترك وإلا لزم التعليل بعلتين، وأما الثاني وهو الفرق بتعين الفرع، فإنه يؤثر عند من جعل النقض مع المانع قادحا في كون الوصف علة؛ لأن الوصف الذي جعله المستدل علة إذا وجد في الفرع، ولم يترتب الحكم على وجوده لمانع وهو تعين الفرع, فقد تحقق النقض مع المانع، والنقض مع المانع قادح، وأما من لا يجعله قادحا يقول: الفرق بتعين الفرع لا يؤثر؛ لأن تخلف الحكم عنه إنما هو المانع، هذا حاصل كلام المصنف، وقد استفدنا منه أن الفرق بتعين الأصل إنما يؤثر عنده في المستنبطة دون المنصوصة؛ لأنه اختار التفصيل كما تقدم، وأن الفرق بتعين الفرع لا يؤثر مطلقا؛ لأنه اختار أن النقض مع المانع غير قادح، واعلم أن بناء تأثير الفرق الأول على التعليل بعلتين صحيح. وأما الثاني فلا, بل يؤثر مطلقا في دفع كلام المستدل، وبيانه أن الشافعي في مثالنا لما فرق بتعين الفرع وهو كونه مسلما فإن قلنا: إن النقض مع المانع قادح في العلية, فقد فسد دليل المستدل لفساد علته، وهي القتل العمد العدوان، فإنها وجدت في حق المسلم مع تخلف الحكم عنها، وحينئذ فيحصل مقصود الشافعي المعترض، وإن قلنا: إنه غير قادح كانت العلة صحيحة, لكن قام بالفرع وهو المسلم مانع يمنع من ترتب مقتضاها عليها؛ لأن الغرض أن ذلك من باب التخلف المانع، ويستحيل وجود الشيء مع مقارنة المانع منه، وحينئذ فيحصل للشافعي أيضا مقصوده، وهو عدم إيجاب القصاص، فثبت أن بناءه عليه فاسد؛ ولذلك لم يتعرض الإمام وأتباعه ولا ابن الحاجب لهذا البناء أصلا، نعم أطلق الإمام أن قبول الفرق مبني على تعليل الحكم

الواحد بعلتين، وإذا حملنا كلامه على الفرق بتعين الأصل لم يرد شيء. قال: "الطرف الثالث في أقسام العلة: علة الحكم، إما محله أو جزؤه، أو خارج عنه، عقلي حقيقي، أو إضافي, أو سلبي، أو شرعي، أو لغوي، متعدية أو قاصرة، وعلى التقديرات إما بسيطة، أو مركبة". أقول: هذا الطرف معقود لبيان أقسام العلة، وبيان ما يصح به التعليل منها، وما لا يصح؛ فنقول: كل حكم ثبت في محل فعله ذلك الحكم على ثلاثة أقسام, وهي إما ذلك المحل كتعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما جوهري الأثمان، وإما جزء ذلك المحل، كتعليل خيار الرؤية في بيع الغائب بكونه عقد معاوضة، وإما خارج عنه، والخارج على ثلاثة أقسام: عقلي وشرعي ولغوي، فزاد في المحصول على هذه الثلاثة العرفي، فأما الأمر العقلي فثلاثة أقسام: حقيقي كتعليل حرمة الخمر بالإسكار، وإضافي كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة، وسلبي كتعليل عدم وقوع طلاق المكره بعدم الرضا، والمراد بالحقيقي ما يمكن تعلقه باعتبار نفسه، والإضافي ما يتعلق باعتبار غيره. وأما الأمر الشرعي فكتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه، وأما الأمر اللغوي فكقولنا في النبيذ: إنه سمي خمرا فيحرم كالمعتصر من العنب، والتعليل بهذا جائز على المشهور, وقيل: لا, وقيل: إن كان مشتقا جاز وإلا فلا، هكذا حكاه القرافي وغيره، والقائل بالصحة هو الذي يجوز القياس في اللغات كما تقدم ذكره هناك، وادعى الإمام هنا أنه لا يصح اتفاقا، وليس كذلك فإنه ممن حكى الخلاف هناك، وأما العرفي الذي زاده الإمام فمثل له بقولنا في بيع الغائب: إنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف، ثم أعاده بعد ذلك ومثل له بالشرف والخسة، والكمال والنقصان. قال: ولكن إنما يعلل به بشرط أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره، وأن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات، فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول -عليه الصلاة والسلام- وحينئذ لا يجوز التعليل به، وحاصل هذا التقسيم الذي ذكره المصنف سبعة أقسام: منها خمسة في تقسيم الخارج، وهذا على تقدير أن يكون ما بعد الخارج من الأقسام إنما هو أقسام للخارج فقط، وبه صرح في المحصول، ثم العلة إما متعدية أو قاصرة، فالمتعدية هي التي توجد في غير المحل المنصوص عليه كالسكر, والقاصرة بخلاف ذلك، كتعليل حرمة الربا بجوهري الثمنية، وعلى كل واحد من التقديرات المذكورة، فأما أن تكون العلة بسيطة كالأمثلة المذكورة، أو مركبة، وحينئذ فقد تكون مركبة من الصفة الحقيقية والإضافية، كقولنا: قتل صدر من الأب فلا يجب به القصاص، فالقتل حقيقي والأبوة إضافية, أو من الحقيقية والسلبية كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد الذي ليس بحق. قال: "قيل: لا يعلل بالمحل؛ لأن القابل لا يفعل، قلنا: لا نسلم، ومع هذا فالعلة المعرف". أقول: لما ذكر المصنف أقسام العلة, شرع في بيان ما وقع فيه الخلاف منها, وبيان شبه المخالف مع الجواب عنها، وحاصل ما حكي فيه

الخلاف منها ست مسائل, منها تعليل الحكم بمحله، وقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب، أصحها عند الإمام الآمدي وابن الحاجب: أنه إن كانت العلة متعدية فإنه لا يجوز؛ لأنه يستحيل حصول مورد النص بخصوصه في غيره، وإن كانت قاصرة فيجوز، سواء كانت العلة مستنبطة أو منصوصة، فإنه لا استبعاد في أن يقول الشارع: حرمت الخمر لكونه خمرا، ولا في أن يعرف كون الخمر مناسبا لحرمة استعماله. والثاني: لا يجوز مطلقا ونقله الآمدي عن الأكثرين. والثالث: يجوز مطلقا وهو مقتضى إطلاق المصنف، واحتج المانعون بأن محل الحكم قابل للحكم, فإنه لو لم يقبله لم يصح قيامه به، وكذلك كل معنى مع محله، وحينئذ فلو كان المحل علة لكان فاعلا في الحكم؛ لأن العلة تؤثر في المعلول وتفعل فيه، ويستحيل كون الشيء قابلا للشيء وفاعلا فيه كما تقرر في علم الكلام؛ لأن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان، ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب، وبين الوجوب والإمكان تناف، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: لا نسلم أن القابل لا يفعل، وقولكم في الاستدلال عليه: إن الوجوب والإمكان متنافيان ممنوع، فإنه إنما يعزم ذلك أن لو كان المراد في الإمكان هو الإمكان الخاص وليس كذلك، بل المراد به الإمكان العام، وقد تقدم أيضا ذلك في الكلام على الاشتراك. الثاني: سلمنا أن القابل لا يفعل, لكن لا نسلم أنه لو كان علة له لكان فاعلا، وإنما يكون كذلك أن لو كان المراد من العلة هو المؤثر ونحن لا نقول به، بل العلة عندنا هو المعرف. واعلم أن الأقول المذكورة في التعليل بالمحل جارية أيضا في التعليل بجزئه, ولكن الصحيح هنا عند الآمدي الجواز مطلقا، وبه جزم المصنف في التقسيم السابق, ونقل أعني الآمدي عن الأكثرين المنع مطلقا, وقال ابن الحاجب: إن كانت العلة قاصرة جاز، وإن كانت متعدية فلا. قال: "قيل: لا يعلل بالحكم غير المضبوطة كالمصالح والمفاسد؛ لأنه لا يعلم وجود القدر الحاصل في الأصل في الفرع، قلنا: لو لم يجز لما جاز بالوصف المشتمل عليها، فإذا حصل الظن بأن الحكم لمصلحة وجدت في الفرع يحصل ظن الحكم فيه". أقول: التعليل قد يكون بالضابط المشتمل على الحكمة، كتعليل جواز القصر بالسفر؛ لاشتماله على الحكمة المناسبة له، وهي اختلاط الأنساب، وقد يكون بنفس الحكمة أي: بمجرد المصالح والمفاسد، كتعليل القصر بالمشقة, ووجوب الحد باختلاط الأنساب، فالأول لا خلاف في جوازه، وأما الثاني ففيه ثلاثة مذاهب حكاها الآمدي, أحدها: الجواز مطلقا، ورجحه الإمام والمصنف وكلام ابن الحاجب يقتضي رجحانه أيضا. والثاني: المنع مطلقا، ونقله الآمدي عن الأكثرين، وأشار إليه المصنف بقوله: قيل: لا يعلل بالحكم, وهو بكسر الحاء وفتح الكاف جمع لحكمة. والثالث واختاره الآمدي: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز، وإن لم تكن كذلك فلا، كالمشقة فإنها

خفية غير منضبطة، بدليل أنها قد تحصل للحاضر وتنعدم في حق المسافر. قوله: "لأنه لا يعلم" أي: استدل المانع بأن القدر الحاصل من المصلحة في الأصل، وهو الذي رتب الشارع علة الحكم فيه لا يعلم وجوده في الفرع؛ لكون المصالح والمفاسد من الأمور الباطنة التي لا يمكن الوقوف على مقاديرها، ولا امتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها من الرتبة الأخرى، وحينئذ فلا يجوز للمستدل إثبات حكم الفرع بها، وأجاب المصنف بأنه لو لم يجز التعليل بها لكونها غير معلومة لما جاز بالوصف المشتمل عليها؛ لأن العلم باشتمال الوصف عليها من غير العلم بها ممتنع، لكنه يصبح التعليل بالوصف المشتمل عليها بالاتفاق، كالسفر مثلا فإنه علة لجواز القصر لاشتماله على المشقة لا لكونه سفرا، وحينئذ فإذا حصل الظن بأن الحكم في الأصل لتلك المصلحة أو المفسدة المقدرة وحصل الظن أيضا بأن قدر تلك المصلحة أو المفسدة حاصل في الفرع, لزم بالضرورة حصول الظن بأن الحكم قد وجد في الفرع، والعمل بالظن واجب. قال: "قيل: العدم لا يعلل به؛ لأن الأعدام لا تتميز وأيضا ليس على المجتهد سبرها, قلنا: لا يسلم, فإن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم، إنما سقط عن المجتهد لعدم تناهيها، قيل: إنما يجوز التعليل بالحكم المقارن، وهو أخذ التقادير الثلاثة, فيكون مرجوحا، قلنا: ويجوز بالمتأخر لأنه معرف". أقول: يجوز تعليل الحكم العدمي بالعلة العدمية, وفي تعليل الحكم الوجودي بها مذهبان, أصحها عند المصنف أنه يجوز واختاره الإمام هنا؛ لأن دوران الحكم قد يحصل مع بعض العدميات والدوران يفيد العلية كما تقدم، وأصحهما عند الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجوز، واختاره الإمام في الكلام على الدوران لوجهين، أحدهما: أن الأعدام لا تتميز عن غيرها وما لا يتميز عن غيره لا يجوز أن يكون علة، أما الصغرى فلأن المتميز عن غيره لا بد أن يكون موصوفا بصفة التميز، والموصوف بصفة التميز ثابت، والعدم نفي محض, وأما الكبرى فلأن الشيء الذي يكون علة لا بد أن يتميز عما لا يكون علة، وإلا لم يعرف كونه علة. الثاني: أن المجتهد يجب عليه سبر الأوصاف الصالحة العلية، أي: اختبارها لتميز العلة عن غيرها، فلو كانت الأعدام صالحة للعلية لكان يجب عليه أن يسبرها لكنه لا يجب، وأجاب المصنف عن الأول بأنا لا نسلم أن الأعدام لا تتميز بل تقبل التمييز، بل إذا كانت من الأعدام المضافة، بدليل أن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم، فإنا نحكم بأن عدم اللازم يستلزم عدم الملزوم ولا ينعكس، وأما استدلالهم عليه فجوابه أن الموصوف بالتميز إنما يستدعي الثبوت في الذهن فقط، والعدم له ثبوت فيه، نعم الأعدام المطلقة ليس لها تميز، ونحن نسلم امتناع التعليل بها، والجواب عن الثاني أن سبر الأعدام إنما سقط عن المجتهد لعدم قدرته عليها لا تنتهي، لا لكونها غير صالحة للعلية. قوله: "قيل: إنما يجوز ... إلخ" اختلفوا في تعليل الحكم الشرعي بالحكم, فجوزه الإمام والمصنف مطلقا؛ لأن الحكم

قد يدور مع حكم آخر، والدوران يفيد العلية، ومنعه قوم مطلقا، واحتجوا بأن الحكم الذي يفرض كونه علة إنما يجوز التعليل به إذا كان مقارنا للحكم الذي هو معلول له؛ لأنه إن كان متقدما عليه فلا يجوز تعليله به، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته، وإن كان متأخرا فلا يجوز أيضا وإلا لزم تقدم المعلول على علته، فثبت أنه يصح التعليل على تقدير واحد، ولا يصح على تقديرين، فيكون التعليل به مرجوحا، وعدم صحة التعليل به راجحا، فإن التقدير الواحد مرجوح بالنسبة إلى التقديرين، ولا شك أن العبرة في الشرع بالراجح لا بالمرجوح، وأجاب المصنف بأنه يجوز التعليل أيضا بالمتأخر؛ لأن المراد من العلة هو المعرف لا المؤثر، والمعرف يجوز أن يكون متأخرا كالعالم مع الصانع سبحانه تعالى، وحينئذ فيصح التعليل به على تقديرين من ثلاثة, ويلزم منه أن يكون راجحا بعين ما قلتم، ولقائل أن يقول: إن كان المراد من التقدم والتأخر إنما هو الزماني فهو مستحيل في الحكم الشرعي، ولكونه قديما، وإن كان المراد به الذاتي فهو ثابت لكل علة ومعلول، فإن العلة متقدمة بذاتها على معلولها، وأيضا فلا نسلم أن المتقدم بالزمان لا يصح للعلية، وإنما يكون كذلك لو كان التخلف لغيره مانعا، قلتم: إنه ليس كذلك، واختار ابن الحاجب أنه يجوز إن كان التعليل به باعثا على تحصيل مصلحة، كما مثلنا من تعليل رهن المشاع بجواز بيعه، ولا يجوز إن كان لدفع مفسدة, كتعليل بطلان البيع بالنجاسة، وللآمدي في هذه المسألة تفصيل يطول ذكره وهو مبني على قواعد مخالفة لاختيار الإمام وغيره. واعلم أن هذا الذي ذكره الإمام والمصنف من جواز تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة الوجود عنه خالف فيه الآمدي، وقال: الصحيح أنه لا يجوز، وإن جعلنا العلة بمعنى العرف، لأن تعريف المعرف محال، وتبعه ابن الحاجب عليه. قال: "قالت الحنفية: لا يعلل بالقاصرة لعدم الفائدة. قلنا: معرفة كونه على وجه المصلحة فائدة, ولنا أن التعدية توقفت على العلية، فلو توقفت هي عليها للزم الدور". أقول: العلة القاصرة كتعليل حرمة الربا في النقدين، وإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فيجوز التعليل بها بالاتفاق، كما قاله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وهو مقتضى كلام الإمام، وإن كانت ثابتة بالاجتهاد والاستنباط فكذلك عند الإمام والآمدي وأتباعهما، ونقله إمام الحرمين ومن بعده عن الشافعي، ونقله الآمدي وابن الحاجب عن الأكثر أيضا، وقالت الحنفية: لا يجوز لعدم فائدته؛ لأن فائدة التعليل إنما هو إثبات الحكم وهو غير حاصل، أما في الأصل فلثبوته بالنص، وأما في غيره فلعدم وجود العلة فيه؛ لأن الغرض أنها قاصرة، وإذا انتفت الفائدة في التعليل بها استحال وروده من الشارع؛ لأن الحكيم لا يفعل العبث، وأجاب الإمام بثلاثة أجوبة, أحدها وعليه اقتصر المصنف: أنا لا نسلم انحصار الفائدة في إثبات الحكم، بل لها فائدة أخرى وهي معرفة كون الحكم على وجه المصلحة، ووفق الحكمة لتكون النفس إلى قبوله أميل. الثاني: أن ما قالوه بعينه

وارد في المنصوصة. الثالث: أن معرفة اقتصار الحكم على محل النص وانتفائه عن غيره من أعظم الفوائد، وهي حاصلة هنا فإنا إذا لم نجوز التعليل بالعلة القاصرة، ووجدنا في الأصل وصفا متعديا يناسب ذلك الحكم، فإنه يجب التعليل به لخلوه عن المعارض، وحينئذ يلزم إثبات الحكم في الفرع بخلاف ما إذا جوزنا التعليل به، ونقل إمام الحرمين في البرهان عن بعضهم أن فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين بكونهما نقدين, هو تحريم التفاضل في الفلوس إذا راجت رواج النقود, قال: وهذا خطأ؛ لأن النقدية في الشرع مختصة بالنوعين, ولأن النص إن تناولها بقي الأمر على ما هو عليه من عدم حصول الفائدة من التعليل، وإن لم يتناولها كانت العلة متعدية وكلامنا في القاصرة. واعلم أن هذا الدليل المنقول عن الحنفية إنما يستقيم إذا قلنا: إن الحكم في مورد النص لا يمكن ثبوته بالعلة، وقد نقله عنهم في المحصول، وعللوه بأن الحكم معلوم والعلة مظنونة، المظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم, ثم نقل هو والآمدي وابن الحاجب عن أصحابنا أنهم جوزوا ثبوته بها، وحينئذ فيندفع الدليل من أصله. قوله: "لنا" أي: استدل أصحابنا على الجواز بأن تعدية العلة إلى الفرع متوقفة على كونها علة، فلو توقف كونها علة على تعديتها للزم الدور، وأجاب ابن الحاجب بأن هذا الدور غير محال لكونه دور معية، وأجاب غيره بأن كل واحدة من التعدية والعلية مستلزمة للأخرى، كالنبوة مثلا لا متوقفة عليها، فلا يلزم الدور؛ لأن الدور إنما هو على تقدير التوقف, وأيضا إن كان المراد من التعدية وجود الوصف في صورة أخرى فلا نسلم توقفه على العلية وهو واضح، وإن كان المراد بها كون الوصف علة في صورة أخرى فنسلم توقفها على العلية، لكن لا نسلم توقف العلة على التعدية بهذا المعنى، بل إنما تتوقف على وجود الوصف في صورة أخرى، وحينئذ فلا دور. قال: "قيل: لو علل بالمركب، فإذا انتفى جزء تنتفي العلية، ثم إذا انتفى جزء آخر يلزم التخلف، أو تحصيل الحاصل، وإن قلنا: علية عدمية فلا يلزم ذلك". أقول: ذهب الأكثرون ومنهم الإمام والآمدي وأتباعهما إلى جواز تعليل الحكم بالوصف المركب، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان؛ لأنه مناسب له ودائر معه، وهما يفيدان العلية كما تقدم، وعلى هذا قال بعضهم: يشترط أن لا تزيد الأجزاء على سبعة، قال الإمام: ولا أعرف لهذا الحصر حجة، واحتج المانع بأنه لو صح التعليل به لكان عدم كل واحد من أجزائه علة تامة لعدم عليته؛ لأن عدم كل واحد منها علة لعدم ذاته، وإذا ارتفعت الذات ارتفعت الصفات بالضرورة، وحينئذ فنقول: إذا انتفى جزء من المركب تنتفي العلية لما قلناه، ثم إذا انتفى جزء آخر منه فإن لم تنتف عليه يلزم تخلف المعلول عن علية التامة، وإن انتفت يلزم تحصيل الحاصل، وكلاهما محال، فالتعليل بالمركب محال، وأجاب المصنف بأن العلية صفة عدمية، فإنها من النسب والإضافات التي هي أمور يعتبرها العقل لا وجود لها في الخارج، وإذا كانت

العلية عدمية كان انتفاؤها وجوديا، فإن أحد النقيضين لا بد أن يكون وجوديا، وإذا كان انتفاؤها وجوديا امتنع أن يكون عدم كل جزء علة له؛ لأن الأمور العدمية لا تكون علة للأمر الوجودي، هذا غاية ما يقرر به جواب المصنف وفيه تكلف وضعف ومخالفة، أما التكلف فواضح، وأما الضعف فلأن هذه الطريقة تنعكس فيقال: العلة من الأمور الوجودية؛ لأن نقيضها عدمي وهو عدم العلية، وأما المخالفة فقد سبق أنه يجوز تعليل الوجودي بالعدم عند المصنف, ولم يجب الإمام به عن هذه الشبهة، وإنما أجاب به عن شبهة أخرى, وذلك أنهم قالوا: كون الشيء علة لغيره صفة لذلك الشيء، فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا، فإن قامت تلك الصفة بتمامها بكل واحد من أجزاء المركب فيلزم أن يكون كل واحد منها علة مستقلة، وإن قام بكل واحد من تلك الأجزاء جزء من تلك الصفة فيلزم انقسام الصفة العقلية، ويكون حينئذ للعلية نصف وثلث وهو محال، هذا هو السؤال الذي أجاب عنه الإمام بكون العلية عدمية، وهو مطلق فترك صاحب الحاصل ذكر هذه الشبهة، ونقل جوابها إلى الشبهة الأولى، وتبعه المصنف، والظاهر أنه إنما حصل عن سهو، وأجاب ابن الحاجب بجوابين أحدهما: لا نسلم أن عدم الجزء علة لعدم العلية, بل وجود كل جزء شرط للعلية فعدمه يكون عدما لشرط العلية. الثاني: أن هذه علامات على عدم العلية واجتماع العلامات على الشيء الواحد جائز, سواء كانت مترتبة، أو في وقت واحد، كالنوم واللمس بالنسبة إلى الحدث. قال: "وهنا مسائل: الأولى: يستدل بوجود العلة عن الحكم لا بعليتها؛ لأنها نسبة تتوقف عليه، الثانية: التعليل بالمانع لا يتوقف على المقتضى؛ لأنه إذا أثر معه فبدونه أولى، قيل: لا يسند العدم المستمر، قلنا: الحادث يعرف الأزلي كالعالم للصانع. الثالثة: لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل, بل يكفي انتهاض الدليل عليه. الرابعة: الشيء يدفع الحكم كالعدة، أو يرفعه كالطلاق، أو يدفع ويرفع كالرضاع. الخامسة: العلة قد يعلل بها ضدان، ولكن بشرطين متضادين". أقول: لما فرغ من شرائط العلة شرع في ذكر مسائل تتعلق بها الأولى: الإشكال في أنه يصح الاستدلال على الحكم بوجود العلة، كما يقال: وجد في صورة القتل بالمثقل علة وجوب القصاص، وهو القتل العمد العدوان فيجب فيها القصاص؛ لأن وجود العلة يستلزم وجود المعلول، ولا يجوز أن يستدل بعلية العلة على وجود الحكم، كما يقال: علية القتل العمد العدوان لوجوب القصاص ثابتة في القتل بالمثقل فيجب فيه القصاص، وإنما قلنا: إنه لا يجوز لأن العلية نسبة بين العلة والحكم، والنسبة متوقفة على المنتسبين, فتكون العلة متوقفة في وجودها على ثبوت الحكم، فلو أثبتنا الحكم بها لزم الدور، وهذا الجواب ضعيف بوجهين ذكرهما صاحب التحصيل, أحدهما: أن النسبة إنما تتوقف على المنتسبين في الذهن لا في الخارج. والثاني: أن المراد بالعلة هو المعرف كما سبق, وحينئذ فلا يلزم الدور. المسألة

الثانية: تعليل عدم الحكم بالمانع هل يتوقف على وجود المقتضى له؟ فيه مذهبان أرجحهما عند الإمام والمصنف وابن الحاجب أنه لا يتوقف؛ لأن المقتضى والمانع بينهما معاندة ومضادة، والشيء لا يتقوى بضده بل يضعف به، فإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه وهو وجود المقتضى فجوازه عند قوته وهو حال عدم المقتضى أولى، لكن إذا قلنا بهذا فانتفاء الحكم لانتفاء المقتضى أظهر في العقل من انتفائه لحصول المانع, هكذا قاله في المحصول1، وعلى هذا فمدعي الأول أرجح من مدعي الثاني فاعلمه، فإنه كثير الوقوع في المباحث. والمذهب الثاني: أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضى، واختاره الآمدي لأن المعلول إن كان هو العدم المستمر فباطل؛ لأن المانع حادث والعدم المستمر أولى، واستناد الأزلي إلى الحادث ممتنع، وإن كان هو العدم المتجدد فهو المطلوب؛ لأن العدم المتجدد إنما يتصور بعد قيام المقتضى, وأجاب المصنف بأن المعلل هو العدم المستمر ولا استحالة فيه، لأن العلل الشرعية معرفات، والحادث يجوز أن يكون معرفا للأزلي كما أن العالم معرف للصانع، واعلم أن هذه المسألة من تفاريع تخصيص العلة، بأنه يمتنع الجمع بين المقتضى والمانع عند من يمنع التخصيص، ولا يمتنع ذلك عند من يجوزه. المسألة الثالثة: الوصف الذي جعل علة في الأصل المقيس عليه لا يشترط الاتفاق على وجوده فيه على الصحيح، بل يكفي قيام الدليل عليه سواء كان ذلك الدليل قطعيا أو ظنيا لحصول المقصود به، وقياسا على سائر المقدمات، وسيأتي الكلام على وجوده في الفرع. المسألة الرابعة: الوصف المانع قد يكون دافعا للحكم فقط، أي: إذا قارن ابتداء دفعه وإن وجد في الأثناء لم يقدح, وقد يكون رافعا فقط أي بالعكس مما تقدم، وقد يكون دافعا ورافعا، فالأول كالعدة فإنها تمنع ابتداء النكاح لا دوامه, فإن المرأة لو اعتدت عن وطء الشبهة لم ينفسخ نكاحها، وأما الثاني فكالطلاق فإنه يرفع النكاح ولكن لا يدفعه، فإن الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد، وأما الثالث فكالرضاع وهو واضح. المسألة الخامسة: العلة الواحدة قد يعلل بها معلول واحد وهو ظاهر، وقد يعلل بها معلولان متماثلان أي: في ذاتين، كالقتل الصادر من زيد وعمر، فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما، ولا يتأتى ذلك في الذات الواحدة لاستحالة اجتماع المثلين, وقد يعلل بها معلولان مختلفان بجواز اجتماعهما، كالحيض فإنه علة لتحريم القراءة، ومس المصحف، والصوم، والصلاة، وقد يعلل بها معلولان متضادان لكن بشرطين متضادين كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحين، وللحركة بشرط الانتقال عنه، وقد اقتصر المصنف على هذا الأخير, وإنما اشترطنا فيه حصول الشرطين المتضادين؛ لأنه إن لم يكن للمعلومين

_ 1 أخرجه الشافعي في مسنده بلفظ: "لا تبيعن طعاما" "239".

المتضادين شرط أصلا، أو كان لهما شرط واحد, أو شرطان مختلفان، فإنه يلزم منهما اجتماع الضدين وهو محال، واعلم أنه يشترط في العلة أيضا شرطان أحدهما: أن لا يكون دليلها متناولا ولا لحكم الفرع، كما لو قال قائل: السفرجل مطعوم, فيجري فيه الربا قياسا على البر، ثم يستدل على كون الطعم علة لتحريم الربا في البر بقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الطعام" 1 وسيأتي مثله في الحكم أيضا، وهذا الشرط اختاره ابن الحاجب ونقله الآمدي عن بعضهم، وتوقف فيه. الثاني, ما ذكره الآمدي وابن الحاجب: أن لا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما يرجح على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال، وذلك كتعليل وجوب الشاة في الأربعين بدفع حاجة الفقراء، فإنها تقتضي جواز إخراج القيمة ويلزم من جواز إخراج القيمة عدم وجوب الشاة، وإنما قلنا: لا يجوز؛ لأن ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة لتوقف عليتها على اعتباره. قال:

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب، كتاب بدء الوحي "باب 1" رقم الحديث 1.

الفصل الثاني: في الأصل والفرع

الفصل الثاني: في الأصل والفرع "الفصل الثاني: في الأصل والفرع، أما الأصل فشرطه ثبوت الحكم فيه بدليل غير القياس؛ لأنهما إن اتحدا في العلة فالقياس على الأصل الأول، وإن اختلفا لم ينعقد الثاني، وإن لم يتناول دليل الأصل الفرع وإلا لضاع القياس، وأن يكون حكم الأصل معللا بوصف معين وغير متأخر عن حكم الفرع، وإذ لم يكن لحكم الفرع دليل سواه". أقول: لما فرغ من الكلام على العلة التي هي أحد أركان القياس, شرع في الكلام على الركنين الباقيين، وهما الأصل والفرع، فأما الأصل فذكر له خمسة شروط, الأول: ثبوت حكمه وهو واضح، الثاني: أن يكون ذلك الحكم ثابتا بدليل من الكتاب أو السنة أو اتفاق الأمة، فإن كان متفقا عليه بينهما فقط، ويعبر عنه بالقياس المركب, ففي صحة القياس عليه مذهبان حكاهما في الأحكام واختار ابن الحاجب أنه لا يصح، قال: ومحله عند اختلافهما في العلة أو في وصف الحكم المستدل عليه هل له وجود في الأصل أم لا؟ فلو سلم الخصم أنها العلة وأنها موجودة، أو أثبت المستدل أنها موجودة انتهض الدليل على الخصم، وإن كان مذهبا لأحدهما فقط فهو على قسمين أحدهما: أن يكون مذهبا للمستدل دون المعترض, وذلك بأن يكون المستدل قد أثبت حكمه بالقياس على شيء، فإن كان كذلك فإنه لا يصح القياس عليه عند الجمهور خلافا للحنابلة وأبي عبد الله البصري، وإليه أشار بقوله: بدليل غير القياس، مثاله قول القائل: السفرجل مطعوم، فيكون ربويا بالقياس على التفاح، ثم يقيس التحرير في التفاح عند توجه منعه على البر بجامع الطعم أيضا، وكذلك قول القائل: الجذام عيب يفسخ به البيع، فيفسخ به النكاح قياسا على الرتق، وهو استداد محل الجماع، والجامع هو الفسخ بالعيب، ثم يقاس الرتق عند توجه منعه على الجب بجامع فوات الاستمتاع، وإنما قلنا: لا يجوز لأن القياسين

إن اتحدا في العلة كما في المثال الأول فيكون قياس الفرع الثاني إنما هو الأصل الأول, دون الأصل الثاني، وحينئذ فيكون ذكر الأصل الثاني لغوا، وإن اختلفا في العلة كما في المثال الثاني لزم أن لا ينعقد القياس الثاني؛ لأنه علة ثبوت الحكم في الفرع الأول الذي هو أصل للقياس الثاني وهو الوصف الجامع بين الأول وفرعه وهي غير موجودة في الفرع الثاني، وأيضا فالحكم في الفرع المتنازع فيه أولا وهو فسخ النكاح بالجذام إنما يثبت بما يثبت به حكم أصله، فإذا كان حكم أصله وهو الرتق ثابتا بعلة أخرى، وهي العلة التي استنبطت من الأصل الآخر, فيمتنع تعدية الحكم بغيرها، وإن جوزنا تعليل الحكم بعلتين مستنبطتين لأن ذلك الغير لم يثبت اعتبار الشارع له، لكون الحكم الثابت معه ثابتا بغيره بالاتفاق، وإذا كان غير معتبر امتنع ترتب الحكم عليه. القسم الثاني: أن يكون مقبولا عند المعترض، ممنوعا عند المستدل بأن القياس باطل، كما قاله الآمدي وابن الحاجب؛ لأن هذا القياس يتضمن اعتراف المستدل بالخطأ في الأصل لوجود العلة فيه مع عدم الحكم، فلا يصح منه بناء الفرع عليه، فإن جعله إلزاما للمعترض، فقال: هذا هو عندك علة للحكم في الأصل، وهو موجود في محل النزاع فيلزمك الاعتراف بحكمه، وإلا فيلزم إبطال المعنى وانتقاضه لتخلف الحكم عنه من غير مانع، ويلزم من إبطال التعليل به امتناع إثبات الحكم به في الأصل، فهو أيضا فاسد؛ لأن الخصم له أن يقول: الحكم في الأصل ليس عندي ثابتا بهذا الوصف، وبتقريره فليس تصويبه في الأصل لتخطئة في الفرع بأولى من العكس, قاله الآمدي. الشرط الثالث: أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل متناولا للفرع؛ لأنه لو تناوله لكان إثبات الحكم في الفرع بذلك الدليل لا بالقياس، وحينئذ فيضيع القياس. هكذا علله المصنف تبعا للحاصل، وعلله الإمام والآمدي بأنه لو تناوله لم يكن جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا بأولى من العكس. الشرط الرابع: أن يكون حكم الأصل معللا بعلة معينة غير مبهمة؛ لأن إلحاق الفرع بالأصل لأجل وجود العلة يستدعي العلم بحصول العلة، والعلم بحصول العلة يتوقف على تعليل حكم الأصل، وعن تعيين علته. الشرط الخامس: أن يكون حكم الأصل غير حكم الفرع إذا لم يكن لحكم الفرع دليل سوى القياس؛ لأنه لو كان كذلك لكان يلزم أن يكون حكم الفرع قبل مشروعية الأصل حاصلا من غير دليل وهو تكليف ما لا يطاق، اللهم إلا أن يذكر ذلك بطريق الإلزام للخصم لا بطريق إنشاء الحكم فإنه يقبل، كما قاله الآمدي وابن الحاجب. أما إذا كان للفرع دليل آخر غير القياس فإنه لا يشترط تقدم حكم الأصل عليه؛ لأن حكم الفرع قبل حكم الأصل يكون ثابتا بذلك الدليل، وبعده يكون ثابتا به وبالقياس، وغاية ما يلزم أن تتوارد أدلة على مدلول واحد وهو غير ممتنع، ومثاله قياس الشافعي إيجاب النية في الوضوء على إيجابها في التيمم، فإن التيمم متأخر عن الوضوء، إذ مشروعيته بعد الهجرة ومشروعية الوضوء

قبلها، ومع ذلك فالقياس صحيح، فإن وجوب النية في الوضوء دليل آخر وهو قوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" نعم إنما يتم ذلك. مثالنا إذا ورد الحديث قبل مشروعية الوضوء فإن كان بعدها فلا؛ لأن المحذور باقٍ، وإلى هذا أشار بقوله: وغير متأخر، وهو منصوب عطفا على خبر كان، وهذا التفصيل قاله الإمام والمصنف وأشار إليه الغزالي في المستصفى ولم يتعرض له الآمدي ولا ابن الحاجب, بل أطلقا المنع. قال: "وشرط الكرخي عدم مخالفة الأصل أو أحد أمور ثلاثة: التنصيص على العلة، والإجماع على التعليل مطلقا، ومرافقة أصول أخر، والحق أنه يطلب الترجيح بينه وبين غيره، وزعم عثمان البتي قيام ما يدل على جواز القياس عليه، وبشر المريسي 1 الإجماع عليه، أو التنصيص على العلة، وضعفهما ظاهر". أقول: لما ذكر المصنف الشروط المعتبرة في الأصل أردفها بشروط اعتبرها فيه بعضهم، فمنها هل يجوز القياس على ما يكون حكمه مخالفا للأصول والقواعد الواردة من جهة الشرع كالعرايا أم لا؟ فيه خلاف، فذهب جماعة من الشافعية والحنفية إلى جواز القياس عليه مطلقا إذا عقل معناه، وجزم الآمدي بأنه كما يجوز مطلقا، وهو مقتضى كلام ابن الحاجب، وقال الكرخي: لا يجوز إلا بأحد أمور ثلاثة, الأول: تنصيص الشارع على علة حكمه؛ لأن تنصيصه على العلة كالتصريح بالقياس عليه. الثاني: أن تجمع الأمة على تعليله فلا يكون من الأحكام التعبدية التي لا تعلل بالاتفاق، ولا من الأحكام التي اختلفت في تعليلها كالتطهير بالماء، ثم إذا أجمعوا على التعليل فلا فرق بين أن يتفقوا على تعين العلة أو يختلفوا فيها، وإليه أشار بقوله: مطلقا. والثالث: أن يكون القياس عليه موافقا لأصول أخر، والحق عند الإمام وأتباعه، ومنهم المصنف، أنه يجب على المجتهد أن يطلب التراجيح بين القياس على هذا الأصل الذي خالف باقي الأصول، وبين القياس على أصول أخر لما يمكن الترجيح به من الطرق المذكورة في ترجيح الأقيسة، فعلى هذا قال الإمام: هذا الأصل الذي ورد على خلاف قياس سائر الأصول إذا كان دليلا مقطوعا به كان أصلا بنفسه، فيكون القياس عليه كالقياس على غيره، فيرجح المجتهد بينهما، وإن لم يكن مقطوعا, فإن كانت علة منصوصة فيجب الترجيح بينهما أيضا؛ لأن القياس على الأصول بأن طريق حكمه معلوم، وإن كان طريق علته غير معلومة وهذا القياس بالعكس فتعادلا، وإن لم تكن علته منصوصة فالقياس على باقي الأصول أولى، وهذه الصورة الأخيرة واردة على المصنف والشافعي, وفي هذه المسألة اختلاف تقدم ذكره في أوائل القياس، وزعم عثمان البتي أنه لا يقاس على أصل حتى يقوم دليل على جواز القياس عليه بخصوصه، عبر

_ 1 بشر المريسي: بشر بن غياث بن أبي كريمة، عبد الرحمن المريسي، والعدوي بالولاء، أبو عبد الرحمن، فقيه معتزلي, عارف بالفلسفة يرمى بالزندقة، وهو رأس الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء، وإليه نسبتها. توفي سنة "218هـ" "الأعلام 2/ 55".

صاحب الحاصل عن هذا بقوله: وزعم عثمان البتي اشتراط قيام ما يدل على جواز القياس، فتبعه المصنف على عبارته ولكنه نسي لفظة اشتراط، ولا بد منها. قال القرافي: والمراد من ورود الدليل إنما هو على الباب من حيث هو لا على المسألة المقاس عليها بخصوصها, فإن كانت المسألة من مسائل النكاح فلا بد من ورود دليل يدل على جواز القياس في النكاح, وإن كانت مسائل الطلاق فلا بد من دليل يدل على جواز القياس فيه. قوله: "وبشر المريسي" أي: وزعم بشر المريسي أن شرط الأصل انعقاد الإجماع على كون حكمه معللا، وثبوت النص على غير تلك العلة، هذا لفظ المحصول، وكلام المصنف يخالفه من وجهين أحدهما: في اشتراك الإجماع على الأصل، والموقع له فيه إنما هو صاحب الحاصل، فإنه قال: زعم بشر المريسي أن شرط القياس أن يكون حكم الأصل مجمعا عليه، والعلة منصوصة, هذا لفظه. والثاني: في اشتراطه أحد الأمرين, والموقع له فيه هو صاحب التحصيل. قوله: "وضعفهما ظاهر" يعني: مذهب البتي ومذهب المريسي، فإن عموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] ينفي هذه الشروط، كذلك عمل الصحابة، وذهب قوم إلى أن المحصول بالعدد لا يجوز القياس عليه، حتى قالوا في قوله -عليه الصلاة والسلام: "خمس يقتلن في الحل والحرم" 1: إنه لا يقاس عليه، قال في المحصول: والحق جوازه لما قلناه، وقد قدم المصنف في أوائل القياس مذاهب أخرى تناسب هذين المذهبين، فلو جمع الكل في موضع واحد لكان أولى. قال: "وأما الفرع فشرطه وجود العلة فيه بلا تفاوت، وشرط العلم به والدليل على حكمه إجمالا، ورد بأن الظن يحصل دونهما". أقول: يشترط في الفرع أن يوجد فيه علة مماثلة لعلة الأصل، إما في عينها كقياس النبيذ في الخمر بجامع الشدة المطربة، أو في جنسها كقياس وجوب القياس في الأطراف على القصاص في النفس بجامع الجنابة، وشرط المصنف أيضا أن لا تتفاوت العلتان أي: لا في الماهية ولا في الزيادة ولا في النقصان، كما صرح به في المحصول2، وهو مخالف لما تقدم عن كون القياس قد يكون مساويا، وقد يكون أولى, وقد يكون أخفى. وإنما شرطنا المماثلة؛ لأن القياس كما تقدم عبارة عن إثبات مثل حكم الأصل في الفرع، وإنما يتصور ذلك عند مماثلة الوصف الموجود في الفرع للوصف الموجود في الأصل، وإلا لم يحصل بين الحكمين تماثل، وإذا وجب تماثل الوصفين وجب عدم التفاوت بينهما، وهو المطلوب وشرط بعضهم حصول العلم بوجود العلة في الفرع، وزعم أن ظن وجوده لا يكفي، وشرط أبو هاشم أن يكون الحكم في الفرع قد دل عليه الدليل إجمالا، حتى يدل القياس على تفصيله. قال: ولولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة وإلا لم تستعمل الصحابة القياس في

_ 1 أخرجه البيهقي في سننه "5/ 209" والذهبي في الطب النبوي "73". 2 انظر المحصول، ص430، جـ2.

توريثه مع الإخوة، وإلى هذين الشرطين الضعيفين أشار بقوله: وشرط كذا وكذا، وهو مبني للمفعول، ثم رد المصنف هذين الشرطين, بأن ظن وجود الحكم في الفرع حاصل عند ظن وجود العلة فيه من غير وجود الشرطين المذكورين، والعمل بالظن واجب، وشرط الآمدي وابن الحاجب أن لا يكون حكم الفرع منصوصا عليه، وادعى الآمدي أنه لا خلاف فيه, قال: لأن كلا منهما إذا كان منصوصا عليه فليس قياس أحدهما على الآخر بأولى من العكس, وهذا الشرط نقله الإمام عن بعضهم، ثم نقل عن الأكثرين أنه لا يشترط. قال: لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز. قال: "تنبيه: يستعمل القياس على وجه التلازم، ففي الثبوت يجعل حكم الأصل ملزوما، وفي النفي نقيضه لازما، مثل: لما وجبت الزكاة في مال البالغ للمشترك بينه وبين مال الصبي وجبت في ماله، ولو وجبت في الحلي لوجبت في اللآلئ قياسا عليه، واللازم منتفٍ فالملزوم مثله". أقول: اعلم أن أهل الزمان يستعملون القياس الشرعي على وجه التلازم، أي: على النوع المسمى عند المنطقيين بالقياس الاستثنائي، فيثبتون به الحكم تارة وينفونه أخرى، وأراد المصنف التنبيه عليه في آخر القياس فلذلك سماه تنبيها، فطريق استعماله أنه إن كان المقصود إثبات الحكم فيجعل حكم الأصل ملزوما لحكم الفرع، وتجعله العلة المشتركة بين الأصل والفرع دليلا على الملازمة؛ وحينئذ فيلزم من ثبوت حكم الأصل ثبوت حكم الفرع؛ لأنه يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم، وإن كان المقصود نفي الحكم فيجعل حكم الفرع ملزوما، ونقيض حكم الأصل لازما، وتجعل العلة المشتركة دليلا على الملازمة أيضا، وحينئذ فيلزم من نفي اللازم نفي الملزوم. مثال الأول أن يعدل عن قول القائل: تجب الزكاة على الصبي قياسا على البالغ بجامع ملك النصاب، أو دفع حاجة الفقير، إلى قولك: لما وجبت الزكاة في مال البالغ للعلة المشتركة بينه وبين مال الصبي، وهي ملك النصاب أو دفع حاجة الفقير, لزم أن تجب في مال الصبي، فقد جعلنا ما كان أصلا ملزوما لما كان فرعا، وجعلنا العلة الجامعة دليلا على التلازم. ومثال الثاني: أن يعدل عن قول القائل: لا زكاة في الحلي قياسا على اللآلئ بجامع الزينة، إلى قولنا: لو وجبت الزكاة في الحلي لوجبت في اللآلئ، واللازم منتفٍ لأنها لا تجب في اللآلئ فالملزوم مثله، ووجه الملازمة اشتراكهما في الزينة، ولما كانت المقدمة المنتجة في المثال الأول إنما هو إثبات الملزوم, استعمل المصنف فيه لفظ لما، لإعادتها ذلك، ولما كانت المقدمة المنتجة في المثال الثاني إنما هو نفي اللازم، استعمل المصنف فيه لفظ لو؛ لكونها دالة على امتناع الشيء لامتناع غيره. قال:

الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها

الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها الباب الأول: في المقبولة " الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها, وفيه بابان, الباب الأول: في المقبول وهي ستة الأول: الأصل في المنافع الإباحة لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] وفي المضار التحريم لقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 1 قيل: على الأول اللام تجيء لغير النفع، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [البقرة: 284] قلنا: مجاز؛ لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك، ومعناه الاختصاص النافع بدليل قولهم: الجل للفرس. قيل: المراد الاستدلال. قلنا: هو حاصل من نفسه فيحمل على غيره". أقول: لما فرغ من الكتب الأربعة المعقودة للأدلة الأربعة المتفق عليها شرع في كتاب آخر لبيان الأدلة المختلف فيها، وجعله مشتملا على بابين, الأول: في المقبول منها، والثاني: في المردود، فأما المقبول فستة، الأول: الأصل في الأشياء النافعة هو الإباحة، وفي الأشياء الضارة أي: مؤلمات القلوب هو الحرمة، وهذا إنما هو بعد ورود الشرع بمقتضى الأدلة الشرعية، وأما قبل وروده فالمختار الوقوف كما تقدم، ثم استدل المصنف على إباحة المنافع بثلاث آيات: الآية الأولى: "قوله تعالى": {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ووجه الدلالة أن البارئ تعالى أخبر بأن جميع المخلوقات الأرضية للعباد؛ لأن موضوعه للعموم، لا سيما وقد أكدت بقوله: {جَمِيعًا} واللام في {لَكُمْ} تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، ألا ترى أنك إذا قلت: الثوب لزيد فإن معناه أنه مختص بنفعه, وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون الانتفاع بجميع المخلوقات مأذونا فيه شرعا وهو المدعي. الثانية: "قوله تعالى": {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ووجه الدلالة أن هذا الاستفهام ليس على حقيقته بل هو للإنكار، وحينئذ فيكون البارئ تعالى قد أنكر تحريم الزينة التي يختص بنا الانتفاع بها لمقتضى اللام كما تقدم، وإنكار التحريم يقتضي انتفاء التحريم، وإلا لم يجز الإنكار، وإذا انتفت الحرمة تعينت الإباحة، وفيه نظر, فقد تقدم في أوائل الكتاب أن انتفاء الحرمة لا يوجب الإباحة. الآية الثالثة: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ووجه الدلالة أن اللام في {لَكُمْ} تدل على الطيبات مخصوصة بناء على جهة الانتفاع كما تقدم، وليس المراد بالطيبات هو المباحات، وإلا يلزم التكرار بل المراد بها ما تستطيعه النفس؛ لأن الأصل عدم معنى ثالث، وأما المضار فاستدل المصنف على تحريمها بقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ووجه الدلالة أن الحديث يدل على نفي الضرر مطلقا؛ لأن النكرة المنفية تعم، وهذا النفي ليس واردا على الإمكان ولا الوقوع قطعا، بل على الجواز، وإذا انتفى الجواز ثبت التحريم وهو المدعى. قوله: "قيل: على الأول" أي: اعترض الخصم على بيان الأصل وهو إباحة المنافع بوجهين أحدهما: لا نسلم أن اللام في اللغة للاختصاص النافع, فإنها قد تجيء لغير النفع كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أما في الآية الأولى؛ فلأنها لاختصاص الضرر لا لاختصاص النفع، وأما في

_ 1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "4/ 384".

الآية الثانية فلتنزيهه تعالى عن الانتفاع به، وأجاب المصنف بأن استعمال اللام في غير النفع مجاز، لاتفاق أئمة اللغة على أن اللام موضوعة للملك، ومعنى للملك هو الاختصاص النافع لا حقيقته المعروفة، وإلا يصح قولهم: الجل للفرس، فيلزم منه أن تكون اللام حقيقة في الاختصاص النافع، وحينئذ فيكون استعمالها في غيره مجازا؛ لأنه خير من الاشتراك، ولقائل أن يقول: هذا ينافي ما ذكره في القياس، من كون اللام حقيقة في التعليل، وأيضا فإن أهل اللغة يخصونها بالملك ولا بالاختصاص النافع، بل قالوا: إنها للملك وما يشبه الملك وهو الاختصاص، ولم يقيدوا الاختصاص بكونه نافعا، وأما قولهم: الجل للفرس فهو إنما يدل على صحة استعمالها فيه، لا على نفي استعمالها في الاختصاص الذي لا ينفع، فإنه يحتمل أن تكون موضوعة لمطلق الاختصاص، ودعواه أولى لما فيه من عدم الاشتراك والمجاز. الاعتراض الثاني: سلمنا أن اللام للاختصاص النافع، ولكن ذلك الاختصاص الذي أفادته ليس بعام بل هو مطلق، والمطلق يصدق بصورة، وتلك الصورة حاصلة هنا، فإن الاستدلال بالمخلوقات على وجود الصانع نفع عظيم، وأجاب المصنف بأن الاستدلال على الصانع حاصل لكل عاقل من نفسه، فإنه يصح أن يستدل من نفسه على خالقه، فينبغي حمل الانتفاع الوارد في الآيات على غير الاستدلال تكثيرا للفائدة، وفرارا من تحصيل الحاصل. قال: "الثاني: الاستصحاب حجة خلافا للحنفية والمتكلمين، لنا أن ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه، ولولا ذلك لما تقررت المعجزة لتوقفها على استمرار العادة ولم تثبت الأحكام الثابتة في عبده -عليه الصلاة والسلام- لجواز النسخ ولكان الشك في الطلاق كالشك في النكاح, ولأن الباقي يستغني عن سبب أو شرط جديد، بل يكفيه دوامهما دون الحادث, ونقل عدمه، الصدق عدم الحادث على ما لا نهاية له فيكون راجحا". أقول: الدليل الثاني من الأدلة المقبولة: استصحاب الحال, وهو عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول, والسين فيه للطلب على القاعدة, ومعناه أن المناظر يطلب الآن صحة ما مضى كاستدلال الشافعية على أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء بأن ذلك الشخص كان على الوضوء قبل خروجه إجماعا, فيبقى على ما كان عليه وهو حجة عند الإمام والآمدي وأتباعهما خلافا لجمهور الحنفية والمتكلمين. قوله: "لنا" أي: الدليل على أنه حجة وجهان أحدهما: أن ما ثبت في الزمان الأول من وجود أمر أو عدمه ولم يظهر زواله لا قطعا ولا ظنا, فإنه يلزم بالضرورة أن يحصل الظن ببقائه كما كان والعمل بالظن واجب, قال المصنف: ولولا ذلك أي: ولولا أن ما ثبت في الزمان الأول على وجه المذكور يكون مظنون البقاء في الزمان الثاني لكان يلزم منه ثلاثة أمور باطلة بالاتفاق, أحدها: أن لا تقرر معجزة أصلا؛ لأن المعجزة أمر خارق للعادة متوقف على استمرار العادة فإنه لو

لم يتوقف على استمرارها لجاز تغيرها فلا تكون المعجزة خارقة للعادة, واستمرار العادة متوقف على أن الأصل بقاء ما كان على ما كان فإنه لا معنى للعادة إلا أن تكرر وقوع الشيء على وجه مخصوص يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لم يقع إلا على ذلك الوجه, فلو كان اعتقاد وقوعه على الوجه المخصوص يساوي اعتقاد وقوعه على خلاف ذلك الوجه لم تكن المعجزة خارجة للعادة. الثاني: أن لا تثبت الأحكام الثابتة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة إلينا لجواز النسخ, فإنه إذا لم يحصل الظن من الاستصحاب يكون بقاؤها مساويا لجواز نسخها وحينئذ فلا يمكن الجزم بثبوتها وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح. الثالث: أن يكون الشك في الطلاق كالشك في النكاح؛ لتساويهما في عدم حصول الظن بما مضى, وحينئذ فيلزم أن يباح الوطء فيهما أو يحرم فيهما وهو باطل اتفاقا, بل يباح للشك في الطلاق دون الشك في النكاح. الدليل الثاني: أن بقاء الباقي راجح على عدمه, وإذا كان راجحا وجب العمل به اتفاقا وهو المدعى، ووجه رجحانه من وجهين, أحدهما: أن الباقي يستغني عن السبب والشرط الجديدين؛ لأن الاحتياج إليهما إنما هو لأجل الوجود، والوجود قد حصل لهذا الباقي، فلا يحتاج حينئذ إليهما, وإلا يلزم تحصيل الحاصل، بل يكفيه دوامها بخلاف الأمر الذي يحدث، فإنه لا بد له من سبب وشرط جديدين فيكون عدم الباقي كذلك؛ لأنه من الأمور الحادثة، وما لا يفتقر أرجح من المفتقر، فيكون البقاء أرجح من العدم وهو المدعى، وإنما قيد السبب والشرط بكونهما جديدين؛ لأن الباقي يحتاج في استمرار وجوده إلى دوام سببه وشرطه. والثاني: أن عدم الباقي يقل بالنسبة إلى عدم الحادث؛ لأن عدم الحادث يصدق على ما لا نهاية له، وأما عدم الباقي مشروط فمتناه؛ لأن عدم الباقي مشروط بوجود الباقي, والباقي متناه، وإذا كان عدم الباقي أقل من عدم الحادث كان وجوده أكثر من وجوده فيكون راجحا. "فرع" مذكور في المحصول هنا لتعلقه بالاستصحاب، وهو أن نافي الحكم هو عليه دليل أم لا, فقال بعضهم: هو مطالب به، واختاره ابن الحاجب, وقيل: لا وقيل: إن كان في العقليات فهو مطالب، وإن كان في الشرعيات فلا. وفصل الإمام فقال: إن أرادوا بقولهم: لا دليل عليه، هو أن العلم بذلك العدم الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل، فهذا حق، وإن أرادوا به غيره فهو باطل؛ لأن العلم بالنفي أو الظن لا يحصل إلا بمؤثر، وللآمدي تفصيل يطول ذكره. قال: "الثالث: الاستقراء، مثاله الوتر يؤدى على الراحلة فلا يكون واجبا لاستقراء الواجبات، وهو يفيد الظن، والعمل به لازم، لقوله -عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر" 1. أقول: قد تقدم الكلام على لفظ الاستقراء في الكلام على التكليف بالمحال،

_ 1 أخرجه الشوكاني في الفوائد المجموعة "200".

وهو ينقسم إلى تام وناقص، فالتام إثبات حكم كلي في ماهية لأجل ثبوته في جميع جزئياتها, والناقص وهو مقصود المصنف, وهو إثبات حكم كلي في ماهية لثبوته في بعض أفرادها، هذا لا يفيد القطع لجواز أن يكون حكم ما لم يستقرأ من الجزئيات، على خلاف ما استقرئ منها، قال في المحصول: وكذا لا يفيد أيضا الظن على الأظهر، وخالفه صاحب الحاصل فجزم بأنه يفيد وتبعه عليه المصنف، وعلى هذا فيختلف الظن باختلاف كثرة الجزئيات المستقرأة وقلتها، ويجب العمل به لقوله -عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر" ومثال ذلك استدلال بعض الشافعية على عدم وجوب الوتر، بأن الوتر يؤدى على الراحلة وكل ما يؤدى على الراحلة لا يكون واجبا، أما المقدمة الأولى فبالإجماع، وأما الثانية فباستقراء وظائف اليوم والليلة أداء وقضاء، فإن قيل: الوتر كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك فإنه كان يصليه على الراحلة، فالجواب ما قاله القرافي وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في السفر, والوتر لم يكن واجبا عليه إلا في الحضر. قال: "الرابع: أخذ الشافعي رضي الله عنه بأقل ما قيل, إذا لم يجد دليلا، كما قيل: دية الكتابي الثلث وقيل: النصف وقيل: الكل بناء على الإجماع والبراءة الأصلية، قيل: يجب الأكثر ليتيقن الخلاص، قلنا: حيث يتيقن الشغل والزائد لم يتيقن". أقول: الدليل الرابع من الأدلة المقبولة: الأخذ بأقل ما قيل، وقد اعتمد عليه الشافعي -رضي الله عنه- في إثبات الحكم إذا كان الأقل جزءا من الأكثر، ولم يجد دليلا غيره، كما في دية الكتابي, فإن العلماء اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال، فقال بعضهم: إنها ثلث دية المسلم، وقالت المالكية: نصف ديته، وقالت الحنفية: مثل ديته، فاختار الشافعي المذهب الأول وهو أنها الثلث، بناء على أن المجموع من الإجماع البراءة الأصلية، أما الإجماع فإن كل واحد من المخالفين يوجبه، فإن الإيجاب الأكثر يستلزم إيجاب الأقل، حتى لو فرضنا أن بعضهم قال: لا يجب فيه شيء أصلا لم يكن إيجاب الثلث مجمعا عليه، لكونه قول بعض الأمة، وأما البراءة الأصلية فإنها تقتضي عدم وجوب الزيادة إذ هي دالة على عدم الوجوب مطلقا، لكن ترك العمل بها في الثلث للإجماع فبقي ما عداه على الأصل، فتلخص أن الحكم بالاقتصار على الأقل مبني على مجموع هذين الشيئين كما قرره الإمام والآمدي، لا على الإجماع وحده كما ظنه ابن الحاجب، بل الإجماع وحده إنما هو دليل على إيجاب الثلث خاصة، فقول المصنف: بناء الإجماع والبراءة، تعليل لقوله: أخذ الشافعي, وقوله إذا لم يجد دليلا سواه أي: فإن وجده الشافعي لم يتمسك بالأقل؛ لأن ذلك الدليل إن دل على إيجاب الأكثر فواضح، ولذلك لم يأخذ الشافعي بالثلاثة في انعقاد الجمعة وفي الغسل من ولوغ الكلب لقيام الدليل على الأكثر, وإن دل على الأقل كان الحكم بإيجابه لأجل هذا الدليل، لا لأجل الرجوع إلى أقل ما قيل، هكذا

قاله في المحصول؛ فلذلك أطلق المصنف هذا الشرط. وفي القسم الثاني منه نظر؛ لأنه يقتضي امتناع اجتماع الدليلين وليس كذلك. قوله: "قيل: يجب الأكثر" أي: اعترض بعضهم على الشافعي في أخذه بالأقل فقال: ينبغي إيجاب الأكثر ليتيقن المكلف الخلاص عما وجب عليه، وأجاب المصنف بأنه إنما يجب ذلك حيث تيقنا شغل الذمة به، والزائد على الأقل لم يتيقن فيه؛ ذلك لأنه لم يثبت عليه دليل. قال: "الخامس: المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية, كتترس الكفار الصائلين بأسارى المسلمين, اعتبر وإلا فلا. وأما مالك فقد اعتبره مطلقا؛ لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره، ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- قنعوا بمعرفة المصالح". أقول: سبق في الباب الثاني من كتاب القياس أن المناسب قد يعتبره الشارع وقد يلغيه وقد لا يعلم حاله, وهذا الثالث هو المسمى بالمصالح المرسلة، ويعبر عنه بالمناسب المرسل، وسبق هناك حكم القسمين الأولين، وأما الثالث فسبق تعريفه دون تفصيل حكمه، وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: أنه غير معتبر مطلقا، قال ابن الحاجب: وهو المختار، وقال الآمدي: إنه الحق الذي اتفق عليه الفقهاء، والثاني: أنه حجة مطلقا وهو مشهور عن مالك، واختاره إمام الحرمين، وقال ابن الحاجب: وقد نقل أيضا عن المعتبرة، والثالث وهو رأي الغزالي، واختاره المصنف: أنه إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإلا فلا، فالضرورية هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب، وأما القطعية فهي التي يجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة بأننا لو امتنعنا عن التترس لصدمونا، واستولوا على ديارنا وقتلوا المسلمين كافة حتى التترس، ولو رمينا التترس لقتلنا مسلما من غير ذنب صدر منه، فإن قتل التترس والحالة هذه مصلحة مرسلة؛ لكونه لم يعهد في الشرع جواز قتل مسلم بلا ذنب، ولم يقم أيضا دليل على عدم جواز قتله عند اشتماله على مصلحة عامة للمسلمين، لكنها مصلحة ضرورية قطعية كلية؛ فلذلك يصح اعتباره أي: يجوز أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى أن يقول: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ مسلم واحد، فإن لم تكن المصلحة ضرورية بل كانت من المصلحيات أو التتمات فلا اعتبار بها، كما إذا تترس الكفار في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رميه إذ لا ضرورة فيه، فإن حفظ ديننا غير متوقف على استيلائنا على تلك القاعدة، وكذلك إن لم تكن قطعية كما إذا لم تقطع بتسليط الكفار علينا عند عدم رمي الترس، أو لم تكن كلية كما لو أشرفت السفينة على الغرق، وقطعنا بنجاة الذين فيها لو رمينا واحدا منهم بالبحر، فإنه لا يجوز الرمي لأن نجاة أهل السفينة ليست مصلحة كلية، وكذلك لا يجوز لجماعة وقعوا في مخمصة أكل واحد منهم بالقرعة لكون المصلحة جزئية. قوله: "لأن اعتبار" أي: احتج مالك بوجهين, أحدهما: أن الشارع اعتبر جنس

المصالح في جنس الأحكام كما مر في القياس، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها فردا من أفرادها. الثاني: أن من تتبع أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- قطع بأنهم كانوا يقنعون في الوقائع بمجرد المصالح، ولا يبحثون عن أمر آخر، فكان ذلك إجماعا منهم على قبولها، والمصنف قد تبع الإمام في عدم الجواب على هذين الدليلين، وقد يجاب عن الأول بأنه لو وجب اعتبار المصالح المرسلة لاشتراكها للمصالح المعتبرة في كونها مصالح لوجب إلغاؤها أيضا، لاشتراكها مع المصالح الملغاة في ذلك، فيلزم اعتبارها وإلغاؤها وهو محال، وعن الثاني أنا لا نسلم بإجماع الصحابة عليه بل إنما اعتبروا من المصالح ما اطلعوا على اعتبار الشارع لنوعه أو جنسه القريب ولم يصرح الإمام مختاره في المسألة. قال: "السادس: فقد الدليل بعد التفحص البليغ يغلب ظن عدمه وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل". أقول: الدليل السادس من الأدلة المقبولة عند المصنف: الاستدلال على عدم الحكم بعدم ما يدل عليه, وتقريره أن يقال: فقدان الدليل بعد التفحص البليغ يغلب ظن عدمه يعني: عدم الدليل وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم, أما المقدمة الأولى فواضحة، وأما الثاني فلأن عدم الدليل يستلزم عدم الحكم إذ لو ثبت حكم شرعي ولم يكن عليه دليل لكان يلزم منه تكليف الغافل وهو ممتنع، فينتج فقدان الدليل بعد التفحص البليغ يوجب ظن عدم الحكم، والعمل بالظن واجب، والمراد بعدم الحكم هنا عدم تعلقه، لا عدم ذاته. فإن الأحكام قديمة عنده، وهذه الطريقة التي قررها المصنف نقلها في المحصول عند بعض القفهاء، ولم يصرح بموافقته.

الباب الثاني: في المردودة

الباب الثاني: في المردودة قال: "الباب الثاني: في المردودة الأول: الاستحسان, قال به أبو حنيفة, وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد، وتقصر عنه عبارته، ورد بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه من فاسده وفسره الكرخي بأنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى، كتخصيص أبي حنيفة قول القائل: مالي صدقة بالزكوي لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وعلى هذا فالاستحسان تخصيص، وأبو الحسين بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الأقوى, يكون كالطارئ، فخرج التخصيص، ويكون حاصله تخصيص العلة". أقول: شرح المصنف في بيان الأدلة المردودة فذكر منها شيئين أحدهما: الاستحسان، وقد قال به أبو حنيفة وكذا الحنابلة كما قاله الآمدي وابن الحاجب، وأنكره الجمهور لظنهم أنهم يريدون به الحكم بغير دليل، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع، أي: وضع شرعا جديدا، قال في المحصول: وليس الخلاف في جواز استعمال لفظ الاستحسان لوروده في الكتاب، كقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] وفي السنة كقوله -صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" 1 وفي ألفاظ المجتهدين كقول الشافعي في المتعة: أستحسن أن

_ 1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "4/ 133", والسيوطي في الدرر المنتثرة "156".

تكون ثلاثين درهما، فثبت أن الخلاف إنما هو في المعنى، وحينئذ فلا بد من تفسيره ليمكن قبوله أو رده، وهو استفعال من الحسن، يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني، وإن كان مستقبحا عند غيره، وليس هذا محل الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع القول في الدين بالتشهي فيكون محل الخلاف فيما عدا ذلك، وقد اختلف المتأخرون في التعبير عنه على عبارات كثيرة، ذكر المصنف منها ثلاثا، أحدها ولم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل، بل الآمدي وابن الحاجب: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد، وتقاصر عنه عبارته، فلا يقدر على إظهاره، وأبطله المصنف بأن الذي يقوم قد يكون صحيحا وقد لا يكون, فلا بد من ظهوره، أي: بيانه لتمييز صحيحه عن فاسده. ولقائل أن يقول: إن أراد المصنف بوجوب إظهاره أنه لا يكون قبل ذلك حجة على المناظر، فهذا واضح لكنه ليس محل الخلاف، وإن أراد أن المجتهد لا يثبت به الأحكام فهو ممنوع، اللهم إلا أن يشك المجتهد في كونه دليلا فإنه لا يجوز العمل به. التفسير الثاني قاله الكرخي: أنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى، أي: هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها، إلى الحكم بخلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول، وذلك حيث دل دليل خاص على إخراج صورة ما دل عليه العام، كتخصيص أبي حنيفة قول القائل: مالي صدقة بالمال الزكوي دون غيره، فإن الدليل الدال على وجوب الدفاع بالنذر يقتضي وجوب التصدق بجميع أمواله عملا بلفظه، لكن ههنا دليل خاص يقتضي العدول عن هذا الحكم بالنسبة إلى غير الزكوي، وهو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فإن المراد بالمال في الآية هو الزكوي، فليكن كذلك في قول القائل: مالي صدقة، والجامع هو قرينة إضافة الصدقة في المال في الصورتين، واعترض المصنف على هذا التفسير بأنه أن يكون التخصيص استحسانا لانطباقه عليه، ولا نزاع في التخصيص، ولو عبر المصنف بالعكس، فقال: وعلى هذا فالتخصيص استحسانا كما عبرت به لكان أظهر. التفسير الثالث قاله أبو الحسين: أنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ، لوجه أقوى منه، يكون كالطارئ على الأول، فأشار بقوله: ترك وجه من وجه الاجتهاد، إلى أن الواقعة التي اجتهد فيها المجتهدون لها وجوه كثيرة واحتمالات متعددة، فيأخذ المجتهدون بواحد منها، ثم إنه يترك ذلك الوجه لما هو أقوى، واحترز بقوله: غير شامل شمول الألفاظ, عن تخصيص العموم, فإن الوجه الأول شامل شمول الألفاظ، احترز بقوله: يكون الطارئ على الأول، عن ترك أضعف القياسين لأجل الأقوى، فإن أقواهما ليس في حكم الطارئ، قال: فإن كان طارئا عليه فهو الاستحسان، ومثال ذلك العنب، فإنه قد ثبت تحريم بيعه الزبيب سواء كان على رأس الشجر أو لا، قياسا على الرطب، ثم إن الشارع أرخص في جواز بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر, فقسنا

عليه العنب، وتركنا القياس الأول؛ لكون الثاني أقوى، فإن احتمل الثاني القوة والطرآن كان استحسانا، وهذا التفسير يقتضي أن يكون العدول عن حكم القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانا, وليس كذلك عند القائلين به، واعترض عليه المصنف بأن حاصله يرجع إلى أن الاستحسان هو تخصيص العلة وهو المعبر عنه بالنقض، وليس ذلك مما انفرد به الحنفية، كما سبق إيضاحه في القياس، وفي قول المصنف: إن حاصله تخصيص العلة نظر, بل حاصله كما قاله الآمدي الرجوع عن حكم دليل لطرآن دليل آخر أقوى منه، وهذا أعم من تخصيص العلة، وقد تلخص من هذه المسألة أن الحق ما قاله ابن الحاجب، وأشار إليه الآمدي أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه. قال: "الثاني: قيل: قول الصحابي حجة، وقيل: إن خالف القياس، وقال الشافعي في القديم: إن انتشر ولم يخالف, لنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] يمنع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا وقياس الفروع على الأصول, قيل: "أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" 1 قلنا: المراد عوام الصحابة. قيل: إذا خالف القياس فقد اتبع الخبر، قلنا: ربما خالف لما ظنه دليلا ولم يكن". أقول: اتفق العلماء كما قاله الآمدي وابن الحاجب على قول الصحابي ليس بحجة على أحد من الصحابة المجتهدين, وهل هو حجة على غيرهم؟ حكى المصنف فيه أربعة أقوال, أحدها: أنه حجة مطلقا، وهو مذهب مالك وأحد قولي الشافعي كما نقله الآمدي، وعلى هذا فهل يخص به عموم كتاب أو سنة؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي حكاه الماوردي. والثاني: أنه إن خالف القياس كان حجة وإلا فلا. والثالث: أن يكون حجة بشرط أن ينتشر ولم يخالفه أحد، ونقله المصنف عن القديم. والرابع, وهو المشهور عن الشافعي وأصحابه: أنه لا يكون حجة مطلقا، واختاره الإمام والآمدي وأتباعهما كابن الحاجب والمصنف، وقد سبق في الإجماع قول: إن إجماع الخلفاء الأربعة حجة، وقول آخر: إن إجماع الشيخين حجة؛ فلذلك لم يذكرهما المصنف هنا. واعلم أن حكاية هذه الأقول على الوجه الذي ذكره المصنف غلط لم ينتبه له أحد الشارحين، وسببه اشتباه مسألة بمسألة, وذلك أن الكلام هنا في أمرين أحدهما: أن قول الصحابي هل هو حجة أو لا؟ وفيه ثلاثة مذاهب، ثالثها: إن خالف القياس كان حجة وإلا فلا. الأمر الثاني: إذا قلنا: إن قول الصحابة ليس بحجة, فهل يجوز للمجتهد تقليده فيه؟ ثلاثة أقوال, الشافعي في الجديد: أنه لا يجوز مطلقا، والثالث وهو قول قديم: أنه إن انتشر جاز وإلا فلا. هكذا صرح به الغزالي في المستصفى، والآمدي في الأحكام, وغيرهما، وأفردوا لكل حكم مسألة، وذكر الإمام في المحصول نحو ذلك أيضا، فتوهم صاحب الحاصل أن المسألة الثانية أيضا من كونه حجة، ولكن

_ 1 أخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 190" وأخرجه أيضا في لسان الميزان "2/ 488" والعجلوني في كشف الخفاء "1/ 147".

المحصول في الصراحة ليس كالأحكام، فصرح بما توهمه، فرأى المصنف حالة اختصاره أن تفريق أقوال الحكم الواحد لا معنى له, فأخذ حاصل المسألتين من الأقوال وجمعه في هذا الموضع، فلزم منه أن القول المفصل بين الانتشار وعدمه تفصيل في الاحتجاج به, وليس كذلك, بل إنما هو تفصيل في جواز التقليد مع تسليم عدم الاحتجاج به فافهمه، والعجب إنما هو من فهم صاحب الحاصل؛ فإنه كيف يترجم مصنف مسألة واحدة مرتين متواليتين بترجمتين مستقلتين؟ واعلم أن القول بجواز التقليد نص عليه في الأم في مواضع متعددة, فهو إذًا جديد لا قديم. قوله: "لنا" أي: الدليل على كونه ليس بحجة مطلقا النص والإجماع والقياس؛ وأما النص فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر تعالى أولي الأبصار بالاعتبار يعني الاجتهاد, وذلك ينافي التقليد؛ لأن الاجتهاد هو البحث عن الدليل، والتقليد هو الأخذ بقول غيره من غير دليل، وفيه نظر؛ لأن القائلين بكونه حجة يمنعون كونه تقليدا ويجعلونه كسائر الأدلة، على أن صاحب الحاوي وجماعة حكوا خلافا في أن الأخذ بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هل يسمى تقليدا أم لا؟ وأما الإجماع فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة بعضهم بعضا، فلو كان قول الواحد منهم حجة لوقع الإنكار على من خالفه منهم، وهذا الدليل على محل النزاع، فإن الخلاف في غير الصحابة كما تقدم، وقد يجاب عنه بأنه إذا كان مذهبهم جواز مخالفة بعضهم بعضا، بأن لم يكن مذهبهم حجة على غيرهم جاز لغيرهم مخالفة كل واحد منهم، وإن كان حجة جاز لغيرهم ذلك أيضا، أعني: مخالفة كل واحد منهم؛ لأن مذهبهم جواز مخالفة كل واحد منهم، والفرض أن مذهبهم حجة، وأما القياس فهو أن قول الصحابي ليس بحجة على غيره من المجتهدين في أصول الدين، فلا يكون أيضا حجة في فروعها، والجامع بينهما تمكن المجتهد في الموضعين من الوقوف على الحكم بطريقة, هذا أيضا ضعيف؛ لأن المطلوب في الأصول هو العلم بخلاف الفروع, فإن المطلوب فيها هو الظن، وقد يحصل الظن بقول الصحابي، ولا يحصل العلم، وحينئذ فيكون قوله حجة في الفروع دون الأصول، واحتج غير المصنف بأن الأصل في الأدلة أن لا تخص قوما دون قوم، وبأن قولهم لم يكن حجة في زمانهم, فكذلك بعدهم عملا بالاستصحاب. قوله: "قيل ... إلخ" أي: احتج من قال: إنه حجة مطلقا بقوله -عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم, بأيهم اقتديتم اهتديتم" جعل الاهتداء لازما للاقتداء بأي واحد منهم كان، فدل على كونه حجة، وإلا لم يكن المقتدي به مهتديا، وأجاب المصنف بأن الخطاب هنا إنما هو مع الصحابة لكونه خطاب مشافهة فانتفى دخول غيرهم. ثم إن الصحابة المخاطبين بذلك لا يجوز أن يكونوا مجتهدين، لكونه ليس محل الخلاف كما تقدم، فتعين أن يكون المراد منه أن العامي منهم إذا اقتدى بأي مجتهد كان منهم اهتدى، وهو صحيح مسلم، وأجاب

الآمدي بأن الخبر وإن كان عاما في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاهتداء في كل ما يقتدى به، وعند ذلك فنقول: يمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يروونه وهذه القاعدة التي أشار إليها قد تقدم الكلام عليها لكن ههنا جهة تقتضي العموم المعنوي وهي ترتب الحكم على الوصف, فإن الاقتداء مرتب على كونهم صحابة، وأما من ذهب إلى أنه إذا خالف القياس كان حجة وإلا فلا, فاحتج بأنه إذا خالف القياس فلا محل له إلا أنه اطلع على خبر فاتبعه وإلا فيكون قد ترك القياس المأمور به، وانقدحت عدالته وذلك باطل، وحينئذ فيكون قوله حجة لاستلزامه الحجة لا لذاته، وأجاب المصنف بأنه ربما خالف القياس لشيء ظنه دليلا ولم يكن كذلك في نفس الأمر، وأجاب غيره بأنه يلزم منه أن يكون مذهب الصحابي حجة على المجتهدين من الصحابة أيضا، ما قالوه، ولم يتعرض المصنف للقول المفصل بين أن ينشر أم لا؛ لكونه قد سبق الكلام عليه في الإجماع. قال: "مسألة: منعت المعتزلة تفويض الحكم إلى رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- والعالم؛ لأن الحكم يتتبع المصلحة، وما ليس بمصلحة لا يصير بجعله إليه مصلحة. قلنا: الأصل ممنوع، وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون اختياره أمارة المصلحة؟ وجزم بوقوعه موسى بن عمران، لقوله -عليه السلام- بعدما أنشدت ابنة النضر بن الحارث: "لو سمعت ما قتلت" وسؤال الأقرع في الحج: أكل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلت ذلك لوجب" ونحوه. قلنا: لعلها ثبتت بنصوص محتملة الاستثناء، وتوقف الشافعي رضي الله عنه". أقول: اختلفوا في أنه يجوز أن يفوض الله تعالى الحكم إلى نبي أو عالم، أن يقول له: احكم بما شئت فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فقالت المعتزلة: لا يجوز، وقال موسى بن عمران بجوازه ووقوعه، وتوقف الشافعي -رحمه الله- في الجواز، كما قاله الإمام وأتباعه واختاروه، وهو مقتضى اختيار المصنف أيضا، فإنه قال: أجاب عن أدلة الفريقين، ومقتضى كلام ابن برهان في الأوسط أنه مذهب الشافعي, فإنه قال كما حكاه القرافي عنه: مذهبنا جواز هذه المسألة ووقوعها، واختار الآمدي وابن الحاجب أنه جائز غير واقع، وقال أبو علي الجبائي في أحد قوليه كما قال الآمدي: إنه يجوز للنبي دون غيره، وهذه المسألة قد جعلها الإمام وأتباعه عقب الأدلة كما جعلها المصنف، وجعلها الآمدي وابن الحاجب في كتاب الاجتهاد، ووجه مناسبتها الأول أنه إذا وقع تفويض الحكم إلى النبي أو العالم فتكون الأحكام بالنسبة إليه غير متوقفة على الدليل، ويكون حكمه من جملة المدارك الشرعية، ووجه مناسبتها الاجتهاد أن الحكم قد تعين فيها من جهة العبد لا بطريق الوحي. إذا علمت ذلك فقد احتجت المعتزلة على المنع بأن أحكام الله تعالى تابعة لمصالح العباد على ما سبق في القياس، فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لأدى إلى تخلف الحكم عن المصلحة؛ لجواز أن يصادف اختياره ما ليس بمصلحة في نفس الأمر، وما ليس بمصلحة في نفس الأمر لا يصير مصلحة بجعله

إلى المجتهد أي: بتفويضه إليه؛ لاستحالة انقلاب الحقائق، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: أنه مبني على أصل ممنوع وهو وجوب رعاية المصالح. الثاني: وسلمنا ما ذكرتم لكن لم لا يجوز أن يكون اختيار العبد للحكم أمارة على وجود المصلحة فيه؟ وذلك بأن يلهمه الله تعالى إلى اختيار ما فيه المصلحة، وإن لم يعلم بها فإن الله تعالى لما أخبره بأنه لا يحكم إلا بالصواب، وتوقف الحكم بالصواب على المصلحة، لزم أن لا يحكم إلا بالمصلحة. قوله: "لقوله عليه السلام" أي: استدل موسى بن عمران على الوقوع بأمرين أحدهما: قضية النضر بن الحارث وهي على ما حكاه ابن هشام في السيرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من بدر الكبرى توجه إلى المدينة ومعه الأسرى, فلما كان بالصفراء أمر عليا فقتل النضر بن الحارث ثم أنشد بعد ذلك ما قيل في القتلى فقال وقالت قتيلة بنت الحارث أخت النضر بن الحارث: يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزل بها النجائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بوابلها وأخرى تحنق هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد وهو فان موثق قال ابن هشام فقال: الله أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه هذا الشعر قال: "لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه" هذا آخر كلام ابن هشام. وتخفق بضم الفاء وكسرها معناه تضطرب, والضنء بكسر الضاد المعجمة معناه: الذي يضن به أي يبخل به لعظم قدره، ويقال: أعرق فهو معرق على البناء للمفعول فيهما أي: له عرق في الكرم، وعلى البناء للفاعل بمعنى أنج، ورسف المقيد بالراء والسين المهملة هو مشي المقيد. قاله الجوهري، ومعنى قولها: من صبح خامسة أي: صبح ليلة خامسة؛ لأنها كانت بمكة وبينها وبين الأثيل الذي بالصفراء وهو مكان قبر أخيها هذه المسافة، ووجه الدلالة أن قوله -عليه الصلاة والسلام: "لو بلغني لمننت عليه" يدل على أن الحكم كان مفوضا إلى رأيه، إذ لو كان مأمورا لقتله سمع شعرها أو لم يسمعه، المصنف رحمه الله لم يذكر الشعر وذكر أن الذي أنشدته هو بنت النضر, وكذلك ذكره الإمام والآمدي وأتباعهما. وقد عرفت مما تقدم من كلام ابن هشام أنها أخته لا بنته, وصرحوا أيضا بأنها أنشدته للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف مقتضى كلام ابن هشام. الدليل

الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس فقال: "أيها الناس, إن الله كتب عليكم الحج" 1 فقال الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قالها ثلاثا فقال: "لو قلت نعم, لوجب ولما استطعتم" فهذا أيضا يدل على أن الأمر فيه كان مفوضا إلى اختياره. قوله: "ونحوه" أي: ونحو هذين الدليلين كقوله -عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 2 وكقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها" 3 وكقوله: "إلا الأذخر" في حديث العباس المشهور وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم مكة يوم خلق السموات والأرض, لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها" فقال العباس: إلا الأذخر يا رسول الله؟ فقال: "إلا الأذخر" 4 وأجاب المصنف بأن هذه الصور كلها لا تدل على تفويض الحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاحتمال أن تكون ثابتة بنصوص محتملة الاستثناء، أي: مجوزة على وفق إرادة بعض الناس، كأن أوحي إليه بأن يقتل الأسارى إلا أن يسأل سائل في أحدهم، والأحسن في الجواب أن يقال: أما قضية النضر فقد يكون عليه السلام مخيرا فيه وفي غيره من الأسارى، والتخيير ليس بممتنع اتفاقا، بل هو التخيير الثابت في حق كل إمام، وأما قوله للأقرع: "لو قلت: نعم, لوجب" فمدلوله الوجوب على تقدير قول نعم، وهذا صحيح معلوم بالضرورة، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقول: نعم إلا إذا كان الحكم كذلك, ولكن من أين لنا أن الحكم كذلك فقد يكون ممتنعا، وقوله: "لو قلت نعم" لا يدل على جواز قولها؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على جواز الشرط الذي فيها، وأما قوله: "لولا أن أشق على أمتي" فيحتمل أن البارئ تعالى أمره أن يأمرهم عند عدم المشقة فلو وجد المشقة لم يأمرهم، وأما قوله: "إلا الأذخر" فيحتمل أن يكون بوحي سريع، أو أطلق العام والمراد به الخصوص, وكان على عزم البيان، وجواب الباقي ظاهر، ولما ثبت القدح في أدلة القاطعين لزم منه صحة التوقف, فلأجل ذلك كان هو المختار. قال:

_ 1 انظر السيرة النبوية لابن هشام في الجزء الثالث ص41، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 291". 3 أخرجه البخاري في صحيحه "2/ 5" ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب 15، رقم 42, والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 221" ومالك في الموطأ "66". 4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "4/ 32" والزيلعي في نصب الراية "4/ 265" والقرطبي في تفسيره "12/ 13" والبخاري في صحيحه "3/ 18".

الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح

الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح: الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر "الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح, وفيه أبواب: الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر, منعه الكرخي وجوزه قوم, وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه, والتساقط عند بعض الفقهاء، فلو حكم القاضي بإحداهما مرة لم يحكم بالأخرى، أي: لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين". أقول: لما فرغ المصنف من تقرير الأدلة، شرع في بيان حكمها عند تعارضها، فتكلم في التعادل والتراجيح؛ وذلك لأنها إذا تعارضت فإن لم يكن لبعضها مزية على البعض الآخر فهو التعادل, وإن كان فهو الترجيح، ثم إنه جعل الكتاب مشتملا على أربعة أبواب, الأول منها في التعادل والثلاثة الباقية في التراجيح؛ وذلك لأن الكلام في التراجيح، إن لم يختص بدليل معين فهو البحث عن الأحكام الكلية كما سيأتي، وإن اختص فالدليل الذي يرجح على معارضه، إما كتاب، أو إجماع، أو خبر، أو قياس، فالكتاب والإجماع لا يجري فيهما الترجيح, أما الكتاب فلأنه لا ترجيح لإحدى الآيتين على الأخرى عند تعارضهما، إلا بأن تكون إحداهما مخصصة للأخرى، أو ناسخة لها، وقد سبق الكلام فيهما فلا حاجة إلى إعادته، مع أنه قد أشار إليه في الحكم الرابع من الأحكام الكلية للترجيح، وأما الإجماع فلأنه لا تعارض فيه كما تقدم في موضعه. فتلخص أن الترجيح إنما يكون لأحد الخبرين على الآخر أو لأحد القياسين على الآخر؛ فلذلك انحصرت مباحث الترجيح في الأبواب الثلاثة. إذا علمت ذلك فنقول: التعادل بين الدليلين القطعيين ممتنع لما ستعرفه، وكذلك بين القطعي والظني, لكن القطعي مقدم، وأما التعادل بين الأمارتين أي: الدليلين الظنيين فاتفقوا على جوازه بالنسبة إلى نفس المجتهد، واختلفوا في جوازه في نفس الأمر, فمنعه الكرخي وكذلك الإمام أحمد كما نقله ابن الحاجب؛ لأنهما لو تعادلا فإن عمل المجتهد بكل واحد منهما لزم اجتماع المتنافيين, وإن لم يعمل بواحد منهما لزم أن يكون نصبهما عبثا، وهو على الله تعالى محال، وإن عمل بأحدهما نظر إن عيناه له كان تحكما وقولا في الدين التشهي، وإن خيرناه كان ترجيحا، لأمارة الإباحة على أمارة الحرمة، وقد ثبت بطلانه أيضا وذهب الجمهور إلى جواز التعادل كما حكاه عنهم الإمام، وكذلك الآمدي وابن الحاجب واختاراه، لأنه لا يمتنع أن يخبر أحد العدلين عن وجود شيء والآخر عن عدمه، وأجابوا عن دليل المانعين بأنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام، فإنه قد بقي قسم رابع وهو العمل بمجموعهما، وذلك بأن يجعلا كالدليل الواحد وحينئذ فيقف المجتهد أو يتخير, سلمنا لكن لا نسلم امتناع ترك العمل بهما والرجوع إلى غيرهما، والقول بلزوم العبث مبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، واختار الآمدي ومن تبعه كصاحب الحاصل، طريقة لم يذكرها المصنف، فقالوا: إن كانت الأمارتان على حكم واحد في فعلين متنافيين فهو جائز وواقع، ومقتضاه التخيير، والدليل على الوقوع أن من دخل الكعبة فله أن يستقبل شيئا من الجدران، وكذلك من ملك مائتين من الإبل فله أن يخرج أربعة حقاق أو خمس بنات لبون، وإن كانتا على حكمين متنافيين لفعل واحد كإباحة وحرمة فهو جائز عقلا وممتنع شرعا، هذا معنى ما قاله وكلامه في الاستدلال يدل عليه فافهمه. قوله: "حينئذ" أي: وإذا جوزنا تعادل الأمارتين في نفس الأمر, فقد اختلفوا في حكمه عند

وقوعه، فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أن المجتهد يتخير بينهما، وجزم به الإمام والمصنف في الكلام على تعارض النصين كما سيأتي. وقال بعض الفقهاء: يتساقطان ويرجع المجتهد إلى البراءة الأصلية، ثم إذا قلنا بالتخيير فوقع هذا التعادل للمجتهد، فإن كان في أمر يتعلق به عمل بما شاء، وإن تعلق بغيره، فإن كان في استفتاء خير المستفتي، وإن كان في حكم فلا يخير الخصمين بل يجب عليه الحكم بإحدى الأمارتين على التعيين؛ لأنه منصوب لدفع الخصومات، فلو خير الخصمين لم تنقطع الخصومة بينهما؛ لأن كل واحد منهما يختار ما هو أوفق لهواه، وعلى هذا فلو حكم بإحدى الأمارتين لم يجز له بعد ذلك أن يحكم بالأمارة الأخرى، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر -رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين". قال: "مسألة: إذا نقل عن مجتهد قولان في موضوع واحد يدل على توقفه، ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين، وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر منهما فهو مذهبه، وإلا حُكي القولان، وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك, وهو دليل على علو شأنه في العلم والدين". أقول: هذه المسألة في حكم تعارض القولين المنقولين عن مجتهد واحد، ولا شك أن تعارضهما بالنسبة إلى المقلدين له كتعارض الأمارتين بالنسبة إلى المجتهدين، فلذلك ذكرها في بابه, وحاصله أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في حكم واحد قولان متنافيان فله حالان، أحدهما: أن يكون ذلك في موضع واحد، بأن يقول مثلا: هذه المسألة فيها قولان، فيستحيل أن يكون المراد أنهما له في ذلك الوقت لاستحالة اجتماع النقيضين، وحينئذ فينظر فيه ذكر عقب ذلك ما يدل على تقوية أحدهما، مثل أن يقول: هذا أشبه، أو يفرع عليه فيكون ذلك مذهبه، وإن لم يذكر شيئا من ذلك فإنه يدل على توقفه في المسألة لفقدان الرجحان عنده، وحينئذ فقوله: إن فيها قولين، يحتمل أن يريد بذلك احتمالين على سبيل التجوز, أن في المسألة احتمال قولين لوجود دليلين متساويين، ويحتمل أن يريد أن فيها مذهبين لمجتهدين، وإنما نص عليهما لئلا يتوهم من أراد من المجتهدين الذهاب إلى أحدهما أنه خارق للإجماع، هذا هو حاصل كلام المصنف، وأما جعل بعض الشارحين التوقف احتمال آخر قسما للاحتمالين الآخرين فليس موافقا لما قاله الإمام وغيره، ولا مطلقا لعبارة الكتاب، ولا صحيحا من جهة المعنى؛ لأن معنى توقفه بين الشيئين هو أن يكون كل منهما محتملا عنده، وبتقدير المغايرة، فلم رجحنا التوقف على كونهما احتمالين؟ نعم إن أراد المصنف صدور الاحتمالين عن غيره، أو إمكان صدورهما عنه أي: عن ذلك الغير، مع أنه لا يرد بذلك فهو قريب، ونقل في المحصول عن بعضهم أن إطلاق القولين يقتضي التخيير، ثم ضعفه الحال. الثاني: أن يكون نقل القولين عن المجتهد في مجلسين بأن ينص مثلا في كتاب على إباحة شيء وينص في الآخر على تحريمه، فإن

علم المتأخر منهما فهو مذهبه، ويكون الأول منسوخا، وإلا حكي عنه القولان من غير أن نحكم على أحدهما بالرجوع. قوله: "وأقوال الشافعي كذلك" هي إشارة إلى الحالين المتقدمين؛ أي: وقع منه التنصيص عليهما في موضع واحد من غير ترجيح البتة، منحصر في سبع عشرة مسألة، على ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد. وقوله: "وهو دليل" أي: وقوع القولين من الشافعي على الوجهين المتقدمين دليل على علو شأنه في العلم والدين، فأما الحال الأول، وهو وقوع القولين في موضع واحد، فوجه دلالته على علو شأنه في العلم أن كل من كان أغوص نظرا وأتم وقوفا على شرائط الأدلة، كانت الإشكالات الموجبة للتوقف عنده أكثر، وأما في الدين فلأنه لما لم يظهر له وجه الرجحان صرح بعجزه عما هو عاجز فيه، ولم يستنكف من الاعتراف بعدم العلم به، وقد نقل الاعتراف بذلك عن عمر أيضا وعده المسلمون من مناقبه، وأما النوع الثاني وهو تنصيصه على القولين في موضعين، فوجه دلالته على علو شأنه في العلم أنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب والبحث، وأما في الدين فلأنه لا يدل على أنه متى لاح له في الدين شيء أظهره، وأنه لم يكن يتعصب لترويج مذهبه. "فرع" قال في المحصول: إذا لم نعرف القول المنسوب إلى الشافعي في القولين المطلقين، وعرفنا قوله في نظير تلك المسألة، فإن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم نحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها؛ لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق، وإن لم يكن بينهما فرق البتة، فالظاهر أن يكون قوله في إحدى المسألتين قولا له في الأخرى، وهذه المسألة هي المعروفة بأن لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ .

الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح قال: "الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح، والترجيح: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى ليعمل بها، كما رجحت الصحابة خبر عائشة -رضي الله عنها- في التقاء الختانين، على قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء" 1. مسألة: لا ترجيح في القطعيات؛ إذ لا تعارض بينها، وإلا ارتفع النقيضان أو اجتمعا". أقول: عقد المصنف هذا الباب للأحكام الكلية للتراجيح، وهي الأمور العامة لأنواعها، بحيث لا تخص فردا من أفراد الأدلة، وجعله مشتملا على مقدمة مبينة لماهية الترجيح ولمشروعيته، وعلى أربع مسائل. إذا علمت ذلك فنقول: الترجيح في اللغة هو التمييل والتغليب، من قولهم: رجح الميزان، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف، وإنما خص الترجيح بالأمارتين أي: بالدليلين الظنيين؛ لأن الترجيح لا يجري بين القطعيات، ولا بين القطعي والظني كما ستعرفه. وقوله: ليعمل بها, احتراز عن تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لا ليعمل بها، بل لبيان إحداهما أفصح من الأخرى، فإنه ليس من الترجيح المصطلح عليه، وقال ابن الحاجب: هو

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض "81" والإمام أحمد في مسنده "3/ 47".

اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضتها، وذكر الآمدي نحوه أيضا، وفيه نظر؛ فإن هذا حد للرجحان أو الترجيح، لا للترجيح من أفعال الشخص بخلاف الاقتران، ثم استدل المصنف على اعتبار الترجيح ووجوب العمل بالراجح بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك, فإنهم رجحوا خبر عائشة في التقاء الختانين، وهو قولها: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل, فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا، على خبر أبي هريرة وهو قوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما الماء من الماء" وذلك لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصا عائشة أعلم بفعله في هذه الأمور من الرجال الأجانب، وذهب قوم كما قاله في المحصول1 إلى إنكار الترجيح في الأدلة قياسا على البينات، وقالوا عند التعارض: يلزم التخيير أو الوقف. قوله: "مسألة: لا ترجيح في القطعيات" يعني: أن الترجيح يختص بالدلائل الظنية ولا يقع في القطعيات، سواء كانت عقلية أو نقلية؛ لأن الترجيح متوقف على وقوع التعارض فيها، ووقوعه فيها محال؛ لأنه لو وقع لكان يلزم منه اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما؛ وذلك لأنه لا جائز أن يعمل بأحدهما دون الآخر، لأنه تحكم, فتعين إما إثبات مقتضاهما وهو جمع بين النقيضين، أو رفع مقتضاهما وهو رفع النقيضين، وكلاهما محال وهذا ضعيف، فلقائل أن يقول: نعمل بأحدهما ولكن لمرجح وهو المدعى، ولم يستدل الإمام به، بل استدل بأن الترجيح تقوية، فلا يتأتى في القطعيات؛ لأنها تفيد العلم، والعلوم لا تتفاوت، وهذه الدعوى أيضا سبق منعها. ولو استدلوا بأنه يلزم منه اجتماع النقيضين ويقتصرون عليها لكان أظهر. واعلم أن إطلاق هذه المسألة وهو عدم الترجيح في القطعيات فيه نظر، لما ستعرفه في تعارض النصين، وسكت المصنف هنا عن التعارض بين القطعي والظني, وهو ممتنع لكون القطعي مقدما دائما. قال: "مسألة: إذا تعارض نصان فالعمل بهما من وجه أولى، بأن يتبعض الحكم فيثبت البعض، أو يتعدد فيثبت بعضها، أو يعم فيوزع، كقوله عليه السلام: "ألا أخبركم بخير الشهود؟ " فقيل: نعم: فقال: "أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد" 2 وقوله: "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" فيجعل الأول على حق الله تعالى، والثاني على حقنا". أقول: وجه مناسبة هذه المسألة للكلام على الترجيح من حيث كونها معقودة لبيان شرط الترجيح كما ستعرفه, أو لأنا إذا أعملنا الدليلين من وجه، فقد رجحنا كلا منهما على الآخر من ذلك الوجه الذي أعمل فيه. وحاصل المسألة أنه إذا تعارض فإنما ترجيح أحدهما على الآخر إذا لم يمكن العمل بكل واحد منهما، فإن أمكن ولو من وجه دون وجه فلا يصار إلى الترجيح؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما بالكلية؛ لكون الأصل في الدليل هو الإعمال

_ 1 انظر المحصول، ص455، جـ2. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية "19" وأبو داود في السنن, كتاب الأقضية, باب 13، والهندي في كنز العمال "17735".

لا الإهمال، ثم إن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه، ويكون على ثلاثة أنواع، أحدها: أن يتبعض حكم كل واحد من الدليلين المتعارضين, أي: يكون قابلا للتبعيض فيثبت بعضه دون بعض، وعبر الإمام عن هذا النوع بالاشتراك والتوزيع، ولم يذكر له مثالا، ومثله التبريزي في التنقيح بقسمة الملك, وذلك كما إذا كان في يد اثنين دار فادعى كل واحد منهما أنها ملكه، فإنها تقسم بينهما نصفين؛ لأن يد كل منهما دليل ظاهر على ثبوت الملك، وثبوت الملك قابل للتبعيض فتبعض، ونحكم لكل واحد بعض الملك جمعا بين الدليلين من وجه, وكذلك إذا تعارضت البينتان فيه على قول القسمة بخلاف ما إذا تعارضنا في نحو القتل والقذف مما لا يتبعض. النوع الثاني: أن يتعدد كل حكم واحد من الدليلين، أي: يحتمل أحكاما فيثبت بكل واحد بعض تلك الأحكام، ولم يمثل له الإمام أيضا، ومثله بعضهم بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" 1 فإنه معارض لتقريره -صلى الله عليه وسلم- الصلاة في غير المسجد، ومقتضى كل واحد منهما متعدد فإن الخبر يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال ونفي الفضيلة, وكذا التقرير يحتمل ذلك أيضا، فيحمل الخبر على نفي الكمال، ويحمل التقرير على الصحة. "الثالث" أن يكون كل واحد من الدليلين عاما أي: مثبتا لحكم في الموارد المتعددة فيوزع الدليلان عليها، ويحمل كل منهما على بعض تلك الموارد، كما مثله المصنف بقوله: "خير الشهود" إلى آخره, وإلى ذلك كله أشار المصنف بقوله: بأن تبعض إلى آخره, وهو متعلق بقوله: فالعمل. قال: "مسألة: إذا تعارض نصان وتساويا في القوة والعموم، وعلم المتأخر فهو ناسخ، وإن جُهل فالتساقط أو الترجيح وإن كان أحدهما قطعيا أو أخص مطلقا عمل به, وإن تخصص بوجه طلب الترجيح". أقول: هذه المسألة عقدها المصنف لبيان محل ترجيح النصين المتعارضين على الآخر, وحاصلها أن النصين المتعارضين على قسمين, أحدهما: أن يكونا متساويين في القوة والعموم، الثاني: أن لا يكونا كذلك، والمراد بتساويهما في القوة أن يكونا معا معلومين أو مظنونين, وبتساويهما في العموم أن يصدق كل منهما على كل ما صدق عليه الآخر، وأما قول كثير من الشارحين: إن التساوي في القوة لا يدخل فيه ما كان معلوم السند والدلالة لاستحالة التعارض في القطعيات فباطل؛ لأن المراد من التعارض هنا ما هو أعم من النسخ، ولهذا قسموه إليه، وقد صرح في المحصول بذلك في مواضع من المسألة, أعني بدخول المقطوع فيه في هذه الأقسام، وصرح أيضا بأن التعارض والترجيح قد يقع في القطعيات على وجه خاص يأتي ذكره, فدل على أن إطلاق المنع مردود، فأما القسم الأول وهو أن يكونا متساويين في القوة والعموم ففيه ثلاثة أحوال، أحدها: أن يعلم أن أحدهما متأخر الورود عن

_ 1 أخرجه السيوطي في الدرر المنتثرة "176" والهندي في كنز العمال "20737" وابن حجر في تلخيص الحبير "2/ 31".

الآخر ويعلم أيضا بعينه فحينئذ يكون ناسخا للمتقدم، سواء كانا معلومين أو مظنونين، وسواء كانا من الكتاب والسنة، أو أحدهما من الكتاب والآخر من السنة، إلا أن من يقول: إن الكتاب لا يكون ناسخا للسنة وبالعكس فإنه يمنع ورود هذا القسم. قال في المحصول: وإنما يكون الأول منسوخا إذا كان مدلوله قابلا للنسخ، فإن لم يكن أي كصفات الله تعالى كما قاله النقسواني, فإنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر, ولو كان الدليلان خاصين فحكمهما حكم المتساويين في القوة والعموم، وسوء كانا قطعيين أو ظنيين, ولعل المصنف إنما لم يذكر ذلك لوضوحه. الثاني: أن يجهل المتأخر منهما فلم يعلم عينه فينظر، فإن كانا معلومين فيتساقطان، ويجب الرجوع إلى غيرهما؛ لأن كلا منهما يحتمل أن يكون هو المنسوخ -احتمالان على السواء- وإن كانا مظنونين وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل بالأقوى، فإن تساويا يخير المجتهد. هكذا صرح به في المحصول1، وإليه أشار المصنف بقوله: وإن جهل فالتساقط أو الترجيح, يعني: فالتساقط إن كانا معلومين أو الترجيح إن كانا مظنونين. وقد قرره الشارحون على غير هذا الوجه، وهو غير مطابق لما في المحصول. الحال الثالث: أن يعلم تقاربهما ولم يذكره المصنف، وقد ذكره في المحصول فقال: إن كانا معلومين وأمكن التخيير فيهما تعين القول به, فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير. قال: ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد؛ لما عرف أن المعلوم لا يقبل الترجيح ولا أن يرجح أيضا بما يرجع إلى الحكم لكون أحدهما للحظر مثلا؛ لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية، وإن كانا مظنونين وجب الرجوع إلى الترجيح، فيعمل بالأقوى، فإن تساويا فالتخيير. قوله: "وإن كان أحدهما قطعيا" شرع يتكلم في القسم الثاني، وهو أن لا يتساويا في القوة والعموم، فحينئذ إما أن لا يتساويا في القوة بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، وإما أن لا يتساويا في العموم بأن يكون أحدهما أخص من الآخر مطلقا، أو أخص منه من وجه، فتلخص أن هذا القسم أيضا ثلاثة أحوال، والأعم مطلقا هو الذي يوجد مع كل أفراد الآخر وبدونه، كالحيوان والناطق، وكذا كل جنس مع نوعه، وكل لازم مع ملزومه كالزوجية مع العشرة، ومقابله هو الأخص مطلقا، وأما الأخص من وجه والأعم من وجه, فهما اللذان يجتمعان في صورة وينفرد كل منهما عن الآخر في صورة، كالحيوان والأبيض. الحال الأول: أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، فحينئذ يرجح القطعي ويعمل به سواء كانا عامين أو خاصين، أو كان المقطوع به خاصا والمظنون عاما، فإن كان بالعكس قدم الظني كما سيأتي في القسم الذي بعده. الحال الثاني: أن يكون أحدهما أخص من الآخر مطلقا فحينئذ يرجح الخاص على العام ويعمل به جمعا بين الدليلين سواء علم تأخره

_ 1 انظر المحصول، ص465، جـ2.

عن العام أم لا, على خلاف فيه مذكور في موضعه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الخاص مظنونا والعام مقطوعا به أم لا، كما قال في المحصول؛ لأن التخصيص المعلوم بالمظنون جائز على الصحيح، وهذه الصورة لا تؤخذ من كلام المصنف في هذه المسألة؛ لأن كلامه هذا وإن اقتضى إدخالها، فكلامه في القسم الذي قبله يقتضي إخراجها، لكنها تؤخذ من كلامه في التخصيص, ولعل المصنف أهملها لذلك، نعم إن عملنا بالعام المقطوع به ثم ورد الخاص بعد ذلك فلا نأخذ به إذا كان مظنونا؛ لأن الأخذ به في هذه المسألة نسخ لا تخصيص كما سبق غير مرة، ونسخ المقطوع بالمظنون لا يجوز. والحال الثالث: أن يكون العموم والخصوص بينهما من وجه دون وجه، فحينئذ يطلب الترجيح بينهما من جهة أخرى ليعمل بالراجح؛ لأن الخصوص يقتضي الرجحان كما تقدم، وقد ثبت ههنا لكل واحد منها خصوص من وجه بالنسبة إلى الآخر, فيكون لكل منهما رجحان على الآخر، ومثاله قوله -عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها, فليصلها إذا ذكرها" 1 فإن بينه وبين نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الصلوات في الأوقات المكروهة عموما وخصوصا من وجه، لأن الخبر الأول عام في الأوقات, خاص ببعض الصلوات وهي القضاء, والثاني عام في الصلاة, مخصوص ببعض الأوقات وهو وقت الكراهية، فيصار إلى الترجيح كما قلناه, ولا فرق في ذلك بين أن يكونا قطعيين أو ظنيين, لكن في الظنيين يمكن الترجيح بقوة الإسناد، وبالحكم ككون أحدهما للخطر مثلا أن يأتي على ما سيأتي، وأما في القطعيين فلا يمكن الترجيح بقوة الإسناد كما نبه عليه في المحصول, بل يرجح بالحكم كالتحريم مثلا؛ لأن الحكم بذلك يعني بالتقديم بهذا الوجه طريقة الاجتهاد, وليس في ترجيح أحدهما على الآخر بالاجتهاد اطراح الآخر. قال بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه, ومراده بالتعارض من كل وجه، ما إذا علمنا أنهما تقارنا, فإنه لا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر أصلا كما تقدم ذكره، وحيث قلنا بالترجيح فلم يترجح أحدهما على الآخر فالحكم التخيير كما قاله في المحصول, وقد جزم المصنف أيضا بذلك في الأقسام السابقة. واستفدنا من كلامه هنا أن الصحيح عنده في تعادل الأمارتين إنما هو التخيير, فإنه لم يصحح هناك شيئا. قال: "مسألة: قد يرجح بكثرة الأدلة؛ لأن الظنين أقوى، قيل: يقدم الخبر على الأقيسة، قلنا: إن اتحد أصلها فمتحدة، وإلا فممنوع". أقول: مذهب الشافعي كما قاله الإمام وغيره، أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة؛ لأن كل واحد من الدليلين يفيد ظنا، وإلا لم يكن دليلا، والظن الحاصل من أحدهما غير الظن الحاصل من الآخر؛ لاستحالة اجتماع المؤثرين على أثر واحد، ولا شك أن الظنين أقوى من الظن

_ 1 أخرجه ابن عبد البر في التمهيد "2/ 258"، وابن عبد البر أيضا في الاستذكار "1/ 92".

الواحد، والعمل بالأقوى واجب لكنه أقرب إلى القطع، واستدل المخالفون بأنه لو جاز الترجيح بكثرة الأدلة لكانت الأقيسة المعارضة الخبر مقدمة عليه وليس كذلك, بل يقدم الخبر عليها اتفاقا، وأجاب المصنف بأن تلك الأقيسة إن اتحد أصلها أي: المقيس عليه فيها, كانت تلك الأقيسة كلها في الحقيقة قياسا واحدا لا أقيسة متعددة؛ لأنها لا تتغاير حينئذ، إلا إذا علل حكم الأصل في كل قياس منها بعلة أخرى، وتعليل الحكم بعلتين مختلفتين ممنوع على ما مر، وإذا كان ممنوعا كان الحق من تلك الأقيسة إنما هو قياس واحد، فإذا قدمنا الخبر عليها لم نقدمه إلا على دليل واحد، وإن لم يكن أصلها متحدا متعددا فلا نسلم أن الخبر الواحد مقدم عليها, بل تقدم الأقيسة عليه.

الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

الباب الثالث: في ترجيح الأخبار قال: "الباب الثالث: في ترجيح الأخبار, وهو على وجوه، الأول: بحال الراوي فيرجح بكثرة الرواة، وقلة الوسائط، وفقه الراوي, وعلمه بالعربية وأفضليته، وحسن اعتقاده، وكونه صاحب الواقعة، وجليس المحدثين، ومختبرا، ثم معدلا بالعمل على روايته، وبكثرة المزكين وبحثهم وعلمهم، وحفظهم وزيادة ضبطهم، وله لألفاظه -عليه السلام- ودوام عقله وشهرته، وشهرة نسبه وعدم التباس اسمه وتأخر إسلامه". أقول: لما فرغ المصنف من الأحكام الكلية للتراجيح، شرع في ذكر الأسباب المرجحة, فعقد لها بابين، بابا في ترجيح الأخبار، وبابا في ترجيح الأقيسة، فأما الأخبار فيرجح بعضها على بعض بسبعة أوجه، الأول: ما يتعلق بحال الراوي وهو عشرون حالا، والحال الأول: كثرة الرواة فيرجح بها عند الإمام والآمدي وأتباعهما؛ لأن احتمال الغلط والكذب على الأكثر أبعد من احتمالهما على الأقل, فيكون الظن الحاصل من الخبر الذي رووه أكثر من الخبر الآخر, والعمل بالأقوى واجب. وقال الكرخي: لا أثر للكثرة في الرواة، كما لا أثر لها في الشهادة, الثاني: قلة الوسائط وهو علو الإسناد، فإذا كان أحد الحديثين المتعارضين أقل وسائط كان مقدما على الآخر؛ لأن احتمال الغلط والكذب فيه أقل، الثالث: فقه الراوي, فالخبر الذي يكون راويه فقيها مقدم على ما ليس كذلك مطلقا، خلافا لمن خص ذلك بالخبرين المرويين بالمعنى، قال في المحصول: والحق الأول؛ لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز، فإذا حضر المجلس وسمع ما لا يجوز أن يحمل على ظاهره بحث عنه؛ وسأل عن مقدماته وسبب نزوله، فيطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف العامي، الرابع: علم الراوي بالعربية, فالخبر الذي يكون راويه عالما بالعربية راجح على خلافه، لما ذكرناه في الفقه، الخامس: الأفضلية أي: في العربية أو في الفقه كما قاله الإمام، فالخبر الذي يكون راويه أفقه أو أنحى مقدم على الآخر؛ لأن الوثوق بقول الأعلم أتم، السادس: حسن اعتقاد الراوي, فالخبر الذي يكون راويه سنيا مقدم على ما رواه المعتزلي والرافضي وغيرهما من المبتدعة, السابع: كون الراوي صاحب الواقعة؛ لأنه أعرف بالقضية كترجيح الصحابة خبر عائشة في التقاء الختانين على خبر ابن عباس، وهو

"إنما الماء من الماء" ومنه أيضا كما قال في المحصول ترجيح الشافعي خبر أبي رافع في تزويج ميمونة حلالا على خبر ابن عباس في تزويجها محرما؛ لكون أبي رافع هو السفير في ذلك، الثامن: كون الراوي جليس المحدثين؛ لأنه أعرف بطريق الرواية وشرائطها، وكذلك لو كان جليس غير المحدثين من العلماء كما قاله الإمام وغيره، بل لو اشترك الراويان في أصل المجالسة, ولكن كان أجهدهما أكثر, فإنه يقدم ما قاله في المحصول أيضا. ولم يفرض المسألة إلا في ذلك، والاقتصار على مجالسة المحدثين، ذكره أيضا صاحب التحصيل، التاسع: كون الراوي مختبرا، فخبر العدل الذي عرفت عدالته بالممارسة والاختبار راجح على خبر الذي عرفت عدالته بالتزكية، أو بالعمل على روايته, أو بأن روي عنه من شرط أن لا يروى إلا عن العدل, فإنه قد سبق في باب الإخبار أن التعديل يحصل بهذه الطرق كلها, العاشر: كون الراوي معدلا بالعمل على روايته أي: تثبت عدالته بعمل من روى عنه بما رواه عنه، فالخبر الذي يكون راويه معدلا بهذا الطريق راجح على الذي يكون راويه معدلا بغيره، وإنما عبر المصنف بقوله: ثم معدلا، ليعلم أن التعديل بالاختبار مقدم على هذا الطريق فتلخص أن أعلى المراتب هو التعديل باختبار ثم التعديل بالعمل, ثم التعديل بغير ذلك، ولم يبين المصنف ذلك الغير الذي يقدم عليه التعديل بالعمل، فإن أراد به التلفظ بالتزكية, فقد جزم الآمدي وابن الحاجب وغيرهما بعكسه وقالوا: إن التعديل بصريح القول راجح على التعديل بالعمل بالرواية، أو الحكم على الشهادة؛ لأن التعديل بالقول لا احتمال فيه، بخلاف الحكم أو العمل فإنه يحتمل استنادها إلى شيء آخر موافق للشهادة أو الرواية، وإن أراد به الرواية عنه وهو الذي صرح به صاحب الحاصل، فالرواية لا تكون تعديلا إلا إذا شرط أن لا يروى إلا عن العدل، ومع التصريح بهذا الشرط لا تتقاعد الرواية عن التعديل باللفظ، وحينئذ فيأتي فيه ما تقدم بل هو أولى منه، ولم يذكر الإمام هاتين المسألتين، بل ذكر أن الاختبار مقدم كما ذكره المصنف، ثم ذكر أن المزكي إذا زكى الراوي فإن عمل بخبره كانت روايته راجحة على ما إذا زكاه وروى خبره, وهذا غير ما ذكره المصنف, إلا أن نجعل الباء في كلامه أعني كلام المصنف بمعنى المصاحبة, فيكون تقدير قوله: ثم معدلا أي: مزكى مع العمل، فحينئذ لا يخالف كلام أحد ممن تقدم، وليس في كلام الإمام وأتباعه تعرض إلى التعديل بالحكم مع التعديل بالعمل، وقال الآمدي: إن الحكم أولى؛ لأن الاحتياط فيه أبلغ، الحادي عشر: كثرة المزكين وهو واضح، الثاني عشر: بحث المزكين عن أحوال الناس، وإليه أشار بقوله: وبحثهم تقديره: وكثرة بحثهم، وكذلك زيادة عدالتهم والوثوق بهم، كما قاله ابن الحاجب. الثالث عشر: كثرة علم المزكين يعني بالعلوم الشرعية, كما اقتضاه كلام المحصول لكون الثقة بقولهم أكثر, لا بأحوال الراوي كما قاله الشارحون، فإنه قد تقدم ما يدل عليه, الرابع عشر: حفظ

الراوي, وهذا الكلام يحتمل أمرين صرح باعتبارهما في المحصول، أحدهما: أن يكون أحدهما قد حفظ لفظ الحديث، واعتمد الآخر على المكتوب، فالحافظ أولى لأنه أبعد عن الشبهة, قال: وفيه احتمال. الثاني: أن يكون أحدهما أكثر حفظا، أي: أقل نسيانا، فإن روايته راجحة على من كان نسيانه أكثر، فإن حملنا كلام المصنف على الثاني فيكون معطوفا على لفظ الكثرة من قوله: وبكثرة المزكين وتقديره: ولكثرة حفظه، الخامس عشر: زيادة ضبط الراوي, والضبط هو شدة الاعتناء بالحديث والاهتمام بأمره، فإذا كان أحدهما أشد اعتناء به واهتماما يرجح خبره, ولو كان ذلك يعني زيادة الضبط لألفاظ الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأن يكون أكثر حرصا على مراعاة كلماته وحروفه، قال في المحصول: فلو كان أحدهما أكثر ضبطا لكنه أكثر نسيانا، وكان الآخر بالعكس، ولم يكن قلة الضبط وكثرة النسيان بحيث يمتنع من قبول خبره فالأقرب التعارض، وهذا الذي قاله يدل على تفسير الضبط بما قلناه, لا بعدم النسيان كما قاله الشارحون، السادس عشر: دوام عقل الراوي، فيرجح الخبر الذي يكون راويه سليم العقل دائما على الخبر الذي اختلط عقل راويه في بعض الأوقات. هكذا أطلقه المصنف تبعا للحاصل والتحصيل, وشرط في المحصول مع ذلك أن لا يعلم هل رواه في حال سلامة عقله أم في حال اختلاطه. السابع عشر: شهرة الراوي؛ لأن الشهرة بالمنصب أو بغيره مانعة من الكذب، ومانعة أيضا من التدليس عليه, الثامن عشر: نسبه، التاسع عشر: عدم التباس اسمه، فإن التبس اسمه باسم غيره أي: من الضعفاء، وصعب التمييز كما قاله في المحصول كانت رواية غيره راجحة على روايته. قال: وكذلك صاحب الاسمين مرجوح بالنسبة إلى الاسم الواحد, وهذا قد يدخل أيضا في كلام المصنف, وسبب مرجوحيته أن صاحب الاسمين بكثرة اشتباهه بغيره مما ليس بعدل، بأن يكون هناك غير عدل يسمى بأحد اسميه, فإذا روى عنه راو وظن سامعه أنه يروي عن العدل، فإذا كان اسمه واحدا قل احتمال اللبس, العشرون: تأخر إسلام الراوي, فالخبر الذي يكون راويه متأخر الإسلام عن راوي الخبر الآخر راجح؛ لأن تأخر الإسلام دليل على تأخر روايته. هكذا ذكر صاحب الحاصل وابن الحاجب حكما وتعليلا، فتبعه المصنف، وجزم الآمدي بعكسه؛ لقوة أصالة المتقدم في الإسلام ومعرفته، وأما الإمام فإنه ذكر أيضا كما قاله المصنف لكن شرط فيه أن يعلم أن سماعه وقع بعد إسلامه، ثم قال: والأولى أن يفصل, فيقال: المتقدم إذا كان موجودا في زمان المتأخر، لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر، فأما إذا علمنا أن المتقدم مات قبل إسلام المتأخر، أو علمنا أن روايات المتقدم أكثرها متقدم على روايات المتأخر، فههنا نحكم بالرجحان؛ لأن النادر ملحق بالغائب. قال: "الثاني: بوقت الرواية, فيرجح الراوي في البلوغ على الراوي في الصبى، وفي البلوغ، والمتحمل وقت البلوغ على المتحمل في الصبى، أو فيه أيضا".

أقول: الوجه الثاني: الترجيح بوقت الرواية، وقد ذكر المصنف لذلك أمرين أشار إليهما بقوله: فيرجح الراوي في البلوغ ... إلخ، لكن الثاني منهما أنه هو ترجيح بوقت المتحمل لا بوقت الرواية كما سيأتي، والوجهان المذكوران يمكن تقريرهما على وجهين، التقرير الأول: أن يكون المراد أن الراوي لحديث في زمان البلوغ قط راجح على من روى ذلك الحديث مرتين, مرة في بلوغه ومرة في صباه؛ لأن الراوي في هاتين الحالتين يكون متحملا في وقت الصبى بالضرورة، ولا شك أن الاعتماد على ضبط البالغ أكثر. قوله: "والمتحمل" يعني أن المتحمل لحديث في زمان البلوغ راجح الرواية أيضا، على من تحمله مرتين, مرة في صباه ومرة في بلوغه؛ لجواز أن تكون روايته بواسطة تحمله الواقع في حال الصبى دون الواقع في حال البلوغ، وإلى الوقتين أشار بقوله: وفيه أيضا أي في البلوغ منضما إلى ما ذكرناه، وهو الصبى. التقرير الثاني: أن يكون المراد أن الخبر الذي يكون راويه لا يروي في الأحاديث إلا في وقت بلوغه راجح على خبر الذي لم يروها إلا في صباه، أو روى بعضها في صباه وبعضها في بلوغه، لاحتمال أن يكون هذا الخبر من مروياته في حال الصغر، ولم يعلم سامعه بذلك، وكذلك القول في التحمل أيضا, فيرجح الخبر الذي لم يتحمل رواية الأحاديث إلا في زمان بلوغه على من لم يتحمل إلا في زمان صباه، أو تحمل بعضها في صباه وبعضها في بلوغه, لاحتمال أن يكون هذا الخبر من الأحاديث المتحملة في حالة الصغر هذا حاصل التقريرين المشار إليهما، فمن الشارحين من قرره بالأول ومنهم من قرره بالثاني، وكلام الإمام يحتمل كلا منهما. قال: أراد المصنف الثاني وهو الأقرب إلى كلام الإمام فهو صحيح، وإن أراد الأول فهو بعيد في المعنى لا يكاد يوجد التصريح به لأحد، وأيضا ما ذكره في الرواية فهو داخل على هذا التقرير فيما ذكره في التحمل؛ لأن الراوي في البلوغ الذي قدم على الراوي في البلوغ وفي الصبى إن تحمل في البلوغ فتقديمه إنما هو تقديم لمن تحمل في البلوغ على من تحمل في الصبى؛ لأن الرواية في الصبا والبلوغ تستلزم التحمل في الصبى قطعا، وقد ذكره من بعد، وإن كان قد تحمل في الصبى ولكنه روى في البلوغ فقط فكيف يقدم على من شاركه في هذا بعينه، وزاد عليه بأن روى مرة أخرى في البلوغ. لا جرم أن الآمدي وابن الحاجب وصاحب التحصيل لم يذكروا سوى التحمل، وقد وقع كذلك في نسخة بعض الشارحين، فشرحه ثم استدل عليه بأن هذا ترجيح وقت التحمل، وكلامه في الترجيح بوقت الرواية، والنسخة التي وقعت لهذا الشارح غلط. قال: "الثالث: بكيفية الرواية, فيرجح المتفق على رفعه، والمحكي بسبب نزوله وبلفظه، وما لم ينكره راوي الأصل". أقول: الوجه الثالث: بكيفية الرواية، وهو أربعة أمور, الأول: ترجيح الخبر المتفق على رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخبر الذي اختلف في كونه مرفوعا إليه أو موقوفا على الصحابي. الثاني: الخبر المحكي مع سبب نزوله راجح على

الخبر الذي لم يذكر معه ذلك، لأن ذكر الراوي لسبب النزول يدل على اهتمامه بمعرفة ذلك الحكم، وهذا إذا كانا خاصين، فإن كانا عامين فالأمر بالعكس كما نقله الإمام هنا، ونص عليه الشافعي كا تقدم نقله عنه في الكلام على أن خصوص السبب لا يخصص، قال بن الحاجب: اللهم إلا إذا تعارض في صحاب السبب فإنه أولى، لان ترك الجواب مع الحاجة مما يقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم إن المصنف لو عبر بالورود عوضا عن النزول لكان صريحا في تناول الأخبار. الثالث يرجح الخبر المحكي بلفظ الرسول عليه السلام على الخبر المروي بالمعنى، وكذلك على الخبر الذي يحتمل أن يكون قد روي بالمعنى كما قاله في المحصول1، لأن المحكي باللفظ مجمع على قبوله بخلاف المحكي بالمعنى، الرابع: إذ أنكر الأصل رواية الفرع عنه، فإن جزم بالإنكار لم تقبل رواية الفرع، وإن تردد قبلت كما سبق في الأخبار، فإن قبلناها فيكون الخبر الذي لم ينكره الأصل راجحا عليه، وتعبير المصنف بقوله: راوي الأصل هو عبارة الإمام أيضا. ولكن ليس له هنا مدلول مستقيم بل الصواب زيادة أل في راوي، أو حذفه بالكلية، قال: "الرابع: بوقت وروده فترجح المدنيات، والمشعر بعلوا شأن الرسول عليه الصلاة والسلام، والمتمضن للتخفيف والمطلقن على متقدم التاريخ والمؤرخ، بتاريخ مضيق، والمتحمل في الإسلام". أقول: الوجه الرابع: الترجيح بوقت ورود الخبر وهو ستة أقسام، ذكره الإمام وضعفها فافهم ذلك. أحدها: الآيات والآخبار والمدنيات راجحة على المكيات. واعلم أن المصطلح عليه بين أهل العلم، أن المكي ما ورد قبل الهجرة سواء كان في مكة أو غيرها، والمدني هو ما ورد بعدها سواء كان في المدينة أو في مكة أو في غيرها، وهذا الاصطلاح ليس هو المراد هنا لأنه لو كان كذلك لكان المدني ناسخا للمكي بلا نزاع. وقد تقدمت هذه المسألة في تعارض النصين. وأيضا فلأن تقديم المنسوخ على الناسخ ليس من باب الترجيح. كم نص عليه الإمام في الكلام على الترجيح بالحكم، بل المراد أن الخبر الوارد في المدينة مقدم على الوارد في مكة، سواء علمنا أنه كان قد ورد في مكة قبل الهجرة أو لم نعلم الحال. والعلة فيه ما قاله الإمام أن الغالب في المكيات ورودها قبل الهجرة، والوارد منها بعد الهجرة. قيل والقليل ملحق بالكثر. فيحصل الظن بأن هذا الحديث الوارد في مكة إنما ورد قبل الهجرة. وحينئذ فيجب تقديم المدني عليه لكونه متأخر، الثاني: الخبر المشعر بعلو شأن الرسول عليه السلام راجح على ما لا يكون كذلك، لأن ظهورأمره وعلو شأنه كان في آخر عمره. فدل على التأخير هكذا أطلقه المصنف تبعا للحاصلن وقال في المحصول. الأولى أن يفصل فيقال: إن دل أحدهما على العلو والآخر على الضعف، قدم الدال على العلو.

_ 1 انظر المحصول، ص158، ج2.

وأما إذا لم يدل الآخر لا على القوة ولا على الضعف، فمن أين يقدم الأول عليه؟ وقد يجاب عما قاله: أنه إذا كان التأخير سببا للرجحان فالدال على العلو معلوم التأخير أو مظنونه، بخلاف ما لم يدل على شيء، وما يقطع برجحانه أو يظن راجح على ما لا يكون كذلك، وأيضا فإنه قد ذكر في السادس من هذا القسم ما يعكر عليه فتأمله. الثالث: الخبر المتضمن للتخفيف متقدم على المتضمن للتغليظ؛ لأنه أظهر تأخرا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغلظ في ابتداء أمره زجرا لهم عن العادات الجاهلية, ثم مال إلى التخفيف هكذا ذكره صاحب الحاصل وتبعه المصنف، وإطلاق هذه الدعوى مع ما سيأتي من كون المحرم مقدما على المبيح لا يستقيم, وقد جزم الآمدي بتقديم الدال على التشديد قال: لأن احتمال تأخره أظهر؛ لأن الغالب منه عليه السلام أنه ما كان شدد إلا بحسب علو شأنه؛ ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئا فشيئا, وتبعه ابن الحاجب على ذلك. واعلم أن الإمام ذكر هذا الحكم في حادثة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يغلظ فيها زجرا للعرب عن عاداتها، ثم خفف فيها نوع تخفيف، ولا يلزم من تقديم المتضمن للتخفيف في هذه المسألة لقرينة العدول إلى التخفيف في نوع، أن يقدم المتضمن للتخفيف مطلقا كما ظنه صاحب الحاصل والمصنف, وحينئذ فليس بين الإمام والآمدي اختلاف، وسيأتي في الفروع الزائدة كلام آخر متعلق بهذا. الرابع: الخبر المروي مطلقا أي: من غير تاريخ, يكون راجحا على الخبر المؤرخ بتاريخ متقدم؛ لأن المطلق أشبه بالمتأخر، وإنما قيد بقوله: بتاريخ متقدم؛ لأن التاريخ لو كان مضيقا لكان الحكم بخلافه كما سيأتي. الخامس: يرجح الخبر المؤرخ بتاريخ مضيق أي: وارد في آخر عمره عليه الصلاة والسلام على الخبر المطلق؛ لأنه أظهر تأخرا، ومثله الإمام بأنه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه صلى بالناس قاعدا والناس قيام، وهو يقتضي اقتداء القائم بالقاعد, وقال صلى الله عليه وسلم: "وإذا صلى جالسا" يعني: الإمام "فصلوا جلوسا أجمعين" وهو يقتضي عدم وجوب ذلك فرجحنا الأول لما قلناه. السادس: إذا أسلم الراويان في وقت واحد كإسلام خالد وعمرو بن العاص، وعلم أن أحدهما تحمل الحديث بعد إسلامه, فإن خبره راجح على الخبر الذي لا يعلم هل تحمله الآخر في حال إسلامه أم في حال كفره، كما قاله في المحصول1، قال: لأنه أظهر تأخرا. قال: "الخامس: باللفظ, فيرجح الفصيح لا الأفصح، والخاص وغير المخصص, والحقيقة والأشبه بها، فالشرعية ثم العرفية، والمستغني عن الإضمار، والدال على المراد من وجهين، وبغير وسط، والمومئ إلى علة الحكم، والمذكور معارضه معه, والمقرون بالتهديد" أقول: الوجه الخامس: الترجيح باللفظ وهو بأمور, الأول: أن يكون لفظ أحد الخبرين فصيحا ولفظ الآخر ركيكا بعيدا عن الاستعمال،

_ 1 انظر المحصول، ص460، جـ2.

فإن الفصيح مقدم إجماعا للاتفاق على قبوله، وقال الإمام بخلاف الركيك، فإن منهم من رده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أفصح العرب فلا يكون ذلك كلاما له، ومنهم من قبله وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه، وأما أفصح العرب فلا يكون ذلك كلاما له، ومنهم من قبله وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه، وأما الأفصح فلا يرجح على الفصيح خلافا لبعضهم؛ لأن الرجل الفصيح لا يجب أن يكون كل كلامه أفصح. الثاني: يرجح الخاص على العام لما تقدم في موضعه. الثالث: العام الباقي على عمومه راجح على العام المخصص؛ للاختلاف في حجيته، وهذا القسم يستغنى عنه بما سيأتي من تقديم الحقيقة على المجاز؛ لأن العام المخصص مجاز مطلقا عند المصنف. الرابع: ترجيح اللفظ المستعمل بطريق الحقيقة على المستعمل بطريق المجاز؛ لأن دلالة الحقيقة أظهر وهذا فيما إذا لم يكن المجاز غالبا، فإن غلب ففيه خلاف سبق في موضعه. الخامس: إذا تعارض خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بارتكاب المجاز، وكان مجاز أحدهما أشبه بالحقيقة من مجاز الآخر, فإنه يرجح عليه لقربه، وقد مر تمثيل ذلك في المجمل والمبين. السادس: الخبر المشتمل على الحقيقة الشرعية ويرجح على الخبر المشتمل على الحقيقة العرفية أو اللغوية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث لبيان الشرعيات، فالظاهر من حاله أنه يخاطب بها، ثم إن المشتمل على الحقيقة العرفية يرجح على المشتمل على الحقيقة اللغوية، لاشتهار العرفية وتبادر معناها. السابع: يرجح الخبر المستغني عن الإضمار على الخبر المفتقر إليه؛ لأن الإضمار على خلاف الأصل، وهذا القسم أيضا داخل في تقديم الحقيقة على المجاز؛ لأن الإضمار نوع من المجاز. الثامن: يرجح الخبر الدال على المراد من وجهين على الدال عليه من وجه واحد؛ لأن الظن الحاصل من الأول أقوى لتعدد جهة الدلالة. التاسع: يرجح الخبر الدال على المراد بغير واسطة على الدال عليه بواسطة؛ لأن قلة الوسائط تقتضي كثرة الظن، ومثاله قوله -عليه الصلاة والسلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها" 1 مع قوله -عليه الصلاة والسلام: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها, فنكاحها باطل" 2 فإن الأول يدل على صحة نكاحها إذا نكحت نفسها بإذن وليها كما يقول أبو حنيفة، والثاني يدل على بطلانه كما يقول الشافعي, ولكن بواسطة؛ وذلك لأنه يدل على البطلان عند عدم الإذن، وإذا بطل ذلك بطل أيضا مع الإذن للاتفاق بين الإمامين على عدم الفصل. العاشر: يرجح الخبر المومئ إلى علة الحكم على الخبر الذي لا يكون كذلك؛ لأن انقياد الطباع إلى الحكم المعلل أسرع. الحادي عشر:

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح "66" وأبو داود في سننه "2098" والدارمي "2/ 138" والزيلعي في نصب الراية "3/ 182". 2 أخرجه أحمد في مسنده "6/ 66" والدارمي في سننه "2/ 137" والشافعي في مسنده "220".

الخبر الذي ذكر معه معارضه كقوله -عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها" 1 يرجح على ما ليس كذلك؛ لأن ترجيحه إنما يكون باعتقاد تأخره عن الخبر الدال على النهي، وتأخره عنه يقتضي النسخ مرة واحدة بخلاف ترجيح الدال على النهي، فإنه يقتضي النسخ مرتين؛ لأنه لا بد من اعتقاد وروده بعده، وحينئذ فيكون ناسخا للإباحة التي فيه، والإباحة التي فيه ناسخة للنبي، المخبر عنه، وهو المشار إليه بقوله: "كنت نهيتكم" وهذا التقرير صحيح واضح خلافا لما توهمه بعض شارحي المحصول. الثاني عشر: الخبر المقرون بالتهديد، كقوله -عليه الصلاة والسلام: "من صام يوم الشك, فقد عصى أبا القاسم "2 راجح على ما ليس كذلك؛ لأن اقترانه بالتهديد يدل على تأكد الحكم الذي تضمنه، وكذلك لو كان التهديد في أحدهما أكثر كما قال في المحصول، وأهمله المصنف تبعا للحاصل. قال: "السادس: بالحكم, فيرجح المبقي الحكم الأصل؛ لأنه لو لم يتأخر عن الناقل لم يفد, والمحرم على المبيح لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال" 3 وللاحتياط ويعادل الموجب، ومثبت الطلاق والعتاق؛ لأن الأصل عدم القيد، ونافي الحد؛ لأنه ضرر لقوله -عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات" 4. أقول: الوجه السادس: الترجيح بالحكم، وهو بأمور, الأول: يرجح الخبر المبقي لحكم الأصل أي: المقرر لمقتضى البراءة الأصلية، على الخبر الناقل لذلك الحكم أي: الرافع، كقوله -عليه الصلاة والسلام: "من مس ذكره فليتوضأ" 5 مع قوله: "إن هو إلا بضعة منك" لأن المبقي متأخر عن الناقل، إذ لو لم يتأخر عنه لم يكن له فائدة؛ لأنه حينئذ يكون واردا حيث لا يحتاج إليه؛ لأن في ذلك الوقت نعرف الحكم بدليل آخر, وهو البراءة الأصلية والاستصحاب، وإذا كان متأخرا عن الناقل كان أرجح منه، وهذا الذي اختاره المصنف ذكر الإمام أنه الحل، ونقل عن الجمهور أنهم رجحوا الناقل؛ لأن الناقل يستفاد منه ما لا يعلم عن غيره بخلاف المبقي؛ ولأن الأخذ بالمبقي يستدعي تأخر وروده عن الناقل، وفي ذلك تكثير النسخ؛ لأن الناقل حينئذ يزيل حكم العقل، ثم المبقي يزيل حكم الناقل, فيلزم النسخ مرتين. وأما إذا قدرنا تأخر الناقل وأخذ بابه ففيه تقليل النسخ؛ لأن المبقي حينئذ يكون واردا أولا لتأكيد حكم النقل،

_ 1 أخرجه الهندي في كنز العمال "42554" والعراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 245". 2 رواه الحاكم في المستدرك "1/ 424". 3 ذكره العجلوني في كشف الخفاء "2/ 254" والسيوطي في الدرر المنثورة "155". 4 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "3/ 333" والخطيب البغدادي في التاريخ "9/ 303" والهندي في كنز العمال "12957". 5 رواه أحمد في مسنده "2/ 223" والزيلعي في نصب الراية "1/ 54" والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 244".

ثم يرد الناقل بعده لإزالة حكمه فيلزم النسخ مرة واحدة. والجواب عن الأول ما قلناه في الدليل السابق وهو عدم الفائدة، وعن الثاني أن رفع حكم الأصل ليس بنسخ كما تقدم في حد النسخ، فلا يلزم من تقديم المبقي تكثير للنسخ، وأيضا فلو اعتقدنا تأخر الناقل لكان ناسخا لحكم ثابت بدليلين وهما البراءة الأصلية والخبر المؤكد لها، بخلاف ما قلناه، فإنه لا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا. الثاني: الخبر الدال على التحريم راجح على الخبر الدال على الإباحة، كما جزم به المصنف واختاره ابن الحاجب وكذلك الآمدي ونقله عن أصحابنا وعن الأكثرين، وقيل: بترجيح الإباحة لاعتضادها بالأصل حكاه ابن الحاجب. وقيل: يستويان، واختاره الغزالي ولم يرجح الإمام شيئا، والمراد بالإباحة هنا جواز فعل الترك، ليدخل فيه المكروه والمندوب والمباح المصطلح عليه؛ لأن التحريم مرجح على الكل كما ذكره ابن الحاجب؛ ولأن الدليلين المذكورين في الكتاب يقتضيان ذلك أيضا، واحتج القائلون بالتحريم بأمرين، أحدهما: قوله -عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال". الثاني: أن الاحتياط يقتضي الأخذ بالتحريم؛ لأن ذلك الفعل إن كان حراما ففي ارتكابه ضرورة، وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه. قوله: "ويعادل الموجب" يعني أن الخبر المحرم يعادله الخبر الموجب، فإن ورد دليلان أحدهما يقتضي تحريم شيء والآخر يقتضي إيجابه، فيتعادلان أي: يتساويان حتى لا يعمل بأحدهما إلا بمرجح؛ لأن الخبر المحرم يتضمن استحقاق العقاب على الفعل، والخبر الموجب يتضمن استحقاق العقاب على الترك، فيتساويان أي: وإذا تساويا فيقدم الموجب على المبيح؛ لأن المحرم مقدم على المبيح كما تقدم، والمساوي المقدم مقدم، والحكم بالتساوي هو رأي الإمام وأتباعه، وجزم الآمدي بترجيح المحرم لأن اعتناء الشرع بدفع المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح، وذكر ابن الحاجب نحوه أيضا. الثالث: يرجح الخبر المثبت للطلاق أو العتاق على الخبر النافي له، خلافا لبعضهم؛ لأن الأصل عدم القيد، فالخبر الدال على ثبوت الطلاق أو العتاق دال على زوال قيد النكاح أو ملك اليمين، فيكون موافقا للأصل، وحينئذ يكون أرجح، وهذا الذي جزم به المصنف جزم به الآمدي حكما وتعليلا، ثم قال: ويمكن أن يقال: بل النافي أول؛ لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح، وإثبات ملك اليمين، والدليل المقتضي لصحتها راجح على النافي له، وذكر ابن الحاجب نحو ذلك أيضا، ولم يرجح الإمام شيئا، بل نقل ترجيح المثبت عن الكرخي فقط، ونقل عن قوم آخرين أنهما يستويان. الرابع: يرجح الخبر النافي للحد على الخبر الموجب له خلافا لبعضهم، والدليل عليه أمران أحدهما: أن الحد ضرر, والضرر النفي عن الإسلام لقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام". الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات" فإن ورد الخبر في نفي الحد إن لم يوجب الجزم بذلك فلا أقل

من حصول الشبهة والشبهة تدفع الحد للحديث, وهذا الذي جزم به المصنف جزم به أيضا الآمدي وابن الحاجب، ولم يرجح الإمام شيئا، بل نقل المذكور هنا عن بعض الفقهاء فقط، ثم قال: وأنكره المتكلمون، نعم كلامه في هذا القسم وفي الذي قبله يميل إلى ما اختاره المصنف؛ لأنه استدل له، وكذلك فعل أتباعه كصاحب الحاصل. قال: "السابع: يعمل أكثر السلف". أقول: الوجه السابع: الترجيح بالأمر الخارجي كما قاله الإمام، فيرجح أحد الخبرين على الآخر بعمل أكثر السلف خلافا لبعضهم؛ لأن الأكثر يوافق الصواب ما لا يوافق له الأقل، ولم يرجح الإمام شيئا بل نقل الترجيح عن عيسى بن أبان فقط، ثم نقل عن آخرين أنه لا يفيد ترجيحا لكونه ليس بحجة، وذكر صاحب الحاصل نحوه أيضا، والتعبير بأكثر السلف عبر به الإمام أيضا، وهو يقتضي أن ما دون ذلك لا يحصل به الترجيح، وهو مخالف لما جزم به الآمدي واقتضاه كلام ابن الحاجب، وهذا في غير الصحابة، أما الصحابة فإن قول بعضهم كافٍ في الرجحان كما جزم به الإمام. "فصل: في أمور أخرى يحصل بها الترجيح" ذكرها الإمام وأهملها المصنف، الأول: أن يكون طريق إحدى الروايتين يقل فيها اللبس، كما إذا أخبر أنه شاهد زيدا بالبصرة قبل الظهر، فإنه يرجح على من أخبر أنه شاهده ببغداد وقت السحر. الثاني: أن يذكر المزكي سبب العدالة. الثالث: أن يجزم أحدهما ويقول الآخر: كذا فيما أظن. الرابع: يرجح الحديث القولي على الفعلي؛ لأن القول أدل، وهذا قد سبق من كلام المصنف. الخامس: يرجح المسند على المرسل إن قلنا بقبوله، وقال عيسى بن أبان: يقدم المرسل, وقال القاضي عبد الجبار: يستويان. السادس: رجح قوم الحرية والذكورة قياسا على الشهادة، قال: وفيه احتمال. السابع: يرجح اللفظ المتفق على وضعه المسمى عن اللفظ المختلف فيه. الثامن: أن يكون أحدهما قد نص على الحكم مع تشبيهه بمحل آخر، والآخر ليس كذلك، فإنه يقدم الأول في المشبه والمشبه به جميعا؛ لأن تشبيه محل بمحل فيه إشارة إلى وجود علة جامعة، مثاله قول الحنفية في قوله -عليه الصلاة والسلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر "1 كالخمر تخلل فتحل: إن هذا رجح في المشبه على قوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" 2 وفي المشبه به على قوله -عليه الصلاة والسلام: "في الخمر أرقها". التاسع: التأكيد كالتكرار في قوله: "فنكاحها باطل, فنكاحها باطل, فنكاحها باطل". فصل في مرجحات أخرى ذكرها ابن الحاجب تبعا للآمدي، فيروح بتفسير الراوي قولا وفعلا، ويقربه عند السماع, وبقراءة الشيخ وعمل أهل

_ 1 أخرجه الدارمي في سننه "2/ 85"، والنسائي في سننه كتاب الفرع والعتيرة، باب 4، والخطيب البغدادي في تاريخه "2/ 295". 2 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس باب "41" والإمام أحمد في مسنده "4/ 310" وابن عبد البر في التمهيد "4/ 163".

المدينة، والخلفاء الأربعة ويرجح الأخف على الأثقل، وجزم الاقتضاء على المفهوم وعلى الإيماء، ومفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة؛ لأنه متفق عليه. وقيل بالعكس؛ لأن فائدة مفهوم الموافقة هو التأكيد، وفائدة مفهوم المخالفة هو التأسيس، والتأسيس خير، ولم يرجح الآمدي في الأحكام شيئا، نعم جزم في منتهى السول بما صححه ابن الحاجب، ويرجح مخصص العام على تأويل الخاص لكثرة الأول، والعموم المستفاد من قبيل الشرط، والجزاء على العموم المستفاد من قبيل النكرة المنفية أو غيرها؛ لأن الشرط كالعلة والحكم لمعلل أولى، والخطاب التكليفي على الخطاب الوضعي؛ لاشتمال التكليفي على زيادة الثواب، وإذا ورد الخطاب على سبيل الإخبار كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 58] أو في معرض الشرط كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ورد الخطاب الآخر شفاها كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فالخطاب الشفاهي أولى من المطلق في حق من ورد الخطاب عليه والآخر أولى من حق الغائبين؛ لأنهم إنما يعمهم بدليل منفصل، وإذا كان أحد الخبرين أمس من الآخر في الحاجة، بأن يكون قد قصد به الحكم المختلف فيه فهو أولى من الذي لم يقصد به ذلك, كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ورد لبيان تحريم الجمع بين الأختين فهو أولى من قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] فإنه لم يقصد به ذلك، ويرجح الخبر المسند على الخبر المعزو إلى كتاب معروف على الخبر المشهور, وبمثل البخاري ومسلم على غيره, وقد ذكر ابن الحاجب وغيره مرجحات أخرى سبقت في كلام المصنف في مواضعها.

الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة

الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة قال: " الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة, وهي بوجوه، الأول: بحسب العلة، فترجح المظنة, ثم الحكمة, ثم الوصف العدمي، ثم الحكم الشرعي والبسيط، ثم الوجودي للوجودي, ثم العدمي للعدمي". أقول: لما فرع المصنف من تراجيح الأخبار، شرع في تراجيح بعض الأقيسة على بعض، وهي على خمسة أوجه، الأول: الترجيح بحسب العلة، وهو أمور الأول: يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة للحكمة كالسفر مثلا, على القياس المعلل بنفس الحكمة كالمشقة ونحوها؛ لأن التعليل بالمظنة مجمع عليه بخلاف التعليل بالحكمة، كما سبق في موضعه. الثاني: ترجيح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي، قال: قال الإمام: لأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع الحكم إلا إذا حصل العلم باشتمال ذلك العدم على نوع مصلحة، فيكون الداعي إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة لا العدم، وحينئذ فيكون التعليل بالمصلحة أولى قال: وهذا المعنى, وإن كان يقتضي ترجيح الحكمة على الوصف الحقيقي، لكن عارضه كون الحقيقي أضبط؛ فلذلك قدم عليها، وقد علم من هذا رجحان التعليل بالحكمة على التعليل بالأوصاف الإضافية، والأوصاف التقديرية لكونها عدمية أيضا، وهذه النسخة مخالفة لأكثر النسخ التي اعتمد

عليها الشارحون، ومخالفة لما في المحصول، فإن المذكور فيه ما ذكرنا أولا. الثالث: يرجح التعليل بالعدم على التعليل بالحكم الشرعي، هكذا جزم به المصنف، وحكى في المحصول فيه احتمالين من غير ترجيح، فقال: يحتمل أن يقال: التعليل بالحكم الشرعي أولى؛ لأنه أشبه بالوجود، وأن يقال بالعكس؛ لأن العدم أشبه بالأمور الحقيقية أي: من حيث إن اتصاف الشيء به لا يحتاج إلى شرع، بخلاف الحكم الشرعي، وتبعه صاحب الحاصل على ذلك. نعم رجح صاحب التحصيل العدمي كما رجحه المصنف, ومقتضى إطلاق المصنف أن التعليل بالوصف التقديري أولى من الحكم الشرعي؛ لكون التقديري من العدميات أيضا, لكن المجزوم به في المحصول إنما هو العكس؛ لأن التعليل بالحكم الشرعي تعليل بأمر محقق فهو واقع على وفق الأصول. قوله: "والبسيط" يعني: أن التعليل بالوصف البسيط راجح على التعليل بالوصف المركب؛ لأن البسيط متفق عليه، ولأن الاجتهاد فيه أقل فيبعد عن الخطأ بخلاف المركب، وحكى القاضي عبد الوهاب في الملخص قولا أن العلة الكثيرة الأوصاف أولى. قال: وعندي أنهما سيان, كذا حكاه عند القرافي، وهذا الثالث هو مقتضى كلام إمام الحرمين في البرهان، وهذا القسم ليس بينه وبين ما قبله من الأقسام ترتيب لكونه نوعا آخر من التقسيم؛ فلذلك أتى المصنف فيه بالواو ومثله أيضا القسم الذي يليه. قوله: "والوجودي ... إلخ" اعلم أن الوصف والحكم قد يكونان وجوديين وقد يكونان عدميين، وقد يكون الحكم وجوديا والوصف عدميا، وقد يكون بالعكس، فتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أرجح من تعليل الحكم الوجودي بالعلة العدمية ومن العكس للمشابهة. هذا حاصل كلام المصنف وبه صرح في المحصول حكما وتعليلا، فقوله: والوجودي للوجودي أي: يرجح الوصف الوجودي لتعليل الحكم الوجودي على الأقسام الثلاثة. وقوله: ثم العدمي للعدمي أي: يرجح على القسمين الباقيين، وتوقف الإمام في الترجيح بين تعليل الحكم العدمي بالوجودية وعكسه، وتابعه عليه صاحب التحصيل؛ فلذلك سكت المصنف، لكن جزم صاحب الحاصل بأن تعليل العدمي بالوجودي أولى من عكسه، وقد وقع في بعض نسخ الكتاب هنا تغيير من النسخ. واعلم أن قول الإمام: إن العلية والمعلولية يترتبان ممنوع، فإنهما عدميات كما صرح هو به في غير موضع؛ لكونهما من النسب والإضافات. قال: "الثاني: بحسب دليل العلية فيرجح الثابت بالنص القاطع، ثم الظاهر للام، ثم إن والباء، ثم بالمناسبة الضرورية الدينية، ثم الدنيوية, ثم التي في حيز الحاجة الأقرب اعتبارا، فالأقرب, ثم الدوران في محل، ثم في محلين، ثم السبر، ثم الشبه, ثم الإيماء، ثم الطرد". أقول: الوجه الثاني: الترجيح بحسب الدليل الذي يدل على علية الوصف لحكم الأصل، كالنص، والمناسبة, والدوران، والسير, والشبه, والإيماء, والطرد, وغيرها، وهو على أقسام الأول: يرجح القياس الذي يثبت عليه

وصفه بالنص القاطع على الذي يثبت عليته بالنص الظاهر؛ لأن القاطع لا يحتمل غير العلية بخلاف الظاهر كما تقدم بسطه في أوائل القياس، والإجماع في ذلك ملحق بالنص القاطع, وقد أهمله المصنف لكن هل يقدم على الإجماع أم لا؟ فيه كلام يأتي في الترجيح بدليل الحكم. الثاني: يرجح القياس الذي يثبت عليه وصفه بألفاظ ظاهرة على ما ثبت بغيره كالمناسبة ونحوها؛ لكونه منصوصا عليه من الشارع، وأما الباقية فثابتة بالاجتهاد، ثم إن الألفاظ الظاهرة هي اللام وإن والباء، فأقواها اللام لأنها أظهر. قال الإمام: وأما الباء، وإن ففي المقدم منهما احتمال، وكلام المصنف يقتضي أنهما متساويان وقد تقدم إيضاح ذلك كله أيضا في أوائل القياس. الثالث: يرجح القياس الذي يثبت عليه وصفه بالمناسبة على الدوران وغيره مما بقي؛ لأن المناسبة لا تنفك على العلية، وأما الدوران فقد لا يدل عليها كالمتضايفين ونحوه مما تقدم ذكره، ثم إن المناسبة قد تكون من الضروريات الخمس المتقدم ذكرها في القياس, وقد تكون من الحاجيات، ويعبر عنه بالمصلحيات، وقد تكون من التحسينيات، يعبر عنه بالتتمات كما تقدم إيضاحه. فترجح الضروريات ثم الحاجيات ثم التتمات والمكمل لكل قسم ملحق به كما قاله ابن الحاجب، فالمكمل للضروري مقدم على الحاجي, والمكمل للحاجي مقدم على التحسيني؛ ولهذا وجب في قليل الخمر ما وجب في الكثير المسكر، وترجح الضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية؛ لأن ثمرة الدين هي السعادة الأبدية التي لا يعادلها شيء، ولم يتعرض الإمام وصاحب التحصيل إلى المرجح من أقسام الضروريات, وقد تعرض له الآمدي وابن الحاجب وغيرهما فقالوا: ترجح مصلحة الدين، ثم النفس, ثم النسب، ثم العقل, ثم المال وتعرض صاحب الحاصل إلى القسم الأول فقط وهو ترجيح الدين على غيره؛ فلذلك ذكره المصنف دون ما عداه، وحكى ابن الحاجب مذهبا: أن مصلحة الدين مؤخرة على الكل؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، ولم يذكر ذلك الآمدي قولا بل ذكره سؤالا. واعلم أن الوصف المناسب قد يناسب نوعه نوع الحكم، وقد يناسب نوعه جنس الحكم، وقد يكون بالعكس، وقد يناسب جنس جنسه الحكم. قال الإمام: فالأول مقدم على الأقسام الباقية، والثاني والثالث كالمتعارضين وهما مقدمان على الرابع. قال: وترجيح المناسبة الجلية على الخفية، وما ثبت اعتبار جنسه القريب على ما ثبت اعتبار جنسه البعيد، وإلى ذلك أشار المصنف بقوله: الأقرب اعتبارا فالأقرب. الرابع: يرجح القياس الذي ثبتت علية وصفه بالدوران، على الذي ثبتت عليته بالسبر أو غيره من الطرق الباقية؛ لأن العلية المستفادة من الدوران مطردة منعكسة بخلاف غيره من الطرق، ومنهم من قدمه على المناسبة كما قال الإمام لهذا المعنى أيضا، ثم إن الدوران قد يكون في محل واحد وهو أن يحدث حكم في محل الحدوث صفة فيه وينعدم ذلك الحكم عن ذلك المحل بزوال ذلك الوصف عنه،

كدوران الحرمة مع الإسكار في ماء العنب وجودا وعدما، وقد يكون في محلين كاستدلال الحنفي على وجوب الزكاة في الحلي بدوران وجوب الزكاة مع الذهب وجودا في المضروب وعدما في النبات، فالدوران في محل أرجح في العلية من الدوران في محلين؛ لأن احتمال الخطأ فيه أقل، ألا ترى أنا نقطع في مثالنا بأن ما عدا السكر من الصفات ليس بعلة إلا لزم تخلف المعلول عن علته، بخلاف ما ثبت في محلين؛ فإنه لا يفيد القطع بأن غير الذهب ليس علة للوجوب، لاحتمال أن تكون العلة فيه هو المجموع المركب من كونه ذهبا وكونه غير معدّ للاستعمال. الخامس: يرجح القياس الذي ثبتت علية وصفه بالسبر، على الذي ثبتت عليته بالشبه وغيره مما بقي كالإيماء والطرد؛ لأن منه ما هو علة اتفاقا في العقليات والشرعيات، وهو السبر الحاصل بخلاف البواقي, فإن فيها خلافا مشهورا، ومنهم من رجحه على المناسبة أيضا، واختاره الآمدي وابن الحاجب لأنه يفيد ظن علية الوصف، ونفي المعارض له بخلاف المناسبة، فإنه دلالة لها على نفي المعارض. قال في المحصول: وهذا إذا كان السبر مظنونا، فإن كان مقطوعا به فإن العمل به متعين, وليس هو من قبيل الترجيح. السادس: يرجح القياس الذي ثبتت علية وصفه بالشبه على الذي ثبتت عليته بالإيماء؛ لأن الشبه يقتضي وصفا مناسبا، والإيماء ليس كذلك؛ لأن ترتيب الحكم يشعر بالعلية سواء كان مناسبا أم لا، وبالضرورة أن الوصف المناسب أولى من غيره، وهذا الذي جزم به المصنف من كون الإيماء مؤخرا عما قبله، وذكره الإمام بحثا بعد أن نقل أن الجمهور اتفقوا على تقديم الإيماء على جميع الطرق العقلية حتى المناسب. السابع: يرجح القياس الذي ثبتت علية وصفه بالإيماء على الذي ثبتت عليته بالطرد؛ لأن الطرد غير مناسب أصلا كما عرف في موضعه، وأما الإيماء فقد يكون مناسبا، وما كان مناسبا في بعض الأحوال راجح على ما يكون كذلك. الثامن: يرجح القياس الذي ثبتت علية وصفه بالطرد على ما بقي من الطرق الدالة على العلية، ولم يبين المصنف ذلك، والذي بقي هو تنقيح المناط، وفي تأخره عن الطرد نظر، ولم يصرح الإمام وابن الحاجب وغيرهما بالترجيح بين الدوران والسبر والشبه، وإنما ذكره صاحب الحاصل على الوجه الذي ذكره المصنف, فتابعه عليه لكونه قد يؤخذ بعضها من تعليل الإمام. قال: "الثالث: بحسب دليل الحكم, فيرجع النص ثم الإجماع؛ لأنه فرعه. الرابع: بحسب كيفية الحكم وقد سبق. الخامس: موافقة الأصول في العلة والحكم والاطراد في الفروع". أقول: الوجه الثالث: الترجيح بحسب دليل حكم الأصل، فيرجح من القياسين المتعارضين ما ترجح دليل حكم أصله على دليل حكم الأصل الآخر بأحد المرجحات المذكورة في الباب قبله، أو بغيره من المرجحات ككونه مجمعا عليه، أو خاصا، أو غير ذلك، وهذا إنما يمكن في الدلالة الظنية لما علمت أنه لا ترجيح بين القطعيات ولا بين القطعي والظني، ثم إن كانت تلك الأدلة الظنية من باب الآحاد

أمكن ترجيح بعضها على بعض بالمتن والسند، وإن كانت متواترة لم يكن الترجيح إلا بالمتن خاصة، كما قاله في المحصول1 وهو ظاهر. ثم ذكر المصنف أن يرجح القياس الذي ثبت حكم أصله بالنص كتابا كان أو سنة, على القياس الذي ثبت حكم أصله بالإجماع، ويرجح الإجماع على غيره كالقياس إن جوزنا حكم الأصل به، وتوجيه الثاني ظاهر؛ ولذلك سكت عنه المصنف. وأما الأول فتوجيهه أن الإجماع فرع عن النص؛ لأن حجيته بالأدلة اللفظية، ولا شك أن الأصل مقدم على الفرع وهذا الذي جزم به أبداه الإمام احتمالا فقط، فإنه نقل عن الأصوليين تقديم الإجماع على النص، محتجين بأن الأدلة اللفظية قابلة للتخصيص والتأويلات بخلاف الإجماع، ثم قال: وهذا مشكل وعلله لما قلناه من كونه فرعا له يعم، وصرح صاحب الحاصل باختياره فتبعه عليه المصنف. الوجه الرابع: الترجيح بحسب كيفية الحكم, وقد سبق بيانه في ترجيح الأخبار في الوجه السادس منه، وحينئذ فيرجح القياس المحرم على القياس المبيح، والمثبت للطلاق والعتاق على النافي لهما، والمبقى بحكم الأصل على الناقل، وهذا الأخير قد عكسه المحصول سهوا منه، فإنه أحال على ما تقدم، والذي تقدم هو العكس ويستوي القياس الموجب والمحرم، كما تقدم أيضا. الوجه الخامس: الترجيح بأمور أخرى وهي ثلاثة أولها وثالثها من قسم العلة، وثانيها من قسم الحكم فكان ينبغي ذكر كل واحد منها في موضعه الأول: موافقة الأصول في العلة، وهو أن يشهد لعلة أحد القياسين أصول كثيرة، كما قاله الإمام؛ لأن شهادة كل واحد من تلك الأصول دليل على اعتبار تلك العلة، ولا شك في الترجيح بكثرة الأدلة. الثاني: موافقة الأصول في الحكم لما تقدم في العلة كما قال الإمام, وشهادة الأصول بذلك قد يراد بها أن يكون جنس ذلك الحكم ثابتا في الأصول، وقد يراد بها دلالة الأدلة على ذلك الحكم. الثالث: الاطراد في كل الفرع فيرجح القياس الذي تكون العلة فيه مطردة أي: مثبتة للحكم في كل الفرع على القياس الذي لا تكون المنقوصة, وعلله الإمام بأن الدال على الحكم في كل الفرع يجري مجرى الأدلة الكثيرة؛ لأن العلة تدل على كل واحد منها، ويوجد في هذا الدليل ترجيح العلة التي فروعها أكثر من العلة الأخرى، وهو الذي جزم به الآمدي وابن الحاجب وصححه صاحب الحاصل, وحكى الإمام قولين من غير ترجيح، وعلل مقابلة بأنه لو كان أعم العلتين أولى من أخصهما لكان العمل بأعم الخطابين أولى من أخصهما، وأجاب الإمام بجواب فيه نظر، ومن تراجيح العلة ما قاله في المحصول, وهو أن يرد بها الفرع إلى ما هو جنسه، فإنها أولى مما يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه كقياس الحنفية الحلي على التبر, فإنه أولى من قياسه على سائر الأمور. قال: كذلك العلة المتعدية فإنها راجحة على القاصرة،

_ 1 انظر المحصول، ص483، جـ2.

عند الأكثرين، وقال في البرهان: فيه مذاهب، المشهور ترجيح المتعدية، وعكسه الأستاذ أبو إسحاق، وسوى بينهما القاضي. واعلم أن ذكرهم لهذه المسألة ترجيح الأقيسة إنما وقع استطرادا, فإن القاصرة لا قياس فيها. فصل في مرجحات نص عليها الآمدي وابن الحاجب، فيرجح أحد القياسين بقيام دليل خاص على تعليل حكمه، وجواز القياس عليه لحصول إلا من معه من احتمال التعبد، والقصور على الأصل، وبوقوع الاتفاق على كونه معللا، وترجيح العلة المطردة فقط على المنعكسة فقط؛ لاشتراط الاطراد في العلل دون الانعكاس في العلة التي ليس لها مزاحم، أو كان رجحانها على مزاحمتها أكثر من الأخرى, والعلة المقتضية للنفي على العلة المقتضية للإثبات؛ لأن مقتضاها يتم على تقدير رجحانها، وعلى تقدير مساواتها مقتضى المثبتة لا يتم على تقدير رجحانها، وما يتم على تقديرين أكثر وجودا مما يتم على تقدير واحد.

الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء الباب الأول: في الاجتهاد مدخل ... الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء الفصل الأول: في الاجتهاد قال: "الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء وفيه بابان، الأول: في الاجتهاد، وهو استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية، وفيه فصلان". أقول: الاجتهاد في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الشيء، ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة ومشقة, تقول: اجتهد في حمل الصخرة ولا تقول: اجتهدت في حمل النواة، وهو مأخوذ من الجهد -بفتح الجيم وضمها- وهو الطاقة، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف وسبقه إليه صاحب الحاصل. فقوله: استفراغ الجهد جنس, وقوله: في درك الأحكام به استفراغ في فعل من الأفعال، ودركها أعم من أن يكون على سبيل القطع أو الظن, وقوله: الشرعية خرج به اللغوية، والعقلية، والحسية، ودخل فيه الأصولية والفروعية، إلا أن يكون المراد بالأحكام الشرعية ما تقدم في أول الكتاب، وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، فإنه لا يدخل فيه الاجتهاد في المسائل الأصولية، وقال بعضهم: الاجتهاد -اصطلاحا- هو استفراغ الجهد في طلب شيء من الأحكام على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه. وهذا أعم من تعريف المصنف؛ لأنه يدخل فيه الاجتهاد في العلوم اللغوية وغيرها، لكن فيه تكرار، فإن استفراغ الجهد مغنٍ عن ذكر العجز عن الزيادة. وقال ابن الحاجب: هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي وفيه نظر؛ لما سيأتي من عدم اشتراط الفقه للمجتهد، وقال في المحصول: الاجتهاد في عرف الفقهاء هو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه، وهذا الحد فاسد لاشتماله على التكرار، ولأنه يدخل فيه ما ليس باجتهاد في عرف الفقهاء كالاجتهاد في العلوم اللغوية والعقلية والحسية، وفي الأمور العرفية, وفي الاجتهاد في قيم المتلفات وأروش الجنايات، وجهة القبلة، وطهارة الأواني والثياب. واعلم أن تعريف الاجتهاد يعرف منه تعريف المجتهد، والمجتهد فيه، فالمجتهد هو المستفرغ وسعه في درك الأحكام الشرعية، والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، كذا قاله الآمدي هنا, والإمام بعد الكلام على شروط الاجتهاد.

الفصل الأول: في الاجتهاد

الفصل الأول: في الاجتهاد ... الفصل الأول: في المجتهدين "الفصل الأول: في المجتهدين, وفيه مسائل الأول: يجوز عليه الصلاة والسلام أن يجتهد لعموم {فَاعْتَبِرُوا} وجوب العمل بالراجح، ولأنه أشق وأدل على الفطانة، فلا يتركه. ومنعه أبو علي وابنه، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] قلنا: مأمور به فليس بهوى؛ ولأنه ينتظر الوحي، قلنا: ليحصل الناس على النص، أو لأنه لم يجد أصلا يقيس عليه. فرع: لا يخطئ اجتهاده وإلا وجب اتباعه". أقول: اختلفوا في جواز الاجتهاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب الجمهور إلى جوازه ونقله الإمام عن الشافعي، واختاره المصنف وهو مقتضى اختيار الإمام أيضا؛ لأنه استدل له، وأجاب عن مقابله، وذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إلى المنع، وحكى في المحصول قولا ثالثا: أنه يجوز فيما يتعلق بالحروب دون غيرها، ورابعا نقله عن أكثر المحققين وهو التوقف في هذه الثلاثة وإذا قلنا بالجواز، فقال الغزالي: قيل: وقع وقيل: لا، وقيل بالوقوف، والأول هو الوقوع واختاره الآمدي وابن الحاجب، وهو مقتضى اختيار الإمام وأتباعه، فإن الأدلة التي ذكروها تدل عليه ومحل الخلاف على ما قاله القرافي في شرح المحصول في الفتاوى. أما الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها بالإجماع، قال الغزالي: وإذا اجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقاس فرعا على أصل فيجوز القياس على هذا الفرع؛ لأنه صار أصلا بالنص. قال: وكذلك لو أجمعت الأمة عليه، ثم استدل المصنف على الجواز بأربعة أوجه, الأول: أن الله تعالى أمر أولي الأبصار به، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس بصيرة وأكثرهم خبرة بشرائط القياس، وذلك يقتضي اندراجه في عموم الآية، فيكون مأمورا بالقياس، وحينئذ فيكون فاعلا له صيانة لعصمته عن ترك المأمور به. الثاني: إذا غلب على ظنه -صلى الله عليه وسلم- أن الحكم في صورة معلل بوصف، ثم علم أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى، فإنه يلزم أن يحصل له الظن بأن حكم الله تعالى في تلك الصورة كحكمه في الصورة الأولى، وحينئذ فيجب عليه أن يعمل بمقتضاه؛ لأن الأصل وهو المقرر في بداية العقول وجوب العمل بالراجح. الثالث: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص؛ لأنه يحتاج إلى إتعاب النفس في بذل الوسع فيكون أكثر ثوابا، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "أجرك على قدر نَصَبِكِ" 1 فلو لم يعمل النبي صلى الله عليه وسلم به مع أن بعض أمته قد عمل به، لكان يلزم اختصاص بعض أمته بفضيلة لم توجد فيه وهو ممتنع. الرابع وهو قريب مما قبله أو هو معه دليل واحد: أن العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة وجودة القريحة من العمل بالنص قطعا، فيكون العمل به نوعا من الفضل, فلا يجوز خلو الرسول عليه الصلاة والسلام منه لكونه جامعا لأنواع الفضائل. ثم ذكر المصنف للمانعين دليلين أحدهما: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}

_ 1 أخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 177" وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "7/ 77".

[النجم: 3، 4] فإنه يدل على أن الأحكام الصادرة عنه -عليه الصلاة والسلام- كانت بالوحي، والجواب أنه لما أمر بالاجتهاد وتبليغ مقتضاه لم يكن ذلك نطقا بغير الوحي، وأجاب صاحب الحاصل بأن الاجتهاد إذا كان مأمورا به لم يكن النطق به هوى، واقتصر عليه، وتبعه المصنف على ذلك، وهو يشعر بأن الخصم قد استدل بصدر الآية وهو باطل؛ فإنه لا يقول بأن القول بالاجتهاد قول بالهوى، فإن الهوى هو القول لمحض غرض النفس، بل الذي يناسب التمسك به إنما هو قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} على ما قررناه، ثم لو سلمنا أن الاجتهاد قول بالهوى على تقدير تفسير الهوى المذكور في الآية بما تميل إليه النفس وتسكن له، فلا يستقيم أن يجاب عنه بأنه ليس بهوى، بل الجواب المطابق أن يقول: هذا الهوى مأمور به. الدليل الثاني: لو جاز له -صلى الله عليه وسلم- أن يجتهد في الأحكام الشرعية لكان يمتنع عليه تأخير فصل الخصومات والمحاكمات إلى نزول الوحي؛ لأن القضاء على الفور، وقد تمكن منه بالاجتهاد, لكنه أخر في الظهار واللعان وأجاب المصنف بأن العمل بالقياس مشروط بفقدان النص, ولوجود أصل يقاس عليه، وحينئذ فنقول: ربما كان انتظاره الوحي لكي يحصل له اليأس عن النص، وذلك بأن يصير مقدار يعرف به أن الله تعالى لا ينزل فيه وحيا, أو انتظارا لأنه لم يجد أصلا يقيس عليه وهذا اليأس أخذه المصنف من الحاصل ولم يذكره الإمام ولا الآمدي. قوله: "فرع ... إلخ" هذا البحث مبني على جواز الاجتهاد للرسول -عليه الصلاة والسلام- فلذلك عبر عنه بالفرع، والذي جزم به المصنف من كونه لا يخطئ اجتهاده قال الإمام: إنه الحق واختاره الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز عليه الخطأ بشرط أن لا يقر عليه، ونقله الآمدي عن أكثر أصحابنا والحنابلة، وأصحاب الحديث، واحتج المانعون بأنا مأمورون باتباعه -صلى الله عليه وسلم- فلو جاز عليه الخطأ لوجب علينا اتباعه فيه، وهذا ضعيف؛ لأن الخصم يمنع أن يقر على الخطأ حتى يمضي زمان يمكن اتباعه فيه، ويوجب التنبيه عليه قبل ذلك فلا يتصور وجوب اتباعه فيه، سلمنا لكنه منقوض بوجوب اتباع العامي للمفتي، واحتج الآمدي بأشياء منها قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وقوله تعالى في حق أسارى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] فإن عمر كان قد أشار بقتلهم فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبقوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما أحكم بالظاهر". قال: "الثانية: يجوز للغائبين عن الرسول وفاقا، وللحاضرين أيضا إذ لا يمتنع أمرهم به، قيل: عرضة للخطأ، قلنا: لا نسلم بعد الإذن، ولم يثبت وقوعه". أقول: اختلفوا في جواز الاجتهاد لأمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمنه على مذاهب حكاها الآمدي، وأحدها: يجوز مطلقا, والثاني: يمتنع مطلقا, والثالث: يجوز للغائبين من القضاة والولاة دون الحاضرين, والرابع: إن ورد فيه إذن خاص جاز وإلا فلا، والخامس: أنه لا يشترط الإذن بل يكفي السكوت مع العلم بوقوعه. قال: واختلف القائلون بالجواز في وقوع التعبد به، فمنهم من

قال: وقع التعبد به، ومنهم من توقف فيه مطلقا، ومنهم من توقف في الحاضر دون الغائب. قال: والمختار جوازه مطلقا، وأن ذلك مما وقع حضوره وغيبته ظنا لا قطعا، وذكر الغزالي وابن الحاجب نحوه أيضا، واختار الإمام جوازه مطلقا، وأما الوقوع فنقل عن الأكثرين أنهم قالوا به في حق الغائب لقضية معاذ، وأنهم توقفوا فيه في حق الحاضر, ومال إلى اختياره، وكلام المصنف أيضا مطابق له كما ستعرفه. إذا علمت ما قلناه علمت أن ما نقله المصنف من الاتفاق على جوازه للغائب ممنوع، وعبارة الإمام أنه جائز بلا شك، ثم استدل المصنف على جوازه في حق الحاضرين بأنه لا يمتنع أمرهم به أي: لا يمتنع عقلا ولا شرعا، أن يقول الرسول للحاضرين عنده: قد أوحي إليّ أنكم مأمورون بالاجتهاد والعمل به، فإن ذلك لا يلزم منه محال لا لذاته وهو ظاهر، ولا لغيره إذ الأصل عدمه، فمن يدعيه فعليه البيان. قوله: "قيل: عرضة ... إلخ" أي: استدل المانعون بأن الاجتهاد عرضة للخطأ بلا شك، والنص آمن من سلوك السبيل المخوف مع القدرة على سلوك الآمن قبيح عقلا، والجواب لا نسلم أن الاجتهاد تعرض للخطأ بعد إذن الشارع فيه، فإنه لما قال للمكلف: أنت مأمور بالاجتهاد وبالعمل به، صار آمنا من الخطأ؛ لأنه حينئذ يكون آتيا بما أمر به، هكذا أجاب به الإمام وأتباعه فتبعهم المصنف وهو ضعيف؛ لأن الإذن في الاجتهاد لا يمنع من وقوع الخطأ فيه كما ستعرفه, بل إنما يمنع من التأثيم، والأولى الجواب أن يقال: لا نسلم أنه قادر على تحصيل النص، فإنه قد يسأل عن الواقعة فلا يرد فيها شيء، بل يؤمر فيها بالاجتهاد، سلمناه، لكن لا نسلم أن ترك العمل بمقتضى الاحتياط قبيح، سلمنا لكنه فرع عن قاعدتي التحسين والتقبيح العقليين. قوله: "ولم يثبت وقوعه" هو عائد إلى المسألة التي قبله وهو اجتهاد الحاضر، ولا ينبغي إعادته إلى الغائب أيضا، فإنه مع كونه مخالفا الظاهر فإنه مخالف لرأي الأكثرين، والذي مال إليه الإمام كما تقدم إيضاحه. إذا علمت هذا فنقول: أما الوقوع للغائب فدليله قصة معاذ لما بعثه إلى اليمن، وأما التوقف في حق الحاضر فيظهر بذكر أدلة الفريقين، وذكر جوابها كما فعله الإمام فلنذكر ما ذكره، فنقول: احتج المانعون بوجهين، أحدهما: أن الصحابة لو اجتهدوا في عصره -عليه الصلاة والسلام- لنقل، وجوابه أن عدم النقل قد يكون لقلته، ثم إنه معارض بقصة سعد وغيره كما سيأتي. الثاني: أنهم كانوا يرفعون الحوادث إليه، ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لم يرفعوها له، وجوابه أن الرفع قد يكون لسهولة النص, أو لأنه لم يظهر لهم في الاجتهاد شيء، واحتج القائلون بالوقوع بأمرين، أحدهما: تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة, وعمرو بن العاص وعقبة بن عامر ليحكما بين رجلين، وجوابه أن ذلك من أخبار الآحاد فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة عملية، وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل. الثاني: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 109] وجوابه: أن ذلك كان في الحروب ومصالح الدنيا, لا في أحكام الشرع. قال:

"الثالثة: لا بد له أن يعرف من الكتاب, والسنة, وما يتعلق بالأحكام, والإجماع, وشرائط القياس، وكيفية النظر, وعلم العربية, والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة, ولا حاجة إلى الكلام والفقه؛ لأنه نتيجته". أقول: شرط الاجتهاد كون المكلف متمكنا من استنباط الأحكام الشرعية، ولا يحصل هذا التمكن إلا بمعرفة أمور أحدها: كتاب الله تعالى، ولا يشترط معرفة جميعه كما جزم به الإمام وغيره، بل يشترط أن يعرف منه ما يتعلق بالأحكام وهو خمسمائة آية كما قاله الإمام. قال: ولا يشترط حفظه عن ظهر قلب, بل يكفي أن يكون عارفا بمواقعه، حتى يرجع إليه في وقت الحاجة، والاقتصار على بعض القرآن مشكل؛ لأن تمييز آيات الأحكام من غيرها متوقف على معرفة الجميع بالضرورة، وتقليد الغير في ذلك ممتنع؛ لأن المجتهدين متفاوتون في استنباط الأحكام من الآيات. لا جرم أن القيرواني في المستوعب نقل عن الشافعي أنه يشترط حفظ جميع القرآن وهو مخالف لكلام الإمام من وجهين. الثاني: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يشترط أيضا فيها الحفظ ولا معرفة الجميع كما تقدم. الثالث: الإجماع، فينبغي أن يعرف المسائل المجمع عليها حتى لا يفتي بخلاف الإجماع, وليس المراد حفظ تلك المسائل كما نبه عليه الغزالي، بل طريقه كما قاله الإمام أن لا يفتي إلا بشيء يوافق بعض المجتهد، أو يغلب على ظنه أنها واقعة متولدة في هذا العصر، لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض. الرابع: القياس فلا بد أن يعرفه ويعرف شرائطه المعتبرة وقاعدة الاجتهاد والموصل إلى تفاصيل الأحكام التي لا حصر لها. الخامس: كيفية النظر, فيشترط أن يعرف شرائط الحدود والبراهين، وكيفية تركيب مقدماتها، واستنتاج المطلوب منها ليأمن من الخطأ في نظره. السادس: علم العربية من اللغة والنحو والتصريف؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة، فلا يمكن استنباط الأحكام منها إلا بفهم كلام العرب إفرادا وتركيبا, ومن هذه الجهة يعرف العموم والخصوص، والحقيقة والمجاز, والإطلاق والتقييد، وغيره مما سبق, ولقائل أن يقول: هذا الشرط يستغنى عنه باشتراطه معرفة الكتاب والسنة، فإن معرفتهما مستلزمة لمعرفة العربية بالضرورة. السابع: معرفة الناسخ والمنسوخ لئلا يحكم بالمنسوخ المتروك. الثامن: حال الرواة فلا بد من معرفة حالهم في القوة والضعف، ومعرفة طرق الجرح والتعديل؛ لأن الأدلة لا اطلاع لنا عليها إلا بالنقل, فلا بد من معرفة النقلة وأحوالهم، ليعرف المنقول الصحيح من الفاسد. قال الإمام: والبحث عن أحوال الرواة في زماننا مع طول المدة وكثرة الوسائط كالمتعذر, فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة كالبخاري ونحوه، قال: فظهر بما ذكرناه أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه. قوله: "ولا حاجة" أي: لا يحتاج المجتهد "إلى علم الكلام" لإمكان استفادة الأحكام الشرعية من دلائلها لمن جزم بأحقية الإسلام على سبيل التقليد، ولا إلى التفاريع الفقهية أي: مما ولده المجتهدون بعد اتصافهم بالاجتهاد، كما قاله الإمام لأنه نتيجة الاجتهاد, فلا يكون شرطا وإلا لزم توقف الأصل على الفرع وهو دور، وشرط الإمام أن يكون عارفا بالدليل العقلي كالاستصحاب، وعارفا بأننا مكلفون به، وأهمله المصنف. قال في المحصول: والحق أن صفة الاجتهاد قد تحصل في فن دون فن، بل في مسألة دون مسألة، خلافا لبعضهم.

الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد قال: "الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد, واختُلف في تصويب المجتهدين، بناء على الخلاف في أن لكل صورة حكما معينا, وعليه دليل قطعي أو ظني، والمختار ما صح عن الشافعي رضي الله عنه أن في الحادثة حكما معينا عليه أمارة، ومن وجدها أصاب، ومن فقدها أخطأ ولم يأثم؛ لأن الاجتهاد مسبوق بالدلالة لأنه طلبها، والدلالة متأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهادان لاجتمع النقيضان، ولأنه قال عليه الصلاة والسلام: "من أصاب فله أجران, ومن أخطأ فله أجر" 1 قيل: لو تعين الحكم فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله ففسق ويكفر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ} [المائدة: 44] قلنا: لما أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ حكم بما أنزل الله, قيل: لو لم يصوب الجمع لما جاز نصب المخالف، وقد نصب أبو بكر زيدا -رضي الله عنهما- لم يجز تولية المبطل والمخطئ ليس بمبطل". أقول: المعروف أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيبا، بل الحق فيها واحد, فمن أصابه أصاب، ومن فقده أخطأ وأثم، وقال العبري والجاحظ: مجتهد فيها مصيب أي: لا إثم عليه، وهما محجوجان بالإجماع كما نقله الآمدي، وأما المجتهدون في المسائل الفقهية وهو الذي تكلم فيه المصنف فهو المصيب منهم واحد، أو الكل مصيبون. وفيه خلاف مبني كما ذكره المصنف وغيره على أن كل صورة هل لها حكم معين أم لا؟ وفيه أقوال كثيرة ذكرها الإمام، واقتصر المصنف على بعضها، فلنذكر ما ذكره منها, أعني الإمام فنقول: اختلف العلماء في الواقعة التي لا نص فيها على قولين, أحدهما: أنه ليس لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين، بل حكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهدين وهؤلاء هم القائلون بأن كل مجتهد مصيب، وهم الأشعري والقاضي وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، واختلف هؤلاء فقال بعضهم: لا بد أن يوجد في الواقعة ما لو حكم الله فيها بحكم لم يحكم إلا به، وهذا هو القول بالأشبه، وقال بعضهم: لا يشترط ذلك, والقول الثاني: أن له تعالى في كل واقعة حكما معينا, وعلى هذا فثلاثة أقوال أحدها وهو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين: حصل الحكم من غير دلالة أو أمارة، بل هو كدفين يعثر عليه الطالب اتفاقا، فمن وجده فله أجران ومن أخطأه فله أجر. والقول الثاني: عليه أمارة أي: دليل ظني، والقائلون به اختلفوا فقال بعضهم: لم يكلف المجتهد بإصابته لخفائه وغموضه؛ فلذلك كان المخطئ فيه معذورا مأجورا، وهو قول كافة الفقهاء، وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة، وقال بعضهم: إنه

_ 1 رواه الدارقطني في سننه "4/ 211".

مأمور بطلبه أولا, فإن أخطأ وغلب على ظنه شيء آخر تغير التكليف وصار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه. والقول الثالث: أن عليه دليلا قطعيا، والقائلون به اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه لكن اختلفوا, فقال الجمهور: إن المخطئ فيه لا يأثم ولا ينقض قضاؤه، وقال بشر المريسي بالتأثيم، والأصم بالنقض، والذي نذهب إليه أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا عليه دليل ظني, وأن المخطئ فيه معذور، وأن القاضي لا ينقض قضاؤه، هذا حاصل كلام الإمام وقد تابعه المصنف على اختياره، وزاد عليه فادعى أنه الذي صح عن الشافعي علمنا بهذا أنه أراد القول الأول المفرع على القول الثاني الذي هو مفرع على الثاني من القولين الأولين, لكنه أهمل منه كون المخطئ فيه مأجورا, وأن المجتهد لم يضف بإصابته، وإنما عبر عن هذا القول بأنه الذي صح عن الشافعي؛ لأن له قولا آخر أن كل مجتهد مصيب، وحكاه ابن الحاجب وغيره، فقال: ونقل عن الأئمة الأربعة للتخطئة والتصويب, واعلم أن كلام الأشعري المتقدم لا يستقيم مع ما ذهب إليه من كون الأحكام قديمة. قوله: "لأن الاجتهاد" أي: الدليل على أن المصيب واحد, دليلان: عقلي ثم نقلي، الأول: أن الاجتهاد مسبوق بالدلالة؛ لأن الاجتهاد هو طلب دلالة الدليل على الحكم وطلب الدلالة متأخر عن الدلالة؛ لأن طلب الوقوف على الشيء يستدعي تقدم ذلك الشيء في الوجود، فثبت أن الاجتهاد مسبوق بالدلالة، والدلالة متأخرة عن الحكم لأنها نسبة بين الدليل والمدلول الذي هو الحكم، والنسبة بين الأمرين متأخرة عنهما، وإذا ثبت أن الدلالة متأخرة عن الحكم لزم أن يكون الاجتهاد متأخرا عن الحكم بمرتبتين؛ لأنه متأخر عن الدلالة المتأخرة عن الحكم, وحينئذ فلو تحقق الاجتهادان، أي: كان مدلول كل واحد منهما حقا صوابا لاجتمع النقيضان؛ لاستلزامه حكمين متناقضين في نفس الأمر بالنسبة إلى مسألة واحدة. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام: "من اجتهد فأصاب فله أجران, ومن أخطأ فله أجر" دل الحديث على أن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو المدعى وفي الدليل نظر, أما الأصول فلم نسلم أن طلب الشيء يتوقف على ثبوته في الخارج بل على تصوره، ألا ترى أن المتيمم إذا طلب الماء في برية فإنه ليس متحققا لوجوده بل مقصوده، إنما هو التحصيل على تقدير الوجود، سلمنا لكن لا نسلم أن النسبة تتوقف على المنتسبين كما تقدم غير مرة، فإن تقدم البارئ تعالى على العالم نسبة بينه وبين العالم، مع أن هذه النسبة ليست متوقفة على العالم، سلمنا لكنه لا يثبت به المدعى بتمامه, فإنه لا يدل على سقوط الإثم عن المخطئ وحصول الأجر له، وأيضا فدعواه أن الاجتهاد هو طلب الدلالة ممنوعة بل هو طلب الحكم نفسه لكن بوساطة الدلالة، فكان ينبغي له الاقتصار في الدليل عليه؛ لأن مقصوده يحصل به، ولا يتكلف ارتكاب أمر ممنوع ومستغنى عنه، وأما الحديث فلا دلالة فيه أيضا؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على وقوع شرطها بل ولا على جواز وقوعه، فإن

قيل: لا دلالة فيه أيضا؛ لأن الخطأ متصور عند القائلين بأن كل مجتهد مصيب, وذلك عند عدم استفراغ الوسع، فإنه إن كان ذلك مع العلم بالتقصير فهو مخطئ آثم، وإن كان بدون العلم به فهو مخطئ غير آثم. فلعل هذه الصورة هي المراد من الحديث, أو لعل المراد منه ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي، ولكن طلبه المجتهد واستفرغ فيه وسعه فلم يجده، فإن الخطأ في هذه الصورة متصور أيضا عندهم. قلنا: إن وقع الاجتهاد المعتبر فيما ذكرتموه فقد ثبت المدعي وهو خطأ بعض المجتهدين في الجملة, وإن لم يقع فلا يجوز حمل الحديث عليه لما تقرر من وجوب حمل اللفظ على الشرعي، ثم العرفي, ثم اللغوي. فإن قيل: الدليل على أنه ليس كل مجتهد مصيبا قولهم: ليس كل مجتهد مصيبا؛ لأن اجتهاده في هذه المسألة إذا كان صوابا فقد حصل المدعى، وإن كان خطأ فقد وقع الخطأ لهذا المجتهد، وحينئذ فلا يكون كل مجتهد مصيبا. قلنا: هذه المسألة أصولية وكلامنا في المجتهدين في الفروع. قوله: "قيل: لو تعين" أي: احتج من قال بأنه ليس لله في الواقعة حكم معين بل حكمها تابع لظن المجتهدين بأمرين, وأحدهما: أنه لو تعين الحكم لكان المخالف له حاكما بغير ما أنزل الله، وحينئذ فيفسق لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] أو يكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] واللازم باطل اتفاقا فالملزوم مثله، والجواب أن المجتهد لما كان مأمورا بالحكم بما ظنه، وإن أخطأ فيه كان حاكما بما أنزل الله تعالى. الثاني: لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لما جاز للمجتهد أن ينصب حاكما مخالفا له في الاجتهاد لكونه تمكينا من الحكم بغير الحق, لكن يجوز لأن أبا بكر -رضي الله عنه- نصب زيد بن ثابت مع أنه كان مخالفة في الجد وغيره، وشاع ذلك بين الصحابة ولم ينكروه، والجواب أن الممتنع إنما هو تولية المبطل أي: من يحكم بالباطل والمخطئ في الاجتهاد ليس بمبطل؛ لأنه آتٍ بالمأمور به. قال: "فرعان: الأول: لو رأى الزوج لفظه كناية، ورأته الزوجة صريحا فله الطلب، ولها الامتناع فيراجعان غيرهما، الثاني: إذا تغير الاجتهاد كما لو ظن أن الخلع فسخ، ثم ظن أنه طلاق فلا ينقض الأول بعد اقتران الحكم، وينقض قبله". أقول: الفرع الأول: في طريق فصل الحادثة التي لا يمكن الصلح فيها, إذا نزلت بالمجتهدين المختلفين المقلدين لهما سواء، قلنا: المصيب واحد أم لا، كما إذا كان الزوجان مجتهدين، فقال لها: أنت بائن مثلا من غير نية للطلاق، ورأى الزوج أن اللفظ صادر منه كناية فيكون النكاح باقيا، ورأت المرأة أنه صريح فيكون الطلاق واقعا, فللزوج طلب الاستمتاع بها، ولها الامتناع منه، وطريق قطع المنازعة بينهما أن يرجعا إلى حاكم أو يحكما رجلا، وحينئذ فإذا كان حكم الحاكم أو المحكم بشيء وجب عليهما الانقياد إليه، فإن كانت الحادثة مما يجوز فيها الصلح كالحقوق المالية فيجوز فصلها به أيضا

وهو واضح. الفرع الثاني: في نقض الاجتهاد، فنقول: إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده إلى أن الخلع طلاق, نظر إلى تغير بعد قضاء القاضي بمقتضى الاجتهاد الأول, وهو صحة النكاح فلا يجوز نقضه بالاجتهاد الثاني، بل يستمر على نكاحه لتأكده بالحكم، وإن تغير حكم الحاكم بالصحة وجب عليه مفارقتها؛ لأنه يظن الآن أن اجتهاده خطأ والعمل بالظن واجب، وإليه أشار المصنف بقوله: وينقض قبله، وكأنه أراد بالنقض ترك العمل بالاجتهاد الأول، وإلا فالاتفاق على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذا التفصيل بعينه يجري في زوجة المقلد لهذا المجتهد، وكلام المصنف يحتمل كلا من المسألتين، وحكى الإمام قولا: أنه لا يجب على المقلد المفارقة مطلقا.

الباب الثاني: في الإفتاء

الباب الثاني: في الإفتاء قال: "الباب الثاني: في الإفتاء, وفيه مسائل، الأولى: يجوز الإفتاء للمجتهد ومقلد الحي، واختلف في تقليد الميت لأنه لا قول له؛ لانعقاد الإجماع على خلافه، والمختار جوازه للإجماع عليه في زماننا". أقول: مقصود هذا الباب منحصر في المفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء، فلذلك ذكر المصنف فيه ثلاث مسائل لهذه الأمور الثلاثة, المسألة الأولى: في المفتي, فيجوز للمجتهد أن يفتي إذا اتصف بالشروط المعتبرة في الراوي, وهل يجوز للمقلد أن يفتي بما صح عنده من مذهب إمامه، سواء كان سماعا منه أو رواية عنه أو مسطورا في كتاب معتمد عليه، ينظر فيه. فإن كان إمامه حيا ففيه أربعة مذاهب حكاها ابن الحاجب، يجوز مطلقا وهو مقتضى اختيار الإمام والمصنف لأنه ناقل فجاز كنقل الأحاديث. والثاني: يمتنع مطلقا؛ لأنه إنما يسأل عما عنده لا عما عند مقلده، وأما القياس على نقل الأحاديث فممنوع، قال ابن الحاجب: لأن الخلاف ليس في مجرد النقل, أي: إنما الخلاف في أن غير المجتهد هل له الجزم بالحكم؟ وذكره لغيره ليعلم بمقتضاه. والثالث: لا يجوز عند وجود المجتهد، ويجوز عند عدمه للضرورة. ورابعها: أنه إن كان مطلعا على المآخذ أهلا للنظر جاز لوقوع ذلك على ممر الأعصار من غير إنكار. وإن لم يكن كذلك فلا يجوز لأنه يفتي بغير علم، وهذا هو المختار عند الآمدي وابن الحاجب وغيرهما, وإن كان إمامه ميتا ففي الإفتاء بقوله خلاف ينبني على جواز تقليده؛ فلذلك عدل المصنف عما ساق الكلام له وهو الإفتاء بقوله: إلى حكاية الخلاف في تقليده وهو حسن, لكن حكايته الخلاف في هذا دون مقلد الحي يوهم الاتفاق على الجواز فيه, وليس كذلك لما عرفت. قوله: "لأنه" أي: الدليل على أنه لا يجوز إفتاء المقلد للميت، أن الميت لا قول له بدليل انعقاد الإجماع على خلافه، ولو كان له قول لم ينعقد على خلاف قول الحي، وإذا لم يكن له قول لم يجز تقليده ولا الإفتاء بما كان ينسب إليه. قالوا: وإنما صنفت كتب الفقه لاستفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بعضها على بعض، ومعرفة المتفق عليه من المختلف فيه. هذا ما نقله الإمام في تقليد الميت حكما وتعليلا ثم

مال إلى الجواز فقال: ولقائل أن يقول: قد انعقد الإجماع في زماننا على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى؛ لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد، والإجماع حجة، وهذا الذي مال إليه قد صرح المصنف باختياره واستدل له مما ذكرناه، وهو دليل ضعيف فإن الإجماع إنما يعتبر من المجتهدين, فإذا لم يوجد مجتهد في هذا الزمان لم يعتبر إجماع أهله، والأولى في الاستدلال أن يقال: لو لم يجز ذلك لأدى إلى فساد أحوال الناس وتضررهم، ولو بطل قول القائل بموته لم يعتبر شيء من أقواله لروايته وشهادته ووصاياه, وما استدل به الخصم من انعقاد الإجماع على خلافه فممنوع، لما سبق فيه من الخلاف, وإن سلم فهو معارض بحجية الإجماع بعد موت المجمعين. قال: "الثانية: يجوز الاستفتاء العامي لعدم تكليفهم في شيء من الأعصار بالاجتهاد وتفويت معاشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه دون المجتهد لأنه مأمور بالاعتبار. قيل: معارض بعموم: {فَاسْأَلُوا} [الأنبياء: 7] {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: 59] وقول عبد الرحمن لعثمان: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الشيخين، قلنا: الأول مخصوص وإلا لوجب بعد الاجتهاد، والثاني: في الأقضية، والمراد من السيرة لزوم العدل". أقول: المسألة الثانية: في المستفتي، أي: فيمن يجوز له الاستفتاء ومن لا يجوز, فنقول: اختلفوا في أن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد هل يجوز له الاستفتاء في الفروع؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها الإمام أصحها عنده وعند الإمام وأتباعهما يجوز مطلقا، بل يجوز. والثاني: لا، بل يجب عليه أن يقف على الحكم بطريقة, وإليه ذهب المعتزلة البغدادية. وثالثها: قال به الجبائي: يجوز ذلك في المسائل الاجتهادية كإزالة النجاسة بالخل ونحوه، دون المسائل المنصوصة كتحريم الربا في الأشياء الستة مثلا، والخلاف كما قال ابن الحاجب جارٍ في غير المجتهد، سواء كان عاميا محضا "عاما" ثم استدل المصنف على الجواز بأمرين أحدهما: إجماع السلف عليه؛ لأن العوام لم يكلفوا في شيء من الأعصار باجتهاد, فلو كانوا مأمورين بذلك لكلفوهم به، وأنكروا عليهم العمل بفتاويهم، مع أنه لم يقع شيء من ذلك. الثاني: أن تكليفهم بالاجتهاد يؤدي إلى تفويت معايشهم واستضرارهم بالاشتغال لتحصيل أسبابه، وذلك سبب لفساد الأحوال فيكون القول باطلا. قوله: "دون المجتهد" أي: فإنه لا يجوز له الاستفتاء، أي: لا بعد الاجتهاد اتفاقا كما قاله الآمدي وابن الحاجب، ولا قبله على المختار عندهما وعند الإمام وأتباعه؛ لأنه مأمور بالاعتبار أي: الاجتهاد لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} فإنه عام شامل للعامي وللمجتهد، وترك العمل به بالنسبة إلى العامي تعجزه عن الاجتهاد, فيبقى معمولا به في حق المجتهد، وحينئذ فلو جاز له الاستفتاء لكان تاركا الاعتبار المأمور به، وتركه لا يجوز، وقد حكى الآمدي وابن الحاجب في المسألة سبعة مذاهب تعرض الإمام لأكثرها، وأصحها ما قاله المصنف, والثاني: يجوز مطلقا وهو مذهب أحمد،

والثالث, قاله بعض أهل العراق: يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به, والرابع: يجوز فيما يفوت وقته أي: مما يخصه أيضا كما نبه عليه الآمدي، ولا يجوز فيما لا يفوت وقته، والخامس وهو مذهب محمد بن الحسن: يجوز تقليد الأعلم لا تقليد المساوي والأدون، والسادس: يجوز تقليد الصحابي بشرط أن يكون أرجح في نظره من غيره وما عداه لا يجوز, وقد تقدم نقله عن الشافعي، والسابع: يجوز تقليد الصحابي والتابعي دون غيرهما، وحكى الآمدي ثامنا عن ابن سريج لم يذكره ابن الحاجب: أنه يجوز تقليد الأعلم بشرط تعذر الاجتهاد، وهذا الخلاف إنما هو في الجواز لا في الوجوب، كما نبه عليه الإمام في أثناء هذه المسألة. قوله: "قيل: معارض" يعني: أن الاستدلال على المنع بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] معارض بثلاثة أدلة، أحدها: قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] فإنه يدل على جواز السؤال لمن لا يعلم كان مجتهدا أو غير مجتهد، والمجتهد قبل اجتهاده غير عالم، فوجب أن يجوز له ذلك. الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فإنه يدل على قبول قول أولي الأمر على كل أحد مجتهدا كان أو غيره، والعلماء من أولي الأمر لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة، فيكون قولهم معمولا به في حق المجتهد والمقلد. الثالث: الإجماع, فإن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان -رضي الله عنهما- حين عزم على مبايعته: أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيره الشيخين, فالتزمه عثمان, وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد، فكان ذلك إجماعا على جواز أخذ المجتهد بقول المجتهد الميت. وإذا جاز ذلك جاز الأخذ بقول الحي بطريقة الأولى، وأجاب المصنف عن الأول وهو قوله: {فَاسْأَلُوا} بأنه مخصوص بالعوام، ولو كان شاملا للمجتهدين غير العاملين لكان يجوز للمجتهد ذلك بعد الاجتهاد أيضا؛ لكونه ظانا بالحكم لا عالما به, لكنه لا يجوز اتفاقا كما تقدم. قال الإمام: ومقتضاه وجوب السؤال وهو غير واجب بالإجماع، ولأنه أمر بالسؤال من غير تعيين المسئول عنه، وهو مطلق يصدق بصورة، وقد قلنا بهذا السؤال عند الأدلة عن الثاني، وهو قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} الآية بأن ذلك إنما ورد في الأقضية دون المسائل الاجتهادية، أو نقول: إنه مطلق ولا عموم فيه فيكفي حمله على الأقضية, وعن الثالث وهو الإجماع أن المراد بالسيرة إنما هو لزوم العدل والإنصاف بين الناس، والبعد عن حب الدنيا لا الأخذ بالاجتهاد. قال: "الثالثة: إنما يجوز في الفروع، وقد اختلف في الأصول. ولنا فيه نظر، وليكن هذا آخر كلامنا, والله الموفق والهادي للرشاد". أقول: المسألة الثالثة: فيما يجوز فيه الاستفتاء وما لا يجوز، فنقول: يجوز للعامي الاستفتاء في الفروع على ما فيه من الخلاف المذكور في المسألة السابقة, واختلفوا في الأصول كوجود الصانع ووحدته، وإثبات الصفات ودلائل النبوة، فالأكثرون على ما نقله الآمدي واختاره هو والإمام

وابن الحاجب أنه لا يجوز لا للمجتهد ولا للعامي؛ لأن تحصيل العلم في الأصول واجب على الرسول لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] , وإذا وجب عليه وجب علينا لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] . واعترض عليه بأن الدليل خاص بالتوحيد، والدعوى عامة فلا يفيد المطلوب، واستدل المجوز بالقياس على جواز التقليد في المسائل الفروعية، وأجاب الأولون بأن المسائل الفروعية غير متناهية، فيعسر على العامي الوقوف عليها بخلاف المسائل الأصولية فإنه لا عسر فيها لقلتها. وتوقف المصنف في هذه المسألة لتعارض الأدلة من الجانبين عنده من غير ترجيح؛ فلهذا قال: ولنا فيه نظر، ونقل الآمدي وابن الحاجب عن بعضهم أن النظر فيه حرام وهو ظاهر كلام الشافعي، وهذه المسألة محلها علم الكلام؛ فلذلك اختصر فيه المصنف. "فرعان" حكاهما الإمام, الأول: إذا وقعت للمجتهد حادثة فاجتهد فيها وأفتى ثم وقعت له ثانيا, فإن كان ذاكرا لما مضى من طريق الاجتهاد فهو مجتهد، ويجوز له الإفتاء به، وإن نسيه لزمه استئناف الاجتهاد، وحينئذ فإذا تغير اجتهاده لزمه العمل بالثاني، والأحسن تعريف المستفتي بالتغير لئلا يعمل به, قال: ولقائل أن يقول: لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به أولا كان طريقا قويا، لزم بالضرورة أن يحصل له الظن بأن تلك الفتوى حق، وحينئذ فيجوز له الفتوى به؛ لأن العمل بالظني واجب، وقد صحح ابن الحاجب أن تجديد الاجتهاد لا يجب، ولم يفصل بين الذاكر وغيره، مع أن الآمدي حكى فيه أقوالا ثلاثة, وصحح التفصيل. "الثاني": اتفقوا على أن العامي لا يجوز له أن يستفتي إلا من غلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد والورع، وذلك بأن يراه منتصبا للفتوى بمشهد الخلق، ويرى إجماع المسلمين على سؤاله, فإن سأل جماعة فاختلفت فتاويهم, فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أورعهم وأعلمهم، وقال آخرون: لا يجب ذلك, ثم إذا اجتهد فإن ترجح أحدهما مطلقا في ظنه تعين العمل بقوله, وإن ترجح أحدهما في الدين واستويا في العلم وجب القول بأخذ الأدين، وإن ترجح في العلم واستويا في الدين فمنهم من خيره، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم وهو الأقرب، وإن ترجح أحدهما في الدين وترجح الآخر في العلم فقيل بقول الأدين، والأقرب الأخذ بقول الأعلم، وإن استويا مطلقا فقد يقال: لا يجوز وقوعه, كما قد قيل في استواء الأمارتين، وقد يقال بجوازه وحينئذ فإذا وقع ذلك يخير، ورجح ابن الحاجب جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل، وحكى خلافا في استفتاء المفضول سبقه إليه الغزالي ثم الآمدي، وهو وارد على الإمام في دعواه الاتفاق على المنع كما تقدم. "فرعان" حكاهما ابن الحاجب، أحدهما: يجوز خلو الزمان عن المجتهد خلافا للحنابة، لنا قوله -عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه, ولكن يقبض

العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الله رؤساء جهالا, فسئلوا فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا" 1 "الثاني": إذا قلد مجتهدا في مسألة فليس له تقليد غيره فيها اتفاقا، ويجوز ذلك في حكم آخر على المختار, فلو التزم مذهبا معينا كالطائفة الشافعية والحنفية، ففي الرجوع إلى غيره من المذاهب ثلاثة أقوال، ثالثها: يجوز الرجوع فيما لم يعمل به ولا يجوز في غيره. "فائدتان" إحداهما: ذكر القرافي في شرح المحصول أن تقليد مذهب الغير حيث جوزناه فشرطه أن لا يكون موقعا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه. فمن قلد مالكا مثلا في عدم النقض باللمس الخالي عن الشهوة فصلى, فلا بد أن يدلك بدنه ويمسح جميع رأسه، وإلا فتكون صلاته باطلة عند الإمامين. "الفائدة الثانية": تقليد الصحابة -رضي الله عنهم- ينبني على جواز الانتقال في المذاهب، كما حكي عن ابن برهان في الأوساط؛ لأن مذاهبهم غير مدونة ولا مضبوطة حتى يمكن المقلد الاقتداء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال، وقال إمام الحرمين في البرهان: أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة -رضي الله عنهم- بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوّبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها، وذكر ابن الصلاح أيضا ما حاصله: أنه يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهب الأربعة قد انتشرت وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها، ونشرت فروعها بخلاف مذهب غيرهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وحشرنا في زمرتهم، والله رحيم ودود. تم الكتاب والله الموفق إلى الصواب، وإليه المرجع والمآب، وله الحمد ظاهرا وباطنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل. قال مؤلفه العبد الفقير إلى عفو الله وغفرانه، عبد الرحيم بن الحسن القرشي الإسنوي الشافعي, عامله الله بلطفه: فرغت من هذا الكتاب المبارك عند فراغ السنة المباركة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، أحسن الله تعالى خاتمتها وعقباها بمنه وكرمه، وابتدأت فيه في شهر صفر سنة أربعين وسبعمائة، وكان تأليفه في المدرسة المباركة الشريفة، رحم الله واقفها, من القاهرة المعزية حماها الله وسائر بلاد الإسلام، اللهم فكما أرشدت إلى ابتدائه، وأعنت على انتهائه، فاجعله خالصا لوجهك، موجبا للفوز لديك، وأنفع به مؤلفه، وكاتبه، والناظر فيه، وجميع المسلمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد, وآله أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه "1/ 36" ومسلم في صحيحه، كتاب العلم "13" والدارمي "1/ 77" والهندي في كنز العمال "29095" والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 201".

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات 3ترجمة البيضاوي 4 ترجمة الإسنوي 5 خطبة الكتاب 7 أصول الفقه معرفة دلائل الفقه 15 دليله المتفق عليه بين الأئمة الكتابة والسنة إلخ 16الباب الأول في الحكم وفيه فصول الأول في تعريفه لحكم خطاب الله إلخ. الفصل الثاني في تقسيماته الأول: الخطاب إذا اقتضى الوجود إلخ 21 اقتضى الوجود إلخ. 21 رسم الواجب بأنه الذي يذم شرعا تاركه إلخ. 24 الحرام ما يذم شرعا فاعله إلخ. 25 التقسم الثاني: ما هي عنه شرعا فقبيح إلخ. 27 الثالث: قبل الحكم إما سبب أو مسبب إلخ. 29 الرابع: الصحة استتباع الغاية وإبازائها البطلان والفساد. 29 والإجزاء هو الأداء الكافي لسقوط التعبد به إلخ. 31 الخامس: العبادة إن وقعت في قتها المعين ولم تسبق بأداء مختل فأداء إلخ. 33 السادس: الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصه إلخ. 35 الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي. 40 تذنيب الحكم قد يتعلق على الترتيب فيحرم الجمع إلخ. 47 تنبيه مقدمة الواجب إما أن يتوقف عليها وجوده شرعا إلخ. 47 فروع الأول: لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا إلخ. 54 الباب الثاني فيما لابد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه وفيه ثلاثة فصول. 54 الفصل الأول: في الحكم إلخ. 55 فرعان على التنزل: الأول: شكر المنعم ليس بواجب عقلا إلخ. 57الفرع الثاني: الأفعال الاخيتارية قبل اببعثة مباحة ... إلخ. 62 الفصل الثاني في المحكوم عليه وفيه مسائل. 62 الأولى: المعدوم يجوز الحكم عليه إلخ. 65 الثانية: لا يجوز تكليف الغافل من أحال تكليف المحال إلخ. 66 الثالثة: الإكراه الملجيء يمنع التكليف إلخ. 67 الرابعة: التكليف يتوجه عند المباشرة إلخ. 69 الفصل الثالث: في المحكوم به وفيه مسائل. 69 الأولى: التكليف بالمحال به وفيه مسائل. 72 الثانية: الكافر مكلف بالفروع خلافا للمعتزلة. 75 الثالثة: امتثال أمر يوجب الإجزاء إلخ. 77 الكتاب الأول: في التاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة إلخ. 78الباب الأول: في اللغات وفيه فصول. 84 الفصل الثاني في تقسيم الألفاظ إلخ. 86 اللفظ إن دل جزؤه على جزء المعنى فمركب إلخ. 89 فائدة الكلي على أقسام: طبيعي ومنطقي وعقلي إلخ. 89 تقسيم آخر اللفظ والمعنى إما أن مفرد أو مركب إلخ. 92تقسيم آخر مدلول اللفظ إما معنى أو لفظ مفرد أو مركب إلخ. 94 الفصل الثالث: في الاشتقاق وهو رد اللفظ إلى آخر. 97 أحكامه في مسائل الأولى: شرط المشتق صدق أصله آخر. 98 الثانية: شرط كونه حقيقة دوام أصله إلخ. 102 الثالثة: اسم الفاعل لا يشتق لشيء والفعل قائم بغيره. 103 الفصل الرابع: في الترادف إلخ. 104 أحكامه في مسائل إلخ. 107 الفصل الخامس في الاشتراك وفيه مسائل. 107 الأولى: في إثباته إلخ. 109 الثانية أنه خلاف الأصل إلخ. 110 الثالثة: مفهوما المشترك إما أن يتباينا إلخ. 111 وأبو علي إعمال المشترك إلخ. 117 الخامسة المشترك أن تجرد عن القرينة فمجمل إلخ. الفصل السادس: في الحقيقة اللغوية موجودة

118 وكذا للعرفية إلخ. 120 الحقيقة اللغوية. 125 فروع الأول: النقل خلاف الأصل إلخ. 127 الثانية: المجاز إما في المفرد مثقل الأسد الشجاع. 128 الثالثة: شرط المجاز العلاقة المعتبر نوعها إلخ. 132 الرابعة: المجاز بالذات لا يكون في الحرف غلخ. 133 الخامسة: المجاز خلاف الأصل إلخ. 135 السادسة: يعدل إلى المجاز لثقل لفظ الحقيقة. 137 الفصل السابع: في تعارض ما يخل بالفهم. 141 الفصل الثامن: في تفسير حروف يحتاج إليها وفيه مسائل. 141 الأولى: الواو للجمع المطلق إلخ. 142 الثانية: الفاء للتعقيب إجماعا. 142 الثالثة: في الرظفية. 142 الرابعة: من لابتداء الغاية. 144 الخامسة: الباء تعدي اللازم وتجزئ المتعدي. 144 السادسة: إنما للحصر إلخ. 146 الفصل التاسع: في كفية الاستدلال بالألفاظ إلخ. 155 الباب الثاني في الأوامر والنواهي وفيه فصول 155 الفصل الأول: في لفظ الأمر. 160 الفصل الثاني: في صيغته. 177 الفصل الثالث: في النواهي. 180 الباب الثالث: في العموم والخصوص وفيه فصول. 180 الأول في العموم إلخ. 191 الفصل الثاني في الخصوص. 200 الفصل الثالث في المخصص وهو متصل ومنفصل وفيه مسائل. 201 الأولى شرطه الاتصال عادة. 203 الثانية الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس إلخ. 203 الثالثة المتعددة إن تعاطفت أو استغرق الأخير الأول إلخ. 206 الرابعة قال الشافعي المعقب للجمل كقوله تعالى: {إلا الذين تابو} يعود إليها إلخ. 225 الباب الرابع في المجمل والمبين وفيه فصول 225 الأول في المجمل وفيه مسائل. 225 الأولى اللفظ إما أن يكون مجملا بين حقائقه إلخ. 227 الثانية قالت الحنفية واسمحوا برؤسكم مجمل إلخ. 227 الثالثة قيل آية السرقة مجملة إلخ. 228 الفصل الثاني في المبين وهو الواضح بنفسه أو بغيره إلخ. 236 الباب الخامس في الناسخ والمنسوخ وفيه فصلان. الأول: في النسخ. 243 الفصل الثاني في الناسخ والمنسوخ. 248 خاتمة النسخ يعرف بالتاريخ إلخ. 249 الكتاب الثاني في السنة وفيه بابان. 249 الباب الأول في أفعاله صلى الله وعليه وسلم. 256 الباب الثاني في الإخبار وفيه فصول. 256 الأول فيما علم صدقه إلخ. 262 الفصل الثاني فيما علم كذبه إلخ. 263 الفصل الثالث فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد. 278 فرعان: الأول المرسل يقبل إذا تأكد بقول الصحابي إلخ. 278 الثاني أرسل ثم أسند قبلة إلخ. 281 الكتاب الثالث في الإجماع وفيه ثلاثة أبواب. 281 الأول في بيان كونه حجة. 291الباب الثاني في أنوع الإجماع وفيه مسائل. 298 الباب الثالث: في شرائطه وفيه مسائل. 304 الكتاب الرابع: في القياس. 305 الباب الأول في بيانه أنه حجة. 319 الباب الثاني في أركانه. 319 الفصل الأول: في العلة إلخ. 356 الفصل الثاني في الأصل والفرع. 360 الكتاب الخامس في دلائل اختلف فيها. 360 الباب الأول: في المقبولة. 366 الباب الثاني في المردودة. 370 مسألة منعت المعتزلة تفويض الحكم. 372 الكتاب السادس في التعادل والتراجيح. 372 الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر. 375 الباب الثاني في الأحكام الكلية للتراجيح إلخ. 375 مسألة لا ترجيح في القطعيات. 376 مسألة إذا تعارض نصان إلخ. 379 مسألة قد يرجح بكثرة الأدلة. 380 الباب الثالث في ترجيح الأخبار. 389 فصل في أمور أخرى يحصل بها الترجيح. 390 الباب الرابع في ترجيح الأقيسة. 395 الكتاب السابع في الاجتهاد إلخ. 395 الفصل الأول في المجتهدين. 400 الفصل الثاني في حكم الاجتهاد إلخ.

§1/1